وإن كان موسرا أو معسرا، واختار أن يطأها قبل التكفير.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا؛ لأنه وطء محرم. فإن خالف ووطئها.. أثم بذلك، وأوفاها حقها، وهل لها أن تمتنع من الوطء قبل التكفير؟ فيه وجهان:
أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه ليس لها أن تمتنع، فإذا امتنعت.. سقط حقها من المطالبة إلى أن يزول التحريم، كما لو دفع إليها نفقتها فقالت: لا آخذ هذا؛ لأنه غصبه من فلان.. فإنه يقال لها: إما أن تأخذي هذا أو تبرئيه عن قدره من النفقة.
والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن لها أن تمتنع؛ لأنه وطء محرم، فإن لها أن تمتنع، كوطء الرجعية. ويخالف المال المغصوب؛ فإن الظاهر أنه ملك لمن هو بيده. فوزانه من مسألتنا: أن يتفقا على أنه مغصوب.. فلا يلزم من له الدين قبضه.
قال الطبري في " العدة ": فإذا قلنا بهذا: فهل يتعين عليه الطلاق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتعين عليه؛ لأن كل من كان مخيرا بين أمرين فتعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين.
والثاني: لا يتعين عليه؛ لأنه محبوس عن الوطء والطلاق، وإذا تعذر عن الوطء.. لم يتعين عليه الطلاق، كالمريض.
فإن خالفت، ومكنت من نفسها، ووطئها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنها لا تأثم بذلك.
قال: وإن مكنت الحائض من نفسها فوطئها.. أثمت؛ لأن التحريم في المظاهر منها لعينها، وفي الحائض ليس من جهتها.
وعلى قياس ما قال الشيخ أبو إسحاق: إذا علمت المظاهر منها بالتحريم.. أثمت بالتمكين، كالحائض.(10/325)
[مسألة: ادعاء العجز بعد مضي المدة]
] : وإن انقضت المدة، فطالبته بالفيئة أو الطلاق، وادعى أنه عاجز عن الوطء، فإن كانت بكرا أو ثيبا لم يطأها، فإن صدقته على أنه عاجز.. لم تطالبه بالفيئة، بل إن طلقها.. أوفاها حقها. وإن لم يطلقها.. كان لها أن ترفع الأمر إلى الحاكم ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه الحاكم النكاح. وإن لم تصدقه على أنه عاجز.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يقبل قوله، بل يتعين الطلاق؛ لأنه مخير بين الفيئة والطلاق، فإذا أقر بالعجز عن الفيئة.. تعين عليه الطلاق، كالمخير في أنواع الكفارة.
والثاني وهو المنصوص: (أن القول قوله مع يمينه أنه عاجز؛ لأنه أعلم بنفسه ويلزمه أن يحلف؛ لأنه متهم في ترك الفيئة. فإذا حلف.. لم يلزمه حكم الإيلاء؛ لأن المولي هو: الذي يقصد الإضرار بالامتناع من وطئها باليمين، وإذا كان عاجزا ولم يقصد الإضرار.. فلم يكن موليا) .
فعلى هذا: لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم؛ ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه النكاح.
وإن كانت ثيبا وقد وطئها.. فإنه لا يقبل قوله أنه عاجز؛ لأن الإنسان لا يكون عنينا في نكاح واحد في بعض الأوقات دون بعض، بل يطالب بالفيئة أو الطلاق على ما مضى.
[مسألة: إيلاء المجبوب]
] : فإن آلى المجبوب، وقلنا: يصح إيلاؤه، وانقضت المدة.. فلها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن أراد أن يفيء.. اقتصر منه على فيئة معذور؛ وهو أن يقول: ندمت على ما فعلت، ولو قدرت على الوطء.. لوطئت.(10/326)
ولا يحتاج أن يقول: إذا قدرت فعلت؛ لأنه لا يمكنه ذلك. فإن لم يفعل.. فهل يطلق عليه الحاكم؟ على القولين.
وإن آلى منها وهو صحيح الذكر، ثم جب ذكره.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأجل الجب. فإن فسخت.. سقط الإيلاء. وإن اختارت البقاء معه، فإن قلنا: لا يصح إيلاء المجبوب.. فحدوث الجب هاهنا يسقط حكم الإيلاء. وإن قلنا يصح إيلاؤه وانقضت المدة.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن طلق.. فلا كلام، وإن اختار الفيئة.. فاء فيئة معذور، على ما مضى، وإن امتنع من ذلك.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وحبسه وضيق عليه إلى أن يطلق في القول الآخر.
[مسألة: ادعاء الزوجة الإيلاء واختلفا فيه أو في انقضاء المدة أو في الإصابة]
] : إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه آلى منها، فأنكر ولا بينة لها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيلاء.
وإن اتفقا على الإيلاء، واختلفا في انقضاء مدة التربص، فادعت الزوجة أن المدة قد انقضت، وقال الزوج: لم تنقض.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها.
وإن اختلفا في الإصابة؛ فقال: أصبتك، وقالت: لم تصبني، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل بقاء النكاح، والمرأة تريد رفعه، فكان القول قوله.
وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من النساء عدول، فإن قلن: إنها ثيب.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن قلن: إنها بكر.. فالقول قولها مع يمينها: أنه لم يطأها؛ وإنما حلفناها لجواز أن يكون قد وطئها ولم يبالغ في الوطء، فعادت البكارة.
فإن حلفت.. فلا كلام، وإن نكلت عن اليمين.. حلف الزوج. فإن نكل عن اليمين.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:(10/327)
أحدهما: يحكم لها؛ لأنه معها ظاهرا، وهي البكارة.
والثاني: لا يحكم لها؛ لأن هذه البكارة محتملة أن تكون هي الأصلية، وأن تكون عائدة.
[فرع: آلى من ثيب قبل الدخول وادعى إصابتها]
] : وإن آلى الرجل من امرأته قبل أن يدخل بها، وضربت له مدة التربص، وادعى أنه أصابها، وأنكرت، وكانت ثيبا، فحلف الزوج: أنه أصابها، وأنكرت.. سقطت دعواها في الإيلاء. فإن طلقها بعد اليمين طلقة، ثم أراد أن يراجعها، وأنكرت أنه أصابها.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها: إنه ما أصابها؛ لأن الأصل وقوع الطلاق وثبوت التحريم، والزوج يدعي ما يرفعه، فلا يقبل قوله، ويمين الزوج إنما تثبت في حكم الإيلاء، فأما إثبات الرجعة عليها: فلا يثبت بها، بل القول قولها فيها.
وبالله التوفيق(10/328)
[كتاب الظهار](10/329)
كتاب الظهار الظهار مشتق من الظهر، وإنما خصوا الظهر من بين أعضاء البدن؛ لأن كل مركوب يسمى ظهرا؛ لحصول الركوب على ظهره، فشبهت الزوجة به.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، ثم نقل في الشرع إلى التحريم والكفارة.
وقيل: إنه كان طلاقا في أول الإسلام. والأول أصح. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] .
وروي «أن خولة بنت مالك بن ثعلبة - وقيل: اسمها خويلة - قالت: (ظاهر مني(10/331)
زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، فذكرت أمورا، وقلت: قدمت منه صحبتي، ونثرت له كنانتي، ولي منه صبية؛ إن ضمهم إليه.. ضاعوا، وإن ضممتهم إلي.. جاعوا. أشكو إلى الله عجزي وكبري، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: " اتقي الله، فإنه ابن عمك "، فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآيات [المجادلة: 1] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يعتق رقبة "، قلت: لا يجد، قال: " فيصوم شهرين متتابعين ". قلت: يا رسول الله، شيخ كبير ما به من صيام! قال: " فليطعم ستين مسكينا ". قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: " فأتي ساعتئذ بعرق من تمر "، قلت: يا رسول الله، وأنا أعينه بعرق آخر، قال: " أحسنت، اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» . قال الأصمعي: العرق - بفتح العين والراء -: ما يشق من خوص، كالزنبيل الكبير.
وروى سليمان بن يسار، «عن سلمة بن صخر، قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان.. خشيت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات(10/332)
ليلة، إذ انكشف لي شيء منها، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت.. خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امضوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: لا والله، فانطلقت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته الخبر، فقال: " حرر رقبة "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! ما أملك رقبة غيرها - وضربت صفحة رقبتي - فقال: " فصم شهرين متتابعين "، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟! قال: " فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! لقد بتنا ما لنا طعام، قال: " فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من التمر، وكل أنت وعيالك بقيتها "، فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم» .
إذا ثبت هذا: فالظهار محرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . ومعنى هذا: أن الزوجة لا تكون محرمة كالأم.(10/333)
[مسألة: يلزم الظهار ممن يصح طلاقه]
] : ويصح الظهار من كل زوج يصح طلاقه، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا.
وقال بعض الناس: لا يصح ظهار العبد.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح ظهار الذمي) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولم يفرق بين الحر والعبد، والمسلم والذمي.
فإن قيل: في الآية ما يدل على أن العبد والذمي غير داخلين في الآية؛ لأن العبد ليس من أهل الإعتاق، والذمي ليس من أهل الصيام؟
قلنا: الآية عامة في الجميع، فإذا دل الدليل على أن العبد لا يعتق، والذمي لا يصح منه الصوم.. خرج ذلك بدليل، وبقي الباقي في الظهار على عمومه.
ولأنه زوج يصح طلاقه.. فيصح ظهاره، كالحر المسلم.
[فرع: ظهار السيد من أمته]
فرع: [صحة ظهار السيد من أمته] : ولا يصح ظهار السيد من أمته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، ومن الفقهاء: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد.
وقال الثوري ومالك: (يصح) , وبه قال علي.
دليلنا: أن الظهار لفظ يوجب التحريم في الزوجية، فلم يتعلق بالإماء، كالطلاق.
ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله، كالإيلاء.
ويصح الظهار من كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، يمكن جماعها أو لا يمكن، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا عام لجميع النساء.
ولأنه كان طلاقا في الجاهلية، فنقل في الإسلام إلى التحريم وإيجاب الكفارة، وكل من صح منه الأصل.. صح ما نقل إليه.(10/334)
[مسألة: ألفاظ الظهار]
] : والظهار هو: أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ لما روي: «أن خولة بنت مالك قالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت قال لي: أنت علي كظهر أمي» .. فنزلت الآية في شأنها.
فإن قال: هي معه كظهر أمه، أو هي عنده، أو هي منه، أو هي عليه مثل ظهر أمه.. كان ظهارا؛ لأنه بمعنى: هي عليه كظهر أمه.
فإن قال: هي كظهر أمي.. فقد قال الداركي: لا يكون ظهارا؛ لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه، بخلاف قوله: أنت طالق؛ لأن الطلاق هو من جنس الزوجية، والجنس له دون غيره.
وإن قال: هي عليه كبدن أمه.. فهو ظهار؛ لأن الظهر من جملة البدن.
وإن قال: هي عليه كروح أمه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول الداركي -: أنه ظهار، نوى به الظهار أم لم ينوه؛ لأن البدن لا يقوم إلا بالروح، ولا يستمتع بالبدن إلا مع الروح، فهو كما لو شبهها ببدن أمه.
والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه ليس بظهار، وإن نوى به الظهار؛ لأن الروح لا توصف بالتحريم؛ لأنه ليس بعين.
والثالث - وهو قول المسعودي، [في " الإبانة "]-: إن نوى به الظهار.. فهو ظهار، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن ظهارا؛ لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة، ويحتمل أنه كبدن أمه في التحريم، فلم يكن ظهارا من غير نية.
[فرع: كنايات الظهار]
] : وإن قال: هي عليه كأمه، أو مثل أمه، أو هي أمه.. فهو كناية، فإن أراد بها كأمه في الكرامة والتوقير.. فليس بظهار، وإن أراد في التحريم.. فهو ظهار، وإن لم يكن له نية فليس بظهار، وبه قال أبو حنيفة.(10/335)
وقال مالك وأحمد ومحمد بن الحسن: (يكون ظهارا) .
دليلنا: أنه يحتمل أنها كأمه في الإعزاز والكرامة، ويحتمل أنها كأمه في التحريم.. فلم يكن ظهارا من غير نية، كقوله: أنت خلية.
[فرع: فيما يلحق بظهر الأم]
] : وإن شبه امرأته بظهر جدته.. فهو ظهار، سواء كانت من قبل الأم أو من قبل الأب؛ لأن اسم الأم يقع عليها مجازا.
وإن قال: أنت علي كظهر أبي أو جدي.. لم يكن ظهارا.
وقال أبو القاسم: إذا شبهها بالمحرمين من الرجال.. كان ظهارا.
دليلنا: أن الظهار: أن يشبه زوجته بمن في جنسها استمتاع، والأب لا استمتاع في جنسه، فهو كما لو قال: أنت علي كظهر بهيمتي، بخلاف الأم؛ فإن في جنسها استمتاعا.
ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه، ولم ينقل محله، والطلاق لا يتعلق بجنس الأب، بخلاف الأم.
فإن شبهها بظهر امرأة من ذوات محارمه غير الأم والجدة؛ بأن قال: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو عمتي أو خالتي أو ابنة أخي.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يكون ظهارا) ؛ لأن الظهار الذي ورد به القرآن أن يشبهها بظهر أمه، وللأم من الحرمة ما ليس لغيرها؛ بدليل: أنه إذا ملك أمه.. عتقت عليه، وهذا المعنى لا يوجد في غير الأم، فلم يكن بالتشبيه بها مظاهرا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يكون ظهارا) . وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . فأخبر: أن الظهار منكر من القول وزور. ولأنه يشبه زوجته بمن ليست كهي، وهذا المعنى موجود فيما إذا شبهها بذوات المحارم.
وإن شبهها بمحرمة عليه برضاع، أو مصاهرة.. نظرت:(10/336)
فإن شبهها بمن حلت له ثم حرمت عليه، كأم امرأته، ومن تزوجها أبوه بعد ولادته، وأخته من الرضاع بعد ولادته، أو بمحرمة عليه تحل له في الثاني، كأخت زوجته، وخالتها، وعمتها.. لم يكن ظهارا.
وقال مالك وأحمد: (يكون ظهارا) .
دليلنا: أنه لم يشبهها بالأم، ولا بمن يشبهها في التحريم، فلم يصر بذلك مظاهرا، كما لو شبهها ببهيمة.
وإن شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد ولم تحل له قط؛ بأن شبهها بامرأة تزوجها أبوه قبل أن يولد، أو بأخت له من الرضاعة أرضعتها أمه قبل ولادته.. فهي كالأخت والعمة على القولين.
وإن شبهها بأجنبية ليست بمحرمة على التأبيد.. لم يكن مظاهرا.
وقال أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن شبهها بظهرها.. كان مظاهرا.
وإن شبهها بغيره، فمنهم من قال: هو ظهار. ومنهم من قال: هو طلاق.
دليلنا: أن هذه ليست بمحرمة عليه على التأبيد، فلا يكون بالتشبيه بها مظاهرا، كما لو شبهها بالمحرمة أو الصائمة من نسائه.
[فرع: التشبيه بعضو غير الظهر]
] : وإن شبه امرأته بعضو من أعضاء أمه غير ظهرها، بأن قال: أنت علي كرأس أمي، أو كيدها أو كرجلها أو كفرجها، أو شبه عضوا من زوجته بظهر أمه؛ بأن قال: يدك أو رجلك أو فرجك علي كظهر أمي.. فالمنصوص: (أنه ظهار) ، وبه قال مالك.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو شبه امرأته بأخته أو عمته. وليس بشيء؛ لأن غير الأم ليست كالأم، وغير الظهر كالظهر في التحريم.(10/337)
وقال أبو حنيفة: (إذا شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه يحرم نظره إليه، كفرجها، أو فخذها.. فهو ظهار.
وإن شبهها بعضو لا يحرم نظره إليه كرأسها أو يدها أو رجلها.. لم يكن ظهارا) .
دليلنا: أنه شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه، فكان ظهارا، كما لو شبهها بفخذها أو فرجها.
[فرع: الظهار يمين]
] : وتنعقد يمين الزوج بالظهار، مثل أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت علي كظهر أمي، كما يصح أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت طالق.
ويصح أن يعلقه بصفة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت علي كظهر أمي؛ لأن أصله كان طلاقا، فإذا جاز تعليق أصله بالصفة.. فكذلك هو.
وإذا قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها.. لم يصر مظاهرا منها.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يصير مظاهرا منها) . كما قالا في الطلاق، وقد مضى الدليل عليهما في الطلاق.
[مسألة: طلق بنية الظهار]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق، ونوى به الظهار.. فهو طلاق.
وإن قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق.. كان ظهارا؛ لأن كل واحد منهما صريح في حكمه في الزوجية، فلا ينصرف إلى غير موجبه في الزوجية بالنية.
وإن قال: أنت طالق كظهر أمي.. وقع عليها الطلاق بقوله: أنت طالق، وسئل ما نوى بقوله: كظهر أمي؟(10/338)
فإن قال: لم أنو به شيئا.. لم يتعلق به حكم؛ لأنه لم يقرن به لفظا يعلقه عليه، كقوله: أنت علي أو مني، ولا نوى به الظهار. فيحتمل أنه أراد به: أنت علي كظهر أمي، أو أنت على غيري، فصار كناية في الظهار، فلم يقع به الظهار من غير نية.
وإن قال: أردت أنها تحرم بالطلاق كما تحرم بالظهار.. كان ذلك تأكيدا في الطلاق، ولم يعد حكما.
وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الظهار.. كان طلاقا ولم يكن ظهارا؛ لأن الطلاق صريح في حكم الزوجية، فلم يصر كناية في حكم آخر من الزوجية، ولا ينتقص بكونه كناية في العتق؛ لأنا قد قلنا في الزوجية: وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الطلاق، وأردت بقولي: (كظهر أمي) الظهار، فإن كان الطلاق بائنا.. لم يلحقها الظهار، وإن كان رجعيا.. لحقها الظهار؛ لأنه كناية في الظهار، فوقع به الظهار مع النية، والرجعية يصح فيها الظهار.(10/339)
[مسألة: لفظ أنت علي كظهر أمي]
] : وإن قال لها: أنت علي حرام كظهر أمي.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يطلق ذلك ولا نية له.. فيكون ظهارا؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، فإن اقترن به نية الظهار.. كان ظهارا، وإن اقترن به لفظ الظهار.. كان أقوى من النية.
ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (أنت علي حرام) تأكيد في التحريم؛ بدليل: أنه لو اقتصر على قوله: أنت علي كظهر أمي.. كان ظهارا.
الثانية: إذا قال: أردت به الظهار.. فهو ظهار؛ لأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (حرام) تأكيد.
الثالثة: إذا قال: نويت به الطلاق.. فروى الربيع: (أنه طلاق) . وكذلك في أكثر نسخ المزني، وفي بعض نسخ المزني: (أنه ظهار) . ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه ظهار، وليس بطلاق، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، وقد اقترن به قرينتان، إحداهما لفظ، والأخرى نية، فكان صريح اللفظ أقوى.
ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار؛ بدليل: أنه لو لم يقل: حرام، أو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، فقدم وإن نوى به الطلاق، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق.
والثاني: أنه طلاق؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية في الطلاق، فإذا نوى به الطلاق.. كان طلاقا، كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي.(10/340)
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن نوى الطلاق بقوله: أنت علي حرام.. كان طلاقا، وإن نواه بمجموع اللفظتين.. كان ظهارا، ولم يكن طلاقا.
وقال أكثر أصحابنا: هو طلاق، قولا واحدا؛ لما ذكرناه في الثاني. وما وقع في بعض النسخ.. فهو غلط. وما ذكره الأول.. لا يصح؛ لأن نية الطلاق قارنت لفظ التحريم، وهو سابق بصريح لفظ الظهار، فكان الحكم فيه كقوله: أنت طالق كظهر أمي.
والرابعة: إذا قال: نويت الطلاق بقولي: أنت حرام، والظهار بقولي: أنت كظهر أمي، فإن كان الطلاق رجعيا.. صح الطلاق والظهار، وإن كان بائنا.. لم يصح الظهار. هذا على قول أكثر أصحابنا. وعلى قول من قال من أصحابنا: لا يكون طلاقا، فإن نواه.. فإنه لا يقع الطلاق، ويقع الظهار.
الخامسة: إذا قال: نويت تحريم عينها بقولي: أنت علي حرام.. فهل يقبل منه؟
قال الشيخ أبو حامد: المذهب: أنه لا يقبل منه؛ لأن هذا صريح في الظهار؛ لأنه لو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، والظهار تجب به الكفارة العظمى، فإذا أخبر عن نيته: أنه أراد به تحريم عينها.. فقد أخبر بما ينقل الكفارة العظمى إلى الصغرى، فلم يقبل.
ومن أصحابنا من قال: يقبل منه؛ لأن اللفظ يصلح له. قال: وليس بشيء.
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: تجب عليه كفارة يمين. وعلى قول من قال: اللفظ أولى من النية هو مظاهر، والذي يقتضي القياس عندي: أنه إن قال: أردت بقولي: (أنت علي حرام) تحريم عينها، وبقولي: (كظهر أمي) الظهار.. لزمه كفارة يمين لتحريمه عينها، وصار مظاهرا؛ لأن لفظه يصلح لذلك، كما لو قال: أردت الطلاق والظهار، وكان الطلاق رجعيا.(10/341)
[فرع: نية الطلاق بصريح لفظ الظهار]
قال في " البويطي ": (لو قال لها: أنت علي كظهر أمي حرام، ويريد به الطلاق.. كان ظهارا) ؛ لأنه صريح به.
[فرع: أراد طلاقا وظهارا بلفظ كناية]
] : إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، ثم قال: أردت به الطلاق والظهار.. فقد قال ابن الحداد: كلمة واحدة لا يكون طلاقا وظهارا، فاختر أيهما شئت.
ومن أصحابنا من خالفه، وقال: يكون طلاقا؛ لأنه بدأ بالإقرار به، فلزمه حكمه، وقوله بعد ذلك: (والظهار) رجوع عن الإقرار بالطلاق إلى الظهار، فلم يقبل رجوعه.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول؛ وذلك أنه إذا أرادهما معا.. صحت إرادته لأحدهما بغير عينه؛ لأنه لا يصح إرادته لهما معا، فإذا صحت إرادته لأحدهما بغير عينه.. لزمه تعيين أحدهما، كما لو طلق إحدى امرأتيه بغير عينها.
[مسألة: توقيت الظهار]
] : إذا وقت الظهار؛ بأن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة.. فهل يصح ظهاره؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح ظهارا، وبه قال ابن أبي ليلى والليث؛ لأن الظهار هو أن يشبه زوجته على التأبيد بمن تحرم عليه على التأبيد، فإذا ظاهر منها ظهارا مؤقتا.. لم يصر مظاهرا، كما لو شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد، وإنما تحرم عليه إلى وقت؛ وهي مطلقته ثلاثا.
والثاني: يصح الظهار، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] . ولم يفرق بين المطلق والمؤقت.(10/342)
ولأن الله تعالى نبه على معنى الظهار بأنه منكر وزور، وهذا المعنى موجود في المؤقت. ولحديث سلمة بن صخر في أول الباب، فإنه ظاهر من امرأته شهر رمضان، فلما وطئها فيه.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة.
وقال مالك: (يصح الظهار، ويسقط التوقيت) . كما لو قال: أنت طالق يوما أو شهرا.
دليلنا: أن تحريم الظهار يرتفع بالتكفير، فارتفع بالتوقيت، بخلاف الطلاق.
[مسألة: علق الظهار بمشيئة الله أو رجل]
] : وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء زيد.. تعلق ذلك بمشيئته.
وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله.. لم يكن ظهارا.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد حكى: أن الشافعي ذكر في القديم في ذلك قولين، أحدهما: (يكون مظاهرا) . قال: وهذا لا يجيء على أصله.
وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت من ضرتك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ظاهر من الضرة.. كان مظاهرا منهما، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة.
فإن ظاهر من إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، أو أنت مثلها، فإن نوى الظهار.. كان مظاهرا منها، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن مظاهرا منها.
وقال مالك وأحمد: (يكون مظاهرا منها وإن لم ينو به الظهار) .
دليلنا: أنه يحتمل أن يريد: أنت شريكتها في الظهار، ويحتمل من النكاح، ويحتمل في الحب، أو في البغض، أو في سوء الأخلاق، فلم يتخصص بالظهار من غير نية، كالكنايات في الطلاق.(10/343)
وإن قال لامرأتيه: أنتما علي كظهر أمي.. صار مظاهرا منهما، كما لو قال لهما: أنتما طالقتان.
[مسألة: إن ظاهر من أجنبية فهي كأمه]
] : وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي.. سئل عما أراد:
فإن قال: أردت أني إذا تلفظت بظهارها فأنت علي كظهر أمي.. فمتى قال لهذه الأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. صار مظاهرا من زوجته؛ لأنه علق ظهار زوجته بالشرط، فإذا وجد الشرط.. وقع الظهار.
وإن قال: أردت به الظهار الشرعي، إذا قال للأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد الشرط.
وإن قال: قلت ذلك، ولم أنو شيئا.. فإن إطلاق ذلك يقتضي ظهارا شرعيا، فإذا قال لأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يكون مظاهرا من امرأته؛ لأن الشرط لم يوجد، كما لو قال لامرأته: إذا طلقت فلانة الأجنبية.. فأنت طالق، ثم قال للأجنبية: أنت طالق.
فإن تزوج الأجنبية، ثم ظاهر منها. إذا أطلق، وقال: لم أنو شيئا، وإن قال: أردت بقولي: (إذا تظاهرت من فلانة الأجنبية) الظهار الشرعي.. فإنه يصير مظاهرا منها، وهل يصير مظاهرا من زوجته الأولى؟ فيه وجهان:(10/344)
أحدهما: لا يصير مظاهرا منها؛ لأنه جعل صفة الظهار عن الأجنبية، وهذه ليست بأجنبية منه بعد النكاح.. فلم يوجد الشرط.
والثاني: يصير مظاهرا منها؛ لأنه عين الأجنبية ووصفها، فكان الحكم للتعيين لا للصفة، كما لو قال: والله لا دخلت دار زيد هذه، فباع زيد داره، ثم دخلها.. فإنه يحنث. والأول أصح. وقيل: هذان الوجهان إذا حلف: لا يأكل بسرة، فأكلها بعدما صارت رطبة، أو لا أكلت لحم هذا الحمل، فأكله بعد أن صار كبشا، أو لا كلمت هذا الصبي، فكلمه بعد أن صار شيخا. ويأتي ذلك في الأيمان.
وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة فأنت علي كظهر أمي، ولم يقل: الأجنبية، ولكنها أجنبية، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الظهار عن الأجنبية لا يصح، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد شرط ظهاره منها. وإن تزوج الأجنبية، فظاهر منها.. صار مظاهرا منها ومن زوجته الأولى، وجها واحدا؛ لأنه إنما علق ظهاره على امرأته بشرط؛ وهو ظهاره من فلانة، ولم يعلقه بغير ذلك، فإذا تزوجها، وظاهر منها.. فقد وجد الشرط، بخلاف الأولى؛ فإنه وصفها بأنها أجنبية، وبعد أن تزوجها فليست بأجنبية.
وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة أجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأن الصفة في ظهارها لم توجد، ولأن إطلاق الظهار يقتضي الظهار الشرعي. فإن تزوج الأجنبية، وظاهر منها.. صح ظهاره منها، ولم يصر مظاهرا من زوجته الأولى، وجها واحدا.
والفرق بين هذه وبين قوله: (فلانة الأجنبية) - حيث قلنا: يقع الظهار في أحد الوجهين -: أنه علق ظهار زوجته في الأولى بأن يتظاهر من فلانة بعينها، ووصفها بأنها أجنبية، ولم يجعل ذلك شرطا، والصفة تسقط مع التعيين، وهاهنا جعل كون فلانة(10/345)
أجنبية شرطا في ظهار امرأته؛ لأن قوله: (أجنبية) حال، فاقتضى أن يتظاهر منها في حال كونها أجنبية، فإذا تظاهر منها.. لم يوجد الشرط.
[مسألة: قولها أنت علي كأبي]
] : إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، أو أنا عليك كظهر أمك.. لم يلزمها شيء.
قال الحسن البصري والنخعي: إذا قالت لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. صارت مظاهرة، ولزمها الكفارة.
وقال الأوزاعي: (إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. لم تكن مظاهرة، وإن قالت ذلك لأجنبي، ثم تزوجها.. صارت مظاهرة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا خطاب للذكور دون الإناث.
ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه.. فاختص بالزوج، كالطلاق.(10/346)
فقولنا: (قول يوجب تحريما في الزوجة) احتراز من اليمين؛ فإنها لو حلفت لا وطئها الزوج.. انعقدت يمينها وإن لم يكن إيلاء.
وقولنا: (يملك الزوج رفعه) احتراز من فسخ النكاح بالعيوب، ومن الخلع، فإنه يصح منهما.
[مسألة: وجود العود في المولي يوجب الكفارة]
] : وإذا ظاهر الرجل من امرأته ووجد العود.. وجبت الكفارة، وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري ومالك وأحمد وداود.
وقال مجاهد والثوري: تجب الكفارة بمجرد الظهار دون العود.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة بالظهار، ولا بالظهار والعود، وإنما تجب على المظاهر إذا أراد أن يطأ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] .
فموضع الدليل منها على مجاهد والثوري: أن الله أوجب الكفارة بالظهار والعود، فمن قال: إنها تجب بأحدهما.. فقد خالف مقتضى الآية.
وعلى أبي حنيفة: أن الله أوجب الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد أن يطأ أو لا يريد.
وحديث خولة بنت مالك في أول الباب، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على زوجها الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد الوطء وبين أن لا يريد.
إذا ثبت هذا: فـ (العود) عندنا: هو أن يمسكها بعد الظهار زوجة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق.(10/347)
وقال مالك وأحمد: (العود: هو العزم على وطئها بعد الظهار وإن لم يطأها) .
وقال داود وشعبة: (العود: هو إعادة لفظ الظهار) .
وقال الحسن البصري وطاوس والزهري: العود: هو وطؤها. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو قول مالك.
وقيل: هو قول الشافعي في القديم، وإحدى الروايتين لأبي حنيفة. والمشهور عنهم الأول.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال؛ لأن تشبيهها بأمه يقتضي إبانتها وإزالة نكاحها، فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال، ولم يفرق بين أن يعزم على وطئها وبين أن لا يعزم.
وموضع الدليل على داود: قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يقل: إلى ما قالوا؛ فالآية لا تقتضي العود إليه، وإنما تقتضي العود فيه، ولو احتملهما.. لكان ما قلناه أولى؛ لأنه أسبق.
وموضع الدليل منها على الحسن البصري ومن تابعه: قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا نص في إبطال قولهم.
وحديث «خولة بنت مالك، حيث قالت: يا رسول الله، ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت» .. الخبر إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يعتق رقبة» . ولم يسأل: هل عزم على وطئها، أو هل أعاد لفظ الظهار، أو هل وطئها، أم لا؟ فلو كان الحكم يتعلق بذلك.. لسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن قال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم مات عقيبه، أو ماتت قبل أن يتمكن من(10/348)
طلاقها، أو طلقها عقيب الظهار.. لم تجب الكفارة؛ لأن العود: هو أن يمسكها على الزوجية، ولم يمسكها.
وإن ظاهر من الرجعية.. صح ظهاره، كما يصح طلاقه، ولا يكون عائدا قبل الرجعة؛ لأنها جارية إلى البينونة، فلا يوجد الإمساك منه.
فإن راجعها، أو قال: أنت علي كظهر أمي، أنت طالق، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها.. ففيه قولان:
أحدهما: أن يكون عائدا بنفس الرجعة؛ لأن العود: هو الإمساك على الزوجية، وقد سمى الله تعالى الرجعة إمساكا، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . يعني: الرجعة. ولأن استدامة الإمساك على الزوجية عود، فلأن تكون الرجعة - التي هي عقد أقوى من الاستدامة - عودا أولى.
فعلى هذا: تجب عليه الكفارة، سواء طلقها عقيب الرجعة أو لم يطلقها.
والقول الثاني: أن العود لا يحصل بنفس الرجعة، وإنما يحصل بأن يمسكها بعد الرجعة على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلا يطلق؛ لأن الرجعة رد إلى النكاح، والعود: هو أن يمسكها زوجة، وذلك لا يوجد إلا بعد الرجعة.
فعلى هذا: إن طلقت عقيب الرجعة.. لم تجب الكفارة.
وإن ظاهر من الرجعية ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها، أو قال لها: أنت علي كظهر أمي أنت طالق ثلاثا، ثم نكحها بعد زوج، أو طلقها عقيب الظهار طلاقا رجعيا، ثم لم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها.. فهل يعود حكم الظهار؟ فيه ثلاثة أقوال، كما قلنا في عود صفة الطلاق:
أحدها: يعود.
والثاني: لا يعود.
والثالث: إن عادت إليه بدون الثلاث.. عاد، وإن عادت إليه بعد الثلاث.. لم يعد.(10/349)
فإن قلنا: يعود.. فهل يصير عائدا بنفس العقد، أو بإمساكها بعد العقد زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلا يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
[فرع: مظاهرة الكافر]
] : وإن ظاهر الكافر من امرأته.. فقد ذكرنا: أنه يصح ظهاره، فإن أسلمت الزوجة عقيب ظهاره، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأنها تبين منه بإسلامها قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول.. لم يصر عائدا قبل إسلامها؛ لأنها جارية إلى بينونة.
فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتها.. لم يجب عليها الكفارة؛ لأنهما لم يجتمعا على النكاح. وإن أسلم قبل انقضاء العدة.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بأن يمسكها بعد الإسلام؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
وإن ظاهر الكافر من امرأته، ثم أسلم عقيب الظهار، فإن كانت ممن يقر المسلم على نكاحها، بأن كانت يهودية أو نصرانية.. لم يؤثر إسلامه في النكاح، فيجب عليه الكفارة. وإن كانت ممن لا يقر على نكاحها؛ بأن كانت مجوسية أو وثنية، فإن كان ذلك قبل الدخول.. انفسخ النكاح بإسلامه، ولم تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يمسكها بعد الظهار على الزوجية. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن لم تسلم الزوجة حتى انقضت عدتها.. بانت منه وقت إسلامه، ولم تجب عليه الكفارة، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها فقد اجتمعا على النكاح، ولا يكون إسلامها عودا، قولا واحدا؛ لأن العود بفعل الزوج لا بفعل الزوجة. فإن أمسكها الزوج بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق.. وجبت عليه الكفارة. وإن طلقها عقيب إسلامها، أو مات أحدهما.. لم تجب عليه الكفارة.(10/350)
[فرع: ظاهرها ثم ارتدا]
] : وإن ظاهر المسلم من امرأته المسلمة، فارتدا أو أحدهما عقيب الظهار، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأن النكاح ينفسخ بالردة قبل الدخول. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن انقضت العدة قبل أن يسلم المرتد منهما.. لم تجب الكفارة، وإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فقد اجتمعا على النكاح.
فإن كان المرتد هو الزوج.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بإمساكه لها بعد الإسلام زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
وإن كان المرتد منهما أو المسلم هي الزوجة.. فإن العود لا يحصل بإسلامها، وجها واحدا؛ لأن العود يحصل بفعله لا بفعلها، فإن أمسكها بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه طلاقها، فلم يفعل.. كان عائدا.
[فرع: تزوج أمة وظاهر منها]
] : وإن تزوج أمة لغيره، ثم ظاهر منها.. صح ظهاره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] ولم يفرق.
فإن اشتراها الزوج أو اتهبها.. نظرت:
فإن كان ذلك بعد أن تمكن من طلاقها بعد الظهار، ولم يطلقها.. فقد وجبت عليه الكفارة، ولا تسقط عنه بملكها.
وإن اشتراها عقيب الظهار؛ بأن قال: أنت علي كظهر أمي، بعني إياها بكذا، فقال سيدها: بعتك. أو قال: أنت علي كظهر أمي، فقال سيدها: بعتكها بكذا، فقال الزوج: قبلت.. فقد ملكها، وانفسخ نكاحها، وهل يكون عائدا؟(10/351)
فيه وجهان:
أحدهما: يكون عائدا، وتجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يحرمها على نفسه عقيب الظهار، وإنما أمسكها على الاستباحة، فهو كما لو لم يشترها.
والثاني وهو قول أبي إسحاق: أنه لا يصير عائدا، ولا تجب عليه الكفارة، وهو الأصح؛ لأن (العود) : هو أن يمسكها بعد الظهار على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق، وهذا لم يمسكها على الزوجية؛ لأن الشراء يوجب فسخ النكاح.
فإذا قلنا بهذا: فأعتقها، ثم تزوجها، أو باعها من آخر، ثم تزوجها منه.. فهل يعود حكم الظهار؟ بينى على الوجهين في الفسخ، هل هو بمنزلة البينونة بما دون الثلاث، أو بالثلاث؟
فإن قلنا: إنه كالبينونة بما دون الثلاث.. عاد حكم الظهار على القول القديم، قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين.
وإن قلنا: إنه كالبينونة بالثلاث.. لم يعد حكم الظهار على القول الجديد، قولا واحدا، وهل يعود على القديم؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: يعود.. فهل يحصل العود بنفس النكاح، أو لا يحصل إلا بأن يمسكها بعد النكاح زمانا يمكن فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة.
[فرع: قوله أنت علي كظهر أمي يا زانية]
] : إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يا زانية.. فالمشهور من المذهب: أنه يكون عائدا؛ لأن القذف لا تحصل به البينونة.
قال ابن الصباغ: وحكى المزني في " الجامع الكبير ": (أنه لو ظاهر منها، ثم أتبع الظهار قذفا.. لم يكن عودا) .(10/352)
قال أبو العباس: لا يعرف هذا للشافعي، ولا وجه له.
قال ابن الحداد: فإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يا زانية، أنت طالق.. وجبت عليه الكفارة. وهذا على المشهور من المذهب. وأما إذا قلنا بما حكاه المزني في " الجامع الكبير ": فلا يكون عائدا.
[مسألة: ظاهر فلاعن فسقط الظهار ولا يكون عائدا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه بلا فصل.. سقط الظهار) .
وجملة ذلك: أنه إذا قذف امرأته ولاعنها، فأتى من اللعان بلفظ الشهادة، وبقي لفظ اللعن، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم أتى عقيبه بلفظ اللعن.. فإنه لا يكون عائد؛ لأن الفرقة تقع باللفظة الخامسة من لعانه، فهو كما لو طلقها. وإن قذفها، ثم ظاهر منها، ثم ابتدأ عقيب الظهار باللعان.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون عائدا؛ لأن باشتغاله بألفاظ اللعان قد أمسكها زوجة زمانا أمكنه فيه أن يطلقها، ولم يطلقها. وحمل هذا القائل كلام الشافعي على الأولى.
والثاني: لا يكون عائدا، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه اشتغل عقيب الظهار باللعان، وهو سبب الفرقة؛ لأن الفسخ يحصل بجميع ألفاظ اللعان، فصار كما لو قال لها عقيب الظهار: أنت طالق، وأطال لفظ الطلاق، أو كما قال لها عقيب الظهار: فلانة بنت فلان طالق، أو فلانة وفلانة وفلانة طوالق.
[مسألة: علق ظهاره على مدة شهر]
] : إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة، وقلنا: يصح ظهاره، فمتى يصير عائدا؟ فيه وجهان:(10/353)
[أحدهما] : قال المزني، وبعض أصحابنا: إذا أمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلم يطلقها.. صار عائدا، كما قلنا في الظهار المطلق.
و [الثاني] : قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يصير عائدا بالإمساك، وإنما يصير عائدا إذا وطئها في اليوم، أو الشهر، أو السنة.
فإن لم يطأها حتى انقضت مدة الظهار.. لم تلزمه الكفارة؛ لأن إمساكه لها بعد الظهار يحتمل أن يكون أمسكها زوجة، فيكون قد رجع عن التحريم وعاد، فلزمته الكفارة. ويحتمل أن يكون أمسكها إلى أن تنقضي المدة، ويرتفع التحريم، وتصير مباحة له بالأمر الأول.. فلم تجب الكفارة بالشك.
فإذا وطئها قبل انقضاء مدة الظهار.. تحققنا عوده، فلزمته الكفارة.
[مسألة: ظاهر من أربع بكلمة ثم عاد]
لزمه أربع كفارات] : إذا كان له أربع زوجات، فظاهر من كل واحدة منهن بكلمة، ووجد العود.. لزمه أربع كفارات.
وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة؛ بأن قال: أنتن علي كظهر أمي، ووجد العود.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يلزمه كفارة واحدة) . وبه قال مالك، وأحمد. وروي ذلك عن عمر؛ لأن الظهار يمين، بدليل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأوس بن(10/354)
الصامت: " كفر عن يمينك» . فلزمه بمخالفتها كفارة واحدة، كالإيلاء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه أربع كفارات) . وهو الأصح؛ لأن كل واحدة منهن محرمة عليه قبل التكفير، فلا يرتفع التحريم بكفارة واحدة، كما لو أفرد كل واحدة بكلمة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء ظاهر منهن بكلمة أو كلمات) .
دليلنا: أن الظهار يمين، فإذا وجد منه إفراد كل واحدة بكلمة واحدة.. وجب عليه لكل واحدة كفارة، كما لو آلى من كل واحدة منهن بكلمة، وحنث.
[فرع: كرر الظهار فعلى أيها الكفارة]
وإن كرر لفظ الظهار.. نظرت:
فإن أتى به متواليا، مثل أن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي.. فقد صار عائدا في كل ظهار من ذلك، فيلزمه في الظهار الأول كفارة، وأما الثاني والثالث: فإن نوى بهما تأكيد الأول.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة، وإن نوى بهما استئناف الظهار.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تلزمه كفارة واحدة) . وبه قال أحمد؛ لأن الثاني والثالث لم يؤثرا في التحريم، فلم تجب بهما كفارة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب لكل واحد منهما كفارة) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة، فإذا كرره وقصد به الاستئناف.. تعلق بكل واحد حكمه، كالطلاق.
وإذا أطلق ذلك، ولم ينو بهما التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان، بناء على(10/355)
القولين فيمن كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف:
أحدهما: حكمه حكم ما لو قصد التأكيد، فتلزمه كفارة واحدة.
والثاني: حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف.
فعلى هذا: هل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على قولين.
وإن كرر ذلك في أوقات متراخية.. نظرت:
فإن أتى بالثاني بعد أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة. وكذلك: إذا كفر عن الثاني، ثم أتى بالثالث.. كفر عن الثالث.
وإن أتى بالثاني قبل أن يكفر عن الأول.. فهل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على القولين، كما لو أتى به متواليا، ونوى بالثاني الاستئناف، ولا يقبل قوله: إنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؛ لأن التأكيد لا يكون إلا بعدم الانفصال عن الأول بزمان. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: هل يصدق أنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؟ فيه وجهان.
وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت منك فضرتك علي كظهر أمي، فتظاهر من الأولى.. صار مظاهرا منهما. فإذا وجد العود فيهما.. لزمه كفارتان، قولا واحدا؛ لأنهما ظهاران وجد العود فيهما، إلا أن أحدهما بالمباشرة، والآخر بالصفة.
[مسألة: حرمة وطء المظاهر منها قبل الكفارة]
] : وإذا ظاهر من امرأته، ووجد العود.. حرم عليه وطؤها قبل أن يكفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . فنص على تحريم الوطء قبل العتق(10/356)
والصيام، وقسنا عليهما الإطعام؛ لأنه في معناهما. وهل تحرم عليه مباشرتها بشهوة قبل التكفير؟ فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين.
أحدهما: تحرم؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . و (المس) : يقع على الجماع، وعلى المس باليد، والقبلة. ولأنه قول يؤثر في تحريم الوطء، فحرم ما دونه من المباشرة، كالطلاق.
والثاني: لا تحرم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وإطلاق المس في النساء إنما ينصرف إلى الجماع.
ولأنه تحريم وطء لا يتعلق به مال، فوجب أن لا يحرم دواعي الوطء، كالحيض، وفيه احتراز من وطء المطلقة؛ فإنه يتعلق بتحريمه المال، وهو المهر.
فإن خالف، ووطئها قبل التكفير وهو عالم بالتحريم.. فقد أثم بذلك، ولا تسقط الكفارة بالوطء، بل يلزمه إخراج الكفارة، ويكون إخراجها قضاء؛ لأن وقت أدائها من حين الظهار إلى أن يطأ.
فإذا وطئ قبل التكفير.. فقد فات وقت الأداء، وصار قاضيا، ولا يلزمه بهذا الوطء كفارة أخرى. هذا مذهبنا.
وقال بعض الناس: تسقط الكفارة بالوطء.
وقال مجاهد: تلزمه كفارة ثانية للوطء.
دليلنا: ما روى عكرمة، عن ابن عباس: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، وواقعتها قبل أن أكفر؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لم فعلت ذلك، يرحمك الله؟ " قال: رأيت بياض ساقها في ضوء القمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقربها حتى تكفر» . وروي: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» . فلم يسقط(10/357)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفارة بالوطء، ولم يأمره بكفارة ثانية للوطء.
ويحرم عليه وطؤها بعد الوطء الأول إلى أن يكفر؛ لما ذكرناه في الخبر.
[فرع: ظاهر من أمة ثم اشتراها لا يعود حتى يكفر]
] : وإن ظاهر من امرأته الأمة، ووجد العود، ثم اشتراها قبل أن يكفر.. حرم عليه وطؤها إلى أن يكفر. نص عليه الشافعي؛ لأن الفرج كان حراما عليه إلا بعد التكفير، وهذا التحريم باق لم يزل.
ولم يختلف أصحابنا في هذه، وإن اختلفوا في المطلقة ثلاثا إذا ملكها زوجها قبل زوج، والنص هاهنا يدل على صحة أحد الوجهين هناك.
وإن ظاهر من امرأته، وعاد، ووجبت عليه الكفارة، فأخر وطأها والتكفير حتى مضت أربعة أشهر.. لم يصر موليا منها، غير أنه إن قصد بتأخير التكفير والوطء الإضرار بها.. أثم بذلك، وإن لم يقصد ذلك.. لم يأثم.
وقال مالك: (يصير موليا، فيطالب بالفيئة أو بالطلاق) .
دليلنا: أن لفظ الظهار يوقع التحريم في الزوجية، فلم يصر به موليا، كالطلاق.
والله أعلم بالصواب.(10/358)
[باب كفارة الظهار]
وكفارة الظهار على الترتيب؛ فيجب عتق رقبة لمن وجد، فإن لم يجد.. فعليه الصيام، فإن لم يستطع.. فعليه الإطعام.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] .
ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا: وجب عليه الكفارة في الظهار، فإن كانت معه رقبة تجزئ في الكفارة فاضلة عن كفايته على الدوام، وهو لا يحتاج إلى خدمتها.. كان فرضه العتق، ولم يجزئه الصيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . وهذا واجد.
وإن لم يكن معه رقبة تجزئ في الكفارة، إلا أنه واجد لثمنها، وكان ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. لزمه أن يشتري رقبة ويعتقها؛ لأن كل حق تعلق بالذمة فإن قدرته على ثمنه وشرائه كالقدرة عليه، كما قلنا فيمن في ذمته دين من ذهب وعنده فضة.
وإنما قلنا: (تعلق بالذمة) ؛ كيلا ينتقض بمن وجبت عليه ابنة مخاض في الزكاة(10/359)
وليست في إبله، ولكنه قادر على ثمنها وشرائها، وعنده ابن لبون.. فإنه لا يجب عليه شراء ابنة مخاض، بل له أن يخرج ابن لبون.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان واجدا لثمن رقبة، وهي معدومة.. فعليه أن يصبر إلى أن يجدها.
وإن وجد رقبة تباع نسيئة، وله مال في بلد آخر.. لزمه الشراء.
وإن كان معه رقبة وهو محتاج إلى خدمتها، وهو ممن لا يخدم نفسه؛ بأن كان يضعف عن خدمة نفسه، أو كان ممن يقدر على خدمة نفسه، إلا أنه ممن لا يخدم نفسه في العادة؛ كذوي الهيئات من الناس، ولا يجد ما يشتري به خادما يخدمه فاضلا عن كفايته.. لم يلزمه العتق، بل فرضه الصوم.
وكذلك إذا لم يكن معه رقبة، ومعه مال لا يفضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام.. فلا يلزمه شراء الرقبة، بل له أن ينتقل إلى الصيام. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليها في نفقته وكفايته على الدوام.. لم يلزمه العتق - كما قلنا - وإن كان واجدا للرقبة في ملكه.. لزمه إعتاقها وإن كان محتاجا إلى خدمتها) .
وقال مالك والأوزاعي: (إذا وجد الرقبة في ملكه، أو ما يشتري به الرقبة.. لزمه العتق وإن كان محتاجا إلى الرقبة، أو إلى ما في يده من المال) .
دليلنا: ما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، ثم واقعتها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق رقبة "، فضرب على صفحة عنقه، وقال: ما أجد غير هذه الرقبة، قال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، فقال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتمر، فأتي به، فقال: " خذ هذا، فتصدق به "، فقال: فهل أفقر مني ومن أهل بيتي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كله أنت وأهل بيتك» .(10/360)
فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملكه التمر، وأمره أن يتصدق به عن كفارته، ثم أخبره الرجل أنه محتاج إليه، فأباح له أكله ولم يلزمه إخراجه مع وجوده، فدل على أن ما تستغرقه حاجته.. لا يلزمه إخراجه؛ لأنه وجد ما تستغرقه حاجته، فكان كالعادم له في جواز الانتقال إلى بدله، كما لو وجد ماء وهو محتاج إليه لعطشه.
وإن كان معه رقبة، وهو يقدر على خدمة نفسه في العادة، كمن يخرج إلى الأسواق ويبيع ويشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه إعتاقها؛ لأنه يمكنه أن يخدم نفسه، وأكثر الناس لا خادم له.
والثاني: لا يلزمه إعتاقها، بل له أن يصوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحتاج إلى من يخدمه؛ ليترفه، ولأنه يشق على الإنسان خدمة نفسه في جميع الأشياء.
وإن كان له رقبة تخدمه وهو محتاج إلى خادم، ويمكنه أن يبيعها ويشتري بثمنها رقبتين، تخدمه إحداهما، ويعتق الأخرى.. لزمه العتق.
وإن كان له دار يسكنها، أو ضيعة يأتي له منها قدر كفايته، أو له بضاعة يتجر فيها ويحصل له من ربحها قدر كفايته.. لم يلزمه بيع ذلك وصرفه في العتق.
وإن كانت الدار تزيد على ما يحتاج إليه، أو كانت الضيعة تكفيه غلة بعضها، أو كان يمكنه أن يتجر ببعض تلك البضاعة، ويحصل منها قدر كفايته.. لزمه بيع ما زاد على قدر حاجته من ذلك لشراء الرقبة.
وإن وجبت عليه الكفارة وهو معسر بها في موضعه وله مال غائب عن موضعه يمكنه أن يشتري به رقبة، فإن كان ذلك كفارة الجماع في رمضان والقتل.. لم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، بل يصبر إلى أن يصل إلى المال، ويشتري الرقبة ويعتق؛ لأنه لا ضرر عليه في التأخير.
وإن كان ذلك في كفارة الظهار.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأن له مالا فاضلا عن كفايته يمكنه أن يشتري به رقبة، فلم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، كما قلنا في كفارة الجماع في رمضان والقتل.(10/361)
والثاني: يجوز له الانتقال إلى الصوم. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن عليه ضررا في التأخير؛ لأنه لا يجوز له أن يجامع قبل التكفير، فجاز له الانتقال إلى البدل، كما لو عدم الماء وثمنه في موضعه وهو واجد لثمنه في غير موضعه.
[مسألة: وجبت كفارة ثم اختلفت الحال]
] : إذا وجبت عليه كفارة مرتبة، واختلف حاله من حين الوجوب إلى حين الأداء.. فمتى يعتبر حاله؟ نص الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها على قولين:
أحدهما: (يعتبر حاله حين الوجوب) .
والثاني: (يعتبر حاله حين الأداء) .
قال الشيخ أبو حامد: وخرج أصحابنا قولا ثالثا: أنه يعتبر حاله بأغلظ الأحوال.
فإذا قلنا: يعتبر حاله حين الوجوب - وبه قال أحمد - فوجهه: أنه حق يقع به التكفير، فاعتبر حال وجوبه، كالحدود؛ لأن الحدود كفارة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات لأهلها» .
ثم ثبت أنه لو زنى وهو عبد، فأعتق قبل أن يقام عليه الحد.. لم يجب عليه إلا حد العبد، ولو زنى وهو بكر، فأحصن قبل أن يقام عليه الحد.. لم يقم عليه إلا حد البكر، فكذلك هذا مثله.
فعلى هذا: إذا كان من أهل العتق حين الوجوب، فأعسر قبل أن يعتق.. لم يسقط عنه العتق، بل يثبت في ذمته إلى أن يوسر به.(10/362)
وإن كان معسرا بالعتق حين الوجوب.. ففرضه الصيام، فإن أيسر قبل أن يصوم.. لم يلزمه العتق.
قال الشافعي: (فإن أعتق.. كان أحب إلي؛ لأنه أفضل) .
وإذا قلنا: يعتبر حاله حين الأداء - وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح - فوجهه: أنه حق ذو بدل من غير جنسه.. فوجب أن يعتبر بحالة الأداء، كالطهارة؛ وذلك أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو عادم للماء، فوجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة والتيمم.. لكان فرضه الطهارة بالماء. ولو كان واجدا للماء في أول الوقت، فلم يتوضأ به حتى تلف الماء.. لجاز له التيمم. يؤيد هذا: أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو صحيح قادر على القيام، فلم يصل حتى عجز عن القيام بمرض.. لجاز له أن يصلي قاعدا، ولو دخل عليه الوقت وهو عاجز عن القيام، فلم يصل حتى قدر على القيام.. لوجب عليه القيام في الصلاة.
فعلى هذا: يعتبر حاله عند التكفير، فإن كان موسرا بالرقبة.. ففرضه العتق، سواء كان موسرا حال الوجوب أو معسرا. وإن كان معسرا عند التكفير.. ففرضه الصوم، سواء كان موسرا بالرقبة حال الوجوب أو معسرا.
وإذا قلنا: إن الاعتبار بأغلظ الأحوال.. فمتى كان موسرا بالرقبة في حال الوجوب، أو حال الأداء، أو فيما بينهما ففرضه العتق؛ لأنه حق يتعلق بالذمة بوجود المال، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال، كالحج.
[مسألة: المجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة]
] : ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجزئ في كفارة القتل إلا رقبة مؤمنة، فأما كفارة الظهار وكفارة اليمين.. فيجزئ فيها المؤمنة والكافرة) .(10/363)
دليلنا: أن الله تعالى ذكر الرقبة في كفارة القتل، وقيدها بالإيمان، وذكر الرقبة في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأطلق ذكرها، فوجب أن يحمل المطلق على المقيد، كما ذكر الشهود في موضع، وقيدهم بالعدالة، وذكرهم في مواضع، وأطلق ذكرهم ولم يقيدهم بالعدالة، فلما حمل مطلق الشهود على المقيد في العدالة.. فكذلك هذا مثله.
وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، وقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها رقبة، أفأعتق عنها هذه؟ فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين الله؟ "، فقالت: في السماء، فقال: " من أنا؟ "، قالت: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أعتقها فإنها مؤمنة» . وهذا يقتضي أن كل رقبة واجبة لا يجزئ فيها إلا مؤمنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق.
ولأنه تكفير بعتق، فلم يجز فيه إلا مؤمنة، ككفارة القتل.
إذا ثبت هذا فيجزئ عتق الرقبة الفاسقة؛ لأن الفسق لا يوجب القتل، ولا يجيز الاسترقاق، وإنما هو نقص، فلم يمنع الإجزاء، كالأنوثية.
ويجزئ عتق الرقبة الأعجمية إذا ثبت إسلامها؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى(10/364)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية أعجمية، فقال: علي يا رسول الله رقبة، أفأعتق هذه؟ فقال لها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: " من أنا " فأشارت إليه - أي: أنت رسول الله - فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أعتقها؛ فإنها مؤمنة» .
فإن كان مولاها أو الحاكم يعرف لغتها، فسمع الإسلام منها.. جاز إعتاقها، وإن كانا لا يعرفان ذلك، وترجم عنها رجلان عدلان، وأخبرا بإسلامها.. أجزأ عتقها.
[فرع: إجزاء الرقبة الصغيرة المسلمة]
ويجزئ عتق الرقبة الصغيرة إذا كان أحد أبويها مسلما، أو سبي ولم يسب معه أحد أبويه وقلنا: يتبع السابي في الإسلام، سواء كان ابن يوم أو شهر أو سنة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يتبع الصغير الأم في الإسلام) . وقد مضى ذلك، ثم قال: (لا يعجبني إلا رقبة صلت وصامت) .
وقال أحمد: (لا تعجبني الصغيرة؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغيرة لا عمل لها) . وهذا يدل من قوله: أنها لا تجزئ.
ومن الناس من قال: لا تجزئ الصغيرة؛ لأنها كالذمية.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين الصغير والكبير.
ولأنها رقبة مؤمنة سليمة تامة الملك، فأجزأ عتقها، كالبالغة.
وإن كانت الرقبة جلبية؛ جلبت من دار الشرك، أو مولودة في دار الإسلام، ولا يعرف أبواها.. لم يجز عتقها حتى تصف الإسلام.(10/365)
قال الشافعي في موضع: (إذا أتت بالشهادتين.. كانت مسلمة) .
وقال في موضع: (حتى تأتي بالشهادتين، وتبرأ من كل دين خالف الإسلام) .
وقال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فحيث قال: (يحكم بإسلامه إذا أتى بالشهادتين) إذا كان من عبدة الأوثان الذين لا يقرون بالله ولا بأحد من الأنبياء، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. حكم بإسلامه؛ لأنه لا تأويل له في كفره.
والموضع الذي قال: (يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام) إذا كان يهوديا أو نصرانيا؛ لأن منهم من يعتقد أن محمدا نبي أرسل إلى العرب وحدهم، أو أنه نبي يخرج في آخر الزمان.
قال الشافعي: (وأحب أن يمتحنه بالإقرار بالبعث والنشور مع الشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام؛ لأنه أبلغ في الإيمان) . فإن لم يفعل ذلك.. جاز؛ لأن الإسلام يتضمن ذلك، وكل من كان مسلما.. فإنه يؤمن بذلك، فلم يحتج إلى الإقرار به.
[مسألة: أيجزئ عتق رقبة مؤمنة معيبة]
؟] : ولا يجزئ في الكفارة عتق رقبة معيبة، وهو قول كافة العلماء. وقال داود: (تجزئ) .
دليلنا: أنه أحد ما يكفر به، فلم يجز فيه معيب، كالطعام المسوس.
إذا ثبت هذا: فإنما يريد بالعيوب التي تمنع الإجزاء العيوب التي تضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن المقصود بالعتق تمليك المنفعة؛ لأن العبد لا يملك نفسه بالعتق، وإنما يملك المنفعة، وكل عيب أضر بالعمل ضررا بينا.. منع الإجزاء في الكفارة، كما أن المقصود بالمبيعات العين والثمن، وكل عيب وجد في المبيع ينتقص من العين والثمن.. فإنه يثبت له الرد. وكذلك: المقصود بالنكاح الاستمتاع، وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا يمنع الاستمتاع.. يثبت له الخيار، وكذلك هذا مثله.(10/366)
فإذا أعتق عبدا أعمى.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن العمى يضر بالعمل ضررا بينا، بل هو يذهب بمعظم المنفعة.
وإن أعتق عبدا أعور.. أجزأه؛ لأن العور لا يضر بالعمل ضررا بينا.
وحكي: أن الشعبي كان يختلف إلى إبراهيم النخعي؛ يتعلم منه، ثم امتنع الشعبي، فقال له النخعي: لم امتنعت؟ فقال: قد استكفيت من العلم، فقال له النخعي: ما تقول في العبد الأعور، أيجزئ في الكفارة، أم لا؟ فقال الشعبي: لا يجزئ، فقال له النخعي: ويحك! شيخ مثلي لا يجزئ في الكفارة؟! - وكان النخعي أعور - فقال الشعبي: بل مثل هذا الشيخ يجزئ، فقال النخعي: أخطأت من وجهين:
أحدهما: أن العبد الأعور يجزئ في الكفارة، وأنت منعت.
والثاني: أن الحر الأعور لا يجزئ في الكفارة، وأنت جوزت.
[فرع: لا يجزئ قن مقطع بعض أوصاله]
] : ولا يجزئ مقطوع اليدين أو الرجلين؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
وكذلك لا يجزئ مقطوع اليد والرجل من جانب بلا خلاف.
ولا يجزئ مقطوع اليد والرجل من خلاف.
وقال أبو حنيفة: (يجزئ) .
دليلنا: أنه يضر بالعمل ضررا بينا، فلم يجزئ، كما لو كانا من جانب واحد.
ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
وإن كانت له أصبع مقطوعة من اليد.. نظرت:
فإن كانت الإبهام أو السبابة أو الوسطى.. منعت الإجزاء؛ لأن ذلك يضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك.(10/367)
وإن كانت الخنصر أو البنصر.. لم تمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك وإن كان مقطوع الخنصر والبنصر، فإن كانتا من يد.. منع ذلك الإجزاء؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك؛ لأنه يذهب بمنفعة نصف الكف، وإن كانتا من يدين. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك.
وإن كان مقطوع الأنملتين من أصبع من أصابع اليد، فإن كان ذلك من الخنصر أو البنصر.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن ذهاب الخنصر أو البنصر لا يمنع الإجزاء، فذهاب الأنملتين منها أولى أن لا يمنع. وإن كان من السبابة أو الوسطى.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك، فهو كما لو قطعت.
وإن كان مقطوع الأنملة من أصبع في اليد، فإن كان ذلك من الإبهام.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك. وإن كانت من غير الإبهام.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعتها لا تذهب بذلك.
قال ابن الصباغ: وإن كان قد قطع من جميع أصابع يده أنملة أنملة، إلا الإبهام لم يقطع منه شيء.. فإن ذلك لا يمنع الإجزاء؛ لأنها كالأصابع القصار، ولا يضر ذلك بالعمل ضررا بينا.
[مسألة: عتق الأعرج والأصم ومقطوع الأذن في الكفارة]
] : وأما الأعرج: فإن كان عرجه قليلا لا يمنع متابعة المشي، ولا يناله في المشي كبير مشقة.. أجزأ عتقه في الكفارة؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل ضررا يبنا. وإن كان عرجه يمنع متابعة المشي.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
ويجزئ الأصم؛ لأنه لا يضر بالعمل، بل يتوفر على العمل؛ لأنه لا يسمع ما يشغله.(10/368)
ويجزئ مقطوع الأذنين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وزفر: (لا يجزئ) .
دليلنا: أن قطعهما لا يضر بالعمل ضررا بينا، وإنما يخاف منه الصمم، والأصم يجزئ في الكفارة، فكذلك مقطوع الأذنين.
[فرع: عتق الأخرس في الكفارة]
فرع: [عتق الأخرس] : وأما الأخرس: فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يجزئ) .
وقال في القديم: (لا يجزئ) .
فقال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين.
فمنهم من قال: الموضع الذي قال: (يجزئ) إذا لم يكن مع الخرس صمم، بل يسمع؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا.
والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان مع الخرس صمم؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا.
ومنهم من قال: بل هو على اختلاف حالين غير هذا:
فالموضع الذي قال: (يجزئ) إذا كان يعقل الإشارة.
والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان لا يعقل الإشارة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان.
فإذا قلنا: يجزئ عتق الأخرس، فإن كان مسلما تبعا لأحد أبويه.. أجزأ عتقه، وإن كان مجلوبا من الشرك، أو مولودا في دار الإسلام، ولا يعرف أبواه، وهو بالغ، وأشار إلى الإسلام إشارة مفهومة.. فقد قال الشافعي في موضع: (يجزئ) . وقال في " الأم " [5/267] : (إن أشارت وصلت.. أجزأت) .
فمن أصحابنا من قال: إذا أشارت إلى الإسلام.. أجزأت وإن لم تصل؛ لحديث(10/369)
أبي هريرة الذي مضى في الأعجمية، ولأن سائر أحكامه تتعلق بالإشارة، كبيعه، وشرائه، ونكاحه، وطلاقه، فكذلك إسلامه. وقول الشافعي: (وصلت) تأكيد، لا شرط.
ومنهم من قال: لا يجزئ عتقها حتى تصلي مع الإشارة؛ لأن بالصلاة تتحقق صحة إشارتها.
[فرع: عتق المجنون والأحمق والقرناء والمجبوب وضروبهم في الكفارة]
] : وهل يجزئ عتق المجنون؟ ينظر فيه:
فإن كان جنونه مطبقا.. لم يجزئ؛ لأنه لا منفعة له.
وإن كان يجن في وقت، ويفيق في غيره.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه يجزئ من غير تفصيل؛ لأنه يمكنه الاكتساب في وقت الإفاقة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كان زمان الإفاقة أكثر.. أجزأ، وإن كان زمان الجنون أكثر.. لم يجزئ.
ويجزئ عتق الأحمق؛ وهو الذي يفعل ما يضره مع علمه بقبحه؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل.
ويجزئ عتق الأمة القرناء والرتقاء، وعتق الخصي والمجبوب؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل.
ويجزئ مقطوع الأنف.
وقال مالك: (لا يجزئ) .
دليلنا: أن ذلك لا يضر بالعمل ضررا بينا.
ويجزئ عتق ولد الزنا، وهو قول عامة أهل العلم.
وقال الأوزاعي، والزهري: (لا يجزئ) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» .(10/370)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يفرق.
ولأن ذلك لا يضر بالعمل، وإنما هو ناقص النسب، والنسب غير معتبر في الكفارة.
وأما الخبر: فله تأويلان.
أحدهما: أنه أراد: ولد الزنا شر من الزاني والمزني بها نسبا.
والثاني: أنه أراد بذلك الإشارة إلى ثلاثة رجال بأعيانهم، أحدهم ولد الزنا؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجالس في وسط الحلقة ملعون» . ولم يرد لجلوسه فيها، وإنما ذلك علامة له.
وأما المريض: فإن كان مرضا يرجى زواله، كالحمى، والصداع، وما أشبهه.. أجزأ عتقه في الكفارة، وإن كان لا يرجى زواله، كالسل، وما أشبهه.. لم يجزئ؛ لأنه يدوم ولا يزول.
وأما النحيف ونضو الخلق من أصل الخلقة لا لمرض، فإن كان لا يستطيع العمل ولا كثيرا منه.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا، وإن كان يستطيع أكثر العمل.. أجزأ عتقه؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا.(10/371)
[فرع: عتق المرهون والجاني ونحوه في الكفارة]
] : ومن أعتق عبدا عن الكفارة، مرهونا أو جانيا، وقلنا: يصح عتقهما.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه أعتق عبدا بملكه ملكا تاما لا عيب فيه، فأجزأه، كما لو كان غير مرهون ولا جان.
وإن غصب عبدا من غيره، وأعتقه الغاصب عن الكفارة.. لم يجزئه؛ لأنه لا يملكه، وإن أعتقه المغصوب منه عن الكفارة.. عتق عليه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأن الغاصب يحول بين العبد وبين منافعه، فلا يحصل للعبد المقصود من العتق، فصار كما لو أعتق عن كفارته عبدا زمنا.. فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: يجزئه؛ لأنه يملكه ملكا تاما.
وإن أعتق حمل جارية عن كفارته.. عتق الحمل؛ لأن العتق صادف ملكه ولا يتعلق به حق غيره فيعتق، كالمنفصل، ولا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا، والكفارة حكم، فلم يجز في الحمل.
[فرع: التكفير بعتق العبد الغائب]
] : وإن أعتق عن كفارته عبدا له غائبا، فإن كانت غيبته غير منقطعة، بل يعرف مكانه ويسمع بخبره.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه بمنزلة الغائب عنه في البيت، وإن كانت غيبته منقطعة، لا يعلم مكانه ولا يسمع بخبره.. عتق عليه. قال الشافعي: (ولا يجزئه عن الكفارة) . وقال في (زكاة الفطر) : (عليه زكاة فطره) .
فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يجزئ عتقه عن الكفارة، وتجب عليه زكاة فطره؛ لأن الأصل حياته.(10/372)
والثاني: لا يجزئ عتقه عن الكفارة، ولا تجب عليه زكاة فطره؛ لأنه يشك في سقوط الكفارة عنه بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في حياته لتجب عليه زكاة فطره، والأصل براءة ذمته من الزكاة.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: لا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه يشك في إسقاط الكفارة عن ذمته بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في سقوط الزكاة عنه بموته، والأصل بقاؤها.
[مسألة: أعتق أم ولد عن كفارة]
] : وإن أعتق أم ولده في كفارته.. عتقت عليه، ولم تجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقها مستحق بالاستيلاد، فلم يقع عن الكفارة، كما لو باع من فقير طعاما، ثم دفعه إليه عن الكفارة. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجزئ عتقها عن الكفارة؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز بيعها، وقد مضى ذلك في البيوع.
وإن أعتق مكاتبه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يصح بيعه، أو لا يصح؛ لأنا وإن قلنا: يصح بيعه.. فإن الكتابة لا تبطل بالبيع، وإنما يقوم المشتري مقام البائع، فمتى أدى إليه باقي النجوم.. عتق عليه. هذا مذهبنا، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قد أدى إليه شيئا من كتابته.. لم يجزئه عتقه عن الكفارة، وإن لم يؤد إليه شيئا من كتابته.. أجزأه عن الكفارة) . وبه قال الليث.
وقال أحمد وأبو ثور: (يجزئ عن الكفارة بكل حال) .
دليلنا: أن عتقه مستحق بسبب سابق لعتقه عن الكفارة.. فلم يجزئه عن الكفارة، كأم الولد.(10/373)
وإن أعتق عبدا مدبرا، أو معلقا عتقه بصفة عن الكفارة.. عتق عليه، وأجزأه عن الكفارة؛ لأن عتقهما غير مستحق عليه، فأجزأه عن الكفارة، كالقن.
[مسألة: اشترى من يعتق عليه للكفارة]
] : وإن اشترى من يعتق عليه؛ كأحد أولاده، أو أحد والديه، ونوى عتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . والتحرير من التفعيل، وهو أن يفعل التحرير، فإذا ملك أحد والديه، أو أحد أولاده.. لم يحرر رقبة، وإنما يحرر بالشرع.
ولأن عتقه مستحق عليه بالقرابة، وهو سبب للكفارة، فلم يقع عن الكفارة، كما لو استحق عليه القريب النفقة بالقرابة، فدفع إليه نفقته، ونوى الكفارة.. فإنها لا تجزئه.
[فرع: اشترى عبدا بشرط أن يعتقه]
] : إذا اشترى عبدا بشرط أن يعتقه.. فقد ذكرنا في (البيوع) : أن المشهور من المذهب: أن البيع صحيح، وهل يلزمه أن يعتقه؟ فيه وجهان.
وإن أعتقه عن الكفارة؟ فإن قلنا: إن البيع باطل.. لم يعتق؛ لأنه لا يملكه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه لم يعتق عليه. وإن قلنا: يصح البيع، فأعتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يجب عليه إعتاقه، أو لا يجب؛ لأنا إن قلنا: يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقه استحق عليه بسبب سابق لعتق الكفارة، فلم يجزئه عن الكفارة، كما لو نذر عتقه قبل هذا. وإن قلنا:(10/374)
لا يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئ عن الكفارة، كما لو نذره؛ لأن هذا العتق لم يقع خالصا للكفارة، وإنما هو مشترك للكفارة ولأجل هذا الشرط في البيع؛ بدليل أنه يسقط خيار البائع في فسخ البيع لذلك. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن العتق في العبد المبيع بشرط العتق حق لله، أو حق للآدمي، فطالب البائع بإعتاقه، فأعتقه المشتري عن الكفارة.. لم يجزئه عن الكفارة. وإن قلنا: إنه حق للآدمي، فأعتقه المشتري قبل أن يطالب بإعتاقه، ونوى عتقه عن الكفارة.. فهل يجزئه عن الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه لم يجز عليه إعتاقه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه كان بعوض، وقد سامحه البائع في الثمن؛ حيث باعه بشرط العتق.
قال: فإن باعه بشرط أن يعتقه عن كفارته، وقلنا: يصح البيع، فأعتقه عن كفارته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إن وطئتك.. فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، فإذا وطئ وأعتق.. فهل يجزئ؟ على وجهين، مضى ذكرهما.
[مسألة: النية في العتق]
] : ولا يقع العتق عن الكفارة إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .(10/375)
وصفة النية: أن ينوي العتق عن الكفارة، فإن نوى عن الكفارة الواجبة.. كان ذلك تأكيدا، وإن نوى عن الكفارة، ولم ينو عن الواجبة.. أجزأه؛ لأن الكفارة لا تكون إلا واجبة.
وإن نوى العتق عن الواجب عليه أو الفرض.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجزه عن الكفارة؛ لأن الرقبة الواجبة عليه قد تكون عن الكفارة، وقد تكون عن غير كفارة، فلم يجزه عن الكفارة؛ لأنه لم يخلص النية لها.
قال: وكذلك إذا أخرج زكاة ماله، ونوى عن الصدقات الواجبة، أو عن الفرض.. لم يجزه عن الزكاة؛ لأنه قد يكون عليه صدقة واجبة عن زكاة وعن غير زكاة، فإذا لم ينو الزكاة.. لم يجزه.
وهل يجب أن تكون نية العتق مقارنة للعتق، أو يجوز تقديمها على العتق؟ فيه وجهان، كما قلنا في وقت نية إخراج الزكاة، وقد مضى ذلك.
[مسألة: جواز التكفير بالمشترك بنية جميعه]
] : وإن كان بينه وبين غيره عبد مشترك، فأعتق أحدهما نصيبه.. فقد ذكرنا: أنه إن كان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. عتق عليه نصيب شريكه، ومتى يعتق عليه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: بنفس اللفظ.
والثاني: يقع بدفع القيمة بعد العتق.(10/376)
والثالث: أنه موقوف.
فإن قلنا: يعتق بنفس اللفظ.. فهل وقع عتق الجميع دفعة واحدة، أو عتق نصيبه، ثم سرى إلى نصيب شريكه؟ فيه وجهان.
وإن كان معسرا.. لم يعتق عليه نصيب شريكه.
إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا إذا أعتقه عن الكفارة، فإن أعتق العبد، ونوى عتق جميعه عن الكفارة، وكان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه كالمالك للجميع؛ بدليل: أنه إذا أعتق نصيبه.. سرى إلى نصيب شريكه.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بدفع القيمة بعد العتق.. لا يجزيه نصيب شريكه؛ لأنه حين يدفع القيمة، ويحكم بعتقه.. يكون عتقا مستحقا، فيكون كما لو اشترى أباه بنية الكفارة. والأول هو المشهور؛ لأن نية التكفير هنا قارنت سبب العتق، وهو إعتاقه لنصيبه بنية الكفارة، وإذا اشترى أباه.. فإن سبب العتق هو القرابة، ونية الكفارة تأخرت عنه؛ فلذلك لم يجزه.
وأما وقت نية التكفير: فإن قلنا: إن نصيب شريكه يعتق بنفس اللفظ أو مراعى.. فلا بد أن ينوي عتق جميع العبد عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وإذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بأداء القيمة.. فأما نصيب نفسه: فإنه ينوي عتقه عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وأما نصيب الشريك: ففيه وجهان:
أحدهما: قال أكثر أصحابنا: أنه بالخيار: إن شاء.. نوى عتقه عن الكفارة مع اللفظ؛ لأنه وقت الوجوب، وإن شاء.. نواه عند أداء القيمة؛ لأنه حين العتق.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: عندي: أنه لا بد أن ينوي حال اللفظ؛ لأن تلك الحال حالة سبب العتق.(10/377)
وأما إذا نوى عتق نصيبه عن الكفارة حال العتق، ولم ينو عتق نصيب شريكه، فإن قلنا: إن العتق يسري باللفظ، أو قلنا: إنه مراعى.. فإن نصيب شريكه يعتق، ولا يجزيه عن الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: يجزيه؛ لأنه يسري إلى العتق الواقع عن الكفارة؛ لأن قوله: (أعتقت نصيبي منك) كقوله: (أعتقت جميعك) ، إذ كان لا يملك عتق نصيب شريكه إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قال: أعتقت نصيب شريكي.. لم يصح؟
والأول أصح؛ لأن العتق يسري، ولم ينوه عن الكفارة.
وأما إذا قلنا: يسري بأداء القيمة، ثم نوى مع أداء القيمة.. فعلى الوجهين الأولين:
أحدهما: يجزيه؛ لأنه نوى مع سبب العتق.
والثاني: لا يجزيه، وهو قول الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب؛ لأن سبب استحقاق العتق إنما هو عتق النصيب الأول، فإذا لم يقارن النية سبب الاستحقاق.. لم يجزه.
وأما إذا كان معسرا، ونوى عتق نصيبه عن الكفارة.. عتق عليه نصيبه، ولا يسري إلى نصيب شريكه؛ لأن في ذلك ضررا على الشريك.
فإن ملك بعد ذلك نصيب شريكه، وأعتقه عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه قد أعتق رقبة عن الكفارة وإن كان في وقتين، كما لو أطعم المساكين في وقتين.
[مسألة: عتق عبدين معا عن كفارتين]
] : إذا كان على رجل كفارتان من جنس أو جنسين، فأعتق عنهما عبدين.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يعتق عن كل كفارة عبدا بعينه، فيجزيه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا قد حرر عن كل كفارة رقبة.
الثانية: أن يعتق عبدا عن إحدى الكفارتين لا بعينها، ويعتق الآخر عن الأخرى(10/378)
لا بعينها، فيجزيه ذلك أيضا؛ لأن تعيين سبب الكفارة ليس بواجب.
الثالثة: أن يعتقها عن الكفارتين؛ بأن يقول: أعتقتكما عن كفارتي.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجزيه، ويقع كل واحد عن كفارة.
قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن عرف الاستعمال والشرع إعتاق الرقبة عن الكفارة، فإذا أطلق ذلك.. وجب حمل ذلك عليه.
قال: وذكر صاحب " المجموع ": أنها بمنزلة الرابعة؛ وهي: إذا قال: أعتقتكما، وكل واحد منكما عن كفارتي.. قال الشافعي: (أجزأه، وكمل العتق) . ولا خلاف بين أصحابنا أنه يجزيه.
واختلفوا في كيفية وقوع العتق:
فقال أبو العباس، وأبو علي بن خيران: يقع كل واحد منهما عن كفارة؛ لأنه إذا قال: أعتقتكما.. وقع العتق، وقوله بعد ذلك: (وكل واحد منكما) لغو، فينقلب العتق في كل واحد عن كفارة.
ومنهم من قال: يعتق نصف كل واحد من العبدين عن كل واحدة من الكفارتين، وهو ظاهر النص؛ لأنه قال: أجزأه، وكمل العتق؛ لأنه أعتقهما عن الكفارتين، فاقتضى وقوع كل واحد منهما عنهما، كما لو قال: هاتان الداران لزيد وعمرو. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كانتا من جنس واحد، فأعتق العبدين بنية التكفير.. أجزأه - كما قلنا - وإن كانتا من جنسين.. لم يجزه حتى يعين العتق عن كل واحدة من الكفارتين) .
دليلنا: أنها حقوق تخرج في التكفير، فلم يجب فيها تعيين النية، كما لو كانتا من جنس واحد.(10/379)
[فرع: عليه كفارة فأعتق نصف عبدين]
] : وإن كان عليه كفارة، فأعتق عنها نصف عبدين.. فهل يجزيه؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجزيه؛ لأن نصف الاثنين في الشرع يقوم مقام الواحد الكامل؛ بدليل: أنه إذا ملك نصف عبدين.. لزمه عنهما زكاة الفطر، كعبد.
والثاني: لا يجزيه؛ لأن الله أوجب على المكفر تحرير رقبة، وهذا ما حرر رقبة.
والثالث: إن كان باقي العبدين حرا.. أجزأه؛ لأنه يحصل لهما تكميل الأحكام، وإن كان باقيهما مملوكا، بأن كان معسرا.. لم يجزه؛ لأنه لا يحصل لهما تكميل الأحكام.
[فرع: الشك في موجب الكفارة]
] : وإن كان عليه كفارة، فشك أنها من ظهار أو قتل أو يمين، فأعتق رقبة عنها.. أجزأه؛ لأن تعيين السبب ليس بواجب عليه.
وإن كان عليه ثلاث كفارات، وكان واجدا لرقبة لا غير، فأعتقها بنية التكفير، ثم صام شهرين بنية التكفير، ثم مرض فأطعم ستين مسكينا بنية التكفير.. أجزأه ذلك، وسقط عنه الكفارات الثلاث؛ لأن عليه أن ينوي الكفارة، وليس عليه أن يعين جنسها.
قال الطبري: إذا أعتق رقبة ونوى عتقها عن كفارة الظهار، ثم بان أنه لم يكن عليه كفارة الظهار، وإنما عليه كفارة القتل.. لم يجزه ذلك؛ لأن تعيين جنس الكفارة وإن كان غير واجب، إلا أنه إذا عينها عن جنس، وبان أن ذلك الجنس ليس عليه.. لم يجزه، كما لو نوى الاقتداء في الصلاة بالإمام وهو فلان، فبان أنه غيره، أو نوى الصلاة على جنازة رجل، فبان أنه امرأة.. لا يجزيه.
[مسألة: له عبد عليه كفارة]
] : إذا كان لرجل عبد وعليه كفارة الظهار، فقال له آخر: أعتق عبدك عن ظهارك على أن علي عشرة، أو وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك(10/380)
عشرة، أو قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. فإن العبد يعتق عليه، ولا يجزيه عن الظهار؛ لأنه لم يعتقه عتقا خالصا عن الظهار، وإنما أعتقه عتقا مشتركا بين العتق عن الظهار وبين العوض، فلم يقع عن الظهار.
وقال أبو إسحاق: إن قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. استحق العوض، ولم يجزه عن الظهار؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي على أن عليك عشرة) وقع العتق بالعوض، فقوله: (عن ظهاري) يكون لغوا، لا يتعلق به حكم.
وإن قال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك عشرة.. أجزأه عن الظهار، ولم يستحق العوض؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي عن ظهاري) يقع العتق عن الظهار، وقوله بعد هذا: (على أن عليك عشرة) لغو لا يتعلق به حكم.
والمنصوص في " الأم ": هو الأول؛ لأن الكلام إذا اتصل بعضه ببعض.. كان حكم أوله حكم آخره.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يستحق على السائل العشرة التي بذلها. هذا قول عامة أصحابنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أن التسمية فاسدة. وبه قال ابن الصباغ؛ لبطلان الشرط الذي شرطه.
فإن قال: أعتق عبدك عن ظهارك وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري، وسكت عن ذكر العوض.. أجزأه عن الظهار؛ لأنه لم يجبه إلى ما دعاه إليه، بل أخلص العتق عن الكفارة.
[مسألة: عتق عبده نيابة عن غيره]
] : إذا أعتق عبده عن غيره.. فلا يخلو المعتق عنه: إما أن يكون حيا، أو ميتا.
فإن كان حيا.. نظرت:
فإن أعتق عنه بإذنه.. وقع العتق عن المعتق عنه، والولاء له، سواء كان بعوض أو(10/381)
بغير عوض. وإن كان على المعتق عنه كفارة، وأعتق عنه مالك العبد عبده عن كفارة أخرى.. أجزأ المعتق عنه عن كفارته، وكان الولاء له، سواء كان بعوض أو بغير عوض.
وقال أبو حنيفة: (إن أعتق عنه عن واجب عليه بعوض.. وقع عن المعتق عنه عن الواجب عليه، وإن كان بغير عوض.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ووقع عن المعتق) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: أنها رقبة تجزئ عن كفارة المعتق عنه، فإذا أعتقها عنه غيره بإذنه.. وقع عنه، كما لو أعتقها عنه بعوض.
ولأنه إذا كان بعوض.. فهو بمنزلة البيع، وإذا كان بغير عوض.. فهو بمنزلة الهبة، والهبة إذا أقبضت.. لزمت، والعتق بمنزلة القبض.
وهكذا: إذا زكى عنه ماله بإذنه.. أجزأه؛ لما ذكرناه في العتق. وإن أعتقه عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ويقع عن المعتق له، والولاء له، سواء كان العتق عن تطوع أو واجب، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا أعتق عن غيره بغير إذنه عن تطوع.. لم يقع عن المعتق عنه، وإن أعتق عنه عن عتق واجب عليه.. وقع عن المعتق عنه، وكان الولاء له، كما لو قضى عنه دينا بغير إذنه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» . والمعتق هو هذا.. فكان الولاء له.
ولأنه لو باشر العتق بنفسه ولم ينو العتق عن الكفارة.. لم يجزه، فلأن لا يجزيه بإعتاق غيره عنه بغير إذنه أولى.
ولأنها عبادة من شرطها النية، فلا يصح أداؤها عن الغير بغير إذنه، كالزكاة، ويخالف قضاء الدين، فإنه لا يفتقر إلى النية.(10/382)
وإن كان المعتق عنه ميتا، فإن كان العتق تطوعا، لم يجب على المعتق عنه في حياته.. نظرت: فإن كان قد أذن بالعتق عنه قبل موته.. وقع العتق عن الميت، وكان الولاء له، كما لو أعتق عنه في حال الحياة بإذنه.
وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، بل يقع عن المعتق، والولاء له.
فإن قيل: أليس لو تصدق عنه بعد موته بغير إذنه.. لوقع عن المصدق عنه؟
قلنا: الفرق بينهما: أن العتق يتضمن ثبوت الولاء، و «الولاء لحمة كلحمة النسب» ، ولا يمكن إلحاق ذلك بالميت بغير إذنه.
وإن كان العتق واجبا على الميت، فإن أعتق عنه أجنبي ليس بوارث له ولا وصي له، فإن كان بإذن الميت.. وقع العتق عن الميت، وأجزأ عما عليه، وكان الولاء له، كما لو أذن له في حال الحياة، وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن الميت، ووقع عن المعتق، كما لو أعتق عنه في حياته بغير إذنه. وإن كان المعتق وارثا له أو وصيا له.. نظرت:
فإن كان العتق متحتما على الميت، ككفارة القتل أو الظهار، فإن كانت له تركة.. وجب على الوصي أو الوارث إخراج ذلك من تركته؛ لأنه يقوم مقامه في أداء الواجبات عليه من تركته، وإن عتق عنه من مال نفسه.. جاز؛ لأن نيته تقوم مقام نيته، وإنما تحصل منه النيابة في المال فحسب، وذلك جائز.
وإن كان العتق غير متحتم عليه، ككفارة اليمين، فإن كفر عنه الوصي أو الوارث بالكسوة أو الإطعام.. صح ذلك، وإن كفر عنه بعتق، فإن كان بإذنه.. صح، وإن كان بغير إذنه.. فهل يقع عن الميت ويكون الولاء للميت، أو عن المعتق ويكون الولاء للمعتق؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما:(10/383)
أحدهما: لا يقع عن الميت؛ لأنه كان غير متحتم عليه، فلم يقع عنه، كما لو تطوع عنه بالعتق بغير إذنه.
والثاني: يقع عن الميت، وهو الأصح؛ لأنه مخير بين الثلاثة، فإذا فعل أحدها.. تعين بالفعل، وبان أنه فعل واجبا، فوقع عن الميت، كما لو كان العتق متحتما.
إذا ثبت هذا: فقال رجل لآخر: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه.. فلا يختلف أصحابنا أن العبد قد دخل في ملك المعتق عنه، ولكن اختلفوا، متى ملكه وعتق عليه؟ على أربعة أوجه:
فـ[أحدها] : منهم من قال: دخل في ملكه بالاستدعاء، وعتق عليه بالإعتاق. وهذا ضعيف؛ لأن الإيجاب شرط في الملك، فلا يتقدم الملك عليه.
و [الثاني] : منهم من قال: إذا شرع المعتق في العتق دخل في ملك المعتق عنه، وبإكمال قوله: (أعتقت) عتق عليه. وهذا ضعيف أيضا؛ لأنه يدخل عليه ما ذكرناه على الأول.
الثالث - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه يقع الملك والعتق في حالة واحدة، وهو عقيب قوله: (أعتقت) ؛ لأنه إنما يمتنع اجتماع الضدين في طريق المشاهدة، فأما من طريق الحكم.. فلا يمتنع. وهذا ليس بشيء؛ لأن ما امتنع في العقل من اجتماع الضدين في المشاهدة.. لا يجوز إثباته في الأحكام؛ لأنه يكون حكما بالمحال.
الرابع - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يقع الملك عقيب قوله: (أعتقت) ، ثم يعتق عليه بعد ذلك؛ لأن من شرط العتق الملك، فما لم يوجد الملك.. لا يوجد العتق، ولا يمتنع أن(10/384)
يوجد لفظ العتق ولا يتعقبه العتق؛ لعدم الشرط، وهو إذا قال: أعتقته عنك بألف.. فإن العتق لا يتعقب لفظة العتق، وإنما يقع بعد قوله: قبلت.
[فرع: ظاهر من أمة غيره، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهار منها]
] : إذا تزوج الحر أمة لغيره وظاهر منها ووجد العود، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهاره.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة يملكها ملكا تاما فأجزأه، كما لو أعتقها عن ظهاره من غيرها، ولا يمتنع أن يجزئ عتقها وإن كانت سببا لوجوب العتق، كما لو قال: إن اشتريت أمة.. فعلي لله أن أعتق رقبة، فملك أمة، وأعتقها عن نذره.. جاز.
فإن أتت هذه الجارية بولد بعد العتق، فإن لم يطأها المشتري بعد الابتياع.. نظرت:
فإن أتت بالولد لأربع سنين فما دونها من وقت الشراء.. حكمنا بأن الولد أتت به من الزوجية، ويلحقه نسبه، ويعتق عليه بالشراء، ولم يسر إلى عتق أمه. فإن أعتق الأم بعد الشراء عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة ليست بأم ولد له.
وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الشراء.. لم يلحقه نسب الولد. فإذا أعتق الأم.. تبعها الولد، وأجزأه ذلك عن الكفارة.
وإن وطئها بعد الابتياع، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. فالحكم فيه كما لو لم يطأها، وقد مضى.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد لأربع سنين من وقت الوطء.. علمنا أن هذا الولد حدث وهي في ملكه، فلم يمسه رق، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه أعتقها بعد أن صارت أم ولد له؛ لأن الظاهر من هذا: أن هذا الحمل من هذا الوطء الموجود في الملك؛ لأنه يعقبه.(10/385)
[مسألة: عدم وجدان الرقبة يلزم الصوم]
] : وإن لم يجد المظاهر رقبة تفضل عن كفايته على الدوام وهو قادر على الصيام.. لزمه أن يصوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولما ذكرنا من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا: فإن كان قد نوى الصوم عن الكفارة أول ليلة من الشهر.. صام شهرين متتابعين هلاليين، سواء كانا تامين أو ناقصين، أو أحدهما تاما والآخر ناقصا؛ لأن الله تعالى أوجب عليه صوم شهرين، وإطلاق الشهر ينصرف إلى الشهر الهلالي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وأومأ بأصابع يديه، وحبس إبهامه في الثالثة، كأنه يعد ثلاثين» .
وروي: أنه قال: «قد يكون الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وحبس إبهامه في الثالثة» .
وإن كان ابتدأ الصوم وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر.. صام ما بقي من الشهر بالعدد، وصام الشهر الذي بعده بالهلال، تاما كان أو ناقصا، وتمم عدد الأول من(10/386)
الثالث ثلاثين يوما، تاما كان أو ناقصا؛ لأنه لما فاته شيء من الشهر الأول.. لم يصمه، ولم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال؛ لأنه أمكنه ذلك.
[فرع: الفطر في أثناء كفارة الصيام]
] : وإن أفطر في يوم في أثناء الشهرين، فإن كان أفطر لغير عذر.. انقطع التتابع، ولزمه أن يبدأ صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ومعنى التتابع: أن يوالي بالصوم أيامهما، ولا يفطر فيهما لغير عذر، وإن لم يفعل ذلك.. صار كما لو لم يصم.
وإن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم.. أثم بذلك، ولا ينقطع تتابعه.
وإن وطئها بالنهار ناسيا.. لم يفسد صومه، ولم ينقطع تتابعه، وبه قال أبو يوسف، وهي إحدى الروايتين عند أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (ينقطع تتابعه بذلك) . إلا أن مالكا يقول: (إذا وطئها ناسيا.. فسد صومه) . وأبو حنيفة يقول: (لا يفسد، إلا أنه يقطع التتابع) .
دليلنا على أنه لا يقطع التتابع: أنه وطء لم يفسد به الصوم.. فلم يقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى.(10/387)
وإن كان الفطر بعذر.. نظرت:
فإن كان العذر حيضا.. فلا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور في كفارة القتل والجماع في رمضان؛ إذا قلنا: تجب عليها الكفارة.. فإن التتابع لا ينقطع؛ لأن زمان الحيض مستحق للفطر، فهو كليالي الصوم، ولأن الحيض حصل بغير اختيارها، ولا يمكنها الاحتراز منه، فلو قلنا: إنه ينقطع التتابع.. لأدى إلى أنه لا يمكن للمرأة أن تكفر بالصوم إلا بعد اليأس من الحيض، وفي ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما ماتت قبل اليأس؛ ولذلك قلنا: لا ينقطع التتابع.
وإن أفطرت للنفاس.. احتمل أن يكون فيه وجهان، كما قلنا في الإيلاء.
وإن كان الفطر للمرض.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا ينقطع التتابع) . وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن سبب الفطر حدث بغير اختياره، فهو كالحيض، ولأنا لو قلنا: إنه ينقطع بالفطر في المرض.. لأدى ذلك إلى أن يتسلسل؛ لأنه لا يأمن وقوع المرض إذا استأنف بعد البرء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ينقطع تتابعه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أفطر باختياره، فهو كما لو أفطر بغير المرض.
وإن أفطر بالسفر، فإن قلنا: إن المريض إذا أفطر قطع التتابع.. فالمسافر أولى. وإن قلنا: إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع.. ففي المسافر قولان:
أحدهما: لا ينقطع التتابع؛ لأن السفر عذر يبيح الفطر، فهو كالمرض.
والثاني: أنه ينقطع التتابع؛ لأنه أحدث سبب الفطر، وهو السفر.
وإن نوى الصوم من الليل، ثم أغمي عليه في أثناء النهار.. فهل يبطل صومه؟ فيه طرق، مضى ذكرها في الصوم.
فإذا قلنا: لا يبطل.. لم ينقطع تتابعه بذلك.(10/388)
وإن قلنا: يبطل صومه.. قال الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: هو كالفطر في المرض على قولين. وفيه نظر؛ لأنه لا يفطر باختياره، بخلاف الفطر في المرض؛ فإنه أفطر باختياره.
وإن أفطرت الحامل والمرضعة في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على أنفسهما.. فهو كالفطر في المرض، وإن كان خوفا على ولديهما.. فهل ينقطع التتابع؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفطر في المرض.
و [الثاني] : منهم من قال: ينقطع التتابع، قولا واحدا؛ لأنهما أفطرتا لحق غيرهما، بخلاف المريض.
[فرع: الصيام أثناء الكفارة يقطع التتابع]
] : وإن صام في أثناء الشهرين تطوعا، أو عن نذر، أو قضاء.. انقطع تتابعه بذلك؛ لأن ذلك لا يقع عن الشهرين، وانقطع تتابعه به، كما لو أفطر.
فإن صام بعض الشهرين ثم تخللهما زمان لا يجزئ صومه عن كفارته؛ مثل: رمضان، وعيد الأضحى.. انقطع تتابعه؛ لأن رمضان مستحق للصوم، وعيد الأضحى مستحق للفطر، وقد كان يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل.. فقد فرط، كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر. ولا يجيء أن يقال: تخللهما عيد الفطر، ولا أيام التشريق؛ لأن عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد الأضحى.
فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان.. لم يصح صومه عن رمضان؛ لأنه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين؛ لأن الزمان مستحق لصوم رمضان، فلا يقع عن غيره.(10/389)
وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر.. لم يصح؛ لأنه مستحق للفطر، ويصح صوم باقي الشهر.
وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد، وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بأحد الوجهين على القديم؛ لا يصح صومها عن التمتع.. لم يصح صومه عن الشهرين. وإن قلنا: يصح صومها عن التمتع.. صح صومها عن الشهرين.
[مسألة: القدرة على العتق بعد الابتداء في الصوم]
] : وإن دخل في الصوم، ثم أيسر وقدر على إعتاق الرقبة.. لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يلزمه الانتقال) .
دليلنا: أنه وجد المبدل بعد شروعه في البدل، فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدي بعد شروعه في صوم التمتع.
قال الشافعي: (لو أعتق.. كان أفضل؛ لأنه الأصل، وليخرج بذلك من الخلاف) .
[فرع: تبييت النية لصيام الكفارة]
فرع: [وجوب تبييت النية لصيام الكفارة] : ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوي الصيام كل ليلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . وهذا عام في كل صوم. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك، وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلزمه نية التتابع كل ليلة؛ لأن التتابع واجب كالصوم، فلما وجب عليه نية الصوم كل ليلة.. فكذلك نية التتابع.(10/390)
الثاني: يلزمه نية التتابع أول ليلة من الشهرين؛ لأن الغرض تمييز هذا الصوم عن غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أول ليلة منه.
والثالث: لا تجب عليه نية التتابع، وهو الأصح؛ لأن التتابع شرط في العبادة، وعلى الإنسان أن ينوي فعل العبادة دون شرطها، كما قلنا في الصلاة: يلزمه نية فعل الصلاة دون شرطها.
[مسألة: الانتقال إلى الإطعام عند العجز عن الصوم]
] : وإن عجز عن الصوم لكبر أو لعلة، يلحقه من الصوم مشقة شديدة أو زيادة في المرض، أو يلحقه مشقة شديدة في الصوم من الجوع والعطش، وكان قادرا على الإطعام.. لزمه الانتقال إلى الطعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] ، ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
وإذا ثبت هذا: فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا يجوز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما.. جاز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . وقوله: {فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] مصدر يتقدر بـ: أن والفعل، وهذا يمنع الاقتصار على دون الستين.
ولأنه مسكين استوفى قوت يوم من كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها.. لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد صاعين.
[فرع: ما يدفع للمسكين في الكفارة]
] : ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا في كفارة الأذى؛ فإنه يدفع إليه مدين، سواء كفر بالتمر، أو الزبيب، أو الشعير، أو البر، أو الذرة، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (إن كفر بالتمر أو الشعير.. لزمه لكل مسكين صاع(10/391)
و (الصاع) : أربعة أمداد، و (المد) عنده: رطلان - وإن كفر بالبر.. لزمه لكل مسكين نصف صاع وفي الزبيب عنه روايتان:
إحداهما: أنه كالتمر والشعير.
والثانية: أنه كالبر.
وقال مالك - في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار -: (يطعم كل مسكين مدا بمد هشام) . وهو مد وثلث بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: بل هو مدان.
وقال أحمد: (هو مد من البر، ومن التمر والشعير مدان) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضرب نحره، وينتف شعره، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: (وما أهلكك؟) ، قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: " أعتق رقبة "، قال: لا أجد، فقال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، قال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أستطيع، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا، قال: " اذهب فتصدق به» .
إذا ثبت هذا في المجامع في رمضان.. قسنا سائر الكفارات عليها.
فأما خبر سلمة بن صخر؛ حيث أمر له النبي بوسق من تمر من صدقة بني زريق.. فمحمول على الجواز، وإنما زاد على خمسة عشر صاعا تطوعا؛ بدليل هذا الخبر.
[فرع: صفة الطعام الذي يخرج في الكفارة]
] : وهل يلزمه أن يخرج من غالب قوته، أم من غالب قوت البلد؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو عبيد بن حربويه: يلزمه من غالب قوته، وهو اختيار الشيخ(10/392)
أبي حامد؛ لأن الزكاة زكاتان: زكاة المال، وزكاة النفس، فلما كانت زكاة المال يجب إخراجها من المال.. وجب أن تخرج زكاة النفس من قوتها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه إخراجها من غالب قوت البلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . و (الأوسط) : الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد.
فإن عدل عن قوته أو قوت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى مما وجب عليه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر.. أجزأه؛ لأنه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك، بأن عدل عن البر إلى الذرة والشعير.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما في " المهذب " وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه قوت تجب فيه الزكاة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه دون ما وجب عليه.
وإن أخرج من قوت لا تجب فيه الزكاة، فإن كان غير الأقط.. لم يجزه، وإن كان من الأقط.. ففيه قولان، كما قلنا في زكاة الفطر.
وإن كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة.. وجب من قوت أقرب البلاد إليه. وهل يجزئه إخراج الدقيق والخبز والسويق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه مهيأ للاقتيات.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنه قد فوت فيه وجوها من المنفعة.
وإن أخرج القيمة.. لم يجزه، كما قلنا في الزكاة.
[مسألة: توزيع الستين مدا على مائة وعشرين لا يكفي]
] : وإن دفع ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا، إلى كل واحد منهم نصف مد.. لم(10/393)
يجزه ذلك، وقيل له: اختر منهم ستين مسكينا، وادفع إلى كل واحد منهم نصف مد؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد.
فإن دفع إلى ستين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة.. أجزأه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . فعم، ولم يخص.
وإن دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد مدين.. لم يجزه إلا ثلاثون مدا؛ لأنه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يخرج ثلاثين مدا؛ لكل واحد مدا، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟ ينظر فيه:
فإن بين: أن ذلك عن كفارة واحدة.. كان له أن يرجع به؛ لأن ما زاد على المد عن الكفارة.. لا يجزئ دفعه إلى واحد.
وإن أطلق.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أن ذلك تطوع، وقد لزم بالقبض.
وإن وجبت عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين.. أجزأه؛ لأنه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد.
ويجوز الدفع إلى الكبار من المساكين، وإلى الصغار منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ولم يفرق. ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير.. لم يجزه؛ لأنه ليس من أهل القبض؛ ولهذا: لو كان عليه دين، فأقبضه إياه.. لم يبرأ بذلك.
[فرع: العطاء المجزئ في الكفارة]
هو دفع مد لكل واحد] : والدفع المبرئ له هو: أن يدفع إلى كل مسكين مدا، ويقول: خذه، أو كله، أو أبحته لك.
فإن قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا، وقال: خذوه، أو كلوه، أو أبحته لكم.. لم يجزه ذلك؛ لأن عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك.
وإن قال: ملكتكم هذا بينكم بالسوية، وأقبضهم إياه، فقبضوه.. ففيه وجهان:(10/394)
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجزئه؛ لأن عليهم مشقة في القسمة، فلم يجزه، كما لو دفع إليهم الطعام في السنابل.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد ملكهم إياه، ولا يلحقهم في قسمته كثير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا.
وإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم.. لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: أن الواجب عليه دفع الحب، وهذا لم يدفع الحب. ولأنه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه، وهو يشك في إسقاط الغرض عن ذمته، والأصل بقاؤه.
[فرع: لا تدفع الكفارة لغير المسلم المكلف]
] : ولا يجوز دفعها إلى عبد ولا إلى كافر، ولا إلى من تلزمه نفقته؛ لما ذكرناه في الزكاة.
ولا يجوز دفعها إلى مكاتب وإن جاز دفع الزكاة إليه؛ لأن القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن ذلك؛ لأنه إن كان له كسب.. فنفقته في كسبه، وإن لم يكن له كسب.. فيمكنه أن يعجز نفسه، وتكون نفقته على سيده.
[فرع: القدرة على الصيام بعد الإطعام]
] : وإن أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصيام.. لم يلزمه الصيام، كما قلنا فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام، والمستحب له: أن يصوم.
وإن وطئها في خلال الإطعام.. أثم بذلك، ولا يلزمه الاستئناف.
وقال مالك: (يلزمه) .
دليلنا: أن الوطء لا يبطل ما فعله من الإطعام، فلم يلزمه الاستئناف، كما لو وطئ غيرها.(10/395)
[فرع: لا يجزئ الإطعام إلا بالنية]
] : ولا يجزئه الإطعام إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» . وهل يجب أن تكون النية مقارنة للدفع، أو يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الزكاة.
[مسألة: علق عتق عبده على ظهاره إن ظاهر]
] : إذا قال لعبده: أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظاهرت.. عتق عليه العبد في الحال، فإن تظاهر بعد ذلك.. لم يجزه عتق ذلك العبد عن الظهار؛ لأن حقوق الأموال إنما يجوز تقديمها على وقت وجوبها.. إذا وجد أحد السببين، فأما بتقديمه عليهما.. فلا يصح.
وإن قال لعبده: أنت حر عن ظهاري إن تظاهرت.. لم يعتق العبد في الحال؛ لأنه علق عتقه بصفة، فلا يعتق قبل وجود الصفة، فإن تظاهر.. عتق العبد، وهل يجزيه عن ظهاره؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن ظاهر من الرجعية، ثم أعتق عن ظهاره، أو أطعم قبل الرجعة، ثم راجعها.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه استباحة محظور، فلا يجوز تقديم الكفارة فيه، كما لو حلف لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب الخمر.
وإن أراد أن يكفر بالصيام.. لم يجز، وجها واحدا؛ لأنه صوم، فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه، كصوم رمضان.(10/396)
[فرع: علق ظهارا على الدخول وأعتق عبدا قبل دخوله]
] : وإن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فأعتق عبدا عن ظهاره قبل دخول الدار، ثم دخل الدار.. صار مظاهرا بدخول الدار، وهل يجزئه عتق ذلك العبد عن ظهاره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجزئه؛ لأن العتق وجد منه بعد تلفظه بالظهار، فأجزأه، كما لو أعتق بعد الظهار وقبل العود، ثم عاد.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأن العتق وجد منه قبل الظهار؛ لأن تعليق الظهار بالصفة ليس بظهار، فهو كما لو أعتق عبدا عن الظهار وقبل الظهار.
[مسألة: الكافر يكفر بالعتق والإطعام]
وإن ظاهر الكافر.. كفر بالعتق إن كان من أهل العتق، فإن لم يكن من أهل العتق.. كفر بالإطعام، ولا يكفر بالصيام؛ لأن العتق والإطعام يصحان منه في غير الظهار، فيصحان منه في الظهار، والصيام لا يصح منه في غير الظهار، فلا يصح منه في الظهار. ولا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة، كما قلنا في المسلم.
وإن ظاهر المسلم من امرأته، ثم ارتد قبل أن يكفر، فأعتق أو أطعم في حال ردته، فإن قلنا: إن ملكه ثابت لا يزول بالردة.. صح عتقه وإطعامه عن الكفارة.
فإن قيل: كيف يصح منه ذلك، ولا نية في ذلك؟
فالجواب: أن العبادات المالية المقصود منها: إيصالها إلى الفقراء والمساكين، والنية فيها على وجه التبع، فإن تعذرت النية.. لم يسقط المال، وأجزأ دفعه من غير نية؛ ولهذا قلنا: إذا امتنع من عليه الزكاة من دفعها، فأخذها الإمام منه قهرا.. أجزأه من غير نية لتعذرها.
وإن قلنا: إن ملكه مراعى.. كان عتقه وإطعامه مراعى، فإن رجع إلى الإسلام.. وقعت الكفارة موقعها، وإن مات أو قتل على الردة.. تبينا أن ملكه زال بالردة، فلم يعتق العبد، ولم يصح الإطعام.
وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح عتقه وإطعامه.(10/397)
ومن أصحابنا من قال: لا يزول ملكه بالردة، قولا واحدا، وإنما تصرفه لا ينفذ على هذا، ويصير كالمحجور عليه.
وإن صام المرتد في حال ردته.. لم يصح صومه؛ لأن عبادته بدنية، فلم تصح من الكافر، كالصلاة.
فإن كان المظاهر عبدا.. لم يجب عليه العتق، ولا يجزئ عنه؛ لأنه يتضمن ثبوت الولاء، وليس هو ممن يثبت له الولاء، ويكفر بالصوم.
فإن عجز عن الصوم، فإن ملكه السيد مالا، وقلنا: إنه يملكه.. كفر بالإطعام، وإن قلنا: إنه لا يملكه.. لم يكفر بالإطعام. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: إذا ملكه السيد عبدا - وقلنا: يملكه - فأعتقه عن كفارته.. ففيه قولان، بناء على أن المكاتب إذا أعتق عبدا هل يصح؟ وفيه قولان.
فإن قلنا: يصح.. كان ولاؤه موقوفا إلى أن يعتق، فإن أعتق.. كان ولاؤه له، كذلك هاهنا.
وإن أعتق العبد قبل أن يكفر وصار موسرا.. فقد قال البغداديون من أصحابنا:
لا يجب عليه العتق، قولا واحدا؛ لأنه لم يكن ممن يجزئ عنه العتق عند الوجوب، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن الاعتبار بحال الأداء.. فكفارته العتق، وإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب.. فإن قلنا: العبد يملك المال.. كفر بالصيام إن كان من أهله، أو بالإطعام، أو بالكسوة في كفارة اليمين، وإن قلنا: لا يملك المال.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه إلا بالصيام؛ لأنه تعين عليه.
والثاني: يجزئه العتق؛ لأنه أعلى حالا من الصوم.
وبالله التوفيق.(10/398)
[كتاب اللعان](10/399)
كتاب اللعان اللعان: مشتق من اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد، فسمي المتلاعنان بذلك؛ لأن في الخامسة اللعنة، ولما يتعقب اللعان من المآثم والطرد؛ لأنه لا بد أن يكون أحدهما كاذبا، فيكون ملعونا.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
و: «لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وامرأته» ، و: (بين هلال بن أمية وامرأته) .
إذا ثبت هذا: فإن رأى الرجل امرأته تزني، أو أقرت عنده بالزنا، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلا زنى بها، ثم وجده عندها ولم يكن هناك نسب(10/401)
يلحقه من هذا الزنا.. فله أن يقذفها بالزنا؛ لأنه إذا رآها.. فقد تحقق زناها، وإذا أقرت عنده، أو أخبره ثقة، أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها.. غلب على ظنه زناها، فجاز له قذفها، ولا يجب عليه قذفها؛ لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس - تعريضا منه بزناها - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طلقها "، فقال: إني أحبها، قال: " أمسكها» .(10/402)
وروى عبد الله بن مسعود: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا، فتكلم.. جلدتموه، أو قتل.. قتلتموه، أو سكت.. سكت على غيظ؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم افتح "، فنزلت آية اللعان» . فذكر: أنه يتكلم أو يسكت، ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما إذا لم يظهر على المرأة الزنا ببينة ولا سبب.. حرم عليه قذفها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] [النور: 11] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قذف محصنة.. أحبط الله عمله ثمانين عاما» .(10/403)
وإن أخبره بزناها من لا يثق بقوله.. حرم عليه قذفها؛ لأنه لا يغلب على الظن إلا قول الثقة.
وإن وجد عندها رجلا، ولم يستفض في الناس أنه زنى بها.. حرم عليه قذفها؛ لجواز أن يكون دخل إليها هاربا، أو لحاجة، أو لطلب الزنا ولم تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل.
وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها، ولم يجده عندها.. فهل يجوز له أن يقذفها؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجوز له قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة، فيثبت بها جواز القذف.
والثاني: لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في " التعليق "، و " الشامل " غيره؛ لجواز أن يكون أشاع ذلك عدو لهما.
[مسألة: قذف المحصن يوجب حد القذف وغير ذلك]
] : وإذا قذف الرجل رجلا محصنا، أو امرأة أجنبية منه محصنة.. وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، وردت شهادته.
فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف.. سقط عنه الحد، وزال التفسيق، وقبلت شهادته، ووجب على المقذوف حد الزنا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] .
فإن قذف الرجل امرأته.. وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزيز إن كانت غير محصنة، وحكم بفسقه.
فإن طولب بالحد أو التعزيز.. فله أن يسقط ذلك عن نفسه بإقامة البينة على الزنا،(10/404)
وله أن يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن، وإلا.. أقيم عليه الحد أو التعزير، هذا مذهبنا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذف الرجل امرأته.. لم يجب عليه الحد بقذفها، وإنما يجب عليه اللعان، فإن لاعن، وإلا.. حبس حتى يلاعن) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذا عام في الأزواج وغير الأزواج. وخص الأزواج بأن جعل لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 6] .
وروي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، أو حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ به ظهري من الحد. فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال؛ فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ". قال: قد كنت أرجو ذلك من ربي» .
وروى سهل بن سعد الساعدي: «أن عويمرا العجلاني أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لو وجد مع امرأته رجلا.. أيقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، اذهب فأت بها ". فأتى بها، فتلاعنا» .(10/405)
فيكون المعنى: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، أي: ما أنزل الله في هلال بن أمية وامرأته؛ لأنها عامة. ويجوز أن تكون الآية نزلت في الجميع. والمشهور: هو الأول.
وإنما خص الأزواج باللعان بقذف الزوجات؛ لأن الأجنبي لا حاجة به إلى القذف، فغلظ عليه، ولم يقبل منه في إسقاط الحد عنه إلا البينة.
وإذا زنت الزوجة.. فقد أفسدت على الزوج فراشه، وخانته فيما ائتمنها عليه، وألحقته من الغيظ ما لا يلحق بالأجنبي، وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج إلى قذفها لنفي ذلك النسب عنه، فخفف عنه؛ بأن يجعل لعانه قائما مقام شهادة أربعة.
فإن قدر الزوج على البينة واللعان.. فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء.
وقال بعض الناس: ليس له أن يلاعن.
دليلنا: أنهما بينتان في إثبات حق، فجاز له إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.
[فرع: قذف الزوج لا يشترط له الرؤية]
] : وسواء قال الزوج: رأيتها تزني، أو قذفها بالزنى ولم يضف ذلك إلى رؤيته، فله أن يلاعن لإسقاط الحد عنه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (ليس له أن يلاعن إلا إن قال: رأيتها تزني؛ لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية، وكان قد قال: رأيت بعيني، وشهدت بسمعي) .(10/406)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] ، ولم يفرق بين أن يقول: رأيت بعيني، أو أطلق.
ولأنه معنى يخرج به من القذف المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من القذف المطلق، كالبينة.
[فرع: انتفاء الولد يثبت باللعان]
] : وإن كان هناك ولد يريد نفيه.. لم ينتف بالبينة، وإنما ينتفي باللعان؛ لأن الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك.
وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة، ويلاعن لنفي النسب، أو يلاعن لهما.. جاز له ذلك.
[مسألة: يسقط حد القذف بعفو المقذوف]
] : حد القذف حق للمقذوف، فإن عفا عنه.. سقط، وإن مات قبل أن يستوفيه.. ورث عنه.
وقال أبو حنيفة: (هو حق لله لا حق للمقذوف فيه، وإن عفا عنه.. لم يسقط، وإن مات.. لم يورث عنه) . ووافقنا أنه لا يستوفى إلا بمطالبته.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فأضاف العرض إلينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته للمقذوف، كالدم، والمال.
ولأنه حق على البدن إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي، كالقصاص.
ففي قولنا: (إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع) احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فقذف زوجته، ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزيز، ولم(10/407)
يكن هناك ولد.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه يلاعن لإسقاط الحد عنه، وقد سقط عنه بالعفو.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لأنه يستفيد به قطع الفراش والفرقة المؤبدة. والمذهب الأول؛ لأن الفرقة تمكنه بالطلاق الثلاث.
وإن كان هناك ولد.. فله أن يلاعن لنفيه وإن لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه.
فإن كان هناك نسب.. فله أن يلاعن لنفيه عنه، وإن لم يكن هناك نسب.. فليس له أن يلاعن.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لقطع الفراش. والمذهب الأول؛ لأنه إنما يلاعن لنفي النسب، أو لإسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه بالطلاق الثلاث.
[مسألة: قذف الزوج لامرأته حال الصحة يوجب الحد واللعان يسقطه]
] : إذا قذف الرجل امرأته، ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال الصحة.. فإنه يجب عليه الحد.
وإن قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال جنونها.. فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب عليه بذلك التعزير.
وإن أراد الولي أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزيز.. لم يكن له ذلك؛ لأن طريقه التشفي من القاذف بإقامة الحد عليه، فلم يكن له ذلك، كالقصاص.
فإن التعن الزوج منها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقعت الفرقة) .
واختلف أصحابنا فيها على وجهين:
[أحدهما] : فمنهم من قال: إن كانت حاملا.. فللزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان يحتاج إليه لنفي الولد عنه، وإن كانت حائلا.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد(10/408)
لإسقاط الحد عنه، أو لنفي الولد، ولا ولد هاهنا، فيحتاج إلى نفيه، ولا يجب عليه الحد إلا بمطالبتها، ولا مطالبة لها قبل الإفاقة، فلم يكن له أن يلاعن.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن، سواء كانت حاملا أو حائلا؛ لأنها إن كانت حاملا.. احتاج إلى اللعان لنفي الولد، وإن كانت حائلا.. احتاج إلى اللعان لإسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر، كمن وجب عليه دين إلى أجل.. فله أن يدفعه قبل حلول الأجل.
والأول أصح؛ لأن الشافعي قال: (ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطالب المقذوفة بحدها) .
[فرع: لا يقبل قذف زوجة لها سبع سنين ويعزر]
] : وإن قذف زوجته الصغيرة، فإن كانت لا يوطأ مثلها، كابنة سبع سنين فما دونها.. لم يصح قذفه؛ لأن القذف إنما يصح إذا احتمل أن يكون فيه صادقا أو كاذبا، وابنة سبع سنين يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب. ويجب عليه التعزير للكذب، وليس له أن يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنا نتحقق كذبه، فلا معنى للعانه.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها؛ لأنه لا يصح مطالبتها به، ولا ينوب عنها الولي في المطالبة.
وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها، كابنة تسع سنين فما زاد.. صح قذفه؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنها ليست بمحصنة، وإنما يجب عليه التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لإسقاط التعزير؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ليس له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد لنفي النسب، أو لإسقاط ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن لإسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن لم يطالب به، كما يجوز له أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.(10/409)
وإن كانت له زوجة كتابية، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة، ويجب عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة، ويسقط عنه بإقامة البينة على زناها، أو باللعان؛ لأنه إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك.. فلأن يسقط ما هو دونه بذلك أولى.
وإن كانت الزوجة أمة، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة ويجب عليه التعزير، وليس للسيد أن يطالبه به؛ لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال، وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال.
فإن طالبته الأمة به.. كان له أن يسقط ذلك بالبينة أو باللعان، كما قلنا في الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة.
وإن عفت الأمة عما وجب لها من التعزير.. سقط؛ لأنه لا حق للسيد فيه.
[مسألة: القذف بعد البينة أو الإقرار لا يوجب الحد]
] : إذا قامت البينة على امرأة بالزنا، أو أقرت بذلك، ثم قذفها الزوج أو أجنبي بذلك الزنا أو بغيره.. لم يجب عليه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه ليست بمحصنة. ولأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، فأما ما لا يحتمل إلا أحدهما.. فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو قذف الصغيرة التي لا يوطأ مثلها في العادة، أو قال: الناس كلهم زناة.. لم يكن قاذفا؛ لأن القذف والحد فيه إنما جعلا لدفع العار عن نسب المقذوفة، وهذه لا عار عليها بهذا القذف؛ لأن زناها قد ثبت، ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها وسبها، وذلك محرم، فعزر لأجله؟
فإن كان المؤذي لها بذلك أجنبيا.. لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها؛ لأن هذا تعزير أذى، وليس بتعزير قذف.(10/410)
وإن كان المؤذي لها بذلك زوجها.. فهل له إسقاطه باللعان؟
نقل المزني: (ليس له إسقاطه باللعان) .
ونقل الربيع: (أن له إسقاطه باللعان) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع خطأ؛ لأن اللعان إنما يراد لتحقيق الزنا، والزنا هاهنا متحقق، فلا فائدة في اللعان، ولأن اللعان إنما يسقط حق المقذوفة، فأما حق الله: فلا يسقط، وهذا التعزير لحق الله، فلم يجز إسقاطه باللعان، كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوطأ مثلها. فإن قيل: لو كان هذا التعزير لحق الله.. لما كان يفتقر إلى مطالبتها، كما لو قال: الناس كلهم زناة.. فإن الإمام يعزره من غير مطالبة.
قلنا: إنما افتقر إلى مطالبتها؛ لأنه يتعلق بحق امرأة بعينها.
وقال أبو الحسن القطان، وأبو القاسم الداركي: هي على قولين:
أحدهما: لا يلاعن؛ لما ذكرناه.
والثاني: يلاعن؛ لأنه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها.. فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (لا يلاعن) إذا كان قد رماها بزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل: أن رماها بالزنا وهما أجنبيان، فأقام عليها البينة بذلك، ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا؛ لأنه كان في الأصل لا يجوز له اللعان لأجله، فكذلك في الثاني.
والموضع الذي قال: (له أن يلاعن) إذا رماها بالزنا في حال الزوجية، فحققه(10/411)
عليها بالبينة، ثم رماها به ثانيا، فله أن يلاعن؛ لأنه كان في الأصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة، فكذلك بعد البينة.
[فرع: قذف زوجته ولم يبين ولم يلاعن]
] : وإن قذف امرأته بالزنا، ولم يقم عليها البينة، ولم يلاعن، فحد، ثم رماها بذلك الزنا.. فإنه لا يجب عليه الحد؛ لأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، وهذا لا يحتمل إلا الكذب، ولأن الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة، وقد دفع عنه، العار بالحد الأول، فلا معنى لإقامة الحد ثانيا. ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها بذلك، والأذى بذلك محرم، ولا يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنه تعزير أذى، فهو كالتعزير لأذى الصغيرة التي لا يوطأ مثلها.
وإن قذف أجنبي بزنا، ولم يقم البينة على الزنا، فحد حد القاذف، ثم رماها القاذف بذلك ثانيا.. فإنه لا يجب عليه حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير للأذى.
وقال بعض الناس: يجب عليه حد القذف.
دليلنا: ما روي: (أن أبا بكرة شهد هو ورجلان معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، فحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تريد جلده.. فارجم صاحبك، فتركه عمر) .(10/412)
ومعنى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا.. فقد تمت الشهادة على المغيرة، وإن كان هو القذف الأول.. فقد حددته فيه.
[فرع: قذف امرأته وثبت الحد بلعانه فتنفيه بلعانها]
] : قال ابن الصباغ: إذا قذف الرجل امرأته بالزنا، وثبت عليها الحد بلعانه.. نظرت:
فإن لاعنته.. فقد عارض لعانه لعانها، فلا يثبت عليها الزنا، ولا يجب عليها الحد، ولا تزول حصانتها، ومتى قذفها هو أو غيره.. وجب عليه حد القذف.
وإن قذفها ولاعنها، ولم تلاعن هي.. فقد وجب عليها الحد، ويسقط إحصانها في حق الزوج، وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسقط حصانتها؛ لأنه قد ثبت زناها باللعان من الزوج.
والثاني: لا تسقط؛ لأن اللعان حجة تخص الزوج؛ ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به، فلا يسقط إحصانها به في حقه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا الذي تلاعنا عليه.. لم يجب عليه الحد، وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها، فكذلك في اللعان.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى القذف، وقد زالت الزوجية، فزالت الحاجة إلى القذف.(10/413)
وإن تلاعنا، ثم قذفها أجنبي.. حد.
فكل موضع قلنا: (لا يجب على الزوج الحد بقذفها بعد الزوجية) فإنه يجب عليه التعزيز؛ لأنه آذاها، والأذى محرم، وهذا لا خلاف أنه لا يسقط التعزير ولا الحد الذي يجب عليه إذا قذفها بزنا آخر باللعان؛ لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها أجنبي، فإن كان الزوج لاعنها ونفى حملها، وكان الولد حيا.. فعلى الأجنبي الحد، وإن كان لم ينف حملها، أو نفاه، وكان الولد ميتا.. فإنه لا حد على الأجنبي) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، ففرق بينهما، وقضى بأن لا يدعى الولد للأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . ولم يفرق. وهذا حجة لما قال ابن الصباغ، فإنها أجابته باللعان، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . وروي: " وعليه الحد " ولم يفرق بين الزوج وغيره.
وبالله التوفيق.(10/414)
[باب ما يلحق من النسب، وما لا يلحق]
وما يجوز نفيه باللعان، وما لا يجوز إذا تزوج الرجل امرأة، وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطء، فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه الولد.
فإن زوج الأب ابنه الصغير امرأة، وأمكن اجتماعهما، وأتت بولد.. نظرت:
فإن أتت به قبل أن يستكمل الصبي تسع سنين وستة أشهر من مولده.. لم يلحقه الولد بلا خلاف؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يولد لمثله. وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن اللعان إنما يحتاج إليه لنفي نسب لاحق به، وهذا غير لاحق به.
وإن مات هذا الصبي.. لم تنقض عدتها منه بوضعه؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه، فلم تنقض عدتها منه بوضعه، بخلاف ما لو نفى حمل امرأته باللعان؛ فإن عدتها منه تنقضي بوضعه؛ لأنه يمكن أن يكون منه.
وإن أتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل بعد ذلك.. لحقه الولد بلا خلاف؛ لأن ابن العشر قد ينزل الماء الدافق الذي يخلق منه الولد وإن كان نادرا، إلا أن الولد يلحق بالإمكان، وإن خالف الظاهر.
فإن أتت به بعد أن كمل للصبي تسع سنين وستة أشهر، أو سبعة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلحق به؛ لأن الشافعي قال: (لو جاءت بحمل وزوجها صبي دون عشر سنين.. لم يلزمه؛ لأن العلم يحيط أنه لا يولد لمثله) .
فإن قلنا بهذا: انتفى عنه بغير لعان.
والثاني: أنه يلحقه، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه لما جاز أن تبلغ المرأة بالحيض لتسع سنين.. فكذلك يجوز أن يبلغ الغلام بالاحتلام لتسع سنين، والنسب يحتاط في إثباته.(10/415)
فإذا قلنا بهذا: وأتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل، وأراد أن ينفيه باللعان.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا حكم لكلامه؛ لأنه غير بالغ.
فإن قيل: كيف جعلتموه بالغا في حكم لحوق الولد به، ولم تجعلوه بالغا في جواز اللعان؟!
فالجواب: أن إثبات النسب يجوز بالإمكان، ولا يجوز نفيه بالإمكان.
فإن أقر بالبلوغ وأراد أن ينفيه باللعان.. كان له ذلك؛ لأنه أقر بالبلوغ في وقت يجوز أن يكون صادقا، فقبل. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أتت به وقد استكمل تسع سنين.. لحق به.
وهل يشترط ستة أشهر وساعة الوطء بعد التسع ليلحقه؟ فيه وجهان.
وإن كان الزوج في سن من يولد له، إلا أنه مجبوب، فأتت امرأته بولد.. فروى المزني: (أنه لا ينتفي عنه إلا باللعان) . وروى الربيع: (أنه ينتفي عنه بغير لعان) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين:
فقال أبو إسحاق: الموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا كان مقطوع الذكر والأنثيين؛ لأنه إذا قطع ذكره وبقي أنثياه.. ساحق وأنزل، وإن قطع أنثياه وبقي ذكره.. أولج وأنزل.
غير أن أهل الطب قد قالوا: إذا قطع ذكره أو أنثياه.. فلا ينزل إلا ماء رقيقا(10/416)
لا يخلق منه الولد، ولا اعتبار بقولهم هاهنا؛ لأن الولد يلحق بالإمكان.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا قطع ذكره وأنثياه؛ لأنه يتعذر منه الإنزال جملة.
وقال القاضي أبو حامد: هي على اختلاف حالين آخرين: فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا لم تنسد ثقبة المني التي في أصل الذكر.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا انسدت؛ لأن في أصل الذكر ثقبتين: ثقبة للبول، وثقبة للمني، فإذا انسدت ثقبة المني.. تعذر الإنزال، وإذا لم تنسد.. لم يتعذر.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد به: المجنون إذا وطئ امرأته في حال جنونه؛ لأنه كالعاقل في الوطء.
والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) هو المجبوب والخصي.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: يلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن كان مقطوع الذكر والأنثيين.
والصحيح: قول أبي إسحاق. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان مجبوبا.. لحق به الولد، وإن كان خصيا، فإن قال أهل المعرفة: إنه يولد لمثله.. لحقه، وإلا.. فلا.
وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطء؛ بأن تزوجها في مجلس القاضي، وطلقها ثلاثا عقيب العقد في المجلس، فأتت بولد لمدة الحمل من يوم النكاح، أو تزوج رجل بالمشرق امرأة بالمغرب، فأتت بولد لستة أشهر من حين العقد.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان، وبه قال مالك وأحمد.(10/417)
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الزوج ممن يتأتى منه الوطء.. لحقه) .
وهكذا: قال في رجل غاب عن امرأته زمانا، فأخبرت: أنه مات، فاعتدت عنه عدة الوفاة، وتزوجت بغيره، فرزق منها أولادا، ثم جاء الزوج الأول، فإن الأولاد كلهم للأول، ولا يلحق أحد منهم الزوج الثاني.
ودليلنا: أنها أتت بولد لا يمكن أن يكون منه، فلم يلحق به، كامرأة الطفل.
[مسألة: ولادة المرأة قبل مضي ستة أشهر من وقت العقد]
] : وإن تزوج امرأة، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين العقد.. انتفى عنه بغير لعان؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر بالإجماع، فيعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش.
وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها وهي حامل، فوضعت الحمل، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من حين وضع الحمل.. لحقه الثاني؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يكون بين الحملين أقل من ستة أشهر، فعلمنا أنهما حمل واحد.
وإن أتت بالثاني لستة أشهر فما زاد من وقت وضع الأول.. انتفى عنه الثاني بغير لعان؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولدين من حمل واحد لا يكون بينهما ستة أشهر، فعلمنا أن الولد الثاني علقت به بعد وضع الأول.
وإن طلقها واعتدت بالأقراء، ثم ولدت قبل أن تتزوج.. نظرت:
فإن وضعته لستة أشهر فما زاد، أو لأربع سنين من وقت الطلاق، أو لدون ستة أشهر من وقت الطلاق.. لحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وسواء أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك أو لم تقر.
وقال أبو حنيفة: (إذا أتت به لسنتين من وقت الطلاق.. لحق به، وإن أتت به لما(10/418)
زاد عن سنتين من وقت الطلاق.. لم يلحق به) ؛ لأن أكثر الحمل عنده سنتان. والكلام عليه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو حنيفة أيضا: (إذا أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك.. لم يلحق الولد به، وانتفى عنه بغير لعان) . وبه قال أبو العباس ابن سريج؛ لأنا حكمنا بانقضاء عدتها بإقرارها وإباحتها للأزواج، فلا ينقض بأمر محتمل.
ودليلنا: أن أكثر الحمل عندنا أربع سنين، وقد ترى الحامل الدم على الحمل، وإذا أمكن إثبات الحمل.. لم يجز نفيه، ولهذا: لو تزوج امرأة وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد.. لحق به وإن لم يعلم الوطء؛ احتياطا لإثبات النسب، فكذلك هذا مثله.
وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق.. نظرت:
فإن كان الطلاق بائنا، مثل: أن طلقها طلقة أو طلقتين بعوض أو طلقها ثلاثا أو طلقها قبل الدخول أو فسخ النكاح بعيب.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بلا لعان. ونقل المزني: (فهو ينتفي باللعان) .
قال أصحابنا: وهذا خطأ في النقل؛ لأن الحمل لا يكون أكثر من أربع سنين.
ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: ويحتمل أن (الألف) من (لا) التزق مع (لام) قوله: (لعان) ، فصار قوله: (بلا لعان) باللعان.
وإن كان الطلاق رجعيا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يلحقه الولد، وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن الرجعية محرمة على الزوج تحريم المبتوتة عندنا، وقد ثبت أن المبتوتة إذا أتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت انقضاء العدة.. لم يلحقه، فكذلك الرجعية.
والثاني: أنه يلحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان؛ لأن الرجعية في(10/419)
معنى الزوجات؛ بدليل: أنه يلحقها الطلاق، والإيلاء، والظهار، ويتوارثان، فكانت في حكم الزوجات في حكم لحوق ولدها به؛ لأن النسب يحتاط لإثباته.
فإذا قلنا بهذا: فإلى متى يلحقه الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: يلحقه أبدا؛ لأنا نظن أن العدة قد انقضت، ولم تكن قد انقضت في الباطن، ويكون قد وطئها في العدة.
والثاني وهو المذهب: أنه يلحقه إذا أتت به لأربع سنين من وقت إقرارها بانقضاء العدة، ولا يلحقه إذا أتت به لأكثر من أربع سنين؛ لأنا إنما ألحقناه به؛ لجواز أن يكون قد وطئها في عدتها، وذلك وطء شبهة، فلحقه الولد الحادث من هذا الوطء.
وأكثر الحمل أربع سنين فإذا أتت به لأكثر من أربع سنين بعد انقضاء عدتها.. تبينا أنه حدث من وطء بعد انقضاء عدتها، وهي أجنبية من بعد انقضاء عدتها، فصارت كالمبتوتة.
وإن لم تقر بانقضاء العدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلحقه الولد أبدا؛ لأنه يحتمل امتداد العدة.
والثاني: أن يحسب ثلاثة أشهر من بعد الطرق، ثم إذا ولدت لأكثر من أربع سنين بعد الثلاثة الأشهر.. لم يلحقه؛ لأن الغالب أن الأقراء تنقضي بثلاثة أشهر.
[فرع: طلقها فأتت بعد أربع سنين بولد]
] : وإن طلقها، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، وكان الطلاق بائنا أو رجعيا، وقلنا: لا يلحقه ولدها، فادعت الزوجة أنه قد كان نكحها بعد الطلاق(10/420)
البائن، أو راجعها في الرجعي، وهذا الولد منه، فإن أنكر النكاح أو الرجعة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النكاح والرجعة، ويحلف على القطع: أنه ما نكحها، أو أنه ما راجعها؛ لأنه حلف على فعل نفسه. فإذا حلف.. لم يلزمه لها مهر ولا نفقة، وانتفى الولد عنه بغير لعان.
فإن نكل عن اليمين.. ردت عليها اليمين، فإن حلفت.. ثبت أنها زوجته، فتجب لها النفقة، ويجب لها المهر إن ادعت النكاح.
وأما الولد: فإن اعترف الزوج: أنها ولدته على فراشه. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. لم تصدق المرأة أنها ولدته حتى تقيم البينة على ذلك؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، ويقبل في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، فإذا أقامت البينة لها: أنها ولدته على فراشه.. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بهما.. لحق بالزوج، ولم ينتف عنه إلا باللعان. وإن قلنا: لا يعرض مع الأم، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الزوج مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، فإذا حلف.. انتفى عنه بغير لعان، وإن نكل الزوج عن اليمين، فردت على الزوجة، فلم تحلف.. فهل يوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان - بناء على القولين في الجالية المرهونة إذا أحبلها الراهن، وادعى المرتهن: أن الراهن أذن له في وطئها، وأنكر المرتهن، ونكلا جميعا عن اليمين -:
أحدهما: لا ترد اليمين على الولد؛ لأن اليمين للزوجة، وقد أسقطتها بالنكول.
والثاني: ترد عليه؛ لأنه يثبت بها حق الولد وحق الزوجة، فإذا أسقطت حقها.. بقي حق الولد.
وإن أقر الزوج: أنه راجعها أو تزوجها.. ثبتت الزوجية، وثبتت أحكامها، فإن أقر: أنها أتت بالولد على فراشه.. لحقه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن أنكر(10/421)
أنها ولدته، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها إقامة البينة على ما مضى. هذا إذا كان الاختلاف مع الزوج.
فأما إذا كان الاختلاف مع ورثة الزوج: فإن مات وخلف ابنا، فادعت الزوجة: أن أباه قد كان تزوجها أو راجعها، وهذا الولد منه، فإن أقر الابن بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها.
وأما الولد: فإن اعترف الابن: أنها ولدته على فراش أبيه.. لحق نسبه بالأب، وليس للابن أن ينفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج. وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها أن تقيم البينة أنها ولدته؛ لأنها يمكنها إقامة البينة، فإذا أقامت البينة.. ألحق بالأب، وورث مع الابن، وليس له نفيه باللعان، وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بالأب.. ثبت نسبه من الأب، وورث منه. وإن قلنا: لا يعرض معها، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الابن مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش أبيه، فإذا حلف.. لم يثبت نسب الولد من الزوج، ولم يرث مع الابن، وإن نكل عن اليمين.. حلفت الأم: أنها ولدته على فراش الزوج، وثبت نسبه منه، ويرث منه، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ على الوجهين اللذين مضى ذكرهما.
وإن أنكر الابن النكاح أو الرجعة، فإن كان معها بينة وأقامتها.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الابن مع يمينه، ويحلف الابن: أنه لا يعلم أن أباه نكحها أو راجعها؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي العلم، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن(10/422)
حلفت.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، أو أقامت البينة، وإن لم تحلف هي.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف؟ على الوجهين.
وإن خلف الزوج ابنين أو أكثر، فإن أقرا أو أنكرا أو حلفا أو نكلا وردا عليها اليمين فحلفت.. كان الحكم فيها كالحكم مع الواحد، وإن أقر أحدهما وأنكر الآخر، ونكل عن اليمين فحلف.. كان حكمها حكم ما لو أقرا. وإن أقر أحدهما، وأنكر الآخر، فحلف المنكر.. لم تثبت الزوجية في حق الحالف، ولا يثبت نسب الولد؛ لأن النسب لا يثبت إلا بالإقرار من جميع الورثة، ويلزم المقر بحصته من المهر النفقة، وهل ترث معه الزوجة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ترث؛ لأنه لما لم يثبت النسب باعترافه.. لم يثبت ميراثها باعترافه.
والثاني: ترث معه من حقه نصف الثمن، كما قلنا في الدين.
وإن كان الوارث للزوج أخا، أو ابن أخ، أو عما، فإن أنكر عليها النكاح أو الرجعة، وأقامت البينة.. ثبت النكاح، وثبتت أحكامه.
فإن أنكر أن تكون أتت بولد على فراش الزوج، فإن أقامت على ذلك بينة.. لحق بالزوج، وورث جميع مال الزوج إن كان ذكرا، وإن لم يكن معها بينة فحلف لها.. لم يثبت النكاح ولا يثبت نسب الولد.
وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. ثبتت زوجيتها وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فهل يلحق بالزوج؟
إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. ثبت نسبه.
وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهو كما لو أقر.
وإن أقر لها بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فإن أنكر الأخ أنها ولدته على فراش الزوج.. فعليها إقامة البينة: أنها ولدته على فراشه، وإن لم تقم بينة، وقلنا: لا يعرض الولد على القافة، أو قلنا:(10/423)
يعرض ولم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الأخ مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش الزوج؛ فإن حلف.. لم يثبت نسبه، وإن أقر: أنها ولدته على فراش الزوج.. ثبت نسبه منه، ولا يرث من الزوج؛ لأنا لو ورثناه لحجب الأخ، وخرج عن أن يكون وارثا، فلم يصح إقراره.
وقال أبو العباس: يرث. واختاره ابن الصباغ، والمذهب الأول.
وأما قدر ميراث الزوجة: فالذي يقتضي المذهب: إن كان مال الزوج في يدها.. لم يأخذ الأخ والعم منه إلا ثلاثة أرباعه؛ لأنه لا يدعي سواه، ويقر لها بالربع وهي لا تدعي إلا الثمن، وتدفع من الربع الذي يبقى في يدها إلى ابنها نصفه؛ لأنها تقر له به. وإن كان المال في يد الأخ أو العم.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه يقر لها بالربع، وهي لا تدعي إلا الثمن، فلم يكن لها أكثر منه.
[فرع: انقضت عدتها وتزوجت بآخر وحملت]
] : وإن طلقها الزوج، وانقضت عدتها منه، وتزوجت بآخر، وأتت بولد، فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من عقد الثاني.. لم يلحق بالثاني، ولحق بالأول على المذهب، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
وعلى قول أبي العباس وابن سريج: لا يلحق بأحدهما.
وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من عقد الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول.. فإن الولد لا يلحق بالثاني وينتفي عنه بغير لعان. وهل يلحق بالأول؟ ينظر فيه:
فإن كان طلاقه بائنا.. لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان. وإن كان طلاقه رجعيا.. فهل يلحقه به؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وإن أتت به لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد من نكاح الثاني.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الولد يلحق بالثاني؛ لأن الفراش له.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الثاني إذا ادعى: أنه من الأول.. فإن الولد يعرض(10/424)
معهما على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحقه، وانتفى عن الثاني بغير لعان، وإن ألحقته بالثاني. لحق به، وانتسب إلى الثاني، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الأول.. انتفى عن الثاني بغير لعان، وإن انتسب إلى الثاني.. لم ينتف عنه إلا باللعان.
وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الثاني.. حلف الثاني: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه؛ لأن الأصل عدم ولادته على فراشه، فإذا حلف انتفى عنه نسبه بغير لعان، وإن نكل عن اليمين.. حلفت أنها ولدته على فراشه، ولحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجارية المرهونة.
[مسألة: وطئت مزوجة بشهبة فتعتد]
] إن كانت لرجل زوجة، فوطئها رجل بشبهة.. لزمها أن تعتد منه، فإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة؛ لأن لها مدخلا في إلحاق النسب، ولا يلاعن الزوج لنفيه؛ لأنه يمكن نفيه بغير لعان، ومتى أمكن نفي الولد عنه بغير لعان.. لم يكن له أن يلاعن، كما أن السيد إذا أتت أمته بولد.. لم يكن له نفيه باللعان؛ لأن له طريقا إلى نفيه بغير اللعان، بأن يدعي استبراءها، ويحلف عليه، كذلك هذا مثله.
فإن ألحقته القافة بالواطئ.. انتفى عن الزوج بغير لعان، ولحق الولد بالواطئ، وليس له نفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج.
وإن ألحقته بالزوج.. انتفى عن الواطئ، ولحق بالزوج، وله نفيه باللعان، فإذا نفاه.. انتفى عنهما، وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ سن الانتساب، ثم يؤمر بالانتساب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى الزوج.. لحق به، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن انتسب إلى الواطئ.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج، والواطئ أجنبي.(10/425)
[مسألة: نفي الحمل والطعن مع وجود الولد]
] : نقل المزني ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا قال لامرأته: هذا الحمل ليس مني، ولست بزانية، ولم أصبها.. قيل له: قد تخطئ ولا يكون حملا، فيكون صادقا، وهي غير زانية، فلا حد ولا لعان.
فمتى استيقنا أنه حمل.. قلنا: قد يحتمل أن تأخذ نطفتك وتستدخلها لتحمل منك، فتكون صادقا بأنك لم تصبها، وهي صادقة بأنه ولدك. وإن قذفت.. لاعنت.
الثانية: لو نفى ولدها، وقال: لا ألاعنها ولا أقذفها.. لم يلاعنها، ولزمه الولد. وإن قذفها.. لاعنها؛ لأنه إذا لاعنها بغير قذف.. فإنما يدعي: أنها لم تلد، وقد حكمنا أنها ولدته، وإنما أوجب الله اللعان بالقذف، فلا يجب بغيره.
الثالثة: لو قال: لم تزن، ولكنها غصبت.. لم ينتف عنه إلا باللعان.
قال أصحابنا: وفي هذه ست مسائل:
إحداهن: إذا ظهر بها حمل، أو ولدت، فقذفها بالزنا برجل بعينه.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لحديث هلال بن أمية، فإنه قذف امرأته بشريك بن سحماء، فـ: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) .
الثانية: إذا قذفها بالزنا مطلقا، ولم يعين الزاني بها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأن عويمرا العجلاني قذف امرأته بالزنا، ولم يعين الزاني بها، و: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) .
الثالثة: أن يقول: هذا الولد ليس مني، وإنما وطئك فلان بشبهة، وهذا الولد منه، والشبهة منكما، فليس له أن ينفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان، فيعرض(10/426)
الولد على القافة، فإن ألحقته بالزوج.. لحقه وانتفى عنه باللعان، وإن ألحقته بالواطئ بالشبهة.. لحقه ولا ينتفي عنه باللعان، ويكون الحكم فيه كما لو وطئها رجل بشبهة، وقد مضى.
الرابعة: أن يقول: هذا الولد ليس مني وما وطئتها، وهي ما زنت.. فإن لم يقذف أحدا. وقوله: (ما وطئتها) لا ينفي أن يكون منه؛ لجواز أن يكون وطئها فيما دون الفرج، فسبق الماء إلى فرجها، أو احتملت منيه بصوفة. ولا يلتفت إلى قول أهل الطب: أن المني إذا برد لا تحبل المرأة منه.
ويحتمل أيضا أن يكون قوله: (ما وطئتها) أي: بل وطئها غيري بشبهة، وهذا الولد منه.
وإذا احتمل هذين الأمرين.. لم يكن له نفيه باللعان إلا أن يقذفها، فيلاعن.
الخامسة: أن يقول: وطئك فلان بشبهة، وأنت عالمة بأنه زنا، وهذا الولد منه.. فليس له أن ينفيه باللعان في هذه الحال؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان؛ بأن يعرض على القافة؛ لأن النسب تعتبر فيه الشبهة في حق الأب، فإن ألحقته القافة بالواطئ بالشبهة.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان، وإن ألحقته بالزوج.. فله نفيه باللعان.
السادسة: إذا قال: غصبت على الزنا، أو وطئك فلان وأنت مكرهة، وهذا الولد منه.. فقد قذف الزاني بها. فإن كان معينا.. وجب له عليه حد القذف، وأما المرأة: فلا يحد لها؛ لأنه لم يقذفها بزنا، وهل يعزر لها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يعزر لها؛ لأنه لم يسفهها؛ لأنه لا عار عليها، ولا جاءت بمحرم.(10/427)
الثاني: يعزر لها؛ لأنه آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وبذلك يلحق العار بنسبها.
وهل له أن يلاعن لنفي الولد الحادث من هذا الوطء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلاعن؛ لأنه قذف أحد الواطئين، فلم يكن له العان لنفي الولد، كما لو قذفها دونه.
والثاني: له نفيه باللعان، وهو الأصح؛ لأنه نسب يلحقه من غير رضاه، لا يمكن نفيه بغير اللعان، فجاز له نفيه باللعان، كما لو قذفهما معا.
فعلى هذا: يذكر في اللعان زنا الرجل وأن الولد ليس مني، ولا يذكرها بالزنا.
[مسألة: تزوج فجاءه ولد بعد ستة أشهر فلا يحق قذفها ولا نفي ولدها]
] : إذا تزوج امرأة ووطئها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء، ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة، ولم يرها تزني، ولا استفاض في الناس زناها، وكان الولد لا يشبه غيره.. لم يحل له قذفها ولا نفي ولدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه محصنة.
ولما روي «عن أبي هريرة: أنه قال: لما نزلت آية اللعان.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه.. احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» .(10/428)
ومعنى قوله: " ينظر إليه " يعلم أنه منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاف أن يبادر الناس إلى نفي الأنساب بالشك.. فغلظ الحال فيه.
وأما إذا طهرت امرأته من الحيض، ولم يطأها، ورأى رجلا يزني بها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الزنا.. لزمه قذفها بالزنا ونفي النسب عنه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» . فإذا حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم.. حرم ذلك على الرجل أيضا. ولأنه لما حرم عليه نفي نسب يتيقنه منه.. حرم عليه استلحاق نسب يتيقن أنه ليس منه.
وإن لم يطأها ولم يعلم بزناها.. وجب عليه نفيه باللعان؛ لما ذكرناه. ولا يجوز له أن يقذفها؛ لجواز أن يكون من وطء شبهة، أو من زوج قبله.
وإن لم يرها زنت، ولا سمع بذلك، ولكنها أتت بولد أسود، وهما أبيضان، أو أتت بولد أبيض، وهما أسودان، أو أتت بولد يشبه رجلا ترمى به، ولم يعلم أن الرجل الذي ترمى به وطئها.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له نفيه باللعان؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وبين امرأته، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن جاءت به أصيهب، أثيبج حمش الساقين.. فهو لزوجها، وإن جاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين.. فهو للذي رميت به " فجاءت به أورق، جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» . فدل على أن للشبه حكما.(10/429)
والثاني: لا يجوز له نفيه؛ لأن هذا الشبه يجوز أن يكون عرق نزعه في آبائه وأجداده؛ ولهذا روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ألك إبل؟ "، قال: نعم، قال: " ما ألوانها؟ "، قال: حمر، قال: " هل فيها من أورق؟ "، قال: إن فيها لورقا، فقال: " أنى ترى ذلك؟ "، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: " وهذا، عسى أن يكون نزعه عرق» .
ويخالف قصة هلال بن أمية؛ لأنه كان أخبره: أنه كان شاهده يزني بها. والوجهان إذا لم يشاهد ذلك.
إذا ثبت هذا: فمعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصيهب " تصغير أصهب، وقوله: " أثيبج " تصغير أثبج، وهو الناتئ الثبج. والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر، وقوله: " حمش الساقين " يعني دقيقهما، وقوله: " أورق " يعني: الأورق الذي لونه بين السواد والغبرة، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة: ورقاء؛ لأن لونهما كذلك، وقوله: " خدلج الساقين " يعني: عظيم الساقين. وقد روي: " جزل الساقين ". وأما قوله: " جماليا ": قال أبو عبيد: فإنهم يقولون جماليا - بفتح الجيم - يذهبون به إلى الجمال، وليس هو من الجمال في شيء؛ لأنه لو أراد ذلك.. لقال: جميلا، ولكنه جماليا - بضم الجيم - يعني: عظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل، فيقال للناقة العظيمة: جمالية؛ لأن خلقها يشبه خلق الجمل. قال الأعشى:(10/430)
جمالية تغتلي بالرداف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا
وقوله: " سابغ الأليتين " يعني: عظيم الأليتين.
[مسألة: جامع بعد طهر ثم قذفها فله أن يلاعن]
] : إذا طهرت امرأة من الحيض، وجامعها في ذلك الطهر، ثم قذفها بزنا في ذلك الطهر.. فله أن يلاعن لإسقاط الحد بلا خلاف، وله أن يلاعن لنفي النسب الحادث في ذلك الطهر، وبه قال عطاء، وأبو حنيفة.
وقال مالك: (ليس له أن يلاعن لنفي النسب منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن يكون وطئها أو لم يطأها.
ولأنه رماها بزنا، وأتت بولد يمكن أن يكون منه، فكان له نفيه باللعان، كما لو لم يطأها فيه.
[فرع: عزل وحملت]
] : إذا كان يجامع امرأته ويعزل عنها - وهو: أنه إذا أراد الإنزال نزع وأنزل الماء بعد النزع - فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه، ولا يجوز له نفيه؛ لما روي: أنه «قيل للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» ، و: «لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة..» ولأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه(10/431)
يتعلق بالإيلاج دون الإنزال، كالغسل، والمهر، والعدة، وغير ذلك، فكذلك ثبوت النسب، ولأنه ربما سبق من الماء ما لا يحس به، فتعلق به، فلم يجز له نفيه.
وإن كان يطؤها فيما دون الفرج، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق منه الماء إلى فرجها، فتحمل منه، كما لو وطئ البكر، فحملت.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز له نفيه؛ لأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه لا يتعلق بالوطء فيما دون الفرج، كالغسل، والمهر، والعدة، فكذلك ثبوت النسب.
وإن كان يطؤها في الدبر، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق الماء إلى فرجها، فتعلق به.
والثاني: يجوز له نفيه؛ لأنه وطئها في موضع لا تحبل منه بحال، فهو كما لو وطئها في سرتها وأنزل.
[مسألة: قذف امرأته الحامل وادعى زناها لاعنها]
] : إذا قذف زوجته وهي حامل، وادعى أنها حملت من الزنا.. فله أن يلاعن لنفي الحمل قبل وضعه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن قبل وضع الحمل لأجل نفي الحمل، فإن لاعن.. بانت، ووقعت الفرقة، فإذا وضعت.. لم ينتف النسب، ولحقه، ولم يكن له أن يلاعن بعد ذلك لنفي النسب) .
دليلنا: حديث هلال بن أمية: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على الحمل قبل وضعه) .(10/432)
ولأن كل سبب جاز اللعان لأجله بعد انفصال الولد.. جاز اللعان لأجله قبل انفصال الولد، كزوال الفراش.
إذا ثبت هذا: فله أن يؤخر اللعان إلى أن تضع إذا لم يتيقن الحمل؛ لجواز أن يكون ريحا فتنفش، أو غلظا، فكان له التأخير ليلاعن على يقين.
وإن رآها حاملا ولم ينف الحمل، فلما ولدت أراد النفي.. قيل له: قد علمتها حاملا، فلم لم تنفه؟ أكنت قد أقررت بالولد؟
فإن قال: لم أقر به، وإنما لم أنفه؛ لأني لم أتحققها حاملا، بل جوزت أنه ريح أو غلظ.. حلف على ذلك؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وكان له نفيه باللعان.
وإن قال: قد علمتها حاملا لا محالة، ولكني أخرت لعلها تسقطه، أو يموت بعد الولادة، أو تموت هي.. لحقه الولد، ولم يكن له نفيه باللعان؛ لأنه ترك النفي لغير عذر.
وإن كان الولد منفصلا.. فله نفيه. وخيار النفي عندنا على الفور.
وقال أبو حنيفة: (القياس: أن يكون على الفور، غير أنه إن أخر ذلك اليوم أو اليومين ... كان له ذلك استحسانا) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: له أن يؤخر ذلك مدة النفاس. وهي أربعون يوما عندهم.
وقال عطاء، ومجاهد: له النفي أبدا، إلا أن يقر به.
دليلنا: أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فإذا لم يتأبد.. كان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
وقولنا: (لدفع ضرر متحقق) احتراز من الحمل؛ فإن الخيار فيه إلى أن تضع؛ لأنه غير متحقق.
وقولنا: (إذا لم يتأبد) احتراز من الخيار في القصاص.(10/433)
إذا ثبت هذا: فهل تتقدر مدة الخيار فيه بثلاثة أيام؟ فيه قولان:
أحدهما: تتقدر بثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن إلحاقه بنفسه نسبا ليس منه محرم عليه، ونفيه نسبا ثابتا منه محرم عليه.
وإذا كان كذلك، وولدت امرأته ولدا.. فلا بد أن يتأمله؛ هل يشبهه، أو يشبه الزاني؟! وهل هو منه أو من غيره؟! ويفكر في ذلك، وذلك لا يمكنه في الحال، فقدر ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] [هود: 64] . ثم فسر القريب بالثلاث، فقال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] [هود: 65] .
والثاني: لا تتقدر بالثلاث، بل هو على الفور، وهو الأصح؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق غير مؤبد، فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
فإذا قلنا بهذا: فمعنى قولنا: (على الفور) على ما جرت العادة به، فإن كان حاضرا.. فلسنا نريد أنه يعدو إلى الحاكم حين يسمع بالولادة بكل حال، بل له التأخير بعذر؛ وذلك: أن له أن يؤخر إلى أن يلبس ثوبه، وإن كان ممن يركب.. فحتى تسرج له دابته، وإن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ظمآنا.. فحتى يشرب الماء، وإن حضرت صلاة.. فحتى يصلي، وإن كان ماله غير محرز.. فله أن يؤخر إلى أن يحرز ماله، وما أشبه ذلك، ثم يذهب إلى الحاكم، ويعرفه أنه قد نفى الولد، ويريد أن يلاعن، ثم يستدعي الحاكم المرأة.
[فرع: ادعاؤه نفي علمه بالولادة]
] : وإن ادعى: أنه لم يعلم أنها ولدت، فإن لم يمكن أن يكون صادقا في ذلك، مثل: أن يكون في دار واحدة أو محلة واحدة.. لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه ذلك، وإن كان كل واحد منهما في جانب من البلد، أو كل واحد منهما في محلة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.(10/434)
وإن قال: علمت بولادتها، ولم أعلم أن لي النفي، أو علمت أن لي النفي، ولكن لم أكن أعلم أنه على الفور.. نظرت:
فإن كان ممن يعرف شيئا من الفقه، أو ممن يخالط الفقهاء.. لم يصدق؛ لأن مثل هذا لا يخفى عليه.
وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو ممن تقدم إسلامه، إلا أنه ممن نشأ في بادية بعيدة لا يعرف من الحكم مثل هذا.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه يخفى عليه مثل ذلك.
وإن كان من العامة الذين قد يسمعون العلماء وقد لا يسمعونهم.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، وادعت: أنها لم تعلم أن لها الخيار:
أحدهما: لا يقبل قوله، كما لا يقبل قوله إذا ادعى: أنه لا يعلم أن له رد المبيع بالعيب.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن هذا لا يعرفه إلا العلماء أو من يخالطهم.
[فرع: تأخر الملاعن لمرض أو حبس]
] : وإن كان الزوج مريضا أو محبوسا لا يقدر على الحضور إلى عند الحاكم، فإن كان يقدر على أن ينفذ إلى الحاكم رجلا لينفذ إليه من يستوفي عليه اللعان في موضعه، فلم يفعل.. سقط حقه من النفي، وإن كان لا يقدر على ذلك.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على حقه من النفي، فإن لم يشهد مع الإمكان.. سقط حقه من النفي، وإن لم يقدر على الإشهاد.. لم يسقط حقه.(10/435)
وإن كان غائبا، فبلغه الخبر: أنها ولدت، وصدق الخبر، فإن كان الطريق آمنا يمكنه سلوكه، فاشتغل بالخروج عقيب علمه.. لم يسقط خياره، وإن لم يقدر على المسير، مثل أن لم يجد رفقة يسير معهم، أو وجد رفقة ولكن الطريق مخوف.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على النفي، فإن لم يشهد مع القدرة عليه.. سقط حقه من النفي.
وإن قال: قد بلغني أنها ولدت، ولم أصدق، فإن كان قد سمع ذلك بالاستفاضة من جماعة لا يجوز عليهم الكذب.. لم يعذر في ذلك، وإن سمع ذلك بخبر واحد أو اثنين.. قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": عذر في ذلك، وكان له النفي؛ لأن الإنسان قد لا يصدق الواحد والاثنين؛ لأنه يجوز عليهم الكذب.
[فرع: إجابة النافي للولد بآمين ونحوها]
] : وإن هنأه رجل بالولد، فقال: بارك الله لك في ولدك، أو جعله الله ولد صالحا.. نظرت فيه:
فإن قال: آمين، أو استجاب الله دعاك.. سقط حقه من النفي؛ لأن معنى قوله: (آمين) اللهم استجب دعاءه، وذلك يتضمن الإقرار به.
وإن قال: بارك الله عليك، أو أحسن الله جزاءك، أو رزقك الله مثله.. لم يسقط حقه من النفي.
وقال أبو حنيفة: (يسقط) .
دليلنا: أن ذلك لا يتضمن الإقرار به؛ لأن الظاهر أنه أراد رد الدعاء عليه، كقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] [النساء: 86] .
[مسألة: قذف امرأته ونفى ولدا باللعان فجاءت بآخر]
إذا قذف امرأته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أتت بولد آخر.. فلا يخلو: إما أن يكون لاعن على نفي ولد منفصل، أو لاعن على نفي حمل.
فإن لاعن على نفي ولد منفصل، ثم أتت بعد اللعان بولد آخر.. نظرت:(10/436)
فإن كان بين الحمل الأول والثاني دون ستة أشهر.. فإنهما حمل واحد، فيكون له نفي الثاني باللعان، فإن نفاه باللعان.. انتفى باللعان الثاني، وقد انتفى الأول باللعان الأول، وإن أقر بالثاني، أو أخر نفيه من غير عذر.. لحقه نسبه؛ لأنه أقر بثبوت نسبه، أو ترك نفيه من غير عذر، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول أيضا؛ لأنا قد حكمنا بأنهما من حمل واحد، ولا يجوز أن يكون بعض الحمل منه وبعضه ليس منه، فجعل ما نفاه لما أقر به، ولم يجعل ما أقر به تابعا لما نفاه؛ لأن النسب يحتاط لإثباته، ولا يحتاط لنفيه.
وإن كان بين الولد الأول والثاني ستة أشهر فما زاد.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: ينتفي عنه الثاني بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يلحقه الثاني؛ لأنه يحتمل أن يكون أصابها بعد وضعها الأول، ثم قذفها الأول وهي حامل منه بالإصابة بعد الوضع، فوجب أن يلحقه. ويكون له نفيه باللعان، فإن نفاه عنه باللعان.. انتفى عنه، وإن أقر به، أو ترك نفيه من غير عذر.. لحقه الثاني، ولا يلحقه الأول؛ لأنا حكمنا أنهما من حملين، فلا يلحقه أحدهما تبعا للآخر، بخلاف الأول.
وإن لاعنها على حمل، فوضعت ولدا، ثم أتت بولد آخر.. فإن كان ما بين وضع الولدين ما دون ستة أشهر أو ستة أشهر.. انتفى الولدان كلاهما باللعان الأول؛ لأنا نقطع على أنهما من حمل واحد، وأنه كان موجودا وقت اللعان، وإن كان بينهما ستة أشهر فما زاد.. انتفى الثاني عنه بغير لعان؛ لأنا نقطع أنهما من حملين، وأن هذا الولد علقت به بعد وضع الأول، وقد بانت منه باللعان.
[فرع: قذف امرأة أتت بتوأمين فلاعن لنفيهما]
] : وإن تزوج امرأة، فأتت بولدين توأمين، فإن قذف أمهما ونفى نسبهما.. كان له أن يلاعن لنفيهما، وإن أقر بنسب أحدهما، وانتفى عن الآخر.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا يجوز له أن يكون أحدهما منه، والآخر من غيره.(10/437)
وإن أتت منه بولد، فنفاه باللعان، فمات الزوج، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من ولادة الأول.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا ينتفي عنه الثاني بغير لعان، فلحقه، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول؛ لأنهما من حمل واحد، فلا يتبعض حكمهما.
[مسألة: تزوج امرأة فقذفها]
] : وإن تزوج امرأة، وقال لها: زنيت قبل أن أتزوجك.. وجب عليه حد القذف، وهل له أن يسقطه باللعان؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن هناك نسب يلحقه من هذا الزنا.. لم يكن له أن يلاعن، وبه قال مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما.
وقال أبو حنيفة: (له أن يلاعن) .
دليلنا: أنه قذف غير محتاج إليه، فلم يجز له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي.
وإن كان هناك ولد، وادعى: أنه من هذا الزنا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، واختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب -: أن له أن يلاعن لأجله. قال: لأن به حاجة إلى هذا القذف لنفي هذا الولد، كما لو أضاف الزنا إلى حال الزوجية.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: ليس له أن يلاعن لأجله؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يقذفها بزنا يضيفه إلى ما قبل النكاح، بل كان يمكنه أن يقذفها بزنا مطلق، وأن الحمل ليس منه، بل هو من زنا.(10/438)
[فرع: طلقها طلاقا رجعيا فقذفها]
] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، فقذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الطلاق في الزوجية، أو إلى ما بعد الطلاق في العدة.. كان له أن يلاعن؛ لأنها في معنى الزوجات بالظهار، والإيلاء، والميراث، فكانت في معنى الزوجات بالقذف واللعان.
[فرع: أبان زوجته أو فسخ نكاحها ثم قذفها]
] : وإن تزوج امرأة فأبانها بالثلاث، أو خالعها، أو فسخ نكاحها بعيب، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، فإن لم يكن هناك نسب يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن، وإن كان هناك نسب يلحقه منها.. كان له أن يلاعن.
وقال عثمان البتي: له أن يلاعن بكل حال.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بكل حال) .
دليلنا: أنه إذا لم هناك نسب يلحقه منها.. فلا حاجة به إلى قذفها، فلم يكن له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي، فإذا كان هناك نسب يلحقه منها.. فهناك به حاجة إلى قذفها لنفي النسب عنه، فهو كقذف الزوجة.
إذا ثبت هذا: فإن كان الولد منفصلا.. لاعن لأجله، وإن كان حملا.. فله أن يؤخر إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن قبل أن تضع؟
روى المزني في " المختصر ": (أن له أن يلاعن) . وروى في " الجامع الكبير ": (أنه لا يلاعن) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: لا يلاعن، قولا واحدا، وحيث قال: (يلاعن) أراد: إذا انفصل.
وقد قال الشافعي في " الأم ": (لا يلاعن حتى ينفصل) .
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -:(10/439)
أحدهما: له أن يلاعن؛ لأن كل امرأة كان له لعانها بعد انفصال ولدها.. كان له لعانها قبل انفصاله، كالزوجة.
والثاني: ليس له أن يلاعن حتى تضع الولد؛ لأن اللعان هاهنا إنما ثبت لأجل نفي النسب، والنسب لا يتحقق قبل وضع الولد؛ لجواز أن يكون ريحا فينفش، فلم يكن له اللعان قبل الوضع.
وإن تزوج امرأة وماتت، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه حد القذف، فإن طالبه ورثتها بالحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لنفي الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب ولد يريد نفيه.. كان له أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه لنفي الولد.
[فرع: قذفها ثم بتها ثلاثا أو مخالعة فطالبته بحدها]
] : وإن قذف زوجته، ثم طلقها طلاقا ثلاثا أو خالعها، ثم طالبته بحدها.. كان له أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن؛ لأنه لعان عن قذف كان محتاجا إليه، فهو كما لو لم يطلقها، وهل تحرم عليه على التأبيد؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما.
[فرع: قذفها وأقام البينة فسقط عنه الحد]
] : وإن قذف زوجته، وأقام عليها أربعة شهود بزناها.. سقط عنه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فدل على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء.. لم يجلد.
فإن لم يكن هناك ولد يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء الحد أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما.
وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأنه لا ينتفي عنه بالبينة، فإن كان ولدا منفصلا.. فله أن يلاعن، وإن كان حملا.. فله أن يصبر باللعان إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن لنفيه قبل الوضع؟ على الطريقين في التي قبلها.(10/440)
وإن قذف زوجته بالزنا، فأقرت به.. لم يجب عليه حد القذف، فإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فإنه لا ينتفي عنه بإقرارها بالزنا، وله أن يلاعن لنفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لأجله، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ أيضا على الطريقين.
وإن تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وقذفها.. وجب عليه حد القذف، وليس له أن يلاعن لدرء حد القذف عنه؛ لأن اللعان حكم يختص بالزوجين، وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له نفيه باللعان) .
دليلنا: أن الولد في النكاح الفاسد كالولد في النكاح الصحيح في ثبوته، فكذلك في نفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لنفيه، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ على الطريقين في التي قبلها.
[مسألة: لا يعد ملك الأمة فراشا إلا بالبينة]
إذا ملك الرجل أمة.. فإنها لا تصير فراشا له بنفس الملك؛ لأنه قد يملك الأمة للاستمتاع، وللخدمة، وللتمول، فلم تصر فراشا له بنفس الملك. قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
فإن أقر بوطئها، أو قامت عليه بينة: أنه وطئها.. صارت فراشا له، ومتى أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء.. لحقه نسبه، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تصير فراشا ولو وطئها عشرين سنة فأكثر، فإن كل ولد تلده فهو مملوك له، إلا أن يقر بواحد: أنه ابنه، فيثبت نسبه منه، وتصير فراشا له، ويلحقه كل ولد تلده بعد ذلك) .(10/441)
وقال في (الطلاق) : (إذا قال الرجل: كل امرأة أتزوجها.. فهي طالق ثلاثا، ثم تزوج امرأة.. فإنها تطلق عقيب العقد، فلو أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من حين العقد.. لحقه بالفراش) . وهذا تخليط.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن أمة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، إن أخي عتبة أوصاني إذا قدمت مكة أن أطلب ابن أمة زمعة، وأقبضه، فإنه ابنه، ألم بها في الجاهلية، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن أمة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر» .
فموضع الدليل: أن عبد بن زمعة قال: ولد على فراشه. فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كون الأمة فراشا، بل ألحق بأبيه الولد. والظاهر أنه ألحقه به وبالنسب الذي ادعى به، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل ولدت له قبل ذلك، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنه.
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (ما بال رجال يطؤون ولائدهم، ثم يعزلونهن - وروي: ثم يرسلونهن - ما تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها.. إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا) . وروي: (أمسكوهن بعد أو أرسلوهن) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.
ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة، فجاز أن يثبت به الفراش، كعقد النكاح.(10/442)
[فرع: أقر بوطء أمته]
] : وإن أتت أمته بولد، وأقر: أنه كان يطؤها، إلا أنه كان يعزل عنها.. لحقه الولد؛ لما روى أبو سعيد الخدري: «أن قوما قالوا: يا رسول الله، إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» . ولأن أحكام الوطء تتعلق بالإيلاج دون الإنزال، ولأنه قد يسبق منه من الماء ما لا يحسن به.. فتعلق به.
وإن أقر: أنه كان يطؤها دون الفرج، أو أنه كان يطؤها في دبرها.. فهل يلحقه ولدها؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن وطئ امرأته كذلك وأتت بولد.. هل له نفيه باللعان؟
[فرع: صارت فراشا وأتت بولد]
] : إذا صارت الأمة فراشا له بإقراره بوطئها، أو بالبينة على وطئها، ثم أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء، فنفاه، وادعى: أنه استبرأها بعد الوطء، وأن هذا الولد حدث من غيره بعد الاستبراء، فحلف عليه.. فقد قال الشافعي هاهنا: (لا يلحقه) . وقال في المطلقة ثلاثا، إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، ثم أتت بولد يمكن أن يكون منه: (لحقه) .
وجعل أبو العباس المسألتين على قولين.
وقال أكثر أصحابنا: يلحقه ولد الزوجة، قولا واحدا، وقد مضى الدليل عليه، ولا يلحقه ولد الأمة، قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن ولد الزوجة يلحقه بالإمكان، وولد الأمة لا يلحقه بالإمكان، وإنما يلحقه بالوطء، وإذا استبرأها.. بطل حكم الوطء، وبقي الإمكان، وولدها لا يلحقه بالإمكان.(10/443)
وإذا أراد نفي ولد أمته عنه.. فالمنصوص: (أن له أن ينفيه بغير لعان) .
وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (أما ترون إلى أبي عبد الله يقول: إن ولد الأمة ينفى باللعان؟!) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: أراد أحمد بقوله: (أبي عبد الله) الشافعي، وأنه قال: (ينفي ولده من أمته باللعان) . وجعل المسألة على قولين:
أحدهما: ينفى عنه باللعان؛ لأنه ولد لم يرض به، فكان له نفيه باللعان، كولد زوجته.
والثاني: ليس له نفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، فلا حاجة به إلى اللعان، وكل موضع ليس به حاجة إلى اللعان.. لم يكن له أن يلاعن، كقذف الأجنبية، ويخالف الزوجة، فإنه لا يمكنه نفي ولدها إلا باللعان.
ومن أصحابنا من قال: ليس له نفيه باللعان، قولا واحدا؛ لما ذكرناه، وقول أحمد: (أبي عبد الله) لم يرد به الشافعي، بل يحتمل أنه أراد به: مالك بن أنس، أو أبا عبد الله سفيان الثوري، فلا يضاف ذلك إلى الشافعي بالشك.
ومنهم من قال: بل أراد أحمد بذلك الشافعي، وإنما لم يرد به: أن الشافعي يقول: إن الرجل ينفي ولد أمته باللعان، وإنما أراد: أن الشافعي يقول: (إذا تزوج الرجل أمة، وأتت بولد.. فإن له أن ينفيه باللعان) . وأحمد يقول: (ليس له نفيه باللعان) فيكون ذلك بيانا لمذهبه.
[مسألة: قذفها ولم تطالبه بحد ثم قذفها بآخر]
] : إذا قذف زوجته، فلم تطالبه بحدها، ولم يقم عليها البينة، ولا لاعنها، ثم قذفها بزنا آخر، وأراد اللعان.. كفاه لعان واحد؛ لأنه يجب عليه حد واحد في أحد القولين، فكفاه لعان واحد.(10/444)
ويجب عليه حدان في القول الثاني، إلا أن اللعان يمين، واليمين الواحدة تنفي الحقين لواحد وأكثر.
وإن قذف أربع زوجات له بكلمة واحدة أو كلمات، وأراد اللعان.. لاعن عن كل واحدة منهن لعانا؛ لأن اللعان يمين، والأيمان لجماعة لا تتداخل في الأموال، ففي اللعان أولى.
فعلى هذا: إن قذفهن بكلمة واحدة، وتشاحن في البداية.. أقرع بينهن؛ لأنه لا مزية لبعضهن على بعض، وإن بدأ بلعان واحدة منهن برضا البواقي أو بغير رضاهن.. صح لعانه؛ لأن كل واحدة منهن تصل إلى حقها منه.
وإن قذفهن بكلمات، وطلبت كل منهن الحد في وقت واحد، وأراد اللعان.. بدأ بلعان من قذفها أولا؛ لأن حقها أسبق، ثم بالتي قذفها بعدها، ثم بالتي بعدها إلى أن يلاعن جميعهن.
فإن لاعن أولا من قذفها آخرا.. صح؛ لأن المقذوفة قبلها تصل إلى حقها منه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قذف أربع نسوة. فهل يلاعن عنهن مرة واحدة، أو أربع مرات؟ فيه وجهان.
وبالله التوفيق.(10/445)
[باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام]
يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلما والآخر كافرا، وسواء كانا حرين أو مملوكين، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا، وسواء كانا محدودين أو غير محدودين، وبه قال ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وربيعة، ومالك، وأحمد، والليث.
وقال الزهري، والثوري، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة: (لا يصح اللعان إلا بين زوجين حرين مسلمين غير محدودين في قذف، ويصح اللعان بين الفاسقين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . وهذا عام يتناول جميع ما ذكرناه.
ولأنه يمين بالله تعالى، فصح من جميع من ذكرناه، كسائر الأيمان. يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» .
ولا يصح اللعان من الصبي والمجنون؛ لأنه قول يوجب الفرقة، فلم يصح منهما، كالطلاق.
[مسألة: إشارة الأخرس كنطقه في النكاح وغيره]
] : وأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة ولا يحسن يكتب.. فلا يصح نكاحه، ولا بيعه، ولا شراؤه، ولا قذفه، ولا لعانه؛ لأنه في معنى المجنون.
وإن كانت له إشارة مفهومة، أو يحسن يكتب.. فحكمه حكم الناطق، ويصح بيعه، وشراؤه، ونكاحه، وطلاقه، وقذفه، ولعانه.(10/446)
وقال أبو حنيفة: (يصح نكاحه وطلاقه، ولا يصح قذفه ولعانه) .
دليلنا: أنه يصح نكاحه وطلاقه، فصح قذفه ولعانه، كالناطق. ولأنه يصح يمينه في غير اللعان، فصح في اللعان كالناطق.
وأما الزوجة إذا كانت خرساء: فإن كانت لها إشارة مفهومة، أو كانت تحسن تكتب، فقذفها الزوج.. فهي كالناطقة في لعانها.
وإن لم يكن لها إشارة مفهومة، ولا تحسن تكتب، فقذفها الزوج، فإن كانت حائلا.. لم يكن للزوج أن يلاعنها؛ لأنه لا يلاعنها حتى تطالبه بحدها، ولا يصح منها المطالبة، وإن كانت حاملا.. فله أن يلاعنها لينفي عنه النسب.
[فرع: نفي الأخرس اللعان بالكلام بعد إثباته بإشارته]
] : وإن لاعن الأخرس بالإشارة المفهومة، ثم زال خرسه، فتكلم، فقال: ما قصدت اللعان بما أشرت.. لم يقبل قوله فيما له؛ وهو عود الزوجة، ويقبل فيما عليه، فيطالب بالحد، ويلحقه الولد.
فإن قال: أنا ألاعن لنفي الحد والنسب.. كان له ذلك؛ لأن ذلك إنما لزمه لإقراره: أنه لم يلاعن، فكان له أن يلاعن.
فأما إذا أنكر القذف واللعان معا: لم يقبل قوله في القذف؛ لأنه قد تعلق به حق الغير بحكم الظاهر، فلا يقبل إنكاره له.
[فرع: اعتقل لسانه بعد قذفه]
] : وإن قذف امرأته، ثم مرض واعتقل لسانه، فإن قال طبيبان عدلان من أطباء المسلمين: إن هذا لا يزول.. كان كالأخرس، وإن قالا: إنه يزول.. ففيه وجهان:(10/447)
أحدهما: لا يصح لعانه إلا بالنطق؛ لأن هذا يزول، فهو كالساكت.
والثاني: أنه كالأخرس؛ لما روي: (أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت - أي: اعتقل لسانها - فقيل لها: لفلان عليك كذا، ولفلان كذا، فأشارت - أي: نعم - فرفع ذلك إلى الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فرأوا أن ذلك وصية) ، ولأنه عاجز عن النطق، فهو كالأخرس.
[مسألة: اللعان بالعجمية]
كالعربية] : وأي الزوجين كان أعجميا، فإن كان يحسن العربية.. فهل يصح لعانه بالعجمية؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يصح؛ لأنه يمين، فصح بالعجمية مع القدرة على العربية، كسائر الأيمان.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأن القرآن ورد بألفاظ اللعان، فلا يصح منه بغيرها مع القدرة عليها.
وإن كان لا يحسن العربية.. لاعن بلسانه؛ لأنه ليس بأكبر من أذكار الصلاة، وأذكار الصلاة تصح بالعربية، وبالعجمية إذا لم يحسن العربية.
فإن كان الحاكم يعرف لسانهما.. لم يحتج إلى مترجم، والمستحب: أن يحضر أربعة يحسنون لسانهما. وإن كان الحاكم لا يعرف لسانهما.. فلا بد أن يحضر من يعرف لسانهما. واختلف أصحابنا في عددهم:
فمنهم من قال: يكفي اثنان، كالأيمان في غير اللعان، والمستحب: أن يكونوا أربعة.
ومنهم من قال: يبنى على القولين في الإقرار بالزنا، فإن قلنا: يقبل فيه(10/448)
شاهدان.. أجزأ في الترجمة اثنان، وإن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة.. لم يقبل في الترجمة إلا أربعة؛ لأنه قول يثبت به حد الزنا، فأشبه الإقرار.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن اللعان لا يتضمن الإقرار بالزنا. فإن أقرت.. فعلى القولين. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يكفي مترجم واحد) .
دليلنا: أنهما يثبتان قولا يحكم به الحاكم، فكان العدد شرطا فيه، كسائر الشهادات.
[مسألة: يشترط للعان حضور الإمام أو الحاكم]
] : ولا يصح اللعان إلا بحضرة الإمام أو الحاكم؛ لأنها يمين، فلم تصح إلا بحضرة الحاكم، كاليمين في سائر الدعاوي.
ولأن من الناس من لا يجيز لعان الذمي والعبد والمحدود، فكان موضع اجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كفسخ النكاح بالعيب.
ولا يصح حتى يستدعي الحاكم اللعان، فيقول للزوج: قل: أشهد بالله؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أردت بالبتة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت به إلا واحدة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة» . فلما حلف ركانة من غير أن يستدعيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمين.. لم يكتف(10/449)
بذلك منه، بل استدعى منه اليمين ثانيا، فدل على: أنها لا تصح من غير استدعاء.
فإن حكم الزوجان رجلا يصلح للحكم يلاعن بينهما، فلاعن بينهما.. فهل يصح ذلك؟ فيه وجهان، يأتي بيانهما في موضعه.
وإن زوج الرجل عبده أمته، فقذف العبد الأمة.. فللسيد أن يلاعن بينهما؛ لأنه يملك إقامة الحد عليهما، فملك اللعان بينهما، كالحاكم.
[مسألة: كيفية الملاعنة]
] : واللعان: أن يقول الحاكم للزوج أربع مرات: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان من الزنا، ويرفع في نسبها؛ حتى لا تشاركها امرأة له أخرى إن كانت غائبة، وإن كانت حاضرة.. قال: فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان هذه، ويشير إليها، وهل يشترط أن يجمع بين ذكر نسبها وبين الإشارة إليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط أن يجمع بينهما؛ لأن اللعان مبني على التأكيد والتغليظ، فوجب الجمع بينهما.
والثاني: لا يشترط الجمع بينهما، بل يكفي أن يقول: زوجتي هذه؛ لأن التمييز يحصل بذلك، كما يكفي في النكاح أن يقول الولي: زوجتك هذه، ويقول الزوج: هذه طالق.
فإن كان هناك ولد أو حمل يريد الزوج نفيه عنه باللعان.. قال في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الحمل، أو هذا الولد من الزنا، وليس مني.
وإن قال: وأن هذا الولد ليس مني، ولم يقل: وأنه من الزنا.. لم ينتف عنه؛ لأنه يحتمل أن يريد: ليس مني خلقا أو خلقا.(10/450)
وإن قال: وأن هذا الولد من الزنا، ولم يقل: وليس مني.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه ينتفي عنه؛ لأن ولد الزنا لا يكون منه.
والثاني: لا ينتفي عنه؛ لجواز أن يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا - على قول الصيرفي - وقد ينكح بلا ولي ويطؤها فيه، وذلك ليس بزنا، فوجب أن يقول: وليس مني؛ لينفي الاحتمال.
وإن قذفها بزنيتين.. ذكرهما في كل مرة. وإن قذفها برجل بعينه.. ذكره في كل شهادة.
فإذا شهد الزوج بذلك أربع مرات.. فالمستحب: أن يوقفه الحاكم، ويعظه، ويقول له: إني أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة عليك العذاب. ويأمر رجلا يضع يده على فيه، فإن أبى.. قال له الحاكم: قل: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الولد من زنا، وليس مني، ثم تقوم الزوجة، ويقول لها الحاكم أربع مرات: قولي: أشهد بالله إن زوجي فلان ابن فلان لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، إن كان زوجها غائبا. قال ابن الصباغ: وإن كان حاضرا.. أشارت إليه، وهل تحتاج إلى نسبه والإشارة إليه؟ على الوجهين.
ولا تحتاج المرأة إلى ذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا حق لها فيه.
فإذا شهدت بذلك أربع مرات.. وقفها الحاكم، ووعظها، كما قلنا في الزوج، وقال لها: اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة(10/451)
عليك الغضب. ويأمر امرأة تضع يدها على فيها، فإن أبت.. قال لها الخامسة: قولي: وعلي غضب الله إن كان زوجي فلان بن فلان من الصادقين فيما رماني به من الزنا.
والدليل على هذا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال بن أمية وامرأته.. قال له: " يا هلال، قم فاشهد "، فلما شهد أربعا.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتق الله يا هلال، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنها موجبة عليك العذاب» .
وفي بعض الأخبار: «أنه وضع يده على فيه، فقال هلال: والله، لن يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة. ولما شهدت المرأة أربعا.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ". قال: فتلكأت ساعة، ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: والله لا فضحت قومي، فشهدت الخامسة» .
فإن أخل أحدهما بأحد هذه الألفاظ الخمسة.. لم يتعلق بلعانه حكم ما علق عليه، سواء حكم به حاكم أو لم يحكم به.
وقال أبو حنيفة: (إذا شهد أحدهما مرتين، وأتى باللعنة في الثالثة، وحكم الحاكم بالفرقة بذلك، ونفى النسب.. فقد أخطأ، ونفذ حكمه) .
دليلنا: أن الله تعالى علق الحكم بهذه الألفاظ الخمسة.(10/452)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وامرأته، فقال له: " قم فاشهد أربعا "، وذكر اللعن في الخامسة، ثم قال لها: " قومي فاشهدي أربعا "، وذكر الغضب في الخامسة، ثم فرق بينهما.
وإذا علق الحكم على عدد.. لا يتعلق بما دونه، كالشهادة في الزنا.
[فرع: تعيين لفظ أشهد في اللعان]
فرع: [تعيين لفظ أشهد] : إذا قال أحدهما مكان قوله: أشهد بالله: أحلف بالله، أو أقسم بالله، أو أولي بالله.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الله تعالى نص فيه على لفظ الشهادة، فإذا عدل عنه إلى غيره لم يجزه، كما لو نقص العدد المنصوص عليه.
والثاني: يجزئه؛ لأن اللعان يمين، والحلف والقسم والإيلاء صريح في اليمين، والشهادة كناية فيه، فلما جاز بالكناية.. فلأن يجوز بالصريح أولى.
وإن أبدل الرجل مكان اللعنة الإبعاد، بأن قال في الخامسة: وعلي إبعاد الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه.
والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد.
فإن أبدل اللعنة بالغضب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه.
والثاني: يجوز؛ لأن في الغضب معنى اللعن وزيادة؛ لأن اللعنة: هي الإبعاد(10/453)
والإقصاء، وفي الغضب هذا وأكثر منه، ولأنه قد يكون مبعدا ولا يكون مغضوبا عليه، ولا يكون مغضوبا عليه إلا ويكون مبعدا.
وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تركت النص.
والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد.
وإن أبدلت لفظ الغضب باللعنة.. فقال الشيخ أبو حامد: لا يعتد به بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنها عدلت عن المنصوص عليه إلى ما أخف منه، على ما مضى.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز. وليس بمشهور.
وإن قدم الرجل اللعنة على الأربع الشهادات، أو أتى به في أثنائها، أو قدمت المرأة الغضب على الأربع الشهادات، أو أتت به في أثنائها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود التغليظ والتأكيد بهذه الألفاظ، وقد أتى به وإن قدم بعضه على بعض.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه خالف نص القرآن؛ لأنه يقول في الخامسة: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين، أي: فيما شهدت به، فيجب أن يكون ذلك متأخرا عن الشهادة.
[مسألة: فيما يستحب في وقت اللعان]
] : وإن أراد الحاكم أن يلاعن بينهما.. فالمستحب: أن يغلظ اللعان بإحضار جماعة من الرجال، وأقلهم أربعة؛ لأن الزنا يثبت بشهادتهم.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بذلك) .
دليلنا: أن من روى اللعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة: سهل بن سعد، وابن عمر، وابن عباس. وكل هؤلاء أحداث لا يحضرون المجالس إلا تبعا لغيرهم. وقد روي عن سهل: أنه قال: (حضرته وكان لي خمس عشرة سنة وحضرته مع الناس) .(10/454)
ولأن الله تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] .
واللعان سبب للحد، فلما كان حضور الناس مشروعا في المسبب - وهو: الحد - فكذلك في السبب - وهو: اللعان - لأنه إذا لم يلاعن.. حد، وإذا لاعن.. حدت إن لم تلاعن.
والمستحب: أن يغلظ الحاكم اللعان بالوقت، وهو: أن يجعله بعد العصر.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكون ذلك يوم الجمعة؛ لأنه أفضل الأزمنة.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب ذلك) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: هو بعد صلاة العصر، فدل على: أن للزمان تأثيرا في اليمين.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف بعد صلاة العصر يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر لقد أعطي بسلعته أكثر مما(10/455)
أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماء، فإن الله تعالى يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك» .
ويستحب أن يشهد الرجل وهو قائم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قم يا هلال فاشهد» ، ولأنه أبلغ في الردع.
فإن لم يقدر على القيام.. لاعن وهو جالس أو مضطجع؛ لأنه ليس بأكبر من الصلاة، والصلاة يجوز فيها ترك القيام للعجز عنه.. فاللعان بذلك أولى.
وتكون المرأة قاعدة حال لعان الزوج؛ لأنه لا حاجة إلى قيامها حال لعان الزوج، فإذا أرادت أن تشهد.. قامت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «قومي فاشهدي» .
[فرع: فيما يستحب بمكان اللعان]
] : ويغلظ عليهما بالمكان، كما يغلظ بالزمان، وهل يستحب، أو يجب؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، كما قلنا بالتغليظ بالزمان.
والثاني: يجب؛ لأن الله ذكر اللعان ولم يبين موضعه، فلما لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما في المسجد على المنبر.. علم أن ذلك بيان لما أجمله الله في كتابه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: هل يجب التغليظ بالزمان؟ فيه قولان، كالمكان.(10/456)
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هل يجب التغليظ بحضور الجماعة؟ فيه قولان، كالمكان. والمشهور هو الأول. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بالمكان ولا يجب) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على المنبر) . فثبت أن للمكان تأثيرا في اللعان.
إذا ثبت هذا: فإن المكان - الذي قلنا: يستحب اللعان فيه، أو يجب - هو أن يلاعنها في أشرف موضع في البلد الذي فيه اللعان.
فإن كان بمكة.. لاعن بينهما بين الركن والمقام؛ لما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم وهم يحلفون رجلا بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا، فقال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) . وروي: (بهذا البيت) . يقال: تهاون بالشي: إذا استخف بحرمته.
وإن كان بالمدينة.. لاعن بينهما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أشرف البقاع بها، وهل يكون على المنبر؟ اختلفت الرواة فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(10/457)
فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف عند منبري هذا بيمين آثمة، ولو بسواك من رطب.. وجبت له النار» .
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة.. تبوأ مقعده من النار» .
واختلف فيها نص الشافعي:
فقال في موضع: (يلاعن على المنبر) .
وقال في موضع آخر: (يلاعن عند المنبر) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين:
فإن كان الخلق في المسجد كثيرا؛ بحيث لو لاعن تحت المنبر لم يبلغهم.. فإنه يلاعن على المنبر.(10/458)
والموضع الذي قال: (عند المنبر) أراد: إذا كان الخلق في المسجد قليلا يبلغهم لعانه إذا كان تحت المنبر.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر بحال؛ لأن الصعود على المنبر علو وشرف، واللعان للردع والنكال، وليس في موضع العلو والشرف. وحمل الخبر والنص في قوله: (على المنبر) على أنه أراد به: عند المنبر؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو جاز أن يقال: لا يكون على المنبر؛ لأنه علو وشرف.. لوجب أن يقال: إنه لا يلاعن أيضا عند المنبر؛ لهذا المعنى.
وإن كان اللعان في بيت المقدس.. لاعن بينهما عند الصخرة؛ لأنه أشرف البقاع به.
وإن كانت في غير ذلك من البلاد.. لاعن بينهما في جوامعها.
قال ابن الصباغ: ولا يختص بذلك المنبر؛ لأنه لا مزية لبعض المنابر على بعض، ويخالف المدينة؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» .
وإن كانت المرأة حائضا.. لم يحل لها دخول المسجد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» . وتكون قائمة على باب المسجد، فإذا شهد الزوج.. بعث إليها الحاكم جماعة لتشهد على باب المسجد، وإن قام إليها.. فلا بأس بذلك.(10/459)
[فرع: ملاعنة الكافرين]
] : وإن كان اللعان بين زوجين كافرين لهما دين.. لاعن بينهما في الموضع الذي يعظمونه؛ فإن كانا يهوديين.. لاعن بينهما في الكنيسة، وإن كانا نصرانيين.. لاعن بينهما في البيعة، وإن كانا مجوسيين.. لاعن بينهما في بيت النار؛ لأنهم يعظمون هذه المواضع كما يعظم المسلمون المساجد.
واللعان يراد للردع، وقد يرتدع الإنسان في الموضع الشريف عنده عن المعصية؛ لهيبة الموضع وخوف تعجيل العقوبة، وهذه المواضع شريفة عندهم، فكانت موضع لعانهم، كالمساجد للمسلمين.
فإن قيل: فإذا حضر الحاكم معهما في هذه المواضع.. فقد شاركهما بالمعصية في تعظيمها؟!
فالجواب: أن المعصية إنما تحصل بتعظيم هذه المواضع، والحاكم لا يعظمها، وإنما يدخلها ليلاعن بينهما، ولا معصية في دخولها.
وإن كانا مشركين لا دين لهما، كعبدة الأوثان، والزنادقة، وتحاكما إلينا.. فإن الحاكم يلاعن بينهما حيث كان جالسا للحكم، إما في داره، أو في مجلسه.
وإن كان في المسجد.. لاعن بينهما؛ لأنهما لا يعتقدان شرف موضع، بل البقاع عندهم سواء. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يدخل المسجد ويلاعن بينهما فيه؛ رجاء أن يلحقه شؤمه؛ فإن اليمين الغموس تذر الديار بلاقع.(10/460)
وإن كانت الذمية تحت مسلم، ولاعن بينهما.. فإن المسلم يلاعن في المسجد، ويوجه الحاكم المرأة إلى الموضع الذي تعظمه، فتلاعن فيه.
قال الشافعي: (فإن سألت المشركة أن تحضر في المسجد.. حضرت، إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام) .
وقال الشيخ أبو حامد: أراد بذلك: أن الذمية إذا كانت تحت مسلم، وأرادت أن تلاعن زوجها في المسجد.. جاز لها ذلك في جميع المساجد إلا المسجد الحرام. وإنما يكون ذلك إذا رضي الزوج به، فأما إذا طلب الزوج أن تلاعن هي في الموضع الذي تعظمه.. كان له ذلك.
وقال القاضي أبو الطيب: بل أراد الشافعي: إذا كانا كافرين، وأرادت المرأة أن تلاعنه في المسجد.. كان لها؛ لأن التغليظ عليه بالمكان الذي يعظمه حق لها، فإذا رضيت بإسقاطه.. كان لها ذلك.
ولا بد أن يشترط رضاه في لعانها في المسجد أيضا؛ لأن التغليظ عليها بالمكان حق له أيضا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز للمشرك أن يدخل كل المساجد) .
وقال مالك: (لا يجوز للمشرك دخول مسجد من المساجد بحال) .(10/461)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . فنطق الآية دليل على أبي حنيفة، ودليل خطابها دليل على مالك.
[مسألة: من يبدأ الحاكم بملاعنته]
؟] : ويبدأ بلعان الزوج، فإذا التعنت المرأة قبل لعان الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. لم يعتد بلعانها.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يعتد به) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فبدأ بلعان الزوج، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) : هو الحد عليها، وإنما يجب ذلك عليها بلعان الزوج؛ لأن اللعان عندنا يمين، وعند أبي حنيفة شهادة، وأيهما كان.. فقد أتت بلعانها قبل وقته، فلم يعتد به، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل حقا، فقال المدعى عليه: والله، ما لك عندي شيء.. لم يعتد بها؟ وهكذا: لو شهد له بذلك شاهدان قبل أن يسألا الشهادة.. لم يعتد بهذه الشهادة، فكذلك هذا مثله.
فإن حكم حاكم بتقديم لعانها.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (نقض حكمه) .
[مسألة: الأحكام التي تتعلق باللعان]
] : وإذا لاعن الرجل امرأته.. تعلق بلعانه ستة أحكام:
أحدها: سقوط حد القذف عنه، وبه قال عمر وعثمان وابن مسعود وعثمان البتي.(10/462)
وقال أبو حنيفة: (لا يجب على الزوج حد القذف لزوجته، ولا يكون لعانه مسقطا لذلك) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، وإلا.. حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فسري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال، قد جعل الله لك فرجا ومخرجا "، فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي تعالى» .
[فرع: القذف برجل معين]
] : وإن قذفها بالزنا برجل بعينه.. فقد وجب عليه حدان: حد لها، وحد للمقذوف.
فإذا التعن، وذكر الزاني في اللعان.. سقط عنه الحدان.
وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها برجل بعينه.. وجب له عليه حد القذف، ولم يجب لها عليه حد، وإنما يجب عليه لها اللعان، فإن طلبت الزوجة اللعان، فلاعنها.. حد بعد ذلك للأجنبي، وإن طلب الأجنبي أن يحد له أولا.. حد له، ولا يلاعن زوجته) ؛ لأن المحدود لا يلاعن عنده، فخالف في ثلاثة مواضع:
أحدها: أنه لا يجب على الزوج حد القذف بقذف زوجته.
الثاني: أن المحدود بالقذف لا يلاعن، وقد مضى الدليل عليه في ذلك.
الثالث: أنه إذا قذف زوجته برجل معين، وسماه في اللعان.. سقط عنه ما وجب عليه له من حد القذف عندنا، وعنده لا يسقط.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
فجعل الله تعالى موجب القذف للزوجة اللعان، ولم يفرق بين أن يقذفها برجل معين أو غير معين.
ولأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، ولم(10/463)
يوجب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - على هلال بقذفه لشريك بن سحماء شيئا، فدل على أنه سقط باللعان.
فإن قالوا: كان شريك بن سحماء يهوديا، فلا يجب الحد بقذفه؟
قلنا: وإن كان يهوديا، فإنه يجب التعزير بقذفه، والحد والتعزير في الوجوب والسقوط واحد.
وإن لاعنها، ولم يذكر الزاني بها في اللعان.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط عنه حد القذف؛ لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولم ينقل أنه ذكره في اللعان، ولم يوجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى شريك أن له التعزير عند هلال، فدل على: أن ذلك يسقط باللعان، ولأنه رماهما بزنا واحد، فإذا ثبت صدقه في جهتها.. ثبت في جهته؛ لأنه لا يتبعض.
والثاني: لا يسقط عنه، وهو الأصح؛ لأنه حد يسقط باللعان، فكان من شرط سقوطه ذكره في اللعان، كحد المرأة. وأما الخبر: فإنما لم يعزره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الظاهر أنه قد بلغ شريك بن سحماء.
فعلى هذا: إذا أراد أن يسقط حده.. أعاد اللعان، وذكر الزوجة والزاني بها.
وإن رماها بالزنا برجل بعينه، ولم يقم عليهما البينة، ولم يلاعن، فجاءا وطلبا أن يحد لهما.. فكم يحد لهما؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحد لهما حدين.
والثاني: يحد لهما حدا واحدا، كما قلنا فيمن قال لرجلين: زنيتما.
ومنهم من قال: يحد لهما حدا واحدا، قولا واحدا؛ لأنه رماهما بزنا واحد، بخلاف ما لو قال لاثنين: زنيتما.. فإنه قذف كل واحد منهما بزنا.
فأما إذا جاءت الزوجة وحدها، فطالبت بحدها، فحد لها، ثم جاء الرجل(10/464)
المرمي، فطالب بحده، فإن قلنا في التي قبلها: يجب لكل واحد منهما حد.. فإنه يحد له ثانيا، وإن قلنا: يجب لهما حد واحد.. لم يحد له؛ لأنه قد استوفى منه.
وإن عفت المرأة عن حدها، وطالب المقذوف بحده.. حد له؛ لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق أحدهما حق الآخر، كالديون.
وإن اعترفت المرأة: أن الرجل المرمي بها زنى بها.. سقط عن الزوج حد القذف لها، ووجب عليها حد القذف للرجل؛ لأنها قذفته. وكذلك يجب على الزوج حد القذف له أيضا؛ لأنه قذفه.
الحكم الثاني المتعلق بلعان الزوج: أنه يجب على الزوجة حد الزنا بلعان الزوج.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعثمان البتي: (لا يجب عليها الحد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] .
فموضع الدليل منها قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) هاهنا: هو الحد.
ولأن لعان الزوج كالبينة في سقوط حد قذفها عنه، فكان كالبينة في إيجاب حد الزنا عليها.
ولها أن تسقط ما وجب عليها من حد الزنا بلعان الزوج بلعانها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] الآية [النور: 8] .
وإن كان الزوج قد قذفها برجل بعينه، وذكره في اللعان.. لم يجب على المقذوف حد الزنا بذلك؛ لأنه لا يصح منه إسقاط ذلك باللعان، فلم يجب عليه حد القذف باللعان.
الحكم الثالث: إن كان هناك حمل أو ولد منفصل، ونفاه الزوج باللعان.. انتفى عنه، ولحق بالمرأة.(10/465)
وقال عثمان البتي: لا ينتفي عنه.
دليلنا: ما «روى ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» .
فإن لم يذكر الزوج الولد في اللعان، وأراد نفيه.. أعاد اللعان وذكره؛ لأنه لم ينفه باللعان الأول، فإن عارضته المرأة باللعان.. فإنها لا تذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا سبيل لها إلى إثبات النسب ولا إلى نفيه.
قال الطبري: وكل موضع كان المقصود من اللعان نفي الولد لا غير، هل تعارضه المرأة باللعان؟ فيه وجهان.
الحكم الرابع: إذا لاعنها وهي زوجة له.. وقعت الفرقة بينهما بفراغه من اللعان.
وقال عثمان البتي: لا يقع باللعان فرقة.
وقال أبو حنيفة: (لا تقع الفرقة باللعان، وإنما يفرق الحاكم بينهما إذا فرغ الزوج من اللعان، فلو طلقها الزوج بعد اللعان وقبل أن يفرق الحاكم بينهما.. وقع الطلاق؛ لما «روى ابن عمر: (أن رجلا لاعن امرأته في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . وفي «رواية ابن عباس: (أن هلال بن أمية لاعن امرأته، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . فلو وقعت الفرقة بينهما باللعان.. لما افتقر إلى الفرقة بينهما. وروي: «أن العجلاني لما لاعن زوجته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. قال: إن أمسكتها.. فقد كذبت عليها، هي طالق ثلاثا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها» ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إن أمسكتها) ، ولا طلاقه) .(10/466)
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
فأخبر أن المتلاعنين لا يجتمعان، وأن الفرقة وقعت بينهما باللعان.
ولأنها فرقة متجردة عن عوض لا تنفرد به المرأة، فوجب أن يقع بقول الزوج وحده، كالطلاق.
فقولنا: (متجردة عن عوض) احتراز من الخلع.
وقولنا: (لا تنفرد به المرأة) احتراز من الفسخ بالعنة والإعسار بالنفقة.
وأما الجواب عن رواية ابن عمر، وابن عباس: فهذه قضية في عين لا يمكن ادعاء العموم فيها، فيحتمل أنه أراد: فرق بينهما في الزوجية، ويحتمل أنه فرق بين أبدانهما. وخبرنا: هو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ظاهر لا احتمال فيه.
وأما الجواب عن خبر العجلاني: فإن معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها "، أي: إلى الإمساك والطلاق؛ لأنها قد بانت منه باللعان؛ لأن العجلاني ظن أن الفرقة لم تقع باللعان، فلذلك طلقها؛ ولهذا لما قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها ".. قال: أين مالي؟ أي: إذا لم يكن لي إمساكها ولا طلاقها.. فأين الذي أعطيتها؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن كنت صادقا.. فبما استحللت من فرجها " - يعني: أنك دخلت بها - وإن كنت كاذبا.. فأبعد "، يعني: أنك دخلت بها، وكذبت عليها.
الحكم الخامس: أن الفرقة باللعان فسخ، ويقع به التحريم مؤبدا.
وقال مالك، وربيعة، وداود: (لا يقع زوال الفراش والتحريم إلا بلعانهما جميعا) .
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (الفرقة الواقعة باللعان طلقة ثانية، ولا يتأبد التحريم) .(10/467)
دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
فموضع الدليل منه على مالك: أن هذا يقتضي في حال تلاعنهما، كما يقال: متضاربان، في حال تضاربهما، فأما بعد فراغهما من اللعان.. فإنما يقال: كانا متلاعنين، وهذا لا يكون إلا على ما قلناه.
وموضع الدليل منه على أبي حنيفة: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا يجتمعان أبدا ". وهذا نص.
وفي «رواية ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا بيت لها ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان لا عن طلاق ولا عن وفاة» . وإذا ثبت أنه ليس بطلاق ولا عن وفاة.. كان فسخا.
[فرع: قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان]
فرع: [في قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان] : وإن تزوج امرأة وأبانها، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، وكان هناك نسب، فلاعن لنفيه، أو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وأتت بولد منه يمكن أن يكون منه، فلاعن لنفيه.. فهل تحرم عليه المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تحرم؛ لأن التحريم يتعلق بفرقة اللعان، ولم يقع بهذا اللعان فرقة، فلم يقع به تحريم مؤبد.
والثاني: تحرم على التأبيد، وهو الأصح؛ لأن كل سبب أوجب تحريما مؤبدا إذا صادف الزوجية.. أوجبه وإن لم يصادف زوجية، كالرضاع.
فقولنا: (تحريما مؤبدا) احتراز من الطلاق. ولأن اللعان قد صح فتعلقت به أحكامه، وهذا من أحكامه.(10/468)
وإن تزوجها وقذفها، ولم يكن هناك نسب نفاه باللعان، فلاعنها لإسقاط الحد، ثم بان أن النكاح كان فاسدا.. قال القاضي أبو الطيب: لم تحرم، وجها واحدا؛ لأنا تبينا أن اللعان كان فاسدا؛ لأن اللعان لا يثبت في النكاح الفاسد إلا لنفي الولد، فإذا لم يكن هناك ولد.. تبينا أن اللعان كان فاسدا، فلم يتعلق به التحريم.
[فرع: اشتراها بعد تزوجها وأتت بولد]
] : وإن تزوج الرجل أمة، ثم اشتراها وأقر بوطئها بعد الشراء، ثم أتت بولد، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء، ولستة أشهر فصاعدا من وقت النكاح.. لحقه الولد من جهة النكاح، فإن أراد نفيه باللعان.. كان له نفيه، وإذا نفاه باللعان.. انتفى عنه، وهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد، أو يحل له وطؤها بملك اليمين؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: لا يحرم عليه على التأبيد.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يحرم عليه على التأبيد. وهو الأصح.
ووجههما: ما ذكرناه في التي قبلها.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء بعد الشراء.. لحقه الولد. فإن ادعى: أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة، ولم يطأها بعده.. فالمنصوص: (أنه يحلف على ذلك، وينتفي عنه من غير لعان) .
وقال أبو العباس: وفيه قول آخر: أنه يلاعن لنفيه. وليس بصحيح.
وإن لم يدع الاستبراء، ولكن قال: هذا الولد ليس مني.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: أنه يلاعن لنفيه، كما يلاعن لنفي الولد من النكاح.(10/469)
والثاني وهو المشهور: أنه لا يلاعن لنفيه؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، ويحلف عليه.
فإذا قلنا: يلاعن، فلاعن لنفيه.. فهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
الحكم السادس المتعلق بلعان الزوج: أنه يسقط إحصانها في حق الزوج، فإن قذفها الزوج.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، وإن قذفها أجنبي.. فهل يسقط إحصانها في حقه؟ فيه وجهان.
فإن عارضته باللعان.. قال ابن الصباغ: عاد إحصانها في حق الجميع، وقد مضى ذلك.
[مسألة: في إكذابه نفسه يعود عليه الحد ويلحق به النسب]
] : وإذا لاعن الزوج، ثم أكذب نفسه.. عاد كل حق عليه؛ وهو: وجوب حد القذف عليه، ولحوق النسب الذي نفاه به، وعادت حصانتها في حقه. ولا يعود كل حق له؛ وهو: عود الزوجية، وارتفاع التحريم على التأبيد.
وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (يرتفع التحريم المؤبد إذا أكذب نفسه، أو إذا حد في قذف) . ووافقنا: أن الزوجية لا تعود، وإنما يجوز له ابتداء عقد النكاح عليها.
وقال سعيد بن المسيب: إذا أكذب نفسه عادت الزوجية.
دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . وهذا نص، ولم يفرق.(10/470)
وروي «عن سهل بن سعد الساعدي: أنه قال: (فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المتلاعنين، ثم جرت السنة أن لا يجتمعا أبدا» . وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن نفى باللعان نسب ولد، فمات الولد، ثم أكذب الزوج نفسه.. لحقه نسب الولد الميت سواء خلف الميت ولدا أو لم يخلف، وسواء كان موسرا أو معسرا.
وقال أبو حنيفة: (إن خلف الميت ولدا ذكرا، أو أنثى.. صح رجوعه، ويثبت نسب الولد منه، وإن لم يخلف الميت ولدا.. لم يصح رجوعه؛ لأنه متهم في الرجوع ليرث) .
دليلنا: أنه اعترف بنسب كان نفاه باللعان، فلحقه، كما لو كان المنفي حيا، أو كما لو خلف ولدا.
[فرع: في قذفها واعترافها بعد اللعان]
] : وإن قذف الرجل امرأته بالزنا، فاعترفت بزناها.. نظرت:
فإن أقرت به بعد لعان الزوج.. فإن إقرارها بالزنا لا ينفع؛ لأن جميع أحكام اللعان قد تعلقت بلعان الزوج، ولا يكون لها إسقاط ما وجب عليها من حد الزنا بلعانها؛ لأنها قد أقرت بالزنا.
وإن أقرت بالزنا قبل أن يلاعن الزوج.. وجب عليها حد الزنا، ولا يجب على الزوج لها حد القذف.(10/471)
وإن لم يكن هناك نسب.. فليس للزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء حد القذف أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما.
وإن كان هناك نسب.. فللزوج أن يلاعن لنفيه، فإذا لاعن لنفيه.. فهل تقع الفرقة المؤبدة بينه وبين الزوجة؟ على الوجهين فيمن لاعنها البينونة، وقد مضى ذكرهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كان هناك نسب.. لحقه، وليس له نفيه باللعان، ولا يجب عليها حد الزنا) . وهذا بناء على أصلين:
أحدهما: أن حد الزنا لا يثبت عنده بالإقرار به مرة، وإنما يثبت عنده إذا أقربه أربع مرات في أربع مجالس.
والثاني: أن النسب لا ينتفي عنده إلا بلعانهما وحكم الحاكم، واللعان لا يصح منها؛ لأنها اعترفت بالزنا، فلا تلاعن على ما اعترفت به، ولا يصح أن يحكم الحاكم بنفيه عنه.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (إن كانت المرأة عفيفة وكذبته.. كان له أن ينفي عنه ولدها، وإن كانت فاجرة وصدقته.. لم يكن له أن ينفي ولدها) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن تقر الزوجة أو لا تقر.
ولأنه محتاج إلى القذف، وتحقيقه باللعان لنفي النسب، فكان له ذلك، كما لو لم تقر الزوجة.
[مسألة: قذفها ثم مات قبل الملاعنة]
] : إذا قذف الرجل زوجته، فمات الزوج قبل أن يلاعن، أو قبل أن يكمل اللعان.. فقد سقط عنه الحد بموته؛ لأنه اختص ببدنه وقد مات، ورثته الزوجة؛ لأن الفرقة لا تقع إلا بلعانه، ولم يوجد.(10/472)
وإن كان هناك ولد أراد نفيه.. لم ينتف عنه وورثه؛ لأنه مات قبل أن ينفيه.
فإن أراد باقي الورثة أن يلاعنوا لنفيه.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه مشارك لهم في الظاهر بالميراث، فإن قلنا: لهم أن ينفوه.. كان له أن ينفيهم، وهذا متناقض.
وليس للمرأة أن تلاعن؛ لأنها إنما تلاعن لدرء الحد عنها، والحد إنما يجب عليها بلعان الزوج، ولم يوجد.
وإن مات الزوج بعد لعانه وقبل لعانها.. كان لها أن تلاعن لإسقاط الحد عنها؛ لأن ذلك قد وجب عليها بلعانه، فكان لها إسقاطه، كما لو كان حيا.
وإن قذف زوجته، فماتت الزوجة قبل أن يلاعن الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. ورثها الزوج؛ لأنها ماتت وهي زوجته، فورثها.
فإن كان هناك ولد منها يريد نفيه.. كان له أن يلاعن لنفيه؛ لأن الحاجة داعية إلى اللعان لنفيه عنه.
وإن لم يكن هناك ولد منها يريد نفيه، فإن كان لها وارث، فطالبه بحد القذف.. كان له أن يلاعن لدرء الحد عنه؛ لأن الحاجة داعية إلى درء الحد عنه بذلك.
فإن كان لم يأت بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. استأنف اللعان، وإن كان قد أتى بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن تطاول الزمان.. استأنف اللعان، وإن لم يتطاول الزمان.. بنى على اللعان الأول، وتممه.
وإن لم يكن لها وارث غير الزوج، فإن كان ابن عم لها أو مولى.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إلى اللعان.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه. والأول أصح.
وإن لم يكن لها وارث من غير المسلمين.. كان له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه.
فإن قيل: هو من المسلمين، وهو وارثها؟(10/473)
فالجواب: أن حد القذف يجب لبعض الورثة، ولا يسقط بسقوط بعضه، ولهذا: لو عفا بعض الورثة عن حقه منه.. ثبت الجميع لمن لم يعف.
وإذا لاعن بعد موتها.. فإن ميراثه لا يسقط عنها بذلك؛ لأن الفرقة لم تقع به.
[فرع: قذفها ونفى ولدها فمات ابنها قبل ملاعنتها]
] : وإن قذف امرأته وانتفى من ولدها، فمات الولد قبل أن يلاعن الأب لنفيه، أو قبل أن يكمل اللعان.. فله أن يلاعن بعد موته.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن لنفي الولد بعد موته؛ لأنه لا حاجة به إلى نفيه بعد الموت) .
دليلنا: أن الحاجة تدعو إلى نفيه بعد موته، كما تدعو إلى نفيه في حياته؛ لأنه يلحقه نسبه بعد موته، كما يلحقه في حياته؛ لأنه يقال: هذا قبر ابن فلان، كما يقال في حياته: هذا ابن فلان، فكان له نفي النسب الفاسد عنه؛ لئلا يعير به، ولأنه قد يكون غائبا، فتأتي امرأته بولد، ويبلغ ذلك الولد، ويولد له ولد، ثم يموت، ويقدم الغائب، فيحتاج إلى نفي أولاد ذلك الولد، كما كان يحتاج إلى نفي الولد في حياته، ولا ينتفي عنه أولاد الولد إلا بنفي الولد.
وإن أتت امرأته بولدين توأمين، فقال: ما هما مني، وأراد نفيهما باللعان، فمات أحدهما قبل اللعان أو قبل إكماله.. فله أن ينفيهما معا باللعان، فإن نفى أحدهما، وأقر بالآخر، أو ترك نفيه.. لحقاه؛ لأنهما من حمل واحد، فإذا أقر بأحدهما.. لحقه نسبه ونسب الآخر.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بعد موت أحدهما؛ لأن الميت عنده لا ينفى باللعان، ولا يجوز له أن ينفي الحي؛ لأنهما من حمل واحد) . وبنى هذا على أصله: أن الميت لا ينفى باللعان، وقد مضى الدليل عليه.
وإذا نفى نسب الولد الميت باللعان.. لم يرثه؛ لأنا تبينا أنه ليس بولد له، فلم يرثه.(10/474)
[مسألة: قذفها وباشر اللعان ولم يتمه]
] : وإن قذف زوجته، وابتدأ باللعان، ثم امتنع من إتمامه.. حد لها حد القذف؛ لأن الحد وجب عليه لها بالقذف، وإنما يسقط عنه باللعان، فإذا لم يكمله.. وجب عليه الحد، كما لو أقام عليها بالزنا بينة غير كاملة.
وإن قذفها، ولم يلاعن، فجلد بعض الحد، فقال: أنا ألاعن.. كان له ذلك، فإذا لاعن.. سقط عنه بقية الحد؛ لأن اللعان حجة في حق الزوج لإسقاط الحد عنه، كما أن البينة حجة لإسقاط الحد عن الأجنبي.
ولو قذفها أجنبي، فحد بعض الحد، ثم قال: أنا أقيم البينة، وأقامها.. سقط عنه باقي الحد، كذلك هذا مثله.
وإن قذفها الزوج ولاعن، فامتنعت من اللعان، فحدت بعض الحد، ثم قالت: أنا ألاعن.. كان لها ذلك، فإذا لاعنت.. سقط عنها بقية الحد؛ لأن ما أسقط جميع الحد.. أسقط بعضه، كالبينة.
[فرع: قذفها فحد، ثم تزوجها]
] : وإن قذف رجل امرأة أجنبية بالزنا، فحد لها، ثم تزوجها، ثم قذفها.. نظرت:
فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنه قد حد فيه.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى ما قبل الزوجية.. وجب عليه الحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لدرء الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك ولد.. كان له أن يلاعن لنفيه.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه الحد، وله أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن.(10/475)
وأما إذا لم يقم عليه الحد بقذفه لها قبل الزوجية، ولم يقم عليها البينة، ثم قذفها بعد أن تزوجها.. قال القاضي أبو الطيب: فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. وجب عليه حد واحد ويتداخل، كما إذا زنى، ثم زنى قبل أن يقام عليه الحد للزنا الأول.. فإنه يجب عليه حد واحد، فإن قذفها بزنا آخر منسوب إلى حال الزوجية.. وجب عليه حدان؛ لأنهما يختلفان؛ لأن أحدهما يسقط باللعان، والآخر لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فيقام عليه الحد للقذف الأول، وأما الثاني: فإن لاعنها لأجله، وإلا.. حد له أيضا.
وإن قذفها وهي زوجة، فلم يحد لها، ولم تعف حتى فارقها، ثم قذفها بعد الفراق بذلك الزنا، أو بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. قال ابن الحداد: وجب عليه حد آخر للقذف الثاني، ولا يتداخلان؛ لأن الأول يسقط باللعان، والثاني لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فإن التعن للأول.. حد للثاني، وإن لم يلتعن للأول.. حد للأول، وحد للثاني بعد أن يبرأ ظهره من ألم الأول.
[فرع: قذفها ثم أعتق فطالبته بالحد]
] : وإن قذف العبد امرأته، ثم أعتق وطالبته بحد قذفها.. فله أن يلاعن، وإن لم يلاعن.. حد حد العبد؛ اعتبارا بحال الوجوب عليه.
وهكذا: لو قذف زوجته الأمة، ثم أعتقت، فطالبته بالتعزيز، فلاعن ولم تلاعن هي.. حدت هي حد الأمة؛ اعتبارا بحال الوجوب.
وهكذا: إن قذف زوجته وهي بكر، ولم تلاعن حتى طلقها، ونكحت زوجا غيره، وأصابها الثاني، وطالبت الأول بحد القذف، فلاعنها ولم تلاعن هي.. وجب عليها حد البكر لا حد المحصنة؛ اعتبارا بحال الوجوب عليها.
وإن تزوج رجل امرأة بكرا، فقذفها بالزنا، ثم فارقها قبل أن تطالبه بحد القذف، وتزوجت بآخر، ثم قذفها الثاني بالزنا.. كان لها مطالبتهما بحد القذف،(10/476)
فإذا طالبتهما.. كان لكل واحد منهما درء الحد عن نفسه باللعان؛ لأن كل واحد منهما قذفها وهي زوجته، فإن عارضتهما باللعان.. لم يجب على أحدهما حد، وإن لاعنها، ونكلت عن جوابهما باللعان.. نظرت:
فإن قذفها الأول وهي بكر، وقذفها الثاني وهي محصنة.. وجب عليها للأول حد بكر، وهو: جلد مائة، وتغريب عام، ووجب عليها للثاني حد محصنة، وهو: الرجم.
وعلى هذا يحمل ما روي «عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه جلد امرأة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وإن كانت بكرا في حال قذفهما لها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجب عليها حدان؛ فتجلد للأول، ثم تترك حتى يبرأ ظهرها، ثم تجلد للثاني؛ لأن اللعان بينة يختص بها الزوج، فلا يتعدى إلى غيره، فيجب الأول بلعان الأول، والثاني بلعان الثاني.(10/477)
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجب عليها حد واحد، كما إذا ثبت عليها ذلك بالبينة.
[فرع: قذفها بعد الردة والعدة ثم لاعنها]
] : إذا تزوج امرأة ودخل بها، ثم ارتدا، وقذفها في حال الردة والعدة، ولاعنها لدرء الحد.. قال ابن الحداد: ينظر فيه:
فإن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادفا الزوجية، وصح اللعان.
وإن لم يرجع إلى الإسلام حتى انقضت عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادقا البينونة، ولم يصح اللعان، كما قلنا فيمن طلق امرأته ثلاثا في حال الردة.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح اللعان؛ لأنه يمين، فلم يصح أن تكون موقوفة؛ لأنه لا يصح تعلقها بالشرط، فلم يصح وقفها، بخلاف الطلاق.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح.
[مسألة: ادعت أن زوجها قذفها فأنكر فأقامت بينة]
] : إذا ادعت المرأة على زوجها: أنه قذفها بالزنا، فأنكر، فأقامت بينة: أنه قذفها، فإن قال: أنا ألاعن.. جاز له ذلك. واختلف أصحابنا لم جاز له أن يلاعن؟
فمنهم من قال: إنما جاز له أن يلاعن؛ لأنه لم يكذب البينة؛ لأنها شهدت عليه: أنه قذفها، وهو يقول: ما قذفت؛ لأني قلت لها: يا زانية، وليس ذلك بقذف، بل هو صدق، و (القذف) : ما تردد بين الصدق والكذب.
فأما إذا قال: ما قلت لها: يا زانية، وشهدت البينة: أنه قال ذلك.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه مكذب لها.(10/478)
ومنهم من قال: له أن يلاعن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وأما البينة: فهو مكذب لها؛ لأن البينة تشهد: أنه قذف، وهو يقول: ما قذفت، وما رماها به.. فهو حرام إلى أن يحقق باللعان، وإنما لا يجوز له أن يلاعن، أن لو قال: ما زنت، ثم قال: ألاعن.. لم يكن له ذلك؛ لأنه قد كذب نفسه، وهذا التعليل هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
[فرع: اختلفا بوقت اللعان قبل الزواج أو بعده]
] : وإن اختلف الزوجان: فقالت الزوجة: قذفتني قبل أن تتزوج بي، فلي عليك حد لا يسقط باللعان، وقال الزوج: بل قذفتك بعد أن تزوجت بك، ولي إسقاط الحد باللعان.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. كان القول قوله مع يمينه، فكذلك إذا اختلفا في وقته.
وهكذا إن قال: قذفتك قبل وقوع الفرقة. وقالت: بل قذفتني بعد وقوع الفرقة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه.
وإن قالت: قذفتني وأنا أجنبية منك ولا نكاح بيننا، وقال: بل قذفتك وأنت زوجتي.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم النكاح بينهما، إلا إن أقام الزوج بينة على النكاح.. فيكون القول قوله مع يمينه على وقت القذف.
وهكذا لو قذف رجل أجنبية فقال: قذفتك وأنت مرتدة، وقالت: ما كنت مرتدة.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الردة، فإن أقام بينة على ردتها.. فالقول قوله مع يمينه: أنه قذفها في حال ردتها؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في وقته.
والله أعلم(10/479)
[كتاب الأيمان] [باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين](10/481)
كتاب الأيمان باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين الأصل في انعقاد اليمين: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77](10/483)
الآية [آل عمران: 77] .
وأما السنة: فروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله " ثلاثا» .
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان كثيرا ما يحلف: لا ومقلب القلوب»(10/484)
وأجمعت الأمة على انعقاد اليمين
إذا ثبت هذا فإن اليمين تنعقد من كل بالغ عاقل مختار قاصد إلى اليمين.
فأما الصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهل تنعقد يمين السكران؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الطلاق.
ولا تنعقد يمين المكره؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «ليس على مقهور يمين» .
وأما (لغو اليمين) : فلا ينعقد، وهو: الذي يسبق لسانه إلى الحلف بالله من غير أن يقصد اليمين، أو قصد أن يحلف بالله: لا أفعل كذا، فسبق لسانه وحلف بالله: ليفعلنه، وسواء في ذلك الماضي والمستقبل.(10/485)
وقال أبو حنيفة: (لغو اليمين هو: الحلف على الماضي من غير أن يقصد الكذب، وكأنه ظن شيئا على صفة، فحلف عليه: أنه كذلك، فبان خلافه) .
وقال مالك: (لغو اليمين هي: اليمين الغموس) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] [البقرة: 225] .
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (لغو اليمين: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله) .
ولأن " اللغو " في اللغة: هو الكلام الذي لا يقصد إليه، وهذا لا يكون إلا فيما قلناه.
فإن حلف على فعل شيء، ثم قال: لم أقصد إليه.. نظرت:
فإن كانت اليمين بالله.. قبل قوله - لأنه أعلم بنيته - قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الحلف على ترك وطء زوجته.. فلا يقبل قوله؛ لأنه يتعلق به حق آدمي.
وكذلك: إذا حلف بالطلاق، أو العتاق، وادعى: أنه لم يقصد إلى ذلك.. لم يقبل قوله منه؛ لأنه يتعلق به حق الآدمي، والظاهر أنه قصد إلى ذلك، بخلاف اليمين بالله، فإن الحق فيها مقدر فيما بينه وبين الله تعالى، وهو أعلم بما قصده.
وتنعقد يمين الكافر؛ لأنه مكلف قاصد إلى اليمين، فانعقدت يمينه، كالمسلم.
[مسألة: تنعقد اليمين على الماضي والمستقبل]
] : وتنعقد اليمين على الماضي والمستقبل.
فأما الماضي: فعلى ضربين.(10/486)
أحدهما: أن يحلف أنه فعل أمرا، أو لم يفعله، وهو صادق، فلا كفارة عليه؛ لأن اليمين على المدعى عليه، ولا يجوز أن يجعل عليه اليمين إلا وهو صادق.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، لا تمنعكم اليمين من حقوقكم، فوالذي نفسي بيده! إن في يدي عصا) .
فإن كانت هذه اليمين عند الحاكم.. فالأولى أن لا يحلفها؛ لما روي: (أن المقداد استقرض من عثمان مالا، فتحاكما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال المقداد: هو أربعة آلاف، وقال عثمان: إنه سبعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف: أنه سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فلم يحلف عثمان، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف، فقال له عمر: لم لم تحلف؟ فقال: خشيت أن يوافق قدر بلاء، فيقال: بيمينه) .
والضرب الثاني: أن يحلف على ماض وهو كاذب؛ مثل أن يحلف أنه قد فعل كذا، ولم يفعله، أو أنه لم يفعل كذا، وقد فعله، فإن نسي عند اليمين أنه كان قد فعل أو لم يفعل.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما، وإن كان ذاكرا عند اليمين أنه قد كان فعل أو لم يفعل، وقصد إلى اليمين.. فهي اليمين الغموس، ويأثم بذلك؛ لما روى الشعبي، عن ابن عمر: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: " الإشراك بالله "، قال: ثم ماذا؟ قال: " عقوق الوالدين "، قال: ثم ماذا؟ قال: " اليمين الغموس» . قيل للشعبي: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ، وهو فيها كاذب) .(10/487)
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر؛ ليقتطع بها من مال امرئ مسلم.. لقي الله وهو عليه غضبان» .
وإن سميت: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس من حلف بها في النار.
وتجب عليه الكفارة في اليمين الغموس، وبه قال عمر، وعطاء، والزهري، وعثمان البتي.
وقال مالك، والثوري، والليث، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق: (لا تجب بها الكفارة) .
وقال سعيد بن المسيب: هي من الكبائر أعظم من أن تكفر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة: 89] الآية [المائدة: 89] . وهذا عام في الماضي والمستقبل.
ولأنه حلف بالله وهو مختار قاصد كاذب، فوجبت عليه الكفارة، كما لو حلف على مستقبل.(10/488)
[مسألة: اليمين على المستقبل]
وأما اليمين على المستقبل: فتصح أيضا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» .
إذا ثبت هذا: فإن اليمين على المستقبل تنقسم على خمسة أضرب:
أحدها: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل: أن يحلف: ليصلين الصلوات الواجبة، أو لا يشرب الخمر، أو لا يزني. وإنما كان عقدها والإقامة عليها طاعة؛ لأنها قد تدعوه إلى المواظبة على فعل الواجب، ويخاف من الحنث بها الكفارة. وحلها معصية؛ لأن حلها إنما يكون بأن يمتنع من فعل الواجب، أو يفعل ما حرم عليه.
والضرب الثاني: يمين عقدها معصية، والإقامة عليها معصية، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: أن لا يفعل ما وجب عليه، أو ليفعلن ما حرم عليه.
والضرب الثالث: يمين عقدها طاعة، والإقامة عليها طاعة، وحلها مكروه، مثل: أن يحلف: ليصلين النوافل، وليصومن التطوع، وليتصدقن بصدقة التطوع.
والضرب الرابع: يمين عقدها مكروه، والإقامة عليها مكروهة، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: لا يفعل صلاة النافلة، ولا صوم التطوع، وصدقة التطوع. وإنما قلنا عقدها والمقام عليها مكروه؛ لأنه قد يمتنع من فعل البر خوف الحنث، وإنما كان حلها طاعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .(10/489)
فإن قيل: فكيف يكون عقدها والمقام عليها مكروها، وقد «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعرابي الذي سأله عن الصلاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: " لا، إلا أن تطوع "، فقال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه» ولم ينكر عليه؟
قلنا: يحتمل أنه لما حلف: أنه لا يزيد ولا ينقص.. تضمنت يمينه تركا لما هو معصية وما هو طاعة، وهو ترك النقصان عنها، فلذلك لم ينكره.
ويحتمل أن يكون لسانه سبقه إلى اليمين، وعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم ينكر عليه؛ لأنه لغو.
ويحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليه؛ ليدل على أن ترك التطوع جائز وإن كانت اليمين مكروهة، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه - كالالتفات في الصلاة - ليدل على الجواز.
والضرب الخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، واختلف أصحابنا في حلها، وذلك مثل: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار، أو لا سلكت هذه الطريق. وإنما كان عقدها والمقام عليها مباحا؛ لأنه مباح له ترك دخول الدار، وترك سلوك الطريق، وهل حلها أفضل له، أو المقام عليها؟ فيه وجهان:(10/490)
[الأول] : من أصحابنا من قال: المقام عليها أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] [النحل: 91] .
و [الثاني] : منهم من قال: حلها أفضل؛ لأنه إذا أقام على اليمين.. منع نفسه من فعل ما أبيح له، واليمين لا تغير المحلوف عليه عن حكمه.
وإن حلف: لا يأكل الطعام اللين، ولا يلبس الثوب الناعم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أن هذه يمين عقدها مكروه؛ والمقام عليها مكروه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] [الأعراف: 32] .
الثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أن هذه يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة؛ لأن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقصدون ترك الطيب من الطعام؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لو شئت أن يدهمق لي.. لفعلت، ولكن الله عاب قوما، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [الأحقاف: 20] ) . و (الدهمقة) : لين الطعام وطيبه.
وهو شبيه بحديثه الآخر: أنه قال: (لو شئت.. لدعوت بصلاء، وصناب، وصلائق، وكراكر، وأسنمة، وأفلاذ) ، و (الصلاء) : اللحم المشوي، و (الصناب) : الخردل بالزيت، و (الصلائق) : ما سلق من البقول وغيرها،(10/491)
وتسمى: السلائق، بالسين، و (الكراكر) : الإبل، و (الأسنمة) : أسنمة الإبل. و (الأفلاذ) : قطع الكبد. هذا مذهبنا.
ومن الناس من قال: عقد اليمين مكروه بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] [البقرة: 224] .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» ، وكان يحلف كثيرا، ولو كان مكروها.. لما كرر فعله.
وأما الآية: فتأويلها: أن يحلف على ترك البر والتقوى؛ كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] الآية [النور: 22] .
إذا ثبت هذا: وحلف على شيء مما ذكرناه، وحنث.. وجبت عليه الكفارة.
ومن الناس من قال: إن كان الحنث طاعة.. لم تجب عليه الكفارة.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .
[مسألة: الحلف بغير أسمائه تعالى وصفاته]
مكروه] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ومن حلف على شيء بغير الله.. فهي يمين مكروهة) .(10/492)
وجملة ذلك: أنه إذا حلف بغير الله؛ بأن حلف بأبيه، أو بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بالكعبة، أو بأحد من الصحابة.. فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقصد بذلك قصد اليمين، ولا يعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده بالله تعالى، فهذا يكره له ذلك، ولا يكفر؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» .
وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا.. فليحلف بالله، أو ليسكت ". قال عمر: فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا» .
فمعنى قوله: (ذاكرا) أذكره عن غيري.
ومعنى قوله: (آثرا) أي: حاكيا عن غيري، يقال: آثر الحديث: إذا رواه.
ولأنه يوهم في الظاهر التسوية بين المحلوف به وبين الله عز وجل، فكره.
القسم الثاني: أن يحلف بذلك، ويقصد قصد اليمين، ويعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله، فهذا يحكم بكفره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(10/493)
«من حلف بغير الله.. فقد كفر» . وروي: " فقد أشرك ".
القسم الثالث: أن يجري ذلك على لسانه من غير قصد إلى الحلف به.. فلا يكره، بل يكون بمعنى لغو اليمين، وعلى هذا يحمل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلح وأبيه إن صدق» ، وكذا «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في خبر أبي العشراء الدارمي: " وأبيك، لو طعنت في فخذها.. لأجزأك» .
فإن قيل: فقد ورد في القرآن أقسام كثيرة بغير الله؟
فالجواب: أن الله تعالى أقسم بمصنوعاته الدالة على قدرته تعظيما له تعالى لا لها.
إذا ثبت هذا: فإن حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالكعبة، وحنث.. لم تلزمه كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.(10/494)
وقال أحمد: (إذا حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحنث.. وجبت عليه الكفارة) .
دليلنا: أنه حلف بمخلوق، فلم تلزمه بالحنث به الكفارة، كما لو حلف بالكعبة.
وإن قال: إن فعلت كذا وكذا.. فأنا يهودي، أو نصراني، أو بريء من الله، أو من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من الإسلام، أو مستحل للخمر، أو للميتة.. لم يكن يمينا، ولم تجب عليه الكفارة بالحنث به، وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: (هي يمين، وتجب عليه الكفارة بالحنث بها) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا.. فهو كما قال - وروي: فقد قال - وإن كان صادقا.. فلن يرجع إلى الإسلام سالما» . ولم يذكر الكفارة.
ولأنه لو قال: والإسلام.. لم يكن حالفا؛ لأنه يمين بمحدث، فهو كاليمين بالكعبة، فلأن لا يكون يمينا إذا حلف أنه بريء من الإسلام أولى.
[مسألة: من حلف بالله وحنث فعليه الكفارة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (من حلف بالله، أو باسم من أسماء الله، فحنث.. فعليه الكفارة) .
وجملة ذلك: أن الحالف لا يخلو: إما أن يحلف باسم من أسماء الله، أو بصفة من صفاته.
فإن حلف باسم من أسماء الله.. فأسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب:
أحدها: اسم الله، لا يشاركه فيه غيره، كقوله: والله، والرحمن، ومقلب(10/495)
القلوب، والإله، وخالق الخلق، وبارئ النسمة، والحي الذي لا يموت، والذي نفسي بيده، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والواحد الذي ليس مثله شيء، وما أشبه ذلك.
فإذا حلف بشيء من ذلك وحنث.. لزمته الكفارة؛ لأن هذه الأسماء لا يسمى بها غير الله، فانصرفت إلى الله، سواء نوى اليمين أو أطلق. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، فإذا نوى بها غير اليمين.. لم يصدق في الحكم، وهل يصدق فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان.
والضرب الثاني: أسماء الله التي يشاركه في التسمية بها غيره، إلا أن الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى، كقوله: والخالق، والرازق، والبارئ، والرب، والرحيم، والرؤوف، والقادر، والقاهر، والمالك، والجبار، والمتكبر.(10/496)
فإذا حلف بشيء من ذلك، فإن لم ينو بها غير الله.. كان يمينا؛ لأن إطلاق هذه الأسماء لا ينصرف إلا إلى الله، وإن نوى بها الله تعالى.. كان تأكيدا، وإن نوى بها غير الله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنها قد تستعمل في غير الله تعالى مع التقييد؛ يقال: فلان خالق الكذب، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] [العنكبوت: 17] ، وفلان يرزق فلانا: إذا كان ينفق عليه، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] [النساء: 8] ، وفلان بارئ العصا، وفلان رب فلان، أي: مالكه، قال الله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] [يوسف: 50] ، ويقال: فلان رحيم القلب، ورؤوف القلب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله رحيم يحب الرحماء "، ويقال:(10/497)
فلان قادر، وقاهر للعدو، ومالك للمال، وجبار متكبر.
والضرب الثالث: أسماء يسمى بها الله تعالى، ويسمى بها غيره، ولا ينصرف الإطلاق بها إلى الله، كقوله: والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم.
فإن حلف بشيء من ذلك.. اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تنعقد يمينه إلا أن ينوي بها الله تعالى؛ لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله وبين الخلق، وتستعمل في الجميع استعمالا واحدا؛ فلم تنصرف إلى الله من غير نية، كالكنايات في الطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وأكثر أصحابنا: لا يكون يمينا، سواء نوى بها الله تعالى أو أطلق؛ لأن اليمين إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم له حرمة، وهذه الأسماء ليست بمعظمة، ولا حرمة لها؛ لاشتراك الخالق والمخلوق بها اشتراكا واحدا. وهكذا إذا حلف بالشيء والمتكلم..
وإن حلف بصفة من صفات الله تعالى.. نظرت:
فإن حلف بعظمة الله، أو بجلاله، أو بعزته، أو بكبريائه، أو ببقائه، أو بمشيئته، أو بإرادته، أو بكلامه، أو بالقرآن، أو بعلمه ولم ينو به المعلوم، أو بقدرته ولم ينو به المقدور.. انعقدت يمينه؛ لأن هذه صفات الذات لم يزل موصوفا بها، فصار كما لو حلف بالله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، وإن نوى(10/498)
بها غير اليمين.. صدق فيما بينه وبين الله تعالى.. وهل يصدق في الحكم؟ على وجهين.
وإن نوى بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور.. لم تكن يمينا؛ لأنه محدث؛ ولهذا يقال: انظروا إلى قدرة الله، أي: إلى مقدوره. ويقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك فينا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إذا حلف بالعلم.. لم يكن يمينا، وإذا حلف بكلام الله أو بالقرآن.. لم يكن يمينا) . فمنهم من قال: لأن أبا حنيفة كان يقول: (القرآن مخلوق) .
ومنهم من قال: لم يكن يقول: القرآن مخلوق، وإنما لم تجر العادة بالحلف به.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القرآن كلام الله، وليس بمخلوق» . وإذا كان غير مخلوق.. كان صفة من صفات الذات، كعظمة الله، وجلاله.(10/499)
قال الشافعي: (من قال إن القرآن مخلوق.. فقد كفر) .
وأما العلم: فلأنه صفة من صفات الذات، فهو كما لو حلف بعظمة الله وقدرته.
وإن قال: وحق الله، فإن نوى به العبادات.. لم يكن يمينا؛ لأنه حلف بمحدث، وإن نوى به ما يستحقه الله من الصفات، أو أطلق ذلك.. كان يمينا، وبه قال مالك وأحمد.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنها قد ثبت لها عرف الاستعمال وإن لم يثبت لها عرف الشرع، وما ثبت له أحد العرفين.. كان يمينا.
وقال أبو جعفر الأستراباذي: حق الله هو قرآن الله، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] [الحاقة: 51] ، يعني: القرآن، ولو حلف بالقرآن.. كان يمينا، سواء نوى اليمين، أو لم ينو أو أطلق، فكذلك هذا مثله. والأول أصح. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون يمينا؛ لأن حقوق الله تعالى طاعته، وذلك محدث) .
ودليلنا: أن لله حقوقا يستحقها لنفسه، وحقوقا على غيره، فإذا اقترن عرف(10/500)
الاستعمال في اليمين.. انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من البقاء والعظمة وغير ذلك من الصفات، فصار كقوله: وعظمة الله.
قال الطبري في " العدة ": وإن حلف بصفة من صفات الله التي من صفات الفعل، كقوله: وخلق الله، ورزق الله.. لم يكن يمينا.
[مسألة: في قوله عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته]
] : إذا قال: علي عهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لا فعلت كذا، أو قال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن نوى به العبادات التي أخذ الله علينا العهد بأدائها.. لم يكن يمينا؛ لأنها محدثة، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] [الأحزاب: 72] . قيل في التفسير: هي الأعمال بالثواب.
فإن أطلق ذلك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: هو يمين؛ لأن العادة قد جرت بالحلف بذلك، فانصرف إطلاقها إلى اليمين، كقوله: وعظمة الله.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه ليس بيمين) ؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى ما وجب له على خلقه من العبادات، فلم تصر يمينا من غير نية، وتخالف العظمة؛ فإنها صفة ذاته.
إذا ثبت هذا: فقال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، وأراد به يمينا.. كانت يمينا واحدة. وإذا حنث.. لزمته كفارة واحدة.
وقال مالك: (يجب لكل لفظة كفارة) .
دليلنا: أن الجمع بين هذه الألفاظ تأكيد لليمين، واليمين واحدة، فهو كقوله: والله الطالب، الغالب، المهلك، المدرك.(10/501)
[فرع: في قوله علي يمين]
] : قال الطبري: لو قال: علي يمين.. فظاهر المذهب: أنه لا يكون يمينا.
وقال الإمام سهل: يحتمل وجهين.
وقال أبو حنيفة: (يكون يمينا استحسانا، والقياس: لا يلزمه) .
ودليلنا: أن قوله: (علي يمين) يحتمل الإخبار به، ويحتمل الإنشاء والابتداء، فلا يحمل على أحدهما.
وإن قال: أيمان البيعة لازمة لي لأفعلن كذا.. فإن البيعة كانت في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمصافحة، فلما ولي الحجاج.. رتبها على أيمان تشتمل على اسم الله، وعلى الطلاق، والعتاق، والحج، وصدقة المال.
قال ابن الصباغ: وإذا قال رجل: أيمان البيعة لازمة لي، فإن لم ينو الأيمان التي رتبها الحجاج.. لم يتعلق بقوله حكم، وإن أراد ذلك، فإن قال: أيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها.. فقد صرح بذكرها، ولا يحتاج إلى نية، وتنعقد يمينه بالطلاق والعتاق، وإن لم يصرح بذلك، ونوى أيمان البيعة التي فيها الطلاق والعتاق.. انعقدت يمينه بالطلاق والعتاق خاصة؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية مع النية.
وظاهر قول ابن الصباغ أن يمينه لا تنعقد بالله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية.
[مسألة: في قوله والله لأفعلن]
] : إذا قال: والله لأفعلن كذا.. كان ذلك يمينا إذا نوى بها اليمين أو أطلق؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «والله لأغزون قريشا» ، وثبت لها عرف الاستعمال؛ لأن الناس هكذا يحلفون، فإن نوى بها غير اليمين.. لم يقبل. وقد مضى خلاف المسعودي [في " الإبانة "] فيها، وهذا هو المشهور.(10/502)
وإن قال: بالله لأفعلن كذا - بالباء المعجمة بواحدة من تحت - فإن نوى بها اليمين أو أطلق.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع، قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] [التوبة: 74] ، وثبت لها عرف اللغة؛ لأن أهل اللغة يقولون: الباء إنما هي أصل حروف القسم، وغيرها بدل عنها.
فإن صرفها بنيته عن اليمين؛ بأن نوى: بالله أستعين، أو أثق بالفعل الذي أشرت إليه، أو بالله أومن.. لم يكن يمينا؛ لأنه يحتمل ما نواه.
وإن قال: تالله لأفعلن كذا - بالتاء المعجمة باثنتين من فوق - فقد نص الشافعي في (الإيلاء) : (لو قال: تالله لا أصبتك.. كان موليا) . قال المزني: وقال الشافعي في (القسامة) : (إنها ليست بيمين) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي يمين في القسامة وغيرها إذا نوى بها اليمين أو أطلقها؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] [يوسف: 85] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] [يوسف: 91] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] [الأنبياء: 57] ، وما حكاه المزني عن (القسامة) .. فهو تصحيف منه، وإنما قال الشافعي في (القسامة) : (إذا قال: يا الله.. لا يكون يمينا) ، وتعليله يدل على ذلك؛ لأنه قال: (لأنه دعاء) وأراد به الاستغاثة، بفتح اللام من اسم الله.
ومنهم من حملها على ظاهرها، فقال: إن كان في الإيلاء.. كان يمينا، وإن كان في القسامة.. لم يكن يمينا؛ لأن في القسامة أثبت لنفسه حقا، فلم يقنع منه إلا بصريح اليمين التي لا تحتمل، وفي الإيلاء يتعلق به حق غيره، فحمل اللفظ على ظاهره.(10/503)
[فرع: الخطأ أو اللحن في صورة القسم]
] : وإن قال: والله لأفعلن كذا، أو والله لأفعلن - بضم اسم الله أو بنصبه - فقد قال أكثر أصحابنا: إن يمينه ينعقد، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأنه لحن لا يحيل المعنى.
وقال القفال: إذا قال: والله لا فعلت كذا - بضم اسم الله - لم يكن يمينا، إلا أن ينوي به اليمين؛ لأنه ابتداء كلام، فإن نوى اليمين به.. كان يمينا؛ لأنه قد يخطئ في الإعراب، فيرفع مكان الخفض.
والمنصوص للشافعي في (القسامة) : هو الأول.
وإن قال: الله لأفعلن كذا - برفع اسم الله أو نصبه أو كسره - فإن أراد به اليمين.. فهو يمين؛ لما روي في «حديث ركانة، أنه قال: " الله - بالرفع - ما أردت إلا واحدة» .
وفي «حديث ابن مسعود لما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قتل أبا جهل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " آلله إنك قتلته؟ "، فقال: آلله إني قتلته. بنصب اسم الله» .(10/504)
وإن لم ينو به اليمين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين؛ لأن حرف القسم قد يحذف، كما يحذف حرف النداء، ولا يتغير المعنى ولا الإعراب.
والثاني: أنها ليست بيمين، وهو المشهور؛ لأن العادة لم تجر بالحلف به، ولا يحلف به إلا خواص الناس، فلم يجعل يمينا من غير نية.
[مسألة: القسم بـ لعمر الله]
] : وإن قال: لعمر الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأن معناه: بقاء الله وحياته. وقيل معناه: علم الله، وذلك صفة من صفات الذات. وإن نوى به غير اليمين، بأن نوى به حقوق الله.. لم يكن يمينا؛ لأن حقوق الله محدثة. وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين، وهو اختيار أبي علي الطبري، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد؛ لأنه قد ثبت لها عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] [الحجر: 72] ، وثبت لها عرف الاستعمال في اللغة، قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان(10/505)
والثاني: أنه ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه ليس فيها حرف القسم، وإنما يكون يمينا بتقدير خبر محذوف؛ فكأنه قال: لعمر الله ما أقسم به، فكانت مجازا، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق.
وأما الآية: فلم يرد [تعالى] : أنها يمين في حقنا، وإنما أقسم الله بها، وقد أقسم الله بأشياء كثيرة، وليست بقسم في حقنا.
[مسألة: القسم بـ وايم وأيمن]
] : وإن قال: وايم الله، أو وأيمن الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حق أسامة بن زيد: " وايم الله إنه لخليق بالإمارة» .
وإن لم يكن له نية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في اللغة.
والثاني: أنه ليس بيمين؛ لأنه لا يعرفه إلا خواص الناس.(10/506)
وقد اختلف في اشتقاقه: فقيل: هو مشتق من اليمين؛ وكأنه قال: ويمن الله. وقيل: هو مشتق من اليمين.
وإن قال: لاها الله، لأفعلن كذا، ونوى به اليمين.. كان يمينا؛ لما روي: «أن أبا بكر الصديق قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة: لاها الله، إذن يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صدق» .
وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يجر به عرف عام في الاستعمال، وإنما يستعمله بعض الناس دون بعض.
[مسألة: أقسم مع التوكيد أو النفي]
] : وإن قال: أقسمت بالله لأفعلن كذا، أو أقسم بالله لا فعلت كذا، فإن نوى به اليمين، أو أطلق.. كان يمينا؛ لأن هذا اللفظ قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع،(10/507)
قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] [الأنعام: 109] ، وقال تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 107] [المائدة: 107] .
فإن قال: لم أرد به اليمين، وإنما أردت بقولي: (أقسمت بالله) الخبر عن يمين ماضية، وبقولي: (أقسم بالله) الخبر عن يمين مستأنفة، فإن كان صادقا.. لم تلزمه كفارة بالمخالفة فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم: فإن كان قد علم أنه تقدمت منه يمين في ذلك.. قبل قوله في قوله: (أقسمت بالله) قولا واحدا؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وهو أعلم بما أراد، ولا يجيء مثله في قوله: (أقسم) ، وإن لم يعلم منه يمين بالله في الماضي على ذلك.. فهل يقبل قوله في: (أقسمت) ، وفي قوله: (أقسم) ؟
قال الشافعي هاهنا: (يقبل منه) ، وقال في " الإملاء ": (لا يقبل منه) .
وهكذا قال في (الإيلاء) : (إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، وقال: أردت به في زمان متقدم.. أنه لا يقبل) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[أحدها] : منهم من قال: لا يقبل منه، قولا واحدا على ما نص عليه في " الإملاء "؛ لأن ما يدعيه خلاف الظاهر، وحيث قال الشافعي: (يقبل) أراد: فيما بينه وبين الله.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يقبل منه؛ لما ذكرناه.
والثاني: يقبل؛ لأن قوله: (أقسمت) يصلح للماضي حقيقة، وكذلك قوله: (أقسم) يصلح للمستقبل حقيقة، فإذا أراده.. قبل منه.
و [الطريق الثالث] : منهم من حملهما على ظاهرهما:
فحيث قال في " الإملاء ": (لا يقبل قوله) أراد بذلك على ما نص عليه في (الإيلاء) ؛ لأنه يتعلق به حق الزوجة، فلم يقبل قوله فيما يخالف الظاهر.(10/508)
وحيث قال: (يقبل) أراد به في غير (الإيلاء) ؛ لأن الحق فيه مقدر فيما بينه وبين الله، فقبل قوله فيه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: أقسم، أو أحلف باله، أو أقسمت، أو حلفت بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين. وإن لم ينو به اليمين.. فليس بيمين. وإن أطلق.. ففيه وجهان.
[مسألة: قوله أشهد بالله]
مسألة: [أشهد بالله] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال: أشهد بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن لم ينو.. لم يكن يمينا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال: أشهد بالله، أو شهدت بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] [النور: 6] ، وإن نوى بالشهادة توحيد الله.. لم يكن يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في ذلك.
وإن أطلق ولم ينو شيئا.. فاختلف أصحابنا فيه:
[الأول] : منهم من قال: هو يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع في اليمين، فحمل الإطلاق عليه.
والثاني: منهم من قال: ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه لم يثبت له عرف الاستعمال، وأما الشرع: فقد ورد والمراد به اليمين، وورد والمراد به الشهادة، فلم يحمل إطلاقه على اليمين.
[فرع: أعزم بالله ونحوها ولا نية]
] : قال الشافعي: (وإن قال: أعزم بالله، ولا نية له.. لم يكن يمينا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال: أعزم بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه يحتمل اليمين بقوله: (بالله) ، وإن نوى أنه يعزم بمعونة الله.. لم يكن(10/509)
يمينا، وإن لم ينو شيئا.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يثبت له عرف في الشرع ولا في الاستعمال.
وإن قال: أقسم لأفعلن كذا، أو أقسمت لأفعلن كذا، أو أحلف، أو أشهد لأفعلن كذا، ولم يقل: بالله.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو.
وقال أبو حنيفة: (هو يمين، سواء نوى به اليمين أو لم ينو) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك: (إذا نوى به اليمين.. كان يمينا، وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد.
دليلنا: أنها يمين عريت عن اسم الله وصفته، فلم تكن يمينا، كما لو قال: أقسمت بالنبي أو بالكعبة.
وأما الخبر الذي روي: «أن رجلا ذكر رؤيا بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففسرها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال أبو بكر: أصبت يا رسول الله، أو أخطأت؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصبت بعضا، وأخطأت بعضا "، فقال أبو بكر: أقسمت عليك لتخبرني بالخطأ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم» .. فهو قسم في اللغة، لا أنه قسم في الشرع؛ بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم "، أي: لا تقسم قسما شرعيا تجب فيه الكفارة.
وإن قال رجل: أعتصم بالله، أو أستعين بالله، أو توكلت على الله لأفعلن كذا.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو؛ لأن ذلك لا يصلح لليمين.(10/510)
[مسألة: السؤال بالله أو القسم لفعل]
] : إذا قال رجل لآخر: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا، فإن أراد بذلك الشفاعة إليه بالله.. لم يكن يمينا، وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يمينا.. لم تنعقد لأحدهما يمين؛ لأن كل واحد منهما لم يعقدها يمينا لنفسه.
وإن أطلق، ولم ينو اليمين ولا غيرها.. لم ينعقد يمينا؛ لأنه لم يثبت لها عرف في الشرع ولا في الاستعمال.
وإن أراد السائل أن يعقد اليمين لنفسه بذلك.. انعقدت اليمين في حقه؛ لأنها تصلح لليمين بقوله: بالله، وإن لم يفعل المسؤول ما حلف عليه السائل.. حنث السائل، ووجبت الكفارة عليه.
وقال أحمد: (تجب الكفارة على المسؤول؛ لأن الكفارة وجبت بفعله) .
دليلنا: أن المسؤول لم يعقد اليمين، فلم تلزمه الكفارة، كما لو لم يحلف عليه.
[مسألة: الاستثناء في اليمين]
] : الاستثناء في اليمين جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] [القلم: 17 - 18] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا " إلى أن قال في الثالثة: " إن شاء الله» .
والاستثناء في اليمين ليس بواجب، وحكي عن بعض الناس: أنه قال: هو واجب؛ لأن الله تعالى ذم قوما أقسموا ولم يستثنوا.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف على نسائه شهرا ولم يستثن» .(10/511)
إذا ثبت هذا: فقال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، ففعله.. لم يحنث؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله.. لم يحنث» . ولأنه علق الفعل على مشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم، وإنما يعمل الاستثناء إذا وصله بيمينه، فإن فصله عن يمينه بغير عذر.. لم يرتفع اليمين، وإن فصله عن يمينه لضيق نفس، أو عي، أو لتذكر يمينه الذي يريد أن يحلفها، أو كان(10/512)
بلسانه فأفأة لم يمكنه وصله باليمين لذلك.. كان في حكم الموصول. هذا مذهبنا.
وقال الحسن البصري: وعطاء: إذا استثنى وهو في مجلسه.. صح.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا استثنى بعد سنة.. صح) .
وحكي عنه: أنه يصح الاستثناء أبدا. وقيل: إنه رجع عن ذلك.
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» . ولو كان الاستثناء يعمل بعد تمام اليمين والانفصال عنها.. لكفاه ذلك عن الكفارة.
ولا يصح الاستثناء حتى ينويه، وهو أن ينوي تعليق الفعل بمشيئة الله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تصح إلا بالنية، فكذلك الاستثناء، وهل من شرطه أن ينوي الاستثناء من أول اليمين، أو يصح أن ينوي الاستثناء في بعض ألفاظ اليمين؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الطلاق.
وإن حلف واستثنى، ولم ينو الاستثناء.. صح الاستثناء في الظاهر دون الباطن.
[فرع: إن شاء الله لا أفعل]
قال القاضي أبو الطيب: إذا قال: إن شاء الله والله لا أفعل كذا.. لم يحنث.
وكذلك: إذا قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق.. لم تطلق، أو: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر.. لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم الاستثناء أو يؤخره.
وكذلك: إذا قال: أنت طالق إن شاء الله عبدي حر - من غير واو العطف - لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه علقهما بمشيئة الله، وواو العطف يجوز حذفها، كما(10/513)
روي عن ابن عباس: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» من غير واو العطف. وتقول العرب: أكلت خبزا سمنا.
قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مجازا، فإنه إذا قصده.. صح الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا بالقصد.
[فرع: قوله والله لأفعلن كذا إن شاء زيد]
] : وإن قال: والله لأفعلن كذا إن شاء زيد.. فإن هذا ليس باستثناء، وإنما هو تعليق عقد اليمين بمشيئة زيد. فإن فعل ذلك الشيء قبل أن يعلم مشيئة زيد.. لم يتعلق بذلك حكم. وإن قال زيد: شئت أن تفعله.. انعقدت يمينه، فإن فعله.. بر في يمينه، وإن لم يفعله، وتعذر فعله.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: لست أشاء أن تفعله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يوجد شرط انعقاد اليمين، فإن فعله أو لم يفعله.. لم يحنث. وإن فقدت مشيئة زيد بالجنون، أو الغيبة، أو الموت.. لم تنعقد اليمين؛ لأنه لم يوجد شرط انعقادها.
وإن قال: والله لا دخلت الدار اليوم إن شاء زيد، فإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. انعقدت، فإن دخلها في اليوم.. بر في يمينه، وإن انقضى اليوم ولم يدخلها.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخل.. لم تنعقد يمينه. وإن فقدت مشيئته بالموت، أو الغيبة، أو الجنون، فانقضى اليوم ولم يدخلها.. لم يحنث؛ لأن يمينه لم تنعقد.
[فرع: أقسم على عدم الدخول إلا بمشيئة زيد]
وإن قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فقد انعقدت يمينه على دخول الدار في اليوم، إلا أن يشاء زيد أن لا يدخلها، فتنحل اليمين؛ لأن الاستثناء ضد المستثنى منه، فإن دخل الدار في يومه.. بر في يمينه، وإن قال زيد:(10/514)
قد شئت أن لا يدخلها.. انحلت اليمين، فيتخلص من الحنث في اليمين بأحد هذين.
وإن قال زيد: قد شئت أن تدخلها، أو قال: لست أشاء أن لا تدخلها.. فقد زال حكم الاستثناء، ولم يتخلص من الحنث إلا بأن يدخلها في يومه، فإن انقضى اليوم قبل أن يدخلها.. حنث في يمينه.
وإن فقدت المشيئة من زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس، أو موت، ومضى اليوم ولم يدخلها.. فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يحنث في يمينه؛ لأن الأصل أن لا مشيئة) .
وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فاليمين هاهنا على النفي، فيكون الاستثناء على الإثبات، فإن مضى اليوم ولم يدخل الدار.. بر في يمينه، سواء شاء زيد أو لم يشأ. وإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. فقد تخلص من الحنث، سواء دخلها أو لم يدخلها. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخلها.. فقد تعذر التخلص من الحنث بالاستثناء، فإن لم يدخل الدار حتى انقضى اليوم.. فقد بر في يمينه، وإن دخل الدار في يومه.. حنث. وإن تعذرت مشيئة زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لم يحنث) . وهذا مخالف للنص في الأولى. واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق وغيره: يحنث فيهما، قولا واحدا، كما نقله المزني؛ لأن الأصل عدم المشيئة، وأما ما ذكره الشافعي في " الأم ": فالظاهر أنه رجع عنه؛ لأن المزني لو وجده لاعترض به عليه، ويحتمل: أن الربيع نقلها قبل أن يتحقق رجوعه عنها.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:(10/515)
أحدهما: لا يحنث فيهما؛ لأنه يجوز أن يكون قد شاء، ويجوز أنه لم يشأ، فحصل شك في حصول الحنث، والأصل أن لا حنث.
والثاني: أنه يحنث فيهما؛ لأنه قد وجد عقد اليمين والمخالفة، ويمكن حصول المشيئة وارتفاع اليمين، ويمكن عدم المشيئة وبقاء حكم اليمين، والأصل عدم المشيئة.
وأما المزني: فقد قال عقيب نقله: وهذا خلاف قوله في باب: (جامع الأيمان) ، ويريد بذلك: إذا حلف ليضربنها مائة، فضربها بضغث فيه مائة شمراخ، وخفي عليه، هل وصل جميعها إلى بدنها، أم لا؟ أنه لا يحنث، فلم يحنثه مع الشك في فعل ما حلف عليه.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هما على اختلاف حالين:
فحيث قال: (حنث) أراد: إذا أيس من معرفة مشيئته بموته؛ لأنه أيس من معرفة مشيئته، والأصل عدمها.
وحيث قال: (لا يحنث) أراد: إذا لم ييأس من مشيئته، بأن غاب أو خرس، فيرجى أن يرجع من غيبته، أو ينطلق لسانه، فيعلم ذلك منه.
[فرع: علق يمينه على يمين صاحبه]
إذا قال رجل لآخر: يميني في يمينك.. نظرت:
فإن كان المقول له قد حلف بالله تعالى.. لم تنعقد يمين القائل، سواء نوى اليمين أو لم ينو؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية.(10/516)
وإن كان المقول له قد حلف بالطلاق، أو الظهار، أو العتاق.. نظرت في القائل:
فإن نوى ذلك.. انعقدت يمينه بذلك؛ لأن اليمين تنعقد بالكناية مع النية.
وإن كان المقول له لم يحلف قبل هذا.. لم تنعقد يمين الحالف بشيء، سواء نوى اليمين بالطلاق، أو الظهار، أو العتق، أو لم ينو؛ لأن يمينه إنما تنعقد بذلك بالصريح، أو بالكناية مع النية، وليس هاهنا لفظ صريح، ولا كناية مع نية؛ لأن المقول له لم يحلف.
وبالله التوفيق(10/517)
[باب جامع الأيمان]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا كان في دار، فحلف: لا يسكنها.. أخذ في الخروج من مكانه، فإن تخلف ساعة وهو يمكنه الخروج منها.. حنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان ساكنا في دار، فحلف: لا يسكنها، فإن أمكنه الخروج منها وأقام أي زمان كان.. حنث.
وقال مالك: (إن أقام دون اليوم والليلة.. لم يحنث) .
دليلنا: أن استدامة السكون بمنزلة ابتدائه، فإذا أمكنه الخروج ولم يخرج.. حنث، كما لو أقام يوما وليلة.
وإن خرج من الدار في الحال.. لم يحنث.
وقال زفر: يحنث وإن انتقل في الحال؛ لأنه لا بد أن يكون ساكنا بها زمانا ما.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ما لا يمكنه الاحتراز منه لا يدخل في اليمين، ولأنه تارك للسكنى بالخروج، والتارك لا يسمى ساكنا، كما لو أولج في ليلة الصيام، ونزع مع طلوع الفجر.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت اليمين في جوف الليل، فخاف من العسس إذا خرج ذلك الوقت.. فإنه لا يحنث بالمكث إلى وقت الإمكان.
وإن وقف في الدار بعد اليمين لينقل قماشه ورحله من الدار.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القفال، وبه قال أبو حنيفة -: (إنه لا يحنث) ؛ لأنه من أسباب الخروج.(10/518)
والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور -: إنه يحنث؛ لأنه أقام في الدار بعد اليمين مع تمكنه من الخروج، فحنث، كما لو أقام لا لنقل القماش.
فإن خرج من الدار عقيب اليمين، وترك رحله فيها.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث، إلا أن ينقل أهله وماله) . وبه قال أحمد.
وحكي عن مالك: أنه اعتبر نقل عياله دون ماله.
دليلنا: أنه حلف على أن لا يسكن، فإذا تحول بنفسه منها عقيب يمينه، فلم يسكن.. فوجب أن لا يحنث، كما لو حلف أن لا يسكن بلدا، فخرج منها، وترك رحله فيها.
فإن رجع إلى الدار بعد الخروج؛ لنقل القماش، أو لعيادة مريض فيها، وما أشبه ذلك.. لم يحنث؛ لأنه قد وجد منه المفارقة للدار ومزايلة السكنى، وبعوده إليها لا يسمى به ساكنا، فلم يحنث.
[مسألة: حلف بالله لا يساكن زيدا]
وإن قال: والله لا ساكنت فلانا، وهو ساكن معه في مسكن، فإن خرج أحدهما في أول حال إمكان الخروج.. لم يحنث؛ لأنه لم يساكنه، وإن أقام بعد إمكان الخروج.. حنث؛ لأن المساكنة تقع على الاستدامة كما تقع على الابتداء.
قال الشافعي: (والمساكنة: أن يكونا في بيت، أو في بيتين حجرتهما واحدة ومدخلهما واحد) .
فإن كانا في مدخلين، أو في حجرتين في درب نافذ، أو غير نافذ، متفرقتين أو متلاصقتين.. فليسا بمتساكنين، وإنما هما متجاوران.(10/519)
وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان، وكان البيتان متفرقين أو متلاصقين.. فهما غير متساكنين؛ لأن بيوت الخان كل بيت منها مسكن على الانفراد.
وإن سكن كل واحد منهما في بيت في دار صغيرة، وكل واحد منهما ينفرد بغلق.. فهما متساكنان؛ لأن الدار الواحدة مسكن واحد، ويخالف الخان وإن كان صغيرا؛ لأنه بني للمساكن.
وإن كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت كل بيت منفرد بباب وغلق.. فقد ذكر أكثر أصحابنا: أن ذلك ليس بمساكنة؛ لأنها كبيوت الخان.
وقال الشيخ الحسن الطبري في " عدته ": وفي هذا نظر؛ لأن جميع الدار تعد في العادة مسكنا واحدا، بخلاف بيوت الخان.
وإن كانت الدار كبيرة، إلا أن أحدهما في البيت، والآخر في الصفة، أو كانا في صفتين، أو كانا في بيتين ليس لأحدهما غلق دون الآخر.. فهما متساكنان.
فكذلك: إذا كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت لا أبواب عليها.. كان ذلك مساكنة؛ لأن اشتراكهما في مرافق الصحن الجامع للبيتين، وفي الباب المدخول منه إليهما، كاشتراكهما في موضع السكون.
قال الشافعي: (إلا أن يكون له نية.. فهو على ما نواه) .
وإن أراد: أنه نوى أن لا يساكنه في درب أو بلد أو بيت واحد.. كان على ما نواه؛ لأنه يحتمل ما نواه من ذلك. وفيه وجه آخر، حكاه الطبري: إذا نوى لا يساكنه في هذه البلدة.. لم يصح، كما لو نوى لا يساكنه بخراسان.(10/520)
إذا ثبت هذا: فحلف: لا يساكنه، وهما في بيتين في حجرة، قال الشافعي: (فجعل بينهما جدار، ولكل واحدة من الحجرتين باب.. فليست هذه بمساكنة) .
قال أصحابنا البغداديون: ظاهر هذا الكلام أنهما إذا أقاما في بيتهما، وجعل بينهما جدار، ولكل واحد من الحجرتين باب.. لم يحنث. وليس هذا على ظاهره، وإنما أراد بذلك: إذا انتقل أحدهما في الحال، وعاد لبناء الجدار والباب، فأما إذا أقاما مع إمكان الانتقال لبناء الجدار والباب.. حنث الحالف.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اشتغلا ببناء الجدار فيما بينهما عقيب اليمين.. فهل يحنث الحالف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن البناء يحتاج إلى مدة طويلة، ولم تجر العادة به.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه اشتغل بسبب الفرقة.
[فرع: حلف لا يفعل أمرا وهو متلبس به]
وإن حلف: لا يلبس ثوبا، وهو لابسه، أو لا يركب دابة، وهو راكبها، فإن نزع الثوب، أو نزل عن الدابة أول حال إمكانه.. لم يحنث، وإن استدام ذلك مع إمكان تركه.. حنث؛ لأن استدامة اللبس والركوب تسمى: لبسا وركوبا؛ ولهذا يقال: لبست الثوب شهرا، وركبت الدابة شهرا.
وإن قال: والله لا تزوجت، وهو متزوج، فاستدام، أو لا تطهرت، وهو متطهر، فاستدام.. لم يحنث؛ لأن استدامة ذلك لا يجري مجرى ابتدائه؛ ولهذا: لا يقال: تزوجت شهرا، وتطهرت شهرا، وإنما يقال: تزوجت من شهر، وتطهرت من شهر، فإن عقد النكاح، أو ابتدأ الطهارة.. حنث.
وإن قال: والله لا تطيبت، وهو متطيب، فاستدام.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن اسم التطيب يقع على الاستدامة، ألا ترى أنه يقال: تطيبت شهرا، كما يقال: لبست شهرا؟(10/521)
والثاني - وهو الأصح، ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه لا يحنث؛ لأن استدامة الطيب لم تجعل في الشرع بمنزلة ابتدائه، ألا ترى أن المحرم ممنوع من ابتداء التطيب، غير ممنوع من استدامته؟ ولأنه كالطهارة؛ لأنه يقال: تطيبت من شهر، كما يقال: تطهرت من شهر، ولا يقال: تطيبت شهرا.
وإن حلف: لا يدخل دارا شهرا، وهو فيها، فاستدام الكون فيها.. قال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، وحكاهما الشيخان قولين:
[أحدهما] : قال في " الأم ": (يحنث؛ لأن استدامة الكون في الدار بمنزلة ابتداء الدخول في التحريم في ملك الغير، فكان كالدخول في الحنث باليمين) .
و [الثاني] : قال في " حرملة ": (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وهذا لا يوجد في استدامة الكون فيها؛ ولهذا لا يقال: دخلت الدار شهرا، وإنما يقال: دخلتها منذ شهر.
فإن قلنا بالأول: فإن أقام بعد اليمين بعد أن أمكنه الخروج.. حنث، وإن خرج عقيب اليمين.. لم يحنث، وإن عاد لنقل المتاع.. حنث؛ لأنه قد دخلها، بخلاف ما لو حلف على السكنى؛ لأن السكنى لا توجد بمجرد الدخول.
وإن قلنا بالثاني: فاستدام الكون فيها.. لم يحنث، فإن خرج، ثم دخلها.. حنث.
[فرع: حلف لا يسافر وهو مسافر]
وإن حلف: لا يسافر، وهو في السفر، فإن وقف ولم يسافر، وأخذ في العود.. لم يحنث؛ لأنه لم يسافر، وإن سار مسافرا بعد اليمين ولو خطوة.. حنث؛ لأنه سافر.(10/522)
[فرع: حلف لا يدخل دارا فدخل الممر]
وإن حلف: لا يدخل الدار، فدخل الدهليز بجميع بدنه.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، وإن دخل ببعض بدنه، إما برأسه دون باقي بدنه، أو بإحدى رجليه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها.
وإن كان على باب الدهليز كن - وهو: الطاق - فدخله.. فهل يحنث؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه خارج الدار.
والثاني: يحنث؛ لأنه من جملة الدار؛ لأنه يكن الباب، فهو كالدهليز.
فإن حلف: لا يخرج من الدار، فأخرج بعض بدنه.. لم يحنث؛ لأنه لم يخرج بدليل: أنه لو كان معتكفا، فأخرج بعض بدنه من المسجد.. لم يخرج من الاعتكاف؛ ولهذا روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتكفا، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى عائشة لترجله» .
[مسألة: حلف لا يدخل دارا فصعد على سطحها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حلف: لا يدخلها، فرقى فوقها.. لم يحنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل دارا، فرقى فوقها حتى حصل على سطحها ولم ينزل إليها، فإن كان السطح غير محجر.. لم يحنث.(10/523)
وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن حكم السطح حكم الداخل؛ بدليل: أن الاعتكاف يصح في سطح المسجد كما يصح في داخله، ولأنه لو قال: والله لا خرجت من داري، فصعد السطح.. لم يحنث) .
ودليلنا: أن السطح حاجز يقي الدار من الحر والبرد، فلم يصر بحصوله فيه داخلا في الدار، كما لو وقف على الحائط.
وما ذكروه من سطح المسجد.. فلا يلزم؛ لأن الشرع جعل سطحه بمنزلة داخله في الحكم، دون التسمية. ألا ترى أن الرحبة حكمها حكم المسجد في الاعتكاف، ومنع الجنب منها، وجواز الصلاة فيها بصلاة الإمام، وإن لم تكن في حكم المسجد بالتسمية، ولو حلف لا يدخل المسجد، فدخل الرحبة.. لم يحنث؟
وما ذكروه فيمن حلف: لا يخرج من داره، فصعد سطحها.. لا يسلم، بل يحنث؛ لأن صعوده خروج من الدار.
وإن كان السطح محجرا، فحصل فيه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث، وهو ظاهر النص؛ لما ذكرناه فيه إذا كانت غير محجرة.
و [الثاني] : منهم من قال: يحنث؛ لأنه يحيط به سور الدار، فهو كما لو حصل داخل الدار.
ومن قال بهذا: قال: إنما قال الشافعي: (لا يحنث) على عادة أهل الحجاز؛ فإن سطوحهم غير محجرة.
[فرع: يحنث بدخول الدار بأية وسيلة شاء]
وإن حلف: لا يدخل الدار، وفيها شجرة ولها أغصان منتشرة إلى خارج الدار، فتعلق بغصن منها، فصعد عليه.. نظرت:
فإن أحاط به سور الدار.. حنث، كما لو دخل من الباب.(10/524)
وإن أحاط به السطح لا غير، فإن كان غير محجر.. لم يحنث، وإن كان محجرا.. فعلى الوجهين.
وإن كان في الدار نهر، فطرح نفسه فيه من الخارج، وسبح حتى دخل الدار، أو دخل في سفينة، ثم سير السفينة حتى دخلت الدار.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، فهو كما لو دخلها من بابها.
[مسألة: حلف على دار لزيد لا يدخلها فباعها ثم دخلها]
وإن حلف: لا يسكن دار زيد هذه، أو لا يدخلها، فباعها زيد، ودخلها.. حنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها وهي ملك له، فلا يحنث بدخولها بعد زوال ملكه عنها.
وهكذا: لو حلف: لا يكلم عبد زيد هذا، فباعه زيد، ثم كلمه، أو لا يكلم زوجة فلان هذه، فطلقها زيد، ثم كلمها الحالف.. حنث، وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد، وزفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يحنث في الدار والعبد، ويحنث في الزوجة؛ لأن الدار لا توالى ولا تعادى، وإنما يكون الامتناع لأجل مالكها، فتعلقت اليمين بذلك) .
دليلنا: أنه اجتمع في اليمين التعيين والإضافة، فكان الحكم للتعيين، كما قلنا في الزوجة. ولأن العبد يوالي ويعادي، فهو كالزوجة.
وإن حلف: لا يدخل دار زيد، ولم يقل: هذه، فباع زيد داره، ودخلها.. لم يحنث.
وكذلك: إذا حلف: لا يكلم عبد زيد ولا زوجته، فباع زيد عبده، وطلق زوجته، وكلمهما.. لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالإضافة خاصة، وقد زال ملكه عنه.(10/525)
وإن قال: والله لا كلمت زيدا هذا، فغير زيد اسمه، وصار يعرف بما غيره إليه، فكلمه بعد ذلك.. حنث؛ لأن الاعتبار بالنفس دون الاسم.
[فرع: أقسم لا يدخل دار زيد فدخل دارا يملكها معه عمرو]
وإن حلف لا يدخل دار زيد، فدخل دارا يملكها زيد وعمرو.. لم يحنث؛ لأن اليمين معقودة على دار يملكها زيد، وزيد لا يملكها وإنما يملك بعضها.
وإن قال: والله لا دخلت بيت زيد، فدخل بيتا يسكنه زيد بإجارة أو إعارة ولا يملكه؛ فإن قال: نويت البيت الذي يسكنه.. حنث. وإن قال: لا نية لي.. لم يحنث.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها، كما تضاف إلى مالكها؛ ولهذا: قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وأراد بيوت أزواجهن لسكناهن بهن) .
ودليلنا: أن الإضافة إلى من يملك تقتضي إضافة الملك؛ ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد.. اقتضى ذلك ملكها. فلو قال: أردت به ملك سكناها.. لم يقبل، فإذا اقتضت الإضافة الملك.. انصرف الإطلاق إليه.
وأما الآية: فإنما أضافت بيوت أزواجهن إليهن مجازا لا حقيقة؛ بدليل: أنه يصح نفي الدار عنه، بأن يقال: ما هذه الدار لزيد، وإنما يسكنها. والأيمان إنما تتعلق بالحقائق دون المجاز.
وإن قال: والله لا دخلت مسكن زيد، فدخل دارا يسكنها زيد بملك، أو إجارة، أو إعارة.. حنث؛ لأن اسم مسكن زيد يقع على ذلك، إلا أن ينوي مسكنه الذي يملكه، فلا يحنث إلا بدخوله دارا يملكها.
قال في " الأم ": (ولو حلف: لا يسكن دارا لزيد، فسكن دارا لزيد فيها شركة لزيد.. لم يحنث، سواء كان له أقلها أو أكثرها؛ لأنها لا تضاف إليه خاصة) .(10/526)
[مسألة: حلف لا يدخل دارا فدخل عرصتها]
وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، فانهدمت وزال بناؤها، فدخلها.. لم يحنث.
وكذلك إذا حلف لا يدخل هذا البيت، ثم انهدم وصار عرصة، فدخل عرصته.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف لا يدخل هذه الدار.. حنث بدخولها بعد هدمها) . ووافقنا في الدار المطلقة وفي البيت؛ أنه لا يحنث بدخول عرصتها بعد هدمها.
وقال أحمد في الدار والبيت: (إذا عينها.. حنث بدخولهما بعد هدمهما) .
دليلنا: أن كل ما لا يتناوله الاسم في إطلاق اليمين.. وجب أن يخرج منها مع التعيين، كما لو حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فطحنت، أو لا يدخل هذا البيت، فخرب.
إذا ثبت هذا: فإن أعيدت تلك الدار بغير آلتها، فدخلها.. لم يحنث؛ لأنها غير تلك الدار، وإن أعيدت بتلك الآلة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار.
والثاني: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت.
[مسألة: حلف لا يدخل من باب فنقل من مكانه]
قال الشافعي: (ولو حلف: لا يدخل من باب هذه الدار، وهو في موضع، فحول.. لم يحنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها، فيحنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل هذه الدار، فدخلها من بابها، أو بسور من سطحها، أو من كوة، أو من نقب، فدخلها.. حنث؛ لأنه قد دخلها.(10/527)
وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من كوة، أو من السطح.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب، قال الشافعي: (إلا أن ينوي أنه لا يدخلها، فيحنث بأي دخول كان) .
وإن فُتح لها ممر من موضع آخر، ولم ينصب عليه ذلك المصراع الذي على الباب الأول، فدخل منه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب الذي حلف عليه.
وإن نقل الباب - وهو المصراع الذي كان على الأول - إلى الممر الثاني، ثم دخلها منه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن دخلها من الممر الأول الذي نصب عليه الباب.. لم يحنث، وإن دخلها من الممر الثاني الذي نصب عليه المصراع الأول الذي كان على الممر الأول وقت اليمين.. حنث؛ لأن الباب هو المصراع.
والثاني: منهم من قال: إن دخلها من الممر الأول.. حنث، سواء نقل عنه المصراع أو لم ينقل، وإن دخلها من ممر آخر للدار.. لم يحنث، وهو الأصح؛ لأن الباب: هو الموضع الذي يدخل منه ويخرج، وهو الفتحة فيما دون المصراع المنصوب؛ لأن المصراع المنصوب يراد للمنع من الدخول، ولا يراد للدخول والخروج، وإنما تراد لهما الفتحة، إلا أن ينوي بقوله: (الباب) هو المصراع المنصوب.. فيحنث إذا دخلها من حيث كان منصوبا فيه؛ لأن قوله يحتمل ذلك.
وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من بابها، أو لا دخلت من باب هذه الدار، ولها باب، فسد وفتح لها باب آخر، فدخل منه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من تعلق بظاهر كلام الشافعي، وأنه لا يحنث إلا أن ينوي بأنه لا يدخلها جملة فيحنث؛ لأن الإضافة اقتضت تعريف الباب الموجود وقت اليمين، فصار كما لو قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب.(10/528)
ومنهم من قال: يحنث، وهو الأظهر؛ لأن الثاني يقع عليه اسم الباب، فتعلقت به اليمين وإن لم يكن موجودا حال عقد اليمين، كما لو قال: لا دخلت دار زيد، وليس لزيد دارٌ، فملك زيد بعد اليمين دارا، فدخلها.. فإنه يحنث. ومن قال بهذا.. تأول كلام الشافعي على: أنه عين الباب.
[فرع: حلفه لا يدخل دارا يقتضي التأبيد]
وإن حلف: لا يدخل هذه الدار.. اقتضى إطلاقه التأبيد.
فإن قال: نويت يوما أو شهرا، فإن كان يمينه بالطلاق، أو العتاق، أو بالله في الإيلاء.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه تعلق به حق لآدمي، وما يدعيه مخالف للظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن كانت يمينه بالله في غير الإيلاء.. قبل قوله في الظاهر والباطن؛ لأنه أمين فيما يجب عليه من حقوق الله عز وجل.
[مسألة: حلف لا يسكن بيتا وهو قروي أو بدوي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يسكن بيتا وهو بدوي أو قروي، ولا نية له.. فأي بيت من شعر، أو دم، أو خيمة، أو بيت حجارة، أو مدر، أو ما وقع عليه اسم البيت سكنه.. حنث) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل بيتا، فدخل بيتا مبنيا من حجارة أو لبن أو آجر أو خشب أو قصب.. حنث بذلك، قرويا كان أو بدويا؛ لأنه يقع عليه اسم البيت شرعا ولغة.
وإن دخل في دهليز دار، أو صفتها، أو صحنها.. فقد قال بعض أصحابنا:(10/529)
لا يحنث؛ لأنه لا يسمى بيتا ولهذا يقال: لم يدخل البيت، وإنما وقف في الدهليز، والصفة، والصحن.
وقال صاحب " الفروع ": لا يحنث إلا أن يعد جميع الدار مبنيا، ولا يفرد للبيتوتة موضعا، فيحنث إذا حصل في دهليزها وصفتها.
وقال القاضي أبو الطيب: فيه نظر. وأراد: أنه يحنث، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جميع الدار مهيأ للإيواء.
وإن دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام، أو بيعة، أو كنيسة.. لم يحنث.
وقال أحمد: (إذا دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام.. حنث؛ لأن المسجد يسمى بيتا. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] [النور: 36] . وأراد بها: المساجد) .
ودليلنا: أن البيت اسم لما بني للسكنى في العرف؛ ولهذا يقال: بيت فلان، ويراد: مسكنه، والمسجد وبيت الحمام لم يبنيا لذلك، فلم ينصرف الإطلاق إليه.
وأما الآية: فالجواب: أن المساجد تسمى بيوتا مجازا لا حقيقة، واليمين إنما تنصرف إلى الحقيقة دون المجاز.
وإن دخل بيتا من شعر، أو صوف، أو أدم، فإن كان الحالف بدويا.. حنث؛ لأنه بيت في حقه، وإن كان الحالف قرويا لا يسكن هذه البيوت.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: لا يحنث. وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأيمان محمولة على العرف؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل الرؤوس.. لم يدخل فيه إلا ما يعتاد أكله من الرؤوس منفردا، وهذه البيوت غير معتادة في حق أهل الأمصار والقرى، فلم يدخل تحت أيمانهم.(10/530)
وقال أكثر أصحابنا: يحنث. وهو المنصوص، واختلفوا في تعليله.
فقال أبو إسحاق: إنما يحنث؛ لأنها تسمى في البادية بيوتا، وإذا ثبت للشيء عرف اسم في موضع.. ثبت له في جميع المواضع، ألا ترى أنه لو حلف العراقي: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز.. حنث وإن كان ذلك غير متعارف في حقه، وإنما هو متعارف في حق الطبري؟
ومن أصحابنا من قال: إنما حنث؛ لأن هذه البيوت المتخذة من هذه الأشياء تسمى: بيوتا في الشرع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] [النحل: 80] .
وقال أبو الطيب: التعليل الصحيح: أن هذه تسمى: بيوتا حقيقة، وتسميتها: خيمة ومضربا إنما هو اسم للنوع، واسم البيت حقيقة يشمل الكل، واليمين تحمل على الحقائق.
والتعليل الأول لا يصح؛ لأنه يلزمه أن يقول: إذا حلف: لا يركب دابة.. أن يحنث بركوب الحمار؛ لأنه يسمى دابة بمصر.
والتعليل الثاني لا يستقيم؛ لأن المساجد سماها الله تعالى بيوتا بقوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] [النور: 36] ، ومع هذا فلا يحنث بدخولها.
[فرع: علق طلاق زوجته على دخول دار زيد بغير إذنه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (إذا قال: إن دخلت دار زيد إلا بإذنه.. فامرأتي طالق، فإن أذن له زيد بالدخول.. ارتفعت اليمين، دخلها أو لم يدخلها، فإن دخلها.. بر في يمينه، فإن دخلها بعد ذلك بغير إذنه.. لم يحنث، فإن منعه زيد من الدخول بعد الإذن وقبل الدخول.. لم يقدح) .
قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن رجوعه عن الإذن يبطله، ويكون داخلا بغير إذنه، ولهذا يأثم فيه، ومجرد الإذن لا يحل اليمين؛ لأن المحلوف عليه الدخول دون الإذن.(10/531)
[فرع: حلف لا يركب دابة عبد فخصه سيده بدابة]
] : وإن حلف: لا يركب دابة هذا العبد، فركب دابة جعلها سيده لركوب العبد.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) .
وهكذا: لو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة لزيد جعلها لركوب عبده.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أن العبد لا يملكها، والإضافة تقتضي الملك في حق من يملك، كما لو ركب دابة استعارها المحلوف عليه.
فإن ملكه سيده دابة، فركبها الحالف، فإن قلنا: يملك العبد بالتمليك.. حنث الحالف، وإن قلنا: لا يملك.. لم يحنث.
وإن حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة مكاتبه.. لم يحنث؛ لأن السيد لا يملكها، ولا ينفذ تصرفه فيها.
وإن حلف: لا يركب دابة للمكاتب.. قال ابن الصباغ: فأكثر أصحابنا قالوا: إذا ركب دابة المكاتب.. حنث؛ لأن المكاتب يملك التصرف فيها دون سيده.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنا إذا قلنا: إن العبد لا يملك.. يحتمل أن يقال: لا يحنث؛ لأن المكاتب لا يملكها.
قال ابن الصباغ: والأول أظهر؛ لأن الدابة إذا لم تضف إلى سيد المكاتب.. لا بد أن تكون مضافة إلى المكاتب.
[مسألة: حلف لا يأكل قمحا فأكله طحينا]
وإن حلف: لا يأكل خضرة الحنطة، أو لا يأكل منها، فطحنها، فأكلها.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.(10/532)
وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أبي العباس؛ لأن الحنطة تؤكل هكذا، فهو كما لو حلف لا يأكل هذا الكبش، فذبحه فأكله، أو كما لو حلف لا يأكل هذا اللحم فشواه وأكله. ودليلنا: أن اسم الحنطة زال بالطحن.. فزال تعلق اليمين بها، كما لو حلف: لا أكلت من هذه الحنطة، فزرعها وأكل من حشيشها.
وكذلك إذا حلف: لا أكلت هذه البيضة، فصارت فرخا فأكله، ويخالف الكبش؛ فإنه لا يمكن أكله حيا، ولا يشبه اللحم أيضا؛ لأن اسم اللحم وصورته لم تزل.
وإن حلف: لا أكلت هذا الدقيق، فعجنه وخبزه وأكله، أو لا أكلت هذا العجين فخبزه وأكله.. لم يحنث..
وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو العباس: يحنث.
والأول أصح؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
[فرع: حلف لا يكلم الصبي فكبر]
وإن قال: والله لا كلمت هذا الصبي، فصار شابا، فكلمه، أو لا أكلم هذا الشاب، فصار شيخا، فكلمه، أو لا آكل من لحم هذا الجدي، فصار تيسا، وأكل من لحمه، أو لا آكل من هذه البسرة فصارت رطبة فأكلها، أو لا آكل هذه الرطبة فصارت تمرة فأكلها.. فهل يحنث في جميع ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأن الاسم قد زال، فأشبه إذا قال: لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها.
والثاني: يحنث؛ لأن صورتها لم تزل، وإنما تغيرت الصفة، فأشبه إذا حلف: لا يأكل اللحم، فشواه وأكله. هذا مذهبنا.(10/533)
وقال أبو حنيفة في الحيوان: (يحنث) ، وفي الباقي: (لا يحنث) ؛ لأن قصده أن لا يكلم الصبي والشاب للاستخفاف به، وذلك لا يزول بالكبر. وكذلك معناه: لا يأكل لحم هذا الجدي وذلك المعنى لم يزل. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الاعتبار بالاسم دون القصد؛ ولهذا: لو حلف: لا أكلت هذا اللحم، فأكله نيئا.. حنث وإن كان قصده الامتناع من أكله مطبوخا.
وإن قال: والله لا كلمت صبيا، فكلم شابا، أو لا كلمت شابا، فكلم شيخا، أو لا أكلت لحم جدي، فأكل لحم تيس، أو لا أكلت بسرا، فأكل رطبا، أو لا أكلت رطبا، فأكل تمرا.. لم يحنث، وجها واحدا؛ لأن اليمين هاهنا تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة، فجرى مجرى ما لو حلف: لا يأكل تمرا بعينه، فأكل غيره.
[فرع: حلف لا يشرب عصيرا فصار خلا]
وإن حلف: لا يشرب هذا العصير، فصار خلا، فشربه، أو لا يشرب هذا الخمر، فصار خلا، فشربه.. لم يحنث، كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا.
وإن حلف: لا يلبس هذا الغزل، فنسج منه ثوب، فلبسه.. حنث؛ لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجا، فصار كما لو حلف: لا يأكل هذا الكبش، فذبحه، وأكله.. فإنه يحنث.
[مسألة: حلف لا يشرب سويقا فمزجه بماء ثم شربه]
وإن حلف: لا يشرب سويقا، فطرح فيه ماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. حنث؛ لأنه شربه، وإن استفه قبل أن يطرح فيه الماء، أو طرح فيه الماء، وخلطه(10/534)
فيه، وأكله بالملعقة أو بأصبعه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الشرب، وهذا ليس بشرب.
وإن حلف: لا يأكل السويق، فطرح فيه الماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الأكل، ولم يأكل.
وإن حلف: لا يأكل الخبز، فمضغه وازدرده.. حنث؛ لأنه أكله، وإن دقه، وخلطه في الماء، وشربه، أو ابتلعه من غير مضغ.. لم يحنث؛ لأن الأفعال أجناس كالأعيان، ثم لو حلف على جنس من الأعيان.. لم يحنث بجنس آخر، فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال.. لم يحنث بجنس آخر.
وإن حلف لا يأكل هذا الطعام، أو لا يشربه، فذاقه ولم ينزل إلى حلقه.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب.
وإن حلف: لا يذوقه، فتطعم منه بفيه، ورمى به، ولم يبتلعه.. حنث.
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث؛ لأنه لا يحصل بذلك الذوق؛ ولهذا لا يفطر به.
والأول أصح؛ لأن الذوق معرفة طعمه، وقد حصل ذلك.
وإن حلف: لا يذوقه، فأكله، أو شربه.. حنث؛ لأنه قد ذاق، وزاد.
وإن حلف: لا يأكل، أو لا يشرب، أو لا يذوق، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره في حلقه حتى وصل إلى جوفه.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل، ولم يشرب، ولم يذق.
وإن قال: والله لا طمعت هذا الطعام، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره.. حنث؛ لأن معناه: لا جعلته لي طعاما، وقد جعله طعاما له.(10/535)
[مسألة: حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا]
وإن حلف لا يأكل اللحم.. حنث بأكل كل ما يؤكل لحمه من الدواب والصيد؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم.
وإن أكل لحم السمك.. لم يحنث.
وقال مالك، وأبو يوسف: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن الله تعالى سماه لحما، فقال: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] [النحل: 14] .
ودليلنا: أنه لا ينصرف إليه الإطلاق في اسم اللحم؛ ولهذا يصح أن ينفى عنه اسم اللحم، فيقول: ما أكلت اللحم، وإنما أكلت السمك.
وإنما سماه الله تعالى لحما مجازا لا حقيقة، والأيمان إنما تقع على الحقائق؛ ولهذا لو حلف لا أقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله قد سماها سقفا فقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] .
وإن أكل من لحم ما لا يؤكل، كالخنزير، والحمار.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأن يمينه ينصرف إلى ما يحل أكله في الشرع؛ ولهذا لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا.. لم يحنث.
والثاني: يحنث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم وإن لم يحل أكله، فيحنث به، كما لو أكل لحما مغصوبا.
وإن حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحم الجوف، أو لا يأكل الشحم، فأكل اللحم.. لم يحنث؛ لأنهما مختلفان في الاسم والصفة.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل الكبد والطحال.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه لحم حقيقة، ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم.(10/536)
والمذهب الأول؛ لأن اسم اللحم لا يتناولهما، وقد سماهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دمين.
ولو قال لوكيله: اشتر لي لحما، فاشترى له كبدا أو طحالا.. لم يقع للموكل.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل المخ أو الكرش.. لم يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل القلب أو الأكارع.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] ، والصيدلاني: يحنث.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل اللحم الأبيض الذي يكون على ظهر الحيوان وجنبيه.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يحنث؛ لأنه لحم يكون عند هزال الحيوان أحمر، وإنما يبيض عندما يسمن الحيوان.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك.. لم يحنث؛ لأنه ليس بشحم، واختلف قول القفال فيه: فقال مرة: هو لحم. وقال مرة أخرى: هو شحم. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو زيد: إن كان الحالف عربيا.. فهو شحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه شحما، وإن كان أعجميا.. فهو لحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه لحما.
والمشهور قول الشيخ أبي حامد.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل شحم العين.. لم يحنث؛ لأنه ليس بلحم.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك الشحم.. ففيه وجهان:(10/537)
أحدهما: يحنث؛ لدخوله في اسم الشحم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الشحم.
وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل لحم الخد، أو الرأس، أو اللسان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه لحم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم.
وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل لحم الرأس، أو اللسان، أو أكل الكبد، أو الطحال، أو القلب، أو الكرش، أو المخ.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بشحم.
واختلف أصحابنا في الألية:
فمنهم من قال: هي لحم، فيحنث بأكلها في اليمين على اللحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على الشحم؛ لأنها نابتة في اللحم، وتشبه اللحم في الصلابة.
ومنهم من قال: هي شحم، فيحنث بأكلها في اليمين على الشحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم؛ لأنها تذوب كما يذوب الشحم.
ومنهم من قال: ليست بلحم ولا بشحم، فلا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم ولا في اليمين على الشحم؛ لأنها مخالفة لهما في الاسم والصفة، فهي كالكبد والطحال.
[مسألة: حلف لا يأكل الرؤوس]
وإن حلف: لا يأكل الرؤوس.. حنث بأكل رؤوس الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم.
وقال أبو حنيفة: (لا تدخل رؤوس الإبل في يمينه) . في إحدى الروايتين عنه.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا تتعلق يمينه إلا برؤوس الغنم خاصة.
دليلنا: أن رؤوس الإبل والبقر والغنم تفرد عن أجسادها، وتؤكل منفردة عنها، فاستوت في تعليق اليمين بها.(10/538)
وإن كان في بلد يكثر فيه السمك والصيد، وتباع رؤوسه منفردة عنه، وتؤكل.. حنث بأكلها من كان من أهل ذلك البلد؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حقهم، وهل يحنث بأكلها غير أهل ذلك البلد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث بأكلها؛ لأنهم لا يعتادون ذلك ولا يعرفونه، فلم تنصرف أيمانهم إليها.
والثاني: يحنث بأكلها في جميع البلاد؛ لأنه إذا ثبت لها عرف في بلد.. ثبت لها ذلك العرف في جميع البلاد، ألا ترى أنه لو حلف: لا يأكل اللحم.. حنث بأكل لحم الفرس وإن كان لا يؤكل في جميع البلاد، ولو حلف: لا يأكل الخبز.. حنث بأكل خبز الأرز وإن كان لا يعتاد أكله إلا بطبرستان؟
[فرع: حلف لا يأكل البيض]
وإن حلف لا يأكل البيض.. حنث بأكل بيض كل ما يزايل بائضه في حال الحياة، كبيض الدجاج، والإوز، والعصافير، والنعام، وغير ذلك.
وحكى المحاملي وجها آخر: أنه لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج. وليس بشيء.
ولا يحنث بأكل بيض ما لا يزايل بائضه في حياته ولا يؤكل منفردا، كبيض الحيتان، والجراد؛ لأن إطلاق اسم البيض لا ينصرف إليها.
[مسألة: حلف لا يأكل لبنا فأكل لبن بقر]
] : وإن حلف: لا يأكل لبنا.. حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد؛ لأن اسم اللبن يقع على الجميع، ويدخل فيه الحليب والرائب.
وأما الشيراز: فيدخل في اسم اللبن، في قول أكثر أصحابنا.(10/539)
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من توقف فيه؛ لأن له اسما يختص به.
وإن أكل الجبن أو اللبأ أو المصل أو الأقط أو السمن.. لم يحنث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة، وأبو علي الطبري: يحنث.
والأول أصح؛ لأنه لا يسمى لبنا، ولأن ذلك ينتقض بمن حلف: لا يأكل السمسم، فأكل الشيرج.
وإن أكل الزبد، فإن كان اللبن فيه ظاهرا.. حنث، وإن كان غير ظاهر.. لم يحنث، على قول أكثر أصحابنا، ويحنث، على قول أبي علي.
[مسألة: حلف لا يأكل سمنا فأكله مع السويق]
وإن حلف: لا يأكل سمنا.. نظرت في السمن، فإن كان جامدا، فأكله منفردا.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليه، وإن أكله بالخبز، أو السويق، أو العصيدة.. حنث.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يحنث؛ لأنه لم يأكل السمن منفردا، وإنما أكله مع غيره.
والمذهب الأول؛ لأنه أكل المحلوف عليه.
وإن كان مع غيره.. حنث، كما لو حلف: لا يكلم زيدا، فكلم زيدا وعمرا.
وإن كان السمن ذائبا فشربه أو حساه بيده.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكله، وإنما شربه.
وإن أكله مع الخبز أو غيره.. حنث على المذهب؛ لأنه هكذا يؤكل، وعلى قول الإصطخري: لا يحنث.(10/540)
وإن أكل عصيدة متخذة بسمن.. فقال الشافعي: (حنث) .
وقال: (إذا حلف: لا يأكل خلا، فأكل سكباجا بخل.. لم يحنث) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما أراد بالخل إذا لم يكن ظاهرا، وأراد بالسمن إذا كان ظاهرا.
قال ابن الصباغ: ويتصور ذلك: إذا أكل من لحم السكباج دون مرقته. وهذا على المذهب أيضا، فأما على قول الإصطخري: فإنه لا يحنث بحال.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا حلف: لا يأكل الخل، فاتخذ منه طبيخا؛ فإن كان طعمه أو لونه ظاهرا.. حنث، وإلا.. فلا.
وإن حلف: لا يأكل زبدا أو سمنا، فأكل لبنا.. لم يحنث؛ لأن كل واحد منهما غير الآخر في الاسم والصورة، فهو كما لو حلف: لا يأكل دبسا، فأكل تمرا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه إذا حلف: لا يأكل الزبد، فأكل اللبن.. حنث. وليس بشيء.
[مسألة: حلف لا يأكل أدما فأكل جبنا]
وإن حلف: لا يأكل أدما.. حنث بأكل كل ما يؤتدم به في العادة، سواء كان مما يصطبغ به أو لا يصطبغ، كاللحم، والجبن، والبيض، والفنيد، والسكر،(10/541)
واللبن، والسمن، والزيت، والسيرج، والخل.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بأكل اللحم) .
دليلنا: ما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم» . ولأنه يؤتدم به في العادة، فهو كالخل.
ويحنث بأكل الملح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «سيد إدامكم الملح» .
وهل يحنث بأكل التمر؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به في العادة، وإنما يؤكل قوتا أو حلاوة.
والثاني: يحنث به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى سائلا خبزا وتمرا، وقال: " هذا إدام هذا» .(10/542)
[مسألة: حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا]
وإن قال: والله لا أكلت فاكهة، فأكل التفاح، أو السفرجل، أو الأترج.. حنث؛ لأنها فاكهة.
وإن أكل الرطب، أو العنب، أو الرمان.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] [الرحمن: 68] . فلو كانا فاكهة.. لما عطفهما على الفاكهة.
دليلنا: أنهما يسميان فاكهة؛ بدليل: أنه يسمى بائعهما فاكهيا، فهما كالتفاح والسفرجل.
وأما الآية: فإنما أفردهما تخصيصا لهما وتمييزا؛ لأنهما أغلى الفاكهة، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . فعطف جبريل وميكال على الملائكة وإن كانا من أخص الملائكة؛ تخصيصا لهما وتمييزا.
وإن أكل النبق، أو التوت.. حنث؛ لأنهما ثمار أشجار، فهي كالتفاح والسفرجل.
قال أبو العباس: وإن أكل البطيخ.. حنث؛ لأنه يطبخ ويحلو.
وإن أكل القثاء والخيار والخربزة.. لم يحنث؛ لأنها ليست من الفواكه، وإنما هي من الخضراوات.
[فرع: حلف لا يأكل بسرا فأكل تمرا]
وإن حلف: لا يأكل بسرا، فأكل منصفا.. نظرت:
فإن أكل موضع الرطب منه لا غير.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل بسرا.(10/543)
وإن أكل موضع البسر منه لا غير.. حنث.
وإن أكل الجميع.. حنث، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري: لا يحنث.
دليلنا: أنه أكل المحلوف عليه وغيره، فهو كما لو كانا منفردين.
وهكذا لو حلف لا يأكل الرطب، فأكل موضع البسر من المنصف.. لم يحنث، وإن أكل موضع الرطب منه.. حنث، وإن أكل الجميع.. حنث على المذهب، ولا يحنث على قول أبي سعيد الإصطخري، وقول أبي علي الطبري.
وإن حلف: لا يأكل رطبة أو بسرة، فأكل منصفا.. لم يحنث؛ لأنها ليست برطبة ولا بسرة.
وإن حلف: لا يأكل هذه التمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل الجميع.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليها، وإن أكل جميعه إلا تمرة، فإن تيقن أنها غير التي حلف عليها.. حنث؛ لأنه يتيقن أنه فعل المحلوف عليه، وإن تيقن أن التي حلف عليها هي التي بقيت، أو شك: هل هي المحلوف عليها، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لأنه إذا تيقن أنها بقيت.. فقد تيقن أنه لم يحنث، وإذا شك.. لم يحنث؛ لأنه يشك في وجوب الكفارة عليه، والأصل عدم وجوبها.
وهكذا إن هلك من التمر تمرة وأكل الباقي، فإن تيقن أن التي حلف عليها في جملة ما أكله.. حنث، وإن لم يتيقن أنها التالفة، أو شك: هل هي التالفة، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لما ذكرناه.(10/544)
[فرع: حلف لا يأكل قوتا فأكل ذرة]
وإن حلف: لا يأكل قوتا، فأكل الحنطة، أو الذرة، أو الشعير، أو الدخن.. حنث.
وإن أكل التمر، أو الزبيب، أو اللحم، وكان ممن يقتات ذلك.. حنث، وهل يحنث به غيره؟ فيه وجهان، كما قلنا في رؤوس الصيد.
وإن حلف: لا يأكل طعاما.. حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة؛ لأن اسم الطعام يقع على الجميع، وهل يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام.
والثاني: يحنث؛ لأنه يطعم في حال الاختيار.
[مسألة: حلف لا يشرب الماء أو لا يشرب ماء]
مسألة: [حلف: لا يشرب الماء أو ماء] :
وإن قال: والله لا شربت الماء، أو لا شربت ماء، فأي ماء شربه من ماء مطر، أو ثلج، أو برد أذيب، أو ماء بئر، أو ماء نهر.. فإنه يحنث، سواء كان عذبا أو ملحا؛ لأنه يقع عليه اسم الماء. وإن شرب من ماء البحر.. قال الشيخ أبو إسحاق: احتمل عندي وجهين:(10/545)
أحدهما: يحنث؛ لأنه يدخل في إطلاق اسم الماء؛ ولهذا تجوز الطهارة به.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يشرب.
وإن قال: والله لا شربت ماء فراتا، فإن شرب ماء عذبا من أي نهر كان، أو بئر.. حنث؛ لأنه وصفه بكونه فراتا، وذلك يقتضي الماء العذب، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] [المرسلات: 27] . أي: عذبا. وإن شرب ماء مالحا.. لم يحنث؛ لأنه ليس بفرات.
وإن قال: والله لا شربت من الفرات، فإن الفرات إذا عرف بالألف واللام.. اقتضى ذلك النهر الذي بين الشام والعراق، فإن شرب من غيره من الأنهار.. لم يحنث، وإن شرب من ذلك النهر.. حنث، سواء كرع فيه، أو أخذه بيده، أو في إناء وشربه، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إنما يحنث إذا كرع فيه كرعا، فأما إذا أخذه بيده أو في إناء.. لم يحنث، كما لو حلف: لا يشرب من هذا الكوز، فصب الماء الذي فيه في غيره، وشرب منه.. لم يحنث.
دليلنا: أن معنى ذلك: لا أشرب من ماء هذا النهر؛ لأن الشرب من ماء النهر في العرف لا من النهر؛ لأن ذلك اسم للأرض المحفورة، ولا يمكن الشرب منها، فحملت اليمين عليه، كما لو قال: لا شربت من هذه البئر، ويخالف الكوز؛ لأن الشرب يكون منه في العرف.
وإن شرب من نهر يأخذ من الفرات.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا،(10/546)
فيحتمل أن يحنث، كما قلنا فيما أخذه من الفرات بإناء وشربه ويحتمل أن لا يحنث.
والفرق بينهما: أن ما يأخذه من الفرات بإناء ويشرب.. يقال: شرب من الفرات، وما يأخذه من النهر الآخر.. يكون مضافا إليه، وتزول إضافته عن الفرات.
وأما إذا قال: والله لا شربت من ماء الفرات.. فلا يزول عنه ذلك الاسم وإن حصل في غيره.
والذي يقتضي المذهب: أنه إذا حلف: لا يشرب من ماء الكوز، ثم صبه في غيره من الآنية وشربه.. أنه يحنث؛ لأن خروجه منه لا يبطل كونه من ماء الكوز، كما قلنا في ماء الفرات.
[مسألة: حلف لا يشم ريحانا فشم ريحانا فارسيا]
وإن حلف: لا يشم الريحان.. لم يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو الصيمران، ولا يحنث بشم النرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن إطلاق اسم الريحان لا يقع على ذلك.
وإن حلف: لا يشم المشموم.. حنث بشم الريحان الفارسي، والنرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن الجميع مشموم. قال الشيخ أبو إسحاق: والزعفران من المشموم.
وإن شم الكافور، والمسك، والعود، والصندل.. لم يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم.
وإن حلف: لا يشم الورد، والبنفسج، فشم وردهما وهو أخضر.. حنث، وإن شم دهنهما.. لم يحنث.(10/547)
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يحنث) .
دليلنا: أن ذلك اسم لوردهما، فلا يحنث بشم غيره ودهنهما، وإنما يسمى وردا وبنفسجا مجازا.
وإن جف وردهما وشمه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يحنث، كما لو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل التمر.
والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج.
[مسألة: حلف لا يلبس فارتدى عمامة]
حنث] : وإن قال: والله لا لبست ثوبا.. حنث بلبس القميص والرداء والعمامة والسراويل؛ لأنه يقع عليه اسم الثوب.
وإن قال: والله لا لبست شيئا، ولبس شيئا من هذه الثياب.. حنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس ينصرف إليها.
وإن لبس خاتما أو جوشنا أو خفا أو نعلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه لبس شيئا.
الثاني: لا يحنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس إنما ينصرف إلى الثياب.
[مسألة: حلف لا يلبس ثوبا فجعله قميصا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يلبس ثوبا وهو رداء، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو حلف: لا يلبس سراويل، فاتزر به، أو قميصا، فارتدى به.. فهذا كله ليس يحنث به، إلا أن يكون له نية، فلا يحنث إلا على نيته) .
واختلف أصحابنا في صورتها:
فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أنه إذا قال: والله لا لبست هذا(10/548)
الثوب، وكان ذلك الثوب رداء، ولم يقل الحالف: وهو رداء، وإنما ذلك من كلام الشافعي، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به، أو جعله قلانس، فبسه.. حنث بذلك كله.
وهكذا: لو قال: لا لبست هذا الثوب، وكان سراويل، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به.. حنث؛ لأنه علق اليمين على لبس هذا الثوب بعينه، فعلى أي صفة لبسه.. فقد وجد منه فعل المحلوف عليه، فحنث، إلا أن يكون قد نوى أن لا يلبسه على الصفة التي هي عليها، فلا يحنث.
فأما إذا قال الحالف: لا لبست هذا الثوب وهو رداء، فقطعه، ثم لبسه.. فإنه لا يحنث الحالف، وكذلك في السراويل؛ لأنه علق اليمين على صفة في الثوب، فإذا لبسه على غير تلك الصفة.. لم يحنث.
ومن أصحابنا من وافق أبا إسحاق في الحكم فيما ذكره فيها، وخالفه في صورتها، فقال: هو رداء وسراويل من كلام الحالف، وإنما قال الشافعي: (هذا كله ليس يحنث به) . فنفى الحنث.
ومنهم من وافق أبا إسحاق في الصورة، فقال: وقوله: (وهو رداء) من كلام الشافعي، وخالفه في الحكم. وقوله: (هذا كله ليس يحنث به) أي: لا يحنث به؛ لأن قوله: لا لبست هذا الثوب - الذي يقتضي لبسه على صفته - فإذا غيره.. لم يكن ما انصرفت إليه اليمين.
والصحيح: قول أبي إسحاق ومن تابعه؛ لأن الشافعي قال في " الأم ": (وهذا كله لبس؛ وهو يحنث به) . وإنما أسقط المزني قوله: (وهو) ، فتصحف عليهم.
[مسألة: حلف لا يلبس حليا فلبس خاتما]
إذا حلف الرجل: لا يلبس حليا، فلبس خاتما من فضة أو ذهب.. حنث، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .(10/549)
دليلنا: أن حلي الرجل الخاتم، فحنث بلبسه، كالمرأة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فإن لبس مخنقة من لؤلؤ أو غيره من الجواهر.. حنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] .
وإن حلفت المرأة: لا تلبس الحلي، فلبست اللؤلؤ وحده.. حنثت، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] . ولم يفرق بين أن يكون اللؤلؤ وحده أو مع غيره.
ولأن الله تعالى قال في البحر: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] [النحل: 14] .
وإن لبس شيئا من الخرز والسبج، فإن كان ممن عادته التحلي به.. حنث، وهل يحنث به غيرهم؟ فيه وجهان، كالوجهين في بيوت الشعر، ورؤوس الصيد.
فإن تقلد سيفا محلى.. لم يحنث؛ لأن السيف ليس بحلي.
وإن لبس منطقة محلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنها من حلي الرجال.
والثاني: لا يحنث؛ لأنها من الآلات المحلاة، فهو كالسيف.
وإن حلف: لا يلبس خاتما، فلبسه في غير الخنصر، أو لا يلبس قميصا، فارتدى به، أو لا يلبس قلنسوة، فلبسها في رجله.. قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحنث؛ لأن اليمين تقتضي لبسا متعارفا، وهذا غير متعارف.(10/550)
وأما ابن الصباغ فقال: إذا حلف: لا يلبس ثوبا، فلبس ثوبا كما يلبس في العادة أو بخلاف العادة.. حنث؛ لأنه لبسه.
[مسألة: حلف لا يستعمل ما من به عليه]
وإن حلف: لا يلبس ثوب رجل من به عليه، فوهبه له، أو باعه منه ولبسه، أو من عليه بما يطعمه ويسقيه، فقال: والله لا شربت له ماء من عطش، فأكل له خبزا، أو لبس له ثوبا، أو شرب له ماء من غير عطش، أو منت عليه زوجته بالغزل، فقال: والله لا لبست ثوبا من غزلك، فباع غزلها، واشترى بثمنه ثوبا، فلبسه.. فإنه لا يحنث بجميع ذلك وإن كان قصد بيمينه قطع منته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (إذا قصد قطع منته في يمينه بذلك كله.. لا يجوز له أن يأكل له خبزا، ولا يلبس له ثوبا، ولا ينتفع بشيء من ماله، فإن فعل شيئا من ذلك.. حنث في يمينه) .
دليلنا: أن يمين الحالف لا تنعقد إلا على لفظه، ولا يراعى فيها المعنى، وإنما يراعى فيها لفظه، وما فعله لم يلفظ به، فلم يحنث به وإن كان معناه موجودا في معنى لفظه، فلم يحنث به، كما لو حلف: لا يتزوج، فتسرى، أو كما لو حلف: لا كلمت فلانا عدوي.. فإن يمينه لا تنعقد على غيره من أعدائه.
[مسألة: حلف لا يضرب فضرب خفيفا]
وإن حلف: لا يضرب امرأته، فضربها ضربا غير مؤلم.. حنث؛ لأنه يقع عليه اسم الضرب، وإن عضها، أو نتف شعرها، أو خنقها.. لم يحنث.
وقال أحمد وأبو حنيفة: (يحنث) .
دليلنا: أن ذلك لا يسمى ضربا، فلا يحنث به في اليمين على الضرب.
وإن لكمها، أو لطمها، أو رفسها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:(10/551)
أحدهما: يحنث؛ لأنه ضربها.
والثاني: لا يحنث؛ لأن الضرب المتعارف ما كان بآلة.
[فرع: حلف ليضربن زيدا مائة سوط]
وإن حلف: ليضربن عبده مائة سوط، فإن ضربه مائة سوط متفرقة.. بر في يمينه، وإن أخذ مائة سوط، وضربه بها ضربة واحدة.. نظرت:
فإن تيقن أنه أصابه كل واحد منها في بدنه.. بر في يمينه.
وقال مالك وأحمد: (لا يبر، ويحتاج إلى أن يضربه مائة ضربة متفرقة) .
ودليلنا: أنه قد أوصل الضرب بكل واحد منها إلى بدنه، فبر في يمينه، كما لو ضربه مائة متفرقة.
وإن تيقن أنه لم يصب بدنه بعضها.. لم يبر في يمينه، حتى يصل الجميع إلى بدنه.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا أصابه البعض ولم يغلب على ظنه إصابة الجميع.. لم يبر في يمينه، وإن لم يتيقن أنه أصابه الجميع، ولكن غلب على ظنه أنه أصابه الكل.. فإنه يبر في يمينه. هكذا قال ابن الصباغ.
وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فقالا: إذا شك: هل أصابه الجميع، أم لا؟ فإنه يبر في يمينه.
قال الشافعي: (والورع أن يحنث نفسه؛ لجواز أن لا يكون قد أصابه الجميع منها) .
وقال أبو حنيفة والمزني: (يحنث) .(10/552)
دليلنا: أن الظاهر من السياط الرقاق أن جميعها أصابت بدنه، ولأن غلبة الظن أجريت في الأحكام مجرى اليقين، كما يحكم بخبر الواحد والقياس بغلبة الظن، فوجب أن يحكم به هاهنا في البر.
وإن حلف: ليضربن عبده مائة مرة.. لم يبر إلا بمائة ضربة متفرقة.
وإن حلف: ليضربنه مائة ضربة، فضربه بمائة عصا، أو بمائة سوط مشدودة، وتيقن أنه أصاب بدنه بجميع ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبر؛ لأنه ما ضربه إلا ضربة.
والثاني: يبر؛ لأنه أصابه بكل واحد من ذلك، فهو كما لو قال: مائة سوط؛ ولهذا لو ضرب به في الزنا.. حسبت له مائة.
فعلى هذا إذا شك هل أصابه بالجميع أو بالبعض؟ فإنه يبر في يمينه، كما قلنا في قوله: مائة سوط.
[فرع: حلف ليضربن عبد زيد فباعه فضربه الحالف]
إذا حلف: لأضربن عبد زيد، فباع زيد عبده، أو أعتقه، ثم ضربه الحالف.. لم يحنث؛ لأنه ليس بعبده.
وإن رهن زيد عبده، أو جنى وتعلق الأرش برقبته، ثم ضربه الحالف.. حنث في يمينه؛ لأن ملكه لا يزول عنه بذلك.
[مسألة: حلف لا يهبه فأعمره]
وإن حلف: لا يهب له، فوهب له، أو أعمره، أو أرقبه، وقبل الموهوب له.. حنث الحالف، وإن لم يقبل الموهوب له.. لم يحنث الحالف.(10/553)
وقال أبو حنيفة: (يحنث بمجرد الإيجاب) . وإلى ذلك ذهب أبو العباس ابن سريج.
دليلنا: أنه حلف على ترك عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، فلم يحنث لمجرد الإيجاب، كالبيع.
وإن تصدق عليه صدقة التطوع.. حنث، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أن ذلك تمليك عين في حال الحياة تبرعا، فيحنث به، كما لو وهب له.
وإن أعطاه صدقة مفروضة.. قال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الهبة تمليك عين بغير عوض، وهذا موجود في ذلك، فصار كصدقة التطوع.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه أسقط بها واجبا عن نفسه.
وإن أوصى له.. لم يحنث؛ لأنه لا يملك بها إلا بعد موت الموصي، فلا يحنث بعد موته.
وإن وقف عليه، فإن قلنا: إن الوقف ينتقل إلى الله تعالى.. لم يحنث، وإن قلنا: ينتقل إلى الموقوف عليه.. حنث.
وإن أعاره عينا.. لم يحنث؛ لأن الهبة تمليك الأعيان، والعارية تمليك المنافع، ولأن المستعير لا يملك المنافع بالإعارة، وإنما يستبيحها؛ ولهذا لا يجوز له أن يؤجرها.
وإن كان المحلوف من هبته عبدا، فأعتقه الحالف.. لم يحنث؛ لأن ذلك لا يسمى هبة.(10/554)
[مسألة: حلف لا يتكلم فقرأ القرآن]
إذا حلف: لا يتكلم، فقرأ القرآن.. لم يحنث، سواء قرأه في الصلاة أو في غيرها، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن قرأ في غير الصلاة.. حنث) .
دليلنا: أن مطلق الكلام لا ينصرف إلا إلى كلام الآدمي. ولأن كل ما لا يحنث به في الصلاة.. لا يحنث به في غير الصلاة، كالإشارة.
وإن سبح أو كبر.. ففيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ.
أحدهما: لا يحنث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» .
والثاني: يحنث؛ لأنه يجوز للجنب أن يتكلم به، فأشبه سائر كلامه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان في الصلاة.. لم يحنث، وإن كان خارج الصلاة.. حنث) .
دليلنا: أن ما حنث به خارج الصلاة.. حنث به في الصلاة، كسائر الكلام، وما لم يحنث به في الصلاة.. لم يحنث به خارج الصلاة، كالإشارة.
[فرع: حلف لا يكلم رجلا فسلم عليه]
وإن حلف: لا يكلم رجلا، فسلم عليه.. حنث؛ لأن السلام من كلام الآدميين؛ ولهذا تبطل به الصلاة.
وإن صلى الحالف خلفه، فسها الإمام، فسبح له الحالف، أو فتح عليه في القراءة.. قال ابن الصباغ: لا يحنث الحالف؛ لأن هذا ليس بكلام له.
وإن كان الحالف هو الإمام، والمحلوف عليه مؤتم به، فسلم الإمام.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو سلم الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، على ما يأتي.(10/555)
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .
دليلنا: أنه شرع للإمام أن ينوي السلام على الحاضرين، فصار كما لو سلم عليهم في غير الصلاة.
وإن قال لرجل: والله لا كلمتك فاذهب أو فقم، أو ما أشبه ذلك موصولا بيمينه.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، والذي يقتضيه المذهب: أنه يحنث.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحنث، إلا أن ينوي بقوله: (فاذهب) الطلاق.
ووجه الأول: أن قوله: (فاذهب، أو فقم) كلام منه له حقيقة، فحنث به، كما لو فصله.
وعندي: أنها على وجهين، كما لو قال لامرأته: إن كلمتك.. فأنت طالق فاعلمي ذلك، وقد مضى ذكرهما في الطلاق.
[فرع: قوله والله لا كلمته تقع على التأبيد]
إذا قال رجل لآخر: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته.. فإن يمينه على التأبيد، إلا أن ينوي اليوم.
فإن كانت يمينه في الطلاق، وقال: نويت كلامه اليوم لا غير.. لم يقبل قوله في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يمينه على اليوم.
دليلنا: أن يمينه مطلقة، فوجب أن يحمل على التأبيد، كما لو ابتدأ بها.
[فرع: حلف لا يكلمه فكلمه نائما]
وإن حلف: أن لا يكلمه، فكلمه وهو نائم، أو ميت، أو في موضع بعيد لا يسمع كلامه في العادة.. لم يحنث، وإن كان في موضع يسمعه في العادة، إلا أنه لم يسمع لاشتغاله.. حنث.
وإن لم يسمعه لصمم.. ففيه وجهان، وقد مضى بيان ذلك في الطلاق.(10/556)
وإن كتب إليه، أو أرسل إليه.. فهل يحنث؟ فيه قولان - وقال أصحابنا: والرمز والإشارة كالكتابة -:
[الأول] : قال في القديم: (يحنث) . وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] [آل عمران: 41] . فاستثنى الرمز من الكلام، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] [الشورى: 51] . والوحي: هو الرسالة، فدل على: أن الوحي كلام. ولأن الجميع وضع لتفهيم الآدمي، فأشبه الكلام.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] [مريم: 26-29] . فلو كانت الإشارة كلاما.. لم تفعله.
وما ذكره الأول.. فيجوز الاستثناء من غير جنس المستثنى منه.
ويحرم عليه أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، والسابق.. أسبقهما إلى الجنة» .(10/557)
فإن كتب إليه أو أرسل إليه.. فهل يخرج من مأثم الهجران؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين إذا حلف لا يكلمه.
فإن قلنا: يحنث إذا كاتبه أو راسله.. خرج بهما من مأثم الهجران.
وإن قلنا: لا يحنث به.. لم يخرج بهما من مأثم الهجران.
وينبغي أن يكون الرمز والإشارة في ذلك كالمكاتبة والمراسلة؛ لما ذكرناه في اليمين.
[فرع: حلف لا يكلم الناس]
وإن حلف: لا يكلم الناس.. قال ابن الصباغ: فإن كلم واحدا.. حنث؛ لأن الألف واللام للجنس، فإذا كلم واحدا من الجنس.. حنث، كما لو قال: لا أكلت الخبز، فأكل خبز أرز.. حنث.
وإن حلف: لا يكلم ناسا.. قال الطبري: انصرف إلى ثلاثة أنفس، ويتناول الرجال والنساء والأطفال.
[مسألة: حلف أن لا يكلم زيدا ولا يسلم عليه]
وإن حلف: لا يكلم زيدا أو لا يسلم عليه، فسلم على جماعة فيهم زيد، فإن علم أن زيدا فيهم، ونوى السلام عليهم وعليه معهم.. حنث؛ لأنه كلمه.
قلت: ويأتي على قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري: أنه لا يحنث، كما قال إذا حلف: لا يأكل السمن أو الخل، فأكلهما مع غيرهما.
وإن لم يعلم بزيد معهم، أو علمه ونسي اليمين، ونوى السلام على جميعهم.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما تقول فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا، ويأتي بيانهما.
وإن استثنى زيدا بقلبه.. فهل يحنث؟(10/558)
قال أكثر أصحابنا: لا يحنث؛ لأن اللفظ وإن كان عاما، فإنه يحتمل التخصيص، فجاز التخصيص بالنية.
وذكر صاحب " الفروع "، وابن الصباغ في موضع من " الشامل ": هل يحنث؟ على قولين. وذكر في موضع آخر: لا يحنث.
وأما إذا سلم وأطلق، ولم ينو السلام عليه، ولا استثناه بقلبه.. ففيه قولان، ومن أصحابنا من حكاهما وجهين:
أحدهما: يحنث؛ لأن السلام عام، فتناول جميعهم، وإنما يخرج بعضهم بالاستثناء.
والثاني: لا يحنث؛ لأن اللفظ يصلح للجميع وللبعض، فلم تجب الكفارة بالشك.
وإن قال: والله لا دخلت على زيد بيتا، فدخل بيتا فيه زيد مع غيره.. نظرت:
فإن علم أن زيدا في البيت، فدخل عليه، ولم يستثنه بقلبه.. حنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه.
وإن لم يعلم به في البيت، أو علمه ونسيه، أو نسي اليمين.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كمن فعل المحلوف عليه ناسيا.
وإن علم أنه في البيت، إلا أنه استثناه بقلبه، ونوى الدخول على غيره دونه.. قال المحاملي، وسليم، وابن الصباغ: فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا فيمن حلف: لا يكلم زيدا، فسلم على جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن الدخول فعل، فلا يصح فيه الاستثناء، والسلام قول، يصح فيه الاستثناء؛ ولهذا لو قال: سلام عليكم إلا على زيد.. كان كلاما صحيحا، ولو قال: دخلت عليكم إلا على زيد.. لم يكن كلاما صحيحا؛ لأنه قد دخل عليه، فلا معنى لاستثنائه. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وأما المسعودي [في " الإبانة "] : فرتب السلام على الدخول، وقال: إذا دخل على(10/559)
جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان. وإن سلم على جماعة فيهم زيد، وقد حلف: أن لا يسلم عليه، واستثناه بقلبه عند السلام عليهم، فإن قلنا في الدخول: لا يحنث.. ففي السلام أولى أن لا يحنث، وإن قلنا: يحنث في الدخول.. ففي السلام قولان. وفرق بين الدخول والسلام بما مضى.
وإن حلف: لا يدخل على زيد بيتا، فدخل الحالف بيتا ليس فيه زيد، ثم دخل عليه زيد البيت، فإن خرج الحالف في الحال.. لم يحنث، وإن أقام معه.. فهل يحنث؟ يبنى على من حلف: لا يدخل دارا وهو فيها، فأقام فيها.. ففيه قولان:
فـ[أحدهما] : إن قلنا هناك: يحنث بالإقامة.. حنث هاهنا بالإقامة.
و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يحنث.. لم يحنث هاهنا.
وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أن الشافعي نص في " الأم ": (أنه لا يحنث) .
قال ابن الصباغ: وهذا أولى؛ لأنا وإن قلنا: إن الاستدامة بمنزلة الابتداء، فكأنهما داخلان معا، ولا يكون أحدهما داخلا على الآخر، فلذلك لم يحنث.
[مسألة: حلف لا يصوم ونوى حنث]
وإن حلف: لا يصوم، فإذا نوى الصوم من الليل، وطلع الفجر.. حنث؛ لأن ذلك أول دخوله في الصوم، وإن نوى صوم التطوع بالنهار.. فإنه يحنث عقيب نيته؛ لأنه قد دخل في الصوم.
وإن حلف: أن لا يصلي.. فمتى يحنث؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يحنث إذا أحرم بالصلاة؛ لأنه يسمى حينئذ مصليا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه يحنث بالركوع؛ لأنه إذا ركع.. فقد أتى(10/560)
بمعظم الركعة، فقام مقام جميعها، وإذا لم يركع.. فلم يأت بمعظمها.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه لا يحنث إلا بالفراغ منها، ووجهه: أنه لا يحكم بصحتها إلا بالفراغ منها.
والأول أصح؛ لأن الأيمان يراعى فيها الأسماء، وبالإحرام يسمى مصليا، فوجب أن يحنث، كما قلنا في الصوم، فإنا لم نعتبر فيه أن يأتي بمعظم اليوم ولا الفراغ منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث حتى يسجد) . وقد مضى الدليل عليه.
[فرع: حلف لا يبيع ونحوه من المعاملات]
وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يهب، أو لا يتزوج.. لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول في ذلك كله.
ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب وحده.
والأول أصح؛ لأنه عقد تمليك، فلم يحنث فيه إلا بالإيجاب والقبول، كالبيع. ولا يحنث إلا بالصحيح.
وقال محمد بن الحسن: إذا حلف: أن لا يتزوج، فتزوج تزويجا فاسدا، أو لا يصلي، فصلى صلاة فاسدة.. حنث. وهذا غلط؛ لأن الاسم لا يتناول الفاسد، فلم يحنث به.
[فرع: حلف لا يبيع وأمر غيره فباع]
وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يضرب عبده، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، فأمر غيره، فباع عنه، أو اشترى، أو ضرب العبد، أو نكح له، أو طلق.. لم يحنث.
وحكى الربيع عن الشافعي قولا آخر: (إذا كان الحالف سلطانا لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، فأمر غيره، ففعل عنه ذلك.. حنث، وإن أمر غيره،(10/561)
فنكح له، أو طلق عنه.. لم يحنث؛ لأن العادة أنه لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، وإنما يتولاه غيره عنه، وجرت العادة في النكاح والطلاق أنه يتولاه بنفسه، فانعقدت يمينه على ذلك) .
والمشهور: هو الأول؛ لأن اليمين تحمل على الحقيقة دون المجاز؛ ولهذا: لو حلف: لا أقعد في ضوء السراج، فقعد في ضوء الشمس.. لم يحنث وإن كان قد سماها الله: سراجا، حيث قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] [النبأ: 13] .
ولو حلف: لا يقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله تعالى قد سماها: سقفا، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] .
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف: لا يشتري، فوكل من يشتري له.. لم يحنث - كقولنا - وإن حلف: لا يتزوج، فوكل من يتزوج له.. حنث؛ لأن حقوق العقد في الشراء تتعلق بالعاقد، وفي النكاح تتعلق بالمعقود له) . وهذا ليس بصحيح؛ لما بيناه من أن الاعتبار بالاسم دون الحكم.
وإن حلف: لا يبيع لي زيد متاعا، فوكل وكيلا يبيع متاعه، وأذن له في التوكيل، فدفع الوكيل المتاع إلى زيد، فباعه.. قال الطبري: حنث الحالف، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم؛ لأنه باعه باختياره؛ لأن العلم والنسيان إنما يعتبر في فعل الحالف.
وإن قال: والله لا بعت لزيد شيئا، فدفع زيد متاعه إلى وكيل له ليبيعه، وأذن له في التوكيل في بيعه، فدفعه الوكيل إلى الحالف ليبيعه، فباعه، فإن علم الحالف أنه متاع زيد، فباعه وهو ذاكر ليمينه.. حنث في يمينه، وإن لم يعلم أنه لزيد، أو علم أنه لزيد، ونسي يمينه وقت البيع.. فهل يحنث؟ فيه قولان.(10/562)
قال في " الأم ": (ولو قال: والله لا بعت له ثوبا، فدفعه إلى وكيله، فقال: بعه أنت، فدفعه إلى الحالف، فباعه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبعه للذي حلف، إلا أن يكون نوى: لا يبيع سلعة يملكها فلان، وهذا يقتضي أنه أذن لوكيله في التوكيل بالبيع) .
[فرع: حلف لا يطلق زوجته ووكل لها أمرها]
] : وإن حلف: لا طلق زوجته، فجعل أمرها إليها، فطلقت نفسها.. لم يحنث.
وإن قال: إن شئت.. فأنت طالق، فقالت: قد شئت.. طلقت، وحنث؛ لأنه هو الموقع للطلاق.
[مسألة: حلف لا يتسرى]
وإن قال: والله لا تسريت.. فمتى يحنث؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يحنث بالوطء وحده وإن لم ينزل - وهو قول أحمد - لأنه قد قيل: إن التسري مشتق من السراة، وهو الظهر، فكأنه حلف: لا يتخذها ظهرا، والجارية تتخذ ظهرا بالوطء. وقيل: هو مشتق من السر، وهو الجماع، وذلك يوجد بالوطء وحده.
والثاني: أنه لا يحنث إلا بمنعها من الخروج ووطئها، سواء أنزل أو لم ينزل - وهو قول أبي حنيفة - لأنه قد قيل: إنه مشتق من التسري، فكأنه حلف: لا يتخذها أسرى الجواري، وهذا لا يحصل إلا بسترها ووطئها.(10/563)
والثالث: أنه لا يحنث إلا بوطئها والإنزال فيها، وإن لم يمنعها عن الخروج؛ لأن التسري في العرف والعادة: اتخاذ الجارية لابتغاء الولد، وذلك لا يحصل إلا بالوطء والإنزال.
والرابع: أنه لا يحنث إلا بأن يمنعها من الخروج ويطأها وينزل فيها؛ لأنه قد قيل: إنه مشتق من السرور؛ والسرور لا يحصل إلا بذلك، وهذا هو المنصوص للشافعي، وقد قيل: إن المنصوص: هو الذي قبله.
[مسألة: حلف لا مال له وله نقود أو عقار]
وإن حلف: أنه لا مال له، وله شيء من النقود، أو العروض، أو العقار، وما أشبهه.. حنث.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث إلا إن كان له شيء من الأموال الزكاتية؛ استحسانا) .
دليلنا: أن ذلك كله يقع عليه اسم المال حقيقة فحنث به كالزكاتي.
والدليل على أنه يقع عليه اسم المال: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن خير المال، فقال: «خير المال سكة مأبورة، أو فرس مأمورة» .
و (السكة المأبورة) : هي النخلة المصطفة المؤبرة.
و (الفرس المأمورة) : هي المهرة الكثيرة النتاج.(10/564)
وهكذا الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة فيمن قال: إن شفى الله مريضي.. فعلي لله أن أتصدق بمالي:
فعندنا: عليه أن يتصدق بجميع ماله إذا شفى الله مريضه.
وعنده: ليس عليه أن يتصدق إلا بماله الزكاتي.
وإن كان له دين، فإن كان حالا.. فقد حنث في يمينه؛ لأنه كالعين في يده؛ بدليل: أنه يجب عليه فيه الزكاة، وإن كان مؤجلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يملك المطالبة به.
والثاني: يحنث؛ لأنه يملك المعاوضة عليه والإبراء عنه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بالدين، حالا كان أو مؤجلا) . وقد مضى الدليل عليه.
وإن كان له مال مغصوب أو مودع أو معار.. حنث؛ لأنه على ملكه.
وإن كان له مال ضال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الأصل بقاؤه.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يعلم بقاؤه، فلا يحنث بالشك.
وقال ابن الصباغ: وإن كان يملك بضع زوجته أو غير ذلك من المنافع.. لم يحنث؛ لأنه لا يسمى: مالا وإن كان في معنى المال.
وإن كان قد جني عليه خطأ أو عمدا، فعفا على مال.. حنث.
وإن جني عليه عمدا، ولم يقتص ولم يعف.. فيحتمل أن يبنى على القولين في موجب جناية العمد.
فإن قلنا: موجبها القود لا غير.. لم يحنث.
وإن قلنا: موجبها القود أو المال.. حنث.(10/565)
[فرع: حلف لا يملك عبدا وعنده مكاتب]
وإن حلف: أنه لا يملك عبدا، وله مكاتب.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» . ولأنه يملك عتقه، فهو كالقن.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه كالخارج عن ملكه؛ بدليل: أنه لا يملك منافعه، ولا أرش الجناية عليه، فصار كالحر.
ومنهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه.
وإن كان له أم ولد، أو مدبر، أو عبد معلق عتقه على صفة.. حنث؛ لأنه في ملكه، ويملك منافعه وأرش ما يجنى عليه، فهو كالقن.
[مسألة: حلف أن يرفع المنكر إلى القاضي]
وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إليه.. فقد بر في يمينه، وإن رأى منكرا، وتمكن من رفعه، فلم يرفعه حتى مات أحدهما.. حنث في يمينه؛ لأنه أمكنه رفعه، ففوته بتفريط منه، وإن رأى منكرا، فمضى ليرفعه إليه، فحجب عنه ومنع عنه حتى مات أحدهما.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما إذا فعل المحلوف عليه مكرها.
وإن لم يتمكن من رفعه، فمضى ليرفعه إليه، فمات القاضي قبل أن يصل الحالف.. قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كالمكره.
وقال أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأن(10/566)
قوله: لا رأيت منكرا إلا رفعته، يعني: إن تمكنت منه، واتسع الزمان لي، وهاهنا لم يتسع له الزمان، فلم يحنث، وتفارق التي قبلها، فإن هناك اتسع له الزمان، ولكن منع من الفعل.
فأما إذا عزل هذا القاضي، فإن كان قال: إلى فلان القاضي، ونوى أنه يرفعه إليه وهو قاض، أو نطق بذلك، فقال: إلى فلان وهو قاض.. فقد فاته الرفع إليه بعزله، قال أكثر أصحابنا: فيكون كما لو مات القاضي.
فإن كان ذلك بعد أن تمكن من رفعه.. حنث في يمينه، وإن كان قبل أن يتمكن من رفعه، وحجب عنه إلى أن عزل.. فعلى قولين.
وإن لم يحجب عنه، ولكن عزل قبل أن يصل إليه.. فعلى الطريقين، كما قلنا في الموت.
وقال ابن الصباغ: لا يبر بالرفع إليه بعد العزل، كما قال أصحابنا، ولكن لا يحنث؛ لأن اليمين على التراخي، ويجوز أن يلي بعد عزله، فيرفعه إليه.
وإن قال: إلى فلان القاضي، ولم ينو وهو قاض، ولا نطق به.. فهل يبر برفعه إليه بعد العزل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يبر بالرفع إليه؛ لأنه علق اليمين بعين موصوفة بصفة، وقد زالت الصفة، فلم يبر، كما لو قال: والله لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها.
فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو نوى وهو قاض، أو نطق به.
والثاني: يبرأ بالرفع إليه، وهو الأصح؛ لأنه علق اليمين على عين، وذكر القضاء تعريفا له لا شرطا، فهو كما لو حلف: لا دخلت دار زيد هذه، فباعها زيد، ودخلها.. فإنه يحنث.(10/567)
وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى قاض.. فلا يحنث هاهنا بترك الرفع إلى القاضي بموته ولا بعزله، ولا يحنث إلا بترك الرفع بعد إمكانه وموت الحالف؛ لأنه علق اليمين على الرفع إلى قاض منكر، وأي قاض رفع إليه.. بر في يمينه، سواء كان قاضيا وقت اليمين أو بعده.
وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إلى قاضي البلد حين رؤيته.. بر في يمينه، وإن مات ذلك القاضي، أو عزل بعد الرؤية وبعد التمكن من الرفع إليه.. فحكى ابن الصباغ، عن أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب: أنه يحنث في يمينه؛ لأن لام التعريف تقتضي اختصاص من إليه القضاء عند رؤية المنكر.
وقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يحنث، بل إذا رفعه إلى القاضي المولى بعده.. بر في يمينه؛ لأن الألف واللام يدخلان للجنس أو للعهد، ولم يرد بهما هاهنا الجنس، فثبت أن المراد بهما العهد، وذلك يتعلق بقاضي البلد.
[مسألة: حلف لا يكلمه زمانا أو حقبا]
وإن قال: والله لا كلمت فلانا زمانا، أو دهرا، أو حقبا، أو وقتا، أو حينا، أو مدة قريبة، أو بعيدة.. بر بأدنى زمان.
وقال أبو حنيفة: (الحين شهر، والحقب ثمانون عاما، والمدة القريبة دون الشهر، والبعيدة شهر) .
وقال مالك: (الحين سنة، والحقب أربعون عاما) .
دليلنا: أن هذه أسماء للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير، وإنما يقع على القليل والكثير منه، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.(10/568)
[مسألة: حلفلا يستخدم فلانا فخدمه]
مسألة: [حلف: لا يستخدم فلانا فخدمه] :
إذا حلف: أن لا يستخدم فلانا، فخدمه المحلوف عليه والحالف ساكت لم يستدعه إلى الخدمة.. لم يحنث الحالف، سواء كان المحلوف عليه عبده أو عبد غيره.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان المحلوف عليه عبد الحالف.. حنث الحالف) .
دليلنا: أنه حلف على فعل نفسه، وهو طلب الخدمة، فلا يحنث بالسكوت، كما لو لم يكن عبده.
[فرع: حلف لا يحلق رأسه فحلقه غيره بأمره]
وإن حلف لا يحلق رأسه، فأمره غيره، فحلق رأسه.. فمن أصحابنا من قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كما لو حلف السلطان: أن لا يضرب عبده، أو لا يبيع، أو لا يشتري، فأمر غيره، فضرب عبده، أو باع له، أو اشترى.
ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن العرف في الحلاقة في حق كل أحد أن يفعله غيره عنه بأمره، ثم يضاف الفعل إلى المحلوق، فانصرفت اليمين إلى المتعارف فيه.
[مسألة: حلف على فعلين فتعلق يمينه بهما]
إذا حلف على فعلين.. تعلقت اليمين بهما إثباتا كانا أو نفيا، مثل أن يقول: والله لأكلمن هذين الرجلين، أو لآكلن هذين الرغيفين، فلا يبر إلا بكلام الرجلين جميعا، وبأكل الرغيفين جميعا.
وكذلك: إذا قال: والله لا كلمت هذين الرجلين، أو لا أكلت هذين الرغيفين.. لم يحنث إلا بكلام الرجلين جميعا، أو بأكل الرغيفين جميعا.
وكذلك إذا قال: والله لا أكلت هذا الرغيف، فأكل بعضه.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.(10/569)
وقال مالك وأحمد: (إذا كانت اليمين على النفي.. تعلقت بالبعض، فمتى أكل بعض الرغفيفين، أو بعض الرغيف.. حنث في يمينه) .
دليلنا: أن اليمين تعلقت بالجميع، فلم يحنث بالبعض، كاليمين على الإثبات.
[فرع: حلف ليشربن ماء الإناء]
وإن قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، أو ماء هذا الكوز، أو ما أشبه ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان مما يمكنه شربه في سنة أو سنتين.. لم يبر إلا بشرب جميعه.
وإن حلف: أن لا يشربه.. لم يحنث إلا بشرب جميعه، خلافا لمالك وأحمد في النفي، وقد مضى الدليل عليهما.
وإن قال: والله لأشربن من ماء هذه الإداوة، أو الكوز، فشرب بعضه.. بر في يمينه.
وإن قال: لا شربت منه، فشرب منه ولو أدنى قليل.. حنث في يمينه؛ لأن (من) للتبعيض.
وإن قال: والله لا شربت ماء هذا النهر، أو ماء دجلة، أو الفرات، أو البحر، مما لا يمكنه شرب جميعه بحال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث بشرب بعضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأن شرب جميعه لا يمكن، فانعقدت اليمين على بعضه، وهذا كما لو حلف: لا يكلم الناس.. فإنه يحنث بكلام بعضهم.
والثاني: لا يحنث؛ لأن لفظه يقتضي جميعه، فلم يتعلق ببعضه، كالماء في الإداوة.(10/570)
قال القاضي أبو الطيب: ينبغي على هذا أن لا تنعقد يمينه، كما لو حلف: لأصعدن السماء.
[مسألة: حلف لا يأكل طعاما اشتراه اثنان]
وإن قال: والله لا أكلت طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة، أو اشترى أحدهما نصفه مشاعا في عقد واحد، ثم اشترى الآخر نصفه مشاعا في عقد، وأكل الحالف منه.. لم يحنث.
وقال أبو حنيفة: (يحنث) .
ودليلنا: أن كل جزء من الطعام لم ينفرد زيد بشرائه، ولا يصح أن يضاف إليه.. فلم يحنث بأكله، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا اشتراه زيد، فلبس ثوبا اشتراه زيد وعمرو، وكما لو حلف: لا يأكل من قدر طبخها زيد، فأكل من قدر طبخها زيد وعمرو، أو لا يدخل دارا اشتراها زيد، فدخل دارا اشتراها زيد وعمرو. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يحنث الحالف؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يحنث الحالف؛ لما ذكرناه.
والثاني: يحنث، سواء أكل منه حبة أو لقمة؛ لأنه ما من جزء إلا وقد اشتركا في شرائه.
والثالث: إن أكل النصف أو أقل.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل أقل من النصف.. لم يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه تحقق أنه أكل ما اشتراه زيد.
وإن حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد قفيز طعام منفردا، واشترى عمرو قفيز طعام منفردا، وخلطا الطعامين أو اختلطا، وأكل منه الحالف.. ففيه ثلاثة أوجه:(10/571)
أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن أكل الحالف النصف فما دون.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل النصف فما دونه.. لا يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، فلم يحنث، كما لو حلف: لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير، فأكل الجميع إلا تمرة.
وإذا أكل أكثر من النصف.. تحققنا أنه أكل مما اشتراه زيد، فحنث.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: إن أكل حبات يسيرة، كالحبة والحبتين والعشرين حبة.. لم يحنث؛ لأنه يجوز أن يكون مما اشتراه عمرو، وإن أكل كفا.. حنث؛ لأنا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد؛ لأن العادة أن الطعامين إذا اختلطا أن لا يتميز الكف منه من أحدهما.
والثالث: - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يحنث وإن أكل جميعه؛ لأنه لا يمكن أن يشار إلى شيء منه أنه مما اشتراه زيد، فصارا كما لو اشترياه مشاعا.
والأول اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غيره.
والثاني اختيار ابن الصباغ.
[فرع: حلف لا يأكل مما اشتراه زيد]
وإن حلف: لا يأكل من طعام اشتراه زيد، فاشترى زيد طعاما، ثم باع نصفه، فأكل منه الحالف.. قال ابن الصباغ: حنث؛ لأن زيدا اشترى جميعه.
وإن باع طعاما، فاستقال فيه، أو صالح على طعام من دعوى، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: لم يحنث.
وكذلك: إذا ورث زيد طعاما هو وغيره، وقاسم شركاءه، وأكل مما حصل لزيد.. لم يحنث الحالف، سواء قلنا: إن الإقالة والقسمة بيع أو لم نقل؛ لأنا وإن قلنا: إنهما بيع، فإنما ذلك بيع من طريق الحكم، وأما من طريق الاسم والحقيقة: فليس ببيع، وكذلك الصلح بهذا المعنى.(10/572)
وإن اشترى زيد طعاما سلما، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: حنث الحالف؛ لأنه يسمى شراء في الحقيقة.
وإن اشترى زيد لغيره طعاما، فأكل منه الحالف.. حنث؛ لأن الاسم قد وجد.
وإن اشترى عمرو لزيد طعاما، فأكل منه الحالف.. لم يحنث؛ لأن اليمين على ما اشتراه زيد، وذلك يقتضي شراءه بنفسه.
وإن حلف: لا يدخل دارا اشتراها زيد، فاشترى زيد بعض دار، ثم أخذ باقيها بالشفعة، ودخلها الحالف.. لم يحنث؛ لأنه لم يشتر جميعها حقيقة.
[مسألة: حلف لا يدخل دارا فأدخلها برضاه]
إذا حلف: لا يدخل دارا، فدخلها ماشيا، أو راكبا، أو محمولا باختياره.. حنث؛ لأنه قد دخلها.
فإن قيل: فهلا قلتم: إذا دخلها محمولا.. لا يحنث، كما لو حلف: لا ضربت زيدا، فأمر غيره، فضربه؟
قلنا: إن الفصل بينهما: أن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وقد وجد ذلك، فإذا كان باختياره.. أضيف الفعل إليه، بخلاف الضرب.
وإن أكره حتى دخلها، أو نسي اليمين، أو جهل الدار المحلوف عليها، فدخلها.. فهل يحنث؟ فيه قولان:
أحدهما: يحنث، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه فعل المحلوف عليه فحنث.
والثاني: لا يحنث، وبه قال الزهري، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأن حال النسيان والإكراه والجهل(10/573)
لا تدخل في اليمين، كما لا تدخل في أوامر الشرع ونواهيه.
فإن أكرهه غيره، وحمله حتى دخل به الدار.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو دخلها بنفسه مكرها؛ لأنه لما كان دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا.. وجب أن يكون دخوله مكرها بنفسه ومحمولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد منه فعل ولا اختيار، فلم يجز أن يضاف الدخول إليه.
[مسألة: حلف ليأكلن الرغيف غدا]
إذا قال: والله لآكلن هذا الرغيف غدا.. ففيه ست مسائل:
إحداهن: إذا أكله من الغد أي وقت كان منه.. بر في يمينه؛ لأنه فعل ما حلف ليفعلنه.
الثانية: إذا أمكنه أكله، فلم يأكله حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه باختياره.
الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه من الغد، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأن اليمين على أكل جميعه، فلا يبر بأكل بعضه.
الرابعة: إذا تلف الرغيف في يومه أو من الغد قبل أن يتمكن من أكله فيه، أو منع من أكله، أو نسي حتى انقضى الغد.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا.
الخامسة: إذا أكل الرغيف في يومه، أو أكل بعضه.. حنث في يمينه.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يحنث) .(10/574)
دليلنا: أنه فوت أكله من الغد بأكله إياه في اليوم، فحنث، كما لو ترك أكله من الغد حتى انقضى.
ومتى يحنث؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يحنث عند أكل شيء منه؛ لأن الإياس من أكله حصل بذلك.
والثاني: يحنث بانقضاء الغد؛ لأنه وقت الأكل.
قال: ومثل هذين الوجهين إذا حلف: لأصعدن السماء غدا.
السادسة: إذا جاء الغد، وتمكن من أكله، ثم تلف الرغيف، أو منع من أكله قبل مضي الغد.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأنه أمكنه أكله وفوته باختياره، فحنث، كما لو قال: والله لآكلن هذا الرغيف، ولم يقيده بمدة، فأمكنه أكله ولم يأكله.. فإنه يحنث وإن كان جميع عمره وقتا للأكل.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان؛ لأن جميع الغد وقت للأكل، ويخالف إذا كانت اليمين مطلقة؛ لأنه لم يعين وقته، وهذا كما قلنا فيمن أمكنه فعل الحج، ولم يحج حتى مات.. فإنه يأثم؛ لأنه غير مؤقت، ولو دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فمات في الوقت قبل أن يفعلها.. فإنه لا يأثم؛ لأن لها وقتا مقدرا.
[فرع: حلف ليأكلن الرغيف اليوم]
وإن قال: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم.. ففيه ست مسائل أيضا:
إحداهن: أن يأكله في يومه، فيبر في يمينه.
الثانية: إذا أمكنه أكله في يومه، فلم يأكله حتى انقضى اليوم.. فيحنث في يمينه.(10/575)
الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى اليوم.. فيحنث في يمينه.
الرابعة: إذا تلف الرغيف بغير الأكل.. فيحنث في يمينه.
الخامسة: إذا تلف الرغيف قبل أن يتمكن من أكله.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
السادسة: إذا تمكن من أكله، وتلف في اليوم.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، والتعليل ما مضى في الأولى.
[فرع: حلف ليطلقنها غدا]
إذا حلف: ليطلقن امرأته غدا، فطلقها في يومه، فإن طلقها ثلاثا.. حنث؛ لأنه فات طلاقه غدا، وإن طلقها واحدة أو اثنتين، ولم يستوف بذلك الثلاث.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه طلاقها غدا، فإن طلقها غدا.. بر في يمينه، وإن لم يطلقها حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه.
وإن كان عليه ركعتا نذر، فحلف: ليصلينهما غدا، فصلاهما اليوم.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه، وإن حلف: ليصلين غدا، أو أطلق، فصلى اليوم.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه أن يصلي غدا.
[فرع: حلف ليقضين حقه غدا]
وإن كان له عليه حق، فقال: والله لأقضينك حقك غدا.. ففيه المسائل الست التي مضت في الرغيف، إلا أن ينوي أن لا يخرج غدا حتى أقضيك، فإذا قضاه اليوم.. لم يحنث.
وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن تؤخره.. ففيه المسائل الست في الرغيف، وفيه:(10/576)
سابعة: إذا قال من له الحق: شئت أن تؤخره، ولم يقضه حتى خرج الغد.. بر في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن يشاء فلان.. ففيه المسائل السبع إذا قال: إلا أن تشاء أن تؤخره، وفيه:
ثامنة: وهو أن فلانا لو مات في الغد قبل أن تعلم مشيئته.. فقد تعذرت مشيئته، فيسقط حكمها، فيصير كما لو لم يستثن.
[مسألة: حلف ليقضين الحق عند أول الشهر]
وإن قال: والله لأقضينك حقك عند رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأس الهلال، أو مع الاستهلال، أو عند رأس الشهر.. فإن الحكم في الجميع واحد، ويقتضي أن يكون القضاء في أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، فإن قضاه قبل ذلك.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت القضاء باختياره، وإن مضى أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، وأمكنه فيه القضاء، فلم يقضه.. حنث؛ لأنه ترك القضاء باختياره.
وإن شك: هل هذه الليلة أول الشهر أم لا؟ فلم يقضه، ثم بان أنها أول الشهر.. ففيه قولان.
وإن غابت الشمس في آخر يوم من الشهر، وأخذ في القضاء، وواصله كما جرت العادة باقتضاء مثله من الوزن إن كان موزونا، أو الكيل إن كان مكيلا.. بر في يمينه، وإن تأخر الفراغ منه مع مواصلته للقضاء.. لم يؤثر ذلك.
قال الطبري: فإن اشتغل عند غروب الشمس بحمل الميزان ليزن.. لم يحنث؛ لأنه اشتغل بأسباب القضاء. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (رأس الشهر يتناول أول ليلة ويوم منه) . وإن ابتدأ بالقضاء في أثناء(10/577)
الليلة الأولى، أو في أثناء اليوم الأول من الشهر.. بر في يمينه؛ لأن الشهر ليال وأيام، فكان أوله الليلة الأولى، وآخره اليوم الأول.
ودليلنا: أن (عند) و (مع) تقتضي المقارنة، ورأسه أول جزء منه، فاقتضى ابتداء القضاء فيه، وما ذكره يبطل بالسنة، فإنها شهور، وليس رأسها الشهر الأول منها.
[فرع: حلف ليقضينه إلى رمضان]
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رمضان، فإن قضاه قبل رمضان.. بر في يمينه، وإن لم يقضه حقه حتى دخل شهر رمضان.. حنث في يمينه؛ لأن وقت القضاء قبل رمضان، فإذا أخره إلى رمضان.. فقد فوت القضاء عن وقته باختياره، فحنث في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رأس الشهر، أو إلى أول الشهر، أو إلى رأس الهلال، أو إلى أول الهلال.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: إلى رمضان، وهو قول المزني؛ لأن (إلى) للغاية.
ومنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: عند رأس الشهر، أو مع رأس الشهر، وهو ظاهر النص؛ لأن (إلى) قد تكون للغاية، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] ، وقد تكون بمعنى (مع) ، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] [الصف: 14] ، أي: مع الله، وكقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، أي: مع المرافق.
فإذا احتملت (إلى) هاهنا أن تكون للغاية، واحتملت أن تكون للمقارنة.. لم نحنثه بتركه القضاء قبل مجيء أول الشهر بالشك، ويخالف قوله: (إلى رمضان) ؛(10/578)
لأنه لا يحتمل هاهنا أن تكون للمقارنة؛ لأنه لا يحتمل أن يكون القضاء مقارنا لجميع شهر رمضان؛ فلذلك جعلناها للغاية.
[فرع: حلف ليقضينه ليلة يرى الهلال]
قال في " الأم ": (وإذا قال: والله لأقضينك حقك في الليلة التي ترى فيها الهلال.. فأي وقت قضاه من جميع تلك الليلة.. بر بيمينه؛ لأنه جعلها كلها وقتا للقضاء، وإن لم يقضه حتى فاتت الليلة.. حنث في يمينه.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى حين.. فليس بمقدر، فإذا قضاه في عمره.. بر في يمينه) .
وقال مالك: (الحين سنة، فإذا قضاه في السنة.. بر في يمينه، وإن تأخر القضاء عنها.. حنث) .
وقال أبو حنيفة وأحمد: (الحين شهر، فإن قضاه فيه.. بر في يمينه، وإن تأخر عنه.. حنث) .
دليلنا: أن الحين يقع على القليل والكثير، قال الله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] [ص: 88] وأراد: يوم القيامة، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] [الإنسان: 1] ، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] [المؤمنون: 54] . ولا يتساوى الجميع، فدل على أن الحين يقع على الكثير والقليل.
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى دهر، أو إلى زمان، أو إلى حقب، أو إلى مدة قريبة أو بعيدة.. فليس ذلك بمقدر، ولا يحنث حتى يفوته القضاء بالموت.
وقال أبو حنيفة: (القريب دون الشهر، والبعيد شهر، والحقب ثمانون عاما) .
وقال مالك: (الحقب أربعون عاما) ؛ لأنه روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى:(10/579)
{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] [النبأ: 23] ، قال: (الحقب ثمانون عاما) . وروي عنه: (أربعون عاما) .
دليلنا: أن ذلك اسم للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه حد مقدر، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.
وما روي عن ابن عباس.. فلا يمتنع أن اسم الحقب يقع على أكثر مما ذكر وأقل منه، وإنما أراد تفسير أحقاب لبث أهل النار فيها دون مقتضاها في اللغة.
[فرع: حلف ليقضينه حقه إلى أيام]
وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى أيام.. قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": إن لم يكن له نية.. فعندي: أنها ثلاثة أيام؛ لأنها أقل الجمع. وقال القاضي حسين الطبري في " عدته ": حكمه حكم ما لو قال: إلى حين وزمان؛ لأنه يعبر بالأيام عن القليل والكثير، ولهذا قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ويقال: أيام الفتنة، وأيام العدل، فلم يكن لها شيء معلوم. وإلى هذا أشار ابن الصباغ؛ فإنه قال: قول القاضي لا يوافق ما ذكرناه من الحين والزمان، ولأنا قلنا في القريب والبعيد: لا حد له؛ لأنه يقع على القليل والكثير، فلم يعلقه بأقل ما يقع عليه الاسم، فكذلك الأيام أيضا. ولم يذكر المحاملي غير هذا.
[مسألة: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه]
وإن كان له على رجل حق، فقال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل نفسه، فإن استوفى منه حقه قبل المفارقة..(10/580)
بر في يمينه، وإن فارقه باختياره قبل استيفاء حقه.. حنث في يمينه، وإن أكره حتى فارقه، أو نسي ففارقه قبل الاستيفاء.. فهل يحنث؟ فيه قولان.
وإن فر من عليه الحق عن الحالف قبل الوفاء. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يحنث الحالف، قولا واحدا.
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هريرة قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كالقولين في الحالف إذا أكره حتى فارق الغريم، وهو قول المسعودي [في " الإبانة "] والأول هو الأصح؛ لأنه حلف على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل.
فإذا فر من عليه الحق.. لم يحنث الحالف، سواء كان بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره.
وإن قال من له الحق لمن عليه الحق: والله لا فارقتني حتى استوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل من له عليه الحق، فإن وفاه الحق قبل أن يفارقه.. بر في يمينه، وإن فارقه من عليه الحق باختياره قبل أن يوفيه.. حنث الحالف، سواء فارقه بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره؛ لأنه علق اليمين على فعل من عليه الحق.
وقال صاحب " التقريب ": إذا فر من عليه الحق.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان. والأول هو المشهور.
وإن أكره من عليه الحق حتى فارقه من له الحق قبل الوفاء، أو نسي اليمين، ففارقه قبل الوفاء.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان.
وإن فر من له الحق قبل الوفاء.. لم يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يعلق اليمين بفعل نفسه، وإنما علقها بفعل من عليه الحق، ولم يوجد من جهة من عليه الحق فعل.
وإن قال من له الحق: والله لا افترقت أنا وأنت حتى توفيني حقي، أو لا نفترق أنا وأنت حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق اليمين بفعل كل واحد منهما على(10/581)
الانفراد، فأيهما فارق الآخر مختارا ذاكرا لليمين قبل الاستيفاء.. حنث الحالف؛ لأنه علق اليمين على فعل كل واحد منهما.
وقال في " الأم ": (لو قال: والله لا افترقت أنا وهو، ففر منه.. حنث في قول من قال: لا يطرح الخطأ والغلبة عن الناسي، ولم يحنث في قول من طرح الخطأ والغلبة عن الناسي) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ. ولا فرق بين أن يقول: (أنا وأنت) ، وبين أن يقول: (أنا وهو) . وينبغي أن يحنث، قولا واحدا؛ لأن معنى ذلك: لا فارقتني ولا فارقتك.
وإذا حلف على فعله، ففر منه.. فقد حنث؛ لأنه غير مكره على فعله.
وإن قال: والله لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث الحالف، إلا أن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فأما إذا فارق أحدهما صاحبه.. فلا يحنث الحالف؛ لأنه علق اليمين بوجود الافتراق منهما، فلم يحنث بوجوده من أحدهما.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا فارق أحدهما الآخر مختارا ذاكرا لليمين.. حنث الحالف، كقوله: لا افترقت أنا وأنت؛ لأنه علق اليمين على الافتراق، وذلك يوجد بمفارقة أحدهما.
[فرع: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأفلس]
وإن قال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي منك حقي، فأفلس من عليه الحق، فإن فارقه من له الحق من غير أن يجبره الحاكم على مفارقته.. حنث، قولا واحدا؛ لأنه فارقه باختياره وإن كان ذلك واجبا عليه، كما لو حلف: لا يصلي، فصلى الفريضة. وإن أجبره الحاكم على مفارقته.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو أكره حتى فارقه.(10/582)
وإن كان حقه دراهم، فأعطاه دراهم، وبان أنها رصاص أو نحاس، فإن علم بذلك الحالف قبل المفارقة وفارقه.. حنث؛ لأنه فارقه باختياره وقبل استيفاء حقه، وإن ظنها دراهم جيدة، ففارقه، ثم بان أنها رصاص أو نحاس.. فهو في حكم المكره على المفارقة، وهل يحنث؟ على قولين.
وإن أحاله من عليه الحق على آخر، ففارق الغريم.. حنث الحالف؛ لأنه لم يستوف حقه؛ لأن اسم الاستيفاء حقيقة لا يقع على الحوالة.
[فرع: حلف بالله لا يفارقه حتى يستوفي فدفع عوضا لمن له حق عليه]
وإن قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي، فدفع إليه من عليه الحق عما عليه من الحق عوضا؛ بأن كان له عليه دراهم أو دنانير، فأعطاه بها عوضا، وفارقه من له الحق.. حنث، سواء كان العوض يساوي حقه أو لا يساوي؛ لأن الذي أخذه ليس هو حقه، وإنما هو عوض عن حقه.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل: (لو أخذ بحقه عوضا، فإن كان قيمته حقه.. لم يحنث، وإن كان أقل حنث) . قال المزني: ليس للقيمة معنى.
قال أصحابنا: وهذا الذي نقله المزني ليس هو مذهب الشافعي، وإنما هو مذهب مالك؛ لأن الشافعي بدأ في (كتاب الأيمان) بمذهب مالك، ثم ذكر مذهب نفسه بعد ذلك، كما تقدم.
وقال أبو حنيفة: (إذا أخذ عن حقه عوضا.. بر في يمينه، سواء كان قيمته حقه أو أقل من حقه) .
دليلنا عليهما: ما مضى.
وأما إذا قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي، ولم يقل: حقي، ثم أخذ منه العوض وفارقه.. فقد قال المحاملي: فإن كان قيمة ما أخذه منه مثل حقه أو أكثر.. لم يحنث؛ لأنه استوفى حقه، وإن كان أنقص منه.. حنث؛ لأنه لم يستوف مثل حقه، بل ترك بعضه.(10/583)
وإن قال: [والله] لا فارقتك وقد بقي لي عليك حق، ثم أخذ منه عوضا، أو أبرأه، ثم فارقه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبق له عليه حق.
[فرع: حلف لا يفارقه حتى يؤدي ما عليه]
وإن قال من عليه الحق: والله لا فارقتك حتى أدفع إليك ما لك علي، أو لأقضينك حقك، فإن كان الحق عينا.. فمعنى القضاء فيها: الرد، فإن وهبها صاحب الحق للحالف، فقبل الهبة، وأذن له في قبضها، وأتت عليه مدة القبض، وكان ذلك قبل أن يردها إلى مالكها.. حنث الحالف؛ لأنه فوت ردها إليه باختياره بقبول الهبة. وإن كان الحق عليه دينا، فأبرأه صاحب الحق، فإن قلنا: إن الإبراء يفتقر إلى القبول، فقبل من عليه الحق.. حنث؛ لأنه فوت الدفع والقضاء بقبوله البراءة، وإن قلنا: إن الإبراء لا يفتقر إلى القبول.. فقد برئ، وقد فاته الدفع والقضاء بغير اختياره.
قال المحاملي: فيحتمل أن يكون في حنثه قولان، كالمكره، ويحتمل أن لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد من جهته فعل بحال، لا مختارا ولا مكرها.
إذا ثبت هذا فإن المفارقة التي يحصل بها الحنث في جميع ذلك كالمفارقة التي ذكرناها في انقطاع خيار المجلس في البيع.
والله أعلم، وبالله التوفيق(10/584)
[باب كفارة اليمين]
إذا حلف بالله، وحنث.. لزمته الكفارة.
قال الطبري في " العدة ": والظاهر من المذهب: أن الكفارة تجب بسببين: اليمين والحنث.
ومن أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين فحسب، والحنث وقت للكفارة. وقال سعيد بن جبير: تجب الكفارة باليمين.(10/585)
وقال أبو حنيفة: (تجب بالحنث) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف بأيمان كثيرة» . ولم يرو عنه أنه كفر عنها، حيث لم يحنث فيها، فلو وجبت باليمين فحسب.. لكفر عنها.
إذا ثبت هذا: فكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهو مخير في هذه الثلاثة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فإن لم يقدر على أحد هذه الثلاث الأشياء.. وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وليس في شيء من الكفارة تخيير وترتيب إلا هذه.
وإن قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار، ثم دخلها، فإن نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى.. لزمه كفارة واحدة، وإن نوى بها الاستئناف.. ففيه قولان:(10/586)
أحدهما: يلزمه كفارتان؛ لأنهما يمينان بالله حنث بهما، فهو كما لو كانتا على فعلين.
والثاني: لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وهو الأصح؛ لأن الثانية لم تفد إلا ما أفادته الأولى.
وإن أطلق ولم ينو شيئا، فإن قلنا: إنه إن نوى الاستئناف لم تلزمه إلا كفارة واحدة.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تلزمه كفارتان.. فهاهنا قولان، بناء على من كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف.
فإن قلنا هناك: لا يلزمه إلا طلقة.. لم تلزمه هاهنا إلا كفارة.
وإن قلنا هناك: تلزمه طلقتان.. لزمه هاهنا كفارتان.
وإن حلف على أمر مستقبل.. فالمستحب له: أن لا يكفر حتى يحنث؛ ليخرج من الخلاف.
وإن أراد أن يكفر قبل الحنث، فإن كانت اليمين على غير معصية، بأن حلف: ليصلين، أو لا يدخل الدار.. جاز له أن يكفر بالإطعام، أو الكسوة، أو العتق، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وربيعة ومالك والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روى أبو داود في " سننه " [ (3277) و (3278) ] : «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها.. فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» .
ولأنه حق مال يتعلق بسببين يختصان به، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة.(10/587)
وإن أراد أن يكفر بالصوم قبل الحنث.. لم يجز.
وقال مالك: (يجوز) .
دليلنا: أنه عبادة بدنية لا حاجة به إلى تقديمها، فلم يجز تقديمها قبل الوجوب، كصوم رمضان.
فقولنا: (بدنية) احتراز من المالية.
وقولنا: (لا حاجة به إلى تقديمها) احتراز من تقديم الصلاة في الجمع وفي السفر والمطر.
وإن كانت اليمين على معصية، بأن حلف: أن لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن تقديم الكفارة رخصة فلا تجوز بسبب المعصية، كالقصر والجمع في سفر المعصية.
والثاني: يجوز؛ لأن الكفارة لا تتعلق بها استباحة ولا تحريم، بل يبقى المحلوف عليه على حالته ويفارق السفر، فإنه سبب في جواز القصر والجمع.
وإن ظاهر من الرجعية، وأراد أن يكفر قبل العود، أو جرح رجلا، وأراد أن يكفر عن القتل قبل موت المجروح، أو جرح المحرم صيدا، وأراد أن يخرج الجزاء قبل موت الصيد، أو احتاج إلى المشي على الجراد المنتشر وهو محرم، أو احتاج إلى استعمال الطيب وهو محرم، فأراد إخراج الكفارة قبل ذلك.. فمن أصحابنا من قال: فيه وجهان كما قلنا في التي قبلها:
أحدهما: يجوز؛ لأنه وجد أحد سببي الكفارة.
والثاني: لا يجوز؛ لأن في ذلك استباحة محظور.
ومنهم من قال: يجوز، وجها واحدا؛ لأنه ليس فيه توصل إلى معصية.
والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما في الصوم.. جاز لهما الفطر وإخراج(10/588)
الفدية لليوم الذي تريد فطره، وهل يجوز إخراج الفدية ليوم بعده؟ فيه وجهان، كالوجهين في تقديم الزكاة لعامين.
[مسألة: يختص العتق بالرقبة المؤمنة]
فإن أراد أن يكفر بالعتق.. أعتق رقبة مؤمنة، على ما ذكرناه في الظهار.
وإن أراد أن يكفر بالإطعام.. أطعم عشرة مساكين، كل مسكين مدا من الطعام، على ما ذكرناه في الظهار.
وإن أراد أن يكفر بالكسوة.. كسا عشرة مساكين، كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة، من قميص، أو عمامة، أو سراويل، أو رداء، أو إزار، أو مقنعة، أو خمار.
وقال مالك، وأحمد: (لا يجزئه إلا ما يجزئ فيه الصلاة) .
قال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه السراويل والعمامة.
دليلنا: أن الشرع ورد بالكسوة مطلقة، وليس له عرف يحمل عليه، فوجب حمله على ما يقع عليه اسم الكسوة، واسم الكسوة يقع على العمامة والمقنعة والخمار والسراويل، فأجزأه، كالقميص، وهل تجزئ فيه القلنسوة؟ فيه وجهان:(10/589)
أحدهما: لا تجزئه؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة.
والثاني: تجزئه؛ لما روي عن عمران بن الحصين، أنه سئل عن قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] فقال: (إذا أعطاهم قلنسوة قلنسوة.. أجزأ، أرأيت لو قدم وفد على الأمير، فأعطاهم قلنسوة قلنسوة.. فإنه يقال: قد كساهم) .
وإن أعطاه خفا، أو شمشكا، أو نعلا، أو جوربا، أو تكة.. لم يجزئه؛ لأن ذلك لا يقع عليه اسم الكسوة.
قال ابن الصباغ: وقد حكى الشيخ أبو حامد في الخف وجهين، والأول هو المشهور.
ويجوز دفع الكسوة مما اتخذ من الصوف والشعر والكتان والخز والوبر والقطن، وأما ما اتخذ من الحرير فإن أعطاه امرأة.. أجزأه، وإن أعطاه رجلا.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه يحرم عليه لبسه.
والثاني: يجزئه؛ لأنه يجوز أن يدفع إلى الرجل كسوة المرأة، وإلى المرأة كسوة الرجل.
والمستحب أن يكون ما يدفعه جديدا، خاما كان أو مقصورا.
فإن دفع لبيسا، فإن كان قد خلق.. لم يجزه؛ لأنه قد ذهبت قوته، فلم يجزه كالطعام المسوس، وإن كان لم يخلق.. أجزأه، كالطعام العتيق.(10/590)
[فرع: أطعم قسما وكسا آخر]
إذا أطعم خمسة، وكسا خمسة.. لم يجزه.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجزئه) .
دليلنا: أنهما نوعان من أنواع الكفارة، فلم يجز إخراج الكفارة منهما، كما لو أعتق نصف رقبة، وكسا خمسة.
[مسألة: يكفر بالإطعام والكسوة عند غناه]
ولا يجب عليه أن يكفر بالمال - وهو الإطعام، أو الكسوة، أو العتق - إلا إذا قدر على ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام؛ بحيث لا يجوز له أخذ الزكاة بالفقر أو المسكنة.
فإن لم يجد ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. انتقل إلى صوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وهل يجب فيها التتابع؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب فيها التتابع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لما روي: أن ابن مسعود كان يقرؤها: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. والقراءة الشاذة كخبر الواحد، ولأنه صوم في كفارة جعل بدلا عن العتق، فوجب فيه التتابع، كصوم الظهار.(10/591)
فقولنا: (صوم في كفارة) احتراز من صوم النذر المطلق، ومن صوم قضاء رمضان.
وقولنا: (جعل بدلا عن العتق) احتراز من صوم فدية الأذى.
والثاني: لا يجب فيها التتابع، بل يجزئ فيه التفريق، وبه قال مالك، وعطاء.
قال المحاملي: وهو الأصح، ووجهه: القراءة المشهورة: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . ولم يفرق بين أن تكون متتابعة أو متفرقة. ولأنه صوم ورد به القرآن مطلقا، فأجزأ فيه التفريق، كصوم فدية الأذى.
وأما قراءة ابن مسعود: فإن عموم القرآن أولى منها.
فإذا قلنا: يجب فيها التتابع، فصامتها المرأة وحاضت في أثنائها.. انقطع تتابعها.
وقال أحمد: (لا ينقطع تتابعها، كصوم الشهرين في كفارة القتل) .
دليلنا: أنه يمكنها أن تصوم ثلاثة أيام متتابعات، لا يتخللها الحيض، فإذا تخللها.. قطعها، كما لو صامتها وتخللها يوم الأضحى، ويخالف صوم الشهرين، فإنه لا يمكنها ذلك إلا بتأخير الصيام إلى الإياس، وذلك تغرير بالصوم.
وأما إذا تخلل المرض والسفر في الثلاث: فالحكم فيه كما ذكرنا في كفارة الظهار.
[مسألة: مات وعليه كفارات ونحوها]
إذا مات وفي ذمته كفارات، أو هدي، أو نذر مال.. فإن ذلك لا يسقط بموته.
وقال أبو حنيفة: (يسقط بموته) . وقد مضى الدليل عليه في الزكاة.
إذا ثبت أنها لا تسقط.. فإنها تخرج من تركته، فإن اتسعت تركته لجميعها.. أخرجت، وإن كان ماله لا يتسع لجميعها، فإن كانت كلها متعلقة بالعين، بأن كان(10/592)
عليه زكاة مال والمال باق وهو أنواع، كالذهب والفضة والمواشي والزرع.. سوى بين الجميع.
وهكذا إذا كانت متعلقة بالذمة، بأن كان المال الذي وجبت فيه الزكاة تالفا واستفاد غيره، أو كانت نذورا، أو كفارات.. سوى بين الجميع، وأخرج من كل عين بقسطها.
وإن كان بعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين.
وإن كان عليه حق لله تعالى، وحق للآدمي، وبعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين على ما تعلق بالذمة، سواء كان لله أو للآدمي.
وإن كان الحقان متعلقين بالعين، أو متعلقين بالذمة.. فأيهما يقدم؟ فيه ثلاثة أقوال، مضت في (الزكاة) .
[فرع: مات وفي ذمته كفارة يمين ولم يوص]
وإن كان عليه كفارة يمين، ومات ولم يوص بها.. فالواجب عليه أقل الأنواع، وهو الإطعام.
ويجوز للورثة أن يكسوا المساكين، وهل يجوز لهم أن يعتقوا عنه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن رضي بأن يعتق عنه عن كفارة اليمين.. كان ذلك من ثلثه، سواء أطلق أو قال: من رأس المال، أو من الثلث؛ لأنه ليس بواجب.
فإن وفى ثلثه برقبة تجزئ.. فلا كلام، وإن لم يف الثلث برقبة تجزئ.. ففيه وجهان.
وقال أبو إسحاق: يعزل قدر الإطعام من رأس المال، ويضاف إليه الثلث من الباقي، فإن وفى برقبة تجزئ.. أعتقه، وإلا.. أطعم عنه، كما يقول فيه إذا وصى أن يحج عنه من دويرة أهله، ولم يف الثلث بذلك.
ومن أصحابنا من قال: تبطل الوصية بالعتق، ويطعم عنه، وهو ظاهر النص؛(10/593)
لأن الذي وصى به لم يحتمله الثلث، فسقط، ويفارق الحج؛ لأن الذي وصى به هو الواجب، وإنما أراد تكميله، والعتق هاهنا غير واجب، وإنما الواجب الإطعام.
[مسألة: فرض كفارة العبد الصوم]
إذا وجبت على العبد كفارة اليمين أو غيرها من الكفارات.. فإن فرضه الصوم؛ لأنه لا يملك المال على الجديد.
وعلى القديم: (لا يملك العبد إلا بتمليك السيد له، وهو ملك ضعيف) .
فإن أراد العبد أن يكفر بالمال بإذن السيد، أو أراد السيد أن يكفر عنه به.. فلا يجوز على قوله الجديد؛ لأنه لا يملك المال بحال.
وأما على قوله القديم: فيجوز أن يكفر بإذن السيد، أو يكفر عنه السيد بالإطعام والكسوة، ولا يجوز بالعتق.
قال ابن القفال في " التقريب ": وقد قيل: يصح، وتثبت له الولاية. وبه قال أحمد، وأنكر ذلك سائر أصحابنا.
دليلنا: أن العتق لا ينفك عن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء؛ لأن الولاء يتضمن الولاية والميراث، والعبد لا يلي ولا يرث، فلذلك لم يثبت له الولاء.
إذا ثبت هذا: وأراد العبد أن يصوم عن الكفارة، فإن كان الصيام في وقت يضر بالعبد أو يضعفه عن العمل؛ لشدة الحر، أو لطول النهار، فإن حلف بإذن السيد، وحنث بإذنه، أو حلف بغير إذنه، وحنث بإذنه.. جاز له أن يصوم بغير إذنه؛ لأن إذنه فيما يوجب الصيام إذن له به، كما إذا أذن له في الإحرام فأحرم.. لم يكن له منعه من فعله.
وإن حلف وحنث بغير إذنه.. كان للسيد منعه من الصيام.
وقال أحمد: (ليس له منعه) .(10/594)
دليلنا: أن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه، وعلى السيد ضرر فيه؛ لأن منفعته تنقص، فكان له منعه، كما لو أراد أن يحرم بالحج بغير إذنه.
وإن حلف بإذنه، وحنث بغير إذنه.. فهل يجوز له الصوم بغير إذنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه أذن له في أحد سببي الكفارة، فهو كما لو أذن له في الحنث دون اليمين.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأنه لو حلف بغير إذنه، وحنث بغير إذنه.. لم يجز له أن يصوم بغير إذنه ولم ينهه عن الحنث، فلأن لا يجوز له الصوم بغير إذنه وقد نهاه عن الحنث باليمين أولى.
وإن كان الصوم في نهار لا يضعفه عن العمل، ولا يضر ببدنه، كالصوم في الشتاء وما قاربه من الزمن.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: حكمه حكم الصوم في الزمان الذي يضر ببدن العبد أو بعمله؛ لأنه ينقص عن نشاطه.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ، والمحاملي غيره -: أنه ليس للسيد منعه منه بحال؛ لأنه لا يضر به، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة» ، أي: أنه يحصل من غير مشقة.(10/595)
قال أبو إسحاق: وكذلك إذا أراد العبد أن يتطوع بالصيام في هذا الزمان من غير إذن السيد، أو أراد أن يتطوع بالصلاة في غير زمان خدمته.. لم يكن للسيد منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
فكل موضع قلنا: لا يجوز له أن يصوم بغير إذن سيده إذا صام بغير إذنه.. فللسيد أن يحلله منه، كما قلنا في الحج، وإن لم يحلله منه.. أجزأه؛ لأنه من أهل الصيام، وإنما منع منه لحق السيد، فإذا فعله.. صح، ويسقط به الفرض، كصلاة الجمعة.
[فرع: حلف عبد ثم عتق كان كالأحرار]
وإن حلف العبد، ثم أعتق، ثم حنث.. فحكمه في الكفارة حكم الأحرار؛ لأن الوجوب والأداء في حال الحرية.
وإن حنث، ثم أعتق قبل أن يكفر، فإن كان معسرا.. ففرضه الصوم؛ لأنه حين الوجوب وحين الأداء من أهل الصوم، وإن كان موسرا، فإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء، أو بأغلظ الحالين.. ففرضه أحد الأشياء الثلاثة، إما الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، ولا يجزئه الصيام.
وإن قلنا: إن الاعتبار بالكفارة بحال الوجوب.. ففرضه الصوم؛ لأنه كان حين الوجوب معسرا، فإذا أراد أن يكفر بالمال.. جاز له أن يطعم، أو يكسو، أو يعتق.
ومن أصحابنا من قال: لا يكفر بالعتق، قولا واحدا، وفي الإطعام والكسوة القولان في ملك العبد؛ لأن الاعتبار بحال الوجوب، وحال الوجوب كان عبدا.(10/596)
والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قال: (إذا أعتق فكفر بالمال.. أجزأه؛ لأنه حينئذ مالك للمال) . واعتباره بحال الوجوب في ذلك لا يصح؛ لأنه إذا كفر بالمال في حال رقه.. احتاج إلى إذن السيد، وبعد العتق لا يحتاج إلى ذلك.
[مسألة: على المبعض كفارة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر، فكان في يده لنفسه مال.. لم يجزئه الصوم) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان نصفه عبدا ونصفه حرا، ووجبت عليه كفارة؛ فإن لم يكن له مال بنصفه الحر.. ففرضه الصوم، وإن كان له مال بنصفه الحر.. فعليه أن يكفر بالإطعام أو الكسوة، ولا يجوز له أن يكفر بالعتق؛ لأنه إذا لم تكمل فيه الحرية.. فليس من أهل الولاية والميراث.
وقال المزني: فرضه الصيام. وتابعه أبو العباس ابن سريج على هذا؛ لأن عدم بعض الحرية فيه بمنزلة عدمه لبعض الطعام، وقال: إنما قال الشافعي هذا على قوله القديم: (إن العبد يملك) .
والمذهب الأول؛ لأنه قادر على التكفير بالمال فاضلا عن كفايته على الدوام، فأشبه الحر، ويخالف إذا عدم بعض الطعام، فإنه غير قادر عليه.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق(10/597)
[كتاب العدد](11/5)
كتاب العدد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [سورة البقرة: 228] ) .
وجملة ذلك: أن الزوجة يجب عليها العدة بطلاق الزوج، أو بوفاته.
فأما عدة الطلاق: فينظر فيه.
فإن طلقها قبل الخلوة بها والدخول.. لم تجب عليها العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] [سورة الأحزاب: 49] .
وإن طلقها بعد أن دخل بها.. وجبت عليها العدة؛ لأن الله تعالى لما لم يوجب عليها العدة إذا طلقت قبل الدخول.. دل على: أنها تجب عليها العدة بعد الدخول، ولأن رحمها قد صار مشغولا بماء الزوج، فوجبت عليها العدة؛ لبراءته منه.
وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد على: (أن الخلوة لا تأثير لها في استقرار المهر، ولا في إيجاب العدة، ولا في قوة قول من يدعي الإصابة) .
وقال أبو حنيفة: (الخلوة كالإصابة في استقرار المهر لها وإيجاب العدة) .(11/7)
وقال مالك: (للخلوة تأثير في أنه يقوى بها قول من يدعي الإصابة منهما دون استقرار المهر لها وإيجاب العدة) .
وقال الشافعي في القديم: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: تأثيرها في القديم كقول أبي حنيفة في استقرار المهر وإيجاب العدة.
ومنهم من قال: تأثيرها في القديم كقول مالك. والأول: أصح.
فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أُرِخِيَ الستر، وأغلق الباب.. فقد وجب المهر، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم) ، ولأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كاستيفائها في الإجارة، فكذلك في النكاح.
وإذا قلنا بقوله الجديد - وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وهو الأصح - فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] . ولم يفرق بين أن يكون خلا بها أو لم يخل بها. ولأنها خلوة عريت عن الإصابة، فلم يتعلق بها حكم، كالخلوة في غير النكاح.(11/8)
وما روي عن عمر.. يعارضه ما رويناه عن ابن عباس، وابن مسعود، وعلي: أنه يحتمل أنه أراد بقوله: (فقد وجب المهر) أي: فقد وجب تسليم المهر؛ لأنها قد مكنت من نفسها، ولم يرد به الاستقرار.
[مسألة العدة على المطلقة الحائل والحامل]
] : وإذا وجبت العدة على المطلقة.. لم يخل: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حاملا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ، ولأن العدة تراد لبراءة الرحم، وبراءة الرحم تحصل بوضع الحمل، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبايا: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» .
وإن كان الحمل ولدا واحدا.. لم تنقض العدة إلا بوضع جميعه، فإن خرج بعضه دون بعض، فاسترجعها الزوج قبل انفصال جميعه.. صحت رجعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وهذه لم تضع حملها.(11/9)
وإن كان الحمل ولدين أو أكثر، فوضعت واحدا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع ما بقي معها منه.
وإن راجعها الزوج قبل وضع ما بعد الأول.. صحت الرجعة، وبه قال أكثر الفقهاء، إلا عكرمة، فإنه قال: تنقضي عدتها بوضع الأول.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . والحمل يقع على جميع ما في البطن من الأولاد، بدليل: أن رجلا لو قال لامرأته: إذا وضعت حملك، فأنت طالق.. لم تطلق إلا بوضع جميع ما في بطنها من الأولاد.
[فرع وضعت جنينا أو ميتا]
] . وإذا ولدت المرأة ولدا ميتا، أو جنينا وقد بان فيه شيء من خلقة الآدمي، من عين، أو ظفر.. أنقضت به العدة، ووجبت فيه الغرة على ضاربها، ووجبت فيه الكفارة، وتصير الجارية به أم ولد.
وإن أسقطت مضغة ليس فيها شيء ظاهر من خلقة الآدمي، إلا أنه شهد أربع نسوة ثقات من أهل المعرفة أن فيه تخطيطا باطنا من خلقة ابن آدم.. تعلقت به الأحكام الأربعة في الولد.
وحكي: أن أبا سعيد الإصطخري أتي بسقط لم يبن فيه شيء من خلقة الآدميين، فتوقف فيه، فشهد القوابل أنه مخطط مصور، فطرح في ماء جار، فاستجسد وبان تخطيطه وتصويره، فحكم بانقضاء العدة به.
وإن أسقطت شيئا مستجسدا ليس فيه تخطيط ظاهر ولا باطن، ولكن شهد أربع من القوابل أن هذا مبتدأ خلق آدمي ولو بقي لتخطط وتصور.. فقد قال الشافعي: (تنقضي به العدة) . وقال في (أمهات الأولاد) ما يدل على: أنها لا تصير به أم ولد. واختلف أصحابنا فيهما على طريقين:(11/10)
فـ[الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.
و [الطريق الثاني] : منهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنقضي به العدة، ولا تصير به أم ولد، وقد مضى ذلك في عتق أمهات الأولاد.
وإن ألقت شيئا مستجسدا، ولم يعلم: هل هو مبتدأ خلق آدمي، أو لا؟ لم تنقض به العدة؛ لأنه لم يثبت كونه آدميا بالمشاهدة ولا بالبينة.
[فرع أقل مدة الحمل]
] : أقل مدة الحمل الذي يولد بها الولد حيا ويعيش.. ستة أشهر. قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه؛ لما روي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بامرأة ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فقال ابن عباس: (لو خاصمتك إلى كتاب الله لخصمتك، فقد قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] [الأحقاف: 15] ، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] [لقمان: 14] ، فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر. فاستحسن الناس انتزاعه هذا من الآية.
وذكر القتيبي: أن عبد الملك بن مروان وضعته أمه لستة أشهر.(11/11)
وأما أكثر مدة الحمل: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فمذهبنا: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.
وذهب الزهري، وربيعة، والليث إلى: أن أكثر مدة الحمل سبع سنين.
وذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وعثمان البتي إلى: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وروي ذلك عن عائشة.
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا.
والثانية: كقول الزهري، وهو الصحيح عنه.
والثالثة: كقول أبي حنيفة.
والرابعة: ذهب أبو عبيد إلى: أنه لا حد لأكثره.
دليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشرع.. كان المرجع في حده إلى الوجود، وقد ثبت الوجود فيما قلناه.(11/12)
قال الشافعي: (ولد ابن عجلان لأربع سنين) . ومثل الشافعي لا يقول هذا إلا بعد أن علمه.
وروي: أنه قيل لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة أنها قالت: (لا تزيد المرأة عن السنتين في الحمل) ، فقال مالك: سبحان الله! من يروي هذا؟ هذه جارتنا امرأة عجلان، حملت ثلاث بطون، كل بطن يبقى الحمل في جوفها أربع سنين!. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: امرأة محمد بن عجلان.
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد: أن سعيد بن المسيب أراه رجلا، وقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، ثم عاد وقد ولد هذا وله ثنايا.
وذكر القتيبي: أن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين. وكذلك منصور بن ريان، ومحمد بن عبد الله بن جبير، وإبراهيم بن أبي نجيح ولدوا لأربع سنين، وإذا وجد ذلك عاما.. وجب المصير إليه.
فإن قيل: فقد روى سليمان بن عباد بن العوام قال: كان عندنا بواسط امرأة بقي الحمل في جوفها خمس سنين، ثم ولدت غلاما له شعر إلى منكبيه، فمر به طائر، فقال له: إش!! وقال الزهري: وجد حمل لسبع سنين.
قلنا: لم يثبت هذا متكررا، فدل على بطلانه، وما رويناه قد ثبت متكررا.(11/13)
وإذا تزوج الرجل امرأة وطلقها، فادعت: أنها وضعت ولدا تنقضي به العدة.. فأقل مدة يقبل فيها قولها أن تدعي ذلك لثمانين يوما من يوم النكاح مع إمكان الوطء، فإن مضى لها من يوم النكاح وإمكان الوطء أقل من ذلك.. لم يقبل قولها؛ لأن الولد لا يتصور في أقل من ذلك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أحدكم ليمكث في بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين يوما» . وإنما يتصور إذا صار مضغة.
[فرع المطلقة الحائل]
مسألة: [المطلقة الحائل] : وإن كانت المطلقة حائلا.. نظرت:
فإن كانت ممن تحيض.. لم يخل: إما أن تكون حرة، أو أمة.
فإن كانت حرة.. اعتدت بثلاثة أقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ) . وهذا أمر بلفظ الخبر، ولا خلاف في ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن (القرء) في اللغة: يقع على الطهر وعلى الحيض، وهو من أسماء الأضداد، كقولهم: الجون، يقع على الأبيض وعلى الأسود، وقولهم: أخفيت الشيء: أسررته. وأخفيته: أظهرته.
وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل واحد منهما قرءا، فروي: أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» . وأراد: أيام حيضك.
وروي: أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «وإنما السنة أن تطلقها في كل قرء طلقة» . وأراد به: الطهر.
وأصل القرء في اللغة: الجمع، يقال: قرأت الماء في الحوض، أي: جمعته، والحوض يسمى: المقرأة، وقرأت الطعام في الشدق، أي: جمعته.(11/14)
ومن أصحابنا من قال: إن اسم القرء يقع على الطهر والحيض حقيقة فيهما؛ لأن حالة الطهر حالة اجتماع الدم، فسمي: قرءا لذلك، وسمي الحيض: قرءا أيضا؛ لأن الدم يجتمع في الرحم.
ومن أصحابنا من قال: إنه حقيقة في الطهر؛ لأنه حالة جمع الحيض، ومجاز في الحيض؛ لمجاورته حالة اجتماع الدم، وأما القرء المذكور في قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .. فلا خلاف أنه لم يرد بذلك الحيض والطهر، وإنما أراد أحدهما. واختلف أهل العلم في المراد منهما:
فمذهبنا: أن المراد بالقروء المذكورة في الآية الأطهار، وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة في الصحابة، ومن التابعين: فقهاء المدينة السبعة، والزهري، وربيعة، ومالك.
وذهبت طائفة إلى: أن المراد بالقرء في الآية الحيض، وبه قال عمر، وعلي بن(11/15)
أبي طالب، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن البصري، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى: كقولنا:
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فأدخل الهاء في الثلاثة، والهاء إنما تدخل في المذكر دون المؤنث، فدل على: أن المراد به، ما لو صرح به.. ثبتت الهاء به، وهو ثلاثة أطهار، دون ما لو صرح به.. سقطت الهاء، وهو ثلاث حيض.
ولأن القرء مأخوذ من الجمع، وحالة اجتماع الدم في الرحم هو حال الطهر، فكان أولى.
ولأن الله تعالى قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وأراد: في وقت عدتهن. والطلاق المأمور به هو حالة الطهر دون حالة الحيض. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] في الأقراء قولين:
أحدهما: أن الأقراء: الأطهار، وهو الأصح.
والثاني - ذكره في " الرسالة " -: (أن الأقراء الانتقال من الطهر إلى الحيض) .
والمشهور: هو الأول، وعليه التفريع، فينظر فيه:
فإن طلقها وهي حائض.. وقع الطلاق محرما، وتكون معتدة، ولكن لا يحتسب لها بالحيض من الأقراء، فإذا طهرت.. دخلت في القروء.(11/16)
وإن طلقها وهي طاهر، وبقيت بعد الطلاق طاهرا.. احتسب بما بقي من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق إنما حرم في الحيض لئلا يضر بها بتطويل العدة، فلو لم يحتسب ما بقي من الطهر قرءا.. لكان الطلاق في الطهر أضر بها في تطويل العدة من الطلاق في الحيض.
فإن قيل: فقد أمرها الله تعالى أن تعتد بثلاثة قروء، فكيف تجوزون هاهنا أن تعتد بقرأين وبعض الثلاث؟
قلنا: العرب تسمي اليومين وبعض الثالث ثلاثة أيام، فيقولون: لثلاث ليال خلون وهم في بعض الثالثة، وكقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . وزمان الحج شهران وبعض الثالث.
وإن وافق انقضاء الطلاق انقضاء طهرها، أو قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء طهرك.. فالمذهب: أن الطلاق يقع محظورا، ولا يحسب لها بما يوافق لفظ الطلاق من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق يتعقب الإيقاع، فتكون العدة بعد الطلاق، وذلك يصادف أول الحيض.
وخرج أبو العباس وجها آخر: أن الطلاق يكون مباحا ويحتسب بالطهر الذي وافق لفظ الطلاق قرءا. وليس بشيء.
وإن قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء حيضتك.. فهل هو طلاق محظور، أو مباح؟ على وجهين، المذهب: أنه مباح.
[فرع يعتد بالطهر الذي لم يصبها فيها]
] : إذا طلقها وهي طاهر.. اعتدت بما بقي من الطهر قرءا، فإذا حاضت وطهرت.. دخلت في القرء الثاني، فإذا حاضت ثانيا، ثم طهرت بعده.. دخلت في القرء الثالث، فإذا رأت الدم في الحيضة الثالثة.. فقد قال الشافعي في القديم والجديد:(11/17)
(إن عدتها تنقضي برؤية الدم) . وقال في " البويطي ": (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: تنقضي برؤية الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذه قد تربصت ثلاثة قروء. ولأن الظاهر أنه حيض؛ بدليل: أنا نأمرها بترك الصلاة فيه.
والثاني: لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه دم حيض حتى يمضي عليها يوم وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه كذلك.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (تنقضي عدتها برؤية الدم) أراد: إذا رأت الدم أيام عادتها؛ لأنها لما رأته أيام عادتها.. قوي أمره، فانقضت عدتها به.
وحيث قال: (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) أراد: إذا رأت الدم قبل عادتها؛ لجواز أن يكون دم فساد.
وهل يكون اليوم والليلة من الدم، أو اللحظة من العدة؟ فيها وجهان:
أحدهما: أنه من العدة؛ لأنه لا بد من اعتباره.
فعلى اعتبار هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. صحت رجعته، وإن تزوجت فيه.. لم يصح.
والثاني: أنه ليس من العدة، وإنما يعلم به انقضاء العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذا ليس من القروء.
فعلى هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. لم يصح، وإن تزوجت فيه.. صح.
قال الشافعي: (وليس لاعتبار الغسل بعد الحيضة الثالثة وجه) . وأراد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإنه يقول: (إذا انقطع دمها من الحيضة الثالثة، فإن انقطع لأكثر الحيض.. خرجت من العدة، وإن انقطع لأقله.. لم تخرج من العدة حتى تغتسل، أو يمر عليها وقت الصلاة) .(11/18)
وقال أحمد - على الرواية التي تقول: (إن الأقراء الحيض) -: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل بكل حال) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فمن اعتبر الغسل.. فقد أوجب عليها أكثر مما أوجب الله عليها، فلم يجز.
[مسألة ادعت انقضاء الأقراء]
إذا طلق امرأته: واعتدت بالأقراء، وادعت انقضاء الأقراء الثلاثة في زمان يمكن انقضاؤها فيه.. قبل قولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . قيل في التفسير: من حمل وحيض، فتواعدهن على كتمان ما في أرحامهن، كما تواعد الشهود على كتمان الشهادة بقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، وكما تواعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلماء على كتمان العلم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه.. ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . فلما ثبت أن قول الشهود مقبول فيما شهدوا به، وقول العلماء مقبول فيما أخبروا به.. وجب أن يكون قولها مقبولا فيما أخبرت به.
إذا ثبت هذا: فإن أقل ما تنقضي به العدة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما ولحظتان؛ لأنه يحتمل أن يطلقها وهي طاهر، فتبقى بعد الطلاق لحظة طاهرا، ثم تطعن في الحيض، فتحتسب بتلك اللحظة قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بتلك قرءان، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا(11/19)
طعنت في الحيضة الثالثة، ومضت لحظة.. احتسب بالطهر قبلها قرءا ثالثا. وهذا إذا قلنا: إنه لا يفتقر إلى مضي يوم وليلة من الحيضة الثالثة، وهو الصحيح.
فأما إذا قلنا بقوله في " البويطي ".. فلا يقبل قولها في أقل من ثلاثة وثلاثين يوما ولحظة.
هذا إذا طلقها وهي طاهر، أو لم يعلم ما كان حالها.
فأما إذا اعترفت: أنه طلقها وهي حائض.. فلا يقبل قولها في أقل من سبعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأنه يحتمل أنه طلقها وبقيت لحظة بعد الطلاق حائضا، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب بذلك قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بذلك قرءا ثانيا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. وهذا على الصحيح من المذهب.
وإن قلنا بما قال في " البويطي ".. لم يقبل قولها حتى يمضي عليها ثمانية وأربعون يوما ولحظة.
وإذا ادعت انقضاء العدة في مدة يمكن انقضاؤها فيها، فإن صدقها الزوج.. فلا يمين عليها، وإن كذبها.. حلفت على ذلك؛ لجواز أن تكون كاذبة.
وإن ادعت انقضاء عدتها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها، مثل: أن تدعي: أن عدتها انقضت في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.. لم يقبل قولها؛ لأنا نعلم كذبها يقينا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أقامت على الدعوى حتى مضى اثنان وثلاثون يوما ولحظتان.. قبل قولها) .
قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: أراد الشافعي بذلك: إذا كانت تقول: قد انقضت عدتي، وهي مقيمة على ذلك حتى تجاوز الزمان الذي يمكن انقضاء العدة(11/20)
فيه، فيقبل قولها. فأما إذا قالت: انقضت عدتي في الوقت الذي قلت.. لم يقبل قولها؛ لأنها تدعي ما يقطع بكذبها فيه.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كانت مقيمة على ما أخبرت به.. لم نحكم بانقضاء عدتها، وإن قالت: وهمت في الإخبار، والآن انقضت عدتي.. قبل قولها.
وحكي عن أبي سعيد الإصطخري: أنه قال: إذا كانت لها عادة معلومة في الحيض.. لم يقبل قولها إلا بعد مضي مدة يمكن انقضاء العدة فيه على عادتها؛ لأنها إذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من ذلك.. كان قولها مخالفا للظاهر، فلم يقبل. وهذا ليس بشيء؛ لأن العادة قد تختلف، فإذا أمكن صدقها.. قبل قولها.
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يقبل قولها في أقل من تسعة وثلاثين يوما؛ لأن أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام.
وقال أبو حنيفة: (لا يقبل قولها في أقل من ستين يوما) . فاعتبر أكثر الحيض عنده وأقل الطهر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن أكثر الحيض نادر.
[فرع علق طلاقها بولادتها]
] . إذا قال لها: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت.. طلقت، فإن ادعت انقضاء العدة.. لم يقبل قولها في أقل من تسعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأن أقل النفاس لحظة، فإذا ولدت.. بقيت في النفاس لحظة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا، ثم حاضت يوما وليلة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثانيا، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثالثا، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وقال ابن الصباغ: يقبل قولها في سبعة وأربعين يوما ولحظة؛ لأنها قد تلد ولا ترى دما. وهذا أقيس.(11/21)
[مسألة فيمن يتباعد حيضها]
وإن كانت ممن تحيض، فتباعد حيضها، فإن تباعد تباعدا في اعتادت عودته.. انتظرت عودته، حتى لو كانت عادتها أن تحيض في كل سنة مرة.. لم تنقض عدتها إلا بثلاث سنين، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل سنتين مرة.. لم تنقض عدتها إلا بست سنين.
وإن كان تباعده خلاف عادتها، فإن كان ذلك لعارض، كالمرض، والرضاع.. انتظرت عوده؛ لما روى الشافعي بإسناده: (أن حبان بن منقذ طلق امرأته طلقة واحدة، وكانت لها منه ابنة ترضعها، فتباعد حيضها، فمرض حبان بن منقذ، فقيل له: إن مت.. ورثتك، فمضى إلى عثمان وعنده علي، وزيد بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال عثمان لعلي وزيد: ما تريان في ذلك؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت.. ورثها، وإن مات.. ورثته؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله، فانتزع ابنته، فعاد إليها الحيض، فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان) ولا مخالف لهم، فدل على: أنه إجماع.
وإن تباعد حيضها لغير عارض يعرف.. ففيه قولان:(11/22)
قال في القديم: (تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها، ثم تعتد بالشهور) . وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن العدة تراد لبراءة الرحم، فإذا علم براءته ... فلا معنى للتربص، ولأنا لو قلنا: تقعد إلى الإياس.. لأضر ذلك بها في منعها من النكاح، وأضر بالزوج في وجوب النفقة والسكنى عليه، فوجب إزالته.
وقال في الجديد: (تقعد إلى الإياس، ثم تعتد بالأشهر) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فدل على: أنه لا يجوز لغير الآيسة والصغيرة أن تعتد بالشهور، وهذه غير آيسة قبل أن تمضي عليها مدة الإياس.
فإذا قلنا بقوله القديم: بأنه يعتبر براءة الرحم.. فهل يعتبر براءة رحمها في الظاهر، أو براءته قطعا؟ فيه قولان:
أحدهما: يعتبر براءته في الظاهر، وهو: أن تمكث تسعة أشهر، وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن التسعة الأشهر غالب مدة الحمل، فإذا لم يتبين بها حمل.. فالظاهر براءة رحمها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن، كما أنها إذا كانت من ذوات الأقراء، فاعتدت بثلاثة أقراء.. فإنه يحكم بانقضاء عدتها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن وأن هذا دم رأته على الحمل.
والقول الثاني: أنه يعتبر براءة رحمها قطعا، وهو: أن تمكث أربع سنين؛ لأنه لا يتيقن براءة الرحم من الولد إلا بهذا القدر، إذ لو كان الاعتبار ببراءة الرحم في الظاهر.. لوجب إذا مضى عليها ثلاثة أشهر ولم يظهر بها حمل.. أن يحكم ببراءة رحمها؛ لأن الظاهر أن الحمل يتبين بثلاثة أشهر.
وإذا مضت لتسعة أشهر على القول الأول، أو أربع سنين على القول الثاني، ولم(11/23)
يظهر بها حمل ولا عاودها الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر لحملها، وثلاثة أشهر لعدتها) ، ولأنا إنما اعتبرنا التسعة الأشهر والأربع السنين.. لنعلم بها براءة رحمها؛ لتصير في حكم الآيسات، فإذا صارت في حكم آيسة.. اعتدت عدة الآيسات.
فإن قيل: فالعدة تراد لبراءة رحمها، وقد علم براءة رحمها بالمدة التي مكثت فيها، فلم أوجبتم عليها العدة بعد ذلك؟
قلنا: قد تجب العدة عند العلم ببراءة رحمها، ألا ترى أن الصغيرة يجب عليها العدة، وإذا علق طلاق امرأته بوضع حملها، فوضعته.. فإنها تطلق وتجب عليها العدة مع تحققنا لبراءة رحمها؟
فإن عاودها الدم.. نظرت:
فإن عاودها قبل انقضاء مدة التربص، أو قبل انقضاء الثلاثة الأشهر بعد مدة التربص.. وجب عليها أن تعتد بالأقراء؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، وتعتد بما مضى قرءا.
وإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وبعد أن تزوجت بزوج.. فإنه يجب عليها أن تعتد، وجها واحدا؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء العدة، وحصلت حرمة الزوجية، فلم تؤثر معادة الدم.
فإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وقبل أن تتزوج بزوج.. ففيه وجهان:(11/24)
أحدهما: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، وتحتسب بما مضى قرءا؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، فهو كما لو عاودها قبل انقضاء مدة العدة.
والثاني: لا يلزمها أن تعتد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للأزواج، فلم يجز نقضه بمعاودة الدم. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا عاودها الدم بعد العدة وقبل أن تتزوج.. فالمنصوص: (أنه لا يلزمها الاعتداد بالأقراء) .
وفيها قول آخر مخرج: أنه يلزمها أن تعتد بالأقراء.
وإن عاودها الدم بعد انقضاء عدتها وبعد أن تزوجت بآخر.. فمنهم من قال: قولان، كما لو عاودها بعد العدة وقبل أن تتزوج، وهو اختيار القفال.
ومنهم من قال: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء، ولا يبطل النكاح الثاني، قولا واحدا.
وأما إذا قلنا بقوله الجديد، وأنها تمكث إلى الإياس.. ففيه قولان:
أحدهما: تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء عصبتها؛ لأن نساء القبيلة يتقاربن في الإياس.
والثاني: أنها تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء العالم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وإنما تصير آيسة إذا بلغت سنا لم تبلغه امرأة من العالم إلا وأيست. ولأن حيضها لو انقطع لعارض.. اعتبر يأسها: أن تبلغ سنا لم تبلغه امرأة من نساء العالم إلا وأيست من الحيض، فكذلك هذا مثله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا بقوله الجديد.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو الأشهر -: أنها تعتبر بأقصى امرأة من نساء زمنها إياسا.
والثاني: من نساء بلدها.(11/25)
والثالث: من نساء عصبتها.
والرابع: من نساء قرابتها.
فإذا قلنا: إنها تقعد إلى السن الذي تيأس فيه نساء العالم.. فليس للشافعي فيه نص، واختلف أصحابنا فيه:
فاق الشيخ أبو إسحاق: هو اثنان وستون سنة.
وقال ابن القاص، والشيخ أبو حامد: هو ستون سنة، وإن ادعت دون ذلك.. لم يقبل.
وقال أحمد ابن حنبل: (أقله خمسون سنة) .
وقيل: إن غير العربية لا تحيض بعد خمسين سنة، والعربية تحيض بعد خمسين سنة، ولا تحيض بعد ستين سنة إلا قرشية.
فإذا بلغت سن الإياس ولم تر الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن ما قبلها لم يكن عدة، وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن عاودها الدم بعد أن بلغت سن الإياس.. فهو كما لو عاودها الدم بعد تسعة أشهر، أو أربع سنين على القول القديم، على ما مضى.
قال: وإن رأت الدم، ثم تباعد مرة أخرى.. فحكى القفال عن الشافعي: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر) ، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هذا على القول القديم، فأما على القول الجديد: فلا تحتاج أن تقعد شيئا.
ومنهم من قال: على القولين جميعا، يلزمها أن تقعد تسعة أشهر استظهارا، ولا تبني العدة على تلك الحيضة؛ لأنها صارت كلا شيء، وهل تبني على ما مضى من الشهر قبل الحيضة؟ فيه وجهان:(11/26)
أحدهما: لا تبني، بل تستأنف الآن عدة الأشهر.
والثاني: تبني على ما مضى من الأشهر قبل الحيضة.
[مسألة عدة غير ذوات الأقراء]
وإن كانت المطلقة ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. اعتدت بثلاثة أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى بين عدة ذوات الأقراء بالأقراء، وعدة الحوامل بالوضع، وعدة المتوفى عنها زوجها بالشهور، ولم يذكر عدة المطلقة الآيسة من الحيض، والصغيرة، فشك الناس في عدتهما، فأنزل الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] يعني: إن لم تعلموا عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، ثم قال: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] يعني: واللائي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا.
إذا ثبت هذا: فإن كان الطلاق مع أول الشهر، بأن قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق.. اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وأما إذا طلقها في أثناء الشهر، كأن طلقها وقد مضى خمسة أيام.. فإنها تعتد بما بقي من الشهر، ثم تعتد بالشهرين بعده بالأهلة، فإن كان الشهر الأول تاما.. اعتدت من الشهر الرابع خمسة أيام، وإن كان الأول ناقصا.. اعتدت من الشهر الرابع ستة أيام، وتلفق الساعات عندنا.
وقال مالك: (لا تلفق الساعات، وإنما تلفق الأيام) . وبه قال الأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (تقضي عدد ما فاتها من الشهر الأول من الرابع) . ويحصل الخلاف بيننا وبينه، إذا كان ناقصا، وكان قد طلقها وقد مضى منه خمسة أيام.. فإنها تعتد عنده من الرابع خمسا، وعندنا ستا.(11/27)
وقال أبو محمد بن عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: إذا طلقها في أثناء الشهر.. اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد.
ودليلنا - على مالك -: أنها معتدة بالشهور، فوجب أن تعتد عقيب الطلاق، كما لو طلقها أول النهار.
وعلى أبي حنيفة: أن الشهر هلالي وعددي، فـ (الهلالي) : أن تستوعب ما بين الهلالين. و (العددي) : أن تعد ثلاثين يوما. فإذا طلقها في أثناء الشهر.. فقد فات أن تستوعب ما بين الهلالين، فلم يبق إلا العدد.
وعلى ابن بنت الشافعي: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . ولم يفرق.
[مسألة تأخر حيض الفتاة]
وإن بلغت الصبية سنا تحيض فيه النساء، بأن بلغت خمس عشرة سنة، أو عشرين سنة ولم تحض.. فعدتها بالشهور، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أحمد: (تقعد مدة الحمل في الغالب، ثم تعتد بعده بثلاثة أشهر) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه لم تحض.
ولأنها لو بلغت سنا لا تبلغها امرأة قط إلا أيست من الحيض - قال الشيخ أبو حامد -: وهي ستون سنة، وكانت هي تحيض.. فإن عدتها بالأقراء اعتبارا بحالها، فكذلك إذا لم تحض في السن الذي تحيض السناء من مثلها فيه.
[فرع عدة من لم تر الدم قبل الحمل وبعده]
وإن ولدت المرأة ولم تر دما قبله ولا نفاسا بعده.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:(11/28)
أحدهما - وهو قول الشيخ أبو حامد -: أنها تعتد بالشهور؛ للآية.
والثاني: لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء؛ لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء.
[فرع رؤية الصغيرة الدم]
إذا شرعت الصغيرة بالاعتداد بالشهور، فرأت الدم قبل انقضاء الشهور ولو بلحظة.. انتقلت إلى الاعتداد بالأقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه قد حاضت.
قال أصحابنا: وهذا إجماع لا خلاف فيه.
وهل تعتد بما مضى قرءا؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو ظاهر النص -: أنها لا تعتد به قرءا؛ لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم، وقبل ذلك لا تسمى بهذا الاسم، ولأنها لو كانت تعتد بالأقراء، فأيست من الحيض.. استأنفت الشهور، فوجب أن تستأنف الأقراء هاهنا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنها تعتد به قرءا؛ لأنه طهر تعقبه دم حيض، فاعتد به قرءا، كما لو كان بين حيضتين.
وإن اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم رأت الدم بعد انقضاء الشهور.. لم يلزمها الاعتداد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للزواج، فلم ينتقض ذلك برؤية الدم، كما لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست.. فإنها لا تنتقل إلى الاعتداد بالشهور.
وإن شرعت بالاعتداد بالأقراء، فظهر بها حمل، أو انقضت عدتها بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لأن وضع الحمل دليل على براءة الرحم قطعا، والحيض دليل على براءة الرحم في الظاهر، فوجب تقديم ما يقطع بدلالته، كما يقدم نص الكتاب والإجماع على القياس.(11/29)
[مسألة الأمة المطلقة الحامل]
وإن كانت المطلقة أمة، فإن كانت حاملا.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يفرق. ولأنه لا يمكن استبراء رحمها مع كونها حاملا إلا بوضعه، فهي كالحرة. وإن كانت حائلا.. نظرت:
فإن كانت من ذوات الأقراء.. اعتدت بقرأين، وهو قول كافة العلماء.
وقال داود وشيعته: (تعتد بثلاثة أقراء) .
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يطلق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين» .(11/30)
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (طلاق الأمة طلقتان، وعدتها حيضتان) .
ومعنى قوله: (حيضتان) عندنا: يتقدمها طهران؛ لأن القرء الذي هو الطهر لا بد فيه من الحيض.
ولأنه أمر ذو عدد بني على التفاضل، فوجب أن تكون الأمة فيه على النصف من الحرة، كالحد، إلا أنه لما لم يتبعض القرء.. كُمِّلَ؛ ولهذا: روي عن عمر: أنه قال: (لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا.. لفعلت) .
فقولنا: (ذو عدد) احتراز من الحمل.
ومعنى قولنا: (بني على التفاضل) أن الأمة تستبرأ بحيضة، والحرة تستبرأ بثلاث حيض، وكل ما بني على التفاضل إذا لم يتبعض.. سقط في حكم الرقيق، كالشهادة، والميراث، والرجم، وما تبعض.. كان الرقيق فيه على النصف من الحر، كالحد، فكذلك العدة.
وفي قولنا: (بني على التفاضل) احتراز من مدة الحيض والنفاس في حق الأمة، فإنه أمر ذو عدد، ولكنه لم يبن على التفاضل، فلذلك استوت فيه الحرة والأمة.
وإن كانت الأمة من ذوات الشهور.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تعتد بشهر ونصف، وبه قال أبو حنيفة؛ لما روي عن علي، وابن عمر: أنهما قالا: (تعتد الأمة بحيضتين إذا كانت من ذوات الأقراء، وإذا كانت من(11/31)
ذوات الشهور.. فشهر ونصف) ، ولأنا قد دللنا على أن العدة للأمة على النصف من الحرة، إلا أن القرء لا يتبعض، فكمل، والشهور تتبعض، فكانت على النصف.
والثاني: أنها تعتد بشهرين؛ لأن كل شهر بدل على قرء في حق الحرة، فكان كل شهر بدلا عن قرء في حق الأمة.
والثالث: أنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن براءة الرحم بالشهور لا تحصل بأقل من ثلاثة أشهر؛ لأن الولد يكون في الرحم أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم يتصور، فلا تنقضي العدة إلا بوضع ذلك.
[فرع تزوج أمة فأعتقت]
] : وإن تزوج رجل أمة وأعتقت.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن تعتق أولا، ثم يطلقها الزوج، فإنها تعتد عدة حرة؛ لأنها حرة وقت وجوب العدة.
الثانية: أن يطلقها الزوج، وتعتد بقرأين، ثم يعتقها سيدها، فلا يجب عليها استئناف العدة؛ لأن الحرية طرأت بعد انقضاء العدة، فلم تؤثر في العدة، كما لو اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم حاضت.
الثالثة: إذا طلقت، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلا خلاف أنه لا يلزمها استئناف العدة، ولكنها تبني على ما مضى، وكم يلزمها أن تتم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يلزمها أن تتم عدة أمة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وبه قال(11/32)
مالك؛ لأنه أمر ذو عدد يختلف بالرق والحرية، فلم يغيره العتق، كالحد.
والثاني: أنها تتم عدة حرة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وهو اختيار المزني. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح؛ لأنها معتدة عن نكاح في حال الحرية، فلزمها كمال العدة، كما لو أعتقها قبل الطلاق، ولأن الاعتبار في العدة بحال الانتهاء؛ ولهذا: لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست من الحيض في أثناء العدة.. فإنها تعتد بالشهور اعتبارا بحال الانتهاء، وكذلك: لو اعتدت بالشهور، ثم حاضت في أثناء الشهور.. فإنها تعتد بالأقراء، فكذلك هذا مثله.
والثالث: إن كان الطلاق رجعيا.. أتمت عدة حرة، وإن كان بائنا.. أتمت عدة أمة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الرجعية لو مات عنها زوجها.. لوجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية في أثناء العدة.. أتمت عدة حرة، والبائن لو مات عنها زوجها.. لم تجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية.. لم يلزمها إتمام عدة الحرة.
[مسألة عدة المخالعة والفاسخة للنكاح]
وإن خالع الرجل زوجته، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فحكمه حكم الطلاق في العدة؛ لأنها فرقة في الزوجية في حال الحياة، فهي كالفرقة بالطلاق.
وإن وطئت امرأة بشبهة.. وجبت عليها العدة؛ لأن الوطء في الشبهة كالوطء في النكاح في النسب، فكان كوطء النكاح في إيجاب العدة.
فإن كانت حرة.. اعتدت بعدة الطلاق على ما ذكرناه.
وإن كانت له زوجة حرة، فوجد أمة غيره، وظنها زوجته الحرة، فوطئها.. ففيه وجهان:(11/33)
أحدهما: أنها تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة؛ لأنه اعتقد أنها حرة، فأثر اعتقاده في حريتها وعدتها، كما أثر في ولدها.
والثاني: أن تعتد عدة أمة؛ لأنها أمة معتدة، فهو كما لو اعتدت عن الطلاق.
[مسألة عدة وفاة الزوج للحامل والحائل]
وأما عدة المتوفى عنها زوجها: فلا تخلو: إما أن تكون حائلا، أو حاملا.
فإن كانت حائلا.. نظرت:
فإن كانت حرة.. اعتدت عنه بأربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 234] . وهذا أمر بلفظ الخبر، إذ لو كان خبرا.. لم يقع، بخلاف ما أخبر الله تعالى به، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغير المدخول بها.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» .(11/34)
فإن قيل: فقد ذكر الله الآية بعد هذه الآية، وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] ، فلم أخذتم بالتي قبلها؟
قلنا: لأن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، والدليل عليها: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا - قالها مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشرا، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فأخبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن العدة كانت حولا، وأنها الآن أربعة أشهر وعشر.(11/35)
وأما (البعرة) : فإن أهل الجاهلية كانت المرأة منهم تعتد سنة، ثم إذا انقضت السنة أخذت بعرة، فرمتها، وقالت: خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي.
ولأن الله تعالى ذكر في الآية الأخيرة لها النفقة والوصية، وأن لها أن تخرج، ولا خلاف أن هذه الأحكام منسوخة، فكذلك مدة الحول.
وقد روي عن ابن عباس: أنه قال: (المتاع منسوخ بالمواريث، والحول منسوخ بأربعة أشهر وعشر) .
فإن قيل: فكيف نسختها وهي قبلها؟
قلنا: إنما هي قبلها في التأليف والنظم، وهي بعدها في التنزيل، والاعتبار بالناسخ: أن يكون بعد المنسوخ في التنزيل لا في التأليف، وليس تقدمها في التأليف يدل على تقدمها في التنزيل، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] [البقرة: 142] ؟ وإنما أنزلت بعد قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ؛ لأن السفهاء إنما قالوا ذلك حين تحول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيت المقدس إلى الكعبة. هذا قول عامة العلماء.
وقال الأوزاعي: (تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال وتسعة أيام؛ لأن الله تعالى قال: (وعشرا) ، و (العشر) : تستعمل في الليالي دون الأيام) .
دليلنا: أن العرب تستعمل اسم التأنيث وتغلبه في العدد على التذكير خاصة، فتقول: سرنا عشرا، ويريدون به الليالي والأيام.
وإن كانت أمة.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان:(11/36)
أحدهما: تعتد بشهرين وخمسة أيام بلياليها؛ لأنها على النصف من عدة الحرة فيما يتبعض، والشهور تتبعض.
والثاني: تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأن الولد يكون أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم تنفخ فيه الروح ويتحرك، فاعتبر أن تكون عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؛ ليتبين الحمل بذلك، وهذا لا تختلف فيه الحرة والأمة. والأول هو المشهور.
فإذا انقضت أربعة أشهر وعشر.. فقد انقضت عدتها، سواء حاضت فيها أو لم تحض، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا كانت ممن عادتها أن تحيض في كل شهر.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة في الشهر، وإن تأخر حيضها.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . ولم يفرق بين أن تحيض فيها أو لا تحيض.
وقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا» . ولم يفرق.
وإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملا بولد يلحق بالزوج.. اعتدت بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو هريرة، وإليه ذهب أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأكثر أهل العلم.
وحكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس: أنهما قالا: (تنقضي عدتها بأقصى الأجلين من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشر) .(11/37)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ولم يفرق بين أن تضع لأربعة أشهر وعشر أو لأقل.
فإن قيل: فالآية في المطلقات؟
قلنا هي عامة في الجميع، بدليل: ما روي: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فقال: " المتوفى عنها زوجها، والمطلقة» .
وروي: «أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فتصنعت للأزواج، فمرت بأبي السنابل بن بعكك، فقال لها: قد تصنعت للأزواج، إنما هي أربعة أشهر وعشر، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: " كذب أبو السنابل - يعني: غلط - قد حللت، فانكحي من شئت» .(11/38)
وقيل: إن أبا السنابل كان قد خطبها وكان شيخا، وخطبها شاب غيره، فرغبت في الشاب دونه، فأراد أبو السنابل أن تصبر حتى يقدم وليها - وكان غائبا - رجاء أن يتزوجها منه.
وإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها، سواء اغتسلت من النفاس أو لم تغتسل.
وقال الأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من النفاس) .
دليلنا: عموم الآية، وعموم الخبر.(11/39)
[فرع عدة زوجة الصغير]
] : وإن مات الصبي الذي لا يولد لمثله، وله زوجة.. فإنها تعتد عنه بالشهور، سواء كانت حائلا أو حاملا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا مات وبها حمل ظاهر.. اعتدت عنه بوضعه، وإن ظهر بها الحمل بعد موته.. لم تعتد به عنه) . وهكذا قال في البالغ إذا تزوج امرأة ووطئها، ثم طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح: (فإن كان الحمل بها ظاهرا وقت الطلاق.. اعتدت بوضعه عنه، وإن ظهر بها بعد الطلاق.. لم تعتد بوضعه عنه) .
دليلنا: أن هذا الحمل منتف عنه قطعا، فلم تعتد به عنه، كما لو ظهر بها بعد الوفاة والطلاق.
إذا ثبت هذا: فإن كان هذا الولد لاحقا بغير الزوج، بأن كان عن وطء شبهة أو نكاح فاسد.. اعتدت به عمن يلحق به، واعتدت عن الزوج بالشهور بعد الوضع، وإن كان الحمل من زنا.. اعتدت عن الزوج بالشهور من حين موته؛ لأن الحمل من الزنا لا حكم له، فكان وجوده كعدمه.
[فرع موت الزوج في عدة طلاق الرجعية]
وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ثم مات عنها وهي في العدة.. انتقلت إلى عدة الوفاة؛ لأنها في حكم الزوجات.
وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا، ومات عنها.. لم تجب عليها عدة الوفاة؛ لأن عدة الوفاة من أحكام الزوجية، ولا زوجية بينهما، فلم تجب عليها العدة، كما لا يثبت لها الميراث وسائر أحكام الزوجية.
فإن كان لم يدخل بها.. فلا عدة عليها.
وإن دخل بها، فإن كانت حائلا.. اعتدت عنه بثلاثة أقراء، إن كانت ممن(11/40)
يحيض، وإن كانت ممن لا يحيض.. اعتدت بثلاثة أشهر، وابتداء ذلك من حين فرق بينهما، وإن كانت حاملا.. اعتدت عنه بوضع الحمل، فإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها.
وقال حماد بن أبي سلمة، والأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تطهر من النفاس) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يعتبر أن تطهر من النفاس.
[فرع طلق أو مات وهو غائب]
إذا طلق الرجل امرأته، أو مات عنها وهو غائب عنها.. فإن عدتها من حين الطلاق، أو من حين الموت.
فإن لم تعلم بالطلاق ولا بالموت حتى انقضت مدة عدتها.. فقد انقضت عدتها، وإن علمت قبل انقضاء مدة العدة.. أتمت عدتها من حين الطلاق أو الموت، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير، وهو قول أكثر الفقهاء.
وقال علي بن أبي طالب: (يكون ابتداء عدتها من حين علمت بالطلاق أو الموت) . وبه قال الحسن البصري، وداود.
وقال عمر بن عبد العزيز، والشعبي: إن ثبت الموت أو الطلاق بالبينة.. كان ابتدأ العدة من حين الطلاق أو الموت، وإن ثبت ذلك بالسماع والخبر.. كان ابتداؤها من حين بلغها.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ولم يفرق بين أن تكون علمت بالطلاق أو لم تعلم.(11/41)
ولأنها إذا سمعت بالطلاق أو الموت بعد انقضاء مدة العدة.. لم تعد الاعتداد، فكذلك إذا بقي بعض المدة، فلم تفقد غير قصدها، وقصدها إلى الاعتداد غير معتبر؛ بدليل: أن العدة تصح من الصغيرة والمجنونة وإن كان لا قصد لهما.
[مسألة طلق إحدى زوجتيه ومات ولم يعينها]
إذا كان له امرأتان، فطلق إحداهما بعينها، ثم نسيها ومات قبل أن يبين المطلقة منهما، فإن كانتا غير مدخول بهما.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنا لم نتيقن زوال ملكه عنهما، بل يجوز أن تكون هي الزوجة، فلزمها الاعتداد.
وإن كان قد دخل بهما، فإن كانتا حاملتين منه.. فعدة كل واحدة منهما بوضع حملها؛ لأن وضع الحمل عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وإن كانتا حائلتين، فإن كان الطلاق رجعيا.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر لا غير؛ لأنها في حكم الزوجات، وإن كان الطلاق بائنا، فإن كانتا من ذوات الشهور.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنه يجوز أن تكون كل واحدة هي المطلقة.. فعدتها ثلاثة أشهر، ويجوز أن تكون هي الزوجة.. فعدتها أربعة أشهر وعشر، فلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات ولا يعرف عينها.. فإن عليه أن يصلي الخمس صلوات.
وإن كانتا من ذوات الأقراء.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها ثلاثة أقراء، فإن انقضت أربعة أشهر وعشر قبل أن تأتي بثلاثة أقراء.. فعليها إتمام ثلاثة أقراء، وإن أتت بثلاثة أقراء قبل إكمال أربعة أشهر.. فعليهما إكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين. وابتداء الأقراء من حين الطلاق، وابتداء أربعة أشهر وعشر من حين موت الزوج.
وإن خالفت حال إحداهما حال الأخرى، مثل: أن كانت إحداهما غير مدخول بها والأخرى مدخولا بها، أو كانت إحداهما حاملا والأخرى حائلا، أو طلاق إحداهما(11/42)
رجعيا وطلاق الأخرى بائنا، أو كانت إحداهما من ذوات الشهور والأخرى من ذوات الأقراء.. فحكم كل واحدة منهما على الانفراد حكمها إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه.
وإن طلق إحداهما لا بعينها، ثم مات قبل أن يبين.. فقد كان يلزمه أن يبين المطلقة، وإذا بين المطلقة منهما.. فمن أي وقت يقع عليها الطلاق؟ فيها وجهان:
أحدهما: من حين الطلاق.
والثاني: من حين البيان، وقد مضى بيانهما.
وأما إذا مات قبل أن يبين: فقد اختلف أصحابنا في العدة هاهنا:
فقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن الطلاق يقع حين البيان.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عدة الوفاة بكل حال؛ لأن الطلاق لم يقع؛ لأنه لا يقع إلا ببيان الزوج، ولم يوجد منه بيان. وإن قلنا: إنه يقع من حين الطلاق.. فهو كما لو طلق إحداهما بعينها، ثم نسيها.
وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: إذا قلنا: إن الطلاق يقع من حين التعيين.. كان ابتداء عدة الطلاق من حين الموت؛ لأنه وقع الإياس من تعيينه بالموت.
[مسألة تربص الزوجة عند غياب الزوج]
إذا غاب الزوج عن زوجته.. نظرت:
فإن كانت غيبته غير منقطعة، بأن يأتيها خبره، أو تعلم مكانه.. فليس لها أن تفسخ النكاح، بل إن كان له مال حاضر.. أنفق عليها الحاكم منه، وإن لم يكن له مال حاضر.. كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ليطالبه بحقوقها.
وإن كانت غيبته منقطعة، بأن لا تسمع بخبره، ولا تعلم مكانه الذي هو فيه.. فإن(11/43)
ملكه لا يزول عن ماله، بل هو موقوف أبدا إلى أن يتيقن موته، وأما زوجته.. ففيها قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لها أن تتربص أربع سنين، ثم تعتد، ثم تتزوج إن شاءت) . وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس في الصحابة، وفي الفقهاء: مالك، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن امرأة أتت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إن زوجي خرج إلى مسجد أهله ففقد، فقال لها: تربصي أربع سنين، فتربصت، ثم أتته فأخبرته، فقال لها: اعتدي بأربعة أشهر وعشر، فلما انقضت.. أتت إليه فأخبرته، فقال لها: حللت، فتزوجي - ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - فتزوجت رجلا، ثم رجع زوجها الأول، فأتى عمر، فقال لعمر: زوجت امرأتي؟! فقال له عمر: وما ذاك؟ فقال: غبت أربع سنين، فأمرتها بالتزويج، فقال عمر: يغيب أحدكم أربع سنين، لا في غزوة، ولا في تجارة، ثم يرجع، فيقول: زوجت امرأتي؟! فقال الرجل: إني خرجت إلى مسجد أهلي، فاستلبتني الجن، فأقمت عندهم إلى أن غزاهم من الجن مسلمون، فوجدوني أسيرا في أيديهم، فقالوا: ما دينك؟ فقلت: الإسلام، فخيروني بين أن أقيم عندهم، أو أرجع إلى أهلي، فاخترت الرجوع إلى أهلي، فسلموني إلى قوم منهم، فكنت بالليل أسمع أصوات الرجال، وبالنهار أرى مثل الغبار، فأسير في أثره حتى أهبطت إلى عندكم، فخيره عمر بين أن يأخذ زوجته، أو مهرها) .(11/44)
ولأن الضرر يلحقها بذلك، فثبت لها الفسخ، كما لو كان عنينا، أو أعسر بالنفقة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس لها أن تتربص ولا تفسخ، بل تصبر إلى أن تتيقن موت زوجها) . وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لما روى المغيرة بن شعبة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها زوجها» . وروي: «حتى يأتيها يقين موته» . ولأنه زوج جهل موته، فلم يحكم بوقوع الفرقة، كما لو لم تمض أربع سنين.
وما روي عن عمر.. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال (هذه امرأة ابتليت، فتصبر أبدا) .(11/45)
ويخالف الفسخ بالعنة والإعسار؛ لأن هناك سبب الفرقة متحقق، وهاهنا سبب الفرقة غير متحقق.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا تعذرت النفقة عليها من جهته، فأما إذا لم تتعذر النفقة عليها من جهته، فإن كان له مال حاضر.. فلا يثبت لها الفسخ، قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو المشهور؛ لأن عليها ضررا بفقد الاستمتاع من جهته.
إذا ثبت هذا: فإذا قلنا بقوله القديم.. فإنها تتربص أربع سنين من حين انقطع خبره، ثم تعتد عدة الوفاة؛ لما رويناه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهل يفتقر ابتداء مدة التربص إلى الحاكم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار صاحب " المهذب " -: أنها تفتقر إلى ذلك؛ لأنها مدة مجتهد فيها، فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنين.
والثاني: لا تفتقر إلى حكم الحاكم، قال الشيخ أبو حامد: وهو المنصوص في القديم؛ لأنها مدة تعلم بها براءة رحمها، فلم تفتقر إلى الحاكم، كما قلنا في المعتدة إذا انقطع دمها لغير عارض.
وهل يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة بعد أربع سنين؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ".
أحدهما: لا يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره -: أنه يفتقر(11/46)
إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأنها فرقة مجتهد فيها، فافتقرت إلى الحاكم، كفرقة العنين.
وإذا انفسخ النكاح بمضي مدة التربص، أو بفسخ الحاكم.. فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وأكثر أصحابنا حكوهما قولين:
أحدهما: ينفسخ ظاهرا وباطنا؛ لأن هذا فسخ مختلف فيه، فوقع ظاهرا وباطنا، كفسخ النكاح بالعنة، والإعسار بالنفقة.
والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل للزوج الأول لما رجع أن يأخذ زوجته.
[فرع طلاق وظهار وإيلاء المفقود في مدة التربص]
إذا طلق المفقود امرأته، أو ظاهر منها، أو آلى منها، فإن كان في مدة التربص، أو بعدها، وقبل حكم الحاكم بالفرقة، وقلنا: لا تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن كان بعد مدة التربص وبعد فسخ النكاح، إما بانقضاء مدة التربص، أو بفسخ الحاكم، فإن قلنا بقوله الجديد.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن قلنا بقوله القديم، فإن قلنا: ينفسخ النكاح ظاهرا وباطنا.. لم يقع طلاقه ولا ظهاره ولا إيلاؤه، وإن قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه.
[فرع حكم قضاء الحاكم بالفرقة ينقض بعد تربصها أربع سنين]
] : إذا تربصت امرأة المفقود أربع سنين: فإن قلنا بقوله الجديد.. فهي باقية على النكاح الأول، فإن قضى لها حاكم بالفرقة.. فهل يجوز نقض حكمه على هذا القول؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:(11/47)
أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
والثاني: يجوز نقضه، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه حكم مخالف للقياس الجلي؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيا في حكم ماله، ميتا في حكم زوجته.
فعلى هذا: إن كانت لم تتزوج، ورجع الأول.. أخذها، واستمتع بها، وإن كانت قد تزوجت بآخر، فإن لم يدخل بها الثاني.. فرق بينها وبينه، ولا عدة عليها عنه، ولا شيء عليه لها، وعادت إلى استمتاع الأول، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينها وبين الثاني، ولزمها أن تعتد عنه؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فلزمها الاعتداد عنه، فإذا انقضت عدتها عنه.. ردت إلى الأول.
وإن قلنا بقوله القديم، ورجع الأول بعد الفسخ.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: بفسخ النكاح في الظاهر دون الباطن.. ردت إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وإن قلنا: ينفسخ ظاهرا وباطنا.. لم ترد إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج.
ومن أصحابنا من قال: إذا رجع الأول قبل أن تتزوج بآخر.. ردت إلى الأول على القولين، وإن رجع الأول بعد أن تزوجت بآخر.. فهي للثاني على القولين؛ لأنها إذا تزوجت بآخر.. فقد شرعت في المقصود بالفرقة، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة، وإذا لم تتزوج بآخر.. فلم تشرع في المقصود، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة. والأول هو المشهور.
[فرع تربصت وحكم بالفرقة وتزوجت وبان الزوج ميتا قبل الحكم]
] : إذا تربصت امرأة المفقود، وحكم الحاكم بالفرقة، واعتدت، ثم تزوجت بآخر، وبان أن الزوج الأول كان قد مات قبل حكم الحاكم بالفرقة.. فإن قلنا بقوله القديم.. فقد وقعت الفرقة ظاهرا وباطنا، وصح نكاح الثاني ظاهرا وباطنا، وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:(11/48)
أحدهما: أن نكاح الثاني صحيح؛ لأنه بان أنها خالية من الأزواج، وأنه وقع موقعه، فهو كما لو علمت موته بالبينة قبل أن تنكح.
والثاني: لا يصح النكاح الثاني؛ لأن النكاح الثاني عقد في حال لم يؤذن بالعقد فيه، فكان محكوما بفساده، فلا تتعقبه الصحة.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن كاتب عبده كتابة فاسدة، ثم أوصى برقبته ولم يعلم بفساد الكتابة. وكذلك: إذا باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا وقت البيع.
[فرع لا تجب العدة حتى يتيقن الموت]
قال الصيمري: لو ركب رجل في البحر، فبلغ امرأته أن المركب الذي كان فيه زوجها غرق.. لم يجب عليها العدة حتى تعلم موته يقينا.
قال: وإن كان هناك امرأتان، لكل واحدة منهن زوج، وكانتا على يقين أن زوج إحداهما مات، ولا يعلم عينه.. فلا يحكم على واحدة منهما بعدة.
[فرع طلق امرأته فسألها بعد عن عدتها]
وإذا طلق الرجل امرأته، ثم سألها عن عدتها: هل انقضت، أم لا؟ وجب عليها إخباره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .
قال الصيمري: وكذلك لو سألها رسول الزوج، أو من تعلم أنه يخبره.
فإن سألها غير الزوج وغير رسوله، أو من تعلم أنه لا يخبره.. فهل يلزمها إخباره؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري.
وبالله التوفيق(11/49)
[باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه]
إذا طلق الرجل امرأته.. نظرت:
فإن كان الطلاق رجعيا.. وجب عليه نفقتها وإسكانها حيث يختار؛ لأنها في معاني الزوجات، بدليل: أنه يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه، ويتوارثان، فكانت في معاني الزوجات في النفقة والسكنى، ولأن النفقة والسكنى يجبان في مقابلة الاستمتاع، والزوج متمكن من الاستمتاع بها متى شاء بعد الرجعة، وإنما حرمت عليه لعارض، فهو كما لو أحرم أو أحرمت. قال أصحابنا: وهو إجماع أيضا.
وإن كان الطلاق بائنا.. وجب على الزوج لها السكنى، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وهو قول فقهاء المدينة، وعلماء الأمصار.
وذهب ابن عباس، وجابر بن عبد الله إلى: أنه لا يجب عليه لها السكنى. وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها وكان غائبا بالشام، فأمرها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق:1] . فأمر أن لا يخرجن من بيوتهن، وأراد به بيوت أزواجهن، والأمر على الوجوب.
والدليل على أنه أراد: بيوت أزواجهن: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] .
و (الفاحشة) هاهنا: هي أن تبدو على أحمائها، فلو أراد بيوتهن اللاتي يملكن.. لما أجاز إخراجهن للفاحشة.
وقَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] والمراد بها: المطلقة البائن؛ لأنه(11/50)
شرط في وجوب النفقة لها في الحمل، وذلك إنما يعتبر في البائن، فأما الرجعية: فتجب لها النفقة بكل حال.
وأما حديث فاطمة: فإنما نقلها عن بيت زوجها؛ لأنها بذت على أهل زوجها.
والدليل عليه: ما روي عن ميمون بن مهران: أنه قال: (دخلت المدينة، فسألت عن أفقه من فيها، فقيل لي: سعيد بن المسيب، فأتيته فسألته عن المبتوتة، هل يعد لها السكنى؟ فقال: لها السكنى، فقلت له: فحديث فاطمة بنت قيس؟ فقال: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت في لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، فنقلها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيت زوجها) .
وروي: أن عائشة كانت تقول لفاطمة: (اتقي الله، ولا تكتمي السبب) أي: لا تكتمي سبب النقل.
إذا ثبت هذا: فإن المسلمة والذمية فيما ذكرناه سواء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وهذا يعم المسلمة والذمية.(11/51)
وأما الأمة إذا طلقها زوجها: فالحكم في سكناها في حال عدتها كالحكم في سكناها في حال الزوجية؛ وذلك: أن السيد إذا زوج أمته.. فهو بالخيار: بين أن يمكن الزوج من الاستمتاع بها ليلا ونهارا، وبين أن يمكنه من الاستمتاع بها ليلا، ويستخدمها نهارا.
فإن مكنه من الاستمتاع بها ليلا ونهارا.. فعلى الزوج نفقتها وسكناها، وإن مكنه من الاستمتاع بها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج نفقتها ولا سكناها، على المذهب.
فعلى هذا: إذا طلقها الزوج، وأرسلها السيد ليلا ونهارا.. وجب على الزوج إسكانها، وإن أرسلها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج إسكانها، بل إن اختار الزوج إسكانها بالليل ليحصن ماءه فيه.. وجب على السيد إرسالها فيه، كما قلنا: يجب على السيد إرسالها ليلا في حال الزوجية.
إذا تقرر هذا: فنقل المزني في بعض النسخ: ولأهل الذمية أن ينقلوها من بيتها.
قال أصحابنا: هذا غير صحيح، إنما قال الشافعي: (ولأهل الأمة أن ينقلوها) ، وإنما صحفه المزني.
وإن وطئ الرجل امرأة بشبهة، فاعتدت عنه، أو نكحها نكاحا فاسدا ووطئها، ففرق بينهما.. لم تجب عليه لها السكنى؛ لأنه لا حرمة بينهما.
وإن مات عن الصغيرة التي في المهد.. فهل تجب لها السكنى؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإنابة "] :
الأصح: أنه تجب لها، كالبالغة.
والثاني: لا تجب لها، وبه قال أبو حنيفة.
[مسألة وجوب سكن المطلقة في بيت الزوجية]
وإذا طلقت المرأة وهي في مسكن للزوج، بملك، أو إجارة، أو إعارة، وهو مما يصلح لسكنى مثلها.. وجب سكناها فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(11/52)
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] .
فإن أراد الزوج نقلها عنه إلى غيره، أو طلبت أن تنتقل عنه، أو اتفقا على ذلك من غير عذر.. لم يجز؛ لأن الله نهى الأزواج عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج من بيوتهن، وأراد به: بيوت سكناهن.
إذا ثبت هذا: فإن سكناها معتبر بحالها.
فإن كانت ذات جهاز وجوار، فلا تسعها الدار الصغيرة.. فعلى الزوج إسكانها في دار تسعها.
وإن كانت فقيرة ولا جهاز لها ولا جوار.. فتكفيها الدار الصغيرة؛ لأن الله سبحانه أمر بالسكنى ولم يبين قدره، فينبغي أن يكون الرجوع فيه إلى العرف والعادة، والعرف والعادة تختلف في ذلك باختلاف حالها، فيرجع في ذلك إليه.
ولا تعتبر سكناها في حال الزوجية؛ لأنه قد يسكنها في حال الزوجية بدون سكنى مثلها، وترضى هي بذلك، فلا يلزمها ذلك في العدة، وقد يسكنها في حال الزوجية بدار أكبر من سكنى مثلها ويتطوع بذلك، ولا يلزمه ذلك في العدة.
فإذا تقرر هذا: فإن كانت الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق سكنى مثلها. وجب سكناها فيه، وإن كانت دون سكنى مثلها، فإن رضيت به.. فلا كلام، وإن لم ترض به.. فعليه أن يسكنها في سكنى مثلها، فإن أمكنه أن يضم إلى الموضع الذي هي فيه ساكنة حجرة بجنبه، وكان ذلك سكنى مثلها.. فعل ذلك، وإن لم يمكنه ذلك.. نقلها إلى سكنى مثلها بأقرب المواضع إلى الدار التي كانت ساكنة فيها.
وإن كانت الدار فوق سكنى مثلها، وأراد الزوج أن يسكن هو فيما زاد على سكنى مثلها.. نظرت:
فإن كان في الدار حجرة، وبين الدار والحجرة باب يغلق ويفتح، والدار أو(11/53)
الحجرة سكنى مثلها.. فللزوج أن يسكنها في الدار، ويسكن هو في الحجرة، أو يسكنها في الحجرة ويسكن هو في الدار؛ لأنهما كالدارين المتلاصقتين.
وإن لم يكن في الدار حجرة، ولكن للدار علو وسفل، يصلح كل واحد منهما لسكنى مثلها، وبينهما باب.. فللزوج أن يسكنها في أحدهما، ويسكن هو في الآخر، كالدارين المتلاصقتين. والأولى: أن يسكنها في العلو؛ لئلا يستطلع عليها.
وإن لم يكن للدار علو وسفل، ولكنها دار كبيرة ذات بيوت، كالخانات التي ينفرد كل بيت منها بطريق وغلق، والمرأة ممن يسكن مثلها في مثل هذه البيوت.. فإنها تسكن في بيت منها، وللزوج أن يسكن في بيت منها؛ لأن هذه الدار كالدور والمحلة التي تجمع الدور.
وإن لم تكن الدار كذلك، ولكنها مسكن واحد، فإن لم يكن فيها إلا بيت واحد.. فليس للزوج أن يسكن معها، بل ينتقل عنها، سواء كان معها محرم أو لم يكن؛ لأنه يحرم عليه الاجتماع معها.
وإن كان في الدار بيتان أو ثلاثة أو أكثر، وليس بينها حاجز وغلق، ويكفيها أن تسكن في بيت منها، وأراد الزوج أن يسكن في بيت من هذه الدار، وتسكن هي في الآخر، فإن لم يكن معها محرم لها.. لم يجز للزوج أن يسكن معها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان» ولا يؤمن أن يخلو بها في مثل ذلك.
وإن كان معها محرم لها، كالأب، والابن، أو امرأة ثقة معها، ولها موضع تستتر(11/54)
به عن الزوج.. جاز أن يسكن معها؛ لأنه يؤمن أن يخلو بها، وهل يعتبر أن يكون المحرم لها بالغا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يعتبر أن يكون بالغا؛ لأن من دون البالغ ليس بمكلف، فلا يلزمه إنكار الفاحشة.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يعتبر أن يكون بالغا، بل إذا كان مراهقا عاقلا.. جاز؛ لأن الغرض أن لا يخلو الرجل بالمرأة، وذلك لا يوجد مع كون المراهق العاقل معها.
وإن حجز بين البيتين بحاجز من طين، أو خشب، أو قصب.. جاز أن يسكن معها؛ لأنهما يصيران كالدارين المتجاورتين.
[مسألة طلقها وهي في مسكنه وأراد بيعه]
] : وإذا طلقها الزوج وهي في مسكن للزوج يملكه، فإن أراد بيعه قبل انقضاء عدتها.. نظرت:
فإن كانت عدتها بوضع الحمل أو بالأقراء.. لم يصح بيعه، قولا واحدا؛ لأنها تستحق السكنى في الدار مدة عدتها، ومدة الوضع والأقراء مجهولة، فيصير كما لو باع دارا، واستثنى منفعتها مدة مجهولة.
وإن كانت عدتها بالشهور.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يصح البيع؟ فيه قولان، كبيع الدار المستأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غير هذا.
ومنهم من قال: لا يصح البيع، قولا واحدا؛ لأنا لو جوزنا هذا البيع.. لكان في معنى من باع عينا واستثنى منفعتها مدة؛ لأن المنفعة هنا للزوج، بدليل: أن المرأة لو ماتت قبل انقضاء عدتها.. لكانت سكنى الدار ترجع إلى الزوج، وليس كذلك الدار المستأجرة، فإن المنفعة فيها للمستأجر، فلا يكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعتها مدة.(11/55)
[فرع طلق ثم أفلس وحجرعليه]
فرع: [طلق ثم أفلس وحجر عليه] : وإن طلق الرجل زوجته، ثم أفلس وحجر عليه.. كانت المرأة أحق بسكنى الدار من سائر الغرماء؛ لأن حق الزوجة تعلق بعين الدار بالطلاق، وحقوق الغرماء متعلقة بذمة المفلس، فكان حقها أقوى، فقدمت، كما لو رهن عينا من ماله، ثم أفلس. فإن باع الحاكم الدار لحق الغرماء قبل انقضاء مدة العدة.. فهو كما لو باعها المالك، على ما مضى في التي قبلها.
وإن أفلس الزوج وحجر عليه، ثم طلق زوجته.. فإنها لا تقدم على الغرماء بالمسكن؛ لأن حقها مساوٍ لحقوقهم؛ لأن سبب حقها الزوجية، وذلك موجود قبل الحجر، فتضارب الغرماء في أجرة سكناها مدة العدة.
فإن كانت عدتها بالشهور.. فإنها تضرب معهم بأجرة دار تصلح لسكنى مثلها ثلاثة أشهر، فإن كانت أجرته - مثلا - في ثلاثة أشهر ثلاثمائة درهم.. ضربت معهم بثلاثمائة، وإن كان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة درهم، فتأخذها وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق إن أمكنها استئجارها، وإن لم يمكنها استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لسكنى مثلها بأقرب المواضع إليها، فإذا استأجرت بالمائة سكنى مثلها شهرا، وانقضت مدة الإجارة.. فلها أن تسكن باقي مدة العدة في أي موضع شاءت؛ لأن الإسكان من جهة الزوج قد تعذر، ويكون باقي أجرة سكناها - وهو المائتان - دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر، كسائر ديون الغرماء.
وإن كانت عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها من الأقراء أو الحمل.. فإنها تضارب الغرماء بأجرة مسكن مثلها في مثل تلك المدة التي جرت عادتها بانقضاء عدتها فيها، فإن كانت أجرة مسكن مثلها في زمان عدتها ثلاثمائة، وكان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة، فتأخذها من ماله، وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة بها إن أمكن، وإن تعذر استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لمثلها بأقرب المواضع إليها.
وإن لم تنقض عدتها إلا في وقت عادتها.. فإنها لا ترجع على الغرماء بشيء،(11/56)
ولا يرجعون بشيء مما خصها، بل إذا انقضت المدة التي استأجرت بها الدار مما خصها من مال الزوج.. انتقلت إلى حيث شاءت، وكان باقي أجرة مسكنها دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر.
وإن انقضت عدتها بأقل من عادتها، مثل: أن كانت عادتها أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر، وأجرة مسكن مثلها فيها بثلاثمائة، وماله ثلث ديونه، فخصها مائة، فأخذتها، ثم انقضت عدتها بشهرين، فإذا تبين أن الذي كانت تضرب به مائتان.. فترد ثلث المائة - وهو: ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم - ويقسم ذلك بينها وبين الغرماء على قدر ديونهم؛ لأنه كمال ظهر للمفلس.
وإن زادت مدة عدتها على قدر عادتها، بأن لم تنقض عدتها إلا لستة أشهر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها ترجع على الغرماء، فتأخذ مما في أيديهم على قدر ما لو ضربت معهم بستمائة درهم؛ لأنه بان أن الذي يستحق الضرب به هو ذلك، فرجعت عليهم كما يرجعون عليها إذا انقضت عدتها، وكما لو ظهر للمفلس غريم آخر.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها لا ترجع على الغرماء بشيء؛ لأن الذي استحق الضرب به - وهو ذلك القدر مع تجويز أن يكون لها - أكثر منه، فلم يجز نقض القسمة بأمر كان موجودا حال القسمة.
والثالث: إن كانت عدتها بالأقراء.. لم تضرب معهم بالزيادة؛ لأن الزيادة لا تعلم إلا بقولها، ولا يجوز أن تستحق بقولها حقا على غيرها، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بالزيادة؛ لأن الزيادة تعلم بالبينة، فجاز لها الرجوع بالبينة.
وإن لم تكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها.. فإنها تضرب مع الغرماء بأجرة مثل مسكنها في أقل مدة تنقضي بها العدة، فإن كانت عدتها بالأقراء.. ضربت بأجرة مثل مسكنها اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بأجرة مثل مسكنها ستة أشهر؛ لأن ذلك يقين، فإن انقضت عدتها بذلك.. فلا كلام، وإن أسقطت ما تنقضي به العدة لأقل من ستة أشهر.. ردت الفضل على الغرماء، كما قلنا(11/57)
إذا انقضت عدتها في أقل من عادتها التي ضربت بها مع الغرماء.
ولا يأتي في الأقراء أن تنقضي عدتها بأقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.
وإن زادت عدتها في الأقراء أو في الحمل على أقل المدة فيهما.. فهل تستحق الرجوع على الغرماء بالزيادة؟ على الأوجه الثلاثة إذا زادت عدتها على قدر عادتها.
فإن قيل: إذا جوزتم لها أن تضرب مع الغرماء بأجرة مسكنها مدة عادتها أو أقل مدة تنقضي بها العدة.. فهلا قلتم: إنها تستحق السكنى في المنزل الذي يملكه الزوج إذا طلقها فيه بعد أن أفلس، وجوزتم بيعه لحق الغرماء في أحد القولين، كالدار المستأجرة؟
قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن عدتها قد تزيد على ذلك، فتكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعة مجهولة، فلم يصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كانت عدتها بالحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنها تضرب بغالب مدة الحمل.
والثاني: بأجرة أقل مدة الحمل.
وإن كانت بالأقراء ولا عادة لها.. ضربت بأجرة أقل مدة تنقضي بها العدة، وإن كان لها عادة.. فوجهان:
الصحيح: تضرب بأجرة عادتها.
والثاني: بأقل مدة تنقضي بها الأقراء.
[فرع طلقها في مسكنها]
وإن طلقها وهي في مسكن لها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يلزمها أن تعتد فيه؛ لأنه مسكن وجبت فيه العدة، ولها أن تطالبه بأجرة المسكن؛ لأن سكناها عليه.
وقال ابن الصباغ: وإن أقامت فيه بإجارة أو إعارة.. جاز.(11/58)
وإن طلبت أن يسكنها في غيره.. لزمه: لأنه ليس عليها أن تؤاجره ملكها، ولا تعيره.
[مسألة سكنى معتدة الوفاة]
] : وأما المتوفى عنها زوجها: فهل تجب لها السكنى في مدة عدتها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تجب لها السكنى، وبه قال علي، وابن عباس، وعائشة، وهو اختيار المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . فذكر العدة ولم يذكر السكنى، ولو كانت واجبة.. لذكرها. ولأنها لا تجب لها النفقة بالإجماع، فلم تجب لها السكنى، كما لو وطئها بشبهة.
والثاني: تجب لها السكنى، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأم سلمة، ومن الفقهاء: مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] . فذكر الله تعالى في هذه الآية أحكاما، منها: أن المتوفى عنها لا تخرج من منزلها. وأن العدة حول. وأن لها النفقة والوصية. فنسخت العدة فيما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية الأولى، ونسخت النفقة بآية الميراث، وبقيت السكنى على ظاهر الآية، بدليل: ما روي «عن فريعة بنت مالك: أنها قالت: أتيت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: يا رسول الله، إن زوجي خرج في طلب عبيد له هربوا، فلما وجدهم.. قتلوه، ولم يترك لي منزلا، أفأنتقل إلى أهلي؟ فقال لها: " نعم "، ثم دعاها قبل أن تخرج من الحجرة، فقال: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» . ولأنها معتدة عن نكاح صحيح، فوجب لها السكنى، كالمطلقة.(11/59)
فأما الآية الأولى: فلا حجة فيها؛ لأنه قد ذكر السكنى في الآية المنزلة بعدها.
فإن قيل: فما معنى قولها: (ولم يترك لي منزلا) ؟
قيل: معناه: ولم يترك لي منزلا يملك عينه، أو يملك منفعته بإجارة، وإنما كانت في منزل مستعار. وإذا رضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه.
فإن قيل: فلم ينقل أنهم رضوا بسكناها فيه؟
قيل: أمر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها أن تسكن فيه يدل على: أنهم قد رضوا: لأنه لا يجوز أن يأمر بما لا يجوز.
وأما إذن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بالانتقال عن البيت الذي كانت ساكنة فيه، ثم أمره لها بالاعتداد فيه.. فله تأويلان:
أحدهما: يحتمل أن يكون النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لها بالخروج عنه ساهيا، فذكر، فرجع. والسهو يجوز على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما لا يقر عليه.
والثاني: يحتمل أن يكون أفتاها بالفتوى الأولى على ظاهر ذهب إليه، ثم بان له في الباطن خلافه، فرجع إليه، كما روي: أنه «أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: يا رسول الله، إنه كالماء العد، فقال: " فلا إذن» .(11/60)
فإن قلنا: يجب لها السكنى: فإن مات وهي في مسكن لزوج بملك أو إجارة.. وجب عليها السكنى فيه.
وإن كانت في مسكن مستعار، ورضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه، وإن لم تكن في مسكن للزوج، وكان للزوج تركة.. استؤجر لها من تركة الزوج مسكن يصلح لسكنى مثلها في أقرب المواضع إلى حيث أسكنها الزوج، ويقدم ذلك على الوصية والميراث.
وإن كان على الميت دين يستغرق تركته.. زاحمتهم بأجرة مسكنها على ما ذكرناه في المطلقة.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن لم يكن للزوج مسكن.. فعلى السلطان سكناها؛ لما في عدتها من حق الله.
وإن قلنا: لا يجب لها السكنى، فإن تطوع الورثة بإسكانها لتحصين ماء الزوج.. وجب عليها أن تسكن حيث أسكنوها إذا كان يصلح لسكنى مثلها، وإن لم يتطوعوا، ورأى السلطان من المصلحة أن يكتري لها مسكنا من بيت المال، لتحصين ماء الميت.. كان له ذلك؛ لأن ذلك مصلحة، وإذا بذل لها ذلك.. وجب عليها السكنى فيه؛ لأن ذلك يتعلق به حفظ نسب الميت. وإن لم يتطوع الورثة ولا السلطان بإسكانها.. فلها أن تسكن حيث شاءت.
[فرع طلقها بائنا ثم مات في العدة]
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا، ثم مات عنها في أثناء العدة.. وجب إسكانها، قولا واحدا؛ لأنها قد استحقت السكنى على الزوج بالطلاق قبل الموت، فلم يسقط ذلك بموته، كالدين.(11/61)
فإن مات الزوج وهي في دار يملكها الزوج.. كانت أحق بسكناها إلى أن تنقضي عدتها.
فإن أراد الورثة أن يبيعوا هذه الدار قبل انقضاء عدتها.. فهو كما لو أراد الزوج بيعها قبل انقضاء عدتها، وقد مضى ذكره.
وإن أرادوا قسمتها بينهم قسمة يكون فيها نقض بناء وإحداث ما يضيق عليها.. لم يكن لهم ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
وإن كانت قسمة لا يحصل بها عليها تضييق، وإنما ميزوا بالقول لكل واحد منهم موضعا من الدار، واقترعوا عليه، أو تراضوا به من غير قرعة.. فهل يصح ما فعلوه؟
إن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح ذلك، ولزم.
وإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهو كما لو باعوها، وقد مضى ذكره.
وهكذا: الحكم في المتوفى عنها زوجها إذا قلنا: إنها تستحق السكنى، فمات وهي في دار يملكها الزوج، وأراد ورثته قسمتها بينهم قبل انقضاء عدتها.
[مسألة أسكنها دارا ثم أمرها بالانتقال عنها وطلقها فيها]
إذا الزوج امرأته في دار، ثم أمرها بالانتقال عنها إلى دار أخرى، فانتقلت وطلقها أو مات عنها.. وجب عليها أن تعتد في الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها.
وإن أمرها بالانتقال إلى الثانية، فطلقها أو مات عنها قبل أن تنتقل عن الأولى.. كان عليها أن تعتد في الأولى؛ لأنها مسكنها وقت وجوب العدة، وليس للزوج أن ينقلها إلى الثانية، ولا لها أن تنتقل عنها بأمره الأول.(11/62)
وإن خرجت من الأولى، فطلقها أو مات عنها وهي بين الأولى والثانية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى الأولى، فتعتد فيها؛ لأنها لم تحصل في الثانية، وبين أن تمضي إلى الثانية، فتعتد فيها؛ لأنه قد أمرها بالانتقال إليها.
والثاني: لا يجوز لها أن ترجع إلى الأولى، بل يلزمها أن تصير إلى الثانية، وتعتد فيها، وهو الأصح؛ لأنها منهية عن المقام في الأولى، وقد فارقتها مأمورة بالإقامة في الثانية.
إذا ثبت هذا: فإن الاعتبار بانتقالها هو انتقالها ببدنها دون قماشها وخدمها، فمتى انتقلت ببدنها إلى الثانية.. فقد صارت مسكنا لها.
وإن كان متاعها وقماشها في الأولى، فإن نقلت قماشها ومتاعها إلى الثانية، وبقيت في الأولى، فطلقها أو مات عنها.. فمسكنها الأولى.
وقال أبو حنيفة: (الاعتبار ببدنها وقماشها ومتاعها) .
دليلنا: أن الاعتبار بالسكنى بالبدن، بدليل: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] [النور: 29] . فسماها غير مسكونة، وإن كان فيها متاعهم.
إذا ثبت هذا: فإن انتقلت ببدنها إلى الثانية، ثم رجعت إلى الأولى لنقل قماشها أو متاعها، ثم طلقها أو مات عنها وهي في الأولى.. فمسكنها الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها لانتقالها إليها ببدنها، وإنما رجعت إلى الأولى لحاجة.
[مسألة أذن لها بسفر ثم طلقها]
وإن أذن لها في السفر إلى بلد، ثم طلقها أو مات عنها، وهي في مسكنها لم تخرج ببدنها منه.. فعليها أن تعتد فيه، سواء أخرجت قماشها أو لم تخرجه؛ لأن الاعتبار ببدنها.(11/63)
وإن خرجت من مسكنها، ولم تفارق بنيان البلد، إلا أنها في موضع تجتمع فيه القافلة، ثم يخرجون، ثم طلقها أو مات عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أن عليها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. فهي في حكم ما لو لم تفارق منزلها، بدليل: أنه لا يجوز لها الترخص بشيء من رخص المسافر.
والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن لها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه، ولها أن تمضي في سفرها؛ لأن مزايلتها لمنزلها بإذن الزوج يسقط عنها حكم المنزل في الإقامة فيه.
وإن فارقت بنيان البلد، ثم طلقها أو مات عنها قبل أن تصل إلى البلدة الثانية؛ فإن كان قد أمرها بالانتقال إلى البلد الثانية.. ففيه وجهان، كما لو أمرها بالانتقال من إحدى الدارين إلى الأخرى، فطلقها أو مات عنها وهي بينهما:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تنتقل إلى البلدة الثانية.
والثاني: يلزمها الانتقال إلى البلدة الثانية.
وإن كان السفر إلى البلد الثانية لا للنقلة، ولكن للحاجة، أو لزيارة، أو لنزهة.. فهي بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تمضي في سفرها؛ لأنها ربما بلغت موضعا يشق عليها العود منه والانقطاع عن الرفقة، فيجوز لها النفور في السفر.
فإذا رجعت إلى مسكنها، واعتدت فيه.. فلا كلام.
وإن مضت في سفرها، أو طلقها، أو مات عنها بعد أن بلغت مقصدها، فإن كان سفرها للنقلة في البلد الثانية.. فعليها أن تعتد في البلد الثانية. وإن كان سفرها للنزهة أو للزيارة، ولم يقدر لها مدة.. فلها أن تقيم ثلاثة أيام، ولا تقيم أكثر من ذلك؛ لأنه(11/64)
إنما أذن لها في السفر دون الإقامة، والإقامة في الثلاث ليست بإقامة، وما زاد عليها فإقامة، بدليل: أن المسافر إذا نوى الإقامة ثلاثا.. لم تنقطع رخص السفر، فإن أقام أربعا.. انقطعت رخص السفر. وإن كان سفرها لحاجة أو تجارة.. فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: لها أن تقيم إلى أن تقضي حاجتها. وقال الشيخ أبو حامد: لا تقيم أكثر من ثلاثة أيام.
وإن أذن لها في السفر لنزهة أو لزيارة، وأذن لها أن تقيم في البلد الثانية أكثر من ثلاثة أيام.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز لها أن تقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجعل الثانية مسكنا لها، وإنما أذن لها في المقام فيها، وذلك لا يقتضي أكثر من إقامة السفر.
والثاني: يجوز لها أن تقيم فيها المدة التي أذن لها بالإقامة فيها، وهو الأصح؛ لأنه أذن لها فيها، فهو كما لو أمرها بالانتقال إليها.
إذا ثبت هذا: فقضت حاجتها، أو أقامت المدة التي جوزناها لها، فإن كان الطريق مخوفا لا يمكنها أن تعود إلى البلد الأولى، أو لم تجد رفقة تسافر معها.. لم يلزمها العود إلى الأولى، بل تتم عدتها في البلد الثانية، وإذا كان الطريق آمنا، وأمكنها الرجوع إلى الأولى.. نظرت:
فإن علمت أنها متى عادت إلى الأولى.. أمكنها أن تقضي بعض عدتها في البلد الأولى.. لزمها أن تعود إلى البلد الأولى، وتتم عدتها فيها.
وإن كانت تعلم أن عدتها تنقضي قبل أن تبلغ البلد الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمها العود إليها؛ لأنه لا فائدة فيه.
والثاني: يلزمها العود إليها، وهو الأصح؛ لأنه غير مأذون لها في الإقامة في البلد الثانية، ولأن ذلك أقرب إلى البلد المأذون لها في الإقامة به.
وهذا الحكم فيه إذا أذن لها في السفر.
قال الشيخ أبو حامد: فأما إذا سافر بها، ثم طلقها: فإنه يجب عليها أن تعود إلى بلدها، وتعتد فيه، ولا يجوز لها النفور في السفر؛ لأنه إنما أذن لها في أن تكون معه(11/65)
ولا تفارقه، فإذا طلقها.. فقد وقعت الفرقة، وانفرادها في السفر غير مأذون لها فيه، فلزمها الرجوع والاعتداد في بلدها.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أذن لها في زيارة أهلها أو لنزهة.. فعليها أن ترجع؛ لأن الزيارة ليست مقاما) .
ولا يختلف أصحابنا أنه إذا أذن لها في السفر لنزهة أو زيارة أهلها، فطلقها بعد أن فارقت البنيان.. فهي بالخيار: بين أن تمضي في سفرها، وبين أن تعود، على ما مضى.
واختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي:
فقال أبو إسحاق: تأويله: إذا أذن لها في السفر لنزهة، أو زيارة إلى البلد، أو إلى مسافة لا تقصر إليها الصلاة من البلد، ثم طلقها.. فعليها أن ترجع إلى البلد؛ لأنها في حكم المقيمة، بدليل: أنها لا تترخص بشيء من رخص السفر، فهو كما لو طلقها قبل أن تفارق البنيان، بخلاف ما لو أذن لها في السفر كذلك إلى بلد تقصر إليها الصلاة؛ لأن عليها مشقة في العود بعد الخروج عن البلد.
وقال الشيخ أبو حامد: هذا التأويل غير صحيح، والتأويل عندي: أنها لا تقيم بعد الثلاث، وأما الثلاث: فلها أن تقيم فيها، وإنما قصد الشافعي بهذا: أن يفرق بين السفر للنزهة وللزيارة، وبين السفر للإقامة، والإقامة مدة.
[مسألة أذن لها بالإحرام ثم طلقها]
وإذا أذن الرجل لزوجته أن تحرم بالحج أو العمرة، فأحرمت، ثم طلقها وهي محرمة، قال الشيخ أبو حامد: فإن كان الوقت ضيقا، بحيث إذا أقامت حتى تنقضي العدة، فاتها الحج.. لزمها أن تمضي على حجها، وإن كان الوقت واسعا.. فهي بالخيار: إن شاءت.. مضت في الحج، وإن شاءت.. أقامت حتى تنقضي العدة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم تخش فوات الحج إذا قعدت للعدة.. لزمها أن تقعد للعدة، ثم تحج.(11/66)
وقال أبو حنيفة: (يجب عليها أن تقيم حتى تقضي عدتها وإن خافت فوات الحج) .
دليلنا: أنهما عبادتان استويتا في الوجوب، وتضيق وقت إحداهما، فوجب تقديم السابقة منهما.
وإن طلقها، ثم أحرمت بالحج أو العمرة.. فعليها أن تقيم لقضاء العدة؛ لأن وجوبها أسبق، فإذا انقضت عدتها، فإن كانت قد أحرمت بالعمرة.. فإنها لا تفوت، فتتمها بعد انقضاء العدة، وإن كانت قد أحرمت بالحج، فإن كان الوقت واسعا، بحيث يمكنها أن تمضي وتدركه.. مضت عليه، وإن ضاق الوقت، وفات الحج.. تحللت بعمل عمرة، وقضت الحج من قابل.
قال في " الأم ": (ولو كان أذن لها في الخروج إلى الحج، ثم طلقها قبل أن تحرم.. لم يجز لها أن تحرم، فإن أحرمت.. كان عليها أن تقعد للعدة؛ لأنها وجبت قبل حصول الإحرام، فأشبه إذا لم يأذن) .
[مسألة مسكن البدوية كأهلها]
قال الشافعي: (وتتبوأ البدوية حيث يتبوأ أهلها) .
وجملة ذلك: أن البدوية إذا طلقت وهي مقيمة في حيها.. فإنها تعتد في بيتها الذي تسكنه؛ لأنه منزل إقامتها، فهو كمنزل الحضرية، فإن انتقل أهل الحي.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن ينتقل جميع أهل الحي إلى موضع آخر.. فإنها تنتقل معهم إلى حيث انتقلوا، وتتم عدتها فيه، كما لو كانت مقيمة في قرية، وانتقل أهل القرية إلى قرية أخرى.. فإنها تنتقل معهم.
الثانية: أن ينتقل بعض أهل الحي، وكان أهلها مع المقيمين، وكان فيمن بقي منعة، فإنه لا يجوز لها أن تنتقل عن موضعها؛ لأنه لا ضرر عليها في الإقامة، فهو كما لو انتقل بعض أهل القرية، وفيمن بقي منعة.. فإنه لا يجوز لها أن تنتقل.(11/67)
الثالثة: أن ينتقل أهلها، ويبقى بعض أهل الحي وفيهم منعة.. فهي بالخيار: إن شاءت.. أقامت مع من بقي؛ لأن فيهم منعة، وإن شاءت.. انتقلت مع أهلها؛ لأن عليها وحشة وضررا لمفارقة أهلها، فجاز لها الانتقال معهم.
الرابعة: أن يهرب أهلها عن الموضع خوفا من سلطان أو عدو، وغيرهم من أهل الحي مقيمون، فإن كانت تخاف ما يخاف أهلها.. فلها أن ترتحل مع أهلها، وإن كانت لا تخاف.. لم يجز لها الانتقال؛ لأن أهلها لم ينتقلوا هاهنا، وإنما هربوا ومساكنهم باقية، ولا تخاف هي ما يخافون، فلم يكن لها عذر في الانتقال، ويفارق إذا انتقل أهلها بغير الخوف؛ لأنهم قد انتقلوا عن الحي، ولم يبق لهم مسكن يرجى عودتهم إليه، فكان لها الانتقال معهم؛ لأنها تستوحش بمفارقتهم.
[مسألة طلق ملاح زوجته في السفينة]
] : إذا طلق الملاح امرأته وهي معه في السفينة، فإن كان لها مسكن في البر تأوي إليه وقت الإقامة، وإنما تكون في السفينة وقت السفر.. قال الشيخ أبو حامد: فهي مسافرة مع الزوج، فتكون بالخيار: إن شاءت.. رجعت إلى مسكنها في البر، واعتدت فيه، وإن شاءت.. سافرت، فإذا بلغت إلى الموضع الذي قصدته.. أقامت مقام المسافر، ثم رجعت إلى مسكنها في البر، وأكملت عدتها فيه.
وإن لم يكن لها مسكن إلا في السفينة، فإن كان في السفينة بيوت وحواجز يمكنها أن تسكن في بيت منها، بحيث لا يخلو بها أحد، ولا يقع عليها بصر الزوج.. فعليها أن تسكن فيها إلى أن تنقضي عدتها؛ لأنها كالبيوت في الخان، وإن لم يكن فيها بيوت.. نظرت:
فإن كان معها محرم لها، ويمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يخرج من السفينة حتى تنقضي عدتها في السفينة، كما لو طلقها في دار ليس فيها إلا بيت واحد.
وإن لم يكن معها محرم لها، أو كان معها محرم لها ولكنه لا يمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يكتري لها موضعا بالقرب من ذلك الموضع تعتد فيه؛ لأن هذا موضع ضرورة.(11/68)
[مسألة يكترى على الزوج لمسكنها]
قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ فِي غَيْرِ مَسْكَن له، بملك، أو إجارة، أو إعارة.. فعليه أن يكتري لها مسكنا تسكنه، إن كان حاضرا، وتعتد فيه، وإن كان غائبا.. فعلى الحاكم أن يكتري لها مسكنا من مال الزوج تعتد فيه، وإن لم يجد له مالا.. اقترض عليه الحاكم، واكترى لها مسكنا؛ لأن الحاكم يقضي عن الغائب ما لزمه من الحق، وهذا حق لازم عليه.
وإن أذن لها الحاكم أن تقترض عليه، وتكتري به، أو أذن لها أن تكتري بشيء من مالها قرضا عليه.. صح ذلك، وكان ذلك دينا على الزوج ترجع به عليه، إلا أن الحاكم إذا اكترى لها بنفسه.. اكترى لها حيث شاء، وإن اكترت لنفسها بإذن الحاكم.. اكترت حيث شاءت.
وإن اكترت لنفسها مسكنا من غير إذن الحاكم، فإن كانت تقدر على إذن الحاكم.. لم ترجع بذلك على الزوج؛ لأنها تطوعت على الزوج بذلك، وإن لم تقدر على إذن الحاكم.. فهل ترجع؟ فيه وجهان، كالوجهين في الجمال إذا هرب.
[فرع تأويل كلام الشافعي في التطوع السكنى]
قال الشافعي: (ولا نعلم أحدا بالمدينة فيما مضى اكترى منزلا، وإنما كانوا يتطوعون بإنزال منازلهم) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا الكلام:
فمنهم من قال: عطف الشافعي بهذا على التي قبلها، وهو إذا طلقها وهي في غير مسكن له وكان غائبا، فقد ذكرنا: أن الحاكم يكتري لها منزلا تعتد فيه، وهذا إذا لم يجد الحاكم من يتطوع بعارية منزل تعتد فيه، فأما إذا وجد من يتطوع بعارية منزل: لم يكتر لها، كما قلنا في الإمام لا يبذل على الأذان عوضا إذا وجد من يتطوع به.
فعلى هذا: إن بذل لها باذل منزلا تسكنه.. لم يلزمها القبول؛ لأن عليها منة في(11/69)
ذلك، ولكن يقبل ذلك الزوج أو يقبله الحاكم له إن كان غائبا، إلا إن كانت في منزل مستعار لزوج، فأقرها المعير فيه.. فعليها أن تعتد فيه؛ لأن المنة فيه على الزوج لا عليها.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك جوابا على سؤال يتوجه على كلامه، كأنه قال: ويكتري الحاكم عليه، فإن قيل: فإن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتر لفاطمة بنت قيس منزلا، وإنما أنزلها عند ابن أم مكتوم.. فأجاب عن ذلك بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم.
ومنهم من قال: هذا رد على مالك، وأبي حنيفة، حيث قالا: (لا تكترى دور مكة) ، واحتجا: بأن أهل مكة كانوا لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها، ولو كان الكراء جائزا.. لأكروها، فأراد الشافعي كسر كلامهم، بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها. ومع هذا فقد أجمعنا على جواز إكراء دور المدينة، فكذلك دور مكة. والأول أصح.
[فرع طلقها في غير مسكن له]
وإن طلق الرجل امرأته وهي في غير مسكن له، فإن طالبته بأن يكتري لها عقيب الطلاق.. فلها ذلك.
وإن اكترت لنفسها وسكنت بعض مدة العدة، ثم طالبت بالكراء لما مضى.. فقد نص الشافعي على: (أن السكنى تسقط بمضي الزمان) . وقال في المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج، ولم تطالبه بالنفقة حتى مضت مدة، ثم طالبته: (فلها المطالبة لما مضى وللمستقبل) . واختلف أصحابنا فيهما على طريقين:
فـ[أحدهما] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.
و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: بل هما على ظاهرهما، فتكون لها المطالبة بنفقة ما مضى، وليس لها المطالبة بسكنى ما مضى.
والفرق بينهما: أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، فإذا سلمت نفسها.. فقد حصل(11/70)
للزوج التمكين من الاستمتاع، فوجب عليه في مقابلته، والسكنى في العدة تستحقه لحفظ ماء الزوج في بيت الزوج، فإذا سكنت بنفسها، فلم يحصل له حفظ مائه في بيته.. فلم تستحق ما في مقابلته، ولأن النفقة تجب على سبيل المعاوضة، فلم تسقط بمضي الزمان، والسكنى في العدة تجب لحق الله تعالى لا على سبيل المعاوضة، فسقطت بمضي الزمان.
وأما نفقة المطلقة المبتوتة الحامل.. فقد نص الشافعي: (أنها لا تسقط بمضي الزمان) . واختلف أصحابنا فيها:
فقال أكثرهم: لا تسقط، قولا واحدا؛ لأنها إما أن تجب لحملها أو لها، لحرمة الحمل، وليس في مقابلته حق عليها، فجرت مجرى الدين، فلم تسقط بمضي الزمان.
ومنهم من قال: إذا قلنا: إنها تجب للحامل.. كانت كنفقة الزوجة، وإن قلنا: إنها تجب للحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: تسقط بمضي الزمان، كنفقة القرابة.
والثاني: لا تسقط؛ لأن حق الحامل متعلق بها؛ لأنها مصرفها، فلم تجر مجرى نفقة الأقارب.
[مسألة إقامة المعتدة في بيت الزوجة]
ولا يجوز للمعتدة أن تخرج من مسكنها الذي وجبت عليها فيه العدة من غير عذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ، ولحديث «فريعة بنت مالك: أنها قالت: أفأرجع إلى أهلي وأعتد عندهم؟ فقال لها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» .
وإن وجب عليها حق، فإن أمكن استيفاء ذلك منها من غير أن تخرج، مثل: أن كان عليها دين، أو في يدها غصب، أو عارية، أو وديعة تعترف بذلك.. فإن صاحب(11/71)
الحق يمضي إليها، ويأخذ منها حقه، ولا تكلف الخروج لذلك؛ لأنه لا حاجة بها إلى الخروج. وإن كان حقا لا يمكن استيفاؤه إلا بإخراجها، كحد القذف، أو القصاص، أو القطع في السرقة، أو اليمين في الدعوى، فإن كانت المرأة (برزة) وهي: التي تخرج في حوائجها، وتلقى الرجال: فإن الحاكم يستدعيها ويستوفي منها الحق، وإن كانت (غير برزة) وهي: التي لا تخرج في حوائجها.. فإن الحاكم يبعث إليها من يستوفي منها الحق في بيتها؛ لما روي: «أن الغامدية لما أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعترفت عنده بالزنا مرارا.. فقال لها: " امضي حتى تضعي، ثم تعودي، فعادت إليه، فأمر برجمها» .
وروي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا على هذا، وإنه زنى بامرأته، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها ". فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها» .(11/72)
وإنما استدعى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغامدية، لأنها كانت برزة، ولم يستدع الأخرى لأنها كانت غير برزة.
وإن بذت المرأة على أهل زوجها.. أخرجت عنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] .
قال ابن عباس: (الفاحشة المبينة: أن تبذو على أهل بيت زوجها) .
وقال ابن مسعود: (الفاحشة هاهنا: الزنا) .
دليلنا: ما روي عن عائشة، وابن المسيب: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقل فاطمة بنت قيس؛ لأنها استطالت على أحمائها» .
وإن بذا عليها أهل زوجها.. نقلوا عنها؛ لأن الضرر جاء من قبلهم.
وإن كان المسكن لها، فسكن معها أهل زوجها، واستطالت عليهم بلسانها.. فليس عليها أن تنتقل عنهم؛ لأن الملك والسكنى لها، لا حق للزوج فيه.
وإن سكنت في مسكن للزوج، بإجارة، أو إعارة، فانقضت مدة الإجارة قبل انقضاء عدتها، وامتنع أهله أن يؤاجروه، أو طلبوا أجرة أكثر من أجرة المثل.. فلا يجب على الزوج أن يستأجره بأكثر من أجرة المثل. أو امتنع المعير من إعارته ومن إجارته بأجرة المثل.. جاز نقلها منه؛ لأن هذا موضع ضرورة.
وكذلك: إذا انهدم المسكن الذي طلقت فيه، أو خيف انهدامه، أو خافت فيه من اللصوص، أو الحريق، أو غير ذلك.. جاز نقلها منه؛ لأنه إذا جاز نقلها لأجل البذاء على أحمائها.. فلأن يجوز نقلها لهذه الأعذار أولى.
ولا يجوز نقلها من هذه المواضع، إلا إلى مسكن يصلح لسكناها بأقرب المواضع(11/73)
إليها إذا قدر عليه الزوج، كما قلنا في الزكاة إذا لم توجد الأصناف في البلد.. فإنها تنقل إلى تلك الأصناف بأقرب البلاد إلى الموضع الذي وجبت تفريقها فيه، ولا فرق في ذلك بين المطلقة وبين المتوفى عنها زوجها. ويجوز إخراجها للضرورة ليلا ونهارا.
وإن أرادت الخروج لحاجة، كشراء القطن وبيع الغزل وغير ذلك مما يقوم غيرها مقامها فيه، فإن أرادت الخروج لذلك ليلا.. لم يجز، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة مبتوتة؛ لما روي عن مجاهد: أنه قال: «استشهد رجال يوم أحد، فتأيم أزواجهم وكن متجاورات، فأتين النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلن: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا بالليل فنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا.. تفرقنا إلى بيوتنا، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتمعن وتحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم.. فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها» . فإذا ثبت هذا: في المتوفى عنها زوجها.. فالمبتوتة مثلها.
وإذا أرادت الخروج لذلك نهارا، فإن كانت متوفى عنها زوجها.. جاز؛ لحديث مجاهد، وإن كانت في عدة الطلاق، فإن كان الطلاق رجعيا.. فإنها في حكم الزوجات، فإن أذن لها الزوج بالخروج.. جاز لها الخروج، وإن لم يأذن لها.. لم يجز لها الخروج. وإن كان الطلاق بائنا.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يجوز لها الخروج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب لها أن لا تخرج لذلك، فإن خرجت(11/74)
له.. جاز) . وهو الأصح؛ لما روي عن «جابر قال: طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها، فزجرها بعض الناس، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها النبي: " اخرجي فجدي نخلك، فلعلك أن تصدقي أو تفعلي خيرا» . وجداد النخل إنما يكون بالنهار، ونخيل المدينة حولها. ولأن عدة المتوفى عنها أغلظ، فإذا جاز لها الخروج لذلك نهارا.. فالبائن بذلك أولى.
وبالله التوفيق(11/75)
[باب الإحداد]
(الإحداد) : هو ترك الزينة والطيب معا. يقال: أحدت المرأة تحد إحدادا، وحدت تحد حدادا. والإحداد صفة للمعتدة، وهو أمر قديم وأقر عليه الإسلام.
والمعتدات ثلاث:
معتدة يجب عليها الإحداد قولا واحدا.
ومعتدة لا يجب عليها الإحداد قولا واحدا.
ومعتدة اختلف فيها قول الشافعي.
فأما المعتدة التي يجب عليها الإحداد قولا واحدا: فهي المتوفى عنها زوجها، وهو قول كافة العلماء، إلا الحسن البصري، فإنه قال: لا يجب عليها الإحداد.
دليلنا: ما روي عن زينب بنت أبي سلمة: أنها قالت: دخلت على أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه خلوق، فأخذت منه ودلكته بعارضيها، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .(11/76)
قالت زينب: ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله بن جحش، فدعت بطيب، فمست منه، وقالت: والله ما لي إلى الطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .
وقالت زينب بنت أبي سلمة: وسمعت أمي - أم سلمة - تقول: «جاءت امرأة إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا " مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: " لا، إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فقيل لزينب: ما ترمي بالبعرة؟ فقالت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ومكثت حولا، ثم تخرج في رأس الحول، فتؤتى بدابة - حمار أو شاة - فتفتض [به] ، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم ترمي بالبعرة. و (الحفش) هو: البيت الصغير. و (القبص) : [التناول] بأطراف الأصابع، و (القبض) : [الأخذ] بالكف.
وأما رمي البعرة.. فلها تأويلات:
إحداها: أنها كانت تقول: قد مكثت في ذمام الزوج حولا، والآن فقد خرجت من ذمامه وحرمته كما خرجت هذه البعرة من يدي.
والثاني: أن ما كنت فيه من الغم والشقاء وترك الزينة أهون علي في حقه من رمي هذه البعرة.
والثالث: أني خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي.
وقد روي: أنهن كن يقلن ذلك.(11/77)
وأما المعتدة التي لا إحداد عليها قولا واحدا.. فهي المطلقة الرجعية؛ لأنها في معاني الزوجات، والزوجة لا إحداد عليها.
وكذلك: إذا نكح الرجل امرأة نكاحا فاسدا، أو وطئها ثم فرق بينهما أو مات عنها، أو وطئ رجل امرأة بشبهة.. فإنه يجب عليها عدة الطلاق، ولا يجب عليها الإحداد.
وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها.. فإنه لا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وهذا ليس بزوج. ولأن الإحداد إنما يجب على المعتدة التي فارقها زوجها بغير اختياره، فيجب عليها أن تظهر الحزن عليه والتمسك بذمامه، وهذا المعنى لا يوجد في المنكوحة نكاحا فاسدا، ولا في الموطوءة بشبهة.
وأما المعتدة التي اختلف فيها قول الشافعي.. فهي المطلقة البائن، وفيها قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجب عليها الإحداد) . وبه قال ابن المسيب، وأبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد؛ لأنها معتدة بائن عن نكاح صحيح، فلزمها الإحداد، كالمتوفى عنها زوجها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليها الإحداد) . وبه قال عطاء، وربيعة ومالك، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لأنها معتدة عن طلاق، فلم يجب عليها الإحداد، كالرجعية.
أو نقول: إنها معتدة تتنوع عدتها ثلاثة أنواع، فلم يلزمها الإحداد، كالرجعية، وفيه احتراز من المتوفى عنها زوجها؛ فإن عدتها تتنوع نوعين لا غير.
وأما التي انفسخ نكاحها باللعان، أو العنة، أو العيب، أو الخلع.. فهل يجب عليها الإحداد؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان، كالمطلقة البائن.(11/78)
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليها الإحداد، قولا واحدا، كالموطوءة بشبهة.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الإحداد لا يجب على البائن.. فإنه يستحب لها الإحداد.
قال الصيمري: هل يستحب الإحداد للرجعية؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحب لها؛ لأنها لا تحفش نفسها؛ فربما لا يرغب زوجها في رجعتها.
والثاني: يستحب لها الإحداد، كالبائن.
[مسألة وجوب الإحداد على الأمة]
ويجب الإحداد على الأمة، وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن أبي حنيفة، قال أصحابنا: ولا يصح عنه.
والدليل على أن الإحداد يجب على الأمة: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا امرأة على زوجها؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» . وهذا عام للحرة والأمة. ولأنها معتدة عن وفاة الزوج، فلزمها الإحداد، كالحرة.
ويجب الإحداد عن موت كل زوج، حرا كان أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا؛ لعموم الأخبار.
[فرع العدة لوفاة زوج الصغيرة]
وإذا مات زوج الصغيرة.. لزمها العدة والإحداد، وعلى الولي أن يجنبها ما تجتنبه المعتدة المحدة.
وقال أبو حنيفة: (عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد) .(11/79)
دليلنا: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا - مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشر» . ولم يسأل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل هي صغيرة، أو كبيرة، ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنها، بل الظاهر أنها كانت صغيرة؛ لأنها قالت: أفنكحلها، والبالغة لا تكحل وإنما تكحل نفسها.
ولأنها معتدة عن وفاة، فوجب عليها الإحداد، كالبالغة.
فإن قيل: الإحداد عبادة بدنية، فكيف يجب على الصغيرة؟
قلنا: الخطاب يتوجه على الولي، كما إذا أحرم الولي بالصغيرة، فإن الطيب يحرم على الصغيرة.
[فرع تطالب الذمية بالعدة والإحداد]
] : وأما الذمية: فإن كان زوجها مسلما، فمات عنها.. وجبت عليها العدة والإحداد، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . فاشترط في الإحداد إيمان المرأة، فدل على: أنه لا يجب على من لا تؤمن بالله واليوم الآخر) .
ودليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» . وهذا عام في المسلمة والكافرة.(11/80)
ولأنها معتدة عن وفاة، فلزمها الإحداد كالمسلمة.
وأما الخبر: فدليل خطابه يدل على: أنه لا إحداد على الكافرة، وهم لا يقولون بدليل الخطاب. ولأن في الخبر تنبيها على أن الإحداد يجب على الذمية؛ لأن الإحداد إنما وجب على المعتدة تغليظا عليها، فإذا وجب التغليظ على المؤمنة في العدة.. فلأن يجب على الكافرة أولى، ومتى اجتمع دليل وتنبيه.. قدم التنبيه؛ لأنه أقوى.
وأما إذا كان زوج الذمية ذميا، ومات عنها.. وجب عليها العدة والإحداد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليها العدة ولا الإحداد) .
ودليلنا: أنها بائن عن وفاة زوجها، فلزمها العدة والإحداد، كالمسلمة.
[مسألة موضع الإحداد]
قال الشافعي رحمة الله عليه: (وإنما الإحداد في البدن) .
وجملة ذلك: أن (الإحداد) : هو الامتناع من كل ما إذا فعلته المرأة.. امتدت الأعين إليها واشتهتها الأنفس، فمن ذلك: الكحل، فإن كان الكحل أسود - وهو الإثمد - فلا يجوز أن تستعمله في عينها؛ لما روت أم سلمة في «المرأة التي أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا» .
وروت أم سلمة أيضا: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المتوفى عنها زوجها: " لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب» .
وقال الماسرجسي: إذا كانت المرأة سوداء.. لم يحرم عليها الاكتحال بالإثمد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يحرم على نساء العرب الاكتحال بالإثمد؛ لأن(11/81)
أعينهن سود؛ فلا يظهر لونه، وإنما يحرم ذلك على نساء العجم؛ لأنه يحصل به التزين.
والأول أصح؛ لأنه يحصل به التزيين في الجميع.
ويجوز أن تستعمل الإثمد في سائر بدنها إلا في الحاجب؛ فإنه لا تحصل به الزينة في غير الحاجب، وتحصل به الزينة في الحاجب.
ويجوز لها أن تكتحل بالكحل الأبيض، كالتوتياء، ويسمى: الكحل الفارسي؛ لأنه يزيد العين مرها وقبحا، ولا يحصل به زينة.
ويحرم عليها أن تطلي على عينها الصبر؛ لما روت أم سلمة، قالت: «دخل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا، فقال: " ما هذا يا أم سلمة؟ "، فقلت: يا رسول الله، إنما هو صبر ليس فيه طيب، فقال: " إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» ، ولأنه يصفر العين، فتحصل به زينة وجمال.
فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر أو الإثمد.. اكتحلت به بالليل، ومسحته بالنهار؛ لحديث أم سلمة.
قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وكذلك الدمام) - وهو شيء تصفر به(11/82)
المرأة عينها، كالصبر والزعفران، يقال: (دمت المرأة) : إذا صفرت عينها - فلا يجوز لها ذلك؛ لأنه تحصل به زينة وجمال.
[فرع فيما تجتنبه المحتدة]
ويحرم على المرأة المحتدة أن تختضب بالحناء والورس والزعفران في شيء من بدنها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تختضب» ، ولأن في ذلك زينة وجمالا.
ويحرم عليها أن تبيض وجهها بالخضاب الذي تبيض به وجوه العرائس؛ لأن الزينة تحصل به.
ويحرم عليها أن تنقش وجهها ويديها؛ لأن في ذلك زينة.
قال ابن الصباغ: ويحرم عليها أن تحف حاجبها؛ لأنه زينة، ويحرم عليها ترجيل الشعر؛ لأنه يحسنها، ويدعو إلى مباشرتها.
[مسألة يحظر استعمال الطيب للمعتدة]
مسألة: [يحظر استعمال الطيب] :
ويحرم عليها أن تستعمل الطيب في بدنها وثيابها؛ لما روت أم عطية: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا، ولا تكتحل، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا إلا عند طهرها من محيضها نبذة من قسط وأظفار» ، ولأن الطيب يحرك الشهوة، ويدعو إلى مباشرتها.(11/83)
وأما الغالية: فقال الشيخ أبو حامد: إن كان لها ريح.. لم يجز لها استعمالها في شيء من بدنها، لأنه طيب، وإن لم يبق لها ريح.. جاز لها استعمالها في جميع بدنها؛ لأنه لا تحصل به زينة.
وقال ابن الصباغ: لا يجوز لها استعمالها وإن لم يبق لها ريح؛ لأنها تسود، فهي كالخضاب.
ولا يجوز لها أن تأكل شيئا فيه طيب ظاهر؛ لأنه يحرم عليها استعمال الطيب، فحرم عليها أكله، كالمحرم.
وأما الأدهان: فإن كانت مطيبة، كدهن الورد، والبنفسج، والياسمين، وما أشبهها.. حرم عليها استعمالها في جميع بدنها؛ لما فيه من الطيب، وإن كانت غير مطيبة، كالشريج، والزيت، والزبد، والسمن.. فيجوز لها استعماله في غير الرأس؛ لأنه لا يحصل به تزيين، ولا يجوز لها استعماله في الرأس؛ لأنه يرجل الشعر ويزينه.
وإن كانت للمرأة لحية.. حرم عليها استعمال الدهن فيها؛ لأن اللحية وإن كانت تقبح المرأة إلا أن أقبحها إذا لم تدهن.
ويجوز لها أن تغسل شعرها وبدنها بالسدر والخطمي؛ لما روت أم سلمة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امتشطي "، قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: " بالسدر» ، ولأن ذلك تنظيف من غير زينة.
ويجوز لها أن تقلم الأظفار، وتحلق العانة؛ لأن ذلك يراد للتنظيف لا للزينة.
ولا يحرم عليها كنس البيت، وتزيينه بالفرش؛ لأن ذلك لا يدعو إلى مباشرتها.
قال الصيمري: ولها أن تشم النيلوفر. والبنفسج لا يختلف فيه، وفي الريحان(11/84)
الفارسي قولان، كالمحرمة. ولها أن تجلس والطيب يقلب بقربها، وعند رجل يتبخر.
[مسألة المعتدة لا تلبس الحلي]
ولا يجوز لها لبس الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ.
وحكى ابن المنذر عن عطاء: أنه قال: يحرم عليها حلي الذهب دون الفضة. وهذا ليس بصحيح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا الحلي» . ولم يفرق. ولأن الزينة تحصل بالفضة، فحرم عليها لبسها، كالذهب.
قال الصيمري: ويحرم عليها لبس الدمالج والخواتم من العاج والذبل؛ لأن لها بريقا. وتمنع من حلق الصفر في أصابعها.(11/85)
فأما الخيوط والسيور وما قبح من الخرز: فلا بأس به ما لم يكن مستعملا للتحلي به.
[مسألة زينتا الثياب]
وفي الثياب زينتان:
إحداهما: ما يحصل بلبسها من الزينة بستر العورة من غير زينة أدخلت على الثوب، فيجوز للمرأة المحدة لبس جميع الثياب التي لم تدخل عليها زينة وإن كانت الزينة فيها من أصل الخلقة، كالدبيقي، والمروي، وغير ذلك مما يتخذ من الحرير والخز والقز؛ لأن زينتها من أصل خلقتها، فلا يلزمها تغييرها، كما إذا كانت المرأة حسنة الوجه.. فلا يلزمها تغيير وجهها بالسواد وغيره.
وأما الثياب المصبوغة: فينظر فيها:
فإن صبغت للزينة؛ كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي.. فيحرم عليها لبسه.
وقال أبو إسحاق: ما صبغ غزله، ثم نسج.. يجوز لها لبسه؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا ثوب عصب» . و (العصب) : ما صبغ غزله، ثم نسج.
والمذهب الأول؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه يحرم عليها لبس الوشي وعصب اليمن والحبر) . وهذه صبغ غزلها، ثم نسجت. ولقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر ولا الممشق» . ولم يفرق. ولأن الثياب المرتفعة: هي التي صبغ غزلها، ثم نسجت، والتي دونها: هي التي نسجت، ثم(11/86)
صبغت، والخبر نحمله على المصبوغ بالسواد. و (الممشق) : ما صبغ بالمغرة.
وأما ما صبغ للوسخ، كالأسود، والأزرق المشبع، والأخضر المشبع.. فلا يحرم عليها لبسه؛ لأنه لا يصبغ للزينة، وإنما صبغ لنفي الوسخ، أو ليدل على الخزن.
وأما [الثانية] : الثياب التي عليها طرز: قال الشيخ أبو إسحاق: فإن كانت الطرز كبارا.. حرم عليها لبسها؛ لأنها زينة ظاهرة أدخلت عليها، وإن كانت صغارا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم عليها، كقليل الحلي وكثيره.
والثاني: لا يحرم عليها لبسها؛ لخفائها.
قال الصيمري: ولا تلبس البرود المنقوشة، ولا القرقوبي من المقانع والوقايات؛ لما فيه من النقش.
وبالله التوفيق(11/87)
[باب اجتماع العدتين]
إذا طلق الرجل امرأته أو مات عنها، فتزوجت برجل آخر في عدتها.. فالنكاح باطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] . فنهى عن عقد النكاح قبل انقضاء الأجل، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
فإن لم يدخل بها الثاني، فإن كانا عالمين بتحريم العقد.. عزرا؛ لأنهما أقدما على أمر محرم، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما بالتحريم والآخر جاهلا بالتحريم.. عزر العالم منهما بالتحريم دون الجاهل.
ويسقط بهذا العقد سكناها عن الأول، ونفقتها إن كانت تستحق عليه النفقة؛ لأنها صارت ناشزة بذلك، والناشزة تسقط نفقتها وسكناها. ولا تنقطع عدة الأول بعقد الثاني.
وقال القفال الشاشي: تنقطع بالعقد؛ لأن عقد الثاني يراد للاستفراش، والعقد الفاسد يسلك به مسلك الصحيح، كالوطء في النكاح الفاسد يسلك به مسلك الوطء في الصحيح. وهذا خطأ؛ لأن هذا العقد لا حكم له، فلم تنقطع به عدة الأول، بخلاف الوطء، فإن له حكما.
وإن وطئها الثاني، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا يجب لها مهر، ولا يجب عليها عدة للثاني، ولا تنقطع عدة الأول.
وإن كان الزوج عالما بالتحريم وهي جاهلة.. وجب عليه المهر لها، ولا حد عليها، ووجب عليه الحد، ولا عدة عليها له، ولا تنقطع به عدة الأول.
وإن كانا جاهلين بالتحريم.. فلا حد عليهما، ولها المهر، وعليها العدة للثاني.(11/88)
وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة.. فعليها الحد، ولا مهر لها، ولا حد على الزوج، وعليها العدة له.
وكل موضع كان الثاني جاهلا بتحريم الوطء.. فإنها تصير فراشا للثاني، وتنقطع عدة الأول إذا لم تكن حاملا من الأول؛ لأن العدة تراد لاستبراء الرحم، ولا يمكن استبراؤها من الأول في حال كونها فراشا للثاني، ويفرق بينها وبين الثاني، ويجب عليها إتمام عدة الأول، واستئناف العدة عن الثاني، ولا يتداخلان.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يتداخلان) .
ودليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: (أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها البتة، فنكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها بالمخفقة - يعني: الدرة - ضربات، وفرق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن لم يدخل بها زوجها الذي تزوجها.. فإنها تعتد عن الأول، ولا عدة عليها عن الثاني، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تعتد للثاني، ولم ينكحها أبدا) .(11/89)
وروى عطاء: أن امرأة نكحت في العدة، ففرق بينهما علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: (أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء عن الثاني، ثم هي بالخيار: إن شاءت.. نكحته، وإن شاءت.. لم تنكحه) . ولا يعرف لهما مخالف، فدل على: أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ولأنهما حقان مقصودان لآدميين، فإذا اجتمعا.. لم يتداخلا، كالدينين.
فقولنا: (مقصودان) احتراز من الأجل، فإنه لو كان عليه لرجل دين مؤجل إلى شهر، ولآخر دين مؤجل إلى شهر، فمضى الشهر.. تداخلا فيه؛ لأن الأجل ليس بمقصود، وإنما المقصود الدين.
وقولنا: (لآدمي) احتراز ممن زنى، ثم زنى، فإنه يقام عليه حد واحد؛ لأن الحد لله، والعدة حق للزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49]
واحترزنا بتثنية الآدمي ممن قطع يد رجل، ثم مات، فإن دية اليد تدخل في دية النفس. ومن الرجل إذا وطئ امرأته بشبهة في عدتها منه.
إذا ثبت أنهما لا يتداخلان.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حائلا.. فإنها تتم عدة الأول، ثم تستأنف عدة الثاني، فإن كان قد مضى لها قبل وطء الثاني قرء أو شهر.. فإنها تأتي بقرأين أو بشهرين عن الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء أو بثلاثة أشهر عن الثاني، ومن أي وقت تعود إلى عدة الأول؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .(11/90)
أحدهما - وهو الأصح -: أنها تعود إليها عقيب التفريق بينها وبين الثاني.
والثاني: أنها تعود إليها عقيب آخر وطأة من وطآت الثاني.
وإن راجعها الزوج الأول في بقية عدته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو المذهب؛ لأنها في عدة منه.
والثاني: لا يصح، لأن عليها عدة لغيره.
فإن خالعها الزوج، فتزوجت بآخر في عدتها ووطئها، وأراد الزوج الأول أن يتزوجها في بقية عدته.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما - قال: وهو المشهور -: أنه يصح، كما قلنا في الرجعة.
والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنها تكون محرمة عليه عقيب النكاح من جميع الوجوه؛ لأنها تشرع في عدة الثاني بعد انقضاء عدة الأول، فصار كنكاح المحرمة.
[فرع تزوجت في عدة وحملت وولدت]
وإن تزوجت المرأة في عدتها برجل آخر، ووطئها وأتت بولد.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لأربع سنين فما دون من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني، فإن الولد يلحق بالأول، وتنقضي عدتها منه بوضعه، وله أن يراجعها إلى أن تضع، فإذا وضعته.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء.
المسألة الثانية: إذا أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان الطلاق بائنا.. فإن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان، ويكون الولد لاحقا بالثاني، فتعتد بوضعه عن الثاني، فإذا وضعته.. أتمت عدتها من الأول. وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في اللعان.(11/91)
وإن قلنا: لا يحلقه.. فإنه يلحق بالثاني، وتعتد بوضعه عن الثاني، ثم تتم بقية عدتها من الأول بعد الوضع، فإن راجعها الأول بعد وضعها الحمل في حال إتمامها لعدته.. صحت الرجعة، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من غيره، ولأنها محرمة عليه في هذه الحالة، والرجعة لا تنفي ذلك التحريم، وكل تحريم لم تنفه الرجعة.. لم تصح الرجعة معه، كما لو ارتدت في العدة، وراجعها.. فإن الرجعة لا تصح.
والثاني: تصح الرجعة؛ لأنا لم نحكم بانقضاء عدتها منه، فصحت رجعته؛ لأن هذا التحريم لا يفضي إلى زوال النكاح، فلم يناف الرجعة، كما لو طلقها طلاقا رجعيا، وأحرمت، فراجعها في حال الإحرام، ويفارق رجعتها في حال الردة، فإن الردة تفضي إلى زوال النكاح.
وإن قلنا: إن الولد لا ينتفي عن الأول إلا باللعان.. فحكمه كحكم ما لو أمكن أن يكون الحمل من كل واحد منهما، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: إذا لم يمكن أن يكون الولد من واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني.
فإن كان الطلاق بائنا.. فإنه لا يمكن أن يكون من أحدهما، وفيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما؛ لأنه غير لاحق بأحدهما.
فعلى هذا: إن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأطهار أقراء، فتتم عدتها من الأول، ثم تستأنف العدة عن الثاني، وإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها عن الأول بعد الوضع، ثم تستأنف العدة عن الثاني.
والوجه الثاني: أنها تعتد بالحمل عن أحدهما لا بعينه؛ لأنه يمكن أن يكون من أحدهما؛ ولهذا: لو أقر به.. لحقه، فانقضت به العدة، كالمنفي باللعان.
فعلى هذا: يلزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون من الأول.(11/92)
والمشهور هو الأول.
وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول بغير لعان؟ فيه قولان:
فإن قلنا: ينتفي عنه بغير لعان.. فحكمه حكم ما لو كان الطلاق بائنا.
وإذا قلنا بالوجه المشهور: أنها لا تعتد به عن أحدهما، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها من الأول بعد الوضع، ثم تستأنف ثلاثة أقراء للثاني، فإن راجعها الأول قبل الوضع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها ليست في عدة منه.
والثاني: يصح؛ لأنه لم يحكم بانقضاء عدتها منه.
وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إتمامها لعدته.. قال الشيخ أبو حامد: فهل تصح رجعته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب -: أنها تصح؛ لأنها في عدة منه.
والثاني: لا تصح؛ لأن عليها عدة لغيره.
وإن قلنا: إنه لا ينتفي عن الأول إلا باللعان، فإن لم ينفه.. لحق به، واعتدت به عنه، وإن نفاه.. فهو كما لو لم يلحق بواحد منهما.
المسألة الرابعة: إذا أمكن أن يكون من كل واحد منهما، بأن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من طلاق الأول.. فيعرض الولد بعد الوضع على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به، وانقضت عدتها منه بوضعه، فإن راجعها قبل الوضع.. فهل تصح الرجعة؟ فيه وجهان. وإذا وضعت الحمل.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء. فإن راجعها الأول بعد الوضع.. لم يصح؛ لأنها في عدة من غيره.
وإن ألحقته القافة بالثاني.. لحق به، وانقضت عدتها من الثاني بوضعه، وأتمت عدة الأول بعد الوضع، وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إكمالها لعدته..(11/93)
صح، وإن راجعها قبل الوضع.. فهل يصح؟ فيه وجهان.
وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما.
وأما العدة.. فإن عدتها تنقضي بوضعه عن أحدهما لا بعينه، ثم تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون الحمل من الأول، فيلزمها أن تعتد عن الثاني.
وأما حكم الرجعة: فإن قلنا: إن الحمل إذا كان عن الثاني.. تصح رجعة الزوج الأول قبل وضعه، فراجعها قبل الوضع.. صحت رجعته. وإن قلنا هناك: لا تصح رجعته.. فلا رجعة له حال كونها حاملا؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الزوج الأول، فتصح رجعته على المذهب، ويجوز أن يكون الحمل من الثاني، فلا تصح رجعته هاهنا، فلم نجعل له الرجعة مع الشك.
وإن خالف وراجعها حال كونها حاملا، فإن بان أن الحمل من الثاني.. لم تصح الرجعة؛ لأنه بان أنها معتدة عن غيره، وإن بان أن الحمل من الأول - وقلنا بالمذهب: إن رجعته تصح في عدتها منه وإن كان عليها عدة لغيره - فهل تصح رجعته هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لأنه راجعها في وقت يملك رجعتها فيه.
والثاني لا تصح؛ لأنه حالما راجعها كان يشك: هل له الرجعة، أم لا؟ فلم تصح الرجعة.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا حال البيع.
ولا نأمره بالرجعة بعدتها بعد الوضع؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الأول، والعدة بالأقراء عن الثاني، فلم يملك الرجعة فيها، فإن خالف وراجع فيها.. نظرت:(11/94)
فإن كانت قد رأت قبل الحمل قرءا لا غير، فراجعها في القرء الثالث من الثلاثة بعد الوضع.. لم تصح رجعته؛ لأنه ليس هو من عدتها عنه بيقين.
وإن راجعها في القرأين الأولين.. ينظر فيه.
فإن بان أن الحمل من الأول.. لم تصح رجعته في القرأين؛ لأنه بان أن ذلك وقت عدتها من الثاني.
وإن بان أن الحمل من الثاني.. فهل تصح رجعته في القرأين الأولين؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، وبان أنه كان ميتا وقت البيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال الخراسانيون: إذا احتمل أن يكون الحمل من كل واحد منهما، وأراد الزوج أن يراجعها.. فإنه يراجعها مرتين، مرة قبل وضع الحمل، ومرة بعده.
وإن كانت بائنا، فنكحها مرتين.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنا تيقنا أن أحدهما كان في عدته.
والثاني: لا يصح.
قالوا: وهذان الوجهان يشبهان القولين في توقف العقد على البينتين.
فأما الثاني إذا تزوجها، وقلنا: يصح.. قال ابن الصباغ: فإن تزوجها وهي حامل.. لم يصح؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فقد تزوجها في عدة غيره، وإن كان منه.. فقد تزوجها وقد بقي عليها عدة غيره. وإن تزوجها في عدتها بعد الوضع، فإن تزوجها في القرء الثالث.. صح؛ لأنها إما أن تكون معتدة منه فيه، أولا تكون معتدة أصلا، وإن تزوجها في القرأين الأولين.. لم يصح؛ لاحتمال أن تكون معتدة فيهما عن الأول، والنكاح مع الشك لا يصح؛ ولهذا: لا يصح نكاح المرتابة بالحمل.
[فرع أتت بولد يحتمل أنه من زوجين]
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فخرج الولد ميتا أو مات قبل أن تلحقه القافة بأحدهما.. فقد قال الشافعي: (لا يكون ابن واحد منهما) . ولم يرد:(11/95)
أنه ليس فيهما أب له؛ لأنا نعلم أن أحدهما أبوه وإن جهلنا عينه، وإنما أراد: ليس بابن واحد منهما بعينه، وهل يعرض على القافة بعد موته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعرض عليها؛ لأن مجززا المدلجي نظر على أسامة بن زيد وزيد وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه يجوز عرضه على القافة وهو نائم، فكذلك بعد موته. وحمل هذا القائل كلام الشافعي عليه إذا دفن.
والثاني: لا يجوز عرضه، وهو ظاهر النص؛ لأن الأشباه الخفية من الحركة والنغمة تذهب بالموت.
فإن كان قد أوصي لهذا الولد بوصية، فإن ولد ميتا.. بطلت الوصية، وإن ولد حيا، فإن قبل له الواطئان الوصية.. صح؛ لأن أحدهما أبوه بيقين، وإن لم يقبلا له حتى بلغ، وقبل لنفسه.. صح.
وإن مات قبل أن يلحق بأحدهما، فإن لم يكن له وارث غيرهما.. وقف المال بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأن أحدهما أبوه بيقين.
وإن كان لهذا الولد ابن وأم.. دفع إلى الأم سدس تركته، ووقف السدس بين الرجلين الواطئين، وأعطي الابن الباقي.
فإن كان له أم، ولا ولد له، فإن لم يكن للأم ولد ولا لأحد الرجلين.. دفع إلى الأم الثلث، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان للأم ولدان، أو لكل واحد من الرجلين ولدان، أو لها ولد ولكل واحد من الرجلين ولد.. دفع إلى الأم السدس، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان لأحد الرجلين ولدان، وكان للأم ولد، ولأحد الرجلين ولد.. فكم تستحق الأم؟ فيه وجهان:(11/96)
أحدهما: تستحق الثلث؛ لأنا نشك: هل له أخوان، أم لا؟ فلا تحجب الأم بالشك.
والثاني: تستحق السدس لا غير، ويوقف السدس لها؛ لأنا نشك أنها تستحق الثلث أو السدس، فلم يجز أن يدفع لها ما زاد على السدس بالشك.
وإذا مات قبل أن يقبل أو يقبلا له.. فإن القبول إلى جميع الورثة، فيقبل الرجلان، وتقبل الأم معهما؛ لأنها وارثة معهما.
[فرع طلقها وتزوجت في عدتها وأتت بولد]
وإن تزوج رجل امرأة، ودخل بها، وطلقها، فتزوجت في عدتها بآخر، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وطلبت نفقتها:
فإن كان الطلاق رجعيا، فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق النفقة بسبب الحمل.. فليس لها أن تطالب أحدهما بنفقتها حال كونها حاملا؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون الحمل من الثاني، فلا تستحق النفقة؛ لأنها حامل منه من نكاح فاسد، فإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم يكن لها مطالبة أحدهما.
فإذا وضعت الولد، فإن كان له مال.. فنفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. وجبت نفقته عليهما؛ لأنه ابن أحدهما بيقين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فأنفقا عليه بينهما.
وأما الأم: فإنها ترجع على الأول بنفقتها أقل المدتين من مدة الحمل أو القرأين اللذين تكمل بهما عدته؛ لأن الحمل إن كان منه.. فنفقتها عليه مدة الحمل، وإن كان من الثاني.. فعلى الأول نفقتها في القرأين الأولين اللذين تكمل بهما عدته.
فإن ألحق الولد بأحدهما.. نظرت:(11/97)
فإن أخذت من الأول قدر حقها.. فلا كلام.
وإن أخذت منه دون حقها.. رجعت عليه بباقي حقها.
وإن قلنا: إن نفقة الحامل البائن للحمل.. فإنها تستحق نفقتها عليهما حال كونها حاملا؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فنفقتها عليه، وإن كان من الثاني.. فنفقتها عليه؛ لأن الحمل من نكاح فاسد كالحمل من نكاح صحيح، إلا أنا لا نعلم من الذي تستحق عليه منهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجبت نفقتها بينهما، وهل يجب عليهما أن يدفعا إليها نفقة كل يوم، أو لا يجب عليهما الدفع حتى تضع؟ فيه قولان.
وأما نفقة الولد بعد وضعه، فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. أنفقا عليه بينهما إلى أن يتبين حاله.
وإن كان الطلاق بائنا: فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق أن يدفع إليها النفقة يوما بيوم.. كان الحكم فيه كالحكم في الطلاق الرجعي، في أنه يبنى على القولين في النفقة للحامل، هل تجب للحامل، أو للحمل؟ على ما مضى، إلا في شيء واحد، وهو: أن في ذلك الموضع إذا وضعت المرأة - وقلنا: يجب للحامل - ولم تستحق النفقة في حال حملها.. فإنها ترجع على الأول بنفقة أقل المدتين، وهاهنا لا ترجع عليه بشيء.
والفرق بينهما: أن الرجعية تستحق النفقة على الزوج في حال عدتها بكل حال، وهاهنا البائن لا تستحق النفقة على الزوج إلا إذا كانت حاملا.
وإن قلنا: إن نفقة الحامل لا تدفع إليها إلا بعد الوضع.. فما دامت حاملا لا نفقة لها على أحدهما، فإذا وضعت الولد، فإن لحق بالأول.. فعليه نفقته، وترجع المرأة عليه بنفقتها حال حملها؛ لأنه بان أنها كانت معتدة بالحمل منه، وإن لحق بالثاني.. كانت نفقة الولد عليه، وهل ترجع عليه المرأة بنفقتها حال حملها؟
إن قلنا: إن الحامل تستحق النفقة لها.. لم ترجع عليه.
وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليه بنفقتها حال حملها.(11/98)
وإن لم يلحق الولد بأحدهما.. كانت نفقة الولد عليهما نصفين إلى أن يتبين، وهل ترجع المرأة عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؟
إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم ترجع عليهما بشيء؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون من الثاني، فلا تستحق على أحدهما نفقة، وإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم ترجع على أحدهما بشيء.
وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؛ لأنا نعلم أنها تستحق جميع نفقتها على أحدهما لا بعينه، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فرجعت بها عليهما نصفين، وكل موضع أنفقا على المرأة بينهما، أو أنفقا على الولد بعد الوضع بينهما، ثم لحق الولد بأحدهما، وبان أن النفقة عليه.. فهل يرجع الآخر عليه بما أنفق؟ ينظر فيه:
فإن أنفق بغير حكم الحاكم.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالإنفاق.
وإن أنفق بحكم الحاكم، فإن كان يدعي نسب الولد.. لم يرجع؛ لأنه يقول: هو ولدي ويستحق علي جميع النفقة، وإنما ظلمت بنفيه عني، وإن كان يجحد نسب الولد.. فإنه يرجع على الآخر بما أنفق؛ لأنه يقول: قد كنت أقول: إن هذا الولد ليس مني، ولا يستحق علي النفقة، وإنما أكرهت على الإنفاق عليه بغير حق، فأنا أستحق الرجوع على أبيه.
ومن أصحابنا من قال: إذا أشكل حال الولد.. لم تجب النفقة على واحد منهما؛ لأن الشافعي قال: (وإن أشكل الأمر.. لم آخذه بنفقته) ، ولأنا نشك في وجوب النفقة على كل واحد منهما، فلم تجب بالشك. والأول أصح؛ لأن الشافعي إنما أراد: أن الزوج لا يؤخذ بالنفقة وحده، ولكن تجب النفقة بينه وبين الآخر على ما بيناه.
[فرع طلق رجعيا ونكحت بعدتها وحملت]
وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ونكحت بآخر في عدتها، ووطئها، وفرق بينهما، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، فإن قلنا: إن الولد يلحق بالأول، ولا ينتفي عنه إلا باللعان..(11/99)
فالحكم في النفقة على ما مضى في التي قبلها، وإن قلنا: إن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان.. فإنه يلحق بالثاني، ولا تستحق المرأة النفقة على الأول حال كونها حاملا؛ لأنها في عدة من غيره، وهل تستحق نفقتها على الثاني حال كونها حاملا؟
إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم تستحق عليه.
وإن قلنا: للحمل.. استحقت عليه.
فإذا وضعت الحمل.. فإنها تكمل عدة الأول، وتستحق عليه النفقة في القرأين بعد دم النفاس، وهل تستحق عليه النفقة ما دام معها دم النفاس؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تستحق عليه نفقة ذلك؛ لأنه ليس من عدته، وإنما هو تابع للحمل، فلما لم تستحق عليه نفقة مدة الحمل، فكذلك مدة النفاس.
والثاني: تستحق عليه نفقة تلك المدة؛ لأن عدتها تنقضي من الثاني بوضع الولد، وزمان النفاس هو من عدة الأول وإن كان غير محتسب به من عدته، كما لو طلقها وهي حائض.
[فرع طلقت من حربي وتزوجت بمشرك في عدتها]
وإن طلق الحربي امرأته، وتزوجت بمشرك في عدتها، ووطئها.. وجب عليها للثاني عدة، والمنصوص: (أن عدتهما تتداخلان) .
ومن أصحابنا الخراسانيين من جعل فيها وفي المسألة قبلها قولين.
وقال أكثر أصحابنا: تتداخل عدة المشركين، قولا واحدا، بخلاف المسألة قبلها؛ لأن عرض الحربي وماله عرضة للإبطال والنهب، فجاز إبطال عدته، بخلاف المسلم.
وإن وطئت امرأة رجل بشبهة، ثم طلقها زوجها وهي في العدة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:(11/100)
أحدهما: أن العدتين لا تتداخلان، وهو المنصوص، كما لو طلقها، ثم وطئت بشبهة.
والثاني: تتداخلان، فتجب عليها عدة واحدة؛ لأن عدة وطء الشبهة ضعيفة، فدخلت في عدة الطلاق بعدها.
[مسألة تزوجها في عدة غيرها ووطئها جاهلا]
] : وإذا تزوج الرجل امرأة في عدة غيره، ووطئها جاهلا بالتحريم.. فقد قلنا: يفرق بينهما، وتتم عدتها من الأول، وتعتد عن الثاني، وهل يحل للثاني نكاحها؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يحل له أبدا) . وبه قال عمر، ومالك؛ لأنه تعجل حقه قبل وقته، فمنعه في وقته، كالوارث إذا قتل مورثه.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: كل وطء بشبهة أفسد الفراش، فإن الموطوءة تحرم على الواطئ على التأبيد، مثل: أن يطأ الرجل زوجة غيره، أو أمة يستفرشها بشبهة، فأما وطء الشبهة الذي لا يفسد الفراش، مثل: أن يطأ امرأة معتدة عنه بشبهة، أو وطئ امرأة بشبهة لا زوج لها، ولا سيد يستفرشها، أو وطئ امرأة بنكاح فاسد، وليست في عدة من غيره.. فإنها لا تحرم على الواطئ على التأبيد.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تحرم عليه) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة أهل العلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23 - 24] . وهذه ليست من الأعيان المحرمة. ولأنه وطء بشبهة، فلم يحرم على التأبيد، كما لو نكح امرأة بلا ولي ولا شهود ووطئها. وهذا القول أصح؛ لأن ابن عبد الحكم روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (اختلف عمر وعلي في ثلاث مسائل - القياس فيها مع علي، وبقوله آخذ - إحداهن: هذه.
الثانية: امرأة المفقود إذا غاب عنها زوجها، وانقطع عنها خبره) .(11/101)
فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يرفع الأمر على الحكام، ويضرب لها أربع سنين، ثم تعتد بأربعة أشهر وعشر، ثم تتزوج) . وهو القول القديم للشافعي.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (هذه امرأة ابتليت، تصبر أبدا) . وهو قول الشافعي في الجديد، وهو الأصح.
والثالثة: إذا طلق زوجته طلقة رجعية، وغاب عنها، ثم راجعها وأشهد على رجعته، ولم تعلم بذلك، وانقضت عدتها، فتزوجت بآخر، ودخل بها، وجاء الأول، وادعى: أنه راجعها، وأقام على ذلك بينة.. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الثاني) . وهو قول مالك. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الأول) . وهو قول الشافعي. وقد روي عن عمر: أنه رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الأولى.
[مسألة طلقها ثم وطئها في العدة]
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، ووطئها الزوج في العدة.. فلا حد عليهما؛ لأنه وطء بشبهة، سواء كانا عالمين بتحريم الوطء أو جاهلين؛ لأنها في معاني الزوجات، إلا أنهما إذا كانا عالمين بالتحريم.. عزرا، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا.. عزر العالم منهما.
فإن كانت وقت الطلاق حائلا.. نظرت:
فإن لم تحبل من الوطء في العدة.. وجب عليها استئناف العدة عن الوطء في العدة؛ لأنه وطء بشبهة، فأوجب العدة، وتدخل فيها البقية من العدة الأولى؛ لأنهما من واحد، فتداخلا.
فإن كان قد مضى لها قرء من العدة قبل الوطء.. فإنها تستأنف ثلاثة أقراء من حين(11/102)
الوطء بعد الطلاق، فالقرءان الأولان يقعان عن الطلاق وعن الوطء بعد الطلاق، والثالث يقع عن الوطء بعد الطلاق.
فإن راجعها الزوج في حال القرأين الأولين.. صحت رجعته؛ لأنه راجعها في عدتها منه عن الطلاق الرجعي، وإن وطئها فيهما ثانيا.. لم يجب عليهما الحد، سواء كانا عالمين بالتحريم أو جاهلين، كما قلنا في الوطء الأول في القرء الأول.
فإن راجعها في القرء الثالث.. لم تصح رجعته؛ لأنه راجعها بعد انقضاء عدتها عنه بالطلاق.
وإن وطئها في القرء الثالث، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا مهر لها، ولا يجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يجب عليهما الحد، ويجب لها المهر، ووجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء، وتدخل فيها بقية عدة الوطء الأول. وإن كان الزوج جاهلا والزوجة عالمة.. وجب عليها الحد، ولا مهر لها، ولم يجب عليه الحد، ووجب عليها استئناف العدة، ودخل فيها بقية العدة من الوطء بعد الطلاق. وإن كان الزوج عالما بالتحريم والزوجة جاهلة.. وجب على الزوج الحد والمهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها استئناف العدة.
وإن كان قد مضى عليها من العدة قبل الوطء قرءان.. وجب عليها استئناف ثلاثة أقراء، وصحت رجعته في القرء الأول، وإن وطئها فيه.. فلا حد عليهما بحال، ووجب عليها استئناف العدة، وإن راجعها في القرأين الآخرين.. لم تصح رجعته، وإن وطئها فيهما.. فهو كما لو وطئها في القرء الثالث إذا مضى لها قبل الوطء قرء، وعلى ما مضى.
وإن كان عدتها بالشهور.. فالحكم فيها كالحكم في الأقراء، على ما مضى.
وإن حبلت من الوطء بعد الطلاق في العدة.. فإنها تعتد بوضعه عن وطئه في عدة الطلاق، وهل تدخل فيه بقية عدتها عنه للطلاق؟ فيه وجهان:(11/103)
أحدهما: تدخل؛ لأنهما عدتان لواحد، فتداخلتا، كما لو كانتا من جنس واحد.
والثاني: لا تتداخلان؛ لأن الحقين إنما يتداخلان إذا كانا من جنس واحد، فأما إذا كانا من جنسين: فإنهما لا يتداخلان، كما لو زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن قبل أن يحد للأول.
فإن قلنا: إنهما يتداخلان.. كانت في عدة الطلاق إلى أن تضع، وله أن يراجعها قبل الوضع، فإن وطئها قبل الوضع ثانيا وثالثا.. فلا حد عليهما، وعليها العدة للجميع، وتنقضي عدتها عن الجميع بوضع الحمل.
وإن قلنا: إنهما لا يتداخلان.. نظرت:
فإن لم تر دما على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تعتد بالحمل عن وطء الشبهة، فإذا وضعت الحمل.. أتت بما بقي عليها من الأقراء من عدة الطلاق، فإن راجعها بعد الوضع في حال إتمامها لعدة الطلاق.. صحت الرجعة؛ لأنه راجعها في عدتها منه بالطلاق الرجعي، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من وطء الشبهة.
والثاني: يصح؛ لأن عدتها عنه للطلاق الرجعي لم تنقض.
وإن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تتم عدة الطلاق بالأقراء - وهي الأطهار بين الدمين على الحمل - وله الرجعة عليها ما لم تنقض عدتها بالأقراء، فإذا انقضت الأقراء.. لم تصح رجعته.
وتنقضي عدتها عن وطء الشبهة بوضع الحمل، وأما حكم نفقتها عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنا إذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فعليه أن ينفق عليها ويكسوها ويسكنها إلى أن تضع، وإن قلنا: لا تتداخلان، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته(11/104)
وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنه يجب عليه أن ينفق عليها في الأقراء بعد وضع الحمل؛ لأنها في عدة منه عن طلاق رجعي.
وهل يجب عليه أن ينفق عليها مدة دم النفاس؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التي قبلها.
وهل يجب عليه أن ينفق عليها حال كونها حاملا؟
فإن قلنا: إن البائن الحامل تجب لها النفقة لنفسها.. لم تجب عليه نفقتها.
وإن قلنا: إنها تجب لها بسبب الحمل.. وجب لها عليه النفقة.
وأما إذا طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل الوضع.. فإنها تعتد بوضع الحمل عن الطلاق، ويجب عليها ثلاثة أقراء بوطئه إياها في العدة، وهل تدخل الأقراء في الحمل؟ على الوجهين.
فإذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فإنها تكون في العدة عن الطلاق والوطء إلى أن تضع، ولها عليه النفقة والكسوة والسكنى إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع.
وإن قلنا: إنهما لا تتداخلان، فإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها في عدة الطلاق إلى أن تضع، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع، فإذا وضعت الحمل.. اعتدت بثلاثة أقراء عن وطء الشبهة، ولا تستحق عليه فيها نفقة ولا غيرها.
وإن رأت الدم على الحمل وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأقراء من الحمل عن وطء الشبهة، وتعتد بالحمل عن الطلاق، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته عليها ما لم تضع.
[مسألة تزوج وخالع أو طلقها بعوض ثم تزوجها في العدة]
إذا تزوج امرأة ودخل بها، وخالعها أو طلقها طلقة أو طلقتين بعوض، فتزوجها وهي في العدة.. صح.
وقال المزني: لا يصح نكاحه لها، كما لا يصح نكاح غيره لها. وهذا خطأ؛ لأن(11/105)
نكاح غيره لها يؤدي إلى اختلاط المياه، وفساد النسب، ونكاحه لها لا يؤدي إلى ذلك.
فإذا تزوجها.. انقطعت عدتها. وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: لا تنقطع عدتها حتى يدخل بها، كما إذا تزوجها غيره في عدتها. وهذا ليس بصحيح.
وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس؛ لأنها تصير بعد العقد فراشا له، ولا يجوز أن تكون فراشا له وتكون معتدة عنه، وتخالف إذا نكحها غيره في عدتها.. فإنها لا تصير فراشا له بالعقد.
وإن طلقها.. نظرت:
فإن وطئها بعد النكاح الثاني، ثم طلقها.. لزمها استئناف العدة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من واحد.
وإن طلقها قبل أن يطأها.. لم يلزمها استئناف العدة، بل يجب عليها أن تتم العدة الأولى.
وقال داود: (لا يلزمها) .
دليلنا: أنا لو قلنا: لا تجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يتزوجها في اليوم الواحد جماعة رجال، ويطأها كل واحد منهم، بأن يتزوجها الأول ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ويطلقها قبل الدخول، فتتزوج بالثاني ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها الثالث ويطأها، وعلى هذا إلى أن يجتمع على تزويجها ووطئها في اليوم الواحد مائة رجل، فتفسد أنسابهم. وهذا ظاهر الفساد.
[فرع خالعها حاملا ثم تزوجها ثم مات]
قال ابن الحداد: وإن خالع امرأته وهي حامل، ثم تزوجها حاملا، ثم مات.. فليس عليها إلا وضع الحمل، سواء أصابها بعد الخلع أو لم يصبها؛ لأن عدة الوفاة تنقضي بوضع الحمل، سواء دخل بها أو لم يدخل.(11/106)
[مسألة طلقها بعد الدخول ثم راجعها أثناء عدتها]
وإن تزوج الرجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها، ومضى عليها قرء أو قرءان، ثم راجعها.. انقضت العدة؛ لأنها صارت فرشا له، فلا يصح أن تكون معتدة عنه، فإن وطئها بعد الرجعة، ثم طلقها.. فعليها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنه قد حصل في رحمها ماء جديد له حرمة، فوجبت له العدة.
وإن طلقها قبل أن يطأها.. ففيه قولان:
أحدهما: تبني على الأولى.
والثاني: يلزمها استئناف العدة.
وقال داود: (لا يجب عليها عدة) . وهذا خطأ؛ لأنا لو قلنا: لا يجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يجتمع على وطئها في اليوم الواحد جماعة رجال، بأن يتزوجها رجل ويدخل بها، ثم يطلقها طلاقا رجعيا، ثم يراجعها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك، وتتزوج بثالث، ويفعل مثل ذلك، فيؤدي إلى إفساد النسب.
فإذا قلنا: تبني على العدة، وهو قوله في القديم، وبه قال مالك.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ولو احتاجت إلى استئناف العدة.. فقد أمسكها ضرارا؛ لأنه يراجعها في آخر عدتها، ثم يطلقها.
وإذا قلنا: تستأنف العدة، وهو قوله في الجديد، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] وهذه مطلقة. ولأنه إذا راجعها.. فقد عاد النكاح كما كان، فإذا طلقها.. استأنفت العدة، كالطلاق الأول.
وإن طلق امرأته طلقة رجعية، فراجعها، ثم طلقها، ثم خالعها في العدة قبل أن يطأها بعد الرجعة، فإن قلنا: إن الخلع طلاق.. كان كما لو طلقها بعد الرجعة، وهل تبني على عدتها، أو تستأنف؟ على القولين. وإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فاختلف أصحابنا فيه:(11/107)
فمنهم من قال: فيه قولان، كالطلاق.
ومنهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن الخلع نوع فرقة أخرى، فلا تبني عدته على عدة الطلاق.
وإن طلق امرأته طلقة رجعية، ثم طلقها في العدة قبل أن يراجعها.. فهل تبني على عدتها، أو تستأنف العدة؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو راجعها ثم طلقها؛ لأن الشافعي قال - إذا راجعها، ثم طلقها في أحد القولين -: (إنها تستأنف) . ثم قال: (ومن قال بهذا.. لزمه أن يقول: ارتجع أو لم يرتجع سواء) .
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: تبني على عدتها، قولا واحدا. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد.
[فرع طلق العبد أمة رجعيا ثم عتقت]
إذا تزوج العبد أمة، فطلقها طلاقا رجعيا، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، ولها أن لا تفسخ.
فإن اختارت فسخ النكاح.. فهل تبني على عدتها، أو يلزمها استئناف العدة؟ فيه ثلاث طرق:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: لها أن تبني على العدة، قولا واحدا. وهو اختيار أبي إسحاق المروزي.
و [الثالث] : منهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن إحداهما من طلاق، والأخرى من فسخ.
فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة؛ لأنها وجبت في حال الحرية.(11/108)
وإذا قلنا: إنها تبني على الأولى.. فعلى ماذا تبني؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تبني على عدة أمة.
والثاني: تتم عدة حرة. كما لو كانت تحت حر وطلقها، ثم أعتقت.. فإن فيه قولين.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: تتم عدة حرة، قولا واحدا؛ لأن الفسخ هاهنا طرأ على العدة، والفسخ يوجب العدة، فغيرها، بخلاف ما لو أعتقت تحت حر، أو تحت عبد، ولم تختر الفسخ.. فإن العتق لا يوجب العدة، فلم يغيرها.
وإن لم تختر الفسخ.. نظرت:
فإن لم يراجعها حتى بانت.. فلا يلزمها استئناف العدة، ولكن هل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
وإن راجعها قبل انقضاء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، فإن اختارت الفسخ.. فهل يلزمها استئناف العدة، أو يجوز لها أن تبني على الأولى؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالطلاق.
و [الثاني] : منهم من قال: يلزمها أن تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأنها فسخت النكاح وهي زوجة.
فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة.
وإذا قلنا: تبني.. فهل يلزمها أن تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.(11/109)
[مسألة طلقها واختلفا في الإصابة]
] : إذا طلق الرجل زوجته، واختلفا في الإصابة: فادعى الزوج: أنه قد أصابها لثبوت الرجعة، وأنكرت الإصابة، أو ادعت المرأة: أنه أصابها لثبوت جميع المهر، وأنكر الزوج الإصابة.. نظرت:
فإن اتفقا على: أنه قد خلا بها.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (القول قول من يدعي الإصابة) ؛ لأن الظاهر معه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (القول قول من ينكر الإصابة) . وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
وإن لم يتفقا على الخلوة.. فالقول قول من ينكر الإصابة منهما، قولا واحدا؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
وإن ادعت الزوجة الإصابة، فأتت بشاهد واحد على مشاهدته الإصابة، أو على إقرار الزوج بها.. حلفت معه؛ لأن المقصود بدعواها في ذلك المال، وإن أتى الزوج بشاهد في الإصابة، وأراد أن يحلف معه.. لم يكن له ذلك؛ لأن المقصود بدعواه في ذلك غير المال.
فإن أتت بولد لمدة الحمل من حين النكاح، ولم ينفه باللعان.. لحقه نسبه.
فإن ادعت المرأة الإصابة لاستقرار المهر.. فنقل المزني: (أن القول قول الزوجة) ، فإذا حلفت.. استحقت جميع المهر. ونقل الربيع: (أن القول قول الزوج مع يمينه) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا:
أحدهما: القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها؛ لأنا قد ألحقنا به النسب، والظاهر أن النسب لا يلحق إلا عن إصابة.(11/110)
والثاني: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة، وقد يلحقه الولد من غير إصابة، بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى فرجها، أو يبعث إليها بمائه، فتستدخله وتحمل منه.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) أراد به: إذا كانا قد اختلفا في الإصابة، وجعلنا القول قول الزوج، فحلف، وحكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، ثم أتت بعد ذلك بولد يلحقه بالإمكان، ولم ينفه، ثم قالت بعد ذلك: قد أصبتني، وقال: ما أصبتك.. فالقول قوله؛ لأنا قد حكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، فلا ننقض حكمنا في الظاهر بأمر محتمل؛ لجواز أن يكون الولد منه من غير وطء منه.
وحيث قال: (القول قولها) أراد: إذا لم يكونا قد اختلفا في الإصابة، ثم أتت بولد، ولحقه نسبه، ثم خرس الزوج أو مات، وادعت الإصابة بعد ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها.
[مسألة ادعت انقضاء العدة وأنكرها الزوج]
إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، وأنكرها الزوج.. فقد مضى ذكره.
وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور، وأنكر الزوج، فإن اتفقا على وقت الطلاق.. لم يفتقر إلى اليمين، بل يحتسب ذلك، وإن اختلفا في وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به.
وإن ولدت وطلقها، فقالت: ولدت بعد الطلاق، وانقضت عدتي بالولادة، وقال الزوج: بل ولدت قبل الطلاق، فعليك العدة بالأقراء.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: إذا اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، فإن اتفقا: أنها(11/111)
ولدت يوم الجمعة، وقالت: طلقتني يوم الخميس، وقال الزوج: بل طلقتك يوم السبت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به.
المسألة الثانية: إذا اتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في وقت الولادة، مثل: أن اتفقا: أنه طلقها يوم الجمعة، وقالت الزوجة: ولدت يوم السبت، وقال الزوج: بل ولدت يوم الخميس.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الولادة من فعلها، وهي أعلم بها.
المسألة الثالثة: إذا قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، فقالت هي: بل طلقتني قبل الولادة، ولم يتفقا على وقت الولادة، ولا على وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العدة عليها.
المسألة الرابعة: إذا جهلا جميعا أن الطلاق وقع قبل الولادة أو بعدها، ولم يدعيا سبق أحدهما.. فعليها العدة بالأقراء؛ لأن الأصل بقاؤها، وله أن يراجعها، والورع أن لا يراجعها؛ لاحتمال أن تكون الولادة بعد الطلاق.
المسألة الخامسة: إذا علم أحدهما، وجهل الآخر، مثل: أن قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، وقالت: لا أعلم، هل طلقتني قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا: ليس هذا بجواب، إما أن تجيبي بتصديقه أو تكذيبه، وإلا جعلناك ناكلة، وحلف، وكانت عليك العدة.
ولو كانت هي العالمة، وهو الجاهل، مثل: أن قالت: طلقتني، ثم ولدت بعده، وقال الزوج: لا أدري، هل طلقت قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا له: إما أن تجيب بتصديقها أو تكذيبها، وإلا.. جعلناك ناكلا، وحلفناها، وحكمنا بانقضاء عدتها، كما نقول فيمن ادعى على رجل دينا، فقال المدعى عليه: لا أدري.. فإنه يقال له: إما أن تصدقه، وإما أن تكذبه، وإلا.. جعلناك ناكلا، ويحلف المدعي، ويستحق.(11/112)
[مسألة اختلاف المطلقة وزوجها في مكان الإقامة]
] . روى المزني عن الشافعي: (لو صارت إلى منزل أو بلد بإذنه، ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي، ثم طلقها، فقال: لم أنقلك، فقالت: نقلتني.. فالقول قولها) .
وجملة ذلك: أنه إذا أذن لها في الخروج إلى منزل أو بلد، ثم طلقها، واختلفا: فقالت: نقلتني إلى هذا الموضع، وقال: ما نقلتك.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر ما نقله المزني، وأن القول قولها؛ لأن إذنه لها في المضي إلى الموضع ظاهره الانتقال، فكانت دعواها موافقة للظاهر.
وقال أبو إسحاق: إن قال لها: انتقلي إلى المنزل الفلاني، أو اذهبي، أو صيري إليه، أو أقيمي فيه، ثم اختلفا: فقالت: نقلتني للسكنى فيه، وقال: بل نقلتك إليه للإقامة فيه مدة.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر من قوله: (أقيمي) أنه أراد على التأبيد. وإن قال لها: اذهبي إليه، أو صيري إليه، أو امضي إليه، ولم يقل: أقيمي.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يحتمل النقلة للسكنى وللإقامة مدة، فكان القول قول الزوج، وحمل النص على الأولى دون الثانية.
ومن أصحابنا من قال: الحكم كما ذكر أبو إسحاق؛ لأن المزني نقل: (القول قولها) في المسألتين معا؛ لأنه قال: (ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي) ، إلا أن ما نقله أخطأ فيه، وإنما القول قولها إذا اختلفت هي وورثة الزوج؛ لأنها استوت هي والورثة في قصد الزوج، إلا أن الظاهر معها؛ لأن الأمر بالخروج يقتضي خروجا من غير عودة، فكان القول قولها.
والله أعلم بالصواب(11/113)
[باب استبراء الأمة وأم الولد]
إذا ملك الرجل أمة بابتياع، أو هبة، أو ميراث، أو غنيمة.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا، يوطأ مثلها أو لا يوطأ، ممن يحمل مثلها أو لا يحمل، وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة.
وقال ابن عمر: (إن كانت بكرا.. فلا يجب عليه استبراؤها، وإن كانت ثيبا.. وجب عليه استبراؤها) . وبه قال داود وشيعته.(11/114)
وقال مالك: (إن كانت ممن يوطأ مثلها.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، وإن كانت ممن لا يوطأ مثلها.. لم يجب عليه استبراؤها) .
وقال الليث بن سعد: (إن كانت ممن يحمل مثلها.. فلا توطأ حتى تستبرأ، وإن كانت ممن لا يحمل مثلها.. فإنها لا تستبرأ) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عام أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة» وروي: «ولا غير حامل حتى تحيض» . ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، وبين من تحبل ومن لا تحبل.
ولأنه ملك استمتاع جارية بملك اليمين بعد أن كانت محرمة عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالثيب مع داود، وكمن يوطأ مثلها مع مالك، وكمن تحبل مثلها مع الليث.
فقولنا: (بملك اليمين) احتراز منه إذا تزوجها.
وقولنا: (بعد أن كانت محرمة عليه) احتراز منه إذا اشترى زوجته.(11/115)
[مسألة ما يعتد من طهرها]
وإذا وجب أن يستبرئ الأمة.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا.
فإن كانت حاملا.. لم يحصل الاستبراء إلا بوضع الولد؛ لحديث أبي سعيد.
وإن كانت حائلا.. فلا تخلو: إما أن تكون ممن تحيض، أو ممن لا تحيض.
فإن كانت ممن يحيض.. وجب استبراؤها بقرء، وفي القرء قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: أنه طهر؛ لأنه استبراء بقرء، فكان القرء هو الطهر، كما قلنا في العدة.
والثاني: أن القرء هو الحيض، وهو الأصح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا حائل حتى تحيض حيضة» ، ولأن القرء يراد لمعرفة براءة الرحم، فإذا لم يكن بد من أحدهما.. كان بالحيض أولى؛ لأنه أدل على براءة الرحم، ويخالف الأقراء في العدة، فإنها تتكرر، ويتخللها الحيض.
فإذا قلنا: إن القرء هو الطهر.. فلا يخلو: إما أن تكون حال وجوب الاستبراء طاهرا، أو حائضا.
فإن كانت طاهرا.. فإنها تعتد ببقية الطهر قرءا، فإذا طعنت في الحيض.. فقد حصل القرء، إلا أنها لا يحل وطؤها، ولا تخرج من حكم الاستبراء حتى تطهر من الحيض، لتكون مضاهية للمعتدة، بأن يمر عليها الطهر المحسوب قرءا وحيضة على وجه التبع، فيعلم بذلك براءة رحمها.
وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. فإنها لا تعتد ببقية الحيض قرءا؛ لأن القرء الطهر، فإذا طهرت.. فقد طعنت في القرء، فإذا رأت الدم بعد الطهر.. فقد خرجت من الاستبراء؛ لأن في هذا الموضع قد تكرر رؤية الدم، فقويت المعرفة ببراءة رحمها، بخلاف الأولى، فإن رؤية الدم لم تتكرر.(11/116)
وإذا قلنا: إن القرء الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا.. لم تعتد ببقية الطهر؛ لأنا قلنا: إن القرء الحيض، فإذا طعنت في الحيض.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت. وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. لم تعتد ببقية الحيض قرءا، فإذا طهرت وطعنت في الحيض بعده.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت.
فإن قيل: فلم قلتم: تعتد ببقية الطهر قرءا على القول الأول، ولا تقولون: تعتد ببقية الحيض قرءا على هذا؟
قلنا: لا نقول هذا؛ لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حتى تحيض حيضة» . وبعض الحيض لا يسمى حيضة. ولأن بعض الطهر إنما اعتد به قرءا؛ لأنا قد قلنا: لا بد أن يتعقبه حيضة كاملة تدل على براءة رحمها، وبعض الحيضة لا يتعقبه إلا الطهر، والطهر لا يدل على براءة رحمها، وإنما يدل عليه الحيض.
وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض، فارتفع حيضها.. فهو كما لو ارتفع حيضها في العدة، على ما بيناه.
وإن وجب استبراؤها وهي ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها تستبرأ بشهر؛ لأن كل شهر في مقابلة قرء في حق المعتدة، فكذلك هذا مثله.
والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر، وهو الأصح؛ لأن براءة الرحم لا تحصل في الشهور إلا بذلك.
[فرع تبقى الجارية في يد المشتري لاستبرائها]
وتكون الجارية في يد المشتري زمن الاستبراء، سواء كانت جميلة أو قبيحة.
وقال مالك: (إن كانت جميلة.. لم تكن في يد المشتري، وإنما تترك في يد(11/117)
عدل، وإن كانت قبيحة.. كانت في يد المشتري؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ الجميلة قبل الاستبراء، ويؤمن ذلك في القبيحة) .
دليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . والنهي إنما يتوجه على من كان متمكنا من الوطء.
ولأنه استبراء لاستحداث ملك، فوجب أن يكون في يد من حدث له الملك، كما لو كانت قبيحة.
وما ذكره.. غير صحيح؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ القبيحة الوحشة أيضا، كما لا يؤمن ذلك في الجميلة.
[مسألة استبراء الوثنية]
إذا اشترى أمة مجوسية أو وثنية، فاستبرأها وهي مشركة، ثم أسلمت.. لم يعتد بذلك الاستبراء.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنها تعتد به. والمشهور هو الأول؛ لأنه استبرأها في وقت لا يحل له وطؤها، فلم يعتد به.
فإن استبرأ المجوسية وكاتبها، فأسلمت، ثم حاضت بعد الإسلام، ثم عجزت عن أداء المال، ورجعت إلى ملكه.. لم تعتد باستبرائها في حال الكتابة والإسلام؛ لأنها كانت مدتها محرمة عليه بالكتابة.
[فرع الاستبراء للاستباحة]
وإن اشترى أمة مرتدة أو ذات زوج، فاستبرأها في هذه الحال.. لم يصح استبراؤها؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال.
وإن استبرأ أمة معتدة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح استبراؤها، كالمرتدة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يلزمه استبراؤها بعد عدتها؟ فيه قولان.(11/118)
وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة أمة.. فالملك فيها للسيد، فإن أراد السيد وطأها، فإن لم يكن على المأذون له في التجارة دين.. كان له ذلك، ويصح استبراؤها.
وإن كانت في يد العبد، فإن كان على المأذون له دين.. لم يكن للسيد وطؤها؛ لأن الدين متعلق بها، فهي كالمرهونة، وقد تحبل بوطء السيد، فتتلف.
وإن استبرئت قبل قضاء الدين، ثم قضي الدين.. لم يعتد بالاستبراء الأول؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به.
وهكذا: لو اشترى الرجل أمة، فرهنها قبل الاستبراء، ثم استبرأها وهي مرهونة، ثم قضى الدين أو أبرأه منه المرتهن.. فإنه لا يعتد بالاستبراء؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به.
[مسألة وضعت قبل التفرق من البيع]
قال الشافعي: (ولو لم يفترقا حتى وضعت حملا.. لم تحل حتى تطهر من نفاسها، ثم تحيض حيضة مستقبلة) .
وجملة ذلك: أنه إذا اشترى أمة وقبضها، فولدت أو حاضت بعد انقضاء الخيار.. حصل الاستبراء، وإن قبضها، ثم ولدت أو حاضت قبل انقضاء خيار المجلس أو خيار الثلاث، فإن قلنا: إن المشتري لا يملكها قبل انقضاء الخيار.. لم يعتد بهذا عن الاستبراء؛ لأنه وجد وهي في ملك البائع، وإن قلنا: إن المشتري يملكها نفس بالعقد، أو قلنا: إنه موقوف، واختار الإجازة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتد به، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأن الاستبراء حصل وهي في ملكه.
والثاني: لا يعتد به؛ لأن ملكه كان غير مستقر؛ لأن للبائع أن يسترجعها.(11/119)
وإن استبرأها بعد انقضاء الخيار وقبل القبض، أو أوصى له بها وقبل الوصية واستبرأها قبل القبض.. فهل يعتد به؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتد به، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الشافعي قال: (حتى تطهر من النفاس، وتحيض حيضة) . ولم يشترط القبض. ولأنه استبرأها بعد تمام الملك، فأشبه إذا كان بعد القبض.
والثاني: لا يعتد به؛ لأن الشافعي قال: (والاستبراء: أن تمكث عند المشتري طاهرا بعد ملكها) ، ولأن ملكه قبل القبض غير مستقر.
وإن وهبت له الجارية، واستبرأها قبل القبض.. لم يعتد به؛ لأنه استبرأها قبل أن يملكها.
وإن ورثها واستبرأها قبل القبض.. اعتد به؛ لأن الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف فيه.
[مسألة تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ النكاح]
إذا تزوج الحر أمة، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح، والمنصوص: (أنه لا يلزمه استبراؤها) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يلزمه. وليس بشيء؛ لأن الاستبراء يراد لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهاهنا الماءان له، فلا يؤدي إلى ذلك.
قال الشافعي: (وأستحب له أن يستبرئها) . وإنما استحب ذلك لمعنيين:
أحدهما: أنها قد تكون حاملا وقت الشراء، فلا تصير به أم ولد، وإذا حملت بعد الشراء.. صارت به أم ولد؛ فاستحب الاستبراء؛ لتمييز حكمها.
والثاني: أن الولد الذي حملت به قبل الشراء يملكه، ويعتق عليه، ويكون له عليه(11/120)
الولاء، والولد الذي تحمل به بعد الشراء لا يملكه، ولا يعتق عليه، ولا يثبت له عليه الولاء، فاستحب استبراؤها؛ لتمييز حكم الولد في ذلك.
[مسألة ملك أمة ثم باعها ولزم البيع ثم تقايلا]
إذا ملك الرجل أمة، ثم باعها من رجل أو امرأة أو خصي، ولزم البيع بينهما، ثم تقايلا البيع، وعادت إلى البائع.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء قبضها المشتري أو لم يقبضها.
وقال أبو يوسف: إن كان المشتري قد قبضها.. فلا يجوز للبائع وطؤها حتى يستبرئها. وإن لم يقبضها.. فالقياس: أنه يستبرئها، ولكن جوزنا له أن لا يستبرئها استحسانا. وهذا غلط؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت له بفسخه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو كان بعد القبض.
[فرع كاتبها فعجزت ورجعت إليه]
وإن كاتب الرجل أمته، فعجزت ورجعت إلى ملك سيدها، أو ارتد السيد أو الأمة أو ارتدا وعاد المرتد إلى الإسلام، أو زوج أمته وطلقها الزوج قبل الدخول.. لم يجز له وطؤها قبل استبرائها.
وقال أبو حنيفة: (يحل له في جميع هذه المسائل قبل الاستبراء) .
دليلنا: أنه عاد ملكه على استمتاعها بعد أن حرم عليه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها.
وإن زوج أمته، ودخل بها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج.. فهل يجب على السيد استبراؤها بعد انقضاء عدتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأنه تجدد له الملك على استمتاعها، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها.(11/121)
والثاني: لا يجب عليه استبراؤها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن الاستبراء يراد لبراءة رحمها، وقد حصل ذلك بالعدة.
وإن كانت له أمة، فرهنها، ففك الرهن.. لم يجب عليه استبراؤها؛ لأنها لم تخرج من ملكه، وإنما حرم عليه استمتاعها لعارض، وقد زال العارض، فلم يجب عليه الاستبراء، كما لو أحرمت بالحج أو صامت.
[مسألة يحرم الوطء قبل الاستبراء]
وإذا ملك الرجل أمة.. حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء؛ لحديث أبي سعيد، وهل يحل له التلذذ بها بغير وطء، كالقبلة، واللمس، والنظر بشهوة؟ ينظر فيها:
فإن ملكها بغير السبي.. لم يحل له ذلك؛ لأنا إنما منعناه من الوطء مخافة أن تكون أم ولد لغيره، وهذا المعنى موجود في القبلة واللمس والنظر بشهوة.
وإن ملكها بالسبي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له تقبيلها، ولا لمسها، ولا النظر إليها بشهوة؛ لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء.. حرم التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة، كما لو ملكها بغير السبي، وفيه احتراز من امرأته الحائض، فإنه حرم وطؤها بغير حكم الاستبراء، فيجوز التلذذ بها بغير الوطء.
والثاني: لا يحرم عليه ذلك، وهو الأصح؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال (وقع في سهمي من سبي جلولاء جارية، كأن عنقها إبريق فضة، فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون) ، ولأن المسبية أمته، حائلا كانت أو حاملا، وإنما(11/122)
حرم وطؤها؛ لئلا يختلط ماؤه بماء مشرك، وهذا لا يوجد في التلذذ بها بغير الوطء، بخلاف غير المسبية، فإنها يجوز أن لا تكون أمته.
[فرع وجوب العدة على زوجته إن وطئت بشبهة]
وإن كان لرجل زوجة، ووطئها غيره بشبهة.. فإنه يجب عليها العدة، ولا يجوز للزوج وطؤها في حال عدتها؛ لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهل يحرم عليه التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة؟ فيه وجهان، كالتي قبلها.
[مسألة وجوب الاستبراء على المشتري]
] : وإذا ملك الرجل أمة، وأراد بيعها.. فإنه لا يجب عليه استبراؤها، وإنما يجب ذلك على المشتري.
وقال عثمان البتي: الاستبراء يجب على البائع دون المشتري.
دليلنا: ما روي: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . وهذا أمر للمشتري بالاستبراء؛ لأنه قال: " لا «توطأ حامل حتى تضع» . والنهي يقتضي التحريم، والوطء إنما يكون محرما قبل الاستبراء على المشتري، فأما البائع: فلا يحرم عليه الوطء قبل الاستبراء، وإنما يقال له: إن اخترت بيعها.. فلا تبع حتى تستبرئها، وإن وطئتها.. فاستأنف الاستبراء.
ولأنه علق التحريم بغاية، وهو الوضع والحيض، فدل على: أنه إذا وجدت الغاية.. ارتفع تحريم الوطء، وهذا المعنى لا يوجد إلا في حق المشتري، فأما البائع: فإنها إذا وضعت أو حاضت.. لم يرتفع التحريم في حقه على قول من أوجب(11/123)
الاستبراء عليه. ولأن المشتري ملك الاستمتاع بجارية بملك اليمين بعد تحريمها عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالمسبية.
[فرع استبراء المشتري لازم]
وإذا اشترى أمة.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء استبرأها البائع أو لم يستبرئها، وسواء إن اشتراها من امرأة أو من ولي طفل أو من رجل خصي؛ لحديث أبي سعيد الخدري، وهو إجماع.
وإن وطئ الرجل أمته، ثم باعها قبل أن يستبرئها، وأراد المشتري أن يزوجها.. لم يصح حتى يستبرئها قبل النكاح.
وكذلك: لو اشترى أمة واستبرأها، ووطئها، وأراد أن يزوجها.. لم يصح النكاح حتى يستبرئها قبل النكاح.
وكذلك: لو اشترى أمة من رجل، ووطئها، وباعها قبل الاستبراء، فأعتقها المشتري قبل أن يستبرئها، وأراد أن يتزوج بها سيدها الذي أعتقها.. لم يصح حتى يستبرئها.
وقال أبو حنيفة في هذه الثلاث المسائل: (يجوز النكاح قبل الاستبراء) .
وقيل: إن الرشيد ابتاع جارية، وأراد وطأها في الحال، فقيل له: لا يجوز لك ذلك قبل الاستبراء، فتاقت نفسه إليها، فسأل أبا يوسف عن ذلك، فقال له: أعتقها، وتزوجها، ففعل ذلك، وعظم شأن أبي يوسف عنده بذلك.
دليلنا: ما روي: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسق ماءك زرع غيرك» . وأراد به:(11/124)
في الوطء، وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد سقى ماءه زرع غيره؛ لأن البائع أو المشتري قد وطئها قبله، ولم تستبرأ، ولا يؤمن أن تكون حاملا.
وروى أنس: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجلين أن يتشاركا في وطء امرأة في طهر واحد» . وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد اشتركا في طهر واحد.
ولأنه وطء له حرمة، فلم يجز لغير الواطئ نكاحها، كالموطوءة بنكاح.
وإن اشترى الرجل أمة من امرأة، أو أمة طفل لا يجامع مثله، أو من خصي، أو من رجل فحل وطئها، إلا أن البائع استبرأها قبل البيع.. فيجوز للمشتري أن يتزوجها ويزوجها غيره قبل الاستبراء، وإن أعتقها المشتري.. كان له أن يتزوجها قبل الاستبراء أيضا. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا استبرأها البائع.. فهل يجوز للمشتري أن يزوجها غيره قبل الاستبراء، وهل يجوز له أن يتزوجها إذا أعتقها قبل أن يستبرئها؟ فيه وجهان، الأصح: أنه يجوز.
فإن قيل: فقد منعتموه من وطئها في هذه المسائل قبل الاستبراء، فكيف يجوز له إنكاحها ونكاحها؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه لا ضرر على أحد بترك الاستبراء في النكاح، والظاهر براءة رحمها من ماء كل أحد، ولو أتت بولد من غير الزوج.. أمكنه نفيه باللعان، وليس كذلك وطؤه بملك اليمين قبل الاستبراء؛ لأن على المشتري ضررا بذلك؛ لأنها لو أتت بولد لأقل من مدة الحمل.. لحقه، ولا ينتفي عنه باللعان، وإنما ينتفي ولد الأمة عن سيدها، بأن يدعي: أنه استبرأها، ويحلف عليه، وإذا لم يكن استبرأها.. لم يمكنه أن يحلف عليه. ولأن الاستبراء لحق الملك إنما يكون عقيب الملك، فلم يعتد بما تقدم من الاستبراء، والاستبراء في النكاح يكون قبل النكاح، وهو العدة، وقد تقدم الاستبراء، فوجب أن يعتد به.(11/125)
[مسألة أم الولد تستبرأ بقرء ولا عدة وفاة عليها]
] : إذا أعتق الرجل أم ولده في حياته، أو عتقت بموته.. لزمها أن تستبرئ بقرء، كالمسبية، ولا يلزمها عدة الوفاة بموته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، وهو قول الشعبي، ومالك، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد.
وقال أبو حنيفة: (يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة إذا طلقت) . وبه قال ابن مسعود.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا مات عنها سيدها.. لزمها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا) وبه قال داود، وأحمد.
دليلنا: أنه استبراء بحكم ملك اليمين، فكان قرءا، كالمسبية.(11/126)
وعلى عبد الله بن عمرو: أن عدة الوفاة إنما تجب عن نكاح صحيح، وأم الولد ليست بزوجة لسيدها، فلم يلزمها عدة الوفاة، كما لو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، ووطئها، ومات عنها.
[فرع تزويج أم الولد]
إذا كان للرجل أم ولد، وأراد تزويجها.. فهل يصح؟ وفيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها في (عتق أمهات الأولاد) .
فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام.
وإن قلنا: يصح.. فلا يجوز تزويجها حتى يستبرئها قبل النكاح؛ لأنها قد صارت فراشا له، فإذا زوجها السيد، ثم مات عنها السيد أو أعتقها وهي تحت الزوج أو في عدة منه.. فإنه لا يلزمها الاستبراء عن السيد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وخرج ابن سريج وجها آخر: أنه يلزمها الاستبراء بعد فراغها من حق الزوج.
والمنصوص هو الأول؛ لأنها ليست بفراش للسيد، فلم يلزمها الاستبراء عنه، كالأجنبي.
وإن مات زوجها، واعتدت عنه عدة الوفاة وسيدها باق.. فالمنصوص: (أنها تعود فراشا لسيدها، ولا يلزمه استبراؤها بعد انقضاء عدتها) .
قال ابن خيران: فيها قول آخر: أنها لا تعود فراشا للسيد حتى يستبرئها بعد انقضاء عدتها من الزوج ويطأها؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت بفسخه، فلم تحل له قبل الاستبراء، ولا تعود فراشا له إلا بالوطء، كما لو وطئ أمته، ثم باعها، ثم اشتراها أو كاتبها، ثم عجزت ورجعت إلى ملكه.
والأول أصح؛ لأن ملكه لم يزل عنها، وإنما حرمت عليه لعارض، وقد زال العارض، وعادت فراشا له، فلم يجب عليه استبراؤها، كالمرهونة.(11/127)
وإن مات سيدها بعد انقضاء عدتها.. فعلى قول الشافعي: يجب عليها أن تستبرئ عن سيدها بقرء؛ لأنها قد عادت فراشا له، وعلى القول الذي حكاه ابن خيران: لا يجب عليها أن تستبرئ عنه، بل لها أن تتزوج في الحال؛ لأنها لم تعد فراشا له.
وإن استبرأ الرجل أم ولده، ثم أعتقها أو مات عنها.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؟ فيه وجهان، كما قال: إذا استبرأ البائع الجارية.. زوجها المشتري قبل الاستبراء.
والذي يقتضي قياس قول أصحابنا البغداديين هاهنا: أنه يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؛ قياسا على قولهم هناك.
[فرع زوج أم ولد ومات السيد والزوج]
وإن زوج الرجل أم ولده - إذا قلنا: يصح - ومات السيد والزوج، ولم يعلم السابق منهما.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها فما دون، إذا قلنا: إن عدة الأمة في الوفاة شهران وخمس ليال.. فيجب عليها هاهنا أن تعتد من أبعدهما موتا بأربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر أن يكون فيها حيضة؛ لأن السيد إذا كان مات أولا.. فقد مات وهي مزوجة، ولا يجب عليها استبراء على المذهب الصحيح، خلافا لابن سريج.
وإذا مات الزوج بعده.. لزمها أن تعتد عنه عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرا.
وإذا مات الزوج أولا.. فقد مات السيد وهي في عدة الزوج، ولا يلزمها الاستبراء عنه على المذهب أيضا، وقد عتقت بموت السيد في أثناء العدة، وهل يلزمها إتمام عدة الحرة؟ على قولين.
فإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لم يجب عليها الاستبراء بالقرء عن السيد؛ لأنه(11/128)
لم يجب عليها بحال، ووجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد آخرهما موتًا؛ ليسقط الفرض عنها بيقين.
المسألة الثانية: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فإنه يجب عليها أن تعتد هاهنا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر وقرء؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فقد عتقت بموته، ولا يلزمها الاستبراء عنه، ولكن يلزمها أن تعتد عن الزوج عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرًا، وإن مات الزوج أولًا.. فعدتها عنه شهران وخمسة أيام، فإذا مات السيد بعد انقضاء عدتها من الزوج.. عادت فراشًا للسيد على المذهب، خلاف لما حكاه ابن خيران، فإذا مات السيد.. لزمها الاستبراء عنه بقرء.
وإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها قرء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين.
وحكى أبو إسحاق المروزي، عن بعض أصحابنا: أنه قال: ينبغي أن يكون القرء بعد شهرين وخمسة أيام من هذه الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه يمكن أن يكون الزوج مات أولًا، فتحتاج أن تعتد عنه بشهرين وخمسة أيام؛ ثم مات السيد بعده.. فلزمها الاستبراء عنه بقرء بعده؛ لئلا يجتمع الاستبراء عن السيد والاعتداد عن الزوج في زمان واحد.
وقال عامة أصحابنا: لا فرق بين أن يوجد القرء في الشهرين الأولين، أو فيما بعدهما؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فلا قرء عليها، وإن مات الزوج أولًا.. فقد مات السيد بعد مضي عدة الزوج، فلا تجتمع عدتهما.
المسألة الثالثة: إذا أشكل الأمر، ولم يعلم: هل كان بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها، أو أكثر من ذلك؟ فيجب عليها هاهنا أن تأخذ بأغلظ الأمرين، وهو: إن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فتعتد بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو قرء؛ ليسقط الفرض بيقين، وإن كانت ممن لا تحيض.. يكفيها أربعة أشهر وعشر.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني عن الشافعي، قال: (وإن مات أحدهما قبل الآخر(11/129)
بيوم أو يومين، أو شهرين وخمس ليال، أو أكثر.. فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من عند آخرهما موتًا، فيها حيضة) .
فقال المزني: هذا عندي غلط، بل عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر بلا حيضة إذا كان بين موتهما شهران وخمس ليال فما دون.
قال أصحابنا: الفقه كما ذكره المزني، وهو مراد الشافعي، وما نقله.. فتأويله: أنه جمع بين المسائل، وأجاب عن الأخيرة، وهي: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال، وقد يفعل مثل ذلك.
[فرع لا ترث أم الولد حتى تستيقن وفاة سيدها]
] . قال الشافعي: (ولا ترث زوجها حتى تستيقن أن سيدها مات قبل زوجها، فترثه) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا زوج أم ولده، ومات السيد والزوج، ولم يعلم أيهما مات أولًا.. فإنه لا ميراث لها من الزوج، ولا يوقف لها من ماله شيء؛ لأن الأصل فيها الرق وعدم ميراثها، فلم ترث، ولم يوقف لها من مال الزوج شيء بالشك.
[فرع لهما جارية فوطئاها وجب استبراؤها]
] : وإن كانت جارية بين رجلين، فوطئاها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجب عليها استبراء؛ لأنه يجب لحقهما، فلم يتداخلا، كالعدتين.
والثاني: يجب استبراء واحد؛ لأن القصد معرفة براءة رحمها، وذلك يحصل باستبراء واحد.
وإن زوج الرجل أم ولده فمات زوجها، ووطئها السيد في عدتها جاهلًا بتحريم(11/130)
الوطء أو بالعدة، ثم مات المولى في عدتها.. فعليها أن تتم عدة الزوج، وهل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان.
فإذا فرغت من عدة الزوج.. قال ابن الحداد: فعليها أن تأتي بحيضة؛ لوطء سيدها لها في العدة؛ لأنهما عدتان لرجلين، فلا تتداخلان، ولا يحتسب بما مر من الحيض في عدة الزوج.
[مسألة اشترى جارية ظهر حملها]
إذا اشترى رجل من رجل جارية، وقبضها المشتري، وظهر بها حمل، فقال البائع: هذا الحمل مني، فإن صدقه المشتري على ذلك.. فقد اتفقا على فساد البيع، فيحكم بفساده، ويرد الثمن، ويلحق النسب بالبائع، وتكون الجارية أم ولد له، وإن كذبه المشتري، وقال: هذا الولد ليس منك.. نظرت في البائع:
فإن كان لم يسبق منه إقرار بوطء الجارية قبل البيع أو حال البيع.. كان القول قول المشتري مع يمينه: أنه لا يعلم أن الحمل من البائع؛ لأن البائع لا يقبل قوله فيما يفسد البيع، كما لو باع من رجل عبدًا، ثم أقر: أنه كان قد أعتقه قبل البيع أو غصبه، فإن حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري.
وهل يثبت نسب الولد من البائع؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " الأم ": (يثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر في الحال على المشتري؛ لأن الولد يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكًا لآخر) .
والثاني: لا يثبت نسبه منه؛ لأن على المشتري ضررًا بذلك، بأن يعتق الولد، فيكون ولاؤه وميراثه للبائع.
وعلى القولين: لو ملك البائع بعد ذلك الجارية والولد أو أحدهما.. لزمه حكم إقراره.
وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: أن الحمل منه قبل البيع، فإذا حلف.. حكم بفساد البيع، ولحقه الولد، وكانت الجارية أم ولد له.(11/131)
وإن لم يحلف البائع عند نكول المشتري.. فهل ترد اليمين على الجارية والولد؟ يحتمل أن تكون على طريقين، كما قلنا في الراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في وطء الجارية المرهونة، وأتت بولد لمدة الحمل، أو أعتقها بإذنه، وأنكر المرتهن، ونكلا عن اليمين.. فهل ترد اليمين؟ فيه طريقان.
فأما إذا أقر البائع قبل البيع أو حال البيع: أنه كان قد وطئها قبل البيع، فإن كان البائع قد استبرأها قبل البيع.. نظرت:
فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. لحقه الولد، وكان البيع باطلًا، والجارية أم ولد له؛ لأنا قد تبينا أن الولد كان موجودًا وقت الاستبراء، والظاهر أنه من البائع؛ لأنها حملت به وهي على فراشه.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحقه الولد، ولم يحكم بكون الجارية أم ولد له، ولا يحكم بفساد البيع؛ لأنه لو وطئ جاريته، واستبرأها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء وهي في ملكه.. لم يلحقه ولدها، فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى.
وإن لم يستبرئها قبل البيع، ولكن استبرأها المشتري بعد الشراء.. نظرت:
فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. كان الولد لاحقا بالبائع، والجارية أم ولد له، والبيع باطلًا؛ لأنها أتت به على فراش البائع، والظاهر أنه منه.
وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحق الولد البائع، ولا يحكم بكونها أم ولد له، ولا بفساد البيع؛ لأن البائع لو اشتراها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من حين استبرائها.. لم يلحقه ولدها، فبأن لا يلحقه إذ أتت به على هذه الصفة، وهي في ملك غيره أولى.
وكل موضع لا يلحق الولد بالبائع، فإن كان المشتري لم يطأ الجارية.. فإن الجارية والولد مملوكان له، وإن وطئها بعد الاستبراء.. نظرت:
فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين وطئه.. لم يلحقه الولد، وكانا مملوكين له.(11/132)
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت وطئه.. لحقه نسب الولد، وكانت الجارية أم ولد له؛ لأن الظاهر أنه منه.
وإن وطئها المشتري قبل أن يستبرئها، وأتت بولد.. فقد أتت به على فراش مشترك بين البائع والمشتري، فيكون الحكم فيه كما لو أتت الحرة بولد على فراش مشترك، على الأقسام الأربعة التي تقدم ذكرها.
[فرع قبض الجارية فادعى: أنها حامل]
] : قال الشيخ أبو حامد: إذا اشترى جارية وقبضها، فظهر بها حمل، فادعى المشتري: أنه قبضها وهي حامل، فإن صدقه البائع.. فله ردها بالعيب؛ لأن الحمل ينقص من جمالها وكمالها، ويخاف عليها منه عند الولادة، وإن كذبه البائع أنها حامل.. عرضت على القوابل؛ لأن للحمل أمارات وعلامات يعرف بها، فإذا قلن: إنها حامل.. ثبت له ردها، فإذا ردها.. نظرت:
فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين قبضها المشتري.. فالقول قول المشتري بلا يمين؛ لأنا نعلم يقينا أن هذا الحمل كان موجودا في يد البائع.
وإن ولدته لأكثر من أربع سنين من حين قبضها المشتري.. كان القول قول البائع بلا يمين؛ لأنا نتحقق أنه حدث في يد المشتري، ولا رد للمشتري.
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين قبضها المشتري.. فيحتمل أن يحدث في يد كل أحد منهما، فيكون القول قول البائع مع يمينه: أنه لم يحدث في يده؛ لأن الأصل عدم حدوثه في يده، ولا يثبت له الرد.
وبالله التوفيق(11/133)
[كتاب الرضاع](11/135)
كتاب الرضاع
للرضاع تأثير في تحريم النكاح، وفي ثبوت الحرمة، وفي جواز النظر والخلوة.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] [النساء: 23] ، فذكر الله في جملة الأعيان المحرمات: الأم المرضعة، والأخت من الرضاعة، فدل على: أن له تأثيرًا في التحريم.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة»
وروى سعيد بن المسيب، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت: يا رسول الله،(11/137)
هل لك في ابنة عمك حمزة؛ فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاع، وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب؟»
ويدل على ثبوت الحرمة به: ما روي: «أن وفد هوازن قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلموه في سبي أوطاس، فقال رجل من بني سعد: يا محمد، إنا لو كنا مجلنا للحارث بن أبي سمرة أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منزلك هذا منا.. لحفظ ذلك لنا وأنت خير للمكفولين، فاحفظ ذلك» وإنما قالوا له ذلك؛ لأن حليمة التي أرضعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت من بني سعد بن بكر بن وائل، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولهم.
ومعنى قوله: (ملجنا) ، أي: أرضعنا، و (الملج) : هو الرضاع.
وروى الساجي في كتابه، «عن أبي الطفيل: أنه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة وهو يقسم لحمًا، فجاءته امرأة، فدنت منه، ففرش لها إزاره، فجلست عليه، قلت: من هذه؟ قال: هذه أمه التي أرضعته» وإنما أكرمها لأجل الحرمة التي حصلت بينهما بالرضاع، فدل على: أن الحرمة تثبت به.
وإذا ثبت هذا: فبلغت المرأة سن الحيض، وثار لها لبن.. فإنه يكون طاهرًا ناشرًا للحرمة، يجوز بيعه، ويضمن بالإتلاف، ويجوز الاستئجار عليه.(11/138)
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحكم ببلوغها بذلك، سواء ولدت قبله أو لم تلد.
وحكى ابن القاص وجهًا آخر: أنه إذا نزل لبن لها على غير ولد.. فهو كلبن الرجل لا حرمة له. والأول أصح؛ لأن جنسه معتاد.
وأما إذا نزل للمرأة لبن قبل أن تستكمل تسع سنين.. فلا يثبت له حرمة، ولا تنتشر الحرمة بإرضاعه، ويكون نجسًا، ولا يجوز بيعه، ولا يضمن بالإتلاف، ولا يجوز عقد الإجارة عليه.
قال الشاشي: وإن باع أمة فيها لبن بلبن آدمية.. صح البيع، وإن باع شاة في ضرعها لبن بلبن شاة.. لم يصح البيع.
والفرق بينهما: أن لبن الشاة في الضرع حكمه حكم العين؛ ولهذا: لا يجوز عقد الإجارة عليه. ولبن الآدمية في ضرعها ليس له حكم العين، بل هو كالمنفعة؛ ولهذا: يجوز عقد الإجارة عليه.
وإن باع لبن آدمية بلبن آدمية متفاضلًا.. لم يصح.
[مسألة ظهور لبن في فم ولد يثبت النسب]
] : إذا ثار للمرأة لبن على ولد ثابت النسب من رجل ولد على فراشه، وأرضعت به طفلا رضاعًا تامًا.. انتشر حكم الرضاع في التحريم والحرمة بين الرضيع والمرضعة، وبين الرضيع وبين الفحل، وهو أبو ولد المرأة التي ثار اللبن له، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومالك، ومجاهد، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.(11/139)
وقال ابن عمر، وابن الزبير: (لا يثبت التحريم بين الرضيع وبين الفحل) . فيجوز للفحل أن ينكح الرضيع إن كان بنتًا، ويجوز للرضيع أن ينكح أخت الفحل - إن كان الرضيع رجلًا - وأخيه - إن كان الرضيع بنتًا - وبه قال ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وربيعة، وحماد، والأصم، وابن علية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] [النساء: 23] فدليل خطابه: أنه يجوز له أن ينكح بحليلة ابنه من الرضاع.
دليلنا: ما روي «عن علي بن أبي طالب: أنه قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك في ابنة عمك حمزة، فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاع، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟» .
«وروت عائشة، قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس بعد ما ضرب الحجاب، فلم آذن له، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: " ائذني له، فإنه عمك من الرضاعة "، فقلت: يا رسول الله، إنما أرضعتني امرأة أخيه، فقال: ائذني له، فإنه عمك» وفي رواية: «فإنه عمك، فليلج عليك» .
ولأن اللبن ثار لولد، وهو مخلوق من مائهما، فكان اللبن لهما.
فأما الآية: فإنه قيده بابنه من الصلب ليبين أن حليلة الابن من التبني لا تحرم؛ لأن التبني كان مباحًا في صدر الإسلام، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنى زيد بن حارثة، وكان يقال له: زيد ابن محمد، ثم طلق زيد زوجته، وتزوجها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(11/140)
إذا ثبت هذا: فإن الحرمة تنتشر منهما إليه، فيصير كأنه ابنهما من النسب، وتنتشر الحرمة منه إليهما.
فأما انتشار الحرمة منهما إليه: فلا يجوز للرضيع أن يتزوج بالمرضعة؛ لأنها أمه من الرضاعة، وتكون أمهاتها جدات الرضيع، وآباؤها أجداده، وإخوانها وأخواتها أخواله وخالاته، ويكون أولادها من الفحل وغيره إخوته وأخواته، وأولاد أولادها أولاد إخوته وأولاد أخواته، ويكون الفحل أبا الرضيع، وأولاده من المرضعة وغيرها إخوته وأخواته، وأولادهم أولاد إخوته وأولاد أخواته، ويكون آباء الفحل أجداده، وأمهاته جداته، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته؛ لأن الله تعالى نص على تحريم الأم والأخت من الرضاع لينبه بهما على من سواهما من المحرمات بالسنة، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» . وهؤلاء يحرمن من النسب، فكذلك من الرضاع.
وأما انتشار الحرمة من الرضيع إلى المرضعة والفحل: فإنه يحرم عليهما نكاحه، ويحرم عليهما نسله، ولا يحرم عليهما من هو في طبقته، ولا من هو أعلى منه، فيجوز للمرضعة أن تتزوج بأخي الرضيع ونسله، وبأبي الرضيع وأجداده وأعمامه وأخواله، ويجوز للفحل أن يتزوج بأخت الرضيع وبناتها، وبأم الرضيع وجداته وعماته وخالاته، ويجوز لأبي الرضيع من النسب أن يتزوج بالمرضعة وأختها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وحرمة الولد من النسب تنتشر إلى أولاده، ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه وإخوته وأخواته، فكذلك في الرضاع.
قال أبو عبيد: والرضاعة إذا كان فيها هاء.. تفتح الراء، ولا اختلاف فيه، وأما الرضاع بغير هاء: فيقال بفتح الراء وكسرها.(11/141)
[فرع الرضاعة تثبت البنوة]
إذا كان هناك أخوان، لكل واحد منهما زوجة، ولأحدهما ابنة من زوجته، فأرضعتها امرأة عمها بلبن عمها.. فإن الرضيعة تصير ابنة للمرضعة ولزوجها.
فإن ولدت هذه المرضعة أولادًا من زوجها.. فهم إخوة الرضيعة من الرضاع لأبيها وأمها، وبنو عمها من النسب، فلا يحل لهم نكاحها.
وإن ولدت المرضعة أولادًا من غير زوجها.. فهم إخوة الرضيعة من أمها.
وإن رزق عمها أولادًا من غير زوجته المرضعة.. فهم إخوة الرضيعة من الأب من الرضاع، وبنو عمها من النسب، فلا يحل لهم نكاحها.
وما تلده أم الرضيعة من النسب لا يحرمون على أولاد أمها من الرضاع؛ لأنهم إخوة أختهم، وليسوا بإخوة لهم، ومثل هذا يشرع في النسب؛ ولهذا: لو أن رجلًا له ابن تزوج بامرأة لها ابنة.. جاز لابن الرجل أن يتزوج بابنة زوجة أبيه.
[مسألة الرضاع في الحولين]
] : الرضاع مؤقت، فلا يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل بعد استكماله حولين، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول محمد، وأبي يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل في ثلاثين شهرًا) .
وقال زفر: يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل في ثلاث سنين.
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا.
والثانية: بما يرتضعه بحولين وشهر.
والثالثة: بحولين وشهرين.
وقالت عائشة: (الرضاع غير مؤقت، فلو أن امرأة أرضعت شيخًا.. صار ابنًا(11/142)
لها) . و: (كانت إذا أرادت أن يدخل إليها رجل.. أنفذت إلى بنات أخيها ليرضعنه) . وبه قال داود؛ لما روت: «سهلة بنت سهيل زوجة حذيفة، قالت: يا رسول الله، كنا نرى سالما ولدًا، وكان يدخل علي وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه خمس رضعات معلومات، فيحرم بلبنك» ففعلت، فكانت تراه ابنا من الرضاع.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فذكر أن تمام الرضاع في الحولين، فعلم أنه لم يرد أنه لا يجوز أكثر منه؛ لأن ذلك يجوز، وإنما أراد: أن تمام الرضاع الشرعي في الحولين، وأنه لا حكم لما زاد؛ بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا رضاع بعد الحولين» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فصال» . والفصال إنما هو في(11/143)
العامين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] [لقمان: 14] .
وأما حديث سهلة: فكان خاصًا لها، بدليل: ما روي عن أم سلمة: أنها قالت: (رضاع سالم كان خاصًا) .
قال الصيمري: وابتداء الحولين عند خروج بعض الولد، لا عند خروج جميعه.
إذا ثبت هذا: فإن الرضاع في الحولين يتعلق به التحريم والحرمة، سواء كان الرضيع يستغني بالطعام والشراب عن اللبن أو لا يستغني.
وقال مالك: (إن كان الرضيع مستغنيًا عن اللبن بالطعام والشراب.. لم يتعلق بإرضاعه التحريم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فجعل مدة الرضاع حولين، ولم يفرق بين أن يكون الولد مستغنيًا عنه، أو غير مستغن عنه.
[مسألة عدد الرضعات المحرمات]
والرضاع الذي يتعلق به التحريم والحرمة هو خمس رضعات، ولا يتعلق بما دون ذلك، وروي ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، وأحمد، وإسحاق.(11/144)
وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس: (أن التحريم يتعلق بقليل الرضاع وكثيره) . وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال زيد بن ثابت: (يتعلق التحريم بثلاث رضعات) . وبه قال داود، وأبو ثور، وابن المنذر.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» .
و (الإملاجة والإملاجتان) : الرضعة والرضعتان. وقد روي: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان» . فهذا يبطل قول من قال: يتعلق التحريم بقليل الرضاع وكثيره.
فإن قيل: فدليل الخطاب هاهنا يدل على: أن الثلاث يحرمن.
قلنا: قد ثبت النص: أنه لا يحرم إلا الخمس، وهو أقوى من دليل الخطاب. والنص: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس رضعات معلومات، فمات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن مما يقرأ من القرآن» وهذا أمر لا تتوصل إليه عائشة إلا بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن القرآن أنزل عليه.
فإن قيل: فليس يتلى في القرآن عشر رضعات؛ لأن ما نسخ حكمه.. فإن رسمه يتلى في القرآن، كالآية في عدة الحول؟!(11/145)
فالجواب: أن النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام:
قسم: نسخ رسمه وحكمه: وذلك مثل: ما روي: أن قومًا قالوا: يا «رسول الله، إنا كنا نقرأ سورة من القرآن، فنسيناها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنسيتموها» فأخبر: أنها نسخت تلاوتها وحكمها.
والقسم الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] ومثل الوصية للوارث.
والثالث: ما نسخ رسمه وتلاوته وبقي حكمه، وذلك مثل: ما روي عن عمر: أنه قال: (كان فيما أنزل الله من القرآن: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله "، ولولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله.. لأثبت آية الرجم في حاشية المصحف، وقد قرأناها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وأراد: لأثبت حكم الآية.
وهذه الآية مما نسخ رسمها وبقي حكم خمس رضعات.
فإن قيل: فما معنى قولها: (فمات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن مما يقرأ في القرآن) .
والنسخ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجوز؟ قلنا: فيه تأويلان:
أحدهما: أنها أرادت أن حكم الخمس مما يتلى في القرآن، لا رسمها.(11/146)
والثاني - وهو تأويل أبي العباس -: أن هذه الآية نسخت تلاوتها في حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الصحابة قريبي العهد بتلاوتها، وكانت ألسنتهم جارية على تلاوتها كما كانوا قبل النسخ، حتى عودوا ألسنتهم تركها، فاعتادته ألسنتهم.
ومم يدل على ما ذكرناه: حديث سهلة بنت سهيل، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن ترضع سالمًا خمسًا ليجوز دخوله عليها؛ لأن زوجها حذيفة كان قد تبناه، ثم حرم التبني، وشق عليهم ترك دخوله، فنسخ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محل الرضاع في الكبير بقوله: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» ، وبقي عدد الرضاع.
إذا ثبت أن التحريم يتعلق بخمس رضعات.. فمن شرط الخمس أن تكون متفرقات. فإذا التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، فأقل أو أكثر، ثم قطع الرضاع باختياره من غير عارض.. حسب ذلك رضعة، فإن عاد إليها بعد فصل طويل، وارتضع منها ما شاء إلى أن قطع باختياره.. حسب ذلك رضعة، إلى أن يستوفي خمس رضعات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة أن ترضع سالمًا خمس رضعات يحرم بلبنها، ولم يحد الرضعة، وكل حكم ورد الشرع به مطلقًا، وليس له حد في الشرع ولا في اللغة.. رجع في حده إلى العرف والعادة، والعرف والعادة في الرضاع هو ما ذكرناه.
وإن التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، ثم أرسله ليتنفس أو ليستريح، ثم عاد إليه من غير فصل طويل، أو أرسله وانتقل إلى الثدي الآخر من غير فصل طويل، أو انتقل ليشرب الماء، ثم عاد إليه من غير طول فصل.. فالجميع رضعه واحدة، كما لو حلف: لا يأكل في النهار إلا أكلة، فقعد يأكل، فأكل، وقطع ليستريح أو ليتنفس أو ليشرب الماء، أو انتقل من لون إلى لون، وأكل بعده من غير أن يطول الفصل.. فالجميع أكلة واحدة، وإن أكل من أول النهار إلى آخره، أو أكل ثم قطع بفصل طويل، ثم رجع وأكل.. كان ذلك أكلتين.(11/147)
وإن قطع الرضاع لشيء يلهيه، ثم رجع إليه.. فقد قال الشيخ أبو إسحاق: كان كما لو قطعه لضيق النفس. وقال الشيخ أبو حامد: إذا قطعه لشيء يلهيه حتى طال الفصل ثم عاد إليه.. فالأول رضعة، والثاني رضعة، كما لو حلف: لا يأكل إلا أكلة، فأكل ثم قطع الأكل لشيء يلهيه حتى طال الفصل، ثم عاد إليه وأكل.. فإن ذلك أكلتان.
وإن التقم ثديها، فارتضع منها، وانتزعت منه ثديها وقطعت عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يحتسب بذلك رضعة؛ لأن الاعتبار في الرضاع بفعله، بدليل: أنه لو ارتضع منها وهي نائمة رضعة.. حسب ذلك، فإذا قطعت عليه.. لم يحتسب عليه، كما لو حلف: لا آكل اليوم إلا أكلة، فأخذ في الأكل، فجاء إنسان، فقطع عليه الأكل.
والثاني: يحتسب بذلك رضعة؛ لأن الرضاع يحصل بفعلها؛ ولهذا: لو حلبت منها لبنًا، وأوجرته إياه وهو نائم.. حسب ذلك رضعة، وإذا حصل الرضاع بفعلها.. وجب أن يحسب بقطعها.
[فرع الارتضاع من امرأتين]
فإن ارتضع الصبي من امرأة، ثم انتقل منها إلى امرأة أخرى، وارتضع منها من غير أن يطول الفصل.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يحتسب بما ارتضع من كل واحدة منهما؛ لأن الطفل إذا ابتدأ وارتضع.. فكل ما والى به الارتضاع.. فهو رضعة واحدة؛ بدليل: أنه لو انتقل من أحد الثديين إلى الآخر من غير فصل طويل.. فهو رضعة واحدة، وكذلك: إذا انتقل من إحداهما إلى الأخرى من غير فصل طويل.. فإنه لم يكمل الرضعة من كل واحدة منهما، فلم يحتسب به.
والثاني: يحتسب ما ارتضع من كل واحدة منهما رضعة؛ لأنه ارتضع من كل(11/148)
واحدة منهما وقطع باختياره، فحسب عليه رضعة، كما لو قطع من إحداهما، وانتقل إلى خبز أو لبن، ويخالف إذا قطع من ثدي إلى ثدي؛ لأن ذلك شخص واحد، فيبنى حكم أحد ثدييها على الآخر، بخلاف الشخصين.
وإن ارتضع منها بعض الخمس في الحولين، ثم ارتضع باقي الخمس بعد الحولين.. فإن التحريم لا يحصل به؛ لأن التحريم يتعلق بخمس رضعات في الحولين، ولم يوجد ذلك.
[فرع الشك في عدد الرضاع]
إذا شكت المرضعة: هل أرضعته خمسًا، أو أقل، أو شكت: هل أرضعته، أم لا؟ لم يثبت التحريم، كما نقول في الرجل إذا شك: هل طلق امرأته طلقة، أو أكثر، أو هل طلقها، أم لا؟! والورع: أن يلتزم حكم التحريم في النكاح دون الحرمة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
[مسألة ثبوت حرمة الرضاع بالوجور ونحوها]
ويثبت التحريم بالوجور واللدود، وهو: أن يحلب لبن المرأة، ويصب في فم الصبي بغير اختياره.
و (الوجور) : الصب في وسط فيه.(11/149)
و (اللدود) : الصب في أحد شقي فيه، وهو قول كافة العلماء، إلا عطاء، وداود، فإنهما قالا: (لا يثبت به التحريم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاعة من المجاعة» . وقوله: «الرضاع: ما أنبت اللحم، وأنشز العظم» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرضاع: ما فتق الأمعاء» . وهذه المعاني موجودة في الوجور واللدود.
ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة أن ترضع سالمًا» . ومعلوم أنه لم يرد بذلك أن يرضع من ثديها؛ لأنه كان كبيرًا، وهي أجنبية منه، فكيف يجوز له النظر إلى ثدييها وهي أجنبية منه؟! فعلم أنه أراد الوجور أو اللدود.
ويثبت التحريم بـ (السعوط) ، وهو: أن يصب لبن المرأة في أنف الطفل، فيبلغ إلى دماغه أو جوفه.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: فيه قولان، كالحقنة. والمشهور هو الأول.
وقال عطاء، وداود: (لا يثبت به التحريم) .
دليلنا: أن الدماغ محل للغذاء، بدليل: أنه من جف دماغه.. فإن الدهن يصب(11/150)
في أنفه إلى دماغه، فيرطبه، فوقع التحريم باللبن الحاصل فيه من المرأة، كالجوف.
وإن صب اللبن في أذنه، فوصل إلى دماغه.. كان رضاعًا، وإن لم يصل إلى دماغه.. لم يكن رضاعًا.
وهل يثبت التحريم بـ (الحقنة) وهو: أن يصب اللبن في دبر الطفل؟ فيه قولان:
أحدهما: يثبت به التحريم، وهو اختيار المزني؛ لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر، فتعلق التحريم بلبن المرأة إذا دخل فيه، كالفم.
والثاني: لا يثبت به التحريم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الرضاع: ما أنبت اللحم، وأنشز العظم ". وهذا لا يحصل بالحقنة، وإنما تراد الحقنة للإسهال.
فإذا قلنا: يثبت به التحريم، فأرضعته مرة، وأوجرته مرة، ولدته مرة، وأسعطته مرة، وأحقنته مرة.. ثبت التحريم.
وإن كان بالطفل جراحة نافذة إلى محل الفطر، فداواه إنسان بلبن آدمية.. فقد قال القفال: لا يحصل به الرضاع. وقال الصيدلاني: ينبغي أن يكون على قولين، كالحقنة.
[مسألة حلب لبن امرأة وأطعمه طفلًا]
] : وإذا حلب من المرأة لبنًا كثيرًا، وأوجره الطفل.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يحلب منها لبن دفعة واحدة، فيوجره الطفل مرة واحدة.. فهذا رضعة واحدة.
الثانية: أن يحلب منها اللبن خمس مرات في خمسة أوان، ثم يوجر الصبي ذلك اللبن في خمسة أوقات متفرقة لبن كل إناء في وقت.. فذلك خمس رضعات لتفرق الحلب والوجور.(11/151)
الثالثة: أن يحلب منها لبن كثير دفعة واحدة، ثم يوجره الصبي في خمسة أوقات متفرقة.. فنقل المزني، والربيع: (أن ذلك رضعة واحدة) .
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه خمس رضعات) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: هو رضعة واحدة، قولًا واحدًا، على ما نقلاه، وما حكاه الربيع.. من تخريجه؛ لأن ذلك لم يوجد في شيء من كتب الشافعي.
ومنهم من قال: فيه قولان؛ لأن ما حكاه الربيع.. يحتمل على أنه سمع منه ذلك:
أحدهما: أنه خمس رضعات؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاعة من المجاعة» . وهذا اللبن قد حصل به سد الجوع خمس مرات. ولأن الرضعات كالأكلات، ومعلوم أنه لو حلف: لا يأكل خمس أكلات، فأكل من طعام واحد خمس أكلات في خمسة أوقات متفرقة.. حنث، فوجب أن يكون هاهنا خمس رضعات.
والثاني: أن ذلك رضعة واحدة، قال الشيخان: وهو الأصح؛ لأن الوجور فرع للرضاع، ومعلوم أن التحريم لا يحصل في الرضاع إلا بأن ينفصل اللبن عن ثدي المرأة خمس مرات متفرقات، ويصل إلى جوف الصبي في خمسة أوقات متفرقة، وكذلك في الوجور لا بد أن ينفصل خمسة انفصالات، ويتصل خمسة اتصالات متفرقات.
الرابعة: إذا حلب منها اللبن في خمسة أوقات متفرقة في خمسة أوان، فأوجره الصبي دفعة واحدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان كالتي قبلها؛ لأن الرضاع يفتقر إلى إرضاع وارتضاع، فلما ثبت أن اللبن إذا انفصل من المرضعة دفعة واحدة وأوجره الصبي دفعات كان فيه قولان.. فكذلك إذا انفصل منها خمس دفعات، وأوجره دفعة.. يجب أن يكون على قولين:(11/152)
ومنهم من قال: هي رضعة واحدة، قولًا واحدًا؛ لأن في التي قبلها حصل اللبن في جوف الصبي خمس مرات، وهاهنا لم يحصل في جوفه إلا مرة واحدة.
الخامسة: أن يحلب اللبن في خمسة أوقات متفرقة، كل وقت في إناء، ثم خلط ذلك اللبن في إناء واحد، وأوجره الصبي في خمسة أوقات متفرقة، فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: هي خمس رضعات، قولًا واحدًا؛ لأن اللبن انفصل من المرأة في خمسة أوقات، واتصل بالصبي في خمسة أوقات، ولا اعتبار بالخلط.
ومن أصحابنا من قال: فيه طريقان؛ لأن التفريق في الحلب قد بطل حكمه بالخلط، وفي كل سقية حصل للطفل جزء من كل حلبة، فصار كما لو حلبته دفعة واحدة، وسقته إياه في خمسة أوقات فتكون:
إحدى الطريقين له: أنه على قولين.
والثاني: أنه رضعة، قولًا واحدًا.
[فرع وضع حليب اثنتين في إناء خمس مرات وسقي الطفل]
] : إذا حلبت امرأتان لبنًا منهما في إناء في وقت واحد، وأوجرتاه صبيًا، ثم حلبتا منهما لبنا في إناء في وقت آخر، وأوجرتاه الصبي، إلى أن فعلا ذلك خمس مرات.. حصل لكل واحدة منهما خمس رضعات، ويصير ابنهما معًا؛ لأنه قد حصل في جوفه اللبن من كل واحدة منهما خمس مرات.
[مسألة اختلاف صفة لبن المرضعة]
وإن حلب من المرأة لبن، فجبن، أو طبخ، أو جعل أقطًا أو شيرازًا، وأطعم منه طفل له دون الحولين خمس مرات متفرقات.. نشر الحرمة والتحريم.(11/153)
وقال أبو حنيفة: (لا ينشر الحرمة ولا التحريم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الرضاعة من المجاعة» ، و: «الرضاعة: ما أنبت اللحم وأنشز العظم» وهذا المعنى موجود في لبن المرأة وإن غير من صفته بما ذكرناه.
[فرع خلط لبن الظئر بشيء]
] : إذا خلط لبن المرأة بالماء أو بالعسل أو بغيرهما، وسقي منه الطفل خمس دفعات في خمسة أوقات متفرقة، فإن كانت الغلبة للبن، بأن يكون أكثر مما خالطه.. نشر الحرمة، وإن كانت الغلة للماء أو للعسل، بأن يكون أكثر من اللبن، فإن كان اللبن مستهلكًا فيما خالطه، بحيث إذا وصل شيء مما خلط فيه ذلك اللبن إلى جوف الطفل لم يتحقق أن جزءًا من اللبن حصل في جوف.. لم ينشر الحرمة، وإن كان اللبن غير مستهلك، بحيث إذا وصل شيء مما خلط فيه ذلك اللبن إلى جوف الطفل تحقق أن جزءًا من اللبن حصل معه.. فإنه ينشر الحرمة. هذا نقل الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري: لو خلط لبن المرأة بمائع، وسقي منه الطفل خمس دفعات متفرقات.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه ينشر الحرمة بكل حال.
والثاني: إن كان اللبن غالبًا.. ينشر الحرمة، وإن كان مغلوبًا لم ينشر الحرمة.
وإن وقع في قلتين من الماء قليل من لبن المرأة، فسقي الطفل جميعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يتعلق به التحريم؛ لأنا تيقنا أن اللبن فيه.
والثاني: لا يتعلق به التحريم؛ لأنه صار مستهلكًا فيه.
ولو وقع قليل من لبن المرأة في أقل من قلتين من الماء، فإن سقي الطفل جميعه..(11/154)
تعلق به التحريم، وإن سقي البعض، وزاد، في خمسة أوقات.. ففيه وجهان:
أحدهما: يتعلق به التحريم؛ لأنه حكم بوصوله إلى جميع الماء، بدليل: أنه لو وقعت فيه نجاسة.. نجس الجميع.
والثاني لا يتعلق به التحريم؛ لأنه يحتمل أنه فيما بقي.
وقال أبو حنيفة: (إذا مزج اللبن بطعام أو شراب أو عسل.. فإنه لا ينشر الحرمة، سواء كان اللبن ظاهرًا على ما مزج به أو مستهلكًا فيه) .
وإن مزج بدواء، فإن كان اللبن ظاهرًا فيه، فسقي منه الطفل خمس دفعات متفرقة.. نشر الحرمة، وإن لم يكن اللبن ظاهرًا، بل مستهلكًا.. لم ينشر الحرمة.
دليلنا: أنه وصل إلى جوفه لبن آدمية في خمسة أوقات متفرقة، فتعلق التحريم به، كما لو كان غالبًا.
[مسألة الرضاع ونحوه بعد الموت]
وإن ماتت امرأة، فارتضع منها طفل بعد موتها، أو حلب منها لبن بعد موتها، وأوجره الصبي.. لم يتعلق به التحريم.
وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة: (يتعلق به التحريم) .
دليلنا: أن الرضاع معنى يوجب تحريمًا مؤبدًا، فلم يتعلق به التحريم بعد الموت، كوطء الشبهة؛ وذلك: أنه لو وطئ ميتة بشبهة.. لم يثبت به تحريم المصاهرة.
وإن ارتضع طفل من امرأة أربع رضعات في حياتها، ثم حلب منها لبن في إناء في حياتها، ثم أوجره الصبي بعد موتها.. ثبت به التحريم؛ لأن إنبات اللحم وإنشاز العظم يحصل بشرب ذلك اللبن، فهو كما لو التقم الصبي ثديها، فامتص منه لبنًا، وحصل في فيه، وماتت المرأة، ثم ابتلعه الصبي.. فإنه يحصل به التحريم، فكذلك هذا مثله.(11/155)
وإن حلب من امرأة لبن، ووقعت فيه نجاسة، وأوجره الصبي.. قال الشيخ أبو حامد: يتعلق به التحريم.
والفرق بين هذا وبين اللبن الذي يؤخذ من الميتة: أن هذا اللبن كان طاهرًا، وإنما اختلط به نجاسة، فلم يمنع ثبوت الحرمة فيه، ولبن الميتة نجس العين، فلم يكن له حرمة.
[مسألة لا تحريم بلبن غير الآدمي]
ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة، فإن شرب طفلان من لبن بهيمة، كل واحد خمس مرات في خمسة أوقات.. لم ينشر الحرمة بينهما.
وحكي عن بعض السلف: أنه قال: ينشر الحرمة بينهما. ويحكى ذلك عن مالك.
دليلنا: أن الأخوة في الرضاع فرع للأمومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة.. لم تثبت به أخوة.
[فرع وجد لبن لرجل وأرضعه]
] : إذا ثار للرجل لبن، وأرضع به طفلًا له دون الحولين خمس رضعات متفرقات.. فلا يثبت به التحريم.
وقال الكرابيسي: يثبت به التحريم، كلبن المرأة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فجعل الله تعالى الرضاع - الذي يتعلق به الحكم - من الوالدات، وهذا ليس بوالدة، ولا من جنس الوالدات، فلم يتعلق بإرضاعه حكم.
ولأن لبنه لم يجعل غذاء للولد، فلم يتعلق به التحريم، كلبن البهيمة.
قال ابن الصباغ: ولأنه نجس يقاس على لبن الميتة.(11/156)
وإن ثار للخنثى المشكل لبن، وأرضع به طفلًا، وقلنا: إن لبن الرجل لا يتعلق به التحريم.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: يرى النساء، فإن قلن: إن هذا اللبن على غزارته لا ينزل للرجل، وإنما ينزل للمرأة.. زال حكم إشكاله، وحكم بأنه امرأة، وجرى لبنه مجرى لبن المرأة. وإن قلن: قد ينزل هذا اللبن للرجل.. وقف أمر من ارتضع بلبنه.
وقال أكثر أصحابنا: لا يزول إشكاله باللبن، بل يوقف أمر من ارتضع بلبنه، فإن بان أنه امرأة.. تعلق به التحريم، وإن بان أنه رجل.. لم يتعلق به التحريم؛ لأن اللبن قد ينزل للرجل كما ينزل للمرأة.
وحكي عن الشافعي: أنه قال: (رأيت رجلًا يرضع في مجلس هارون الرشيد) .
وإن مات هذا الخنثى قبل زوال إشكاله.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يثبت التحريم بإرضاعه؛ لأن الأصل عدم ثبوت التحريم.
[مسألة ولد الزوجين ولبنه ينسب لهما]
إذا كان لرجل زوجة، فولدت منه ولدًا.. فإن اللبن النازل للولد لهما، فإن طلقها الزوج وبقي ذلك اللبن.. فهو لهما ما لم يتزوج بغيره، فإن انقضت عدتها من الأول، وتزوجت بآخر.. فاللبن للأول ما لم تحمل للثاني، سواء وطئها الثاني أو لم يطأها، وسواء انقطع ذلك اللبن ثم عاد أو لم ينقطع، وسواء زاد أو نقص؛ لأن اللبن إنما ينزل للولد، ولا ولد هاهنا إلا للأول.
وإن حملت من الثاني.. نظرت:
فإن لم تبلغ إلى حال ينزل فيه اللبن للحمل.. فاللبن للأول أيضًا. وإن بلغت إلى(11/157)
حال ينزل فيها اللبن للحمل - وقدره ابن الصباغ بأربعين يومًا، وأما الشيخ أبو حامد: فقال: يرجع فيه إلى معرفة القوابل - فمتى بلغت ذلك الوقت.. فإن كان ذلك اللبن على حالته لم يزد.. فإنه يكون للأول، ومتى أرضعت به طفلًا رضاعًا تامًا.. كان ابنًا للأول دون الثاني. وإن زاد ذلك اللبن، وأرضعت به طفلًا.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (هو ابنهما) . وبه قال محمد، وزفر، وأحمد؛ لأن اللبن الذي كان من الأول قد استدام، والظاهر أنه له.
فإن زاد بعد أن حملت للثاني في وقت ينزل اللبن له في العادة.. فالظاهر أن الزيادة لحمل الثاني، فكان المرضع بهذا اللبن ابنهما، كما لو حلبت امرأتان لبنًا في قدح أو في فم صبي.. فإنه يحكم بحصول رضعة من كل واحدة منهما.
و [الثاني] : قال في الجديد: (هو ابن الأول وحده) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن اللبن للأول بيقين، والزيادة يجوز أن تكون لحمل الثاني، ويجوز أن تكون لفضل الغذاء، فلم يجعل للثاني بالشك.
وإن انقطع لبن الأول، ونزل لها اللبن بعد أن حملت من الثاني في وقت ينزل فيه اللبن للحمل، وأرضعت به طفلًا.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ابن الأول وحده، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن اللبن إنما يكون للولد إذا كان يتغذى به، وقبل الوضع لا يتغذى به، وإنما يتغذى به ولد الأول، فكان اللبن له.
والثاني: أنه ابن الثاني وحده، وبه قال أبو يوسف؛ لأن اللبن إنما انقطع، ثم عاد، والظاهر أن المنقطع لبن الأول، وأن الثاني للثاني.
والثالث: أنها ابنهما؛ لأن لكل واحد منهما أمارة تدل أن اللبن له، فجعل بينهما.
وإن وضعت ولد الثاني.. فإن اللبن للثاني بكل حال؛ لأن اللبن تابع للولد، والولد هاهنا للثاني، فكان اللبن له.(11/158)
[مسألة تزوج امرأة وفارقها وتزوجت بعدتها ثم ولدت]
وإن تزوج امرأة ودخل بها وفارقها، وتزوجت في عدتها بآخر، ووطئها جاهلًا بالتحريم، فأتت بولد، وأرضعت بلبنه طفلًا.. فإن الرضيع يكون ابنها.
وأما أبو الرضيع من الرضاع: فإن أمكن أن يكون الولد من الأول دون الثاني.. كان الرضيع ابن الأول دون الثاني. وإن أمكن أن يكون الولد للثاني دون الأول.. فإن الرضيع يكون ابن الثاني دون الأول. وإن كان لا يمكن أن يكون ابنا لواحد منهما.. لم يكن الرضيع ابنا لواحد منهما. وإن أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما.. عرض على القافة، فأيهما ألحقته به القافة.. لحقه الرضيع أيضًا، فإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل الأمر عليها.. فإن الولد يترك إلى أن يبلغ وينتسب إلى من يميل إليه طبعه، فإذا انتسب إلى أحدهما.. لحقه نسبه، وتبعه الرضيع، وإن كان الولد معتوها أو مجنونًا.. لم يصح انتسابه.
فإن كان للولد والد.. لم يصح أن ينتسب إلى أحدهما ما دام أبوه حيًا، فإن مات الولد قبل أن يلحق بأحدهما بالقافة أو بالانتساب.. قام ولده مقامه في الانتساب إلى أحدهما، فإذا انتسب إلى أحدهما.. تبعه الرضيع، وإن لم يكن له ولد.. قال الشافعي: (ضاع نسبه) . يريد: أنه لا ينسب إلى أحدهما. وما حكم الرضيع؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يكون ابنهما؛ لأن اللبن قد يثور للوطء، وقد يثور للولد.
فعلى هذا: لا يجوز له أن يتزوج بنت أحدهما.
والقول الثاني: أنه لا يكون ابنهما؛ لأن الرضيع تابع للولد، فإذا لم يجز أن يكون الولد ابنهما.. فكذلك الرضيع.
فعلى هذا: هل له أن ينتسب إلى من يميل إليه طبعه أنه ارتضع بلبنه منهما؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز أن ينتسب إلى أحدهما؛ لأن الولد إنما جوز له أن ينتسب إلى(11/159)
أحدهما؛ لأنه مخلوق من ماء أحدهما، وطبع الإنسان يميل إلى من خلق من مائه، وهذا المعنى لا يوجد في الرضيع؛ ولهذا: يجوز عرض الولد على القافة، ولا يجوز أن يعرض الرضيع على القافة.
والثاني: يجوز له أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه؛ لأن طبعه يميل إلى من ارتضع بلبنه؛ لأن اللبن يؤثر في الطباع.
فإذا كانت المرضعة على صفة من حسن خلق أو غيره.. تعدى ذلك إلى من أرضعته؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا أفصح العرب، ولا فخر، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة» . (بيد أني) أي: من أجل أني من قريش.
وروي: (أن عمر رأى رجلًا، فقال: أنت من بني فلان؟ فقال: لست منهم نسبًا، إنما أنا منهم رضاعًا) .
وقيل: إن المولود إذا سقي لبن البهيمة.. تطبع بطبع البهيمة.(11/160)
فإذا قلنا: له أن ينتسب إلى أحدهما، فانتسب إلى أحدهما.. صار ابنًا له، وجاز أن يتزوج بنت الآخر.
وإن قلنا: ليس له أن ينتسب إلى أحدهما.. فهل له أن يتزوج بنت أحدهما؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ليس له أن يتزوج ببنت أحدهما، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنا تحققنا أن إحداهما محرمة عليه وإن جهلنا عينها، فحرمتا عليه، كما لو اختلطت زوجته بأجنبية، واشتبه عليه.(11/161)
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن له أن يتزوج بنت أحدهما، فإذا تزوج ببنت أحدهما.. حرمت عليه بنت الآخر على التأبيد؛ لأن قبل التزويج يجوز تحريم كل واحدة منهما، فإذا تزوج إحداهما.. فقد قطع أن الأخرى هي المحرمة عليه، فحرمت عليه أبدًا، كما لو اشتبه عليه إناءان في أحدهما نجاسة، فأداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، وتوضأ به.. فإن النجاسة تتعين في الآخر.
والثالث - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يجوز له أن يتزوج ببنت كل واحد منهما على الانفراد؛ لأن قبل الرضاع كانتا حلالًا له، وبعده شككنا في المحرمة منهما، ولا يزال اليقين بالشك، ولا يجوز له الجمع بينهما؛ لأن الخطأ يتيقن بالجمع، كما لو رأى رجلان طائرًا، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فعبدي حر، فطار ولم يعرف.. فإنه لا يعتق على أحدهما عبده، فإذا اجتمعا في ملك أحدهما.. قال الشيخ أبو إسحاق: عتق عليه أحدهما، وقال الشيخ أبو حامد: يعتق عليه عبد الآخر؛ لأن إمساكه لعبده إقرار منه بحرية عبد الآخر.
[فرع أرضعت ولده فنفاه بلعان]
وإن أتت امرأته بولد، وأرضعت بلبنه طفلًا، فنفى الزوج الولد باللعان.. كان الرضيع ابن المرضعة دون الزوج؛ لأن الرضيع تابع للولد، فإذا لم يثبت نسب الولد.. لم يكن الرضيع ابنًا له.
وإن زنى رجل بامرأة، فأتت بولد، فأرضعت بلبنها صغيرة.. ثبت التحريم بينها وبين أولاد المرضعة، ولا يثبت التحريم بين الرضيعة وبين الزاني؛ لأنها تابعة للولد، والولد غير ثابت النسب منه، فكذلك الرضيع. والورع للزاني أن لا يتزوجها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له أن يتزوجها) . وقد مضى الدليل عليه في (النكاح) .(11/162)
[مسألة رضع من خمس مستولدات رضعة رضعة]
وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد، له منهن لبن، فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أما له؛ لأنه لم يرتضع منها رضاعًا تامًا، وهل يصير سيدهن أبًا له؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن سريج، والأنماطي، وابن الحداد -: أنه لا يصير أبًا له؛ لأن الأبوة تابعة للأمومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة.. لم يثبت به أبوة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، وابن القاص. قال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح -: أنه يصير أبًا له؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات متفرقات، فهو كما لو ارتضع ذلك من واحدة منهن.
فإن كان لرجل خمس أخوات لهن لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل يصير أخوهن خالًا له؟ قال أكثر أصحابنا: فيه وجهان كالتي قبلها.
قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا: يصير خالًا له.. لم يجز للرضيع أن يتزوج بواحدة من المرضعات له؛ لأنها خالته.
وقال ابن الصباغ: هذا بعيد؛ لأن الخؤولة فرع على الأمومة، فإذا لم تثبت الأمومة.. لم تثبت الخؤولة، بخلاف الأبوة.
وإن كان لامرأة خمس بنات لهن لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل تصير أمهن جدة له؟
قال القاضي أبو الطيب: من قال في خمس أمهات الأولاد: إن سيدهن لا يصير أبًا له.. قال هاهنا: لا تصير أم المرضعات جدة له. ومن قال هناك: يصير سيدهن أبًا له.. خرج في الجدة هاهنا وجهين:
أحدهما: لا تصير جدة له؛ لأن كونها جدة فرع على كون بنتها أما، فإذا لم تثبت أمومة بنتها.. لم تصر جدة.(11/163)
والثاني: تصير جدة له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه ارتضع من لبن من ولد منها خمس رضعات متفرقات، فهو كما لو ارتضعه من واحدة منهن.
فإذا قلنا بهذا: فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يحل له نكاح واحدة من المرضعات؛ لأنها بنت جدته، ولا يحل له نكاح بنت جدته من النسب، فكذلك من الرضاع.
وإن كان لرجل أم لها لبن، وأخت لها لبن، وبنت لها لبن، وزوجة لها لبن، وامرأة أخ لها لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل تثبت الحرمة بينه وبين هذا الرجل؟ يبنى على ثبوت الحرمة للجدة في التي قبلها.
فإذا قلنا: لا تثبت للجدة حرمة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت.
وإن قلنا: تثبت للجدة حرمة.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: تثبت؛ لأنه قد وجد العدد في حقه.
والثاني: لا تثبت؛ لأن الرضعات من جهات مختلفة، فلا يمكن أن يسمى له أبًا ولا أخًا ولا جدًا ولا عمًا ولا خالًا، بخلاف الجدة.
[فرع تفريق الرضعات بين رجلين يثبت أمومتها دونهما]
] : وإن كان لرجل زوجة له منها لبنا، فأرضعت به طفلًا ثلاث رضعات، ثم طلقها الزوج، وانقضت عدتها منه، وتزوجت بآخر، وولدت منه، وأرضعت ذلك الطفل رضعتين.. صارت أمًا له، ولم يصر واحد من الزوجين أبًا له؛ لأنه لم يرتضع من لبن أحدهما خمس رضعات.(11/164)
[مسألة تزوج صغيرة فأرضعتها أمه]
وإن تزوج رجل صغيرة لها دون الحولين: فأرضعتها أمه من النسب أو الرضاع خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها إن أرضعتها بلبن أبيه.. صارت أخته لأبيه وأمه، وإن أرضعتها بغير لبن أبيه.. صارت أخته لأمه.
وإن أرضعتها أم أمه من النسب أو الرضاع.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها صارت خالته.
وإن أرضعتها امرأة أبيه.. نظرت:
فإن كان بلبن أبيه.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها صارت أخته لأبيه.
وإن أرضعته بغير لبن أبيه.. لم ينفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت امرأة أبيه، وهي لا تحرم عليه.
وإن أرضعتها أم أبيه من النسب أو الرضاع.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير عمته.
وإن أرضعتها ابنته من النسب أو الرضاع.. انفسخ نكاحها؛ لأنها تصير بنت بنته.
وإن أرضعتها أخته من النسب أو الرضاع.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت أخته.
وإن أرضعتها امرأة ولده من النسب أو الرضاع بلبن ولده.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت ابنه، وإن أرضعتها بغير لبن ولده.. لم ينفسخ النكاح.
وإن أرضعتها امرأة أخيه بلبن أخيه.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت أخيه، وإن أرضعتها بغير لبن أخيه.. لم ينفسخ النكاح.
وإن أرضعتها امرأة عمه أو امرأة خاله.. لم ينفسخ النكاح؛ لأن بنت عمه وبنت خاله لا تحرم عليه.
وإن أرضعت امرأة أجنبية صبيًا أو صبية لهما دون الحولين، ثم كبر الغلام.. فله أن يتزوج أم أخته من الرضاع أو النسب؛ لأنه ليس بينهما ما يوجب التحريم. وكذلك: لو كان لأخته من النسب أم من الرضاع.. جاز له أن يتزوجها.(11/165)
[فرع تزوج زوجتين فأرضعت إحداهما الأخرى]
وإن كان لرجل زوجة كبيرة وزوجة صغيرة لها دون الحولين، فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحهما بكل حال؛ لأنها تصير بنتًا لها، ولا يجوز الجمع بين المرأة وبنتها.
فإن أرضعتها بلبن الزوج.. حرمتا على التأبيد؛ لأن الكبيرة صارت من أمهات نسائه، والصغيرة صات بنتًا له، وإن أرضعتها بغير لبن الزوج.. حرمت عليه الكبيرة على التأبيد، سواء دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأنها صارت من أمهات النساء، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت عليه أيضًا على التأبيد؛ لأنها ربيبة دخل بأمها، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم عليه الصغيرة على التأبيد، بل يجوز له العقد عليها؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها.
[فرع أرضعت زوجته الكبيرة ثلاث زوجات له صغارًا]
وإن كان له أربع زوجات: كبيرة، وثلاث صغار لهن دون الحولين، فأرضعت الكبيرة كل واحدة منهن خمس رضعات متفرقات.. نظرت:
فإن أرضعتهن بلبن الزوج.. انفسخ نكاح الجميع، وحرمن على التأبيد، سواء دخل بالكبيرة أو لم يدخل بها، وسواء ارتضعن في وقت واحد أو في أوقات متفرقات؛ لأن الصغار صرن بناته، وصارت الكبيرة أمًا لهن، ولا يجوز الجمع بين المرأة وابنتها.
وإن أرضعتهن بغير لبن الزوج.. ففيه أربع مسائل:(11/166)
إحداهن: أن ترضع اثنتين منهن في حالة واحدة، والثالثة بعدهما، وذلك: بأن ترضع كل واحدة من الأوليين أربع رضعات، ثم ألقمت كل واحدة منهما ثديًا في الخامسة.. فإن ارتضعتا معًا وقطعتا معًا، أو حلبت اللبن في موضعين وسقتهما ذلك اللبن في حالة واحدة، ثم أرضعت الثالثة بعد ذلك.. فإن نكاح الكبيرة والأوليين ينفسخ، أما نكاح الكبيرة: فلأنه لا يجوز الجمع بينها وبين ابنتها في النكاح، وأما الصغيرتان: فلأنه لا يجوز الجمع بينهما وبين أمهما، ولأن كل واحدة منهما صارت أخت الأخرى، ولا يجوز الجمع بين الأختين.
وتحرم الكبيرة على التأبيد، سواء دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأنها صارت من أمهات النساء.
وأما الصغيرتان: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمتا أيضًا على التأبيد؛ لأنهما ربيبتان دخل بأمهما. فإن لم يدخل بالكبيرة.. جاز له أن يعقد على كل واحدة منهما؛ لأنهما ربيبتان لم يدخل بأمهما، ولا يجوز أن يجمع بينهما؛ لأنهما أختان.
فإن أرضعت الثالثة بعد ذلك، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاح الثالثة؛ لأنها ربيبة قد دخل بأمها، فحرمت على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاح الثالثة؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها.
الثانية: إذا أرضعت الأولى خمس رضعات، ثم أرضعت الأخريين معًا.. فإنها لما أرضعت الأولى.. انفسخ نكاح الكبيرة ونكاح الأولى، وحرمت الكبيرة على التأبيد. وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت الأولى على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرم على التأبيد.
وأما الأخريان: فإن نكاحهما ينفسخ؛ لأنهما صارتا أختين في حالة واحدة، ولا يجوز الجمع بين الأختين، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمتا على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرما على التأبيد.
الثالثة: إذا أرضعت الثلاث، واحدة بعد واحدة.. فإنها لما أرضعت الأولى.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة؛ لأنه لا يجوز الجمع بين المرأة وبنتها، وتحرم الكبيرة(11/167)
على التأبيد بكل حال، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم على التأبيد.
فإذا أرضعت الثانية.. فهل ينفسخ نكاحها؟ نظرت:
فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحها؛ لأنها ربيبة قد دخل بأمها، فحرمت على التأبيد.
وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاحها؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها.
فإذا أرضعت الثالثة، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحها، وحرمت على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. فقد صارت هي والثانية أختين، وما الحكم فيهما؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (ينفسخ نكاحهما) . وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأنها أخوة اجتمعت في النكاح، فانفسخ النكاح، كما لو أرضعتهما معًا.
والثاني: ينفسخ نكاح الثالثة وحدها؛ لأن الجمع تم بها، فاختصت بفساد النكاح، كما لو تزوج بأختين إحداهما بعد الأخرى.. فإن فساد النكاح يختص بالثانية.
الرابعة: إذا أرضعتهن في حالة واحدة، بأن ترضع كل واحدة أربع رضعات، ثم تحلب ثلاث دفعات في ثلاثة أوقات متفرقة، ثم تسقيهن الخامسة دفعة واحدة.. فينفسخ نكاح الكبيرة وجميع الصغار، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وأما الصغار: فإن دخل بالكبيرة.. حرمن على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم يحرمن على التأبيد، إلا أنهن صرن أخوات، فلا يجوز له الجمع بين اثنتين منهن، وإنما يجوز له أن يتزوج كل واحدة منهن على الانفراد.
[فرع له زوجتان فطلق الصغرى ثم أرضعتها الكبرى]
] : وإن كان له زوجتان صغيرة وكبيرة، فطلق الصغيرة، ثم أرضعتها الكبيرة.. انفسخ نكاح الكبيرة؛ لأنها صارت أم من كانت له زوجة.(11/168)
وإن طلق الكبيرة، وأرضعت الصغيرة، فإن أرضعتها بلبن الزوج.. انفسخ نكاح الصغيرة أيضًا؛ لأنها صارت ابنته، وإن أرضعتها بغير لبن الزوج، فإن كانت الكبيرة مدخولًا بها.. انفسخ نكاح الصغيرة أيضًا؛ لأنها صارت بنت امرأة له أيضًا مدخول بها، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاح الصغيرة؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها.
[فرع أرضعت ثلاث زوجات زوجة صغيرة]
إذا كان له أربع زوجات، ثلاث منهن كبار، وواحدة صغيرة، فأرضعتها كل واحدة من الثلاث الكبار خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاح الجميع؛ لأن كل واحدة من الكبار صارت أمًا لمن كانت له زوجة، ويحرمن الكبار على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن أرضعتها واحدة منهن بلبن الزوج، أو بغير لبن الزوج إلا أن واحدة منهن مدخول بها.. حرمت على التأبيد، وإن لم ترتضع بلبن الزوج، ولا في الكبار مدخول بها.. لم تحرم الصغيرة على التأبيد، بل له أن يعقد عليها.
قال ابن الحداد: وإن كان له ثلاث زوجات، كبيرتان وصغيرة، فأرضعتها كل واحدة أربع رضعات، ثم حلبتا لبنهما في مسعط، وأوجرتاه إياها.. تمت بها الخامسة من كل واحدة منهما، فينفسخ نكاح الجميع، وتحرم الكبيرتان على التأبيد بكل حال، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرتين أو بإحداهما.. حرمت الصغيرة أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بواحدة منهما.. لم تحرم على التأبيد.
قلت: وهذا إذا كان اللبن لغير الزوج، وأما إذا كان لبنهما أو لبن إحداهما للزوج: فإن الصغيرة تحرم عليه على التأبيد على كل حال.
[فرع له زوجتان فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة]
وإن كان له زوجتان: كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة خمس رضعات.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة؛ لأنه صار جامعًا بين نكاح أختين، وذلك لا يجوز.(11/169)
وإن أرضعتها جدة الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الصغيرة صارت خالة الكبيرة، فإن أرضعتها أخت الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الكبيرة تصير خالة للصغيرة.
وإن أرضعتها أم أبي الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الصغيرة صارت عمة الكبيرة، ويجوز له أن يعقد على كل واحدة منهما على الانفراد؛ لأنه لا يمنع أن يتزوج بخالة من كانت زوجته ولا عمتها، سواء دخل بالكبيرة أو لم يدخل بها.
[فرع طلق امرأته فأرضعت زوجته الصغيرة]
] : وإن كان لرجل زوجتان: كبيرة وصغيرة، فطلقهما، وتزوجهما آخر، فأرضعت الكبيرة الصغيرة.. انفسخ نكاحهما من الثاني، فإن أراد الأول أن يتزوج بهما.. لم يجز له أن يتزوج بالكبيرة؛ لأنها أم من كانت زوجته، وأما الصغيرة: فإن دخل بالكبيرة.. لم يجز له أن يتزوج بالصغيرة أيضًا؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يكن دخل بالكبيرة.. فله أن يتزوج بها؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها.
[فرع زوجان طلقا زوجتيهما ثم تزوج كل زوجة الآخر]
] : وإن كان لرجل زوجة كبيرة، ولآخر زوجة صغيرة، فطلق كل واحد منهما زوجته، فتزوج من كان تحته الكبيرة الصغيرة، وتزوج من كان تحته الصغيرة الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة.. فإن نكاح الكبيرة ينفسخ، وتحرم على التأبيد؛ لأنها صارت أم من كانت زوجته، وأما الصغيرة: فإن كان زوجها قد دخل بالكبيرة قبل أن يطلقها.. انفسخ نكاح الصغيرة، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يكن دخل بها.. لم ينفسخ نكاحها؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها.
[فرع عتقت ففسخت النكاح وتزوجت بآخر ثم أرضعت الأول]
قال المزني في " المنثور ": إذا زوج الرجل أمته الكبيرة بعبده الصغير، ثم أعتقها سيدها، فاختارت فسخ النكاح؛ لكونها حرة تحت عبد، ثم تزوجت بآخر، وولدت(11/170)
له، وأرضعت بلبنه زوجها الأول.. انفسخ نكاحها من زوجها؛ لأنها حليلة ابنه.
قال أصحابنا: وهكذا: إذا زوج الرجل ابنه الطفل بكبيرة، فوجدت به عيبًا، وفسخت النكاح، ثم تزوجت بكبير، وولدت منه، وأرضعت بلبنه زوجها الأول.. انفسخ نكاحها من زوجها؛ لأنها حليلة ابنه، وحرمت عليهما على التأبيد.
وإن تزوجت امرأة برجل، وحصل لها منه لبن، فطلقها وتزوجت بعده بطفل، فأرضعته بلبن الزوج الأول خمس رضعات.. انفسخ نكاحها من الصغير، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها أمه وحليلة أبيه، وحرمت على زوجها الأول على التأبيد؛ لأنها حليلة ابنه.
[فرع إرضاع الجدة أحد الصغيرين المتزوجين]
إذا كان هناك أخوان، لأحدهما ابن، وللآخر ابنة، فزوج الأخوان ابنيهما الصغيرين أحدهما من الآخر، فأرضعت أم الأخوين أحد الصغيرين.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار عم زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت عمة زوجها.
وإن زوج الصغير بابنة عمته الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار خال زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت عمة زوجها.
وإن زوج الصغير بابنة خاله الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ(11/171)
نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار عم زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت خالة زوجها.
وإن زوج الصغير بابنة خالته الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار خال زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت خالة زوجها.
[فرع إرضاع أم ولد عبد سيدها الصغير]
قال ابن الحداد: روى المزني: أن الشافعي قال في " المنثور ": (إذا زوج أم ولد من عبده الصغير، فأرضعته بلبن مولاه خمس رضعات.. انفسخ نكاحهما، وحرمت عليه على التأبيد، ولا تحرم أم الولد على المولى؛ لأنها لم تصر أما للصغير إلا بعد زوال النكاح بينهما، وكانت حليلة الصغير، ولم تكن أمًا له، ولما صار ابنًا له.. لم تكن حليلة له) .
وتقرير هذا: أن اسم حليلة الابن لم يوجد؛ لأنه حين يسمى: ابنًا، لا تسمى هي: حليلة، وإنما كانت حليلة له، فإذا لم يثبت الاسم للنسب.. لم يثبت التحريم.
وأنكر المزني، وابن الحداد، وسائر أصحابنا ذلك، وقالوا: تحرم على السيد. ولا يصح هذا على مذهب الشافعي؛ لأن زوال النكاح لا يمنع وقوع اسم حليلة ابنه، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا تزوج صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة.. أن نكاحهما ينفسخ؛ لأن الكبيرة أم زوجته، وليست بزوجة له حين صارت أمًا لها) . هكذا ذكرها القاضي أبو الطيب.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن المزني ذكر في " المنثور ": إذا كان له أم ولد، له منها لبن، فزوجها من طفل، فأرضعته بلبن مولاها.. انفسخ النكاح بينهما.
قال المزني، وابن الحداد: وتحرم على سيدها على التأبيد؛ لأن الصغير صار ابنًا لسيدها من الرضاع، فتصير حليلة ابنه.(11/172)
قال الشيخ أبو حامد: وأخطأ، بل لا تحرم على سيدها؛ لأنه لم يصح النكاح بينها وبين الصغير، لأن نكاح الأمة لا يصح إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم صداق حرة. والصغير لا يوصف بخوف العنت، فإذا لم يوجد الشرط.. لم يصح النكاح، وإذا لم يصح النكاح.. لم تكن حليلة ابنه.
والذي حكاه القاضي صحيح إذا كان الطفل عبدًا؛ لأنه لا يعتبر خوف العنت وعدم صداق الحرة في نكاح الأمة.
والذي ذكره الشيخ أبو حامد صحيح أيضًا إذا كان الطفل حرًا؛ لأن هذين الشرطين معتبران في حقه في جواز إنكاحه للأمة، وهما غير موجودين فيه.
[فرع إرضاع أجنبية زوجتين صغيرتين لرجل]
إذا كان لرجل زوجتان صغيرتان، فجاءت امرأة أجنبية، فأرضعت إحداهما خمس رضعات، ثم أرضعت الأخرى خمس رضعات.. فإن نكاح الأخرى ينفسخ بتمام رضعتها الخامسة، وهل ينفسخ به نكاح الأولى؟ فيه قولان، قد مضى توجيههما.
وهكذا: لو جاءت أم إحدى الزوجتين الصغيرتين، فأرضعت ضرة ابنتها خمس رضعات.. انفسخ نكاح المرضعة، وهل ينفسخ نكاح ابنة المرضعة؟ على القولين.
وإن كان لرجل أربع زوجات صغار، وله ثلاث خالات لأب وأم، أو لأم، فأرضعت كل واحدة من خالاته واحدة من زوجاته، وبقيت الرابعة.. لم ينفسخ نكاحه من إحداهن؛ لأن الثلاث المرضعات صرن بنات خالاته، وابنة خالته يجوز نكاحها، فإن أرضعت أمُّ أمِّ الزوج الرابعةَ.. انفسخ نكاحه منها، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها صارت خالة له، وصارت أيضًا هذه الرابعة خالة لزوجاته الثلاث، وهل ينفسخ نكاحهن؟ على القولين في التي قبلها.
وإن كان له ثلاث خالات متفرقات، فأرضعت كل واحدة من خالاته واحدة من(11/173)
زوجاته.. فإن نكاحهن لا ينفسخ، فإن أرضعت أمُّ أم الزوج زوجته الرابعة.. انفسخ نكاحها، وأما زوجاته الثلاث: فإن في انفساخ نكاح زوجته التي أرضعتها خالته لأبيه وأمه وفي نكاح التي أرضعتها خالته لأمه القولين.
وأما نكاح زوجته التي أرضعتها خالته لأبيه: فإنه لا ينفسخ، قولًا واحدًا؛ لأن خؤولة الرابعة حصلت من جهة أمّ أم الزوج، وخالة الزوج للأب من قوم آخرين، وهي من جهة أبي أم الزوج، فلم تجتمع مرضعتها مع خالتها في النكاح. هكذا ذكر المسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري في " العدة ".
وعندي: أن أمَّ أمِّ الزوج إذا أرضعت الرابعة بلبن أبي أم الزوج.. كان في نكاح مرضعة الخالة للأب أيضًا قولان، وإنما تفترق إذا أرضعت بغير لبن أبي أم الزوج. وعلى هذا يقاس: إذا كان للزوج ثلاث عمات، فأرضعت كل واحدة منهن واحدة من زوجاته، ثم أرضعت أم أبي الزوج الرابعة، على ما مضى.
[مسألة تزوج بصغيرة فأرضعتها أمه أو أخته]
مسألة: [تزوج صغيرة فأرضعتها أمه أو أخته] :
إذا تزوج الرجل صغيرة، فأرضعتها أمه أو أخته أو امرأته.. ينفسخ النكاح برضاعها خمس رضعات متفرقات، فإن كان قد سمى لها صداقًا فاسدًا.. وجب لها نصف مهر المثل، وإن سمى لها صداقًا صحيحًا.. وجب لها نصف المسمى، ويرجع الزوج على المرضعة بضمان ما أتلفته عليه من البضع، سواء تعمدت فسخ النكاح أو لم تتعمد.
وقال مالك: (لا يرجع عليها بشيء) .
وقال أبو حنيفة: (إن تعمدت فسخ النكاح.. رجع عليها، وإن لم تتعمد فسخ النكاح.. لم يرجع عليها) .
دليلنا - على مالك -: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 11] [الممتحنة: 11] .(11/174)
وذلك: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح قريشًا عام الحديبية على: أن المرأة المسلمة إذا هاجرت.. ردها إليهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره برد مهورهن إلى أزواجهن) ؛ لأنه حال بينهن وبين أزواجهن، فدل على: أن كل من حال بين الرجل وبين زوجته.. كان عليه ضمان البضع، وهذه المرضعة قد حالت بينه وبينها.. فكان عليها الضمان.
وعلى أبي حنيفة: أن كل ما ضمن بالعمد.. ضمن بالخطأ، كالأموال.
إذا ثبت هذا: فكم القدر الذي يرجع به على المرضعة؟
نص الشافعي هاهنا: (أنه يرجع عليها بنصف مهر المثل) .
ونص في الشاهدين: (إذا شهدا على رجل: أنه طلق امرأته قبل الدخول، وحكم بشهادتهما، ثم رجعا عن الشهادة.. فإنها لا ترد إليه) ، وبماذا يرجع الزوج عليهما؟ فيه قولان:(11/175)
أحدهما: يرجع عليهما بنصف مهر المثل.
والثاني: يرجع عليهما بجميع مهر المثل.
فنقل أبو سعيد الإصطخري هذا القول إلى جوابه في المرضعة، وخرج فيها قولين:
أحدهما: يرجع عليها بجميع مهر المثل؛ لأنها أتلفت عليه البضع، فرجع عليها بالقيمة.
والثاني: يرجع عليها بنصف مهر المثل؛ لأنه لم يغرم إلا نصف بدل البضع، فلم يجب له أكثر من نصف بدله.
وحملهما أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا على ظاهرهما، فجعلوا في الشاهدين قولين، وفي المرضعة للزوج يرجع عليها بنصف مهر المثل، قولًا واحدًا؛ لأن الفرقة في الرضاع وقعت ظاهرًا وباطنًا، والذي غرم الزوج نصف المهر، فلم يرجع عليها بأكثر من بدله، وفي الشاهدين لم تقع الفرقة ظاهرًا وباطنًا، وإنما وقعت في الظاهر، وهما يقران: أنها زوجته الآن، وإنما حالا بينه وبينها، فرجع عليهما بقيمة جميع البضع.
وقال أبو حنيفة: (يرجع على المرضعة بنصف المسمى) .
دليلنا: أن هذا تعلق بالإتلاف، فلم يضمن بالمسمى، وإنما يضمن بقيمته، كضمان الأموال.
فإذا قلنا: يرجع عليها بنصف مهر المثل، وهو الأصح، وعليه التفريع، فجاء خمس أنفس، وأرضعوا الصغيرة من أم الزوج كل واحد منهم رضعة.. فإن الزوج يرجع على كل واحد منهم بخمس نصف مهر المثل؛ لتساويهم في الإتلاف.
وإن كانوا ثلاثة، فأرضعها اثنان كل واحد منهما رضعة من لبن أم الزوج، وأرضعها الثالث منها ثلاث رضعات.. ففيه وجهان:(11/176)
أحدهما: يجب على كل واحد منهم ثلث نصف مهر المثل؛ لأن كل واحد منهم وجد منه سبب الإتلاف، فتساووا في الضمان، كما لو كان عبد بين ثلاثة، لأحدهم النصف، وللآخر السدس، وللثالث الثلث، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس نصيبهما في وقت واحد.
والثاني: يقسط النصف على عدد الرضعات، فيجب على من أرضع رضعة خمس نصف مهر المثل، وعلى من أرضع ثلاث رضعات ثلاثة أخماس نصف مهر المثل؛ لأن الفسخ حصل بعدد الرضعات، فقسط الضمان عليهم.
[فرع إرضاع بنات زوجته نساءه الثلاث الصغار]
وإن كان لرجل ثلاث زوجات صغار وزوجة كبيرة، وللكبيرة ثلاث بنات من النسب أو الرضاع لهن لبن، فأرضعت كل واحدة من بنات الزوجة الكبيرة واحدة من الثلاث الزوجات الصغار.. نظرت:
فإن وقع رضاعهن دفعة واحدة، بأن اتفقن في الخامسة.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغار؛ لأنه لا يجوز الجمع بينهن وبين جدتهن، وإن كان الزوج لم يدخل بالكبيرة.. فإنهن يرجعن عليه بنصف المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة من بنات الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة التي أرضعت، ويرجع على الثلاث المرضعات بنصف مثل مهر المرأة الكبيرة بينهن أثلاثًا.
ومن أصحابنا من قال: يرجع بنصف مهر كل واحدة من الصغار على الثلاث المرضعات بينهن بالسوية، وبنصف مهر الكبيرة؛ لأنهن اشتركن في إفساد نكاح كل واحدة منهن. والأول أصح. وتحرم عليه الكبيرة على التأبيد، وأما الصغار: فلا يحرمن عليه، بل يجوز له ابتداء عقد النكاح على كل واحدة منهن، ويجوز له الجمع بينهن؛ لأنهن بنات خالات.
وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمن جميعًا على التأبيد، والكلام في مهور الصغار(11/177)
على ما مضى، وأما مهر الكبيرة: فإنه يرجع بجميعه على الثلاث المرضعات بينهن أثلاثًا.
وقال ابن الحداد: لا يرجع عليهن بمهر المثل؛ لأنه قد وطئها، فلو ثبت له الرجوع.. لكانت في معنى المرهونة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المهر يرجع به على غيرها، فلا تكون في معنى المرهونة.
وإن تقدم إرضاع بعضهن على بعض.. فإن الأولى من بنات الكبيرة لما أرضعت واحدة من الصغار.. انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة، ورجع الزوج على المرضعة بنصف مهر مثل الصغيرة، وبنصف مهر مثل الكبيرة إن لم يدخل بها، وبجميع مهرها إن دخل بها - على الأصح - وحرمت الكبيرة على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم على التأبيد، وإن دخل بها.. حرمت على التأبيد. فلما أرضعت الثانية الصغيرة الثانية، وأرضعت الثالثة الصغيرة الثالثة، فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأنهما بنتا ابنة امرأته المدخول بها، والكلام في مهرهما على ما مضى، وإن كان لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاحهما؛ لأنهما بنتا ابنة امرأته التي لم يدخل بها.
[فرع إرضاع زوجتين كبيرتين لضرة صغيرة]
إذا كان له ثلاث زوجات: كبيرتان وصغيرة، فأرضعتها كل واحدة من الكبيرتين أربع رضعات، ثم حلبت كل واحدة منهما لبنًا منها، وخلطتاه، وسقتاه الصغيرة معًا.. انفسخ نكاح الكبيرتين والصغيرة، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، وللزوج على الكبيرتين نصف مهر مثل الصغيرة بينهما نصفين.
وأما مهر الكبيرتين: فإن كان قد دخل بهما.. فلهما عليه المهر المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بنصف مهر مثل صاحبتها؛ لأن كل واحدة منهما أتلفت عليه نصف بضع صاحبتها، ونكاح كل واحدة منهما انفسخ بفعل نفسها وفعل(11/178)
صاحبتها، فلا تضمن كل واحدة منهما من مهر صاحبتها إلا ما قابل فعلها.
وإن كان لم يدخل بهما.. فلكل واحدة منهما ربع مهرها المسمى على الزوج؛ لأنه لو لم يكن من جهتها سبب في فسخ النكاح.. لاستحقت نصف مهرها المسمى، ولو انفسخ نكاحها بفعلها.. سقط جميع مهرها، فإذا انفسخ نكاحها قبل الدخول بفعلها وفعل صاحبتها.. فما قابل فعل نفسها، لا ترجع به؛ لأن الفسخ إذا كان من قبلها قبل الدخول.. لا مهر لها، وما قابل فعل صاحبتها.. لا يسقط، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل صاحبتها؛ لأنه قيمة ما أتلفته من بضع صاحبتها.
قال الشيخ أبو حامد: إذا كانت بحالها إلا أن إحداهما انفردت بإيجارها اللبن المخلوط منهما.. انفسخ نكاح الجميع، وللصغيرة على الزوج نصف المسمى، ويرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأنها هي انفردت بالإتلاف.
وأما مهر الكبيرتين: فإن كان الزوج لم يدخل بالتي لم توجر.. كان لها على الزوج نصف المسمى، ويرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر مثل التي لم توجر. وإن كان قد دخل بالتي لم توجر.. فلها على الزوج جميع ما سمى لها، ويرجع الزوج على الموجرة بجميع مهر مثل التي لم توجر، وأما مهر الموجرة: فإن كان ذلك قبل الدخول بها.. فلا شيء لها، وإن كان بعد الدخول عليها.. فلها عليه جميع المسمى، ولا يسقط عنه شيء منه، وتحرم الكبيرتان عليه على التأبيد بكل حال.
وأما الصغيرة: فإن دخل بالكبيرتين أو بإحداهما.. حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بواحدة منهما.. جاز له ابتداء العقد على الصغيرة.
[فرع إرضاع كبيرة صغيرة أربعًا ثم تزوجهما رجل فأرضعتها الخامسة]
وإن أرضعت امرأة كبيرة صغيرة أربع رضعات، ثم تزوج رجل الكبيرة والصغيرة، ثم أرضعتها الكبيرة الخامسة.. انفسخ نكاحهما، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت الصغيرة أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرم الصغيرة على التأبيد.(11/179)
وأما المهر: فإن لم يدخل بالكبيرة.. فلا شيء لها على الزوج، وإن كان قد دخل بها.. فلها جميع مهرها عليه، وأما الصغيرة: فلها على الزوج نصف المسمى.
قال الشيخ أبو حامد: ويرجع الزوج على الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة، ولا يقسط على عدد الرضعات؛ لأن الرضاع إنما تكامل عند الخامسة، والتحريم إنما وقع بها وهي في ملك الزوج.
[فرع ارتضاع زوجة صغيرة من أم زوجها]
وإن تزوج صغيرة، فارتضعت من أم الزوج خمس رضعات متفرقات والأم نائمة.. انفسخ نكاحها، ويسقط مهرها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول.
فإن ارتضعت من الأم رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الأم ثلاث رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحها.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يسقط عنه من نصف المسمى وجهان:
أحدهما: يسقط نصفه وهو الربع، ويجب عليه الربع.
والثاني: يقسط على عدد الرضعات، فيسقط من نصف المسمى الخمسان، ويجب ثلاثة أخماسه.
فإذا قلنا بالأول.. وجب على الأم للزوج ربع مهر المثل.
وإذا قلنا بالثاني.. وجب على الأم ثلاثة أخماس نصف مهر المثل.
وإن تقاطر من لبن أمه في حلق زوجته الصغيرة، فوصل إلى جوفها خمس رضعات.. انفسخ النكاح، ووجب عليه للصغيرة نصف المسمى، ولا يرجع الزوج على الأم بشيء؛ لأنه ليس من جهة إحداهما فعل.(11/180)
[فرع ارتضاع زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة]
] : وإن ارتضعت زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة خمس رضعات متفرقات والكبيرة نائمة.. انفسخ نكاحهما، وسقط مهر الصغيرة، فإن كان لم يدخل بالكبيرة.. رجعت على الزوج بنصف مهرها المسمى، ورجع الزوج على الصغيرة بنصف مهر مثل الكبيرة، وإن دخل بالكبيرة.. رجعت عليه بجميع مهرها المسمى، ورجع الزوج في مال الصغيرة بجميع مهر مثل الكبيرة، على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشيء، على قول ابن الحداد.
[فرع أرضعت زوجته الأمة الكبيرة ضرتها الصغيرة]
إذا كان لرجل زوجة أمة كبيرة، وله زوجة صغيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحهما، وتعلق نصف مهر مثل الصغيرة برقبة الأمة؛ لأنه جناية، وجناية الأمة في رقبتها.
ولو كان لرجل أم ولد؛ وله زوجة صغيرة، فأرضعتها أم ولده.. انفسخ نكاح الصغيرة، وحرمت عليه الأمة على التأبيد، فإن كان قد وطئ الأمة.. حرمت عليه الصغيرة على التأبيد، وإن لم يكن وطئ الأمة إلا أنها استدخلت ماءه، وحملت منه.. فلا تحرم الصغيرة على التأبيد، ويجب للصغيرة على الزوج نصف مهرها المسمى، ولا يرجع الزوج على أم الولد بشيء؛ لأن جنايتها على غيره عليه.
ولو أرضعتها مكاتبته بلبنه، فإن كانت أم ولده.. رجع عليها بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأن السيد يثبت له الحق على مكاتبته.
وإن أرضعتها أم ولد أبيه أو ابنه بلبنه.. انفسخ النكاح، ورجع على أبيه أو ابنه بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأن جناية أم الولد على سيدها.(11/181)
وإن كانت له أمة لها لبن من غيره، وأرضعت به زوجته الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. حرمت عليه الأمة على التأبيد؛ لأنها صارت من أمهات النساء، وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وطئ الأمة.. انفسخ نكاحها؛ لأنها بنت امرأة وطئها.
وإن لم يطأها.. لم ينفسخ النكاح، ولا يرجع السيد على الأمة بشيء من مهر الصغيرة؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده.
[فرع إرضاع زوجة الابن ضرة حماتها الصغيرة]
وإن كان له زوجة صغيرة وزوجة كبيرة، وللكبيرة ابن - من غير هذا الزوج - له زوجة لها لبن من ابن الكبيرة، فأرضعت به الصغيرة.. انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة؛ لأن الكبيرة صارت جدة الصغيرة، ولا يجوز الجمع بين المرأة وجدتها، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم عليه على التأبيد، ويجب على الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع الزوج على زوجته الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة، وأما الكبيرة: فإن لم يدخل بها.. وجب عليه لها نصف مهرها المسمى، ويرجع على زوجة الابن بنصف مهر مثل الكبيرة، وإن دخل بالكبيرة.. رجعت الكبيرة بجميع مهرها المسمى، ويرجع الزوج على زوجة ابنها بجميع مهر مثل الكبيرة، على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشيء هاهنا، على قول ابن الحداد.
وبالله التوفيق(11/182)
[كتاب النفقات] [باب نفقة الزوجات](11/183)
كتاب النفقات
باب نفقة الزوجات الأصل في وجوب نفقة الزوجات: من الكتاب: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . و (المولود له) : هو الزوج. وإنما نص على وجوب نفقة الزوجة حال الولادة؛ ليدل على: أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .(11/185)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (معناه: أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه) .
وقيل: إن أكثر السلف قالوا: معنى (ألا تعولوا) أي: أن لا تجوروا، يقال: عال يعول: إذا جار، وأعال يعيل: إذا كثر عياله، إلا زيد بن أسلم، فإنه قال: معناه: أن لا يكثر عيالكم. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشهد لذلك، حيث قال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» .
ويدل على وجوب نفقة الزوجات: قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] [النساء: 34] ، وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، ومعنى قوله: {قُدِرَ عَلَيْهِ} [الطلاق: 7] أي: ضيق عليه.
ومن السنة: ما روى حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق الزوجة؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت»(11/186)
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس، فقال: «اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» .
وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، فقال: عندي آخر، فقال: " أنفقه على أهلك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، قال: عندي آخر، قال: أنت أعلم به» والمراد بالأهل هاهنا: هي الزوجة، بدليل: ما روى أبو سعيد المقبري: أن أبا هريرة كان إذا روى هذا الحديث.. يقول: (ولدك يقول: أنفق علي، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق علي أو طلقني، وخادمك يقول: أنفق علي، وإلا بعني) .(11/187)
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن هند امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم، فهل علي في ذلك شيء؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» قال أصحابنا: وفي هذا الخبر فوائد:
إحداهن: وجوب نفقة الزوجة.
الثانية: وجوب نفقة الولد.
الثالثة: أن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة الولد؛ لأنه قدم نفقتها على نفقة الولد.
الرابعة: أن نفقة الولد على الكفاية.
الخامسة: أن للزوجة أن تخرج من بيتها لحاجة لا بد لها منها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها الخروج.
السادسة: أن للمرأة أن تستفتي العلماء.
السابعة: أن صوت المرأة ليس بعورة.
الثامنة: أن تأكيد الكلام جائز؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل.
التاسعة: أنه يجوز أن يذكر الإنسان بما فيه؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، والشحيح من منع حقًا عليه.
العاشرة: أن الحكم على الغائب جائز؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على أبي سفيان وهو غائب) . وهذا قول أكثر أصحابنا.
قال ابن الصباغ: والأشبه: أن هذا فتيا، وليس بحكم؛ لأنه لم ينقل: أن أبا سفيان كان غائبًا.(11/188)
الحادية عشرة: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألها البينة، وإنما حكم لها بعلمه.
الثانية عشرة: أن من كان له حق على غيره، فمنعه.. جاز له أخذه من ماله.
الثالثة عشرة: أن له أخذه من ماله وإن كان من غير جنس حقه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفصل) .
الرابعة عشرة: أنه إذا أخذه وكان من غير جنس حقه.. فله بيعه بنفسه.
الخامسة عشرة: أنها تستحق الخادم على الزوج إذا كانت ممن تخدم؛ لأنه روي: أنها قالت: (إلا ما يدخل علي) .
السادسة عشرة: أن للمرأة أن تقبض نفقة ولدها، وتتولى إنفاقها على ولدها، ولأن الزوجة محبوسة على الزوج، وله منعها من التصرف، فكانت نفقتها واجبة عليه، كنفقة العبد على سيده.
[مسألة الاقتصار على زوجة]
قال الشافعي: (وأحب له أن يقتصر على واحدة وإن أبيح له أكثر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .
فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: لِمَ قال الاقتصار على واحدة أفضل،(11/189)
وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين زوجات كثيرة، ولا يفعل إلا الأفضل، ولأنه قال: «تناكحوا تكثروا» ؟ فالجواب: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان الأفضل في حقه الاقتصار على واحدة؛ خوفًا منه أن لا يعدل، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان يؤمن ذلك في حقه.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا» فإنما ندب إلى النكاح لا إلى العدد.
[مسألة وجوب النفقة في أحوال كل من الزوجين]
إذا تقرر وجوب نفقة الزوجة.. فلا يخلو حال الزوجين من أربعة أقسام: إما أن يكونا بالغين، أو يكون الزوج بالغًا والزوجة صغيرة، أو تكون الزوجة بالغة والزوج صغيرًا، أو يكونا صغيرين.
فإن كانا بالغين، وسلمت الزوجة نفسها إلى الزوج تسليمًا تامًا، بأن تقول: سلمت نفسي إليك، فإن اخترت أن تصير إلي وتستمتع فذلك إليك، وإن اخترت جئت إليك حيث شئت فعلت.. وجبت نفقتها؛ لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فإذا وجد ذلك منها.. فقد وجد منها التمكين منه، فوجب ما في مقابلته، كالبائع إذا سلم المبيع.. وجب على المشتري تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرًا، فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة.. وجبت عليه نفقتها في تلك المدة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب نفقة المدة الماضية، إلا أن يحكم لها الحاكم بها) .
دليلنا: عموم الآيات والأخبار التي ذكرناها في وجوب نفقة الزوجة، ولم يشترط حكم الحاكم.
ولأنه مال يجب للزوجة بدل فيه بالزوجية، فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم، كالمهر.
وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليمًا غير تام، بأن قالت: سلمت نفسي في هذا البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها.. لم تجب لها نفقة؛ لأنه لم يوجد(11/190)
التسليم التام، فهو كما لو قال بائع العبد: أسلمه في هذا الموضع دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها.
فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها، ولا طالب الزوج بها، وسكتا على ذلك حتى مضت على ذلك سنة أو أكثر.. لم تجب لها النفقة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة وهي ابنة سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع» . ولم ينقل عنه: أنه أنفق عليها إلا من حين دخل بها.
وإن عرض الولي الزوجة على الزوج بغير إذنها وهي بالغة عاقلة، فلم يتسلمها الزوج، ومضى على ذلك مدة.. لم يجب على الزوج النفقة؛ لأنه لا ولاية له عليها في المال.
وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة.. نظرت:
فإن غاب عنها بعد أن سلمت نفسها إليه تسليمًا تامًا، وامتنع من تسلمها.. فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها، ولا يسقط ذلك بغيبته.
وإن غاب عنها قبل أن تسلم نفسها إليه، وأرادت تسليم نفسها إليه.. فإنها إذا أتت حاكم بلدها، فقالت: أنا أسلم نفسي إليه، وأخلي بيني وبينه.. فإن حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه.. استدعى الزوج، وعرفه ذلك، فإن سار إليها وتسلمها، أو وكل من يتسلمها فتسلمها الوكيل.. وجبت عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو وكيله.
وإن أمكنه السير، فلم يسر ولا وكيله.. فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد المسير إليها أمكنه ذلك.. فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضي مدة السفر إليها؛ لأنه قد كان يمكنه التسليم، فلم يفعل، فإذا لم يفعل.. صار ممتنعًا من تسلمها، فوجبت عليه النفقة.
وإن لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق.. لم تجب عليه النفقة حتى يمكنه المسير؛ لأنه غير ممتنع من تسلمها.(11/191)
وإن كان الزوج بالغًا والزوجة صغيرة.. نظرت:
فإن كانت مراهقة.. نظرت:
فإن كانت تصلح للاستمتاع.. فإن الذي يجب عليه تسليمها وليها، فإن سلمها الولي تسليمًا تامًا.. وجب على الزوج نفقتها، وإن لم يكن لها ولي، أو كان غائبًا أو امتنع من تسليمها، أو سكت عن تسليمها، فسلمت نفسها إلى الزوج.. وجبت النفقة على الزوج؛ لأن التسليم قد حصل، وإن كان ممن لا يصح تسليمه؛ كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها المشتري بغير إذن البائع، أو أقبضه إياها غلام البائع.. فإن القبض يصح.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن لا تجب النفقة إلا بعد أن يتسلمها، ولا تجب ببذلها؛ لأن بذلها لا حكم له.
وإن كانت صغيرة لا يتأتى جماعها.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب لها النفقة؛ لأن تعذر وطئها عليه ليس بفعلها، فلم تسقط بذلك نفقتها، كما لو مرضت.
والثاني: لا تجب لها النفقة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأن الاستمتاع متعذر عليه، فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت.
وإن كان الزوج طفلًا صغيرًا والزوجة كبيرة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تجب لها النفقة؛ لأن النفقة إنما تجب بالتمكين والتسليم، وإنما يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبي ليس بمتمكن ولا متسلم، فلم تجب لها النفقة، كما لو كان غائبًا.
والثاني: تجب لها النفقة إذا سلمت نفسها، وهو الأصح؛ لأن التمكين والتسليم(11/192)
التام قد وجد منها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت نفقتها، كما لو سلمت نفسها إلى الزوج البالغ، ثم هرب.
وأما إذا كانا صغيرين، فسلمها الولي.. فهل تجب لها النفقة؟ فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه في التي قبلها، إلا أن الأصح هاهنا: أن لا تجب لها النفقة؛ لأن الاستمتاع متعذر من جهتها.
[فرع المرض ونحوه لا يسقط النفقة بعد التسليم]
إذا تسلم الزوج زوجته وهي مريضة، أو تسلمها وهي صحيحة فمرضت عنده، أو تسلمها وهي رتقاء أو قرناء، أو أصابها ذلك بعد أن تسلمها، أو أصاب الزوج مرض أو جنون أو حسيم.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن الاستمتاع بها ممكن مع ذلك.
[فرع وجوب الضرر يمنع الجماع]
] : قال الشافعي: (وإن كان في جماعها شدة ضرر.. منع من جماعها، وأخذ بنفقتها) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان عظيم الخلق، والزوجة نضوة الخلق، وعليها في جماعه ضرر يخاف منه الإفضاء أو المشقة الشديدة، أو كان بفرجها جرح يضر(11/193)
بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه.. لم يجز له وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] . ومن المعروف: أن يمنع من وطئها. فإن اختار طلاقها، فطلقها.. فلا كلام، وإن لم يختر طلاقها.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها محبوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطء.
وإن لم يصدقها الزوج، بل ادعى: أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطء لعظم خلقه.. أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما بحال الجماع من غير حائل، فإن قلن: إنه يلحقها مشقة شديدة، أو يخاف عليها من ذلك.. منع من وطئها، وإن قلن: إنه لا يلحقها مشقة شديدة، ولا يخاف عليها منه.. أمرت بتمكينه من الوطء. وإن ادعت تعذر الوطء بجراح في فرجها.. أمر الحاكم نساء ثقات ينظرن إلى فرجها؛ لأن هذا موضع ضرورة، فجوز النظر إلى العورة لذلك.
واختلف أصحابنا في عدد النساء اللاتي ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن إلى الجرح في فرجها:
فقال أبو إسحاق: تكفي واحدة؛ لأن طريق ذلك الإخبار، والمشقة تلحق بنظر الجماعة منهن، فجاز الاقتصار على واحدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك؛ لأن هذه شهادة ينفرد بها النساء، فلم يقبل فيه أقل من أربع نسوة، كسائر الشهادات.
[فرع التمكين في النكاح الفاسد لا يوجب النفقة]
وإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج، ومكنته من الاستمتاع بها في نكاح فاسد.. لم تجب لها النفقة؛ لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، فلم تستحق ما في مقابلته، كما لا يستحق البائع الثمن في البيع الفاسد.(11/194)
[مسألة تسقط النفقة بالنشوز]
فإن انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير إذنه، أو خرجت من البلد بغير إذنه.. فهي ناشزة، وتسقط بذلك نفقتها، وبه قال كافة أهل العلم، إلا الحكم بن عتيبة؛ فإنه قال: لا تسقط نفقتها بذلك.
دليلنا: أن النفقة تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وقد سقط التمكين من الاستمتاع، فسقطت نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها.
وإن سافرت المرأة بغير إذن زوجها.. سقطت نفقتها؛ لأنها قد منعت استمتاعه بالسفر، وإن سافرت بإذنه.. نظرت:
فإن سافر الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته. وإن سافرت وحدها، فإن كانت في حاجة الزوج.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها سافرت في شغله ومراده، وإن سافرت لحاجة نفسها.. فقد قال الشافعي في (النفقات) : (لها النفقة) . وقال في (النكاح) : (لا نفقة لها) . واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (لها النفقة) أراد: إذا كان الزوج معها.
وحيث قال: (لا نفقة لها) أراد: إذا لم يكن الزوج معها.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا نفقة لها، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنها غير ممكنة من نفسها، فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير إذنه.
والثاني: تجب لها النفقة؛ لأنها سافرت بإذنه، فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت في حاجته.(11/195)
[فرع إحرامها بغير إذن يسقط النفقة]
وإن أحرمت بالحج أو العمرة بغير إذنه.. سقطت نفقتها؛ لأنه إن كان تطوعًا.. فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وإن كان واجبًا عليها.. فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي.
وإن أحرمت بإذنه، وخرج الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته، وإن أحرمت بإذنه، وخرجت وحدها.. ففيه طريقان، مضى ذكرهما في (السفر) .
وإن اعتكفت.. فلا يصح عندنا إلا في المسجد، فإن كان بغير إذن الزوج.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير إذنه، وإن كان بإذن الزوج، فإن كان الزوج معها في المسجد.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته، وإن لم يكن الزوج معها في المسجد.. فعلى الطريقين في (السفر) :
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا نفقة لها، قولًا واحدًا.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
[مسألة صومها بغير إذن الزوج]
وإن صامت المرأة بغير إذن الزوج.. نظرت:
فإن كان تطوعًا.. فللزوج منعها منه، وله إجبارها على الفطر بالأكل والجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه»(11/196)
فإن امتنعت من الوطء ولكنها لم تفارق المنزل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هي ناشزة، فتسقط نفقتها؛ لأنها ممتنعة عليه، ولا فرق بين أن تمتنع عليه بالفراش، أو بمفارقة المنزل.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها؛ لأنها لم تفارق المنزل، فهي غير ناشزة. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطء.. سقطت نفقتها، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطء.
وإن كان الصوم واجبًا.. نظرت:
فإن كان صوم رمضان.. فليس له منعها منه، ولا تسقط نفقتها به؛ لأنه مستحق بالشرع.
وإن كان قضاء رمضان، فإن لم يضق وقت قضائه.. فله منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه، كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه. وإن ضاق وقت قضائه، بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء.. لم يكن له منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط نفقتها منه بذلك؛ لأنه لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان، فصار مستحقًا للصوم، كأيام رمضان.
وإن كان الصوم عن كفارة.. كان للزوج أن يمنعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور.
وإن كان الصوم نذرًا، فإن كان في الذمة.. كان له منعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور، وإن كان متعلقًا بزمان بعينه، فإن كان نذرته بإذن الزوج.. لم يكن له منعها منه؛ لأن زمانه قد استحق عليها صومه بإذن الزوج، وإن دخلت فيه بغير(11/197)
إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها. وإن نذرته بغير إذن الزوج بعد النكاح.. كان للزوج منعها من الدخول فيه؛ لأنها فرطت بإيجابه على نفسها بغير إذنه. وإن نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح.. لم يكن للزوج منعها من الدخول فيه، فإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها؛ لأن زمانه قد استحق صومه قبل عقد النكاح.
وكل موضع قلنا: للزوج منعها من الدخول فيه إذا دخلت فيه بغير إذن الزوج.. فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان، كما قلنا في صوم التطوع.
[فرع منعت نفسها لقضاء الصلوات]
وإن منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها.. لم تسقط نفقتها بذلك؛ لأن وقتها مستحق للصلاة، وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت؛ لأنها قد وجبت في أول وقتها، ولأنه يفوت عليها فضيلة أول الوقت.
وأما قضاء الفائتة: فإن قلنا: إنها تجب على الفور.. لم يكن للزوج منعها منها. وإن قلنا: إنها لا تجب على الفور.. كان للزوج منعها من الدخول فيها.
وأما الصلاة المنذورة: فهي كالصوم المنذور، على ما مضى.
وأما صلاة التطوع: فإن كانت غير راتبة.. كان للزوج منعها منها؛ لأن حق الزوج واجب، فلا تسقطه بما لا يجب عليها، فإن دخلت فيها بغير إذن الزوج.. احتمل أن يكون في سقوط نفقتها في ذلك وجهان، كما قلنا في صوم التطوع، وإن كانت سنة راتبة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها، كما قلنا في الصلوات الخمس.
[مسألة نفقة الزوج الكافر على زوجته المسلمة في عدتها]
إذا أسلمت الزوجة، والزوج كافر، فإن كان قبل الدخول.. فلا نفقة لها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما، وإن كان بعد الدخول.. فإن النكاح موقوف على إسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها؛ لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، وهو(11/198)
امتناعه من الإسلام، ويمكنه تلافي ذلك، فلم تسقط نفقتها، كما لو غاب عن زوجته.
وحكي عن ابن خيران قول آخر: أن نفقتها تسقط؛ لأن الاستمتاع سقط بمعنى من جهتها، فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير إذن الزوج والمشهور: هو الأول؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والإسلام فرض مضيق الوقت.. فلم تسقط به نفقتها، كصوم رمضان.
وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج.. بانت، وسقطت نفقتها.
[فرع نفقة الزوجة الوثنية من زوجها المسلم]
وإن أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية، فإن كان قبل الدخول.. وقعت الفرقة بينهما، ولا نفقة لها، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية؛ وهو إقامتها على الكفر فهي كالناشزة، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فقد بانت باختلاف الدين، ولا نفقة لها، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تجب لها النفقة؛ لأن إسلام الزوج شعث النكاح) . فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها.. زال ذلك التشعث، وصار كما لو لم يتشعث.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب لها النفقة لما مضى من عدتها) . وهو الأصح؛ لأن إقامتها على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز، ثم عادت إلى طاعته.. لم تجب نفقتها مدة إقامتها في النشوز، فكذلك هذا مثله.(11/199)
[فرع ردة أحد الزوجين]
وإن كان الزوجان مسلمين، فارتد الزوج بعد الدخول.. وجبت عليه نفقتها مدة عدتها؛ لأن امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، فلم تسقط نفقتها بذلك، كما لو غاب.
وإن ارتدت الزوجة بعد الدخول.. فأمر النكاح موقوف على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا تجب لها النفقة مدة عدتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية من جهتها، فهو كما لو نشزت، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فلا كلام، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت نفقتها من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الإسلام؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الإسلام، ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها.
ومنهم من قال: لا تجب لها النفقة، قولًا واحدًا؛ لأن في التي قبلها دخلا على الكفر، وإنما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وهاهنا دخلا على الإسلام، وإنما شعثت هي النكاح بردتها فقط، فغلظ عليها.
وإن ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها، فرجعت إلى الإسلام والزوج غائب.. وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الإسلام.
وكذلك: لو أسلم الزوج، والزوجة وثنية أو مجوسية، وتخلفت في الشرك، وكان الزوج غائبًا، فأسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت.
ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب، أو غائب بعد نشوزها، فعادت إلى منزلها.. لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرًا فيتسلمها، أو تجيء إلى الحاكم وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، فيستدعيه المكتوب إليه ويقول: إما أن تسير إليها تتسلمها أو توكل من يتسلمها؛ فإن لم يسر، ولم يوكل من يتسلمها، فإن كان ذلك مع قدرته على ذلك، ومضى زمان يمكنه الوصول إليها.. وجبت نفقتها من حينئذ.(11/200)
والفرق بينهما: أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز؛ لخروجها عن قبضته، فلا ترجع نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وذلك لا يحصل إلا بتسلمه لها، أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها إنما سقطت بالردة أو بالإقامة على الشرك، فإذا أسلمت.. زال المعنى الذي أوجب سقوطها، فزال سقوطها.
[فرع دفع نفقة وثنية ثم أسلم]
وإن دفع الوثني إلى امرأته الوثنية، أو المجوسي إلى امرأته المجوسية نفقة شهر بعد الدخول، ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها، وأراد الرجوع بما دفع إليها من النفقة.. نظرت:
فإن دفعه إليها مطلقًا.. قال الشافعي: (لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها) . وإن قال: هذه نفقة مدة مستقبلة.. كان له الرجوع فيها؛ لأنه بان أنها لا تستحق عليه نفقة.
وقال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأنه جعله تطوعًا مع الإطلاق.
قال: فإن قيل: يحتمل أن يريد أنه أباحه.. فليس بصحيح؛ لأنه لو كان أباحه لشرط أن تكون قد أتلفته حتى يسقط حقه منها.
[مسألة زمن استمتاع زوج الأمة ونفقتها فيه]
وإذا زوج الرجل أمته.. فليس عليه أن يرسلها مع زوجها ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه أن يرسلها معه بالليل دون النهار؛ لأن السيد يملك على أمته الاستخدام والاستمتاع، بدليل: أنه يجوز له العقد على كل واحد منهما. فإذا عقد على أحدهما.. بقي الآخر على ملكه، كما لو أجرها، فإن له أن يستمتع بها في غير وقت الخدمة.
فإن قيل: فما الفرق بينها وبين الحرة، حيث قلنا: لا يجوز أن تعقد الإجارة على نفسها بعد النكاح وإن كان عقد النكاح عليها إنما وقع على الاستمتاع دون الاستخدام؟(11/201)
قلنا: الفرق بينهما: أن الحرة لا يملك عليها أحد الاستخدام قبل النكاح، فإذا عقد عليها النكاح.. ملك الزوج عليها الاستمتاع المطلق في كل وقت، بخلاف الأمة.
فإن اختار السيد إرسالها لزوجها ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها؛ لأنه قد حصل له الاستمتاع التام. وتعتبر نفقتها بحاله لا بحالها؛ فيجب عليه نفقة الموسر إن كان موسرًا، أو نفقة المعسر إن كان معسرًا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس عليه أن يخدمها؛ لأن الأمة في العرف والعادة تخدم نفسها، فهي كالحرة التي تخدم نفسها) .
قال الشيخ أبو حامد: إنما قال الشافعي هذا في العرف والعادة التي كانت في وقته، وأما اليوم: فإن الأمة تخدم؛ لأن الرجل إذا تسرى أمة.. أخدمها.
وإن سلمها السيد بالليل دون النهار.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب عليه نصف نفقتها؛ لأنه لو سلمها إليه ليلًا ونهارًا.. لوجبت عليه جميع نفقتها، فإذا سلمها ليلًا دون النهار.. وجب عليه نصف النفقة.
و [الثاني]-[وهو] المذهب -: أنه لا يجب عليه شيء من نفقتها؛ لأنه لم يتسلمها تسليمًا تامًا، فهو كما لو سلمت الحرة نفسها بالليل دون النهار، أو في بيت دون بيت. هذا نقل البغداديين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجهًا ثالثًا: أنه يجب على الزوج جميع نفقتها. ولا وجه له.
وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.(11/202)
[مسألة باب قدر نفقة الزوجات]
باب قدر نفقة الزوجات
نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة؛ فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، وهي مقدرة غير معتبرة بكفايتها.
وقال مالك: (نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت ضعيفة الأكل.. فلها قدر ما تأكل، وإن كانت أكولة.. فلها ما يكفيها) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت معسرة.. فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة، وإن كانت موسرة.. فمن سبعة دراهم إلى ثمانية) .
قال أصحابه: إنما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، وأما في وقتنا: فيزداد على ذلك. ويعتبرون كفايتها كقول مالك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، وأراد: أن الغني ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله.
ولقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وأراد:(11/203)
المعروف عند الناس، والعرف والعادة عند الناس: أن نفقة الغني والفقير تختلف.
ولأنا لو قلنا: إن نفقتها معتبرة بكفايتها.. لأدى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها، فكانت مقدرة، كدية الجنين؛ قدرت لهذا المعنى.
وأما خبر هند: فهو حجة لنا؛ لأنه قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره. ولم يقل: خذي ما يكفيك ويطلق، على أنا نحمله على أنه علم من حالها أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر، وكان أبو سفيان موسرًا.
إذا ثبت هذا: فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرًا، وهو: الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه.. وجب لها كل يوم مدان، وإن كان معسرًا؛ وهو: الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه.. وجب عليه كل يوم مد، وهو: رطل وثلث؛ لأن أكثر ما أوجب الله تعالى في الكفارات للواحد مدان وهو في كفارة الأذى، وأقل ما أوجب الله تعالى للواحد في الكفارة مد.. فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة؛ لأن الله تعالى شبه الكفارة بنفقة الأهل في الجنس بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فاعتبرنا الأكثر والأقل بالواجب للواحد في الكفارة.
وأما المتوسط: فإنه يجب عليه كل يوم مد ونصف مد؛ لأنه أعلى حالًا من المعسر، وأدنى حالًا من الموسر، فوجب عليه من نفقة كل واحد منهما نصفها.
[فرع وجوب نفقة الزوجة على القن]
وإن كان الزوج عبدًا، أو مكاتبًا، أو مدبرًا، أو معتقًا بصفة.. وجبت عليه نفقة زوجته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وهذا مولود(11/204)
له، ولا يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر.
وإن كان نصفه حرًا ونصفه مملوكًا وله زوجة، فإن كان معسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر؛ لأنهما استويا في الإعسار، وانفرد بنقص الرق، وإن كان موسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر.
وقال المزني: يجب عليه نصف نفقة المعسر؛ لما فيه من الرق، ونصف نفقة الموسر؛ لما فيه من الحرية، فيجب عليه مد ونصف.
والمذهب الأول؛ لأن أحكامه أحكام العبد في الطلاق وعدد المنكوحات، فكان حكمه حكم العبد في النفقة.
[مسألة النفقة من قوت البلد]
] : ويجب عليه أن يدفع إليها من غالب قوت البلد، فإن كان ببغداد أو بخراسان.. فمن البر، وإن كان بطبرستان.. فمن الأرز، وإن كان بالمدينة وما حواليها.. فمن التمر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، والمعروف عند الناس: غالب قوت البلد. ولأنه طعام يجب على وجه الاتساع والكفاية، فوجب من غالب قوت البلد، كالكفارة.
ويجب أن يدفع إليها الحب، فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لم يجز. وذكر صاحب " التهذيب ": أنه يجوز، وجهًا واحدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، فجعل الكفارة فرعًا للنفقة ومحمولًا عليها، فلما كان في الكفارة الواجب هو الحب نفسه، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق والخبز.. فكذلك النفقة.
وإن أعطاها قيمة الحب.. لم تجبر على قبولها؛ لأن الواجب لها هو الحب، فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض.
وإن سألته أن يعطيها قيمته.. لم يجبر الزوج على دفع القيمة؛ لأن الواجب عليه(11/205)
هو الحب، فلا يجبر على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يصح أخذ العوض عنه، كالكفارة.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه طعام وجب على وجه الرفق، فصح أخذ العوض عنه، كالقرض.
قال الصيمري، والمسعودي [في " الإبانة "] : وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه حتى يكون مهيأ؛ لأنه هو العرف.
[مسألة ما تستحقه الزوجة من أدم]
قال الشافعي: (ومكيله من أدم بلادها زيتًا أو سمنًا) .
وجملة ذلك: أنه يجب للزوجة الأدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ومن المعروف: أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم.
وروى عكرمة: أن امرأة سألت ابن عباس، وقالت له: ما الذي لي من مال زوجي؟ فقال: (الخبز والأدم، قالت: أفآخذ من دراهمه شيئًا؟ فقال: أتحبين أن يأخذ من حيلك فيتصدق به؟ قالت: لا، فقال: فكذلك لا تأخذي من دراهمه شيئًا بغير إذنه) .
ويرجع في قدره وجنسه إلى العرف، فيجب في كل بلد من غالب أدمها.
قال أصحابنا: فإن كان بالشام.. فالأدم الزيت، وإن كان بالعراق.. فالشيرج، وإن كان بخراسان.. فالسمن.
وإنما أوجب الشافعي الأدهان من بين سائر الآدام؛ لأنها أصلح للأبدان، وأخف مؤنة؛ لأنه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ.(11/206)
ويرجع في قدره إلى العرف: فإن كان العرف أنه يؤتدم به على المد أوقية دهن.. وجب لامرأة الموسر كل يوم أوقيتا دهن، ولامرأة المعسر أوقية، ولامرأة المتوسط أوقية ونصف؛ لأنه ليس للأدم أصل يرجع إليه في تقديره، فرجع في تقديره إلى العرف، بخلاف النفقة.
وعندي: أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهلها اللبن، كأهل اليمن.. فإنه يجب أدمها من اللبن.
[فرع من النفقة إطعام اللحم]
قال الشافعي: (وقيل: وفي كل جمعة رطل لحم، وذلك العرف لمثلها) .
وجملة ذلك: أنها إذا كانت في بلد يأتدم أهلها اللحم.. فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في كل جمعة لحمًا؛ لأن العرف والعادة: أن الناس يطبخون اللحم في كل جمعة.
قال أصحابنا: وإنما فرض لها الشافعي في كل جمعة رطل لحم؛ لأنه كان بمصر، واللحم فيها يقل، فأما إذا كانت بموضع يكثر فيه اللحم: فإن الحاكم يفرض لها على ما يراه من رطلين أو أكثر، وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر: فيجب لها من ذلك ضعف ما يجب لامرأة المعسر.
[مسألة من النفقة وسائل الزينة]
ويجب لها ما تحتاج إليه من الدهن والمشط؛ لأن ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها، فوجب عليه كنفقة بدنها، ولأن فيه تنظيفًا، فوجب عليه كما يجب على المكتري كنس الدار المستأجرة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويجب عليه ما تحتاج إليه من السدر وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام؛ لما ذكرناه في الدهن والمشط.(11/207)
قال: وأما الخضاب: فإن لم يطلبه الزوج منها.. لم يلزمه، وإن طلبه منها.. لزمه ثمنه. وأما الطيب: فإن كان يراد لقطع السهوكة.. لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع.. لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يلزمه.
ولا يلزمه أجرة الحجامة والفصاد، ولا ثمن الأدوية، ولا أجرة الطبيب إن احتاجت إليه؛ لأن ذلك يراد لحفظ بدنها لعارض، فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار المستأجرة، وفيه احتراز من النفقة والكسوة؛ فإن ذلك يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام.
[مسألة من النفقة الكسوة]
قال الشافعي: (وفرض لها ما يكتسي مثلها في بلدها) .
وجملة ذلك: أن كسوة الزوجة تجب على الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . ولأن الكسوة يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على الزوج، كالنفقة.
إذا ثبت هذا: فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها إلى العرف والعادة؛ لأن الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل ترد إليه، فرجع في عددها وقدرها إلى العرف والعادة، بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلًا، وهو الإطعام في الكفارة، فردت النفقة إليها.
فإن قيل: قد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة، فهلا ردت كسوة الزوجة إلى ذلك؟(11/208)
فالجواب: أن الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليها اسم الكسوة، وأجمعت الأمة على: أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم الكسوة، فإذا منع الإجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة.. فلم يبق هناك أصل ترد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف.
وأما عدد الكسوة: فقال الشافعي: (فيجب للمرأة قميص، وسراويل، وخمار أو مقنعة) . قال أصحابنا: ويجب لها شيء تلبسه في رجليها من نعل أو شمشك.
وأما قدرها فإنه يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها أو قصرها؛ لأن عليه كفايتها في الكسوة، ولا تحصل كفايتها إلا بقدرها.
وأما جنسها: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (أجعل لامرأة الموسر من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري والكوفي) .
قال الشيخ أبو حامد: إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل زمانه؛ لأن العرف في وقته على ما ذكر، فأما في وقتنا: فإن الأمر قد اتسع، والعرف والعادة: أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت عادة نساء بلدها بلبسه، وإن كان في الشتاء.. أضاف إلى ذلك جبة محشوة تدفأ بها.
وعندي: أنها إذا كانت في بلد يكتفي نساء بلدها بلبس الثوب الواحد، كالبلاد التي تلبس نساؤهم الأتاحم والثياب المصبغة.. وجبت كسوتها من ذلك، ويجب لها معه نطاق وخمار، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما.
وإن كانت في بلد لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد.. لم يجب لها الجبة المحشوة للشتاء؛ لأن ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها، فلم يجب لها أكثر منه.
وكذلك: إن كانت في بلد يلبس غالب نسائهم الأدم.. لم يجب عليه أن(11/209)
يكسوها إلا الأدم؛ لأن ذلك عرف بلادهم؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وإن كانت بدوية.. فمما يأكل أهل البادية، ومن الكسوة بقدر ما يكتسون، لا وقت في ذلك إلا قدر ما يرى في العرف) .
[مسألة ما يلزم الزوجة من الفرش ونحوه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة) .
وجملة ذلك: أنه يجب لها عليه فراش؛ لأنها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة، فيجب لامرأة الموسر مضربة محشوة بالقطن ووسادة.
وإن كان في الشتاء.. وجب لها لحاف أو قطيفة للدفء.
وإن كان في الصيف.. وجب لها ملحفة، وهل يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه؛ لأنها تكتفي بذلك.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه، وذلك لبد أو كساء أو زلية أو حصير؛ لأن العرف في امرأة الموسر، أنها تقعد بالنهار على غير الفراش الذي تنام عليه.
[مسألة من النفقة المسكن]
ويجب لها مسكن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعروف: أن يسكنها بمسكن. ولأنها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند التصرف(11/210)
والاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد، فوجب عليه كالكسوة. ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه.
[مسألة من النفقة إخدام من تخدم]
فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها؛ لمرض بها، أو كانت من ذوي الأقدار، قال ابن الصباغ: فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها.. وجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها.
وقال داود: (لا يجب عليه لها خادم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعاشرة بالمعروف: أن يقيم لها من يخدمها. ولأن الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة.. وجب عليه إخدامها، كالأب لما وجب عليه نفقة الابن.. وجب عليه أجرة من يخدمه، وهو من يحضنه.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج إلى أكثر من خادم.. وجب عليه لها ذلك) .
ودليلنا: أن الزوج إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها خادم واحد، فلم يجب لها أكثر منه.
[فرع خادم المرأة امرأة أو محرم]
ولا يكون الخادم لها إلا امرأة، أو رجلًا من ذوي محارمها؛ لأنها تحتاج إلى نظر الخادم، وقد يخلو بها، فلم يجز أن يكون رجلًا أجنبيًا، وهل تجبر المرأة على أن يكون من اليهود أو النصارى؟ فيه وجهان:(11/211)
أحدهما: تجبر على خدمتهم؛ لأنهم يصلحون للخدمة.
والثاني: لا تجبر على خدمتهم؛ لأن النفس تعاف من استخدامهم.
فإن أخدمها خادمًا يملكه، أو اكترى لها من يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا على: أن يخدمها وينفق عليه، أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك.. جاز؛ لأن المقصود خدمتها، وذلك يحصل بجميع ذلك.
وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادمًا، واختارت المرأة أن يقيم لها خادمًا غيره.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: يقدم اختيار الزوجة؛ لأن الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها.
والثاني: يقدم اختيار الزوج؛ لأن الخدمة حق عليه لها، فقدمت جهة اختياره، كالنفقة، ولأنه قد يتهم من تختاره الزوجة، فقدم اختيار الزوج.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان لها خادم، وأراد الزوج إبداله بغيره؛ فإن كان بالخادم عيب أو كان سارقًا.. فله ذلك، وإلا.. فلا.
وإن أراد الزوج أن يخدمها بنفسه، وامتنعت من ذلك.. فهل تجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجبر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد؛ لأن المقصود إخدامها، فكان له إخدامها بغيره أو بنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها النفقة بوكيله أو بنفسه.
والثاني: لا تجبر على قبول خدمته؛ لأنها تحتشم أن تستخدمه في جميع حوائجها، ولأن عليها عارًا في ذلك وغضاضة، فلم تجبر عليه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كانت خدمة مما لا تحتشم منه في مثلها،(11/212)
مثل: كنس البيت، والطبخ، ونحوه.. أجبرت على قبول ذلك منه، وإن كانت خدمة تحتشم منه في مثلها، كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوها.. لم تجبر على قبول ذلك منه، بل يجب عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها.
[فرع نفقة خادم المرأة]
] : وأما نفقة من يخدمها: فإن أخدمها بمملوك له.. فعليه نفقة مملوكه وكسوته على الكفاية، لحق الملك لا لخدمتها.
وإن استأجرت من يخدمها.. فله أن يستأجره بالقليل والكثير.
وإن وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض.. جاز؛ لأن حقها الخدمة، وقد حصل ذلك.
وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها.. وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة، وقد أوهم المزني أن في وجوب نفقة خادمها قولين. قال أصحابنا: وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث، ولخادم امرأة المتوسط كل يوم مد؛ لأن العرف: أن نفقة خادم امرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر: فيجب له كل يوم مد؛ لأن البدن لا يقوم بما دون ذلك، ويجب ذلك من غالب قوت البلد؛ لأن البدن لا يقوم بغير قوت البلد، ويجب له الأدم؛ لأن العرف: أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون من مثل أدمها؟ فيه وجهان:(11/213)
أحدهما: أنه يجب من مثل أدمها، كما يجب الطعام من مثل طعامها.
والثاني: لا يجب له من مثل أدمها؛ لأن العرف: أن أدم الخادم دون أدم المخدوم، فلم يسو بينهما كما لا يساوى بينهما في قدر النفقة.
فعلى هذا: يكون أدمها من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من الزيت الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد؛ لأن البدن لا يقوم به، وهل يجب لخادمها اللحم؟
إن قلنا: يجب له الأدم من مثل إدامها.. وجب له اللحم.
وإن قلنا: لا يجب له من مثل أدمها، وإنما يجب له دون أدمها.. لم يجب له اللحم؛ لأنه أعلى الإدام، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم»
ولا يجب له الدهن والمشط والسدر؛ لأن ذلك يراد للزينة، والخادم لا يراد للزينة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف) . وإنما لم يوجب له السراويل؛ لأن السراويل تراد للزينة وستر العورة، والخادم ليس في موضع الزينة، وعورة الأمة دون عورة الحرة. وأوجب لها الخف؛ لأنها تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات.
وإن كان في الشتاء.. وجبت له جبة صوف أو كساء؛ ليدفأ به من البرد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولخادمها فروة، ووسادة، وما أشبههما، من عباءة، أو كساء) .
قال أصحابنا: أما الفراش: فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة.
ويجب لخادم امرأة الموسر كساء، ولخادم امرأة المعسر عباءة؛ لأن ذلك هو العرف في حقهم.
وإن مات خادمها.. فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان، كما قلنا في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها.(11/214)
وإن خدمت المرأة نفسها.. لم تجب لها أجرة؛ لأن المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسها.. لم تستحق الأجرة، كالعامل في القراض إذا تولى من العمل ماله أن يستأجره عليه من مال القراض.
[فرع خدمة من لا تخدم]
] : فإن كانت ممن لا يخدم، بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها، وهي صحيحة تقدر على خدمة نفسها.. لم يجب على الزوج أن يقيم لها خادمًا؛ لأن العرف في حقها: أن تخدم نفسها.
[مسألة وقت وجوب نفقة الزوجة]
ومتى تجب نفقة الزوجة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تجب جميعها بالعقد، ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه مال يجب للزوجة بالزوجية، فوجب بالعقد، كالمهر، ولأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد.. وجب أن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته، وهو النفقة، كالثمن والمثمن.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب بالعقد، وإنما تجب يومًا بيوم) ، وهو الأصح؛ لأنها لو وجبت بالعقد.. لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر تسليم جميع الأجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها.. ثبت أن الجميع لم يجب.
وقول الأول: (إنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع) غير صحيح، وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع.
فإذا قلنا بقوله القديم.. صح أن يضمن عن الزوج نفقة زمان مستقبل، ولكن(11/215)
لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان موسرًا؛ لأن ذلك هو الواجب عليه بيقين.
وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح أن يضمن عليه إلا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر.
وأما وجوب التسليم: فلا خلاف أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم؛ لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وذلك لا يوجد إلا بوجود التمكين في اليوم.
فإذا جاء أول اليوم، وهي ممكنة له من نفسها.. وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله؛ لأن الذي يجب لها هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز، ويحتاج إلى الغداء والعشاء، فلو قلنا: لا يجب عليه تسليم ذلك إلا في وقت الغداء والعشاء.. أضر بها الجوع إلى وقت فراغه.
قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزًا فارغًا، فأخذته وأكلته.. كان ذلك قبضًا فاسدًا؛ لأن الذي تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب، وله مطالبتها بقيمة الخبز.
[فرع ما دفع لها نفقة لا يسترجع]
فإن دفع إليها نفقة يوم، ثم مات أحدهما، أو بانت منه بالطلاق قبل انقضاء اليوم.. لم يسترجع منها؛ لأنه دفع إليها ما وجب لها عليه، فلم يتغير بما طرأ بعده، كما لو دفع الزكاة إلى فقير، فمات أو استغنى.
وإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل، فمات أحدهما، أو بانت منه في أثناء الشهر.. استرجع منها نفقة ما بعد اليوم الذي مات أحدهما فيه أو بانت فيه، وبه قال أحمد، ومحمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يسترجع منها؛ لأنها ملكته بالقبض) .
ودليلنا: أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه لم يجب لها شيء.. استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير، فاستغنى الفقير من غير ما دفع إليه أو مات.(11/216)
[فرع دفع الكسوة فتلفت]
] : وإن دفع إليها الكسوة، أو النعل، أو الشمشك، فبليت.. نظرت:
فإن بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها.. لزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأن ذلك وقت الحاجة إليه.
وإن بليت قبل الوقت الذي يبلى فيه مثلها، مثل: أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر أو دونها.. لم يلزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأنه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا بلي قبل ذلك.. لم يلزمه إبداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها نفقة يوم، فأكلتها قبل اليوم.
وإن مضى الزمان الذي تبلى مثل تلك الكسوة في مثل ذلك الزمان بالاستعمال المعتاد، ولم تبل تلك الكسوة، بل يمكن لباسها.. فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة.
والثاني: يلزمه أن يكسوها. قال الشيخان: وهو الأصح؛ لأن الاعتبار في الكسوة بالمدة لا بالبلى، ألا ترى أن كسوتها إذا بليت قبل وقت بلائها.. لم يلزمه إبدالها؟! فإذا بقيت بعد وقت بلائها.. لزمه إبدالها. ولأنه لو دفع إليها نفقة يوم، فلم تأكلها حتى جاء اليوم الثاني.. لزمه النفقة لليوم الثاني وإن كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الأول، فكذلك في الكسوة مثله.
وإن دفع إليها كسوة مدة، فمات أحدهما، أو بانت منه قبل انقضائها، والكسوة لم تبل.. فهل تسترجع من وارثها، أو منها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة شهر، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه.. فإنه يسترجع منها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة.
والثاني: لا تسترجع؛ لأنه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه، فلم تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة يوم، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا(11/217)
دفع إليها نفقة الشهر.. فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة، فلذلك استرجعت منها.
[فرع أخذت الكسوة وأرادت بيعها]
قال ابن الحداد: إذا دفع إلى امرأته كسوة، فأرادت بيعها.. لم يكن لها ذلك؛ لأنها لا تملكها، ألا ترى أن له أن يأخذها منها ويبدلها بغيرها؟ ولو دفع إليها طعامًا، فباعته.. كان لها ذلك، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من وافق ابن الحداد، وقال: لا يصح لها بيع ما يدفع إليها من الكسوة؛ لأنها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة، وهو استتارها بها، فلا تملكها بالقبض، كالمسكن.
وإن أتلفت كسوتها.. لزمها قيمتها له، ولزمه أن يكسوها.
ومنهم من خطأ ابن الحداد، وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها، ويصح بيعها لها؛ لأنه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها.. ملكتها وصح بيعها لها، كالنفقة، ويخالف المسكن، فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن، وإنما له أن يسكن معها.
وقال أبو الحسن الماوردي: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال.. لم يجز؛ لأن للزوج حظًا في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت بيعها بمثلها أو أعلى منها.. كان لها ذلك؛ لأنها ملكتها، ولا ضرر على الزوج في ذلك.
قال ابن الصباغ: وعندي: أنه لو أراد أن يكتري لها ثيابًا تلبسها.. لم يلزمها أن تجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكتري لها مسكنًا.. لزمها الإجابة إلى ذلك. هذا نقل أصحابنا البغداديين: أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة، ولم يذكر أحد منهم: أنه يجب عليه أن يملكها ذلك.
وأما المسعودي: فقال [في " الإبانة "] : يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها الخبز.. فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر: أنه لا يصح؛ لأنه إبدال قبل القبض، وأيضًا فإنه بيع الحب بالخبز، وذلك ربًا.(11/218)
وأما الكسوة: فتجب عليه على طريق الكفاية، ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت أو احترقت في الحال وجب عليه الإبدال.
وفيه وجه آخر: أنه يجب عليه التمليك؛ تخريجًا من النفقة.
[فرع أرادت تغيير صنف النفقة]
وإن دفع إليها نفقتها، وأرادت بيعها أو إبدالها بغيرها.. لم تمنع منها.
ومن أصحابنا من قال: إن أرادت إبدالها بما تستضر بأكله.. كان للزوج منعها؛ لأن عليه ضررًا في الاستمتاع؛ لمرضها.
والمذهب الأول؛ لأن الضرر بأكلها لغيرها لا يتحقق، فإن تحقق الضرر بذلك.. منعت منه؛ لئلا تقتل نفسها، كما لو أرادت قتل نفسها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس على الزوج أن يضحي عن امرأته؛ لأنه لا يجب عليه أن يضحي عن نفسه، فلأن لا يجب عليه أن يضحي عنها أولى) .
والله أعلم.(11/219)
[باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها]
إذا كان الزوج موسرًا، فصار معسرًا.. فإنه ينفق على زوجته نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن بدنها يقوم بنفقة المعسر.
وإن أعسر بنفقة المعسر.. كانت بالخيار: بين أن تصبر، وبين أن تفسخ النكاح، وبه قال عمر، وعلي، وأبو هريرة، وابن المسيب، والحسن البصري،(11/220)
وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، وأحمد.
وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يثبت لها الفسخ، بل يرفع يده عنها لتكتسب) . وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولًا آخر لنا، وليس بمشهور.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله تعالى الزوج بين الإمساك بالمعروف - وهو: أن يمسكها وينفق عليها - وبين التسريح بإحسان، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف. تعين عليه التسريح.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أعسر الزوج بنفقة زوجته.. يفرق بينهما» . ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع. ولأنه إذا ثبت الخيار في فسخ النكاح لامرأة العنين والمجبوب، والذي يدخل عليها من الضرر بذلك: هو فقد اللذة بالاستمتاع، ونفسها تقوم مع فقده.. فلأن يثبت لها الفسخ لفقد النفقة - ونفسها لا تقوم مع فقدها - أولى.
وإن أعسر بالأدم.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخبز بلا أدم يضر بها، ولا تصبر عليه.
والثاني - ولم يذكر الشيخان غيره -: أنه لا يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم بالطعام من غير أدم.
وإن أعسر بالكسوة.. ثبت لها الخيار؛ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة، كما لا يقوم بغير القوت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.(11/221)
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : من أصحابنا من قال: هو كالطعام على قولين. ومنهم من قال: لا يثبت لها الخيار، قولًا واحدًا.
وإن أعسر بنفقة الخادم.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم من غير خادم.
وإن أعسر بالسكنى.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق.
أحدهما: يثبت لها الخيار، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه يقيها من الحر والبرد، فهو كالكسوة، ولأن البدن لا يقوم إلا به، فهو كالقوت.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها لا تعدم موضعًا تسكن فيه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المسكن على طريقين، كالكسوة.
[مسألة وجود نفقة يوم بيوم لا يثبت لها خيار الفسخ]
وإن كان لا يجد إلا نفقة يوم بيوم.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ؛ لأنه قادر على الواجب عليه.
وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها، ويجد في آخره ما يعيشها.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يثبت لها الفسخ؛ لأن نفقة اليوم لا تتبعض.
والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها تصل إلى كفايتها.
وإن كان يجد نفقة يوم، ولا يجد نفقة يوم.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها لا يمكنها الصبر على ذلك، فهو كما لو لم يجد كل يوم إلا نصف مد.
[فرع يعمل في الأسبوع ما يكفيه ويستقرض]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن كان نساجًا ينسج في كل أسبوع ثوبًا تكفيه أجرته إلى الأسبوع.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يستقرض لهذه الأيام ما يقضيه، فلا تنقطع به النفقة.(11/222)
وإن كانت نفقته بالعمل، فعجز عنه بمرض، فإن كان مرضًا يرجى زواله باليوم واليومين والثلاثة.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يقترض نفقة هذه الأيام، وإن كان زمانه يطول.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه يلحقها الضرر.
قال: وإن كان له مال غائب، فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. لم يجز لها الفسخ، وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة.. ثبت لها الفسخ؛ لما ذكرناه في المرض.
وإن كان له دين على موسر.. لم يثبت لها الفسخ، وإن كان على معسر.. ثبت لها الفسخ؛ لأن يسار الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسر النفقة وإعسارها.
[فرع علمها بإعساره في النفقة لا يمنعها من الفسخ]
] : فإن علمت المرأة بإعسار الزوج بالنفقة، فتزوجته.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يتغير حاله.. لم يلزمها حكم علمها به.
وإن تزوجته على علم منها بإعساره بالمهر.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت لها الفسخ، كالنفقة.
والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها رضيت بتأخيره؛ لأنه معسر به، بخلاف النفقة؛ فإنها تجب بعد العقد.(11/223)
[مسألة منع الموسر النفقة]
وإن كان الزوج موسرًا حاضرًا، فطالبته بنفقتها، فمنعها إياها.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم.
وفيه وجه آخر حكاه المسعودي [في " الإبانة "] : أنه يثبت لها الفسخ؛ لأن الضرر يلحقها بمنعه النفقة، فهو كالمعسر. وليس بشيء؛ لأن العسرة عيب.
فإن غاب عنها الزوج، وانقطع خبره، ولا مال له ينفق عليها منه.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت لها الفسخ، وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ؛ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يثبت بالإعسار بالنفقة، ولم يثبت إعساره.
[مسألة ثبوت الإعسار يجعلها في خيار]
وإذا ثبت إعسار الزوج.. خيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح، وبين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع به، ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من النفقة والأدم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن تقيم على النكاح، ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله؛ لأن التمكين إنما يجب عليها ببذل النفقة ولا نفقة هناك.
ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت انفرادها عنه؛ لأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، ولا تمكين منها له.(11/224)
وإن اختارت المقام معه، ثم عن لها أن تفسخ النكاح.. كان لها ذلك؛ لأن وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بعد ساعة ويومًا بيوم.
فإذا عفت عن الفسخ لوجوب نفقة وقتها، ورضيت به.. تجدد لها الوجوب فيما بعده، فثبت لها الفسخ، بخلاف الصداق إذا أعسر به، فرضيت بالمقام معه.. فإن خيارها يسقط؛ لأنه يجب دفعة واحدة، ولا يتجدد وجوبه.
وإن اختارت الفسخ.. قال الطبري في " العدة ": ففيه قولان:
أحدهما - قال: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الأمر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق أو يطلق عليه؛ لأنه موضع اجتهاد واختلاف، فكان إلى الحاكم، كالفسخ بالعنة.
والثاني: أنها تفسخ بنفسها، كالمعتقة تحت عبد. وهل يؤجل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يؤجل؛ لأن الفسخ للإعسار، وقد وجد الإعسار، فثبت الفسخ في الحال، كالعيب في الزوجين.
والثاني: يؤجل ثلاثة أيام؛ لأن المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود، والثلاث في حد القلة، فوجب إنظاره ثلاثًا، ولكن لا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله؛ لأنه لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
فإذا قلنا بهذا: فوجد في اليوم الثالث نفقتها، وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع.. فهل يجب أن يستأنف له إمهال ثلاثة أيام أخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب؛ لأن العجز الأول ارتفع.
والثاني: لا يجب لها؛ لأنها تتضرر بذلك.
[فرع إعسار زوج الصغيرة والمجنونة]
وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة، فأعسر زوجها بالنفقة.. لم يكن لوليها أن يفسخ النكاح؛ لأن ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولي لا ينوب عنها في ذلك.
وإن زوج الرجل أمته من رجل، فأعسر الزوج بنفقتها، فإن كانت الأمة معتوهة أو(11/225)
مجنونة.. قال ابن الحداد: فلا يثبت للسيد فسخ النكاح؛ لأن الخيار إليها، وليست من أهل الخيار، فلا ينوب عنها السيد في الفسخ، كما لو عن الزوج عنها، ويلزم السيد أن ينفق عليها إن كان موسرًا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر.. قال القاضي أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها، فإذا قبضتها.. أخذها السيد منها؛ لأنها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق السيد عليها.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الأمة إذا كانت لا تملك العين.. فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد. وله المطالبة به دونها.
وأما إذا كانت الأمة عاقلة، وأعسر زوجها بنفقتها.. لم يكن للمولى فسخ النكاح، وإنما الفسخ لها، فإن فسخت النكاح.. فلا كلام، وعادت نفقتها على سيدها، وإن لم تختر الفسخ.. ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: تكون نفقتها على سيدها إلى أن يوسر زوجها، كالمعتوهة.
والثاني: لا تجب نفقتها على السيد، بل يقال لها: إن اخترت النفقة من جهة السيد.. فافسخي النكاح؛ لأنه يمكنها فسخ النكاح، وتخالف المعتوهة، فإنه لا يمكنها فسخ النكاح.
[فرع ثبوت النفقة لما مضى من زمن الإعسار]
نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة الزوج من نفسها زمانًا، ولم ينفق عليها.. وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (تسقط عنه، إلا أن يفرضها الحاكم) .
دليلنا: أنه حق يجب مع اليسار والإعسار، فلا يسقط بمضي الزمان، كالدين، وفيه احتراز من نفقة الأقارب.
فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ جعل ليرجع إليها ما في مقابلة النفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد مضى، فلو(11/226)
فسخت النكاح لأجلها.. لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس المشتري والمبيع تالف.. فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع، ولو أبرأت الزوج عنها.. صحت براءتها؛ لأنه دين معلوم، فصحت البراءة منه، كسائر الديون.
[فرع مقاصة المرأة بدينها عن نفقة المعسر]
وإذا كان له دين في ذمة امرأته من جنس النفقة، واستحقت النفقة أو الكسوة عليه، وأراد أن يقاصها في ذلك.. نظرت:
فإن كانت موسرة.. كان له ذلك؛ لأن عليها قضاء دينها؛ ليسارها ومطالبته إياها، فيكون كالمال الذي في يده، وله التحكم في جعل النفقة فيه.
وإن كانت معسرة.. لم يكن له ذلك؛ لأن من عليه دين لإنسان.. يلزمه قضاؤه من الفاضل عن قوت يومه وليلته، وفي المقاصة بذلك في حال إعسارها التزام قضاء الدين من القوت، فلم يكن له ذلك.
[مسألة اختلاف الزوجين في دفع النفقة]
إذا تزوج الرجل امرأة، ومكنته من نفسها زمانًا، ثم اختلفا في النفقة، فادعى الزوج: أنه قد أنفق عليها، وقالت: لم ينفق علي، ولا بينة للزوج.. فالقول قول الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال مالك: (إن كان الزوج غائبًا عنها.. فالقول قولها، وإن كان حاضرًا معها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أنها لا تسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة) . وهكذا قال في (الصداق) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والزوجة تنكر القبض، فكان القول قولها مع يمينها.
ولأنهما زوجان اختلف في قبض النفقة، فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب.(11/227)
وإن سلمت نفسها إليه زمانا، ولم ينفق عليها فيه، أو أنفق عليها فيه نفقة معسر، وادعت: أنه كان موسرًا فيه، وادعى: أنه كان معسرًا، ولا بينة لها على يساره ذلك الوقت، فإن عرف له مال قبل ذلك.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل بقاء المال، وإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم اليسار.
[فرع اختلاف الأمة المزوجة والزوج في الصداق]
وإن زوج الرجل أمته من رجل، واختلف الزوج والأمة في الصداق.. فلا يصح اختلافهما فيه؛ لأن الصداق للسيد، فإن اعترف السيد: أنه قبضه منه.. قبل إقراره.
وإن اختلف الزوج والأمة في تسليم نفقتها إليها، وأنكرته، ولا بينة له.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن النفقة حق لها يتعلق بالنكاح، فكان المرجع فيه إليها، كالمطالبة بالعنة والإيلاء.
وإن صدقة السيد أنه قد سلم إليها نفقة مدة ماضية.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل إقرار السيد عليها، وإنما يكون شاهدًا للزوج؛ لأن هذا إقرار من السيد في حقها، فلم يقبل، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود.
وقال ابن الصباغ: يقبل إقراره؛ لأن النفقة للمدة الماضية حق للمولى، لا حق للأمة فيها، فقبل إقرار السيد فيها.
وإن أقر السيد عليها: أنها قبضت نفقة يومها الذي هي فيه، أو قبضت نفقة مدة مستقبلة، وأنكرت ذلك.. فإنه لا يقبل إقرار السيد عليها؛ لأن ذلك إقرار عليها بما يضرها، فلم يقبل عليها، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود، فإن كان السيد عدلًا.. حلف معه الزوج، وحكم عليها بالقبض.
[فرع ادعاؤها التمكين وإنكاره]
وإن ادعت الزوجة: أنها مكنت الزوج من نفسها، وأنكر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التمكين.(11/228)
وإن طلق امرأته طلقة رجعية وولدت، واتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في الولادة: فقال الزوج: ولدت بعد الطلاق، فلا رجعة لي ولا نفقة لك. وقالت المرأة: بل ولدت قبل الطلاق، فعلي العدة ولك الرجعة، ولي عليك النفقة.. فلا رجعة للزوج؛ لأنه أقر بسقوط حقه منها، وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجة العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة: أنها ولدت قبل أن يطلقها، وتستحق النفقة؛ لأنهما اختلفا في وقت ولادتها، وهي أعلم بها، ولأنهما اختلفا في سقوط نفقتها، والأصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها.
وبالله التوفيق.(11/229)
[باب نفقة المعتدة]
إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًا.. فإنها تستحق على الزوج جميع ما تستحق الزوجة، إلا القسم، إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع.
وإن كان الطلاق بائنًا.. وجب لها السكنى، حائلًا كانت أو حاملًا.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا.. وجبت.
وقال ابن عباس، وجابر: (لا سكنى للبائن) . وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (تجب النفقة للبائن، سواء كانت حائلا أو حاملًا) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشطر إن كن أولات حمل، فدل على: أنهن إذا لم يكن أولات حمل.. أنه لا نفقة له.
وروي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثًا وهو غائب بالشام، فحمل إليها وكيله كفًا من شعير، فسخطته، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما يتطوع عليك. فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، واعتدي عند أم شريك» .
إذا ثبت هذا: فهل تجب النفقة للحمل، أو للحامل لأجل الحمل؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب عليه بوجوده، ولا تجب عليه بعدمه، فدل على: أنها تجب له.
والثاني: أنها تجب للحامل لأجل الحمل، وهو الأصح؛ لأنه تجب عليه نفقة الزوجة مقدرة، ولو وجبت للحمل.. لتقدرت بقدر كفايته، كنفقة الأقارب، والجنين يكتفي بدون المد.(11/230)
وإن تزوج الحر أمة، فطلقها طلاقًا بائنًا وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على سيده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجب على الزوج نفقتها.
وإن تزوج العبد بحرة أو أمة، فأبانها وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيد الأمة، وولده من الحرة لا تجب عليه نفقته؛ لأن العبد لا تجب عليه نفقة ولده ولا والده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجبت عليه النفقة.
وإن كان الحمل مجتنًا، وقلنا: إن النفقة للحمل.. فهل تجب على أبيه؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في كتاب (الجنايات) .
قال الشاشي: ويصح إبراء الزوجة عنها على القولين.
وإن طلق امرأته طلاقًا بائنا وهي حامل، فارتدت الزوجة.. فقد قال ابن الحداد: تسقط نفقتها.
فمن أصحابنا من وافقه، وقال: تسقط نفقتها، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بمصلحتها وهي المستمتعة بها، فسقطت بردتها.
ومنهم من خالفه، وقال: إذا قلنا: إن النفقة للحامل.. سقطت بردتها، وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. فلا تسقط بردتها؛ لأن الحمل محكوم بإسلامه، فلا يسقط حقه بردتها.
وإن أسلمت الزوجة، وتخلف الزوج في الشرك.. فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها، حائلا كانت أو حاملًا.
وإن أسلم الزوج، وتخلفت الزوجة في الشرك.. فقد قال ابن الحداد: لا نفقة لها، حائلا كانت أو حاملًا. فمن أصحابنا من وافقه.(11/231)
ومنهم من خالفه، وقال: هذا إذا قلنا: إن النفقة للحامل، فأما إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجب له النفقة؛ لأنه محكوم بإسلامه.
وإن مات الزوج قبل وضع الحمل، وخلف أبًا.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تسقط النفقة، ولا تجب على الجد، كما لو مات الزوج في عدة الرجعية.
وقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجبت على جده؛ لأنه يجب عليه نفقة ولد ولده.
[مسألة كيفية دفع نفقة المطلقة الحامل]
وإذا طلق امرأته وهي حامل.. فهل يجب عليه أن يدفع إليها النفقة يومًا فيومًا، أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد.. وجب عليه دفع نفقتها لما مضى من يوم الطلاق؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بالشك، والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز أن يكون ريحًا فتنفش.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم فيوم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأمرنا بالإنفاق عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقتضي وجوب الدفع. ولأن الحمل له أمارات وعلامات، فإذا وجدت.. تعلق الحكم بها في وجوب دفع النفقة، كما تعلق الحكم بها في منع أخذ الحمل الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطء الجارية المسبية والمشتراة، وفي جواز أخذ الخلفة في الدية.
فإذا قلنا: لا يجب الدفع حتى تضع.. لم تحتج إلى أمارة وعلامة، بل تعتد.
فإذا وضعت ولدًا يجوز أن يكون منه.. لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى أن وضعت.
فإن ادعت: أنها وضعت، وصدقها.. فلا كلام، وإن كذبها.. فعليها أن تقيم(11/232)
البينة على الوضع شاهدين، أو شاهدًا وامرأتين، أو أربع نسوة؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك.
وإن قلنا: يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، فادعت: أنها حامل، فإن صدقها الزوج.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، وإن لم يصدقها، فإن شهد أربع نسوة عدول بأنها حامل.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه من وقت الطلاق إلى حين الحكم بقولهن - إنها حامل - دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع لها نفقة كل يوم بيومه من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع.
ولو سألته أن يحلف لها: ما يعلم أنها حامل.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر: أنها حامل، أو ينكل عن اليمين، فترد عليها، فإذا حلفت.. وجب عليه الدفع؛ لأن يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين، وكبينة تقيمها في القول الآخر، والجميع يجب به الدفع.
[فرع طلقها بائنا وهي حامل]
وإن طلقها طلاقًا بائنًا، فقلن القوابل: إن بها حملًا، فأنفق عليها، فبان أنه لا حمل بها، أو ولدت ولدًا لا يجوز أن يكون منه.. فإن قلنا: إنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه.. كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة، سواء دفعه بأمر الحاكم أو بغير أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق؛ لأنه دفع إليها النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لا نفقة عليه لها، فيرجع عليها. وإن قلنا: إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع.. نظرت:
فإن كان قد دفع إليها بحكم الحاكم.. كان له الرجوع؛ لأن الحاكم أوجب عليه الدفع، وقد بان أنها لم تكن واجبة عليه.
وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فإن كان قد شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملًا.. فإنه يرجع عليها؛ لأنه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة لها عليه، وإن دفعها من غير شرط.. لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بالإنفاق عليها.(11/233)
[مسألة اعتبار العدة بأقصر مدة]
قال الشافعي: (وإن كان يملك رجعتها، فلم تقر بثلاث حيض، أو كان حيضها مختلفًا، فيطول ويقصر.. لم أجعل لها إلا الأقصر؛ لأنه اليقين، وأطرح الشك) .
واختلف أصحابنا في تأويلها:
فقال أبو إسحاق: تأويلها هو: أن يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، فأنفق عليها، وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فإن قلنا: إنه يلحقه.. فعليه نفقتها إلى أن تضع، ولا كلام، وإن قلنا: إنه لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان.. فإنها لا تكون معتدة به عنه.
ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وإنما عدتها منه بالأقراء، وتسأل من أين الحمل؟
فإن قالت: هو من غيره بشبهة أو زنًا.. قلنا لها: أي وقت حملت به؟ فإن قالت: بعد انقضاء عدتي بالأقراء عن الأول.. فعلى الأول نفقتها مدة عدتها بالأقراء لا غير. وإن قالت: حملت به بعد أن مضى من عدته قرءان.. كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في القرأين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل.
وإن قالت: هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني، فإن أنكرها.. حلف؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإذا حلف.. بطل أن تعتد بالحمل منه، وقلنا له: فسر أنت كيف اعتدت منك؟
فإن قال: حملت به قبل أن يمضي لها شيء من الأقراء.. فإنها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع، ولها عليه نفقة ذلك الوقت.
وإن قال: انقضت عدتها مني بالأقراء، ثم حملت به بعد ذلك.. فقد اعترف: أنها اعتدت عنه بالأقراء، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة مدة ثلاثة أقراء، وإن كان حيضها يختلف، فتارة تمضي ثلاثة أقراء في سنة، وتارة تمضي في ستة أشهر، وتارة في ثلاثة أشهر، واختلفا في عدتها.. كان لها نفقة ثلاثة أشهر؛ لأنه اليقين.
ومن أصحابنا من قال: تأويلها: أن يطلقها طلاقًا رجعيًا، وأتت بولد لأكثر من(11/234)
أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - فإن عدتها بالأقراء عنه، فيرجع إليها، كيف الاعتداد منها بالأقراء؟ فإذا ذكرت، فإن كان حيضها لا يختلف.. كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف، فيطول ويقصر.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين.
ومن أصحابنا من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، وحكمنا لها بالنفقة، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - وكانت تحيض على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد عنه بالأقراء الموجودة على الحمل، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. وهذا ضعيف جدًا؛ لأنها على هذا القول يكون لها نفقة الأقراء على الحمل، طالت أو قصرت.
ومنهم من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فذكرت: أن حيضها ارتفع لغير عارض.. فإنها تتربص على ما مضى. فإذا زعمت أن حيضها ارتفع بعارض.. فقد اعترفت بحقين؛ حق عليها: وهو العدة والرجعة، فيقبل قولها فيه، وحق لها: وهو النفقة، فلا يقبل قولها فيه، بل يجعل لها نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. والتأويل الأول أصح.
فأما إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فظهر بها أمارات الحمل، فأنفق عليها، ثم بان أنه لم يكن حملًا، وإنما كان ريحًا فأنفش.. فإنه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها: كم كانت مدة أقرائك؟ فإن أخبرت بذلك.. كان القول قولها مع يمينها.
وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي، إلا أن عادتي في الحيض كذا، وعادتي في الطهر كذا.. حسبنا ذلك، ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك.
وإن قالت: حيضي يختلف، ولا أعلم قدر الثلاثة الأقراء.. نظرنا إلى أقل ما تذكره من الحيض والطهر، فحسبنا لها ثلاثة أقراء، ورجع عليها بما زاد على ذلك.(11/235)
وإن قالت: لا أعلم قدر حيضي وطهري.. فحكى ابن الصباغ: أن الشافعي قال: (جعلنا الأقراء ثلاثة أشهر؛ لأن ذلك هو الغالب في النساء، ورجع بالباقي) .
[فرع لا كسوة للبائن وإن وجبت النفقة]
قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجب للبائن الكسوة وإن وجبت لها النفقة.
[مسألة لا متعة ولا نفقة إلا في نكاح صحيح]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة أو سكنى.. فليست إلا في نكاح صحيح) .
وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة تزويجًا فاسدًا، كالنكاح بلا ولي ولا شهود أو في عدتها.. فإنه يفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول.. فإنه لا يتعلق بالنكاح حكم، وإن كان بعد الدخول.. فلها مهر المثل، وعليها العدة، ولا سكنى لها؛ لأن السكنى تجب عن نكاح صحيح، ولا نكاح هاهنا.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. فلا نفقة لها؛ لأنه إذا لم تجب النفقة للبائن الحائل في النكاح الصحيح. فلأن لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى.
وإن كانت حاملا؛ فإن قلنا: إن النفقة تجب للحامل.. لم تجب لها هاهنا نفقة؛ لأن النفقة إنما تجب لها عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له. وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. وجب لها النفقة؛ لأن هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه في نكاح صحيح.
وأما إذا وقع النكاح صحيحًا، ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول.. فإنه يجب عليها العدة. قال الشيخ أبو إسحاق: وتجب لها السكنى في العدة.
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب، وإن كانت حاملًا.. وجبت؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه، كالطلاق.
وقال الشيح أبو حامد، وابن الصباغ: حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد؛ لأن حكم النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدًا.(11/236)
[فرع المبتوتة بلعان لا نفقة لحملها]
وإن قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها، فلاعنها.. انفسخ النكاح بينهما، واعتدت بوضع الحمل، ولا نفقة لها في حال عدتها؛ لأن النفقة للحمل في أحد القولين، ولها لأجل الحمل في الثاني - والحمل غير لاحق به - فلم تجب لها النفقة، وهل تجب لها السكنى؟ حكى القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما: لا تجب لها السكنى؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المتلاعنين: أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، ولا نفقة لها ولا بيت» ؛ لأنهما مفترقان بغير طلاق.
والثاني: أن لها السكنى، قال ابن الصباغ: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فهي كالمطلقة.
قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما مضى: أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وإيجاب السكنى يناقضه، غير أنه يتعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق، وكما قلنا في الخلع إذا قلنا: إنه فسخ.
وإن لاعنها ولم ينف الحمل.. قال الشيخ أبو إسحاق: وجبت لها النفقة.
وإن أبان زوجته بالثلاث أو بالخلع، وظهر بها حمل فنفاه - وقلنا: يصح لعانه قبل الوضع - فلاعن.. سقطت عنه النفقة، وهل تسقط عنه السكنى؟
إن قلنا: للملاعنة السكنى في التي قبلها.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها.. قال القاضي أبو الطيب: احتمل هاهنا وجهين:
أحدهما: لها السكنى؛ لأنها اعتدت عن الطلاق.
والثاني: لا سكنى لها؛ لأن نفقتها قد سقطت لأجل اللعان فكذلك السكنى.
وإن أكذب الزوج نفسه بعد اللعان.. لحقه نسب الولد، وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع.(11/237)
فإن قيل: فهلا قلتم: إنه لا نفقة لها لما مضى، على القول الذي يقول: إن النفقة للحمل؛ لأن نفقة الأقارب تسقط بمضي الزمان؟
قلنا: إنما نقول ذلك: إذا كان القريب هو المستوفي لنفقته، وهاهنا المستوفى لها هي الزوجة، فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان.
[مسألة المعتدة عن وفاة لا نفقة لها حاملًا أو حائلًا]
وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها: فلا يجب لها النفقة، حائلًا كانت أو حاملًا، وبه قال ابن عباس، وجابر، وروي: أنهما قالا: (لا نفقة لها، حسبها الميراث) .
وذهب بعض الصحابة إلى: أنها إذا كانت حاملًا.. فلها النفقة. وقيل: إنه مذهب أحمد.
ودليلنا: أنه لا يخلو: إما أن يقال: هذه النفقة للحامل، أو للحمل. فبطل أن يقال: إنها للحامل؛ لأنها لا تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، وبطل أن يقال: إنها للحمل؛ لأن الميت لا تستحق عليه نفقة الأقارب، فلم تجب.
وهل يجب لها السكنى؟ فيه قولان، مضى بيانهما في (العدة) .(11/238)
[مسألة غياب زوجها وهي في مسكنه يوجب لها النفقة]
] : إذا غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي أسكنها فيه، وانقطع عنها خبره.. فإن اختارت المقام على حالتها.. فالنفقة واجبة على الزوج؛ لأنها مسلمة لنفسها، وإن رفعت الأمر إلى الحاكم، وأمرها بالتربص أربع سنين.. فلها النفقة على زوجها هذه الأربع السنين؛ لأن النفقة إنما تسقط بالنشوز أو بالبينونة، ولم يوجد واحد منهما.
فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة أشهر وعشرًا: فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة قد وقعت ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا.. فإنها كالمعتدة عن الوفاة، فلا يجب لها النفقة فيها، وهل تجب لها السكنى؟ فيه قولان.
فإن رجع زوجها الأول، فإن قلنا: إن الفرقة وقعت ظاهرًا وباطنًا.. فهي أجنبية منه، ولا يجب لها عليه نفقة ولا سكنى. وإن قلنا: إن الفرقة وقعت في الظاهر دون الباطن.. ردت إليه، ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن حكم الحاكم لا ينفذ.. فإنها ما لم تتزوج.. فنفقتها على الأول؛ لأنها محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي: أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في سقوط نفقتها.
فإن تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر.. سقطت نفقتها عن الأول؛ لأنها كالناشزة عن الأول، فسقطت نفقتها عنه.
وإن دخل الثاني بها، وفرق بينهما.. فعليها أن تعتد عنه، ولا نفقة لها على الأول؛ لأنها معتدة عن الثاني، فإن رجعت إلى منزل الأول بعد انقضاء عدة الثاني، أو قبل أن يدخل بها الثاني.. فهل تستحق النفقة على الأول؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة) . وهذا يقتضي: أن لها النفقة بعد انقضاء العدة.
وقال في " الأم ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها) .(11/239)
واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين:
أحدهما: يجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله؛ لأن النفقة سقطت بنشوزها، وقد زال النشوز، فعادت نفقتها.
والثاني: لا تجب لها النفقة؛ لأن التسليم الأول قد سقط بنشوزها، فلم تعد إلا بتسليم ثان، وليس هاهنا من يتسلمها.
فعلى هذا الطريق: إذا خرجت امرأة الحاضر من منزلها ناشزة، ثم عادت إليه.. فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج؟ فيه وجهان، بناءً على هذين القولين.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي دل عليه مفهوم كلامه: أن النفقة لها.. أراد: إذا تزوجت بالثاني من غير أن يحكم لها الحاكم بالفرقة، فإذا عادت إلى منزل الزوج.. عادت نفقتها؛ لأن نفقتها سقطت بأمر ضعيف؛ وهو نشوزها، فعادت برجوعها.
وحيث قال في " الأم ": (لا نفقة لها) .. أراد: إذا حكم لها الحاكم بالفرقة، وتزوجت بآخر؛ لأن نفقتها سقطت بأمر قوي، وهو حكم الحاكم، فلا تعود إلا بأمر قوي، وهو أن يتسلمها الزوج.
فعلى هذا الطريق: إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه.. وجبت لها النفقة وإن لم يتسلمها الزوج.
وأما وجوب نفقتها على الثاني: فإن قلنا بقوله القديم، وأن التفريق صحيح.. فإنها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله الجديد؛ لأن نكاحه صحيح. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن التفريق غير صحيح.. فإنها لا تستحق عليه النفقة ولا السكنى في حال الزوجية؛ لأنه لا زوجية بينهما.
وإذا فرق بينهما بعد الدخول.. فلا سكنى لها في حال العدة.(11/240)
وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا، فإن قلنا: النفقة للحمل.. وجبت، وإن قلنا: للحامل.. لم تجب.
[فرع تزوج زوجة المفقود بعد انقضاء عدتها ثم رجع الأول]
إذا تربصت امرأة المفقود، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، فرجع الأول، فإن قلنا بقوله الجديد: لا تقع الفرقة، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني، ولا يمكن أن يكون من الأول.. فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الأول بعد وضع الولد.
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة تقع ظاهرًا وباطنًا.. فالولد للثاني، وإن قلنا بقوله الجديد، أو قلنا بقوله القديم، وقلنا: إن الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الأول.. فهو للثاني؛ لأنها قد استبرأت رحمها يقينًا عن الأول.
وإن ادعاه الأول.. سئل عن وجه دعواه، فإن قال: هذا الولد مني؛ لأنها زوجتي، وغبت عنها والزوجية باقية لم تنقطع، فهو ولدي؛ لأنها أتت به على فراشي.. لم يلتفت إلى هذه الدعوى، ولحق بالثاني؛ لأنا قد تيقنا براءة رحمها من ماء الأول، فلا يمكن أن يكون منه.
وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها، وهذا الولد مني، وأمكن أن يكون صادقًا.. عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما.. لحقه.
وكل موضع لحق الولد بالثاني.. فليس للزوج الأول أن يمنعها من أن تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك.
فإذا سقته اللبأ، فإن لم توجد له امرأة ترضعه وتكفله.. لم يكن له منعها من ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه، وإن وجد له امرأة ترضعه وتكفله.. كان له منعها؛ لأنها متطوعة بإرضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع بالصلاة والصوم، فلأن يمنعها من الرضاع أولى.(11/241)
فإن أرضعته في موضع منعناها من إرضاعه فيه، فإن أرضعته في بيت زوجها.. فلها النفقة عليه؛ لأنها في قبضته، وإن خرجت من منزله إلى غيره بغير إذنه وأرضعته.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة، وإن خرجت إلى غيره بإذن زوجها وأرضعته، فإن كان زوجها معها.. لم تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها.. ففيه وجهان، بناءً على القولين في السفر بإذنه.
[فرع تربصت زوجة المفقود وفرق الحاكم وتزوجت بعد العدة]
وإن تربصت امرأة المفقود، وفرق الحاكم بينهما، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها ودخل بها، ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الأول كان حيًا عند نكاحها للثاني، وأن الأول مات بعد ذلك، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الحكم بالفرقة صحيح ظاهرًا وباطنًا.. فقد بانت من الأول، ونكاح الثاني صحيح، وقد بانت عنه بموته، واعتدت عنه، فلا تأثير لحياة الأول. وإن قلنا بقوله الجديد: إن الحكم بالفرقة لا يصح، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن.. فعلى هذا: نكاح الثاني باطل، وعليها العدة بموت الأول أربعة أشهر وعشرًا، وعليها عدة وطء الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد عن أحدهما إلا بعد أن يفرق بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم عين ذلك الزوج.
الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر.
الثالثة: أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه.
فأما [المسألة] الأولى، وهو: إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه.. ففيه مسألتان:(11/242)
إحداهما: أن يعلم أن الأول مات في أول شهر رمضان، والثاني مات في أول شهر شوال، فيجب عليها أن تعتد هاهنا عن الأول أربعة أشهر وعشرًا، وابتداؤها من أول شوال بعد زوال فراش الثاني؛ لأنه لا يمكن أن تكون فراشًا للثاني معتدة عن الأول، فإذا انقضت عدتها عن الأول.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء؛ لأن عدة الأول أسبق، فقدمت، ولأنها أقوى؛ لأنها وجبت بسبب مباح، والثانية وجبت بسبب محظور.
وإن مات الثاني في أول رمضان، والأول في أول شوال.. فإن الثاني لما مات شرعت في عدته وإن كانت زوجة الأول؛ لأن النكاح يتأبد فراشه، فلا يمكن قطعه لأجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني، فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب قطعه للعدة، ولم تصح العدة مع وجوده، فلما مات الأول في أثناء عدة الثاني.. انتقلت إلى عدة الأول؛ لأنها آكد، فإذا أكملت عدة الأول أربعة أشهر وعشرًا.. أكملت عدة الثاني بالأقراء.
المسألة الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر، مثل: أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الأول حي في بلد كذا، ومات ولم يعلم وقت موته.. فإنه يقال: أقل وقت يمكن أن يصل فيه الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟
فإن قيل مثلا: عشرة أيام.. جعل في التقدير كأنه مات قبل مجيء خبره بعشرة أيام، فإن وافق ذلك وقت موت الثاني، بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال، وهو وقت موت الثاني.. فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الأول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء. وإن تقدم موت الثاني، أو تأخر عنه.. فالحكم فيه على ما ذكرناه في المسألة الأولى.
المسألة الثالثة: أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل: أن يعلم أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال، ولا يعلم وقت موت(11/243)
كل واحد منهما أيهما مات أولًا.. فيجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت الثاني، ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة أقراء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني.
فأما إذا حبلت من الثاني، ثم ظهر موت الأول.. فإن الولد لاحق بالثاني؛ لأنها قد اعتدت عن الأول، واستبرأت رحمها منه، وقد مات الأول قبل أن يدعيه، فلم يلحق به، فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته.. اعتدت عن الأول بأربعة أشهر وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين انقطاع دم النفاس؛ لأن دم النفاس تابع للحمل من الأول، فهو كمدة الحمل.
والثاني - وهو المذهب -: أن ابتداءها من بعد وضع الحمل؛ لأن هذا عدة عن وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فيه الدم وزواله، ولأن وقت دم النفاس ليس من عدة الثاني، فاحتسب به من عدة الأول.
وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.(11/244)
[باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيان أن على الأب أن يقوم بالمؤنة في إصلاح صغار ولده من رضاع ونفقة وكسوة وخدمة دون أمه) .
وجملة ذلك: أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] [الإسراء: 31] ، فمنع الله من قتل الأولاد خشية الإملاق، وهو الفقر، فلولا أن نفقة الأولاد عليهم.. لما خافوا الفقر.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب أجرة رضاع الولد على الأب، فدل على: أن نفقته تجب عليه.
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، فقال: عندي آخر؟ فقال: أنفقه على ولدك» .
وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم.. فهل علي في ذلك شيء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
ولأن الولد بعض من الأب، فكما يلزمه أن ينفق على نفسه.. فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده.
فإن لم يكن هناك أب، أو كان ولكنه معسر، وهناك جد موسر.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب نفقة ولد الولد على الجد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، فسمى الناس بني آدم، وإنما هو جدهم.(11/245)
وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف: 38] ، فسماهم آباء، وإنما هم أجداده.
ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة، وعكسه الأخوة.
وإن لم يكن هناك أحد من الأجداد من قبل الأب.. وجبت النفقة على الأم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب النفقة على الأم) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: تجب على الأم، ولكن يرجع بها على الأب إذا أيسر.
دليلنا - على مالك -: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة.
ولأن النفقة إذا وجبت على الجد، وولادته من طريق الظاهر.. فلأن تجب على الأم - وولادتها من طريق القطع - أولى، فلم ترجع.
وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها نفقة واجبة على من تعين نسبه، فلم يرجع بها، كالجد لا يرجع بما أنفق على الأب.
وقولنا: (على من تعين نسبه) احتراز ممن ولد على فراشين، وأشكل الأب منهما.
فإن لم يكن أم، وهناك أبو أم، أو أم أمّ.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه اسم الأب أو الأم حقيقة أو مجازًا، سواء كان من قبل الأب أو الأم، ويشترك في وجوبها العصبات وذوو الأرحام؛ لأنها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى العصبات وذوو الأرحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة، والقصاص، والعتق.(11/246)
[مسألة نفقة الأب واجبة على الابن]
] : وتجب نفقة الأب على الولد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليه.
وروى ابن المنكدر: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، ولأبي مال وعيال، ويريد أن يأخذ من مالي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت ومالك لأبيك»
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أولادكم هبة من الله لكم، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها»
وروت أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» .
وروى جابر: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إن أبي يأخذ مالي فينفقه، فقال الأب: إنما أنفقته يا رسول الله على إحدى عماته أو إحدى خالاته، فهبط جبريل، وقال: يا رسول الله، سل الأب عن شعر قاله، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال الأب: إن الله - وله الحمد - يزيدنا بك بيانًا يا رسول الله كل يوم، والله: لقد قلت هذا الشعر في نفسي، فلم تسمعه أذناي، ثم أنشأ يقول:
غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا ... تعل بما أجني إليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به منه فعيناي تهمل(11/247)
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جوابي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
قال جابر: فقبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلابيب الابن، وقال: " أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " ثلاثًا» .
[فرع النفقة على الوالدة]
] : ويجب على الولد نفقة الأم.
وقال مالك: (لا يجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى:(11/248)
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليها.
وروي: «أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، من أبر؟ فقال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: أباك» ومن البر: أن ينفق عليها.
ولأنها تعتق عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها، فوجبت لها النفقة عليه، كالأب.
ويجب على الولد نفقة الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب والأم.
وقال مالك: (لا يجب عليه) .
دليلنا: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة.
[فرع النفقة على القرابة المسلمين وغيرهم]
نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا.. لم يمنع ذلك من وجوب النفقة؛ لأنه حق يتعلق بالولادة، فوجب مع اتفاق الدين واختلافه، كالعتق بالملك.
ولا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين من القرابة، كالأخ وابن الأخ والعم وابن العم.
وقال أبو حنيفة: (تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الأخ وأولاده، والعم والعمة، والخال والخالة. ولا تجب عليه نفقة أولاد العم، ولا أولاد العمة، ولا أولاد الخال، ولا أولاد الخالة) .(11/249)
وقال أحمد: (تجب عليه نفقة كل من كان وارثًا، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، ولا تجب عليه نفقة ابنة الأخ، والعمة، وابن العمة، وابنة العم) .
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب عليه نفقة كل قريب معروف النسب منه) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، معي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر؟ قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على خادمك "، قال: معي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على: أنه لا يجب عليه نفقة أقاربه.
فإن قيل: فلم يذكر الوالد، ومع هذا فنقته واجبة؟
قلنا: قد نص على نفقة الولد فنبه بذلك على نفقة الوالد؛ لأنه أكمل وآكد حرمة من الولد.
ولأن من سوى الوالدين والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمة، فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم.
ولأنها قرابة لا تستحق بها النفقة مع اختلاف الدين، فلم تستحق بها النفقة مع اتفاق(11/250)
الدين، كابن العم مع أبي حنيفة، وكغير الوارث مع أحمد. وعكسه قرابة الوالدين والمولودين..
[مسألة النفقة على القريب مواساة]
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرًا بنفقة قريبه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم فقيرًا.. فليبدأ بنفسه، فإن فضل.. فعلى عياله، فإن فضل.. فعلى قرابته» وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب؛ لأنها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليه، كما تقدم نفقة نفسه، ولأن نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة، فقدمت على نفقة القريب كما يقدم الدين.
وإن كان مكتسبًا، فاكتسب ما ينفق على نفسه وزوجته، وفضل عن قوت يومه وليلته فضل.. لزمه أن ينفق على قرابته؛ لأن الكسب في الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال، ولهذا روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطيهما من الصدقة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى بالمال.
وإن كان للمنفق عقار.. وجب أن يبيعه للإنفاق على قرابته.
وقال أبو حنيفة: (لا يباع) .(11/251)
دليلنا: أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته، والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته، فوجب أن يبيعه للإنفاق على القريب، كالأثاث.
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرًا غير قادر على الكسب؛ لصغر، أو جنون، أو زمانة، أو كبر، فإن كان له مال يكفيه.. لم تجب نفقته على قريبه؛ لأن إيجاب نفقة القريب على قريبه مواساة، والغني بماله لا يستحق المواساة.
وإن كان له كسب، وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه.. لم تجب له نفقة على قريبه؛ لأن الكسب في باب الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال.
وإن كان صحيحًا، إلا أنه غير مكتسب، فإن كان من الوالدين.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه محتاج إلى الإنفاق، فأشبه الزمن.
والثاني: لا تجب نفقته على الولد؛ لأنه قادر على الاكتساب، فأشبه المكتسب. وإن كان الولد بالغًا صحيحًا محتاجًا غير مكتسب.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالوالدين.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب نفقته، قولًا واحدًا؛ لأن حرمة الوالد آكد، فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة، فلم يستحق مع الصحة. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت الابنة.. لم تسقط نفقتها حتى تتزوج؛ لأنه لا يمكنها الاكتساب، فهي كالصغيرة) .
ودليلنا: أن كل معنى أسقط نفقة الابن.. أسقط نفقة الابنة، كاليسار. وما ذكره.. فلا يصح؛ لأنها يمكنها الغزل والخدمة.(11/252)
[مسألة من يقدم في نفقة القريب]
وإن كان هناك قريب يستحق النفقة، واجتمع قريبان موسران، فإن كان هناك ولد صغير فقير، وله أبوان موسران.. كانت نفقته على الأب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . فجعل أجرة الرضاع على الأب. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولأنهما تساويا في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فقدم على الأم.
فإن اجتمع الأب والجد وهما موسران، أو اجتمعت الأم وأمها، أو الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قدم الأب على الجد، وقدمت الأم على أمها وأم الأب؛ لأنها أقرب.
وإن اجتمعت الأم والجد أبو الأب وهما موسران.. كانت النفقة على الجد دون الأم، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان) .
دليلنا: أنه اجتمع عصبة مع ذات رحم ينفق كل واحد منهما على الانفراد، فقدم العصبة، كالأب إذا اجتمع مع الأم.
فإن اجتمع الجد أبو الأب وإن علا مع الجد أبي الأم وهما موسران.. وجبت النفقة على الجد أبي الأب؛ لأن الجد يقدم على الأم، فلأن يقدم على أبي الأم أولى.
وإن اجتمعت أم الأم وأبو الأم وهما موسران.. كانت النفقة عليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الدرجة، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التعصيب، فاستويا في الإنفاق.
وإن اجتمعت أم الأم وأم الأب وهما موسرتان.. ففيه وجهان:(11/253)
أحدهما: تجب النفقة عليهما نصفين، وهو الأصح؛ لأنهما متساويتان في الدرجة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى بالتعصيب.
والثاني: تجب النفقة على أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة، ولأن الأب لو اجتمع هو والأم.. لقدم الأب في إيجاب النفقة، فقدم من يدلي به على من يدلي بها.
وهكذا الوجهان إذا اجتمعت أم الأب وأبو الأم.
فإن اجتمعت الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قلنا: إن أم الأم وأم الأب إذا اجتمعتا تقدم أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة.. قدمت هاهنا أم الأب على الأم؛ لأنها كالعصبة. وإن قلنا هناك: إنهما سواء.. قدمت الأم على أم الأب؛ لأنها أقرب منها.
[فرع نفقة الزمن على الابن أو الأب]
وإن كان الرجل فقيرًا زمنًا، وله ابن وأب موسران.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب نفقته على الأب؛ لأن وجوب النفقة على الأب منصوص عليها في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها.
والثاني: أن نفقته على الابن؛ لأنه أقوى تعصيبًا من الأب.
والثالث: تجب نفقته عليهما؛ لأنهما متساويان في الدرجة منه والتعصيب.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليهما نصفين، أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان، الأصح: أنها عليهما نصفان.
وإن اجتمع ابن وجد.. فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والأب.
ومنهم من قال: يجب على الابن، وجهًا واحدًا؛ لأنه أقرب.
وإن كان فقيرا زمنًا، وله ابنان موسران أو ابنتان موسرتان.. وجبت نفقته بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن كان له ابن موسر وابنة موسرة.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب جميع النفقة(11/254)
على الابن؛ لأنهما متساويان في الدرجة وللابن مزية بالتعصيب، فقدم في وجوب النفقة عليه، كالأب إذا اجتمع مع الأم.
وقال الخراسانيون من أصحابنا: تجب النفقة عليهما. وكيف تجب عليهما؟ فيه وجهان:
أحدهما - قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو الأصح -: تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: تجب عليهما على قدر ميراثهما؛ فيجب على الابن ثلثا النفقة، وعلى الابنة ثلثها، وبه قال أحمد.
إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران.. فإن النفقة على الابن؛ لأن الخنثى يجوز أن تكون أنثى، فلا تجب عليه النفقة، فإن بان أن الخنثى رجل.. رجع عليه الابن بنصف ما أنفق؛ لأنه بان أنه كان مستحقًا عليه. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين: فكم يجب على الخنثى؟ فيه وجهان:
أحدهما: النصف، وهو الأصح.
فعلى هذا: لا فرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة.
والثاني: يجب عليه بقدر ميراثه.
فعلى هذا: يجب عليه ثلث نفقته، وعلى الذكر النصف، ويبقى السدس من النفقة، فإن قال أحدهما: أدفع هذا السدس لأرجع به على من بان أنه عليه.. جاز فإن لم يدفعه أحدهما برضاه.. دفعاه بينهما نصفين. فإذا بان حال الخنثى.. رجع على من بان أنه غير مستحق عليه بما دفع منه.
قال ابن الصباغ: وإذا كان له بنت وخنثى مشكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب النفقة على الخنثى؛ لجواز أن تكون رجلًا، فإذا أنفق، ثم بان أنه رجل.. لم يرجع على أخته بشيء، وإن بان أنه أنثى.. رجعت على أختها بنصف ما أنفقت.(11/255)
والثاني: أن النفقة بينهما نصفان - قال -: وهو الأقيس؛ لأنا لا نعلم كونه رجلًا، فإن بان أنه ذكر.. رجعت عليه البنت بما أنفقت، وإن بان أنه أنثى.. لم ترجع عليها أختها بشيء. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين.. فعلى أصح الوجهين: تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على أخته بشيء، سواء بان أنه رجل أو امرأة.
وعلى الوجه الذي يقول: (تجب النفقة بينهما على قدر ميراثهما) يجب على كل واحد منهما ثلث النفقة، ويبقى الثلث، فإن اختار أحدهما أن يدفعه ليرجع به على من بان عليه.. جاز، وإن لم يختر أحدهما دفعه.. دفعاه بينهما، فيدفع كل واحد منهما نصف النفقة، فإن بان أن الخنثى امرأة.. لم ترجع إحداهما على الأخرى بشيء، فإن بان رجلًا.. رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت.
[فرع وجوب نفقة الأب على ذكر وخنثيين]
وإن كان له ثلاثة أولاد، ذكر وخنثيان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين: تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين.. لم يرجع عليهما بشيء، وإن بانا رجلين.. رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما رجلًا والآخر امرأة.. رجع على الرجل بنصف ما أنفق.
وعلى طريقة الخراسانيين: تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليهم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الأصح عندهم -: تجب بينهم بالسوية.
فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال.
والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم.
فعلى هذا: يجب على الرجل ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة؛ لأن ذلك هو اليقين.(11/256)
قال القاضي أبو الفتوح: ويبقى من النفقة ربعها، تفرض عليهم. وهذا غلط، بل يبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة عشر سهماً، فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عليه عنده، ودفعها.. كان له الرجوع على من بانت عنده.
وإن لم يرض أحدهم بدفعها.. قسمت عليهم أثلاثاً، فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهماً، فيدفع الذكر منها تسعة عشر سهماً، ويدفع كل خنثى منهما ثلاثة عشر سهماً، فإن بانا امرأتين.. رجعا على الذكر بتمام النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وإن بانا رجلين.. رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين، وهو تمام الثلث، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر امرأة.. رجعت المرأة على الذي بان رجلاً بأربعة أسهم، ورجع الذكر عليه بسهم.
[فرع نفقة الأب تجب على بنت وخنثيين]
إذا كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين في النفقة وجهان:
أحدهما: أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين.. فلا رجوع لهما، وإن بانا امرأتين.. رجعت كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها بثلث ما أنفقت، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت التي بانت امرأة على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقت.
والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثاً، فإن بانا امرأتين.. فلا تراجع، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجع المرأتان على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقاه.
وعلى طريقة الخراسانيين: يكون في النفقة أيضاً وجهان:(11/257)
أحدهما: وهو الأصح عندهم -: أن النفقة تجب على الجميع بالسوية.
فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال.
والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم.
فعلى هذا: يجب على البنت خمس النفقة، وهي أربعة أسهم من عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقة، وهو خمسة من عشرين؛ لأن هذا هو اليقين، وتبقى ستة أسهم، إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده.. جاز، وإلا.. قسمت عليهم أثلاثاً بينهم.
فإن بانا امرأتين.. رجع كل واحد من الخنثيين على البنت بثلث سهم، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت البنت الأصلية عليه بسهم، ورجعت عليه البنت الخنثى بسهمين.
والمشهور: طريقة أصحابنا البغداديين.
[فرع وجوب نفقة البنت أو ابنها على أبيها]
وإن كان له بنت وابن بنت موسران.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضي أبي حامد وجهين:
أحدهما: تجب النفقة على البنت؛ لأنهما يستويان في عدم التعصيب، والبنت أقرب، فكانت أولى بالإيجاب عليها.
والثاني: تجب على ابن البنت؛ لأنه أقدر على النفقة بالذكورية.
وإن كان له بنت ابن وابن بنت.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
أحدها: تجب النفقة على بنت الابن؛ لأنها تدلي بعصبة، وقد تكون عصبة من أخيها.
والثاني: تجب النفقة على ابن البنت؛ لأنه أقوى على النفقة بالذكورية.
والثالث: تجب النفقة عليهما بالسوية؛ لأنهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب.(11/258)
وإن كان له أم وبنت موسرتان.. كانت النفقة على البنت.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكون على الأم ربع النفقة، والباقي على البنت) .
دليلنا: أن البنت قد تكون عصبة مع أخيها، بخلاف الأم.
[فرع النفقة على القريب الموسر]
] : وإن كان له قريبان موسران، أحدهما أبعد من الآخر، فحضر الأبعد، وغاب الأقرب.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر الأقرب.. فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان، الأصح: أن له أن يرجع عليه بما أنفق، وهذا إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه، فإن كان له مال حاضر.. أنفق عليه منه، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من إنسان.. اقترض عليه، ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن ذلك.. كان على الحاضر أن ينفق.
فإن بان أن الغائب كان معسراً أو ميتاً وقت النفقة.. لم يرجع عليه بشيء، بل تكون نفقته على الحاضر.
وهكذا: إذا كان له ابنان موسران، فحضر أحدهما وغاب الآخر.. كان على الحاضر نصف النفقة، فإن كان للغائب مال.. أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال، وأمكن أن يقترض عليه من بيت المال أو من إنسان من الرعية.. اقترض عليه الحاكم، فإن لم يمكن ذلك.. قال ابن الصباغ: لزم الحاضر أن يقترض؛ لأن نفقته عليه إذا انفرد.
[مسألة النفقة على القريب المعسر]
وإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران، فإن فضل عن قوت يومه وليلته ما يكفيهما.. لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته من نفقته إلا ما يكفي أحدهما،(11/259)
بأن كان له أبوان معسران، ولا يجد إلا نفقة أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تقدم الأم؛ لما روي: «أن رجلاً قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، من أبر؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: " ثم أباك» ، ولأن الأم عورة ليس لها بطش، والأب ليس بعورة، فكان تقديم الأم أولى.
والثاني: أن الأب يقدم؛ لأنهما متساويان في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة؛ لأنهما لو كانا موسرين وهو معسر.. لكانت نفقته على الأب، فوجب أن يقدم الأب في تقديم نفقته، كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه.
والثالث: أنهما سواء، فيقسط ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الولادة والإدلاء.
[فرع النفقة على الأب والابن المعسرين]
وإن كان له أب وابن معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فاختلف أصحابنا.
فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلاً.. فهو أولى بالتقديم؛ لأنه ناقص الخلقة والأحكام، والأب إما أن يكون زمناً أو مجنوناً، فيكون ناقص الخلقة أو ناقص الأحكام دون الخلقة.
وإن تساويا، بأن يكون الابن بالغاً زمناً فيكون ناقص الخلقة دون الأحكام، أو مراهقاً صحيحاً فيكون ناقص الخلقة، والأب زمن أو مجنون.. ففيه وجهان:(11/260)
أحدهما: أن الابن أحق بالتقديم؛ لأن وجوب نفقة الابن ثبتت بنص الكتاب، ووجوب نفقة الأب على الابن مجتهد فيها.
والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل: أن الأب لا يقاد من ابنه، والابن يقاد بالأب.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان من غير تفصيل:
أحدهما: الابن أولى.
والثاني: الأب أولى.
وقال القاضي أبو الطيب: فيه ثلاثة أوجه من غير تفصيل:
أحدها: الابن أولى.
والثاني: الأب أولى.
والثالث: هما سواء، فيقسم ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الدرجة.
[فرع نفقة الأب والجد المعسرين]
] : وإن كان له أب وجد معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الأب؛ لأنه أقرب، ولأنه يقدم في وجوب النفقة عليه، فقدم في وجوب النفقة له.
والثاني: أنهما سواء، فيقسم بينهما؛ لأن الأب لا يمنع وجوب نفقة الجد، بدليل: أنه لو قدر على نفقتهما.. لوجب عليه نفقتهما، فإذا لم يمنع الأب وجوب نفقة الجد وضاق ما في يده عنهما.. قسم بينهما، كالدينين.
وهكذا: إذا اجتمع ابن وابن ابن، أو أم وأم أم، ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فعلى الوجهين.(11/261)
[مسألة النفقة على القريب غير مقدرة]
إذا وجبت عليه نفقة القريب.. فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه؛ لأنها تجب للحاجة، فتقدرت بالكفاية.
وإن احتاج القريب إلى من يخدمه.. وجبت عليه نفقة خادمه، وإن كانت له زوجة.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن ذلك من تمام الكفاية.
وتجب عليه الكسوة؛ لأن كل من وجبت عليه نفقة شخص.. وجبت عليه كسوته، كالزوجة.
وإن احتاج إلى مسكن.. وجب عليه سكناه؛ لأن عليه كفايته، وذلك من كفايته.
وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه.. سقطت بمضي الزمان؛ لأنها تجب للحاجة، وقد زالت الحاجة.
[فرع هروب الزوج والقريب من النفقة يجعل أمرها في يد الحكام]
] : وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه، فامتنع من إخراجها أو هرب.. فإن الحاكم ينظر في ماله:
فإن كان فيه من جنس النفقة.. دفع إليه النفقة منه.
وإن كان من غير جنس النفقة، فإن كان مما يحول، كالدراهم، والدنانير.. اشترى الحاكم منها الطعام والأدم، وصرفه إلى من وجبت له نفقته. وإن وجد له متاعاً.. باعه عليه، واشترى بثمنه ما يجب عليه من ذلك. وإن لم يجد له إلا العقار.. باعه عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا يباع عليه المتاع والعقار إلا في موضع واحد، وهو: إذا جاء رجل إلى الحاكم، وقال: إن لفلان الغائب عندي سلعة أو عقاراً، وهذه زوجته لم ينفق عليها.. فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار، وينفق على زوجته من ثمن ذلك) .(11/262)
دليلنا: أن ما جاز بيع الناض فيه بغير إذن من عليه الحق.. جاز بيع المتاع والعقار فيه بغير إذنه، كنفقة الزوجة.
[مسألة إعفاف من تجب له النفقة]
إذا وجبت على الولد نفقة الأب أو الجد من قبل الأب أو من قبل الأم، واحتاج الأب أو الجد إلى الإعفاف بزوجة أو جارية.. وجب على الولد أن يعفه بذلك إذا قدر على ذلك.
قال ابن خيران: وفيها قول آخر: أنه لا يجب عليه ذلك. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قريب، فلم يستحق الإعفاف، كالابن.
والأول أصح؛ لأنه معنى يحتاج إليه ويستضر بفقده، فلزمه، كالنفقة، والكسوة، ويخالف الابن، فإن الأب آكد حرمة منه، فوجب له ما لا يجب له.
وإن كان الوالد معسراً صحيحاً غير مكتسب، فإن قلنا: تجب نفقته على الولد.. وجب عليه إعفافه، وإن قلنا: لا تجب نفقته عليه.. ففي إعفافه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إعفافه؛ لأنه لا تجب عليه نفقته، فلم يجب عليه إعفافه، كالموسر.
والثاني: يجب عليه إعفافه؛ لأن نفقته يمكن إيجابها في بيت المال، بخلاف الإعفاف.
وإذا وجب على الولد الإعفاف.. فهو بالخيار: بين أن يملكه جارية يحل له وطؤها، أو يدفع له مالاً يشتري به جارية، أو يشتريها له بإذنه، أو يدفع إليه مالاً ليتزوج به، أو يتزوج له بإذنه.(11/263)
ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه صار مستغنياً به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز لا استمتاع بها؛ لأنه لا يحصل المقصود بذلك.
فإن ملكه جارية، أو دفع إليه مالاً، فتزوج به امرأة، ثم أيسر الأب.. لم يلزمه رد ذلك؛ لأنه قبض ذلك وهو يستحقه.
فإن طلق الزوجة، أو أعتق الأمة.. لم يلزم الولد أن يعفه ثانياً؛ لأنه فوت ذلك على نفسه.
وإن ماتت الزوجة أو الأمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إعفافه ثانياً؛ لأنه إنما يجب عليه إعفافه مرة، وقد فعل.
والثاني: يلزمه أن يعفه ثانياً، وهو الأصح؛ لأنه لا صنع له في تفويت ذلك.
[مسألة ما يجب على الأم من الرضاعة للولد]
وإن ولدت المرأة ولداً.. وجب عليها أن تسقيه اللبأ حتى يروى؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك.
فإن كان للطفل مال.. وجبت أجرة إرضاعه في ماله، كما تجب نفقته إذا كان كبيراً في ماله.
وإن لم يكن له مال.. وجبت أجرة إرضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبيراً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
ولا يجب إرضاعه إلا في حولين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] .
وإن كان الولد من زوجته والأب ممن تجب عليه نفقة الولد.. لم تجبر الأم على إرضاعه، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال أبو ثور: (تجبر على إرضاعه) .
وعن مالك روايتان:
إحداهما: كقول أبي ثور.(11/264)
والثانية - وهي المشهورة عنه -: (إن كانت شريفة.. لم تجبر على إرضاعه، وإن كانت دنيئة.. أجبرت على إرضاعه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .. وإذا امتنعت.. فقد تعاسرت.
ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب، فكذلك الرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تطوعت بإرضاعه.. فالأولى للأب أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن الرضاع حق للولد، والأم أشفق عليه، ولبنها
أصلح له.
وهل يلزمه أن يزيدها على نفقتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا: تجب الزيادة لأجل الرضاع.. لكانت نفقتها مقدرة بحالها، فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت رغيبة في الأكل.. فإنه لا تلزمه الزيادة في نفقتها.
والثاني: تلزمه الزيادة على نفقتها، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فخص حال الولادة بذكر إيجاب النفقة، ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة إلا وجوب الزيادة. ولأن العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها.
فعلى هذا: يجتهد الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه.
وإن استأجر امرأته على الرضاع.. فهل يصح عقد الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وبه قال أحمد؛ لأن كل عقد صح أن يعقده الزوج مع غير الزوجة.. صح أن يعقده مع الزوجة، كالبيع.
والثاني: لا يصح، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره. وكذلك: لو استأجرها لخدمة نفسه؛ لأن الزوج يملك الاستمتاع بها في جميع الأوقات، إلا في الأوقات المستحقة للعبادات، فإذا أجرت نفسها.. لم يتمكن من استيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع، فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه من سيده.(11/265)
فإذا قلنا بهذا: واستأجرها على إرضاعه بعوض، فأرضعته.. فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا تستحق ذلك؛ لأنها لو استحقت أجرة في ذلك.. لجاز لها عقد الإجارة لذلك.
والثاني: تستحق أجرة المثل؛ لأن هذه منفعة لا يجب عليها بذلها، فإذا بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض.. وجب لها عوض المثل، كسائر منافعها.
[فرع أبان امرأته المرضعة]
وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع.. لم يملك إجبارها على إرضاعه؛ لأنه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية.. لم يملك إجبارها بعد الزوجية.
فإن تطوعت بإرضاعه.. لم يجز للأب انتزاعه منها؛ لأنها لا حق له في استمتاعها.
وإن استأجرها على إرضاعه.. صح ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ولأنه لا يملك الاستمتاع بها، بخلاف ما لو استأجرها في حال الزوجية.
فإن طلبت منه أجرة المثل، ولا يجد الأب من ترضعه بغير أجرة ولا بدون أجرة المثل.. وجب عليه بذل ذلك لها، ولم يجز له انتزاعه منها؛ لأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له من لبن غيرها.
وإن طلبت منه أكثر من أجرة المثل، والأب يجد من يتطوع بإرضاعه بغير أجرة أو بأجرة المثل.. كان له انتزاعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] . وإذا طلبت أكثر من أجرة المثل.. فقد تعاسرت.
وإن طلبت أجرة المثل، ووجد الأب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من يرضعه بغير أجرة.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:(11/266)
أحدهما: أن الأم أحق برضاعه بأجرة المثل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . ولم يفرق. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بحضانة ولدها ما لم تتزوج» . ولأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له
وأصلح،
فكانت أولى.
والثاني: أن للأب أن ينتزعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] و (التعاسر) : هو الشدة والتضايق، فإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة المثل أو بغير أجرة، وطلبت الأم أجرة المثل.. فقد تعاسرت، فكان له نزعه منها. ولأن نفقة إرضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالإنفاق على المراهق.. لم يجب على الأب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بإرضاع الطفل.. لا تجب أجرة المثل على الأب.
وقال أبو إسحاق: للأب انتزاعه منها، قولا ًواحداً، والقول الآخر لا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال أبو حنيفة: (للأب انتزاعه، ولكن لا يسقط حق الأم من الحضانة، فتأتي المرضعة وترضعه عند الأم) .
ودليلنا: أن الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع.. سقط حقها من الحضانة.
إذا ثبت هذا: فإن ادعى الأب: أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة(11/267)
المثل، وقلنا: له انتزاعه، فإن صدقته الأم أنه يجد ذلك.. كان له انتزاعه منها، وإن كذبته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة في ذلك، فقبل قوله مع يمينه، فإذا حلف.. انتزعه من يد الأم، وسلمه إلى المرضعة، ولا تمنع الأم من زيارته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توله والدة بولدها» .
[مسألة نفقة العبد والأمة على السيد]
ويجب على السيد نفقة عبده وأمته وكسوتهما؛ لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل الذي قال: معي دينار، قال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على خادمك» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن كان العبد غير مكتسب، بأن كان صغيراً، أو مريضاً، أو كبيراً زمناً.. فنفقته على سيده إلى أن يزول ملكه عنه ببيع، أو هبة، أو عتق، أو موت.
وإن كان مكتسباً.. فالسيد بالخيار: بين أن يجعل النفقة في كسبه، وبين أن يأخذ كسبه وينفق عليه من عنده.
فإن أنفق عليه من عنده.. أخذ جميع كسبه.
وإن اختار أن يجعل نفقته في كسبه، فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام، وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للسيد، وإن كان الكسب أقل من نفقته.. كان على السيد تمام نفقته.
ويجب على السيد نفقة العبد من غالب قوت البلد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمملوك طعامه(11/268)
وكسوته بالمعروف» . و (المعروف) : هو ما يقتاته أهل البلد. ولا يعتبر بما يأكله السيد؛ لأن السيد قد يأكل أعلى من قوت البلد، وقد يرضى لنفسه بدون قوت البلد.
فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» .
فالجواب: أن هذا خرج جواباً على سؤال سائل، وكان السائل من العرب، وكان طعامهم ولباسهم من جنس واحد.
وأما قدر طعامه: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: يجعل قدر قوته حكم الغالب، ولا يؤخذ بالشاذ النادر؛ لأنه قد يكون مملوكاً يخرج عن العادة بكثرة الأكل، وقد يكون خارجاً من العادة بقلة الأكل، فيعتبر الغالب ويقال: الغالب في العادة أن قوت هذا في اليوم كذا وكذا، فيدفع إليه.
وقال ابن الصباغ: عندي: إذا كان لا يكفيه الغالب واعترف السيد بذلك.. أن يلزمه ما يكفيه، فإذا كان يكفيه أقل من الغالب.. لم يلزمه أن يدفع إليه إلا قدر كفايته؛ لأن العبد لا طريق له إلى تحصيل شيء إلا من جهة كسبه، وكسبه لسيده.
[فرع المملوك الطاهي لسيده]
وإن كان المملوك يلي إصلاح طعام سيده.. فيستحب للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه، أو يطعمه منه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كفى أحدكم خادمه طعامه، حره ودخانه.. فليدعه، فليجلسه معه، فإن أبى.. فليروغ له لقمة أو(11/269)
لقمتين» ، ولأن الإنسان إذا ولي طعاماً.. اشتهى أن يأكل منه، فاستحب أن يطعم منه، كما يستحب لمن قسم الميراث أن يرزق من حضر القسمة منها.
وأيهما أفضل؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الأفضل أن يجلسه معه ليأكل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ به، ولأنه إذا أكل معه أكل قدر كفايته.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس أحدهما أفضل من الآخر، بل إن شاء.. أجلسه معه، وإن شاء.. أطعمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره: بين أن يجلسه وبين أن يروغ له لقمة أو لقمتين، و (الترويغ) : أن يرويه بالدهن والدسم. والأول أصح.
[فرع كسوة المملوك]
ويجب للملوك كسوته؛ للخبر، وتجب الكسوة من غالب كسوة أهل البلد.
فإن كان له جماعة عبيد.. لم يستحب له أن يفضل بعضهم على بعض في الكسوة؛ لأن المقصود منهم جميعاً هو الخدمة.
وإن كان له جماعة إماء، فإن لم يتسر واحدة منهن.. لم يستحب له أن يفاضل بينهن في الكسوة، كما قلنا في العبيد.
وإن تسرى بعضهن.. فهل يستحب له أن يفضل من تسراها بالكسوة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحب له تفضيلها بالكسوة، كما لا يستحب له تفضيلها بالطعام.
والثاني: يستحب له تفضيلها بالكسوة، وهو الأصح؛ لأن العرف أن الجارية التي يتسراها تفضل في الكسوة، ولأن غرضه تجميل من يريدها للاستمتاع.(11/270)
[فرع تكليف المملوك بما يقدر عليه]
ولا يكلف عبده وأمته من العمل إلا ما يطيقان الدوام عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يعني: إلا ما يطيق الدوام عليه، لا ما يطيق يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم يعجز) . ولأن ما لا يمكنه الدوام عليه.. يلحقه الضرر بفعله، فلم يكلفه إياه.
وإن أتت أمته بولد من نكاح أو زناً، فإن كان لبنها وفق ولدها.. لم يكن للسيد أن يؤاجرها للرضاع؛ لأنها إذا أرضعت مع ولدها آخر.. أضر بولدها، وذلك لا يجوز، وإن كان لبنها فوق كفاية ولدها، أو كان ولدها يستغني عن لبنها بالطعام والشراب.. فللسيد أن يسترضعها فيما لا يحتاجه ولدها؛ لأنه لا ضرر على ولدها بذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فطام ولد أمته حق للسيد، وله أن يفطمه قبل الحولين إذا لم يضر بالولد، بخلاف ولد الزوجين، فإنه لا يفطم قبل الحولين إلا باتفاقهما، وأما بعد الحولين: فمن طلب الفطام منهما أجيب إليه.
[فرع طلب العطاء والإتاوة من أجر العبد]
وإن أراد السيد أن يخارج عبده أو أمته، فقال السيد: خارجتك على أن تعطيني كل يوم من كسبك كذا، والباقي لك، ورضي العبد بذلك.. نظرت:
فإن كان كسبه يفي بما جعله السيد لنفسه وبنفقة العبد.. جاز ذلك، ولم يكره؛ لأنه إذا فعل ذلك.. حرص العبد في الكسب، وربما حصل له أكثر من المعتاد، فيوسع على نفسه في النفقة.
وإن كان كسبه لا يفي بهما في العادة.. لم يكن له ذلك، ومنعه السلطان من(11/271)
ذلك؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في خطبته: (لا تكلفوا الصغير الكسب، فإنكم متى كلفتموه الكسب.. سرق، ولا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها الكسب.. كسبت بفرجها) .
وإن طلب السيد أن يخارج عبده، وامتنع العبد، أو طلب العبد المخارجة وامتنع السيد.. لم يجبر الممتنع منهما على المخارجة؛ لأن المخارجة معاوضة، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالكتابة.
[مسألة النفقة على البهيمة والحيوان]
ومن ملك بهيمة.. لزمه القيام بعلفها، سواء كانت مما يؤكل أو مما لا يؤكل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت في النار ليلة أسري بي، فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها، فقيل: إنها ربطت هرة، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت، فعذبها الله تعالى بذلك» . «واطلعت في الجنة، فرأيت امرأة مومسة - يعني: زانية - فسألت عنها، فقيل: إنها مرت بكلب يلهث من العطش، فأرسلت إزارها في بئر، ثم عصرته في حلقه، فغفر الله لها بذلك» . ولأن للبهائم حرمة بنفسها؛ ولهذا: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل كبد حرى أجر» . فلو قلنا: لا يجب الإنفاق عليها.. أسقطنا حرمتها.(11/272)
فإن كان في المصر.. لزمه الإنفاق على علفها.
وإن كان في الصحراء، فإن كان فيها من الكلأ ما يقوم بكفايتها، فخلاها للرعي.. لم يجب عليه العلف؛ لأنها تجتزئ بذلك. وقد أومأ الشافعي إلى: أن من البهائم من لا تجتزئ بالكلأ، ولا بد لها من العلف.
فقال أصحابنا البغداديون: هذا على عادة أهل مصر؛ لأن صحاريها يقل فيها العلف.
وقال الخراسانيون: إن كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا.. فإنها تجتزئ بالرعي عن العلف، وإن كانت غير مشقوقة الشفة العليا.. فلا تجتزئ بالرعي، ولا بد من علفها.
وإن لم يكن بها من الكلأ ما يقوم بها.. لزمه من العلف ما يقوم بها، فإن لم يعلفها، فإن كانت مما يؤكل.. جاز له أن يذبحها، وله أن يبيعها، وإن كانت مما لا يؤكل.. كان له بيعها، فإن امتنع من ذلك.. أجبره السلطان على علفها، أو بيعها، أو ذبحها إن كانت مما يؤكل، فإن لم يعلفها ولا باعها.. باعها عليه السلطان، أو أكراها وأنفق عليها من كرائها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجبره السلطان على ذلك، بل يأمره به، كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر) .
ودليلنا: أنها نفقة واجبة، فإذا امتنع منها.. أجبره السلطان عليها، كنفقة العبد.
وإن كان للبهيمة ولد.. لم يحلب من لبنها إلا ما فضل عن لبن ولدها؛ لأن لبنها غذاء لولدها، فلا يجوز منعه منه، كما قلنا في ولد الجارية.
وبالله التوفيق والعون(11/273)
[باب الحضانة]
إذا بانت الزوجة، وبينهما ولد.. نظرت:
فإن كان بالغاً رشيداً.. لم يجبر على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له: أن لا ينفرد عنهما؛ لئلا ينقطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟ ينظر فيه:
فإن كان رجلا.. لم يكره له الانفراد عنهما.
وإن كانت امرأة، فإن كانت بكراً.. كره لها الانفراد عنهما؛ لأنها لم تجرب الرجال، ولا يؤمن أن تخدع، وإن كانت ثيباً فارقها زوجها.. لم يكره لها الانفراد عنهما؛ لأنها قد جربت الرجال، ولا يخشى عليها أن تخدع.
وقال مالك: (يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها) .
دليلنا: أنها إذا بلغت رشيدة.. فقد ارتفع الحجر عنها، فكان لها أن تنفرد(11/274)
بنفسها، ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت، ثم بانت عنه.
وإن كان الولد صغيراً لا يميز - وهو: الذي له دون سبع سنين - أو كبيراً إلا أنه مجنون أو مشتبه العقل.. وجبت حضانته؛ لأنه إذا ترك منفرداً.. ضاع.
[مسألة لا حضانة لرقيق ومعتوه ونحوه]
ولا تثبت الحضانة لرقيق؛ لأنه لا يقدر عليها مع خدمة مولاه، ولا تثبت لمن لم تكمل فيه الحرية؛ لأنه ناقص بالرق.
فإن زوج الرجل أمته فأتت بولد، أو زنت فأتت بولد.. فالولد مملوك لسيد الأمة، فإن تركه مع أمه.. فلا كلام، وإن أراد انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه ملكه، يصنع به ما شاء.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لما لم يكن له أن يفرق بينهما في البيع لئلا يضر بها.. لم يكن له ذلك في الحضانة.
ولا تثبت الحضانة لمعتوه ولا لمجنون؛ لأنه لا يصلح للحضانة.
ولا تثبت الحضانة لفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن ينشئ الولد على طريقته.
وإن كان أحد الأبوين مسلماً.. فالولد للمسلم، ولا تثبت عليه الحضانة للكافر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت للكافر على المسلم؛ لما «روى عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، [عن جده] : أنه قال: أسلم أبي، وأبت أمي أن تسلم، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا غلام، اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت.. إلى أبيك، وإن شئت.. إلى أمك "، فتوجهت إلى أمي، فلما رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. سمعته يقول: " اللهم اهده "، فملت إلى أبي، فقعدت في حجره» .(11/275)
والمذهب الأول؛ لأن الحضانة لحظ الولد، ولا حظ له في حضانة الكافر؛ لأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه.
وأما الحديث: فغير معروف عند أهل النقل، وإن صح.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصاً لذلك الولد دون غيره.
[فرع زواج المطلقة يسقط حقها من الحضانة]
وإذا تزوجت المرأة.. سقط حقها من الحضانة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال الحسن البصري: لا يسقط حقها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] [النساء: 23] ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب، فكانت عندها» .
«وروى ابن عباس: أن علياً وجعفراً ابني أبي طالب، وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال جعفر: أنا أحق بها، أنا ابن عمها، وخالتها تحتي. وقال علي: أنا أحق بها؛ أنا ابن عمها، وابنة(11/276)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتي - يعني: ابنة ابن عمها - وقال زيد: أنا أحق بها؛ لأنها ابنة أخي - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين حمزة وزيد بن حارثة - فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: " الخالة أم ". فقضى بها للخالة وهي مزوجة» .
ودليلنا: ما روى «عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني، ويريد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» . ولأنها إذا تزوجت.. استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة، فلا تقوم بحضانة الولد.
وأما الآية: فالمراد بها: إذا لم يكن هناك أب يستحق الحضانة، أو كان ورضي.
وأما زينب وابنة حمزة: فلأنه لم يكن هناك من النساء من يستحق الحضانة خالية من الأزواج.
إذا ثبت هذا: فإن طلقت الزوجة طلاقاً بائناً أو رجعياً.. عاد حقها من الحضانة.(11/277)
وقال مالك: (لا يعود حقها من الحضانة بحال) .
وقال أبو حنيفة، والمزني: (إن كان الطلاق بائناً.. عاد حقها، وإن كان رجعياً.. لم يعد حقها؛ لأن الزوجية باقية بينهما) .
ودليلنا: أن حقها إنما سقط باشتغالها عن الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن والرجعي، فعاد حقها من الحضانة.
وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم الكافر.. عاد حقهم من الحضانة؛ لأن الحضانة زالت لمعنى، وقد زال ذلك المعنى، فعادت الحضانة.
[مسألة ثبوت الحضانة للوارثين من ذوي الأرحام]
ولا تثبت الحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام، كابن الأخت وابن الأخ للأم، وأبي الأم، والخال، وابن العم للأم؛ لأنه ذكر لا يرث، فأشبه الأجنبي.
قال الشيخ أبو إسحاق: لا تثبت الحضانة لابن البنت. وهذا الذي قاله لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في حضانة الكبير المجنون؛ لأنا قد قلنا: تجب حضانته كما تجب حضانة الصغير.
ولا تثبت الحضانة لمن أدلى من النساء والرجال بهؤلاء الرجال؛ لأن الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم.. لم تثبت لمن أدلى بهم.
[مسألة الأم تقدم للحضانة مع جماعة النساء]
وإذا اجتمع النساء من القرابة، وهن يصلحن للحضانة، ولا رجل معهن، وتنازعن في حضانة المولود. قدمت الأم على غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» ، ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه.(11/278)
فإن عدمت الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمها، ثم إلى أم أمها وإن علت. فأما أمهات أبيها.. فلا مدخل لهن في الحضانة.
فإن عدمن الجدات من قبل الأم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تنتقل الحضانة إلى الأخوات والخالات، ويقدمن على أمهات الأب؛ لأنهن يدلين بالأم، وأمهات الأب يدلين بالأب، والأم تقدم على الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب) .
فعلى هذا: تكون الحضانة للأخت للأب والأم، ثم للأخت للأم، ويقدمان على الخالة؛ لأنهما أقرب؛ لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد، ثم تنتقل إلى الخالة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخالة أم» . فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم.
فإذا عدمن الأخوات للأب والأم، أو للأم، والخالات.. انتقلت الحضانة إلى أم الأب، ثم إلى أمهاتها الوارثات، ثم تنتقل إلى الأخت للأب، ثم إلى العمة، وتقدمان على أمهات الجد؛ لأن الأب أقرب من الجد، فقدم من يدلي به على من يدلي بالجد، ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات، الأقرب فالأقرب. هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق.
وقال ابن الصباغ، والطبري: تقدم الأخت للأب على الأخت للأم على هذا أيضاً.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمهات الأب الوارثات، فإن عدم من يصلح لها من أمهات الأب.. انتقلت إلى أمهات الجد، ثم إلى أمهات أبي الجد. فإن عدم من يصلح لها من الجدات من قبل الأب.. انتقلت إلى الأخوات) . وبه قال أبو حنيفة؛ وهو الأصح؛ لأنهن جدات وارثات، فقدمن على الأخوات، كالجدات من قبل الأم.
ويقدمن الأخوات على الخالات والعمات؛ لأنهن أقرب، فتكون الحضانة للأخت(11/279)
للأب والأم، ثم للأخت للأب، ثم للأخت للأم؛ لأنهن أقرب.
وقال أبو حنيفة، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تقدم الأخت للأم على الأخت للأب؛ لأنها تدلي بالأم، والأخت للأب تدلي بالأب، فقدم من يدلي بالأم على من يدلي بالأب، كما تقدم الأم على الأب) .
والمذهب الأول؛ لأن الأخت للأب تقوم مقام الأخت للأب والأم في التعصيب، فقامت مقامها في الحضانة.
ثم تنتقل إلى الخالات، ويقدمن على العمات؛ لأنهن يدلين بالأم، فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم، ثم للعمة للأب والأم، ثم للعمة للأب، ثم للعمة للأم.
وعلى قول من قدم الأخت للأم على الأخت للأب: تقدم الخالة والعمة للأم على الخالة والعمة للأب.
والذي يقتضي المذهب: أن الحضانة لا تنتقل إلى الخالات إلا بعد عدم بنات الأخ وبنات الأخت؛ لأنهن أقرب، ولا تنتقل الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات.
[مسألة من يقدم للحضانة من الرجال]
وإن اجتمع الرجال ولا نساء معهم، وهم من أهل الحضانة.. قدم الأب على غيره من الرجال؛ لأن له ولاية عليه، ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين الأقرب فالأقرب؛ لأنهم يلون عليه بأنفسهم، فقاموا مقام الأب، وهل تثبت الحضانة لغيرهم من العصبات؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا تثبت لهم الحضانة؛ لأنه لا معرفة لهم في(11/280)
الحضانة، ولا يلون على ماله بأنفسهم، فلم يكن لهم حق في الحضانة، كالأجانب، إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه.
و [الثاني] : منهم من قال: تثبت لهم الحضانة، وهو المنصوص؛ لأن علياً وجعفراً ادعيا حضانة ابنة حمزة - لكونهما ابني عم - بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما دعواهما بذلك.
وروى عمارة الجرمي قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي وأمي) . ولأن له تعصيباً بالقرابة.. فثبت لها الحضانة، كالأب، والجد.
فعلى هذا: إذا عدم الأجداد.. قال الشيخ أبو إسحاق: انتقلت الحضانة إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى ابن الأخ للأب والأم، ثم إلى ابن الأخ للأب، ثم إلى العم للأب والأم، ثم إلى العم للأب، ثم إلى ابن العم.
وقال ابن الصباغ: تنتقل إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى الأخ للأم.
قال: وعلى قول أبي العباس - حيث قدم الأخت للأم على الأخت للأب - يكون هاهنا وجهان:
أحدهما: لا يقدم الأخ للأم على الأخ للأب؛ لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، وإنما يستحق بقرابته بالأم، والأخ للأب أقوى، فقدم عليه.
والثاني: يقدم لإدلائه بالأم، وهي أقوى من الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب.
ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم العم، ثم بنو العم، ثم عم الأب، ثم بنوه.(11/281)
[مسألة يقدم حق الأم وأمهاتها على غيرهن من النساء والرجال]
] : قال الشافعي: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) .
وجملة ذلك: أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة.. نظرت:
فإن اجتمع الأب والأم.. قدمت الأم على الأب؛ لما روى عبد الله بن عمرو: «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» ، ولأن الأم أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع، فقدمت عليه.
وإن اجتمع الأب مع أم الأم وإن علت.. قدمن على الأب؛ لأنهن يقمن مقام الأم في تحقق الولادة، ومعرفة الحضانة، فقدمن على الأب، كالأم.
وإن امتنعت الأم من الحضانة ولها أم.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول ابن الحداد -: أن الحضانة تنتقل إلى الأب، ولا تنتقل إلى أم الأم؛ لأنه لا حق لأم الأم مع بقاء الأم، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا عضل عن النكاح.. فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الأولياء.
والثاني: أن الحضانة تكون لأم الأم، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه لا حق للأب في الحضانة مع وجود أم الأم، فإذا امتنعت الأم من الحضانة.. انتقلت إلى أمهاتها، كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، وتخالف ولاية النكاح، فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وهنا لا مدخل للحاكم في الحضانة بنفسه، فلم يقم مقام غيره.
وإن اجتمع الأب وأم نفسه.. قدم الأب.
ومن أصحابنا من قال: تقدم أم الأب وأمهاتها عليه؛ لأن حضانة النساء
أصلح(11/282)
للصغير وأوفق له. قال القاضي أبو الطيب: وهذا يقتضي أن تكون حضانة الأخوات والخالات والعمات أولى من الأب، وهو خلاف النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) ، ولأنها تدلي به، فلم تقدم عليه.
وإن اجتمع الأب مع الأخت للأم أو مع الخالة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقدمان على الأب، وهو قول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي حنيفة؛ لأن لهما معرفة بالحضانة، وتدليان بالأم، فقدمتا على الأب، كأمهات الأم.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن الأب يقدم عليهما؛ لأن له ولادة وإرثاً، فقدم عليهما، كالأم) .
[فرع تعيين من له الحضانة بحضرة الأب]
وإن اجتمع الأب وأم الأب والأخت للأم أو الخالة، فإن قلنا بقوله القديم: (إن أم الأب تسقط بالأخوات والخالات) .. بنينا هاهنا على الوجهين في الأب: هل يسقط الأخت للأم والخالة؟
إن قلنا: إنه يسقطهما.. كانت الحضانة للأب.
وإن قلنا: إنهما يقدمان عليه.. كانت الحضانة للأخت للأم، ثم للخالة، ثم للأب، ثم لأمه.
وإن قلنا بقوله الجديد: (أن أم الأب تسقط الأخوات والخالات) .. بنينا على الوجهين أيضاً في الأب إذا اجتمع مع أم نفسه.
فإن قلنا: تقدم عليه.. كانت الحضانة لها.
وإن قلنا: إنه يسقطها.. بنيت على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت للأم أو الخالة.
فإن قلنا بالمنصوص: (أن الأب يسقطهما) .. كانت الحضانة للأب؛ لأنه يسقطهما ويسقط أم نفسه، فكانت الحضانة له.(11/283)
وإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري: إنهما يسقطان الأب.. فهاهنا وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تكون الحضانة للأب؛ لأن الأخت والخالة تسقطان بأم الأب، وأم الأب تسقط بالأب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغير الشخص الحاجب، كما تحجب الأخوات الأم من الثلث إلى السدس ويكون للأب.
و [الثاني] : قال أبو العباس: تكون الحضانة للأخت أو الخالة؛ لأن الأب يسقط أم نفسه، والأب يسقط بالأخت أو بالخالة، فبقيت الحضانة لهما.
وإن اجتمع الأب والأخت للأب والأم، فإن قلنا: إن الأب يقدم على الخالة.. قدم الأب على الأخت للأب والأم، وإن قلنا: إن الخالة تقدم على الأب.. فهاهنا وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد، عن أبي سعيد الإصطخري:
أحدهما: أن الأخت أحق؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الأب، فإذا سقط الأب مع من تسقطه الأخت.. فلأن يسقط معها أولى.
والثاني - وهو الأصح -: أن الأب أحق؛ لأن الأخت تدلي به، فلا يجوز أن يكون المدلي أولى من المدلى به.
وإن اجتمع أب وأخت لأب وخالة، فإن قلنا: إن الأب يسقط الخالة.. كانت الحضانة للأب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الأب.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحضانة للأخت؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأب يسقط بالخالة، فإذا أسقطته الخالة.. فلأن يسقطه من يسقط الخالة أولى.
والثاني: أن الحضانة للأب؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأخت تسقط بالأب؛ لأنها تدلي به، فتصير الحضانة للأب، ولا يمتنع أن يسقط الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغيره، كما قلنا في حجب الإخوة للأم عن الثلث إلى السدس.(11/284)
والثالث: أن الحضانة للخالة؛ لأن الخالة تسقط الأب، والأب يسقط الأخت، فإذا سقطا.. بقيت الحضانة للخالة.
[فرع من يقدم على الأب يقدم على الجد]
وإن لم يكن أب، واجتمع الجد، والأم، وأم الأم وإن علت.. قدمن على الجد، كما يقدمن على الأب.
وإن اجتمع الجد وأم الأب.. قدمت عليه؛ لأنها مساوية في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت عليه، كما تقدم الأم على الأب.
وإن اجتمع الجد والأخت للأم أو الخالة.. ففيه وجهان، كما لو اجتمعا مع الأب.
وإن اجتمع الجد والأخت للأب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم عليها؛ لأن له ولادة وتعصيباً، فقدم عليها، كالأب.
والثاني: تقدم عليه؛ لأنها تساويه في الولادة، وتنفرد بمعرفة الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب.
[فرع تساوي الرجال والنساء في الحضانة غير الأب والجد]
وإن اجتمع رجل من العصبات غير الأب والجد مع من يساويه في الدرجة من النساء كالأخ والأخت، والعم والعمة، وابن العم وابنة العم، وقلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الرجل أحق بالحضانة؛ لأنه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق بحضانته.
والثاني: أن المرأة أحق بالحضانة؛ لأنها تساويه في الدرجة، وتنفرد بمعرفة(11/285)
الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب.
وإن اجتمع شخصان في درجة واحدة، كالأختين.. أقرع بينهما؛ لأنهما لا مزية لإحداهما على الأخرى.
[فرع ثبوت الحضانة للخنثى]
قال القاضي: إذا كان لطفل أخت لأب وأم، وخنثى لأب وأم.. فالحضانة للأنثى دون الخنثى.
وإن كان له أخت لأب، وخنثى لأب وأم.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الخنثى أولى.
والثاني: أن الأخت أولى.
وإن اجتمع خنثيان: أحدهما خال، والآخر عم.. فالحضانة للخال؛ لأنه لما تقابلت أحوالهما.. قوي الخال لقوة إدلائه بالأم؛ لأن الغالب أن أحكام الخنثى حكم المرأة.
فإن عدم من تصلح للحضانة من النساء والعصبات من الرجال، وهناك رجل من رجال ذوي الأرحام.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت له الحضانة؛ لأن الحضانة لحظ الصغير، وهو أشفق عليه من الأجنبي.
والثاني: أنه لا حق له في الحضانة، بل يستأجر السلطان من يراه يصلح لها؛ لأنه لا حق له في الحضانة في الأصل، فكانت إلى السلطان، كالميراث.
والمستحب للسلطان: أن يقيم لها من يصلح لها منهم؛ لأنهم أشفق عليه من غيرهم.(11/286)
وإن ثبتت الحضانة لشخص وكان غائباً.. كانت الحضانة لمن بعده في الدرجة؛ لأن الغائب بمنزلة المعدوم، فإذا حضر الغائب نقل الصغير إليه؛ لأن الحضانة له، ولم يسقط حقه بغيبته.
[مسألة ثبوت خيار ابن السبع لأحد أبويه]
وإن بانت المرأة من زوجها في حال الحياة، وبينهما ولد له سبع سنين فما زاد وهو مميز، وتنازع الأبوان فيمن يكون عنده.. فإنه يخير بينهما، فإذا اختار أحدهما.. كان عنده.
وقال أبو حنيفة، ومالك: (لا يخير بينهما) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن كانت بنتاً.. فالأم أحق بها إلى أن تبلغ، وإن كان ابناً.. فالأم أحق به إلى أن يبلغ حداً يأكل بنفسه، ويشرب بنفسه، ويستنجي بنفسه، ويلبس بنفسه، ثم الأب أولى به إلى أن يبلغ) . ومالك يقول: (الأم أحق بالبنت إلى أن تتزوج ويدخل بها زوجها، وهي أحق بالابن إلى أن يبلغ) .
وقال أحمد: (إن كان ذكراً.. خير بينهما، وإن كان أنثى.. لم تخير، بل الأم أحق بها) .
دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: «أنه خير غلاماً بين أبويه» .(11/287)
وروى أبو داود في " سننه " [2277] «عن أبي هريرة قال: (كنت جالساً عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن هذا ولدي، وإنه نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، وإن أباه يريد أن يذهب به. فخيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به» .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خير غلاماً بين أبويه) .
وروي عن عمارة الجرمي: أنه قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين أمي وعمي، وكنت ابن سبع أو ثمان سنين) .
ولا مخالف لهم في الصحابة، فعلم أنه إجماع.
وإذا ثبت هذا في الذكر.. قسنا الأنثى عليه. ولا يثبت التخيير بينهما إلا إذا كان كل واحد منهما يصلح للحضانة، فإن كان أحدهما مملوكاً، أو معتوهاً، أو فاسقاً، أو كافراً.. فلا تخيير بينه وبين الآخر؛ لأنه لا حق له في كفالته.
[فرع اختار الوليين أو لم يختر أقرع بينهما]
وإن خير بينهما، فاختارهما معاً، أو لم يختر واحداً منهما.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يمكن اجتماعهما على كفالته، ولا قسمته بينهما، فأقرع بينهما.(11/288)
وإذا خير الولد بين الأبوين، فاختار أحدهما.. نظرت:
فإن كان أنثى واختارت الأم.. كانت عندها ليلاً ونهاراً، وإذا أحب الأب أن يزورها وينظر إليها.. جاء إليها من غير أن يتبسط في بيت الزوجة.
وإن كان ذكراً.. كان عند أمه بالليل، وبالنهار يأخذه الأب، ويسلمه إلى المكتب أو إلى أهل الصنع ليتعلم؛ لأن الأب أعلم بمصلحته في ذلك.
وإن اختار الولد الأب.. كان عند الأب ليلاً ونهاراً، ذكراً كان أو جارية، فإن أرادت الأم نظره، فإن كان الولد جارية.. جاءت الأم إليها؛ لأنهما - وإن كانتا عورتين - فالأم أولى بالخروج؛ لأنه لا يخاف عليها أن تخدع، والبنت يخاف عليها ذلك، ولا تطيل الإقامة في بيت الزوج، ولا تخلو بالزوج. وإن كان ذكراً.. أرسله الأب إلى أمه لتنظر إليه، ولا يكلفها المجيء إليه.
وإن مرض الولد عند الأب.. كانت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم به.
قال الشيخ أبو إسحاق: وتمرضه في بيتها.
وقال ابن الصباغ: تجيء إليه وتمرضه، ولا تخلو مع الزوجة.
وإن مرض أحد الأبوين، والولد عند الآخر.. لم يمنع الولد من زيارة المريض منهما؛ لأن في المنع من ذلك قطع الرحم.
وإن اختار الولد أحدهما.. سلم إليه، فإن اختار الآخر.. حول إليه، فإن اختار الأول.. أعيد إليه؛ لأن هذا تخيير شهوة وليس بلازم، بدليل: أنه يصح من الصغير، ولأن ذلك جعل لحظه، وقد يرى الحظ لنفسه في الإقامة عند أحدهما زمانا وعند الآخر في الزمن الآخر.(11/289)
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا أبداً: متى اختار أن يتحول إلى الآخر.. حول إليه.
وأما الجويني: فقال: إذا أكثر من ذلك.. لم يلتفت إليه.
[فرع تخيير الصغير بين الجد والأم]
وإن لم يكن له أب، وله جد وأم.. خير بينهما كما يخير بين الأب والأم.
فإن لم يكن له أب ولا جد، فإن قلنا: لا حق لسائر العصبات غير الأب والجد في الحضانة.. ترك الولد عند الأم. وإن قلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. نظرت في الولد:
فإن كان ذكراً خير بين الأم وبين سائر العصبات؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وإن كان الولد جارية، فإن كان العصبة محرماً لها، كالأخ وابن الأخ والعم.. خيرت بينه وبين الأم، وإن كان غير محرم لها، كابن العم.. لم تخير بينه وبين الأم؛ لأنه لا تجوز له الخلوة بها، فلم يجز أن تسلم إليه.
قال ابن الصباغ: فإن كانت له بنت.. سلمت إلى بنته.
[مسألة الأم بائنة وأراد أحد الأبوين السفر بالولد]
إذا بانت المرأة من زوجها وبينهما ولد صغير، وأراد أحد الأبوين السفر إلى بلد.. نظرت:
فإن كان السفر لحاجة، ثم يعود.. فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به. وهكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد: إذا سافر الأب لحاجة، فإن كان الولد صغيراً.. ترك مع الأم، وإن كان مميزاً.. خير بينهما، فإن اختار الأب.. لم يسافر به، وإنما يسلمه إلى من يقوم به.(11/290)
وإن كان السفر للنقلة.. نظرت:
فإن كان الطريق الذي يسافر إليه مخوفاً.. فالمقيم منهما أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به.
وإن كان الطريق آمناً، والسفر مما تقصر فيه الصلاة.. فالأب أحق بالولد، سواء كان المسافر الأب أو المقيم، وسواء كان الولد مميزاً أو غير مميز، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب هو المنتقل.. فالأم أحق به، وإن كانت الأم هي المنتقلة، فإن انتقلت إلى بلد.. فهي أحق به، وإن انتقلت من قرية إلى قرية.. فالأب أحق به) .
دليلنا: أن في كون الولد مع الأم حظاً للولد في الحضانة، وفي كونه مع الأب الحظ له في حفظ نسبه وتأديبه وتعليمه، ومراعاة حفظ النسب والتعليم أولى من مراعاة الحضانة، وغير الأم يقوم مقامها في الحضانة، ولا يقوم غير الأب مقامه في حفظ النسب.
وإن كان السفر للنقلة، أو إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فذكر الشيخان: أن حكمهما في حضانة الصغير وتخيير المميز حكم المقيمين؛ لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر، ومراعاة الأب له ممكنة.
وقال ابن الصباغ: حكمهما حكم السفر إلى مسافة القصر؛ لأنه لا يمكنه تأديبه وتعليمه في ذلك.
وإن كان الأب هو المسافر، فقال الأب: أسافر للنقلة، وقالت الأم: بل تسافر لحاجة.. فالقول قول الأب مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أراد.
فإن سافر الأب إلى بلد للنقلة، وسافرت الأم معه إلى تلك البلد.. لم يسقط حقها من الحضانة.
وإن سافر الأب ولم تسافر الأم معه، ورجع الأب.. عاد حقها؛ لأن حقها سقط لمعنى، وقد زال المعنى.(11/291)
وإن ثبتت الحضانة لغير الأب من العصبات.. فحكمه حكم الأب فيما ذكرناه من السفر؛ لأنه يقوم مقام الأب في حفظ النسب، وتأديب الولد.
وبالله التوفيق(11/292)
[كتاب الجنايات] [باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب](11/293)
كتاب الجنايات باب تحريم القتل، ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب
القتل بغير حق حرام. والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] [الأنعام: 151]
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] [النساء: 92] . فأخبر: أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ.
وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] لم يرد به: أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد: لكن إذا قتله خطأ.. فعليه الدية والكفارة.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] [النساء: 93] .
وأما السنة: فما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» .(11/295)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في قتل مؤمن لكبهم الله في النار» .
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل(11/296)
الأرض اشتركوا في قتل مؤمن.. لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك» .
وروى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يحكم بين العباد يوم القيامة في الدماء» .
وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق.
إذا ثبت هذا: فمن قتل مؤمناً متعمداً بغير حق.. فسق، واستوجب النار، إلا أن يتوب. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا تقبل توبة القاتل) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] [الفرقان: 70] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» .
ولأن التوبة إذا صحت من الكفر.. فلأن تصح من القتل أولى.
[مسألة من قتل عامداً عليه القصاص]
وإذا قتل من يكافئه عامداً، وهو: أن يقصد قتله بما يقتل غالباً، فيموت منه.. وجب عليه القصاص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . وهذه الآية حجة لنا بلا خلاف؛ لأن من أصحابنا من يقول: شرع(11/297)
من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير. ومن قال منهم: ليس بشرع لنا.. فإن الشرع قد ورد بثبوت حكم هذه الآية في حقنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الأنصار: " كتاب الله القصاص» . وليس للسن ذكر في القصاص في الكتاب إلا في هذه الآية.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] [البقرة: 178] .(11/298)
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] .
ومعنى ذلك: أن الإنسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل.. لم يقتل، فكان في ذلك حياة لهما.
وكانت العرب تقول في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، فكان ما ورد به القرآن أحسن لفظاً وأعم معنى.(11/299)
وقَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) هاهنا: القصاص.
وروى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» .
ولا يجب القصاص بـ ": (قتل الخطأ) ، وهو: أن يقصد غيره، فيصيبه، فيقتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
ولا يجب القصاص في (عمد الخطأ) ، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل(11/302)
غالباً، فيموت منه؛ لأنه لم يقصد القتل، فلم تجب عليه عقوبة القتل، كما لا يجب حد الزنا على الواطئ بالشبهة.
[مسألة لا قصاص على صبي ومجنون]
ولا يجب القصاص على الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأن القصاص من حقوق الأبدان، وحقوق الأبدان لا تجب على الصبي والمجنون، كما قلنا في الصلاة والصوم.
وإن قتل السكران من يكافئه عمداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان.
ومنهم من قال: يجب عليه القصاص، قولاً واحداً، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق.
وإن قتل رجلاً وهو عاقل، ثم جن أو سكر.. لم يسقط عنه القصاص؛ لأن القصاص قد وجب عليه، فلا يسقط بالجنون والسكر، كما لا يسقط عنه ذلك بالنوم.
[مسألة مكافأة الجاني للمجني عليه]
وإذا كافأ الجاني المجني عليه، وهو: أن يكون ممن يحد أحدهما بقذف الآخر.. فقد ذكرنا: أنه يجب القصاص على الجاني.
فإن قتل المسلم مسلماً، أو الكافر كافراً سواء كانا على دين أو على دينين، أو قتل الرجل رجلاً، أو المرأة امرأة، أو قتل الحر حراً، أو قتل العبد عبداً.. وجب القصاص على القاتل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] [البقرة: 178] ولأن كل واحد منهما مساو لصاحبه، فقتل به.(11/303)
ويقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهو إجماع. ولأنه إذا قتل بمن يساويه.. فلأن يقتل بمن هو أعلى منه أولى.
ويقتل الذكر بالأنثى، وهو قول أكثر العلماء.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا يقتل بها) .
وقال عطاء: يكون ولي المرأة بالخيار: بين أن يأخذ ديتها، وبين أن يقتل الرجل بها ويدفع إلى وليه نصف الدية. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] وقَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهذا عام إلا فيما خصه الدليل.
وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: " يقتل الرجل بالمرأة» .(11/304)
ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه، فجرى القصاص بينهما، كالرجلين والمرأتين.
ويقتل الخنثى بالخنثى، ويقتل الخنثى بالرجل والمرأة، ويقتل الرجل والمرأة بالخنثى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
[مسألة لا يقتل مسلم بكافر]
ولا يقتل المسلم بالكافر، وسواء كان الكافر ذمياً، أو مستأمناً، أو معاهداً.
وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن(11/305)
ثابت وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، والأوزاعي، ومالك.
وقال الشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة: (يقتل المسلم بالذمي، ولا يقتل بالمستأمن) . وهو المشهور عن أبي يوسف.
وروي عن أبي يوسف: أنه قال: يقتل بالمستأمن.
ودليلنا: ما «روى أبو جحيفة أنه قال: (قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا أمير المؤمنين، هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما علمته إلا فهماً يعطيه الله رجالاً في القرآن وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن(11/306)
بكافر، ولا ذو عهد في عهده» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . ومعنى قوله: «لا يقتل ذو عهد في عهده» ، أي: لا يجوز قتل أهل الذمة.
ولأنه مسلم قتل كافراً، فلم يقتل به، كالمستأمن.
[فرع قتل كافر كافراً ثم أسلم]
وإن قتل الكافر كافراً، ثم أسلم القاتل، أو جرح الكافر كافراً، فمات المجروح، ثم أسلم الجارح.. قتل به.
وقال الأوزاعي: (لا يقتل به) .
ودليلنا: ما روى ابن البيلماني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مسلماً بذمي، وقال: " أنا أحق من وفى بذمته» .(11/307)
وتأويله: أنه قتله وهو كافر، ثم أسلم، ولأن القصاص حد، والاعتبار بالحد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، بدليل: أنه لو زنى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن، أو زنى وهو عبد، فلم يحد حتى أعتق.. اعتبر حال الوجوب، وهذا كان مكافئاً له حال الوجوب، فلم يتغير بما طرأ بعده.
وإن جرح الكافر كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه قد أتت عليه حالة لو قتله فيها.. لم يجب عليه القصاص.
والثاني: يجب عليه القصاص، وهو المشهور اعتباراً بحالة الإصابة، كما لو مات المجروح، ثم أسلم الجارح.
[مسألة قتل الحر عبداً]
وإن قتل حر عبداً.. لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال النخعي: يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره.
وقال أبو حنيفة: (يقتل بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه) .(11/308)
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» .
وروي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من السنة أن لا يقتل حر بعبد» . وإذا قال الصحابي: من السنة كذا وكذا.. اقتضى ذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن كل شخصين لم يجز القصاص بينهما في الأطراف.. لم يجز بينهما في النفس، كعبد نفسه، وكالمسلم والمستأمن.
[فرع قتل حر كافر عبداً مسلماً]
وإن قتل حر كافر عبداً مسلماً.. لم يقتل به؛ لأن الحر لا يقتل بالعبد.
وإن قتل عبد مسلم حراً كافراً.. لم يقتل به؛ لأن المسلم لا يقتل بالكافر.
وإن قتل عبد عبداً، ثم أعتق القاتل، أو جرح عبد عبداً، فمات المرجوح، ثم أعتق الجارح.. قتل به؛ لأنه كان مساوياً له حال الجناية.
وإن أعتق الجارح، ثم مات المجروح.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، كما قلنا في الكافر إذا جرح كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح.
وإن قتل ذمي عبداً، ثم لحق الذمي بدار الحرب، وأخذه المسلمون واسترقوه، أو جرحه ثم استرق، ثم مات العبد.. لم يقتل به؛ لأنه كان حين وجوب القصاص وحين الجراحة حراً، فلم يتغير حكمه في القصاص بما طرأ بعده.(11/309)
[فرع قتل الحر لمبعض]
وإن قتل الحر من نصفه حر ونصفه مملوك.. لم يقتل به؛ لأن الحر أكمل منه، وإن قتله العبد.. قتل به؛ لأنه أكمل من العبد.
وإن قتل من نصفه حر ونصفه عبد حراً.. قتل به؛ لأنه قتل من هو أكمل منه، وإن قتل عبداً.. لم يقتل به؛ لأنه أكمل من العبد.
وإن كان رجلان نصفهما حر ونصفهما رقيق، فقتل أحدهما الآخر.. فهل يقتل به؟ فيه وجهان:
أحدهما - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه يقتل به، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنهما متساويان، والقصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل.
والثاني - وهو قول القفال، والقاضي أبي الطيب -: أنه لا يقتل به؛ لأن الحرية شائعة فيهما.
ولا نقول: قتل بنصفه الحر نصفه الحر، وبنصفه العبد نصفه العبد، ولكن قتل بنصفه الحر ربعه الحر وربعه العبد، ألا ترى أنه لو وجبت الدية.. لكانت تجب ربع الدية وربع القيمة عليه في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته؟ فلو قتلناه به.. لكنا قد قتلنا حراً بحر وعبد.
[فرع قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم]
وإن قطع مسلم يد ذمي، ثم أسلم الذمي، ثم مات.. فلا قصاص على المسلم.
وكذلك: إذا قطع حر يد عبد، ثم أعتق العبد، ثم مات.. فلا قصاص على الحر؛ لأن القصاص لما سقط في القطع.. سقط في سرايته، ولأن القصاص معتبر بحال الجناية، وحال الجناية هو غير مكافئ له، فلم يجب عليه القصاص، كما(11/310)
قلنا في الكافر إذا قطع يد الكافر، ثم مات المقطوع، ثم أسلم القاطع، أو قطع العبد يد العبد، ثم مات المقطوع، ثم أعتق القاطع.. أن عليهما القصاص.
وإن قطع مسلم يد مرتد أو يد حربي، ثم أسلم المقطوع، ثم مات.. لم يجب على القاطع قود ولا دية؛ لأنه لم يكن مضموناً حال الجناية.
ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم حال استقرار الجناية. والأول أصح.
وإن رمى مسلم سهما إلى ذمي، فأسلم، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود، ووجبت فيه دية مسلم.
وكذلك: إذا رمى حر سهماً إلى عبد، فأعتق، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود عليه، وتجب فيه دية حر.
وإن رمى سهماً إلى مسلم، فارتد، ثم أصابه السهم.. فلا قود عليه، ولا دية في ذلك؛ لأن جزءا من الجناية كان منه، ولا قصاص فيه، فاعتبر حال إرساله السهم، ولأن القود يجب إذا قصد تلف نفس تكافئ نفسه، وهذا في حال القصد لم يكن مكافئاً له.
فإن قيل: فقد قلتم: لو رمى المحرم صيداً، ثم حل من إحرامه، ثم أصاب الصيد.. أنه لا ضمان عليه، ولو رماه وهو محل، فأحرم، ثم أصاب الصيد.. أن عليه الجزاء، فاعتبرتم في الجزاء الإصابة، وفي القود الإرسال؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الجزاء مال، فاعتبر فيه حال الإصابة؛ لأنه حال الاستقرار، والقود ليس بمال، فاعتبر فيه حال الإرسال.
وإن رمى سهماً إلى حربي أو مرتد، فأسلم، ووقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود؛ لما ذكرناه، وتجب فيهما دية مسلم.(11/311)
وقال أبو إسحاق: لا تجب عليه الدية في الحربي، وتجب في المرتد؛ لأن الحربي كان له رميه، والمرتد ليس له قتله، وإنما قتله إلى الإمام.
ومن أصحابنا من قال: لا دية فيهما، كما لو قطع أيديهما، ثم أسلما، ثم سرى القطع إلى نفوسهما. والأول هو المنصوص؛ لأن الاعتبار في الدية حال الإصابة، وحال الإصابة كان محقون الدم، فوجب ضمانه.
[مسألة قطع مسلم يد مسلم فارتد]
وإن قطع مسلم يد مسلم، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. فهل يجب على الجاني القود؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: ينظر فيه:
فإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة فيه.. لم يجب عليه القود في النفس، قولاً واحداً؛ لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص، والسراية في حال الردة لا توجب القصاص، وقد خرجت الروح منهما، فلم يجب القصاص، وكما لو جرحه جراحة عمدا ًوجراحة خطأ، ومات منهما.
وإن أقام في الردة زماناً لا تسري فيه الجراحة.. فهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأن الجناية والسراية في حال الإسلام، وزمان الردة لا تأثير لها، فوجب عليه القصاص، كما لو لم يرتد.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه تخللهما زمان لو مات فيه.. لم يجب عليه فيه القصاص، فهو كما لو طلق امرأته ثلاثاً في مرض موته، ثم ارتدت، ثم مات.. فإنها لا ترثه.(11/312)
ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لو قطع ذمي يد مستأمن، فنقض المستأمن العهد، ولحق بدار الحرب، ثم عاد بأمان، ثم سرت إلى نفسه.. فهل على القاطع القود؟ فيه قولان) . ونقض العهد في حق المستأمن كالردة للمسلم، وقد نص فيه على قولين. وإن كان قد لحق بدار الحرب، ثم عاد، وهذا زمان تسري فيه الجناية.
والأول هو المشهور. والنص في المعاهد متأول على: أنه كان مجاوراً لدار الحرب، فلحق بها، ثم عاد من وقته قبل أن يمضي زمان تسري الجناية في مثله.
فإن قلنا: يجب عليه القصاص في النفس.. فالولي بالخيار: بين أن يقطع يده ثم يقتله، وبين أن يقتله.
وإن قلنا: لا يجب عليه القصاص في النفس.. فهل يجب عليه القصاص في اليد؟ فيه قولان، كما لو مات على الردة، ويأتي توجيههما.
وأما الكفارة: فإنها تجب عليه على القولين؛ لأن الجناية وقعت والنفس محرمة القتل.
وأما الدية: فإذا قلنا: لا يجب القصاص، أو قلنا: يجب وعفا الولي عن القصاص أو كانت الجناية خطأ. فقال البغداديون من أصحابنا: إن لم يبق في الردة زمان تسري الجناية في مثله.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية مضمونة، وزمان الردة لا تأثير له. وإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة في مثله.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ قولين:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية غير مضمونة، والروح قد خرجت منهما، فلم يجب عليه كمال الدية، كما لو جرح رجل مسلماً، ثم ارتد المجروح، وجرحه آخر في حال الردة، ومات.. فإنه لا يجب على الأول إلا نصف الدية.(11/313)
والثاني: تجب عليه دية كاملة، وهو الأصح؛ لأن الجناية إذا كانت مضمونة.. كان الاعتبار بالدية حال الاستقرار وهو مسلم، فوجبت فيه دية مسلم، كما لو قطع يد عبد، ثم أعتق، ثم مات.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: يجب عليه القود، فعفا الولي عن القود.. وجبت فيه دية مسلم. وإن قلنا: لا يجب عليه القود.. فكم يجب فيه من الدية؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب فيه ثلثا الدية - وهو قول ابن سريج - فتوزع الدية على أحواله الثلاثة، فيسقط ثلثها بإزاء السراية في حال الردة.
والثاني: يجب نصف الدية، كما لو مات من جراحتين: إحداهما مضمونة، والأخرى غير مضمونة.
والثالث: يجب عليه أقل الأمرين من أرش الجناية أو جميع الدية.
وإن قطع يد مسلم، فارتد المقطوع، ومات في الردة من القطع.. فلا يجب عليه القصاص في النفس، ولا الدية، ولا الكفارة؛ لأن النفس خرجت ولا حرمة لها، وهل يجب القصاص في اليد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأن اليد تابعة للنفس، فإذا لم يجب القصاص في النفس.. لم يجب في اليد.
والثاني: يجب فيها، وهو الأصح، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] : غيره؛ لأن القصاص يجب في الطرف مستقراً، ولا يسقط بسقوطه في النفس، بدليل: أنه لو قطع يد رجل، ثم جاء آخر، وقتل المقطوع.. فإنه يجب على الأول القصاص في اليد.
وهكذا الحكم فيمن قطع يد مستأمن، فنقض العهد، ولحق بدار الحرب، ومات بها من القطع؛ لأن نقض العهد في حقه كالردة.(11/314)
[مسألة قتل مرتد ذمياً]
وإن قتل المرتد ذمياً.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود - وهو اختيار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والمزني - لأنهما كافران، فجرى القصاص بينهما، كالذميين، ولأن الذمي أحسن حالاً من المرتد؛ لأنه مقر على دينه، والمرتد غير مقر على دينه.
فعلى هذا: يجب عليه القصاص، سواء رجع إلى الإسلام أو لم يرجع؛ لأن القصاص قد وجب عليه حال الجناية، فلم يسقط بالإسلام، كالذمي إذا جرح الذمي، ثم أسلم الجارح، ثم مات.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه شخص تجب في ماله الزكاة، فلم يقتل بالذمي، كالمسلم.
فعلى هذا: تجب عليه الدية، فإن رجع إلى الإسلام.. تعلقت الدية بذمته، وإن مات أو قتل على الردة.. تعلقت بماله.
وإن جرح المسلم ذمياً، ثم ارتد الجارح، ثم مات المرجوح.. لم يجب القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه حالة الجرح لم يكن مكافئاً له.
وإن قتل الذمي مرتداً.. فهل يجب عليه القود؟
قال الخراسانيون من أصحابنا: يبنى على القولين في المرتد إذا قتل الذمي.
فإن قلنا هناك: يجب القود.. لم يجب القود على الذمي؛ لأنه قتل مباح الدم.
وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. وجب هاهنا القود.
وقال البغداديون من أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. وجبت فيه الدية؛ لأن قتله بالردة للمسلمين، فإذا قتله غيرهم.. وجب عليه الضمان، كما لو قتل رجل رجلاً، ثم قتله غير ولي الدم.(11/315)
والثاني - وهو قول أبي الطيب بن سلمة، وأبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. لم تجب عليه الدية؛ لأن القود إنما يجب عليه لاعتقاد الذمي أنه مثله، وأنه مكافئ له، ولا تجب عليه الدية؛ لأنه لا قيمة لدمه.
والثالث - وهو قول أبي إسحاق، وهو الأصح -: أنه لا يجب عليه القود ولا الدية؛ لأن كل من لا يضمنه المسلم بقود ولا دية.. لم يضمنه الذمي، كالحربي.
وإن قتل المرتد مرتداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لتماثلهما من جميع الوجوه.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه ربما أسلم القاتل.
[فرع قتل من لا يعلم إسلامه]
وإن حبس السلطان مرتدا، فأسلم، وخلاه، فقتله رجل قبل أن يعلم بإسلامه، أو علم رجل رجلاً مرتدا، فأسلم المرتد، وقتله الرجل قبل أن يعلم بإسلامه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتل من يكافئه.
فعلى هذا: تجب عليه دية مسلم.
والثاني: يجب عليه القود؛ لأن الظاهر من المرتد أنه لا يخلى من حبس السلطان في دار الإسلام إلا بعد إسلامه.
وقال الطبري: وإن أسلم الذمي، ثم قتله مسلم قبل أن يعلم بإسلامه، أو أعتق العبد، ثم قتله حر قبل أن يعلم بعتقه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان، كالتي قبلها.
وأما الزاني المحصن إذا قتله رجل بغير إذن الإمام: ففيه وجهان:(11/316)
أحدهما: أن عليه القود؛ لأن قتل المحصن إلى الإمام، فإذا قتله غيره بغير إذنه.. وجب عليه القود، كما لو قتل رجل رجلاً، فقتله غير ولي الدم.
والثاني: لا يجب عليه القود، وهو المنصوص؛ لما روي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أفأمهله حتى أقيم البينة؟ قال: " نعم» . فدل على: أنه إذا أقام عليه البينة لا يمهله، بل له أن يقتله.
وروى ابن المسيب: (أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فقتله، فأشكل فيه الأمر على معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب في ذلك إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله أن يسأل عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، فسأله أبو موسى عن ذلك، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما هذا شيء وقع بأرضنا، عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: كتب إلي بذلك معاوية، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا أبو الحسن لها - وروي: أنا أبو حسن - إن أقام البينة، وإلا.. أعطى برمته) . و (الرمة) : الحبل الذي يربط به الرجل إذا قدم للقتل.
وروي: (أن رجلاً على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في بعض غزواته،(11/317)
واستخلف يهودياً في بيته يخدم امرأته، فلما كان في بعض الليالي.. خرج رجل من المسلمين في سحر، فسمع اليهودي يقول:
وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويمسي ... على جرداء لاحقة الحزام
كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام
فدخل عليه الرجل، فقتله، فأخبر بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأهدر دم اليهودي) . وهذا يدل على: أن اليهودي كان محصناً. ولأنه قتل مباح الدم، فهو كالمرتد.
فعلى هذا: لا تجب عليه الدية؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهدر دم اليهودي، وإنما يجب بقتله الدية. ولأنا قد قلنا: هو كالمرتد، والمرتد لا تجب على قاتله الدية، فكذلك هذا مثله.
و (الربلات) : لحم العضدين والفخذين وما أشبههما.
و (الفئام) : الجماعة من الناس.
[مسألة لا يقتل أصل بفرع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتل والد بولده؛ لأنه إجماع، ولا جد من قبل أم ولا أب) .
وجملة ذلك: أن الأب إذا قتل ولده.. لم يجب عليه القصاص. وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الصحابة، ومن الفقهاء: ربيعة، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن رماه بالسيف، فقتله.. لم يقد به؛ لأنه قد يريد بذلك التأديب، وإن أضجعه وذبحه.. قتل به) .(11/318)
دليلنا: ما روى عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده» .
ولأن كل من لا يقتل به إذا رماه بالسيف.. لم يقتل به وإن أضجعه وذبحه، كالمسلم إذا قتل الكافر.
فإن قيل: فما معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إجماع) ومالك مخالف له؟
فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد به إجماع الصحابة؛ لأنه قد روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهما في الصحابة.
والثاني: أنه أراد: إذا رماه بالسيف.. فإنه إجماع.
ولا تقتل الأم، ولا أحد من الجدات من قبل الأم أو الأب، ولا أحد من الأجداد من قبل الأم أو الأب بالولد وإن سفل.(11/319)
قال الطبري: وذكر صاحب " التلخيص " قولاً آخر: أن غير الأب من الأمهات والأجداد يقتلون بالولد.
قال أصحابنا: ولا يعرف هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولعله قاس على رجوعهم في هبتهم له، فإن فيه قولين عند الخراسانيين.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقاد والد بولده» . والوالد يقع على الجميع. ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة، فشاركوا فيه الأب، كالعتق بالملك، ووجوب النفقة.
[فرع ادعيا لقيطاً ولا بينة فقتلاه]
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ولا بينة لأحد منهما.. عرض على القافة، فإن قتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أباه، فإن رجعا عن الإقرار بنسبه.. لم يسقط نسبه عن أحدهما؛ لأن من أقر بنسب احتمل صدقه.. لم يجز إسقاطه برجوعه.
فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على دعواه.. انتفى نسبه عن الراجع، ولحق بالآخر؛ لأن رجوع الراجع لا يسقط نسبه، ويسقط القصاص عن الذي لحق نسبه به، ويجب القصاص على الراجع؛ لأنه شارك الأب، ولا يكون القصاص للأب، لأنه قاتل، بل يكون لسائر ورثة اللقيط، ويجب على الأب لهم نصف الدية.
وإن تزوج رجل امرأة في عدتها من غيره، ووطئها جاهلاً بالتحريم، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لجواز أن يكون كل واحد منهما أباه، فإن رجعا.. لم يقبل رجوعهما.
فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على الدعوى.. لم يسقط نسبه عن الراجع ولم يجب عليه القود.(11/320)
ويفارق التي قبلها؛ لأن الأبوة هناك ثبتت بالاعتراف.. فقبل رجوعه مع إقامة الآخر على الدعوى، وهاهنا الأبوة ثبتت بالفراش، فلم تسقط بالرجوع.
[فرع قتل رجل زوجة لها ولد منه]
وإن قتل رجل زوجته، وله منها ابن.. لم يجب له على الأب القود؛ لأنه إذا لم يقد به إذا قتله.. لم يجب عليه القود بالإرث من أمه أولى.
وإن كان لها ابنان: أحدهما من زوجها القاتل لها، والثاني من آخر.. لم يجب على الزوج القود؛ لأن القود يكون مشتركاً بين الابنين، والابن لا يثبت له القود على أبيه، وإذا سقط حقه من القود.. سقط حق شريكه، كما لو ثبت القود عليه لرجلين، فعفا أحدهما.
وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، فإن قتل أبو المكاتب عبداً للمكاتب.. لم يجب للمكاتب القود على أبيه؛ لأنه إذا لم يجب عليه القصاص بقتله.. لم يجب عليه القصاص بقتل عبده.
[مسألة يقتل الولد بالوالد]
ويقتل الولد بالوالد؛ لأن الوالد أكمل منه.. فقتل به، كما يقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والمرأة بالرجل، وذلك كله إجماع.
فإن كان هناك رجل له زوجة، وهما متوارثان، وبينهما ابنان، فقتل أحد الابنين أباهما عمداً، ثم قتل الابن الآخر أمهما عمداً.. فإن القصاص يجب على قاتل الأم، ويسقط عن قاتل الأب؛ لأنه لما قتل الابن الأب.. لم يرثه، وإنما ترث الزوجة الثمن، وقاتل الأم الباقي، وملكا عليه القود، فلما قتل الابن الآخر الأم.. لم يرثها، وإنما يرثها قاتل الأب، وقد كانت تملك عليه ثمن القود، وانتقل ذلك إليه، وإذا ملك بعض ما عليه من القود.. سقط عنه القود؛ لأنه لا يتبعض، فسقط الجميع، وكان لقاتل الأب القود على قاتل الأم، لأنه لا وارث لها سواه، ولقاتل الأم على قاتل(11/321)
الأب سبعة أثمان دية الأب، فإن عفا قاتل الأب عن قاتل الأم.. وجب له عليه دية الأم، وهل يسقط عن كل واحد منهما ما يساوي ما له على الآخر؟ على الأقوال الأربعة في المقاصة.
فإذا قلنا: يسقط.. بقي على قاتل الأب لقاتل الأم ثلاثة أثمان دية الأب.
فإذا قلنا: لا يسقط.. أدى كل واحد منهما ما عليه للآخر.
وإن اقتص قاتل الأب من قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأم ورثة غير قاتل الأب.. طالبوه بسبعة أثمان دية الأب، وإن لم يكن له وارث غيره.. فهل يرثه؟ فيه وجهان في القاتل بالقصاص، هل يرث؟ الصحيح: أنه لا يرثه.
فأما إذا لم ترث الزوجة من الزوج، بأن كانت بائنة منه، أو كانت غير بائن منه إلا أن أحدهما جرح أباه، وجرح الآخر أمه، ثم خرجت روحاهما في حالة واحدة.. فإن كل واحد من الابنين لا يرث ممن قتله، ولكنه يرثه الابن الآخر.
واختلف أصحابنا: هل يثبت القود في ذلك؟
فقال أكثرهم: يجب لكل واحد منهما القود على أخيه؛ لأن كل واحد منهما ورث من قتله أخوه، فوجب له على أخيه القود.
فعلى هذا: إن كان قاتل الأب قتله أولاً.. اقتص منه قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأب وارث غير قاتل الأم.. اقتص من قاتل الأم، وإن لم يكن له وارث غير قاتل الأم، فإن قلنا: إن القتل بالقصاص لا يمنع الميراث.. ورث القود على نفسه، وسقط، وإن قلنا: إن القتل بالقصاص يمنع الميراث.. انتقل القصاص إلى من بعده من العصبات، فإن لم تكن عصبة.. كان القصاص إلى الإمام.
وإن قتلاهما في حالة واحدة، أو جرحاهما وخرجت روحاهما في حالة واحدة.. ثبت لكل واحد منهما القصاص على صاحبه، ولا يقدم أحدهما على الآخر، بل إن تشاحا في البادئ منهما.. أقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، فاقتص، أو(11/322)
بادر أحدهما، فقتل الآخر من غير قرعة.. فقد استوفى حقه، ولوارث المقتول أن يقتل الابن المقتص.
وإن كان المقتص من ورثته.. فهل يرثه؟ على الوجهين، الصحيح: لا يرثه.
وقال ابن اللبان: القصاص لا يثبت هاهنا؛ لأنه لا سبيل إلى أن يستوفي كل واحد منهما القصاص من صاحبه.
فلو بدأ أحدهما، فاقتص من أخيه.. بطل حق المقتص منه من القصاص؛ لأن حقه ينتقل منه إلى وارثه، إن شاء.. قتل، وإن شاء.. ترك، وفوتنا عليه غرضه من القصاص، وحصل على غير عوض من ماله، وليس أحدهما بأولى من الآخر في البداية. وأما القرعة: فلا تستعمل في إثبات القصاص.
فعلى هذا: يكون على قاتل الأب دية الأب، وعلى قاتل الأم دية الأم لقاتل الأب.
قال ابن اللبان: فإن مات أحد القاتلين قبل أن يتحاكما.. كان لورثة الميت أن يقتلوا الآخر، ويرجع الآخر أو وارثه في تركة الميت بدية الذي قتله الميت من الأبوين.
ولا يقال: إن القصاص سقط، ثم وجب؛ لأنه لم يثبت، لا لأنه لم يجب، ولكن لم يثبت لتعذر الاستيفاء، وإذا أمكن الاستيفاء.. ثبت. والأول هو المشهور.
[فرع قتل كل من الولدين أحد أبويه]
قال ابن اللبان: إذا كان هناك رجل له زوجة يتوارثان، ولهما ولدان: أحدهما زيد، والآخر عمرو، فقتل أحد الولدين أباهما، والآخر أمهما، ولم يعلم أيهما قاتل الأب، ولا أيهما قاتل الأم، إلا أن الأم قتلت أولاً.. فيجوز أن يكون زيد قتل الأم، فورث الزوج ربع قودها وربع مالها، وورث عمرو ثلاثة أرباع ذلك، فإذا قتل عمرو الأب بعد ذلك.. ورث زيد جميع مال الأب، وورث الربع الذي كان ورثه الزوج من مال زوجته، وسقط عن زيد القصاص في الأم؛ لأنه ورث بعض دمه، وكان له(11/323)
القصاص على عمرو، أو جميع دية الأب إن عفا عنه.
ويجوز أن يكون عمرو هو قاتل الأم، وزيد قاتل الأب، فيكون لعمرو ما كان لزيد إذا كان زيد قاتل الأم، ويكون لزيد ما كان لعمرو، فإذا احتمل هذا.. دفع إلى كل واحد من الولدين ربع ما للأم؛ لأنه يستحقه بيقين، ووقف نصف مالها حتى يعلم من قاتل الأب منهما، فيصرف إليه، ويوقف جميع مال الأب حتى يعلم من قاتل الأم، فيصرف إليه، ويكون لقاتل الأب على قاتل الأم ثلاثة أرباع دية الأم، ولقاتل الأم عليه القصاص أو دية الأب إن عفا عنه، وإن تقاصا.. بقي لقاتل الأم خمسة أثمان دية الأب.
قال: ويحتمل إذا لم يعلم من قتل الأب بعينه أن يسقط القصاص في الحكم وإن كنا قد علمنا وجوبه؛ لأن ما لم تعلم عينه.. كالذي لا يعلم أصلاً، كما قلنا في المتوارثين إذا مات أحدهما قبل الآخر ولم يعلم أيهما مات أولاً.. أنهما لا يتوارثان.
فإن كانت بحالها، إلا أن الأب قتل أولاً.. فإنه يدفع إلى كل واحد منهما ثمن مال الأب، ويوقف الباقي، ويوقف جميع مال الأم، وتنزيلها على ما مضى.
فإن كانت بحالها، وقتل الأب أولاً، ولهما أخ ثالث يقال له: سالم لم يقتل.. فإن تنزيلها على ما مضى، ويدفع لزيد نصف ثمن مال الأب، وإلى عمرو نصف ثمنه، ويدفع إلى سالم نصف مال الأب، ويوقف عليه ثلاثة أثمانه لقاتل الأم، ويدفع إلى سالم نصف مال الأم، ويوقف نصفه لقاتل الأب، ولسالم على من يستحق نصف مال الأم - وهو قاتل الأب - نصف دية الأب، فيدفع إليه ذلك من نصف مالها الموقوف له، ولسالم أيضاً على من يستحق ثلاثة أثمان مال الأب - وهو قاتل الأم - القصاص، فإن عفا عنه.. استحق عليه نصف دية الأم، ويعطى ذلك من الذي وقف له من مال الأب؛ لأن الحاكم يعلم أن له على صاحب هذا المال حقاً وإن لم يعرفه بعينه، فهو كغائب وجب عليه حق، فيباع عليه ماله.(11/324)
فإن قيل: فهلا أخرجتم ما وجب على قاتل الأب لقاتل الأم مما وقف له، وأخرجتم ما وجب على قاتل الأم مما وقف له؟
قيل: لا نخرجه له؛ لأنه لا مدع له بعينه، وإنما هو بمنزلة مال وقف لزيد، ومال وقف لعمرو، ولم يعلم أن لكل واحد منهما على الآخر حقاً، ولا يعرف أحدهما ماله ولا حقه، فيطالب به، وإذا كانت دعواهما غير معلومة.. لم يلزم ما يدعيان من المجهول، وسالم يعلم قدر حقه، ويدعيه على مالك معلوم ملكه وإن لم يعلم شخصه.
[فرع إخوة قتل بعضهم بعضاً وهم ورثة]
وإن كان هناك أربعة إخوة يرث بعضهم بعضاً، فقتل الكبير الذي يليه، وقتل الثالث الصغير.. وجب القصاص على الثالث، وعلى الكبير نصف الدية؛ لأن الكبير لما قتل الثاني.. وجب عليه القصاص للثالث والرابع، فلما قتل الثالث الرابع.. وجب القصاص على الثالث للكبير، وسقط القصاص عن الكبير؛ لأنه ورث بعض دم نفسه عن الرابع، فسقط عنه القصاص، ووجب عليه للثالث نصف دية الثاني.
وإن قتل رجل ابن أخيه، وورث المقتول أبوه، ثم مات أبو المقتول ولم يخلف وارثاً غير القاتل.. فإنه يرثه، ويسقط عنه القصاص؛ لأنه ملك جميع ما ملكه أبو المقتول، فكأنه ملك دم نفسه، فسقط عنه القصاص.
[فرع مكاتب ملك من يعتق عليه]
وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، بل يكون موقوفاً على أدائه وعجزه.
وإن قطع المكاتب يد أبيه وهو في ملكه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يقتص منه؛ لأن العبد لا يقتص من سيده.(11/325)
والثاني: له أن يقتص منه، وهو المنصوص؛ لأن حكمه معه حكم الأحرار، بدليل: أنه لا يجوز له بيعه، فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر.
ولا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المملوك يقتص من مالكه إلا في هذه.
وإن قطع أبو المكاتب يد المكاتب.. فالذي يقتضي المذهب: أن يبنى على هذين الوجهين، فإن قلنا بالأول.. وجب للمكاتب القصاص، وإن قلنا بالثاني.. لم يجب له القصاص، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. فهل له بيعه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما:
أحدهما: له بيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية.
والثاني: ليس له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يثبت له عليه مال.
[فرع قتل من دونه أو ولده]
وإن قتل مسلم ذمياً، أو قتل حر عبداً، أو قتل الوالد ولده في المحاربة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القصاص؛ لعموم الأخبار، ولأن من لا يقتل بغيره في غير المحاربة.. لم يقتل به في المحاربة، كالمخطئ.
والثاني: يجب عليه القصاص؛ لأن القتل في المحاربة متحتم لا يجوز للولي العفو عنه، فلم تعتبر فيه المكافأة، كحد الزنا.
[مسألة قتل الجماعة بالواحد]
وتقتل الجماعة بالواحد، وهو: أن يجني عليه كل واحد منهم جناية لو انفرد بها.. مات منها، ووجب عليه القصاص، وبه قال من الصحابة: عمر،(11/326)
وعلي، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن، وعطاء، وأبو سلمة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وأبو حنيفة، إلا أن محمد بن الحسن قال: ليس هذا بقياس، وإنما صرنا إليه من طريق الأثر والسنة.
وقال الزبير، ومعاذ بن جبل، والزهري، وابن سيرين: (لا تقتل الجماعة بالواحد، بل للولي أن يختار واحداً منهم، فيقتله، ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية) .
وقال ربيعة، وداود: (يسقط القصاص) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] . فأوجب القصاص لاستبقاء الحياة؛ وذلك: أنه متى علم الإنسان أنه إذا قتل غيره قتل به.. لم يقدم على القتل، فلو قلنا: لا تقتل الجماعة بالواحد.. لكان الاشتراك يسقط القصاص، فسقط هذا المعنى.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) : القصاص. ولم يفرق بين أن يقتله واحد، أو جماعة.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا(11/327)
- والله - عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وموضع الدليل: قوله: (فمن) ، ومن: تستغرق الجماعة والواحد.
[فرع اشتركا في قتل وعلى أحدهما القود]
وإن اشترك اثنان في قتل رجل، وأحدهما يجب عليه القود لو انفرد دون الآخر.. نظرت:
فإن كان سقوط القود عن أحدهما لمعنى في فعله، مثل: أن كان أحدهما مخطئاً، والآخر عامداً.. لم يجب القصاص على واحد منهما، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (يجب القصاص على العامد منهما) .
دليلنا: أن الروح لم تخرج عن عمد محض، فلم يجب عليه القصاص، كما لو جرحه خطأ، فمات منه.
وإن كان سقوط القود عن الشريك لمعنى في نفسه، مثل: أن يشترك الأب والأجنبي في قتل الابن.. وجب القصاص على الأجنبي.
وكذلك: إذا اشترك الحر والعبد في قتل العبد.. وجب القصاص على العبد، وإن اشترك المسلم والكافر في قتل الكافر.. وجب القصاص على الكافر، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (سقوط القصاص عن أحد الشريكين يسقط القصاص عن الآخر، فإذا شارك الأب الأجنبي في قتل الابن.. لم يجب على الأجنبي القصاص) .
دليلنا: أنه لو انفرد.. وجب عليه القصاص، فإذا شارك من سقط عنه القصاص(11/328)
لا لمعنى في فعله.. لم يسقط عنه القصاص، كما لو كانا عامدين.
وإن شارك الصبي والمجنون وهما عامدان في الجناية.. بنى ذلك على عمدهما، وفيه قولان:
أحدهما: أن عمدهما في حكم الخطأ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . فأخبر أن القلم مرفوع عنهما، فدل على: أن عمدهما في حكم الخطأ، ولأن عمدهما لو كان في حكم العمد.. لوجب عليهما القصاص.
فعلى هذا: لا يجب على من شاركهما في الجناية القصاص.
القول الثاني: أن عمدهما في حكم العمد، فيجب على شريكهما القود؛ لأنهما قصدا الجناية، وإنما سقط القصاص عنهما لمعنى في أنفسهما، كشريك الأب، ولأن الصبي لو أكل في الصوم عامداً.. لبطل صومه، فلولا أن لعمده حكماً.. لما بطل صومه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المجنون الذي لا يميز، والطفل الذي لا يعقل عقل مثله، عمدهما خطأ، قولا ًواحداً، فلا يجب على شريكهما القصاص.
وإن شارك من لا ضمان عليه، مثل: أن جرح رجل نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر، أو قطعت يده بقصاص أو سرقة وجرحه آخره، ومات.. فهل يجب القصاص على الشريك الذي عليه الضمان؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه شارك في القتل عامداً، فوجب عليه القصاص، كشريك الأب.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه إذا سقط عنه القصاص إذا شارك المخطئ وجنايته مضمونة عليه.. فلأن لا يجب عليه القصاص إذا شارك من لا قصاص عليه أولى.(11/329)
[فرع جرحه جراحة يقتل مثلها فتداوى بقاتل]
وإن جرحه رجل جراحة يقتل مثلها عامداً، فداوى المجروح نفسه بسم، فمات.. نظرت:
فإن كان سماً موحياً يقتل في الحال.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه قطع سراية جرحه بالسم، فصار كما لو جرحه رجل، ثم ذبح نفسه.
وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه لا يقتل.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه مات من فعلين، وأحدهما عمد خطأ، فهو كما لو شارك العامد مخطئاً.
وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه يقتل.. فهل يجب القصاص على الجارح في النفس؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه شارك قاصداً إلى الجناية، ولا يجب عليه الضمان، فهو كما لو جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر.
ومنهم من قال: لا يجب عليه القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، وإنما قصد المداواة به، فصار فعله عمد خطأ، بخلاف شريك السبع، وشريك من جرح نفسه، فإنهما قصدا الجناية.
[فرع جرح فخاط جرحه فمات]
وإن جرحه رجل، فخيط جرحه، فمات.. نظرت:
فإن خيط في لحم ميت، كاللحم إذا قطعه السيف.. فإن القود يجب على الجارح؛ لأنه لا سراية للخياطة في اللحم الميت.
وإن خيط في اللحم الحي.. نظرت:(11/330)
فإن خاطه المجروح بنفسه، أو خاطه غيره بأمره.. فهل يجب القود على الجارح في النفس؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا داوى جرحه بسم قد يقتل وقد لا يقتل إلا أنه يقتل في الغالب.
وإن خاطه رجل أجنبي بغير إذنه، أو أكرهه على ذلك.. وجب القود على الجارح والذي خاط الجراحة؛ لأنهما قاتلان.
وإن خاطه السلطان، وأكرهه على ذلك، فإن كان لا ولاية له عليه.. كان كغيره من الرعية، فيجب عليه القود في النفس مع الجارح، وإن كان له على المجروح ولاية، بأن كان صغيراً، أو مجنوناً، أو خاطها الولي عليه من غير أمر السلطان، أو كان على المولى عليه سلعة، فقطعها وليه، فمات.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه جرح جرحاً مخوفاً، فوجب عليه القود.
فعلى هذا: يجب على شريكه - وهو الجارح - القود.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد الجناية، وإنما قصد المداواة، فصار فعله عمد خطأ.
فعلى هذا: لا يجب عليه أو على شريكه القود في النفس، ويجب على كل واحد منهما نصف دية مغلظة، وهل يكون ما وجب على الإمام من ذلك في ماله، أو في بيت المال؟ فيه قولان، يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.
[فرع جرحه جرحاً وآخر مائة جرح فمات]
وإن جرح رجل رجلاً جرحاً، وجرحه آخر مائة جرح، ثم مات.. فهما شريكان في القتل، فيجب عليهما القود؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح الواحد كما يجوز أن يموت من المائة، وإذا تساوى الجميع في الجواز.. فالظاهر أنه مات من الجميع، فصارا قاتلين، فيجب عليهما القود.(11/331)
فإن عفا عنهما.. وجبت الدية عليهما نصفين، ولا تقسط الدية على عدد الجراحات، كما قلنا في الجلاد إذا زاد جلدة على ما أمر به في أحد القولين؛ لأن الأسواط متماثلة، والجراحات لها مور في البدن، وقد يجوز أن تكون الواحدة منها هي القاتلة وحدها دون غيرها.
وإن أجافه رجل جائفة، وجرحه آخر جراحة غير جائفة، ثم مات منهما.. فهما سواء، وكون إحداهما أعمق من الأخرى لا يمنع من تساويهما، كما لا تمنع زيادة جراحات أحدهما في العدد التساوي بينهما.
[فرع اشتركوا في ذبحه وطعنه وقطعه]
إذا قطع رجل حلقوم رجل أو مريئه، ثم جاء آخر، فقطعه نصفين، أو خرق بطنه وقطع أمعاءه وأبانها منه، ثم جاء آخر، فذبحه.. فالأول قاتل يجب عليه القود، ولا يجب على الثاني إلا التعزير؛ لأن بعد جناية الأول لا تبقى فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك كما يتحرك المذبوح، ولأنه قد صار في حكم الموتى، بدليل: أنه لا يصح إسلامه، ولا تقبل توبته، ولا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا وصيته، ولا يرث، وإن جنى.. لم يجب عليه شيء، فصار كما لو جنى على ميت.
وإن قطع الأول يده أو رجله، ثم حز الآخر رقبته، أو أجافه الأول، ثم قطع الثاني رقبته.. فالأول جارح يجب عليه ما يجب على الجارح، والثاني قاتل؛ لأن بعد جناية الأول فيه حياة مستقرة؛ لأنه قد يعيش اليوم واليومين، وقد لا يموت من هذه(11/332)
الجناية، بدليل: أنه يصح إسلامه، وتوبته، وبيعه، وشراؤه، ووصيته؛ ولهذا: لما طعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بطنه، فجاءه الطبيب، فسقاه لبناً، فخرج من بطنه، فقال له: اعهد إلى الناس، فـ: (عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الناس، ثم مات) . فعملت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بعهده، فصار كالصحيح.
وبالله التوفيق(11/333)
[باب ما يجب به القصاص من الجنايات]
إذا جرح رجل رجلاً بما يجرح بحده، كالسيف، والسكين، أو بما حدد من الرصاص والقصب والذهب والخشب، أو (بالليطة) وهي: القصبة المشقوقة، أو بما له مور في البدن، كالسنان، والسهم، و (المسلة) وهي: المخيطة، فمات منها.. وجب على الجارح القود، سواء كان الجرح صغيراً أو كبيراً، وسواء مات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات، وسواء كان في مقتل أو في غير مقتل؛ لأن جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه، ويقتل غالباً.
وأما إذا غرز فيه إبرة، فمات.. نظرت:
فإن غرزها في مقتل، مثل: أصول الأذنين، والعين، والقلب، والأنثيين.. وجب عليه القود؛ لأنها تقتل غالباً إذا غرزت في هذه المواضع.
وإن غرزت في غير مقتل، كالألية، والفخذ.. قال ابن الصباغ: فإن بالغ في إدخالها فيها.. وجب عليه القود، وإن لم يبالغ في إدخالها، بل غرزها فيه.. فاختلف أصحابنا فيه [على قولين] :
فـ[القول الأول] : قال الشيخان - أبو حامد،، وأبو إسحاق -: إن بقي من ذلك متألماً إلى أن مات.. فعليه القود؛ لأن الظاهر أنه مات منه، وإن مات في الحال.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجب عليه القود؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال:(11/334)
(سواء صغر الجرح أو كبر، فمات المجروح.. فإن القود يجب فيه) ، ولأنه جرحه بحديدة لها مور في البدن، فوجب فيها القود، كالمسلة.
و [الثاني] : قال أبو العباس ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب به القود؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يموت من غرز إبرة، فإذا مات.. علمنا أن موته وافق غرزها، فهو كما لو رماه ببعرة أو ثوب، فمات.
و [القول الثاني] : قال ابن الصباغ: لا وجه لهذا التفصيل عندي؛ لأنه إذا كانت العلة لا تقتل غالباً.. فلا فرق بين أن يبقى ضمناً منه، أو يموت في الحال.
فإن قيل: لأنه إذا لم يزل ضمناً منه.. فقد مات منه، وإذا مات في الحال.. فلا يعلم أنه مات منه - قال - فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود، فيراعى في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون ويفتصدون، أفترى ذلك يقتل في الغالب، وهم يقدمون عليه؟
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان: من غير تفصيل.
[مسألة الضرب بمثقل يقتل]
وإن ضربه بمثقل، فمات منه، فإن كان يقتل مثله، كالحجر الكبير، أو الخشبة، أو الدبوس، أو رمى عليه حائطاً أو سقفاً وما أشبهه.. وجب عليه القود، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد.(11/335)
وقال النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وأبو حنيفة: (لا يجب القصاص بالمثقل) .
دليلنا: ما روى طاووس، عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمد قود، إلا أن يعفو ولي الدم، والخطأ دية لا قود فيه» . ولم يفرق.
وروى أنس: «أن جارية من الأنصار وجدت وقد رض رأسها بين حجرين وبها رمق، فقيل لها: قتلك فلان؟ قالت: لا، إلى أن ذكر يهودي، فأشارت برأسها - أي: نعم - فدعي اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، فرضخ رأسه بين حجرين» . وفي هذا الخبر فوائد كثيرة:
أحدها: أن القود يجب بالقتل بالمثقل.
والثانية: أنه يستقاد به.
والثالثة: أن اليهودي يقتل بالمسلم.(11/336)
والرابعة: أن الرجل يقتل بالمرأة.
الخامسة: أن للإشارة حكماً؛ لأنها لو لم يكن لها حكم.. لأنكر عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
«وروى حمل بن مالك بن النابغة: أنه قال: (كنت بين جاريتين لي - يعني: زوجتين - فاقتتلتا، فضربت إحداهما بطن الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة: عبد أو أمة، وأن تقتل مكانها» . و (المسطح) : الخشبة الكبيرة تركز في وسط الخيمة.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (العمد قود كله) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وإن ضربه بمثقل لا يقتل مثله غالباً، كالقلم، والحصاة، فمات.. لم يجب عليه القود ولا الدية ولا الكفارة؛ لأنا نعلم أنه لا يموت منه، وإنما وافق موته ضربه.
وإن ضربه بمثقل قد يقتل وقد لا يقتل، كالسوط، والعصا الخفيف، فمات، فإن(11/337)
والى عليه الضرب إلى أن بلغ عدداً يقتل مثله في الغالب على حسب حال المضروب، أو رمى به، بأن يضربه خمسمائة أو ألفا.. فإن ذلك يقتل في الغالب، وكذلك: إذا كان المضروب نضو الخلق أو في حر شديد أو في برد شديد، فضربه دون ذلك، فمات.. فإن القود يجب عليه.
وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله مثل المضروب في العادة، فمات.. لم يجب عليه القود؛ لأنه عمد خطأ، ويجب عليه الدية.
[فرع خنقه بيده أو بنحو ذلك]
وإن خنقه بيده أو بحبل، أو طرح على وجهه مخدة أو منديلا ًواتكأ عليه حتى مات، فإن فعل ذلك مدة يموت المخنوق من مثلها غالباً.. وجب على قاتله القود؛ لأنه تعمد قتله بما يقتل مثله غالباً، وإن كان في مدة يجوز أن يموت مثله في مثلها، ويجوز أن لا يموت، والغالب أنه لا يموت.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة؛ لأن فعله عمد خطأ.
وإن خنقه خنقاً يموت مثله من مثله، ثم أرسله حياً، ثم مات، فإن كان قد أورثه الخنق شيئاً حتى لا يخرج نفسه، أو بقي متألماً إلى أن مات.. وجب على الخانق القود؛ لأنه مات بسراية فعله، وإن خنقه وأرسله حياً لا يتألم ولا به ضنى، فصبر، فبرأ وصح، ثم مات.. فلا يجب قود على الخانق ولا دية؛ لأنه مات بسبب آخر، كما لو جرحه، فاندمل جرحه، ثم مات.
وإن جعل في رقبته خراطة حبل، وتحت رجليه كرسياً، وشد الحبل إلى سقف(11/338)
بيت وما أشبهه، ونزع الكرسي من تحت رجليه، فانخنق، ومات.. وجب عليه القود؛ لأنه أوحى الخنق.
[مسألة ألقاه في حفرة تأجج ناراً]
وإن طرحه في نار في حفير، فلم يمكنه الخروج منها حتى مات.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً.
وإن كانت النار في بسيط من الأرض، فإن كان لا يمكنه الخروج منها لكثرتها أو لشدة التهابها، أو بأن كتفه وألقاه فيها، أو بأن كان ضعيفاً لا يقدر على الخروج.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، وإن أمكنه الخروج منها، فلم يخرج حتى مات، وهو يعلم إمكان الخروج، بأن يقول: أنا أقدر على الخروج ولا أخرج.. لم يجب القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب عليه الدية؛ لأنه ضمنه بطرحه في النار، فلم يسقط عنه الضمان بتركه الخروج مع قدرته عليه، كما لو جرحه جراحة، وأمكنه مداواتها، فلم يداوها حتى مات.
والثاني: لا تجب عليه الدية؛ لأن النفس لم تخرج بالطرح في النار، وإنما خرجت ببقائه فيها باختياره، فهو كما لو خرج منها، ثم عاد إليها، ويفارق ترك المداواة؛ لأنه لم يحدث أمراً كان به التلف، بخلاف بقائه في النار؛ فإنه أحدث أمراً حصل به التلف، ولأن البرء في الدواء أمر مظنون، فلم تسقط به الدية، والسلامة بالخروج أمر متحقق، فسقط بتركه الضمان.
فإذا قلنا بهذا: وجب على الطارح أرش ما عملت فيه النار، من حين طرحه فيها، إلى أن أمكنه الخروج فلم يخرج.
[فرع طرحه في بحر عميق أو نحوه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو طرحه في لجة بحر وهو يحسن العوم أو(11/339)
لا يحسن العوم، فغرق فيها.. فعليه القود) .
وجملة ذلك: أنه إذا طرحه في لجة البحر، فهلك.. فعليه القود، سواء كان يحسن العوم - وهو السباحة - أو لا يحسن؛ لأن لجة البحر مهلكة.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل، فغرق، فمات.. فإن كان مكتوفاً أو غير مكتوف وهو لا يحسن السباحة.. فعليه القود، وإن كان يحسن السباحة، وأمكنه أن يخرج فلم يخرج حتى غرق ومات، أو طرحه فيما يمكنه الخروج منه، فلم يخرج منه حتى مات.. فلا يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو طرحه في نار يمكنه الخروج منها، فلم يخرج منها حتى مات.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب عليه الدية، قولاً واحداً؛ لأن العادة لم تجر بأن يخوض الناس في النار، وجرت العادة أن يخوض الناس في الماء في البحر، فنفس الطرح في النار جناية.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل وهو ممن يمكنه الخروج منه، فابتلعه حوت.. فلا قود عليه؛ لأنه كان يمكنه الخروج لو لم يبتلعه الحوت، وعليه الدية؛ لأنه كان السبب في موته.
وإن طرحه في لجة البحر، فابتلعه حوت قبل أن يصل إلى الماء.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه لو لم يبتلعه الحوت.. لما كان يتخلص.
والثاني: لا يجب عليه القود، بل عليه الدية؛ لأن الهلاك لم يكن بفعله. والأول أصح.(11/340)
وإن طرحه في ساحل بحر قد يزيد إليه الماء وقد لا يزيد، فزاد الماء وغرقه.. لم يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتله، وتجب عليه دية مغلظة؛ لأنه عمد خطأ.
وإن كان الموضع لا يزيد الماء إليه، فزاد وغرقه.. لم يجب عليه القود، وتجب عليه دية مخففة، لأنه خطأ محض.
[مسألة حبسه فمات]
وإن حبس حراً وأطعمه وسقاه، فمات وهو في الحبس.. فلا قود عليه ولا دية، سواء مات حتف أنفه أو بسبب، كلدغ الحية، وسقوط الحائط، وما أشبهه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان صغيراً، فمات حتف أنفه.. فلا شيء عليه، وإن مات بسبب، كلدغ الحية، أو سقوط الحائط.. فعليه الدية) .
ودليلنا: أنه حر، فلا يضمنه باليد، كما لو مات حتف أنفه.
وأما إذا حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما حتى مات.. نظرت:
فإن حبسه عن ذلك مدة قد يموت مثله في مثلها غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن كانت مدة قد يموت مثله في مثلها، وقد لا يموت مثله في مثلها.. لم يجب القود، وإنما تجب عليه الدية.
وإن كانت مدة لا يجوز أن يموت مثله في مثلها بمنع الطعام والشراب.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنا نعلم أنه مات بسبب آخر، ويعتبر حال المحبوس، فإن حبسه وهو جائع.. فإنه لا يصبر عن الطعام والشراب إلا المدة القليلة، وإن كان شبعان.. فإنه يصبر أكثر من مدة صبر الجائع. ويعتبر الطعام على انفراده، والشراب على انفراده؛ لأن الإنسان يصبر عن الطعام أكثر مما يصبر عن الشراب.
وإن أمكنه الخروج إلى الطعام والشراب، فلم يخرج حتى مات.. قال الطبري: فلا قود عليه بحال.(11/341)
[فرع أمسك رجلاً فقتله آخر]
إذا أمسك رجل رجلاً، فجاء آخر فقتله.. وجب القود على القاتل دون الممسك، إلا أن الممسك إن كان أمسكه مداعبة أو ليضربه.. فلا إثم عليه ولا تعزير، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. أثم بذلك وعزر. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال ربيعة: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن حبسه ليضربه الآخر، أو أمسكه ليضربه، أو مداعبة، فجاء الآخر فقتله.. فلا قود عليه ولا دية، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. فعليه القود) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] فلو أوجبنا على الممسك القود.. كنا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى.
وروى أبو شريح الخزاعي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر» . فلو قتل الولي الممسك.. لكان قد قتل غير قاتله.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل أمسك رجلاً حتى جاء آخر فقتله، فقال: " يقتل القاتل، ويصبر الصابر» قال أبو عبيد: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يصبر(11/342)
الصابر " أي: يحبس، وأراد بالحبس: التعزير بالحبس.
ولأنه سبب غير ملجئ، اجتمع مع المباشرة، فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب، كما لو حفر بئراً، أو نصب سكيناً، فدفع عليها آخر رجلاً، فمات.
ولأنه لو كان بالإمساك شريكاً.. لكان إذا مسك الرجل امرأة، وزنى بها آخر.. أن يجب عليهما الحد، فلما لم يجب الحد على الممسك.. لم يجب القود على الممسك.
[مسألة قيد شخصاً فأكله سبع]
وإن كتف رجلاً أو قيده، فأكله السبع.. ففيه ثلاث مسائل، ذكرها الشيخ أبو حامد:
إحداهن: إذا قيده أو كتفه وطرحه في أرض مسبعة، فجاء السبع فأكله.. فإنه لا قود على الطارح له، ولا دية؛ لأن السبع أكله باختياره، ولأن له اختياراً، كما لو أمسكه، فقتله آخر.
الثانية: إذا قيده في صحراء، ثم رمى بالسبع عليه، أو رمى به على السبع، فأكله.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأن من طبع السبع إذا رمي به على إنسان، أو رمي بإنسان عليه.. أن ينفر عنه، فإذا لم ينفر عنه.. كان أكله له باختياره.
الثالثة: إذا كان السبع في مضيق أو بيت أو بئر أو زبية، فرمي بالإنسان عليه،(11/343)
أو كان الإنسان في المضيق أو في البيت أو في البئر أو في الزبية، فرمي بالسبع عليه، فضربه السبع، فمات، فإن ضربه السبع ضرباً يقتل مثله في الغالب.. وجب على الرامي القود؛ لأنه قد اضطر السبع إلى قتله، وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله في الغالب، فمات.. لم يجب على الرامي القود؛ لأن الغالب منه السلامة، وتجب عليه الدية في ماله. وكذلك حكم النمر، وما في معناه.
وإن أمسك السبع أو النمر، وأفرسه إياه، فأكله.. فعليه القود؛ لأنه قد اضطره إلى ذلك.
[فرع طرحه في أرض ذات حيات]
وإن قيد رجلاً وطرحه في أرض ذات حيات، فنهشته حية منها، فمات.. فلا قود عليه ولا دية، سواء كان في موضع ضيق أو واسع.
وكذلك: إذا رمي به على الحية، أو رمي بالحية عليه؛ لأن الحيات والعقارب من طبعها النفور من الإنسان.
وإن أخذ الحية أو العقرب بيده، وأنهشها إنساناً.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ضغطها أو لم يضغطها، فنهشته، فمات، فإن كان من الحيات التي تقتل في الغالب، كحيات الطائف، وأفاعي مكة.. وجب عليه القود؛ لأنه توصل إلى قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف، وإن كان مما لا يقتل غالباً مثلها، كثعابين مكة والحجاز، وأفاعي مصر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لا يقتل مثلها غالباً، ويجب عليه دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد.
والثاني: يجب عليه القود؛ لأن جنسها يقتل غالباً، فهو بمنزلة الجراح) .(11/344)
[مسألة سقاه سماً فمات]
إذا سقى رجلاً سماً، فمات المسقي، فلا يخلو: إما أن يكرهه، أو لا يكرهه.
فإن أكرهه على شربه، بأن صبه في حلقه مكرهاً له على ذلك.. نظرت:
فإن أقر الساقي: أنه سم يقتل مثله غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن ادعى ولي المقتول: أنه يقتل غالباً، وأنكر الساقي أنه يقتل غالبا، فإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل غالباً. وجب القود على الساقي؛ لأنه ثبت أنه يقتل غالبا.. وإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل نحيف الخلق، ولا يقتل قوي الخلق.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة. وإن لم يقم ولي المقتول بينة، ولكن أقام الساقي بينة: أنه لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة.
وإن لم يكن هناك بينة.. فالقول قول الساقي مع يمينه: أنه لم يكن يقتل غالباً؛ لأن الأصل عدم القود، فإذا حلف.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة.
وإن قامت البينة: أنه كان يقتل غالباً، أو اعترف الساقي بذلك، إلا أنه ادعى: أنه لم يعلم أنه يقتل غالباً وقت السقي.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأن ما ادعاه محتمل، وذلك شبهة توجب سقوط القود عنه.
والثاني: يجب عليه؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فلا يصدق في دعواه، كما لو جرحه.
وإن خلط السم بطعام أو شراب، وأكرهه، فأوجره في حلقه، فمات، فإن كان الطعام أو الشراب قد كسر حدة السم، فصار لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه(11/345)
القود، وإن لم يكسر حدته.. فهو كما لو سقاه السم منفرداً.
فإن لم يكرهه على ذلك، وإنما ناوله إياه، فشربه.. نظرت:
فإن كان الشارب صبياً لا تمييز له، أو كبيراً مجنوناً، أو أعجمياً يعتقد وجوب طاعة الأمر.. فعلى الدافع إليه الضمان؛ لأنه كالآلة له حيث اعتقد طاعته فيه.
وإن كان عاقلاً مميزاً.. فلا ضمان على الدافع؛ لأنه قتل نفسه باختياره أو بتفريطه.
وإن خلطه به، ولم يكسر الطعام حدة السم، فأكله إنسان، ومات.. نظرت:
فإن كان الطعام الذي خلط فيه السم قدمه إلى إنسان، وقال: كله، فأكله.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن يهودية بخيبر أهدت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتني: أنها مسمومة "، فأرسل إلى اليهودية، وقال: " ما حملك على ما صنعت؟ "، فقالت: قلت: إن كنت نبياً.. لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكاً.. أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودية، فقتلها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري» .(11/346)
ومعنى قوله: " تعادني " أي: يأتيني ألمها لوقت معلوم.
و (الأبهر) : عرق متصل بالقلب، متى انقطع.. مات الإنسان.
ولأن العادة جرت أن من قدم إليه الطعام.. فإنه يأكل منه، فصار كأنه ألجأه إلى أكله، فوجب عليه القود، كما لو أكرهه عليه.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه أكله باختياره، فصار كما لو قتل نفسه بسكين.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليه الدية؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: فيه قولان:
أحدهما: لا تجب عليه الدية؛ لأنه هو الجاني على نفسه.
والثاني: تجب عليه الدية؛ لأن التلف حصل بسبب منه، فصار كما لو حفر بئراً في طريق الناس، فهلك فيها إنسان.
وقال الشيخ أبو حامد: تجب عليه الدية، قولا ًواحداً؛ لما ذكرناه. ولا يعرف هاهنا قولان.
وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى رجل، وقال: فيه سم يقتل غالباً، فأكله، فمات.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنه قتل نفسه.
وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى صبي لا يميز، أو إلى بالغ مجنون، أو إلى أعجمي لا يعقل ولا يميز، وقال: كله، فإن فيه سماً قاتلاً، فأكله، فمات.. وجب عليه القود؛ لأنه لا تمييز له، فهو كما لو قتله بيده.(11/347)
وإن خلط السم بطعام له، وتركه في بيته، فدخل رجل بيته، وأكل الطعام، ومات.. لم يجب عليه قود ولا دية؛ لأن الآكل فرط وتعدى بأكل طعام غيره بغير إذنه.
وإن خلط السم بطعام لغيره، فجاء صاحب الطعام، فأكل طعامه، ولم يعلم بالسم، فمات.. وجب على الذي خلط فيه السم قيمة الطعام؛ لأنه أفسده، وهل يجب عليه القود في الذي أكله؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو خلطه بطعام نفسه، وقدمه إلى من أكله؛ لأن الإنسان يأكل طعامه بحكم العادة والحاجة، فصار كما لو خلطه بطعام، ودعاه إلى أكله.
ومنهم من قال: لا يجب عليه القود، قولاً واحدا؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من إفساد الطعام.
[مسألة سحر إنساناً فمات]
وإذا سحر رجل رجلاً، فمات المسحور.. سئل الساحر عن سحره، فإن قال: سحري يقتل غالباً، وقد قتلته به.. وجب عليه القود.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه القود) .
دليلنا: أنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بسيف.
وإن قال: سحري لا يقتل.. وجب عليه دية مخففة؛ لأنه خطأ.(11/348)
وإن قال: قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب منه السلامة.. وجبت عليه دية مغلظة في ماله.
وإن قال الساحر: قتلت بسحري جماعة، ولم يعين من قتل.. لم يقتل.
وقال أبو حنيفة: (يقتل حداً؛ لأنه يسعى في الأرض بالفساد) .
ودليلنا: أن السعي في الأرض بالفساد هو: إشهار السلاح، وإخافة الطريق، وأما القتل: فليس بالسعي بالفساد، كما لو قتل جماعة مستخفاً بقتلهم.
[مسألة أمر بقتل رجل]
] : إذا أمر الإمام رجلاً أن يقتل رجلا بغير حق، فقتله.. فلا يخلو: إما أن يكرهه على قتله، أو لا يكرهه.
فإن لم يكرهه، بل قال له: اقتله، فإن كان المأمور يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. لم يجز له قتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ،(11/349)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله.. فلا تطيعوه» .
فإن خالف وقتله.. فسق المأمور بذلك، ووجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتله بغير حق، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» . هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل يكون مجرد أمر الإمام أو السلطان إكراهاً؟ فيه وجهان.
وأما إذا كان المأمور لا يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. وجب على الإمام القود والكفارة؛ لأن الإمام لا يباشر القتل بنفسه، وإنما يأمر به غيره، فإذا أمر غيره وقتله بغير حق.. تعلق الحكم بالإمام، كما لو قتله بيده، وأما المأمور: فلا يجب عليه إثم ولا قود ولا كفارة؛ لأن اتباع أمر الإمام واجب عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب له أن يكفر) .
وأما إذا أمره أو أكرهه الإمام على القتل، وعلم المأمور أنه يقتل بغير حق.. فلا يجوز للمأمور القتل؛ لما ذكرناه إذا لم يكرهه، فإن قتل.. فإنه يأثم بذلك ويفسق، ويجب على الإمام القود والكفارة في ماله، وأما المكره المأمور: فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:(11/350)
أحدهما: لا يجب عليه القود، وهو قول أبي حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأنه قتله لاستبقاء نفسه.. فلم يجب عليه القود، كما لو قصد رجل نفسه، فلم يمكنه دفعه إلا بقتله.
والثاني: يجب عليه القود، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وهذا قاتل، ولأنه قصد قتل من يكافئه لاستبقاء نفسه، فوجب عليه القود، كما لو جاع.. فقتله ليأكله، ولأن رجلين لو كانا في مضيق أو بيت، فدخل عليهما أسد أو سبع، فدفع أحدهما صاحبه إليه خوفاً على نفسه، فأكله الأسد أو السبع.. لوجب القصاص على الدافع.
وكذلك: لو كان جماعة في البحر، فخافوا الغرق، فدفعوا واحداً منهم في البحر لتخف السفينة، وغرق، ومات.. وجب عليهم القود وإن كان ذلك لاستبقاء أنفسهم، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا: يجب على المأمور القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتل المكره، وبين أن يعفو عنهما، ويأخذ منهما الدية.
وإن قلنا: لا يجب على المأمور المكره القود.. فعليه نصف الدية؛ لأنه قد باشر القتل، ويجب على كل واحد منهما الكفارة على القولين معاً. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا قلنا: لا يجب على المأمور القود.. فهل يجب عليه نصف الدية؟ فيه وجهان.(11/351)
فإن قلنا: عليه نصف الدية.. كان عليه الكفارة.
وإن قلنا: لا تجب عليه نصف الدية.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الإمام وبين النائب عنه في ذلك؛ لأن طاعته تجب كما تجب طاعة الإمام.
وكذلك: إذا تغلب رجل على بلد أو إقليم بتأويل، وادعى: أنه الإمام، كالإمام الذي نصبه الخوارج.. فحكمه حكم الإمام في ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرد من أفعاله إلا ما يرد من أفعال الإمام العدل، وكذلك قاضيهم.
وأما إذا تغلب رجل على بلد بغير تأويل، بل باللصوصية، وأمر رجلاً بقتل رجل بغير حق، أو أمره رجل من الرعية بقتل رجل بغير حق، فإن لم يكرهه الآمر على القتل، فقتله.. وجب على المأمور القاتل القود والكفارة، سواء علم أنه أمره بقتله بحق أو بغير حق؛ لأنه لا يجب عليه طاعته بخلاف الإمام، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ للمشاركة بالقول.
وأما القود والدية والكفارة: فلا تجب عليه؛ لأنه لم يلجئه إلى قتله.
وأما إذا أكرهه على قتله: وجب على الآخر القود والكفارة؛ لأنه توصل إلى قتله بالإكراه، فهو كما لو قتله بيده.
وأما المأمور: فإن كان يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به.. فلا يجوز له أن يقتل، فإن قتل.. فعليه القود والكفارة. وإن لم يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه، فقتل.. فهل يجب عليه القود؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان، كما قلنا في الذي أكرهه الإمام.
ومنهم من قال: يجب عليه القود، قولا ًواحداً؛ لأن الذي أكرهه الإمام له شبهة في أمر الإمام؛ لجواز أن يكون الإمام قد علم بأمر يوجب القتل على المقتول وإن لم يعلم به المأمور، وطاعة الإمام تجب، بخلاف المتغلب باللصوصية وآحاد الرعية،(11/352)
فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجب على المأمور طاعته.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب القود على من أكرهه الإمام، قولاً واحداً، ويجب القود على من أكرهه غير الإمام، قولاً واحداً؛ لما ذكرناه من الفرق بينهما. والطريق الأول أصح.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (ولو أمر الإمام رجلاً بقتل رجل ظلماً، ففعل المأمور ذلك.. كان عليهما القود) . واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال أبو إسحاق: أراد: إذا أكرهه وأجاب، على أحد القولين.
ومنهم من قال: لم يرد بذلك إذا أكرهه؛ لأنه ذكر الإكراه بعد ذلك، وإنما تأويله: أن يقتل مسلماً بكافر، والإمام والمأمور يعتقدان أنه لا يقتل به، إلا أن المأمور اعتقد أن الإمام قد أداه اجتهاده إلى ذلك.. فيجب عليهما القود؛ أما الإمام: فلأنه ألجأه إلى قتله بأمره؛ لأن طاعة أمره واجبة، وأما المأمور: فلأن القتل إذا كان محرماً.. لم يجز له أن يفعله، وإن كان الإمام يرى إباحته.. فيلزمهما القود.
[فرع كيفية الإكراه]
واختلف أصحابنا في كيفية الإكراه على القتل:
فقال ابن الصباغ: لا يكون الإكراه عليه إلا بالقتل، أو بجرح يخاف منه التلف، فأما إذا أكرهه بضرب لا يموت منه، أو بأخذ مال.. فلا يكون إكراهاً؛ لأن ذلك لا يكون عذراً في إتلاف النفس لحرمتها؛ ولهذا: يجب عليه الدفع عن نفسه في أحد الوجهين، ولا يجب عليه الدفع عن ماله، بل يجب عليه بذله لإحياء نفس غيره.
وقال الشيخ الإمام أبو حامد في " التعليق ": إذا أكرهه بأخذ المال عن القتل.. كان إكراهاً، كما قلنا في الإكراه على الطلاق.(11/353)
وقال الطبري: إذا أكرهه على القتل بما لا تحتمله نفسه.. كان إكراهاً، كما قلنا في الطلاق.
[فرع أمر الصغير والمطيع]
فإن أمر عبده الصغير الذي لا يميز، أو كان أعجمياً لا يميز، ويعتقد طاعته في كل ما يأمره به، بقتل رجل بغير حق، فقتله.. وجب القود والكفارة على الآمر، ولا يجب على المأمور شيء؛ لأن المأمور كالآلة للآمر، فصار كما لو قتله بيده.
وكذلك: إذا كان المأمور عبداً لغيره، أو حراً يعتقد طاعة كل من أمره.. فالحكم فيه وفي غيره واحد.
ولو أمره بسرقة نصاب لغيره من حرز مثله، فسرقه.. لم يجب على الآمر القطع؛ لأن وجوب القصاص آكد من وجوب القطع في السرقة؛ ولهذا: يجب القصاص في السبب، ولا يجب القطع بالسبب.
ولو قال للصغير الذي لا يميز، أو للأعجمي الذي يعتقد طاعته في كل ما يأمره به: اقتلني، فقتله.. كان دمه هدراً؛ لأنه آلة له، فهو كما لو قتل نفسه، ويجب عليه الكفارة في ماله.
وإن أمر الصغير الذي لا يميز، أو البالغ المجنون أن يذبح نفسه، فذبحها، أو يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، فمات، فإن كان عبده.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه ملكه، ولكنه يأثم، وتجب عليه الكفارة، وإن كان عبداً لغيره.. وجب عليه ضمانه والكفارة، ولا يجب عليه القود إن كان الآمر حراً، لأنه لا يكافئه، وإن كان الآمر له عبداً، أو كان المأمور حراً.. وجب على الآمر القود والكفارة، كما لو قتله.
وإن قال لأعجمي يعتقد طاعة كل من يأمره: اذبح نفسك، فذبحها.. لم يجب(11/354)
على الآمر الضمان؛ لأنه لا يجوز أن يخفى عليه أن قتل نفسه لا يجوز وإن جاز أن يخفى عليه أن قتل غيره يجوز.
وإن أمره أن يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، ومات.. فإن الشيخ أبا حامد ذكر: أن حكمه حكم ما لو أمره بقتل نفسه.
وذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أنه يجب على الآمر ضمانه؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه يقتله، بخلاف أمره له بقتله لنفسه.
وإن أمر عبداً أعجمياً، بالغاً، عاقلاً، لا يعتقد وجوب طاعة من يأمره بغير حق، بقتل إنسان بغير حق، فقتله، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على الآمر قود ولا دية ولا كفارة، وإنما عليه الإثم فقط، ويتعلق حكم القتل بالعبد، فيجب عليه القود، وإن عفا عن القود.. تعلقت الدية برقبته، وإن أكرهه على القتل.. وجب على الآمر القود، وهل يجب القود على العبد المأمور؟ على ما مضى في إكراه الحر.
وإن أمر عبداً مراهقاً، يعلم أن طاعته لا تجوز بما لا يوافق الشرع بقتل إنسان بغير حق، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على كل واحد منهما القود، وتتعلق الدية برقبة العبد، وإن أكرهه على القتل.. لم يجب على الصبي قود، وهل يجب القود على الآمر؟
إن قلنا: إن عمد الصبي عمد.. وجب عليه القود.
وإن قلنا: إن عمده خطأ.. لم يجب عليه القود.
[فرع الإكراه على إتلاف مال آخر]
] : وإن أكره رجلاً على إتلاف مال لغيره.. فإن الضمان يتقرر على الآمر، وهل للمالك أن يطالب المأمور؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: له أن يطالبه؛ لأنه باشر الإتلاف.(11/355)
فعلى هذا: يرجع المأمور على الآمر.
والثاني: ليس للمالك مطالبة المأمور؛ لأنه آلة للآمر.
[مسألة إذا قتل بشهادتهما فعليه القود]
وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل بغير حق، فقتل بشهادتهما، وعمدا الشهادة عليه، وعلما أنه يقتل بشهادتهما.. وجب القود عليهما؛ لما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل: أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه.. لقطعت أيديكما) . وغرمهما دية يده. ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً، فهو كما لو جرحاه، فمات.
[فرع أمره بقطع يده فقطع فلا قود]
لو قال لرجل: اقطع يدي، فقطع يده.. فلا قود على القاطع ولا دية؛ لأنه أذن له في إتلافها، فهو كما لو أذن له في إتلاف ماله، فأتلفه.
وإن قال له: اقتلني، فقتله، أو أذن له في قطع يده، فقطعها، فسرى القطع إلى نفسه فمات.. لم يجب عليه القود.
وأما الدية: فقال أكثر أصحابنا: تبنى على القولين، متى تجب دية المقتول؟
فإن قلنا: تجب في آخر جزء من أجزاء حياته.. لم تجب هاهنا.
وإن قلنا: إنها تجب بعد موته.. وجبت ديته لورثته.
قال ابن الصباغ: وعندي في هذا نظر؛ لأن هذا الإذن ليس بإسقاط لما يجب بالجناية، ولو كان إسقاطاً لها.. لما سقط، كما لا يصح أن يقول له: أسقطت عنك(11/356)
ما يجب لي بالجناية أو إتلاف المال، وإنما سقط لوجود الإذن فيه، ولا فرق بين النفس فيه والأطراف، وهذا يدل على: أن الدية تسقط عنده، قولاً واحداً.
وإن فصده أو حجمه، فمات، فإن كان بغير أمره.. وجب عليه القود، وإن كان بأمره.. لم يجب عليه قود ولا دية، قولاً واحداً؛ لأن الفصد مباح، بخلاف القتل.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل(11/357)
[باب القصاص في الجروح والأعضاء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقصاص فيما دون النفس شيئان: جرح يستوفى، وطرف يقطع) .
وجملة ذلك: أن القصاص يجب فيما دون النفس من الجروح والأعضاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ - وقيل: بنت أنس - كسرت ثنية جارية من الأنصار، فعرضوا عليهم الأرش، فلم يقبلوا، فطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق نبياً لا تكسر ثنيتها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص "، فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» .
ولأن القصاص في النفس إنما جعل لحفظ النفس، وهذا موجود فيما دون النفس.
إذا ثبت هذا: فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، فتقطع يد الحر المسلم بيد الحر المسلم، ويد الكافر بيد الكافر، ويد المرأة بيد المرأة. وهذا إجماع.
وتقطع يد المرأة بيد الرجل، ويد الرجل بيد المرأة، ويد العبد بيد الحر والعبد عندنا، وبه قال مالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (إذا اختلف الشخصان في الدية.. لم يجز القصاص بينهما فيما دون النفس، فلا تقطع يد الرجل بيد المرأة، ولا يد المرأة بيد الرجل، ولا يد العبد بيد الحر، ولا يد العبد بيد العبد إذا اختلفت قيمتهما) .(11/358)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ولم يفرق.
ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، كالحرين المسلمين.
[مسألة اشتراك جماعة في إبانة عضو]
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو، أو جراحة يثبت بها القصاص، ولم يتميز فعل بعضهم عن بعض، مثل: أن أجرى جماعة سيفاً في أيديهم على يد رجل أو رجله، فقطعوها، أو على رأسه، فأوضحوه.. قطعت يد كل واحد منهم، وأوضح كل واحد منهم، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يقتص منهم، بل ينتقل حق المجني عليه إلى الدية) .
دليلنا: ما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقطع يده، ثم أتياه برجل آخر، وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا في ذلك.. فلم يقبل شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يد، وقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعت أيديكما) . وروي: (لقطعتكما) . ولا مخالف له في الصحابة.
ولأن كل جناية وجب بها القصاص على الواحد.. وجب بها القصاص على الجماعة، كالنفس.
وإن قطع أحدهما بعض العضو وأبانه الثاني، أو وضع أحدهما السكين على المفصل، ووضع الآخر عليه السكين من الجانب الآخر، ثم قطعاه وأباناه.. لم يجب على أحدهما قصاص في إبانة العضو؛ لأن جناية كل واحد منهما وقعت متميزة في بعض العضو، فلا يقتص منه في جميعه.(11/359)
[فرع يعتبر في المجني به ما يعتبر بالنفس]
ويعتبر في المجني به على ما دون النفس ما يعتبر في النفس، فإن رماه بحجر كبير يوضحه مثله في الغالب، فأوضحه.. وجب عليه القود.
وإن لطمه، وورم، وانتفخ، وصار موضحة.. فلا قود عليه فيها، وتجب فيها الدية.
وإن رماه بحجر صغير لا يوضح مثله في الغالب، فأوضحه.. لم يجب عليه القود، ووجبت عليه الدية، كما قلنا في النفس.
وحكى ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد قال: إذا كان الحجر مما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً.. فإنه يجب القصاص في الموضحة، فإذا مات.. لم يجب القصاص.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن من أوضح غيره بحديدة، فمات منها.. وجب عليه القود، فإذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب.. كانت كالحديدة.
[مسألة القصاص في الجروح والأعضاء]
ويجب القصاص فيما دون النفس في شيئين: الجروح والأعضاء.
والجروح ضربان: جروح في الرأس والوجه، وجروح فيما سواهما من البدن.
فأما الجروح في الرأس والوجه: فتسمى: الشجاج.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هي عشر:
أولها: (الخارصة) : وهي التي تكشط الجلد كشطاً لا يدمي، ومنه يقال: (خرص القصار الثوب) : إذا كشط درنه ووسخه.
وبعدها (الدامية) : وهي التي كشطت الجلد، وخرج منها الدم.(11/360)
وبعدها (الباضعة) : وهي التي تبضع اللحم، أي: تشقه بعد الجلد.
وبعدها (المتلاحمة) : وهي التي تنزل في اللحم.
وبعدها (السمحاق) : وهي التي وصلت إلى جلدة رقيقة بين اللحم والعظم، وتسمى تلك الجلدة: السمحاق.
وبعداه (الموضحة) : وهي التي أوضحت العظم، وكشفت عنه.
وبعدها (الهاشمة) : وهي التي هشمت العظم.
وبعدها (المنقلة) : قال الشيخ أبو حامد: ولها تأويلان:
أحدهما: أن تنقل العظم من موضع إلى موضع.
والثاني: أنه في تداويه لا بد من إخراج شيء من العظم منه.
وبعدها (المأمومة) : وتسمى: الآمة، وهي التي قطعت العظم، وبلغت إلى قشرة رقيقة فوق الدماغ.
وبعدها (الدامغة) : وهي التي بلغت إلى الدماغ) .
وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه زاد الدامغة بعد الدامية، وقال: (الدامية) : التي يخرج منها الدم ولا يجري، و (الدامغة) : ما يخرج منها الدم ويجري.
وقال الأزهري: (الدامغة) : قبل الدامية، وهي التي يخرج منها الدم بقطرة، و (الدامية) : هي التي يخرج منها الدم أكثر.(11/361)
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لا قصاص فيما دون الموضحة من الشجاج) ، ونقل المزني: لو جرحه، فلم يوضحه.. اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة. واختلف أصحابنا فيه:
فقال الخراسانيون: هل يجب القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج؟ فيه قولان.
وقال أكثر أصحابنا البغداديين: لا يجب القصاص فيما دون الموضحة، وما نقله المزني فيه سهو؛ لأن القصاص هو المماثلة، ولا يمكن المماثلة فيما دون الموضحة، فلو أوجبنا فيها القصاص.. لم نأمن أن نأخذ في موضحة بمتلاحمة؛ لأنه قد يكون رأس المجني عليه غليظ الجلد كثير اللحم، ويكون رأس الجاني رقيق الجلد قليل اللحم، فإذا قدرنا العمق في المتلاحمة في رأس المجني عليه، وأوجبنا قدره في رأس الجاني.. فربما بلغت إلى العظم، وذلك لا يجوز.
وقال الشيخ أبو حامد: يمكن عندي القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج على ما نقله المزني، بأن يكون في رأس المجني عليه موضحة، وفي رأس الجاني موضحة، فينظر إلى المتلاحمة التي في رأس المجني عليه، وينظر كم قدرها من الموضحة التي في رأس الجاني، فإن كانت قدر نصفها.. نظر كم قدر الموضحة التي في رأس الجاني، فيقتص منه نصف موضحته التي في رأسه.
والمشهور: أنه لا قصاص في ذلك.
وأما الموضحة: فيجب فيها القصاص؛ لأن المماثلة فيها ممكنة من غير حيف، فتقدر الموضحة بالطول والعرض، ويعلم عليه بخيط أو سواد، ولا يعتبر العمق؛ لأنه يأخذ إلى العظم.(11/362)
وإن كانت الشجة في الرأس، وعلى موضعها في رأس الجاني شعر.. فالمستحب: أن يحلق ذلك الشعر؛ لأنه أسهل في الاستيفاء، وإن اقتص ولم يحلق الشعر.. جاز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه.
[فرع اختلاف كبر الرأس وصغره مع الشجة]
وإذا شج رجل رجلاً في رأسه شجة.. فلا يخلو: إما أن تستوي رأساهما في الصغر والكبر، أو تختلفا.
فإن استوى رأساهما في الصغر أو الكبر.. فإنه يستوفي مثل موضحته بالطول والعرض في موضعها، إما في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو بين قرنيه.
وإن اختلفا.. نظرت:
فإن كان رأس الجاني أكبر، ورأس المجني عليه أصغر، فجنى عليه موضحة من منبت الشعر فوق الأذن إلى منبت الشعر فوق الأذن، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني ينتهي إلى أعلى من ذلك الموضع لسعته.. فليس للمجني عليه أن يأخذ إلا قدر موضحته طولاً وعرضاً لا يزيد عليه، ولكن له أن يبتدئ بالاقتصاص من أي الجانبين شاء.
وإن أوضح جميع رأسه.. فللمجني عليه أن يقتص قدر موضحته طولاً وعرضاً في أي موضع شاء من رأس الجاني؛ لأنه قد جنى عليه في ذلك الموضع في رأسه.
فإن أراد أن يقتص بعضها في مقدم رأس الجاني، وبعضها في مؤخر رأس الجاني، ويكون بينهما فاصل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه يجوز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه، إلا إن قال أهل الخبرة: إن في ذلك زيادة ضرر، أو زيادة شين.. فيمنع من ذلك.(11/363)
وإن كان رأس المجني عليه أكبر من رأس الجاني، فأوضحه موضحة في مقدم رأسه، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني يزيد على ذلك الموضع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن للمجني عليه أن يقتص في مقدم رأس الجاني، ويستكمل قدر طول موضحته وعرضها مما يلي ذلك من مؤخر رأس الجاني؛ لأنه عضو واحد.
فإن زادت موضحته على قدر الرأس.. لم يكن له أن يستوفي باقيها في الوجه ولا في القفا، وهو: ما نزل عن منبت شعر الرأس من العنق؛ لأنهما عضوان آخران.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز له أن يتجاوز عن سمت موضع الشجة؛ لأنه غير موضع الشجة، فلم يتجاوزه، كما لا يجوز له أن يتجاوز عن موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
فعلى هذا: إن كانت الموضحة في مقدم الرأس، وزاد قدرها على مقدم رأس الجاني.. لم ينزل إلى مؤخره، وإن كانت بين قرني الرأس - وهما: جانباه - وزاد قدرها على ما بين قرني رأس الجاني. فللمجني عليه أن يقتص إلى ما فوق الأذنين؛ لأنه في سمتها، وليس له أن يستوفي في مقدم الرأس ولا في مؤخره؛ لأنه في غير سمته.
[فرع يقتص من الموضحة]
وأما الهاشمة والمنقلة والمأمومة: فله أن يقتص في الموضحة منها، وليس له أن يقتص فيما زاد عليها؛ لأن كسر العظم لا يمكن المماثلة فيه؛ لأنه يخاف فيه الحيف، وإتلاف النفس.
[فرع جراحة غير الرأس والوجه]
وأما الجراحة في غير الرأس والوجه: فينظر فيها:
فإن وصلت إلى عظم.. وجب فيها القصاص.(11/364)
ومن أصحابنا من قال: لا يجب فيها القصاص؛ لأنها لما خالفت موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش.. خالفتها في وجوب القصاص.
والمنصوص هو الأول؛ لأنه يمكن القصاص فيها من غير حيف، فهي كالموضحة في الرأس والوجه.
فعلى هذا: إن كانت في موضع عليه شعر كثير.. فالمستحب: أن يحلق موضعها، ويعلم على موضعها بسواد أو غيره، ويقدر الطول والعرض على ما ذكرناه في موضحة الرأس. وإن كانت الجراحة في العضد، فزاد قدرها على عضد الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساعد. وإن كانت في الفخذ، وزاد قدرها على فخذ الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساق. وإن كانت في الساق، وزاد قدرها على ساق الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى القدم، كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
وإن كانت فيما دون الموضحة.. لم يجب فيها القصاص، على المشهور من المذهب؛ لأنه لا يمكن المماثلة في ذلك، وعلى ما اعتبره الشيخ أبو حامد، وحكاه الخراسانيون فيما دون الموضحة من الجراحات على الرأس والوجه: يكون هاهنا مثله.
وإن كانت الجراحة جائفة، أو كسرت عظماً.. لم يجب القصاص فيها؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيها، ويخاف فيها الحيف، بل إن كانت في موضع، ووصلت إلى العظم، ثم كسرت أو أجافت.. وجب القصاص فيها إلى العظم، ووجب الأرش فيما زاد.
[مسألة القصاص في الأطراف]
وأما الأطراف: فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل، فتؤخذ العين بالعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية [المائدة: 45] ، ولأنها تنتهي إلى مفصل.(11/365)
فإذا ثبت هذا: فتؤخذ العين الصحيحة بالصحيحة، والقائمة بالقائمة، وهي: التي ذهب ضوءها، وبقيت حدقتها، ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن تؤخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنه يأخذ أقل من حقه باختياره.
[فرع أوضح رأسه فذهب ببصره]
وإن أوضح رأسه رجل، فذهب ضوء العين.. فالمنصوص: (أنه يجب القصاص في الضوء) .
وقال الشافعي فيمن قطع إصبع رجل، فتآكل الكف وسقط: (إنه لا يجب عليه القصاص في الكف) .
واختلف أصحابنا في ضوء العين:
فنقل أبو إسحاق جوابه في الكف إلى العين، وجعل في ضوء العين قولين:
أحدهما: أنه لا يجب فيه القصاص؛ لأنه سراية فيما دون النفس، فلم يجب فيه القصاص، كالكف.
والثاني: يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب فيه القصاص بالسراية، كالنفس.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجب القصاص في الكف بالسراية، قولاً واحداً، ويجب القصاص بالضوء في السراية، قولاً واحداً.
والفرق بينهما: أن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة، فلم يجب فيه القصاص بالسراية، والضوء لا يمكن إتلافه بالمباشرة بالجناية، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس.(11/366)
[فرع الجفن بالجفن]
قال الشيخ أبو إسحاق: ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير؛ لأنهما متساويان في السلامة، وعدم البصر نقص في غيره.
[مسألة الأنف بالأنف]
ويؤخذ الأنف بالأنف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ الأنف الكبير بالصغير، والغليظ بالدقيق، والأقنى بالأفطس؛ لأن الأطراف يجب القصاص فيها وإن اختلفت بالصغر والكبر.
ولا يجب القصاص في الأنف، إلا في المارن وهو: اللين، وأما القصبة: فلا يجب فيها القصاص؛ لأنها عظم.
ويؤخذ أنف الشام بأنف الأخشم، وأنف الأخشم بأنف الشام، لأن الخشم ليس بنقص في الأنف، وإنما هو لعلة في الدماغ، والأنفان متساويان في السلامة.
ويؤخذ الأنف الصحيح بالأنف المجذوم ما لم يسقط بالجذام شيء منه؛ لأن الطرف الصحيح يؤخذ بالطرف العليل، فإن سقط من الأنف شيء.. لم يؤخذ به الصحيح؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه.(11/367)
فإن قطع من سقط بعض مارنه مارناً صحيحاً.. قطع جميع ما بقي من مارن الجاني، وأخذ منه من الدية بقدر ما كان ذهب من مارنه.
وإن قطع بعض مارن غيره.. نظر، كم القدر الذي قطع؟ فإن كان نصف المارن أو ثلثه أو ربعه.. اقتص من مارنه بنصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض، كما قلنا في الموضحة؛ لأنه قد يكون أنف الجاني صغيراً، وأنف المجني عليه كبيراً، فإن قلنا: يقطع من أنف الجاني قدر ما قطع من أنف المجني عليه بالمساحة طولاً وعرضاً.. لم يؤمن أن يقطع جميع أنفه ببعض أنف المجني عليه.
ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بينهما بالحاجز
وإن قطع المارن والقصبة.. اقتص من المارن، وأخذ الحكومة في القصبة؛ لأنه لا يمكن القصاص فيها.
[مسألة القصاص في الأذن]
ويجب القصاص في الأذن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . فيؤخذ الكبير بالصغير، والصغير بالكبير، والغليظ بالدقيق، والصحيح بالمجذوم، والأصم بالسميع، والسميع بالأصم؛ لما ذكرناه في الأنف.
ويؤخذ المثقوب بالصحيح، والصحيح بالمثقوب؛ لأن الثقب ليس بنقص في الأذن، وإنما تثقب للجمال بالخرص، فإن انخرم الثقب.. صار نقصاً، فلا يؤخذ به الصحيح؛ لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص.
وإن قطع من أذنه مخرومة أذناً صحيحة.. اقتص منه المجني عليه في المخرومة، وأخذ من دية أذنه بقدر ما انخرم من أذن الجاني.(11/368)
وتؤخذ الأذن المستحشفة وهي: الأذن اليابسة، بالأذن الصحيحة، لأنه يأخذ أنقص من أذنه باختياره، وهل تؤخذ الأذن الصحيحة بالأذن المستحشفة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تؤخذ بها، كما لا يجوز أخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء.
والثاني: تؤخذ بها؛ لأن الأذن المستحشفة تساوي الأذن الصحيحة في المنفعة، فأخذت الصحيحة بها، بخلاف اليد الشلاء، فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة.
[فرع قطع بعض الأذن]
وإن قطع بعض أذنه.. اقتص منه، ويقدر ذلك بالجزء، كالنصف والثلث والربع، ولا تقدر بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف.
وحكى ابن الصباغ، عن القاضي أبي الطيب: أنه لا يثبت القصاص في بعض الأذن.
والأول أصح؛ لأنه يمكن القصاص فيها.
[فرع قطع بعض الأذن ثم ألصقه فالتصق]
قال الشيخ أبو إسحاق: إذا قطع بعض أذنه وألصقه، فالتصق.. لم يجب القصاص؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه. ولعله أراد: إذا اندمل موضع القطع وخفي.
وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة.. فله أن يقطع أذنه كذلك، لأن المماثلة ممكنة.
وإن قطع أذنه، فأبانها، فأخذها المجني عليه، فألصقها، فالتصقت.. لم يسقط القصاص؛ لأنه وجب بالإبانة، فلم يسقط بالإلصاق.(11/369)
وإن قطع أذنه، فأبانها، فاقتص منه كذلك، ثم أخذ الجاني أذنه، فألصقها، فالتصقت.. لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بإزالتها؛ لأنه قد استوفى حقه، والإزالة إلى السلطان.
وإن قطع أذنه وأبانها، فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني، وألصقه الجاني، فالتصق.. فللمجني عليه أن يعود ويقطعه؛ لأن حقه الإبانة، ولم توجد.
وإن جنى على رأسه، فذهب عقله، أو شمه، أو سمعه، أو ذوقه، أو نكاحه، أو إنزاله.. لم تجب فيها القصاص؛ لأن هذه الأشياء ليست في موضع الجناية فيمكن القصاص فيها.
[مسألة في الشفتين القود]
ويجب في الشفتين القود.
ومن أصحابنا من قال: لا قود فيهما؛ لأنه قطع لحماً من لحم غير منفصل.
والأول هو المنصوص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن الشفتين هما اللحم الجافي من لحم الذقن، و (الشدق) : مستدير على الفم طولا ًوعرضاً، وطولهما ما تجافى عن لحم الذقن إلى أصل الأنف، وذلك من لحم له حد معلوم، فوجب القصاص فيه.
واختلف أصحابنا في القصاص في اللسان:
فمنهم من قال: يجب القصاص في جميعها وفي بعضها؛ لأن له حداً ينتهي إليه، فهو كالأنف والأذن.
فعلى هذا: يقتص في بعضها بالجزء، كالنصف والثلث والربع، لا بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف والأذن.
وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه. وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة،(11/370)
واختاره ابن الصباغ؛ لأن أصله لا يمكن استيفاء قطعه إلا بقطع غيره، وإذا قطع بعضه.. لم يمكن تقدير بعضه من الجملة. هذا ترتيب ابن الصباغ.
وأما الشيخ أبو إسحاق فذكر: أن القصاص يثبت في جميعها، وهل يثبت في بعضها؟ على وجهين.
[مسألة من قلع سناً قلعت سنه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قلع سن من قد أثغر.. قلع سنه، وإن كان المقلوع سنه لم يثغر.. وقف حتى يثغر) .
وجملة ذلك: أن القصاص يجب في السن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ كسرت سن جارية، فأمر رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر سنها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والله، لا تكسر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص " فعفا الأنصاري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله.. لأبره» .
إذا ثبت هذا: فإنه يقال للصبي إذا سقطت رواضعه - وهي: الأسنان التي تنبت له وقت رضاعه -: ثغر، فهو مثغور، فإذا نبتت له مكانها غيرها.. قيل له: أثغر واثّغر، لغتان.
فإذا قلع سن غيره.. فلا يخلو المقلوع سنه: إما أن يكون لم يثغر، أو كان قد ثغر.
فإن كان لم يثغر.. فإن القصاص لا يجب على الجاني في الحال؛ لأن العادة جرت: أن سن من لم يثغر تعود إذا قلعت، وما كان يعود إذا قلع.. لا يجب فيه القصاص، كالشعور. ويسأل أهل الخبرة: كم المدة التي تعود هذه السن في مثلها؟(11/371)
وينتظر إلى تلك المدة، فإذا جاءت تلك المدة ولم تعد السن.. وجب على الجاني القصاص؛ لأنه قد أيس من عودها.
وإن نبت للمجني عليه سن مكانها في تلك المدة أو أقل منها، فإن نبتت الثانية مثل الأولى، من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني قصاص ولا دية، وهل تجب عليه حكومة الجرح الذي حصل بفعله؟ ينظر فيه:
فإن جرح موضعاً آخر غير موضع السن بالقلع.. وجبت عليه فيه الحكومة.
وإن لم يجرح إلا الموضع الذي قلع منه السن.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الحكومة؛ لأنه لما قلع السن أدمى، فإذا أدمى.. وجبت فيه الحكومة.
والثاني: لا يجب عليه الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب إذا جرح وأدمى، فأما إذا أدمى من غير جرح.. فلا حكومة عليه، كما لو لطمه فرعف.. فإنه لا يجب عليه لخروج الدم بالرعاف حكومة.
وإن كانت السن التي نبتت مكان المقلوعة أنقص من التي تليها.. وجب على الجاني من ديتها بقدر ما نقص منها؛ لأن الظاهر أنها إنما نقصت بجنايته.
وإن كانت التي نبتت أزيد من التي قبلها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء؛ لأن الزيادة لا تكون من الجناية.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: تلزمه حكومة للشين الحاصل بالزيادة، كما يلزمه للشين الحاصل بالنقصان؛ لأن الظاهر أن ذلك من جنايته.
وإن كانت النابتة خارجة من صف الأسنان، فإن كانت بحيث لا ينتفع بها.. كان كما لو لم تنبت؛ لأن وجودها كعدمها، وإن كانت ينتفع بها.. وجب عليه حكومة للشين الحاصل بها.(11/372)
وإن نبتت له سن خضراء أو صفراء أو سوداء، وكانت المقلوعة بيضاء.. وجب على الجاني الحكومة؛ للشين الحاصل باللون.
وإن مات المجني عليه بعد مضي المدة التي يرجى فيها عود السن قبل أن تعود. فلوليه أن يقتص من الجاني؛ لأنه مات بعد استقرار القصاص.
وإن مات قبل مضي المدة التي يرجى عود السن فيها قبل أن تعود.. لم يجب على الجاني القصاص؛ لأنه يجوز أن لو بقي لعادت السن؛ وذلك شبهة تسقط القصاص.
وهل تجب له دية سن؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: تجب دية السن؛ لأنه قلع سناً لم تعد، والأصل عدم العود.
والثاني: لا تجب؛ لأن الغالب أنها قد كانت تعود، وإنما قطعها الموت.
وأما إذا قلع سن من قد أثغر: فإن قال أهل الخبرة: إنها لا تعود.. وجب له القصاص في الحال، وإن قالوا: إنها تعود إلى مدة.. فهل له القصاص قبل مضي تلك المدة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يقتص قبل مضي تلك المدة، كما قلنا فيمن قلع سن صبي لم يثغر.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: له أن يقتص في الحال؛ لأن الظاهر أنها لا تعود.
إذا ثبت هذا: فإن قلع سن من قد ثغر، وقيل: إنها لا تعود، فاقتص منه في الحال، أو قلنا: له أن يقتص بكل حال، أو اقتص منه بعد الإياس من عودها، ثم نبت للمجني عليه سن في موضع السن المقلوعة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن هذا السن من نبات السن المقلوعة من هذا الموضع؛ لأنه مثله في(11/373)
موضعه، فصار كما لو نتف شعرة، ثم نبتت، أو كما لو قلع سن صبي لم يثغر، ثم نبت مكانه سن، وكما لو لطم عينه، فذهب ضوءها، ثم عاد.
فعلى هذا: لا يجب على المجني عليه القصاص للجاني في السن التي اقتص منه بها؛ لأنه قلعها، وكان يجوز له قلعها، وإنما تجب عليه دية سن الجاني.
وإن كان المجني عليه عفا عن القصاص، وأخذ دية سنه.. وجب عليه رد الدية إلى الجاني.
والقول الثاني: أن السن النابت هبة مجددة من الله تعالى للمجني عليه؛ لأن العادة أن سن من أثغر إذا قلعت لا تعود، فإذا عادت.. علمنا أن ذلك هبة من الله تعالى له.
فعلى هذا: إن كان المجني عليه قد اقتص من الجاني، أو أخذ منه الأرش.. فقد وقع ما فعله موقعه، ولا شيء عليه للجاني.
وإن قلع سن رجل، فقلع المجني عليه سن الجاني، ثم نبت للجاني سن مكان سنه المقلوعة التي اقتص منه، ولم يعد للمجني عليه مثلها.. فإن قلنا: إن النابت هبة من الله تعالى مجددة.. فلا شيء للمجني عليه، وإن قلنا: إن النابت هو من الأول.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن للمجني عليه أن يقلعه ولو نبت مراراً؛ لأنه أعدمه سنه، فاستحق أن يعدمه سنه.
والثاني: ليس له أن يقلع سنه؛ لأنه يجوز أن يكون من المقلوع، ويجوز أن يكون هبة مجددة من الله تعالى، وذلك شبهة، فسقط بها القصاص.
فعلى هذا: للمجني عليه دية سنه على الجاني، فإن خالف المجني عليه وقلع هذه السن للجاني.. وجب عليه ديتها، ويتقاصان.
وإن قلع سنه، فاقتص منه، فعاد للمجني عليه سن مكان سنه، ولم يعد للجاني، ثم عاد الجاني فقلعها.. وجب عليه ديتها؛ لأنه ليس له مثلها.(11/374)
فإن قلنا: إنه من الأول.. فقد قلنا: إن على المجني عليه دية سن الجاني، فيتقاصان.
وإن قلنا: إن النابت هبة مجددة.. فلا شيء على المجني عليه للجاني.
[فرع تؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة]
] : وتؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة، والصغيرة بالكبيرة، كما قلنا في الأنف والأذن.
ولا يؤخذ سن صحيح بمكسور؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويؤخذ المكسور بالصحيح؛ لأنه أنقص من حقه. ويأخذ من دية سنه بقدر ما ذهب من سن الجاني.
وإن كسر بعض سنه من نصفها أو ربعها.. فهل يجب فيها القصاص؟ اختلف الشيخان:
فقال الشيخ أبو إسحاق: إن أمكن أن يقتص.. اقتص، وإن لم يمكن.. لم يقتص.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يقتص منه؛ لأن القصاص بالكسر لا يجب باتفاق الأمة - قال - وما روي في خبر الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها كسرت ثنية جارية من الأنصار، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكسر ثنيتها» .. أراد بالكسر: القلع، لا الكسر من بعضها.
[فرع قلع سن زائدة]
وإن قلع لرجل سناً زائدة، وللجاني سن زائد في ذلك الموضع يساوي السن الذي قلع.. وجب فيها القصاص؛ لأنهما متساويان.
وإن لم يكن للجاني سن زائد.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها.(11/375)
وإن كان له سن زائد في غير ذلك الموضع.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، لاختلاف المحل.
وإن كان له سن زائد في ذلك الموضع، إلا أنه أكبر من سن المجني عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يجب فيها القصاص؛ لأن القصاص في العضو الزائد إنما يجب بالاجتهاد، فإذا كانت سن الجاني أزيد.. كانت حكومتها أكثر، فلم يجب قلعها بالتي هي أنقص منها، بخلاف السن الأصلية، فإن القصاص فيها ثبت بالنص، فلا يعتبر فيها التساوي.
والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامد، واختاره -: أنه يجب فيها القصاص؛ لأن ما ثبت بالاجتهاد.. يجب اعتباره بما ثبت بالنص. والأول هو المنصوص.
[مسألة يقطع العضو بالعضو]
وتقطع اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصابع بالأصابع، والأنامل بالأنامل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف.
إذا ثبت هذا: فإن قطع أصابعه من مفاصلها.. فله أن يقتص، وإن قطع يده من وسط الكف.. فليس له أن يقتص من وسط الكف؛ لأن كسر العظم لا يثبت فيه القصاص بإجماع الأمة.
وإن أراد أن يقتص من الأصابع من أصولها.. كان له ذلك؛ لأن الأصابع يمكن القصاص فيها.
فإن قيل: وكيف يضع السكين في غير الموضع الذي وضعه الجاني عليه؟(11/376)
قلنا: لأنه لا يمكن وضعها في الموضع الذي وضعها الجاني فيه.
فإذا اقتص من الأصابع.. فهل له أن يأخذ حكومة فيما زاد على الأصابع من الكف؟ فيه وجهان يأتي بيانهما.
وإن قطع يده من الكوع.. كان له أن يقتص من ذلك الموضع؛ لأنه مفصل.
وإن قطع يده من بعض الذراع.. فليس له أن يقتص من بعض الذراع؛ لأنه كسر عظم.
وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد عليه.. كان له ذلك؛ لأنه داخل في الجناية، يمكن القصاص فيه.
وإن قطع يده من المرفق.. فله أن يقتص من المرفق، فإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه بالقصاص.
وإن قطع يده من بعض العضد.. فليس له أن يقتص من بعض العضد، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك، وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك؛ لأن الجميع مفصل داخل في الجناية.
وقال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": ليس له ذلك؛ لأنه يمكنه أن يقطع من المرفق، ومتى أمكنه استيفاء حقه قصاصاً.. لم يكن له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً، كما لو قطع يده من الكوع.(11/377)
وإن أراد أن يقتص من الأصابع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فليس له ذلك. قال ابن الصباغ: وهذه لم يذكرها أصحابنا.
وإن قطع يده من الكتف: فإن قال اثنان من المسلمين من أهل الخبرة: إنه يمكن القصاص فيه من غير أن يخاف منه جائفة.. فله أن يقتص، وإن أراد أن يقتص من الكوع أو من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً.
وإن قالا: إنه يخاف من القصاص الجائفة.. لم يكن له أن يقتص من الكتف؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ زيادة على حقه، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك. وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد على ذلك.. فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك.
وعلى ما قال ابن الصباغ: إذا قطع يده من بعض العضد، وأراد أن يقتص من المرفق.. ليس له أن يقتص هاهنا من الكوع؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً من المرفق، ومتى أمكنه أن يأخذ حقه قصاصاً.. فليس له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً.
وحكم الرجل إذا قطعت أصابعها، أو من مفصل القدم، أو الركبة، أو الورك، أو ما بين ذلك.. حكم اليد في القصاص، على ما مضى.
[فرع قطع عضواً من مفصل وبقيت الجلدة معلقة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قطع يده من المفصل، فتعلقت بالجلد.. وجب القصاص، فتقطع إلى أن تبقى معلقة بمثل ذلك، ويسأل أهل الطب، فإن قالوا:
المصلحة
في قطعها.. قطعناها، وإن قالوا: المصلحة في تركها.. تركناها) .(11/378)
[فرع قطع يداً شلاء]
وإن قطع من له يد صحيحة يداً شلاء.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص، بل له الحكومة.
وقال داود: له أن يقتص.
دليلنا: أن اليد الشلاء لا منفعة فيها، وإنما فيها مجرد جمال، فلا يأخذ بها يداً فيها منفعة.
وإن قطع من له يد شلاء يداً صحيحة، فاختار المجني عليه أن يقطع الشلاء بالصحيحة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (له القصاص) .
وقال أصحابنا: يرجع إلى عدلين من المسلمين من أهل الخبرة، فإن قالا: إذا قطعت هذه الشلاء لم يخف عليها أكثر مما يخاف عليه إذا قطعت لو كانت صحيحة.. فللمجني عليه أن يقتص. وإن قالا: يخاف عليه أكثر من ذلك، بأن تبقى أفواه العروق منفتحة لا تنحسم، فتدخل الريح فيها، فيخشى على النفس التلف.. لم يكن له أن يقتص؛ لأنه أخذ نفس بيد، وهذا لا يجوز.
وهل يجوز أخذ اليد الشلاء باليد الشلاء، أو الرجل الشلاء بالرجل الشلاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنهما متماثلان.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، فلا تتحقق المماثلة بينهما، ولا يتصور الوجهان إلا إذا قال أهل الخبرة: إنه لا يخاف على الجاني أن تبقى العروق منفتحة لا تنحسم. فأما إذا خيف عليه ذلك: فلا يجوز القصاص، وجهاً واحداً، على ما مضى في أخذ الشلاء بالصحيحة.(11/379)
[فرع قطع لرجل كفه مع خمس أصابع وكان للجاني أصبع زائدة]
إذا كان لرجل يد لها ست أصابع، فقطع كف رجل لها خمس أصابع.. نظرت في الإصبع الزائدة للجاني.
فإن كانت خارجة عن عظم الكف.. كان للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه يمكنه أن يأخذ مثل كفه من غير أن يتناول محل الزائدة.
وإن كانت نابتة على الكف، أو ملتزمة بإحدى الأصابع، أو على إحدى أنامل أصابع اليد.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، فيكون المجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من الأصابع الخمس إذا كانت الزائدة على سائر الأصابع غير ملتزقة بواحدة منهن ولا نابتة على إحداهن، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتبعها، كما يتبعها في ديتها.
والثاني: لا يتبعها، بل يأخذ مع القصاص الحكومة؛ لأن الكف تتبع الأصابع في الدية، ولا تتبعها في القصاص؛ فلهذا: لو قطعت أصابعه، فتآكل منها الكف، واختار الدية.. لم يلزمه أكثر من دية الأصابع، ولو طلب القصاص.. قطعت الأصابع، وأخذ الحكومة في الكف.
وإن كانت الإصبع الزائدة نابتة على أنملة من الأصابع الخمس.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف، وله أن يقتص من الأصابع التي ليس عليها الزائدة.
وأما الإصبع التي عليها الزائدة: فإن كانت على الأنملة العليا.. لم يكن له أن يقتص منها، وإن كانت على الوسطى.. فله أن يقتص من الأنملة العليا، ويجب له ثلثا دية إصبع، وإن كانت على الأنملة السفلى.. فله أن يقتص من الأنملتين العليتين(11/380)
وله ثلث دية إصبع، ويتبعها ما تحتها من الكف، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأربع ما تحتها من الكف في القصاص؟ على الوجهين.
وإن قطع من له خمس أصابع كف يد لها أربع أصابع.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وله أن يقتص من أصابع الجاني الأربع المماثلة لأصابعه المقطوعة. وهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو يجب له مع ذلك حكومة؟ على الوجهين.
[فرع له كف بخمس أصابع فقطع كف من له أربع أصابع]
إذا كان لرجل كف فيه خمس أصابع أصلية، فقطع كف يد فيه أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة - وإنما يحكم بأنها زائدة.. إذا كانت مائلة عن بقية الأصابع ضعيفة - فليس للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه ليس له أن يأخذ أكمل من يده.
فإن اختار الأرش.. كان له دية الأربع الأصابع الأصلية، وحكومة في الزائدة.
وإن أراد أن يقتص من الأربع الأصابع الأصلية.. كان له ذلك، ويأخذ مع ذلك حكومة في الزائدة، ويتبعها ما تحتها من الكف في الحكومة، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأصلية ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب له فيه الحكومة؟ على الوجهين.
وإن قطع كفا له خمس أصابع أصلية، ويد القاطع لها أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة، فإن اختار المجني عليه أن يقطع كف الجاني.. كان له ذلك؛ لأنها أنقص من كفه.
قال المزني في " جامعه ": إنما يجوز له ذلك إذا كانت الزائدة في محل الأصلية، فأما إذا كانت في غير محلها: فليس له أخذها، وهذا صحيح؛ لأنهما إذا اختلفا في المحل.. كانتا كالجنسين. وكذلك: إذا كانت الزائدة أكثر أنامل.. لم تؤخذ بالأصلية.(11/381)
وإن قطع يداً وعليها إصبع زائدة، وللقاطع يد عليها إصبع زائدة، فإن اتفق محل الزائدتين وقدرهما.. كان للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لتساويهما، وإن اختلفا في المحل.. لم يكن له أن يقتص من الكف.
فإن اتفقتا في المحل واختلفتا في القدر، فإن كانت إصبع الجاني أكثر أنامل.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وإن كانت أقل أنامل.. كان له أن يقتص، ويأخذ في الزيادة الحكومة.
[فرع قطع كفا ذات ثلاث أصابع صحيحة وثنتين شلاوين]
وإن قطع كفاً له ثلاث أصابع صحيحة وإصبعان شلاوان، وكف القاطع صحيحة الأصابع.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكمل من يده، وإن رضي الجاني بذلك.. لم يجز؛ لأن القصاص لم يجب فيها، فلم يجز بالبذل، كما لو قتل حر عبداً، ورضي أن يقتل به.
وللمجني عليه أن يقتص من الأصابع الثلاث الصحيحة، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان.
وأما الإصبعان الشلاوان: فله فيهما حكومة، ويتبعهما ما تحتهما من الكف في الحكومة، وجهاً واحداً.
وإن كانت كف المقطوع صحيحة الأصابع، وكف القاطع فيها إصبعان شلاوان.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من كف الجاني؛ لأنها أنقص من كفه، ولا شيء للمجني عليه؛ لنقصان كف الجاني بالشلل. أما إذا اختار الدية: فله دية يده، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص، فكانت له الدية، كما لو لم يكن للقاطع يد. وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.(11/382)
وإن قطع كفاً له خمس أصابع، وكف الجاني لها ثلاث أصابع لا غير، وإصبعان مفقودتان.. فللمجني عليه أن يقتص من كف الجاني، ويأخذ منه دية الإصبعين الناقصتين.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من يد الجاني، ولا شيء له) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية [البقرة: 194] . ويد الجاني ليست مثل يد المجني عليه. ولأنه استوفى بعض حقه، فكان له أرش ما لم يستوفه، كما لو قطع له إصبعين، ولم توجد له إلا واحدة.
[فرع يد القاطع ذات أظفار بخلاف المقطوع له]
وإن كانت يد القاطع لها أظفار، ويد المقطوع لا أظفار لها.. لم تقطع بها؛ لأنه يأخذ أكمل من حقه، فإن سقطت أظافيره.. قطعت، ولو لم يكن لواحد منهما أظافير حالة القطع.. يقتص منه.
فلو نبت للقاطع أظافير قبل أن يقتص منه.. لا يقتص؛ لطروء الزيادة.
ويجوز أن يأخذ اليد التي لا أظفار لها باليد التي لها أظفار؛ لأنها أنقص من يده.
[فرع قطع أنملة له طرفان]
وإن قطع أنملة لها طرفان، فإن كانت أنملة القاطع لها طرفان من تلك الإصبع بتلك اليد.. فللمجني عليه قطعها؛ لأنها مثل حقه، وإن كانت أنملة القاطع لها طرف واحد.. فللمجني عليه قطعها، ويأخذ حكومة في الطرف الزائد، كما لو كان للمجني عليه إصبع زائدة في يده.
وإن قطع أنملة لها طرف، ولتلك الأنملة في القاطع طرفان.. لم يكن للمجني عليه(11/383)
القصاص؛ لأنها أزيد من حقه، ويكون للمجني عليه أرش الأنملة.
فإن قال المجني عليه: أنا أصبر على القصاص إلى أن تسقط الأنملة الزائدة، وأقتص في الأصلية.. كان له ذلك؛ لأن له تأخير القصاص. هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن علمت الأصلية منهما.. قطعت، ولا شيء عليه. وإن لم تعلم الأصلية.. قطعت إحداهما، ويغرم الجاني التفاوت ما بين سدس دية إصبع وثلثها.
[فرع قطع أنملة المشيرة]
وإن قطع أنملة من سبابة رجل، وقطع الأنملة الوسطى من تلك الإصبع من رجل آخر، فإن جاء المجني عليهما.. قطعت العليا لصاحب العليا، وقطعت الوسطى لصاحب الوسطى، وإن جاء صاحب الوسطى أولاً، وطلب القصاص.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يمكن قطعها من غير قطع العليا، ويكون بالخيار: بين أن يأخذ دية الأنملة، وبين أن يصبر إلى أن يقتص صاحب العليا، أو تسقط بأكلة.
وهكذا: إن عفا صاحب العليا عن القود، أو لم يقطع الأنملة العليا من إنسان لكن قطع الأنملة الوسطى من رجل، وجاء صاحب الوسطى يطلب القصاص، وللجاني الأنملة العليا والوسطى.. فللمجني عليه أن يصبر إلى أن تقطع العليا أو تسقط، ثم يقتص من الوسطى.
وقال أبو حنيفة: (لا قصاص له؛ لأنه حين قطعها لم يجب القصاص عليه فيها؛ لتعذر استيفائها، فإذا لم يجب حال الجناية.. لم يجب بعد ذلك) .
دليلنا: أن القصاص إنما تعذر لمتصل به، فإذا زال ذلك المتصل.. كان له استيفاء القصاص، كما لو قتلت الحامل غيرها، ثم ولدت.(11/384)
فإن لم يصبر صاحب الوسطى، وقطع الوسطى والعليا.. فقد فعل ما لا يجوز له، ولا عليا للمقتص، فيجب عليه ديتها، وقد استوفى القصاص في الوسطى.
فإن قطع العليا من إصبع زيد، وقطع العليا والوسطى من تلك الإصبع من عمرو، فإن حضرا معاً، وطلبا القصاص.. اقتص زيد من العليا؛ لأنه أسبق، واقتص عمرو من الوسطى، وأخذ دية العليا.
وكذلك: إن حضر زيد وحده.. فله أن يقتص من العليا، وإن حضر عمرو.. فليس له أن يقتص؛ لأن حق زيد تعلق بالعليا قبله، فإن خالف واقتص من العليا والوسطى.. فقد أساء بذلك، ولكنه يصير مستوفياً لحقه، ويكون لزيد دية الأنملة العليا على الجاني.
[فرع لو كان للمجني عليه أربع أنامل في أصبع]
ذكر الطبري في " العدة ": لو كان للمجني عليه أربع أنامل في إصبع.. فله أربعة أحوال:
أحدها: أن يقطع من له ثلاث أنامل أنملة من الأربع.. فلا قصاص عليه.
و [الثاني] : إن قطع أنملتين من الأربع.. قطع من الجاني أنملة، ويغرم الجاني التفاوت فيما بين النصف والثلث من دية الإصبع، وهو بعير وثلثان.
و [الثالث] : إن قطع له ثلاث أنامل.. قطع منه أنملتين، ويغرم ما بين ثلثي دية إصبع وبين ثلاثة أرباع ديتها.
و [الرابع] : إن قطع له أربع أنامل.. قطعت أنامل القاطع الثلاث، ووجبت عليه مع ذلك زيادة حكومة.
فأما إذا كان للقاطع أربع أنامل، وللمقطوع ثلاث أنامل.. فله ثلاثة أحوال:
[أحدها] : إن قطع أنملة منه.. قطعت أنملة منه، ويغرم الجاني ما بين ثلث دية إصبع وبين ربعها، وهو خمسة أسداس بعير.(11/385)
و [الثاني] : إن قطع أنملتين.. قطع منه أنملتان، ويغرم التفاوت بين نصف دية الإصبع وثلثها.
و [الثالث] : إن قطع جميع أنامله.. قطع منه ثلاث أنامل، ويغرم التفاوت بين ثلاثة أرباع دية الإصبع وجميع ديتها.
[فرع قطع أصبعاً فتآكل الكف منها]
وإن قطع إصبع رجل، فتآكل منها الكف وسقط.. فللمجني عليه القصاص في الإصبع المقطوعة، وله دية الأصابع الأربع، وما تحت الأصابع الأربع من الكف.. يتبعها في الدية، وما تحت الإصبع التي اقتص فيها.. هل يتبعها في القصاص، أو تجب له حكومة؟ فيه وجهان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب له القصاص في الإصبع المقطوعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . وقد اعتدى بقطع الإصبع، فوجب أن تقطع منه.
ولأنها جناية، لو لم تسر.. وجب فيها القصاص، فوجب إذا سرت إلى ما لا قصاص فيه أن لا يسقط القصاص، كالمرأة إذا قطعت يد المرأة، فأسقطت جنينا، فلا يسقط القصاص في اليد.
[فرع قطع قدم زائدة مع الأصلية]
قال القفال: لو كان له قدمان على ساق واحدة، يمشي عليهما، أو يمشي على إحداهما، والأخرى زائلة عن سنن منبت القدم، فقطعهما رجل له قدم.. قطعت رجله، وطولب بحكومة للزيادة.(11/386)
وإن قطع إحداهما، فإن قطع الزائدة.. فعليه حكومة، وإن استويا في المنبت، وكان يمشي عليهما.. ففي المقطوعة ربع الدية، وزيادة حكومة.
وإن كان الجاني هو صاحب القدمين، فإن عرفنا الزائدة من الأصلية، وأمكن قطعها من غير أن تتلف الزائدة.. قطعت، وإن لم تعرف، أو عرفت ولا يمكن قطعها إلا بإتلاف الأخرى.. لم تقطع، وعليه دية الرجل المقطوعة.
[مسألة تؤخذ الأليتان بالأليتين]
قال الشيخ أبو إسحاق: وتؤخذ الأليتان بالأليتين، وهما: الناتئتان بين الظهر والفخذ.
ومن أصحابنا من قال: لا تؤخذ، وهو قول المزني؛ لأنه لحم متصل بلحم، فأشبه لحم الفخذ.
والمذهب الأول؛ لأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فهما كاليدين.
[مسألة يقطع الإحليل بالإحليل]
ويقطع الذكر بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه عضو ينتهي إلى مفصل، فوجب فيه القصاص، كاليد.
إذا ثبت هذا: فيقطع ذكر الرجل بذكر الصبي، ويقطع ذكر الشاب بذكر الشيخ؛ لأن كل عضو جرى القصاص فيه بين الرجل والرجل.. جرى فيه القصاص بين الصبي والرجل، كاليد والرجل.
ويقطع ذكر الفحل بذكر الخصي والعنين.
وقال مالك، وأحمد رحمهما الله: (لا يقطع به) .
دليلنا: أنهما متساويان في السلامة، وإنما عدم الإنزال والجماع؛ لمعنى في غيره، فلم يمنع القصاص، كأذن السميع بأذن الأصم.
ولا يقطع الذكر الصحيح بالذكر الأشل؛ لأنه لا يساويه.(11/387)
وإن قطع بعض ذكره.. اقتص منه.
وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه، كما قال في اللسان.
والأول أصح؛ لأنه إذا أمكن في جميعه.. أمكن في بعضه.
فعلى هذا: يعتبر المقطوع بالجزء، كالنصف والثلث والربع، كما قلنا في الأذن والأنف.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويقاد ذكر الأغلف بذكر المختون، كما تقطع اليد السمينة باليد المهزولة، ولأن تلك الجلدة مستحقة للقطع، فلا تمنع من القصاص) .
[فرع قطع الأنثيين فيقطع منه]
] : وإن قطع أنثييه.. أقتص منه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه طرف يمكن اعتبار المماثلة في أخذ القصاص فيه، فشابه سائر الأطراف.
فإن قطع إحدى أنثييه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن أن يقتص من إحدى البيضتين من القاطع ولا تتلف الأخرى.. اقتص منه، وإن قيل: تتلف الأخرى.. لم يقتص منه؛ لأنه لا يجوز أخذ أنثيين بواحدة، ويجب له نصف الدية) . وهل تتبعها جلدتها، أو تنفرد بحكومة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
[مسألة القصاص في الشفرين]
وهل يجب القصاص في (الشفرين) : وهما اللحم المحيط بالفرج؟ فيه وجهان:(11/388)
أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما، فوجب فيهما القصاص.
والثاني: لا يجب، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنه لحم، وليس له مفصل ينتهي إليه، فلم يجب فيه القصاص، كلحم الفخذ. والأول هو المنصوص.
[فرع قطع ذكر مشكل مع أخريات]
إذا قطع قاطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه، وشفريه.. فلا يخلو القاطع: إما أن يكون رجلاً، أو امرأة، أو خنثى مشكلاً.
فإن كان القاطع رجلاً.. لم يجب عليه القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، والذكر والأنثيان فيه زائدان، فلا يؤخذ الأصليان بالزائدين، وقيل له: أنت بالخيار: بين أن تصبر إلى أن يتبين حالك، فيجب لك القصاص إن بان أنك رجل، وبين أن تعفو وتأخذ المال، فإن قال: أعطوني ما وجب لي من المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص في الذكر والأنثيين، أو لم يكن للجاني ذكر ولا أنثيان، بأن كانا قد قطعا.. قال أصحابنا البغداديون: فإنه يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين لا تبلغ ديتهما؛ لأنه يستحق ذلك بيقين.
وقال الخراسانيون والجويني: يعطى حكومة للذكر والأنثيين، وحكومة للشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين، ويشك في الزيادة.
وإن قال: لا أقف، ولا أعفو عن القصاص، وطلب المال.. فهل يعطى شيئاً؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يعطى؛ لأنه مطالب بالقود، ولا يجوز أن يأخذ المال وهو مطالب بالقود.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يعطى، وهو الأصح؛ لأنه يستحقه بيقين.
فإذا قلنا بهذا: فكم القدر الذي يعطى؟ اختلف أصحابنا فيه:(11/389)
فقال القفال: يعطى حكومة في الشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين.
وقال القاضي أبو حامد: يعطى دية الشفرين؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال أو في آلة النساء؛ لأن ذلك هو اليقين.
ومن أصحابنا من قال: يعطى الحكومة في الذي قطعه آخراً. والأول أصح.
وإن كان القاطع امرأة، فإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. فإنا لا نتوهم وجوب القصاص، فيعطى حكومة في آلة الرجال، وحكومة في آلة النساء، فإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين وحكومة للشفرين، وإن بان امرأة.. تمم له دية الشفرين وحكومة للذكر والأنثيين. وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب القصاص فيهما.. فإنه لا يجب للخنثى القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلا يجب القصاص على المرأة في الفرج الزائد.
فإن طلب المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص، أو لم يعف ولكن ليس للقاطعة شفران.. فعلى قول البغداديين من أصحابنا: يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين، فإن بان امرأة.. فقد استوفت حقها، وإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين، وحكومة الشفرين.
وعلى قول الخراسانيين: يعطى حكومة للشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين.
وإن لم يعف عن القصاص، وكان للقاطعة شفران وطلب المال.. فعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: لا يعطى، وعلى قول أكثر أصحابنا: يعطى.
فإذا قلنا بهذا: فكم يعطى على قول القفال؟ يعطى حكومة للذكر والأنثيين.
وعلى قول القاضي أبي حامد: يعطى دية الذكر والأنثيين.
وعلى قول بعض أصحابنا الخراسانيين: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء.(11/390)
وإن كان القاطع خنثى مشكلاً.. فإنه لا يجب القصاص في الحال؛ لأنا لا نتيقن عين الزائد من الآلتين فيهما، ولا عين الأصلي، فلو أوجبنا القصاص في الحال.. لم نأمن أن نأخذ أصلياً بزائد، وذلك لا يجوز.
فإن طلب حقه من المال.. نظرت:
فإن عفا عن القصاص.. قال أصحابنا البغداديون: أعطي دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين. وقال الخراسانيون: يعطى الحكومة في الذكر والأنثيين والشفرين.
وإن لم يعف عن القصاص.. فهل يعطى شيئاً من المال؟
إن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. أعطي الحكومة فيهما؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما، وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب فيهما القصاص.. فهل يعطى شيئاً؟
إن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: أنه لا يعطى شيئاً إذا كان القاطع رجلاً أو امرأة.. فهاهنا أولى أن لا يعطى، وإن قلنا هناك يعطى.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يعطى، وهو قول القفال؛ لأن القصاص متوهم في جميع الآلات.
والثاني: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء.
والصحيح: أنه لا يعطى هاهنا شيئاً.
مسألة: [القصاص لا يعتبر فيه الصحة والكبر] :
وكل عضو وجب فيه القصاص.. فإنه يجب فيه وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر، والصحة والمرض، والسمن والهزال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] (المائدة: من الآية 45) ولم يفرق. ولأنا لو اعتبرنا هذه الأشياء.. لشق وضاق، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار ذلك في النفس.
وما كان من الأعضاء منقسماً إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين واليدين(11/391)
والرجلين.. لا يجوز أخذ اليمنى منه باليسرى، ولا اليسرى باليمنى.
وقال ابن شبرمة: يجوز.
دليلنا: أن كل واحد منهما يختص باسم ينفرد به، فلا يؤخذ بغيره، كما لا تؤخذ اليد بالرجل.
وكذلك: لا يؤخذ الجفن الأعلى بالجفن الأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، وكذلك الشفتان مثله.
ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع غيرها، ولا أنلمة بأنملة غيرها، كما لا تؤخذ نفس بجناية نفس غيرها، ولا يؤخذ ذلك وإن رضي الجاني والمجني عليه.
وكذلك: إذا رضي الجاني بأن يؤخذ العضو الكامل بالناقص، والصحيح بالأشل.. لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.
[مسألة قطع عضوه ثم قتله]
إذا قطع يد رجل، ثم عاد فقتله.. كان له أن يقطع يده، ثم يقتله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف، ومحمد: ليس له إلا القتل.
دليلنا: قوله تعلى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) وهذا قد اعتدى بقطع اليد، فلم يمنع من قطع يده.
ولأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما إذا انفردت، فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع، كقطع اليد والرجل.
[مسألة قتل جماعة]
إذا قتل واحد جماعة.. قتل بواحد، وأخذ الباقون الدية.
وقال أبو حنيفة، ومالك: (يقتل بالجماعة، فإن بادر واحد وقتله.. سقط حق الباقين) . وهو قول بعض أصحابنا الخراسانيين.(11/392)
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن طلبوا القصاص.. قتل لجماعتهم وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم الدية.. قتل لمن طلب القصاص، وأعطيت الدية من طلبها) .
وقال عثمان البتي: يقتل بجماعتهم، ثم يعطون دية باقيهم، فيقسمونها بينهم، مثل: أن يقتل عشرة، فإنه يقتل، ويعطون تسع ديات، ويقسمونها بين العشرة.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين، إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» .
ولأنها حقوق مقصودة لآدميين يمكن استيفاؤها.. فوجب أن لا تتداخل، كالديون.
فقولنا: (حقوق مقصودة) احتراز من آجال الدائنين.
وقولنا: (لآدميين) احتراز من حقوق الله تعالى، وهي الحدود في الزنا والشرب.
إذا ثبت هذا: فإن قتل واحداً بعد واحد.. اقتص للأول، فإن عفا الأول.. اقتص للثاني، فإن عفا الثاني.. اقتص للثالث.
وإن كان ولي الأول غائباً أو صغيراً.. انتظر قدوم الغائب، وبلوغ الصغير.
وإن قتلهم دفعة واحدة، بأن هدم عليهم بيتاً أو حرقهم فماتوا معاً.. أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قتل به، وكان للباقين الدية.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: يقتل بالجميع، ويرجع كل واحد من الأولياء بحصته الموروثة من الدية.
وإن قتلهم واحداً بعد واحد، إلا أنه أشكل الأول منهم، فإن أقر القاتل لأحدهم: أنه الأول.. قبل إقراره، وقتل به، وإن لم يقر.. أقرعنا بينهم؛ لاستواء حقوقهم،(11/393)
فإن بادر واحد منهم فقتله.. فقد استوفى حقه، وانتقل حق الباقين إلى الدية.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا - أنه إذا قتل واحداً بعد واحد، وكان ولي الأول غائباً أو مجنوناً أو صغيراً - قولين:
أحدهما: يستوفي ولي الثاني.
والثاني: لا يستوفي، بل ينتظر حضور الغائب، وإفاقة المجنون، وبلوغ الصبي.
وإن قتل جماعة في قطع الطريق، وقلنا بالمشهور من المذهب: أنه يقتل بواحد في غير قطع الطريق.. فهاهنا وجهان وحكاهما الخراسانيون قولين:
أحدهما: حكمه حكم ما لو قتلهم في غير قطع الطريق؛ لما ذكرناه هناك.
والثاني: يقتل بالجميع، ولا شيء للباقين؛ لأنه يقتل حداً، بدليل: أنه لا يصح العفو عنه، وإن قطع عضواً من جماعة.. فحكمه حكم ما لو قتل جماعة، على ما مضى.
[مسألة قطع يد رجل وقتل غيره]
وإن قطع يد رجل، وقتل آخر.. قطعت يده للمقطوع، ثم قتل للمقتول، سواء تقدم قطع اليد أو تأخر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (يقتل للمقتول، ولا تقطع يده للمقطوع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية (المائدة: 45) . فأخبر: أن النفس تؤخذ بالنفس، والطرف بالطرف، فمن قال غير هذا.. فقد خالف الآية.
ولأنهما جنايتان على شخصين، فلا تتداخلان، كما لو قطع يدي رجلين، وإنما(11/394)
قدمنا القطع هاهنا وإن كان متأخراً؛ لأنه يمكن إيفاء الحقين من غير نقص على أحدهما، ومتى أمكن إيفاء الحقين.. لم يجز إسقاط أحدهما.
وإن قطع إصبعاً من يمين رجل، ثم قطع يمين آخر.. قطعت إصبعه للأول، ثم قطعت يده للثاني، ولزمه أن يغرم للثاني دية إصبعه التي لم يقتص منها، ويخالف إذا قتل رجل مقطوع اليد لرجل غير مقطوع اليد؛ فإنه لا يغرم له شيئاً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع؛ ولهذا: لا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد، ولهذا: يقتل من له يدان بمن له يد واحدة.
وإن قطع يمين رجل، ثم قطع إصبعاً من يمين آخر.. قطعت يمينه للأول، وأخذ الآخر دية إصبعه المقطوعة، ويخالف إذا قطع يمين رجل، ثم قتل آخر؛ حيث قلنا: يقدم القطع وإن كان متأخراً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد.
[فرع قتل ثم ارتد أو قطع ثم سرق]
إذا قتل رجلاً وارتد، أو قطع يمين رجل وسرق.. قدم حق الآدمي من القتل والقطع؛ لأنه مبني على التشديد، وحق الله تعالى مبني على المسامحة.
وبالله التوفيق(11/395)
[باب استيفاء القصاص]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم يختلفوا في أن العقل موروث كالمال) .
وجملة ذلك: أنه إذا قتل رجل رجلاً عمداً أو خطأ، وعفا عنه على المال.. فإن الدية تكون لجميع ورثة المقتول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] (النساء: 92) .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الذكر والأنثى، وهو إجماع لا خلاف فيه.
وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه: أنه لم يورث امرأة من دية زوجها، فقال له الضحاك بن قيس - وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: الضحاك بن سفيان -: كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى، وترث المرأة من دية زوجها» .(11/396)
وقال الشيخ أبو إسحاق: ويقضى من الدية دينه، وتنفذ منها وصاياه.
وقال أبو ثور: (لا يقضى منها دينه، ولا تنفذ منها وصاياه) .
والذي يقتضي المذهب: أن تبنى على القولين، متى تجب الدية؟
فإن قلنا: بآخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. قضي منها دينه، ونفذت منها وصاياه، وإن قلنا: تجب بعد موته.. لم يقض منها دينه، ولم تنفذ منها وصاياه. ولعله ذكر ذلك على الأصح عنده.
وأما إذا كان القتل يقتضي القصاص.. فإن القصاص موروث، وفيمن يرثه من الورثة ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
أحدها: أنه لا يرثه إلا العصبة من الرجال، وبه قال مالك، والزهري؛ لأن القصاص يدفع العار عن النسب، فاختص به العصبات، كولاية النكاح، فإن اقتصوا.. فلا كلام، وإن عفوا على مال.. كان لجميع الورثة.
والثاني: أنه يرثه من يرث بنسب دون سبب، فيخرج من ذلك من يرث بالزوجية، وبه قال ابن شبرمة؛ لأن القصاص يراد للتشفي، والزوجية تزول بالموت.
والثالث - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخان غيره -: (أنه يرثه جميع الورثة، من يرثه بنسب، ومن يرثه بسبب) ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد رحمة الله(11/397)
عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الرجال والنساء.
ولأنه جعل القود لمن جعل له الدية، ولا خلاف أن الدية لجميع الورثة، فكذلك القود.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأهل القتيل: أن يتحجزوا، الأول فالأول، وإن كانت امرأة» قال أبو عبيد [في " غريب الحديث " (2/160) ] : ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يتحجزوا " يكفوا عن القصاص، ولو لم يكن للمرأة حق في القصاص.. لما جعل لها الكف عنه.
وروي: (أن رجلا قتل رجلاً، فأراد أولياء المقتول القود، فقالت أخت المقتول - وكانت زوجة القاتل -: عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق من القتل) .
[مسألة قطع طرف رجل فارتد المقطوع]
إذا قطع طرف مسلم، فارتد المقطوع، ثم مات على الردة - وقلنا: يجب القصاص في الطرف - فمن الذي يستوفيه؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لوليه المسلم أن يقتص) . واعترض المزني عليه، فقال: كيف يجوز لوليه أن يقتص وهو لا يرثه؟ واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يقتص وليه المسلم كما قال المزني؛ لأنه لا يرثه، ولم يرد(11/398)
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الولي هاهنا: المناسب؛ وإنما أراد به: الإمام.
وقال أكثرهم: بل يجوز لوليه المناسب أن يقتص؛ لأن القصاص للتشفي، وذلك إلى المناسب لا إلى الإمام.
وقول الأول غير صحيح؛ لأنه قد يثبت القصاص لمن لا يرث، وهو: إذا قتل رجل وعليه دين يحيط بتركته.
فإذا قلنا: إن الإمام هو الذي يقتص.. كان بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإذا عفا على مال.. كان فيئاً.
وإذا قلنا: يقتص الولي المناسب، فإن اقتص.. فلا كلام، وإن عفا على مال.. فهل يثبت؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يثبت؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فلما لم يجب أرش النفس.. لم يجب أرش الطرف.
والثاني: يجب الأرش، وهو الأصح؛ لأن الجناية وقعت في حالة مضمونة، فلا يسقط حكمها بسقوط حكم السراية.
فإذا قلنا بهذا: فكم الأرش الذي يجب؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب أقل الأمرين من أرش الطرف أو دية النفس؛ لأن دية النفس إذا كانت أكثر من أرش الطرف.. لم تجب الزيادة على أرش الطرف؛ لأن الزيادة وجبت بالسراية، وإن كان أرش الطرف أكثر.. لم يجب ما زاد على دية النفس؛ لأنه لو مات وهو مسلم.. لم يجب فيه أكثر من دية مسلم، فكذلك هاهنا مثله.
و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب أرش الطرف بالغاً ما بلغ؛ لأن الدية إنما تجب في النفس في الموضع الذي لو كان دون الدية وصار نفساً. وجبت فيه الدية، وهاهنا لا حكم للسراية في الزيادة، فكذلك في النقصان. والأول أصح.(11/399)
[مسألة حق القصاص لقاصر]
وإن كان القصاص لصغير أو مجنون، أو لغير رشيد.. لم يستوف له الولي، وبه قال أحمد، وأبو يوسف.
وقال مالك، وأبو حنيفة، ومحمد: (يجوز للأب والجد أن يستوفيا له القصاص في النفس والطرف، ويجوز للوصي والحاكم أن يستوفيا له في الطرف دون النفس) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . فجعل الخيرة للأهل، فلو جعلنا للولي استيفاءه.. لفوتنا ما خير فيه.
ولأنه لا يملك إيقاع طلاق زوجته، فلا يملك استيفاء القصاص في النفس، كالوصي.
وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويصلح المفسد؛ لأن في ذلك مصلحة للقاتل؛ بأن يعيش إلى مدة، ويتأخر قتله، وفيه مصلحة لولي المقتول؛ لئلا يهرب القاتل، ويفوت القصاص.
فإن أراد الولي أن يعفو عن القود على مال، فإن كان المولى عليه له كفاية.. لم يجز، وإن كان محتاجاً إلى ذلك المال لنفقته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه من القصاص، ونفقته في بيت المال.
وإن وثب الصبي أو المجنون، فاقتص.. فهل يصير مستوفياً؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصير مستوفياً، كما لو كانت له وديعة، فأتلفها.
والثاني: لا يصير مستوفياً، وهو الأصح؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء.(11/400)
وإن كان القصاص لغائب.. حبس القاتل إلى أن يقدم الغائب، كما قلنا فيه إذا كان لصغير أو مجنون.
فإن قيل: فهلا قلتم: لا يحبس القاتل للغائب؛ لأنه لا ولاية للحاكم على الغائب، كما لو كان للغائب مال مغصوب.. فليس للحاكم أن يحبس الغاصب، وينتزع منه المال المغصوب؟
فالجواب: أن القود يثبت للميت، وللحاكم على الميت ولاية، وليس كذلك الغائب إذا غصب ماله؛ لأنه لا ولاية له عليه وهو رشيد؛ فوزانه: أن يموت رجل، ويخلف مالاً، وله وارث غائب، فجاء رجل، وغصب ماله.. فللإمام حبس الغاصب إلى أن يقدم الغائب.
[فرع كان القصاص لجماعة وبعضهم غائب]
فإن كان القصاص لجماعة، وبعضهم حاضر وبعضهم غائب.. لم يجز للحاضر أن يستوفي بغير إذن الغائب، بلا خلاف.
وإن كان القصاص بين صبي وكبير، أو بين مجنون وعاقل.. لم يجز للكبير والعاقل أن يستوفي القصاص حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويأذن في الاستيفاء، وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو يوسف.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للكبير والعاقل أن يستوفيا قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون) . إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا في الذي يستوفيه:
فمنهم من قال: يستوفي حقه وحق الصبي والمجنون.
ومنهم من قال: يستوفي حقه، ويسقط حق الصغير والمجنون.
دليلنا: أنه قصاص موروث، فوجب أن لا يختص باستيفائه بعض الورثة، كما لو كان لحاضر وغائب.
وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، كما قلنا فيه إذا كان جميع القود له.(11/401)
فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلى.. لم يجز تخليته؛ لأن فيه تغريراً لحق المولى عليه، ولأن الكفالة لا تصح في القصاص، فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به، ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل، فلم تصح الكفالة به، كالحد.
وإن وجب القصاص في قتل من لا وارث له غير المسلمين.. كان القصاص إلى الإمام؛ لأنه نائب عنهم.
وإن كان هناك من يرث البعض، ويرث المسلمون الباقي.. كان استيفاء القصاص إلى الإمام وإلى الوارث.
[مسألة يستوفي القصاص أحد أصحاب الحق]
وإن قتل رجل رجلاً، وله أخوان أو ابنان من أهل استيفاء القصاص.. لم يكن لهما أن يستوفيا القصاص جميعاً؛ لأن في ذلك تعذيباً للقاتل، فإما أن يوكلا رجلا يستوفي لهما القصاص، وإما أن يوكل أحدهما الآخر في الاستيفاء.
فإن طلب كل واحد منهما أن يوكله الآخر.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. أمر الآخر أن يوكله، وإن بادر أحدهما وقتل القاتل بغير إذن أخيه.. نظرت:
فإن كان الذي لم يقتل لم يعف عن حقه من القصاص.. فهل يجب على القاتل منهما القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه ممنوع من قتله، وقد يجب القتل بإتلاف بعض النفس، كما لو قتل جماعة واحداً.
والثاني: لا يجب عليه القود، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الأصح؛ لأن له في قتله حقاً، فلم يجب عليه القود، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة.
وإن قتله بعد أن عفا أخوه عن القود.. نظرت:(11/402)
فإن كان قد حكم الحاكم بسقوط القود.. وجب القود على القاتل، قولاً واحداً، قال ابن الصباغ: سواء علم القاتل بذلك أو لم يعلم؛ لأن بحكم الحاكم زالت الشبهة، وحرم عليه قتله، فهو كما لو قتل غير القاتل.
وإن كان بعد عفو أخيه، وقبل حكم الحاكم بسقوط القود.. نظرت:
فإن لم يعلم بعفو أخيه.. فهل يجب القود على القاتل؟ فيه قولان، كما لو لم يعف أخوه. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الأصح هناك: أن لا يجب عليه القود، والأصح هاهنا: أن عليه القود.
وإن قتله بعد أن علم بعفو أخيه، فإن قلنا: يجب عليه القود إذا لم يعلم بعفو أخيه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه القود.. فهاهنا قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتله ولا حق له في قتله.
والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأن على قول مالك لا يسقط القود بعفو أحد الشريكين، فصار ذلك شبهة في سقوط الحد عنه. وهذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قتله قبل عفو أخيه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: لا يجب عليه القود.. فله معنيان:
أحدهما: لاختلاف العلماء في جواز استيفاء أحدهما.
والثاني: لأجل حقه في القصاص.
وإن قتله بعد عفو أخيه، وهو عالم بعفوه، فإن قلنا في الأولى: يجب القصاص.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب.. فهاهنا قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: العلة هناك اختلاف العلماء.. فلا قود هاهنا؛ لأن الاختلاف موجود.
و [الثاني] : إن قلنا: العلة هناك حقه في القصاص.. وجب عليه هاهنا القود.(11/403)
وإن قتله جاهلاً بعفو أخيه، فإن قلنا: لا يجب عليه القود إذا كان عالماً بعفو أخيه.. فهاهنا أولى أن لا يجب، وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان، بناء على القولين فيمن قتل مسلماً ظنه حربياً في دار السلام.
إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: يجب القود على القاتل.. فلوليه أن يقتص منه، فإذا قتله.. وجبت دية المقتول الأول في تركة القاتل الأول، نصفها للأخ الذي لم يقتل، ونصفها لورثة أخيه المقتول. وإن قلنا: لا يجب القود على الأخ القاتل.. فقد استوفى حقه، وبقي حق أخيه، وقد تعذر استيفاء حقه من القصاص، فيكون له نصف دية أبيه، وعلى من يرجع بها؟ فيه قولان:
أحدهما: يرجع بها على أخيه القاتل؛ لأن نفس قاتل أبيه كانت لهما، فإذا قتله أحدهما.. فقد أتلف ما يستحقه هو وأخوه، فوجب عليه ضمان حق أخيه، كما لو كانت لهما وديعة، فأتلفها أحدهما.
فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. صح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. لم يصح إبراؤه.
والقول الثاني: أنه يرجع بها في تركة قاتل أبيه؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب المال في تركة قاتل الأب، كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة، فإنه لو أتلفها أجنبي.. لرجع عليه بضمانها، وهاهنا لو قتله أجنبي.. لم يرجع عليه بشيء.
فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. لم يصح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. صح إبراؤه، ويكون لورثة قاتل الأب أن يرجعوا على القاتل بنصف دية مورثهم؛ لأنه لا يستحق إلا نصف نفسه.
وإن عفا الأخوان جميعاً عنه، ثم عادا فقتلاه، أو عفا عنه أحدهما، ثم عاد فقتله.. وجب القود، قولاً واحداً؛ لأنه لم يبق للقاتل حق بعد عفوه، فصار كما لو قتل أجنبياً.
فإن كان القصاص لجماعة، واختلفوا فيمن يقتص منهم.. أقرع بينهم، وهل يدخل في القرعة من لا يحسن؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":(11/404)
أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة فيه.
والثاني: يدخل؛ لأنه يستنيب من شاء.
ومتى خرجت القرعة لأحدهم.. لم يستوف القصاص إلا بتوكيل الباقين له.
[مسألة القصاص بإذن الحاكم]
ومن وجب له القصاص.. لم يجز له أن يقتص بغير إذن السلطان أو بغير حضوره؛ لاختلاف العلماء في وجوب القصاص في مواضع، فلو قلنا: له أن يستوفيه من غير إذن السلطان.. لم نأمن أن يقتص فيما لا يستحق فيه القصاص، فإن خالف واقتص بغير إذن السلطان.. فقد استوفى حقه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويعزر، ولا شيء عليه) .
ومن أصحابنا من قال: لا يعزر؛ لأنه استوفى حقه.
والأول أصح؛ لأنه افتأت على السلطان.
والمستحب: أن يكون ذلك بحضرة شاهدين؛ لئلا ينكر المقتص الاستيفاء، فإن اقتص بغير حضور شاهدين.. جاز؛ لأنه استيفاء حق، فلم يكن من شرطه حضور الشهود، كالدين.
ويتفقد السلطان الآلة التي يستوفي بها القصاص، فإن كانت كالة.. منع من الاستيفاء بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» . فإن استوفى القصاص بآلة كالة.. فقد أساء، ولا تعزير عليه.
وإن أراد الاستيفاء بآلة مسمومة.. قال الشيخ أبو حامد: منع من ذلك، سواء كان في الطرف أو في النفس؛ لأنه إذا كان في الطرف.. سرى إلى نفسه، وإن كان في(11/405)
النفس.. هرى بدنه، ومنع من غسله، فإن خالف، واقتص بآلة مسمومة.. عزر.
وقال القفال: إن كان الاستيفاء في الطرف.. منع منه، وإن كان في النفس.. لم يمنع منه.
فإن اقتص في الطرف بآلة مسمومة، وسرى ذلك إلى نفسه.. وجب على المقتص نصف الدية؛ لأنه مات من مباح ومحظور.
[فرع طلب من له القصاص أن يقتص]
] : إذا طلب من له القصاص أن يقتص بنفسه، فإن كان القصاص في النفس، وكان يصلح للاستيفاء.. مكنه السلطان من الاستيفاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» .
وإن كان لا يحسن الاستيفاء.. أمر بالتوكيل، فإن لم يوجد من يتطوع بالاستيفاء عنه بغير عوض.. استؤجر من يستوفي له القصاص.
وقال أبو حنيفة: (لا تصح الإجارة على القصاص في النفس، وتصح في الطرف) .
دليلنا: أنه عمل معلوم، فصحت الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف.
وإن كان القصاص في الطرف.. فقال أصحابنا البغداديون: لا يمكن المجني عليه أن يقتص بنفسه، بل يؤمر بالتوكيل؛ لأن الاقتصاص في الطرف يحتاج إلى التحفظ؛ لئلا يستوفي أكثر من حقه الواجب، والمجني عليه قلبه مغتاظ على الجاني، فلا يؤمن منه - إذا استوفى بنفسه - أن يأخذ أكثر من حقه.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يمكن من ذلك؛ لما ذكرناه.
والثاني: يمكن منه، كما يمكن من استيفاء القصاص في النفس.
والأول أصح؛ لأن المقصود بالقتل إزهاق الروح، فلا معنى للتحفظ، بخلاف الطرف.(11/406)
[فرع استحباب تعيين من يقيم الحدود]
ويستحب للإمام أن يقيم رجلاً يقيم الحدود، ويقتص للناس بإذنهم، ويرزقه من بيت المال، وهو خمس الخمس؛ لأنه للمصالح،
وهذا من المصالح،
فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق، فإن لم يكن هناك شيء من سهم المصالح، أو كان ولكنه يحتاج إليه إلى ما هو أهم من ذلك.. كانت الأجرة على المقتص منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن أجرة القصاص على المقتص منه) ، ونص: (أن أجرة الجلاد في بيت المال) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: فيهما قولان:
أحدهما: تجب على المقتص منه وعلى المحدود؛ لأن الإيفاء حق عليه.
والثاني: تجب أجرة القصاص على المقتص له، وأجرة الجلاد في بيت المال، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه استيفاء حق، فكانت أجرة الاستيفاء على المستوفي، كما لو اشترى طعاماً وأراد نقله.. والأول أصح.
ومنهم من قال: تجب أجرة القصاص على المقتص منه، وأجرة الجلاد في بيت المال؛ لأن في القصاص: الجاني مأمور بالإقرار بالجناية ليقتص منه، فمؤنة التسليم عليه، وفي الحد: هو مأمور بالستر على نفسه.
فإن قال الجاني: أنا أقطع طرفي ولا أؤدي الأجرة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تجب إجابته إلى ذلك؛ لأن المقصود قطع طرفه، فلا تلحقه رحمة في ذلك.(11/407)
والثاني: لا تجب إجابته إلى ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره - لأن المقصود بالقصاص التشفي، وذلك لا يحصل بفعل الجاني، وإنما يحصل بفعل المجني عليه أو من ينوب عنه غير الجاني.
[مسألة لا يقتص من الحامل حتى تضع]
وإن وجب القصاص على امرأة حامل.. لم يجز قتلها قبل أن تضع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . وفي قتلها في هذه الحالة إسراف؛ لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته: أنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها، فإذا وضعت.. فجئني بها "، فلما أن وضعت.. جاء بها، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فرجمت، وأمرهم فصلوا عليها» .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر بقتل امرأة بالزنى وهي حامل، فقال له معاذ بن جبل: إن كان لك عليها سبيل.. فلا سبيل لك على ما في بطنها - يعني: حملها - فترك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتلها، وقال: كاد النساء أن يعجزن أن يلدن مثلك يا معاذ) .
إذا ثبت هذا: فولدت.. لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت:
فإن وجدت امرأة راتبة ترضعه.. جاز للولي أن يقتص منها؛ لأن الولد يستغني بإرضاعها.(11/408)
فإن لم توجد امرأة راتبة ترضعه، وإنما وجد جماعة نساء يتناوبنه في الرضاع، أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى ترضعه أمه حولين؛ لأن على الولد ضرراً باختلاف لبن المرضعات عليه، ولبن البهيمة يغير طبعه، فإن اقتص منها.. جاز؛ لأن بدنه يقوم بذلك.
فإن لم توجد من ترضعه، ولا وجدت بهيمة يسقى لبنها.. لم يجز للولي أن يقتص منها إلى وقت يستغني عن لبنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمرأة: «اذهبي حتى ترضعيه» ، ولأنه إذا وجب تأخير القصاص لأجله وهو حمل.. فلأن يجب تأخيره لأجله بعد الوضع أولى.
قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: فإن خالف الولي، واقتص من الأم في هذه الحالة، ثم مات الطفل.. فهو قاتل عمد، وعليه القود؛ لأنه بمثابة من حبس رجلاً، ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فإنه قاتل عمد، ويجب عليه القود. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وجد من يرضعه، فإن كان القتل لله، كالرجم في الزنا.. لم تقتل حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن كان للآدمي.. قتلت.
[فرع حبس مدعية الحمل حتى يتبين أمرها]
إذا وجب على المرأة القتل، فادعت: أنها حامل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحبس حتى يتبين أمرها) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو سعيد الإصطخري: لا تحبس حتى يشهد أربع من القوابل: أنها حبلى، فإن لم يشهدن: أنها حبلى.. قتلت في الحال؛ لأن القصاص قد وجب، فلا يؤخر لقولها.(11/409)
وقال أكثر أصحابنا: تحبس وإن لم يشهدن: أنها حبلى؛ لأن للحمل أمارات ظاهرة يشاهدها القوابل، وأمارات خفية لا يعلم ذلك منها إلا نفسها، فوجب حبسها إلى أن يتبين أمرها.
[فرع تمكين المقتص من الحامل يترتب عليه أمور]
فإن مكن الإمام أو الحاكم المقتص من الحامل، فقتلها.. فالكلام في الإثم، والضمان، والكفارة.
فأما الإثم: فإن كان الحاكم والمقتص عالمين بأنها حامل.. أثما، وإن كانا جاهلين بحملها.. لم يأثما، وإن كان أحدهما عالماً بحملها والآخر جاهلاً به.. أثم العالم منهما دون الجاهل.
وأما الضمان والكفارة: فينظر فيه:
فإن كان لما قتلت الحامل لم يخرج الجنين من بطنها.. فلا ضمان ولا كفارة؛ لأنه يجوز أن يكون ريحاً، وهو كما لو ضرب امرأة فماتت، ولم يخرج من بطنها جنين.
وإن خرج من بطنها، فإن خرج حياً، ثم مات.. ففيه دية كاملة وكفارة، وإن خرج ميتاً.. ففيه غرة عبد أو أمة وكفارة.
وأما من يجب عليه الضمان والكفارة: فإن كانا عالمين بحملها.. فالضمان والكفارة على الإمام أو الحاكم دون الولي؛ لأنه هو الذي مكنه من الاستيفاء، ولأن الحاكم هو الذي يعرف الأحكام، وإنما يرجع الولي إلى اجتهاده.
وهكذا: إن كان الحاكم هو العالم لحملها دون الولي.. فالضمان والكفارة على الحاكم؛ لما ذكرناه.
وإن كان الولي عالماً والحاكم جاهلاً.. فالضمان والكفارة على الولي دون الحاكم؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. فلم يسلطه على إتلاف الحمل.(11/410)
وإن كانا جاهلين بحملها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الضمان والكفارة على الحاكم؛ لأنهما إذا استويا.. كان الضمان عليهما، كما لو كانا عالمين.
والثاني: أن الضمان والكفارة على الولي؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. سقط عنه حكم الاجتهاد فيه، والولي هو المباشر، فلزمه الضمان. هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": إذا كانا جاهلين بأن ذلك لا يجوز.. فالضمان والكفارة على الإمام، قولاً واحداً.
وإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: الضمان والكفارة على الإمام؛ لأنهما في العلم سواء، وللإمام مزية في التمكين.
و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: يكون الضمان والكفارة على الولي؛ لأنه هو المباشر.
وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. فالضمان على العالم منهما دون الجاهل.
وقال المزني: الضمان على الولي بكل حال. وليس بشيء. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الولي عالماً.. فالضمان على عاقلته، سواء علم القاضي أو جهل.
وإن كان الولي جاهلاً.. ففيه وجهان، سواء علم القاضي أو جهل، بناء على القولين في إطعام طعام الغاصب أجنبياً؛ فإن قلنا: إن ضمانه على الطاعم.. فالضمان هاهنا على الولي. وإن قلنا: على المطعم.. كان الضمان هاهنا على الحاكم.(11/411)
[مسألة لا قصاص قبل استقرار الجناية]
إذا قطع طرفه، وأراد المجني عليه أن يقتص.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى تستقر الجناية بالاندمال أو السراية إلى النفس؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستقادة من الجرح حتى يندمل»
وروي: «أن رجلاً جرح حسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء قوم من الأنصار - يعني: رهطه - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقتص لهم، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصبروا حتى يستقر الجرح، فإن اندمل.. أخذتم القصاص في الجرح، وإن صار نفساً.. أخذتم القصاص في النفس» فإن اقتص قبل الاندمال.. جاز.(11/412)
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يجوز) . وبنوه على أصولهم: أن الطرف إذا صار نفساً.. سقط القصاص فيه؛ للخبرين الأولين.
دليلنا: ما روى عمرو بن دينار، عن محمد بن طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا طعن رجلاً بقرن في رجله، فجاء المجني عليه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطلب القصاص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثانياً، فقال: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثالثاً، فاقتص له، ثم برئت رجل الجاني وشلت رجل المجني عليه، فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: يا رسول الله، برئت رجل الجاني، وشلت رجلي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذهب، فلا حق لك ". وفي رواية أخرى: أبعدك الله، فقد خالفت أمري» فدل على: جواز الاقتصاص. فمعنى قوله: (لا حق لك) أي: في القصاص.
وأما الخبران الأولان: فمحمولان على الاستحباب، بدليل هذا الخبر.
وإن عفا عن القود، وطلب الأرش قبل الاستقرار.. فهل يعطى الأرش؟ فيه قولان:(11/413)
أحدهما: يعطى، كما يجوز له استيفاء القصاص.
والثاني: لا يعطى؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال؛ لأنه ربما سرى إلى النفس، فدخل في ديتها، أو يشاركه غيره في الجناية، فمات من الجميع.
فإذا قلنا: يعطى قبل الاندمال.. فكم يعطى؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعطى أقل الأمرين من أرش الجناية أو دية النفس؛ لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره قبل الاندمال.
والثاني: يعطى أرش الجناية بالغاً ما بلغ؛ لأنه قد وجب له في الظاهر.
فإن اقتص المجني عليه قبل الاندمال، ثم سرت الجناية على المجني عليه إلى عضو آخر واندمل.. كانت السراية مضمونة بالدية.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تكون مضمونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهب، فلا حق لك»
ودليلنا: أن هذه جناية مضمونة، فكانت سرايتها مضمونة، كما لو لم يقتص، والخبر محمول على أنه أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك في القصاص.
[مسألة المماثلة في القصاص بالآلة]
] : إذا قتل بالسيف.. لم يقتص منه إلا بالسيف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولأنه أوحى الآلات.
وإن حرقه، أو غرقه، أو رماه بحجر، أو من شاهق، فمات، أو ضربه بخشبة، أو حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فللولي أن يقتص منه بهذه الأشياء، وبه قال مالك.
وأما أبو حنيفة: فإنه يقول: (هذه الجنايات لا توجب القصاص، إلا التحريق بالنار، فإنه يوجب القصاص، ولكن: لا يجوز أن يقتص منه إلا بالسيف) .(11/414)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
ولما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غرق.. أغرقناه، ومن حرق.. حرقناه» .
وروي: «أن يهودياً رض رأس جارية من الأنصار بين حجرين، فوجدت وفيها رمق، فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ فأومأت برأسها - أي: لا - إلى أن سئلت عن يهودي، فأومأت برأسها - أي: نعم - فأخذوا اليهودي، فاعترف، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرضخ رأسه بين حجرين» .
ولأنه معنى يجوز به قتل المشركين، فجاز استيفاء القصاص به، كالسيف، وللولي أن يقتص بالسيف؛ لأنه أوحى وأروح من التعذيب.
[فرع من قتل بالسحر وغيره اقتص منه بالسيف]
وإن قتله بالسحر.. قتله بالسيف؛ لأن السحر لا مثل له.
وإن قتله باللواط.. فهل يجب فيه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون:
أحدهما: لا يجب فيه القصاص؛ لأن المقصود به طلب اللذة، فكان عمده خطأ.(11/415)
والثاني - وهو قول البغداديين، وهو الأصح -: أنه يجب به القصاص؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فوجب عليه القصاص، كما لو قتله بالسيف.
فعلى هذا: في كيفية استيفاء القصاص منه وجهان:
أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن اللواط محرم، فقتل بالسيف، كالسحر.
والثاني: يعمل به مثل ما عمل بخشبة إلى أن يموت؛ لأنه أقرب إلى فعله.
وإن قتله بشرب الخمر.. وجب عليه القصاص، وكيف يستوفى منه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن الخمر محرم، فهو كالسحر.
والثاني: يقتل بسقي الماء؛ لأنه أقرب إلى فعله.
[فرع يضربه بالسيف حتى يموت]
وإن ضربه بالسيف فلم يمت.. فإنه يوالي عليه الضرب إلى أن يموت؛ لأنه أوحى الآلات.
وإن فعل به مثل ما فعل به من الضرب بالمثقل والرمي من الشاهق، أو منعه من الطعام والشراب مثل الذي منعه، فلم يمت.. ففيه قولان:
أحدهما: يكرر ذلك عليه إلى أن يموت، كما قلنا في السيف.
والثاني: لا يكرر عليه ذلك، بل يقتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعله به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فوجب بالسيف.
وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن أوضح رأسه، أو قطع يده أو رجله من المفصل، فمات.. فللمجني عليه أن يوضح رأسه، ويقطع يده.
وقال أبو حنيفة: (ليس له ذلك) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .(11/416)
فإن فعل به مثل ذلك، فمات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه لا يمكنه أن يوضحه موضحة أخرى، ولا أن يقطع له يداً أخرى؛ لأن ذلك أكثر مما فعل به.
وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص، مثل: أن هشمه، أو أجافه، أو قطع يده من بعض الساعد أو العضد، فمات.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له الاقتصاص بهذه الجنايات، بل له أن يقتله بالسيف؛ لما روى العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المنقلة قصاص» ، ولأنها جناية لا يجب بها القصاص إذا لم تسر إلى النفس، فلم يجب بها القصاص وإن سرت إلى النفس، كاللواط.
والثاني: يجوز له الاقتصاص بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنها جراحة يجوز بها قتل المشرك، فجاز استيفاء القصاص بها، كالقتل بالسيف.
فعلى هذا: إذا فعل به مثل ما فعل به، فلم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعل به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فكان بالسيف.
[فرع أوضحه بضرب]
وإن أوضحه بالضرب بالسيف أو بالرمي بالحجر.. لم يوضحه بضرب السيف ولا بالرمي بالحجر، بل يوضحه بحديدة ماضية بعد أن يضبط الجاني؛ لئلا يستوفي منه أكثر مما جنى.(11/417)
[مسألة جناية تذهب بصر العين]
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين.. نظرت:
فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص، كالهاشمة والمنقلة.. لم يقتص منه بالهاشمة والمنقلة؛ لأنها لا يجب فيها القصاص، ولكن يذهب ضوء العين بكافور يطرح في العين، أو بإدناء حديدة حامية إليها؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن، ولا تقلع الحدقة؛ لأنه لم يقلع حدقته.
وإن كانت جناية يجب فيها القصاص، كالموضحة.. اقتص منه في الموضحة، فإن ذهب ضوء عينيه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب الضوء.. عولج الضوء بما يذهبه، بالكافور، أو بإدناء حديدة حامية من العين على ما مضى.
وإن لطمه، فأذهب ضوء عينه.. فهل له أن يلطمه؟ اختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو إسحاق: ليس له أن يلطمه، وإنما يعالج إذهاب الضوء بما ذكرناه؛ لما روى يحيى بن جعدة: (أن أعرابياً قدم بحلوبة له إلى المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه، فأبى، فرفعهما إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعى علي بمرآة فأحماها، ثم وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه) ، ولأن اللطم(11/418)
لا يمكن اعتبار المماثلة فيه؛ ولهذا: لو انفرد من إذهاب الضوء.. لم يجب فيه القصاص.
وقال الشيخ أبو حامد: يلطمه كما لطمه، وهو المنصوص في " الأم ". فإن ذهب ضوء عينه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب.. عولج بما يذهب الضوء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لطمه الجاني، فأذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت - يعني: ارتفعت - فإنه يلطمه مثله، فإن أذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت.. فقد استوفى حقه، وإن لم تبيض، ولم تشخص، فإن أمكن معالجة العين حتى تبيض وتشخص.. فعل، وإن لم يمكن.. فلا شيء عليه؛ لأن الجناية إنما هي إذهاب الضوء، وأما البياض والشخوص: فإنما هو شين، والشين لا يوجب شيئاً، كما لو شجه موضحة، فاقتص منه مثلها، ثم برئ رأس المجني عليه وبقي عليه شين، وبرئ رأس الشاج ولا شين عليه.. فإنه لا يجب له شيء، فكذلك هذا مثله) .
وإن قلع عينه بإصبعه، فإن قلع المجني عليه عينه بحديدة.. جاز؛ لأنه أوحى، وإن أراد أن يقلع عينه بإصبعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.
[مسألة تمكين الولي من ضرب عنق الجاني]
إذا وجب له القصاص بالسيف.. فإن الحاكم يمكن الولي من ضرب عنق الجاني، فإن ضرب عنقه بالسيف، فأبانه.. فقد استوفى حقه، وإن ضربه في غير العنق، فإن مات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. سئل عن ذلك:
فإن قال: تعمدت ضرب ذلك الموضع.. عزره الحاكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(11/419)
{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . معناه: لا يمثل به في القتل، وقيل: معناه: لا يقتل غير قاتله. ويؤمر أن يوكل من يقتص له، ولا يلزمه ضمان؛ لأن له إتلاف جملته.
وإن قال: أخطأت، فإن ضرب موضعاً يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب الكتف، وما يلي الرأس من العنق.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ممكن، ولا تعزير عليه. وإن أصاب موضعاً لا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب وسط رأسه أو ظهره أو رجله.. لم يقبل قوله؛ لأنه خلاف الظاهر، ويعزر، ولا يضمن أيضاً.
وإن قال: لا أحسن الاقتصاص.. أمر بالتوكيل، فإن قال: أنا أحسن، وطلب أن يقتص بنفسه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (ليس له ذلك، ويؤمر بالتوكيل) . وقال في موضع: (يمكن ثانياً من الاقتصاص) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يمكن؛ لأنه لا يؤمن مثل ذلك منه.
والثاني: يمكن؛ لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يؤمر بالتوكيل) أراد: إذا كان لا يحسن، ولم يوجد منه قبل ذلك.
وحيث قال: (يمكن) أراد: إذا علم أنه يحسن الاستيفاء.
[فرع أخذ أو زاد في الاقتصاص فوق حقه]
وإن وجب له القصاص في أنملة، فاقتص من أنملتين، فإن كان عامداً.. وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئاً.. وجب عليه الأرش دون القود.
وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني.. لم يلزم المقتص شيء؛ لأنه حصل بفعل الجاني، فهدر.(11/420)
[مسألة اقتص بالشمال بدل اليمين]
إذا وجب له القصاص في اليمين، فقال المقتص للجاني: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج الجاني يساره، فقطعها المقتص.. نظرت في الجاني:
فإن قال: تعمدت إخراج اليسار، وعلمت أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فلا قود على المقتص ولا دية، سواء علم المقتص أنها اليسار أو لم يعلم؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها، غير أن المقتص إن كان عالماً أنها اليسار.. عزر؛ لأنه فعل فعلاً محرماً، وإن لم يعلم.. لم يعزر، وسواء أذن الجاني في قطعها بالقول أو قال له المقتص: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج يساره وهو ساكت ومدها، فقطعها المقتص؛ لأنه بذلها له بإخراجها إليه لا على سبيل العوض، والفعل في ذلك يقوم مقام النطق، كما لو دفع رجل إلى رجل صرة، وقال: ارمها في البحر، فأخذها ورماها.. فلا ضمان عليه. وكذلك: لو قال: ادفع إلى صرتك لأرميها في البحر، فدفعها إليه وهو ساكت، فرماها.. فلا ضمان عليه. وكما لو قدم إليه طعاماً، وقال: كله، فهو كما لو استدعى منه الطعام، وقدمه إليه، وأكله.
فإن مات المقطوعة يساره من قطعها.. فلا قود على المقتص. قال ابن الصباغ: ولا يجب عليه دية النفس. وهل تجب الكفارة على المقطوعة يساره؟
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيمن قتل نفسه.
وطريقة أصحابنا البغداديين: أن من قتل نفسه.. وجب عليه الكفارة، وجهاً واحداً.
فعلى هذا: يجب عليه الكفارة هاهنا.
وإن قال المقتص منه: وقع في سمعي أنه قال: أخرج يسارك، فأخرجتها، أو سمعت أنه قال: أخرج اليمين، ولكن دهشت، فأخرجت اليسار، وظننتها اليمين، أو قال: أخرجت اليسار عامداً، ولكن ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. نظرت في المقتص:(11/421)
فإن لم يعلم أنها اليسار.. فلا قود عليه؛ للشبهة، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه الدية؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها.
والثاني: تجب عليه الدية، وهو الأصح؛ لأن الجاني بذل يساره لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع عنها.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وسلمها إلى المشتري، وتلفت.
وإن كان المقتص عالماً بأنها اليسار.. فهل يجب عليه القود في يساره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو حفص بن الوكيل: يجب عليه القصاص؛ لأنه قطع يداً غير مستحقة له مع العلم بتحريمها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه ديتها؛ لأن صاحبها بذلها لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وقبضها المشتري، وتلفت عنده.
إذا ثبت هذا: فإن القصاص باق للمقتص في يمين الجاني؛ لأنه لم يسقط حقه عنها.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتص منه في اليمين حتى تندمل يساره) . وقال فيمن قطع يدي رجل أو رجليه دفعة واحدة: (إنه يقطع يديه أو رجليه دفعة واحدة) .
فمن أصحابنا الخراسانيين من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره.(11/422)
وفرق بينهما؛ بأنه إذا قطع يدي رجل أو رجليه.. فقد جمع عليه بين ألمين، فجاز له أن يجمع عليه بينهما، وهاهنا الجاني لم يجمع عليه بين ألمين.. فلا يجوز له أن يجمع عليه بينهما.
فإن قيل: أوليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر.. لم يؤخر القصاص عليه في إحداهما إلى اندمال الأخرى؟
قلنا: الفرق بينهما: أن القطعين مستحقان قصاصاً؛ فلهذا جمعنا بينهما، وهاهنا أحدهما غير مستحق عليه، فلم يجمع بينهما.
وإن سرى قطع اليسار إلى نفس الجاني في الموضع الذي قال: ظننتها اليمين، أو ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. قال ابن الصباغ: فإنه يجب على المقتص دية كاملة، وقد تعذر عليه القصاص في اليمين، فيجب له دية يده، فيقاص بها فيما عليه.
قال: وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: عندي: أنه استوفى حقه من اليمين بتلفه، كما لو كان له قصاص في اليد، فقطعها، ثم قتله.
ووجه الأول: أن حقه في قطع اليد، ولم يحصل، وإنما قتله، فقد ضمنها مع النفس بالدية.
قال ابن الصباغ: ويلزمه أن يقول فيه إذا بذلها مع العلم بها وسرت أيضاً، أن يكون مستوفياً لليمين؛ لأن البذل فيما استحق إتلافه لا يمنع استيفاء الحق به، وإنما تكون سرايتها هدراً فيما لا يستحقه.
[فرع اختلفا ببذل اليسار للقطع]
] : وإن اختلفا: فقال المقتص: بذلت لي اليسار وأنت عالم بأنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين. وقال الجاني: بذلتها ولم أعلم أنها اليسار، أو لم أعلم أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه.(11/423)
فإن حلف.. كان الحكم فيه حكم ما لو صادقه المقتص على أنه بذلها ولم يعلم أنها اليمين.
وإن نكل الجاني.. حلف المقتص، وكان الحكم فيه حكم ما لو أقر الجاني: أنه بذلها مع علمه أنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين.
[فرع وجب القصاص على قطع اليمين وتراضيا على قطع اليسار]
] : وإن وجب له القصاص في اليمين، فاتفقا على أن يقتص منه باليسار بدلاً عنها.. لم يقع عن اليمين؛ لأن ما لا يجوز قطعه بالشرع لا يجوز بالتراضي، كما لو قتل غير القاتل برضاه. ولا قصاص على المقتص؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه دية اليسار.
فإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. أثما، وإن كانا جاهلين.. لم يأثما.
وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. أثم العالم منهما، وهل يسقط حق المقتص من القصاص في اليمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه لما رضي بأخذ اليسار عن اليمين.. صار ذلك عفواً منه عن اليمين.
فعلى هذا: يجب عليه دية يد، وله دية يد، فيتقاصان إن استويا، وإن تفاضلا، بأن كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة، أو كان المقتص مسلما والجاني كافراً.. رجع من له الفضل بما له من الفضل.
والثاني: لا يسقط حقه من القصاص في اليمين؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه من القصاص بأن تكون اليسار بدلاً عن اليمين، فإذا لم يصح أن تكون بدلاً عنها.. كان حقه باقياً في المبدل، كما لو صالح على الإنكار.
فعلى هذا: ليس له أن يقتص في اليمين إلا بعد اندمال اليسار.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن غرضه قد حصل له، وهو القطع.(11/424)
[فرع الاعتبار بأهلية المقتص]
وإن كان المقتص منه مجنوناً، والمقتص عاقلاً، فقال له: أخرج يمينك، فأخرجها المجنون، فقطعها.. فقد استوفى حقه؛ لأن المقتص من أهل الاستيفاء وإن كان المقتص منه ليس من أهل البذل، والاعتبار بالمقتص.
وإن قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج المجنون يساره، فقطعها المقتص، فإن كان المقتص عالماً أنها اليسار.. وجب عليه القصاص باليسار، وله القصاص في اليمين، وإن كان المقتص غير عالم بأنها اليسار.. لم يجب عليه القصاص في اليسار؛ للشبهة، ولكن عليه دية اليسار؛ لأن بذل المجنون لا يصح، وله القصاص في اليمين. ولا يقطعها حتى تندمل يساره.
وإن كان المقتص منه عاقلاً، والمقتص مجنوناً، فقال له المجنون: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرجها العاقل باختياره، فقطعها المجنون.. لم يصر مستوفياً؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ولا ضمان عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ووجب للمجنون على العاقل دية يمينه؛ لأن يمينه قد زالت.
وإن أخرج إليه العاقل يساره، فقطعها المجنون.. هدرت اليسار، وكان حق المجنون باقياً في القصاص في اليمين.
وأما إذا أكرهه المجنون، فقطع يمينه: فهل يصير مستوفياً لحقه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الصبي، الصحيح: أنه لا يصير مستوفياً.
فإن قلنا: إنه يصير مستوفياً.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. كان للمجنون دية يده على الجاني، ووجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت الدية في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ.. وجبت على عاقلته.
وإن كان المقتص والمقتص منه مجنونين، وكان القصاص في اليمين، فقطع(11/425)
المقتص يمين المقتص منه.. فهل يصير مستوفياً لحقه؟ على الوجهين، سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه؛ لأن بذله لا يصح.
فإن قلنا: يصير مستوفياً.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. وجب للمقتص دية يده في مال الجاني، ويجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ، وجبت الدية على عاقلته.
وإن قطع المقتص يسار الجاني.. وجب ضمانها بالدية، سواء قطعها ببذل صاحبها أو بغير بذله؛ لأنه لا يصح بذله. وفي محل وجوبها القولان في جنايته، هل هي عمد، أو خطأ؟ ويبقى للمقتص القصاص في اليمين، ولا يقتص من الجاني حتى تندمل يساره.
[مسألة اقتص من الجاني فمات]
إذا قطع رجل يد رجل، فاقتص المجني عليه من الجاني، فاندملت يد المجني عليه، ومات الجاني.. هدر دمه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال أبو حنيفة: (يكون على المجني عليه دية كاملة) .
دليلنا: ما روي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (من مات من حد أو قصاص.. فلا دية له؛ الحق قتله) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فثبت: أنه إجماع.(11/426)
ولأنه جرح مباح غير مجتهد فيه، فلم تكن سرايته مضمونة، كالقطع في السرقة.
فقولنا: (مباح) احتراز من القطع بغير حق.
وقولنا: (غير مجتهد فيه) احتراز من المولى عليه إذا كان به أكلة أو سلعة، فاجتهد الإمام في قطعها، فقطعها، فمات منه.
وإن قطع يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني، ثم سرى القطع إلى نفس الجناية.. كانت السراية إلى نفس الجاني قصاصاً؛ لأن السراية في النفس لما كانت كالجناية في إيجاب القصاص.. كانت كالجناية في استيفاء القصاص.
فإن كانت بحالها إلا أن الجاني مات من القطع أولاً، ثم مات المجني عليه بعده من القطع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصاً؛ لأن نفسه خرجت مخرج القصاص، فكانت قصاصاً، كما لو مات المجني عليه، ثم مات الجاني.
والثاني: أن السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصاً، وهو الأصح؛ لأن السراية سبقت وجوب القصاص، فلم تقع قصاصاً، وإنما تكون السراية هدراً.
فعلى هذا: يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية؛ لأنه قد أخذ يداً بنصف الدية.
وإن كانت الجناية موضحة.. أخذ منه تسعة أشعار الدية ونصف عشرها؛ لأنه أخذ منه ما يساوي نصف عشر الدية.
[مسألة موت القاتل يوجب الدية]
إذا قتل رجل رجلاً عمداً، فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولي المقتول، أو قتله رجل غير ولي المقتول.. وجبت دية المقتول في مال القاتل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.(11/427)
وقال أبو حنيفة: (يسقط حقه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وقوله: " بين خيرتين " أي: شيئين، إذا تعذر أحدهما.. تعين له الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين.
وإن وجب له القصاص في طرف، فزال الطرف قبل استيفاء القصاص.. كان له أرش الطرف في مال الجاني؛ لما ذكرناه في النفس.
[فرع وجب قتله فدخل الحرم]
ومن وجب عليه قتل بقصاص، أو كفر، أو زنى، والتجأ إلى الحرم.. قتل، ولم يمنع الحرم منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يستوفى منه القصاص ولا الجرم في الحرم، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يكلم حتى يخرج من الحرم، ويستوفى منه القصاص والحد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] (المائدة: 45) . ولم يفرق.
وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] (النساء: 89) . وهذا عام.
ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه، فلم يمنع منه، كقتل الحية والعقرب، وفيه احتراز من قتل الصيد.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل.(11/428)
[باب العفو عن القصاص]
إذا قتل غيره عمداً وهما متكافئان.. فما الذي يجب على القاتل؟ فيه قولان:
أحدهما: أن الواجب عليه هو القود وحده، وإنما الدية تجب بالعفو بدلاً عنه، وهو قول أبي حنيفة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) .
فموضع الدليل: أنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ولم يذكر الدية، فعلم أنها لم تجب بالقتل، وأيضاً فإنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود، فعلم أن الدية تجب بالعفو لا بالقتل. ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي.. ضمن ببدل معين، كالمال.
فقولنا: (ضمن ببدل) احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية.
وقولنا: (في حق الآدمي) احتراز من جزاء الصيد.
والقول الثاني: أن الواجب عليه أحد شيئين: القود أو الدية. فإن استقاد الولي.. علمنا أن الواجب كان هو القود، وإن عفا عن القود على الدية.. علمنا أن الواجب كان هو الدية. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» فخيرهم بين القود والدية، فعلم أنهما سواء في الوجوب.
إذا تقرر هذا: فقال الولي: عفوت عن القود إلى الدية.. سقط القود، ووجبت الدية على القولين.
وإن قال: عفوت عن القود والدية.. سقطا جميعاً على القولين. وإن قال عفوت عن القود على غير مال.. سقط القود، ولم تجب الدية على القولين. وإن(11/429)
قال: عفوت عن القود وأطلق، فإن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد شيئين.. وجبت الدية؛ لأنها واجبة لم يعف عنها، وإن قلنا: إن الواجب هو القود وحده.. ففيه طريقان. من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين:
أحدهما: لا تجب الدية؛ لأنها لا تجب على هذا إلا باختياره لها، ولم يخترها، فلم تجب.
والثاني: تجب الدية؛ لئلا تهدر الدماء. والأول أصح.
ومنهم من قال: لا تجب الدية، قولاً واحداً، وهو قول أبي إسحاق المروزي، والشيرازي؛ لما ذكرناه للأول.
فإن قال: عفوت عن القود إلى الدية، أو قال: عفوت عن القود، ولم يقل: إلى الدية، وقلنا: تجب الدية، ثم أراد أن يطالب بالقود.. لم يكن له؛ لأنه قد سقط.
وإن قال: عفوت عن الدية، فإن قلنا: إن الواجب هو القصاص وحده.. لم يصح عفوه، وكان له أن يقتص.
فإن عفا عن القود بعد ذلك، أو على الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب الدية بالإطلاق.. استحق الدية؛ لأن عفوه الأول عنها كان قبل وجوبها. وإن قلنا: إن الواجب أحد الشيئين.. سقطت الدية، وتعين حقه في القصاص، فإن اقتص منه.. فلا كلام. وإن مات القاتل قبل أن يقتص منه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له أن يأخذ الدية؛ لأنه لما سقط القود بغير اختياره.. كان له الرجوع إلى بدله) . وإن كان القاتل حياً، وأراد الولي أن يعفو عن القود إلى الدية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له ذلك؛ لأنه كان له أن يختار الدية، فلما لم يخترها وتركها.. لم يكن له العود إليها) .
وقال أبو إسحاق: له أن يعفو عن القود ويختار الدية؛ لأنه انتقال من البدل الأغلظ إلى الأخف.
وإن قال: اخترت القصاص.. فهل له أن يرجع ويعفو عنه إلى الدية؟ فيه وجهان:(11/430)
أحدهما: له أن يرجع؛ لأن القصاص أعلى، فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى.
والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية؛ لأنه تركها، فلم يرجع إليها، كالقصاص.
إذا ثبت هذا: فللولي أن يعفو عن القود إلى الدية، سواء رضي القاتل به أو لم يرض، وبه قال ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يستحق الولي الدية إلا برضا القاتل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وإلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) قيل في التفسير: معناه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] يريد به: القاتل {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] المقتول شَيْءٌ، أي: على شيء {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] يريد به: على مال. {فَاتِّبَاعٌ} [البقرة: 178] ؛ لأنه كان في شريعة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط، وفي شريعة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الدية فقط، فجعل الله لهذه الأمة القود في القتل، وجعل لهم العفو عنه على مال؛ تخفيفاً منه ورحمة.
ومن الدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . ولم يعتبر رضا القاتل.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (الولي في ذلك مخير بين القتل والدية) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.(11/431)
[مسألة جناية العبد برقبته]
وإن جنى عبد لرجل على آخر خطأ.. تعلق الأرش برقبته، فإن باعه سيده من المجني عليه بأرش الجناية، فإن لم يعلم المتبايعان أو أحدهما عدد الإبل أو أسنانها.. لم يصح البيع؛ لجهالة الثمن، وإن كانا يعلمان عدد الإبل وأسنانها.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها مجهولة الصفة.
والثاني: يصح؛ لأنها معلومة السن والعدد.
وحكاهما الشيخ أبو حامد في التعليق وجهين، المنصوص: (أنه يصح) .
وإن كانت الجناية عمداً تقتضي القصاص، فاشتراه المجني عليه بالأرش.. سقط القود؛ لأن اختياره ليملكه بالأرش، فضمن العفو عنه، وهل يصح الشراء؟
إن كانا جاهلين أو أحدهما بعدد الإبل أو بأسنانها.. لم يصح.
وإن كانا عالمين.. فهل يصح؟ على القولين.
فإذا قلنا: يصح.. سقط الأرش عن العبد، وإن وجد بالعبد عيباً، فرده.. رجع بالأرش إلى رقبة العبد.
قال الشيخ أبو حامد: فإن ابتاع المجني عليه العبد بالحق الواجب من القصاص على العبد.. لم يصح البيع؛ لأن أخذ العوض عن القصاص لا يجوز، ويسقط القصاص؛ لأن تراضيهما بالابتياع إسقاط من المجني عليه حق الاقتصاص، ورضاً بالعدول إلى غيره، فسقط القصاص، وتجب الدية في رقبة العبد، فإن ابتاعه بها.. فعلى ما مضى.(11/432)
[مسألة عفو بعض الجماعة عن القصاص]
وإن كان القصاص لجماعة، فعفا بعضهم عن القود.. سقط القود عن القاتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» وهؤلاء لم يحبوا؛ لأن فيهم من يحب وفيهم من لم يحب.
وروي: أن رجلاً قتل رجلاً، فأراد ورثة المقتول أن يقتصوا، فقالت زوجة القاتل - وكانت أخت المقتول -: قد عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (عتق من القتل) .
وكذلك روي عن ابن مسعود، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع.
ولأن القصاص يقع مشتركاً لا يتبعض، فإذا سقط بعضه.. سقط الجميع، وينتقل حق الباقين إلى الدية؛ لما روي: (أن رجلاً دخل على امرأته، فوجد معها رجلاً، فقتلها، فقال بعض إخوتها: قد تصدقت بنصيبي، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسائرهم بالدية) . ولأن حقهم قد سقط من القصاص بغير اختيارهم، فانتقل حقهم إلى البدل مع وجوده، كما ينتقل حق الشريك في العبد إذا أعتقه شريكه إلى القيمة.
[مسألة وجب القصاص فباشر أو وكل]
وإن وجب له القصاص على رجل، فرمى إليه بسهم أو بحربة، ثم عفا عنه بعد الرمي وقبل الإصابة.. لم يصح العفو؛ لأنه لا معنى لهذا العفو كما لو جرحه ثم عفا عنه.
وإن وجب له القصاص.. فقد ذكرنا: أنه يجوز له أن يوكل من يستوفي له القصاص بحضرة الموكل، وهل يصح أن يوكل من يستوفي له القصاص بغيبته - أعني:(11/433)
الموكل - فيه ثلاث طرق، مضى ذكرها في (الوكالة) ؟ الصحيح: أنه يصح.
قال ابن الصباغ: إلا أنا إذا قلنا، لا تصح الوكالة، فاستوفى الوكيل القصاص.. فقد حصل به الاستيفاء؛ لأنه استوفاه بإذنه، كما نقول فيه إذا باع الوكيل في الوكالة الفاسدة، وإنما يفيد فسادها هاهنا أن الحاكم لا يمكن الوكيل من الاستيفاء.
فلو وكل في الاستيفاء، ثم عفا الموكل عن القصاص، فإن عفا بعد أن قتله الوكيل.. لم يصح عفوه، وإن عفا قبل أن يقتله الوكيل، ثم قتله الوكيل بعد علمه بالعفو.. فعلى الوكيل القود، وإن لم يعلم، هل كان العفو قبل القتل أو بعده.. فلا شيء على الوكيل، لأن الأصل أن لا عفو.
وإن عفا الموكل عن القصاص؛ ثم قتله الوكيل ولم يعلم بالعفو.. فهل يصح العفو؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا عنه في وقت لا يمكن تلافيه، فلم يصح، كما لو عفا بعد رمي الحربة إلى الجاني.
والثاني: يصح؛ لأنه عفا عن قود غير متحتم قبل أن يشرع فيه الوكيل، فصح، كما لو علم الوكيل بالعفو قبل القتل.
واختلف أصحابنا في مأخذ القولين:
فمنهم من قال: أصلهما القولان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟ ولم يذكر ابن الصباغ غيره.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: أصلهما إذا رأى رجلاً في دار الحرب، فظنه حربيا فرماه بسهم، ثم بان أنه كان مسلماً، ومات.. فهل تجب الدية؟ فيه قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: القولان هاهنا أصل بأنفسهما، ومنهما أخذ الوجهان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟
فإذا قلنا: إن عفوه لا يصح.. فلا شيء على الموكل والوكيل.
وإذا قلنا: إن عفوه يصح.. فلا شيء على الموكل، وأما الوكيل: فلا قصاص عليه، لأن له شبهة في قتله، وتجب عليه الدية، وإن قلنا: لا تجب عليه الدية..(11/434)
فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ":
فـ[الأول] : إن قلنا: إن مأخذ القولين في الدية من الرمي إلى من ظنه حربياً.. فتجب الكفارة؛ لأن الدية هاهنا لم تجب.
و [الثاني] : إن قلنا: إن مأخذهما من عزل الوكيل.. فلا تجب عليه الكفارة، وتكون الدية مغلظة؛ لأنها إما دية عمد محض، أو دية عمد خطأ.
وهل تجب في مال الوكيل، أو على عاقلته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنها تجب في ماله؛ لأنه قصد قتله، وإنما سقط القصاص لمعنى آخر.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هو دية عمد خطأ، فتجب دية مؤجلة على العاقلة؛ لأنه قتله وهو معذور.
فإن قلنا: إنها على العاقلة.. لم يرجع بها الوكيل على الموكل.
وإن قلنا: إنها تجب على الوكيل.. لم يرجع الوكيل على الموكل؛ لذلك.
وقال أبو العباس: فيه قول آخر: أنه يرجع عليه، كما قلنا في من قدم طعاماً مغصوباً إلى رجل، فأكله ولم يعلم أنه مغصوب.. فإنه يرجع على المقدم إليه في أحد القولين، وكما قلنا فيمن غر بحرية امرأة.
والمذهب الأول؛ لأن العفو مندوب إليه، والغرور محرم.
إذا تقرر هذا: فإن كان الموكل قد عفا عن القود والدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: لا تجب له الدية.. فلا كلام، وإن عفا عن القود إلى الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب له الدية.. وجبت له الدية في مال الجاني، ويكون لورثة الجاني مطالبة الوكيل بدية الجاني، وليس كالأخوين إذا قتل أحدهما قاتل أبيه بغير إذن أخيه؛ حيث قلنا في محل نصيب الأخ الذي لم يقتل من الدية قولان:
أحدهما: في تركة قاتل أبيه.
والثاني: في ذمة أخيه.(11/435)
والفرق بينهما: أن الأخ أتلف حق أخيه، فوجب عليه بدله، وهاهنا أتلفه الوكيل بعد سقوط حق الموكل عنه بالعفو. هذا ترتيب البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: لا دية على الوكيل.. فلا دية للموكل على الجاني، وكأن الوكيل استوفى القصاص، وإن قلنا: عليه الدية.. فله الدية في مال المجني عليه.
[مسألة سرت الجناية بعد عفو المجني عليه]
إذا أتى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن قلع عينه، أو قطع يده أو رجله، فعفا المجني عليه عن القصاص، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه.. لم يجب القصاص.
وحكي عن مالك: أنه قال: (يجب القصاص؛ لأن الجناية صارت نفساً) .
ودليلنا: أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفي عنه، فسقط القصاص في النفس، كما لو عفا بعض الأولياء.
ولأن الجناية إذا لم يجب فيها القصاص.. لم يجب في سرايتها، كما لو قطع يد مرتد، ثم مات.
إذا ثبت هذا: فإن كان المجني عليه قد عفا على مال وجبت فيه دية كاملة، فإن كان أخذ دية العضو المقلوع.. استوفى الولي باقي دية النفس، وإن لم يأخذ شيئا ًمن الدية.. أخذ الولي جميع الدية.
وإن كان المجني عليه عفا عن العين أو اليد أو الرجل على غير مال.. وجب لوليه نصف الدية.
وقال أبو حنيفة: (تجب الدية كاملة) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا شيء على الجاني.
دليلنا: أن بالجناية وجب عليه نصف الدية، فإذا عفا عن الدية.. سقط ما وجب(11/436)
دون ما لم يجب، فإذا صارت نفساً.. وجب بالسراية نصف الدية، ولم يسقط أرشها بسرايتها، وإنما دخل في أرش النفس.
وإن كان قد جنى عليه جناية لا يجب القصاص فيها، كالجائفة، وكسر الظهر، فعفا المجني عليه عن القصاص فيها، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فمات.. كان لوليه أن يقتص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو فيه.
[فرع قطع يده فعفى المجني عليه عنه]
وإن قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص على مال أو على غير مال، ثم عاد الجاني فقتله قبل الاندمال.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن للولي القصاص في النفس؛ لأن الجناية الثانية منفردة عن الأولى، فلم يدخل حكمها في حكمها، كما لو قتله آخر، فإن عفا عنه على مال.. كان له كمال الدية؛ لأن الجناية على الطرف إذا وردت عليها الجناية على النفس.. صارت في حكم المندملة، فلم يدخل أرش أحدهما في أرش الآخر.
والوجه الثاني: أنه لا يجب القصاص؛ لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها.. سقط في جميعها، كما لو سرى قطع اليد إلى النفس، فإن عفا عنه على مال.. كان له نصف الدية؛ لأنه قد وجب له جميع الدية، وقد أخذ نصفها، أو سقط حقه عنه، فبقي حقه في نصف الدية.
والثالث - وهو المنصوص -: (أن للولي أن يقتص في النفس) ؛ لأنهما جنايتان عفا عن إحداهما ولم يعف عن الأخرى، فصار كما لو قتله آخر.
وإن عفا عنه الولي: كان له نصف الدية؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فإذا أخذه أو سقط حقه عنه بالعفو.. بقي الباقي له من الدية.(11/437)
[مسألة قطع إصبع رجل فعفى عنه]
إذا قطع رجل إصبع رجل عمداً، فقال المجني عليه: عفوت عن هذه الجناية، قودها وديتها.. نظرت:
فإن اندمل الجرح، ولم يسر إلى عضو ولا نفس.. سقط القود والدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منهما.
وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه: مالك، وطاووس، والحسن وقتادة، والأوزاعي.
وقال المزني: لا يصح العفو عن الأرش؛ لأنه أسقطه قبل وجوبه، بدليل: أنه لا يملك المطالبة به قبل الاندمال، وهذا خطأ؛ لأنه وجب بالجراحة، فصح إسقاطه، وأما المطالبة به: فإنه يملك المطالبة به في أحد القولين، ولا يملكه في الآخر، فيكون كالدين المؤجل، يصح إسقاطه قبل محل دفعه.
وإن سرت الجناية إلى كفه، واندملت.. سقط القود والدية في الإصبع؛ لما ذكرناه.
وأما الكف: فلا قود فيه؛ لأن القود في العضو لا يجب بالسراية، ولا تصح البراءة من دية ما زاد على الإصبع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تصح؛ لأنه سراية جرح غير مضمون.
والأول أصح؛ لأنه إبراء عما لم يجب.
وإن سرت الجناية إلى النفس.. نظرت:
فإن قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها، ولم يقل: وما يحدث منها.. فإن القصاص لا يجب في الإصبع؛ لأنه عفا عنه بعد الوجوب، ولا يجب القصاص في النفس؛ لأن القصاص إذا سقط في الإصبع.. سقط في النفس؛ لأنه لا يتبعض.(11/438)
وحكى أصحابنا الخراسانيون عن ابن سريج قولا ًآخر مخرجاً: أنه يجب؛ لأنه عفا عن القود في الطرف لا في النفس. وهذا ليس بمشهور.
وأما الأرش: فقد عفا عن أرش الإصبع بعد وجوبه، فينظر فيه:
فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: عفوت عن الجاني عن قود هذه الجناية، وأوصيت له بأرشها.. فقد وجد ذلك منه في مرض موته، فإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. لم تصح هذه الوصية، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل.. اعتبر أرش الإصبع من ثلث تركته، فإن خرج من الثلث.. صحت الوصية فيه للقاتل، وإن لم يخرج من الثلث.. لم تصح.
وإن كان بلفظ العفو أو الإبراء، بأن قال: عفوت عن قود هذه الجناية وديتها، أو قال: أبرأته من أرشها.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم الوصية؛ لأنه يعتبر من الثلث.
فعلى هذا: تكون على قولين، كالوصية للقاتل بلفظ الوصية.
والثاني: ليس بوصية؛ لأن الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة.
فعلى هذا: يصح الإبراء عن أرش الإصبع، ويجب عليه تسعة أعشار دية النفس؛ لأنه لم يبرأ منها.
وأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها.. فإن القود يسقط في الإصبع والنفس؛ لأن العفو يصح عن القصاص الذي لم يجب، بدليل: أنه لو قال لرجل: اقتلني ولا شيء عليك، فقتله.. لم يجب عليه قصاص؛ لما تقدم ذكره.
وأما الأرش: فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: أوصيت له بأرش الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: تصح الوصية للقاتل، وخرج جميع الدية من الثلث.. صحت الوصية، وإن خرج بعضها من الثلث.. صح ما خرج من الثلث، ووجب الباقي. وإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. وجب جميع الدية.(11/439)
وإن قال: أبرأته عن أرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: إن حكم الإبراء حكم الوصية.. كان على قولين، كما لو كان بلفظ الوصية، وإن قلنا: إن حكم الإبراء ليس كالوصية.. صحت البراءة في دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها بعد الوجوب، ولم تصح البراءة فيما زاد على دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها قبل الوجوب. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق.
وقال ابن الصباغ: في صحة براءته من أرش ما زاد على دية الإصبع قولان، من غير بناء على حكم الوصية:
أحدهما: لا تصح البراءة؛ لأنه إبراء عما لم يجب، فأشبه إذا عفا عما يتولد من الجناية، فسرت إلى الكف.
والثاني: تصح؛ لأن الجناية على الطرف جناية على النفس؛ لأن النفس لا تباشر بالجناية، وإنما يجنى على أطرافها، فإذا عفا بعد الجناية عليها.. صح، ويفارق الكف؛ لأن الجناية على الإصبع ليس بجناية على النفس؛ لأنه يباشر بالجناية، فإذا قلنا: يصح.. بني على القولين في الوصية للقاتل على ما مضى.
[فرع قطع يدي رجل فبرئتا فقطع يد الجاني وعفا عن الأخرى]
لو قطع يدي رجل عمداً، فبرئت اليدان، فقطع المجني عليه إحدى يدي الجاني، وعفا عن الأخرى على الدية، وقبضها، ثم انتقضت يد المجني عليه ومات.. لم يكن لورثته القصاص؛ لأنه مات من جراحتين إحداهما لا قصاص فيها وهي المعفو عنها، ولا يستحق شيئاً من الدية؛ لأنه قد استوفى نصف الدية وما قيمته نصف الدية.
وإن لم يمت المجني عليه، ولكن الجاني انتقضت عليه يده، ومات.. لم يرجع ورثته على المجني عليه بشيء؛ لأن القصاص لا تضمن سرايته.(11/440)
وإن قطع إحدى يدي الجاني، فمات من قطعها ولم يأخذ بدل اليد الأخرى.. كان له أن يأخذه؛ لأنه وجب له القصاص في اليدين، وقد فاته القصاص في أحدهما بما لا ضمان عليه فيه، فهو كما لو سقط بأكلة، أو مات حتف أنفه.
وإن مات المجني عليه من قطع اليدين، ولم تبرأ، فقطع الوارث إن إحدى يدي الجاني، فمات من قطع يده قبل أن تقطع الأخرى.. لم يرجع بدية اليد الأخرى؛ لأن الجناية إذا صارت نفساً.. سقط حكم الأطراف، وقد سرى قطع يد الجاني إلى النفس، فاستوفى النفس بالنفس، وليس كذلك إذا برئت اليدان ولم يمت، فإن الاعتبار بالطرفين، ولا يسقط بدل أحدهما باستيفاء بدل الآخر. وهكذا حكم كل طرفين متميزين، مثل: الرجلين، والعينين.
[مسألة قطع يد رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يده]
] : وإن قطع يد رجل، فسرى القطع إلى نفسه، فقطع الولي يده، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد. وكذلك: لو قتل رجل رجلاً، فبادر الولي فقطع يد الجاني، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه دية اليد) .
دليلنا: أنه قطع يده في حال أبيح له قطعها، فلم يلزمه ضمانها، كما لو قطع يد مرتد فأسلم.
وأما العفو: فإنما ينصرف إلى ما بقي دون ما استوفى.
وإن قطع يهودي يد مسلم، فاقتص المسلم من اليهودي، ثم مات المسلم.. فلوليه أن يقتل اليهودي، فإن عفا عنه على مال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب له نصف الدية؛ لأن المجني عليه قد أخذ يد اليهودي بيده، واليد تقوم بنصف الدية، فكأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة.(11/441)
والثاني: يستحق خمسة أسداس دية المسلم؛ لأن دية يد اليهودي سدس دية يد المسلم.
وإن قطع اليهودي يدي المسلم، فاقتص المسلم وقطع يدي اليهودي، ثم مات المسلم، واختار وليه العفو على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول على ما مضى، ويستحق على الثاني ثلثي دية مسلم.
وإن قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه.. فلوليه أن يقتلها، فإن عفا عنها على مال.. استحق على الوجه الأول نصف الدية، وعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية. فإن قطعت يديه، فاقتص منها، ثم مات من الجناية، ولم يقتلها وليه، ولكن عفا عنها على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني يستحق نصف الدية.
وإن قطع رجل يدي رجل وهما متساويان في الدية، فاقتص منه في اليدين، ثم مات المجني عليه، ولم يختر وليه قتله، ولكن عفا عنه على مال.. لم يستحق شيئاً، وجهاً واحداً؛ لأنه يستحق الدية، وقد أخذ ما يساوي الدية.
[فرع جرح مرتداً فأسلم المرتد ثم جرحه آخرون]
وإن جرح رجل مرتداً جراحة، فأسلم المرتد، ثم عاد الجارح مع ثلاثة رجال، فجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها، ومات من الجراحات الخمس.. لم يجب القصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحة مضمونة وغير مضمونة، فيجب فيه سبعة أثمان الدية، وعلى الذي جرحه في حال الردة ثمن الدية، وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لأنه مات من خمس جراحات، إلا أن الذي جرحه في حال الردة سقط عنه ما يخص الجراحة في حال الردة؛ لأن الدية تقسم على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الأول ربع الدية، فيسقط عنه الثمن.
وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته، فأسلم، ثم جنى عليه آخر من غيرهم، ومات(11/442)
من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع ديته، ويسقط عنه ثلاثة أرباع ديته.
وإن كان الذي جنى عليه بعد الإسلام أحد الثلاثة.. وجب عليه سدس الدية، ولم يجب على الباقين شيء.
وإن جرحه ثلاثة في حال ردته، ثم عاد إلى الإسلام، وجاء أحد الثلاثة مع أربعة غير الثلاثة وجرحوه، ومات من الجراحات.. فقد مات من جراحة سبعة، فيسقط سبعا الدية، وهما ما يخص الرجلين الجارحين في الردة، ويجب على الأربعة الذين انفردوا بالجراحة في الإسلام أربعة أسباع الدية، ويجب على الذي جرحه في الردة والإسلام نصف سبع الدية.
وإن جرحه أربعة في ردته، ثم عاد أحدهم وجرحه بعد إسلامه، ومات من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد إسلامه ثمن الدية، وتسقط باقي ديته.
وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل(11/443)
[كتاب الديات] [باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات](11/445)
كتاب الديات باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات تجب الدية بقتل المسلم والذمي.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الآية (النساء: 92) ومعنى قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إذا قتله في دار الإسلام.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (النساء: 92) أي: إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين، فحضر معهم الحرب، ورماه رجل من المسلمين، فقتله.. تقديره: في قوم عدو لكم.(11/447)
ومعنى قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] (النساء: 92) يعني: أهل الذمة.
ومن السنة: ما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «وفي النفس مائة من الإبل» .(11/448)
وهو إجماع، لا خلاف في وجوب الدية.
إذا ثبت هذا: فالقتل يتنوع ثلاثة أنواع.
خطأ محض، وعمد محض، وشبه عمد. ويقال: عمد الخطأ.
فتجب الدية في (الخطأ المحض) ، وهو: أن يكون مخطئاً في الفعل والقصد، مثل: أن يقصد إصابة طير، فيصيب إنساناً؛ للآية.
وأمأ (العمد المحض) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، عامداً في القصد، فهل يجب فيه القود والدية بدل عنه، أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
وأما (شبه العمد) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، مخطئاً في القصد، مثل: أن يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالباً، فيموت منه، فتجب فيه الدية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (القتل يتنوع نوعين: خطأ محض، وعمد محض. فأما عمد الخطأ: فلا يتصور؛ لأنه يستحيل أن يكون القائم قاعداً) .(11/449)
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة» .
[مسألة يرمى الحربيون وإن تترسوا بمسلم]
وإذا أسر المشركون مسلماً، فتتسروا به في القتل؛ يتوقون به الرمي، ويحتمون وراءه في رميهم، فقتله رجل من المسلمين بالرمي.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه يجوز له رميهم.
وأما الدية: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (تجب) . وقال في موضع: (لا تجب) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تجب؛ لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بينهم، فلم يسقط ضمانه.
والثاني: لا تجب؛ لأن القاتل مضطر إلى رميه.
ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم.. لزمه ضمانه، وإن لم يعلم.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه يلزمه أن يتوقاه عن الرمي إذا علمه، ولا يلزمه أن يتوقاه إذا لم يعلمه.(11/450)
وقال أبو إسحاق: إن عينه بالرمي.. ضمنه، وإن لم يعينه.. لم يضمنه وحملهما على هذين الحالين.
[مسألة قتل جماعة رجلاً]
وإن اشترك جماعة في قتل رجل.. وجبت عليهم دية، وتقسم بينهم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فقسم بينهم على عددهم، كغرامة المتلف.
فإن كان القتل موجباً للقود، واختار الولي أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على حصتهم من الدية.. كان له ذلك.
وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل أو القطع بغير حق مخطئين.. وجبت عليهما الدية؛ لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل في السرقة.
[فرع غرق مع معلم السباحة]
إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السباحة، فغرق الصبي.. فعلى عاقلة السابح ديته، وعليه الكفارة في ماله؛ لأنه قد أخذه للتعليم، فإذا تلف في طريق التعليم.. كان عليه ضمانه، كالمعلم إذا ضرب صبياً، فمات، ولأن هذا في الغالب لم يغرق إلا بتفريط من السابح، فيكون عمد خطأ.
وإن أسلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه السباحة، فغرق.. لم يجب ضمانه؛ لأنه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره، فلا يجب ضمانه.
[مسألة الوقوع والموت بصياح مفزع]
وإن كان صبي أو بالغ معتوه على حائط أو حافة نهر، فصاح رجل صياحاً شديداً،(11/451)
ففزع من الصياح، فسقط ومات، أو زال عقله.. وجبت ديته على عاقله الصائح؛ لأن صياحه سبب لوقوعه.
فإن كان صياحه عليه.. فهو عمد خطأ، وإن كان صياحه على غيره.. فهو خطأ محض.
وإن كان الرجل بالغاً عاقلاً، فسمع الصيحة، وسقط ومات، أو زال عقله، فإن كان متيقظاً.. لم يجب ضمانه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة - لا معتاداً ولا نادرا - أن يقع الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات.. علمنا أن صياحه وافق موته، فهو كما لو رماه بثوب، فمات.
وإن كان في حال غفلته، فسمع الصيحة، فمات أو زال عقله.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب ضمانه) ؛ لما ذكرناه.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب ضمانه؛ لأن الإنسان قد يفزع من ذلك في حال غفلته.
وإن شهر السيف على بالغ عاقل، فزال عقله.. لم يجب ضمانه.
وإن شهره على صبي أو معتوه، فزال عقله.. وجب ضمانه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) .
دليلنا: أن هذا سبب في تلفه، فإن كان متعدياً.. ضمن، كما لو حفر بئراً، فوقع فيها.
[فرع أرعبت امرأة حامل فأسقطت]
وإن بعث الإمام إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا، ففزعت، فأسقطت جنيناً ميتاً.. وجب على الإمام ضمانه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) .(11/452)
دليلنا: ما روي: (أن امرأة ذكرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسوء، فبعث إليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينما هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولداً، فصاح صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال له عثمان، وعبد الرحمن بن عوف: لا شيء عليك، إنما أنت وال ومؤدب. وصمت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: ما تقول؟ فقال له علي: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن لم يجتهدا.. فقد غشاك، إن ديته عليك؛ لأنك أنت أفزعتها، فألقت، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقسمت عليك لا برحت حتى تقسمها على قومك) . يعني: قوم عمر. ولم ينكر عثمان وعبد الرحمن ذلك فدل على: أنهما رجعا إلى قوله، وصار ذلك إجماعاً.
وإن فزعت فماتت.. لم يجب ضمانها؛ لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة.
[مسألة السبب غير الملجئ لا يوجب الضمان]
إذا طلب رجل رجلاً بصيراً بالسيف، ففر منه، فألقى نفسه من سطح وهو يراه، أو تردى في بئر أو نار وهو يراها، فمات.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ ومن المطلوب مباشرة، فتعلق الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه، فقتل نفسه.
وإن طلب أعمى بالسيف، ففر منه، فوقع من سطح أو في بئر أو نار، فمات، فإن كان عالماً بالسطح والبئر والنار.. فلا ضمان على الطالب؛ لما ذكرناه في البصير، وإن كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب بصيراً ولم يعلم بالسطح والبئر والنار، وفر منه على سطح يحسبه قوياً، فانخسف من تحته،(11/453)
ومات.. وجبت الدية على عاقلة الطالب؛ لأنه ألجأه إلى الهرب.
وإن فر منه، فافترسه سبع في طريقه.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه لم يلجئ السبع إلى قتله، وإنما ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب، وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب والفعل.. تعلق الضمان بالفعل دون السبب.
وإن طلب صبياً أو مجنوناً بالسيف، ففر منه، وألقى نفسه من سطح، فمات، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. لم يضمن الطالب الدية، وإن قلنا: إن عمدهما خطأ.. ضمن.
[فرع ألقى رجلاً من علو وقطعه آخر]
وإن رمى رجل رجلاً من شاهق مرتفع يموت منه غالباً إذا وقع، فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما قاتلان، فيجب عليهما القود أو الدية؛ لأن كل واحد منهما قد فعل فعلاً لو انفرد به.. لمات من غالباً، فصارا كالجارحين.
والثاني: أن القاتل هو القاطع؛ لأن التلف إنما حصل بفعله، فصار كما لو جرحه رجل وذبحه آخر، ويعزر الأول.
وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالباً.. كان القاتل هو القاطع، وجهاً واحداً؛ لأن ما فعله الأول لا يجوز أن يموت منه.
وإن زنى بامرأة وهي مكرهة، فحبلت منه، وماتت من الولادة.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب عليه ديتها؛ لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه، فضمنها.
والثاني: لا تجب عليه؛ لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه.(11/454)
[مسألة جعل حجراً في طريق فعثر به رجل ومات]
إذا وضع رجل حجراً في طريق من طرق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فعثر بها إنسان لم يعلم بها، ومات منها.. وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر، ووجبت الكفارة في ماله؛ لأنه تلف بسبب تعدى فيه، فوجب ضمانه.
وهكذا: إن نصب هناك سكيناً، فعثر رجل ووقع عليها، فمات منها.. وجبت عليه الدية؛ لما ذكرناه في الحجر.
فأما إذا وضع الحجر أو السكين، فدفع آخر عليها رجلاً ومات.. كان الضمان على الدافع؛ لأن الواضع صاحب سبب، والدافع مباشر، فتعلق الحكم بالمباشر.
وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، ووضع آخر سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، فوقع على السكين، ومات منها.. وجب الضمان على واضع الحجر.
وقال أبو الفياض البصري: إن كان السكين قاطعاً.. وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطع موح. والأول هو المشهور؛ لأن واضع الحجر كالدافع له على السكين، فوجب عليه الضمان، كما لو نصب رجل سكيناً، ودفع عليها آخر رجلاً، ومات.
وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، ووضع اثنان حجراً إلى جنبه، فتعثر بهما رجل ومات.. فليس فيها نص لأصحابنا، إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا فيها:
فقال زفر: يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية؛ لأن فعله مساو لفعلهما، وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف.
وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثاً. قال ابن الصباغ: وهو قياس المذهب؛ لأن السبب حصل من الثلاثة، فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم، كما لو جرحه رجل جراحة، وجرحه آخر جراحتين، ومات منها.(11/455)
[فرع وضع حجراً في ملكه فعثر به رجل]
وإن وضع رجل في ملك نفسه حجراً، أو نصب سكيناً، فتعثر به إنسان ومات.. لم يجب على واضع الحجر أو السكين ولا على عاقلته ضمان؛ لأنه غير متعد بوضع الحجر أو السكين.
وإن وضع رجل في ملك غيره حجراً بغير إذنه، ووضع صاحب الملك بقرب الحجر سكيناً، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على عاقلة واضع الحجر؛ لأنه كالدافع للعاثر على السكين.
وإن وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع أجنبي سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين فمات.. وجبت الدية على عاقلة واضع السكين دون واضع الحجر؛ لأن المتعدي هو واضع السكين دون واضع الحجر.
[مسألة حفر بئراً فوقع بها شخص ومات]
وإن حفر رجل بئراً، فوقع فيها إنسان ومات.. لم يخل: إما أن يحفرها في ملكه، أو في ملك غيره، أو في طريق المسلمين، أو في موات.
فإن حفرها في ملكه، فإن كانت ظاهرة، فدخل رجل ملكه، فوقع فيها، فمات.. لم يجب على الحافر ضمانه، سواء دخل بإذنه أو بغير إذنه؛ لأنه غير متعد بالحفر، وإن كانت غير ظاهرة، بأن غطى رأسها، فوقع فيها إنسان فمات، فإن دخل إلى ملكه بغير إذنه لم يجب ضمانه؛ لأنه متعد بالدخول.
وهكذا: لو كان في داره كلب عقور، فدخل داخل داره بغير إذنه، فعقره الكلب.. لم يجب ضمانه؛ لما ذكرناه. وإن استدعاه للدخول ولم يعلمه بالبئر والكلب، فوقع فيها، أو عقره الكلب، فمات.. فهو كما لو قدم إلى غيره طعاماً مسموماً، فأكله، على قولين، وقد مضى دليلهما.(11/456)
فأما إذا حفرها في ملك غيره، فإن كان بإذنه.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه غير متعد في الحفر، وإن حفرها بغير إذنه.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه متعد بالحفر، فإن أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها. فهل يبرأ؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يبرأ؛ لأنه إبراء عما لم يجب.
والثاني: يبرأ؛ لأنه كما لو أذن له في حفرها.
قال أبو علي الطبري: فإن قال صاحب الملك: كان حفرها بإذني.. لم يصدق، خلافاً لأبي حنيفة.
وإن حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقاً.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه تعدى بذلك، وسواء أذن له الإمام في ذلك أو لم يأذن له؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين، وإن كان الطريق واسعاً لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه، كالطريق في الصحارى، فإن حفرها بإذن الإمام.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون؛ لأن للإمام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعاً، كما له أن يقطع من الموات. وكذلك: إن حفرها بغير إذن الإمام، فأجاز له الإمام ذلك.. سقط عنه الضمان.
وإن حفرها بغير إذن الإمام، فإن حفرها لينتفع هو بها.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الإمام؛ لأن ذلك موضع اجتهاد الإمام.
وإن حفرها لينتفع بها المسلمون.. فهل يجب عليه ضمان من يقع فيها؟ حكى الشيخان فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين:
أحدهما - حكاه القاضي أبو حامد عن القديم -: (أنه يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها بغير إذن الإمام، فهو كما لو حفرها لنفسه.
والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد -: (أنه لا يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها لمصلحة المسلمين، وقد يحتاجون إلى ذلك، فهو كما لو حفرها بإذن الإمام.(11/457)
وإن حفرها في موات ليتملكها.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه يملكها بالإحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه.
وكذلك: إن حفرها في الموات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا ارتحل عنها كانت للمسلمين.. فلا ضمان عليه؛ لأن له أن ينتفع بالموات، فلا يكون متعدياً بالحفر.
[فرع حفر بئراً في طريق وآخر وضع حجراً]
وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر حجراً في تلك الطريق، فتعثر بها إنسان، ووقع في البئر ومات.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأنه كالدافع له في البئر.
وإن حمل السيل حجراً إلى رأس البئر، فعثر بها إنسان، فوقع في البئر ومات.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب ضمانه؛ لأنه إنما تلف بعثرته في الحجر، لا بتفريط من الحافر في الحجر.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الضمان على حافر البئر) ؛ لأنه هو المتعدي، فوجب عليه الضمان، كما لو وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع آخر بقربه سكيناً، فتعثر بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على واضع السكين.
وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر في أسفلها سكيناً، فتردى رجل في البئر، ووقع على السكين فقتله.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبي حنيفة، كما قلنا في رجلين(11/458)
وضع أحدهما حجراً والآخر سكيناً، وعثر بالحجر على السكين.. فإن الضمان على واضع الحجر.
والثاني: أن الضمان على واضع السكين؛ لأن تلفه حصل بوقوعه على السكين قبل وقوعه في البئر.
وإن حفر رجل بئراً في طريق المسلمين وطمها، فجاء آخر، فأخرج ما طمت به.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب الضمان على الحافر؛ لأنه المبتدئ بالتعدي.
والثاني: أن الضمان على الثاني؛ لأن تعدي الأول قد زال بالطم.
[فرع حفر عبد بئراً فعتق ثم وقع فيها إنسان]
وإن حفر العبد بئراً في طريق المسلمين، فأعتقه سيده، ثم وقع في البئر إنسان ومات.. وجب الضمان على العتيق.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجب الضمان على سيده؛ لأن الجناية حصلت بالحفر، فهو كما لو جرح إنساناً، ثم أعتق، ثم مات المجروح) .
ودليلنا: أن التلف حصل بعد الحرية، فكان الضمان عليه، كما لو قتله، ويفارق الجناية؛ لأنها حصلت قبل الحرية.
[فرع حفر بئراً في أرض مشاع]
] : وإن حفر بئراً في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير إذنهما، وتلف بها إنسان.. قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن جميع الدية على الحافر.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليه ثلثا الدية) .(11/459)
وقال أبو يوسف: يجب عليه نصف الدية.
ودليلنا: أنه تعدى بالحفر، فضمن الواقع فيها، كما لو حفرها في ملك غيره بغير إذنه.
[فرع بنى مسجداً في طريق]
وإن بنى مسجداً في طريق واسع، لا ضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق، فإن بناه لنفسه.. لم يجز، وإن سقط على إنسان.. ضمنه، وإن بناه للمسلمين، فإن كان بإذن الإمام.. جاز، ولا ضمان عليه فيمن سقط عليه، وإن بناه بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر فيها بئراً للمسلمين، على ما ذكرناه هناك من الخلاف.
وإن كان هناك مسجد للمسلمين، فسقط سقفه، فأعاده رجل من المسلمين بآلته أو بغير آلته، وسقط على إنسان.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه للمسلمين.
وإن فرش في مسجد للمسلمين حصيراً، أو علق فيه قنديلاً، فعثر رجل بالحصير، أو وقع عليه القنديل، فمات، فإن فعل ذلك بإذن الإمام فلا ضمان عليه، وإن فعله بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر بئراً في طريق واسع للمسلمين بغير إذن الإمام، على الخلاف المذكور فيها.
وقال أبو حنيفة: (إن فرش الحصير، وعلق القنديل من الجماعة - يعني: من الجيران - فلا ضمان عليه، وإن كان من غير الجماعة.. فعليه الضمان) .
دليلنا: أنه قصد عمارة المسجد متقرباً، فلم يجب عليه الضمان، كما لو وقع السقف، فبناه.(11/460)
[فرع طرح قشور البطيخ ونحوها فزلق بها إنسان]
قال الشيخ أبو حامد: وإن طرح على باب داره قشور البطيخ، أو الباقلاء الرطب، أو الموز، أو رشه بالماء، فزلق به إنسان، فمات.. كان ديته على عاقلته، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق في المباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف.. كان عليه الضمان.
وإن ركب دابة، فبالت في الطريق أو راثت، فزلق به إنسان، فمات.. كان عليه الضمان.
وكذلك: لو أتلفت إنساناً بيدها أو رجلها أو نابها.. فعليه ضمانه؛ لأن يده عليها، فإذا تلف شيء بفعلها أو بسبب فعلها.. كان كما لو أتلفه بفعله أو بسبب فعله.
وإن ترك على حائطه جرة، فرمتها الريح على إنسان، فمات.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد بوضعها على ملكه، ووقعت من غير فعله.
وكذلك: إذا سجر تنوراً في ملكه، فارتفعت شرارة إلى دار غيره، فأحرقته.. فلا ضمان عليه؛ لما ذكرناه.
[مسألة بنى جداراً مستوياً ثم سقط]
إذا بنى حائطاً في ملكه مستوياً، فسقط على إنسان من غير أن يبقى مائلاً ولا مستهدماً.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط.
وإن بناه معتدلاً، فمال إلى ملكه، أو بناه مائلاً إلى ملكه، فسقط على إنسان وقتله.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن له أن يتصرف في ملكه كيف شاء.
وإن بناه مائلاً إلى الشارع، فسقط على إنسان، فقتله.. وجبت على عاقلته الدية، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق بهواء الشارع بشرط السلامة، فإذا تلف به إنسان.. وجب ضمانه.
وإن بناه معتدلاً في ملكه، ومال إلى الشارع، ثم وقع على إنسان، فقتله.. ففيه وجهان.(11/461)
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وقول أصحاب مالك؛ لأنه فرط بتركه مائلاً، فوجب عليه الضمان، كما لو بناه مائلا إلى الشارع.
و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجب ضمانه، وهو المنصوص؛ لأن الميلان حدث من غير فعله، فهو كما لو سقط على إنسان من غير ميل.
فإن مال حائطه إلى هواء دار جاره.. فلجاره مطالبته بإزالته؛ لأن الهواء ملك لجاره، فكان له مطالبته بإزالة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. فهو يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع.
وإن استهدم من غير ميل.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، والشيخ أبو حامد: ليس للجار مطالبته في نقضه؛ لأنه في ملكه، فإن وقع على إنسان.. فلا ضمان عليه.
وقال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى إلى ملك غيره، كما ليس له أن يؤجج ناراً في ملكه يتعدى إلى ملك غيره مع وجود الريح، ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى دار غيره، كذلك هذا مثله؛ لأن الظاهر أنه إذا كان مستهدماً.. أنه يتعدى إلى ملك غيره.. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بنى الحائط معتدلاً، ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه، فلم ينقضها حتى سقط وقتل إنساناً.. فعليه الضمان) .
وكذلك: إذا مال إلى دار إنسان، فأمره الحاكم بنقضه، وأشهد عليه، وأمكنه نقضه، فلم يفعل حتى سقط على إنسان وقتله.. فعليه الضمان. وإن ذهب ليجيء بالصناع لينقضه، فسقط وأتلف شيئاً.. فلا ضمان عليه، وإن لم يطالب بنقضه ولم يشهد عليه.. فلا ضمان عليه.(11/462)
دليلنا: أنه بناء وضعه في ملكه، فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع من غير ميل، أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه.
فإن وضع على حائطه عدلاً، فوقع في دار غيره أو في الشارع، أو سقط حائطه في الشارع أو في دار غيره، فعثر به إنسان، فمات.. فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين.
[مسألة أنشأ على الشارع ساباطاً أو شرفة]
إذا أخرج إلى الشارع جناحاً أو روشناً يضر بالمارة.. منع منه، وأمر بإزالته، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه متعد بذلك.
وإن أخرج جناحاً أو روشناً إلى الشارع لا يضر بالمارة.. لم يمنع منه، خلافاً لأبي حنيفة، وقد مضى في (الصلح) .
فإن وقع على إنسان، فقتله.. نظرت:
فإن لم يسقط شيء من طرف الخشب المركبة على حائطه، بل انقضت من الطرف الخارج عن الحائط، فوقعت على إنسان فقتلته.. وجب على عاقلته جميع الدية؛ لأنه إنما يجوز له الارتفاق بهواء الشارع بشرط السلامة.
وإن سقط أطراف الخشب الموضوعة على حائط له، وقتلت إنساناً.. وجب على عاقلته نصف الدية؛ لأنه هلك بما وضعه في ملكه وفي هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل ما في ملكه، ووجب ما في هواء الشارع.(11/463)
وحكى القاضي أبو الطيب قولاً لآخر: أنه ينظر كم على الحائط من الخشبة، وكم على هواء الشارع منها. وتقسم الدية على ذلك بالقسط. وسواء أصابه الطرف الذي كان موضوعاً على الحائط أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد؛ لأنه تلف بجميعها. والأول هو المشهور.
[فرع إخراج الميزاب إلى الشارع]
وإن أخرج ميزاباً من داره إلى الشارع.. جاز؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر تحت ميزاب العباس بن عبد المطلب، فقطرت عليه قطرة، فأمر بقلعه، فخرج العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: (قلعت ميزاباً نصبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده؟! فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: والله لا ينصبه إلا من يرقى على ظهري، فانحنى عمر، وصعد العباس على ظهره، فنصبه) . وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن سقط على إنسان فقتله، أو بهيمة فقتلها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: فيه قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يجب ضمانه) . وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مضطر إلى ذلك، ولا يجد بداً منه، فلم يلزمه ضمان ما تلف به.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب ضمانه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ارتفق بهواء طريق المسلمين، فإذا تلف به إنسان.. وجب عليه ضمانه، كما قلنا في الجناح. وقول الأول: (لا يجد بداً منه) غير صحيح؛ لأنه يمكنه أن يحفر في بيته بئراً يجري الماء إليها.
فإذا قلنا بهذا: وسقط جميع الميزاب الذي على ملكه والخارج منه، وقتل إنساناً.. وجب ضمانه، وكم يجب من ديته؟ على المشهور من المذهب: يجب نصف ديته.(11/464)
وعلى القول الذي حكاه القاضي أبو الطيب: تقسط الدية على الميزاب، فيسقط منها بقدر ما على ملكه من الميزاب، ويجب بقدر الخارج منه عن ملكه.
وقال أبو حنيفة: (إن أصابه بالطرف الذي في الهواء.. وجب جميع ديته، وإن أصابه بالطرف الذي على الحائط.. لم يجب ضمانه) .
ودليلنا: أنه تلف بثقل الجميع دون بعضه.
وإن انقصف الميزاب، فسقط منه ما كان خارجاً عن ملكه، وقتل إنساناً.. وجبت جميع ديته على عاقلته، فيقال في هذه وفي التي قبلها: رجل قتل رجلاً بخشبة، فوجب بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة.. لوجبت جميع دية المقتول.
وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع ميزاب على إنسان، فقتله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عليه الضمان.
والثاني: لا ضمان عليه.
والثالث: على عاقلته نصف الدية، من غير تفصيل.
[مسألة اصطدام راكبان أو راجلان]
إذا اصطدم راكبان أو راجلان، فماتا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويسقط النصف، وبه قال مالك، وزفر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (تجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر) . وروي عن علي كرم الله وجهه المذهبان.
دليلنا: أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته لفعل نفسه، ووجب النصف لفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه.(11/465)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وسواء غلبتهما دابتاهما أم لم تغلباهما، أو أخطآ ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى، فاصطدمتا، أو كان أحدهما راجعاً والآخر مقبلاً) .
وجملة ذلك: أنهما إذا غلبتهما دابتاهما، أو لم تغلباهما إلا أنهما أخطآ.. فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مخففة.
وإن قصد الاصطدام.. فلا يكون عمداً محضاً، إنما يكون عمد خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة.
وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة؛ لأنه عمد محض، وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه شارك من فعله غير مضمون.
والأول هو المنصوص؛ لأن الصدمة لا تقتل غالباً، ولو كان كذلك.. لكان في القصاص قولان.
ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلاً والآخر مدبراً؛ لأن الاصطدام قد وجد وإن كان فعل المقبل أقوى. وكذلك: لا فرق بين أن يكونا على فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس والآخر على بغل أو حمار؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما وإن كان فعل أحدهما أقوى من فعل الآخر، كما لو جرح رجل رجلاً جراحات، وجرحه الآخر جراحة، ومات منها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو أحدهما أعمى والآخر بصيراً؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوباً والآخر مستلقياً) .
وقال المزني: إذا وقع أحدهما مكبوباً على وجهه والآخر مستلقياً على ظهره.. فإن القاتل هو المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع دية المستلقي، ولا شيء على عاقلة المستلقي.
والمنصوص هو الأول؛ لأنهما قد اصطدما، ويجوز أن يقع مستلقياً على ظهره من(11/466)
شدة صدمته، ألا ترى أن رجلاً إذا طرح حجراً على حجر.. رجع الحجر إلى خلفه من شدة وقوعه وثبوت الآخر؟ فكذلك هذا مثله.
وإن ماتت الدابتان.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر؛ لأنها تلفت بفعله وفعل صاحبه، ولا تحمله العاقلة؛ لأن العاقلة لا تحمل المال.
وإن كان أحدهما راكباً والآخر ماشياً.. فالحكم فيهما كما لو كانا راكبين أو ماشيين، وإنما يتصور هذا إذا كان الماشي طويلاً والراكب أقصر منه.
[فرع اصطدام صغيرين راكبين وغيرهما]
وإن اصطدم صغيران راكبان.. نظرت:
فإن ركبا بأنفسهما أو أركباهما ولياهما.. فهما كالبالغين؛ لأن للولي أن يركب الصغير ليعلمه.
وإن أركباهما أجنبيان.. فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما؛ لأن كل واحد من المركبين هو الجاني على الذي أركبه وعلى الذي جنى عليه.
وإن كان المصطدمان عبدين، وماتا.. فقد تعلق برقبة كل واحد منهما نصف قيمة الآخر، وقد تلف، فسقط ما تعلق برقبته.
وإن مات أحدهما، وبقي الآخر.. تعلق برقبة الذي لم يمت نصف قيمة الآخر.
وإن كان أحدهما حراً والآخر عبداً.. وجبت نصف قيمة العبد في مال الحر في أحد القولين، وعلى عاقلته في الآخر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وتجب نصف دية الحر في رقبة العبد) . واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: تكون هدراً؛ لأن الرقبة قد فاتت.(11/467)
ومنهم من قال: تتعلق بنصف دية الحر بنصف قيمة العبد؛ لأنهما قائمة مقام الرقبة، كما لو جنى عبد على رجل جناية، ثم قتل الرجل العبد.
فعلى هذا: إن قلنا: إن نصف قيمة العبد تجب على عاقلة الجاني.. تعلقت بها نصف دية الحر، وإن قلنا: تجب في ماله، قال الشيخ أبو حامد: وتساويا.. صار ذلك قصاصاً.
وإن كان نصف القيمة أكثر.. كان الفضل للسيد، وإن كان نصف الدية أكثر.. كانت الزيادة هدراً.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقع قصاصا؛ لأن قيمة العبد تجب من نقد البلد، والدية وإنما تجب من الإبل، إلا إذا أعوزت.. فيصح ذلك.
[فرع اصطدام امرأتين حاملتين]
وإن اصطدمت امرأتان حاملان، فماتتا، ومات جنيناهما.. وجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية الأخرى. وكذلك: يجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية جنينها، ونصف دية جنين الأخرى؛ لأن كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين الأخرى.
وإن خرج جنين إحداهما منها قبل موتها.. لم ترث من ديته؛ لأنها قاتلة له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات؛ لأن كل واحدة منهما قاتلة لنفسها ولجنينها، وقاتلة للأخرى وجنينها، فوجب عليها أربع كفارات.
وإن كان المصطدمتان أمي ولد لرجلين.. فعلى سيد كل واحدة منهما نصف قيمة الأخرى، ويهدر النصف، وإن كانتا حاملين من سيديهما، فسقط الولدان ميتين.. وجب على كل واحد من السيدين نصف الغرة للآخر.(11/468)
وإن لم يكن للجنين وارث سوى السيدين.. تقاصا في الغرة، وإن كان لهما وارث سواهما - ولا يتصور إلا أم أم - فلا يهدر في حقها، وإنما ورثت الجدة هاهنا مع وجود الأم؛ لأنها مملوكة.
قال الطبري في " العدة ": وإن جر رجلان رجلاً، فانقطع الحبل وسقطا.. فهما كالمصطدمين.
[مسألة اصطدما وأحدهما واقف]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فماتا.. فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان واقفاً في موضع، فصدمه آخر، فماتا.. نظرت: فإن دية المصدوم - وهو: الواقف - تجب على عاقلة الصادم؛ لأنه مات بفعله، وتهدر دية الصادم؛ لأن الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، وسواء كان الواقف قائماً، أو قاعداً، أو مضجعا، أو نائماً، وسواء كان بصيراً أو أعمى يمكنه أن يحترز، فلم يفعل، أو لا يمكنه؛ لأن فعل الصادم مضمون. وإن أمكن المصدوم الاحتراز منه، كما لو طلب رجلاً ليقتله، وأمكن المطلوب الاحتراز منه، فلم يفعل حتى قتله، فإن انحرف الواقف، فوافق انحرافه صدمة الصادم، فماتا.. فقد مات كل واحد منهما بفعله وفعل صاحبه، فيكونان كالمتصادمين، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويهدر النصف، ولو صدمه بعدما استقر انحرافه.. كان كما لو لم ينحرف.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن انحرف مولياً، فمات.. فعلى عاقلة الصادم ديته كاملة) .
وصورته: أن يكون وجه الواقف إلى المقبل، فلما رآه.. انحرف مولياً ليتنحى عن طريقه، فأصابه، فمات.. فجميع ديته على عاقلة الصادم؛ لأنه لا فعل له في قتل نفسه، ودية الصادم هدر.(11/469)
وأما إذا كان واقفاً في طريق ضيق للمسلمين.. فعلى عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر؛ أما الصادم: فلأنه قاتل، وأما المصدوم: فلأنه كان السبب في قتل الصادم، وهو وقوفه في الطريق الضيق؛ لأنه ليس له الوقوف هناك.
والفرق بين هذا وبين المتصادمين: أن كل واحد من المتصادمين مات بفعله وفعل صاحبه، وهاهنا كل واحد منهما قاتل لصاحبه منفرد بقتله؛ لأن الصادم انفرد بالإصابة، والمصدوم انفرد بالسبب الذي مات به الصادم.
ومن أصحابنا من قال: ليس على عاقلة المصدوم شيء بحال. والأول أصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذا كان الرجل واقفاً في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (أن دية الصادم هدر، ودية المصدوم - وهو: الواقف - على عاقلة الصادم) . وقال فيمن نام في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (إن دية النائم هدر، ودية الصادم على عاقلة النائم) .
فمن أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من أجراهما على ظاهرهما، وفرق بينهما بأن الإنسان قد يقف في الطريق ليجيب داعياً وما أشبهه، فأما النوم والقعود: فليس له ذلك.
[مسألة اصطدام باخرتين ونحوهما]
وإذا اصطدمت سفينتان، فانكسرتا، وتلف ما فيهما.. فلا يخلو القيمان فيهما: إما أن يكونا مفرطين في الاصطدام، أو غير مفرطين، أو أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط.
فإن كانا مفرطين، بأن أمكنهما ضبطهما والانحراف، فلم يفعلا.. فقد صارا(11/470)
جانيين، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها، ويسقط النصف؛ لأن سفينة كل واحد منهما تلفت بفعله وفعل صاحبه، فسقط ما قابل فعله، ووجب ما قابل فعل صاحبه، كالفارسين إذا تصادما وماتا. وإن كانت السفينتان وما فيهما لغيرهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته، ونصف قيمة ما فيها، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها؛ لأن كل واحدة منهما تلفت بفعلهما، وسواء كانت السفينتان وديعة أو عارية أو بأجرة، وسواء كان المال فيهما وديعة أو قراضاً أو يحمل بأجرة؛ لأن الجميع يضمن بالتفريط.
وإن كان فيهما أحرار، وماتوا، وقصدا الاصطدام، وقال أهل الخبرة: إن مثل ما قصدا إليه وفعلاه يقتل غالباً.. فإنها جناية عمد محض، فقد وجب عليهما القود لجماعة في حالة واحدة، فيقرع بين أولياء المقتولين، فإذا خرجت عليهما القرعة لواحد.. قتلا بواحد، ووجب للباقين الدية في أموالهما. وإن قالوا: لا يقتل مثله غالباً، أو لم يقصدا الاصطدام، وإنما فرطا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب السفينتين.
وإن كان فيهما عبيد.. وجبت قيمتهم عليهما.
وأما إذا لم يفرط القيمان: مثل: أن اشتدت الريح، واضطربت الأمواج، فلم يمكنهما إمساكهما لطرح الأنجر، ولا بأن يعدل إحداهما عن سمت الأخرى حتى اصطدمتا وهلكتا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليهما الضمان؛ لأنهما في أيديهما، فما تولد من ذلك.. كان عليهما ضمانه، وإن لم يفرطا.. كانا كالفارسين إذا تصادما، وغلبهما الفرسان. ولأن كل من ابتدأ الفعل منه.. فإنه يضمن ذلك الفعل إذا صار جناية وإن كان بمعونة غيره، كما لو رمى سهماً إلى غرض، فحمل الريح السهم إلى إنسان، وقتله.(11/471)
والثاني: لا ضمان عليهما؛ لأنه لا فعل لهما، ابتداء ولا انتهاء، وإنما ذلك بفعل الريح، فهو كما لو نزلت صاعقة، فأحرقت السفينتين.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن للقيم فعل، لا ابتداء ولا انتهاء، وهو في المراكب التي ينصب القيم الشراع، ويمد الحبال، ويقيمه نحو الريح، حتى إذا هبت الريح.. دفعه، فأما السفن الصغار التي تدفع بالمجذاف: فإنه يجب الضمان، قولا واحداً؛ لأن ابتداء الفعل منهما.
ومنهم من قال: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانتا واقفتين، أو لم يسيراهما، فجاءت الريح، فغلبتهما، فأما إذا سيرا، فغلبتهما الريح.. فيجب الضمان، قولاً واحداً. ولم يفرق بين السفن التي تسير بنصب الشراع ومد الحبال، وبين السفن الصغار التي تسير بالمجذاف.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، سواء كانتا واقفتين، أو سيراهما، وسواء كانتا تسيران بنصب الشراع أو بالمجذاف؛ لأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والسفينة لا يمكنه أن يسيرها سيراً لا تغلبه الريح عليها.
فإذا قلنا: يجب عليهما الضمان.. فالحكم فيهما هاهنا كالحكم إذا فرطا، إلا في القصاص، فإنه لا يجب هاهنا، وإنما تجب لركاب السفينة دية مخففة على عاقلتهما نصفان.
وإن قلنا: لا يجب الضمان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. فلا يجب عليهما الضمان. وكذلك: إذا كانت السفينتان معهما وديعة، والمال الذي فيهما قراضاً معهما.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يفرطا.
وإن استأجرا السفينتين، والمال الذي فيهما حملاه بأجرة.. فلا ضمان عليهما في(11/472)
السفينتين، وأما المال، فإن كان رب المال معه.. لم يضمنه الأجير؛ لأن يد صاحبه عليه، وإن لم يكن رب المال معه.. فعلى قولين؛ لأنه أجير مشترك. وكذلك: إن كان قد استؤجر على القيام بالسفينتين وما فيهما.. فهما أجيران مشتركان. فإن كان رب السفينة والمال معه.. فلا ضمان، وإن لم يكن معه.. فعلى القولين.
وإن كان أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط.. قال الشيخ أبو حامد: فإن المفرط جان، والآخر غير جان.
فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. كان على المفرط قيمة سفينة صاحبه وما فيها؛ لأنها تلفت بفعله، وأما سفينته وما فيها: فلا يرجع به على أحد؛ لأنهما هلكتا بفعله.
وإن كانتا وما فيهما لغيرهما.. فإن على المفرط قيمة سفينته وقيمة ما فيها، وعليه قيمة سفينة صاحبه وقيمة ما فيها، ولصاحب السفينة التي لم يفرط قيمها أن يطالب المفرط بذلك.
وإن أراد أن يطالب القيم الذي لم يفرط، فإن قلنا: إن القيم يضمن وإن لم يفرط.. فهاهنا له أن يضمنه، ثم يرجع الذي لم يفرط بما غرمه على المفرط.
وإن قلنا: إن القيم لا يضمن إذا لم يفرط، فإن كانت السفينة التي معه وديعة، أو المال معه قراضاً.. فلا ضمان عليه، وإن كان ذلك بيده استؤجر على حمله.. فهو أجير مشترك.
وإن لم يكن صاحبه معه، فإن قلنا: لا يضمن.. لم يكن له مطالبته، وإن قلنا: يضمن.. فله مطالبته، ثم يرجع هو بما غرمه على المفرط.
فإن انكسرت إحداهما دون الأخرى.. فالحكم في المنكسرة كما إذا انكسرتا.(11/473)
[فرع صدمت سفينة من غير تعمد]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم.. لم يضمن شيئاً مما في سفينته بحال) . واختلف أصحابنا في صورتها:
فمنهم من قال: صورتها: أن يكون القيم قد عدل سفينته إلى الشط، وربطها، وطرح الأنجر، فجاءت سفينة أخرى فصدمتها، فتلفت وما فيها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا فعل له يلزمه به الضمان.
وهذا القائل يقول قول الشافعي: (صدمت سفينة) إنما هو بضم الصاد: فعل ما لم يسم فاعله.
ومنهم من قال: صورتها: إذا لم يكن منه تفريط. وأجاب بأحد القولين، وهو الأصح؛ لأنه قال: صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم، ولا يقال ذلك للمصدوم، وإنما يقال مثله للصادم.
[مسألة ثقلت السفينة فألقوا المتاع]
إذا كان قوم في سفينة وفيها متاع، فثقلت السفينة من المتاع، ونزلت في الماء، وخافوا الغرق، فإن ألقى بعضهم متاعه في البحر في الماء لتخف السفينة ويسلموا.. لم يرجع به على أحد؛ لأنه أتلف ماله باختياره من غير أن يضمن له غيره عوضاً، فهو كما لو أعتق عبده.
وإن طرح مالاً لغيره بغير إذنه لتخف السفينة.. وجب عليه ضمانه؛ لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه، فوجب عليه ضمانه كما لو حرق ثوبه.
وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر، ولم يضمن له عوضاً، فألقاه.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب على الذي أمره بالإلقاء ضمانه؟ فيه وجهان،(11/474)
كما قلنا فيه إذا قال لغيره: اقض عني ديني، ولم يضمن له عوضاً.
وقال سائر أصحابنا: لا يلزمه ضمانه، وهو المنصوص؛ لأنه لم يضمن له بدله، فلم يلزمه، كما لو قال: أعتق عبدك، فأعتقه.
والفرق بينه وبين قضاء الدين: أن قضاء الدين يتحقق نفعه للطالب؛ لأن ذمته تبرأ بالقضاء، وهاهنا لا يتحقق النفع بذلك، بل يجوز أن يسلموا، ويجوز أن لا يسلموا.
وإن قال له: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو على أني أضمن لك قيمته، فألقاه.. وجب على الطالب ضمانه، وهو قول الفقهاء كافة، إلا أبا ثور، فإنه قال (لا يلزمه؛ لأنه ضمان ما لم يجب) . وهذا خطأ؛ لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: أعتق عبدك وعلي قيمته، أو طلق امرأتك وعلي ألف.
[فرع طلب إلقاء المتاع في البحر وعلى الركاب ضمانه]
وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي وعلى ركاب السفينه ضمانه، فألقاه.. وجب على الطالب حصته، فإن كانوا عشرة.. لزمه ضمان عشره.
وإن قال: ألق متاعك على أن أضمنه وكل واحد من ركاب السفينة، فألقاه. وجب على الطالب ضمان جميعه؛ لأنه شرط أن يكون كل واحد منهم ضامناً له.
وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه وقد أذنوا لي في ذلك؛ فإن صدقوه.. لزم كل واحد منهم بحصته، وإن أنكروا.. حلفوا، ولزم الطالب ضمان جميعه.
وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، وعلي تحصيله منهم، فألقاه.. وجب على الطالب ضمان جميعه.(11/475)
وإن قال صاحب المتاع للآخر: ألق متاعي وعليك ضمانه، فقال: نعم، فألقاه.. وجب عليه ضمانه؛ لأن ذلك بمنزلة الاستدعاء منه.
وإن قال له: ألق متاعك وعلي نصف قيمته، وعلى فلان ثلثه، وعلى فلان سدسه، فألقاه، فإن صدقه الآخران أنهما أذنا للطالب في ذلك.. لزمه نصف قيمته، ولزم الآخرين النصف، وإن أنكر الآخران.. حلفا، ووجب الجميع على الطالب، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه.. لم يكن مأثوماً، ووجب عليه ضمانه، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه الطالب.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم الملقي إلا بحصته؛ لأنه قدر ما ضمن.
والثاني: يلزمه الجميع؛ لأنه باشر الإتلاف.
وإن قال لغيره: ألق متاع فلان وأنا ضامن لك لو طالبك.. لم يصح هذا الضمان، ويلزم الضمان على الملقي؛ لأنه هو المباشر.
[فرع خرق السفينة فغرقت]
وإن خرق رجل السفينة، فغرق ما فيها، فإن كان مالاً.. لزمه ضمانه، سواء خرقها عمداً أو خطأ؛ لأن المال يضمن بالعمد والخطأ.
وإن كان فيها أحرار فغرقوا وماتوا، فإن كان عامداً، مثل: أن يقلع منها لوحاً يغرق مثلها من قلعه في الغالب.. وجب عليه القود بهم، فيقتل بأحدهم، وتجب للباقين الدية في ماله.
وإن كان مخطئاً، بأن سقط من يده حجر أو فأس، فخرق موضعاً فيها، فغرقوا.. كان على عاقلته دياتهم مخففة.
وإن كان عمد خطأ، مثل: أن كان فيها ثقب، فأراد إصلاحه، فانخرق عليه.. كان على عاقلته دياتهم مغلظة.(11/476)
[مسألة رموا بالمنجنيق ونحوه]
إذا رمى عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق، فأصابوا رجلاً من غيرهم، فقتلوه.. فقد اشتركوا في قتله، فإن لم يقصدوا بالرمي أحداً.. وجبت ديته مخففة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وإن كانوا قصدوه بالرمي، فأصابوه.. لم يكن عمداً محضاً؛ لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وإنما يتفق وقوعه ممن وقع به، فتجب ديته مغلظة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها.
وإن رجع المنجنيق على أحدهم، فقتله.. سقط من ديته العشر، ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشر ديته؛ لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما يقابل فعله، ووجب ما يقابل فعلهم، وإنما تجب الدية على من مد منهم الحبال ورمى بالحجر، فأما من أمسك خشب المنجنيق إن احتاج إلى ذلك، ووضع الحجر في الكفة، ثم تنحى.. فلا شيء عليه؛ لأنه صاحب سبب، والمباشر غيره، فتعلق الحكم بالمباشر.
[مسألة وقع في بئر أو حفرة ثم وقع آخر فوقه]
إذا وقع رجل في بئر أو زبية، فوقع عليه آخر، فمات الأول.. وجب ضمان الأول على الثاني؛ لما روي: (أن بصيراً كان يقود أعمى، فوقعا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بعقل البصير على الأعمى) ؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ثم ينظر فيه:(11/477)
فإن كان الثاني رمى بنفسه عليه عمداً، وكان وقوعه عليه يقتله في الغالب.. وجب على الثاني القود، وإن رمى بنفسه عليه، وكان وقوعه عليه لا يقتله غالباً.. وجبت فيه دية مغلظة على عاقلة الثاني.
وإن وقع عليه مخطئاً.. وجبت على عاقلته دية مخففة، وتهدر دية الثاني بكل حال؛ لأنه لم يمت بفعل أحد.
وإن وقع الأول، ووقع عليه ثان، ووقع فوقهما ثالث، وماتوا.. قال ابن الصباغ: فقد ذكر الشيخ أبو حامد: أن ضمان الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، وضمان الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ويهدر دم الثالث؛ لأنه لم يمت بفعل أحد.
وذكر القاضي أبو الطيب: أن الثالث يضمن نصف دية الثاني، ويهدر النصف؛ لأن الثاني تلف بوقوعه على الأول وبوقوع الثالث عليه.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوعه على غيره سبب في تلفه، كوقوع غيره عليه.
قال ابن الصباغ: فعلى قياس هذا: إذا وقع على الأول ثان، وماتا.. أن تهدر نصف دية الأول؛ لأنه مات بوقوعه وبوقوع الثاني عليه.
وإن وقع رجل في بئر، وجذب ثانياً، وماتا.. هدرت دية الأول؛ لأنه مات بجذبه الثاني على نفسه، ووجبت دية الثاني على الأول؛ لأنه مات بجذبه.
وإن جذب الأول ثانياً، وجذب الثاني ثالثاً، وماتوا.. فقد مات الأول بفعله، وهو: جذبه للثاني على نفسه، وبفعل الثاني؛ وهو: جذب الثالث، فسقط نصف دية(11/478)
الأول، ويجب نصفها على الثاني، ويجب للثاني نصف ديته على الأول، ويسقط نصفها؛ لأنه مات بجذب الأول له وبجذبه للثالث على نفسه، ويجب للثالث جميع ديته؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه. وعلى من تجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب على الثاني؛ لأنه جذبه.
والثاني: تجب على الأول والثاني نصفين؛ لأن الأول جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، فكأن الثالث مات بجذبهما.
فإن كانت بحالها، وجذب الثالث رابعاً، وماتوا.. فقد حصل هاهنا ثلاث جذبات:
فأما الأول: فقد مات بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث، فسقط ثلث الدية، لأنه جذب الثاني على نفسه، وتجب على الثاني ثلث الدية لجذبه الثالث عليه، وعلى الثالث ثلث الدية لجذبه الرابع عليه.
وأما الثاني: فقد مات بفعله وفعل الأول وفعل الثالث، فيجب له على الأول ثلث الدية وعلى الثالث ثلث الدية، ويسقط الثلث.
وأما الثالث: ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط من ديته النصف، ويجب له على الثاني النصف؛ لأنه مات بفعله، وهو: جذبه الرابع، فسقط النصف لذلك، وبفعل الثاني، وهو: جذبه له.
والثاني: يسقط من ديته الثلث؛ لأنه مات بثلاثة أفعال، بجذبه للرابع، وبجذب الثاني له، وبجذب الأول للثاني، فيجب له على الأول ثلث الدية، وعلى الثاني ثلثا الدية.
وأما الرابع: فيجب له جميع الدية؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه.. وعلى من تجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب على الثالث؛ لأنه هو الذي جذبه.(11/479)
والثاني: تجب على الأول والثاني والثالث أثلاثاً؛ لأن وقوعه حصل بالجذبات.
فإن قيل: فقد روى سماك بن حرب، «عن حنش بن المعتمر الصنعاني: أن قوماً باليمن حفروا زبية ليصطادوا بها الأسد، فوقع فيها الأسد، فاجتمع الناس على رأسها يبصرونه، فتردى رجل فيها فتعلق بثان، وتعلق الثاني بثالث، وتعلق الثالث برابع، فوقعوا فيها، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقضى للأول بربع الدية؛ لأن فوقه ثلاثة، وقضى للثاني بثلث الدية؛ لأن فوقه اثنين، وللثالث بنصف الدية؛ لأن فوقه واحداً، وللرابع بكمال الدية. فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: هو كما قضى»
قال أصحابنا: هذا حديث لا يثبته أهل النقل؛ لأن حنش بن المعتمر ضعيف، والفقه ما قدمناه
[فرع حفر بئراً من غير حق]
وإن حفر رجل بئراً في موضع ليس له الحفر فيه، فتردى فيها رجل وجذب آخر فوقه، وماتا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: يجب للأول على الحافر نصف الدية، ويهدر النصف؛ لأنه مات بسببين: حفر البئر وجذبه للثاني على نفسه، فانقسمت الدية عليهما، وسقط ما قابل فعله.
والثاني: حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي عبد الله الجويني -: أنه لا يجب له شيء على الحافر؛ لأن جذبه للثاني على نفسه مباشرة، والحفر سبب، وحكم السبب يسقط بالمباشرة.
قال الطبري: والأول أصح؛ لأن الجذب سبب أيضاً؛ لأنه لم يقصد به إلقاءه على نفسه، وإنما قصد به التحرز من الوقوع، فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر.
وبالله التوفيق(11/480)
[باب الديات]
دية الحر المسلم مائة من الإبل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم: «وفي النفس مائة من الإبل» . وهو إجماع.
فإن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد.. وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة - و (الخلفة) : الحامل - وبه قال عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعطاء، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (تجب أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) .
وقال أبو ثور: (دية شبه العمد مخففة، كدية الخطأ) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم فتح مكة: «ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» .
وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في الدية العظمى مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» .(11/481)
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (دية شبه العمد ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة) .
فإن قيل: فما معنى قوله: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وقد علم أن الخلفة لا تكون إلا حاملاً؟ قلنا: له تأويلان:
أحدهما: أنه أراد التأكيد في الكلام، وذلك جائز، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] (البقرة: 196) .
والثاني: أن الخلفة اسم للحامل التي لم تضع، واسم للتي وضعت ويتبعها ولدها، فأراد أن يميز بينهما.
إذا ثبت هذا: فهل تختص الخلفة بسن أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تختص بسن، بل إذا كانت حاملاً.. فبأي سن كانت جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» . ولم يفرق.
والثاني: تختص بسن، وهو: أن تكون ثنية فما فوقها؛ لما روى عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ألا إن في قتيل شبه العمد بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها» . ومراسيل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حجة؛ لأنهم أتقياء لا يتهمون.(11/482)
وروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (ألا إن في قتيل شبه العمد مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ولأنه أحد أنواع إبل الدية، فاختص بسن، كالحقاق والجذاع.
[مسألة دية جناية الخطأ]
وإن كانت الجناية خطأ، ولم يكن القتل في الحرم ولا في الأشهر الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل.. فإن الدية تكون مخففة أخماساً، وهي: مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وبه قال من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: مالك، وربيعة، والليث، والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (هي أخماس، إلا أنه يجب مكان بني لبون عشرون ابن مخاض) .
وروي عن عثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (تجب من أربعة أنواع: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض) .(11/483)
وقال الشعبي، والحسن البصري: تجب أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض. وروي مثل ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
دليلنا: ما روى مجاهد، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بدية الخطأ مائة من الإبل: عشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بنت لبون، وعشرين ابن لبون، وعشرين بنت مخاض» . وقد روي ذلك موقوفاً على ابن مسعود.
وروي عن سليمان بن يسار: أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ، مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
وإن كان قتل الخطأ في الحرم، أو في الأشهر الحرم - وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم - أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل.. كانت دية الخطأ مغلظة كدية العمد، فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وبه(11/484)
قال عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وروي عن طائفة: أنها قالت: لا تتغلظ بحال. وبه قال الشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - غلظوا دية الخطأ في هذه المواضع الثلاثة. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (من قتل في الحرم، أو في الشهر الحرام، أو ذا رحم محرم.. فعليه دية وثلث) .
وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (أن امرأة وطئت في الطواف، فماتت، فقضى أن ديتها ستة آلاف، وألفا درهم للحرم) .
وروى ابن جبير: أن رجلاً قتل رجلاً في البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (ديته اثنا عشر ألف درهم، وأربعة آلاف تغليظاً للشهر الحرام، وأربعة آلاف للبلد الحرام، فكلها عشرون ألفاً) . ولا مخالف لهم في(11/485)
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
وإن قتل خطأ في حرم المدينة.. فهل تغلظ الدية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تتغلظ؛ لأنه كالحرم في تحريم الصيد، فكان كالحرم في تغليظ دية الخطأ فيه.
والثاني: لا تغلظ، وهو الأصح؛ لأنه دون الحرم في الحرمة؛ بدليل: أنه يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلحق به في الحرمة في تغليظ الدية.
وإن قتل محرماً خطأ.. فهل تغلظ ديته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تغلظ، كما تغلظ في القتل في الحرم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإحرام يتعلق به ضمان الصيد، فغلظت به الدية، كالحرم.
والثاني: لا تغلظ به؛ لأن الشرع ورد بتغليظ القتل في الحرم دون الإحرام، بدليل: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعتى الناس على الله ثلاثة: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله، ورجل قتل بذحل الجاهلية» والإحرام لا يلحق الحرم في الحرمة.
إذا ثبت هذا: فإن تغليظ دية الخطأ عندنا بالحرم أو في الأشهر الحرم، أو إذا قتل ذا رحم محرم إنما هو بأسنان الإبل، كما قلنا في دية العمد، ولا يجمع بين تغليظين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تغلظ بثلث الدية، ويجمع ما بين تغليظين) ؛ لما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ودليلنا على أنه لا تغلظ إلا بالأسنان: أن من أوجب التغليظ في دية القتل.. أوجبه بالأسنان، كدية العمد.
ودليلنا على أنه لا يجمع بين تغليظين: أن من أوجب التغليظ.. أوجبه في الضمان(11/486)
إذا اجتمع سببان يقتضيان التغليظ لم يجمع بينهما، كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم.. فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد.
وأما ما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بالدية وثلث الدية في ذلك، وجمعوا بين تغليظين.. فمحمول على أنهم قضوا بدية مغلظة بالأسنان، إلا أنها قومت، فبلغت قيمتها دية وثلثاً من دية مخففة، أو كانت الإبل قد أعوزت، فأوجبوا قيمة الإبل، فبلغت قيمتها ذلك.
[فرع قتل الصغير والمجنون عمداً]
ً] : وإن قتل الصبي أو المجنون عمداً، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. وجب بقتلهما دية مغلظة، وإن قلنا: عمدهما خطأ.. وجب بقتلهما دية مخففة.
وإن كانت الجناية على ما دون النفس.. كان الحكم في التغليظ بديتها حكم دية النفس، قياساً على دية النفس.
[مسألة يؤخذ من العاقلة من إبلهم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكلف أحداً من العاقلة غير إبله، ولا نقبل منه دونها) .
وجملة ذلك: أنه قد مضى الكلام في قدر الدية وجنسها وأسنانها.
وأما نوعها: فإن كان للعاقلة إبل.. وجب عليهم من النوع الذي معهم من الإبل؛ لأن العاقلة تحمل الدية على طريق المواساة، فكان الواجب من النوع الذي يملكونه، كما قلنا في الزكاة.
فإن طلب الولي أغلى مما مع العاقلة من النوع، وامتنعت العاقلة، أو طلبت العاقلة أن يدفعوا من نوع دون النوع الذي معها، وامتنع الولي.. لم يجبر الممتنع منهما، كما قلنا في الزكاة.
فإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي، وعند البعض من العراب.. أخذ من كل(11/487)
واحد من النوع الذي عنده، كما قلنا في الزكاة: أنه يجب على كل إنسان مما عنده من النوع.
وإن كان في ملك واحد منهم نوعان من الإبل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ منه من النوع الأكثر، فإن استويا.. دفع من أيهما شاء.
والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه، بناء على القولين في الزكاة إذا كان عنده نوعان من جنس من الماشية.
وإن كانت إبلهم أو إبل بعضهم مراضاً بجرب أو غيره، أو مهزولة هزالاً فاحشاً.. لم يجبر الولي على قبولها، بل يكلف أن يسلم إبلا صحاحاً من النوع الذي عنده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس مائة من الإبل» . وإطلاق هذا يقتضي الصحيح.
فإن قيل: هلا قلتم: يجبر الولي على قبول ما عند من عليه الدية وإن كانت مراضاً، كما قلنا في الزكاة؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الواجب في الزكاة هو واجب في عين المال الذي عنده أو في ذمته والمال مرتهن به؛ فلذلك وجب مما عنده، وليس كذلك هاهنا، فإن الواجب على كل واحد منهم هو من النقد في الذمة والمال غير مرتهن به، وإنما الإبل عوض منه، فلم نقبل منه إلا السليم.
فإن لم يكن للعاقلة إبل، فإن كان في البلد نتاج غالب.. وجب عليهم التسليم من ذلك النتاج، وإن لم يكن في البلد إبل.. وجب من غالب نتاج أقرب البلاد إليهم، كما قلنا في زكاة الفطر.
[فرع دفع العوض بدل الإبل مع وجودها]
فإن أرادت العاقلة أن تدفع عوضاً عن الإبل مع وجودها.. لم يجبر الولي على قبولها.
وكذلك: إن طالب من له الدية عوض الإبل.. لم تجبر العاقلة على دفعه؛ لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل.. لم يجبر على غيره، كذوات الأمثال.(11/488)
فإن تراضيا على ذلك.. قال أصحابنا: جاز ذلك؛ لأنه حق مستقر، فجاز أخذ البدل عنه، كبدل المتلفات. والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يجوز على القول الذي يقول: يجوز الصلح على إبل الدية وبيعها في الذمة.
[فرع وجوب الدية على الجاني يثبت أخذ ما عنده]
وإن كانت الدية تجب على الجاني، بأن كانت الجناية عمداً، أو خطأ ثبت بإقراره.. فإن الواجب عليه من النوع الذي عنده، قياساً على العاقلة.
والحكم فيه إذا كان عنده نوعان أو كانت إبله مراضاً في أخذ العوض عنها.. حكم الإبل إذا كانت واجبة على العاقلة، على ما مضى.
[مسألة فقدان الإبل في مكان وجوب الدية]
وإن أعوزت الإبل، فلم توجد في تلك الناحية، أو وجدت بأكثر من قيمتها.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يعدل إلى بدل مقدر، فتجب على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم) . وبه قال مالك رحمة الله عليه؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية بألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم» .
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا قتل رجلا، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألف درهم» .(11/489)
وروي: (أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جاناً في بيتها - وهي: الحية الصغيرة - فقيل لها في منامها: قتلت رجلاً مسلماً جاء يستمع القرآن؟ فقالت: لو كان مسلماً.. ما دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقيل لها: دخل عليك وأنت في ثيابك، فأخبرت بذلك أباها، فقال لها: تصدقي دية مسلم، اثني عشر ألف درهم) .
وروي: عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لأن أقعد بعد العصر فأذكر الله إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبة من ولد إسماعيل ديتها اثنا عشر ألف درهم) .
فعلى هذا: تكون الدية ثلاثة أصول عند إعواز الإبل.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب قيمة الإبل من نقد البلد، بالغة ما بلغت) ؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه قال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة دينار - وروي: ثمانية آلاف درهم - فكانت كذلك إلى أن(11/490)
استخلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فغلت الإبل، فصعد المنبر خطيباً، وقال ألا إن الإبل قد غلت، ففرض الدية: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم»
فموضع الدليل من الخبر: أنه قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا، فدل على: أن الواجب هو الإبل.
ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (ألا إن الإبل قد غلت) ، وفرض عليهم ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، فتعلق بغلاء الإبل، فدل على: أن ذلك من طريق القيمة؛ لأن ما وجبت قيمته اختلف بالزيادة والنقصان، ولم يخالفه أحد من الصحابة.
وما روي من الأخبار للأول.. فنحمله على أن ذلك من طريق القيمة.
فعلى هذا: لا يكون للدية إلا أصل واحد، وهي الإبل، فإن كانت الدية مغلظة وأعوزت الإبل، فإن قلنا بقوله الجديد.. قومت مغلظة ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وإن قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
أحدهما: تغلظ بثلث الدية، ولم يذكر في " المهذب " غيره؛ لما ذكرناه عن عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
والثاني: يسقط التغليظ؛ لأن التغليظ عندنا إنما هو بالصفة في الأصل لا بالزيادة في العدد، وذلك إنما يمكن في الإبل دون النقد، ألا ترى أن العبد لما لم يجب فيه إلا القيمة لم يجب فيه التغليظ؟ وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. فقد ذكرنا: أنما ذلك هو قيمة ما أوجبوه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (الواجب في الدية ثلاثة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. فيجوز له أن يدفع أيها شاء مع وجود الإبل ومع إعوازها) .(11/491)
وقال الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (للدية ستة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو مئتا حلة) . إلا أن أبا يوسف، ومحمداً يقولان: هو مخير بين الستة، أيها شاء.. دفع مع وجود الإبل ومع عدمها. وعند الباقين: لا يجوز العدول عن الإبل مع وجودها.
دليلنا: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض، والسنن، وأن في النفس مائة من الإبل» .
وروي: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا في قتيل العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل» . وهذا يدل على: أنه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها.
[مسألة دية الذمي]
ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، وبه قال عمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب، وعطاء، وإسحاق.
وقال عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ديته نصف دية المسلم) .
وقال الثوري:، وأبو حنيفة وأصحابه: (ديته مثل دية المسلم) . وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن قتله خطأ.. فديته مثل نصف دية المسلم، وإن قتله عمداً.. فديته مثل دية المسلم) .
دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم» .(11/492)
[فرع دية المجوسي]
ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (ديته مثل دية المسلم) .
وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ديته مثل دية اليهودي والنصراني، وهو نصف دية المسلم عنده.
دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المجوسي ثمانمائة درهم، ثلثا عشر دية المسلم) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فدل على: أنه إجماع.
وأما عبدة الأوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة، أو دخلوا إلينا بأمان فلا يجوز قتلهم، فمن قتل منهم.. وجبت فيه دية المجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، فكانت ديته ثلثي عشر دية المسلم، كالمجوسي.
وأما الكافر الذي لم تبلغه الدعوة، وهو: أنه لا يعلم أن الله بعث رسولاً يقال له: محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أظهر المعجزات، ويدعو إلى عبادة الله، فإن وجد ذلك.. فلا يجوز قتله حتى يعرف أن هاهنا رسولاً يدعو إلى الله، فإن أسلم، وإلا..(11/493)
قتل، فإن قتله قاتل قبل أن تبلغه الدعوة.. وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه) .
دليلنا: أنه قتل محقون الدم، فوجبت فيه الدية، كالذمي.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في قدر ديته:
فمنهم من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة.
ومنهم من قال: إن كان متمسكاً بدين مبدل.. وجبت فيه دية أهل ذلك الدين، مثل: أن يكون متمسكاً بدين من بدل من اليهود والنصارى. وإن كان متمسكاً بدين من لم يبدل منهم.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم لم تظهر منه عبادة.
ومنهم من قال: تجب فيه دية المجوسي؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فيه، وهذا هو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (هو كافر لا يحل قتله، وإذا كان كافراً.. وجبت فيه أقل دياتهم؛ لأنه اليقين) .
وإن قطع يد ذمي، ثم أسلم، ومات من الجراحة.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار.
وإن قطع مسلم يد مرتد، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. لم يضمن القاطع دية النفس، ولا دية اليد.
وقال الربيع: فيه قولا آخر: أنه يضمن دية اليد.
والمذهب الأول؛ لأنه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه الربيع من تخريجه.
[مسألة دية المرأة]
ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول كافة العلماء، إلا الأصم، وابن علية، فإنهما قالا: ديتها مثل دية الرجل.(11/494)
دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ودية المرأة نصف دية الرجل» .
وروي: عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المرأة نصف دية الرجل) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع.
وإن قتل خنثى مشكلاً.. وجبت فيه دية امرأة؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فهي، فلا تجب بالشك.
[مسألة في الجنين غرة عبد]
واذا ضرب ضارب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً حراً.. ففيه غرة عبد أو أمة. قيل: بإضافة الغرة إلى العبد، وقيل: بتنوين الغرة والصفة.(11/495)
والأصل فيه: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بعمود، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال أحد الرجلين: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك يطل؟ - وقد قيل: (يطل) أي: يهدر - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سجع كسجع الأعراب "، وقضى بدية المقتولة على عصبة القاتلة، وقضى بغرة عبد أو أمة لما في جوفها» .
وروي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: «أذكر الله امرأ سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين شيئاً، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني: زوجتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في جوفها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة عبد أو أمة» .
قال أبو عبيد: و (المسطح) : عود من عيدان الخباء.
وقال النضر بن شميل: هو الخشبة التي يرقق بها الخبز.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى، ولأنا لو قلنا: تختلف ديتهما.. لأدى ذلك إلى الاختلاف والتنازع؛ لأنه قد يخفى ويتعذر، وقد يخرج متقطعاً، فسوى بين الذكر والأنثى قطعاً للخصومة والتنازع.
[فرع من تجب فيه الغرة]
والجنين الذي تجب فيه الغرة هو: أن يسقط جنيناً بان فيه شيء من صورة الآدمي، إما يد أو رجل أو عين.
وكذلك: إذا أسقطت مضغة لم يتبين فيها عضو من أعضاء الآدمي، ولكن قال(11/496)
أربع نسوة من القوابل الثقات: فيها تخطيط الآدمي، إلا أنه خفي.. فتجب فيه المغرة؛ لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهم.
وإن قلن: لم يتخطط إلى الآن، ولكنه مبتدأ خلق آدمي، ولو بقي.. لتخطط، فهل تجب به الغرة والكفارة، وتنقضي به العدة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في الجميع قولان.
ومنهم من قال: تنقضي به العدة، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، قولاً واحداً، وقد مضى ذلك.
وإن قلنا: هذه مضغة تصلح للآدمي ولغيره، ولا ندري لو بقيت.. هل تتخطط، أم لا؟ فلا تجب به الغرة والكفارة، ولا تنقضي به العدة؛ لأن الأصل براءة الذمة من الضمان وثبوت العدة.
وإن ألقت المرأة جنينين.. وجبت عليه غرتان، وإن ألقت ثلاثة.. وجب عليه ثلاث غرر، وإن ألقت رأسين أو أربع أيد.. لم تجب فيه إلا غرة؛ لأنه قد يكون جسدا واحداً له رأسان أو أربع أيد، فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك.
[فرع ضرب منتفخة بطن]
وأما إذا ضرب بطن امرأة منتفخة البطن، فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة تجد حركة، فسكنت الحركة.. لم يجب عليه شيء.
وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ولم يخرج الجنين.. لم يجب عليه ضمان الجنين.
وقال الزهري: إذا سكنت الحركة التي تجد في بطنها.. وجب عليه ضمان الجنين.
دليلنا: أنا إنما نحكم بوجود الحمل في الظاهر، وإنما نتحققه بالخروج، فإذا لم يخرج.. لم نتحقق أن هناك حملاً، بل يجوز أن يكون ريحاً فينفش، فلا يلزمه الضمان بالشك.(11/497)
[فرع ضرب حاملاً فماتت ثم خرج حملها]
وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ثم خرج الجنين منها بعد موتها.. ضمن الأم بديتها، وضمن الجنين بالغرة.
وقال أبو حنيفة: (لا يضمن الجنين) .
ودليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة» . ولم يفرق بين أن يخرج قبل موت أمه أو بعده.
ولأن كل حمل كان مضموناً إذا خرج قبل موت الأم.. كان مضموناً إذا خرج بعد موتها، كما لو ولدته حياً.
وإن ضرب بطنها، فأخرج الجنين رأسه، وماتت، ولم يخرج الباقي.. وجب عليه ضمان الجنين.
وقال مالك: (لا يجب عليه شيء) .
دليلنا: أن بظهور الرأس تحققنا أن هناك جنيناً، والظاهر أنه مات من ضربه، فوجب عليه ضمانه.
[فرع ضرب امرأة فخرج جنين وصرخ ومات]
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، فصرخ، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة، سواء ولدته لستة أشهر أو لما دونها.
فإن لم يصرخ ولكن تنفس أو شرب اللبن، أو علمت حياته بشيء من ذلك، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة.
وقال المزني: إن ولدته حياً لدون ستة أشهر.. لم تجب فيه دية كاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأنه لا يتم له حياة لما دون ستة أشهر.
وقال مالك، والزهري رحمهما الله: (إذا لم يستهل بالصراخ.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة) .(11/498)
دليلنا: أنا قد تحققنا حياته، فوجب فيه دية كاملة، كما لو ولدته لستة أشهر عند المزني، وكما لو استهل صارخاً عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو ضرب بطنها، فألقت جنيناً وفيه حياة مستقرة، ثم جاء آخر وقتله.. فالقاتل هو الثاني، فيجب عليه القود إن كان مكافئاً، أو الدية الكاملة.
وأما الأول: فلا يجب عليه إلا التعزير بالضرب لا غير؛ لأنه لم يمت من ضربه.
وإن ضرب بطنها، فألقت جنيناً، فلم يستهل ولا تنفس ولا تحرك حركة تدل على حياته، ولكنه اختلج.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأن هذا الاختلاج لا يدل على حياته؛ لأن اللحم إذا عصر، ثم ترك.. اختلج، ويجوز أن يكون اختلاجه لخروجه من موضع ضيق.
[فرع ضرب حاملاً فألقت يداً ثم جنينا ناقصاً]
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم أسقطت بعد ذلك جنيناً ناقص يد.. نظرت:
فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت الجنين، فإن ألقته ميتاً.. وجبت فيه الغرة، ويدخل فيها اليد؛ لأن الظاهر أن الضرب قطع يده، وإن ألقته حياً، ثم مات عقيب الوضع، أو بقي متألماً إلى أن مات.. ففيه دية كاملة، وتدخل فيها دية اليد.
وإن خرج الجنين حياً وعاش.. لم يجب عليه في الجنين شيء، ووجب عليه ضمان اليد، فتعرض اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيها نص الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. وجب فيها نصف دية كاملة.
وأما إذا سقطت اليد، ثم زال ألم الضرب، ثم ألقت الجنين.. ضمن اليد دون الجنين؛ لأنه بمنزلة من قطع يد رجل، ثم اندملت، فإن خرج الجنين ميتاً.. وجب في اليد نصف الغرة.(11/499)
وإن خرج حياً، ثم مات أو عاش.. عرضت اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيه نصف الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. كان فيها نصف الدية.
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم ماتت الأم ولم يخرج الباقي.. وجبت دية الأم، ووجبت في الجنين الغرة؛ لأن الظاهر أنه جنى على الجنين، فأبان يده، ومات من ذلك.
[مسألة سن الغرة فوق سبع أو ثمان]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولمن وجبت له الغرة أن لا يقبلها دون سبع سنين أو ثمان سنين؛ لأنها لا تستغني بنفسها) .
وجملة ذلك: أن أقل سن الغرة التي يلزم ورثة الجنين قبولها سبع سنين، ولا يلزمه أن يقبل ما لها دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار من كل شيء، وما له دون سبع سنين.. فليس من الخيار؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله، ويخالف العتق في الكفارة؛ لأن الله تعالى نص فيها على الرقبة، والصغيرة يقع عليها اسم الرقبة.
وأما أعلى سن الغرة: فاختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: ولا يجبر على قبول الغلام بعد خمسة عشر سنة؛ لأنه لا يلج على النساء ولا على الجارية بعد عشرين سنة؛ لأنها تتغير وتنقص قيمتها.
ومنهم من قال: لا يجبر على قبولها بعد عشرين سنة، غلاماً كانت أو جارية؛ لأنها ليست من الخيار.
وقال الشيخ أبو حامد: يجبر على قبول ما له خمسون سنة وأكثر ما لم يضعف عن العمل؛ لأنه قد يكون من الخيار وإن بلغ ذلك.
قال القاضي أبو الطيب: وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس لهم أن يؤدوا غرة هرمة ولا ضعيفة عن هذا العمل؛ لأن أكثر ما يراد له الرقيق للعمل) . وهذا يدل على وجوب قبولها قبل ذلك.(11/500)
[فرع لا يجبر على قبول الغرة المعيبة]
ومن وجبت له الغرة لم يجبر على قبولها إذا كانت معيبة؛ لأن الغرة هي الخيار، والمعيبة ليست من الخيار.
فلا يلزمه أن يقبل الخصي وإن زادت قيمته بذلك؛ لأنه ناقص عضو، فهو كما لو كان مقطوع اليد.
[مسألة قيمة الغرة عشر دية المسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقيمتها إذا كان الجنين حراً نصف عشر دية المسلم) .
وجملة ذلك: أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو بعشر دية الأم؛ لأنه روي ذلك عن عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولأنه لا يمكن أن توجب فيه دية كاملة؛ لأنه لم تكمل فيه الحياة، ولا يمكن إسقاط ضمانه؛ لأنه خلق بشر، فقدرت ديته بخمس من الإبل؛ لأنه أقل أرش قدره صاحب الشرع، وهو: أرش الموضحة، ودية السن.
فإن كانت الغرة موجودة.. لم يجبر الولي على قبول غيرها؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الجنين الغرة كما أوجب في النفس الإبل» . ثم لا يجبر الولي على قبول غير الإبل مع وجودها، فكذلك لا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها. وإن أعوزت الغرة.. فإنه ينتقل إلى غيرها.
واختلف أصحابنا فيما ينتقل إليه:(11/501)
فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: ينتقل إلى خمس من الإبل؛ لأنها هي الأصل في الدية، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في القول الجديد، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في القول القديم.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا أعوزت الغرة.. انتقل إلى قيمتها في قوله الجديد، كما لو غصب منه عبداً فتلف، وينتقل إلى خمس من الإبل في قوله القديم، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في أحد القولين، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في الآخر.
[فرع غرم الدية للجنين كدية الخطأ]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويغرمها من يغرم دية الخطأ) .
وجملة ذلك: أن الجناية على الجنين قد تكون خطأ محضاً، بأن يقصد غير الأم فيصيبها، فتكون الدية مخففة، وقد تكون عمد خطأ، بأن يقصد إصابة الأم بما لا يقتل، فتكون الدية مغلظة على العاقلة. وهل تكون عمداً محضاً؟ اختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يكون عمدا محضاً.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا تتصور الجناية على الجنين أن تكون عمداً محضاً وإن قصد الأم؛ لأنه قد يموت منه الجنين وقد لا يموت منه، ولأنه لا يتحقق وجود الجنين.
[فرع غرة ولد المسلمين]
فإن كان الأبوان مسلمين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم.
وإن كانا ذميين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم. وكذلك: إذا كان الأبوان مجوسيين.. فإنما تعتبر من ديتهما.(11/502)
وإن كان أحد الأبوين نصرانياً والآخر مجوسياً.. اعتبر دية الجنين بعشر دية النصراني؛ لأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الإسقاط وما يوجب الإيجاب.. غلب الإيجاب، كما قلنا في السبع المتولد بين الضبع والذئب إذا قتله المحرم. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : الجنين اليهودي أو النصراني أو المجوسي؛ لا تجب فيه الغرة، وإنما يجب فيه نصف عشر دية الأب.
وإذا كانا مختلفي الدين.. فقد خرج فيه قول آخر: أن الاعتبار بالأب.
وقال ابن سلمة: يعتبر بأقلهما دية. والأول أصح.
[فرع ضرب نصرانية حاملاً ثم أسلمت فأسقطت]
وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار، وهي مسلمة حال الاستقرار.
وإن ضرب بطن امرأة حربية، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الابتداء لم يكن مضموناً.
والثاني: يضمنه اعتباراً بحال الاستقرار.
[فرع وطئها مسلم وذمي بشبهة ثم ضربت فألقت جنيناً]
إذا وطئ مسلم وذمي ذمية بشبهة في طهر واحد، ثم ضرب رجل بطنها، وألقت جنيناً ميتاً.. عرض على القافة، على الصحيح من المذهب.
فإن ألحقته بالمسلم.. وجب فيه غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية المسلم.(11/503)
وإن ألحقته بالذمي.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية اليهودي.
وإن أشكل الأمر عليها.. وجب فيه ما يجب في الجنين اليهودي؛ لأنه يقين، فإن كان يرجو انكشاف الأمر.. لم يورث هذا المال أحداً، ووقف إلى أن يتبين الأمر، وإن لم يرج انكشاف الأمر.. ترك حتى يصطلحوا عليه.
فإن أراد الذمي والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. لم يجز؛ لجواز أن يكون الجميع للمسلم، لا حق لهما فيه.
وإن أراد المسلم والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. جاز؛ لأنه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج هذا القدر من بينهما.
[فرع الغرة يرثها ورثة الجنين]
الغرة الواجبة في الجنين الحر يرثها ورثته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الليث بن سعد: (لا يورث عنه، وإنما يكون لأمه؛ لأنه كعضو منها) .
ودليلنا: أنها دية نفس، فورثت عنه، كما لو خرج حياً.
وإن ضرب بطن نصرانية، فألقت جنينا ميتاً، فادعت: أن هذا الجنين من مسلم زنى بها.. لم يجب فيه أكثر من دية جنين نصرانية؛ لأن ولد الزنى لا يلحق بالزاني.
قال الطبري: وإن قالت: وطئني مسلم بشبهة، فكذبها الجاني والعاقلة.. حلفوا على نفي العلم؛ لأن الظاهر أنه تابع لها، وإن صدقوها.. وجبت غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم، وإن صدقها العاقلة دون الجاني.. لم يؤثر تكذيب الجاني، وإن صدقها الجاني وكذبها العاقلة.. حملت العاقلة دية جنين النصرانية، ووجب الباقي في مال الجاني؛ لأنه وجب باعترافه.
وبالله التوفيق(11/504)
[باب أروش الجنايات]
الجنايات على ما دون النفس شيئان: جراحات، وأعضاء.
فأما الجراحات: فضربان: شجاج في الرأس والوجه، وجراحات فيما سواهما من البدن.
فأما الشجاج في الرأس والوجه: فعشرة: الخارصة، والدامية، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، وقد مضى بيانها.
والتي يجب فيها أرش مقدر من هذه الشجاج: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة. وأما الموضحة: فيجب فيها خمس من الإبل، صغيرة كانت أو كبيرة، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كانت في الأنف أو اللحى الأسفل.. وجبت فيها حكومة) . وقال ابن المسيب رحمة الله عليه: يجب في الموضحة عشر من الإبل.
دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المواضح خمس من الإبل» .(11/505)
وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل اليمن: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولأنه قول أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولا فرق بين الظاهرة والمستورة بالشعر، لعموم الخبر.
[مسألة في تعدد الموضحة]
فإن أوضحه موضحة أو موضحتين أو ثلاثاً أو أربعاً.. وجبت لكل موضحة خمس من الإبل؛ لعموم الخبر، فإن كثرت المواضح حتى زاد أرشها على دية النفس.. ففيه وجهان لأصحابنا الخراسانيين:
أحدهما: لا يجب أكثر من دية النفس؛ لأن ذلك ليس بأكثر حرمة من نفسه.
والثاني: يجب لكل موضحة خمس من الإبل، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأنه يجب في كل واحدة أرش مقدر، فوجب وإن زاد ذلك على دية النفس، كما لو قطع يديه ورجليه.
[فرع أوضحا موضحتين بينهما حاجز]
وإن أوضحه موضحتين بينهما حائل - حاجز - ثم خرق الجاني الحاجز بينهما.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأن فعل الإنسان يبنى بعضه على بعض، كما لو قطع يديه ورجليه، ثم مات.
وكذلك: إن تآكل ما بينهما بالجناية.. صار كما لو خرق ما بينهما؛ لأن سراية فعله كفعله، فصار كما لو قطع يديه ورجليه، وسرى ذلك إلى نفسه.
وإن خرق أجنبي ما بينهما.. وجب عليه أرش موضحة إن بلغ إلى العظم، ووجب(11/506)
على الأول أرش موضحتين؛ لأن فعل الإنسان لا يبنى على فعل غيره.
وإن خرق المجني عليه ما بينهما.. صار ما فعله هدراً، ولم يسقط بذلك عن الجاني شيء.
[فرع أوضحا في رأس موضحتين وخرق أحدهما ما بينهما]
] : وإن أوضح رجلان في رأس رجل موضحتين واشتركا فيهما، ثم جاء أحدهما وخرق ما بينهما.. وجب على الخارق نصف أرش موضحة، وعلى الذي لم يخرق أرش موضحة؛ لأنهما لما أوضحاه أولاً.. وجب على كل واحد منهما أرش موضحته، فإذا خرق أحدهما الحاجز بينهما.. صار في حقه كأنهما أوضحاه موضحة واحدة، فكان عليه نصف أرشها، ولم يسقط بذلك مما وجب على الآخر شيء.
[فرع شج رجلاً موضحة وباضعة ومتلاحمة]
وإن شج رجل آخر شجة، بعضها موضحة، وبعضها باضعة، وبعضها متلاحمة.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحها جميعها.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة، فلأن لا يلزمه - والإيضاح في بعضها - أولى.
وإن أوضحه موضحتين، وخرق اللحم الذي بينهما، ولم يخرق الجلد الظاهر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ اعتباراً بالظاهر.
والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ اعتباراً بالباطن.
وإن أوضحه موضحتين، وخرق الجلد الذي بينهما، ولم يخرق اللحم.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، وجهاً واحداً؛ لأنه لو خرق الظاهر والباطن بينهما.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، فلأن لا يلزمه إلا أرش موضحة - ولم يخرق إلا الظاهر - أولى.
[فرع أوضحه في الرأس ونزل إلى القفا]
وإن أوضح موضحة في الرأس، ونزل فيها إلى القفا - وهو: العنق - وجب عليه(11/507)
أرش موضحة في الرأس، وحكومة فيما نزل إلى القفا؛ لأنهما عضوان مختلفان.
وإن أوضحه موضحة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ لأنهما عضوان مختلفان، فهما كالرأس والقفا.
والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ لأن الجميع محل للموضحة، بخلاف القفا. والأول أصح؛ لأنهما مختلفان في الظاهر.
[فرع اختلاف رقعتي الرأس وقت الاقتصاص]
وإن أوضح جميع رأسه، ورأس المجني عليه عشرون إصبعاً، ورأس الجاني خمس عشرة إصبعاً، فاقتص منه في جميع رأسه.. فإنه يجب للمجني عليه فيما بقي الأرش؛ لأنه لم يستوف قدر موضحته، وكم يجب له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب له أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحه قدر ذلك.. لوجب فيه أرش موضحة.
والثاني - وهو الأصح -: أنه لا يجب له إلا ربع أرش موضحة؛ لأنه أوضحه موضحة وقد استوفى ثلاثة أرباعها، فبقي له ربع أرشها.
[فرع ما يجب في الموضحة المغلظة]
وإذا وجب له أرش موضحة مغلظة.. فإنه يجب له خلفتان وثلاثة أبعرة من النوعين الآخرين.
قال القاضي أبو الطيب: فيكون له بعير ونصف من الحقاق، وبعير ونصف من الجذاع.
قال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن يأخذ قيمة الكسرين، إلا أن يرضى أن يأخذهما من السن الأول، وهو: أن يأخذ حقتين وجذعة.(11/508)
[مسألة ما يجب في الهاشمة]
] : ويجب في الهاشمة عشر من الإبل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يجب فيها خمس من الإبل، وحكومة في كسر العظم) .
دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (وفي الهاشمة عشر من الإبل) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع.
وإن ضرب رأسه أو وجهه بمثقل، فهشم العظم من غير أن يقطع جلداً ولا لحماً. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب فيها حكومة؛ لأنها ليست بموضحة ولا هاشمة، وإنما هو كسر عظم، فهو كما لو كسر يده.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجب عليه خمس من الإبل، وهو الأصح؛ لأنه لو أوضحه وهشمه.. لوجب عليه عشر من الإبل، ولو أوضحه ولم يهشمه.. لم يجب عليه إلا خمس من الإبل، فدل على: أن الخمسة الزائدة لأجل الإيضاح.
[فرع شجه موضحة وهاشمة ودون موضحة]
وإن شجه شجة، بعضها موضحة، وبعضها هاشمة، وبعضها دون موضحة.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل؛ لأنه لو هشم الجميع.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل، فلأن لا يلزمه - والهشم في البعض - أولى.
وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز.. لزمه أرش هاشمتين.
وإن أوضحه موضحتين، وهشم العظم بكل واحدة منهما، واتصل الهشم في الباطن.. وجب عليه أرش هاشمتين، وجهاً واحداً.(11/509)
والفرق بينهما وبين الموضحتين إذا اتصلتا في الباطن: أن الحائل قد ارتفع بين الموضحتين في الباطن، وهاهنا اللحم والجلد بينهما باق، فكانتا هاشمتين، وإنما الكسر اتصل، ولا اعتبار به.
[مسألة ما يجب في المنقلة]
ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل» . ولأنه قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
[مسألة ما يجب في المأمومة]
] : ويجب في المأمومة ثلث الدية؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الآمة ثلث الدية» . وهو قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة.
ويجب في الدامغة ثلث الدية. وقال أبو الحسن الماوردي البصري من أصحابنا: يجب فيه حكومة مع ثلث الدية؛ لخرق الغشاوة التي على الدماغ.
[فرع أوضحه رجل وهشمه آخر ونقله ثالث وآمه رابع]
وقال أبو العباس: وإن أوضحه رجل، وهشمه آخر، ونقله آخر، وآمه آخر في موضع واحد.. وجب على الذي أوضحه خمس من الإبل، وعلى الذي هشمه خمس من الإبل، وعلى الذي نقله خمس من الإبل، وعلى الذي آمه ثماني عشرة من الإبل وثلث؛ لأن ذلك قدر أرش جناية كل واحد منهم.
[فرع شجه دون الموضحة أو أكثر منها]
وأما الشجاج التي قبل الموضحة: فلا يجب فيها أرش مقدر؛ لما روى مكحول - مرسلا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في الموضحة خمساً من الإبل، ولم يوقت فيما دون(11/510)
ذلك شيئاً» . ولأن تقدير الأرش يثبت بالتوقيف، ولا توقيف هاهنا. فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة؛ بأن كان في رأس المجني عليه موضحة، ثم شج في رأسه دامية أو باضعة، فإن عرف قدر عمقها من عمق الموضحة التي في رأسه.. وجب فيها بقدر ذلك من أرش الموضحة، وإن لم يمكن معرفة قدر عمقها من عمق الموضحة.. وجب فيها حكومة تعرف بالتقويم، على ما يأتي بيانه.
فإن تيقنا أنها نصف الموضحة، وشككنا: هل تزيد، أم لا؟ فإنه يقوم، فإن خرجت حكومتها بالتقويم نصف أرش الموضحة لا غير.. لم تجب الزيادة؛ لأنا علمنا أن الزيادة لا حكم لها. وإن خرجت حكومتها أكثر من نصف أرش الموضحة.. وجب ذلك؛ لأنا علمنا أن الشك له حكم. وإن خرجت حكومتها أقل من نصف أرش الموضحة.. وجب نصف أرش الموضحة؛ لأنا قد تيقنا وجوب النصف، وعلمنا أن التقويم خطأ.
[مسألة جراحات غير الرأس والوجه]
وأما الجراحات في غير الرأس والوجه: فضربان: جائفة، وغير جائفة.
فأما (غير الجائفة) ، وهي: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، وما دون الموضحة من الجراحات: فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما تجب فيه حكومة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الموضحة وما بعدها من الجراحات، وذكر بعدها المأمومة، والمأمومة لا تكون إلا في الرأس، فعلم أن ما قبلها لا يكون إلا في الرأس، والوجه في معنى الرأس. ولأن هذه الجراحات في سائر البدن لا تشارك نظائرها في الرأس والوجه في الشين والخوف عليه منها، فلم يشاركها في تقدير الأرش.
وأما (الجائفة) : فهي الجراحة التي تصل إلى الجوف من البطن، أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الورك، فيجب فيها ثلث الدية.(11/511)
وقال مكحول: إن تعمدها.. وجب فيها ثلثا الدية.
دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الجائفة ثلث الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة.
فإن أجافه جائفتين بينهما حاجز.. وجب عليه أرش جائفتين، وإن طعنه، فأنفذه من ظهره إلى بطنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجائفة هي: ما ينفذ من خارج إلى داخل، فأما الخارج من داخل إلى خارج: فليس بجائفة، فيجب فيها حكومة.
والثاني: يجب عليه أرش جائفتين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو المذهب؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف، فهو كما لو نفذتا من خارج إلى داخل.
[فرع أجافه رجل فأدخل فيها رجل سكيناً]
ً] : وإن أجاف رجل رجلاً جائفة، ثم جاء آخر وأدخل السكين في تلك الجائفة، فإن لم يقطع شيئاً.. فلا شيء عليه، وإنما يعزر به. وإن وسعها في الظاهر والباطن.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه أجاف جائفة أخرى. وإن وسعها في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، أو أصاب بالسكين كبده أو قلبه، وجرحه.. وجبت عليه حكومة.
وإن قطع أمعاءه، أو أبان حشوته.. فهو قاتل؛ لأن الروح لا تبقى مع هذا، والأول خارج.
وإن وضع السكين على فخذه، فجره حتى بلغ به البطن وأجافه، أو وضعه على(11/512)
كتفه وجره حتى بلغ به الظهر وأجافه.. وجب عليه أرش جائفة، وحكومة للجراحة في الفخذ والكتف؛ لأنهما جراحة في غير محل الجائفة.
وإن وضع السكين على صدره وجره حتى بلغ به إلى بطنه أو ثغرة النحر، وأجافه.. لم يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجميع محل للجائفة، ولو أجافه في الجميع.. لم يلزمه إلا أرش جائفة، فلأن لا يلزمه ولم يجفه إلا في بعضه أولى.
[فرع أجافه جائفة فخاطها ثم فتقها غيره]
] : إذا أجافه جائفة فخيط الجائفة، فجاء آخر وفتق تلك الخياطة، فإن كان الجرح لم يلتحم ظاهرًا ولا باطنًا.. لم يلزم الثاني أرش، وإنما يعزر، كما لو أدخل سكينًا في الجائفة قبل الخياطة، وتجب عليه قيمة الخيط وأجرة المثل، وإن كانت الجراحة قد التحمت فقطعها ظاهرًا أو باطنًا.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه عاد كما كان. وإن التحمت الجراحة في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، ففتقه.. وجبت عليه الحكومة.
وكل موضع وجب عليه أرش الجائفة أو الحكومة.. فإنه يجب عليه معه قيمة الخيط، وتدخل أجرة الخياطة في الأرش أو في الحكومة.
[فرع ضرب وجنته وكسر عظمها]
] : وإن ضرب وجنته، فكسر العظم، ووصل إلى فيه.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه أرش جائفة؛ لأنها جراحة وصلت إلى جوف الفم، فهو كما لو وصلت إلى جوف البطن أو الرأس.
والثاني: لا يجب عليه إلا أرش هاشمة لهشم العظم، وحكومة لما زاد عليه؛ لأن هذه دون الجائفة إلى البطن أو الرأس في الخوف عليه منها.
وإن جرحه في أنفه، فخرقه إلى باطنه.. قال أبو علي الطبري: ففيه قولان، كما لو هشم عظم وجنته، فوصلت إلى فيه.(11/513)
وإن خرق شدقه إلى داخل فيه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو هشم وجنته، فوصل إلى فيه. وقال ابن الصباغ: لا يجب عليه أرش جائفة، قولًا واحدًا.
[فرع أدخل خشبة في إسته]
] : وإن أدخل خشبة في دبر إنسان، فخرق حاجزًا في البطن.. فهل يلزمه أرش جائفة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن خرق الباطن بين الموضحتين دون الظاهر.
وإن أذهب بكارة امرأة بيده أو بخشبة.. فليست بجائفة؛ لأنه لا يخاف عليها من ذلك، فإن كانت أمة.. وجب عليه ما نقص من قيمتها، وإن كانت حرة.. ففيها حكومة، فإن أكرهها على الزنا.. وجب عليه حكومة، ولإذهاب البكارة المهر.
[مسألة ما يجب في العين]
] : وأما الأعضاء: فيجب في العينين الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العينين الدية» .
ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي إحدى العينين خمسون من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
وإن قلع عين الأعور.. لم يجب عليه إلا نصف الدية، وبه قال النخعي، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الزهري، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجب فيها جميع الدية) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.(11/514)
دليلنا: حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق. وقد روي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
ولأن ما ضمن ببدل مع بقاء نظيره.. ضمن به مع فقد نظيره، كاليد.
وإن قلع الأعور عين من له عينان، وللجاني مثلها.. كان للمجني عليه القصاص.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له القصاص منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . ولم يفرق.
وإن عفا المجني عليه عن قلع عين الأعور.. لم يستحق عليه إلا نصف الدية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يستحق عليه جميع الدية) .
دليلنا: أنه قلع له عينًا واحدة، فإذا عفا عن القصاص.. لم يجب له أكثر من ديتها، كما لو كانتا سليمتين.
[فرع جنى على عينه فأذهب بصرها]
] : وإن جنى على عينه أو رأسه، فذهب ضوء بصره والحدقة باقية.. وجبت عليه الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي البصر مائة من الإبل» ، ولأنه أذهب المنفعة المقصودة بالعين، فوجب عليه أرشها، كما لو جنى على يده، فشلت.
وإن أذهب البصر من إحدى العينين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أشل إحدى يديه.(11/515)
وإن قلع عينًا عليها بياض، فإن كان على غير الناظر، أو على الناظر إلا أنه رقيق يبصر بها من تحته.. وجب عليه جميع ديتها؛ لأن البياض لا يؤثر في منفعتها، وإنما يؤثر في جمالها، فهو كما لو قطع يدًا عليها ثآليل.
وإن كان لا يبصر.. لم يجب عليه الدية، وإنما تجب عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاءً.
وإن نقص بصرها بالبياض.. وجب عليه من ديتها بقدر ما بقي من بصرها.
[فرع عودة البصر بعد أخذ الدية]
] : وإن جنى على عينه، فذهب ضوؤها، فأخذت منه الدية، ثم عاد ضوؤها.. وجب رد ديتها؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب ضوؤها.
وإن ذهب ضوؤها، وقال رجلان من أهل الخبرة: ترجى عودته، فإن لم يقدرا ذلك إلى مدة.. لم ينتظر، وإن قدراه إلى مدة.. انتظر، فإن عاد الضوء.. لم تجب الدية، وإن انقضت المدة ولم يعد الضوء.. أخذ الجاني بموجب الجناية، وإن مات المجني عليه قبل انقضاء تلك المدة.. لم يجب القصاص؛ لأنه موضع شبهة، وهل تجب عليه الدية؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في السن.
ومنهم من قال: تجب الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود الضوء غير معهود، وعود السن معهود.
[فرع نقص بصر العين بالجناية]
] : وإن جنى على عينيه، فنقص ضوؤهما.. نظرت:
فإن عرف أنه نقص نصف ضوئهما، بأن كان يرى الشخص من مسافة، فصار لا يراه إلا من نصفها.. وجبت عليه نصف الدية.(11/516)
وإن لم يعرف قدر النقصان، وإنما ساء إدراكه.. وجبت عليه حكومة.
وإن نقص بصره في إحدى العينين.. وجب عليه من دية تلك العين بقدر ما نقص من ضوئها.
وإن أمكن معرفة قدر ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والإمكان: أن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، ويقام له شخص على ربوة من الأرض، ثم يقال له: انظر إليه، ثم يتباعد الشخص عنه إلى أن ينتهي إلى غاية يقول: لا أرى إلى أكثر منها، ثم يعلم على ذلك الموضع، ويغير عليه ثياب الشخص؛ لأنه متهم، فإذا غير عليه، وأخبر به.. علمنا صحة ذلك، ثم تطلق العين العليلة، وتعصب الصحيحة، ويوقف له الشخص على ربوة، ثم لا يزال يبعد عنه إلى الغاية التي يقول: أبصره إليها ولا أبصره إلى أكثر منها، فيعلم على ذلك الموضع، ويوقف له الشخص من جميع الجهات، فإن أخبر أنه يبصره على أكثر من تلك الغاية أو أقل.. علمنا كذبه؛ لأن النظر لا يختلف باختلاف الجهات، فإذا اتفقت الجهات.. علمنا صدقه، ثم ننظر كم الغاية الثانية من الأولى؟ فيؤخذ بقدر ما نقص من الدية) .
[فرع الجناية على عين القاصر]
] : وإن جنى على عين صبي أو مجنون، فقال أهل الخبرة: قد زال ضوؤها، ولا يرجى عوده.. ففيه وجهان.(11/517)
أحدهما: يحكم على الجاني بموجب الجناية؛ لأن الجناية قد وجدت، فتعلق بها موجبها.
والثاني: لا يحكم عليه بموجبها حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويدعي زوال الضوء؛ لجواز أن الضوء لم يذهب.
وإن جنى على عين رجل، فشخصت - أي: ارتفعت - أو احولت، ولم يذهب من ضوئها شيء.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير ذهاب منفعة.
وإن قلع عينًا قائمة، وهي: العين التي ذهب ضوؤها، وبقيت حدقتها.. وجبت عليه الحكومة دون الدية؛ لأنه أذهب عضوًا فيه جمال من غير منفعة.
[مسألة أزال أجفانه الأربعة]
] : وإن قطع أجفان عيني رجل الأربعة.. وجبت عليه دية، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا تجب عليه إلا الحكومة) .
دليلنا: أن فيها جمالا ًومنفعة، فوجب فيها الدية، كالعينين.
وإن قطع بعضها.. وجب فيها من الدية بقسطه، كما لو قلع إحدى العينين.
وإن قطع أهداب العينين، ولم تعد.. فعليه الحكومة.
وقال أبو حنيفة: (عليه الدية) .
دليلنا: أنه أذهب جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيه الدية، كالأظفار.
وإن قطع الأجفان وعليها الأهداب.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب عليه الدية للأجفان، والحكومة للأهداب، كما لو قطع الأهداب، ثم الأجفان.
والثاني: تجب عليه الدية لا غير، كما لو قطع يدًا وعليها شعر وأظفار.
وإن قلع العينين والأجفان.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.(11/518)
[فرع قلع الحاجبين]
] : وإن قلع الحاجبين.. لم تجب فيهما الدية. وقال أبو حنيفة: (تجب فيهما الدية) .
دليلنا: أن فيهما جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيهما الدية، كلحم الوجه، وتجب فيهما الحكومة.
[مسألة في الأذنين الدية]
] : وتجب في الأذنين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله، وإحدى الروايتين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الرواية الثانية: (لا تجب فيهما إلا الحكومة) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا آخر للشافعي، وليس بمشهور.
وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (وفي الأذن خمس عشرة من الإبل) .
والدليل على وجوب الدية فيهما: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأذن خمسون من الإبل» . فدل على: أنه يجب فيهما مائة.
ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فوجبت فيهما الدية، كالعينين.(11/519)
[مسألة قطع بعض الأذن]
فرع: [قطع بعض الأذن] : وإن قطع بعض الأذن.. وجب عليه من ديتها بقدر ما قطع منها؛ لأنه يمكن تقسيط الدية عليها. وإن جنى على أذنه، فاستحشفت - أي: يبست - ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه ديتها، كما لو جنى على يده، فشلت.
والثاني: لا تجب عليه إلا الحكومة؛ لأن منفعتها باقية مع استحشافها، وإنما نقص جمالها.
وإن قطع أذنًا مستحشفة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: إنه إذا جنى عليها فاستحشفت وجبت عليه الدية.. وجب هاهنا على قاطع المستحشفة الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه إلا الحكومة.. وجب هاهنا على قاطعها ديتها.
وقال الشيخ أبو حامد: هذا تخليط لا يحكى، بل تجب عليه الحكومة، قولًا واحدًا، كما قلنا فيمن قلع عينًا قائمة، أو قطع يدا شلاء.
وإن قطع أذن الأصم.. وجب عليه ديتها؛ لأن ذهاب السمع، لعلة في الرأس لا في الأذن.
[مسألة وجوب الدية في ذهاب السمع]
] : ويجب في السمع الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع دية» .
وروى أبو المهلب: (أن رجلًا ضرب رجلًا بحجر في رأسه، فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى فيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بأربع ديات وهو حي) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(11/520)
فإن أذهب سمعه من إحدى الأذنين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أذهب الضوء من إحدى العينين.
فإن أذهب سمعه، فأخذت منه الدية، ثم عاد السمع.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب.
[فرع ادعاء ذهاب حواسه أو بعضها]
] : وإن جنى عليه جناية، فادعى: أنه ذهب بها سمعه أو بصره أو شمه.. أري اثنين من أهل الخبرة بذلك من المسلمين، فإن قالا: مثل هذه الجناية لا يذهب بها السمع والبصر والشم.. فلا شيء له على الجاني؛ لأنا علمنا كذب المدعي، وإن قالا: مثلها يذهب بها السمع أو البصر أو الشم، فإن كان في البصر.. رجع إلى قولهما، أو إلى اثنين من أهل الخبرة، فإن قالا: قد ذهب البصر ولا يعود.. حكمنا على الجاني بموجب الجناية، وإن كان في السمع والشم.. لم يرجع إلى قولهما في ذهابه؛ لأنه لا طريق لهما إلى المعرفة بذهابه، بخلاف البصر.
فإذا ادعى المجني عليه ذهاب السمع أو الشم، فإن قال اثنان من أهل الخبرة من المسلمين: لا يرجى عوده.. حكم على الجاني بموجب الجناية، وإن قالا: يرجى عوده إلى مدة.. فهو كما لو قالا: يرجى عود البصر، وقد مضى بيانه.
فإن كانت الجناية عمدًا.. لم يقبل فيه إلا قول رجلين، وإن كانت خطأ، أو عمد خطأ.. قبل فيه قول رجل وامرأتين، كما قلنا في الشهادة بذلك.(11/521)
[فرع ما يجب في نقص السمع]
] : وإن جنى عليه جناية، فنقص سمعه بها، فإن عرف قدر نقصانه.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدر نقصانه، وإنما ثقل.. وجبت في الحكومة.
وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين.. سدت الأذن العليلة، وأطلقت الصحيحة، وأمر من يخاطبه وهو يتباعد منه إلى أن يبلغ إلى غاية يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويعلم عليها، ويمتحن بذلك من جميع الجهات؛ لأنه متهم، فإذا اتفقت الجهات.. أطلقت العليلة، وسدت الصحيحة، وخاطبه كمخاطبته الأولى وهو يتباعد منه إلى أن يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويمتحن بمخاطبته أيضًا في ذلك من جميع الجهات، فإذا اتفقت.. علم على ذلك الموضع، وينظر كم قدر ذلك من المسافة الأولى؟ ويجب له من دية الأذن بقدر ما بقي من المسافة التي لم يسمع منها في العليلة.
وإن قطع أذنيه، فذهب سمعه منهما.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.
[مسألة في الأنف الدية]
] : وتجب في الأنف الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنف إذا أوعى مارنه مائة من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والذي تجب به الدية من الأنف هو (المارن) ، وهو: المستلان منها دون القصبة؛ لما «روى ابن طاووس، عن أبيه: أنه قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أبي: " وفي الأنف إذا أوعى مارنه جدعًا الدية» . ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوعى "،(11/522)
أي: استوعب. ولأن المنفعة والجمال فيه، فوجبت فيه الدية.
وإن قطع بعض المارن.. وجب فيه من الدية بقسط ما قطع منه.
وإن قطع أحد المنخرين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة.
والثاني: لا يجب عليه إلا ثلث الدية؛ لأن المارن يشتمل على المنخرين والحاجز بينهما.
والأول هو المنصوص.
فإن قطع الحاجز بين المنخرين.. وجب عليه على الوجه الأول حكومة، وعلى الثاني ثلث الدية.
وإن قطع أحد المنخرين والحاجز بينهما.. وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية وحكومة، وعلى الثاني ثلثا الدية.
وإن قطع المارن وقصبة الأنف.. وجب عليه دية في المارن، وحكومة في القصبة، كما لو قطع يده من المرفق.
وإن قطع المارن والجلدة التي تحته إلى الشفة.. وجبت عليه دية في المارن، وحكومة للجلدة التي تحته.
وإن أبان مارنه، فأخذه المجني عليه، فألصقه، فالتصق.. لم تسقط الدية عن الجاني؛ لأنها وجبت عليه بالإبانة، والإلصاق لا حكم له؛ لأنه يجب إزالته، فلم تسقط به الدية.
وإن قطع المارن ولم ينته، فألصقه، فالتصق.. كان للمجني عليه أن يقتص، فيقطع مارنه حتى يجعله معلقًا كمارن المجني عليه.
وإن عفا عن القصاص.. لم تجب له الدية، وإنما تجب له الحكومة؛ لأنها جناية لم تذهب بها منفعة، وإنما نقص بها جمال.
[فرع جنى على أنفه فيبس]
وإن جنى على أنفه، فاستحشف.. فهل تجب عليه الدية أو الحكومة؟ فيه(11/523)
قولان، كما قلنا في الأذن إذا استحشفت بالجناية.
وإن قطع أنفًا مستحشفًا.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن قطع أذنًا مستحشفًا.
وإن قطع أنفًا أخشم.. وجبت عليه الدية؛ لعموم الخبر، ولأن ذهاب الشم لمعنى في غير الأنف.
[مسألة في إزالة الشم الدية]
] : ويجب في الشم الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الشم الدية» ، ولأنه حاسة تختص بمنفعة، فأشبه السمع والبصر.
وإن أذهب الشم من أحد المنخرين.. وجب عليه نصف الدية، كما قلنا فيه إذا أذهب البصر من إحدى العينين.
وإن نقص شمه من المنخرين أو من أحدهما.. فهو كما قلنا فيمن نقص سمعه من الأذنين أو من إحداهما.. وإن لم يعرف قدر نقصه.. وجبت فيه الحكومة.
وإن قطع مارنه، فذهب شمه.. وجبت عليه ديتان؛ لأن الدية تجب في كل واحد منهما إذا انفرد.. فوجبت في كل واحد منهما الدية وإن اجتمعا، كما لو قطع يديه ورجليه.
[مسألة فيما يجب بإذهاب العقل]
] : وإن جنى عليه، فذهب عقله.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يعرف محله؛ لأن من الناس من قال: محله الرأس، ومنهم من قال: محله القلب، ومنهم من قال: هو بينهما.
وتجب فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العقل الدية» ، ولأنه قول عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف(11/524)
لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن التكليف يزول بزوال العقل، كما يزول بخروج الروح، فلما وجبت الدية بخروج الروح.. وجبت بزوال العقل.
فإن ذهب بعض عقله وعرف قدر الذاهب، بأن صار يجن يومًا ويفيق يومًا.. وجبت فيه نصف الدية، وإن لم يعرف قدر الذاهب، بأن صار يفزع مما لا يفزع منه العقلاء.. وجبت فيه الحكومة.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية التي ذهب بها العقل مما لا أرش لها، بأن لطمه، أو لكمه، أو ضربه بحجر أو غيره، ولم يجرحه.. وجبت دية العقل، على ما مضى، وإن كان لها أرش.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يدخل الأقل منهما في الأكثر، مثل: إن أوضحه فذهب عقله.. فإن أرش الموضحة يدخل في دية العقل.. وإن قطع يديه من المرفقين.. دخلت دية العقل في دية اليدين، والحكومة فيهما) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العقل معنى يزول التكليف بزواله، فدخل في ديته أرش الطرف، كالروح.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يدخل أحدهما في الآخر) . وهو الأصح؛ لأنها جناية أذهبت منفعة حالة في غير محل الجناية مع بقاء النفس، فلم يتداخل الأرش، كما لو أوضحه وذهب بصره. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كانت الجناية وجبت بها دية كاملة.. لم تدخل إحدى الديتين في الأخرى، قولًا واحدًا؛ لما تقدم من خبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[مسألة ما يجب بإزالة الشفتين]
] : وتجب في الشفتين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الشفتين الدية» . وهو قول أبي بكر،(11/525)
وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم.
ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فلأنهما يقومان الكلام، ويمسكان الطعام والريق.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحد الشفة: ما زاد عن جلد الذقن والخدين من أعلى وأسفل) . ولا فرق بين أن تكونا غليظتين، أو دقيقتين، أو ناتئتين، أو صغيرتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . ولم يفرق.
فإن قطع إحداهما.. وجب عليه نصف الدية، وبه قال أبو بكر الصديق، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال زيد بن ثابت: (إن قطع العليا.. وجب عليه ثلث الدية، وإن قطع السفلى.. وجب عليه ثلثا الدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . فأوجب فيهما الدية، والظاهر أنهما متساويان، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قطع بعض الشفة.. وجب فيه من الدية بقدره.(11/526)
وإن جنى عليهما، فشلتا، بأن صارتا مسترخيتين لا تنقبضان، أو تقلصتا، بحيث لا تنبسطان ولا تنطبق إحداهما على الأخرى.. وجبت الدية فيهما، كما لو جنى على يديه، فشلتا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جنى على شفته حتى صارت بحيث إذا مدها امتدت، وإذا تركها تقلصت.. ففيها حكومة؛ لأنها إذا انبسطت وامتدت إذا مدت.. فلا شلل فيها، بل فيها روح، فلم تصر شلاء، وإنما فيها نقص، فوجبت فيها الحكومة) .
وإن شق شفتيه.. فعليه الحكومة، سواء التأم الشق أو لم يلتئم؛ لأن ذلك جرح، والجروح تجب فيها الحكومة.
[مسألة في اللسان الدية]
] : وتجب في اللسان الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اللسان الدية» . وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيه جمالًا ومنفعة. أما المنفعة: فإنه يتكلم به، وأما الجمال: «فروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: قلت: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: " في اللسان» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أعجبني جمالك يا عم "،(11/527)
قال: يا رسول الله، وما الجمال في الرجل؟ قال: " اللسان» .
فإن لم يقطع اللسان، ولكن جنى عليه، فخرس وذهب كلامه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب منفعة اللسان، كما لو جنى على يده، فشلت.
[فرع في ذهاب بعض الكلام]
] : فإن ذهب بعض كلامه.. وجب عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وبماذا تعتبر؟ فيه وجهان.
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: تعتبر بجميع حروف المعجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا، ولا اعتبار بـ (لا) ؛ لأنها مكررة، وهي: لام وألف. فإن تعذر عليه النطق بحرف منها.. وجب عليه جزء من ثمانية وعشرين جزءًا من الدية.
و [الثاني] : - على هذا -: قال أبو سعيد الإصطخري: تعتبر بحروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا لا غير. ولا تعتبر حروف الحلق، وهي ستة: الهمزة،(11/528)
والهاء، والحاء، والخاء، والعين، والغين. ولا تعتبر حروف الشفة، وهي أربعة: الباء، والميم، والفاء، والواو؛ لأن الجناية على اللسان، فاعتبرت حروفه دون غيرها. والمنصوص هو الأول؛ لأن هذه الحروف وإن كانت مخارجها من الحلق والشفة، إلا أنه لا ينطق بها إلا باللسان.
إذا ثبت هذا: فإن لم يذهب من كلامه إلا حرف واحد، لكنه تعطل بذهابه جميع الاسم الذي فيه ذلك الحرف، مثل: أن تتعذر الميم لا غير، فصار لا ينطق بـ: محمد.. لم يجب عليه إلا حصة الميم من الدية؛ لأن الجاني إنما يضمن ما أتلفه، فأما ما لم يتلفه بفعله وكان سليمًا إلا أن منفعته تعطلت لتعطل التالف.. فلا يضمنه، كما لو قصم ظهره، فلم تشل رجلاه، إلا أنه لا يمكنه المشي بهما لقصم ظهره.. فلا يلزمه إلا دية قصم ظهره، فكذلك هذا مثله.
وإن جنى عليه، فذهب من كلامه حرف إلا أنه استبدل به حرفًا غيره، بأن ذهب منه الراء، وصار ينطق بالراء لامًا في موضعه.. وجبت عليه دية الراء؛ لأن ما استبدل به لا يقوم مقامه.
فإن جنى عليه آخر، فأذهب هذا الحرف الذي استبدله بالذاهب.. وجب عليه دية ذلك الحرف، لا لأجل أنه أتلف عليه حرفًا قام مقام الأول، ولكن لأجل أن هذا الحرف إذا تلف في هذا الموضع.. تلف في موضعه الذي هو أصله. وإن لم يذهب بجنايته حرف، وإنما كان ألثغ، فزادت لثغته بالجناية، أو كان خفيف اللسان، سهل الكلام، فثقل كلامه، أو حصلت بكلامه عجلة، أو تمتمة.. وجب على الجاني حكومة؛ لأنه أذهب كمالًا من غير منفعة.(11/529)
[فرع فيمن قطع بعض لسانه]
] : وإن قطع بعض لسانه، فذهب بعض كلامه.. نظرت:
فإن استويا، بأن قطع ربع لسانه، فذهب ربع كلامه.. وجب عليه ربع الدية، وإن قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن الذي فات منهما سواء.
وإن اختلف.. اعتبرت الدية بالأكثر، مثل: أن يقطع ربع اللسان، فيذهب نصف الكلام، فتجب عليه نصف الدية، أو يقطع نصف اللسان، فيذهب ربع الكلام، فيجب عليه نصف الدية، بلا خلاف بين أصحابنا في الحكم، وإنما اختلفوا في علته:
فمنهم من قال: لأن منفعة اللسان - وهو الكلام - مضمونة بالدية، واللسان مضمون بالدية، فإذا اجتمعا.. اعتبر أكثر الأمرين منهما، كما لو جنى على يده، فشلت.. ففيها جميع دية اليد، ولو قطع خنصره وبنصره.. وجب فيهما خمسا دية اليد وإن كانت منفعتهما أقل من خمسي منفعة اليد، ولكن اعتبارًا بأكثر الأمرين من منفعة اليد، وعضوها.
وقال أبو إسحاق: الاعتبار باللسان؛ لأنها هي المباشرة بالجناية، إلا أنه إذا قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه.. فإنما وجب عليه نصف الدية؛ لأنه دل ذهاب نصف كلامه على شلل ربع آخر منها غير المقطوع.
إذا ثبت هذا: فقطع رجل ربع لسان رجل، فذهب نصف كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع الثلاثة الأرباع الباقية من لسانه.. فإنه يجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية وحكومة؛ لأنه قطع نصف لسان صحيحًا، وربعاَ أشل.
وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب ربع كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع ما بقي من اللسان.. وجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من الكلام، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية لا غير؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان.(11/530)
وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب نصف كلامه، وقلنا: له أن يقتص منه في نصف اللسان، فاقتص منه، فذهب نصف كلام الجاني.. فقد استوفى المجني عليه حقه، فإن ذهب ربع كلام الجاني.. وجب للمجني عليه ربع الدية، وإن ذهب ثلاثة أرباع كلام الجاني.. لم يجب على المقتص شيء؛ لأن التالف بالقود غير مضمون عندنا.
[فرع قطع أحد طرفي لسان]
] : وإن كان لرجل لسان له طرفان، فقطع قاطع أحدهما.. نظرت:
فإن ذهب كلامه.. وجبت عليه الدية.
وإن ذهب بعض كلامه، فإن كان الطرفان متساويين، فإن كان ما قطعه بقدر ما نقص من الكلام.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن كان أحدهما أكبر.. اعتبر الأكبر، على ما مضى في التي قبلها.
وإن لم يذهب من الكلام شيء.. وجب بقدر ما قطع من اللسان من الدية.
وإن قطعهما قاطع.. وجب عليه الدية، وإن كان أحدهما منحرفًا عن سمت اللسان.. فهي خلقة زائدة تجب فيها الحكومة، وفي الأخرى الدية.
[فرع في لسان الأخرس حكومة]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي لسان الأخرس حكومة) . وقال النخعي: تجب فيه الدية.
دليلنا: أن لسان الأخرس قد ذهبت منفعته، فلم تجب فيه الدية، كاليد الشلاء.(11/531)
وإن قطع لسان طفل، فإن كان قد تكلم ولو بكلمة واحدة، أو قال: بابا أو ماما، أو تكلم في بكائه بالحروف.. وجبت عليه الدية؛ لأنا قد علمنا أنه لسان ناطق.
وإن كان في حد لا يتلكم مثله بحرف، مثل: أن يكون ابن شهر وما أشبهه ولم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه؛ لأنه لسان لا كلام فيه، فهو كلسان الأخرس) .
دليلنا أن ظاهره السلامة، وإنما لم يتكلم لطفوليته، فوجبت فيه الدية، كما تجب الدية بأعضائه وإن لم يظهر بها بطش.
وإن بلغ حدًا يتكلم فيه مثله، فلم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. لم تجب عليه الدية، وإنما تجب فيه الحكومة؛ لأن الظاهر من حاله أنه أخرس.
[فرع جنى عليه فذهب ذوقه]
] : وإن جنى عليه، فذهب ذوقه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا نص فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن يجب فيه الدية؛ لأنه أحد الحواس التي تختص بمنفعة، فهو كحاسة السمع والبصر.
وقال القاضي أبو الطيب: قد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (على إيجاب الدية فيه) .
قال ابن الصباغ: قلت أنا: قد نص الشافعي: (على أن لسان الأخرس فيه حكومة وإن كان الذوق يذهب بذهابه) .
واختار الشيخ أبو إسحاق وجوب الدية في الذوق، وقال: إنما تجب في لسان الأخرس الحكومة إذا بقي ذوقه بعد قطع لسانه، فأما إذا لم يبق ذوقه: ففيه الدية.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يحس بالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة.. وجب على الجاني عليه الدية. وإن لم يحس بواحد منها، أو باثنين.. وجب فيه من الدية بقدره. وإن كان يحس بها، إلا أنه لا يحس بها على الكمال.. وجب في ذلك الحكومة دون الدية.(11/532)
[فرع أخذ دية ذهاب الكلام ثم عاد]
] : وإن جنى عليه، فذهب كلامه، ثم عاد كلامه.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أن الكلام لم يذهب.
وإن قطع لسانه، فأخذت منه الدية، ثم نبت له لسان مكانه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يجب رد الدية؟ فيه قولان، كما قلنا في السن.
ومنهم من قال: لا يجب رد الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود السن معهود، وعود اللسان غير معهود، فعلم أنه هبة محددة.
[فرع قطع لهاته]
] : قال في " الأم " [6/106] : (فإن قطع لهاة رجل.. قطعت لهاته. فإن أمكن، وإلا.. وجبت حكومة) . و (اللهاة) : لحم في أصل اللسان.
[مسألة ما يجب في قلع السن]
] : ويجب في السن خمس من الإبل؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في السن خمس من الإبل» . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي كل سن خمس من الإبل» .
إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الثنايا والأضراس والرباعيات، وبه قال علي، وابن عباس، ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.(11/533)
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (في الثنايا خمس خمس، وفي الأضراس بعير بعير) .
وقال عطاء: في الثنيتين والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفي الباقي بعيران بعيران. وهي الرواية الثانية عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق.
وروي: أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أصيب بأضراسه، فقال: (أنا أعرف بالأضراس من عمر) ، يعني: بمنفعتها. ولأنه جنس ذو عدد، فلم تختلف ديتها، كدية الأصابع.
والسن الذي يجب فيه خمس من الإبل: هو ما ظهر من اللثة، وهو: اللحم الذي ينبت فيه السن؛ لأن المنفعة والجمال في ذلك، كما تجب دية اليد في الأصابع وحدها.
وإن قلع ما ظهر من السن، ثم قلع هو أو غيره (سنخ السن) ، وهو: أصلها النابت في اللحم.. وجب على قالع السنخ الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع هو أو غيره الكف.
وإن قلع السن وسنخها.. وجبت عليه دية سن لا غير؛ لأن السنخ يتبع السن في(11/534)
الدية إذا قلع معها، كما لو قطع الأصابع مع الكف. فإن ظهر السنخ المغيب بعلة.. اعتبر المكسور من الموضع الذي كان ظاهرًا قبل العلة، لا بما ظهر بالعلة.
فإن اتفقا: أنه كسر القدر الذي كان ظاهرًا قبل العلة.. فعليه خمس من الإبل.
وإن قال الجاني: كسرت بعض الظاهر، فعلي أقل من خمس من الإبل، وقال المجني عليه: بل كسرت كل الظاهر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به.
[فرع كسر بعض سن]
] : وإن كسر بعض سنه من نصف أو ثلث أو ربع.. وجب عليه من ديتها بقدر ما كسر منها؛ لأن ما وجب في جميعه الدية.. وجب في بعضه بقسطه من الدية، كالأصابع.
فإن قلع قالع ما بقي من السن مع السنخ.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [6/114] : (وجب على الثاني بقدر ما بقي من السن من ديتها، ووجب في السنخ الحكومة؛ لأن السنخ إنما يتبع جميع السن، فأما بعض السن: فلا يتبعها) .
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: وهذا فيه تفصيل: فإن كسر الأول نصف السن في الطول، وبقي النصف، فقلع الثاني الباقي منهما مع السنخ.. وجب نصف دية السن، ويتبعه ما تحته من السنخ في نصف ديته، ووجبت في نصف السنخ الباقي الحكومة، كما لو قطع إصبعين وجميع الكف.. فإنه تجب عليه دية إصبعين، ويتبعهما ما تحتهما من الكف وحكومة في الباقي.
وإن كسر الأول نصف السن في العرض، وقلع الآخر الباقي مع السنخ.. تبعه ما تحته من السنخ، كما لو قطع قاطع من كل إصبع من الكف أنملة، فجاء آخر، فقطع ما بقي من أنامل الأصابع مع الكف.. فإنه يجب عليه أرش ما بقي من الأنامل، ويتبعها الكف، كذلك هذا مثله.
[فرع اضطراب سن لمرض]
] : إذا اضطربت سن رجل لمرض أو كبر، ونقصت منفعتها، فقلعها قالع.. ففيه قولان:(11/535)
أحدهما: تجب فيه الدية؛ لأن جمالها باق، ومنفعتها باقية، وإنما نقصت منفعتها، ونقصان المنفعة لا يوجب سقوط الدية، كاليد العليلة.
والثاني: لا يجب فيها الدية، وإنما تجب فيها الحكومة؛ لأن معظم منفعتها تذهب بالاضطراب، فصارت كاليد الشلاء.
وإن ضرب سن رجل، فاضطربت، فإن قيل: إنها تستقر إلى مدة.. انتظر إلى تلك المدة، فإن استقرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. فلا شيء على الجاني. وإن سقطت.. وجبت عليه ديتها.
فإن قلعها قالع قبل استقرارها.. فهل تجب عليه الدية، أو الحكومة؟ فيه قولان، كما لو قلعها وهي مضطربة بمرض أو كبر.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أنا إذا أوجبنا الحكومة هاهنا.. فإنها تكون أقل من الحكومة في التي قبلها؛ لأن المجني عليه لم ينتفع بالاضطراب الحادث من المرض، وهاهنا المجني عليه قد انتفع بالاضطراب الحادث من الجناية الأولى.
وإن قلع رجل سنًا فيها شق أو أكلة، فإن لم يذهب من أجزائها شيء.. وجب فيها دية سن، كاليد المريضة، وإن ذهب من أجزائها شيء.. سقط من ديتها بقدر الذاهب، ووجب الباقي.
[فرع قلع سنه بسنخها]
] : وإن قلع رجل سن رجل بسنخها وأبانها، ثم ردها المجني عليه إلى مكانها، فنبتت وعادت كما كانت.. وجب على الجاني الدية؛ لأن الدية وجبت عليه بإبانته السن، ورده لها لا حكم له؛ لأنه تجب إزالتها، فإن قلعها قالع.. فلا شيء عليه؛ لأنه يجب قلعها.
وإن لم يرد المقلوعة، وإنما رد مكانها عظمًا طاهرًا، أو قطعة ذهب أو فضة، فنبت عليه اللحم، ثم قلعها إنسان.. ففيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد.
أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأنه أزال ما ليس من بدنه، فلم يجب عليه(11/536)
شيء، كما لو أعاد سنه المقلوعة، ثم قلعها قالع.
والثاني: يجب عليه حكومة؛ لأنه أبيح له أن يتخذ سنًا من عظم طاهر أو ذهب أو فضة، وقد حصل له في ذلك جمال ومنفعة، وقد أزالها، فلزمه الحكومة لذلك.
[فرع اختلاف السن طولًا وقصرًا]
وإن نبتت أسنان رجل أو أضراسه قصارًا أو طوالا، فقلع رجل بعضها.. وجب في كل سن ديتها. وكذلك: إن كانت أضراسه قصارًا أو ثناياه طوالًا.. وجب في كل سن ديتها؛ لأن العادة أن الأضراس أقصر من الثنايا.
وإن كان بعض الأضراس طوالًا وبعضها قصارًا، أو كان بعض الثنايا طوالًا وبعضها قصارًا، أو بعض الرباعيات طوالًا وبعضها قصارًا.. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان النقصان قريبًا.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا من خلقة الأصل، وإن كان النقصان كثيرًا.. ففيها بقسطها من الدية، فإن كانت القصيرة نصف الطويلة.. وجب فيها نصف دية السن، وإن كانت ثلثيها.. ففيها ثلث ديتها؛ لأن هذا القدر من النقص لا يكون إلا من سبب مرض أو غيره) .
[فرع نبات الأسنان سودًا مرة ثانية]
] : إذا نبتت أسنان الصبي سوداء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، فإن كانت كاملة المنفعة غير مضطربة، فقلع قالع بعضها.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا السواد من أصل الخلقة، فهو كما لو كانت العين عمشاء. من أصل الخلقة.
فأما إذا نبتت أسنانه بيضاء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، ثم قلع قالع بعضها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: لا يكون هذا من مرض.. ففيها الحكومة؛ لأنها ناقصة الجمال والمنفعة، وإن قالوا: قد يكون من(11/537)
مرض وغيره.. وجبت في كل سن ديتها؛ لأن الأصل سلامتها من المرض) .
وإن ضرب رجل سن رجل، فاحمرت أو اصفرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. وجبت فيها الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير منفعة، وإن اسودت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيها الحكومة) ، وقال في موضع: (فيها الدية) . فقال المزني: فيها قولان.
وقال سائر أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (تجب فيها الدية) أراد: إذا ذهبت منفعتها.
وحيث قال: (تجب فيها الحكومة) أراد: إذا لم تذهب منفعتها.
وكل موضع قلنا: تجب فيه الحكومة إذا اسودت.. فإنه يجب فيها أكثر من الحكومة إذا احمرت أو اصفرت؛ لأن الشين في السواد أكثر.
[فرع قلع لرجل جميع أسنانه]
] : وإن قلع رجل جميع أسنان رجل، فإن قلعها واحدة بعد واحدة.. وجب عليه لكل سن خمس من الإبل، فيجب عليه مائة وستون بعيرًا؛ لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنًا: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة أضراس، واثنتا عشرة رحًا - وتسمى: الطواحن - وأربعة نواجز، وهي: آخر ما ينبت من الأسنان.
وإذا قلع أسنانه دفعة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية نفس، وهي مائة من الإبل؛ لأن كل جنس من البدن يجب فيه أرش مقدر لم يجب فيه أكثر من دية النفس، كأصابع اليدين والرجلين.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه أرش مقدر في كل سن خمس من الإبل) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأن ما ضمن بأرش مقدر.. لم تنقص ديته بانضمامه إلى غيره في غير النفس، كالموضحة. وما قاله الأول.. يبطل به إذا قطع أصابع يديه ورجليه دفعة واحدة.(11/538)
[مسألة ما يجب في اللحيين]
] : ويجب في (اللحيين) - وهما: العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان - الدية؛ لأن فيهما منفعة وجمالًا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن ما وجبت الدية في اثنين منه.. وجب في أحدهما نصفها، كالعينين.
وإن قلع اللحيين وعليهما الأسنان.. فحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيه وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة، كما لو قطع الأصابع مع الكف.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا العراقيين -: أنه يجب في اللحيين الدية، وفي كل سن خمس من الإبل؛ لأن كل واحد منهما يجب فيه دية مقدرة، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كدية الأسنان والشفتين، ولأن اللحيين كانا موجودين قبل الأسنان، فلم يتبعا ما حدث عليهما من الأسنان، والكف والأصابع وجدا معًا، فتبع الكف الأصابع.
[مسألة في اليدين الدية]
] : وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية» .
وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة.(11/539)
إذا ثبت هذا: فاليد التي تجب فيها الدية هي من مفصل الكوع، فإن قطعها من بعض الساعد، أو من المرفق، أو من المنكب.. وجبت الدية في الكف، وفيما زاد عليه الحكومة.
وقال أبو يوسف: ما زاد على الأصابع إلى المنكب يتبع الأصابع كما يتبعها الكف. وقال أبو عبيد بن حربويه - من أصحابنا -: اليد التي تجب بقطعها الدية هي اليد من المنكب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] فأمر الله بقطع يد السارق مطلقًا، وقطعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مفصل الكوع، فكان فعله بيانًا للآية؛ لأن المنفعة المقصودة باليد من الأخذ والدفع تحصل بالكف، فوجبت الدية فيه. وإن جنى على كف فشلت.. وجبت عليه ديتها؛ لأنه قد أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها.
[فرع ما يجب في الإصبع]
] : ويجب في كل إصبع من أصابع اليدين عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع، وبه قال علي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه روايتان:
إحداهما: مثل قولنا:
والثانية: يجب في الخنصر ست من الإبل، وفي البنصر تسع، وفي الوسطى عشر، وفي السبابة اثنتا عشرة، وفي الإبهام ثلاث عشرة، فقسم دية اليد على الأصابع.(11/540)
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في كل إصبع بعشر من الإبل» .
وروى عمر بن حزم في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع مما هنالك من اليد والرجل عشر من الإبل» .
وقيل: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما وجد هذا في الكتاب عند آل حزم.. رجع عن التفصيل. وروي: (أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقول: في كل إصبع عشر من الإبل، فوجه إليه مروان، وقال له: أما سمعت قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من قول عمر) .
ولأن الدية إذا وجبت بعدد.. قسمت عليه على عدده لا على منافعه، كاليدين والرجلين.
ويجب في كل أنملة من الأصابع ثلث دية الإصبع، إلا الإبهام.. فإنه يجب في كل أنملة منها نصف دية الإصبع، وهو قول زيد بن ثابت.
وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه قال: (للإبهام أيضًا ثلاث أنامل، إحداهن باطنه) .
دليلنا: أن كل إصبع لها أنملة باطنة، ولا اعتبار بها، وإنما الاعتبار بالأنامل الظاهرة ووجدنا لكل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل، وللإبهام أنملتين، فقسمت الدية عليهما.
وإن جنى على إصبع فشلت، أو على أنملة فشلت.. وجب عليه ديتها؛ لأنه أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها.(11/541)
[فرع له كفان من كوع ونحوهما]
] : إذا خلق له كفان على كوع أو يدان على مرفق أو منكب، فإن لم يبطش بواحدة منهما.. فهما كاليد الشلاء، فلا يجب فيهما قود ولا دية، وإنما تجب فيهما الحكومة.
وإن كان يبطش بإحداهما دون الأخرى.. فالباطشة هي الأصلية، والأخرى زائدة، سواء كانت الباطشة على مستوى الذراع أو منحرفة عن سمت الذراع؛ لأن الله تعالى جعل البطش في اليد كما جعل البول في الذكر، فاستدل بالبطش على الأصلية، كما استدل على الخنثى بالبول.
وإن كان يبطش بهما، إلا أن إحداهما أكثر بطشا من الأخرى.. فالتي هي أكثر بطشا هي الأصلية، والأخرى خلقة زائدة.
وإن كانا في البطش سواء، فإن كانت إحداهما على مستوى الخلقة، والأخرى زائلة عن المستوى.. فالمستوية هي الأصلية، والزائلة هي الزائدة، وإن كانتا على مستوى الخلقة، فإن كانت إحداهما لها خمس أصابع وللأخرى أربع أصابع.. فالأصلية هي كاملة الأصابع، والأخرى زائدة.
فإن استويا في ذلك كله إلا أن في إحداهما إصبعًا زائدة.. لم يحكم بكونها أصلية بذلك؛ لأن الإصبع الزائدة قد تكون في اليد الأصلية وفي الزائدة، ومتى حكمنا أن إحداهما أصلية والأخرى زائدة.. أوجبنا في الأصلية القود والدية الكاملة، وفي الأخرى الحكومة.
وإن تساويا ولم تعلم الزائدة منهما من الأصلية.. قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: (فهما أكثر من يد وأقل من يدين، فإن قطعهما قاطع.. قطعت يده، ووجب عليه مع القصاص حكومة للزيادة، وإن عفا عن القصاص، أو كانت الجناية خطأ.. وجب على الجاني دية يد وزيادة حكومة. وإن قطع قاطع إحداهما.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، ولكن يجب عليه نصف دية يد وحكومة.. وإن قطع(11/542)
إصبعًا من إحداهما.. وجب عليه نصف دية إصبع وحكومة. وإن قطع أنملة منهما.. وجب عليه نصف دية أنملة وحكومة) .
[مسألة في الرجلين الدية]
وتجب في الرجلين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما ذكرناه من حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والرجل التي تجب بقطعها الدية: هي القدم، فإن قطعها من نصف الساق أو من الركبة أو من الورك.. وجب الدية في القدم، والحكومة فيما زاد؛ لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل إصبع منها وفي كل أنملة منها ما يجب في أصابع اليد وأناملها؛ لما ذكرناه في اليد.
[فرع فيمن كان له قدمان على كعب]
] : وإن خلق له قدمان على كعب واحد، أو ساقان على ركبة، أو ركبتان على فخذ واحد.. فالحكم فيه كالحكم فيمن خلق له كفان على مفصل، إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (إذا كان أحد القدمين أطول من الأخرى، وكان يمشي على الطويلة.. فالظاهر أن الأصلية هي الطويلة التي يمشي عليها. فإن قطع قاطع القدم الطويلة.. لم يجب على القاطع في الحال الدية، بل ننظر في المقطوع: فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. وجبت الدية في الطويلة؛ لأنا علمنا أن الأصلية هي الطويلة، والقصيرة زائدة، فيجب على قاطعها الحكومة.. وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. وجب على قاطع الطويلة الحكومة؛ لأنا علمنا أن الأصلي هو القصيرة، وإنما منعه من المشي عليها الطويلة، وإن قطع قاطع القصيرة.. وجبت عليه الدية) .(11/543)
فإن جنى رجل على الطويلة، فشلت.. وجبت عليه الدية؛ لأنها هي الأصلية في الظاهر، فإن قطعها قاطع بعد الشلل.. وجبت عليه الحكومة، ثم ينظر فيه:
فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. فقد علمنا أن الأصلية هي الطويلة، واستقر ما أخذه.
وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. علمنا أن القصيرة هي الأصلية، فيجب عليه أن يرد على الجاني الأول على الطويلة ما زاد على الحكومة إلى الدية، وإن قطع قاطع القصيرة.. كان عليه الدية.
[فرع في يد الأعسم ورجل الأعرج الدية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي يد الأعسم ورجل الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية) .
وجملة ذلك: أنه يجب في يد الأعسم وقدم الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق. ولأن العرج إنما يكون لقصر الساق أو لمرض فيه أو في غيره من الرجل، والقدم سالم بنفسه، فلم تنقص دية القدم لذلك. وأما الأعسم: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: هو (الأعسر) : وهو الذي يكون بطشه بيساره أكثر.
وقال ابن الصباغ: (الأعسم) : هو الذي يكون في رسغه مثل الاعوجاج. و (الرسغ) : طرف الذراع مما يلي الكوع. وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق.
[فرع لا تفاضل بين يسار ويمين]
] : ولا تفضل يمين على يسار في الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق.(11/544)
فإن كسر يده، فجبرت، فانجبرت، فإن عادت مستقيمة.. وجبت عليه حكومة للشين، وإن عادت غير مستقيمة.. وجبت عليه الحكومة أكثر مما لو عادت مستقيمة؛ لأنه أحدث بها نقصًا، فإن قال الجاني: أنا أكسرها وأجبرها فتعود مستقيمة.. لم يمكن من ذلك؛ لأن ذلك ابتداء جناية، فإن بادر وكسرها وجبرها، فعادت مستقيمة.. لم يجب رد الحكومة الأولى إليه؛ لأنها استقرت عليه بالانجبار الأول. قال الشيخان: ويجب عليه للكسر الثاني الحكومة.
وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كالجناية إذا اندملت، ولم يكن لها شين.
[مسألة ما يجب في الأليتين]
ويجب في (الأليتين) الدية - وهما: المأكمتان المشرفتان على الظهر إلى الفخذين - لأن فيهما جمالًا ومنفعة، ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لأن الدية إذا وجبت في اثنتين.. وجب في إحداهما نصفها، كاليدين.
وإن قطع بعض إحداهما، وعرف قدر المقطوع.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف، أو جرحها.. وجبت عليه الحكومة؛ لأن الجرح إذا اندمل.. وجبت فيه الحكومة دون الدية.
ولا فرق بين أليتي الرجل والمرأة في ذلك وإن كان الانتفاع بأليتي المرأة أكثر؛ لأن الدية لا تختلف باختلاف المنفعة، كما قلنا في اليمين واليسار.
[مسألة ما يجب في كسر الصلب]
] : وإن كسر صلبه، فأذهب مشيه.. وجبت فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الصلب الدية» .
وقال زيد بن ثابت: (إذا كسر ظهره، فذهب مشيه.. ففيه الدية) . ولا مخالف له.(11/545)
ولأن المشي منفعة جليلة، فشابه البصر والسمع.
وإن لم يذهب المشي، وإنما يحتاج في مشيه إلى عكازة.. وجب فيه حكومة، وإن لم يحتج إلى عكازة ولكنه يمشي مشيًا ضعيفًا.. وجبت عليه حكومة أقل من الحكومة الأولى. وإن عاد مشيه كما كان إلا أن ظهره أحدب.. لزمته حكومة للشين الحاصل بذلك.
[فرع ما يجب في ذهاب الجماع]
] : وإن كسر صلبه، فذهب جماعه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم، ولأنه منفعة جليلة، فشابه السمع والبصر.
وإن كسر صلبه، فذهب ماؤه وبعد.. فقد قال القاضي أبو الطيب: الذي يقتضي المذهب: أنه يجب فيه الدية، وهو قول مجاهد؛ لأنه منفعة مقصودة، فوجب في(11/546)
إذهابه الدية، كالجماع. وإن كسر صلبه، فذهب مشيه وجماعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة؛ لأنهما منفعتا عضو واحد.
والثاني: تجب عليه ديتان، وهو المنصوص؛ لأنهما منفعتان تجب في كل واحدة منهما الدية عند الانفراد، فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع، كالسمع، والبصر.
[فرع ما يجب في اعوجاج العنق]
] : وإن جنى على عنقه، فأصابه (صعر) -: وهو التواء لا يمكنه أن يحول وجهه - لزمته الحكومة؛ لأنه إذهاب جمال من غير منفعة.
وإن يبس عنقه، فلا يمكنه أن يلتفت يمينًا ولا شمالًا.. ففيه حكومة أقل من الحكومة بالصعر؛ لأن الشين فيه أقل، وإن أمكنه أن يلتفت التفاتًا قليلًا.. لزمته حكومة دون الحكومة إذا لم يمكنه الالتفات أصلًا؛ لأن الضرر في هذا أقل.
وإن جنى على عنقه، فيبست حتى لا يدخل فيها الطعام والشراب.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن هذا لا يعيش، فعلى الجاني إن مات القود أو الدية، وإن لم يمت.. فحكومة) . هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: عليه الدية وإن لم يمت.. وكذلك قالوا: إذا ضرب عنقه، فأذهب منفعة المضغ.. ففيه الدية.(11/547)
[مسألة في الإحليل الدية]
] : وفي الذكر الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الذكر الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له. ولأن فيه منفعة وجمالًا، فوجبت فيه الدية. وسواء قطع ذكر صبي أو شيخ أو شاب، أو ذكر خصي أو عنين؛ لعموم الخبر. وإن جنى عليه، فصار أشل، إما منبسطًا لا ينقبض، أو منقبضًا لا ينبسط.. وجبت عليه الدية، كما لو جنى على يد، فشلت.
وإن قطع رجل ذكرًا أشل.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء.
والذكر الذي تجب فيه الدية هو الحشفة؛ لأن منفعة الذكر تذهب بذهابها.
فإن قطع قاطع باقي الذكر.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع آخر كفه.
وإن قطع رجل الحشفة والقضيب.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب فيه الدية، ولا يفرد القضيب بالحكومة؛ لأن اسم الذكر يقع على الجميع، فهو كما لو قطع يده من مفصل الكوع. وقال الخراسانيون: هل يفرد القضيب بالحكومة؟ فيه وجهان. وكذلك عندهم إذا قطع المارن مع القصبة، أو قلع السن مع السنخ.. فهل تفرد القصبة عن المارن، والسنخ عن السن بالحكومة؟ فيه وجهان.
[فرع قطع بعض الحشفة]
] : وإن قطع بعض الحشفة.. ففيه قولان:(11/548)
أحدهما: ينظر كم قدر تلك القطعة من الحشفة بنفسها؟ فيجب فيها من الدية بقدرها من الحشفة؛ لأن الدية تجب بقطع الحشفة وحدها.
والثاني: ينظر كم قدر تلك القطعة من جميع الذكر؟ فيجب فيها من دية الذكر بقدرها؛ لأنه لو قطع جميع الذكر.. لوجبت فيه الدية، فإذا قطع بعضه.. اعتبر المقطوع منه.
وإن قطع رجل قطعة مما دون الحشفة والحشفة باقية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (نظر فيه: فإن كان البول يخرج على ما كان عليه.. وجب بقدر تلك القطعة من جميع الذكر من الدية. وإن كان البول يخرج من موضع القطع.. وجب عليه أكثر الأمرين من حصة القطعة من الدية من جميع الذكر، أو الحكومة) .
وإن جرح ذكره، فاندمل ولم يشل، فادعى المجني عليه: أنه لا يقدر على الجماع.. لم تجب الدية، وإنما تجب الحكومة؛ لأن الجماع لا يذهب مع سلامة العضو، فإذا لم يقدر عليه.. كان لعلة أخرى في غير الذكر، فلا يلزم الجاني دية الجماع. وإن جرح ذكره، فوصلت الجراحة إلى جوف الذكر.. لم يجب أرش الجائفة، وإنما يجب فيه الحكومة؛ لأنه وإن كان له جوف إلا أنه جوف لا يخاف من الوصول إليه التلف.
[مسألة ما يجب في الخصيتين]
] : ويجب في الأنثيين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنثيين الدية» . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت(11/549)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فهما كاليدين، ويجب في كل واحدة منهما نصف الدية.
وقال ابن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية؛ لأن النسل منها، وفي اليمين ثلث الدية؛ لأن الإنبات منها، ومنفعة النسل أكثر.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الأنثيين الدية» . وظاهر هذا: أن الدية مقسطة عليهما بالسوية. وأما قوله: (إن النسل من اليسرى) فلا يصح؛ لأنه روي عن عمرو بن شعيب: أنه قال: عجبت ممن يقول: إن النسل من اليسرى! كان لي غنيمات، فأخصيت، فألقحت. وإن صح.. فإن العضو لا تفضل ديته بزيادة المنفعة، كما لا تفضل اليد اليمنى على اليسرى، وكما لا يفضل الإبهام على الخنصر في الدية.
[فرع قطع القضيب والخصيتين]
] : وإن قطع الذكر والأنثيين معًا، أو قطع الذكر ثم الأنثيين.. وجبت عليه ديتان بلا خلاف.
وإن قطع الأنثيين أولًا، ثم قطع الذكر بعدهما.. وجب عليه ديتان عندنا.(11/550)
وقال أبو حنيفة: (تجب عليه دية الأنثيين، وحكومة في الذكر؛ لأن بقطع الأنثيين قد ذهبت منفعة الذكر؛ لأن استيلاده قد انقطع) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الذكر الدية» . ولم يفرق. ولأن كل عضوين لو قطعا معًا.. وجبت فيهما ديتان، فإذا قطع أحدهما بعد الآخر.. وجبت فيهما ديتان، كما لو قطع الذكر، ثم الأنثيين. وما قاله.. لا نسلمه؛ لأن منفعة الذكر باقية؛ لأنه يولجه. وأما الماء: فإن محله في الظهر لا في الذكر.
وقد قيل: إنه بقطع الأنثيين لا ينقطع الماء، وإنما يرق، فلا ينعقد منه الولد.
[مسألة جراحات الرجل والمرأة]
] : قد ذكرنا: أن دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما ما دون النفس: فاختلف الناس فيه:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الجديد إلى: (أن أرشها نصف أرش الرجل في جميع الجراحات والأعضاء) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال في القديم: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الأرش على ثلث الدية.. كانت على النصف من الرجل) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وربيعة؛ لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل المرأة كعقل الرجل إلى ثلث الدية وهو المأمومة» .(11/551)
وقال ابن مسعود: (تساوي المرأة الرجل إلى أن يبلغ أرشها خمسًا من الإبل، فإذا بلغ خمسًا.. كانت على النصف من أرش الرجل، فيكون من أرش موضحتها بعيرين ونصفًا) . وبه قال شريح.
وقال زيد بن ثابت: (تساويه إلى أن يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل، فإذا بلغ ذلك.. كانت على النصف) . وبه قال سليمان بن يسار.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت إلى ثلث الدية.. كانت على النصف) . وبه قال ابن المسيب، ومالك، وأحمد، وإسحاق.(11/552)
وروي: أن ربيعة الرأي قال: قلت لابن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: فكم في أربع؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت: لما عظمت مصيبتها قل أرشها؟! قال: هكذا السنة يا ابن أخي.
وقال الحسن البصري: تساوي المرأة الرجل إلى نصف الدية، فإذا بلغت نصف الدية.. كانت على النصف من الرجل.
دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» . ولم يفرق بين القليل والكثير.
ولأنه جرح له أرش مقدر، فوجب أن يكون في أرشه على النصف من أرش الرجل أصله مع كل طائفة ما وافقتنا عليه.
وأما حديث عمرو بن شعيب، وابن المسيب: فهما مرسلان، وعلى أن قول ابن المسيب: هكذا السنة، يحتمل أن يريد به غير سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مسألة دية ثديي المرأة]
] : وتجب في ثديي المرأة الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن الصبي يعيش منهما. ولأن الدية إذا وجبت في أذنها وهي أقل منفعة من ثديها.. فلأن تجب في الثدي أولى.
ويجب في أحدهما نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجبت الدية فيهما.. وجب في أحدهما نصفها، كاليدين.
والثديان اللذان تجب فيهما الدية هما (الحلمتان) -: وهما رأس الثدي اللتان(11/553)
يلتقمهما الصبي - لأن الجمال والمنفعة توجد فيهما.
وإن قطع قاطع الحلمتين، ثم قطع آخر باقي الثديين.. وجب على الأول الدية، وعلى الثاني الحكومة، كما لو قطع رجل الأصابع، وقطع آخر بعده الكف.
وقد أوهم المزني أن في الثديين بعد الحلمتين الدية حين قال: وفي الثديين الدية، وفي حلمتهما ديتها. وليس بشيء، وقد بينه في " الأم " [6/114] .
وإن قطع الحلمتين والثديين من أصلهما.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: تجب الدية في الحلمتين والحكومة في الثديين، كما لو قطع الحلمتين، ثم قطع الثديين.
والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يجب عليه إلا دية، كما لو قلع السن مع سنخها.
[فرع فيمن قطع الثدي وأجافه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قطع ثديها، فأجافها.. فعليه نصف الدية للثدي، وثلث دية للجائفة، وإن قطع ثدييها، وأجافهما.. فعليه في الثديين كمال الدية، وفي الجائفتين ثلثا الدية؛ لأن كل واحد منهما فيه دية مقدرة إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. وجب في كل واحد منهما ديته، كما لو قطع أذنه، فذهب سمعه) .
وإن قطع ثديها وشيئًا من جلد صدرها.. ففي الثدي الدية، وفي الجلد الحكومة.
وإن جنى عليهما، فشلًا.. وجبت فيهما الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية في قطعه، وجبت في شلله، كاليدين، وإن لم يشلا، ولكن استرخيا وكانا ناهدين.. وجبت فيهما الحكومة؛ لأنه نقص جمالهما.(11/554)
وإن كان لهما لبن، فجنى عليهما، فانقطع لبنهما أو نقص.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه نقص منفعتهما.
وإن جنى عليهما قبل أن ينزل بهما اللبن، فلم ينزل اللبن فيهما في وقته، فإن قال أهل الخبرة: إن انقطاع اللبن لا يكون إلا من الجناية.. وجبت عليه الحكومة، وإن قالوا: قد ينقطع من غير جناية.. لم تجب الحكومة؛ لأنه لا يعلم أن انقطاعه من الجناية.
[فرع ما يجب في قطع الحلمتين للرجل]
] : وإن قطع حلمتي الرجل.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيهما الحكومة) ، وقال في موضع آخر: (قد قيل: إن فيهما الدية) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: تجب فيهما الدية؛ لأن كل عضو اشترك فيه الرجل والمرأة، وكانت الدية تجب فيه من المرأة.. وجبت فيه من الرجل، كاليدين، والرجلين.
والثاني: لا تجب فيهما الدية؛ لأنه لا منفعة فيهما من الرجل، وإنما فيهما جمال.
ومنهم من قال: لا تجب فيهما الدية، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه، وما ذكره.. فليس بقول له، وإنما حكى قول غيره.
[فرع وجود الثديين يدل على الأنوثة]
] : وإن كان للخنثى المشكل ثديان، كثدي المرأة.. فهل يكونان دليلًا على أنوثيته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما لا يكونان إلا للمرأة.(11/555)
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما قد يكونان للرجل.
فإن قطعهما قاطع، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت على قاطعه دية ثدي امرأة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن قلنا: تجب الدية في ثدي الرجل.. وجبت هاهنا دية ثدي امرأة؛ لأنه اليقين، وإن قلنا: لا تجب الدية في ثدي الرجل. لم تجب هاهنا إلا الحكومة.
وإن ضرب ثدي الخنثى وكان ناهدًا، فاسترسل ولم يجعله دليلًا على أنوثيته. قال القاضي أبو الفتوح: لم تجب على الجاني حكومة؛ لأنه ربما كان رجلًا، ولا جمال له فيهما، ولا يلحقه نقص باسترسالهما، فإن بان امرأة.. وجبت عليه الحكومة.
وإن كان للخنثى لبن، فضرب ضارب ثديه، وانقطع لبنه، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت عليه الحكومة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. بني على الوجهين في لبن الرجل، هل يحكم بطهارته، ويثبت التحريم والحرمة بإرضاعه، ويجوز بيعه، ويضمن بالإتلاف؟
فإن قلنا: تثبت هذه الأحكام.. وجبت هاهنا فيه الحكومة.
وإن قلنا: لا تثبت هذه الأحكام.. لم تجب هاهنا الحكومة، ولكن يعزر به الجاني إذا كان عامدًا؛ للتعدي.
[مسألة في الشفرين دية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي إسكتيها - وهما: شفراها جانبا فرجها - إذا أوعبتا.. ديتها) .
وجملة ذلك: أن (الإسكتين) - وهما: اللحمان المحيطان بالفرج كإحاطة الشفتين بالفم، ولم يفصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين الإسكتين والشفرين، وأهل اللغة يقولون: الشفران حاشية الإسكتين، كما أن أشفار العينين أهدابهما - فإذا(11/556)
قطعهما قاطع.. وجبت عليه الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن لذة الجماع بهما.
وإن قطع أحدهما.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجب فيهما الدية.. وجبت في أحدهما نصف الدية، كاليدين، والرجلين.
ولا فرق بين شفري الصغيرة والعجوز، والبكر والثيب، وسواء كانا صغيرين أو كبيرين، رقيقين أو غليظين، كما قلنا في الشفتين، وسواء كانت قرناء أو رتقاء؛ لأن ذلك عيب في غيرهما، وسواء كانت مخفوضة أو غير مخفوضة؛ لأن الخفض لا تعلق له بالشفرين. فإن جنى على شفريها، فشلا.. وجبت عليه الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية بقطعه.. وجبت بشلله، كاليدين. وإن قطع الشفرين و (الركب) - وهو: عانة المرأة التي ينبت عليها الشعر - وجبت الدية في الشفرين، والحكومة في الركب.
[مسألة فيما يجب بالإفضاء]
] : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أفضاها ثيبًا.. كان عليه ديتها) .
وجملة ذلك: أنه إذا أراد: وطئ امرأة فأفضاها، أو أفضاها بغير الوطء، وجبت عليه الدية. واختلف أصحابنا في كيفية الإفضاء:(11/557)
فقال الشيخ أبو حامد: هو أن يجعل مسلك البول ومسلك الذكر واحدًا؛ لأن ما بين القبل والدبر فيه بعد وقوة فلا يرفعه الذكر، ولأنهم فرقوا بين أن يستمسك البول أو لا يستمسك، وهذا إنما يكون إذا انخرق الحاجز بين مسلك البول ومدخل الذكر.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: وهو أن يزيل الحاجز بين الفرج والدبر، وهو قول القاضي أبي الطيب والجويني. قال الشيخ أبو إسحاق: لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة، ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين، فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول: فلا تتلف بها المنفعة، وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن تجب فيه دية كاملة. وذكر ابن الصباغ له علة أخرى، فقال: لأنه ليس في البدن مثله، ولو كان المراد به ما بين مسلك البول ومسلك الذكر.. لكان له مثل، وهو ما بين القبل والدبر، ولا تجب فيه الدية.
فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك.. وجب عليه مع دية الإفضاء حكومة للشين الحاصل باسترسال البول.
إذا ثبت هذا: فلا تخلو المرأة المفضاة: إما أن تكون زوجته، أو أجنبية أكرهها على الوطء، أو وطئها بشبهة.
فإن كانت زوجته، فوطئها وأفضاها، فإن كان البول مستمسكًا.. فقد استقر عليه المهر بالوطء، ووجبت عليه دية الإفضاء، وإن أفضاها بالوطء واسترسل البول.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، والحكومة؛ لاسترسال البول.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه دية الإفضاء، وإنما عليه المهر فقط) .
دليلنا: أنها جناية وقعت بالوطء، فلم يسقط حكمها باستحقاق الوطء، كما لو وطئها وقطع ثديها أو شجها.
وإن كانت أجنبية، فأكرهها على الوطء وأفضاها.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، وإن استرسل البول.. وجب عليه الحكومة مع دية الإفضاء.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب المهر، وأما الإفضاء: فإن كان البول لا يحتبس..(11/558)
فعليه دية، وإن كان البول يحتبس.. فعليه ثلث دية) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
دليلنا على إيجاب المهر: أنه وطء في غير ملك لا حد فيه على الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئها بشبهة.
وعلى إيجاب الدية: أنه إفضاء مضمون، فوجبت فيه الدية، كما لو لم يحتبس البول. فقولنا: (مضمون) احتراز منه إذا وطئ أمته، فأفضاها.
إذا ثبت هذا: فإن كانت ثيبا.. وجب عليه مهر ثيب، وإن كانت بكرًا.. وجب عليه المهر والدية، ويدخل أرش البكارة في الدية.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخل أرش البكارة، كما لو أكره بكرًا، فوطئها وافتضها.. فإن أرش البكارة لا يدخل في المهر.
المذهب الأول: لأن الدية تجب بإتلاف عضو، وأرش البكارة بإتلاف العضو، فتداخلا، والمهر يجب بغير ما تجب به الدية، وهو الوطء، فلم يتداخلا.
وإن وطئها بشبهة أو في عقد فاسد وأفضاها.. وجب عليه المهر والدية، فإن كان البول مسترسلًا.. وجبت عليه الحكومة مع الدية. وإن كانت بكرًا.. فهل يدخل أرش البكارة في الدية؟ على وجهين، كما لو أكرهها.
وقال أبو حنيفة: (إن كان البول مسترسلًا.. وجبت الدية، ودخل فيها المهر، وإن كان البول مستمسكًا.. وجب المهر وثلث الدية) .
دليلنا: أن هذه جناية ينفك الوطء عنها، فلم يدخل بدله فيها، كما لو وطئها، فكسر صدرها. وإن طاوعته على الزنا، فأفضاها.. فلا مهر لها، وعليه دية الإفضاء، وإن كانت بكرًا.. لم يجب لها أرش البكارة؛ لأنها أذنت في إتلافها.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب له دية الإفضاء؛ لأنه تولد من مأذون فيه، وهو الوطء، فهو بمنزلة إذهاب البكارة) .(11/559)
ودليلنا: أن الإفضاء ينفك عنه الوطء، فكان مضمونًا مع الإذن في الوطء، ككسر الصدر. ويخالف إذهاب البكارة، فإنه لا ينفك عن الوطء.
[فرع إفضاء الخنثى]
] : وإن افضى الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره الشيخ أبو حامد.. لم تجب الدية؛ لأنه ليس بفرج أصلي، وإنما تجب الحكومة إن وجد في فرج الخنثى المشكل المسلكان، وإن لم يوجد فيه إلا مسلك البول.. فلا يتصور فيه الإفضاء على هذا. وإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره القاضي أبو الطيب.. فعلى تعليل ابن الصباغ - حيث قال: لأنه ليس في البدن مثله - تجب هاهنا دية الإفضاء. وعلى تعليل الشيخ أبي إسحاق - حيث قال: لا تجب الدية إلا بإتلاف منفعة كاملة - فلا تجب الدية بإفضاء الخنثى، وإنما تجب الحكومة.
وإن افتض البكارة من فرج الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن الحكومة تجب، ولكن لا بموجب حكومة البكارة، وإنما بموجب حكومة جراح وأرش جناية وألم؛ لأن البكارة لا تكون إلا في الفرج الأصلي.
[فرع يكون العمد بالإفضاء]
] : وكل موضع قلنا: تجب الدية بالإفضاء، فإن العمد المحض يتصور في الإفضاء، وهو: أن يطأها صغيرة أو ضعيفة، الغالب إفضاؤها، فتجب الدية مغلظة في ماله، ويتصور فيه عمد الخطأ، مثل: أن يقال: قد يفضيها وقد لا يفضيها، والغالب أنه لا يفضيها، فإن أفضاها.. فهو عمد خطأ، فتجب فيه دية مغلظة على عاقلته، وهل يتصور فيه الخطأ المحض بالوطء؟ فيه وجان:
أحدهما: أنه يتصور، مثل: أن يقال: لا يفضي بحال، فأفضاها، أو كان له زوجة قد تكرر وطؤه لها، فوجد امرأة على فراشه، فظنها زوجته، فوطئها،(11/560)
فأفضاها، فيكون خطأ محضًا، كما لو رمى هدفًا فأصاب إنسانًا، فتجب فيه دية مخففة على العاقلة.
والثاني: لا يتصور فيه الخطأ المحض؛ لأنه يكون قاصدًا إلى الفعل بكل حال.
[مسألة لا قصاص في الشعور ولا دية]
] : وأما الشعور: فلا يجب فيه قصاص ولا دية، وبه قال أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (تجب في شعر الرأس الدية، وفي شعر الحاجبين الدية، وفي أهداب العينين الدية، وفي اللحية الدية، وهو إذا لم تنبت هذه الشعور بعد حلقها؛ لما روي: أن رجلًا أفرغ على رجل قدرًا، فتمعط شعره، فأتى عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال له: اصبر سنة، فصبر سنة، فلم ينبت شعره، فقضى فيه بالدية) .
ودليلنا: أنه إتلاف شعر، فلم يكن فيه أرش مقدر، كشعر الشارب والصدر.
وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. يعارضه ما روي عن أبي بكر الصديق، وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما لم يوجبا الدية.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا حلق شعر رجل، أو طرح عليه شيئًا فتمعط، فإن نبت كما(11/561)
كان من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني شيء، كما لو قلع سن صغير، ثم نبت.
وإن لم ينبت أصلًا، وأيس من نباته.. وجبت فيه حكومة؛ للشين الحاصل بذهابه، وتختلف الحكومة باختلاف الجمال في ذلك الشعر. وإن نبت الشعر، إلا أنه أقل من الأول.. ففيه حكومة، وإن كان الثاني أحسن من الأول؛ لأنه بعضه.
وإن نبت أكثر مما كان، وكان فيه قبح.. وجبت فيه الحكومة؛ لأن فيه شينًا.
[فرع أزال لحية امرأة]
] : وإن نبت للمرأة لحية، فحلقها حالق، فلم تنبت.. فهل تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أنه لا حكومة فيها؛ لأن بقاء اللحية في حقها شين، وزوالها في حقها زين.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب فيها الحكومة) ؛ لأن ما ضمن من الرجل.. ضمن من المرأة، كسائر الأعضاء، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن الحكومة فيها أقل من الحكومة في لحية الرجل؛ لأن للرجل جمالًا بها، ولا جمال في اللحية للمرأة، وإنما الحكومة للألم والعدوان) .
وإذا ثبت هذا: فإن نبت للخنثى المشكل لحية.. فهل يكون دليلًا على ذكوريته؟ فهي وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان عليه حكومة، كالحكومة في لحية الرجل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان في وجوب الحكومة فيها وجهان، كلحية المرأة.(11/562)
[مسألة ما يجب في الترقوة والضلع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي الترقوة جمل، وفي الضلع جمل) ، وقال في موضع: (تجب في كل واحد منهما حكومة) . واختلف أصحابنا فيهما:
فذهب المزني، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين:
أحدهما: يجب في كل واحد منهما أرش مقدر، وهو جمل، وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في الترقوة بجمل، وفي الضلع بجمل) .
والثاني: لا يجب فيهما أرش مقدر، وإنما تجب فيهما حكومة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لأنه كسر عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة، فلم يجب فيه أرش مقدر، كسائر عظام البدن. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. فيحتمل أنه قضى بذلك على سبيل الحكومة.
ومنهم من قال: لا يجب فيه أرش مقدر، وإنما تجب الحكومة، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن الضلع معروف، وأما (الترقوة) : فهي العظم المدور من النحر إلى الكتف. وللإنسان ترقوتان، الواحدة: ترقوة - بفتح التاء - على وزن: فعلوة. وقيل: ليس في كلام العرب على هذا الوزن إلا ترقوة. و (عرقوة الدلو) : وهي العود المعترض فيه.(11/563)
[مسألة يعزر الجاني إذ لم يكسر ولم يضيع منفعة أو جمالًا]
] : فإذا جنى على رجل جناية لم يحصل بها جرح ولا كسر ولا إتلاف حاسة، بأن لطمه الجاني، أو لكمه، أو ضربه بخشبة، فلم يجرح ولم يكسر.. نظرت:
فإن لم يحصل به أثر، أو حصل به سواد أو خضرة ثم زال.. لم يجب على الجاني أرش؛ لأنه لم ينقص شيئًا من جماله ولا من منفعته، ويعزر الجاني لتعديه.
وإن اسود موضع الضرب أو اخضر أو احمر.. ينظر إلى الوقت الذي يزول مثل ذلك في العادة، فإن لم يزل.. وجبت على الجاني الحكومة؛ لأن في ذلك شينًا، فإن أخذت منه الحكومة، ثم زال ذلك الشين.. وجب رد الحكومة، كما لو كان ابيضت عينه، فأخذ أرشها، ثم زال البياض.
وإن جنى على حر جناية نقص بها جمال أو منفعة ولا أرش لها مقدر.. فقد ذكرنا: أنه تجب فيها الحكومة.
وكيفية ذلك: أن يقوم هذا المجني عليه لو كان عبدًا قبل الجناية، ثم يقوم بعد اندمال الجناية، فإن بقي للجناية شين ونقصت قيمته به.. وجب على الجاني من الدية بقدر ما نقص من القيمة، وإن نقص العشر من قيمته.. وجب العشر من ديته، وإن نقص التسع من قيمته.. وجب التسع من ديته؛ لأنه لما اعتبر العبد بالحر في الجنايات التي لها أرش مقدر.. اعتبر الحر بالعبد في الجنايات التي ليس لها أرش مقدر، ولأن جملته جملة مضمونة بالدية، فكانت أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية، كما أن المبيع لما كان مضمونًا على البائع بالثمن.. كان أرش العيب الموجود فيه مضمونًا بجزء من الثمن، ولا سبيل إلى معرفة ما ليس فيه أرش مقدر إلا بالتقويم، كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال: يعتبر ما نقص من القيمة من دية العضو المجني عليه، لا من دية النفس، فإن كان الذي نقص هو عشر القيمة، والجناية على اليد.. وجب عشر دية اليد، وإن كان على الإصبع.. وجب عشر دية(11/564)
الإصبع، وإن كان على الرأس أو الوجه فيما دون الموضحة.. وجب عشر دية الموضحة، وإن كان على البدن فيما دون الجائفة.. وجب عشر دية الجائفة.
والمذهب الأول؛ لأنه لما وجب تقويم النفس.. اعتبر النقص من ديتها، ولأن القيمة قد تنقص بالسمحاق عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضحة.. تقاربت الجنايتان، وتباعد الأرشان.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يبلغ بالحكومة أرش العضو المجني عليه، فإن كانت الجناية على الإصبع، فبلغت حكومتها دية الإصبع، أو على البدن مما دون الجائفة، فبلغت الحكومة أرش الجائفة.. نقص الحاكم من الحكومة شيئًا بقدر ما يؤديه إليه اجتهاده؛ لأنه لا يجوز أن تجب فيما دون الإصبع ديتها، ولا فيما دون الجائفة ديتها.
وإن قطع كفًا لا إصبع له.. ففيه وجهان حكاهما الخراسانيون.
أحدهما: لا يبلغ بحكومته دية إصبع.
والثاني: لا يبلغ بحكومته دية خمس أصابع.
[فرع يؤخذ بالأكثر من الشين أو الجراح]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جرحه، فشان وجهه أو رأسه شينًا يبقى، فإن كان الشين أكثر من الجراح.. أخذ بالشين، وإن كان الجراح أكثر من الشين.. أخذ بالجراح ولم يرد للشين) .
وجملة ذلك: أنه إذا شجه في رأسه أو وجهه شجة دون الموضحة، فإن علم قدرها من الموضحة.. وجب بقدرها من أرش الموضحة، وإن اختلف قدرها من الموضحة والحكومة.. وجب أكثرهما، وقد مضى بيان ذلك ولا تبلغ الحكومة فيما دون الموضحة أرش الموضحة.
وإن كانت الموضحة على الحاجب فأزالته، وكان الشين أكثر من أرش(11/565)
الموضحة.. وجب ذلك؛ لأن الحاجب تجب بإزالته حكومة، فإذا انضم إلى ذلك الإيضاح.. لم ينقص عن حكومته.
[فرع زال العيب أو بقي أثر لا تنقص به القيمة]
] : وإن لم يبق للجناية شين بعد الاندمال، أو بقي لها شين لم تنقص به القيمة.. فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: لا تجب فيها الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب لنقص القيمة، ولم تنقص به القيمة، فلم تجب الحكومة، كما لو لطمه، فاسود الموضع، ثم زال السواد.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة، وهو المنصوص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإن نتف لحية امرأة أو شاربها.. فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل؛ لأن الرجل له فيها جمال، ولا جمال للمرأة فيها، ولأن جملة الآدمي مضمونة، فإذا أتلف جزءًا منها.. وجب أن يكون مضمونًا، كسائر الأعيان) .
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لا بد أن ينقص، فإن لم ينقص منه.. قوم قبله، فإن لم ينقص.. قوم والدم جار، كما قلنا في ولد الأمة إذا غر رجل بحريتها: أنه يقوم حالة الوضع؛ لأنه أول حالة إمكان تقويمه.
وإن نتف لحية امرأة وأعدمها النبات.. قال أبو إسحاق المروزي: اعتبرتها بعبد كبير، فأقول: هذا العبد الكبير كم قيمته وله مثل هذه اللحية؟ فإن قيل: مائة.. فكم قيمته ولا لحية له؟ فإن قيل: تسعون.. وجب على الجاني عشر دية المرأة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.
وإن قطع أنملة لها طرفان.. فإنه يجب في الطرف الأصلي ديته، ويجب في الزائدة حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يبلغ به أرش الأصلي. هذا نقل أصحابنا(11/566)
البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا قطع إصبعًا زائدة.. فيه وجهان:
أحدهما: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.
والثاني: يقال: كم ينقص من قيمة العبد وقت الجناية؟
وإن قلع سنًا زائدًا - وهو: الخارج عن سمت الأسنان ومن ورائه إلى داخل الفم سن أصلية - فلم ينقص قيمته بقلعها.. فإنه يقال: لو كان هذا عبدًا.. كم كانت قيمته وله هذا السن الزائدة وليس له ما وراءه من السن الأصلي؛ لأن الزائد يسد الفرجة إذا لم يكن له السن الأصلية؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وليس له السن الزائد ولا الأصلي الذي من ورائه؟ فإن قيل: تسعون.. علم أنه نقص عشر قيمته، فيجب له عشر الدية.
[فرع كسر عظمًا فانجبر وعاد كما كان]
] : وإن كسر له عظمًا في غير الرأس والوجه، فجبره، فانجبر، فإن عاد مستقيمًا كما كان.. فقد قال القاضي أبو الطيب: هل تجب فيه الحكومة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا جرحه جراحة لا أرش لها مقدر، واندملت ولم يبق لها شين.
وقال الشيخ أبو حامد: تجب الحكومة، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا بد أن يبقى في العظم بعد كسره وانجباره ضعف.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
وإن انجبر وبقي له شين.. وجبت فيه الحكومة أكثر مما لو عاد مستقيمًا.
وإن انجبر وبقي معوجًا.. وجبت فيه الحكومة أكثر من الحكومة إذا بقي الشين من غير اعوجاج.
[فرع أفضى امرأة بعد جرحها فعليه حكومة]
] : وإن أفضى امرأة، ثم التأم الجرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم تجب الدية، ووجبت الحكومة) .(11/567)
وإن أجافه جائفة، فالتأمت الجائفة.. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح ":
أحدهما: لا يجب أرش الجائفة، وإنما تجب الحكومة، كما قلنا فيه إذا أفضى امرأة، والتأم الجرح.
والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أن أرش الجائفة يجب؛ لأن أرش الجائفة إنما وجب لوجود اسمها، فلم يسقط بالالتئام، كأرش الموضحة والهاشمة.
ودية الإفضاء إنما وجبت لإزالة الحاجز، فإذا عاد الحاجز.. لم تجب الدية، كما لو ذهب ضوء العين، ثم عاد.
[فرع فزع شخصًا فأحدث في ثيابه]
] : فإن فزع إنسانًا، فأحدث في الثياب.. لم يلزمه ضمان؛ لأنه لم يحدث نقصًا في جمال ولا منفعة.
[مسألة في قتل القن وجوب قيمته]
] : وإن قتل حر عبدًا أو أمة لغيره.. وجبت عليه قيمته، سواء بلغت دية حر أو أكثر، وسواء قتله عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ، وسواء ضمنه باليد أو بالجناية، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن كانت قيمته دون دية الحر.. وجبت، وإن كانت مثلها أو أكثر منها.. نقصت عن دية الحر عشرة دراهم. وإن كانت أمة، فبلغت قيمتها دية حرة.. نقصت عشرة دراهم - في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: خمسة دراهم - هذا إذا ضمنه بالجناية، وإن ضمنه باليد، بأن يغصب عبدًا، فيموت في يده.. ضمنه بقيمته بالغة ما بلغت) . كقولنا.
دليلنا: أنه مضمون بالإتلاف؛ لحق الآدمي بغير جنسه، فضمن بقيمته بالغة ما بلغت، كسائر الأموال.(11/568)
فقولنا: (بالإتلاف) احتراز مما لو غصب عبدًا وهو باق في يده؛ فإنه مضمون يَردُّهُ. وقولنا: (لحق الآدمي) احتراز من الكفارة، ومن جزاء الصيد الذي له مثل. وقولنا: (من غير جنسه) احتراز ممن غصب شيئًا من ذوات الأمثال وتلف أو أتلفه.
[فرع يضمن من القن ما يضمن من الحر]
] : وأما ما دون النفس من العبد: فهو معتبر بالحر، فكل شيء وجب فيه من الحر الدية.. وجب فيه من العبد قيمته، وكل شيء مضمون من الحر بحر، ومقدر من الدية.. ضمن من العبد بمثل ذلك الجزء من قيمته، وكل شيء ضمن من الحر بالحكومة. ضمن من العبد بما نقص من قيمته، وبه قال عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: كقولنا.
والثانية: ما لا منفعة فيه، كالأذنين، واللحية، والحاجبين.. فإن فيه ما نقص من قيمته. ونحن نوافقه على الحاجبين في العبد، إلا أنه يخالفنا في الحاجبين من الحر.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يضمن بما نقص من قيمته إلا الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، فإنه يضمن بجزء من قيمته) .
وقال محمد بن الحسن: يضمن جميع أطرافه وجراحاته بما نقص من قيمته. وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بمشهور.
والدليل على صحة ما قلناه: أنه قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع.(11/569)
ولأنه حيوان يضمن بالقصاص والكفارة، فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدله، كالحر.
[فرع قتل وجناية عبد على قن]
] : وإن قتل عبد عبدًا عمدًا.. فقد ذكرنا: أن لسيده أن يقتص منه؛ لأنه مساو له، فإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ أو عمد خطأ.. تعلق الأرش برقبة الجاني، ولا شيء على سيده، فيكون سيده بالخيار: بين أن يسلمه ليباع، أو يفديه. فإن سلمه للبيع، فبيع.. نظرت:
فإن كان ثمنه أكثر من أرش الجناية.. كان الفضل لسيده.
وإن كان الأرش أكثر.. لم يجب على سيد الجاني الزيادة؛ لأنه ليس عليه أكثر من تسليم عبده.
وإن اختار أن يفديه، فإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول أو أكثر.. فداه بقيمة المقتول، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه إلا قدر قيمة القاتل؛ لأنه إنما يفدي رقبته، فلم يلزمه أكثر من قيمتها.
والثاني: يلزمه قيمة المقتول بالغة ما بلغت، أو يسلم عبده للبيع؛ لأنه ربما رغب من يشتري عبده بأكثر من قيمته.
[فرع قتل جماعة عبيد عبدًا]
] : وإن قتل عشرة أعبد عبدًا لرجل عمدًا.. فسيد المقتول بالخيار: بين أن يقتل جميع العبيد، أو يعفو عنهم. فإن قتلهم.. فلا كلام، وإن عفا عنهم.. تعلق برقبة كل واحد منهم عشر قيمة المقتول. وإن قتل بعضهم، وعفا عن بعضهم.. جاز، وتعلق برقبة كل واحد ممن عفا عنه عشر قيمة المقتول.
وإن قتل عبد لرجل عبدين لرجلين، لكل واحد منهما عبد، عمدًا.. ثبت لهما القصاص عليه، فيقتل بالأول منهما، فإذا قتل به.. سقط حق سيد العبد المقتول(11/570)
ثانيًا، وإن عفا سيد العبد المقتول أولًا عن القصاص على مال.. تعلق برقبة القاتل قيمة العبد المقتول أولًا، ولسيد العبد المقتول ثانيًا أن يقتص منه؛ لأن تعلق المال برقبته لا يمنع من وجوب القصاص عليه، كما لو قتل العبد المرهون غيره.
وإن عفا سيد العبد المقتول ثانيًا عن القصاص، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلق برقبة العبد الجاني قيمة العبدين، فيباع، فإن اتسع ثمنه لقيمتهما، وإلا.. قسم بينهما على قدر قيمتهما. ولا يقدم سيد العبد المقتول أولًا كما يقدم في القصاص؛ لأن القصاص لا يتبعض، والمال يتبعض، فهو كما لو أتلف على جماعة أموالًا.
وإن قتلهما معًا عمدًا.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان كما لو جنى عليه أولًا. وإن عفوا على مال، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلقت قيمة المقتولين برقبة العبد القاتل.
[فرع قتل قن عبدًا لرجلين]
] : وإن قتل عبد لرجل عبدًا لرجلين عمدًا.. ثبت لهما القصاص، فإن عفوا، أو عفا أحدهما.. سقط القصاص، وحكم المال في العفو قد مضى.
وإن قتل عبد مكاتبًا.. وجب القصاص.
وقال أبو حنيفة: (إن خلف وفاء وله وارث غير المولى.. لم يجب القصاص) .
دليلنا: أنه لو كان قنًا.. لوجب له القصاص، كما لو لم يخلف وفاء.
[مسألة قطع حر يد عبد فأعتق]
] : وإن قطع حر يد عبد وأعتق العبد، ثم مات من القطع.. لم يجب القصاص؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، ويجب فيه دية حر؛ لأن الاعتبار بالأرش حال استقرار الجناية، وهو حر حال الاستقرار. ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من نصف القيمة أو جميع الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل.. لم يجب للسيد أكثر(11/571)