وأجمعت الأمة: على توريث الجدة.
إذا ثبت هذا: فإن فرضها السدس، سواء كانت أم الأم أو أم الأب. وبه قال كافة الصحابة والفقهاء.
وروي عن ابن عباس رواية شاذة: أنه قال: (أم الأم ترث الثلث، لأنها تدلي بالأم فورثت ميراثها، كالجد يرث ميراث الأب) .
ودليلنا: ما ذكرناه من الخبرين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروى قبيصة بن ذؤيب: (أن جدة أتت أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تطلب ميراثها، فقال أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، ثم سأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أعطاها السدس، فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة وشهد بمثل ما شهد المغيرة، فأنفذه أبو بكر، ثم أتت الجدة الأخرى إلى عمر تطلب ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان ذلك القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، ولست بزائد في الفرائض، وإنما هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما.. فهو بينكما، وأيكما خلت به.. فهو لها) . قال الشيخ أبو حامد: والجدة التي أتت أبا بكر هي أم الأم، والجدة التي أتت عمر هي أم الأب.(9/42)
ومعنى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ما لك في كتاب الله شيء) : أن الكتاب محصور، وليس فيه ذكر الجدة، ولهذا قلنا: إن اسم الأم لا يطلق على الجدة، لأنه قال: (ما لك في الكتاب شيء) ، وفي الكتاب ذكر الأم، ثم قال: (وما علمت لك في السنة شيئاً) ، فلم يقطع به، لأن السنة لا تنحصر، ولكن أراد على مبلغ علمه.
ومعنى قول عمر: (لست بزائد في الفرائض) أي: لا أزيد في الفريضة لأجلك، وإنما هو ذلك السدس الذي قضى به.
وأما الاحتجاج بقول ابن عباس: لما كانت تدلي بالأم أخذت ميراثها.. فيبطل بالأخ من الأم، فإنه يدلي بها ولا يأخذ ميراثها.
إذا ثبت هذا: فإن أول منازل الجدات يجتمع فيه جدتان، وهي: أم الأم وأم الأب. فإن عدمت إحداهما ووجدت الأخرى.. كان السدس للموجودة منهما، وإن اجتمعتا.. كان السدس بينهما.
قال الشيخ أبو إسحاق: لما روى الحكم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الجدتين السدس» . وروى القاسم بن محمد، قال: (أتت الجدتان- أم الأم وأم الأب - أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأعطى أم الأم السدس، ولم يعط أم الأب شيئاً، فقال له رجل من الأنصار: ورثتها عمن لو ماتت لم يرثها، ولم تورثها عمن لو ماتت.. لورثها! فأشرك أبو بكر بينهما السدس) .
قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يحكمون أن هذه القضية كانت لعمر، وإنما هي قضية أبي بكر.(9/43)
ومعنى قول الأنصاري: (ورثتها عمن لو ماتت.. لم يرثها) أي: أن أم الأم ورثتها عن ابن ابنتها، فهذه الجدة لو ماتت.. لم يرثها ابن بنتها، ولم ترث أم الأب عمن لو ماتت.. لورثها، لأنه ابن ابنها.
فإذا ارتفعت الجدات إلى المنزلة الثانية.. اجتمعن أربع جدات: اثنتان من جهة الأم، وهما: أم أم الأم، وأم أبي الأم، واثنتان من جهة الأب، وهما: أم أم الأب، وأم أبي الأب.
فأما أم أم الأم، وأم أم الأب: فهما وارثتان بلا خلاف، وأما أم أبي الأم: فإنها غير وارثة. وهو قال كافة الفقهاء، إلا ما روي عن ابن سيرين: أنه ورثها.
وهذا خطأ، لأنها تدلي بمن ليس بوارث، فلم تكن وارثة، كابنة الخال.
وأما الجدة أم أبي الأب..فهل ترث؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ترث - وهي إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال أهل الحجاز: الزهري وربيعة ومالك - لأنها جدة تدلي بجد.. فلم ترث، كأم أبي الأم.
فعلى هذا: لا ترث قط إلا جدتان.
والثاني: أنها ترث، وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس، وهي إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين، وأهل الكوفة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح، لأنها جدة تدلي بوارث فورثت، كأم الأم. ولأن تعليل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - موجود فيها، حيث قيل لأبي بكر في أم الأب: ورثتها عمن لو ماتت: لم يرثها، ولم تورثها عمن لو ماتت.. لورثها! فورثها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لهذه العلة، وهي موجودة في أم أبي الأب.(9/44)
فعلى هذا: ترث في الدرجة الثانية ثلاث جدات.
فإذا ارتفعت الجدات إلى الدرجة الثالثة.. اجتمع ثماني جدات، فترث منهن أربع ولا ترث أربع. وإنما كان كذلك، لأن الميت واحد فله في المنزلة الأولى جدتان، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثانية.. كان للميت أبوان، ولكل واحد منهما جدتان، فلذلك قلنا: له في الدرجة الثانية أربع جدات، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثالثة.. كان له جدان وجدتان، لكل واحد منهما جدتان، فيجتمع له في الدرجة الثالثة ثماني جدات. ثم في الرابعة ست عشرة جدة، وكلما ارتفع الميت درجة.. ازداد عدد الجدات ضعفاً.
وأما الوارثات منهن: فترث في الدرجة الأولى جدتان، وفي الثانية ثلاث، وفي الثالثة أربع، وفي الرابعة خمس، إلى أن ترثه مائة جدة في الدرجة التاسعة والتسعين؛ لأن عدد الجدات الوارثات يزيد عن عدد الدرجات بواحدة.
وإذا اجتمعن الجدات الوارثات وهن متحاذيات.. كان السدس بينهن، لما ذكرناه في الجدتين: أم الأم، وأم الأب. وإن اجتمع جدتان، إحداهما أبعد من الأخرى.. نظرت: فإن كانتا من جهة واحدة، بأن كان هناك أم أم، وأم أم أم.. كان السدس لأم الأم، لأن البعدى تدلي بهذه القربى، وكل من أدلى بغيره.. فإنه لا يشاركه في فرضه، كالجد مع الأب، وابن الابن مع الابن. وعلى هذا جميع الأصول.
فإن قيل: أليس الأخ للأم يدلي بالأم، ومع ذلك فإنه يرث معها؟
فالجواب: أنه لا يرث أخاه بالإدلاء إليه بالأم، ولكن لأجل أنه ركض معه في رحم واحد، لأنه وإن أدلى بها.. فقد احترزنا عنه بقولنا: (لا يشاركه في إرثه) ، وهو: أن السدس إرث للقربى لو انفردت، فلو ورثت الجدة البعدى.. لشاركتها في ذلك السدس، وليس كذلك الأخ للأم، فإنه لا يشارك أمه في إرثها، بل تأخذ حقها ويأخذ هو حقه.
وإن اجتمع أم أب، وأم أبي الأب.. فإن السدس يكون لأم الأب، وتسقط أم أبي الأب. وبه قال علي وزيد، والفقهاء أجمع.(9/45)
وقال ابن مسعود - في إحدى الروايتين عنه-: (يشتركان في السدس) .
وهذا ليس بصحيح، لأنهما من جهة واحدة، لأنهما يدليان بالأب، وإحداهما أقرب من الأخرى، فسقطت البعدى منهما بالقربى، كأم الأم إذا اجتمعت مع أم أم الأم.
وإن كانتا من جهتين: إحداهما من جهة الأم، والأخرى من جهة الأب.. نظرت: فإن كانت القربى من جهة الأم، والبعدى من جهة الأب.. فإن القربى تسقط البعدى.
وقال ابن مسعود: (لا تسقطها، وإنما يشتركان في السدس) .
دليلنا: أن إحداهما أقرب من الأخرى فسقطت البعدى بالقربى، كما لو كانتا من جهة واحدة.
وإن كانت القربى من جهة الأب، والبعدى من جهة الأم.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البعدى منهما تسقط بالقربى- وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول أهل الكوفة، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت - لأنهما جدتان لو انفردت كل واحدة منهما.. لكان لها السدس، فإذا اجتمعتا.. وجب أن تسقط البعدى بالقربى، كما لو كانت القربى من جهة الأم.
والثاني: لا تسقط البعدى بالقربى، بل تشتركان في السدس - وهي الرواية الثانية عن زيد، رواها المدنيون عنه- وهو الصحيح، لأن الأب لو اجتمع مع أم الأم.. لم يحجبها وإن كان أقرب منها، فلأن لا تسقط الجدة التي تدلي به من هو أبعد من جهة الأم أولى.(9/46)
[فرع: اجتماع جدتين متحاذيتين إحداهما تدلي بسبب والأخرى باثنين]
وإن اجتمعت جدتان متحاذيتان، وإحداهما تدلي بقرابة والأخرى تدلي بقرابتين، بأن يتزوج رجل بابنة عمته فيولد منها ولدا، فإن جدة هذا الولد أم أبي أبيه، وهي جدته أم أم أمه، فإن اجتمع معها أم أم أبي هذا الولد.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس، وبه قال الحسن بن صالح ومحمد بن الحسن وزفر - أن السدس يقسم بين هاتين الجدتين على ثلاثة، فتأخذ التي تدلي بولادتين سهمين، لأنها تدلي بسببين، وتأخذ التي تدلي بولادة سهماً، لأنها تدلي بسبب واحد.
والثاني: يقسم السدس بينهما نصفين - وبه قال أبو يوسف - وهو الصحيح، لأنها شخص واحد، فلا يأخذ فرضين.
[مسألة: ميراث البنت]
] : وأما (البنت) : فلها النصف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، و: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] . وبه قال كافة الصحابة والفقهاء.
وروي عن ابن عباس رواية شاذة: أنه قال: (للابنتين النصف) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] [النساء: 11] .
ودليلنا: ما روى جابر: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنتان لها، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما يوم أحد، وقد أخذ عمهما(9/47)
مالهما، ولم يعطهما شيئاً، ووالله إنهما لا ينكحان ولا مال لهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقضي الله في ذلك "، فنزل قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] الآية [النساء: 11] ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادع لي المرأة وصاحبها " فدعوتهما، فقال للعم: " أعط الابنتين الثلثين، وأعط للأم الثمن، وما بقي.. فلك» ، فدل على أن للابنتين الثلثين. ولأن الآية وردت على سبب، وهو: ابنتا سعد بن الربيع، فلا يجوز إخراج السبب عن حكم الآية.
وأيضاً: فإن الله عز وجل فرض للابنة الواحدة النصف، وفرض للأخت الواحدة النصف في آية أخرى، وجعل حكمهما واحدا، ثم جعل للأختين الثلثين، ووجدنا أن البنات أقوى من الأخوات، بدليل: أن البنات لا يسقطن مع الأب ولا مع البنين، والأخوات يسقطن مع الأب والبنين. فإذا كان للأختين الثلثان.. فالابنتان بذلك أولى.
وأما الجواب عن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] فإن قَوْله تَعَالَى: فوق صلة في الكلام، كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] [الأنفال: 12] أي: فاضربوا الأعناق.
وإن كن البنات أكثر من اثنتين.. فلهما الثلثان، للآية والإجماع.
[مسألة: ميراث ابنة الإبن]
] : وأما (ابنة الابن) : فلها النصف إذا انفردت، ولابنتي الابن فصاعدا الثلثان،(9/48)
لأن الأمة أجمعت: أن ولد البنين يقومون مقام الأولاد، ذكورهم كذكور الأولاد، وإناثهم كإناثهم.
[فرع: اجتماع ابنة وابنة ابن أو أكثر]
] : وإن اجتمع ابنة وابنة ابن.. كان للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين؛ لما روى هذيل بن شرحبيل الأودي: أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة عن رجل مات وخلف بنتا وبنت ابن وأختا، فقالا: للابنة النصف، وللأخت النصف، واذهب إلى عبد الله فإنه سيتابعنا. فأتى ابن مسعود فأخبره بقولهما، فقال ابن مسعود: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني: إن أفتيت بقولهما، ثم قال: (لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، والباقي للأخت) . فأخبر: أن هذا قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن بنات الابن يرثن فرض البنات، ولم يبق من فرض البنات إلا السدس.. فكان لابنة الابن السدس.
وإن ترك ابنة وبنات ابن.. كان للابنة النصف، ولبنات الابن السدس؛ لأنه هو الباقي عن فرض البنات.
وهكذا: لو ترك بنتا وبنت ابن ابن، أو بنات ابن ابن ابن بدرج.. كان للابنة النصف، ولمن بعدها من بنات الابن وإن بعدن السدس إذا تحاذين. وإن كان بعضهن أعلى من بعض.. كان السدس لمن علا منهن.(9/49)
[فرع: اجتماع ابنتين وابنة ابن أو بنات ابن]
وغير ذلك] : وإن كان هناك ابنتان وابنة ابن أو بنات ابن ولا ذكر معهن.. كان للابنتين الثلثان، ولا شيء لابنة الابن ولا لبنات الابن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، ففرض للبنات الثلثين فدل على: أنه لا شيء لهن غير ذلك.
وإن ترك ابنتين وابنة ابن وابن ابن.. كان للابنتين الثلثان، وما بقي: بين ابن الابن وابنة الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وبه قال عامة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (ما بقي لابن الابن دون ابنة الابن) .
دليلنا: أن كل ذكر وأنثى لو انفردا كان المال بينهما ثلثا وثلثين.. وجب إن كان معهما ذو سهم أن يكون الباقي بينهما كذلك، كما لو كان معهما زوج.
وإن ترك ابنة وبنات ابن وابن ابن.. فللابنة النصف، والباقي لبنات الابن وابن الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء.
وقال ابن مسعود: (لبنات الابن الأقل من المقاسمة أو السدس، فإن كان السدس أقل.. كان لهن السدس، والباقي لابن الابن، وإن كانت المقاسمة أقل من السدس.. فلهن المقاسمة) .
ودليلنا عليه: ما ذكرناه في الأولى.
[فرع: اجتماع بنت وابن ابن وبنت ابن ابن]
وغير ذلك] : فإن خلف بنتا وابن ابن وبنت ابن ابن.. فللبنت النصف، والباقي لابن الابن، ويسقط بنت ابن الابن، لأنه أقرب منها.(9/50)
وإن خلف بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن.. كان للابنتين الثلثان، والباقي بين بنت الابن وابن ابن الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال بعض الناس: الباقي لابن ابن الابن وتسقط بنت الابن.
ودليلنا: أنا وجدنا أن بنت الابن لو كانت في درجة ابن ابن الابن.. لم تسقط معه، بل يعصبها، فلما لم يسقطها إذا كانت في درجته.. فلأن لا يسقطها إذا كانت أعلى منه أولى.
وإن خلف بنتا وبنات ابن وابن ابن ابن.. كان للبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لابن ابن الابن، لأن من فوقه من بنات الابن قد أخذن شيئاً من فرض البنات، فلا يجوز أن يرثن بالتعصيب، فكان الباقي له دونهن.
[مسألة: ميراث الأخوات الشقيقات]
مسألة: [الأخوات الشقيقات] : وأما (الأخوات للأب والأم) : فترتيبهن كترتيب البنات.
فإن خلف أختا واحدة.. فلها النصف. وإن خلف أختين فصاعداً.. فلهن الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] [النساء: 176] . وليس في الآية ذكر ثلاث أخوات فما زاد، ولكن قد ذكر في البنات إذا كن فوق اثنتين:، فلم يذكر الثلاث في الأخوات اكتفاء بما ذكره في البنات، كما أنه لم يذكر ما للابنتين اكتفاء بما ذكره للأختين، لأن حكم البنات والأخوات واحد.
وأيضاً: «فروى جابر قال: اشتكيت وعندي سبع أخوات، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع بمالي، وليس يرثني إلا(9/51)
كلالة؟ فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم رجع، فقال: " قد أنزل الله في أخواتك وبين، فجعل لهن الثلثين» قال جابر: في نزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] الآية [النساء: 176] . فذكر: أن الآية نزلت في أخواته وهن سبع، وإنما وردت باثنتين، فدل على: أن المراد بالآية الاثنتان وما زاد عليهما.
[فرع: ميراث الأخوات لأب مع الشقيقات]
] : وأما الأخوات للأب: فإنهن مع الأخوات للأب والأم كبنات الابن مع البنات، لأنهن قد تساوين في الأخوة، إلا أن الأخوات للأب والأم فضلن بالإدلاء بالأم، فكن كالبنات فضلن على بنات الابن.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن هناك أحد من الإخوة للأب والأم، وهناك أخت واحدة لأب.. فلها النصف، وإن كانتا أختين فصاعداً.. فلهما الثلثان.
وإن كان هناك أخت واحدة لأب وأم وأخت لأب.. كان للأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس قياساً على ابنة الابن مع ابنة الصلب.(9/52)
وإن كان هناك أخت لأب وأم، وأخ وأخت لأب.. كان للأخت للأب والأم النصف، وللأخ والأخت للأب الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن خلف أختين لأب وأم وأختا لأب.. كان للأختين للأب والأم الثلثان، ولا شيء للأخت للأب، لأنه لا يجوز أن تأخذ الأخوات بالفرض أكثر من الثلثين.
وإن خلف أختين لأب وأم، وأخا وأخوات لأب.. فللأختين للأب والأم الثلثان، وما بقي للأخ والأخوات للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (لهن الأقل من المقاسمة، أو سدس المال) ، وقد مضى الدليل عليه في ذلك في بنات الابن.
وإن خلف أختين لأب وأم، وأختا لأب، وابن أخ لأب وأم، أو لأب.. فللأختين للأب والأم الثلثان، والباقي لابن الأخ ولا يعصب الأخت للأب.
والفرق بينه وبين ابن ابن الابن - حيث عصب عمته - أن ابن ابن الابن يعصب أخته، فعصب عمته، وابن الأخ لا يعصب أخته، فلم يعصب عمته.
[فرع: ترك ابنة وأختا وغير ذلك]
] : وإن خلف ابنة وأختا لأب وأم أو لأب، أو ابنة ابن وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنة أو لابنة الابن النصف، وما بقي للأخت.
وهكذا: إن خلف ابنتين، وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنتين الثلثان، وللأخت ما بقي.
وإن خلف ابنة وابنة ابن، وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وللأخت ما بقي.
وكذلك إن كان في هذه المسائل مع الأخت ابن أخ، أو عم.. فإن ما بقي عن فرض البنات للأخت دون ابن الأخ والعم.(9/53)
وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن عباس، فإنه لم يجعل للأخت مع البنت ولا مع ابنة الابن شيئا، بل جعل ذلك لابن الأخ أو للعم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] .
فورث الأخت بشرط أن لا يكون للميت ولد. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفرائض.. فلأولى عصبة ذكر» .
ودليلنا: ما ذكرناه من حديث هزيل بن شرحبيل حيث قال ابن مسعود: (لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وللأخت ما بقي) .
وأما الجواب عن قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] : فإن الآية تدل على أنه لا فرض لها إذا كان للميت ولد ونحن نقول كذلك، لأن هذا النصف الذي تأخذه مع عدم الولد تأخذه بالفرض، وهذا الذي تأخذه مع وجود الولد تأخذه بالتعصيب، بدليل ما ذكرناه من الخبر.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفرائض.. فلأولى عصبة ذكر» : فنحمله إذا لم يكن(9/54)
هناك أخوات، بدليل ما ذكرناه من الخبر، ولأن للأخت تعصيباً ولابن الأخ تعصيباً، وتعصيب الأخت أولى، لأنها أقرب من ابن الأخ، والعم وابن العم.
[مسألة: ميراث ولد الأم أو الإخوة والأخوات لأم]
] : وأما (ولد الأم) : فللواحد منهم السدس، ذكراً كان أو أنثى، وللأنثيين منهم فما زاد الثلث ويسوى فيه بين الذكر والأنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وهذه الآية نزلت في الإخوة والأخوات للأم، بدليل: ما روي: أن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود كانا يقرآنها: (وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس) والقراءة الشاذة تحل محل الإخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو التفسير، فيجب العمل به. ولأن إرث الإخوة للأم إرث بالرحم المحض ولا تعصيب لهم، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كالأبوين مع الابن.
[مسألة: ميراث الأب]
] : وأما (الأب) : فله ثلاث حالات:
حالة يرث فيها بالفرض لا غير. وحالة يرث فيها بالتعصيب لا غير. وحالة يرث فيها بالفرض والتعصيب.
فأما الحالة التي يرث فيها بالفرض لا غير فهي: إذا كان الأب مع الابن أو ابن الابن.. فإن فرض الأب السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، والمراد بالولد هاهنا الذكر.
وأما الحالة التي يرث فيها بالتعصيب لا غير فتنقسم قسمين:(9/55)
أحدهما: ينفرد بجميع المال، وهو: إذا لم يكن معه من له فرض، بأن كان وحده.
والثاني: يأخذ بعض المال بالتعصيب، وهو: إذا كان معه من له فرض غير الابنة، مثل: أن كان معه أم، أو أم أم، أو زوج، أو زوجة.. فإنه يأخذ ما بقي عن فرض هؤلاء بالتعصيب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، فأضاف المال إلى الأبوين، ثم قطع للأم منه الثلث ولم يذكر حكم الباقي، فدل على أن جميعه للأب.
وأما الحالة الثالثة التي يرث فيها بالفرض والتعصيب فهي: إذا كان هناك أب وابنة، أو ابنة ابن.. فإن للأب السدس بالفرض، وللابنة أو لابنة الابن النصف، والباقي للأب بالتعصيب.
وقيل: إن رجلاً سأل الشعبي عن رجل مات وخلف بنتاً وأباً، فقال له: للابنة النصف والباقي للأب، فقال له: أصبت المعنى وأخطأت العبارة، قل: للأب السدس، وللابنة النصف، والباقي للأب.
وهكذا: لو خلف ابنتين وأبا، أو ابنة وابنة ابن وأبا.. فللأب السدس، وللابنتين الثلثان، والباقي للأب.
[فرع: ميراث الجد]
] : وأما (الجد) : ففرضه السدس مع الابن أو ابن الابن، لاجتماع الأمة على ذلك.(9/56)
وإن مات رجل وخلف جداً وابنة، أو ابنة ابن.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\370] : فمن أصحابنا من قال: للجد السدس بالفرض، وللابنة أو ابنة الابن النصف، والباقي للجد بالتعصيب، كما قلنا في ابنة وأب.
ومنهم من قال: يجوز أن يقال: للابنة النصف والباقي للجد بالتعصيب.
[مسألة: سقوط الجدات بالأم]
وحجب الأب كل من يرث بالأبوة] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة) .
وجملة ذلك: أن الأم تحجب الجدات من جهتها ومن جهة الأب؛ لما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعم الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم» ، فشرط في إرث الجدة إذا لم يكن هناك أم، فدل على: أنه إذا كان هناك أم.. أنه لا شيء للجدة.. ولأن أم الأم تدلي بالأم ومن أدلى بشخص.. لم يشاركه في الميراث، كابن الابن مع الابن. وأما أم الأب: فلأن الأم أقرب منها، فلم تشاركها في الميراث، كالعم لا يشارك الأخ.
وأما الأب: فإنه لا يرث معه أبوه، لأن الجد يدلي بالأب، ومن أدلى بعصبة..(9/57)
لم يشاركه في الميراث، كابن الابن لا يشارك الابن. وكذلك لا يرث مع الأب أحد من أجداده، لما ذكرناه في الجد.
ولا يحجب الأب أم الأم، لأنها تدلي بالأم، والأب لا يحجب الأم، فلم يحجب أمها، كما لا يحجب الأب ابن الابن. وكذلك أم الأم ترث مع الجد، لأن الأب إذا لم يحجبها.. فلأن لا يحجبها الجد أولى.
وكذلك الجد لا يحجب أم الأب، لأنها تساويه في الدرجة والإدلاء إلى الميت.
قال أصحابنا: وجميع هذه المسائل في الحجب لا خلاف فيها، وأما الأب، فهل يحجب أم نفسه؟ اختلف الناس فيه:
فذهب الشافعي إلى: (أنه يحجبها) . وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت. ومن التابعين: شريح. ومن الفقهاء: الأوزاعي، والليث، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. وذهب عمر بن الخطاب، وابن مسعود،(9/58)
وأبو موسى، وعمران بن الحصين إلى: (أنه لا يحجبها، بل ترث معه من ولده) . وبه قال أحمد، وإسحاق، وابن جرير الطبري، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورث امرأة من ثقيف مع ابنها» .
ودليلنا: أنها تدلي بولدها، فلم تشاركه في الميراث، كأم الأم لا ترث مع الأم.
وأما الخبر في الجدة التي ورثت مع ابنها: فيجوز أن يكون لها ابنان مات أحدهما وخلف ابنا، ثم مات ابن ابنها وخلف عمه وجدته، أو يجوز أن يكون الابن كافراً أو قاتلاً أو مملوكاً.
إذا ثبت هذا: فمات رجل وخلف أباه وأم أمه وأم أبيه.. فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: لأم الأم السدس والباقي للأب.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 369] فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: أن الجدة أم الأب تحجب أم الأم عن نصف السدس، ويأخذه الأب مع باقي المال.
ووجهه: أنهما لو اجتمعا.. لشاركتها في نصف السدس واستحقته، فإذا كان هناك الأب.. استحق ما كانت تستحقه، لأنها تدلي به. والأول هو المشهور. ولا ترث ابنة الابن مع الابن، لما ذكرناه في أم الأب مع الأب.(9/59)
[مسألة: سقوط الإخوة والأخوات لأم بأربعة]
] : وأما الإخوة والأخوات للأم: فيسقطون عن الإرث مع أحد أربعة: مع الأب، أو الجد الوارث، أو مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، أو مع ولد البنين سواء كان ولد الابن ذكرا أو أنثى واحدا كان أو أكثر.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] [النساء: 12] فورثهم بالكلالة، و (الكلالة) هو: من لا ولد له ولا والد، والدليل عليه: الكتاب والسنة والإجماع، واللغة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] فنص: أن الكلالة من لا ولد له، والاستدلال من الآية: أن الكلالة أيضا من لا والد ولا ولد له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] فورث الأخت نصف مال الأخ، وورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد، والأخت إنما ترث من أخيها النصف إذا لم يكن له والد، وكذلك الأخ لا يرث جميع مال الأخت إلا إذا لم يكن لها ولد ولا والد.
وأما السنة: فما روي: «أن جابرا قال: (قلت: يا رسول الله كيف أصنع بمالي، وإنما ترثني كلالة؟ ولم يكن له ولد ولا والد، فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك» .
وأما الإجماع: فروي عن أبي بكر، وابن مسعود، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (الكلالة من لا ولد له ولا والد) . ولا مخالف لهم.
وأما اللغة: فإن الكلالة مأخوذة من الإكليل، والإكليل: إنما يحيط بالرأس من(9/60)
الجوانب ولا يعلو عليه ولا ينزل عنه، والأب يعلو الميت، وولده ينزل عنه، وكذلك الكلالة تحيط بالميت من الجوانب ولا تعلو عليه ولا تنزل عنه، ولهذا قال الشاعر يمدح بني أمية:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
يقول: لم ترثوا الملك عمن هو مثلكم، وإنما ورثتموه عمن هو أعلى منكم عثمان بن عفان جدكم، وعثمان ورثه عن جده عبد شمس، وعبد شمس ورثه عن هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مسألة: سقوط ولد الأب والأم بثلاثة وولد الأب بأربعة]
] : ولا ترث الإخوة والأخوات للأب والأم مع أحد ثلاثة: مع الأب أو مع الابن أو ابن الابن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] فورث الأخت من أخيها وورثه منها في الكلالة، وقد دللنا على: أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، ثم دل الدليل على: أنهم يرثون مع البنات وبنات الابن ومع الجد، وبقي الأب والابن وابن الابن على ظاهر الآية.
ولا ترث الإخوة والأخوات للأب مع أحد أربعة وهم: الأب والابن وابن الابن؛ لما ذكرناه، ولا مع الأخ للأب والأم؛ لأنه أقرب منهم.
[مسألة: أنواع الحجب]
] : الحجب حجبان: حجب إسقاط، وحجب نقصان.
فأما (حجب الإسقاط) فمثل: حجب الابن للإخوة والأخوات وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ومثل: حجب الإخوة لبني الإخوة، وللإعمام وبنيهم، ومثل: حجب الأب للإخوة.(9/61)
وأما (حجب النقصان) فمثل: حجب الولد للزوج من النصف إلى الربع، وحجب الولد للزوجة من الربع إلى الثمن، ومثل: حجب الأم من الثلث إلى السدس.
إذا ثبت هذا: فإن جميع من ذكرنا ممن لا يرث من ذوي الأرحام، والكفار، والمملوكين، والقاتلين، ومن عمي موته.. فإنه لا يحجب غيره.
وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (يحجبون حجب النقصان) ووافق: أنهم لا يحجبون حجب الإسقاط.
ودليلنا: أن كل من لا يحجب حجب الإسقاط.. لا يحجب حجب النقصان، كابن البنت. ولأنه ليس بوارث فلم يحجب غيره، كالأجنبي.
فإن قيل: الأخوان لا يرثان مع الأب ويحجبان الأم؟
فالجواب: أنهما وارثان، وإنما أسقطهما من هو أقرب منهما، وهؤلاء ليسوا بورثة في الجملة.
[فرع: أبناء الإخوة لا يحجبون الأم ولا يرثون مع الجد]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وبنو الإخوة لا يحجبون الأم عن الثلث، ولا يرثون مع الجد) وهذا صحيح، فبنو الإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، سواء كانوا بني إخوة لأب وأم، أو لأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] وبنو الإخوة ليسوا بإخوة حقيقة ولا مجازاً.
فإن قيل: أليس لما حجبها الأولاد حجبها أولاد الأولاد.. فهلا قلتم لما حجبها الإخوة حجبها أولادهم؟
قلنا: الفرق بينهما: أن حجب الأولاد أقوى من حجب الإخوة، بدليل: أن الواحد من الأولاد يحجب الأم، فمن حيث قوي حجبه.. تعدى ذلك إلى لده، وحجب الإخوة أضعف، لأنه لا يحجبها إلا اثنان منهم عندنا، وعند ابن عباس لا يحجبها إلا ثلاثة، فمن حيث ضعف حجبهم.. لم يتعد حجبهم إلى أولادهم.
ولأن كل من حجبه الولد.. حجه ولد الابن، لأن الولد يحجب الإخوة فحجبهم(9/62)
ولده، والولد يحجب الأب فحجبه ولده، وليس كذلك ولد الإخوة، فإنهم لا يحجبون من يحجب أبوهم، ألا ترى: أن الأخ للأب والأم يحجب الأخ للأب، ومعلوم: أن ابن الأخ للأب والأم لا يحجب الأخ للأب، بل الأخ للأب يسقط ابن الأخ للأب والأم؟
ولا يرث بنو الإخوة مع الجد، لأن الجد أقرب منهم فأسقطهم.
[مسألة تعول المسألة عند ضيق السهام]
] : وإذا اجتمع أصحاب الفروض وتضايقت سهام المال عن أنصبائهم.. أعيلت الفريضة - أي -: زيد في حسابها ليدخل النقص على كل واحد منهم بقدر حقه.
و (العول) هو: الرفع، يقال: عالت الناقة بذنبها - أي-: رفعت به. وإنما سمي عولًا للرفع في الحساب - أي - الزيادة فيه.
إذا ثبت هذا: فأصول حساب الفرائض سبعة: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية، والاثنا عشر، والأربعة وعشرون.
فأربعة من هذه الأصول لا تعول قط، وهي: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والثمانية.
وثلاثة من هذه الأصول تعول، وهي: الستة، والاثنا عشر والأربعة وعشرون.
فأما أصل الستة: فإنه يعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة.
فأما (التي تعول إلى سبعة) فهي: إذا ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأختين لأب وأم.. فللزوج النصف - ثلاثة - وللأختين الثلثان - أربعة - فذلك سبعة.
أو مات رجل وخلف أختين لأب وأم، وأختين لأم، وأما أو جدة.. فللأختين للأب والأم الثلثان- أربعة - وللأختين لأم الثلث - سهمان - وللأم أو الجدة السدس-(9/63)
سهم - فذلك سبعة، فيتصور أن يكون الميت فيها رجلاً أو امرأة.
وأما (التي تعول إلى ثمانية) فمثل: أن يكون هناك أختان لأب وأم، وأخ لأم، وزوج.. فللأختين للأب والأم الثلثان - أربعة - وللأخ للأم السدس- سهم - وللزوج النصف - ثلاثة -.
وكذلك إذا خلفت زوجاً، وأختا لأب وأم أو لأب، وأما.. فللزوج النصف. ثلاثة - وللأخت النصف - ثلاثة - وللأم الثلث - سهمان.
وتعرف هذه المسألة بالمباهلة، فإنها حدثت في أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى فيها عمر كذلك، فأنكرها ابن عباس، وقال: (من شاء باهلته فيها) ، (والبهلة) : اللعنة.
وأما (التي تعول إلى تسعة) فمثل: أن تموت امرأة وتخلف أختين لأب وأم، وأخوين لأم، وزوجاً.. فللأختين الثلثان - أربعة - وللأخوين للأم الثلث - سهمان - وللزوج النصف - ثلاثة.
وأما (التي تعول إلى عشرة) فمثل: أن تموت امرأة وتخلف زوجاً، وأختين لأب(9/64)
وأم، وأخوين لأم، وأما وجدة.. فللزوج النصف - ثلاثة - وللأختين للأب والأم الثلثان- أربعة - وللأخوين للأم الثلث-سهمان - وللأم أو الجدة السدس - سهم - فذلك عشرة وهي أكثر ما تعول إليه الفرائض، لأنها عالت بثلثيها. وتسمى: أم الفروخ، لكثرة ما فرخت وعالت به من السهام، وتسمى: الشريحية، لأنها حدثت في أيام شريح فقضى بها كذلك، وكان الزوج يقول: جعل لي شريح النصف، فلما كان وقت القسمة.. لم يعطني النصف ولا الثلث، فقال شريح: أراك رجلاً جائرا، تذكر الفتوى ولا تذكر القصة.
وإذا عالت الفريضة إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة.. فلا يحتمل أن يكون الميت ذكراً.
وأما أصل الاثني عشر: فإنه يعول إلى ثلاثة عشر، وخمسة عشر، وسبعة عشر.
فأما (التي تعول إلى ثلاثة عشر) فمثل: أن يموت رجل ويخلف زوجة، وأختين لأب وأم، وأما أو جدة.. فللأختين الثلثان- ثمانية- وللزوجة الربع- ثلاثة - وللأم أو الجدة السدس- سهمان.
أو تموت امرأة وتخلف ابنتين، وزوجاً، وأما أو جدة.. فللابنتين الثلثان ثمانية - وللزوج الربع - ثلاثة - وللأم أو الجدة السدس - سهمان - فيتصور في التي تعول إلى ثلاثة عشر: أن يكون الميت رجلاً أو امرأة.
وأما (التي تعول إلى خمسة عشر) فمثل: أن يكون هناك زوجة وأختان لأب وأم وأخوان للأم.. فللزوجة الربع- ثلاثة - وللأختين للأب- والأم الثلثان- ثمانية - وللأخوين للأم الثلث- أربعة -.
أو تموت امرأة فتخلف زوجاً وابنتين وأبوين.. فللزوج الربع- ثلاثة - وللابنتين الثلثان- ثمانية - وللأبوين السدسان- أربعة - فيتصور أن يكون الميت فيها رجلاً أو امرأة.
وأما (التي تعول إلى سبعة عشر) : فأن يكون هناك زوجة وأختان لأب وأم وأخوان لأم وأم أو جدة.. فللزوجة الربع- ثلاثة - وللأختين للأب، والأم الثلثان - ثمانية(9/65)
- وللأخوين للأم الثلث- أربعة - وللأم أو الجدة السدس- سهمان- فذلك سبعة عشر، وهذا أكثر ما يعول إليه هذا الأصل، وتسمى: أم الأرامل، لأنه لا يتصور أن يكون الميت فيها إلا رجلاً.
وأما أصل أربعة وعشرين: فإنه يعول إلى سبعة وعشرين لا غير، وهو: أن يكون هناك زوجة وابنتان وأبوان.. فللزوجة الثمن- ثلاثة - وللابنتين الثلثان- ستة عشر- وللأبوين السدسان - ثمانية - ولا يتصور أن يكون الميت فيها إلا رجلاً، وتسمى: المنبرية، لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عنها وهو على المنبر، فقال: (صار ثمنها تسعاً) .
إذا ثبت هذا: فقد قال بالعول كافة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وذلك: (أنه حدث في أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ماتت وخلفت زوجاً، وأختا لأب وأم، وأما، فاستشار الصحابة فيها، فأشار العباس عليه بالعول، فقالوا: صدقت، وكان ابن عباس يومئذ صبياً، فلما بلغ.. أنكر العول، وقال: من شاء باهلته) .
وروي عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (التقيت أنا وزفر بن أوس الطائي، فذهبنا إلى ابن عباس وتحدثنا معه، فقال: إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، فالنصفان: ذهبا بالمال، فأين الثلث؟ فقال له زفر: من أول من أعال المسائل؟ فقال: عمر، فقال ابن عباس: عمر! وايم الله لو قدموا من قدمه الله، وأخروا من أخره الله.. ما عالت فريضة قط، فقال له زفر: من المقدم ومن المؤخر؟ فقال: من أهبط من فرض إلى فرض.. فهو المقدم،(9/66)
ومن أهبط من فرض إلى ما بقي.. فهو المؤخر، فقال زفر: فهلا أشرت عليه؟ فقال: هبته، وكان امرأ مهيبا) .
فكان ابن عباس يدخل النقص على البنات والأخوات، ويقدم الزوج والزوجة، والأم، لأنهم يستحقون الفرض لكل حال، والبنات والأخوات تارة يفرض لهن وتارة لا يفرض لهن، فيقول في زوجة وابنتين وأبوين: للزوجة الثمن - ثلاثة - وللأبوين السدسان- ثمانية - وللابنتين ما بقي، وهو: ثلاثة عشر.
ودليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقسموا الفرائض على كتاب الله عز وجل» . ووجدنا أن الله تعالى فرض لكل واحد ممن ذكرنا من البنات والأخوات فرضاَ، فوجب أن يقسم ذلك لهن، ولأن الأخوات أقوى حالا من الأم، والبنات أقوى حالاً من الزوج والزوجة، بدليل: أن البنات يحجبن الزوج والزوجة، والزوجان لا يحجبانهن، والأخوات يحجبن الأم، والأم لا تحجبهن، فكيف يجوز تقديم الضعيف على من هو أقوى منه؟ ولأن لا خلاف: أن رجلاً لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بثلث ماله، ولم تجز الورثة. لقسم الثلث بينهما، وإذا ضاق مال المفلس عن ديونه.. قسم بينهم على قدر ديونهم، فوجب إذا ضاقت التركة عن سهام الورثة أن يجعل لكل واحد منهم على قدر سهمه ويضرب به. ولأنه إذا كان هناك زوج وأختان لأم وأم.. فلا بد أن ينتقض فيها بعض أصول ابن عباس، لأنه إن قال: للزوج(9/67)
النصف، وللأم السدس، وللأختين للأم الثلث.. نقض أصله في أن الأختين تحجبان الأم من الثلث إلى السدس.
وإن قال: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأختين للأم السدس.. نقض أصله، لأنه أدخل النقص على من له فرض مقدر لا ينقص عنه.
وإن قال: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأختين للأم الثلث.. أعال الفريضة فنقض أصله في العول.
[مسألة الإرث لشخص بسببين]
] : وإذا أدلى شخص واحد بنسبين يورث لكل واحد منهما فرضا مقدراً، مثل: أن يتزوج المجوسي ابنته فأولدها بنتاً.. فلا خلاف: أنهما لا يتوارثان بالزوجية.
وأما القرابة: فإنهما قد صارتا أختين لأب، وإحداهما أم الأخرى، فإن مات الأب.. كان لابنتيه الثلثان، وما بقي لعصبته. فإن ماتت البنت السفلى.. ورثتها الأخرى بأقوى القرابتين وهي كونها أما.
وهكذا: لو وطئ مسلم ابنته بشبهة فأتت منه ببنت.. فإنها بنتها وأختها لأب، فإن ماتت البنت السفلى.. ورثتها أمها بكونها أما لا بكونها أختاً. وبه قال زيد بن ثابت، ومن الفقهاء مالك.
وذهب علي، وابن مسعود، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه إلى: أنها ترث بالقرابتين.
دليلنا: أنهما قرابتان تورث بكل واحدة منهما فرضا مقدراً، فوجب أن لا يورث بهما معاً، كالأخت للأب والأم لا ترث بكونها أختا للأب وأختا للأم.
وإن ماتت الأم.. ورثتها بكونها بنتا النصف، وهل ترث الباقي بكونها أختا؟ فيه وجهان:(9/68)
أحدهما: لا ترث للعلة الأولى.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أنها ترث، لأنها ترث بكونها بنتاً النصف بالفرض، وترث بكونها أختاً الباقي بالتعصيب، فجاز أن ترث بهما، كأخ من أم هو ابن عم.
وإن أتت منه بابن وابنة ثم مات الأب.. كان ماله لابنه وابنته، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن ماتت بعد ذلك البنت التي هي زوجة.. كان مالها لابنها وابنتها، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يرثان بالأخوة.
وإن مات الابن وخلف أما- وهي أخت لأب- وأختا لأب وأم.. فعندنا: للأم الثلث، ولا شيء لها بكونها أختا للأب وللأخت للأب، والأم النصف، والباقي للعصبة.
وعند أبي حنيفة: (للأخت للأب والأم النصف، وللأم بكونها أما السدس، ولها بكونها أختا لأب السدس) ، فوافقنا في الجواب وخالفنا في المعنى.
والله أعلم وبالله التوفيق(9/69)
[باب ميراث العصبة]
العصبة: كل ذكر لا يدلي إلى الميت بأنثى، وإنما سمي عصبة، لأنه يجمع المال ويحوزه. مشتق من العصابة، لأنها تحيط بالرأس وتجمعه.
والأصل في توريث العصبة: قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] [النساء: 33] .
قال مجاهد: الأقربون هاهنا هم العصبة.
إذا ثبت هذا:: فأقرب العصبة الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\373] : ومنهم من لا يسمي الابن عصبة. وليس بشيء. والدليل على أن الابن أقرب تعصيباً من الأب قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية [النساء: 11] . فبدأ بذكر الولد، والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم.(9/70)
ولأن الله تعالى فرض للأب مع الولد السدس، فدل على أن الابن أسقط تعصيب الأب، ولأنه إنما يأخذ السدس بالفرض، ولأن الابن يعصب أخته، بخلاف الأب.
فإن عدم البنون وبنوهم وإن سفلوا.. كان التعصيب للأب، وكان أحق من سائر العصبات، لأن سائر العصبات يدلون به.
فإن عدم الأب.. كان التعصيب للجد إن لم يكن أخ، لأنه يدلي بالأب، ثم أبي الجد وإن علا مع الإخوة للأم والأب أو للأب، ويقدمون على بني الإخوة، وبنو الإخوة يقدمون على الأعمام.
فإن لم يكن جد، وهناك أخ لأب وأم أو لأب.. كان التعصيب له، لأنه يدلي بالأب، فإن اجتمع الجد والأخ.. كان المال بينهما عندنا على ما يأتي ذكره.
وإن اجتمع أخ لأب وأم وأخ لأب. فالأخ للأب والأم أولى، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدين قبل الوصية، وقال: " إن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» . ولأنه يدلي بقرابتين، فكان أولى ممن يدلي بقرابة.
فإن عدم الأخ للأب والأم.. كان التعصيب للأخ للأب، ويقدم على ابن الأخ للأب والأم، لأنه أقرب. ثم بعد الأخ للأب ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب.
فإن عدم الإخوة وبنوهم.. كان التعصيب للأعمام، لأنهم أبناء الجد، ويقدم العم(9/71)
للأب والأم على العم للأب، ويقدم العم للأب على ابن العم للأب والأم، لأنه أقرب.
فإن عدم الأعمام وبنوهم.. كان التعصيب لأعمام الأب، لأنهم أبناء أبي الجد، يقدم الأقرب فالأقرب منهم، ثم بنوهم.
فإن عدم أعمام الأب وبنوهم. كان التعصيب لأعمام الجد، الأقرب فالأقرب منهم، ثم بعدهم يكون لبنيهم، وعلى هذا يكون أبداً.
فإذا انفرد الواحد من العصبة.. أخذ جميع المال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] . فورث الأخ جميع مال الأخت. وإن كان هناك اثنان من العصبة في درجة واحدة.. اقتسما المال بينهما، لاستوائهما في النسب. وإن كان مع العصبة من له فرض.. أعطي صاحب الفرض فرضه، وكان الباقي للعصبة، لما ذكرناه في حديث ابنتي سعد بن الربيع وزوجته وأخته.
ويعصب الابن أخته وأخواته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] .
وكذلك ابن الابن يعصب أخواته كالابن، ويعصب عماته، وقد مضى ذكره.
وكذلك الأخ للأب والأم أو الأخ للأب يعصب أخواته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] [النساء: 176] .
ومن عدا هؤلاء من العصبة لا يعصب أخواته، لأنه لا فرض لهن عند انفرادهن.. فلم يعصبهن.
[مسألة خلفت زوجاً وأما واثنين من ولد الأم وأخا وأختا شقيقين]
] : وإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً، وأما واثنين من ولد الأم، وأخا وأختا لأب وأم.. كان للأم السدس- وهو سهم- من ستة، وللزوج النصف- ثلاثة - وللأخوين(9/72)
للأم الثلث- سهمان - ويشاركهما في هذين السهمين الأخ والأخت للأب والأم، يقتسمونه بينهم، الذكر والأنثى فيه سواء.
وتصح من اثني عشر: للأم سهمان، وللزوج ستة، ولكل واحد من الإخوة والأخوات سهم، وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وشريح، ومالك، وإسحاق.
وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأبي بن كعب، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد: (يسقط الأخ والأخت للأب والأم) .
دليلنا: أنها فريضة جمعت ولد أم وولد أب وأم يرث كل واحد منهما إذا انفرد، فإذا ورث ولد الأم.. لم يسقط ولد الأب والأم، كما لو انفرد ولد الأم وولد الأب والأم ولم يكن معهم ذو سهم غيرهم.
وهذه المسألة تعرف بالحمارية، لأنه يحكى فيها: أن ولد الأب والأم قالوا: احسب أن أبانا كان حماراً، أليس أمنا وأمهم واحدة؟!
وتعرف بالمشتركة أيضاَ، لما فيها من التشريك بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث.
[مسألة خلفت ابني عم أحدهما زوج أو خلف ابني عم أحدهما أخ لأم]
] : إذا ماتت امرأة وخلفت ابني عم، أحدهما زوج.. ورث الزوج النصف بالفرض، والباقي بينه وبين الآخر نصفان بالتعصيب.
وإن مات رجل وخلف ابني عم، أحدهما أخ لأم.. فإن للذي هو أخ لأم السدس بالفرض، والباقي بينه وبين ابن العم الآخر نصفان بالتعصيب. وبه قال علي، وزيد بن ثابت، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة.(9/73)
وذهب عمر، وابن مسعود، وشريح، والحسن، وأبو ثور إلى: (أن المال كله لابن العم الذي هو أخ للأم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] .
وابن العم الذي ليس بأخ لأم من الرجال الأقربين، فينبغي أن يكون له نصيب. ولأنه يدلي نسب يفرض له به، فوجب أن يقوى به تعصيبه، كابني عم أحدهما زوج.
[مسألة ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا]
] : إذا قذف رجل امرأته بالزنا وانتفى عن نسب ولدها ونفاه باللعان.. فإن النسب ينقطع بين الأب والولد، فلا يثبت بينهما توارث، لأن الإرث بينهما بالنسب، ولا نسب بينهما بعد اللعان، ولا ينقطع التوارث بين الولد والأم، لأنه لا ينتفي عنها.
فإن ماتت الأم.. ورث ولدها جميع مالها إن كان ذكراً.
وإن مات الولد ولم يخلف غير الأم.. كان لها الثلث، والباقي لمولاه إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى.. كان الباقي لبيت المال.
وإن كان له أخ لأم.. كان له السدس، ولأمه الثلث، والباقي لمولاه أو لبيت المال.
وإن كان له أخوان لأم وأم.. كان لأمه السدس، ولأخويه لأمه الثلث، والباقي لمولاه أو لبيت المال. وبه قال ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهي إحدى الروايتين عن علي.(9/74)
وقال أبو حنيفة: (يكون للأم فرضها، وتأخذ الباقي بالرد) بناء على أصله في ذلك.
وذهب ابن مسعود إلى: (أن الأم عصبة له، فتأخذ سهمها بالفرض والباقي بالتعصيب) .
وذهب بعض الناس إلى: أن عصبته عصبة الأم.
دليلنا: ما روى الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي: أنه قال: «فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الرجل والمرأة - يعني: باللعان - وكانت حاملاً فانتفى عنه حملها، فكان الولد يدعى لأمه، وجرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها» والذي فرض الله للأم من الولد الثلث أو السدس، فالظاهر يقتضي: أنها لا تزاد على ذلك.
ولأن من ورث سهماً من فريضة.. لم يستحق زيادة عنها إلا بتعصيب، قياساً على الزوجة.
ولأن الأم لو كانت عصبة.. لم يسقطها المولى، لأن العصبة لا تسقط بالمولى، فدل على: أنها ليست بعصبة.
وأما الدليل على أن عصبتها ليست عصبة لولدها: أن الأم ليست عصبة للولد، فلم يكن من يدلي بها عصبة له، كابن الأخ للأم.
إذا ثبت هذا: فإن حكم ولد الزنا حكم ولد الملاعنة، لأنه ثابت النسب من أمه وغير ثابت النسب من أبيه، فكان حكمه حكم ولد الملاعنة.
[فرع ولدا الزنا أو اللعان]
] : وإن أتت امرأة بولدين توأمين من الزنا، أو أتت امرأة رجل بولدين توأمين فنفاهما الأب باللعان.. فإن التوارث بينهما وبين الأم ينقطع، لما ذكرناه في الولد، ولا ينقطع التوارث بينهما وبين الأم.(9/75)
وأما إرث أحدهما من الآخر: فهل يتوارثان بكونهما أخوين لأم لا غير، أو بكونهما أخوين لأب وأم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتوارثان بكونهما أخوين لأب وأم، لأن حكم اللعان إنما يتعلق بالزوجين دون غيرها، ألا ترى: أن الزوج إذا قذفها بعد ذلك.. لم يحد، وإذا قذفها غيره.. حد؟
والثاني: أنهما يتوارثان بكونهما أخوين لأم لا غير، وهو الأصح، لأن نسبهما قد انقطع عن الأب، فكيف يتوارثان به؟
[مسألة ميراث الخنثى]
] : وإن مات ميت وخلف وارثا خنثى- وهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأة - فإن كان يبول من الذكر لا غير.. فهو رجل، وإن كان يبول من فرج المرأة لا غير.. فهو امرأة، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إن خرج بوله من مبال الذكر.. فهو ذكر، وإن خرج من مبال الأثنى.. فهو أنثى) . ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة في الرجل أنه يبول من ذكره، وأن الأنثى تبول من فرجها، فرجع في التمييز إليه.
وإن كان يبول منهما سواء، أو خلق الله له موضعاً آخر يبول منه.. فهو مشكل.
وإن كان يبول منهما إلا أن أحدهما يبول منه أكثر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بالأكثر، لأنه أقوى في الدلالة.
والثاني: لا يعتبر، لأن اعتبار ذلك يشق.
وحكي: أن أبا حنيفة سئل عن الخنثى المشكل، فقال: (يحكم بالمبال) ، فقال أبو يوسف: أرأيت إن كان يبول بهما؟ قال: (لا أدري) ، قال أبو يوسف: لكني أرى(9/76)
أن يحكم بأسبقهما بولاً، فقال أبو حنيفة: (أرأيت لو استويا في الخروج؟) فقال أبو يوسف: بأكثرهما، فقال أبو حنيفة: (يكال أو يوزن؟) فسكت أبو يوسف.
وإن لم يكن فيه دلالة من المبال.. فهل يعتبر بنبات اللحية ونهود الثديين وعدد الأضلاع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر، فإن نبتت له لحية.. دل على أنه ذكر، وإن نهد ثدياه.. دل على أنه امرأة، فإن الله أجرى العادة بنبات اللحية للرجال، ونهود الثديين للنساء.
وإن استوت أضلاعه من الجانبين.. فهو امرأة، وإن نقص أحد جانبيه ضلعاً.. فهو رجل، لأن المرأة لها في كل جانب سبع عشرة ضلعاً، والرجل له في الجانب الأيمن سبع عشرة ضلعاً وفي الجانب الأيسر ست عشرة ضلعا؛ لأنه يقال: إن حواء خلقت من ضلع من جانب آدم الأيسر.. فلذلك نقص من الجانب الأيسر من الرجال.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يعتبر بذلك، وهو قول أكثر أصحابنا، لأن اللحية قد تنبت لبعض النساء ولا تنبت لبعض الرجال، وقد يكون الثدي لبعض الرجال.
وروي: أن رجلاً كان له ثدي يرضع به في مجلس هارون الرشيد.
وأما اعتبار الأضلاع: فإنه يشق ولا يتوصل إلى ذلك، لأن فيها شيئاً يخفى، فلا يمكن اعتبارها.
إذا ثبت هذا، أو تعذر اعتباره من هذه الأشياء.. فإنه يرجع إلى قوله، وإلى ماذا يميل إليه طبعه. فإن قال: أميل إلى جماع النساء.. فهو رجل، وإن قال: أميل إلى جماع الرجال.. فهو امرأة.
وليس ذلك تخييراً له، وإنما هو سؤال له عن ميلان طبعه. فإن أخبر بأحدهما ثم رجع عنه.. لم يقبل رجوعه، لأنه إذا أخبر بأحدهما تعلقت به أحكام، وفي قبول قوله في الرجوع إسقاط لتلك الأحكام، فلم يجز.(9/77)
وهل يصح ذلك منه قبل البلوغ وبعد التمييز؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\388] :
أحدهما: يصح منه، كما يصح منه أن يختار الكون مع أحد الأبوين.
والثاني: لا يصح، لأن طبع الرجل والمرأة إنما يختلفان بعد البلوغ.
فإن قال: أنا رجل فزوج بامرأة فحبلت امرأته وحبل هو.. تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلاً، وأن ولد المرأة غير لاحق به، لأن الحمل يدل على الأنوثية قطعاً.
وإن قال الخنثى: أنا أشتهي جماع النساء والرجال، أو لا أشتهي واحدا منهما. فهو مشكل.
والحكم في توريث المشكل: أنه يعطى ما يتيقن أنه له، وإن كان معه ورثة.. أعطي كل وارث منهم ما يتيقن أنه له، وهو أقل حقيه، ووقف الباقي إلى أن يتبين أمر الخنثى أو يصطلحوا عليه.
فإن مات ميت وخلف ابنا خنثى مشكلاً لا غير.. أعطي نصف ماله، وإن كانا خنثيين.. أعطيا الثلثين ووقف الباقي إلى أن يتبين أمرهما أو يصطلحوا عليه.
وقال أبو حنيفة: (يعطى الخنثى المشكل ما يتيقن أنه له، ويصرف الباقي إلى العصبة) . وخرجه ابن اللبان وجها آخر، وليس بمشهور.
وذهبت طائفة من البصريين إلى أنه: إذا خلف ابنا خنثى مشكلاً لا غير.. أعطي ثلاثة أرباع المال، واختلفوا في تنزيل حاله.
فمنهم من قال: تنزيل حاله أنه يحتمل أن يكون ذكراً، فيكون له جميع المال، ويحتمل أنه أنثى، فيكون له نصف المال والباقي للعصبة، فالنصف متيقن له، والنصف الآخر يتنازعه هو والعصبة، فيكون بينهما.
ومنهم من قال: تنزيل حاله أنه يحتمل أن يكون ذكراً، فيكون له جميع المال، ويحتمل أنه أنثى، فيكون له نصف المال، فيعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى.(9/78)
دليلنا: أنه يحتمل أن يكون ذكراً ويحتمل أن يكون أنثى فأعطيناه اليقين وهو ميراث الأنثى، لأنه متيقن له، ولم نورثه ما زاد؛ لأنه توريث بالشك.
وعلى أبي حنيفة: أنا لا نتيقن استحقاق العصبة للموقوف، فلم يجز دفع ذلك إليه.
[مسألة خلف حملاً وارثا أو غير وارث]
] : وإن مات رجل وخلف حملاً وارثا.. نظرت: فإن انفصل واستهل صارخاً.. فإنه يرث، سواء كان فيه روح حال موت مورثه أو كان يومئذ نطفة؛ لما روى أبو الزبير عن جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استهل الصبي.. ورث وصلي عليه» .
قال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف في هذا. وإن خرج ولم يستهل، ولكن علمت حياته بحركة أو غير ذلك، ثم مات.. فإنه يرث عندنا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يرث) .
دليلنا: أن كل من تحققت حياته بعد انفصاله.. وجب أن يرث، كما لو خرج واستهل صارخاً، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نص على الاستهلال، لأن ذلك تعلم به الحياة، فكل ما علمت به الحياة كالحركة والبكاء.. قام مقامه.
وإن خرج ميتا.. لم يرث، لأنا لا نعلم أنه نفخ فيه الروح وصار من أهل الميراث أو لم ينفخ.(9/79)
وإن انفصل ميتاً وتحرك بعد الانفصال حركة لا تدل على الحياة.. لم يرث، لأن بهذه الحركة لم تعلم حياته، لأن المذبوح قد يتحرك، واللحم قد يختلج ولا روح فيه.
وإن خرج بعضه فصرخ، ثم مات قبل أن ينفصل.. لم يرث، لأنه ما لم ينفصل جميعه.. لا يثبت له أحكام الدنيا.
إذا ثبت هذا: فما حكم مال الميت قبل انفصال الحمل؟ ينظر فيه:
فإن كان مع الحمل وارث له فرض لا ينقصه الحمل، كالزوج والزوجة والأم والجدة.. أعطي صاحب الفرض فرضه، ووقف الباقي من ماله.
وإن كان الوارث معه ممن لا سهم له مقدر، كالابن والابنة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب المسعودي [في " الإبانة " ق \ 377] ، وابن اللبان وغيرهما إلى: أنه يدفع إلى الابن الموجود خمس المال، ويوقف الباقي.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا مذهب أبي حنيفة، لأن أكثر ما تلد المرأة في بطن أربعة أولاد.
وقال الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يعطى الابن الموجود شيئا من المال، بل يوقف جميعه.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\377] : أن هذا مذهب أبي حنيفة.
وقال محمد بن الحسن: يدفع إليه ثلث المال، لأن أكثر ما تلده المرأة اثنان.
وقال أبو يوسف: يدفع إليه نصف المال، لأن الظاهر أنها لا تلد أكثر من واحد.
فإذا قلنا: إنه يوقف جميع المال.. فوجهه: أنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة. وحكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه قال: (قدمت اليمن، فكنت عند شيخ بها أستمع عليه الحديث، فبينما هو جالس على بابه إذ جاء خمسة كهول، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، ثم جاء خمسة شباب، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا(9/80)
الدار، ثم جاء خمسة فتيان، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، ثم جاء خمسة صبيان، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء أولادي، ولدت أمهم كل خمسة في بطن واحد، فهؤلاء عشرون في أربعة بطون، وخمسة أطفال في المهد) .
وحكى ابن المرزبان: أنه قال: أسقطت امرأة عندنا بالأنبار كيسا فيه اثنا عشر ولداً، كل اثنين متحاذيان، فعلم أنه ليس لما تلده المرأة حد.
[فرع بعض الأمثلة المتعلقة بإرث الحمل]
] : ميت مات، فقالت امرأة حامل: إن ولدت أنثى.. لم ترث منه، وإن ولدت ذكراً.. ورث منه، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. ورث الذكر دون الأنثى.. فهذه امرأة أخ للميت، أو امرأة ابن أخيه، أو امرأة عمه، أو امرأة ابن عمه.
وإن قالت: إن ولدت أنثى.. ورثت، وإن ولدت ذكراً.. لم يرث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. لم يرثا.. فهذه امرأة ماتت وخلفت زوجاً وبنتاً وأبوين وزوجة ابنها حاملاً من ابنها، فإن ولدت أنثى.. ورثت السدس تكملة الثلثين، فإن ولدت ذكراً.. لم يرث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. لم يرثا.
وإن قالت امرأة حامل: إن ولدت ذكراً.. ورث، وإن ولدت أنثى.. لم ترث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. ورثا.. فهذا ميت مات وخلف ابنتين وزوجة ابن حاملاً منه، أو ميت مات وخلف أختين لأب وأم وزوجة أب حاملاً منه.
ولو قالت الحامل: إن ولدت ذكراً.. ورث وورثت معه، وإن ولدت ذكراً، وأنثى.. ورثا وورثت معهما، وإن ولدت أنثى.. لم ترث ولم أرث.. فهذا رجل مات وخلف ابنتين وابنة ابن حاملاً من ابن ابن آخر قد مات.(9/81)
ولو قالت الحامل: إن ولدت أنثى.. ورثت وورثت معها، وإن ولدت ذكراً أو ذكراً وأنثى.. لم يرث واحد منا.. فهذه امرأة ماتت وخلفت ابنة وأبوين وزوجاً، وهذه الحامل ابنة ابن ابن هذه الميتة من ابن ابن لها آخر قد مات.
ولو قالت حامل: إن ولدت ذكراً.. ورث ولم أرث أنا، وإن ولدت أنثى.. ورثت أنا ولم ترث هي.. فهذه امرأة أعتقت عبداً، ثم نكحت المعتقة أخ المعتق، فحملت منه فمات، ثم مات المعتق. فإن ولدت ذكراً.. كان ابن أخ المعتق، فورثه ولم ترثه المعتقة، وإن ولدت أنثى.. كانت ابنة أخ المعتق، فلا ميراث لها وترثه المعتقة.
[فرع صورة تستحق البنت فيها التسع والابن التسعين]
قال ابن اللبان: فإن مات رجل وخلف بنتاً، وبنت ابن ابن، وأخا، وأمة للميت حاملاً منه، وامرأة ابن حاملاً من الابن.. فإن البنت تعطى تسع المال ويوقف الباقي.
وقلت: هذا بناه على أصله: أن المرأة لا تلد أكثر من أربعة.
فإن ولدت الأمة وامرأة الابن ذكراً وأنثى وأشكل: أيتهما ولدت الذكر، وأيتهما ولدت الأنثى.. فإن البنت يكمل لها ثلث جميع المال، لأنها تستحق ذلك يقينا، ويعطى الابن تسعي المال، لأنه يستحقه بيقين، ويوقف الباقي حتى يصطلح عليه بنت الابن والمولودان، ولا حق للبنت في الموقوف.
[فرع إرث ابن العبد لأخيه الحر]
وماذا لو مات ابن الزوجة؟] : قال ابن اللبان: ولو أن عبداً له ابن حر وتحت العبد امرأة حرة، فمات ابن العبد ولم يعلم: هل امرأة العبد حامل أم لا؟(9/82)
فإن لم يمسك العبد عن وطئها، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر.. ورث أخاه، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من يوم مات.. لم يرثه، لأنه يحتمل أن تكون حبلت به بعد موته، إلا أن يتصادق الورثة: أنها كانت حاملاً به يوم مات.. فيرثه. قال: وهذا إجماع.
قال: وكذلك ينبغي للحر - إذا كان تحته امرأة فمات ابن لامرأته من غيره- أن يمسك عن وطئها حتى يستبرئها بحيضة، فلعل بها حملاً يرث أو يحجب، فإن لم يفعل.. فالجواب على ما مضى.
[فرع يوقف توزيع التركة حتى يعلم من المستهل]
] : وإن مات رجل وخلف أما، وأخا لأب وأم أو لأب، وأمة حاملاً من هذا الميت، فولدت ذكراً وأنثى، واستهل أحدهما، ووجدا ميتين، ولم يعلم أيهما المستهل.. فيعطى الأخ أقل حقيه، وهو: عشرة أسهم من ثمانية عشر سهماً، لجواز أن يكون المستهل هو الذكر، ويدفع إلى أم الولد ثلاثة أسهم من ثمانية عشر سهماً وهو أقل حقها، لجواز أن يكون المستهل هو الأنثى، ويدفع إلى أم الميت ثلاثة أسهم وهو سدس المال ولا تستحق غير ذلك بكل حال، ويوقف سهمان حتى يصطلح عليه الأخ وأم الولد، ولا شيء للأم فيهما.(9/83)
وإن مات رجل وخلف أخا، وأمة حاملاً منه، وامرأة ابن حاملا من ابن الميت وقد مات الابن، فولدت أمة الميت ذكراً، وولدت امرأة ابنه أنثى، واستهل أحدهما ومات، ولم يعلم أيهما المستهل، ووجدا ميتين، قال ابن اللبان: فإنه يدفع إلى أخي الميت ثلثا المال؛ لأنه يستحقه بكل حال، ويوقف الثلث حتى يصطلح عليه الأخ وأم الولد وامرأة الابن؛ لأنه إن كان المستهل هو الابن.. فالثلث كله لأم الولد، وإن كان المستهل هو الابنة.. كان لامرأة الابن السدس، وللأخ السدس.
قال: وهكذا الحكم إذا لم يعلم من التي ولدت الذكر منهما، ومن التي ولدت الأنثى، واستهل أحدهما، ووجدا ميتين، ولم يعلم من المستهل منهما.
[فرع يوقف التقسيم للصلح]
] : وإن مات رجل وخلف أخا، وابنتين، وبنت ابن، وأم ولد حاملا ًمنه، وامرأة ابن حاملاً من الابن، فولدت إحداهما ذكراً والأخرى أنثى، واستهل أحدهما ووجدا ميتين، ولم يعلم من المستهل منهما، ومن التي ولدت الذكر ولا من التي ولدت الأنثى.. قال ابن اللبان: فإن التركة تقسم على مائة سهم وثمانية، فتعطى كل ابنة اثنين وثلاثين سهما، ويعطى للأخ أربعة، ويوقف أربعون سهما، فالأخ يدعي منها ستة وثلاثين سهما، وكل بنت تدعي ثلاثة عشر سهما، وأم الولد تدعي تسعة أسهم، وامرأة الابن تدعي ثمانية، وبنت الابن تدعي أربعة وعشرين سهما، فيوقف ذلك بينهم حتى يصطلحوا عليه.(9/84)
فإن كانت امرأة حاملاً فولدت ابنتين توأمين وماتت، فاستهلت إحداهما، ثم سمع استهلال آخر، ووجدتا ميتتين، ولم يعلم هل تكرر الاستهلال من إحداهما أم استهلتا جميعاً؟ وخلفت المرأة أخاها وزوجها وهو أبو ولدها.. قال ابن اللبان: فإنه يعطى الأخ نصف السدس، والزوج ثلاثة أرباع، ويوقف السدس حتى يصطلحوا عليه.
قال: ويحتمل أن يعطى الأخ الربع، لأنا لا نعلم أن المرأة ورثها ابنتاها، وقد علمنا أن إحداهما حية، والحي قد يتكرر منه الاستهلال، فلا يورث منهما إلا من تيقنا حياته، ولا يحجب الأخ إلا بيقين.(9/85)
[فرع الاختلاف في الموت والاستهلال]
] : وإن مات رجل وخلف أخاً، وامرأة حاملاً فولدت ابنا وبنتا فاستهلا، ثم مات أحدهما، ثم ماتت المرأة بعده، ثم مات الولد الآخر ولم يعلم أيهما مات قبل الأم.. قال ابن اللبان: فقد قيل: القياس أن لا يرث الولدان أمهما ولا ترثهما؛ لأنه لا يعلم على الانفراد أيهما مات قبلها، كالغرقى، فيكون ثمن المرأة لعصبتها، والسبعة الأثمان التي للولدين للأخ بميراثه منهما.
وقيل: بل ينزل فيقال: إن كان الذي مات قبل المرأة هي البنت.. فالمال كله للأخ، وإن كان الذي مات قبل المرأة هو الابن.. ورثت المرأة منه ثلث سهامه - وهو أربعة أسهم وثلثا سهم من أربعة وعشرين - وورثت الأخت نصفها والعم سدسها، فلما ماتت المرأة.. كان ما بيدها - وهو سبعة أسهم وثلثا سهم - بين ابنتها وعصبتها نصفين، فيصح لعصبتها ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فلما ماتت البنت.. صار ما في يدها للعم، فاجتمع للعم بميراثه من الابن والبنت عشرون سهماً وسدس سهم، فهذا للأخ بيقين.(9/86)
والباقي من المال - وهو ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم - لعصبة المرأة فيوقف ذلك حتى يصطلحا عليه، فتضرب الفريضة - وهي أربعة وعشرون - في مخرج السدس - وهو ستة - فذلك مائة وأربعة وأربعون.
[مسألة تقديم أصحاب الفروض]
] : وإن مات ميت وخلف من الورثة من له فرض لا يستغرق جميع ماله، كالأم والابنة والأخت.. فإن صاحب الفرض يأخذ فرضه، وما بقي عن فرضه.. يكون لعصبته إن كان له عصبة، وإن لم يكن له عصبة.. كان للمولى إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى.. كان الباقي لبيت المال، فيصرف إلى الإمام ليصرفه في مصالح المسلمين. وبه قال زيد بن ثابت، والزهري، والأوزاعي، ومالك.
وذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: (أنه يرد ذلك على ذوي الفروض إلا على الزوجين.. فإنه لا يرد عليهما، فإن لم يكن له أحد من أهل الفروض.. صرف ذلك إلى ذوي الأرحام، فيقام كل واحد من ذوي الأرحام مقام من يدلي به) .
وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. واختاره بعض أصحابنا إذا لم يكن هناك إمام عادل، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وابنها الذي لا عنت عليه» . فأخبر: أنها تحوز ميراث ابنها(9/87)
الذي لا عنت عليه وهذا نص.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] ولم يفرق بين أن يكون هناك وارث غيرها أو لم يكن.
فمن قال: إن لها جميع المال.. فقد خالف ظاهر القرآن. وكذلك جعل للابنتين الثلثين ولم يفرق. ولأن كل من استحق من فريضة سهماً مقدراً.. لم يرث منها شيئاً آخر إلا بتعصيب، كالزوج والزوجة.
فعلى هذا: إن كان هناك إمام عادل.. سلم المال إليه، وإن لم يكن هناك إمام عادل.. صرفه من هو بيده إلى مصالح المسلمين.
وبالله التوفيق(9/88)
[باب الجد والإخوة]
الجد أبو الأب وإن علا.. وارث بلا خلاف بين أهل العلم.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل الصحابة: هل تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل في الجد شيئا؟ فقال معقل بن يسار المزني: نعم شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورثه السدس، فقال له عمر: مع من؟ قال: لا أدري، فقال له: لا دريت، إذن لا تغني) .
فإن اجتمع الجد مع الإخوة أو الأخوات للأم.. أسقطهم بالإجماع، وقد مضى.
وإن اجتمع مع الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب.. فقد كانت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يتحرجون من الكلام فيه، لما روى سعيد بن المسيب: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار» .
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال (من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة) .(9/89)
وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (سلونا عن كل شيء ودعونا من الجد، لا حياه الله ولا بياه) .
إذا ثبت هذا: فقد اختلف الناس في الجد إذا اجتمع مع الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أن الجد لا يسقطهم، وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل.
وذهبت طائفة إلى: أن الجد يسقطهم، وروي ذلك عن أبي بكر، وابن عباس،(9/90)
وعائشة، وأبي الدرداء، وبه قال أبو حنيفة، وعثمان البتي، وابن جرير الطبري، وداود، وإسحاق، واختاره المزني.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\394] : وإليه ذهب ابن سريج.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] ، فجعل للرجال والنساء الأقارب نصيباً. والإخوة والأخوات للأب إذا اجتمعوا مع الجد.. فهم من الأقارب، فمن قال: لا نصيب لهم.. فقد ترك ظاهر القرآن. ولأن الأخ يعصب أخته فلم يسقطه الجد، كالابن. ولأن الأخت تأخذ النصف بالفرض فلم يسقطها الجد، كالبنت. ولأن الجد والأخ على منزلة واحدة من الميت، لأن الجد أبو أبيه، والأخ ابن أبيه، والجد له تعصيب ورحم، والأخ له تعصيب من غير رحم فلم يسقطه الجد، كالابن والبنت إذا اجتمعا.
إذا ثبت هذا: فإن الجد كالأب في عامة أحكامه، فيرث بالتعصيب إذا انفرد كالأب، ويرث بالفرض مع الابن وابن الابن، ويرث بالفرض والتعصيب مع البنت وبنت الابن، إلا أن الجد يخالف الأب في أربع مسائل:
[الأولى] منها: أن الأب يحجب الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب، والجد لا يحجبهم.
والثانية والثالثة: أن الأب يحجب الأم عن كمال الثلث إلى ثلث ما يبقى في زوج(9/91)
وأبوين أو زوجة وأبوين، والجد لا يحجبها فيهما، بل يكون لها ثلث جميع المال مع الجد فيهما.
الرابعة: أن الأب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجب أم الأب، لأنها تساويه في الدرجة إلى الميت، وتدلي بالأب فلم ترث معه.
[مسألة الجد مع الإخوة]
وإذا اجتمع الجد والإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب، وليس معهم من له فرض.. فللجد الأحظ من المقاسمة، أو ثلث جميع المال.
فإن كان معه أخ واحد.. فالأحظ له هاهنا المقاسمة؛ لأنه يأخذ نصف جميع المال، وإن كان معه أخوان.. استوت له المقاسمة والثلث، وإن كان معه ثلاثة إخوة فما زاد.. فالأحظ له هاهنا أن ينفرد بثلث جميع المال.
هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت وابن مسعود.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان:
إحداهما - وهي المشهورة: - أن له الأحظ من المقاسمة أو سدس جميع المال، فإذا كان معه أربعة إخوة.. فالمقاسمة أحظ له، وإن كانوا خمسة.. استوت المقاسمة(9/92)
والسدس، وإن كانوا ستة.. فالسدس أحظ له) .
والثانية: (أن له الأحظ من المقاسمة أو سبع جميع المال) .
وروي عن عمران بن الحصين، وأبي موسى الأشعري: أنهما قالا: (له الأحظ من المقاسمة أو نصف سدس جميع المال، فإذا كان معه عشرة إخوة.. فالمقاسمة خير له، وإن كانوا أحد عشر.. استوت المقاسمة ونصف السدس) .
ودليلنا - عليهما: - أن البنين أقوى حالاً من الإخوة، بدليل: أن الإخوة يسقطون بالبنين، ثم ثبت أن البنين لا يسقطون الجد عن السدس، فالإخوة أولى أن لا يسقطوه عنه.
وأما الدليل على ما قلناه: فلأن حجب الإخوة للجد لا يقع بواحد وينحصر بعدد، فوجب أن يكون غاية ذلك اثنين، قياساً على حجب الإخوة للأم عن الثلث، وحجب بنات الصلب لبنات الابن، وحجب الأخوات للأب والأم للأخوات للأب.
وأما إذا اجتمع مع الجد الأخوات للأب والأم أو للأب منفردات.. فمذهبنا: أن حكمهن حكم الإخوة مع الجد، فيقاسمهن ويكون المال بينه وبينهن للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته عن الثلث.. أفرد بثلث جميع المال، وبه قال زيد بن ثابت.(9/93)
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يفرض للأخوات فروضهن، ويكون الباقي للجد) . ودليلنا: أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب، فوجب أن لا يأخذ ولد الأب بالفرض، كما لو كان مع الجد إخوة.. ولا ينتقض بالأكدرية، لأنه يفرض للأخت، ولكن لا تأخذ ما فرض لها.
وإن كان مع الجد إخوة وأخوات لأب وأم أو لأب.. فإن الجد يقاسمهم، للذكر مثل الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته المقاسمة عن ذلك.. فرض له الثلث كما ذكرنا.
[مسألة اجتماع إخوة وجد وذوي فروض]
] : وإن اجتمع مع الجد والإخوة من له فرض، وهم ستة: البنت، وبنت الابن، والزوج، والزوجة، والأم، والجدة.. فإن صاحب الفرض يعطى فرضه، ويكون للجد أوفى ثلاثة أشياء: المقاسمة، أو ثلث ما يبقى، أو سدس جميع المال.
فإن كان الفرض أقل من نصف جميع المال.. فثلث ما يبقى خير له من السدس، فيكون له الأحظ من المقاسمة أو ثلث ما يبقى.
وإن كان الفرض النصف.. فثلث ما يبقى والسدس واحد.
وإن كان الفرض أكثر من النصف.. فالسدس أكثر من ثلث ما يبقى، فيكون للجد الأحظ من المقاسمة أو السدس.(9/94)
إذا ثبت هذا: فمات رجل وخلف بنتاً وأختا لأب وأم وجداً.. فللبنت النصف، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، والمقاسمة هاهنا خير للجد..
هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت) .
دليلنا: أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب، فاشتركا في الفاضل عن فرض ذوي السهام، كما لو كان بدل الأخت أخا مع البنت والجد.
[فرع اجتماع زوج وجد وأم]
والمسألة المربعة] : زوج وجد وأم.. فالتركة من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم الثلث - سهمان - وللجد سهم. وبه قال زيد بن ثابت.
فإن كان بدل الزوج زوجة.. كان للزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للجد..
وروي عن عمر روايتان:
إحداهما: (أن للزوج النصف، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للجد) .
والثانية: (للزوج النصف، وللأم السدس، والباقي للجد) .
ويفيد اختلاف الروايتين إذا كان مكان الزوج زوجة.. فعلى إحدى الروايتين: يكون للزوجة الربع، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للجد.
وروي عن ابن مسعود ثلاث روايات: كروايتي عمر. والثالثة (للزوج النصف، والباقي بين الجد والأم) ، فتكون على هذه الرواية من مربعات ابن مسعود.
وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا.. كان أصلها من اثني عشر: للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة وللأخ والجد ما بقي وهو خمسة، فتصح من أربعة،(9/95)
وعشرين، وهي من مربعات ابن مسعود، فإنه قال: (للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وللجد وللأخ سهمان) .
وإن خلف رجل زوجة وأختا وجدا.. كان للزوجة الربع - سهم من أربعة - والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من أربعة. وبه قال زيد بن ثابت.
وقال أبو بكر وابن عباس: (للزوجة الربع، والباقي للجد) .
وقال عمر وابن مسعود: (للزوجة الربع- سهم من أربعة - وللأخت النصف، سهمان - وللجد ما بقي، وهو سهم) .
وتعرف هذه المسألة بالمربعة، فإنهم اختلفوا في قدر ما يرث كل واحد من الجد والأخت، واتفقوا على أن أصلها من أربعة.
[فرع المسألة الخرقاء]
فرع: [اجتماع أم وأخت وجد أو المسألة الخرقاء] : وإن مات رجل وخلف أما وأختا وجداً.. فهذه تسمى الخرقاء؛ لتخرق أقاويل الصحابة فيها، فإن فيها سبعة أقاويل:
[الأول] : قال أبو بكر، وابن عباس، وعائشة - ومن قال: إن الجد يسقط الإخوة - (للأم الثلث، والباقي للجد، وتسقط الأخت) .
و [الثاني والثالث] : عن عمر فيها روايتان:
إحداهما: (أن للأخت النصف، وللأم السدس، والباقي للجد) .
والثانية: (أن للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، والباقي بين الجد والأخت نصفان) .(9/96)
و [الرابع] : عن ابن مسعود فيها ثلاث روايات: روايتان: مثل روايتي عمر. والثالثة: (للأخت النصف، والباقي بين الجد والأم نصفان) ، فتكون على هذه الرواية من مربعاته.
و [الخامس] : قال عثمان: (يقسم المال كله على ثلاثة: للأم سهم، وللأخت سهم، وللجد سهم) .
و [السادس] : قال علي: (للأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس) .
و [السابع] : قال زيد بن ثابت: (للأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من تسعة) . وبه قال الشافعي وأصحابه.
[مسألة عول الإخوة والأخوات مع الجد في الأكدرية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس يعال لأحد من الإخوة والأخوات مع الجد إلا في الأكدرية) ، وهي: زوج وأم وأخت لأب وأم أو لأب، وجد، وقد اختلفت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيها:
فذهب أبو بكر وابن عباس إلى: (أن للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للجد، وتسقط الأخت) .
وقال عمر وابن مسعود: (للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، فتعول إلى ثمانية وإنما فرضنا للأم السدس هاهنا؛ لئلا تفضل على الجد) .
وقال علي: (للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، فتعول إلى تسعة، فتأخذ الأخت ثلاثة) .
وقال زيد بن ثابت: (تعول إلى تسعة) ، كما قال علي ولكن قال: (تجمع(9/97)
الثلاثة التي للأخت والسهم الذي للجد، فتصير أربعة فيقتسمانها للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من سبعة وعشرين: للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة) . وبهذا قال الشافعي وأصحابه.
وإنما كان كذلك، لأنه ليس هاهنا من يحجب الزوج عن النصف، ولا من يحجب الأم عن الثلث، ولا يمكن أن ينتقص الجد عن السدس، لأن الابن لا يسقطه عنه.. فهؤلاء أولى، وقد استكملت الفريضة، ولا سبيل إلى إسقاط الأخت، لأنه ليس هاهنا من يسقطها ففرض لها النصف، ولا يمكن أن تأخذ جميعه، لأنه لا يجوز تفضيلها على الجد، فوجب أن يجمع نصيبهما، ويقتسماه: للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قلنا في غير هذا الموضع.
واختلف الناس: لأي معنى سميت أكدرية؟
فروي عن الأعمش: أنه قال: إنما سميت أكدرية، لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً يقال له: أكدر، فذكر له اختلاف الصحابة فيها، فنسبت إليه.
وقيل: سميت أكدرية، لأن امرأة تسمى أكدرية ماتت وخلفت هؤلاء، فسميت أكدرية ونسبت إليها.
وقيل: سميت أكدرية، لأنها كدرت على زيد أصله، لأنه لا يفرض للأخوات مع الجد وقد فرض لها هاهنا، ولا يعيل مسائل الجد وقد أعال هاهنا.
وإن كان بدل الأخت أخ.. فإن للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس،(9/98)
ويسقط الأخ، لأن الأخ له تعصيب محض، ولا يمكن أن يفرض له ولم يبق من الفريضة شيء، فسقط.
وإن كان هناك زوج وأم وأختان وجد.. فليست بأكدرية، بل للزوج النصف، وللأم السدس، والباقي بين الجد والأختين: للذكر مثل حظ الأنثيين، فتصح من اثني عشر.
فإن كان هناك زوج وأم وبنت وأخت وجد.. كان أصلها من اثني عشر: للزوج ثلاثة، وللبنت ستة، وللأم سهمان، وللجد سهمان، ولا شيء للأخت، لأن المسألة قد عالت، ولا يفرض لها، لأنها إنما تأخذ مع البنت بالتعصيب، ولا تعصيب هاهنا.
[مسألة المعادة للأشقاء والجد بالإخوة للأب]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والإخوة للأب والأم يعادون الجد بالإخوة والأخوات للأب) .(9/99)
وجملة ذلك: أنه إذا اجتمع جد، وأخ لأب وأم، وأخ لأب.. فإن الأخ للأب والأم يعاد الجد بالأخ للأب فيقسم المال بينهم على ثلاثة، لكل واحد منهم سهم، ثم يرجع الأخ للأب والأم فيأخذ السهم الذي بيد الأخ للأب. وبه قال زيد بن ثابت، ومالك بن أنس.
وذهب علي وابن مسعود إلى: (أن الأخ للأب يسقط، ويكون المال بين الجد والأخ للأب والأم نصفين) .
دليلنا: أن الجد له ولادة، فإذا حجب بأخوين وارثين.. جاز أن يحجب بأخوين أحدهما وارث والآخر غير وارث، كالأم تحجب بالأخوين أحدهما لأب والآخر لأب وأم وهما وارثان، وتحجب بأخ لأب وأم وهو وارث، وبأخ لأب وهو غير وارث.
فإن كان هناك أخ لأب وأم، وأخت لأب، وجد.. عاد الأخ للأب والأم الجد بالأخت للأب، فيقسم المال على خمسة: للجد سهمان، وللأخ للأب والأم سهمان، وللأخت سهم، ثم يرجع الأخ فيأخذ سهم الأخت.
وإن كان هناك أخوات لأب وأم، وأخ لأب، وجد.. فلا حاجة هاهنا إلى المعادة، لأن الجد لا يجوز أن ينقص عن الثلث.
[فرع اجتماع شقيقة وأخت لأب وجد]
] : وإن اجتمع أخت لأب وأم، وأخت لأب، وجد.. كان المال بينهم على أربعة: للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم تأخذ الأخت للأب والأم السهم الذي بيد الأخت للأب، وقد حصل معها نصف المال.
وإن كان هناك أخت لأب وأم، وأخ لأب، وجد.. كان المال بينهم على خمسة:(9/100)
للجد سهمان، وللأخت سهم، وللأخ سهمان، ثم تأخذ الأخت من الأخ تمام النصف وهو سهم ونصف، لأنه لا يجوز أن ترث أكثر من نصف المال، فتضرب الخمسة في اثنين، فتصح من عشرة: للجد اثنان في اثنين فذلك أربعة، وللأخت سهمان ونصف في اثنين فذلك خمسة، وللأخ نصف في اثنين فذلك سهم. وتعرف هذه المسألة بعشرية زيد.
وإن كان بدل الأخ للأب أختان لأب.. كان الحكم فيها ما ذكرناه، ولكن لا تصح إلا من عشرين، لأنه يبقى للأختين سهم من عشرة فيكسر عليهما، فتضرب العشرة في اثنين. فذلك عشرون، وتعرف بالعشرينية.
وإن اجتمع مع الجد والإخوة للأب والأم والإخوة للأب من له فرض.. كان الحكم حكم ما لو كان مع الجد والإخوة للأب والأم من له فرض في أنه يجعل للجد الأوفر من المقاسمة بعد الفرض، أو ثلث ما يبقى، أو سدس جميع المال، ويعاد الإخوة للأب والأم الجد بالإخوة للأب على ما ذكرناه.
والله أعلم بالصواب وبالله التوفيق(9/101)
[كتاب النكاح](9/103)
كتاب النكاح النكاح جائز، والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] .
وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط» .(9/105)
وفي السقط ثلاث لغات: بفتح السين، وضمها، وكسرها.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» .
وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يدل إلى الجواز.
وأجمعت الأمة: على جواز النكاح.
إذا ثبت هذا: فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام:
أحدها: مناكح الرايات، وهو أن المرأة العاهرة كانت تنصب على بابها راية لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس.
والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطء امرأة،(9/106)
لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد.. ألحق بأشبههم به.
والثالث: نكاح الاستنجاب، وهو: أن المرأة كانت إذا أرادت أن يكون ولدها كريماً.. بذلت نفسها لعدة من فحول رجال القبائل، ليكون ولدها كأحدهم.
والرابع: النكاح الصحيح، وهو: الذي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .(9/107)
وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة بنت خويلد قبل النبوة من ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان الذي خطبها له عمه أبو طالب، فخطب وقال: (الحمد لله الذي جعله بلداً حراماً، وبيتا محجوجاً، وجعلنا سدنته، وهذا محمد قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وإن كان في المال قل، إلا أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وما أردتم من المال.. فعلي، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك) فزوجها منه عمها.
[مسألة أهلية النكاح]
ولا يصح النكاح إلا من حر، بالغ، عاقل، مطلق التصرف.
فأما العبد: فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر ". وروي: فنكاحه باطل»(9/108)
و (العاهر) : الزاني. ويصح منه بإذن مولاه، للخبر.
وأما الصبي والمجنون: فلا يصح نكاحهما، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه عقد معاوضة، فلم يصح من الصبي والمجنون، كالبيع.
وأما السفيه: فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي، لأنه حجر عليه لحفظ ماله، وفي النكاح يستحق عليه المال. ويصح منه بإذن الولي، لأنه لا يأذن له إلا فيما له فيه مصلحة من ذلك.
[مسألة حكم النكاح]
] : النكاح مستحب غير واجب عندنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال داود: (هو واجب على الرجل والمرأة، فإن كان الرجل واجداً لمهر حرة.. وجب عليه الترويج بحرة أو التسري بأمة، وإن كان عادماً لمهر حرة.. وجب عليه التزويج بأمة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . فعلقه بالاستطابة، وما كان واجباً.. لا يتعلق بالاستطابة.
وروى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي..(9/109)
فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» . فعلقه على المحبة، وسماه سنة، وإذا أطلقت السنة.. اقتضت المندوب إليه.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الناس بعد المائتين، خفيف الحاذ " قيل: يا رسول الله، ومن خفيف الحاذ؟ قال: " الذي لا أهل له ولا ولد» ، ويقال: رجل خفيف الحاذ: إذا كان قليل لحم الفخذين.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فبين لها ذلك، فقالت: لا والله! لا تزوجت أبدا» . فلو كان النكاح واجباً.. لأنكر عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي: أن جماعة من الصحابة ماتوا ولم يتزوجوا، ولم ينكر عليهم.
إذا ثبت هذا: فالناس في النكاح على أربعة أضرب:
ضرب: تتوق نفسه إليه، ويجد أهبته- وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه. فيستحب له أن يتزوج، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة.. فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» .(9/110)
وقال أبو عبيد: (الباءة) : ممدود، وأصل الباءة الجماع، والمراد بالباءة المذكورة في الخبر: المال الذي يملك به الجماع- وهو المهر، والنفقة - فسماه باسم سببه.
وأراد: من استطاع منكم المال الذي يتوصل به إلى الباءة.. فليتزوج، لأنه قال: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم» أي: ومن لم يستطع المال، ونفسه تتوق إلى الجماع.. فعليه بالصوم، ليكون له وجاء. يقال للفحل إذا رضت أنثياه: قد وجئ وجاء، يعني: أنه قطع النكاح، لأن الموجوء لا يضرب، فلو كان المراد بالباءة المذكورة في الخبر الجماع.. لم يأمر بالصوم من لا يستطيعه ليكون له وجاء، لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج بنساء كثيرة، ومات عن تسع» .(9/111)
وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النكاح، فقال: (كان خيرنا أكثرنا(9/112)
نكاحاً يعني: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التبتل» و (التبتل) : ترك النكاح.
وقال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن لنا.. لاختصينا» . وروي: أن معاذا لما مرض.. قال: (زوجوني زوجوني، لا ألقى الله عزبا) . ولأنه إذا لم يتزوج.. لم يأمن مواقعة الفجور.
والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع، ولا يقدر على المهر والنفقة.. فالمستحب له: أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ، ولأنه يشغل ذمته بالمهر والنفقة.
والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، ويريد التخلي لعبادة الله.. فيستحب له أن لا يتزوج، لأنه يلزم ذمته حقوقاً هو مستغن عن التزامها، ويشتغل عن عبادة الله تعالى.
والضرب الرابع: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، وهو قادر على المهر والنفقة، ولا يريد العبادة.. فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان، حكاهما في " الفروع ":(9/113)
أحدهما: لا يستحب له أن يتزوج، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي الزوائد: (نكحت؟ قال: لا، فقال: ما يمنعك منه إلا عجز، أو فجور) . وروي: (إلا شح، أو فجور) ، ولأنه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه.
والثاني: يستحب له أن يتزوج، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» .
وقال أبو حنيفة: (النكاح مستحب بكل حال) ، وبه قال بعض أصحابنا، والأول أصح، لما ذكرناه.
[فرع استحباب ذات الدين وغير ذلك من الصفات المرضية]
] : ويستحب له أن لا يتزوج إلا ذات دين، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لميسمها، ولمالها، ولحسبها، فعليك بذات الدين، تربت يداك» .(9/114)
وفي رواية: «تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» .
و (الميسم) : الحسن، ويقال: رجل وسيم، وامرأة وسيمة، وهو الجمال في الخبر الثاني، و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليك بذات الدين، تربت يداك» : يقال للرجل إذا قل ماله: ترب، أي: افتقر حتى لصق بالتراب. قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] [البلد: 16] . ولم يتعمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء عليه بالفقر، ولكنها كلمة جارية على ألسنة العرب، يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر، «كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية بنت حيي، حين قيل له يوم النفر: إنها حائض، فقال: " عقرى، حلقى» أي: عقر الله جسدها، وأصابها بوجع في حلقها، ولم يرد الدعاء عليها.
وقال بعضهم: بل أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " تربت يداك " نزول الفقر به عقوبة له، لتعديه ذات الدين إلى ذات الجمال، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم، إنما أنا بشر، فمن دعوت عليه بدعوة.. فاجعل دعوتي له رحمة» .
وقال بعضهم: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تربت يداك ": يريد به استغنت يداك. وهذا خطأ، لأنه لو أراد ذلك.. لقال: أتربت يداك، يقال: أترب الرجل: إذا استغنى، وترب: إذا افتقر.
ويستحب له أن يتزوج ذات العقل، لأن القصد بالنكاح طيب العيش معها، ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها.(9/115)
ويستحب له أن يتزوج بكراً، لما «روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: تزوجت امرأة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أتزوجت يا جابر؟ " فقلت: نعم فقال: " أبكراً أم ثيباً؟ "، فقلت: بل ثيبا، فقال: " فهلاً جارية بكراً، تلاعبها وتلاعبك» ؟ وروي: «تداعبها وتداعبك "، فقلت: يا رسول الله، إن عبد الله مات - يعني: أباه - وترك تسع بنات - أو سبعاً- فجئت بمن تقوم بهن» .
ويستحب أن لا يتزوج إلا من يستحسنها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة.. فليستحسنها» .
ويستحب له أن يتزوج ذات نسب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع"، فقال: "لحسبها» . و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تخيروا لنطفكم» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم وخضراء الدمن " قيل: وما خضراء الدمن،(9/116)
يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء» .
وقال أبو عبيد [في" غريب الحديث " (3/99) ] : أراد: فساد النسب، وهو: أن تكون لغير رشدة، أي: من الزنا، شبهها بالشجرة الناضرة في دمنة البعر، فمنظرها حسن، ومنبتها فاسد.
والأولى: أن يتزوج من غير عشيرته، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا تزوج الرجل من عشيرته.. فالغالب على ولده الحمق) .(9/117)
ويستحب له أن يتزوج الولود الودود، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا، تكثروا» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود "، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سوداء ولود خير من حسناء عقيم» .
ويستحب له أن يتزوج في شوال، لما «روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت (تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شوال، وبنى بي في شوال» . فكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستحب أن يبنى بنسائها في شوال.
[مسألة ما يحق للحر جمعه من النساء]
] : ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز أن يجمع بين أكثر من ذلك.
قال الصيمري: إلا أن المستحب له: أن لا يزيد على واحدة، لا سيما في زماننا هذا.
وقال القاسم بن إبراهيم وشيعته القاسمية: يجوز له أن يجمع بين تسع حرائر، ولا يجوز له أن يجمع بين أكثر من ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] [النساء: 3] ، والاثنتان والثلاث والأربع: تسع، ومات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تسع زوجات.
وذهبت طائفة من الرافضة إلى: أنه يجوز له أن يتزوج أي عدد شاء.
دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له(9/118)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك منهن أربعاً، وفارق سائرهن» .
«وروي عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك أربعا منهن، وفارق واحدة منهن» .(9/119)
وأما الآية: فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والأربع، ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى في صفة الملائكة: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] [فاطر: 1] .
وكقول الرجل: جاءني القوم مثنى وثلاث ورباع.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان مخصوصاً بذلك. وقد روي: أنه جمع بين أربع عشرة(9/120)
زوجة، وما روي أن أحداً من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جمع بين أكثر من أربع زوجات.
[فرع ما يجوز للعبد جمعه من النساء]
] : وأما العبد: فلا يجوز له أن يجمع بين أكثر من امرأتين، وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء.
ومن الفقهاء أهل الكوفة: ابن شبرمة، وابن أبي ليلي، وأبو حنيفة وأصحابه، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق.
وقال أهل المدينة - الزهري، وربيعة، ومالك رحمة الله عليهم-: (يجوز له أن يجمع بين أربع، كالحر) . وبه قال الأوزاعي، وداود، وأبو ثور.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] [الروم: 28] . فظاهر الآية يقتضي: أن العبيد لا يساوون الأحرار في حكم من الأحكام إلا ما خصه الدليل.
وروي عن الحكم بن عتيبة: أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح أكثر من امرأتين.
[مسألة ما يجوز للخاطب من النظر]
] : وإذا أراد الرجل خطبة امرأة.. جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها - وهو(9/121)
وجهها وكفاها - بإذنها وبغير إذنها. ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك إلا بإذنها) .
وقال المغربي: لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها.
وقال داود: (يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، إلا إلى فرجها) .
دليلنا - على المغربي -: ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أراد تزويج امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا» . وروي: " سوءا ". «وروي عن المغيرة بن شعبة: أنه قال: أردت أن أنكح امرأة من الأنصار، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". قال: فذهبت، فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها، فرفعت الخدر، وقالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لك أن تنظر.. فانظر، وإلا.. فإني أحرج عليك إن كنت تؤمن بالله ورسوله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يؤدم بينكما " أي " يصلح.(9/122)
وأما الدليل: - على داود -: فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] [النور: 31] .
قيل في التفسير: الوجه والكفان. فظاهر الآية يقتضي: أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي إلا وجهها وكفيها.
وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة.. فلينظر إلى وجهها وكفيها» ، فدل على: أنه لا يجوز له النظر إلى غير ذلك. ولأن ذلك يدل على سائر بدنها.
إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة.. فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها» . ولا يمكنه تأمل ذلك إلا بأن يكرر النظر إليها.
قال الصيمري: وإذا نظر إليها ولم توافقه.. فالمستحب له: أن يسكت، ولا يقول: لا أريدها.(9/123)
قال الصيمري: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعثوا امرأة ثقة، لتنظر إلى المرأة التي يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة.
وذكر في " الإفصاح ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتنظر إلى وجه امرأة أراد أن يتزوجها، فرجعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقالت: لم تمرض قط، فلم يرغب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها» .
فإذا ثبت هذا الخبر.. كان مبطلاً لقول الصيمري.
[فرع نظر المرأة المخطوبة للخاطب]
فرع: [جواز نظر المرأة المخطوبة للخاطب] : قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن) .(9/124)
[فرع الأمر بغض البصر عن الأجنبيات وعكسه]
] : وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة أجنبية منه من غير سبب.. فلا يجوز له ذلك، لا إلى العورة، ولا إلى غير العورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] [النور: 30ٍ] .
وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أردف الفضل بن العباس خلفه في حجة الوادع، فأتت امرأة من خثعم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فلوى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنق الفضل، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لويت عنق ابن عمك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رجل شاب، وامرأة شابة، خشيت أن يدخل الشيطان بينهما» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى "، أو قال: وعليك الأخرى»(9/125)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نظر الرجل إلى محاسن امرأة لا تحل له سهم من سهام الشيطان مسموم، من تركها خوفا من الله، ورجاء ما عنده.. أثابه الله بها» .
قال ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري: إذا لم يخف الافتتان بها.. فله أن ينظر منها إلى الوجه والكفين بغير شهوة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى» .
ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي، لا إلى العورة منه، ولا إلى غير العورة من غير سبب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] .(9/126)
وروي: «أن ابن أم مكتوم دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أم سلمة، وميمونة - وقيل: عائشة، وحفصة - فقال: " احتجبا عنه " فقالا: إنه أعمى لا يبصرنا! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفعمياوان أنتما؟! أليس تبصرانه؟» .
ولأن المعنى الذي منع الرجل من النظر لأجله، هو خوف الافتتان، وهذا موجود في المرأة، لأنها أسرع إلى الافتتان، لغلبة شهوتها، فحرم عليها ذلك.
[فرع بروز المسلمة أمام الكتابية أو غيرها من الكافرات]
] : وهل يجوز للمرأة المسلمة أن تبرز للمرأة الكتابية، أو غيرها من الكافرات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه لا يخاف عليها الافتتان بذلك.
والثاني: لا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] ، وهذه ليست من نسائهن.
وهل يجوز للرجل أن ينظر إلى الطفلة الصغيرة الأجنبية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . ولا خلاف: أنه لا يجوز له النظر إلى فرجها.(9/127)
[فرع نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية]
فرع: [حكم نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية] : واختلف أصحابنا في الصبي المراهق مع المرأة الأجنبية:
فمنهم من قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها، فلا يحل لها أن تبرز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] [النور: 31] . ومعناه: لم يقووا على الجماع، والمراهق يقوى على الجماع، فهو كالبالغ.
ومنهم من قال: هو معها كالبالغ من ذوي محارمها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم، فدل على: أنه قبل أن يبلغوا الحلم يجوز دخولهم من غير استئذان.
ولا يجوز للرجل الخصي أن ينظر إلى بدن المرأة الأجنبية، وقال ابن الصباغ: إلا أن يكبر، ويهرم، وتذهب منه شهوته.
قال: وكذلك المخنث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] [النور: 31] .
وروي: «أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لعبد الله بن أبي أمية - أخي أم سلمة -: إن فتح الله علينا الطائف غداً.. دللتك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا أراك تعقل هذا، لا يدخل هذا عليكن» . وإنما لم يمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دخوله قبل هذا، لأنه كان يظن أنه من غير أولي الإربة من الرجال، فلما وصف من المرأة ما وصف.. علم أنه ليس من أولئك، فمنع من دخوله.(9/128)
وقوله (تقبل بأربع) يعني: أربع عكن في مقدم بطنها. قوله: (تدبر بثمان) : لأن الأربع محيطة ببطنها وجنبيها، فلها من خلفها ثمانية أطراف، من كل جانب أربعة أطراف.
[فرع النظر لأجل الشهادة والمداواة وإلى الأمرد]
ويجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة، وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها أن تنظر إلى وجهه كذلك، لأن هذا يحتاج إليه، فجاز النظر لأجله. ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيباً وأراد مداواته، لأنه موضع ضرورة، فزال تحريم النظر لذلك.
وأما أمة غيره: فإذا لم يكن هناك سبب.. فهي كالحرة الأجنبية مع الأجنبي. فإن أراد أن يشتريها.. فيجوز له أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها، وقد مضى بيان عورتها في الصلاة.
قال الشيخ أبو حامد: وحكى الداركي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يجوز النظر إلى وجه الأمرد، لأنه يفتن) . قال: ولا أعرفه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
والأول اختيار الشيخ أبي إسحاق.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحل للرجل النظر إلى الخنثى.
[مسألة النظر إلى المحارم والرجل للرجل والمرأة للمرأة]
ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] الآية.
وفي الموضع الذي يجوز له النظر إليه منها وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة "] :(9/129)
أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا- أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها، إلا ما بين السرة والركبة، لأنه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك، كالرجل مع الرجل.
والثاني - وهو اختيار القفال -: أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة، لأنه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا الوجهان في النظر إلى أمة غيره، إذا لم يرد شراءها، وهذا خلاف نقل البغداديين من أصحابنا فيها، وقد مضى.
ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة. ويجوز للمرأة أن تنظر إلى جميع بدن المرأة، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة، لأنه لا يخاف الافتتان بذلك.
[فرع نظر العبد لمولاته والخلوة بها]
وإذا ملكت المرأة عبداً.. فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر والخلوة به؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يصير محرماً لها في ذلك. قال في " المهذب ": وهو المنصوص، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] [النور: 31] فعده مع ذوي المحارم.
وروت أم سلمة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «إذا كان مع مكاتب إحداكن وفاء.. فلتحتجب منه» ، فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجباً عليهن قبل ذلك.. لما أمرهن به.(9/130)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غلاماًَ، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل عليها، ومعه علي والغلام، وهي أفضل - أي: ليس عليها إلا ثوب واحد- فأرادت أن تغطي به رأسها ورجليها فلم يبلغ، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس عليك إنما هو أبوك وزوجك وخادمك» .
ولأن الملك سبب تحريم الزوجية بينهما فوجب أن يكون محرماً لها، كالنسب والرضاع.
والثاني: لا يكون محرماً لها. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عند أصحابنا، لأن الحرمة إنما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوة، كالأخ والأخت، والعبد وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة، فهو كالأجنبي. وأما الآية: فقال أهل التفسير: المراد بها الإماء، دون العبيد. وأما الخبر: فيحتمل أن يكون الغلام صغيراً.
[مسألة النظر للزوجة وملك اليمين]
] : وإذا تزوج الرجل امرأة، أو ملك أمة يحل له الاستمتاع بها.. جاز لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لأنه يملك الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه.
وهل يجوز له النظر إلى الفرج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه موضع يجوز له الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه، كالفخذ.
والثاني: لا يجوز، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النظر على الفرج يورث الطمس» . ولأن فيه دناءة وسخفاً. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يعني(9/131)
بـ: (الطمس) : العمى، أي: في الناظر. وقال الطبري في" العدة ": أي: أن الولد بينهما يولد أعمى.
وإذا زوج الرجل أمته.. كانت كذوات محارمه، فلا يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم أمته.. فلا ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة» . ولأنه إذا زوجها.. فحكم الملك ثابت بينهما، وإنما حرم عليه الاستمتاع بها، فصارت كذوات المحارم.
[مسألة ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن الله عز وجل لما خص به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وحيه، وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته.. افترض عليه أشياء خففها على خلقه، ليزيده بها- إن شاء الله- قربة، وأباح له أشياء حظرها على غيره، زيادة في كرامته، وتبييناً لفضيلته) .
وجملة ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص بأحكام في النكاح وغيره، ولم يشاركه غيره فيها.
فأما ما خص به في غير النكاح: فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على غيره، ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك، والوتر، والأضحية، والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث كتبهن الله تعالى علي، ولم تكتب عليكم: السواك والوتر، والأضحية» .(9/132)
وكان يجب عليه إذا لبس لأمة حربه أن لا ينزعها.. حتى يلقى العدو. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان لنبي إذا لبس لأمة حربه أن ينزعها.. حتى يلقى العدو» .
وأما قيام الليل: فمن أصحابنا من قال: كان واجباً عليه إلى أن مات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] [المزمل: 1-2] .
والمنصوص: (أنه كان واجباً عليه، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] [الإسراء: 79] .
وكان يجب عليه إذا رأى منكراً.. أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر.
وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره، تنزيهاً له وتطهيراً، فحرم عليه الكتابة، وقول الشعر وتعليمه، تأكيداً لحجته، وبياناً لمعجزته.
قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] [العنكبوت: 48] .
وذكر النقاش: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما مات حتى كتب) . والأول هو المشهور.
وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولاً واحداً. وفي صدقة التطوع قولان، وقد مضى ذكرهما في الزكاة.
وحرم عليه خائنة الأعين- وهو الرمز بالعين- لما روي: «أن رجلا دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأراد قتله، فلما خرج عنه.. قال: " هلا قتلتموه؟ ! " فقالوا: هلا رمزت إلينا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين»(9/133)
وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس. والدليل عليه: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت به إبل، وقد عنست بأبوالها وأبعارها، فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131] [طه: 131] الآية.
وأوعده الله أن يحبط عمله بنفس الردة، وأوعد غيره أن لا يحبط عمله إلا بالردة والموت عليها. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] الآية. وقال في غيره: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] .
وأباح الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء لم يبحها لغيره، تفضيلا له واختصاصاً:
منها: أنه أباح له الوصال في الصوم، والدليل عليه: «أنه نهى عن الوصال، فقيل له: يا رسول الله، إنك تواصل، فقال: " إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى» ، وفي رواية: «إني أبيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني» .
وأبيح له أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] وعلى كل واحد من المسلمين أن يقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه.
وأبيح له أن يحمي لنفسه، وأبيح له أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس من الفيء والغنيمة.(9/134)
وأبيح له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء، وهو: أن يختار منها ما شاء، وقد اصطفى صفية من سبي خيبر، فلذلك سميت صفية. وقيل: بل كان ذلك اسمها. وأكرمه الله تعالى بأشياء:
منها: أنه أحل له الغنائم ولأمته، وكانت لا تحل لمن قبله من الأنبياء، بل كانوا يحرقونها. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي» .
وجعلت الأرض له ولأمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجداً وطهوراً، وكان من قبله من الأنبياء لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت الأرض لنا مسجداً، وترابها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» .
وجعلت له معجزات كمعجزات الأنبياء قبله، وزيادة، فكانت معجزة موسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم- العصا، وانفجار الماء من الصخر، وقد انشق القمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخرج الماء من بين أصابعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكانت معجزة عيسى صلى الله(9/135)
عليه وعلى نبينا وسلم إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وقد سبحت الحصى في كف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ.
وفضله الله تعالى عليهم، بأن جعل القرآن معجزته، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة، لا تنسخ إلى يوم القيامة، لأن معجزته باقية. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنام عيناي، ولا ينام قلبي» . وكان يرى من خلفه، كما يرى من بين يديه.
وأما ما خص به النبي صلى عليه وسلم من الأحكام في النكاح: فاختلف أصحابنا في المنع من الكلام فيه:
فحكى الصيمري: أن أبا علي بن خيران منع من الكلام فيه، وفي الإمامة، لأن ذلك قد انقضى، فلا معنى للكلام فيه.
وقال سائر أصحابنا: لا بأس بالكلام في ذلك، وهو المشهور، لما فيه من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون، كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا، وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر.
إذا ثبت هذا: فإنه أبيح للنبي صلى الله وعليه وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع.(9/136)
والأول هو المشهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .
قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن، فحرم الزيادة على الأربع، وندب إلى الاقتصار على واحدة، خوفاً من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ثماني عشرة امرأة، وقيل: بل خمس عشرة. وجمع بين أربع عشرة، وقيل: بل بين إحدى عشرة. ومات عن تسع: عائشة بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي بن أخطب، وزينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وأرضاهن.
فهؤلاء ثمان نسوة كان يقسم لهن إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتاسعة سودة بنت زمعة: (كانت وهبت ليلتها لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رغب في نكاح امرأة مزوجة، وعلم زوجها بذلك.. وجب عليه أن يطلقها! كامرأة زيد بن حارثة، كما أنه إذا احتاج إلى طعام، ومع إنسان طعام،(9/137)
لو لم يأكله مات جوعاً.. وجب عليه أن يبذله له.
وأبيح له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوج من غير مهر، لا ابتداء، ولا انتهاء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية، والهبة إنما تكون بغير عوض.
[فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة]
] : وهل كان يحل له النكاح بلفظ الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه كان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية.
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: قد وهبت نفسي منك يا رسول الله، فقال: ما لي اليوم في النساء من حاجة» ، ولم ينكر عليها قولها: (قد وهبت نفسي منك) .
ولأن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما لا يصح نكاحه بلفظ الهبة، لأنه لا يعرو عن عوض، والهبة لا تتضمن عوضا، ونكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصح أن يعرو عن العوض، فلذلك صح بلفظ الهبة.(9/138)
والثاني: لا يحل له. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. فأجاز له العقد بالاستنكاح- وهو لفظ التزويج، أو الإنكاح - فدل على: أن ذلك يشترط في نكاحه.
ولأن لفظ الهبة، ولفظ الإباحة واحد، لأنهما لا يتضمنان عوضاً، فلما لم يصح نكاحه بلفظ الإباحة.. لم يصح بلفظ الهبة.
وإذا قلنا بالأول: فهل يصح قبوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (اتهبت) ، أو لا يصح حتى يقول: (نكحت) ، أو: (تزوجت) ، وما أشبهها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانه "] .
[فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود]
وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير ولي ولا شهود؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لما روي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» ، ولم يفرق. ولأن كل ما كان شرطاً في نكاح غيره.. كان شرطاً في نكاحه، كالإيجاب والقبول.(9/139)
والثاني: يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لما روي: «أن النبي صلى عليه وسلم لما خطب أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.. اعتذرت إليه بأشياء، منها: أن قالت: ليس لي ولي حاضر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك ولي حاضر ولا غائب، إلا وهو يرضاني "، فقالت أم سلمة: قم يا عمر - تعني: ابنها - فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يروون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا غلام، قم فزوج أمك» . والذي أعرفه هو الأول.
فتزوجها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ولي، لأن الابن ليس بولي عندنا، لأن ابنها كان يومئذ صغيراً. ولأن الولي إنما اشترط في النكاح، لئلا تضع المرأة نفسها في غير كفء، واشترط حضور الشهود عند العقد، ليثبتوا الفراش، فيلحق النسب به، إن جحد الزوج، وذلك لا يوجد في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم في الإحرام]
وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال الإحرام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» . 50(9/140)
والثاني: يصح، لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرم» . ولأن المحرم إنما منع من العقد في الإحرام، لئلا يدعوه ذلك على مواقعتها في حال الإحرام، وهذا مأمون منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الكتابيات]
وهل كان يجوز نكاحه الحرائر الكتابيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] ولم يفرق. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبيح في النكاح ما لم يبح لغيره، فلا يجوز أن يحرم عليه منه ما أبيح لغيره.
والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا - أنه لا يجوز له نكاحها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، ولا يجوز أن تكون الكافرة أما للمؤمنين.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» ، والكافرة لا تدخل الجنة، فلا تكون زوجة له.(9/141)
[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الأمة المسلمة ووطؤه لملك اليمين]
وأما تزويج الأمة المسلمة: فالمشهور من المذهب: أنه لا يحل له ذلك، لأن تزويجها للحر إنما يكون بشرطين: عدم طول الحرة، والخوف من العنت، وهذان، معدومان في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان يحل له ذلك، لما ذكرناه في نكاحه للذمية.
فإذا قلنا بهذا: فما كان حكم ولده منها إذا قلنا: إن ولد العربي من الأمة مملوك؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه رقيق، كولدها من غيره.
والثاني: ليس برقيق، وهو الأصلح، لأنه يستحيل أن يسترق من هو جزء من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما وطء الأمة المسلمة بملك اليمين: فكان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] الآية.
ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطيء مارية القبطية بملك اليمين، وأولد منها إبراهيم عليه والسلام.
وكان يحل له وطء الأمة الكتابية بملك اليمين، لأنه اصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر، وكان يطؤها قبل أن تسلم، فلما أسلمت أعتقها، وجعل عتقها صداقها - وهذا مما خص به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضا- فتزوجها.
[مسألة تخيير النساء خاص به صلى الله عليه وسلم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن ذلك: أن من ملك زوجة.. فليس عليه تخييرها، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخير نساءه، فاخترنه) .
وجملة ذلك: أن الله تعالى خير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بين أن يكون نبيا ملكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبياً مسكيناً، فشاور - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،(9/142)
فأشار عليه بالمسكنة، فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين.. أمره الله تعالى أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من تكره المقام معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الشدة، تنزيها له.
وقيل: إن السبب الذي وجب التخيير لأجله: أن امرأة من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة، وطلاها بالذهب- وقيل: بالزعفران- فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير، وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية [الأحزاب: 28] .
وقيل: إنما أمر بتخييرهن امتحانا لقلوبهن، وابتلاء لهن، وإلا.. فلا يختار له إلا الصالحات من النساء، ولكن يعلم بذلك أحكام، فبدأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة، وقال: «إني مخيرك، ولا عليك أن لا تحدثي أمرا حتى تستأمري أبويك "، ثم قال: " إن الله أنزل علي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] ، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أفيك أشاور أبوي؟! إني اخترت الله ورسوله. قالت عائشة: لا تخبر بما صنعت أحداً من أزواجك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بعثت ميسراً، ولم أبعث معسراً"، ثم دخل على باقي أزواجه، فخيرهن، فكن يقلن: ما قالت عائشة، فيقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اختارت الله ورسوله" فيقلن: اخترن الله ورسوله» .
وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق.
وإنما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن تشاور أبويها، لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.(9/143)
إذا ثبت هذا: فإن التخيير كناية في الطلاق، فلا يقع به طلاق حتى يقول الرجل لامرأته: اختاري نفسك، وينوي بذلك: أنه جعل طلاقها إليها، وتقول المرأة، اخترت نفسي، وتنوي بذلك الطلاق.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو صريح في الطلاق) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة، وأمرها أن تشاور أبويها، فلو كان الطلاق قد وقع، وبانت منه.. لم يمكنها مشاورتهما، ولأنها لو بانت منه.. لما أفاد اختيارها له.
إذا تقرر هذا: فإن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خير زوجته.. فلا خلاف على المذهب: أن قبولها يجب أن يكون على الفور، بحيث يصلح أن يكون جواباً لكلامه.
وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزوجاته.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنه على التراخي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال لها: «لا تحدثي أمرا حتى تشاوري أبويك» فأجاز لها تأخير الجواب إلى مشاورتهما، فدل على: أن الجواب لا يقتضي الفور.
و [الثاني] : منهم من قال: إنه على الفور، وهو الصحيح، لأن التخيير يجري مجرى البيع والهبة، فلما كان قبول بيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهبته على الفور.. فكذلك تخييره وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فكان تخييراً موسعا إلى مشاورة أبويها، ولو أطلق التخيير.. لاقتضى الجواب على الفور. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اختارت واحدة منهن الدنيا.. وقعت الفرقة، وهل كان ذلك طلاقا أو فسخاً؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: كان طلاقاً.. فهو على الفور، وإن قلنا: كان فسخاً.. فهو على التراخي. وقال القفال: إن اختارت واحدة منهن الدنيا.. فهل تبين منه بذلك، أو يلزمه أن يطلقها؟ فيه وجهان:(9/144)
أحدهما: تبين منه، كما لو خير أحدنا زوجته، فاختارت فراقه.
والثاني: لا تبين منه حتى يطلقها. قال: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] الآية. ولأن الرجل منا لو خير زوجته بين الدنيا والآخرة، فاختارت الدنيا.. لم تبن منه، فكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فرع خير نساءه صلى الله عليه وسلم فاخترنه فحظر عليه نكاح غيرهن]
وحكم طلاقهن بعد تخييرهن] :
لما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه، فاخترنه.. حرم الله عليه التزويج بغيرهن، والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] .
وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] :
أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في" الإبانة "] ، لم يذكر ابن الصباغ غيره-: أنه كان لا يحل له ذلك، جزاء لهن على اختيارهن له.
والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره-: أنه كان يحل له ذلك، كغيره من الناس، ولكن لا يتزوج بدلها، ثم نسخ هذا التحريم، وأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. والإحلال يقتضي تقدم حظر، وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] . [الأحزاب: 50] ولم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت: أنه أحل له التزويج بهن ابتداء، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة.. فهي متأخرة النزول عن الآية المنسوخة بها، كالآية في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] نسخت(9/145)
الآية المتأخرة عنها في التلاوة، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] الآية [البقرة: 240] .
والذي يدل على أن التحريم نسخ: ما روي عن أبي وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: «ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أحل الله له النساء» ، يعني: اللاتي حظرن عليه.
[فرع أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين]
ومما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن جعل الله أزواجه أمهات المؤمنين. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] .
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] في معنى دون معنى) ، وأراد به: أن أزواجه اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك.. كان كافراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] [الأحزاب: 53] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نسب وسبب ينقطع إلا سببي ونسبي.. فإنه باق إلى يوم القيامة» ، و (السبب) : القران والنكاح، ولا يكون حكمهن حكم الأمهات من(9/146)
النسب في التوارث، ولا حكم الأمهات من النسب والرضاع في: أنه لا يحل نكاح بناتهن وأخواتهن وأمهاتهن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج بناته من المسلمين.
ونقل المزني: (وقد زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته وهن أخوات المؤمنين، وليس هذا على ظاهره، لأنهن لو كن أخواتهم.. ما جاز لهم تزويجهن) ، ولما نقله تأويلان:
أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أراد: وهن غير أخوات المؤمنين، فأسقط المزني: (غير) .
والثاني: أنه أخرجه مخرج الإنكار، وتقدير الكلام: أترى زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته، وهن أخوات المؤمنين؟
[فرع نكاح المفارقات من نسائه صلى الله عليه وسلم]
وأما زوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي فارقهن في حياته، مثل الكلبية، والتي قالت له: أعوذ بالله منك، فقال: «استعذت بمعاذ! الحقي بأهلك» ، و: " (المرأة التي رأى في كشحها بياضاً، ففارقها) : فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه ثلاثة أوجه:(9/147)
أحدها: أنه كان يحل لغيره نكاحهن، سواء من دخل بها منهن ومن لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] .، فلو كان لا يحل لغيره نكاحهن إذا اخترن فراقه.. لم يحصل لهن من زينة الدنيا شيء؛ لأن الأيم لا زينة لها ولا لذة.
والثاني: لا يحل لأحد نكاحهن، سواء دخل بهن أو لم يدخل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وحرمة الأمومة تثبت بالعقد.
والثالث- وهو الصحيح - أن من فارقها بعد أن دخل بها.. لا يحل لأحد نكاحها، ومن فارقها قبل أن يدخل بها.. يحل نكاحها، لما روي: أن المرأة الكلبية التي فارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فرفع ذلك إلى أبي بكر الصديق - وقيل: إلى عمر رضي الله عنهما - فهم برجمها، فقيل له: إنه لم يدخل بها، فخلى عنها. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي.(9/148)
وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر أحد ذلك، فدل على: أنه إجماع.
[فرع فضل زوجاته صلى الله عليه وسلم]
ومما خص الله به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن فضل الله زوجاته على سائر نساء العالمين، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب:30-31] . فجعل حدهن مثلي حد غيرهن، لكمالهن وفضيلتهن، كما جعل حد الحر مثلي حد العبد، فأخبر: إن حسناتهن تضاعفن تفضيلاً لحالهن. ثم قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] الآية [الأحزاب:32] : وذلك، لموضعهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقربهن منه.
[فرع القسم في الزوجات]
ومما خص الله تعالى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الواحد منا إذا كان له أكثر من زوجة.. فإنه لا يجب عليه القسم ابتداء، بل له أن ينفرد عنهن، ولكن يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فكان لا يجب عليه القسم ابتداء، وهل كان يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه كان لا يجب عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] [الأحزاب:51] .
والثاني: أنه كان يجب عليه ذلك، وهو المذهب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم لنسائه ويقول: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك» يعني: قلبه.(9/149)
و: (لما مرض.. كان يطاف به على أزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ثقل وعلم أزواجه أنه قد شق عليه.. قلن: قد رضينا أن تكون عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فكان عندها إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فلو لم يكن واجباً عليه.. لما تكلف المشقة فيه.
ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم بطلاق سودة بنت زمعة لما كبرت، فأحست بذلك، فقالت: لا تطلقني يا رسول الله، ودعني أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لعائشة، فلم يطلقها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقسم لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» .
وأما الآية: فإنها وردت في التي وهبت نفسها له، ومعناها: تقبل من الموهبات من شئت، وترد منهن من شئت.
[فرع تأويل كلام المزني]
وأما تأويل كلام المزني لقوله: (إن الله تعالى لما خص به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قيل: (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم، فيكون المراد: أن الله تعالى افترض على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الأشياء، لأجل ما خصه به من وحيه.
وقيل: (لما) بفتح اللام وتشديد الميم، فيكون المراد: لما وجه إليه الوحي وخصه به.. افترض عليه هذه الأشياء.(9/150)
وأما قول المزني: (وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم) ، فالمراد به: أنه فرق بينه وبين أمته، وأظهر فضله عليهم. ولا يقال في: (الفرق) : أبان، وإنما يقال: باين، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " أحكام القرآن " [1/29 و 2/121] : (وأبان من فضله - من المباينة بينه وبين خلقه-: فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] [النساء:59] ، وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه) . وهذا أوضح معنى مما نقله المزني.
وبالله التوفيق(9/151)
[باب ما يصح به النكاح]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قد دل كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن حتماً على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح) .
وجملة ذلك: أن عقد النكاح - عندنا - لا ينعقد إلا بولي ذكر، سواء كانت المرأة صغيرة أو كبيرة، بكراً أو ثيبا، نسيبة أو غير نسيبة.
فإن زوجت المرأة نفسها، أو وكلت رجلاً أو امرأة حتى زوجها.. لم يصح، سواء أذن لها وليها في ذلك أم لم يأذن لها. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن البصري وابن المسيب. ومن الفقهاء: ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (إذا كانت المرأة بالغة عاقلة: زالت عنها الولاية في بضعها، كما يزول في مالها، ولها أن تزوج نفسها بغير إذن الولي، فإن زوجت نفسها من كفء.. فلا اعتراض للولي عليها، وإن زوجت نفسها من غير كفء.. كان للولي أن يفسخ النكاح) .
وقال أبو يوسف ومحمد: عقد النكاح يفتقر إلى الولي، ولكنه ليس بشرط فيه، فإن عقدت المرأة النكاح على نفسها بغير إذن وليها، فإن وضعت نفسها في غير كفء.. كان للولي فسخه، وإن وضعت نفسها في كفء.. فعليه إجازته، فإن لم يجزه.. أجازه الحاكم.(9/152)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت المرأة نسيبة موسرة.. لم يصح نكاحها إلا بولي - كقولنا - وإن كانت فقيرة دنيئة لا أبوة لها.. جاز لها أن تزوج نفسها بغير ولي) .
وقال داود: (إن كانت بكراً.. لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت ثيباً.. جاز أن تزوج نفسها بغير ولي) .
وقال أبو ثور: (إذا أذن لها الولي فزوجت نفسها.. صح، وإن زوجت نفسها بغير إذن وليها.. لم يصح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة:232] .
قال معقل بن يسار: هذه الآية نزلت في شأني، وذلك أنه: زوج أخته من رجل، فدخل بها، ثم طلقها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها فرضيت به، فامتنع معقل من تزويجها منه، وقال: زوجتك أختي وأكرمتك بها فطلقتها؟ والله لا نكحتها أبداً، فنزلت هذه الآية، فقال معقل: سمعاً وطاعة، فزوجها منه وكفر عنه يمينه.(9/153)
وموضع الدليل منها: أن الله سبحانه وتعالى نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح- و (العضل) : المنع- فلو لم يكن للأولياء صنع في النكاح.. لما كان للنهي معنى.
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا- وروي: فإن اختلفوا- فالسلطان ولي من لا ولي له» .(9/154)
وهذا الخبر دليل على جميع من خالفنا إلا أبا ثور، فإنه يقول: لما أبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها بغير إذن وليها.. دل على أنه يصح بإذن وليها.
ودليلنا عليه: أن المراد هاهنا الإذن لغيرها من الرجال، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها" ولم يفرق: بين أن يكون ذلك بإذن الولي، أو بغير إذنه» .
إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد:
الأولى: أن للولي شركاً في بضعها، لأنه أبطل نكاحها بغير إذنه.
الثانية: أن الولاية ثابتة على جميع النساء، لأن لفظة: (أي) من حروف العموم.
الثالثة: أن الصلة جائزة في الكلام، لقوله: (أيما) ومعناه: أي امرأة.
الرابعة: أن للولي أن يوكل في عقد النكاح.
الخامسة: أن مطلق النكاح في الشريعة ينصرف إلى العقد، لأن المعنى: أيما امرأة عقدت.
السادسة: جواز إضافة النكاح إليها.
السابعة: أن اسم النكاح يقع على الصحيح والفاسد.
الثامنة: أن النكاح الموقوف لا يصح، لأنه لو كان صحيحا.. لما أبطله.(9/155)
التاسعة: أن الشيء إذا كان بينا في نفسه.. جاز أن يؤكد بغيره، لأنه لو اقتصر على قوله: «فنكاحها باطل» .. لكان بينا، فأكده بالتكرار، وهو: كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [البقرة:196] ، وكقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] [الأعراف:142] .
العاشرة: أن وطء الشبهة يوجب المهر.
الحادية عشرة: أن المس كناية عن الوطء.
الثانية عشرة: أنه إذا مس سائر بدنها- غير الفرج- فلا مهر عليه.
الثالثة عشرة: قال الصيمري: إن القبل والدبر سواء، لأن كله فرج.
الرابعة عشرة: أنه لا فرق: بين الخصي والفحل.
الخامسة عشرة: أنه لا فرق: بين قوي الجماع، وضعيفه.
السادسة عشرة: أنه لا فرق: بين أن ينزل، أو لا ينزل.
السابعة عشرة: أنه لا فرق: بين أن يجامعها مرة، أو مراراً.
الثامنة عشرة: أنه يجوز أن يثبت له وعليه حق يجهل قدره.
التاسعة عشرة: أن النكاح الفاسد إذا لم يكن فيه جماع.. فلا مهر فيه.
العشرون: أن مهر المثل يتوصل إلى العلم به.
الحادية والعشرون: أن المهر يجب مع العلم بتحريم الوطء، ومع الجهل به؛ لأنه يفرق.
الثانية والعشرون: أن المكره يجب عليه المهر؛ لأن المكره مستحل لفرج المكرهة.
الثالثة والعشرون: أن المهر لا يجب بالخلوة، لأنه شرط المس في الفرج.
الرابعة والعشرون: أنه لا حد في وطء الشبهة.
الخامسة والعشرون: قال الشيخ أبو حامد: إن النسب يثبت بالوطء في الشبهة.
السادسة والعشرون: أن تحريم المصاهرة يثبت بوطء الشبهة.(9/156)
السابعة والعشرون: أن العدة تجب على الموطوءة بالشبهة، لأن النسب إذا لحق به.. أوجب العدة.
الثامنة والعشرون: أن المرأة يجوز أن يكون لها جماعة أولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا» ، وهذا إخبار عن جمع.
التاسعة والعشرون: أن السلطان ولي من لا ولي لها.
الثلاثون: أن الأولياء إذا عضلوا المرأة عن النكاح.. انتقلت الولاية إلى السلطان، لأن الاختلاف المراد في الخبر: أن يقول كل واحد منهم: لا أزوجها أنا، بل زوجها أنت.
فأما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوجها دونك.. فلا ينتقل إلى السلطان، بل يقرع بينهم، كما سيأتي بعد.
[فرع: حكم الحنفي في التزويج]
فرع: [يقبل حكم الحنفي في التزويج] :
وإذا تزوج رجل امرأة من نفسها، ثم ترافعا إلى حاكم شافعي، فإن كانا لم يترافعا إلى حاكم حنفي قبله.. حكم الشافعي بفساده وفرق بينهما، لأنه يعتقد بطلانه.
وإن كانا قد ترافعا قبله إلى حاكم حنفي فحكم بصحته.. فهل ينقض الشافعي حكمه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: ينقض حكمه، ويحكم بفساده، لأن حكمه مخالف لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل» .
والثاني- وهو الأصح -: أنه لا يصح حكمه بفساده، لأن حكم الأول وقع فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فهو كالحكم بالشفعة للجار.
[فرع: الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد]
فرع: [سقوط الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد] :
وإن تزوج رجل امرأة من نفسها فوطئها، فإن لم يعلم بتحريم الوطء، بأن كان جاهلا لا يعلم تحريمه، أو عاميا فقلد مجتهدا يرى تحليله، أو كان الواطئ حنفيا(9/157)
يرى تحليله.. فلا حد عليه، لأنه موضع شبهة. وإن كان الواطئ شافعياً يعتقد تحريمه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو بكر الصيرفي: يجب عليه الحد، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البغي: من أنكحت نفسها بغير ولي ولا بينة» . و (البغي) : الزانية.
ولما روي: (أن الطريق جمعت رفقة فيهم امرأة، فولت أمرها رجلاً منهم، فزوجها من رجل آخر، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ففرق بينهما، وجلد الناكح والمنكح) ولا مخالف له. ولأن أكثر ما فيه: حصول الاختلاف في إباحته، وذلك لا يوجب إسقاط الحد فيه، كشرب النبيذ.
والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب - أنه لا حد عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» ، وحصول الاختلاف في إباحته من أعظم الشبهة. ولأن(9/158)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليه الحد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البغي: من أنكحت نفسها» فسماها بغيا على جهة المجاز، لتعلق بعض حكم البغي عليها، وهو: تحريم الوطء. وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإنما جلدهما على جهة التعزير، لا على جهة الحد، بدليل، أنه جلد المنكح، وبالإجماع: أنه لا حد عليه. وأما النبيذ: فالفرق بينهما: أن هذا الوطء يتردد بين الزنا والوطء في النكاح الصحيح، وشبهه في الوطء بالنكاح الصحيح أكثر، بدليل: أنه يجب فيه المهر والعدة، ويلحق به النسب، وإنما يشبه الزنا بتحريم الوطء لا غير، فكان إلحاقه بالوطء في النكاح الصحيح في إسقاط الحد أولى. والنبيذ ليس له إلا أصل واحد يشبهه، وهو: الخمر، لأنه شراب فيه شدة مطربة، وليس في الأشربة ما يشبه الخمر غيره، فألحقناه به.
[فرع النكاح المختلف فيه يتبعه الطلاق]
] : وإن تزوج رجل امرأة من نفسها وطلقها.. فهل يقع الطلاق عليها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقع عليها طلاقه، لأنه نكاح مختلف في صحته، فوقع فيه الطلاق، كما لو تزوج امرأة ودخل بها وطلقها طلاقا بائنا، ثم تزوج أختها أو عمتها- قبل انقضاء عدة الأولى - وطلقها.. فإن نكاح الثانية مختلف في صحته، لأن مذهبنا: أنه يصح، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أنه لا يصح. ولو طلق الثانية.. لوقع عليها الطلاق، وإن كان مختلفاً في نكاحها، فكذلك هذه مثلها.
والوجه الثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يقع عليها طلاقه) ، لأن الطلاق قطع الملك، فإذا لم يقع هناك ملك.. لم يقع الطلاق، كما لو اشترى عبداً شراء فاسداً ثم(9/159)
أعتقه. ويخالف إذا تزوج امرأة ودخل بها في عدة أختها.. فإن النكاح هناك- عندنا- صحيح، فلذلك وقع عليها الطلاق، وهاهنا النكاح- عندنا- غير صحيح، فلم يقع عليها الطلاق.
[فرع النكاح الموقوف على الإجازة]
النكاح الموقوف على الإجازة لا يصح- عندنا - سواء كان موقوفاً على إجازة الولي، أو الزوج، أو الزوجة.
فالموقوف على إجازة الولي: أن يتزوج الرجل امرأة من رجل ليس بولي لها، ويكون موقوفاً على إجازة وليها، أو تزوج الأمة نفسها أو العبد نفسه بغير إذن السيد، ويكون موقوفاً على إجازة السيد.
وأما الموقوف على إجازة الزوج: فإن يزوج الرجل امرأة بغير إذنه، ويكون ذلك موقوفاً على إجازته.
وأما الموقوف على إجازة الزوجة: فأن يزوج الولي امرأة - يشترط إذنها في النكاح - بغير إذنها، ويكون موقوفاً على إجارتها.. فجميع هذه الأنكحة لا تصح- عندنا - وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (تصح هذه الأنكحة، فإن أجاز ذلك الموقوف على رضاه.. لزم، وإن رده.. بطل) .
وقال مالك: (يجوز أن يقف النكاح مدة قريبة، فإن تطاول الزمان.. بطل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و: «أيما أمة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» .(9/160)
[فرع لا توجب المرأة النكاح بالوكالة]
المرأة لا تتوكل في قبول النكاح، ولا في إيجابه.
قال أبو حنيفة: (إذا وكل الولي امرأة في إيجاب النكاح، أو وكلها الزوج في القبول.. صح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» . وهذا عام.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (المرأة لا تلي عقد النكاح) ، ولا مخالف لهم.
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها حضرت نكاحاً، فخطبت، ثم قالت: (اعقدوا، فإن النساء لا يعقدن النكاح) فدل على: أنه إجماع.
[مسألة تزويج الأمة]
إذا ثبت: أن النكاح لا يصح إلا بالولي.. فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت أمة.. نظرت: فإن كانت أمة لرجل يلي ماله.. زوجها. وإن كانت(9/161)
لجماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . ولأنه عقد على منفعتها، فكان إلى الموالي، كالإجارة.
وإن كانت الأمة لامرأة.. فإنها لا تملك عقد النكاح عليها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة» . ولأنها إذا لم تملك عقد النكاح على نفسها.. فلأن لا تملك عقده على غيرها أولى، ومن الذي يعقد النكاح عليها؟
المشهور من المذهب: أنه يعقد النكاح عليها ولي مولاتها الذي يملك تزويجها وحكى صاحب" الفروع " وجهين آخرين:
أحدهما: أنه لا يزوجها إلا الحاكم.
والثاني: لا يصح تزويجها إلا باجتماع الحاكم وولي المولاة.
والأول أصح، لأنه لا ولاية للحاكم على مالها ولا في نكاحها مع وجود الولي، فلم يكن له ولاية في إنكاح أمتها.
إذا تقرر هذا: فإن كانت المولاة بالغة رشيدة.. لم يزوج وليها أمتها إلا بإذنها، سواء كانت المولاة بكراً أو ثيباً، لأنه تصرف في مالها، فلم يصح إلا بإذنها. وإن كانت المولاة صغيرة أو غير رشيدة وكان وليها أباها أو جدها، أو كانت الأمة للابن الصغير والناظر في ماله أباه أو جده.. فهل يملك تزويج أمتهما؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملك لأن في ذلك تغريراً بها، لأنه قد تحبل فتموت منه.
و [الثاني] : منهم من قال: يملك، وهو الصحيح، لأن في ذلك حظا لهما: لأنهما يستفيدان به ملك المهر وملك الولد. وما ذكره الأول من خوف الموت على الأمة.. فنادر، ألا ترى أن الأب يزوج ابنته بغير إذنها، وإن جاز أن تحبل فتموت من الولادة؟.(9/162)
وإن كان ولي الصغيرة غير الأب والجد من العصبات.. لم يجز له أن يزوج أمتها، لأنه لا ولاية له على مالها.
فإن أعتقت المرأة أمتها، فإن كان للأمة المعتقة ولي من جهة النسب.. زوجها، ولا يفتقر إلى إذن المولاة المعتقة. وإن كان لا ولي للأمة المعتقة من جهة النسب.. زوجها ولي مولاتها، ولا يصح إنكاحها إلا بإذن الأمة المعتقة إن كانت من أهل الإذن، وهل يفتقر إلى إذن المولاة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] .
وإن كانت الأمة المعتقة صغيرة أو مجنونة.. لم يصح نكاحها، لأن إذنها معتبر، وليست من أهل الإذن.
وإن أعتقت المولاة أمتها وماتت وخلفت أباها وابنها.. ففيمن يلي عقد النكاح على الأمة المعتقة؟ وجهان:
أحدهما: يزوجها ابنها، لأن الولاء قد صار له.
والثاني - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أنه يزوجها الأب، لأن الولاء كان للمولاة فانتقل ذلك إلى أبيها، وعقد النكاح لم يكن للمولاة، وإنما كان لوليها، فلم ينتقل ذلك عن الولي إلى الابن.
[فرع شراء العبد المأذون له في التجارة جارية]
وإن دفع إلي عبده مالاً، وأذن له في التجارة فيه، فاشترى العبد جارية، فإن كان على المأذون له دين.. لم يزل ملك السيد عن المال والجارية التي في يد العبد.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الدين يستغرق ما في يده.. زال ملك السيد عما في يد العبد) .
دليلنا: أن قبل ثبوت الدين على العبد ملك السيد ثابت على الجارية وعلى ما في يد العبد، فلا يزول ملك السيد بتعلق حق الغرماء به، كما لو جنى العبد.. فإن ملك السيد لا يزول عنه.(9/163)
إذا ثبت هذا: فإن أراد السيد أن يطأ هذه الأمة أو يزوجها.. لم يجز له ذلك، لتعلق حق الغرماء بها، لأنها ربما حبلت من وطء السيد أو نقصت قيمتها بالنكاح، فلم يملك ذلك، كالمرهونة. فإذا أبرأ الغرماء العبد من الدين أو قضى الدين.. فهل للسيد وطء الأمة أو تزويجها؟ ينظر فيه:
فإن حجر السيد على العبد ومنعه من التصرف.. كان له ذلك. وإن لم يقطع تصرفه ولا حجر عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، وهو الأقيس، لأنها ملكه لا حق فيها لغيره، فهو كما لو حجر عليه.
والثاني: ليس له ذلك، وهو ظاهر النص، لأن في ذلك تعزيراً بالناس، لأنهم يعاملونه ويداينونه ظنا منهم أن حقهم يتعلق بما في يده، وربما تلفت بذلك.
[مسألة ترتيب أولياء المرأة]
وإن كانت المنكوحة حرة.. فأولى الولاة بتزويجها الأب، لأن سائر الأولياء يدلون به، ولأن القصد بالولي طلب الحظ لها، والأب أشفق عليها وأطلب للحظ لها من غيره.
فإن لم يكن أب، وهناك جد أبو أب، أو جد من أجداد الأب الوارثين وإن علا.. فهو أولى من الأخ.
وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (الأخ أولى من الجد) .
دليلنا: أن الجد له ولاية وتعصيب، فكان مقدماً على الأخ، كالأب. فإن قيل: هلا قلتم: إن الجد يساوي الأخ في الولاية، كما قلتم في الميراث؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الميراث يستحق بالتعصيب المحض، ولهذا قدم الابن على الأب في الميراث، والأخ يساوي الجد في التعصيب، أو هو أقوى من الجد في(9/164)
التعصيب، بدليل: أنه يعصب أخواته، وإنما لم يقدم عليه في الميراث، للإجماع، فلذلك سوينا بينهما في الإرث. والولاية في النكاح تستحق بالشفقة وطلب الحظ، بدليل: أن الابن لا ولاية له على أمه، لذلك، والجد أكثر شفقة عليها من الأخ، فكان أولى.
فإن عدم الأجداد من قبل الأب.. انتقلت الولاية إلى الإخوة للأب والأم، أو للأب، ثم إلى بنيهم.. ويقدمون على الأعمام وبنيهم، لأنهم يدلون بالأب، والأعمام يدلون بالجد، والأب أقرب من الجد.
فإن عدم الإخوة وبنوهم.. انتقلت الولاية إلى الأعمام، ثم إلى بنيهم. ويقدمون على أعمام الأب وبنيهم، لأن الأعمام يدلون بالجد، وأعمام الأب يدلون بأبي الجد.
وعلى هذا: يقدم الأقرب فالأقرب، كما قلنا في الميراث.
[فرع اجتماع الوليين للمرأة]
وإن اجتمع وليان أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب، كأخوين أو عمين أو ابني عم، أحدهما لأب وأم والآخر لأب.. ففيه قولان:
قال في القديم: (هما سواء) - وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن ولاية النكاح تستفاد بالانتساب إلى الأب، بدليل: أن الأخ للأم لا ولاية له في النكاح، وهما في الانتساب إلى الأب سواء، فاستويا في الولاية.
وقال في الجديد: (إن المدلي بالأب والأم أولى) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء:33] ولو قتل رجل وله أخ لأب وأم، وأخ لأب.. لكان القصاص للأخ للأب والأم دون الأخ للأب، فثبت: أنه لا ولاية له معه. ولأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم المدلي بالأبوين على المدلي بأحدهما، كالإرث.
وهكذا القولان في التقدم في الصلاة على الميت، وفي العقل.
وأما الإرث والولاء والوصية للأقرب: فإن المدلي بالأب والأم أولى قولاً واحداً.(9/165)
وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما معتق أو أخ لأم.. فهل يقدم في ولاية النكاح، والصلاة على الميت، والعقل؟ فيه قولان، كأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب، وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما خال.. لم يقدم قولاً واحداً، لأنه لا مدخل للخؤولة في الميراث.
[فرع اجتماع أكثر من ولي للمرأة في درجة واحدة]
وإن اجتمع للمرأة أولياء في درجة واحدة، كالإخوة أو بنيهم، أو الأعمام أو بنيهم.. فالمستحب: أن يقدم أكبرهم سنا وأعلمهم وأورعهم، لما روي: أن حويصة ومحيصة دخلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبدأ محيصة بالكلام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كبر، كبر» يعني: قدم أخاك في الكلام، لأنه أكبر سنا منك. ولأن الأكبر أخبر بالناس، فكان أولى، والأعلم أعرف بشروط العقد، والأورع أحرص على طلب الحظ لها.
فإن زوجها أحدهم بإذنها من غير إذن الباقين.. صح وإن كان أصغرهم سنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أنكح الوليان.. فالأول أحق» . ولأن كل واحد منهم ولي.(9/166)
فإن تشاحوا، وقال كل واحد منهم: أنا أزوج، ولم يقدموا الأكبر الأعلم الأورع.. أقرع بينهم لاستواء استحقاقهم في الولاية، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه.. أقرع بينهن» .
فإن خرجت القرعة لأحدهم فزوج، أو أذن لغيره من الأولياء الباقين أو غيرهم.. صح. وإن زوج واحد ممن لم تخرج عليه القرعة بإذن المرأة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، لأن خروج القرعة لأحدهم لا يبطل ولاية الباقين، كما لو زوجها أحدهم قبل القرعة.
والثاني: لا يصح، لأن الفائدة في خروج القرعة أن تتعين الولاية بمن خرجت له القرعة، فلو صححنا عقد غيره بغير إذنه.. لبطلت فائدة القرعة.
[فرع تزويج المعتقة]
فإن كانت المنكوحة معتقة.. زوجها وليها من النسب، ويقدم على المولى. فإن لم يكن لها ولي من النسب.. زوجها المولى المعتق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة، كلحمة النسب» . وقد ثبت أن النسب يستحق به ولاية النكاح، فكذلك الولاء.
فإن أعتقها جماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، بخلاف ما لو كان للمرأة أولياء من جهة النسب في درجة واحدة.. فإن النكاح يصح من واحد منهم بغير إذن الباقين. والفرق بينهما: أن الولاية من جهة الولاء مستحقة بالإعتاق، وكل واحد منهم أعتق بعضها، فلم يثبت له الولاء على جميعها. والولاية من جهة النسب مستحقة بالنسب، وكل واحد من أولياء النسب مناسب لها.
فإن أعتق رجل جارية ومات، وخلف ابنين، فزوجها أحدهما بإذنها.. صح، لأنهما يتلقيان الولاية من أبيهما، فهما كالوليين من النسب، بخلاف ما لو أعتقاها.
فإن عدم المولى المعتق.. زوجها عصباته، الأقرب فالأقرب منهم. فإن(9/167)
عدموا.. زوجها مولى المولى، ثم عصبة مولى المولى، كما قلنا في الميراث. فإن لم يكن للمرأة ولي من جهة النسب ولا من جهة الولاء.. زوجها السلطان، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» .
[مسألة تزويج الولد أمه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون عصبة) .
وجملة ذلك: أن الابن لا ولاية له على أمه في النكاح من جهة البنوة..
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يثبت له عليها ولاية النكاح بالبنوة) . واختلفوا في ترتيب ولايته:
فذهب مالك وأبو يوسف وإسحاق إلى (أنه مقدم على الأب) .
وذهب محمد وأحمد إلى: (أن الأب مقدم عليه) .
وذهب أبو حنيفة إلى: (أنهما سواء) .
دليلنا - على أنه لا ولاية له-: أن بين الابن وأمه قرابة، لا ينتسب أحدهما إلى الآخر ولا ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فلم يكن له عليها ولاية، كابن الأخت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولأن ولاية النكاح إنما وضعت طلبا لحظ المرأة والإشفاق عليها، والابن يعتقد أن تزويج أمه. عار عليه، فلا يطلب لها الحظ ولا يشفق عليها، فلم يستحق الولاية عليها) .
فإن كان ابنها من عصبتها، بأن كان ابن ابن عمها.. كان وليا لها في النكاح، لأنهما ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فجاز له تزويجها، كتزويج الأخ لأخته للأب.
وإن كان لها ابنا ابن عم، أحدهما ابنها.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء.(9/168)
والثاني: أن ابنها أولى: كالقولين في الأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب.
وهكذا: إذا كان ابنها مولاها أو كان حاكماً.. فله عليها ولاية من جهة الولاء والحكم لا من جهة البنوة.
[فرع لا يزوج الأخ لأم]
وإن كانت له أخت لأم لا قرابة بينهما غير ذلك.. لم يملك تزويجها.
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (له تزويجها) .
دليلنا: أنه لا تعصيب بينهما، فلم يملك تزويجها، كالأجنبي.
[مسألة ولاية العبد والصغير والمحجور عليه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ولاية للعبد بحال) . وهذا صحيح، فلا ولاية للعبد على مناسيبه في النكاح، لأنه ناقص بالرق، بدليل: أنه لا يرث ولا يشهد، وولاية النكاح مبنية على الكمال، فلم تثبت مع وجود النقص.
وكذلك لا ولاية للصغير، لأن الولي يراد لطلب الحظ للمرأة، والصبي لا معرفة له في طلب الحظ، ولهذا لا يلي التصرف في ماله.
وفي المحجور عليه للسفه وجهان:
أحدهما: أنه ليس بولي في النكاح، لأنه لا يملك التصرف في ماله، فلم يكن وليا في النكاح، كالصبي.
والثاني: أنه ولي في النكاح، لأنه إنما حجر عليه في ماله خوفاً عليه من إضاعته، وقد أمن ذلك في تزويج وليته.(9/169)
[مسألة كون الولي مرشداً]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في" البويطي ": (لا يكون الولي إلا مرشداً) . وقال في موضع: (وولي الكافرة كافر) ، وهذا يقتضي ثبوت الولاية لفاسق.
واختلف أصحابنا في الفاسق: هل هو ولي في النكاح أم لا، على خمسة طرق:
فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: الفاسق ليس بولي في النكاح قولاً واحداً.
و [الثاني] : قال القفال: الفاسق ولي في النكاح قولاً واحداً.
و [الثالث] : قال أبو إسحاق المروزي: إن كان الولي ممن يجبر على النكاح، كالأب والجد في تزويج البكر.. لم يصح أن يكون فاسقاً، لأنه يزوج بالولاية، والولاية لا تثبت مع الفسق، كفسق الحاكم والوصي. وإن كان ممن لا يجبر على النكاح، كمن عدا الأب والجد من الأولياء، وكتزويج الأب والجد للثيب.. صح تزويجه وإن كان فاسقاً، لأنه يزوج بإذنها، فهو كالوكيل.
و [الرابع] : من أصحابنا من قال: إن كان الفاسق مبذرا في ماله.. لم يجز أن يكون وليا في النكاح. وإن كان رشيداً في أمر دنياه.. كان وليا في النكاح.
و [الخامس] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أن الفاسق ولي في النكاح بكل حال- وهو قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] : وهذا خطاب للأولياء، ولم يفرق: بين العدل، والفاسق: ولأن الكافر لما ملك تزويج ابنته الكافرة، والمسلم الفاسق أعلى منه.. فلأن يملك تزويج وليته أولى.
والثاني: لا يصح أن يكون وليا بحال، وهو المشهور من المذهب، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، وفي رواية: «لا نكاح إلا بولي مرشد، أو سلطان» . وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل) . ولا مخالف له. والمرشد: من(9/170)
أسماء المدح، والفاسق: ليس بممدوح. ولأنه تزويج في حق الغير، فنافاه الفسق في دينه، كفسق الحاكم. فقولنا: (تزويج) احتراز من ولاية القصاص. وقولنا: (في حق الغير) احتراز من تزويج الفاسق لأمته، فإنه تزويج في حقه، بدليل: أنه يجب له المهر. وقولنا: (في دينه) احتراز من تزويج الكافر لابنته الكافرة، لأنه ليس بفسق في دينه.
ولأن الولي إنما اشترط في العقد لئلا تحمل المرأة شهوتها على أن تضع نفسها في غير كفء، أو تزوج نفسها في العدة، فيلحق العار بأهلها، وهذا المعنى موجود في الفاسق، لأنه لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يضع المرأة في أحضان غير كفء، أو يزوجها في العدة، فيلحق العار بأهلها، فلم يجز أن يكون وليا. وأما الآية: فلا نسلم له أنها تنصرف إلى الفاسق، لأنه ليس بولي عندنا، وإن سلمنا.. فإنها مخصوصة بالخبر.. وأما الكافر: فإنما يصح أن يزوج ابنته الكافرة إذا كان رشيداً في دينه، لأنه مقر عليه، بخلاف الفاسق.
إذا ثبت هذا: وقلنا الفاسق ليس بولي.. فقد قال المسعودي [في" الإبانة "] : واختلف أصحابنا في الفسق الذي يخرجه عن ولاية النكاح:
فمنهم من قال: شرب الخمر فحسب، لأنه إذا كان يشربها.. فإنه يميل إلى من هو في مثل حاله.
ومنهم من قال: جميع الفسق بمثابته.
[فرع تأثير السفه والضعف على الولاية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان الولي سفيها، أوضعيفا، غير عالم بموضع الحظ، أو سقيماً مؤلماً، أو به علة تخرجه عن الولاية.. فهو كمن مات، فإذا صلح.. صار وليا) .
قال أصحابنا: أما (السفيه) : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد المبذر المفسد لماله، فحجر عليه لذلك.(9/171)
و [الثاني] : قيل: بل أراد الذي حجر عليه بجنونه.
وأما (الضعيف) : فله تأويلان أيضاً:
أحدهما: أنه أراد الصغير.
والثاني: أنه أراد به الشيخ الذي قد ضعف نظره عن معرفة موضع الحظ لها.
وأما (السقيم) : فمن كان به سقم شديد قد نقص نظره وأخرجه عن طلب الحظ لها.
وأما (المؤلم) : فهو صفة للسقيم، وهو السقيم الذي اشتد به الألم إلى أن أخرجه عن النظر. وروي: (أو سقيما موليا) فيكون معناه: السقيم الذي صار موليا عليه من قلة تمييزه.
وأما الذي (به علة) : فالمراد به إذا قطعت يده، أو رجله، أو أصابه جرح عظيم أخرجه عن حد التمييز، فلأن ولايته تزول.
فإن زالت هذه الأسباب.. عادت ولايته، لأن المانع وجود هذه الأسباب، فزال المنع بزوالها.
[فرع فقدان الأهلية في وقت دون آخر وولاية السكران والأخرس]
قال الطبري: إذا كان الولي يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو يغمى عليه يوماً، ويفيق يوماً.. فهل يخرجه ذلك عن الولاية؟ فيه وجهان.
وأما السكران: فإن قلنا: إن الفاسق ليس بولي.. فهذا فاسق. وإن قلنا الفاسق ولي.. فهل يخرج السكران عن الولاية؟ فيه وجهان كالمجنون غير المطبق.(9/172)
والإحرام بالحج، هل يخرجه من الولاية؟ فيه وجهان أيضاً.
فإن قلنا: يخرجه.. زوج من دونه من الأولياء. وإن قلنا: لا يخرجه.. زوجها السلطان.
وأما الأخرس: إذا كانت له إشارة مفهومة.. كان وليا في النكاح. وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. فليس بولي في النكاح.
[فرع ولاية الأعمى في النكاح]
وهل يصح أن يكون الأعمى وليا في النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأنه قد يحتاج إلى النظر في اختيار الزوج لها، لئلا يزوجها بمعيب، أو دميم.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أعمى، وزوج ابنته من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
[مسألة ولي الكافرة كافر]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وولي الكافرة كافر، ولا يكون المسلم وليا لكافرة إلا على أمته) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للكافر ابنة مسلمة.. فإنه لا ولاية له عليها، فإن كان لها ولي مسلم.. زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] الآية [التوبة: 71] :
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكانت مسلمة، وأبو سفيان كافراً.. وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن أمية الضمري، فتزوجها له من ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص، وكان مسلماً» .(9/173)
وإن كان للمسلم ابنة كافرة.. فلا ولاية له عليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] [الأنفال:73] :، فدل على: أنه لا ولاية للمسلم عليها.. فإن كان لها ولي كافر.. زوجها، للآية. وإن لم يكن لها ولي كافر.. زوجها الحاكم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالسلطان ولي من لا ولي له» ، ولم يفرق. ولأن ولايته عامة، فدخلت فيها المسلمة والكافرة.
وإن كان للمسلم أمة كافرة.. فهل له عليها ولاية في النكاح؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له عليها ولاية، وهو المنصوص، لأنها ولاية مستفادة بالملك، فلم يمنع اختلاف الدين منها، كالفسق لما لم يؤثر في منع تزويج أمته، فكذلك كفرها.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس بولي لها، لأنه إذا لم يملك تزويج ابنته الكافرة.. فلأن لا يملك تزويج أمته الكافرة أولى. وحمل النص على الولاية في عقد البيع والإجارة.. والأول أصح.
وإن كان للكافر أمة مسلمة.. فهل له أن يزوجها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما قلنا في تزويج المسلم لأمته الكافرة.
[مسألة تقديم الأولى في الولاية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ولاية لأحد، وثم أولى منه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان، أحدهما أقرب من الآخر.. فإن الولاية للأقرب، فإن زوجها من بعد..لم يصح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) .(9/174)
دليلنا: أنه حق مستحق بالتعصيب، فلم يثبت للأبعد مع الأقرب، كالميراث.
فإن خرج الولي الأقرب عن أن يكون وليا، باختلاف الدين، أو الفسق، أو الجنون، أو الصغر.. انتقلت الولاية إلى الولي الأبعد، لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم حبيبة من ابن عمها مع وجود أبيها، لكون أبيها كافراً) ، فإذا ثبت ذلك في الكفر.. كان في الفسق والجنون والصغر مثله، لأن الجميع يمنع ثبوت ولاية النكاح.
وإن أعتق رجل أمة ومات، وخلف ابنا صغيراً، وأخا لأب كبيراً، وأرادت الجارية النكاح، ولا مناسب لها،.. فلا أعلم فيها نصاً، والذي يقتضي المذهب: أن ولاية نكاحها لأخ المعتق، لأن الولاية في الولاء فرع على ولاية النسب، وولاية ابنة الميت لأخيه ما دام الابن صغيراً، وكذلك ولاية المعتقة.
[فرع تعود الولاية بزوال سبب قطعها]
وإن زال السبب الذي أوجب قطع الولاية في الأقرب.. عادت ولايته، لأن المانع قد زال. فإن كان الولي الأبعد قد زوجها قبل زوال المانع.. صح النكاح. وإن كان زوجها الأبعد بعد زوال المانع، وبعد علمه بزوال المانع.. لم يصح، كما لو باع الوكيل ما وكل في بيعه بعد العزل، وبعد علمه بالعزل. وإن زوج بعد زوال المانع، وقبل علمه بزواله.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل علمه بالعزل.
[فرع يزوج الحاكم عند امتناع الولي من الكفء]
فإن دعت المرأة أن تزوج بكفء، فامتنع الولي.. زوجها الحاكم، ولا تنتقل الولاية إلى من بعد العاضل من الأولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا.. فالسلطان ولي من لا ولي له»
ولأن النكاح حق لها، فإذا تعذر ذلك من جهة وليها.. كان على الحاكم استيفاؤه، كما لو كان لها على رجل دين، فامتنع من بذله.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من مال الممتنع.(9/175)
[مسألة تزويج السلطان عند مغيب الولي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان أولاهم بها مفقوداً، أو غائبا غيبة بعيدة كانت أو قريبة.. زوجها السلطان) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة أب وجد، فغاب الأب، وحضر الجد ودعت المرأة إلى تزويجها لكفء.. نظرت:
فإن كان الأب مفقوداً، بأن انقطع خبره، ولا يعلم أنه حي أو ميت.. فإن الولاية لا تنتقل إلى الجد، وإنما يزوجها السلطان، لأن ولاية الأب باقية عليها، بدليل: أنه لو زوجها في مكانه.. لصح، وإنما تعذر ذلك لغيبته، فناب عنه الحاكم، كما لو غاب وعليه دين.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون الأب.
وإن غاب الأب غيبة غير منقطعة، بأن يعلم أنه حي.. نظرت:
فإن كان على مسافة تقصر إليها الصلاة.. جاز للسلطان تزويجها، لأن في استئذانه مشقة، فصار كالمفقود. وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجوز للحاكم تزويجها، وهو المذهب، لأن في استئذانه إلحاق مشقة، فهو كما لو كان على مسافة القصر.
ومنهم من قال: لا يجوز له تزويجها، لأنه في حكم الحاضر، بدليل: أنه لا يجوز له القصر والفطر، فهو كما لو كان في البلد.
هذا مذهبنا، وبه قال زفر.
وحكى ابن القاص قولا آخر: أن الولاية تنتقل إلى من بعده من الأولياء.. وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (إن غاب الأب غيبة منقطعة.. جاز للجد تزويجها، وإن كانت غيبته غير منقطعة.. لم يجز للجد تزويجها) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة في حد المنقطعة:(9/176)
فمنهم من قال: من الرقة إلى البصرة.
ومنهم من قال: من بغداد إلى الري.
وقال محمد: إذا سافر من إقليم إلى إقليم، كمن يسافر من الكوفة إلى بغداد.. فهي منقطعة، وإذا كان في إقليم واحد.. فهي غير منقطعة.
ومنهم من قال: (المنقطعة) : التي لا تجيء منها القافلة في السنة إلا مرة واحدة.
دليلنا: أن كل ولاية لم تنقطع بالغيبة القريبة.. لم تنقطع بالغيبة البعيدة، كولاية المال.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإذا غاب الولي، وأراد الحاكم تزويجها.. استحب له أن يستدعي عصباتها، وإن لم يكونوا أولياء، فإن لم يكن لها عصبات.. فذوي الأرحام والقرابات لها، فيسألهم عن حال الزوج، ويستشيرهم في أمره، لتستطيب بذلك نفوسهم) ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر نعيماً أن يشاور أم ابنته في تزويجها» ، وإن لم يكن لها ولاية. فإن قالوا: إنه كفء.. زوجها.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب له أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها، ليخرج من الخلاف.
فإن زوجها الحاكم بنفسه، أو أذن لأجنبي أن يزوجها، ولم يشاورهم.. صح ذلك لأن الولاية له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوجها ما لم يشهد شاهدان: أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في نكاح أحد ولا عدته) .(9/177)
قال المسعودي [في: " الإبانة "] : فمن أصحابنا من قال: هذا واجب.
ومنهم من قال: هذا مستحب.
[مسألة إجبار الولي على النكاح]
وأما الإجبار على النكاح: فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة، أو أمة.
فإن كانت حرة.. نظرت:
فإن كانت عاقلة، فلا تخلو: إما أن تكون بكراً، أو تكون ثيباً.
فإن كانت بكراً، فلا تخلو: إما أن تكون صغيرة، أو كبيرة، فإن كانت صغيرة.. جاز للأب تزويجها بغير إذنها، بلا خلاف، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] .
وتقديره: وكذلك عدة اللائي لم يحضن، وإنما يجب على الزوجة الاعتداد من الطلاق بعد الوطء، فدل على: أن الصغيرة التي لم تحض يصح نكاحها، ولا جهة يصح نكاحها معها إلا أن يزوجها أبوها.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، ودخل بي وأنا ابنة تسع سنين» ، ومعلوم أنه لم يكن لإذنها حكم في تلك الحال، فعلم أن أباها زوجها بغير إذنها.
ويجوز للأب والجد إجبارها على النكاح، ولا يجوز لغيرهما من الأولياء تزويجها قبل أن تبلغ.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز للجد) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز للأب، والجد، وسائر العصبات، والحاكم إجبارها(9/178)
على النكاح، إلا أنها إذا زوجها غير الأب والجد. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت) .
دليلنا على مالك - رحمة الله عليه: - أن للجد ولاية وتعصيباً، فجاز له إجبار البكر، كالأب.
وعلى أبي حنيفة: «ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، وزهدت في، فقالت أمها: يا رسول الله بنتي تكره ذلك، فقال قدامة: يا رسول الله أنا عمها، ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد عرفت فضله وقرابته، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» . ولأن غير الأب والجد لا يلي مالها بنفسه، فلم يملك إجبارها على النكاح، كالأجنبي.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق) .
قال الصيمري: وإذا قاربت البلوغ، وأراد تزويجها.. فالمستحب أن يرسل إليها نساء ثقات وينظرن ما عندها.
وإن كانت البكر بالغا.. فللأب والجد إجبارها على النكاح، وإن أظهرت الكراهية. وبه قال ابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.(9/179)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (للأب إجبارها دون الجد) .
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي: (لا يجوز لأحد إجبارها) .
دليلنا- على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن الجد له تعصيب وولاية، فملك إجبار البكر على النكاح، كالأب.
وعلى أبي حنيفة: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» ، فلما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثيب أحق بنفسها من وليها.. دل على: أن الولي أحق بالبكر. والمراد بالولي هاهنا الأب والجد، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها، وإن أبت.. فلا جواز عليها» وأراد باليتيمة: التي لا أب لها، وسماها يتيمة بعد البلوغ استصحاباً لاسمها(9/180)
قبل البلوغ، فلما أوجب استئذان اليتيمة.. دل على: أن غير اليتيمة لا تستأذن، ومن لها أب أو جد.. فليست بيتيمة.
إذا ثبت هذا: فإن زوج الأب أو الجد البكر البالغ.. فالمستحب لهما: استئذانها، وإذنها صماتها، للخبر، ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق. فإن لم يستأذناها.. جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن» فقصد بذلك التفرقة بينهما، فلو قلنا: إن استئذان البكر واجب.. لما كان بينهما فرق.
وإن زوج البكر البالغ غير الأب والجد من الأولياء.. لم يصح حتى تستأذن، وهو إجماع لا خلاف فيه.. وفي إذنها وجهان:
أحدهما: لا يحصل إلا بنطقها، لأن كل من يفتقر نكاحها إلى إذنها.. افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق، كالثيب.
والثاني- وهو المذهب -: أنها إذا استؤذنت، فصمتت.. كان ذلك إذنا منها في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها» . ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق، بخلاف الثيب.
قال أصحابنا المتأخرون: فإن استأذنها وليها في أن يزوجها بأقل من مهر مثلها، أو بغير نقد البلد، فصمتت.. لم يكن ذلك إذنا منها في ذلك، لأن ذلك مال، فلا يكون صموتها إذنا فيه.. كما لو استأذنها في بيع مالها فصمتت، بخلاف النكاح.
وإن كانت المنكوحة ثيباً، نظرت:(9/181)
فإن ذهبت بكارتها بالوطء في نكاح أو ملك أو شبهة، فإن كانت بالغة.. لم يجز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جداً أو غيرهما، لما روي: «أن خنساء بنت خدام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس للولي مع الثيب أمر» . قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه.
ولا يصح نكاحها إلا بإذنها، ولا يصح إذنها بنطقها مع قدرتها على النطق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» ، فلما جعل إذن البكر الصمت.. دل على: أن إذن الثيب النطق. فإن كانت خرساء، وأشارت إلى الإذن بما يفهم منها.. صح تزويجها.
وإن كانت الثيب صغيرة.. لم يجز لأحد من الأولياء تزويجها قبل البلوغ، سواء كان الولي أبا، أو جداً، أو غيرهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للأب والجد وغيرهما من الأولياء إجبارها على النكاح) .، و (الإجبار) : عندهم يختلف بصغر المنكوحة وكبرها، وعندنا: يختلف ببكارتها وثيوبتها.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» . ولم يفرق. ولأنها حرة سليمة(9/182)
ذهبت بكارتها بجماع، فلم تجبر على النكاح، كالثيب الكبيرة.
وقولنا: (حرة) احتراز من الأمة. وقولنا: (سليمة) احتراز من المجنونة.
وقولنا: (بجماع) احتراز ممن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس.
[فرع ذهاب عذرة المرأة واعتبار إذنها]
وإن ذهبت بكارتها بالزنا.. فهو كما لو ذهبت بكارتها بالجماع في النكاح، فيكون حكمها حكم الثيب في الإذن.
وقال أبو حنيفة: (حكمها حكم البكر) .
دليلنا: أنها حرة سليمة، ذهبت بكارتها بجماع، فهو كما لو ذهبت بكارتها بنكاح.
وإن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمها حكم الموطوءة بالنكاح، لأنها ثيب.
والثاني: حكمها حكم البكر في الإذن، وهو المذهب، لأن الثيب إنما اعتبر إذنها بالنطق، لذهاب الحياء بالوطء، وهذا الحياء لا يذهب بغير الوطء، بخلاف الزانية، فإنها إذا لم تستح من مباضعة الرجال على الزنا والإقدام عليه.. لم تستح من النطق بالإذن.
قال الصيمري: وإن خلقت المرأة لا بكارة لها.. فهي كالبكر.
وإن ادعت المرأة البكارة، أو الثيوبة.. قال الصيمري ": فالقول قولها، ولا يكشف عن الحال، لأنها أعلم بحالها.(9/183)
[فرع ادعاء المزوجة وجود مانع كالرضاع]
قال ابن الحداد: إذا زوج الرجل ابنته البكر البالغ بغير إذنها، فلما بلغها ذلك.. قالت: أنا أخته من الرضاع - تعني: الزوج - أو تزوجني أبوه قبله، أو غير ذلك من الأسباب المحرمة.. فالقول قولها مع يمينها، ويبطل النكاح. وإن كانت ثيبا فزوجها وليها بإذنها، أو زوجها أبوها وهي بكر بغير إذنها فمكنت الزوج من وطئها، ثم ذكرت سببا يوجب التحريم.. لم يقبل قولها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيمن ضل له عبد، فأخذه الحاكم، ورأى المصلحة في بيعه فباعه، أو باعه الحاكم بدين عليه وهو غائب، ثم قدم وادعى: أنه كان قد أعتقه قبل ذلك.. قبل قوله فيه مع يمينه، ولو باعه المالك بنفسه، أو باعه الحاكم عليه- وهو حاضر -لدين عليه امتنع منه، ثم ادعى بعد البيع: أنه كان أعتقه أو أوقفه.. لم يقبل قوله في ذلك.
فمن أصحابنا من صوب ابن الحداد، ومنهم من خطأه وقال: لا يقبل قولها بحال، لأن لها غرضا في أعيان الأزواج، وربما كرهت زوجها وطلبت غيره، فلا تصدق على ما يوجب بطلان نكاحها، كما إذا أقر العبد بجناية خطأ، أو إتلاف مال.. فإنه لا يقبل.
[فرع يثبت النكاح بتصادق الزوجين فحسب]
قال ابن الحداد: وإن قالت امرأة وهي بالغة عاقلة: زوجني أبي زيدا بشهادة شاهدين، وصادقها زيد على ذلك، فأنكر الأب أو الشاهدان ذلك.. لم يلتفت إلى إنكار الأب والشاهدين، لأن الحق للزوجين، ولا حق للأب ولا للشاهدين في ذلك فهو كما لو قال رجل: باع وكيلي داري من فلان، وادعاه المشتري، فأنكر الوكيل.. لم يلتفت إلى إنكاره، فكذلك هذا مثله.
قال القاضي أبو الطيب: هذا على قول الشافعي الجديد: (إن النكاح يثبت(9/184)
بتصادق الزوجين) . وهو المشهور. وأما على القول القديم: (فإنه لا يثبت بتصادقهما إلا إن كانا غريبين) .
[فرع إنكاح المجنونة]
وإن كانت المنكوحة مجنونة، فإن كان وليها أباها أو جدها.. زوجها على أية صفة كانت، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، لأنهما يملكان إجبارها على النكاح، وإنما لم يجز لهما تزويج الثيب الصغيرة العاقلة، لأنه يرجى لها أن تبلغ وتأذن، ولم يجز لهما تزويج الثيب البالغة إلا بإذنها، لأنها من أهل الإذن، والمجنونة ليست من أهل الإذن، ولا يرجى لها حال تصير فيه من أهل الإذن.
وإن كان وليها غير الأب والجد من العصبات.. لم يملك تزويجها، لأن تزويجها إجبار، وهم لا يملكون إجبارها على النكاح.
وإن كان وليها الحاكم.. قال الشيخ أبو حامد: بأن لا يكون لها ولي مناسب، أو كان لها ولي مناسب غير الأب والجد.. فإنهم لا ولاية لهم عليها في هذه الحالة، وتنتقل الولاية إلى الحاكم. فإن كانت صغيرة.. لم يجز للحاكم تزويجها، لأنه لا حاجة بها إلى التزويج في هذه الحال. وإن كانت كبيرة.. جاز له تزويجها، لأن لها في ذلك حظا، لأنها تحتاج إليه للعفة، ويكسبها غناء، وربما كان لها فيه شفاء. والفرق بين الحاكم وبين غير الأب والجد من العصبات: أن الحاكم يزوجها حكما، ولهذا يجوز له التصرف في مالها، والعصبات غير الأب والجد يزوجونها بالولاية، ولا ولاية لهم عليها، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: المجنونة المطبقة إن كانت بكرا.. فللأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة. وإن كانت ثيبا، فإن بلغت مجنونة.. فلهما ذلك، وإن بلغت عاقلة ثم جنت.. فهل لهما تزويجها؟ فيه وجهان، بناء على أنه: هل تعود ولاية المال لهما؟ وفيه وجهان. وإن كانت صغيرة ثيبا.. فوجهان.(9/185)
وإن كان جنونها غير مطبق وهي ثيب.. فهل لهما تزويجها في يوم الجنون؟ على وجهين.
فأما غير الأب والجد من العصبات.. فليس له تزويجها بحال، وللحاكم أن يزوجها إذا كانت بالغة، وهل يستأذن الحاكم غيره من العصبات؟ فيه وجهان.
[فرع إنكاح الأمة]
وإن كانت المنكوحة أمة.. فللمولى أن يزوجها بغير إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، ثيبا كانت أو بكرا، لأنه يملك ذلك عليها بحق الملك، فملكه عليها بكل حال، كالإجارة.
فإن دعت الأمة المولى إلى إنكاحها وامتنع، فإن كان يملك وطأها.. لم يجبر على إنكاحها، لأن عليه ضررا في ذلك، وهو زوال استمتاعه بها. وإن كانت لا يحل له وطؤها، كأخته من النسب أو الرضاع.. فهل يجبر على إنكاحها؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجبر، لأنها تنقص قيمتها بالنكاح.
والثاني: يجبر، لأنه لا يملك الاستمتاع بها، ولا ضرر عليه في إنكاحها، بل يحصل له المهر وملك الولد.
وإن كانت الجارية لامرأة، فطلبت الأمة الإنكاح، فامتنعت مولاتها.. فينبغي أن يكون في إجبارها وجهان، كما لو كانت لرجل لا يملك استمتاعها.
وحكم المدبرة والمعتقة بصفة حكم الأمة القنة في ذلك.
[فرع إنكاح المبعضة]
وإن كانت له أمة نصفها حر، ونصفها مملوك.. فلا يملك المولى إجبارها على النكاح لما فيها من الحرية، ولا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مالك نصفها، لما فيها من الرق.. فإن دعت إلى الإنكاح، وامتنع مالك نصفها.. فهل يجبر؟
قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على وجهين، كالتي لا تحل له.(9/186)
ومن الذي يتولى عقد النكاح عليها؟
قال ابن الحداد: يزوجها مالك نصفها برضا وليها من النسب، فإن كان وليها من النسب أباها أو جدها وكانت بكرا.. زوجها مالك نصفها برضا أبيها أو جدها، ولا يفتقر إلى رضاها. وإن كانت ثيبا، أو كان وليها من النسب غير الأب والجد من العصبات.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضا وليها من النسب ورضاها، وإن لم يكن لها ولي من النسب.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضاها ورضا معتقها، لأن المالك لا حق له إلا في نصفها المملوك.
وقال أصحابنا: هذا على القول الذي يقول: إن من نصفها حر، ونصفها مملوك يرث عنها عصبتها ما ملكته بنصفها الحر. فأما على القول الذي يقول: إن ما ملكته بنصفها الحر إذا ماتت، كان لمالك نصفها.. فمن ذا الذي يزوجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يزوجها مالك نصفها وحده، لأنه لما ملك جميع ميراثها.. ملك تزويجها، كعصبتها.
والثاني: أنه لا يزوجها إلا برضاها وبرضا وليها من النسب، أو برضاها وبرضا معتقها، كالقول الأول، لأن وليها ومعتقها، وإن لم يرثا فإنما لم يرثا لما فيها من الرق، وأما النسب والولاء: فهو ثابت بينهما، فوجب أن يكون الإنكاح إليه.
[فرع إنكاح المكاتبة]
وأما المكاتبة: فإن أراد المولى إجبارها على النكاح.. لم يكن له ذلك، لأن تصرفه قد انقطع عنها بالكتابة.
وإن طلبت النكاح وامتنع السيد.. فهل يجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر، لأن لها في ذلك منفعة، لأنه يحصل لها المهر والنفقة، فتستعين بالمهر على أداء الكتابة.
والثاني: لا يجبر، لأن له في الامتناع فائدة، وهو أنها: ربما عادت إليه بالتعجيز، فيكون لا يملك الاستمتاع بها.(9/187)
[مسألة تزويج الولي نفسه من وليته]
إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة يلي عليها النكاح من نفسه، كابنة العم والمعتقة، أو وكل الولي رجلا يزوج وليته، فتزوجها الوكيل من نفسه.. لم يصح.
وقال ربيعة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يصح) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» ، وهذا لم يحضره إلا ثلاثة، وشرط أن يكون ولي وخاطب، ولم يوجد ذلك. ولأنه لو وكل وكيلا ليبيع له سلعة.. لم يجز للوكيل أن يبتاعها من نفسه، فكذلك هذا مثله. وقد وافقنا أبو حنيفة على البيع، وخالفنا مالك رحمهما الله فيه، وقد مضى.
إذا ثبت هذا: فأراد ابن العم أن يتزوجها، فإن كان هناك ولي لها في درجته.. تزوجها منه. وإن لم يكن هناك ولي في درجته، بل كان أبعد منه أو لا ولي لها.. تزوجها من السلطان، لأنها تصير في حقه بمنزلة من لا ولي لها، فيتزوجها من السلطان.(9/188)
[فرع أعتق مستولدته وأراد أن يتزوجها]
وإن أعتق رجل جارية وله ابنان، أحدهما منها، والآخر من غيرها، وأراد المعتق أن يتزوجها.. فقال ابن الحداد: يتزوجها من ابنه منها.
فمن أصحابنا من وافقه في ذلك، لأن المعتق لا ولاية له عليها في تزويجها من نفسه، فيكون بمنزلة الفاسق إذا أراد أن يتزوج وليته.
قال القاضي أبو الطيب: ويأتي على قول ابن الحداد: إذا أراد ابن العم أن يتزوج ابنة عمه.. فإنه يتزوجها ممن دونه من الأولياء. وقوله: (يتزوجها من ابنه منها) أراد على أشهر القولين في الأخوين، أحدهما لأب وأم، والآخر لأب.
وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا يصح أن يتزوجها من ابنه منها ولا من غيره، وإنما يتزوجها من الحاكم، لأن الولاية له عليها ثابتة، فلا تبطل ولايته بإرادته تزويجها، كما لو غاب الولي أو عضل. ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون المعتق وابنه وليين لها في حالة واحدة، وأن لكل واحد منهما أن يزوجها من صاحبه، وهذا لا يصح، لأن الابن يتلقى الولاية عليها من جهة أبيه، فلا يجتمع معه في الولاية.
[فرع زواج الحاكم أو الإمام ممن لا ولي لها]
إذا أراد الحاكم أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. فإنه يتزوجها من الإمام. قال ابن الصباغ: أو يرد ذلك إلى من يزوجه إياها، ولا يتولى طرفي العقد.
وإن أراد الإمام أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح أن يتزوجها من نفسه ويتولى طرفي العقد؛ لأنه إذا تزوجها من جهة الحاكم.. فهو قائم من جهته، فصح أن يتولى ذلك من نفسه.
والثاني: لا يصح أن يتولى العقد بنفسه، بل يتزوجها من الحاكم، لأن الحاكم ليس بوكيل له، وإنما هو نائب عن المسلمين، ولهذا: لا يملك الإمام عزله من غير سبب.(9/189)
[فرع تزويج الجد أحفاده من بعضهم]
وإن أراد الجد أن يزوج ابن ابنه الصغير بابنة ابن له آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار ابن القاص، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب وولي وشاهدان» .
والثاني: يصح، وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي الطيب، لأنه يملك طرفي العقد بغير تولية، فجاز أن يتولاه هاهنا، كبيع مال الصغير من نفسه. وأما الخبر.. فمحمول على أنه إذا كان الولي غير الخاطب.
فعلى هذا: لا تصح الولاية إلا بثلاثة شروط:
أحدها: إذا كان أبواهما ميتين، أو فاسقين، أو أحدهما ميتا والآخر فاسقا، لأنه لا ولاية للجد الرشيد عليهما مع ثبوت ولاية الأبوين عليهما.
الشرط الثاني: أن يكون ابن الابن صغيرا أو مجنونا.
الشرط الثالث: أن تكون الابنة بكرا، فأما إذا كانت ثيبا، فلا يملك تزويجها بحال إلا بإذنها.
وقد اشترط ابن الحداد أن يكون صغيرة. وليس بصحيح، لأن الجد يملك إجبارها على النكاح إذا كانت بكرا بكل حال، إلا أن تكون الابنة مجنونة.. فيملك الجد إجبارها على النكاح بكل حال.
إذا ثبت هذا: فإن الجد يقول: زوجت فلانة بفلان، أو فلانا بفلانة. وهل يفتقر إلى لفظ القبول، وهو: أن يقول: وقبلت نكاح فلانة لفلان؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى ذلك، لأن الإيجاب يتضمن القبول، فلم يفتقر إليه، كما لو قال: زوجني بنتك، فقال: زوجتك.. لا يحتاج أن يقول: قبلت. ولأنه لما قام شخص واحد مقام شخصين.. قام لفظ واحد مقام لفظين.(9/190)
والثاني: يفتقر إلى القبول، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور، لأن كل عقد افتقر إلى الإيجاب.. افتقر إلى القبول، كما لو كان بين شخصين.
[فرع تزويج الولي وليته من ابنه]
وإن زوج الولي وليته من ابنه الكبير.. صح، لأنه يقبل لنفسه. وإن زوجها من ابنه الصغير.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح، لأنه هو الذي أوجب النكاح عن المرأة ويقبله لابنه، والشخص الواحد لا يجوز أن يكون قابلا موجبا في النكاح.
[مسألة وكيل الولي يقوم مقامه بشروط]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ووكيل الولي يقوم مقامه) .
وجملة ذلك: أن الولي إذا كان ممن يملك إجبار المرأة على النكاح.. فله أن يوكل من يزوجها بغير إذنها، كما يجوز أن يعقد عليها بنفسه بغير إذنها. فإن وكل في تزويجها من رجل بعينه.. صح، وإن قال للوكيل: وكلتك في تزويجها وأطلق.. فهل يصح؟
حكى الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: فيها قولين، وحكاهما ابن الصباغ والمسعودي [في" الإبانة "] وجهين:
أحدهما: يصح، لأن من جاز أن يوكل وكالة معينة.. جاز أن يوكل وكالة مطلقة، كالوكالة في البيع.
والثاني: لا يصح هذا التوكيل، لأن الولي إنما فوض إليه اختيار الزوج، لكمال شفقته، وهذا لا يوجد في الوكيل.
وإن كان الولي لا يملك التزويج إلا بإذنها، فإن أذنت له في التزويج والتوكيل.. صح توكيله، وإن أذنت له في التزويج لا غير.. فهل يملك التوكيل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) .(9/191)
[فرع إذنها لوليها في العقد عليها]
] : إذا كان الولي لا يملك أن يعقد على المرأة إلا بإذنها، فإن أذنت له أن يزوجها من رجل معين.. صح ذلك. وإن أذنت له أن يزوجها مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد: يصح ذلك قولا واحدا، لكمال شفقته.
وقال الطبري في " العدة ": هو كالوكيل إذا وكله الولي في التزويج وأطلق، على ما مضى.
ويجوز للمرأة أن تأذن لوليها بلفظ الإذن، ويجوز بلفظ الوكالة، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لأن المعني فيهما واحد. وإن أذنت لوليها أن يزوجها، ثم رجعت.. لم يصح تزويجها، كالموكل إذا عزل وكيله. فإن زوجها الولي بعد العزل وقبل أن يعلم به.. فهل يصح؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل العلم به.
[مسألة توكيل الزوج في تزويجه]
قد ذكرنا: أن للزوج أن يوكل من يتزوج له، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري أن يتزوج له أم حبيبة بنت أبي سفيان من ابن عمها في أرض الحبشة» و: «وكل أبا رافع في تزويج ميمونة» .
فإن وكله: أن يتزوج له امرأة بعينها.. صح، وإن وكله: أن يتزوج له ممن شاء.. ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) :(9/192)
[أحدهما] : قال أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري: لا يجوز، لأن الأغراض تختلف في ذلك.
و [الثاني] : قال القاضي أبو حامد: يجوز. وإليه أشار الصيمري، فإنه قال: لو وكله أن يزوجه امرأة من العرب، فزوجه امرأة من قريش.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من قريش، فزوجه امرأة من العرب غير قريش.. لم يصح. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأنصار، فزوجه امرأة من الأوس أو الخزرج من بنات الأنصار.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأوس، فزوجه من الخزرج.. لم يجز. ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها، فتزوجها الموكل لنفسه، ثم طلقها قبل الدخول أو بعد الدخول وانقضت عدتها، ثم تزوجها الوكيل للموكل.. قال الصيمري: لم يصح، لأن وكالته قد بطلت لما تزوجها الموكل لنفسه. فإن وكله أن يتزوج له امرأة بمائة، فتزوجها له بخمسين.. صح، وإن تزوجها له بأكثر من مائة.. قال الصيمري: فقد قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح. والصحيح: أنه يصح النكاح، ولها مهر مثلها.
[فرع ادعاء التوكيل للتزوج أو استئنافه وضمان المهر]
فإن جاء رجل وادعى أن فلانا وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوجها له وضمن عنه المهر، ثم أنكر الموكل الوكالة، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف له.. لم يلزمه النكاح، ولا يقع النكاح للوكيل، بخلاف وكيل الشراء، لأن الغرض من النكاح أعيان الزوجين، فلا يقع لغير من عقد له، وترجع الزوجة على الوكيل بنصف المهر- وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف - لأنها تدعي وجوبه على الزوج، والوكيل ضامن به وهو مقر به.
وقال محمد بن الحسن: ترجع على الوكيل بجميع الصداق، لأن الفرقة لم تقع في الباطن بإنكاره. وهذا ليس بشيء، لأنه يملك الطلاق، فإذا أنكر النكاح.. فقد أقر بتحريمها عليه، فصار بمنزلة إيقاعه للطلاق.(9/193)
ولو مات الزوج قبل المصادقة على النكاح.. لم ترث هذه الزوجة إلا أن يصدقها سائر ورثته على التوكيل، أو تقوم لها بينة على ذلك.
ولو غاب رجل عن امرأته، فجاءها رجل وذكر: أن زوجها طلقها طلاقا بانت به منه بدون الثلاث، وأنه وكله في استئناف عقد النكاح عليها بألف، فعقد عليها النكاح بألف، وضمن لها الوكيل الألف، ثم قدم الزوج فأنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. فهل للزوجة أن ترجع على الوكيل بالألف؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الساجي والقاضي أبو الطيب: لا ترجع عليه بشيء- وبه قال أبو حنيفة - لأن الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا لم يلزم المضمون عنه شيء.. لم يلزم الضامن.
والثاني: ترجع عليه بالألف. وقال الشيخ أبو حامد: وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء "، وهو الأصح، لأن الوكيل مقر بوجوبها عليه، كما قلنا في التي قبلها.
[مسألة تزويج المرأة من الكفء وغيره]
وليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم» . ولأن في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء، فلم يجز من غير رضاهم.
قال الشيخ أبو حامد: والأولياء الذين يعتبر رضاهم في نكاح المرأة من غير كفء هم: كل من كان وليا للعقد حال التزويج، فأما من يجوز أن ينتقل إليه الولاية.. فلا يعتبر رضاه.
فإن دعت المرأة أولياءها أن يزوجوها من غير كفء، فامتنعوا.. لم يجبروا على(9/194)
ذلك، ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولما روى علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» فدل على: أنها إذا وجدت غير كفء.. جاز أن تؤخر.
وإن دعت المرأة الولي إلى أن يزوجها من كفء بأقل من مهر مثلها.. وجب عليه إجابتها، فإن زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم. فإن كان لها أولياء، فزوجها أحدهم بأقل من مهر مثلها بإذنها دون رضا سائر أوليائها.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمهم إجابتها إلى ذلك، فإن زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها، أو زوجها واحد منهم بذلك.. ألزموا الزوج مهر مثلها، ولم يكن لهم فسخ النكاح) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» .
ولأن كل من لا يملك الاعتراض عليها في جنس المهر.. لم يملك الاعتراض عليها في قدره، كأباعد الأولياء والأجانب. ولأن المهر حق لها، ولا عار عليهم بذلك.. فلم يكن لهم الاعتراض عليها.
[فرع التزويج برضاها وأوليائها من غير كفء]
فإن زوجت المرأة من غير كفء برضاها ورضا سائر الأولياء.. صح النكاح. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وأكثر أهل العلم.(9/195)
وقال سفيان وأحمد وعبد الملك ابن الماجشون: (لا يصح)
دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت قيس أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع عصاه عن عاتقه، فانكحي أسامة بن زيد» وفي رواية أخرى: " أدلك على من هو خير لك منهما؟ ". قلت: من؟ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أسامة بن زيد "، قالت: فتزوجت أسامة، فبورك لأبي زيد في، وبورك لي في أبي زيد. وفاطمة قرشية، وأسامة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: حجم أبو هند - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: «يا بني بياضة، زوجوا أبا هند، وتزوجوا إليه» فندبهم إلى التزويج بحجام وليس بكفء لهم.
وروي: (أن بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج بهالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . قيل: بل هو حذيفة.
وروي: (أن سلمان الفارسي خطب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ابنته، فأنعم له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكره ذلك عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلقي عمرو بن العاص، فأخبره بذلك، فقال: أنا أكفيك هذا، فلقي سلمان، فقال له(9/196)
عمرو: هنيئا لك، قال: بماذا؟ فقال: تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: أَلِمِثْلِي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا) .
[فرع تزويج البكر برضاها من غير كفء]
فإن زوج الأب أو الجد البكر من غير كفء بغير رضاها، أو زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها من غير رضا سائر الأولياء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (النكاح باطل) . وقال في موضع: (كان للباقين الرد) ، وهذا يدل على: أنه وقع صحيحا. واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان: وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: أن النكاح صحيح، ويثبت لها الخيار، ولسائر الأولياء الخيار في فسخه، لأن النقص دخل عليهم، وحصول النقص لا يمنع صحة العقد، وإنما يثبت الخيار في فسخه، كما لو اشترى لموكله شيئا معيبا.
والثاني: أن العقد لا يصح، لأن العاقد قد تصرف في حق غيره، فإذا فرط.. بطل العقد، كما لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: العقد باطل قولا واحدا، وحيث قال: (كان للباقين الرد) أي: المنع من العقد.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: (يبطل العقد) أراد: إذا عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء.
وحيث قال: (لا يبطل العقد) أراد: إذا عقد ولم يعلم أنه غير كفء، كما قلنا في(9/197)
الوكيل إذا اشترى شيئا معيبا يعلم بعيبه.. لم يصح في حق الموكل، وإن اشتراه وهو لا يعلم بعيبه.. صح في حق موكله.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها.. لم يكن للباقين في ذلك اعتراض) .
دليلنا: أن رضا جميعهم معتبر، فلم يسقط برضا بعضهم.
[فرع رجوع المرأة والولي عند الاختلاف في الكفاءة إلى الحاكم]
إذا دعت المرأة وليها إلى تزويجها برجل، وزعمت: أنه كفء لها، فقال الولي، ليس بكفء لها.. رفع ذلك إلى الحاكم، ونظر الحاكم فيه: فإن كان كفؤا لها.. لزمه تزويجها به، فإن امتنع.. زوجها الحاكم منه. وإن كان ليس بكفء لها.. لم يلزم الولي إجابتها إليه.
[مسألة مقومات الكفاءة]
ستة] : الكفاءة معتبرة في ستة أشياء: النسب، والدين، والحرية، والصنعة، واليسار، والسلامة من العيوب.
فأما (النسب) : فإن العجمي ليس بكفء للعربية.
وأما العجم: فهم أكفاء، لا فضل لبعضهم على بعض، لما روى نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» فدل على: أن العجم ليست بأكفاء للعرب.(9/198)
وروي عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «يا معشر العرب، إنما نفضلكم، لفضل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ننكح نساءكم، ولا نتقدمكم في الصلاة» .
وأما العرب. فإن غير القرشي.. ليس بكفء للقرشية.
وقال أبو حنيفة: (بل هم أكفاء لهم) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله عز وجل اختار العرب من سائر الأمم، واختار من العرب قريشا، واختار من قريش بني هاشم وبني عبد المطلب» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحن قريش خير العرب، وموالينا خير الموالي» .(9/199)
وأما قريش: فإن بني هاشم وبني عبد المطلب أكفاء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم، وبني عبد المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» .
وهل تكون سائر قبائل قريش أكفاء لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه وجهان حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: أنهم أكفاء، كما أنهم في الخلافة أكفاء.
والثاني: أنهم ليسوا بأكفاء لهم- ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني قلبت مشارق الأرض ومغاربها.. فلم أجد أفضل من بني هاشم» .
وأما سائر قبائل العرب: فلا فضل لبعضهم على بعض، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» .
وقال الصيمري: وموالي قريش أكفاء لقريش، وكذلك موالي كل قبيلة أكفاء لهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
قلت: وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر قول سائر أصحابنا، لأنهم يحتجون- على جواز إنكاح المرأة ممن ليس بكفء لها- بتزويج أسامة بن زيد لفاطمة بنت قيس، وأسامة مولى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قرشية. ولو قيل: فيها وجهان، كالوجهين في أنه: هل تحل الصدقة المفروضة لموالي بني هاشم وبني المطلب.. لكان محتملا. فأما إذا وطئ الرجل أمته، فأولدها ولدا.. فإنه كفء لمن(9/200)
أمه عربية، لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، بدليل: أن الهاشمي لو تزوج أعجمية.. فإن ولده منها هاشمي، ولو تزوج العجمي هاشمية.. فإن ولده منها عجمي.
وأما (الدين) : فهو معتبر، فالفاسق الذي يشرب الخمر ويزني، أو لا يصلي.. ليس بكفء للحرة العفيفة.
وقال محمد بن الحسن: هو كفء لها، إلا أن يكون يسكر، ويخرج مظاهرا به ويولع به الصبيان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] [السجدة:18] ،
فنفى المساواة بينهما من جميع الوجوه.
ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه.. فزوجوه، إلا تفعلوا.. تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير» .
ولأن الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أنه يجني على المرأة، فثبت لها الخيار في فسخ نكاحه.
وأما (الحرية) : فهي معتبرة، فالحرة ليست بكفء للعبد، والحر لا يكافئ الأمة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] إلى قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] [النحل:75] . فنفى المساواة بينهما.(9/201)
ولـ: «أن بريرة أعتقت تحت عبد، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فإذا ثبت لها الخيار إذا طرأت عليها الحرية وهي تحت عبد.. فلأن يثبت لها الخيار إذا كانت حرة عند ابتداء النكاح أولى.
ولأن عليها ضررا في النفقة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها.
وأما (الصنعة) : فهي معتبرة، فمن كان من أهل الصنعة الدنية، كالحائك، والحمامي، والحجام، وما أشبههم.. ليس بكفء للمرأة التي أبوها من أهل الصنائع الرفيعة، مثل: البزاز والعطار، لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» ، فلما استثنى الحائك والحجام من جملتهم.. دل على: أن للصنعة تأثيرا في الكفاءة. ولأن هذه الصنع نقص في العادة، فاعتبرت.
وأما (اليسار) : فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إنه معتبر، فالمعسر ليس بكفء للموسرة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحسب المال» . ولأنه لما ثبت: أن العبد لا يكافئ الحرة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها.. فكذلك المعسر.
فعلى هذا: لا يعتبر أن يكون الرجل مثل المرأة في اليسار في جميع الوجوه، بل إذا كان كل واحد منهما موسرا يسارا ما.. تكافئا وإن اختلفا في المال.
ومنهم من قال: اليسار غير معتبر في الكفاءة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا» . ولأن ذلك ليس بنقص في العادة، لأن المال يغدو(9/202)
ويروح، ولهذا: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابني خالد: «لا تيأسا من رزق الله ما تهززت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق ليس عليه شيء إلا قشرتان، ثم يرزق الله سبحانه وتعالى» .
وأما (السلامة من العيوب) : فهي معتبرة في الكفاءة.
فالعيوب في الرجال: الجنون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة.
والعيوب في النساء: الجنون، والجذام، والبرص، والرتق، والقرن.
ولها أحكام تأتي في بابها إن شاء الله تعالى.
قال الصيمري: واعتبر قوم البلدان، فقالوا: ساكنو مكة والمدينة والبصرة والكوفة ليسوا بأكفاء لمن يسكن الجبال. وهذا ليس بشيء.
وليس للحسن والقبح، والطول والقصر، والسخاء والبخل، ونحو ذلك مدخل في الكفاءة، لأن ذلك ليس بنقص في العادة، ولا عار فيه ولا ضرر.
[مسألة إذن المرأة لأكثر من ولي في تزويجها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قالت: قد أذنت في فلان، وأي أوليائي زوجني.. فهو جائز) .(9/203)
وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان في درجة واحدة، فأذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها برجل غير الذي أذنت به للآخر، أو أذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها لرجل ولم تعين- وقلنا: يجوز - فزوجها كل واحد منهما برجل.. ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يعلم أن العقدين وقعا معا في حالة واحدة.. فهما باطلان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، إذ المرأة لا يجوز أن يكون لها زوجان، لاختلاط النسب وفساده، وليس أحدهما بأولى من الآخر في التقديم، فبطلا، كما لو تزوج أختين في عقد واحد.
الثانية: أن لا يعلم: هل وقع العقدان في حالة واحدة، أو سبق أحدهما الآخر؟
قال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التقديم.
وقال الخراسانيون: بطل العقدان في الظاهر، وهل يبطلان في الباطن؟ فيه وجهان.
الثالثة: أن يعلم أن أحدهما سبق الآخر، إلا أنه أشكل عين السابق منهما، فقال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لما ذكرناه في التي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: فيها قولان:
أحدهما: أنهما باطلان.
والثاني: يتوقف فيهما، بناء على القولين في الجمعتتين إذا وقعتا معا في بلدة وعلم بسبق إحداهما، ولم تتعين السابقة. وهذا اختيار المزني.
الرابعة: أن يعلم أن أحد العقدين سبق الآخر ونسي السابق منهما.. فيوقفان إلى أن يتذكر السابق، لأن الظاهر مما علم ثم نسي: أنه يتذكر.(9/204)
الخامسة: أن يعلم السابق منهما ويتعين ويذكر.. فإن النكاح الصحيح هو الأول، والثاني باطل، سواء دخلا بها أو لم يدخلا بها، أو دخل بها أحدهما. وبه قال من الصحابة: علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: شريح، والحسن البصري رحمة الله عليهما، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أنه إن لم يطأها أحدهما، أو وطئاها معا، أو وطئها الأول دون الثاني.. فهي للأول - كقولنا - وإن وطئها الثاني دون الأول.. فالنكاح للثاني دون الأول، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعطاء والزهري، ومالك رحمة الله عليهم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء:23-24] ، والمراد به الزوجات، ولم يفرق.
وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أنكح المرأة الوليان.. فهي للأول منهما» . ولم يفرق.
ولأنه نكاح لو عري عن الوطء.. لم يصح، فإذا كان فيه الوطء.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمحرمة بالحج.
[فرع زوجها وليان ولا يعلم السابق منهما]
إذا زوج المرأة وليان من رجلين، ولم يعلم السابق منهما، وادعى كل واحد من الزوجين: أنه هو السابق منهما: نظرت:
فإن ادعى أحد الزوجين على الآخر.. قال المسعودي [في" الإبانة "] : لم تسمع دعواه، لأنه لا شيء في يده.(9/205)
وإن ادعيا على الولي، فإن كان غير مستبد بنفسه، بأن لا يصح إنكاحه إلا بإذنها.. لم تسمع دعواهما عليه. وإن كان مستبدا بنفسه، كالأب والجد في تزويج البكر.. فهل تسمع الدعوى عليه؟ فيه قولان.
وإن ادعيا على المرأة، فإن لم يدعيا علمها بذلك.. لم تسمع الدعوى عليها، لأنه لا فائدة في ذلك. وإن ادعيا علمها بالسابق منهما.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل تسمع الدعوى عليها؟ فيه قولان، بناء على القولين في إقرارها لأحدهما بالسبق: هل يقبل؟
[أحدهما] : قال في القديم: (يقبل إقرارها) .
فعلى هذا: تسمع الدعوى عليها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يقبل إقرارها) .
فعلى هذا: لا تسمع الدعوى عليها.
وأما الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: فقالوا: تسمع الدعوى عليها من غير تفصيل.
فإذا قلنا: تسمع الدعوى عليها.. نظرت:
فإن أنكرت: أنها لا تعرف السابق منهما.. فالقول قولها مع يمينها: أنها لا تعرف السابق منهما، فإذا حلفت.. سقطت دعواهما، وبطل النكاحان، وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فيحلف كل واحد منهما: أنه هو السابق بالعقد، فإذا حلفا.. بطل النكاحان، لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه: أنه هو السابق، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فبطلا. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. ثبت نكاح الحالف، وبطل نكاح الناكل. وإن نكلا جميعا.. بطل النكاحان أيضا، لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن أقرت: أنها تعلم السابق منهما.. نظرت:(9/206)
فإن أقرت لكل واحد منهما: أنه هو السابق، وكان إقرارها لهما في وقت واحد.. فلا حكم لهذا الإقرار، لاستحالة أن يكون كل واحد منهما سابقا لصاحبه، فتكون دعواهما عليها باقية، فتطالب بالجواب. وإن أقرت لأحدهما: أنه هو السابق.. حكم بالنكاح له، لأنه لم يثبت عليها نكاح غير المقر له حال الإقرار، فقبل إقرارها على نفسها.
فإن أراد الثاني أن يحلفها-بعد إقرارها للأول- أنها لا تعلم أنه هو السابق.. فهل يلزمها أن تحلف له؟ فيه قولان- بناء على أنها لو أقرت للثاني: هل يلزمها غرم؟ وفيه قولان، كالقولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.. فهل يلزمه الغرم لعمرو؟ وفيه قولان-:
أحدهما: لا يلزمها أن تحلف للثاني، لأنها لو أقرت له.. لم يقبل إقرارها له، فلا معنى لعرض اليمين عليها.
والثاني: يلزمها أن تحلف للثاني، لجواز أن تخاف من اليمين فتقر له، فيلزمها الغرم.
فإن قلنا: لا يلزمها أن تحلف للثاني..ثبت النكاح للأول، وانصرف الثاني.
وإن قلنا: يلزمها أن تحلف للثاني.. نظرت:
فإن حلفت له.. انصرف. وإن أقرت للثاني: بأنه هو السابق.. لم يقبل قولها في النكاح، لأن في ذلك إسقاط حق الأول الذي قد ثبت، ولأنها قد أقرت أنها حالت بين الثاني وبين بضعها بإقرارها للأول، وهل يلزمها أن تغرم له؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كما لو أقرت بدار لزيد، ثم أقرت بها لعمرو.
وقال المحاملي، وابن الصباغ: يلزمها أن تغرم له قولا واحدا، لأنا إنما عرضنا عليها اليمين على القول الذي يقول: يلزمها الغرم، فإذا أقرت له.. لزمها أن(9/207)
تغرم له عوض ما حلت بينه وبينه، وكم يلزمها من الغرم؟
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمها أن تغرم جميع مهر مثلها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والجويني: فيه قولان:
أحدهما: جميع مهر مثلها.
والثاني: نصف مهر مثلها، كالقولين في المرأة إذا أرضعت زوجة لرجل، وانفسخ نكاحها بذلك.
وإن لم تقر للثاني، ولا حلفت له، بل نكلت عن اليمين، وردت اليمين عليه، فإن نكل.. سقطت دعواه، وإن حلف: أنه هو السابق.. فقد حصل مع الأول إقرار، ومع الثاني يمين ونكول المدعى عليه. فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل البينة.. ثبت النكاح للثاني، وانفسخ نكاح الأول. قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول ضعيف جدا. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه - وهو الصحيح - ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: يبطل النكاحان، لأن مع الأول إقرار، ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فبطلا.
و [الثاني] : ومن أصحابنا من قال: يثبت نكاح الأول، لأن إقرارها له أسبق.
قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي: ويلزمها على هذا: أن تغرم مهر مثلها للثاني.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هل يلزمها الغرم للثاني على هذا؟ فيه قولان.
وقال ابن الصباغ: فعلى قول أبي إسحاق.. لا تعرض عليها اليمين، لأنه لا فائدة فيها.
هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا نكلت وحلف الثاني.. فهل ينفسخ نكاح الأول؟ فيه وجهان.(9/208)
فإذا قلنا: ينفسخ.. قال القفال: فإنه لا يثبت نكاح الثاني. والأول هو المشهور.
[فرع تزوج واحدة واثنتين وثلاثا كلا في عقد]
إذا تزوج رجل امرأة في عقد، وامرأتين في عقد، وثلاثا في عقد، وأشكل: أي العقود كان أولا؟ قال ابن الحداد: صح نكاح الواحدة المنفردة، ولا يصح نكاح الاثنتين ولا الثلاث، لأن العقد على الواحدة إن كان أولا.. فهو صحيح، وإن كان آخرا.. فقد تقدمه العقد على اثنتين، والعقد على ثلاث، فإن كان العقد على اثنتين أولا.. صح، وبطل العقد على الثلاث، لأنهن تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الثلاث. وإن كان العقد على الثلاث أولا.. فهو صحيح، ولم يصح بعده العقد على الاثنتين، لأنهما تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الأربع.
وإن كان العقد على الواحدة بين الاثنتين والثلاث.. فهو صحيح، لأنها إما تمام الثلاث، أو تمام الأربع، فصحت بكل حال.
وأما نكاح الاثنتين والثلاث: فإنه يحتمل الصحة والفساد، فيحكم بفساده، لأن الأصل عدم صحة العقد عليهن.
وإن كان بدل الثلاث أربعا.. بطل نكاح الجميع، لأن الواحدة يحتمل أن تكون هي الخامسة.
[فرع وكل من يتزوج له ثلاثا وآخر باثنتين أو طلق]
ولو وكل رجلا: أن يزوجه ثلاث نسوة بعقد واحد، ووكل آخر: أن يزوجه امرأتين بعقد، فأي الوكيلين سبق وعقد له ما وكل فيه.. صح، وبطلت وكالة الثاني. وإن عقدا له ولم يعلم السابق منهما.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لأحد العقدين على الآخر.(9/209)
ولو أذن لهما بذلك في عقود أو أطلق، فإن تزوج له صاحب الثلاث ثلاثا أولا، وتزوج له صاحب الاثنتين واحدة.. صح. وإن تزوج له صاحب الاثنتين باثنتين أولا، وتزوج له صاحب الثلاث باثنتين.. صح. وإن تزوج له صاحب الثلاث بثلاث، وصاحب الاثنتين باثنتين، ولم يعلم السابق.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لبعض العقود على بعض.
[فرع ادعاء ورثة الزوج أن الزواج بغير رضاها والإقرار بالزوجية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": (إذا زوج الرجل أخته من رجل، ثم مات الزوج، فادعى ورثته: أن الأخ زوجها بغير إذنها، وصدقتهم.. فالنكاح باطل، ولا ترث. وإذا ادعت المرأة: أنه زوجها بإذنها.. فالقول قولها، وترث) ، لأن هذا اختلاف في إذنها وهي أعلم به. ولأن الأصل في النكاح أنه يقع صحيحا، فإذا ادعى الورثة فساده.. كان القول قولها، لأن الظاهر صحته.
قال في " الإملاء ": (إذا قال رجل: هذه المرأة زوجتي، وصدقته على ذلك.. ثبتت الزوجية بينهما، وأيهما مات.. ورثة الآخر، لأن الزوجية قد ثبتت.
وإن قال رجل: هذه زوجتي، فسكتت، فإن ماتت.. لم يرثها، لأن إقراره عليها لا يقبل. وإن مات.. ورثته، لأن إقراره على نفسه مقبول.
وكذلك إذا أقرت امرأة بالزوجية لرجل، ولم يسمع منه إقرار، فإن مات.. لم ترثه، وإن ماتت.. ورثها) ، لما ذكرناه في التي قبلها.
[مسألة زواج الصغير العاقل]
يجوز للأب والجد أن يزوج ابنه الصغير إذا كان عاقلا، لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج ابنا له صغيرا) . ولأنه يملك التصرف في مصلحته، وفي(9/210)
النكاح مصلحة له، لأنه إن بلغ وهو محتاج إلى النكاح.. وجد فرجا معدا له للاستمتاع، وانتفع بها أيضا من وجه آخر، وهو أنها تخدمه وتقوم بحوائجه، فتكون سكنا له، وإن بلغ وهو غير محتاج إلى النكاح.. فإن المرأة تكون سكنا له، وتقوم بمنزله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يزوج الصغير؟ فيه وجهان، الأصح: لا يزوجه، لأنه لا حاجة به إليه.
وكم يجوز للأب والجد أن يزوجا الصغير؟
حكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (له أن يزوجه واحدة، واثنتين، وثلاثا، وأربعا، كالبالغ) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يزوجه بأكثر من واحدة، لأنه لا حاجة به إلى ما زاد عليها.
ولا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغير، كما لا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغيرة.
[فرع زواج المجنون]
ولا يجوز للأب، ولا للجد، ولا للوصي، ولا للحاكم تزويج الصغير المجنون، لأنه لا يحتاج إلى النكاح في الحال، ولا يُدرَى إذا بلغ.. هل يحتاج إلى النكاح أم لا؟ بخلاف الابن الصغير العاقل، لأن الظاهر أنه يحتاج إلى النكاح عند بلوغه.
فإن كان المجنون بالغا.. نظرت:
فإن كان يجن ويفيق.. لم يجز للولي تزويجه، لأن له حالة يمكن استئذانه فيها، وهو حال إفاقته. وإن لم يكن له حال إفاقة، فإن كان خصيا، أو مجبوبا، أو علم أنه(9/211)
لا يشتهي النكاح.. لم يجز للولي تزويجه، لأنه لا حاجة به إلى النكاح. وإن علم أنه يشتهي النكاح، بأن يراه يتبع نظره النساء، أو علم ذلك بانتشار ذكره، أو غير ذلك.. جاز للأب والجد تزويجه، لأن فيه مصلحة له، وهو ما يحصل له به من العفاف.. فإن لم يكن له أب ولا جد.. زوجه الحاكم.
[فرع زواج المحجور عليه]
وأما المحجور عليه لسفه: فإن كان غير محتاج إلى النكاح، بأن خلق زمنا، أو ممن لا شهوة في النساء.. لم يجز للولي أن يزوجه، لأن عليه فيه مضرة في وجوب المهر والنفقة عليه من غير منفعة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحتاج إلى امرأة تخدمه.. فيجوز له تزويجه، لأن في ذلك
مصلحة
له، وهو أنهما إذا كان بينهما نكاح.. صارت محرما له يجوز له الخلوة بها، فيكون أحوط) .
وإن كان له حاجة إلى النكاح، وطالب الولي بذلك.. فعلى الولي أن يزوجه، لأن على الولي أن يفعل ما فيه
المصلحة
له، وهذا من مصالحه، فلزمه القيام به، كالإنفاق على طعامه وكسوته. ولأنه إذا لم يزوجه.. ربما زنا، فأقيم عليه الحد، فيؤدي إلى تلفه.
إذا ثبت هذا: فالولي بالخيار: إن شاء زوجه بنفسه وتولى عقد النكاح، لأنه عقد معاوضة، فجاز للولي أن يفعله، كالبيع. وإن اختار أن يأذن له في أن يتزوج بنفسه.. جاز، لأن المحجور عليه من أهل عقد النكاح، ألا ترى أنه يصح منه الطلاق والخلع؟ وإنما منع منه بغير إذن وليه خوفا من تبذير المال، فإذا أذن لها الولي.. زال(9/212)
هذا المعنى، فجاز. ويخالف الصبي المراهق، فإن الأب أو الجد إذا أذن له في أن يعقد النكاح بنفسه.. لم يصح، لأنه ليس من أهل عقد النكاح، ولهذا لا يصح منه الطلاق والخلع.
فإذا أذن له الولي أن يتزوج امرأة بعينها، أو من قبيلة عينها له.. جاز. وإن أطلق له الإذن.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يجوز، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن للعبد في النكاح.
والثاني: لا يجوز، لأنه ربما تزوج امرأة شريفة يستغرق مهرها ماله. ويخالف العبد، فإن العادة أنه لا يزوج الشريفة، والمهر أيضا في كسبه، فلا يؤدي إطلاق إذنه إلى إتلاف ماله، بخلاف المحجور عليه.
فإذا تزوج المحجور عليه بإذن الولي.. لم يتزوج إلا بمهر المثل، أو بأقل منه، لأن ما زاد عليه محاباة، فلا يصح منه. فإن تزوج بمهر المثل أو بأقل منه.. صح، وإن تزوج بأكثر من مهر المثل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) . ولا خلاف أن الزيادة على مهر المثل باطلة. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) له تأويلان:
أحدهما: أنه أراد أنه لا يثبت ولا يلزم.
والثاني: أنه أراد إن كان الولي قد سلم إليه مهر المثل والزيادة، وسلم الجميع إلى المرأة.. لزمها رد الفضل. وكلا التأويلين صحيح.
قال ابن الصباغ: وظاهره أن الفضل يبطل، ويصح عقده في الباقي. قال: وكان القياس يقتضي: أن تبطل تسميته، ويثبت مهر المثل في ذمته، لأن التسمية إذا كانت صحيحة.. ملكت مما عينه لها مهر مثلها.
وإن طلب المحجور عليه من الولي أن يزوجه، فامتنع الولي، فتزوج المحجور عليه بنفسه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأنه محجور عليه تزوج بغير إذن وليه فلم يصح، كالعبد، أو كما لو تزوج قبل الطلب.(9/213)
والثاني: يصح؛ لأن هذا حق تعين له، فإذا لم يتمكن من الوصول إليه من جهة من وجب عليه.. كان له أن يستوفيه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين، فامتنع من أدائه.. فله أخذه من ماله بغير إذنه.
فإن تزوج المحجور عليه بغير إذن مع إمكان إذنه.. فالنكاح فاسد.. فإن وطئ المرأة.. فهل يجب عليه مهر المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يجب عليه لأنه أتلف بضعها بشبهة، فجرى مجرى إتلاف المال.
والثاني: لا يجب عليه شيء، لأنها بذلته باختيارها، فهو كما لو باعته مالا وأقبضته إياه.. فإنه لا يضمنه بالإتلاف.
[مسألة تزويجه لابنته الصغيرة بغير كفء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبدا، ولا غير كفء، ولا مجنونا، ولا مخبولا، ولا مجذوما، ولا أبرص) .
وهذا كما قال: لا يجوز للرجل أن يزوج ابنته الصغيرة لغير كفء، والعبد ليس بكفء للحرة، وقد مضى شروط الكفاءة. فلا يجوز أن يزوجها لمجنون ولا مخبول، لأن القصد من النكاح الاستمتاع، وهذا متعذر منه ولأنه لا يؤمن أن يجني عليها فـ (المخبول) هو: الذي تقادم جنونه وسكن، فلا يتأذى الناس به، أو يكون أبله، لا يحصل منه أذية لغيره. و (المجنون) هو: الذي يكون في ابتداء جنونه يتأذى به الناس.
ولا يزوجها بمجذوم ولا أبرص، لأن النفس تعاف ممن به هذه العيوب.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه يقال: إن هذه العيوب تعدي، وربما أعدت إليها أو إلى ولدها منه.(9/214)
وكذلك لا يزوجها بخصي، ولا مجبوب، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع وذلك لا يوجد منه.
فإن خالف الأب وزوج ابنته الصغيرة ممن به أحد هذه العيوب.. فهل يصح النكاح؟ على الطرق الثلاث إذا زوج المرأة من غير كفء من غير رضاها، أو من غير رضا سائر الأولياء.
فإذا قلنا: إن النكاح باطل.. فلا كلام، وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يجب على الأب أن يختار فسخ النكاح، أو يدعه حتى تبلغ فتختار؟
حكى القاضي أبو الطيب فيه قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
أحدهما: يجب عليه ذلك، لأنه قد فرط، فكان عليه أن يتلافى تفريطه، كالوكيل إذا اشترى شيئا معيبا.
والثاني: لا يجب عليه، وليس له ذلك، لأن الشهوات تختلف، وقد تختار المرأة التزويج ممن به هذه العيوب.
فعلى هذا: إذا بلغت.. كانت بالخيار: فإن شاءت.. فسخته، وإن شاءت.. أقرته.
قال ابن الصباغ: هذا إذا كان المزوج هو الولي وحده، وأما إذا كان معه غيره: فلهم الاعتراض على العقد، وفسخه قولا واحدا، لأن العاقد أسقط حقه برضاه، والباقون لم يرضوا.
وإن أراد أن يزوج أمته من عبد.. جاز، لأنه مكافئ لها. وإن أراد أن يزوجها من غير كفء لها.. قال الشيخ أبو حامد: صح، لأن الكفاءة إنما اعتبرت في نكاح الحرة، لما يلحقها بعقده من النقص في نسبها، والأمة لا نسب لها، فيلحقها النقص فيه.. ولكن إن أراد تزويجها بمجنون، أو مخبول، أو مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو خصي لم يكن له ذلك، لأن الضرر الذي يلحق الحرة في ذلك يلحق الأمة.. فلم يجز.
فإن قيل: أليس لو باع أمته من مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو مخبول ... صح البيع؟(9/215)
قلنا: الفرق بينهما: أن المقصود من النكاح الاستمتاع، بدليل: أنه لا يصح تزويجها ممن لا يحل له الاستمتاع بها. والمقصود بالبيع: المال، ولهذا: يصح بيعها ممن لا يحل له الاستمتاع بها.
فإن خالف وزوج أمته ممن به أحد هذه العيوب.. فهو كما لو زوج ابنته لغير كفء من غير رضاها، فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فإن كانت كبيرة.. كان لها الخيار في فسخ النكاح، وإن كانت صغيرة أو مجنونة.. فهل يجب على السيد أن يفسخ النكاح، أو ليس له ذلك بل تترك إلى أن تبلغ وتختار؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا زوج ابنته الصغيرة من أحدهم.
[فرع تزويجه ابنه الصغير امرأة ليست بكفء أو بها عيب]
ولا يزوج ابنه الصغير بامرأة ليست بكفء له، ولا بمجنونة، ولا بمخبولة، ولا مجذومة، ولا برصاء، ولا رتقاء، ولا قرناء، لأنه لا مصلحة له في تزويج إحداهن.
فإن زوجه بأمة.. لم يصح قولا واحدا، لأن تزويج الأمة إنما يصح للحر إذا لم يجد طول حرة، ويخاف العنت، فإن كان الصبي موسرا.. لم يوجد الشرطان في حقه، وإن كان معسرا.. فإنه لا يخاف العنت.
وإن زوجه بحرة ليست بكفء له، أو بها أحد هذه العيوب.. فهل يصح؟ على الطرق الثلاث فيمن زوج ابنته الصغيرة بغير كفء. فإذا قلنا: يصح.. فهل يجب عليه أن يفسخ النكاح، أو ينتظر بلوغه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن زوج ابنه المجنون برتقاء أو قرناء، فإن قلنا: يصح تزويج الصغير العاقل بها.. صح في المجنون. وإن قلنا: لا يصح تزويج الصغير العاقل بها.. ففي المجنون وجهان:(9/216)
أحدهما: لا يصح، كما لو زوجها من الصغير العاقل.
والثاني: يصح، لأنه لا ضرر عليه في ذلك، لأنه لا يحتاج إلى الوطء.
[فرع أصناف لا تزوج للصغير]
قال الصيمري: ولا يزوج ابنه الصغير بعجوز هرمة، ولا بمقطوعة اليدين أو الرجلين، ولا عمياء، ولا زمنة، ولا بيهودية، ولا نصرانية. ولا يزوج ابنته الصغيرة بشيخ هرم، ولا بمقطوع اليدين أو الرجلين، ولا بأعمى، ولا زمن، ولا بفقير مرمل وهي غنية. فإن فعل ذلك.. فسخ.
وعندي: أنها تحتمل وجها آخر: أنه لا يكون له الفسخ، لأنه ليس بأعظم ممن زوج ابنته الصغيرة بمجذوم أو أبرص.
[مسألة إجبار العبد على النكاح]
وإن دعا السيد عبده البالغ النكاح، فامتنع العبد.. فهل يجبره السيد على النكاح؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (له إجباره على النكاح) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] . والظاهر: أن للسادة إنكاح العبيد والإماء على كل حال. ولأنه رقيق له، يملك بيعه، فملك إجباره على النكاح، كالأمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يملك إجباره) - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لأن النكاح سبب يملك به الاستمتاع، فلم يملك المولى إجبار عبده عليه، كالقسم بين امرأتيه. ولأنه لو كان للعبد زوجة.. لم يملك المولى إجباره على الوطء، فلم يملك إجباره على النكاح.
وإن كان العبد صغيرا أو مجنونا.. فهل يملك المولى إجباره على النكاح؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالكبير العاقل.(9/217)
ومنهم من قال: له إجباره قولا واحدا، لأن للصغر والجنون تأثيرا في الإجبار على النكاح، بدليل: أنه يجبر ابنه الصغير والمجنون على النكاح، ولا يجبر العاقل البالغ.
[فرع طلب العبد النكاح]
وإن طلب العبد من سيده أن يأذن له في النكاح، فإن أذن له أن يتزوج ممن شاء، أو أذن له مطلقا.. كان له أن يتزوج ممن شاء، حرة كانت أو أمة.
وإن تزوج من بلد غير بلد السيد.. صح النكاح، ولكن للسيد أن يمنعه من الخروج إليها، لأن له أن يمنعه من السفر.
وإن أذن له أن يتزوج امرأة بعينها، حرة أو أمة فتزوج غيرها، أو أذن له أن يتزوج أمة فتزوج حرة، أو أذن له أن يتزوج حرة فتزوج أمة.. لم يصح، لأنه خالف الإذن.
فإن أذن له أن يتزوج من بلد فتزوج من بلد غيرها.. لم يصح، لما ذكرناه.
قال الصيمري: فإن كان للمرأة عبد فسألها التزويج، فأذنت له أن يتزوج وهو بالغ عاقل.. جاز، لأنه بالغ عاقل، وقد رفعت الحجر عنه بالإذن. فإن كان مجنونا أو صغيرا.. جاز أن تأذن لوليها أن يعقد له التزويج.
وإن امتنع السيد من الإذن له.. فهل يجبر؟ فيه قولان:
أحدهما: يجبر - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.. ولأنه مكلف دعا إلى إنكاحه لحاجته إليه، فأجبر وليه على إنكاحه، كالمحجور عليه للسفه إذا طلب النكاح.
والثاني: لا يجبر السيد- وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما- وهو الأصح، لأنه شخص يملك رقه، فلم يجبر على إنكاحه، كالأمة، والآية: المراد بها الندب. ويخالف السفيه، فإن المنع من إنكاحه، لحظه، فإذا كان محتاجا إلى النكاح.. فالحظ له في التزويج، والمنع من تزويج العبد لحظ السيد، فلو أجبرناه(9/218)
على إنكاحه.. لأسقطنا حظه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في" الإبانة "] : هل يجبر السيد على إنكاح العبد؟
إن قلنا: إن السيد يجبر العبد على النكاح.. لم يجبر السيد على إنكاح العبد.
وإن قلنا: إن السيد لا يجبر العبد على النكاح.. أجبر السيد على إنكاح العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا يجبر السيد على إنكاح العبد قولا واحدا، لأنه لا ولاية للعبد على سيده.
فإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد رشيدا.. استحب له تزويجه، وإن كان السيد محجورا عليه.. لم يجز لوليه تزويج عبده.
وإن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد بالغا رشيدا.. أمره الحاكم بإنكاحه، فإن امتنع.. زوجه الحاكم. وإن كان السيد محجورا عليه.. جاز لولي المحجور عليه أن يأذن لعبده في النكاح، فإن لم يأذن له.. أذن له الحاكم.
[فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة أو المبعض]
وحكم المدبر والمعلق عتقه بصفة حكم العبد في ذلك، لأنه رقيق يملك بيعه.
وأما من نصفه حر ونصفه مملوك: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لما فيه من الحرية. وإن طلب العبد النكاح، فإن أذن له مالك نصفه في النكاح، فنكح.. صح، وإن امتنع السيد..فهل يجبر؟ على القولين، كما لو كان يملك جميعه.
وإن ملك السيد عبده جارية، وقلنا: إنه لا يملكها.. لم يكن للعبد وطؤها. وإن قلنا: إنه يملكها، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يكن له وطؤها.
وإن كان نصفه حرا ونصفه مملوكا، فملك بنصفه الحر جارية.. فهل له أن يطأها؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتسرى العبد، ولا من لم تكمل فيه الحرية) .
قال الشيخ أبو حامد: يبنى هذا على القولين: أن العبد يملك:(9/219)
إن قلنا: لا يملك.. لم يكن لهذا أن يطأ وإن أذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. وإن قلنا: إنه يملك.. لم يكن له أن يطأها قبل أن يأذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. فإن أذن له السيد في الوطء.. جاز، لأنه يجوز له أن يأذن لعبده القن في الوطء على هذا القول، فهذا أولى.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن السيد لا حق له في الأمة الموطوءة. وأما ما في العبد من الرق: فإنه لا يمنعه من استيفاء الوطء بما يملكه بنصفه الحر، كما يجوز له أن يتصرف ويأكل ما ملكه بنصفه الحر وإن كان يأكل ويتصرف في جميع بدنه.
[فرع إجبار المكاتب أو السيد على النكاح]
فأما المكاتب: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لأنه صار في الكتابة كالخارج عن ملكه، ولأنه يلزمه المهر والنفقة، وفي ذلك إضرار به. وإن دعا المكاتب سيده إلى النكاح، فامتنع السيد.. فهل يجبر؟
إن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. أجبر على إنكاح المكاتب.
وإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. فهل يجبر على إنكاح المكاتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر عليه، لأنه لا يفوت على السيد بذلك حقا، لأنه لا يملك كسبه.
والثاني: لا يجبر عليه، لأن حق المولى متعلق بكسبه، بدليل: أن المكاتب لا يملك أن يهب كسبه، ثم لا يحابي به، وفي النكاح يستحق كسبه للمهر والنفقة.
[فرع إجبار أحد المالكين العبد على النكاح أو طلب العبد له]
وأما العبد بين الشريكين: فإن أرادا إجباره على النكاح فامتنع.. فهل لهما إجباره؟ فيه قولان، كالعبد لسيد واحد. وإن أراد أحدهما إجباره على النكاح وامتنع السيد الآخر والعبد.. لم يجبر العبد قولا واحدا، لأنه لا حق للسيد الطالب لإنكاحه في ملك السيد الآخر.(9/220)
وإن سأل العبد سيديه أن ينكحاه، فامتنعا..فهل يجبران؟ فيه قولان، كما لو كان لسيد واحد. وإن أجاب أحد السيدين العبد إلى النكاح، وامتنع السيد الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟
قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجبران لو امتنعا معا.. أجبر الممتنع منهما. وإن قلنا: لا يجبران لو امتنعا معا.. فهل يجبر الممتنع منهما؟ فيه وجهان، كالمكاتب إذا امتنع سيده من تزويجه، لأن جنبة العبد قد قويت بانضمام إجابة أحد سيديه له، فكان كالمكاتب.
قال ابن الصباغ: وهذا بعيد، لأنه يملك نصفه ملكا تاما يتعلق حقه بكسبه، بخلاف المكاتب، ويبطل بمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا طلب من سيده النكاح، لأن الحرية فيه أكثر من إجابة مالك نصفه.
[مسألة شرط حضور الشاهدين وصفتهما]
ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ذكرين عدلين، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن البصري، وابن المسيب، والنخعي، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن عمر، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن مهدي، وداود، وأهل الظاهر: (لا يفتقر النكاح إلى الشهادة) . وبه قال مالك، إلا أنه قال: (من شرطه أن لا يتواصوا بكتمانه، فإن تواصوا على كتمانه.. لم يصح النكاح وإن حضره شهود) . وبه قال الزهري.(9/221)
وقال أبو حنيفة: (من شرطه الشهادة، إلا أنه ينعقد بشهادة رجلين فاسقين، وعدوين، ومحدودين، شاهد وامرأتين) .
دليلنا: ما روى عمران بن الحصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» .
وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . ولأنه عقد، فلم يكن من شرط صحته ترك التواصي بالكتمان، كالبيع. ولأن كل ما لم يثبت بشهادة عبدين.. لم يثبت بشهادة فاسقين، كالإثبات عند الحاكم.
[فرع عدالة الشهود ظاهرا وباطنا]
] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والشهود على العدالة، حتى يعلم الجرح يوم وقع النكاح) .
وجملة ذلك: أنه إذا عقد النكاح بحضرة شاهدين، فإن علمت عدالتهما ظاهرا وباطنا.. انعقد النكاح بشهادتهما، وإن عملت عدالتهما في الظاهر، وجهلت في الباطن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ".
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح، لأن ما افتقر ثبوته إلى الشهادة.. لم يثبت بمجهول الحال، كالإثبات عند الحاكم.
والثاني - وهو المذهب، ولم يحك الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره-: أن النكاح صحيح، لأن الظاهر العدالة، ولأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة.. لم ينعقد النكاح إلا بحضرة الحاكم؛ لأن العامة لا يعرفون شروط العدالة، وقد أجمع المسلمون: على جواز انعقاده بغير حضور الحاكم.
فإذا قلنا بهذا: فبان أنهما فاسقان، فإن حدث هذا الفسق بعد العقد.. لم يؤثر،(9/222)
لأن الاعتبار وجود العدالة حال العقد.. وإن بان أنهما فاسقان حال العقد.. لم يصح النكاح، لأن فسقهما ينافي قبول شهادتهما على النكاح.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان فسقهما حال الشهادة. وليس بشيء.
فإن ترافع الزوجان إلى الحاكم، وأقرا بالنكاح، وأنه عقد بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة، واختصما في حق من حقوق الزوجية، كالنفقة والكسوة وما أشبههما.. فإن الحاكم يحكم بينهما فيما احتكما فيه، ولا ينظر في حال عدالة الشاهدين في الباطن، إلا أن يعلم أنهما فاسقان.. فلا يحكم بينهما.
فإن جحد أحد الزوجين الآخر، فأتى المدعي منهما بشاهدين، فإن علم الحاكم عدالتهما ظاهرا وباطنا حين عقد النكاح.. حكم بصحة النكاح. وإن علم فسقهما حال الشهادة.. لم يحكم بصحة العقد، بل يحكم بفساده على المذهب. وإن عرف أنهما كانا عدلين في الظاهر، وجهل عدالتهما في الباطن.. فلا يجوز أن يحكم بصحة العقد ولا بفساده، بل يتوقف إلى أن يعلم عدالتهما في الباطن، لأنه لا يجوز أن يحكم بشهادة شاهد إلا بعد المعرفة بحاله ظاهرا وباطنا، بخلاف ما لو أقرا بالنكاح. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وذكر ابن الصباغ: أن الرجل إذا ادعى نكاح امرأة بولي وشاهدي عدل، فأقام شاهدين عند الحاكم.. فإنه يبحث عن حالهما حين الحكم، ولا يبحث عن حالهما حين العقد. والأول أصح.
وهل ينعقد النكاح بشهادة أعميين، أو أعمى وبصير؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينعقد، لأن الأعمى من أهل الشهادة.
والثاني: لا يصح، لأنه لا يعرف العاقد، فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد.(9/223)
وهل ينعقد بشهادة أخرسين، أو أخرس وناطق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينعقد. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب، لأن الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والأخرس لا يتأتى منه ذلك.
والثاني: ينعقد. قال القاضي أبو الطيب: وهو المذهب، لأن إشارته إذا كانت مفهومة.. تقوم مقام عبارة وغيره.
وهل ينعقد بشهادة أصحاب الصنع الدنية، مثل: الحجام والحائك والكناس وغيرهم؟ فيه وجهان، بناء على جواز قبول شهادتهم في سائر الحقوق، ويأتي بيانهما في موضعهما، إن شاء الله تعالى.
وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو بشهادة أبيه وجده، أو بشهادة عدوي أحد الزوجين.. صح النكاح، لأن النكاح يثبت بشهادتهما، وهو: إذا شهد الابنان على والدهما، أو شهد العدوان لعدوهما.
وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو ابن لهذا وابن لهذا، أو جد هذا وجد هذا، أو عدوين لهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينعقد، لأنهما من أهل الشهادة في النكاح في الجملة.
والثاني: لا ينعقد، لأنه لا يثبت بشهادتهما بحال من الأحوال.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينعقد بشهادة العدوين وجها واحدا، لأن العداوة قد تزول.
[فرع ما يشترط في حضور وسماع الشاهدين]
وليس من شرط الشهادة إحضار الشاهدين، بل لو حضر الشاهدان لأنفسهما، وسمعا الإيجاب والقبول.. صح ذلك. ولو سمعا الإيجاب والقبول، ولم يسمعا(9/224)
الصداق.. صح النكاح، لأن الصداق ليس بشرط في النكاح. وإن سمع أحد الشاهدين الإيجاب، وسمع الآخر القبول.. لم يصح النكاح، لأنهما شرط في الإيجاب والقبول.
[فرع ما يشترط في ولي الكتابية والشاهدين]
إذا تزوج المسلم كتابية.. فإنه يتزوجها من وليها الكافر، إذا كان عدلا في دينه، ولا يصح إلا بحضرة شاهدين مسلمين عدلين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يصح أن يتزوجها إلا من المسلم) .
وقال أبو حنيفة: (يتزوجها من وليها الكافر، ويصح أن يكون بشهادة كافرين) .
دليلنا - على أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] . فدل على: أنه لا ولاية لهم على الكافرين.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما شاهدان لا يثبت بهما نكاح المسلمة، فلم يثبت نكاح الكافرة، كالعبدين. والفرق بين الولي والشاهدين: أن الولي إنما أريد لدفع العار عن النسب، والكافر كالمسلم في دفع العار. والشاهدان يرادان لإثبات الفراش عند جحد أحد الزوجين، وليس الكافر كالمسلم في إثبات الفراش، لأنه لا يثبت بشهادته الفراش. ولأن الولي يتعين في العقد، فتأكد حاله، فجاز أن يكون كافرا، والشاهد لا يتعين، فلم يجز أن يكون كافرا.
[فرع اختلاف حال الشاهدين بين الإيجاب والقبول وشهادة الخثنى]
فإن حضر عقد النكاح عبدان أو كافران، فوقع الإيجاب في حال رقهما أو في حال كفرهما، ووقع القبول في حال عتقهما أو في حال إسلامهما.. لم يصح، لأنه يشترط كمالهما عند الإيجاب والقبول
وإن عقد النكاح بشهادة رجل وخنثى، أو بشهادة خنثيين.. لم يصح، لأنه لا يتيقن كونه رجلا. فلو بان أنه رجل في الأولى، أو بانا رجلين في الثانية.. قال(9/225)
القاضي: احتمل أن يكون في العقد وجهان، كما لو صلى رجل خلف خنثى، فبان أنه رجل قبل أن يقضي المؤتم به.
[مسألة اختلاف الزوجين بحال الشاهدين]
] : إذا اختلف الزوجان، فقالت الزوجة: عقدنا بشهادة فاسقين، وقال الزوج: عقدنا بشهادة عدلين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر العدالة.
والثاني: القول قول الزوجة مع يمينها، لأن الأصل عدم العدالة وعدم العقد.
إذا ثبت هذا: فالذي يقتضي المذهب: أن الزوج لو مات والزوجة باقية.. فإنها لا ترثه، لأنها تقر: أنها ليست بزوجة له. وأما المهر: فإن مات قبل أن يدخل بها: أو طلقها قبل الدخول.. فإنها لا تستحق عليه مهرا، لأنها لا تدعيه. وإن دخل بها.. فإنها لا تستحق عليه إلا أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنه إن كان المسمى أقل.. لم يجب لها أكثر منه بيمين الزوج، وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب لها أكثر منه، لأنها لا تدعي الزيادة.
وإن قال الزوج: عقدنا بشهادة فاسقين، وقالت المرأة: عقدنا بشهادة عدلين.. فمن القول قوله؟ على الوجهين الأولين. وعلى كلا الوجهين: يحكم عليه بانفساخ النكاح، لأنه أقر بتحريمها عليه.
فإن كان ذلك قبل الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. فلا شيء عليه. وإن قلنا: القول قولها، أو نكل فرد عليها اليمين فحلفت.. وجب لها نصف المسمى.
وإن كان ذلك بعد الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. لزمه أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنها لا تدعي أكثر من المسمى. وإن قلنا: القول قولها فحلفت، أو قلنا: القول قوله فنكل، وحلفت.. لزمه المسمى.(9/226)
وإن ماتت قبله.. لم يرثها، لأنه يقر: أنها ليست له بزوجة. وإن مات قبلها، فإن قلنا: القول قوله، فمات قبل أن يحلف.. انتقلت هذه اليمين إلى سائر ورثته، فيحلفون: أنهم لا يعلمون أنه تزوجها بشهادة عدلين. ولا ترث معهم. وإن قلنا: القول قولها.. حلفت: أنه نكحها بشهادة عدلين. وورثته.
[مسألة تعيين المرأة في النكاح]
مسألة: [لا بد في النكاح من تعيين المرأة] :
إذا أراد عقد النكاح على امرأة.. فلا بد أن تتميز عن غيرها بالمشاهدة، أو بالصفة، أو بالتسمية. فإذا كان له ابنة واحدة وهي حاضرة، فإن قال: زوجتك هذه.. صح، ولم يحتج إلى ذكر اسمها، ولا إلى صفتها. وإن قال: زوجتك ابنتي هذه، وزوجتك هذه عائشة.. صح، لأنها تميزت بالإشارة، وكان ما زاد تأكيدا. وإن كان اسمها عائشة، فقال: زوجتك هذه فاطمة.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأنه لا حكم لتغيير الاسم مع الإشارة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح؟ فيه وجهان، وبناء على الوجهين فيما لو قال: بعتك هذا البغل، وكان حمارا، أو فرسا.
وإن كان له ابنة واحدة اسمها عائشة، وهي غائبة عنهما، فإن قال: زوجتك ابنتي.. صح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف، وليس له غيرها. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة.. صح، لأن النكاح ينعقد بقوله: ابنتي، فإذا سماها باسمها.. كان تأكيدا. وإن قال: زوجتك ابنتي فاطمة، فغير اسمها.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف ولا تتغير، والاسم يتغير ويختلف، فاعتبر حكم الصفة اللازمة، وألغي الاسم.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يصح، ولم يذكر له وجها.
وإن قال: زوجتك عائشة، وقصد ابنته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق، والطبري في(9/227)
" العدة "، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه يصح، لأنها تتميز بالنية. وإن لم يقصد ابنته.. لم يصح.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن هذا العقد يعتبر فيه الشهادة، فلا بد أن يكون العقد مما يصح أداء الشهادة على وجه يثبت به العقد، وهذا متعذر في النية. ولم أجد فيما قرأت من تعليق الشيخ أبي حامد، وفي " المجموع " إلا أنه لا يصح من غير تفصيل، لأن هذا الاسم يقع على ابنته وعلى من اسمها عائشة، فلا تتميز بذلك عن غيرها.
فإن كانت له ابنتان: كبيرة اسمها عائشة، وصغيرة اسمها فاطمة، فإن قال: زوجتك ابنتي، أو إحدى ابنتي.. لم يصح؛ لأن المزوجة غير متميزة. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، أو ابنتي الكبيرة.. صح، لأنه قد ميزها بالصفة أو بالاسم، وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة عائشة.. صح، لأن هذا آكد.
وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة فاطمة، فغير اسمها.. صح العقد على الكبيرة، لأن الاعتبار بالصفة دون الاسم. وهكذا إن قال: زوجتك ابنتي الصغيرة عائشة، فغير اسمها.. صح النكاح على الصغيرة، ولا يضر تغييره للاسم. وعلى قول المسعودي [في" الإبانة "] في التي قبلها: لا يصح هاهنا.
وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، واسم الصغيرة فاطمة، فقبل الزوج وهو ينوي الصغيرة أيضا.. قال الشيخ أبو حامد: ينعقد النكاح على الصغيرة، لاتفاق نيتهما، ولا يضر تغيير الاسم.
وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، وقبل الزوج وهو ينوي الكبيرة.. انعقد النكاح في الظاهر على الكبيرة، لأنه أوجب نكاحها له فقبله، وفي الباطن هو مفسوخ، لأنه أوجب له النكاح في الصغيرة، فقبل في الكبيرة.
وإن قال: زوجتك ابنتي، فقبل الزوج، ونويا الكبيرة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: صح، لأنها تميزت بالنية.
وقال ابن الصباغ: لا يصح، لأنه لا يمكن أداء الشهادة في هذا.(9/228)
[فرع اختلاف البنتين على العقد بعد وفاة وليهما]
وإن كان لرجل ابنتان، فزوج رجلا إحداهما بعينها، ثم مات الأب، وادعت كل واحدة اثنتين على الزوج أنها هي التي زوجها أبوها منه، فإن أنكرهما.. حلف لكل واحدة منهما يمينا، وإن أقر لإحداهما.. ثبتت زوجيتها. فإن ادعت عليه الأخرى النكاح بعد ذلك.. قال ابن الحداد: لم تسمع دعواها، لأنه قد أقر بتحريمها على نفسه. وإن ادعت عليه نصف المهر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف لها.. فلا كلام، وإن نكل.. حلفت، ووجب لها نصف المسمى الذي ادعته.
وإن لم يدعيا عليه، ولكنه ادعى على إحداهما أنها زوجته، فإن أقرت له.. ثبت النكاح بينهما وإن أنكرت.. حلفت له، وسقطت دعواه. وإن نكلت، فحلف.. ثبت نكاحها له. فإن ادعى بعد ذلك على الأخرى.. لم تسمع دعواه. قال ابن الحداد: ووجب عليه لها نصف مهرها.
قلت: وينبغي أنه لا يثبت لها ذلك إلا إذا ادعته، فأما إذا لم تدعه.. لم يثبت لها. قال ابن الحداد: ويكون ذلك إبطالا لنكاح التي أقر بنكاحها أولا، ويجب لها نصف مهرها إن لم يدخل بها، وجميع مهرها إن كان قد دخل بها.
[فرع تزويج الحمل]
فرع [لا يصح تزويج الحمل] : إذا قال زوجتك حمل هذه المرأة إن كان ابنة.. لم يصح النكاح، لأنه قد يكون ريحا فينفش فلا يتحقق وجوده، وقد يكون ذكرا، وقد يكون ابنتين فلا يعلم أيتهما المعقود عليها، وهذا غرر من غير حاجة، فلم يصح.
[فرع الكتابة للولي بطلب التزويج لا تعد وكالة]
إذا كتب رجل إلى الولي: زوجني ابنتك، فقرأه الولي أو غيره بحضرة شاهدين، فقال الولي: زوجته.. لم ينعقد النكاح.(9/229)
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: (يصح) .
دليلنا: أنه لم يوكل القارئ.. فلم يصح، كما لو استدعاه من غائب، فبلغه، فأوجب.
[مسألة ما يقول في خطبة النكاح]
وإذا أراد العقد.. خطب الولي، أو الزوج، أو أجنبي، فيحمد الله تعالى، ويصلي على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويرغب في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله.. فهو أبتر» ، والنكاح من الأمور التي لها بال. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب لما أراد تزويج فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
والخطبة مستحبة غير واجبة. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (إنها شرط في النكاح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، ولم يشترط الخطبة. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوج الواهبة ولم يخطب» ، و: «تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولم يخطب» .
إذا ثبت هذا: فللنكاح خطبتان:
إحداهما: تتقدم العقد.
والثانية: تتخلله.
فأما التي تتقدم العقد: فيستحب أن يخطب، لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(9/230)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب، فيقول: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله.. فلا مضل له، ومن يضلل.. فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] [النساء:1] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] [آل عمران:102] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] [الأحزاب: 70-71] » .
قال الشيخ أبو حامد: وقد روي في بعض الروايات: أنه قال في الثلاث الآيات: " يا أيها الناس ".
قال: وحكي عن بعض المتأخرين: أنه كان يقول: «المحمود الله، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله» .
قال: وزاد بعضهم، فكان يقول: «المحمود الله ذو الجلال والإكرام، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله المفرق بين الحلال والحرام» . ويستحب أن يقول في النكاح مما أمر الله به وندب إليه.
وأما الخطبة التي تتخلل العقد: فبأن يقول الولي: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على محمد رسول الله، أوصيكم بتقوى الله. ويقول - كما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنكحتك على ما أمر الله به، ومن إمساك بمعروف أو تسريحٍ(9/231)
بإحسان، ثم يقول الزوج: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله، قبلت نكاحها. فاختلف أصحابنا في صحة العقد مع ذلك:
فذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ: أن ذلك يصح، لأن الخطبة متعلقة بالنكاح، فلم يؤثر فصلها بين الإيجاب والقبول، كالتيمم بين صلاتي الجمع.
وحكى الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا: أن الفصل بين الإيجاب والقبول بالخطبة يبطل العقد، كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم، فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد.
ويكره أن يقال للزوج بعد العقد: بالرفاء والبنين، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقال: بالرفاء والبنين» ، ولكن يستحب أن يقال له: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال له ذلك» .
قال الأصمعي: والرفاء يكون من الاتفاق وحسن الاجتماع، ومنه أخذ رفؤ الثوب، لأنه يضم بعضه إلى بعض ويلأم، ويكون من الهدوء والسكون. قال الشاعر:(9/232)
رفوني, وقالوا: يا خويلد! لم ترع ... فقلت, وأنكرت الوجوه: هم هم
يقول: سكنوني.
[مسألة لفظ النكاح أو التزويج شرط في عقد النكاح]
ولا ينعقد النكاح- عندنا- إلا بلفظ النكاح أو التزويج، وهما اللفظتان اللتان ورد بهما القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] [الأحزاب:37] .
فأما لفظ البيع والتمليك والهبة والإجارة وغيرها من الألفاظ.. فلا ينعقد بها النكاح. وبه قال عطاء، وابن المسيب، والزهري، وربيعة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك، كالبيع، والتمليك، والهبة، والصدقة) . وفي لفظ الإجارة عنه روايتان، (ولا ينعقد بلفظ: الإباحة والتحليل) .
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن ذكر المهر مع الألفاظ التي تقتضي التمليك.. انعقد بها النكاح، وإن لم يذكر المهر.. لم ينعقد بها النكاح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، فذكر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، وأن غيره لا يساويه. ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح، فلم ينعقد به النكاح، كالإجارة والإباحة.
[مسألة ألفاظ الإيجاب والقبول]
مسألة: [صور من ألفاظ الإيجاب والقبول] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والفرج محرم قبل العقد، فلا يحل أبداً إلا بأن يقول الولي: قد زوجتكها أو أنكحتكها، ويقول الزوج: قد قبلت تزويجها أو نكاحها) .(9/233)
وجملة ذلك: أن الولي إذا قال: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، أو قال: أنكحتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت النكاح أو التزويج.. صح ذلك، لأنه قد وجد الإيجاب والقبول في النكاح أو التزويج.
فإن قال الولي: زوجتك ابنتي، أو أنكحتك، فقال الزوج: قبلت ولم يقل النكاح ولا التزويج.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (يصح) ، وقال في موضع: (لا يصح) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: لا يصح قولاً واحداً، وحيث قال: (يصح) أراد: إذا قبل الزوج قبولاً تاماً.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح قولاً واحداً، وحيث اشترط الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ النكاح أو التزويج في القبول.. أراد على سبيل التأكيد.
وهذا لا يصح، لأنه قال: (لا ينعقد النكاح) .
و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: هي على قولين- وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ -:
أحدهما: يصح- وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما- لأن قوله: (قبلت) إذا ورد على وجه الجواب عن إيجاب متقدم.. كان المراد به قبول ما تقدم فصح، كما لو قال: بعتك داري، أو وهبتكها، فقال: قبلت.. فإنه يصح.
والثاني: لا يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لأن الاعتبار في النكاح أن يحصل الإيجاب والقبول فيه بلفظ النكاح أو التزويج، فإن عري القبول منه.. لم يصح، كما لو قال رجل لآخر: زوجت ابنتك من فلان، فقال الولي: نعم، وقال الزوج: قبلت النكاح.. فإن هذا لا يصح بلا خلاف.
وإن قال الولي: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: نعم.. قال الصيمري: هو كما لو قال الزوج: قبلت، على الطرق الثلاث.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يصح قولاً واحداً.
وإن قال الزوج: زوجني ابنتك، فقال الولي: زوجتك.. صح ذلك، ولا يفتقر(9/234)
الزوج إلى أن يقول: قبلت نكاحها- وقد وافقنا أبو حنيفة هاهنا، وخالفنا في البيع- لما روي: أن الذي تزوج الواهبة قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجنيها يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها» ، ولم يأمره بالقبول بعد هذا.
وإن قال الزوج: أتزوجني ابنتك؟ فقال الولي: زوجتك.. لم يصح حتى يقول الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، لأن قوله: أتزوجني؟ استفهام وليس باستدعاء.
ولو قال الولي: أتستنكحها؟ فقال الزوج: قد استنكحت، أو قد تزوجت.. لم يكن بد من قول الولي بعد هذا: زوجتك أو أنكحتك، لأن ما تقدم إنما كان استفهاماً ولم يكن عزيمة.
[فرع عقد النكاح بغير العربية]
وإن عقد النكاح بالعجمية: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد.. إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية وجهاً واحداً، وإن كانا لا يحسنان العربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يصح.
وقال القاضي أبو الطيب.. إن كانا لا يحسنان العربية.. صح العقد بالعجمية وجها واحدا، وإن كانا يحسنان بالعربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يصح العقد بالعجمية بكل حال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» ، وكلمة الله إنما هي بالعربية.(9/235)
والثاني: إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية، وإن كانا لا يحسنان العربية.. صح عقده بالعجمية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام.
والثالث: يصح العقد بالعجمية بكل حال، لأن لفظ العجمية يأتي على ما تأتي عليه العربية في ذلك.
وإن كان أحدهما يحسن العربية ولا يحسن العجمية، والآخر يحسن العجمية ولا يحسن العربية، وقلنا: يصح العقد بالعجمية.. صح العقد بينهما بشرط أن يفهم القابل أن الولي أوجب له النكاح، لأنه إذا لم يفهم.. لا يصح أن يقبل.
وهكذا: إذا حضر شاهدان أعجميان وعقد بالعربية، أو عربيان وعقد بالعجمية.. فلا يصح إلا إذا فهما أن العاقدين عقدا النكاح، لأن الغرض بالشاهدين معرفتهما بالعقد وتحملهما الشهادة.
[فرع تخلل وقت بين القبول والإيجاب أو طروء جنون ونحوه]
إذا تخلل بين الإيجاب والقبول زمان طويل.. لم يصح، وإن تخلل بينهما زمان يسير يجري مجرى بلع الريق وقطع النفس.. صح، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه.
قال الصيمري: ولو صبر الزوج بعد الإيجاب بعض ساعة، فقبل.. ففيه وجهان. وإن أوجب الولي، فزال عقله بإغماء أو جنون، ثم قبل الزوج، أو استدعى الزوج النكاح، ثم زال عقله قبل إيجاب الولي، ثم أوجب له الولي.. لم يصح.
وإن أذنت المرأة لوليها في النكاح، ثم أغمي عليها، أو جنت قبل التزويج.. بطل إذنها، لأن العقد جائز قبل إتمامه، وكذلك الإذن، فانفسخ لما ذكرناه، كالوكالة والشركة.
[فرع توكيل من تقبل النكاح]
وإذا وكل الزوج من يقبل له النكاح، أو قبل الأب لابنه الصغير.. فإن النكاح لا يصح حتى يسمى الزوج في الإيجاب والقبول، فيقول الولي: زوجت فلانة فلاناً-(9/236)
ويسمي الزوج- ويقول القابل من قبل الزوج: قبلت النكاح لفلان- ويسمي الزوج- بخلاف الوكيل في الشراء، فإنه لا يجب ذكر الموكل، لأن النكاح لا يقبل نقل الملك فيه- أي: أن الرجل لا يجوز أن يتزوج امرأة، ثم ينتقل نكاحها منه إلى غيره- والملك في المال يقبل النقل، أي: أنه يجوز أن يتملك الرجل عيناً، ثم ينتقل ملكها منه إلى غيره.
قال الطبري: ولهذا قال أصحابنا: لو قال رجل لآخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من زيد، فزوجها من وكيل زيد.. صح، لأنه في الحقيقة زوجها من زيد. ولو قال: وكلتك أن تبيع عبدي هذا من زيد، فباعه من وكيل زيد.. لم يصح لهذا المعنى.
[فرع عقد النكاح ملزم]
وإذا انعقد النكاح.. لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الثلاث، وقد مضى ذلك في البيع.
والله أعلم بالصواب.(9/237)
[باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم]
لا يصح نكاح المرتد والمرتدة، لأن القصد بالنكاح الاستمتاع، وذلك لا يوجد في حقهما، لأنهما يقتلان، ولأن الردة تقتضي إبطال النكاح قبل الدخول، فلا ينعقد النكاح معها، كالرضاع.
ولا يصح نكاح الخنثى المشكل، لأنه لا يدرى أنه رجل أو امرأة، فإن أخبر الخنثى: أنه يشتهي النساء فزوج بامرأة.. صح النكاح.
وإن حمل هذا الخنثى.. تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلاً، لأن الحمل دليل على الأنوثية من طريق القطع.
[مسألة المحرمات من النساء بالنسب]
النساء اللاتي نص الله تعالى على تحريمهن في القرآن أربع عشرة امرأة، ثلاث عشرة بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وواحدة في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] .
فسبع منهن حرمن بالنسب، واثنتان بالرضاع، وأربع بالمصاهرة، وواحدة بالجمع. فالسبع المحرمات بالنسب: الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] .
فأما (الأم) : فيحرم عقد النكاح عليها ووطؤها، للآية.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من قال: تحريم وطئها علم بالعقل. وليس بشيء. وسواء في التحريم الأم حقيقة- وهي: التي ولدته- والأم مجازاً- وهي: جدته أم أمه وأم أبيه- وكذلك كل جدة من قبل أبيه أو أمه وإن علت.(9/238)
وأما (البنت) : فيحرم عليه البنت التي يقع عليها اسم البنت حقيقة، وهي: بنته لصلبه، والبنت التي يقع عليها اسم البنت مجازاً، وهي: بنت بنته، وبنت ابنه وإن سفلت.
وأما (الأخت) : فتحرم عليه، سواء كانت لأب وأم، أو لأب، أو لأم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] .
وأما (العمة) : فيحرم عليه من يقع عليها اسم العمة حقيقة- وهي: أخت أبيه-سواء كانت أخته لأبيه وأمه، أو لأبيه، أولأمه، ويحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم العمة مجازاً، وهي: كل أخت لجد من أجداده من قبل أبيه أو من قبل أمه.
وأما (الخالة) : فيحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم الخالة حقيقة-وهي: أخت أمه لأبيها وأمها، أو لأبيها، أو لأمها- ويحرم عليه من يقع عليها اسم الخالة مجازاً، وهي: أخت كل جدة له من قبل أمه أو أبيه.
وأما (بنت الأخ) : فيحرم عليه بنت أخيه حقيقة- وهي: بنت أخيه لصلبه- ويحرم عليه بنت أخيه مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخيه بالبنوة من قبل أبنائه وبناته وإن سفلت.
وأما (بنت الأخت) : فيحرم عليه بنت أخته حقيقة- وهي: بنت أخته لصلبه- ويحرم عليه بنت أخته مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخته بالبنوة من بنات أبنائها وبناتها وإن سفلت. وهل يحرم كل من يقع عليها الاسم مجازاً بالاسم، أو بالقياس على من وقع عليها الاسم حقيقة؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يحرم بوقوع الاسم عليها، بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] [الحج: 78] ، بقوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف:38] ، فأطلق عليهم اسم البنوة والأبوة مع البعد.
إذا ثبت هذا: فقد عبر بعض أصحابنا عن المحرمات بالنسب، فقال: يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول لأول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده.
وهي عبارة حسنة، لأن (أصوله) : من ينتسب الرجل إليه بالبنوة من الأمهات،(9/239)
و (فصوله) : من ينسب إلى الرجل بالبنوة، و (فصول أول أصوله) : الأخوات وأولادهن وبنات الإخوة، و (أول فصل من كل أصل بعده) : العمات والخالات، فاحترز عن بنات العمات وبنات الخالات، بقوله: وأول فصل من كل أصل بعده.
[مسألة المحرمات بالرضاعة]
وأما الاثنتان المنصوص على تحريمهما بالرضاع: فالأم والأخت، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] [النساء:23] .
فمتى كان للرجل زوجة، وثار لها لبن من وطئه، فأرضعت به طفلاً، له دون الحولين خمس رضعات متفرقات.. صار كالولد لهما من النسب، وصارا كالوالدين له من النسب في تحريم النكاح وجواز الخلوة، فيحرم عليهما نكاحه ونكاح أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا، لأنه ولدهما.
ويحرم على الرضيع نكاح الأم من الرضاع الحقيقة والمجاز، والأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، والعمة من الرضاع الحقيقة والمجاز، والخالة من الرضاع الحقيقة منهن والمجاز، وبنت الأخ من الرضاع الحقيقة والمجاز، وبنت الأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، على ما ذكرناه في المحرمات من النسب، لأن الله تعالى نص على السبع المحرمات بالنسب، ونص على الأم والأخت من الرضاع، لينبه بهما على من تقدم ذكرهن من المحرمات بالنسب.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، وفي رواية: «ما يحرم من الولادة» . ويقال: الرضاع بكسر الراء وفتحها، فإما الرضاعة: فإنها بفتح الراء لا غير.(9/240)
[مسألة المحرمات بالمصاهرة]
وأما الأربع المنصوص على تحريمهن بالمصاهرة: فأم الزوجة، والربيبة، وحليلة الابن، وحليلة الأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء: 23] .
فأما (أما الزوجة) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه كل أم لها، حقيقة أو مجازاً، من جهة النسب أو من جهة الرضاع، سواء دخل بها أو لم يدخل. وبه قال عامة العلماء، إلا ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يحرم عليه إلا بالدخول بالبنت) ، كالربيبة. وبه قال مجاهد رحمة الله عليه.
وقال زيد: (الموت يقوم مقام الدخول) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] وبالعقد عليها تدخل في اسم نساء العاقد عليها.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم ابنتها»(9/241)
وأما (الربيبة) : فهي بنت زوجته، فإذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه ابنتها حقيقة ومجازاً، من النسب والرضاع، تحريم جمع، فإن دخل بالأم.. حرمت عليه ابنتها على التأبيد، وإن ماتت الزوجة أو طلقها قبل أن يدخل بها.. جاز له أن يتزوج بابنتها. وسواء كانت الربيبة في حجره وكفالته أو لم تكن.. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال داود: (إنما تحرم عليه الربيبة إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في حجره وكفالته.. لم تحرم عليه وإن دخل بأمها) ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
وقال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تحرم عليه إذا دخل بأمها أو ماتت) .
دليلنا: ما روى [ابن] عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم عليه ابنتها» وأما التربية: فلا تأثير لها في التحريم، كتربية الأجنبية. وأما الآية: فلم يخرج ذلك مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفاً لها، لأن العادة أن الربيبة. تكون في حجره.
وأما (حليلة الابن) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت على أب الزوج، سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وبالعقد عليها يقع عليها اسم الحليلة. وسواء كان ابنه حقيقة أو مجازاً، وسواء كان ابنه من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه المحرمات من(9/242)
النسب. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فدليل خطابه يدل على: أنه لا تحرم حلائل الأبناء من الرضاع؟
فالجواب: أن دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه نص، وهاهنا عارضه نص أقوى منه فقدم عليه، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» .
وأما (حليلة الأب) : فإن الرجل إذا تزوج امرأة.. حرمت على ابن الزوج، سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، ولا فرق بين الأب حقيقة أو مجازاً، وسواء كان الأب من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه في المحرمات من النسب.
[مسألة الجمع بين الأختين]
فأما المنصوص على تحريمها في القرآن بالجمع: فهي أخت الزوجة، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح، سواء كانتا أختين لأب وأم أو لأب أو لأم وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] [النساء:23] . ولأن العادة جارية أن الرجل إذا جمع بين ضرتين تباغضتا وتحاسدتا، وتتبعت كل واحدة منهما عيوب الأخرى وعوراتها، فلو جوزنا الجمع بين الأختين.. لأدى ذلك إلى تباغضهما وتحاسدهما، فيكون في ذلك قطع الرحم بينهما ولا سبيل إليه، وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن تزوجهما معاً في عقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهما، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، فبطل الجمع، كما لو ابتاع درهماً بدرهمين.
وإن تزوج إحداهما، ثم تزوج الثانية.. بطل نكاح الثانية دون الأولى، لأن الجمع اختص بالثانية.
[فرع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها]
وصور أخرى] : ويحرم عليه الجمع بين المرأة وعمتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب.(9/243)
ويحرم عليه الجمع بين المرأة وخالتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب.
وحكي عن الخوارج والروافض: أنهم قالوا: لا يحرم!
دليلنا: ما روى أبو داود في "سننه " عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على ابنة أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على ابنة أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» ولأن كل امرأتين لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يجز له التزوج بالأخرى بالنسب، فوجب أن لا يجوز الجمع بينهما في النكاح، كالأختين.
ولا يجوز أن يجمع بين المرأة وخالة أمها، أو عمة أمها، لما ذكرناه من العلة.
ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الأول من غيرها.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك، لأنك لو قلبت ابنة الرجل ذكراً.. لم يحل له نكاح امرأة أبيه، فهما كالأختين.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] . ولأنك لو قلبت امرأة الرجل ذكراً.. لحل له نكاح الأخرى. ويخالف الأختين، فإنك لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يحل له نكاح الأخرى.(9/244)
ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين زوجة أبيها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع.
وكذلك إذا تزوج رجل له ابنة امرأة لها ابنة.. فيجوز لآخر أن يجمع بين ابنة الزوج وابنة الزوجة، لأنه إذا جاز أن يجمع بين بنته وامرأته.. فلأن يجوز أن يجمع بين ابنته وابنة امرأته أولى.
ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين ابنة ضرتها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع.
وإن تزوج رجل له ابن بامرأة لها ابنة.. جاز لابن الزوج أن يتزوج بابنة الزوجة، لما روي: (أن رجلا له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام) .
ولأنه لا نسب بينهما ولا رضاع. فإن قيل: أليس الرجل لو أولد من المرأة ولداً.. كان أخا أو أختا لولديهما، فكيف يجوز له أن يتزوج بأخت أخيه؟
قلنا: إنما لا يجوز له التزوج بأخت نفسه، فأما بأخت أخيه أو أخته: فلا يمنع منه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً من امرأته.. كان ولد الأب عم ولد الابن وخاله.
وإن تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها.. جاز، لأن أمها محرمة على أبيه دونه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً.. كان ولد الأب عم ولد الابن، وولد الابن خال ولد الأب.
[فرع طلق امرأة وأراد التزوج مما لا يجوز جمعها معها]
وإن تزوج رجل بامرأة ثم طلقها وأراد أن يتزوج بأختها أو عمتها أو خالتها، أو تزوج بأربع نسوة فطلقهن وأراد أن ينكح أربعاً غيرهن، أو طلق واحدة منهن وأراد أن(9/245)
يتزوج غيرها، فإن كان الطلاق قبل الدخول.. صح تزويجه بلا خلاف، لأنه لا عدة له على المطلقة.
وإن كان بعد الدخول، فإن كان الطلاق رجعياً.. لم يصح تزويجه قبل انقضاء العدة، لأن المطلقة في حكم الزوجات. وإن كان الطلاق بائناً.. صح تزويجه- عندنا- قبل انقضاء العدة. وبه قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومالك والزهري رحمهما الله.
وقال الثوري وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا يصح) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
دليلنا: أن المطلقة بائن منه، فجاز له عقد النكاح على أختها، كالبائن قبل الدخول.
[فرع قول المرأة في انتهاء عدتها]
فرع: [قبول قول المرأة في انتهاء عدتها] :
قال في " الإملاء ": (فإن تزوج رجل امرأة فطلقها طلاقاً رجعياً، ثم قال الزوج: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، فأنكرت.. لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وكسوتها وسائر حقوقها) ، لأنه حق لها، فلا يقبل قوله في إسقاطه.
وإن أراد أن يتزوج بأختها أو عمتها، وصادقته التي يتزوجها على ذلك.. صح تزويجه، لأن الحق لله تعالى وهو مقدر فيما بينه وبينه.(9/246)
[فرع أسلم زوج الوثنية ثم تزوج أختها أو أربعا في حال عدتها]
وإن تزوج وثني وثنية ودخل بها، ثم أسلم وأقامت على الشرك، فتزوج أختها أو أربعاً سواها في حال عدتها.. لم يصح.
وقال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون نكاح أختها أو الأربع موقوفاً، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن نكاح أختها أو الأربع سواها لم يصح، وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. صح نكاح أختها أو الأربع سواها، لأنه لما جاز وقف نكاحها.. جاز وقف نكاح أختها أو الأربع سواها. ولأن عقد النكاح على المرتابة بالحمل يصح وإن كان موقوفاً، فكذلك هذا مثله.
وهذا ليس بصحيح، لأن المشركة جارية إلى بينونة، فلم يصح العقد على أختها ولا على أربع سواها، كالرجعية والمرتدة. ولأنه عقد نكاح على من يمكن الاستمتاع بها، فإذا لم يعقبه استباحة استمتاع.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمرتدة- وقولنا: (على من يمكن الاستمتاع بها) احتراز من نكاح الطفلة الصغيرة- ويخالف وقف نكاحها، فإن الموقوف حله، ونكاح الأخت يوقف انعقاده، والنكاح يجوز أن يوقف حله- وهو نكاح المرتدة- ولا يوقف انعقاده، ولهذا: لا يصح نكاح المرتدة. وأما المرتابة: فالأصل عدم الحمل.
[مسألة ملك من لا يصح نكاحها أو الجمع بينهما]
إذا ملك الرجل أمة لا يحل له نكاحها بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة.. لم يحل له وطؤها، لأن الشرع ورد بتحريم نكاحهن على ما مضى، واسم النكاح يقع على الوطء.. ولأن المقصود بعقد النكاح هو الوطء، فإذا حرم عقد النكاح عليها.. فلأن يحرم الوطء أولى.
وإن ملك الرجل أمتين يحرم الجمع بينهما في النكاح، كالأختين، وكالمرأة(9/247)
وعمتها وخالتها.. صح الملك، لأن المقصود بالملك بالمنفعة والنماء دون الاستمتاع، ولهذا: يصح ملكه على ذوات محارمه بخلاف النكاح، فإن أراد أن يجمع بينهما في الوطء.. لم يجز. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23] ، ولم يفرق.
وروي: أن رجلاً دخل على عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فسأله عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، فقال: (أحلتهما آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] [النساء:3]- وحرمتها آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23]- والتحريم أولى) .
وكذلك: روي عن أمير المؤمنين عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ولا مخالف لهم.
إذا ثبت هذا: فإن وطئ إحداهما.. حل له وطؤها وصارت فراشاً له، ولا يحل له وطء أختها ولا عمتها ولا خالتها، إلا إن حرم الموطوءة ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو نكاح. فإن رهنها.. لم يحل له وطء الأخرى، لأنه وإن كان ممنوعاً من وطئها فلم يزل ملكه عن استمتاعه بها وإنما منع من، لحق المرتهن، ولهذا: لو أذن له المرتهن.. جاز، بخلاف المزوجة.(9/248)
وحكي عن قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: إذا استبرأ الموطوءة.. حل له وطء الأخرى.
وهذا ليس بصحيح، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يطأ الأخرى حتى يخرج الموطوءة عن ملكه) . ولأن ذلك لا يمنع من وطئها، فلا يؤمن أن يعود على وطئها.
فإن باع الموطوءة أو كاتبها، ثم وطئ الأخرى، ثم ردت المبيعة لعيب أو فسخ، أو عجزت المكاتبة فرجعت إلى ملكه.. لم تحل له المردودة حتى يحرم الثانية على ما ذكرناه. فإن وطئ إحداهما، ثم وطئ الثانية قبل تحريم الأولى.. فقد فعل فعلاً يأثم به إذا كان عالماً بالتحريم، ولا يجب عليه الحد للشبهة، ولا يحل له أن يعود إلى وطئها حتى يحرم الأولى على ما ذكرناه. فإن أراد أن يعود إلى وطء الأولى.. جاز؛ لأنها صارت فراشاً له قبل وطء الثانية، إلا أن المستحب له: أن لا يعود إلى وطئها حتى يستبرئ الثانية، لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين.
[فرع وطء السيد إحدى الأخوات المختلفات لعبده]
قال ابن الحداد: ولو ملك رجل عبداً له ثلاث أخوات متفرقات، فإن وطئ أخته لأبيه وأمه.. لم يكن له أن يطأ واحدة من الباقيتين حتى يحرم الموطوءة، لأنها أختها. وإن أراد أن يجمع في الوطء بين أخته لأبيه وأخته لأمه.. جاز له، لأنه لا أخوة بين الموطوأتين.(9/249)
[فرع تزوج امرأة أو وطئ أمته ثم ملك أختها أو عمتها]
إذا تزوج رجل امرأة ثم ملك أختها أو عمتها أو خالتها.. لم يحل له وطء المملوكة ما لم تبن المنكوحة منه، لأن المنكوحة على فراشه. وهذا لا خلاف فيه.
وإن ملك أمة ووطئها، ثم تزوج أختها أو عمتها أو خالتها.. صح النكاح، وحل له وطء المنكوحة قبل أن تحرم المملوكة، وحرم عليه وطء المملوكة.
وقال مالك رحمة الله عليه- في إحدى الروايتين عنه-: (لا يصح النكاح) . وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (يصح النكاح، ولا يحل له وطؤها حتى يحرم المملوكة) .
دليلنا - على مالك -: أن النكاح أقوى من ملك اليمين، لأن المرأة تصير به فراشاً بنفس العقد، والأمة لا تصير فراشاً إلا بالوطء، والفراش بالنكاح آكد حكماً، بدليل: أنه يملك به الطلاق والخلع والظهار والإيلاء، ويثبت التوارث بالنكاح، فإذا اجتمعا.. ثبت الأقوى وسقط الأضعف، وسواء تقدم الأقوى أو تأخر، كما لو اجتمع النكاح والملك في امرأة واحدة.. فإن النكاح يبطل ويثبت الملك.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نكاح صحيح في امرأة طاهر غير متلبسة بعبادة، فأبيح له وطؤها، كما لو لم يطأ أختها.
[مسألة التحريم بالوطء أو بالمباشرة بشهوة أو بالنظر للفرج]
وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين صحيح، أو بشبهة ملك، أو بشبهة عقد نكاح، أو ظنها زوجته أو أمته.. حرمت عليه أمهاتها وبناتها على التأبيد، وتحرم الموطوءة على آباء الواطئ وأبنائه على التأبيد، لأنه وطء يتعلق به لحقوق النسب، فتعلق به تحريم المصاهرة، كالوطء في النكاح. ولأنه معنى تصير به المرأة فراشاً، فتعلق به تحريم المصاهرة، كعقد النكاح. هذا هو المشهور من المذهب.(9/250)
وحكى المسعودي [في" الإبانة "] قولاً آخر: أنه لا يتعلق تحريم المصاهرة بوطء الشبهة.. وليس بشيء.
فإذا قلنا بالمشهور.. ففيمن تعتبر الشبهة؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] :
الصحيح: أنها تعتبر بالرجل.
والثاني: تعتبر بأيهما كانت. وليس بشيء.
وإن باشر امرأة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة، بأن قبلها أو لمس شيئا من بدنها.. فهل يتعلق بذلك تحريم المصاهرة، وتحرم به الربيبة على التأبيد؟ فيه قولان:
أحدهما: يتعلق به التحريم- وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمة الله عليهما- لأنه روي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. ولأنه تلذذ بمباشرة، فتعلق به تحريم المصاهرة والربيبة، كالوطء.
فقولنا: (تلذذ) احتراز من المباشرة بغير شهوة. وقولنا: (بمباشرة) احتراز عن النظر.
والثاني: لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا الربيبة-وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فشرط الدخول، وهذا ليس بدخول، ولأنه لمس لا يوجب الغسل، فلم يتعلق به التحريم، كالمباشرة بغير شهوة.
وإن نظر على فرجها بشهوة.. لم يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تحريم الربيبة.
وقال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله: (يتعلق به التحريم) . وحكاه المسعودي [في" الإبانة "] قولا آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وليس بمشهور.
دليلنا: أنه نظر إلى بعض بدنها، فلم يتعلق به التحريم، كما لو نظر إلى وجهها.(9/251)
[فرع تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو زوجة ابنه بشبهة وعكسه]
] : وإن تزوج امرأة ثم وطئ بنتها أو أمها بشبهة، أو وطئ الأب زوجة الابن بشبهة أو وطئ الابن زوجة الأب بشبهة.. انفسخ النكاح، لأنه معنى يوجب تحريما مؤبدا، فإذا طرأ على النكاح.. أبطله، كالرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج رجل امرأة، وتزوج ابنه ابنتها، وزفت إلى كل واحد منهما زوجة صاحبه ووطئها، ولم يعلما، فإن الأول لما وطئ غير زوجته منهما.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الموطوءة من زوجها، لأنها صارت فراشا لأبيه أو ابنه، ويجب عليه الغرم لزوجها، لأنه حال بينه وبين بضع امرأته، وفيما يلزمه له قولان:
أحدهما: جميع مهر المثل.
والثاني: نصفه، كالقولين فيما يلزم المرضعة لزوج الرضيعة إذا انفسخ النكاح بإرضاعها.
وينفسخ نكاح الواطئ الأول من زوجته، لأن أمها أو ابنتها صارت فراشا له، فيجب عليه لامرأته نصف المسمى لها، لأن الفرقة جاءت من جهته.
وأما الواطئ الثاني: فيلزمه مهر المثل للتي وطئها، ولا يجب عليه لزوجها شيء، لأنه لم يحل بينه وبين بضعها، لأن الحيلولة بينهما حصلت بوطء الأول، ولا يجب على الثاني أيضا لزوجته شيء، لأن الفرقة بينهما جاءت من قبلها بتمكينها الأول من نفسها.
فإن عرف الأول منهما والثاني.. تعلق بوطء واحدة منهما ما ذكرناه.. وإن لم يعرف أول منهما من الثاني.. فإنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها على الذي وطئها، وينفسخ النكاحان، ويجب لكل واحدة منهما على زوجها نصف المسمى لها، لأنا نتيقن وجوبه فلا يسقط بالشك، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء، لأن ذلك إنما يجب للثاني على الأول ولم يعلم الأول من الثاني، ويجب على كل واحدة منهما العدة.(9/252)
وإن أتت كل واحدة بولد.. لحق الولد بواطئها، ولا حد على أحدهما.
وهذا، إذا كان الواطئ والموطوءة جاهلين بالتحريم، وإن كانت جاهلة وهو عالم بالتحريم.. ثبت لها المهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها عدة، ولا يلحقه النسب، ولا يثبت بهذا الوطء تحريم المصاهرة، ويجب على الواطئ الحد.
وإن كان الواطئ جاهلا بالتحريم والمرأة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها العدة ولحق النسب به، ويثبت به تحريم المصاهرة، ولا حد عليه ولا مهر، ويجب عليها الحد.
[فرع تزوج امرأة ثم أخرى فبان أن إحداهما أم الأخرى]
وإن تزوج رجل امرأة، ثم تزوج امرأة أخرى، فوطئ إحداهما، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى.. فإن نكاح الأولى صحيح، لأنه لم يتقدمه ما يمنع صحته، ونكاح الثانية باطل، لأن نكاح الأولى يمنع صحة نكاح الثانية.
فأما الواطئ: فإن كان وطئ الأولى.. فقد صادف وطؤه زوجته، واستقر به المسمى لها، ويفرق بينه وبين الثانية، وتحرم عليه الثانية على التأبيد، لأنها إن كانت هي البنت.. فقد وطئ أمها، وإن كانت هي الأم.. فقد عقد على بنتها ووطئها. وإن كانت الموطوءة هي الثانية.. وجب لها عليه مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى، وحرمت عليه على التأبيد، لأنها بنت من وطئها بشبهة أو أمها، ووجب عليه للأولى نصف المسمى لها، لأن الفسخ جاء من جهته. وهل يجوز له أن يتزوج الثانية على الانفراد؟
ينظر فيه.. فإن كانت البنت.. جاز له أن يتزوجها، لأنها ربيبة لم يدخل بأمها، وإن كانت الأم.. لم يجز له تزويجها، لأنه قد عقد النكاح على ابنتها.
وإن وطئهما جميعا، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى، فإن وطئ المنكوحة أولا.. فقد صادف وطؤه زوجته، فاستقر به عليه مهرها المسمى، فلما وطئ الثانية.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى بوطء الثانية، ولا يسقط من مهر الأولى شيء،(9/253)
لأن الفسخ وقع بعد الدخول.. وإن وطئ أولا المنكوحة ثانيا، ثم وطئ بعدها المنكوحة أولا، فإنه لما وطئ المنكوحة ثانيا أولا.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ بهذا الوطء نكاحه من زوجته وهي المنكوحة أولا، ويلزمه لها نصف المسمى لها، فإذا وطئ المنكوحة أولا بعد ذلك.. لزمه لها بهذا الوطء مهر مثلها. وإن أشكل الأمر فلم يعلم المنكوحة أولا من المنكوحة ثانيا، ووطئ إحداهما.. وقف عنهما، لجواز أن يكونا محرمتين عليه على التأبيد. فإن كانت الموطوءة يعلم عينها.. وجب لها أقل الأمرين: من مهر المثل، أو المسمى لها، لأنها تستحق ذلك بيقين، لأنها إن كانت هي المنكوحة أولا.. فلها المسمى، وإن كانت هي المنكوحة ثانيا.. فلها مهر المثل، وتوقف الزيادة حتى يتبين. وإن كانت الموطوءة أيضا مشكلة.. وقف أقل المهرين بينهما حتى يتبين أو يصطلحا.
[مسألة الزنا وتحريم المصاهرة]
إذا زنى الرجل بامرأة لم يثبت بهذا الزنا تحريم المصاهرة.. فلا يحرم على الزاني نكاح المرأة التي زنى بها ولا أمها ولا ابنتها، ولا تحرم الزانية على آباء الزاني ولا على أبنائه.
وكذلك: إذا قبلها بشهوة حراما، أو لمسها، أو نظر إلى فرجها بشهوة حراما. وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ومن التابعين: ابن المسيب، وعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.(9/254)
وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحرم على الزاني نكاحها على التأبيد.
وقال قتادة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد رحمة الله عليهم: (لا يجوز له تزويجها ما لم يتوبا) .
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم: (يتعلق بالزنا تحريم المصاهرة) . وروي ذلك عن عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وانفرد الأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهما أنه: (إذا لاط بغلام.. حرمت عليه بنته وأمه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قبل امرأة بشهوة حراما، أو لمسها بشهوة، أو كشف عن فرجها فنظر إليه.. تعلق به تحريم المصاهرة. وإن قبل أمن امرأته.. انفسخ نكاح امرأته، وإن قبل رجل امرأة أبيه.. انفسخ نكاح الأب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] [الفرقان:54] . فأثبت الله تعالى الصهر في الموضع الذي أثبت فيه النسب، فلما لم يثبت بالزنا النسب لم يثبت به الصهر.
وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوج بها أو بابنتها، فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، وإنما يحرم ما كان بنكاح» .(9/255)
ودليلنا - على قتادة ومن تابعه-: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد قبل الزنا حلال.
وروي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه جلد رجلاً وامرأة، وحرص أن يجمع بينهما في النكاح) .
وسئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوج بها، فقال (يجوز، أرأيت لو سرق رجل من كرم رجل، ثم ابتاعه.. أكان يجوز؟) .
[فرع نكاح الرجل ابنة من زنى بها]
فإن زنى بامرأة فأتت بابنة يمكن أن تكون منه، بأن تأتي بها لستة أشهر من وقت الزنا، فلا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يثبت نسبها من الزاني ولا يتوارثان.
وأما نكاحه لها: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أكره له أن يتزوجها، فإن تزوجها.. لم أفسخ) . واختلف أصحابنا في العلة التي لأجلها كره للزاني التزويج بها:
فمنهم من قال: إنما كره له ذلك ليخرج من الخلاف، فإن من الناس من قال: لا يجوز له نكاحها.
فعلى هذا: لو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه..لم يحرم عليه نكاحها، لأن علة الكراهة حصول الاختلاف لا غير.
ومنهم من قال: إنما كره له ذلك لإمكان أن تكون من مائه، لأنه لم يتحقق ذلك،(9/256)
فلو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه.. لم يجز تزويجها.
هذا مذهبنا. وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: (لا يجوز له تزويجها) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في علة تحريمها:
فقال المتقدمون من أصحابه: إنما حرم نكاحها لكونها ابنة من زنى بها، لا أنها ابنته من الزنا؛ لأن الزنا عنده يثبت به تحريم المصاهرة على ما مضى.
فعلى هذا: لا تحرم على آبائه وأبنائه.
وقال المتأخرون من أصحابه: إنما يحرم نكاحها لكونها مخلوقة من مائه.
فعلى هذا: تحرم على آبائه وأبنائه، وهذا أصح عندهم
دليلنا: أنها منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لا يثبت بينهما التوارث ولا حكم من أحكام الولادة، فلم يحرم عليه نكاحها، كالأجنبية.
فإن أكره رجل امرأة على الزنا، فأتت منه بابنة.. فحكمه حكم ما لو طاوعته على الزنا؛ لأنه زنا في حقه.
[فرع تزويج الرجل من بنت زوجته التي نفاها باللعان]
وإن أتت امرأته بابنة فنفاها باللعان، فإن كان قد دخل بالزوجة.. لم يجز له تزويج ابنتها؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يدخل بالأم.. فهل يجوز له نكاح الابنة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له تزويجها؛ لأنها منفية عنه، فهي كالابنة من الزنا.
والثاني: لا يجوز له تزويجها؛ لأنها غير منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لو أقر بها.. لحقه نسبها، والابنة من الزنا لو عاد الزاني فأقر بنسبها.. لم يلحقه نسبها.(9/257)
[فرع الزنا بمزوجة وحكم نكاحها]
] : وإن زنا رجل بزوجة رجل.. لم ينفسخ نكاحها. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (ينفسخ نكاحها) . وبه قال الحسن البصري.
دليلنا: ما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ قال: " طلقها " قال: إني أحبها، قال: " استمتع بها» ، فكنى الرجل عن الزنا بقوله: «لا ترد يد لامس» ، ولم يحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بانفساخ نكاحها.
[فرع من له امرأة في بلدة أو في عدد محصور لا يصح نكاحه منها]
قال ابن الحداد: ولو قال رجل: أنا أحيط علما أن لي في هذه البلدة امرأة يحرم علي نكاحها بنسب أو رضاع أو صهر، ولا أعلم عينها.. جاز له أن يتزوج من تلك البلدة؛ لأن في المنع من ذلك مشقة، كما لو كان في يد رجل صيد، فانفلت واختلط بصيد ناحية ولم يتميز.. فإنه لا يحرم على الناس أن يصطادوا من تلك الناحية.
وإن اختلطت هذه المرأة بعدد محصور من النساء، قل ذلك العدد أو كثر.. حرم عليه أن يتزوج بواحدة منهن؛ لأنه لا مشقة عليه في اجتناب التزويج من العدد المحصور.
[فرع حرمة النكاح على التأبيد تجيز النظر والخلوة]
وإذا حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد، بنكاح أو رضاع أو وطء مباح.. صار محرما لها في جواز النظر والخلوة؛ لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم، فصار محرما لها كالأم والابنة.(9/258)
وإن حرم عليه نكاحها بوطء شبهة.. فهل تصير محرما له؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري:
المشهور: أنها لا تصير محرما له؛ لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح، فلم تلحق بذوات الأنساب.
والثاني: أنها تصير محرما له؛ لأنها لما ساوت من وطئت وطأ مباحا في تحريم النكاح ولحوق النسب من هذا الواطئ.. ساوتها في الخلوة والنظر.
[مسألة يحل نكاح الكتابيات دون غيرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم: اليهود والنصارى دون المجوس) .
وجملة ذلك: أن المشركين على ثلاثة أضرب:
ضرب لهم كتاب، وضرب لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وضرب لهم شبهة كتاب.
فأما (الضرب الذين لهم كتاب) : فهم اليهود والنصارى، فإن كتاب اليهود: التوراة، وكتاب النصارى: الإنجيل، فيحل للمسلم نكاح حرائرهم، ووطء الإماء منهم بملك اليمين. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال القاسم بن إبراهيم والشيعة: لا يحل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] :
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 4 - 5] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (وهذه الآية نسخت قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة) . وهو إجماع الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.(9/259)
وروي عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (يحل للمسلم أن ينكح نصرانية) .
و: (نكح أمير المؤمنين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهودية) .
وسئل جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: (تزوجناهن بالكوفة عام الفتح - يعني: فتح العراق - إذ لم نجد مسلمة، فلما انصرفنا.. طلقناهن، نساؤهم تحل لنا، ونساؤنا تحرم عليهم) .
وأما (من لا كتاب له ولا شبهة كتاب) : فهم عبدة الأوثان، وهم قوم يعبدون ما يستحسنون من حجر وحيوان وشمس وقمر، فلا يجوز إقرارهم على دينهم، ولا يحل نكاح حرائرهم، وإن ملكت منهم أمة.. لم يحل وطؤها بملك اليمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] ،(9/260)
فيحرم نكاح المشركات حتى يؤمن، ثم نسخ منه نكاح أهل الكتاب، وبقي الباقي منهم على ظاهر التحريم.
وأما (من لهم شبهة كتاب) : وهم المجوس: فلا خلاف: أنهم ليس لهم كتاب موجود، وهل كان لهم كتاب ثم رفع، فيه قولان، يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى:
إذا ثبت هذا: فيجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية، ولا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين.
قال إبراهيم الحربي: روي عن بضعة عشر نفسا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: أنهم قالوا: (لا يحل لنا نكاح نسائهم) .
وقال أبو ثور: (يحل النكاح حرائرهم) .
وحكى عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا قلنا: إن لهم كتابا.. حل نكاح حرائرهم. والأول هو المذهب.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الآية [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] ، وهذا عام في عام في كل مشركة، إلا ما قام عليه الدليل - وهم أهل الكتاب - وهؤلاء غير متمسكين بكتاب، فلم تحل مناكحتهم وأكل ذبائحهم، كعبدة الأوثان
وأما قول أبي إسحاق: فغير صحيح؛ لأنه لو جاز نكاحهم على القول الذي يقول: إن لهم كتابا.. لحل قتلهم على القول الذي يقول: لا كتاب لهم.
[فرع المتمسكون بصحف إبراهيم أو بالزبور]
فأما المتمسكون بالكتب التي أنزلت على سائر الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، كمن تمسك بـ: " صحف " إبراهيم، و: " زبور " داود وشيث - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -..(9/261)
فلا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين، ولا يحل أكل ذبائحهم.
وعلل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك بعلتين:
إحداهما: أن تلك الكتب ليس فيها أحكام، وإنما هي مواعظ، فلم يثبت لها حرمة.
والثانية: أنها ليست من كلام الله سبحانه، وإنما كانت وحيا منه، وقد يوحي ما ليس بقرآن، كما روي عن النبي صلى الله وعليه وسلم: أنه قال: «أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأمرني أن أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولم يكن ذلك قرآنا أو كلاما من الله تعالى) . هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
[فرع السامرة والصابئون هل هما أهل كتاب؟]
فأما السامرة والصابئون: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (السامرة صنف من اليهود، والصابئون صنف من النصارى) . وتوقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر في حكمهم.
فقال أبو إسحاق: إنما توقف الشافعي في حكمهم قبل أن يتيقن أمرهم، فلما تيقن أمرهم.. ألحقهم بهم.
وحكي: أن القاهر استفتى في الصابئة، فأفتاه أبو سعيد الإصطخري: أنهم ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الأنجم السبعة آلهة، فأفتى بضرب رقابهم، فجمعهم القاهر ليقتلهم فبذلوا له مالا كثيرا، فتركهم.
والمذهب: أنه ينظر فيهم: فإن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول(9/262)
دينهم.. فليسوا منهم، وإن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم ويخالفونهم في الفروع.. فهم منهم، كما أن المسلمين ملة واحدة لاتفاقهم في أصول الدين وإن اختلفوا في الفروع.
[فرع المولود بين وثني وكتابية وعكسه]
] : ومن ولد بين وثني وكتابية.. فهو وثني، ولا تحل مناكحته.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحل) .
دليلنا: أنه تابع لأبيه في النسب، وأبوه لا تحل مناكحته.
وفيمن ولد بين كتابي ووثنية قولان:
أحدهما: أنه من أهل الكتاب تبعا لأبيه، فيحل نكاحه.
والثاني: لا يحل نكاحه؛ لأنه لم يتمحض من أهل الكتاب، فهو كالمجوسي.
[فرع الداخلون في اليهودية أو النصرانية وحكم مناكحتهم وذبائحهم]
ومن انتقل إلى دين اليهود والنصارى، فإن دخل في دينهم بعد أن بعث النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. لم يجز نكاح حرائرهم ولا وطء إمائهم؛ لأنه دخل في دين قد جاء الشرع بإبطاله.
وإن دخل قبل بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل التبديل أو النسخ بشريعة بعدها.. حل مناكحتهم؛ لأنه دخل في دين كان أهله على الحق.
وإن دخل فيه بعد أن نسخ بشريعة بعده، كمن دخل دين اليهودية بعد أن بعث عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن دخل فيه بعد التبديل والتغيير وقبل النسخ، فإن دخل في دين غير المبدلين.. فحكمه حكمهم. وإن دخل في دين المبدلين.. لم تجز مناكحته. وإن لم يعلم:(9/263)
هل دخل في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل، كنصارى العرب.. لم تجز مناكحتهم، ولا تحل ذبائحهم؛ لأنه لما أشكل أمرهم.. صاروا كالمجوس.
[مسألة نكاح النساء الحربيات والكتابيات]
مسألة: [كراهية نكاح النساء الحربيات والكتابيات] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكره نساء أهل الحرب إلا لئلا تفتن مسلما عن دينه) .
وجملة ذلك: أن الحربية من أهل الكتاب يجوز نكاحها اعتبارا بالكتاب دون الدار.
إذا ثبت هذا: فإنه يكره للمسلم نكاح الكتابية بكل حال؛ لأنه لا يؤمن أن تفتنه عن دينه، وإن كانت حربية.. فالكراهية أشد؛ لأنها ربما فتنته عن دينه، ولا يؤمن أن تسبى وهي حامل بولد له أو يكون معها فيسبى، ولأنه إذا أقام معها في دار الحرب كثر سوادهم.
[مسألة لا ينكح المسلم أمة كتابية أو وثنية وشرط نكاح المسلمة]
ولا يجوز للحر المسلم نكاح الأمة المشركة، سواء كانت وثنية أو كتابية.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له نكاح الأمة الكتابية) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فدل على: أنه لا يجوز نكاح الفتيات غير المؤمنات.
ويجوز للحر المسلم أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين:
أحدهما: أن يكون عادما للطول، وهو: مهر حرة.
والثاني: أن يكون خائفا من العنت، وهو: أن يخاف إن لم يتزوج بها أن تحمله شهوته للجماع على الزنا. وبه قال ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي رحمة الله عليهما.(9/264)
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا لم تكن تحته حرة.. حل له نكاح الأمة وإن لم يخف العنت، سواء كان قادرا على صداق حرة أو غير قادر) .
وقال الثوري، وأبو يوسف رحمهما الله: إذا خاف العنت.. حل له نكاح الأمة وإن لم يعدم الطول.
وقال عثمان البتي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز له أن يتزوج الأمة بكل حال، كالحرة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] [النساء: 25] ، فأباح نكاح الأمة بشرط: عدم الطول، وخوف العنت، فلم يجز نكاحها إلا مع وجود هذين الشرطين، فإن وجد مهر حرة مسلمة.. لم يحل له نكاح الأمة؛ للآية. وإن كان مجبوبا.. لم يحل له نكاح الأمة؛ لأنه لا يخاف الزنا.
وإن كان عادما لطول حرة مسلمة وخائفا للعنت، فأقرضه رجل مهر حرة، أو رضيت الحرة بتأخير الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه ضررا في تعلق الدين بذمته.
وإن بذل له رجل هبة الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه منة في ذلك وإن وجد طول حرة مسلمة إلا أنه لا يزوج لقصور نسبه، أو لم يزوجه أهل البلد إلا بأكثر من مهر المثل.. فله أن يتزوج أمة؛ لأنه غير قادر على حرة مسلمة، ووجود الشيء بأكثر من ثمن مثله بمنزلة عدمه.
وإن رضيت الحرة بدون مهر مثلها وهو واجد له.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن كان تحته حرة صغيرة لا يقدر على وطئها، أو تحته كبيرة قرناء، أو غائبة لا يصل إليها.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن تحته حرة.(9/265)
والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه يخاف العنت، ووجود الحرة التي تحته بمنزلة عدمها.
وإن وجد ما يشتري به أمة، أو ما يتزوج به حرة كتابية.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له نكاح الأمة؛ لأن الله تعالى شرط في نكاح الأمة: أن لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات، والشرط موجود.
والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لأنه لا يخاف العنت.
[فرع تزوج بأمة ثم أيسر ونحوه]
إذا تزوج الأمة عند عدم الطول وخوف العنت، ثم أيسر أو أمن من العنت، أو تزوج حرة.. لم يبطل نكاح الأمة.
وقال المزني: إذا قدر على طول حرة.. انفسخ نكاح الأمة.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا تزوج بحرة.. انفسخ نكاح الأمة) .
دليلنا - على المزني -: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، فندب إلى نكاح الفقراء رجاء الاستغناء، فلو كان الاستغناء إذا طرأ أوجب فسخ النكاح.. لم يندب إلى النكاح رجاء حصوله، ولأنه أحد شرطي جواز نكاح الأمة، فارتفاعه لا يوجب فسخ نكاحها، كما لو أمن من العنت.
وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روي عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنها قالا: (إذا تزوج حرة على أمة.. لم ينفسخ نكاح الأمة) .(9/266)
ولا مخالف لهما. ولأن كل امرأة لو تزوج بها على حرة.. لم ينفسخ نكاحها، فإذا تزوج بها على أمة.. لم ينفسخ نكاحها.
[فرع تعدد الإماء والحرائر]
وإن تزوج أمة عند عدم الطول وخوف العنت.. لم يجز أن يتزوج أمة أخرى.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز له التزويج بأربع إماء) .
دليلنا: أنه إذا تزوج أمة.. فإنه لا يخاف العنت معها، فلم يجز له التزويج بأمة غيرها، كما لو كان تحته حرة.
وإن تزوج أمتين، أو ثلاثا، أو أربعا بعقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح نكاح الجميع) .
دليلنا: أن تزويج الحر للأمة إنما يجوز للحاجة، ولا حاجة به إلى ما زاد على واحدة، فلم يصح.
وإن تزوج من يحل له نكاح الأمة بأمة وحرة، أو حرتين، أو ثلاث بعقد واحد.. بطل نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن تزوج بأمة وأربع حرائر بعقد واحد.. قال ابن الحداد: بطل نكاح الجميع قولا واحدا؛ لأن المعسر الخائف للعنت يجوز له نكاح الأمة فإذا تزوج بها وبأربع حرائر.. فقد تزوج بعدد يحرم جمعهن. ويجوز له إفراد كل واحدة بالعقد، فإذا جمع.. فسد الكل؛ لأن لا مزية لإحداهن على الأخرى، كالجمع بين الأختين. ولو كان موسرا.. فسد نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان.
وإن تزوج مجوسية ويهودية.. فسد نكاح المجوسية، وفي اليهودية قولان.(9/267)
[فرع تزوج الحر الكافر بالأمة مثله]
وهل يجوز للحر الكافر أن يتزوج أمة كافرة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها لا تحل للمسلم، فلم تحل للكافر، كالمرتدة.
والثاني: يجوز؛ لأنه مساو لها في الدين.
وكذلك الأمة المجوسية والوثنية: هل يجوز نكاحها لأهل دينها؟ فيه وجهان.
[فرع نكاح الرقيق المسلم الأمة الكتابية أو المسلمة]
وأما العبد المسلم: فهل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل له نكاحها؛ لأن العبد يساويها في الرق، وإنما نقصت عنه بالدين، فهو بمنزلة الحر مع الحرة الكتابية.
والثاني - وهو المذهب -: أنها لا تحل له. وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فشرط فيهن الإيمان، فدل على: أنه لا يجوز نكاح غير المؤمنات. ولأنها امرأة اعتورها نقصانان، لكل واحد منهما تأثير في المنع من النكاح، فوجب أن لا يحل للعبد المسلم نكاحها، كالأمة المجوسية.
وأما الأمة المسلمة: فيجوز للعبد المسلم تزويجها، ولا يشترط فيه عدم الطول ولا خوف العنت؛ لأنه مساو لها، فهو كالحر إذا تزوج الحرة
وإن كان تحت العبد حرة.. جاز له أن يتزوج أمة.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز) .(9/268)
دليلنا: أن كل من كان له أن يتزوج بامرأة من غير جنسه.. جاز له أن يتزوج عليها امرأة من جنسه، كالحر له أن يتزوج الحرة على الأمة.
[مسألة نكاح العبد لمولاته أو الرجل لأمته أو أمة ابنه وعكسه]
ولا يصح نكاح العبد لمولاته؛ لتناقض أحكام الملك والنكاح في النفقة والسفر؛ لأن العبد يستحق النفقة على مولاته، والزوجة تستحق النفقة على زوجها، وللمولاة أن تسافر بعبدها إلى أي بلد شاءت، وللزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد شاء، فلو صححنا نكاحه لمولاته.. لتناقضت أحكامهما في ذلك.
فإن تزوج العبد حرة ثم ملكته.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن حكم ملك اليمين أقوى من النكاح، فأسقطه.
ولا يصح نكاح الرجل لأمته؛ لأنه يملك وطأها قبل النكاح، فلا فائدة فيه، ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقا يمنع منها ملك اليمين.
فإن تزوج الرجل أمة ثم ملكها.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، فأبطله.
ولا يصح أن ينكح الرجل جارية ولده لصلبه، ولا ولد ولده وإن سفل؛ لأن له شبهة في ماله، بدليل: أنه يجب عليه إعفافه، فصارت كجارية نفسه.
وإن تزوج الرجل أمة، ثم ملكها ابنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل نكاح الأب؛ لأن ملكه كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح.
والثاني: لا ينفسخ نكاحه؛ لأنه لا يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحه بذلك. فإن كان له ابن من الرضاع.. جاز له أن يتزوج بجاريته؛ لأنه لا شبهة له في ماله. ويجوز للرجل أن يتزوج بجارية أبيه وأمه؛ لأنه لا يستحق عليها الإعفاف، فإذا ولدت منه.. كان حرا؛ لأن الإنسان لا يملك ابن ابنه.(9/269)
[مسألة نكاح المعتدة]
ولا يصح أن ينكح معتدة من غيره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية [البقرة: 235] .
وإن ارتابت بالحمل، بأن رأت أمارات الحمل وشكت: هل هو حمل أم لا؟ فإن حدثت لها هذه الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها بالأقراء أو بالشهور والريبة باقية.. لم يصح نكاحها؛ لأنها تشك في خروجها من العدة، والأصل بقاؤها.
وإن انقضت عدتها من غير ريبة، فتزوجت، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. لم تؤثر هذه الريبة؛ لأن النكاح قد صح في الظاهر.
وإن انقضت عدتها بالشهور أو بالأقراء، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. فيكره نكاحها، فإن تزوجها رجل.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها، كما لو حدثت بها الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها وهي مرتابة بالحمل.. فإنه لا يصح نكاحها، كذلك هذا مثله.
والثاني: يصح نكاحها، وهو المذهب؛ لأنها ريبة حدثت بعد انقضاء العدة فلم تؤثر، كما لو نكحت بعد انقضاء العدة، ثم حدثت الريبة.
[فرع لا تجب عدة على زانية عندنا]
وإذا زنت المرأة.. لم يجب عليها العدة، سواء كانت حائلا أو حاملا.
فإن كانت حائلا.. جاز للزاني أو لغيره عقد النكاح عليها.. وإن حملت من الزنا.. فيكره نكاحها قبل وضع الحمل، فإن تزوجها الزاني أو غيره قبل وضع الحمل.. صح، وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذهب ربيعة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم إلى: (أن الزانية تلزمها العدة كالموطوءة بشبهة، فإن كانت حائلا.. اعتدت بثلاثة أقراء، وإن كانت حاملا.. اعتدت بوضع الحمل، ولا يصح نكاحها قبل وضع الحمل) .(9/270)
وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا تزوج امرأة ولم يعلم أنها زانية، ثم علم أنها حامل من الزنا.. فإنه يفارقها، فإن كان قد وطئها.. لزمه لها مهر المثل) .
وقال ربيعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفارقها ولا مهر عليه.
وذهب ابن سيرين وأبو يوسف رحمهما الله إلى: أنها إن كانت حائلا.. فلا عدة عليها، فيجوز عقد النكاح عليها، وإن كانت حاملا.. لم يصح عقد النكاح عليها حتى تضع، وهي الرواية الأخرى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد على الزانية كان حلالا قبل الزنا وقبل الحمل، فلا يحرمه الزنا.
وروي: (أن رجلا كان له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما بالنكاح، فأبى الغلام) ، ولم يراع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه انقضاء العدة، ولم ينكر عليه أحد فدل على: أنه إجماع. ولأنه وطء لا يلحق به النسب، أو حمل لا يلحق بأحد فلم يمنع صحة النكاح، كما لو يوجد.
[مسألة نكاح الشغار]
ولا يصح نكاح الشغار - وهو: أن يقول رجل لآخر: زوجتك ابنتي، أو أختي، أو امرأة يلي عليها، على أن تزوجني ابنتك أو أختك ويكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى - وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح، ويجب مهر المثل) .
دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك رحمة الله عليهما، عن نافع - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار هو:(9/271)
أن يقول الرجل: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى» ، هكذا روي عن ابن عمر.
فإن كان هذا التفسير من ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.. فهو أعلم بمعنى الخبر، وإن كان من النبي صلى الله وعليه وسلم - وهو الظاهر - لأنه لو كان من ابن عمر.. لحكاه عن نفسه ولم يطلقه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وروى عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام» ولأنه يحصل في البضع تشريك فلم يصح العقد مع ذلك، كما لو زوج ابنته من رجلين.(9/272)
وبيان التشريك: أنه جعل البضع ملكا للزوج وابنته؛ لأنه إذا قال: زوجتك ابنتي.. فقد ملك الزوج بضعها، فإذا قال: على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى.. فقد شرك ابنة الزوج في ملك بضع هذه المزوجة؛ لأن الشيء إذا جعل صداقا.. اقتضى تمليكه لمن جعل صداقا لها، فصار التشريك حاصلا في البضعين، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فإن الشغار مأخوذ من الرفع، يقال: (شغر الكلب) : إذا رفع رجله، فكأن كل واحد منهما رفع رجله لصاحبه عما طلب منه، وقيل: سمي هذا النكاح شغارا؛ لقبحه تشبيها من رفع الكلب رجله ليبول.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، واقتصر على هذا.. فالنكاح صحيح؛ لأنه لم يحصل في البضع تشريك، وإنما حصل الفساد في الصداق، وهو: أنه جعل مهر ابنته أن يزوجه الآخر ابنته، ففسد المهر المسمى، ووجب مهر المثل. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يصح؛ لأنهما لم يسميا صداقا صحيحا، ولكن جعل كل واحد منهما عقد نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى؛ لأنه أخرج ذلك مخرج الصداق. والأول هو المشهور.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون مهر كل واحدة منها كذا وكذا.. فيصح النكاحان، ويبطل المهران المسميان، ويجب لهما مهر المثل، سواء اتفق المهران أو اختلفا؛ لأنه لم يحصل في البضعين تشريك، وإنما حصل الفساد في المهر؛ لأنه شرط مع المهر المسمى أن يزوجه ابنته، فهو كما لو قال: زوجتك ابنتي بمائة على أن تبيعني دارك.. فإن النكاح صحيح، والمهر باطل.(9/273)
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تطلق زوجتك، ويكون ذلك صداقا لابنتي.. صح النكاح، ولا يلزم الآخر أن يطلق زوجته، ويجب للمزوجة مهر مثلها؛ لأنه لم يسم لها صداقا صحيحا.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتك صداقا لابنتي.. صح النكاح الأول، ولم يصح النكاح الثاني؛ لأنه ملكه بضع ابنته في الابتداء من غير تشريك، وشرط عليه شرطا فاسدا وهو التزويج، فلم يؤثر في عقد الأولى، والثانية هي التي حصل التشريك في بضعها.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتي مهرا لابنتك.. فالعقد على ابنة المخاطب باطل؛ لأن التشريك حصل في بضعها، والعقد على ابنة القابل صحيح؛ لأنه لم يحصل في بضعها تشريك.
وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة منهما ومائة درهم صداقا للأخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن النكاحين صحيحان، ويجب لهما مهر المثل؛ لأن الشغار هو الخالي عن المهر، وهاهنا لم يخل عن المهر.
والثاني - وهو الصحيح -: أن النكاحين باطلان؛ لأن التشريك في البضع موجود مع تسمية المهر، والمفسد هو التشريك.
وإن قال: زوجتك ابنتي وهذا الحائط.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
[فرع زوج جاريته أو عبده وجعل رقبتهما صداقا]
إذا قال لرجل: زوجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبة جاريتي صداقا لابنتك.. قال ابن الصباغ: صح النكاحان؛ لأن رقبة الجارية يصح نقل الملك(9/274)
فيها، فلا تكون تشريكا فيما يتناوله عقد النكاح، إلا أن المسمى فاسد فيجب مهر المثل.
وإن زوج عبده من امرأة وجعل رقبته صداقا لها. قال ابن الصباغ: لم يصح الصداق؛ لأن ملك المرأة زوجها يمنع صحة النكاح، ففسد الصداق، وصح النكاح، ووجب لها مهر المثل.
[مسألة نكاح المتعة]
ولا يصح نكاح المتعة، وهو: أن يتزوج رجل امرأة مدة معلومة أو مجهولة، بأن يقول: زوجني ابنتك شهرا أو أيام الموسم. وبه قال جميع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وأرضاهم، والتابعين والفقهاء رحمة الله عليهم، إلا ابن جريج، فإنه قال: يصح. وإليه ذهبت الشيعة، وأجمعوا: أنه لا يتعلق به حكم من أحكام النكاح، مثل الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث.(9/275)
دليلنا: ما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لقي ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبلغه: أنه يرخص في متعة النساء، فقال: (إنك امرؤ تائه، إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) . وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تائه) أي: مائل عن الحق في هذا القول، يقال: تاهت السفينة عن بلد كذا: إذا مالت عنه.
«وروى الربيع بن سبرة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استمتعوا بالنساء " قال: فخرجت أنا وابن عم لي لنستمتع وعلى كل واحد منا بردة، فلقينا امرأة فخطبناها، فكانت ترغب في حالي وترد ابن عمي، فتمتعت بها وكان الشرط بيننا عشرين ليلة، فبت معها ليلة واحدة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته واقفا بين الركن والمقام وهو يقول: " إني كنت أذنت لكم في المتعة، وإن الله تعالى حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منها.. فليخل سبيلها، ولا يأخذ منها شيئا مما آتاها» . ولأنه عقد معاوضة يصح مطلقا، فلم يصح مؤقتا، كالبيع.(9/276)
فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من العارية والإباحة.. وقولنا: (يصح مطلقا) احتراز من الإجارة.
ولأنه نكاح لا يتعلق به سائرا أحكام النكاح فلم يصح، كنكاح ذوات المحارم.
فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه كان يبيحه) ؟
قلنا: قد رجع عنه؛ لأنه قد كان يبيحه وانتشر ذلك عنه، فروي عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما صنعت بنفسك؟ أبحت نكاح المتعة، فسارت به الركبان، وقالوا فيه الشعر، فقال: (وما قالوا) ؟ قلت: قال الشاعر فيه:
أقول للشيخ لما طال محبسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
يا صاح هل لك في بيضاء بهكنة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
ويروى: يا شيخ. فخرج ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكشف عن رأسه، وقال: (من عرفني قد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا ابن عباس، فإن المتعة حرام، كالميتة والدم) .
[مسألة نكاح المحلل]
وأما نكاح المحلل: فإن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا.. فإنها لا تحل له إلا بعد زوج وإصابة، فإذا طلق امرأته وانقضت عدتها منه، ثم تزوجت بآخر بعده.. ففيها ثلاث مسائل:(9/277)
إحداهن: أن يقول: زوجتك ابنتي إلى أن تطأها، أو إلى أن تحلها للأول، فإذا أحللتها فلا نكاح بينكما، فهذا باطل بلا خلاف؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أدلكم على التيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " هو المحلل والمحلل له» . ولأن هذا أفسد من نكاح المتعة؛ لأنه يعقد إلى مدة مجهولة.
المسألة الثانية: أن يقول: زوجتك ابنتي على أنك إن وطئتها طلقتها، أو قال: تزوجتك على أني إذا أحللتك للأول طلقتك، وكان هذا الشرط في نفس العقد.. ففيه قولان:(9/278)
أحدهما: أن النكاح باطل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، ولم يفرق.
والثاني: أن النكاح صحيح والشرط باطل؛ لأن العقد وقع مطلقا من غير تأقيت، وإنما شرط على نفسه الطلاق، فلم يؤثر في النكاح، وإنما يبطل به المهر، كما لو شرط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى عليها.
المسألة الثالثة: أن تشترط عليه قبل النكاح أنه إذ أحللها للأول طلقها، أو تزوجها ونوى بنفسه ذلك، فعقد النكاح عقدا مطلقا.. فيكره له ذلك، فإن عقد.. كان العقد صحيحا. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك، والثوري، والليث، وأحمد، والحسن، والنخعي، وقتادة، رحمة الله عليهم: (لا يصح) .
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن امرأة طلقها زوجها ثلاثا، وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها وتبيت معها ليلة، فإذا أصبحت فارقتها، فقال: نعم - قال: وكان ذلك - فلما تزوجها، قالت له المرأة: إنك إذا أصبحت فإنهم سيقولون لك: طلقها، فلا تفعل، فإني لك كما ترى، واذهب إلى عمر، فلما أصبح أتوه وأتوها، فقالت لهم: أنتم جئتم به فاسألوه، فقالوا له: طلقها، فأبى وذهب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فأخبره، فقال له: الزم زوجتك، فإن رابوك بريب فائتني، وبعث إلى المرأة الواسطة فنكل بها، وكان يغدو بعد ذلك ويروح على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في حلة، فقال له عمر: الحمد لله - يا ذا الرقعتين - الذي رزقك حلة تغدو بها وتروح) . ولم ينكر أحد على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فدل على: أنه إجماع.(9/279)
[فرع النكاح بشرط الخيار أو غيره]
وإن تزوج امرأة بشرط الخيار.. بطل العقد؛ لأنه لا مدخل للخيار فيه فأبطله.
فإن شرط في العقد أن لا يطأها ليلا.. بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا» . فإن كان هذا الشرط من قبل الزوج.. لم يبطل العقد؛ لأن ذلك حق له، وإن كان الشرط من جهة المرأة.. بطل العقد؛ لأن ذلك حق عليها.
[مسألة التعريض أو التصريح للمعتدات أو للزوجات]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] :
وجملة ذلك: أن المعتدات على ثلاثة أضرب: رجعية، وبائن لا تحل لزوجها، وبائن تحل لزوجها.
فأما: (الرجعية) : فلا يجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها ولا التصريح؛ لأنها في معنى الزوجات ولا يؤمن أن يحملها بغضها للزوج الأول أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها؛ لتتزوج بغيره.
وأما (المعتدة البائن التي لا تحل لزوجها) ، فهي: التي مات عنها زوجها، أو بانت منه باللعان، أو بالرضاع، أو بالطلاق الثلاث، فيجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 234 - 235](9/280)
، فكان الظاهر: أن النساء اللاتي أجاز التعريض بخطبتهن هن من تقدم ذكرهن.
«وروت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت، طلقني زوجي أبو حفص بن عمرو بالشام ثلاثا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فقال: " إذا حللت.. فآذنيني» ، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: " لا تفوتينا بنفسك "، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إليها: " لا تسبقيني بنفسك ". هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجوز له التعريض بخطبة البائن بالثلاث؟ فيه قولان.
والمشهور هو الأول؛ لحديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
ويحرم التصريح بخطبتها؛ لأن الله تعالى لما أباح التعريض بالخطبة.. دل على: أنه لا يجوز التصريح بها. ولأن التعريض يحتمل النكاح وغيره، والتصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها.
وأما (البائن التي تحل لزوجها) ، فهي: التي طلقها زوجها طلقة أو طلقتين، بعوض أو فسخ أحدهما النكاح بعيب، فيجوز لزوجها التعريض بخطبتها والتصريح؛ لأنها تحل له في العدة. وأما غير زوجها: فلا يحل له التصريح بخطبتها، كالبائن بالثلاث، وهل يجوز له التعريض بخطبتها؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز له التعريض بخطبتها؛ لأنها معتدة بائن عن زوجها، فهي كالبائن بالوفاة أو بالثلاث.
والثاني: لا يجوز له؛ لأنها تحل لزوجها في حال العدة، فهي كالرجعية.(9/281)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل معتدة حل للزوج التعريض بخطبتها.. حل لها التعريض بإجابته، وكل من لا يحل له التعريض بخطبتها والتصريح.. لم يحل لها إجابته بتعريض ولا بتصريح؛ لأنه لا يحل له ما يحرم عليها، ولا يحل لها ما يحرم عليه فتساويا) .
إذا ثبت هذا: فـ (التصريح) : ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أنا أريد أن أتزوجك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك.
و (التعريض) : كل كلام احتمل النكاح وغيره، مثل أن يقول: رب راغب فيك، رب حريص عليك، رب متطلع إليك، وأنت جميلة، أنت فائقة، أنت مرغوب فيك، " لا تسبقيني بنفسك "، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وروي: أن رجلا مات، فتبعت امرأته جنازته، فقال لها رجل: لا تسبقيني بنفسك، فقالت له: سبقك غيرك.
فإن قال: أنا راغب فيك، أو حريص عليك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني.. كان ذلك كله تعريضا؛ لأنه يمكن أن يريد به: أنا راغب فيك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرد بقوله لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فآذنيني " و: " لا تسبقيني بنفسك ": الخطبة لنفسه، وإنما أراد: فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين. وكذلك لو قال: رب راغب في نكاحك، وأبهم الخاطب.. كان تعريضا
وكذلك لو قال: إن الله ليسوق إليك خيرا، أو رزقا.. كان ذلك تعريضا. هذا مذهبنا
وقال داود لا تحل له الخطبة سرا، وإنما تحل له علانية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] الآية " (البقرة: 235)
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تعالى لم يرد بالسر ضد الجهر، وإنما أراد:(9/282)
لا يعرض للمعتدة بالجماع ولا يصرح به، مثل أن يقول: عندي جماع يصلح من جومعه، وما أشبهه، وسمي الجماع سرًا؛ لأنه يفعل سرًا. قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ولا يكره للرجل التعريض لزوجته بالجماع ولا التصريح به؛ لأنه لا يكره له جماعها، فلأن لا يكره له ذكره أولى. والآية وردت في المعتدات.
فإن عرض بخطبة امرأة لا يحل له التعريض بخطبتها، أو صرح بخطبتها، ثم انقضت عدتها وتزوجها.. صح نكاحها.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يبينها بطلقة واحدة) .
دليلنا: أن النكاح حادث بعد المعصية، فلا تؤثر المعصية فيه، كما لو قال: لا أتزوجها إلا بعد أن أراها متجردة، فتجردت له ثم نكحها، أو قالت: لا أرضى نكاحه حتى يتجرد لي أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها ثم تزوجها.
[مسألة لا يخطب على خطبة أخيه]
وإذا خطب رجل امرأة فصرح له بالإجابة، بأن كان الولي أبا أو جدًا وهي بكر، أو كانت ثيبا فأذنت في تزويجها منه.. لم يجز لغيره أن يخطبها إلا أن يأذن له الخاطب الأول؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أن يخطب(9/283)
الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول، أو يأذن له فيخطب» ، ولأن في ذلك إضرارًا بالأول؛ لأنها ربما مالت إلى الثاني وتركت الأول.
قال في " الأم ": (وإن قالت امرأة لوليها: زوجني ممن شئت، أو ممن ترى حل لكل أحد خطبتها) ؛ لأنها لم تأذن في تزويجها من رجل بعينه فتضر به خطبة الثاني.
وإن خطب رجل امرأة فصرحت له بالرد، أو سكتت عنه ولم تصرح برد ولا إجابة.. حل لكل أحد خطبتها؛ لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طلقني زوجي أبو حفص بن عمر وهو غائب بالشام ثلاثًا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: " إذا حللت.. فآذنيني "، فلما انقضت عدتي أتيته فأخبرته وقلت له: إن معاوية وأبا جهم ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ـ خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أدلك على من هو خير لك منهما ". قلت: من يا رسول الله؟ قال " أسامة بن زيد "، قلت: أسامة؟ ! قال: " نعم أسامة "، فكرهت نكاحه، فقال: " انكحي أسامة "، فنكحته فكان منه خير كثير واغتبطت به» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم تكن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أذنت في نكاحها من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا من أبي الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما كانت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعلوم أن الرجلين إذا خطبا امرأة.. خطبها أحدهما بعد الآخر، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الآخر منهما، ثم خطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثالث بعدهما، فدل على جوازه) .
وإن خطب رجل امرأة إلى وليها، وكان ممن يخيرها، فعرض له بالإجابة ولم يصرح، مثل أن يقول: أنا أستشير في ذلك، أو أنت مرغوب فيك، أو يشترط شرائط للعقد، مثل: تقديم المهر وغيره.. فهل يحرم على غيره خطبتها؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يحرم على غيره خطبتها) . وبه قال مالك، وأبو(9/284)
حنيفة رحمة الله عليهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» ولم يفصل. ولأن فيه إفسادًا لما يقارب بينهما.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحرم على غيره خطبتها) ، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن أخبرته: أن معاوية وأبا الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خطباها، ولم يسألها: هل ركنت إلى أحدهما أو رضيت به أم لا؟ فدل على: أن الحُكم لا يختلف بذلك. ولأن الظاهر من حالها: أنها ما جاءت تستشيره إلا وقد رضيت بذلك وركنت إليه.
قال الصيمري: فإن خطب رجل خمس نسوة جملة واحدة، فأذن في إنكاحه.. لم يحل لأحد غيره خطبة واحدة منهن حتى يترك أو يعقد على أربع، فتحل خطبة الخامسة. وإن خطب كل واحدة وحدها، فأذنت كل واحدة في إنكاحه.. لم يجز لغيره خطبة الأربع الأولات، وتحل خطبة الخامسة لغيره.
إذا ثبت هذا: فإن خطب رجل امرأة في الحال التي قلنا: لا تحل له خطبتها فيه، وتزوجها.. صح ذلك.
وقال داود: (لا يصح) ، وحكاه ابن الصباغ عن مالك رحمة الله عليه.
دليلنا: أن المحرم إنما يفسد العقد إذا قارنه، فأما إذا تقدم عليه.. لم يفسده، كما لو قالت امرأة: لا أتزوج فلانًا حتى أراه متجردًا أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها، ثم تزوج بها.(9/285)
إذا تقرر هذا: فذكر أصحابنا في حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد، وقد اختلفت الروايات فيه:
فروي: «أن زوجها طلقها بالشام، فجاءها وكيله بشعير، فسخطت به، فقال لها: ما لك علينا شيء، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فقال لها: " لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» .
فإحدى فوائد الخبر: أنه دل على جواز الطلاق.
والثانية: أنه يدل على جواز الطلاق الثلاث.
الثالثة: أن طلاق الغائب يقع.
الرابعة: أنه يجوز للمرأة أن تستفتى؛ لـ (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها) .
الخامسة: أن كلامها ليس بعورة.
السادسة: أنه يجوز للمعتدة أن تخرج من منزلها لحاجة.
السابعة: أنه لا نفقة للمبتوتة الحائل، خلافًا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الثامنة: أن للحامل المبتوتة النفقة.
التاسعة: أنه يدل على جواز نقل المعتدة عن بيت زوجها. وأختلف لأي معنى نقلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فقال ابن المسيب: كانت بذيئة، فكانت تستطيل على أحمائها.
وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (كان بيت زوجها وحشًا، فخيف عليها فيه) .
وأي التأويلين صح.. ففي الخبر دليل على جواز النقل لأجله.
العاشرة: يدل على جواز التعريض بخطبة المعتدة.
الحادية عشرة: أنه يجوز للرجل أن يعرض للمعتدة بالخطبة لغيره؛ لـ: (أن(9/286)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض لها بالخطبة لأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لا لنفسه) .
الثانية عشرة: أنه يجوز للمرأة أن تستشير الرجال؛ لأنها جاءت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثالثة عشرة: يدل على جواز وصف الإنسان بما فيه وإن كان يكره ذلك؛ للحاجة إليه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف معاوية وأبا جهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بما فيهما) ، وإن كانا يكرهان ذلك.
الرابعة عشرة: أنه يجوز أن يعبر بالأغلب على الشيء، ويذكر العموم والمراد به الخصوص؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أما معاوية: فصعلوك لا مال له» . ومعلوم أنه لا يخلو أن يملك شيئًا من المال وإن قل، كثيابه وما أشبهها، وإنما أراد: أنه لا يملك ما يتعارفه الناس مالا. وكذلك: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي الجهم: " إنه لا يضع عصاه عن عاتقه» . وإن كان لا يخلو أن يضعها في بعض أوقاته.
و (الصعلوك) : الفقير، قال الشاعر:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاياه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا وما أزرى بأحسابنا الفقر
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يضع عصاه عن عاتقه» : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه كان كثير الأسفار، قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر(9/287)
فعلى هذا: يكون فيه دليل على جواز السفر بغير إذن زوجته، هذه الخامسة عشرة
والثاني: أنه أراد أنه كان كثير الضرب لزوجته، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أي: في التأديب بالكلام أو بالضرب، هذه السادسة عشرة.
فعلى هذا: التأويل يدل على جواز ضرب الزوج لزوجته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجه مخرج النكير.
وقال بعضهم: بل أراد أنه كثير الجماع، وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أراد به الكناية عن الجماع، فيكون في هذا دلالة على جواز الكناية بالجماع، هذه السابعة عشرة. وهذا غلط في التأويل لأنه ليس من الكلام ما يدل على أنه أراد هذا؟
قال الصيمري: ولو قيل: إنه أراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا: كثرة الجماع، أي: أنه كثير التزويج.. لكان أشبه.
الثامنة عشرة: يدل على جواز خطبة الرجل لغيره؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبها لأسامة» .
التاسعة عشرة: أنه يجوز للرجل أن يخطب امرأة قد خطبها غيره إذا لم تتقدم إجابة للأول.
العشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير على المستشير بما لم يسأله عنه؛ لأنها لم تستشره في أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الحادية والعشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير بما يرى فيه المصلحة للمستشير وإن كره المستشير.(9/288)
الثانية والعشرون: أنه لا يجب على المستشير المصير إلى ما أشار به المشير؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل لها: يجب عليك المصير إلى ما أشرت به، وإنما أعاد ذلك عليها على سبيل المشورة.
الثالثة والعشرون: أن الخير لا يختص بالنسب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أدلك على من هو خير لك منهما "، ونسبهما خير من نسبه.
الرابعة والعشرون: أن الكفاءة ليست بشرط في النكاح؛ لأنها قرشية وأسامة مولى.
الخامسة والعشرون: أنه يجوز أن تخطب المرأة إلى نفسها وإن كان لها أولياء.
وبالله التوفيق(9/289)
[باب الخيار في النكاح والرد بالعيب]
إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبًا.. ثبت له الخيار في فسخ النكاح.
والعيوب التي يثبت لأجلها الخيار في النكاح خمسة، ثلاثة يشترك فيها الزوجان، وينفرد كل واحد منهما باثنين.
فأما الثلاثة التي يشتركان فيها: فالجنون، والجذام، والبرص. وينفرد الرجل بالجب والعنة، وتنفرد المرأة بالرتق والقرن.
فـ (الرتق) : أن يكون فرج المرأة مسدودًا يمنع من دخول الذكر.
و (القرن) : - قيل ـ هو عظم يكون في فرج المرأة يمنع من الوطء. والمحققون يقولون: هو لحم ينبت في الفرج، يمنع من دخول الذكر، وإنما يصيب المرأة ذلك إذا ولدت.
هذا مذهبنا، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور رحمة الله عليهم.
وقال علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا ينفسخ النكاح بالعيب) . وإليه صار النخعي، والثوري، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا أنه قال: (إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبًا أو عنينًا.. كان لها الخيار، فإن اختارت الفراق.. فرق الحاكم بينهما بطلقة) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من غفار، فلما خلا بها.. رأى في كشحها بياضًا، فقال لها: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك "، وفي رواية أخرى: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك؛ فقد لبستم علي "، أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دلستم علي ". وفي(9/290)
رواية: (فرد نكاحها» . وهذا صريح في الفسخ، و (الكشح) : الجنب. ولأن المجنون منهما يخاف منه على الآخر وعلى الولد، والجب، والعنة، والرتق، والقرن يتعذر معها مقصود الوطء. والجذام، والبرص تعاف النفوس من مباشرة من هو به.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ويخاف منهما العدوى إلى الآخر وإلى النسل) .
فإن قيل: فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يعدى شيء شيئًا " فقال أعرابي: يا رسول الله، إن النقبة قد تكون بمشفر البعير أو بذنبة في الإبل العظيمة فتجرب كلها! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فما أجرب الأول؟!» ، وهذا ينفي العدوى؟
قال أصحابنا: قد وردت أيضًا أخبار بالعدوى، فمنها:
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يوردن ذو عاهة على مصح» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين، فمن كلمه منكم.. فليكن بينه وبينه قيد رمح» .(9/291)
وروي: «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه، فأخرج يده فإذا هي جذماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضم يدك، فقد بايعتك» ، وكان من عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصافحة من بايعه، فامتنع عن مصافحته لأجل الجذام.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» .
وإنما نفى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العدوى التي يعتقدها الملاحدة وهي: أنهم يعتقدون أن الأدواء تعدي بأنفسها وطباعها، وليس هذا بشيء؛ وإنما العدوى التي نريدها أن نقول: إن الله أجرى العادة بأن يخلق الداء عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء، كما أنه أجرى العادة أن يخلق الأبيض بين الأبيضين، والأسود بين الأسودين وإن كان في قدرته أن يخلق الأبيض من الأسودين، لا أن هذه الأدواء تعدي بنفسها.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هامة ولا صفر» فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إذا قتل الإنسان ولم يؤخذ بثأره.. خرج من رأسه طائر يصرخ ويقول: اسقوني من دم قاتلي. هكذا حكاه ابن الصباغ.
وأما (الصفر) : فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: في الجوف دابة تسمى الصفر، إذا تحركت.. جاع الإنسان، وهي أعدى من الجرب عند العرب.
وقيل: بل هو تأخير حرمة المحرم إلى صفر، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذلك.(9/292)
[مسألة وجد امرأته خنثى أو غير ذلك وعكسه]
وإن وجد الرجل امرأته ولها فرج الرجال وفرج النساء، إلا أنها لا تبول إلا من فرج النساء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك، إلا أنه لا يبول إلا من الذكر.. فهل يثبت الخيار لمن وجد صاحبه كذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأن النفس تعاف ذلك.
والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع.
وإن وجدت المرأة زوجها خصيا - وهو: مسلول الخصيتين والذكر باقٍ - ففيه قولان:
أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تعاف من مباشرته.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنه يقدر على الاستمتاع بها، ويقال: إنه أكثر جماعا؛ لقلة مائه.
ولا يثبت الخيار في فسخ النكاح بغير هذه العيوب. فإذا وجد الرجل امرأته عمياء، أو مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو شوهاء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك.. لم يثبت به الخيار.
وقال زاهر السرخسي: إذا وجد الرجل امرأته بخراء أو عذيوطا - وهي: التي تبدي الغائط عند جماعها - ثبت له الخيار في فسخ النكاح. وهذا خلاف النص؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع.
إذا ثبت هذا: فإن الجنون يثبت لأجله الخيار، سواء كان مطبقا أو غير مطبق.
فإن مرض أحدهما فزال عقله.. لم يثبت لأجله الخيار؛ لأن ذلك إغماء، والإغماء ليس بنقص، ولهذا: يجوز الإغماء على الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -(9/293)
وسلامه، ولا يجوز عليهم الجنون. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن زال المرض وبقي زوال العقل.. فهو جنون) .
وسواء كان زمان الإفاقة أكثر أو زمان الجنون أو استويا، هذا قول عامة أصحابنا.
وقال الصيمري: إن كان زمن الإفاقة أكثر.. فهل يثبت لأجله الخيار؟ فيه وجهان. والأول أصح.
وأما (الجذام) فهو: داء يأكل اللحم ويتناثر منه.
و (البرص) : بياض يكون في البدن، وعلامته أن يعصر المكان.. فلا يحمر.
وسواء كان الجذام أو البرص قليلا أو كثيرا؛ لأن النفس تعاف منه.
فإن كان الجذام أو البرص ظاهرا.. فلا كلام. وإن كان خفيا، فادعى الآخر على من هو به: أنه جذام أو برص فأنكر من هو به أنه ذلك، فإن أقام المدعي شاهدين ذكرين مسلمين ثقتين من أهل المعرفة بذلك أنه جذام أو برص.. ثبت له الخيار. وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من هو به مع يمينه: ما هو جذام أو برص؛ لأن الأصل عدمه. فإن أصاب الزوج زوجته رتقاء، فإن كان يتمكن معه من إدخال الذكر.. لم يثبت له الخيار. وإن كان لا يتمكن معه من إدخال الذكر.. ثبت له الخيار؛ لأنه تعذر عليه وطؤها. فإن أراد الزوج أن يشق ذلك الموضع ليتمكن من إدخال الذكر، فامتنعت المرأة من ذلك.. لم تجبر عليه؛ لأن ذلك جناية عليها. فإن شقت ذلك بنفسها، أو مكنته من شقه، فشقه قبل أن يفسخ النكاح.. لم يثبت له الفسخ؛ لأن المانع له قد زال.
وفيه وجه آخر - حكاه الصيمري -: أنه لا يسقط حقه من الفسخ.
وإن وجدها مفضاة - وهو: أن يزول الحاجز بين السبيلين، أو الحاجز بين مدخل الذكر ومخرج البول - لم يثبت له الخيار؛ لأنه يقدر على وطئها.
وإن أصابها عقيما لا تلد، أو أصابته عقيما لا يولد له.. لم يثبت به الخيار؛ لأن ذلك لا يقطع به ولا يمنع كمال الاستمتاع.
وإن وجدته مجبوبا - وهو: الذي قطع جميع ذكره - ثبت لها الخيار.(9/294)
وإن قطع بعضه وبقي البعض، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع به.. فلها الخيار؛ لأن وجود الباقي بمنزلة عدمه. وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن معظم الاستمتاع غير متعذر عليها من جهته، كما لو لم يكن له إلا ذكر قصير.
[فرع وجود عيب في كلا الزوجين حال العقد ولم يعلم أو طرأ بعده]
وإن وجد كل واحد من الزوجين بصاحبه عيبا، فإن كان العيبان من جنسين، بأن كان أحدهما أجذم والآخر أبرص.. ثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من داء غيره. وإن كانا من جنس واحد، بأن وجد كل واحد منهما صاحبه أجذم أو أبرص.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت لواحد منهما الخيار؛ لأنهما متساويان في النقص، فهو كما لو تزوج عبد امرأة فكانت أمة.
والثاني: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من عيب غيره وإن كان به مثله.
وإن أصاب الرجل امرأته رتقاء أو قرناء، وأصابته عنينا أو مجبوبا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لوجود النقص الذي يثبت لأجله الخيار.
والثاني: لا خيار لواحد منهما؛ لأن الرتق والقرن يمنع الاستمتاع، والمجبوب والعنين لا يمكنه الاستمتاع، فلم يثبت الخيار.
هذا الكلام في العيوب الموجودة حال العقد التي لم يعلم بها الآخر. فأما إذا حدث شيء من هذه العيوب بأحد الزوجين بعد العقد.. نظرت: فإن كان ذلك بالزوج - ويتصور فيه حدوث العيوب كلها إلا العنة، فإنه لا يتصور أن يكون غير عنين عنها، ثم يكون عنينا عنها - فإذا حدث فيه أحد العيوب الأربعة.. ثبت للزوجة الخيار؛ لأن كل عيب يثبت لأجله الخيار إذا كان موجودا حال العقد.. يثبت لأجله الخيار إذا حدث بعد العقد، كالإعسار بالنفقة والمهر.(9/295)
وإن كان ذلك حادثا في الزوجة.. فإنه يتصور أن يحدث لها جميع العيوب الخمسة، فإذا حدث بها شيء منها.. فهل يثبت للزوج فسخ النكاح؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت له الفسخ) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لأنها لم تدلس عليه؛ ولأنه يمكنه التخلص من ذلك بالطلاق.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت له الخيار في الفسخ) ، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد نكاح الغفارية لما وجد في كشحها بياضا) ولو كان الحكم يختلف.. لسألها: هل حدث ذلك بها قبل العقد أو بعده؟ ولأن كل عيب يثبت لأجله الفسخ إذا كان موجودا حال العقد.. ثبت لأجله الفسخ إذا حدث، كالعيب بالزوج. وقول الأول: (يمكنه أن يطلق) : يبطل بالعيب الموجود حال العقد، فإنه يمكنه أن يطلق، ثم مع هذا يثبت له الفسخ.
[فرع علمه بالعيب حال العقد يسقط خياره]
قال في (الإملاء) : (إذا علم بالعيب حال العقد.. فلا خيار له؛ لأنه عيب رضي به، فلم يكن له الفسخ لأجله، كما لو اشترى شيئا معيبا مع العلم بعيبه) .
فإن أصاب أحد الزوجين بالآخر عيبا فرضي به.. سقط حقه من الفسخ لأجله. فإن وجد عيبا غيره بعد ذلك.. ثبت له الفسخ لأجله؛ لأنه لم يرض به.
وإن زاد العيب الذي رآه ورضي به.. نظرت: فإن حدث في موضع آخر، بأن رأى البرص أو الجذام في موضع من البدن فرضي به، ثم حدث البرص في موضع آخر من البدن.. كان له الخيار في الفسخ؛ لأن هذا غير الذي رضي به. وإن اتسع ذلك الموضع الذي رضي به.. لم يثبت له الخيار لأجله؛ لأن رضاه به رضى بما تولد منه.(9/296)
[مسألة العيب الذي يفسخ العقد به فخياره على الفور]
] : وكل موضع قلنا: لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح بالعيب.. فإن ذلك الخيار يثبت له على الفور لا على التراخي؛ لأنه خيار عيب لا يحتاج إلى نظر وتأمل فكان على الفور، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا.
فقولنا: (خيار عيب) احتراز من خيار الأب في رجوعه بهبته لابنه، ومن خيار الولي: في القصاص، أو العفو. وقولنا: (لا يحتاج فيه إلى نظرٍ وتأملٍ) احتراز من المعتقة تحت عبدٍ، إذا قلنا: يثبت له الخيار على التراخي.
ولسنا نريد أن الفسخ يكون على الفور، وإنما نريد به أن المطالبة بالفسخ تكون على الفور، وهو: أن أحد الزوجين إذا علم بالآخر عيبا.. فإنه يرفع ذلك إلى الحاكم، فيستدعي الحاكم الآخر ويسأله، فإن أقر به أو كان ظاهرا.. فسخ النكاح بينهما، وإن أنكر أو كان خفيا.. فعلي المدعي أن يقيم البينة، فإذا أقام البينة.. فسخ النكاح بينهما، ولا يثبت هذا الفسخ إلا بالحاكم؛ لأنه مختلف فيه فلم يثبت إلا بالحاكم، كفسخ النكاح للإعسار بالنفقة والمهر.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز لأحد الزوجين أن يتولى الفسخ بنفسه بحال.
وقال ابن الصباغ: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم.. فالحاكم أولى به، وهو بالخيار: فإن شاء.. فسخ بنفسه، وإن شاء.. أمرها بالفسخ.
وقال القفال: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم وأثبتت العيب عنده.. خيرت: بين أن تفسخ بنفسها، وبين أن يفسخ الحاكم بمسألتها.
[مسألة فسخ النكاح بالعيب وحكم المهر]
وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا ففسخ النكاح.. نظرت: فإن كان الفسخ قبل الدخول.. سقط جميع المهر؛ لأن المرأة إن كانت هي التي فسخت.. فالفرقة جاءت من جهتها، وإن كان الزوج هو الذي فسخ.. فإنما فسخ لمعنى من جهتها، وهو(9/297)
تدليسها بالعيب، فصار كما لو فسخته بنفسها.
وإن كان الفسخ بعد الدخول، فإن كان الفسخ لعيب كان موجودا حال العقد.. فالمشهور من المذهب: أنه يلزم الزوج مهر المثل، سواء كان العيب بالزوج أو بالزوجة؛ لأن الفسخ مستند إلى العيب الموجود حال العقد، فصار كما لو كان النكاح فاسدا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر مخرجا أنه: يجب المسمى؛ لأن الفسخ رفع للعقد في الحال لا من أصله. وليس بشيء.
وإن كان الفسخ لعيب حدث بعد العقد بالزوج، أو بالزوجة على القول الجديد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب لها المسمى؛ لأنه قد وجب لها المسمى بالعقد، فلا يتغير بما يحدث بعده من العيب.
والثاني: يجب لها مهر المثل؛ لأنه لما فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة.
والثالث - وهو المنصوص -: (إن حدث العيب قبل الوطء.. وجب لها مهر المثل. وإن حدث العيب بعد الوطء.. وجب لها المسمى؛ لأنه إذا حدث قبل الوطء.. فقد حدث قبل استقرار المسمى، فإذا فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة. وإذا حدث العيب بعد الوطء.. فقد حدث بعد استقرار المسمى بالدخول، فلا يتغير بما طرأ بعده) .(9/298)
[فرع العلم بالعيب بعد الوطء ورجوع الزوج بالمهر]
وإن تزوج رجل امرأة وبها عيب، فلم يعلم به حتى وطئها، ثم علم به وفسخ النكاح.. فقد قلنا: إنه يجب لها عليه مهر المثل، وهل للزوج أن يرجع به على الولي؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (أيما رجل تزوج بامرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها.. فلها الصداق، وذلك لزوجها غرم على وليها) . ولأن الولي هو الذي أتلف على الزوج المهر؛ لأنه أدخله في العقد حتى لزمه مهر المثل، فوجب أن يلزمه الضمان، كالشهود إذا شهدوا عليه بقتل أو غيره ثم رجعوا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه) . وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه ضمن ما استوفى بدله، وهو الوطء فلا يرجع به على غيره، كما لو كان المبيع معيبا فأتلفه.
فإذا قلنا بهذا.. فلا تفريع عليه.
وإذا قلنا بالأول: فإن كان الولي ممن يجوز له النظر إلى وليته، كالأب والجد والأخ والعم.. رجع الزوج عليه، سواء علم الولي بالعيب أو لم يعلم؛ لأنه فرط بترك الاستعلام بالعيب، ولأن الظاهر أنه يعلم ذلك. وإن كان الولي ممن لا يجوز له النظر إليها، كابن العم، والمولى المعتق، والحاكم، فإن علم الولي بعيبها.. رجع عليه الزوج، وإن لم يعلم الولي بالعيب.. لم يرجع عليه الزوج، ويرجع الزوج على المرأة؛ لأنها هي التي غرته.
فإن ادعى الزوج على الولي: أنه يعلم بالعيب فأنكر، فإن أقام الزوج بينة على(9/299)
إقرار الولي بعلمه بالعيب.. رجع عليه. وإن لم يقم عليه بينة.. حلف الولي: أنه لم يعلم بالعيب، ورجع على الزوجة.
وإن كان لها جماعة أولياء في درجة واحدة ووجد من جميعهم الغرور ممن يجوز لهم النظر إليها.. رجع الزوج عليهم إذا علموا. فإن كان بعضهم عالما بالعيب وبعضهم جاهلا به.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما: يرجع على العالم؛ لأنه هو الذي غره.
والثاني: يرجع على الجميع؛ لأن ضمان الأموال لا يختلف بالخطأ والعمد.
هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كان الولي غير محرم لها.. فهل يرجع عليه الزوج؟ فيه قولان.
وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الولي.. فإنه يرجع عليه بجميع مهر المثل.
وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الزوجة.. فبكم يرجع عليها؟ فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليها بجميع مهر المثل، وإنما يبقي قدرا يمكن أن يكون صداقا؛ لئلا يعرى الوطء عن بدل.
والثاني: يرجع عليها بالجميع؛ لأنه قد حصل لها بدل الوطء وهو المهر، وإنما يرجع إليه بسبب آخر، فهو كما لو وهبته منه. والأول أصح.
وحكي المسعودي [في " الإبانة "] : أن القولين في الولي أيضا. والمشهور: أنه يرجع عليه بالجميع قولا واحدا.(9/300)
[فرع العلم بالعيب بعد الطلاق لغير المدخول بها]
قال في (الأم) : (إذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول، وعلم بعد ذلك أنه كان بها عيب يثبت به خيار الفسخ.. لزمه نصف المهر؛ لأنه رضي بإزالة الملك والتزام نصف الصداق بالطلاق، فلم يرجع إليه) .
[مسألة امتناع الولي أو وليته من تزويجها ممن به عيب]
وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها بمجنون.. كان له الامتناع من ذلك؛ لأن عليه عارا بكون وليته تحت مجنون؛ لأنه لا يشهد ولا يحضر الجمعة والجماعة. وإن دعا الولي وليته إلى تزويجها بمجنون.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها ضررا به وعارا.
وإن دعت المرأة وليها أن يزوجها بمجبوب أو خصي أو عنين.. فليس له أن يمتنع؛ لأنه لا عار عليه في ذلك. وإن دعاها الولي إلى أن يزوجها بأحدهم.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها نقصا من جهة الاستمتاع.
وإن دعت المرأة وليها إلى أن يزوجها بمجذوم أو أبرص.. فهل له أن يمتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له أن يمتنع؛ لأن الخيار إنما يثبت لها في النكاح؛ لأن النفس تعاف من مباشرتهما، وذلك نقص عليها دون الولي، فهو كالمجبوب والخصي.
والثاني: له أن يمتنع؛ لأن على الولي عارا في ذلك، وربما أعداها أو أعدى ولدها فيلتحق العار بأهل نسبها.
وإن دعاها الولي إلى تزويجها بمجذوم أو أبرص.. كان لها أن تمتنع؛ لأن عليها في ذلك عارا ونقصا.
وإن تزوجت امرأة برجل سليم لا عيب فيه، ثم حدث به عيب يثبت لأجله الخيار،(9/301)
فإن فسخت النكاح.. لم يعترض عليها وليها بذلك. وإن اختارت المقام معه على ذلك.. جاز، ولا اعتراض للولي عليها بذلك؛ لأن حق الولي إنما هو في ابتداء العقد دون استدامته. ولهذا: لو دعت الحرة وليها إلى تزويجها بعبد.. لم يلزمه إجابتها، ولو أعتقت تحت عبد واختارت المقام معه.. لم يجبرها الولي على الفسخ.
[مسألة معنى العنين وحكمه]
العنين: هو الرجل العاجز عن الجماع، وربما يشتهي الجماع ولا يناله. واشتقاقه من عَنَّ الشيءُ: إذا اعترض؛ لأن ذكره يعن، أي: يعترض عن يمين الفرج وشماله، فلا يقصده. وقيل: اشتق من عنان الدابة، أي: أنه يشبهه في اللين.
إذا ثبت هذا: فالعنة في الرجل عيب يثبت الخيار لزوجته في فسخ النكاح لأجلها على ما نبينه. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحكم بن عتيبة، وداود، وأهل الظاهر: (ليست بعيب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله الأزواج: بين أن يمسكوا النساء بمعروف، أو يسرحوهن بإحسان. والإمساك بمعروف لا يكون بغير وطء؛ لأنه هو المقصود بالنكاح، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف من هذا الوجه.. تعين عليه التسريح بإحسان؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر.
وعن عمر وعلى وابن مسعود والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يؤجل العنين سنة، فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، ولا مخالف لهم في الصحابة. فدل على: أنه إجماع.(9/302)
ولأن الله تعالى أوجب على المولي أن يفيء أو يطلق؛ لما يلحقها من الضرر بامتناعه من الوطء، والضرر الذي يلحق امرأة العنين أعظم من امرأة المولي؛ لأن المولي ربما وطئها. فإذا ثبت الفسخ لامرأة المولي.. فلأن يثبت لامرأة العنين أولى.
إذا ثبت هذا: فإن المرأة إذا جاءت إلى الحاكم وادعت على زوجها: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. استدعاه الحاكم وسأله، فإن أقر: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. ثبت أنه عنين.
وإن أنكر وقال: لست بعنين، فإن كان مع المرأة بينة بإقراره: أنه عنين وأقامتها.. ثبت أنه عنين. وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ليس بعنين، فإذا حلف.. سقطت دعواها.
وإذا ثبت أنه قادر على وطئها وامتنع.. فهل يجبره الحاكم على وطئها مرة ليتقرر مهرها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
وإن نكل عن اليمين.. حلفت: أنه عنين، ولا يقضى عليه بنكوله من غير يمين.(9/303)
وحكى الشيخ أبو إسحاق، عن أبي سعيد الأصطخري أنه: يقضى عليه بنكوله من غير أن تحلف؛ لأنه أمر لا تعلمه. وليس بشيء؛ لأنه حق نكل فيه المدعى عليه عن اليمين، فحلف المدعي، كسائر الحقوق. وقوله: (إنه أمر لا تعلمه) يبطل بكنايات الطلاق والقذف.
فإذا ثبت أنه عنين بإقراره، أو بيمينها بعد نكوله.. فإن الحاكم يؤجله سنة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا.
وحكى عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (يؤجل العبد نصف سنة) .
دليلنا: ما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (يؤجل سنة) ، ولم يفرقوا. ولأن العجز عن الوطء قد يكون للعجز من أصل الخلقة، وقد يكون لعارض، فإذا مضت عليه سنة.. اختلفت عليه الأهوية، فإن كان ذلك قد أصابه من الحرارة.. انحل في الشتاء، وإن أصابه من الرطوبة.. انحل في الصيف وشدة الحر، وإن كان طبعه يميل إلى هواء معتدل.. أمكنه ذلك في الفصلين الآخرين. فإذا مضت عليه سنة ولم يقدر على الوطء.. علم أن عجزه من أصل الخلقة. ولأن بعضهم قال: الداء لا يستجن في البدن أكثر من سنة، ثم يظهر.
ولا يضرب المدة له إلا الحاكم؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أجل العنين سنة بعد ثبوت العنة. ولأن من الناس من قال: يؤجل، ومنهم من قال: لا يؤجل. وكل حكم مختلف فيه.. فلا يثبت إلا بالحاكم، كالفسخ بالعيوب والإعسار بالنفقة.
ولا يضرب له الحاكم المدة إلا من حين ترافعها إليه بعد ثبوت العنة. فأما إذا أقر الزوج للزوجة بالعنة وأقاما على ذلك زمانا.. فلا يحكم عيه بالتأجيل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ضرب أجل العنين سنة، والظاهر أنه إنما ضرب له المدة من حين ترافعها إليه.(9/304)
[فرع يسقط حق المرأة إذا جامع العنين في المدة]
فإذا ضربت للعنين المدة، ثم جامع امرأته قبل انقضاء السنة، أو بعدها وقبل الفسخ.. سقط حقها من الفسخ؛ لأنه قد ثبتت قدرته على الوطء.
فإذا كان ذكره سليما.. خرج من العنة بتغيب حشفته في فرجها، ولا يخرج بما دون ذلك، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن أحكام الوطء من وجوب الغسل، والحد، والعدة، واستقرار المهر تتعلق بذلك.
وإن كان بعض ذكره مقطوعا وبقى منه ما يتمكن به من الجماع، فإن غيب جميعه في فرجها.. خرج من العنة بذلك. وإن غيب منه أقل من مقدار الحشفة.. لم يخرج من العنة. وإن غيب منه قدر الحشفة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يخرج من العنة بذلك؛ لأنه لو كان ذكره سليما فغيب منه هذا القدر.. خرج من العنة. فكذلك إذا كان بعضه مقطوعا.
والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يخرج من العنة إلا بتغييب جميع ما بقي من الذكر؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا تكون الإصابة إلا بأن يغيب الحشفة أو ما بقي من الذكر في الفرج) . ولأنه إذا كان سليما.. فهناك حد يمكن اعتباره - وهو: الحشفة - فإذا كان بعضه مقطوعا.. فليس هناك حد يمكن اعتباره، فاعتبر الجميع.
وعندي: أن الغسل وسائر أحكام الوطء فيه على هذين الوجهين.
وإن وطئها في الموضع المكروه.. لم يخرج من العنة؛ لأنه ليس محلا للوطء في الشرع، ولهذا لا يحصل به الإحلال للزوج الأول. وإن أصابها في الفرج وهي حائض، أو نفساء، أو صائمة عن فرض، أو محرمة.. خرج من العنة؛ لأنه محل للوطء في الشرع، وإنما حرم الوطء لعارض.(9/305)
[فرع ادعاء الزوج الوطء]
وإن ادعى الزوج: أنه قد وطئها، وأنكرت، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج من يمينه؛ لأنه لا يمكن إثباته بالبينة.
وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من القوابل، فإن قلن: إن بكارتها قد زالت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تزول إلا بالوطء.
وإن قلن: إن البكارة باقية، فإن قال الزوج كذبن، قد أصبتها وهي ثيب.. لم يلتفت إلى قوله؛ لأن في ذلك طعنا على البينة فيثبت عجزه. وإن قال: صدقن، كنت قد أصبتها وأزلت بكارتها ثم عادت.. فالقول قول الزوجة؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تعود.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتحلف المرأة على ذلك؛ لأن ما يدعيه الزوج ممكن؛ لأنه قد قال أهل الخبرة: إن الرجل إذا وطئ البكر ولم يبالغ.. فإن البكارة ربما زالت ثم عادت، فحلفت عليه)
هذا مذهبنا، وبه قال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله.
وقال الأوزاعي: (يترك الزوج معها، ويكون هناك امرأتان جالستان خلف ستر قريب منهما، فإذا قام الرجل عن جماعها.. بادرتا فنظرتا إلى فرجها، فإن رأتا فيه الماء.. علمنا أنه أصابها، وأن لم تريا فيه الماء.. علمنا أنه لم يصبها) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يفعل ذلك، ولكن يقتصر فيه على امرأة واحدة)(9/306)
وحكي: (أن امرأة ادعت على زوجها العنة، فكتب سمرة بذلك إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكتب إليه: أن يزوج امرأة ذات حسن وجمال، يذكر عنها الصلاح، ويساق إليها صداقها من بيت المال؛ لتخبر عن حاله، فإن أصابها.. فقد كذبت - يعنى زوجته - وإن لم يصبها.. فقد صدقت. ففعل ذلك، ثم سألها عنه، فقالت ما عنده شيء! فقال سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما دنا ولا انتشر عليه؟ فقالت: بلى دنا وانتشر عليه، ولكن جاءه سره) أي: أنزل قبل أن يولج.
هذه رواية الشيخ أبي حامد وسائر أصحابنا، وأما أبو عبيد فذكر: (أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن اشتر له جارية من بيت المال، وأدخلها معه ليلة ثم سلها عنه، ففعل سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما أصبح قال ما صنعت؟ قال: فعلت حتى خضخض فيه، فسأل الجارية، فقالت: لم يصنع شيئا، فقال: خل سبيلها يا مخضخض) .
و (الخضخضة) : الحركة في الشيء حتى يستقر.
وما ذكره الأوزاعي ومالك رحمة الله عليهما غير صحيح؛ لأن العنين قد ينزل من غير إيلاج، وقد يولج غير العنين من غير إنزال.
وما ذكره معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غير صحيح؛ لأن الرجل قد يعن عن امرأة ولا يعن عن غيرها.
[مسألة بعد مضي سنة تكون المرأة بالخيار]
وإذا انقضت السنة ولم يقدر على وطئها.. كانت بالخيار: بين الإقامة، أو الفسخ. فإن اختارت الإقامة سقط حقها من الفسخ؛ لأنها أسقطت ما ثبت لها من الفسخ، فإن أرادت بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ.. لم يكن لها ذلك؛ لأنه عيب رضيت به، فهو كما لو وجدته مجذوما أو أبرص فرضيت به، ثم أرادت أن تفسخ بعد ذلك.(9/307)
وإن اختارت الفسخ.. لم يصح إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه. قال ابن الصباغ: ويفسخ الحاكم النكاح، أو يجعله إليها فتفسخ. وقال الشيخ أبو حامد: لا تفسخه المرأة بنفسها؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم قالوا: (فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، فأخبروا: أنها لا تتولاه.
ويكون ذلك فسخا لا طلاقا
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (تكون طلقة بائنة)
دليلنا: أنه فسخ لعيب، فلم يكن طلاقا، كالأمة إذا أعتقت تحت عبد فاختارت الفسخ. فإن رضيت بالمقام معه قبل أن تضرب له المدة أو في أثنائها.. ففيه وجهان، وحكاهما ابن الصباغ قولين:
أحدهما: يسقط حقها من الفسخ؛ لأنها رضت بعنته، فهو كما لو رضيت به بعد انقضاء المدة.
والثاني: لا يسقط حقها من الفسخ، وهو الأصح؛ لأنها أسقطت حقها من الفسخ قبل جوازه فلم يسقط، كالشفيع إذا أسقط حقه من الشفعة قبل الشراء
[فرع وطئ ثم عجز]
إذا تزوج رجل امرأة فوطئها، ثم عجز عن وطئها.. لم يثبت لها الخيار، ولا يحكم لها عليه بالعنة.
وقال أبو ثور: (تضرب له المدة، ويثبت لها الخيار، كما لو وطئها ثم جب ذكره)
دليلنا: أن العنة يتوصل إليها بالاستدلال والاجتهاد، فإذا تحققنا قدرته على الوطء في هذا النكاح.. لم يرجع فيه إلى الاستدلال بمضي الزمان؛ لأنه رجوع من اليقين إلى(9/308)
الظن. ويخالف: إذا وطئها ثم جب؛ لأن الجب أمر مشاهد متحقق، فجاز أن ترفع قدرته على الوطء بالأمر المتحقق.
فإن تزوج امرأة ثم وطئها، ثم طلقها فبانت منه، ثم تزوجها، فادعت عليه العنة.. سمعت دعواها عليه، فإن أقر بذلك.. ضربت له المدة؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ويجوز أن تثبت العنة في نكاح دون نكاح، كما تثبت في امرأة دون امرأة.
[فرع علمت بأنه عنين]
وإن تزوج رجل امرأة مع علمها أنه عنين، بأن أخبرها: أنه عنين، أو تزوجها فأصابته عنينا، ففسخت النكاح ثم تزوجها ثانيا.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت لها الخيار) ؛ لأنها تزوجته مع العلم بحاله، فلم يثبت لها الفسخ، كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت لها الفسخ) ؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ولأنها إنما تحققت عنته في النكاح الأول، ويجوز أن يكون عنينا في نكاح دون نكاح.
[مسألة فارقها العنين ثم راجعها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن فارقها بعد ذلك، ثم راجعها، ثم سألت أن يؤجل لها.. لم يكن لها ذلك) .
وجملة ذلك: أن المرأة إذا أصابت زوجها عنينا فضربت له المدة ورضيت بالمقام معه، ثم طلقها وعادت إليه.. نظرت: فإن طلقها طلاقا رجعيا، ثم راجعها وأرادت أن تضرب له المدة ثانيا.. لم يكن لها ذلك؛ لأن الرجعة استصلاح للنكاح الأول وليست بتجديد عقد للنكاح، وقد رضيت بمقامها معه في هذا النكاح، فلم يكن لها أن تطالب بضرب المدة.(9/309)
واعترض المزني على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال: لا تجتمع الرجعة مع العنة؛ لأنه إن كان قد وطئها في هذا النكاح.. فإنه لا تضرب له المدة للعنة فيه، وإن لم يصبها فيه.. فلا عدة عليها له ولا رجعة.
قال أصحابنا: يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنى هذا على القول القديم: (أن الخلوة تثبت العدة) ، فكأنه فرضها فيمن خلا بامرأته ولم يطأها فأصابته عنينا، فضربت له المدة، ثم اختارت المقام معه، ثم طلقها ولم يبنها.. فإن له الرجعة عليها؛ لأن الخلوة كالدخول في استقرار المهر ووجوب العدة والرجعة على هذا.
ويحتمل أنه بناها على القول الجديد، وهو: (إذا وطئها ولم يغيب الحشفة في الفرج وأنزل، أو استدخلت ماءه من غير جماع.. فإنه يجب عليها العدة وله عليها الرجعة) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في (الأم) ، وقوله في (الأم) : (إن الخلوة لا تقرر المهر ولا توجب العدة)
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا وطئها في دبرها.
وإن كان الطلاق بائنا: ثم تزوجها بعده.. فقد تزوجته مع العلم بعنته، وهل لها الخيار؟ فيه قولان مضى بيانهما.
[فرع عنَّ عن إحدى زوجتيه]
إذا تزوج امرأتين فعن عن إحداهما دون الأخرى.. ضربت له المدة للتي عن عنها؛ لأن لكل واحدة حكم نفسها، فاعتبر حكمها بانفرادها.
[مسألة وجدته مجبوبا أو خصيا أو خنثى زال إشكاله]
وإن أصابت المرأة زوجها مجبوبا، فإن جب ذكره من أصله.. ثبت لها الخيار في الحال؛ لأن عجزه متحقق. وإن بقي بعضه، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع(9/310)
به.. فهو كما لو لم يبق منه شيء؛ لأن وجود الباقي كعدمه.
وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به، فإن اتفق الزوجان على أن الزوج يقدر على الجماع به.. فلا خيار لها. وإن اختلفا، فقالت الزوجة: لا يقدر على الجماع به، وقال الزوج: بل اقدر على الجماع به.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، كما لو كان الذكر سليما.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر ممن قطع بعض ذكره أنه لا يقدر على الجماع به.
فإن ثبت عجزه عن الجماع به، إما بإقراره أو بيمينها.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - حكاه عن الشيخ أبي حامد -: أن الخيار يثبت لها في الحال؛ لأن عجزه متحقق.
والثاني -: وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم أجد في (التعليق) إلا ذلك -: أنه تضرب له مده العنين؛ لأن عجزه غير متحقق؛ لأنه قد يقدر على الجماع به، فهو كالعنين.
وأما إذا اختلفا في القدر الباقي: هل هو مما يمكن الجماع به، أو مما لا يمكن الجماع به؟
فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - والمحاملي: أن القول قول الزوجة وجها واحدا؛ لأن الأصل عدم الإمكان.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يرجع في ذلك إليها، وإنما يرجع إلى من يعرف(9/311)
ذلك بصغره وكبره، كما لو ادعت: أنه مجبوب، وأنكر ذلك.
وإن أصابت زوجها خصيا، أو خنثى قد زال إشكاله، فإن قلنا: لها الخيار.. كان لها الخيار في الحال، سواء كان قادرا على الوطء أو عاجزا عنه؛ لأن العلة فيه: أن النفس تعاف من مباشرته. وإن قلنا: لا خيار لها وادعت عجزه عن الجماع، فأقر بذلك.. ضربت له مدة العنين، وهي سنة.
[فرع العنة في الصبي والمجنون]
] : روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يجامعها الصبي.. أجل) .
قال المزني: معناه عندي: صبي قد بلغ أن يجامع مثله.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل والتأويل.
فأما النقل: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (وأن لم يجامعها الخصى.. أجل) ، وبنى الشافعي هذا إذا قلنا: لا خيار لها في الخصي وادعت عجزه عن الجماع.. فإنه يؤجل، فغلط المزني من الخصي إلى الصبي.
وأما تأويله: فغلط أيضا؛ لأن الصبي لا تثبت العنة في حقه؛ لأن العنة لا تثبت إلا باعترافه أو بنكوله عن اليمين ويمين الزوجة، وهذا معتذر في حقه قبل أن يبلغ؛ لأن دعوة المرأة لا تسمع عليه بذلك قبل بلوغه.
وإن ادعت امرأة المجنون على زوجها العنة.. لم تسمع دعواها عليه؛ لأنه لا يمكنه الجواب على دعواها. وإن ثبتت عنته قبل الجنون، فضربت له المدة وانقضت وهو مجنون.. فلا يجوز للحاكم أن يفسخ النكاح بينهما؛ لأنه لو كان عاقلا.. لجاز أن يدعي الإصابة ويحلف عليها، إن كانت ثيبا، وهذا متعذر منه في حال جنونه.
وإن كانت بكرا، فيجوز أن يكون قد وطئها وأزال بكارتها، ثم عادت البكارة، أو منعته عن نفسها.. فلم يجز الحكم عليه قبل إفاقته.(9/312)
[مسألة اختلفت صفه الزوج أو نسبه عما شرط]
إذا تزوجت امرأة رجلا على أنه على صفة فخرج بخلافها، أو على نسب فخرج بخلافه، سواء خرج أعلى مما شرط أو دون ما شرط.. فالحكم واحد، وذلك بأن تتزوج رجلا بشرط أنه طويل فخرج قصيرا، أو بشرط أنه قصير فخرج طويلا، أو أنه أسود فخرج أبيض، أو أنه أبيض فخرج أسود، أو أنه موسر فخرج فقيرا، أو أنه فقير فخرج موسرا، أو على أنه قرشي فخرج غير قرشي، أو على أنه ليس بقرشي فكان قرشيا، أو على أنه حر فكان عبدا وكان نكاحه بإذن مولاه، أو على أنه عبد فخرج حرا، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح العقد؟ فيه قولان:
أحدهما: أن النكاح باطل؛ لأن الاعتماد في النكاح على الصفات والأسماء، كما أن الاعتماد في البيوع على المشاهدة، بدليل: أنه لو قال: زوجتك أختي أو ابنتي.. صح وإن لم يشاهدها الزوج، كما أنه إذا باعه سلعة شاهدها.. صح. ثم اختلاف الأعيان يوجب بطلان النكاح والبيع، بدليل: أنه لو قال: زوجتك ابنتي يا عمرو، فقبل غيره نكاحها - وهو: زيد - أو قال: بعتك عبدي هذا، فقال المشتري: قبلت البيع في الجارية.. لم يصح النكاح والبيع، فوجب أن يكون اختلاف الصفة يوجب بطلان العقد.(9/313)
فعلى هذا: يفرق بينهما، فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه، وإن دخل بها.. وجب لها عليه مهر مثلها.
والقول الثاني: أن النكاح صحيح، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه معنى لا يفتقر العقد إلى ذكره، ولو ذكره وكان كما شرط.. صح العقد. فإن ذكره وخرج بخلاف ما شرط.. لم يبطل العقد، كالمهر.
فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان الشرط في الصفة، فإن خرج الزوج أعلى مما شرط في العقد، بأن شرط أنه فقير فكان موسرا، أو أنه جاهل فكان عالما، أو أنه شيخ فكان شابا، أو أنه قبيح فكان مليحا.. لم يكن لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار يثبت للنقص، وهذه زيادة لا نقصان. وإن خرج أدنى مما شرط.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه دون ما شرط.
وإن كان في النسب.. نظرت: فإن شرط أنه حر خرج عبدا وهي حرة.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح قولا واحدا؛ لأن العبد لا يكافئ الحرة. وكذلك: إذا شرط أنه عربي فخرج عجميا وهي عربية.. ثبت لها الخيار؛ لأنه لا يكافئها. وإن خرج نسبه أعلى من النسب الذي انتسب إليه بأن شرط أنه ليس من قريش فكان قرشيا.. فلا خيار لها لأنه أعلى مما شرط. وإن خرج نسبه دون نسبه الذي انتسب إليه، ودون نسبها.. ثبت لها الخيار. وإن كان مثل نسبها أو أعلى منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لها الخيار؛ لأنها لم ترض به أن يكون كفؤا لها.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا خيار لها؛ لأنه كفء لها، ولا نقص عليها في ذلك.
[مسألة تزوج على أنها حرة فبانت أمة]
وإن تزوج رجل امرأة على أنها حرة فكانت أمة.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها، وإنما يتصور القولان مع وجود أربع شرائط:(9/314)
أحدها: أن يكون الزوج ممن يحل له نكاح الأمة.
والثاني: أن يكون الشرط في حال العقد. فأما قبله أو بعده.. فلا يؤثر.
الثالث: أن يكون الغرر من جهة الأمة أو من وكيل السيد، فأما إذا كان هذا الشرط من السيد.. فإنها تعتق.
الرابع: أن يكون النكاح بإذن السيد.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. لزمه مهر المثل لسيدها، فإذا غرمه.. فهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما في التي قبلها.
وإن حبلت منه وخرج الولد حيا.. كان حرا للشبهة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا، ويلزمه قيمته لسيدها؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده، ويرجع بقيمته إذا غرمها على من غره قولا واحدا؛ لأنه لم يحصل له في مقابلة حريته منفعة، بخلاف المهر، وتعتبر قيمته يوم الوضع.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تلزمه قيمته يوم الترافع إلى القاضي)
دليلنا: أن الحيلولة بينه وبين سيد الأمة وجدت يوم الوضع، فاعتبرت قيمته عند ذلك.
وإن وضعته ميتا.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يوجد بينه وبين سيد الأمة حيلولة.
وإن ضرب ضارب بطنها فأسقطته ميتا.. وجب على الضارب للزوج غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وكم يجب على الزوج للسيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: قيمة الغرة بالغة ما بلغت.
والثاني: أقل الأمرين من قيمة الغرة، أو عشر قيمة الأمة.(9/315)
فإن كان المغرور عبدا.. ففي محل ما يلزمه من المهر وقيمة الولد ثلاثة أقوال:
أحدها: في رقبته.
والثاني: في ذمته إلى أن يعتق.
والثالث: في كسبه.
وإن كان المغرور حرا، ودفع إليه ما يلزمه من المهر وقلنا: له أن يرجع به أو دفع قيمة الولد، فإن كان الذي غره هو وكيل السيد.. رجع عليه في الحال إن كان موسرا. وإن كان معسرا أنظر إلى إيساره.
وإن كان الذي غره هي الأمة.. رجع عليها إذا أعتقت.
وإن كان الذي غره هي الأمة ووكيل السيدِ.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ":
أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رجع بالجميع على الوكيل في الحال، وإن شاء.. رجع بالجميع على الأمة بعد العتق.
والثاني: أنه يرجع بما غرمه عليهما نصفين، إلا أنه لا يرجع على الأمة إلا بعد العتق.
وإن كان المغرور عبدا، فإن قلنا: محل الغرم ذمته إذا عتق.. فإنه لا يرجع إلا بعد أن يغرم. وإن قلنا: إن محل الغرم رقبته أو كسبه.. رجع السيد على الغارم بعد الغرم.
وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يثبت له الخيار في الفسخ؟ فيه ثلاث طرق:
[الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان:
أحدهما: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها.
والثاني: له الخيار؛ لأن كل معنى ثبت به الخيار للزوجة.. ثبت به الخيار للزوج، كسائر العيوب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يثبت له الخيار قولا واحدا، كما يثبت للحرة(9/316)
في العبد؛ لأن الكفاءة وإن لم تعتبر إلا أن عليه ضررا في استرقاق ولده منها، وذلك أعظم من ضرر الكفاءة.
و [الطريق الثالث] : قال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبدا.. لم يثبت له الخيار قولا واحدا؛ لأنه مساو لها. والصحيح: أن للجميع الخيار.
فإن قلنا: له الخيار، واختار الفسخ، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء عليه.. وإن كان بعد الدخول.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن العقد إذا فسخ بمعنى قارن العقد.. صار كأن العقد وقع باطلا، فلزمه مهر المثل. والكلام في رجوعه به على من غره على ما مضى.
وإن قلنا: لا خيار له، أو قلنا: له الخيار فاختار الإقامة على النكاح.. استقر عليه المسمى بالدخول، فإن حبلت منه قبل أن يعلم برقها.. فالولد حر، ويلزمه قيمته لسيده، ويرجع به على من غره.
وإن وطئها بعد ما علم برقها فحبلت منه، فإن كان الزوج غير عربي.. كان ولده منها رقيقا لسيد الأمة.
وإن كان الزوج عربيا، فإن قلنا بقوله الجديد: (إن العرب يسترقون إذا أسروا) .. كان ولده رقيقا. وإن قلنا بقوله القديم: (إن العرب لا يسترقون) .. كان ولده منها حرا، وعليه قيمة الولد لسيد الأمة.
[فرع وجدها خلاف ما وصفت أو نسبت]
] : وإن تزوجها على أنها على صفة فخرجت بخلافها، أو أنها من نسب فخرجت بخلافه، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وسواء خرجت أعلى من الشرط أو دونه.
فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه.(9/317)
وإن دخل بها.. لزمه مهر مثلها، وهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما.
فإن قلنا: لا يرجع.. فلا كلام.
وإن قلنا: يرجع على من غره، فغرم، فإن كان الذي غره وليها وهو واحد.. رجع عليه بالجميع، وإن كانوا جماعة، فإن غروه بالنسب.. رجع على جميعهم بالسوية بجميع المهر؛ لأن نسبها لا يخفى عليهم. وإن غروه بصفة غير النسب، فإن كانوا كلهم عالمين بحالها، أو كلهم جاهلين بحالها.. رجع على جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض. وإن كان بعضهم عالما بحالها وبعضهم جاهلا بحالها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يرجع على الجميع؛ لأن الجميع منهم زوجوه، وحقوق الأموال لا تسقط بالخطأ.
والثاني: يرجع على العالم منهم بحالها دون الجاهل؛ لأن العالم بحالها هو الذي غره.
فإن كان الذي غره هي الزوجة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليها بجميع المهر، كما قلنا في الأولياء.
والثاني: لا يرجع عليها بالجميع، بل يبقى منه شيء حتى لا يعرى الوطء عن بدل.
فإن قلنا: يرجع عليها بالجميع، فإن كان قد قبضته منه.. ردته إليه، وإن لم تقبضه منه.. لم تقبضه، بل يسقط أحدهما بالآخر على أحد الأقوال.
وإن قلنا: لا يرجع عليها بالجميع، فإن كانت قد قبضت الجميع.. رجع عليها بما قبضت منه، ويبقي منه بعضه. وإن لم تقبضه منه.. أقبضها منه شيئا، وسقط الباقي عنه.
وإن قلنا: إن النكاح صحيح، فإن غرته بصفة فخرجت على صفة أعلى مما شرطت، أو بنسب فخرج نسبها أعلى مما شرطت.. فلا خيار للزوج؛ لأنه لا نقص(9/318)
عليه، وإن خرج نسبها دون ما شرطت من النسب إلا أنه مثل نسب الزوج أو أعلى من نسبه.. فلا خيار له؛ لأنه لا نقص عليه. وإن خرج نسبها دون النسب الذي شرطت ودون نسب الزوج، أو كان الغرور بصفة فخرجت صفتها دون الصفة التي شرطت.. فهل له الخيار في فسخ النكاح؟ فيه قولان:
أحدهما: له الخيار؛ لأنه معنى لو شرطه الزوج بنفسه وخرج بخلافه.. لثبت لها الخيار، فثبت به للزوج الخيار، كالعيوب.
والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها، ولأنه لا عار على الزوج بكون نسب الزوجة دون نسبه ودون صفته، بخلاف الزوجة.
فإن قلنا: له الخيار، فاختار الفسخ. فهو كما لو قلنا: إنه باطل.
وإن قلنا: إنه لا خيار له، أو له الخيار فاختار إمساكها.. لزمته أحكام العقد الصحيح.
[مسألة تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة فبانت أمة أو كتابية]
وإن تزوج رجل امرأة يظنها حرة فبانت أمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة.. فالنكاح صحيح، والمنصوص: (أنه لا خيار له) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن تزوج امرأة يظنها مسلمة فبانت كتابية: (إن النكاح صحيح، وللزوج الخيار) . واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: لا فرق بينهما؛ لأن الحرة الكتابية أحسن حالا من الأمة؛ لأن ولده منها لا يسترق واستمتاعه بها تام، فإذا ثبت له الخيار في الكتابية.. ففي الأمة أولى. وإذا لم يثبت له الخيار في الأمة.. ففي الكتابية أولى، فيكون فيهما قولان.
ومنهم من قال: لا يثبت له الخيار في الأمة، ويثبت له الخيار في الكتابية. والفرق بينهما: أن ولي الكافرة كافر، وعليه أن يغير حال نفسه ليعلم أنه كتابي، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فثبت للزوج الخيار، وولي الأمة المسلمة مسلم، وليس عليه أن يغير حال نفسه، فليس من جهته تفريط، وإنما المفرط هو الزوج إذ لم يسأل عن الزوجة، فلم يثبت له الخيار.(9/319)
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] طريقا ثالثا: أنه لا يثبت لواحد منهما الخيار قولا واحدا. ووجهه: أن العقد وقع مطلقا، فهو كم لو ابتاع شيئا ظنه على صفة فبان بخلافها.. فإنه لا خيار له. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتابية.. فمحمول عليه: إذا شرط أنها مسلمة.
والمشهور: هما الطريقان الأولان.
[مسألة بيع الأمة المزوجة أو أعتقت وزوجها حر]
وإذا كان لرجل أمة مزوجة، فباعها سيدها من غير زوجها.. صح بيعه، ولا يكون طلاقا، بل النكاح بحاله. وبه قال عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعامة أهل العلم.
وقال ابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس، وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (يكون بيعها طلاقا) .
دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اشترت بريرة فأعتقتها فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فلو كان نكاحها قد انفسخ بالشراء.. لما خيرها فيه.
وإن أعتقت الأمة وزوجها عبد.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح. وهو إجماع لا خلاف فيه، والأصل فيه ما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: وكان زوجها عبدا» .(9/320)
«قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان زوج بريرة عبدا أسود لبني المغيرة يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه وهو يدور خلفها في سكك المدينة ويبكي ودموعه على خديه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألا تعجب من حب مغيث بريرة، وبغض بريرة مغيثا؟ !) فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك؟) ، فقالت: يا رسول الله، أبأمرك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا، إنما أنا شفيع) ، فقالت: لا حاجة لي فيه» .
ولأن المرأة إذا تزوجت رجلا فبان أنه عبد ولم تكن علمت به.. ثبت لها الخيار في الفسخ، فإذا ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح.. ثبت لها في استدامته.
وإن أعتقت الأمة وزوجها حر.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يثبت لها الخيار) .
دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة وكان زوجها عبدا، ولو كان زوجها حرا.. ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وعائشة لا تقول ذلك إلا بعد أن تعلم ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطعا ويقينا؛ لأن مثل هذا لا يجوز أن يقطع به عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهة الاستدلال. ولأنه لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر، ولهذا: لا يثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فلم يثبت ذلك لها في استدامته.
[فرع عتق بعض الشركاء نصيبه من المزوجة بعبد]
وإذا كانت أمة لجماعة وهي مزوجة بعبد، فأعتق بعضهم نصيبه وهو معسر.. عتق نصيبه لا غير، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لكمالها بالحرية، وذلك لم يوجد قبل عتق جميعها.(9/321)
قال في (الفروع) : وإن تبعضت الحرية فيها.. فقد قيل: لا يثبت لها الخيار حتى تكمل حريتها. وقيل: إذا زادت أجزاء حريتها على أجزاء حريته.. ثبت لها الخيار.
[فرع اختيار المعتقة تحت عبد فسخ النكاح]
وإن أعتقت الأمة تحت عبد واختارت فسخ النكاح.. فلها أن تفسخ النكاح بنفسها، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة: (إن شئت.. أقيمي تحت هذا العبد، وإن شئت.. فارقيه» ، فجعل المفارقة إليها. ولأنه: مجمع عليه، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم، كفسخ البيع عند وجود العيب. وفي وقت خيارها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على الفور، فإن أخرت الفسخ بعد العلم بالعتق مع تمكنها منه.. سقط حقها؛ لأنه خيار عيب فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب.
والثاني: أنها بالخيار ثلاثة أيام؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن بريرة قضى فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالثلاث» . ولأنا لو قلنا: لا يكون خيارها إلا على الفور.. أضررنا بها؛ لأنها قد تحتاج إلى التأمل والنظر فيما لها فيه الحظ من ذلك. ولو قلنا: على التراخي أبدا.. أضررنا بالزوج؛ لأنه لا يدري أتقيم معه أم تفارقه، فقدر بالثلاث؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة.
والثالث - وهو الصحيح -: أنها بالخيار إلى أن يطأها باختيارها؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن «بريرة خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال لها: (إن قربك.. فلا خيار لك» . وبه قال ابن عمر وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(9/322)
قال المحاملي: وفيها قول رابع ضعيف: أنها بالخيار إلى أن يسقط حقها، أو تمكن من وطئها، أو يوجد ما يدل على الرضا مثل: أن يقبلها فتسكت.
وقال ابن الصباغ: لها الخيار إلى أن يمسها باختيارها، أو تصرح بما يبطله.
[فرع ادعاء الأمة جهالة العتق أو بالحكم بعد فوات خيار الفسخ]
إذا أعتقت الأمة تحت عبد فلم تفسخ حتى وطئها الزوج وقلنا: إن لها الخيار إلى أن يطأها، أو مضت الأيام الثلاثة إذا قلنا: إن لها الخيار ثلاثا، أو مضى زمان تمكنت فيه من الفسخ إذا قلنا: إنه على الفور، ثم ادعت الجهالة، فإن ادعت الجهالة بالعتق، فإن كانت في موضع يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون في بلد غير البلد الذي أعتقها فيه السيد، أو في محلة غير محلة السيد.. قبل قولها مع اليمين؛ لأن الظاهر أنها لم تعلم.
وإن كانت في موضع لا يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون مع السيد في دار واحدة.. ففيه طريقان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق -: أنه لا يقبل قولها قولا واحدا؛ لأن دعواها تخالف الظاهر.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المرزوي -: أنها على قولين:
أحدهما: لا يقبل قولها؛ لما ذكرناه.
والثاني: أنه يقبل قولها مع يمينها؛ لأنه يجوز أن يخفى ذلك عليها، ولأن الأصل عدم علمها.
وإن أقرت أنها علمت بالعتق وادعت: أنها جهلت أن لها الخيار.. فهل يقبل قولها مع يمينها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقبل قولها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبا وادعى: أنه لم يعلم أن له الرد.(9/323)
والثاني: يقبل قولها مع يمينها؛ لأن هذا الأمر لا يعرفه إلا خواص الناس، بخلاف الرد بالعيب؛ فإن الخاص والعام يعلمه. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ادعت الجهالة.. فهل يقبل قولها؟ فيه قولان.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالعتق، فأما إذا ادعت الجهالة بالحكم: فلا يقبل قولها قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالحكم، فأما بالعتق: فيقبل قولها قولا واحدا.
[فرع مهر المعتقة بعد اختيارها]
وإذا اختارت فراقه، فإن كان قبل الدخول.. فلا مهر عليه لها ولا متعة؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها. وإن اختارت بعد الدخول.. وجب عليه المهر، وأي مهر يجب عليه؟ ينظر فيه:
فإن وطئها ثم أعتقت.. وجب عليه المهر المسمى؛ لأنه استقر بوطئه. وإن أعتقت ثم وطئها ثم اختارت الفسخ.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فصار كالوطء في نكاح فاسد، ويكون المهر في الحالين للسيد؛ فإنه وجب وهي في ملكه.
وإن اختارت المقام، فإن كان قد سمى لها مهرا صحيحا.. كان ذلك لسيدها.
وإن سمى لها مهرا فاسدا.. كان لسيدها مهر مثلها.
وإن كانت مفوضة، ففرض لها المهر بعد العتق، فإن قلنا: يجب مهر المفوضة بالعقد.. كان لسيدها. وإن قلنا: يجب بالفرض.. كان لها، ويأتي بيان ذلك في موضعه.(9/324)
[فرع عتق قاصرة تحت عبد والصغير تبع لأبيه إذا أسلم]
] : وإن أعتقت الصغيرة أو المجنونة تحت عبد.. لم يكن لها أن تختار؛ لأنه لا حكم لكلامها، وليس لوليها أن يختار الفسخ؛ لأنه خيار شهوة وذلك يتعلق بشهوتها، ولزوجها أن يستمتع بها، وعليه لها النفقة إلى أن تبلغ الصغيرة أو تفيق المجنونة ويثبت لها الخيار. وهل يكون على الفور أو على التراخي؟ على الأقوال في البالغة العاقلة.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا كان زوج الكافر ابنه الصغير من عشر نسوة، ثم أسلم الأب.. تبعه الابن في الإسلام. فإن أسلمت الزوجات.. كان النكاح موقوفا إلى أن يبلغ الزوج ويختار، وتجب عليه نفقتهن. قال: وينبغي أن يمنع من الاستمتاع بهن؛ لأن الإقرار على نكاح جميعهن لا يجوز، بخلاف الحرة تحت العبد.
[فرع عتقت قبل أن تختار أو تعلم بعتق زوجها]
] : وإن لم تعلم بعتقها حتى أعتق العبد، أو قلنا: لا يبطل خيارها بالتأخير، فأعتق قبل أن تختار.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط خيارها من الفسخ؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لنقصه بالرق، وقد زال هذا النقص.
والثاني: لا يسقط خيارها؛ لأنه حق ثبت بالرق فلا يتغير بالعتق، كما لو وجب عليه حد وهو عبد فأعتق قبل أن يقام عليه.
[فرع عتقت في عدة طلاقها الرجعي]
وإن كانت أمة تحت عبد فطلقها طلاقا رجعيا، فأعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار الفسخ؛ لأنها في حكم الزوجات، ولأن لها في ذلك فائدة - وهي: أنها لا تأمن(9/325)
أن يراجعها في آخر عدتها - فإذا فسخت.. استأنفت العدة.. فإن فسخت.. انقطع النكاح. وإن اختارت المقام معه على الزوجية.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنها جارية إلى بينونة، فلا يصح اختيارها للنكاح، كما لو ارتد الزوج وراجع في حال العدة، فإن راجعها.. كان لها أن تختار الفسخ. وإن سكتت ولم تختر الفسخ ولا النكاح.. لم يسقط خيارها؛ لأنها لو صرحت بالمقام معه.. لم يسقط خيارها، فلأن لا يسقط خيارها بسكوتها أولى.
[فرع طلاق العبد أمته قبل اختيارها الفسخ]
] : وإن أعتقت أمة تحت عبد فطلقها قبل أن تختار الفسخ.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الطلاق موقوف، فإن اختارت الفسخ.. لم يقع طلاقه. وإن لم تختر الفسخ.. وقع طلاقه؛ لأن في إيقاعه إسقاطا لما ثبت لما من الفسخ، وذلك سابق لطلاقه.
والثاني: يقع عليها طلاقه؛ لأنه طلاق صادف زوجية صحيحة، فوقع كما لو طلقها قبل العتق. وقال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن الزوجة إذا وجدت بالزوج عيبا.. يثبت به لها الفسخ، فطلقها قبل أن تفسخ. نفذ طلاقه، فكذلك هذا مثله.
[فرع فسخ المعتقة إذا زوجها سيدها أثناء مرض موته أو بوصيته]
وإن كان لرجل أمة قيمتها مائة درهم، وله مائة درهم أخرى، وزوج الأمة بمائة درهم، فأعتقها في مرض موته، أو أوصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول، ولا يملك السيد غير ذلك.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنها لو فسخت.. لسقط مهرها، وإذا سقط مهرها.. لم ينفذ العتق في جميعها، وإذا لم ينفذ العتق في جميعها.. لم يثبت لها الفسخ، فكان إثبات الفسخ يؤدي إلى سقوطه فسقط الفسخ. وإن كان قد دخل بها.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها تخرج من الثلث.(9/326)
[فرع عتق وزوجته أمة]
وإن أعتق عبد وزوجته أمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه صار كاملا مع نقصان زوجته، فصار بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت عبد.
والثاني: لا يثبت له الفسخ، وهو المذهب؛ لأن رقها لا يثبت له الخيار في ابتداء النكاح، وهو: إذا تزوج حر امرأة مطلقا، ثم بان أنها أمة.. لم يثبت له الخيار، فلم يثبت له الخيار في استدامته، بخلاف الحرة، فإنها لو تزوجت برجل مطلقا، ثم بان أنه عبد.. ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فثبت لها في استدامته.
[فرع تزوج أمة من رجل ثم اختلفا]
وإذا تزوج رجل أمة من رجل ثم اختلفا، فقال السيد: زوجتكها وأنا لا أملك تزويجها؛ لأني كنت محرما، أو محجورا علي. فقال الزوج: بل زوجتنيها وأنت تملك تزويجها.. قال ابن الحداد. فالقول قول الزوج مع يمينه.
فمن أصحابنا من وافقه على ذلك؛ لأن الزوج يدعي الصحة، والسيد يدعي البطلان لمعنى قارن العقد، والأصل عدم ذلك المعنى، وسلامة العقد منه.
قال هذا القائل: ولو ادعى الزوج: أنه تزوجها منه في حال الإحرام أو الحجر، أو أنه كان واجدا لطول حرة، وقال السيد: بل تزوجتها من غير إحرام ولا حجر، وكنت عادما لطول حرة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء إلا أنها تحرم على الزوج في المستقبل؛ لأنه أقر بتحريمها عليه.
ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يعرف له حال إحرام ولا حجر.. فالقول قول من يدعي عدم ذلك. وإن عرف له حال إحرام أو حجر ولم يعلم: هل وقع ذلك في حال الإحرام أو الحجر أو في غيرهما.. ففيه قولان:(9/327)
أحدهما: القول قول من يدعي نفيه؛ لأن الأصل عدمه.
والثاني: القول قول من يدعي الفساد؛ لأنه ليس أحد الأمرين بأولى من الآخر والأصل عدم اللزوم.
وقال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد.
وبالله التوفيق(9/328)
[باب نكاح المشرك]
أنكحة أهل الشرك صحيحة، وطلاقهم واقع. فإذا نكح مشرك مشركة وطلقها ثلاثا.. لم تحل له إلا بعد زوج.. ولو نكح مسلم ذمية ثم طلقها ثلاثا، ثم نكحها ذمي ودخل بها وطلقها الذمي.. حلت للمسلم الذي طلقها بعد انقضاء عدتها. فيتعلق بأنكحتهم سائر الأحكام التي تتعلق بأنكحة المسلمين. وبه قال الزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك رحمة الله عليه: (أنكحة أهل الشرك باطلة، فلا يتعلق بها حكم من أحكام النكاح الصحيح) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي:
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] [القصص: 9] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] [المسد: 1 - 4] ، فأضاف امرأتيهما إليهما، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك.
وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولدت من نكاح لا من سفاح» ، وكان مولودا في الشرك. إذا ثبت هذا: فإن أسلم الزوجان المشركان معا، فإن كانا عند إسلامهما ممن يجوز ابتداء النكاح بينهما.. أقرا على نكاحهما الأول وإن كانا عقدا بغير ولي ولا شهود؛ لأنه أسلم خلق كثير وأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنكحتهم ولم يسأل عن شروطها. وإن كانا لا يجوز لهما ابتداء عقد النكاح بينهما، بأن كانت محرمة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو معتدة من غيره.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز لهما ابتداء النكاح، فلا يجوز إقرارهما عليه.
[مسألة أسلم وزوجته كتابية أو مشركة]
وإن أسلم الزوج والزوجة كتابية.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز للمسلم ابتداء النكاح على الكتابية، فأقرا عليه.(9/329)
وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين، أو أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح. فإن أسلم الكافر منهما قبل انقضاء عدة الزوجة.. أقرا على النكاح. وإن لم يسلم الكافر منهما حتى انقضت عدة الزوجة.. بانت منه من وقت إسلام المسلم منهما. ولا فرق بين أن يكون ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب. وبه قال أحمد.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كانت هي المسلمة.. فكما قلنا، وإن كان هو المسلم.. عرض عليها الإسلام في الحال، فإن أسلمت، وإلا.. انفسخ نكاحها) .
وقال أبو ثور: (إن أسلم الزوج قبل الزوجة.. وقعت الفرقة بكل حال) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانا في دار الحرب وكان ذلك بعد الدخول.. فالنكاح موقوف على انقضاء العدة - كقولنا - وإن كانا في دار الإسلام، فسواء كان قبل الدخول أو بعده.. فإن النكاح لا ينفسخ، بل يعرض الإسلام على المتأخر منهما، فإن أسلم.. فهما على الزوجية، وإن لم يسلم.. فرق بينهما بتطليقة. وإن لم يعرض الإسلام على المتأخر منهما وأقاما على الزوجية مدة طويلة.. فهما على النكاح) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله بن شبرمة: «أن الناس كانوا يسلمون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة.. فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة.. فلا نكاح بينهما» ، والعدة لا تكون إلا بعد الدخول، ولم يفرق: بين أن يسلم الرجل أولا أو المرأة، وبين أن يكونا في دار الإسلام أو في دار الحرب.
وإن أسلم الزوجان في حالة واحدة قبل الدخول.. لم ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يسبق أحدهما الآخر.(9/330)
[فرع لا يفرق عندنا بين الزوجين المشركين باختلاف الدار]
ولا تقع الفرقة - عندنا - بين الزوجين المشركين باختلاف الدار بهما، وإنما تقع باختلاف الدين على ما بيناه.
وقال أبو حنيفة: (إذا اختلفت الدار بهما فعلا وحكما.. انفسخ النكاح بينهما، مثل أن تزوج ذمي ذمية ثم نقض العهد ولحق بدار الحرب، أو أسلم أحد الحربيين ودخل دار الإسلام، أو عقد الأمان لنفسه ودخل دار الإسلام.. انفسخ النكاح بينهما. وإن اختلفت الدار بهما فعلا لا حكما، أو حكما لا فعلا.. لم ينفسخ النكاح بينهما - واختلاف الفعل دون الحكم هو: أن يتزوج ذمي ذمية، ثم خرج أحدهم إلى دار الحرب في تجارة ولم ينقض ذمته، أو دخل الحربي دار الإسلام ولم يعقد لنفسه ذمة ولا أمانا. واختلاف الدار بينهما حكما لا فعلا هو: أن يسلم أحد الزوجين الحربيين ويقيم في دار الحرب - فلا ينفسخ النكاح بينهما) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قصد مكة عام الفتح.. نزل بمر الظهران، وكان ذلك الموضع قد صار دار إسلام؛ لغلبة رسول الله عليه وسلم عليه، ومكة دار كفر؛ لغلبة الكفار عليها، وبينه وبين مكة مرحلة، فخرج أبو سفيان بن حرب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه فأسلم، وتقدم أبو سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخل مكة وصاح بأعلى صوته في مكة: يا معشر قريش، قد جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجيش لا قبل لكم به! فخرجت زوجته هند وقالت: لبئس طليعة القوم أنت، وتعلقت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، فإنه قد صبأ.. فقال لهم: لا تغرنكم هذه. قالوا: فما الحيلة؟ فقال: من دخل داري.. فهو آمن. قالوا: وما تغني دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن، ومن ألقى سلاحه.. فهو آمن. ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة(9/331)
بعد ذلك، وأقامت هند على شركها، وحمل إليها خالد بن الوليد أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقرأ عليها القرآن فلم تسلم، ثم أسلمت بعد ذلك وبايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تزل زوجة أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى أن ماتت» فلو كان نكاحه قد انفسخ.. لأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك ولما أقرهما عليه.
وأيضا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة. أمن الناس كلهم إلا خمسة - وقيل إلا سبعة - منهم: صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل. فهرب عكرمة بن أبي جهل إلى الساحل، وهرب صفوان إلى اليمن، وأقامت امرأتاهما بمكة وأسلمتا، فأخذت امرأة عكرمة له أمانا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرجت به إليه فأسلم وعاد إلى مكة، وأخذ لصفوان الأمان فرجع إلى مكة فأقام على الشرك شهرا، وخرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هوازن، ثم عاد إلى مكة فأسلم» . ولم يخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بأن نكاحه قد انفسخ؛ لأنه خرج إلى الطائف وهي دار حرب في شركه، وامرأته مسلمة بمكة.
[فرع الفرقة باختلاف الدين بين الزوجين]
فرع: [الفرقة باختلاف الدين تكون فسخا لا طلاقا] :
وكل موضع حكمنا بوقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدين. فإن ذلك يكون فسخا لا طلاقا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان المسلم هو الزوج، فعرض الإسلام عليها فامتنعت.. فرق بينهما وكان فسخا - كقولنا - وإن كانت المسلمة هي الزوجة، فعرض الإسلام على الزوج فامتنع.. فرق بينهما وكان طلاقا) .(9/332)
دليلنا: أن كل سبب لو كان من جهة الزوج كان فسخا، فإذا كان من جهة الزوجة.. كان فسخا، كالردة.
[مسألة أسلم على أكثر من أربع]
إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع زوجات فأسلمن معه في العدة، أو كن كتابيات.. لزمه أن يختار أربعا منهن ويفارق ما زاد، سواء تزوجهن بعقد واحدا أو بعقود، وسواء اختار من نكحها أولا أو آخرا. وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يصح التخيير بحال، بل إن كان تزوجهن بعقد واحد.. بطل نكاح الجميع، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعقد مستأنف. وإن تزوجهن بعقود.. لزمه نكاح الأربع الأوائل، وبطل نكاح من بعدهن) .
دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن» ولم يفرق(9/333)
وروي «عن نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته، فقال: " فارق إحداهن، وأمسك أربعا " فعمدت إلى أقدمهن عندي عهدا ففارقتها» وأراد: أقدمهن صحبة.
[فرع العقد لأكثر من رجل على امرأة]
] : وإن تزوج رجلان أو أكثر من امرأة في الشرك، ثم أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل الإسلام، فإن عقدوا عليها في حالة واحدة.. بطل نكاح الجميع؛ لأنه ليس بعضهم بأولى من بعض. وإن عقدوا عليها واحدٌ بعد واحدٍ.. فالنكاح للأول، وما بعده باطل. ولا يمكن التخيير هاهنا؛ لأنا لو جعلنا الخيرة للأزواج.. لم نأمن أن يختارها كل واحد منهم، ولا سبيل إلى اتباع خيرتهم، ولا مزية لبعضهم على بعض في التقديم. ولا سبيل إلى أن تجعل الخيرة لها؛ لأن المرأة لا تملك فسخ النكاح وحله إلا بعيب، ولأنه لما لم يجز لها ابتداء العقد على النكاح.. لم يجز لها اختيار الزوج.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنها تخير. قال: وهو اختيار القاضي(9/334)
أبي الطيب، حيث قال: إن مات أحد الزوجين في الشرك ثم أسلمت مع الزوج.. بقيا على النكاح وجها واحدا. والأول هو المشهور:
[فرع أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات]
وإذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه أن يختار أربعا منهن؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان بن سلمة: " اختر أربعا» وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب.
فإن لم يختر.. أجبره الحاكم على الاختيار؛ لأنه لا يجوز له أن يمسك أكثر من أربع نسوة، ويحبسه ليختار، فإن لم يفعل.. أخرجه وضربه جلدات دون أقل الحد، فإن لم يفعل.. أعاده إلى الحبس، فإن لم يفعل.. أخرجه ثانيا ًوضربه. وعلى هذا يتكرر عليه الحبس والضرب إلى أن يختار؛ لأن هذا حق تعين عليه، فهو كما لو كان عليه دين وله مال ناضٌّ أخفاه.. فإنه يحبس ويعزر إلى أن يظهره ويقضي به الدين. ويجب عليه أن ينفق على جميعهن إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه.
فإن جن في حال الحبس.. أطلق من الحبس؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الاختيار. فإذا أفاق.. أعيد إلى الحبس والتعزير. ولا ينوب الحاكم عنه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، فلم ينب عنه الحاكم.
فإن قال لأربع منهن: اخترتكن، أو اخترت نكاحكن، أو اخترت حبسكن، أو أمسكتكن، أو أمسكت نكاحهن، أو ثبت نكاحكن، أو ثبت عقدكن.. لزم نكاحهن وانفسخ نكاح ما زاد عليهن.
وإن قال لواحدة، أو لما زاد على أربع: فسخت نكاحكن.. انفسخ نكاحهن، ولزم نكاح الأربع الباقيات.(9/335)
وإن طلق واحدة أو أربعا.. وقع عليها الطلاق، وكان ذلك اختيارا لها للزوجية؛ لأن ذلك يتضمن الاختيار؛ لأن الطلاق لا يقع إلا في زوجة.
فإن قال لواحدة: فارقتك، أو اخترت فراقك.. فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: أن ذلك يكو اختياراً لفسخ نكاحها.
وقال القاضي أبو الطيب: يكون ذلك اختياراً لها للزوجية، فتقع عليها الفرقة، ويعتد بها من الأربع الزوجات؛ لأن الفراق صريح في الطلاق، فلما كان الطلاق في واحدة منهن اختيارا لزوجيتها، فكذلك لفظ الفراق.
قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مبنيا على هذا الأصل، إلا أنه مخالف للسنة، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن» ، وكذلك «حديث نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فارق إحداهن» ، وهذا يقتضي: أن يكون لفظ الفراق فيه صريحا، كما قلنا: إنه صريح في الطلاق، فيكون صريحا في الطلاق وفي الفسخ؛ لأنه حقيقة فيهما، ويتخصص بالموضع الذي يقع فيه. فإن كان ظاهر من واحدة منهن أو آلى منها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة.
وإن وطئ واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكون ذلك اختيارا لها بالنكاح؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ إلا من يختارها للنكاح، كما قلنا في البائع إذا وطئ الجارية المبيعة في حال الخيار.. فإنه فسخ للبيع.
والثاني: لا يكون ذلك اختيارا لها؛ لأن ما يتعلق به استصلاح النكاح، لا يكون بالوطء، كالرجعة.
فإذا قلنا: إنه اختيار للموطوءة للنكاح، فوطئ أربعا منهن.. لزم نكاحهن، وانفسخ نكاح البواقي.(9/336)
وإذا قلنا: لا يكون اختيارا للنكاح.. قلنا له: اختر أربعا، فإن اختار الموطوءة.. فلا شيء عليه.. وإن اختار أربعا غير الموطوءة.. لزمه للموطوءة مهر مثلها.
[فرع تعليق النكاح أو فسخه على صفة لأكثر من زوجة]
] : وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها.. لم يصح؛ لأن الاختيار كابتداء النكاح، فلا يجوز تعليقه على الصفة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها.. لم يكن شيئا إلا أن يريده طلاقا) .
وجملة ذلك: أن الرجل إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح تعليقه بالصفات، فهو كما لو أسلمن وقال لكل واحدة: إذا طلعت الشمس فقد فسخت نكاحك. وإن نوى به الطلاق أو قال: كلما أسلمت واحدة منكن فهي طالق.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح ذلك؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على الصفات. فإذا أسلم أربع منهن.. وقع عليهن الطلاق، وكان ذلك اختيارا بزوجيتهن.
ومنهم من قال: لا يصح، ولا يتعلق بهذا حكم. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا يتضمن اختيارا للزوجية، والاختيار لا يصح تعليقه بالصفة.
أحدهما: أنه أراد إذا أسلم الرجل وليس عنده إلا أربع زوجات حرائر وتأخر إسلامهن، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح إلا فيمن تفضل على الأربع. وإن أراد به(9/337)
الطلاق.. صح؛ لأنه يلزمه نكاح جميعهن، والطلاق يصح تعليقه بالصفات.
والتأويل الثاني: أنه أراد إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فكلما أسلمت واحدة منهن قال لها: فسخت نكاحك، ونوى به الطلاق.. فيصح ذلك، ويكون طلاقا أو اختيارا لها. فيكون الشرط من كلام الشافعي لا من كلام الزوج.
والتأويل الثالث: أنه أراد إذا أسلم رجل وعنده ثمان زوجات، فأسلم أربع منهن، فأختار نكاحهن.. لزم نكاحهن، ثم قال بعد ذلك للباقيات: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاح واحدة من زوجاتي اللاتي اخترت نكاحهن، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح، وإن أراد به الطلاق.. صح به، فكلما أسلمت واحدة من الباقيات.. طلقت واحدة من الزوجات.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أظهر، والتأويل يبعد؛ لأن الطلاق يصح تعليقه بالصفات، والاختيار تابع.
[فرع أسلم وأسلمن والاختيار حال الردة أو الإحرام]
وأن أسلم وأسلمن، ثم ارتد.. لم يصح اختياره. وكذلك: إذا رجعن إلى الردة.. لم يصح اختياره لواحدة منهن؛ لأن الردة تنافي ابتداء النكاح، فكذلك الاختيار.
وأن أسلم وأحرم.. فالمنصوص: (أنه يصح اختياره) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه.
والثاني: يصح اختياره، كما تصح رجعته.
ومنهم من قال: إن أسلم وأحرم ثم أسلمن.. لم يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه.(9/338)
وإن أسلم وأسلمن ثم أحرم.. صح اختياره؛ لأن الإحرام طرأ بعد ثبوت الاختيار.
[مسألة أسلم وزوجاته أكثر من أربع ومات قبل الاختيار]
] : وإن أسلم رجل حر وتحته أكثر من أربع زوجات حرائر وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار أربعا.. فإن الوارث لا يقوم مقامه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، والوارث لا ينوب منابه في الشهوة، فيلزمهن العدة.
فإن كن حوامل.. لم تنقض عدتهن إلا بوضع الحمل؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فهي متوفى عنها زوجها، وعدة المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل.
ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بنكاح فاسد وعليها العدة، ولا تنقضي عدتها إلا بوضع الحمل.
وإن كن حوائل، فإن كن من ذوات الشهور.. لم تنقض عدتهن إلا بأربعة أشهر وعشرٍ؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فعدتها عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشر. ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بشبهة، فعدتها ثلاثة أشهر، ولا تتعين الزوجات من غيرهن، فلزمهن أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين.
وإن كن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة أن تعتد بأقصى الأجلين: من أربعة أشهر وعشرٍ، أو ثلاثة أقراء؛ لأن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر، وعدة الموطوءة بشبهة ثلاثة أقراء، فإن انقضت الأربعة الأشهر والعشر قبل مضي ثلاثة أقراء.. لزمها استكمال ثلاثة أقراء، وإن انقضت ثلاثة أقراء قبل مضي أربعة أشهر وعشرٍ.. لزمها استكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات لا يعرفها بعينها.
وإن كان بعضهن حوامل، وبعضهن من ذوات الشهور، وبعضهن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة حكم نفسها فيما ذكرناه من ذلك، ويوقف لهن من ماله ميراث أربع زوجات، وهو: الربع مع عدم الولد، أو الثمن مع الولد؛ لأن فيهن أربع(9/339)
زوجات بيقين. وإن لم يعرفهن بأعيانهن، فإن اصطلحن فيه على التساوي، فإن كن ثماني نسوة فأخذت كل واحدة منهن ثمن الموقوف، أو تفاضلن فيه برضائهن.. صح.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان فيهن مولى عليها: إما صغيرة أو مجنونة.. لم يصح لوليها أن يصالح عنها بأقل من ثمن الموقوف) ؛ لأنها تستحق هذا القدر في الظاهر، فلا يجوز أن يصالح عنها على أقل منه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الأم) : (فإن جاءت منهن واحدة إلى الحاكم تطلب حقها من الميراث.. لم يدفع إليها شيئا؛ لأنه يمكن أن لا تكون زوجته. وكذلك: إن جاء اثنتان أو ثلاث أو أربع. فإن جاء خمس.. دفع إليهن ربع الموقوف؛ لأنا نتيقن أن فيهن زوجة بيقين) .
قال أكثر أصحابنا: إلا أنه لا يدفع إليهن ذلك إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق في الباقي من الموقوف؛ ليمكن صرفه إلى الثلاث الباقيات إن طلبنه؛ لأنه إذا لم يشرط عليهن ذلك.. كان حقهن متعلقا به فيؤدي إلى أن يأخذن نصيب زوجة بيقين، وحقهن في الباقي.
وكذلك: إن جاء ست.. دفع إليهن نصف الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي إلى الأخريين إن طلبتاه. وإن جاء سبع منهن.. دفع إليهن ثلاثة أرباع الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي منه إلى الثامنة إن طلبت ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، وذلك أن من يعطى من الميراث اليقين.. لا يسقط بذلك حقه مما يجوز أن يستحقه، كم لو خلف زوجة وحملا.. فإنا نعطي الزوجة اليقين، ونوقف الباقي ولا يسقط حقها منه.
وإن أسلم وتحته أربع زوجات كتابيات، وأربع وثنيات، فأسلمن الوثنيات معه، ثم مات قبل أن يختار.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يوقف شيء من تركته، بل يدفع الجميع إلى باقي ورثته؛ لأنه ما يوقف إلا ما يتيقن استحقاقه على باقي الورثة ويجهل من يستحقه، وهاهنا يجوز أن تكون الزوجات هن الكتابيات.(9/340)
والثاني: أنه يوقف؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق أنهم يستحقونه، وهاهنا يجوز أن تكون المسلمات هن الزوجات.
[مسألة أسلم على أختين أو غيرهما]
] : وإن أسلم رجل وعنده أختان فأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لما روي: «أن رجلا - يقال له الديلمي أو ابن الديلمي - أسلم على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه أختان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اختر أيتهما شئت، وفارق الأخرى» . وكذلك: إذا أسلم وعنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لأنه لا يجوز له الجمع بينهما، فهما كالأختين.
[فرع أسلم على امرأة وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الدخول]
وإن أسلم رجل وعنده امرأة وابنتها، سواء عقد بهما في عقد واحد، أو عقد بإحداهما بعد الأخرى، فإن لم يدخل بواحدة منهما وكانتا كتابيتين أو وثنيتين وأسلمتا معه في حالة واحدة.. ففيها قولان:
أحدهما: أنه يلزمه نكاح البنت، وينفسخ نكاح الأم - وهو اختيار المزني - لأن النكاح في حال الشرك صحيح، ولهذا قال - لو جمع بين أختين -: كان له أن يختار أيتهما شاء. وإذا صح العقد على البنت.. حرمت أمها على التأبيد، وقد وجد العقد على البنت، فوجب أن تحرم أمها.
والثاني: له أن يختار أيتهما شاء، وهو الأصح؛ لأن العقد في الشرك لا يحكم بصحته إلا بانضمام الاختيار إليه في حال الإسلام.(9/341)
وقال الشيخ أبو حامد: ولهذا لو تزوج بعشر نسوة فاختار أربعا منهن.. لم يجب للباقيات مهر ولا متعة ولا نفقة، ولا عدة عليهن، ولا يلحقه من جهتهن نسب، كأنه لم يعقد عليهن. فإذا اختار الأم.. صار كأنه لم يعقد على الابنة.
فعلى هذا: إن اختار الابنة.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن اختار الأم حرمت عليه البنت تحريم جمع، فإن دخل بها.. حرمت البنت عليه على التأبيد. وإن ماتت الأم أو طلقها قبل الدخول.. جاز له أن ينكح البنت.
وإن كان قد دخل بهما.. حرمتا عليه على التأبيد. أما البنت: فحرمت عليه بدخوله بالأم.
وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. فقد حرمت عليه بعلتين: بالعقد على البنت، وبالدخول بها. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه بعلة واحدة، وهي: الدخول بالبنت.
وإن كان قد دخل بالبنت دون الأم.. لزمه نكاح البنت، وحرمت عليه الأم على التأبيد بعلتين في أحد القولين، وبعلة في الآخر.
وإن كان قد دخل بالأم دون البنت.. حرمت عليه البنت على التأبيد.
وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه أيضا. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. لزمه نكاح الأم.
[فرع تزوج أما وابنتها وبنت بنتها وأسلموا]
وإن تزوج رجل امرأة وابنتها وأسلمتا قبله، أو أسلم قبلهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح. وإن علم أنه أسلم مع إحداهما في حالة واحدة، ثم أسلمت الأخرى ولم تعرف بعينها.. لم يكن له أن يختار إحداهما؛ لأن المتأخرة منهما ينفسخ نكاحها، وكل واحدة منهما يشك في إباحتها له، فلا يجوز له إمساك مشكوك في تحليلها.
وإن عقد النكاح على امرأة وابنتها وبنت بنتها وأسلموا معا في حالة واحدة قبل الدخول.. فعلى القولين الأولين:(9/342)
أحدهما: يختار من شاء منهن.
والثاني: يثبت له نكاح بنت البنت.
وإن أسلم الزوج وأسلمت معه واحدة قبل الدخول، وأسلم اثنتان بعد ذلك ولم تتعين المسلمة معه.. لم يحل له إمساك واحدة منهن. وإن أسلمت معه السفلى وتأخر الأخريان.. ثبت نكاح السفلى، وانفسخ نكاح الأخريين. وإن أسلمت معه الوسطى وتأخر إسلام الأخريين.. ففيه قولان:
أحدهما: له إمساكها.
والثاني: ليس له إمساكها؛ لأجل عقده على ابنتها.
ولو أسلمت معه الجدة وتأخرت الأخريان.. فهل له إمساكها؟ فيه قولان.
وإن تزوج امرأة وابنتها، ودخل بإحداهما وأسلموا ولم يعرف المدخول بها.. قال الصيمري: انفسخ نكاحهما معا.
[فرع ملك أما وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الوطء]
وإذا ملك المشرك أما وابنتها فأسلم وكانتا كتابيتين أو مجوسيتين أو وثنيتين، فأسلمتا معه، فإن كان قد وطئهما.. حرم عليه وطؤهما على التأبيد، ولكنه يستديم ملكه عليهما. وإن لم يطأ واحدة منهما.. كان له أن يطأ أيتهما شاء.. فإن وطئ الأم.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء البنت على التأبيد. وكذلك: إذا وطئ البنت.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن وطئ إحداهما في الشرك.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء الأخرى على التأبيد.
[فرع تزوج أختين أو غيرهما وأسلمتا معه قبل الدخول]
إذا تزوج أختين في حال الشرك وأسلم وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح. فإذا اختار إحداهما للنكاح.. حرمت عليه الأخرى تحريم جمع، وهل يجب عليه لها مهر؟(9/343)
قال ابن الحداد: إن كان قد سمى لها مهرا حلالا.. وجب لها نصفه، وسقط عنه نصفه. وإن كان قد سمى لها مهرا حراما، كالخمر والخنزير ولم تقبضه.. وجب لها نصف مهر المثل. وكذلك: لو كان عنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فله أن يختار إحداهما، وحكم المهر على ما مضى.
فأما إذا تقدم إسلامه على إسلامهما أو على إسلام إحداهما، أو تقدم إسلامهما على إسلامه أو إسلام إحداهما.. لم يخير بينهما، بل ينفسخ النكاح بينه وبين التي اختلف إسلامه وإسلامها.
وخالفه أبو بكر القفال المروزي ـ من أصحابنا ـ وقال: إذا أسلم أو أسلمتا معه قبل الدخول، في وقت واحد، أو كانتا كتابيتين، واختار إحداهما للنكاح وفارق الأخرى، فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة.. كان للتي فارقها نصف المهر ـ كما قال ابن الحداد ـ وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة إلا ما انضم إليه الاختيار.. لم يجب عليه للتي فارقها شيء؛ لأنها تكون باختياره لفراقها بمنزلة من لم يعقد عليها.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: ما قال ابن الحداد؛ لأنه جعل الاختيار إليه، فإذا اختار أربعا ممن زاد عليهن أو اختار إحدى الأختين.. فنكاح التي اختارها للنكاح صحيح. ومن اختار منهن للفسخ.. فإنها لا تصير بمنزلة من لم يعقد عليها باختياره؛ لأنه قد كان يمكنه أن يختارها للنكاح، فإذا اختارها للفسخ.. صار كأنه طلقها، فيجب لها نصف المهر.
وأما إذا أسلم وعنده امرأة وابنتها وأسلمتا معه في حالة واحدة قبل الدخول، أو كانتا كتابيتين.. قال ابن الحداد: فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة ـ وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي حامد وأبي إسحاق المروزي ـ فإنه يلزمه نكاح البنت، ويبطل نكاح الأم، ولا يلزمه للأم شيء؛ لأن بطلان نكاحها لم يكن باختياره. وإن قلنا: إن أنكحة المشركين باطلة، وإنما يحكم بصحتها إذا انضم إليها الاختيار ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق ـ فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح، فإذا اختار(9/344)
إحداهما للنكاح.. لزمه للتي اختار فسخ نكاحها نصف المهر. هذا قول ابن الحداد.
وقال القفال: بل الأمر على عكس هذا. وقال: بل إذا قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبت نكاح البنت، وانفسخ نكاح الأم، ولزمه لها نصف المهر؛ لأننا صححنا نكاح الأم والبنت وقد وقعت الفرقة بينه وبين الأم قبل الدخول من غير صنع لها، فوجب لها نصف المهر. وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة فاختار إحداهما للنكاح.. انفسخ نكاح الأخرى، ولم يجب لها عليه شيء.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد؛ لأنا وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة.. فإنما يحكم بفساد من اختار فسخ نكاحها، وذلك كان باختياره، إذ لو أمسكها.. لكان له ذلك.
[فرع حرمة مصاهرة الكفار]
فرع: [ثبوت حرمة مصاهرة الكفار] :
حرمة المصاهرة: هل تثبت بأنكحتهم؟
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبتت، وإن قلنا: إنها باطلة.. لم تثبت.
[فرع طلاق المشركة البائن]
قال المسعودي [في " الإبانة "] : لو طلق المشرك امرأته قبل الإسلام ثلاثا.. هل تحل له قبل أن تنكح زوجا غيره؟ إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإن قلنا: إنها فاسدة.. فالقياس: أنها تحل له. وفيه وجه آخر: أنها لا تحل له.
وعامة أصحابنا قالوا: لا تحل له من غير تفصيل. وقد مضى في أول الباب.(9/345)
[مسألة تزوج وثني بأختين أو بثمان وطلق ثلاثا ثلاثا]
قال ابن الحداد: إذا تزوج وثني أختين وطلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أسلم وأسلمتا معه، وأراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره، أو أسلم وأسلمتا معه قبل أن يطلقهما، ثم طلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره.. قيل له: من كنت تختار للنكاح منهما لو لم تطلقهما؟ فإذا أشار إلى إحداهما.. حل له أن يعقد على الأخرى قبل أن تنكح زوجا غيره. واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: أخطأ في الأولى منهما وأصاب في الأخرى ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ وقال: إذا طلقهما في حال الشرك ثلاثا ثلاثا.. لم تحل له إحداهما؛ لأن الطلاق في الشرك عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيح. فأما إذا أسلموا ثم طلقهما.. فالحكم كما قال ابن الحداد.
وقال القاضي أبو الطيب: بل الحكم فيهما واحد، كما قال ابن الحداد؛ لأن المشرك إذا زاد على ما يجوز في الشرع.. كان النكاح باطلا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه: (إذا أسلم عن عشر نسوة وأسلمن معه.. فإنه يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن، فإذا اختار أربعا منهن ولم يكن دخل بهن.. لم يكن لغيرهن مهر ولا متعة) .
قال ابن الصباغ: والصحيح عندي: ما ذكره الراد عليه، وهو: أنه إنما يراعى إذا بقي النكاح إلى حالة الإسلام، فأما ما أوقعه من الطلاق في الشرك: فإنه يمضي عليه.
وعندي: أن الذي قاله ابن الحداد في الثانية إنما يصح إذا طلق الأختين بكلمة واحدة ثلاثا، فأما إذا أسلم وأسلمتا معه فطلق كل واحدة منهما ثلاثا، إحداهما بعد الأخرى.. فإن طلاقه للأولى اختيار منه لنكاحها، فلا تحل له إلا بعد زوج، وتحل له الثانية قبل زوج على ما ذكره.(9/346)
قال ابن الصباغ: إذا أسلم عن ثمان نسوة وأسلمن معه، فطلق كل واحدة منهن ثلاثا.. قيل له: اختر منهن أربعا، فإذا اختار أربعا.. وقع عليهن الطلاق، وحل له نكاح الباقيات؛ لأنه بان بالاختيار أن الزوجات غيرهن.
وعندي: أن هذا الذي قاله ابن الصباغ إنما يصح إذا وقع الطلاق على الثماني بكلمة واحدة، فأما إذا طلق واحدة بعد واحدة، أو طلق أربعا ثم أربعا.. فإن الأربع المطلقات أولا يتعين للزوجية، ويقع بهن الطلاق، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعد زوج، فإذا أراد أن ينكح الأربع المطلقات آخراً قبل أن يتزوجن بغيره.. كان له ذلك.
[مسألة أسلم حر وعنده أربع إماء وأسلمن بعد الدخول]
] : إذا أسلم الحر وعنده أربع زوجات إماء وأسلمن معه بعد الدخول، فإن كان عادما لطول حرة، خائفا من العنت.. لزمه أن يختار واحدة منهن. وإن كان واجدا لطول حرة، أو آمنا من العنت.. لم يجز له أن يختار واحدة منهن.
وقال أبو ثور: (له أن يختار واحدة منهن بكل حال؛ لأن الاختيار ليس بابتداء نكاح، وإنما هو كالرجعة) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز له نكاح الأمة، فلا يحل له اختيار نكاحها، كالمعتدة.
إذا ثبت هذا: فإن أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر.. فله أن يختار واحدة منهن اعتبارا بوقت اجتماع إسلامه بإسلامهن.
وإن أسلم وهو معسر، ولم يسلمن حتى أيسر.. لم يكن له أن يختار واحدة منهن.
وإن اجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو موسر واجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو معسر.. فله أن يختار ممن اجتمع إسلامه وإسلامهن في حال إعساره دون يساره.(9/347)
وإن أسلم وأسلمت واحدة منهن، وتخلف ثلاث في الشرك.. فله أن يختار المسلمة، وله أن ينتظر إسلام الثلاث الباقيات؛ لأنه قد يكون له غرض في ذلك.
فإن اختار نكاح المسلمة.. لزم نكاحها. فإن لم يسلمن الباقيات حتى انقضت عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت إسلامه، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت اختياره للأولى، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. فإن ماتت المسلمة بعد اختيار نكاحها.. فليس له أن يختار واحدة من الباقيات. وإن لم يختر المسلمة الأولى.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات حتى انقضت عدتهن.. لزمه نكاح المسلمة، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت إسلامه، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار نكاح من شاء من الأربع، فأيتهن اختار نكاحها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت اختياره، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت.
وهكذا: لو أسلم وتحته ثمان نسوة دخل بهن، وأسلم منهن أربع، وتخلف أربع.. فله أن يختار نكاح الأربع المسلمات، وله أن ينتظر إسلام الباقيات. فإذا اختار.. كان الحكم في وقت الفسخ، ووقت العدة ما ذكرناه في التي قبلها. فإن طلق الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر المسلمات قبل إسلام الباقيات.. صح طلاقه، وكان ذلك اختيارا لمن طلق.
وإن أراد أن يفسخ نكاح المسلمة أو الأربع المسلمات قبل إسلام الباقيات.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون فيمن فضل عمن يلزمه نكاحها، ويجوز أن لا تسلم الباقيات، فيلزمه نكاح من قد أسلم. فإن خالف وفسخ نكاح من أسلم.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات.. لم يصح الفسخ، ولزمه نكاح من فسخ نكاحها. وإن أسلم الباقيات.. نظرت: فإن اختار نكاح واحدة من الثلاث الإماء، أو نكاح الأربع الحرائر المسلمات آخراً.. لزمه نكاح من اختار نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن اختار نكاح الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر أولا.. ففيه وجهان.(9/348)
أحدهما: يصح اختياره؛ لأن فسخه الأول لم يحكم بصحته.
والثاني: لا يصح؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة فسخه؛ لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزمه نكاحها، وبإسلام الباقيات صار من فسخ نكاحها فاضلة. والأول أصح.
[مسألة تزوج مشرك أربع إماء وحرة وأسلموا أو تخلفت الحرة]
وإن تزوج حر مشرك أربع إماء وحرة، فأسلم وأسلمن الإماء والحرة معه.. لزمه نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء؛ لأنه لا يجوز للحر نكاح الأمة مع الحرة. فإن ماتت الحرة بعد أن أسلمت.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء؛ لأنها ماتت بعد لزوم نكاحها.
وإن أسلم الإماء وتخلفت الحرة.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء قبل انقضاء عدة الحرة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. انفسخ نكاح الحرة، وكان له أن يختار نكاح واحدة من الإماء، إن كان ممن يجوز له نكاح الأمة.
فإن طلق الحرة قبل إسلامها.. نظرت:
فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أنها كانت زوجة له وقت الطلاق، ووقع عليها الطلاق. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أنها لم تكن زوجة له، ولم يقع عليها الطلاق.
فإن أسلم وأسلمت الإماء ثم أعتقن، وتخلفت الحرة في الشرك، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار نكاح واحدة من الإماء اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن.
فإن اختار نكاح واحدة من الإماء قبل إسلام الحرة.. فقد فعل ما ليس له فعله؛ لأنه لا يصح اختياره لها في هذه الحالة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار(9/349)
واحدة من الإماء، فإن اختار نكاح التي اختارها أولا.. لزمه نكاحها. وإن اختار نكاح غيرها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يلزمه نكاح التي اختارها أولا دون غيرها، وهو ظاهر النص؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة اختياره الأول مراعاة لإسلام الحرة، فإذا انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أن الاختيار كان صحيحا.
والثاني: لا يلزمه نكاح التي اختارها أولا، ويلزمه نكاح التي اختارها ثانيا؛ لأن الاختيار الأول وجد قبل وقته.
وإن أسلم ثم أعتق الإماء ثم أسلمن وتخلفت الحرة، أو أعتقن ثم أسلمن ثم أسلم، أو أسلمن ثم أعتقن ثم أسلم وتخلفت الحرة.. فله أن يختار نكاح الأربع المعتقات اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن، وله أن ينتظر إسلام الحرة، فإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت باختلاف الدين، ولزمه نكاح الأربع المعتقات. وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار منهن أربعا. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والقاضي أبو الطيب في " المجرد ".
قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا معنى لتأخير اختياره الكل؛ لأنه لا بد أن يلزمه نكاح ثلاث منهن، فلزمه أن يختار نكاح ثلاث من المعتقات.
وإن اختار نكاح ثلاث من المعتقات قبل إسلام الحرة، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار نكاحها، أو نكاح الباقية من المعتقات. وإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت من وقت إسلام الزوج، ولزمه نكاح الأربع المعتقات.
[مسألة تزوج العبد بأربع إماء ثم أسلم وأسلمن]
وإن تزوج العبد المشرك أربع زوجات ثم أسلم وأسلمن معه.. لزمه أن يختار اثنتين؛ لأنه لا يجوز للعبد أكثر من اثنتين. فإن عتق بعد ذلك.. لم يكن له أن يختار غير اثنتين؛ لأن العتق طرأ بعد ثبوت الاختيار. فإن اختار اثنتين منهن، وأراد أن يتزوج الأخريين بعقد جديد.. كان له ذلك.(9/350)
وإن أسلم وأسلم معه اثنتان، ثم أعتق، ثم أسلم الباقيات.. لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين؛ لأن الاعتبار بحال الاختيار وهو عند إسلامه، فتغير حاله بعد ذلك لا يؤثر، كما لو أسلم الحر وتحته إماء وأسلمن معه وهو معسر ثم أيسر قبل أن يختار.. فإن له أن يختار واحدة منهن.
فإن أسلم وأعتق ثم أسلمن، أو أسلمن وأعتق ثم أسلم.. لزمه نكاح الأربع اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن.
[مسألة أسلم عبد على حرائر وإماء أو على إماء فأسلمن وتخلف]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو كان عند عبد إماء وحرائر مسلمات أو كتابيات، فلم يخترن فراقه.. أمسك اثنتين) .
وجملة ذلك: أن العبد إذا نكح في الشرك أمتين مشركتين، وحرتين وثنيتين، وحرتين كتابيتين، ثم أسلم وأسلم معه الأمتان والوثنيتان، وأقام الكتابيتان على الشرك.. فإقامتهما لا تأثير لها؛ لأن استدامة نكاحهما جائزة مع كفرهما، وله أن يختار اثنتين ممن شاء منهن.
فأما الأمتان: فلا خيار لهما؛ لأنهما مساويتان له.
وأما الحرتان المسلمتان والكتابيتان: فظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على: أن لهن الخيار في فسخ النكاح. واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لهن الخيار؛ لأن الرق ليس بنقص في الكفر؛ لأن حال العبد عند المشركين كحال الحر في سائر الأحكام، وإنما هو نقص في الإسلام.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار لهن؛ لأنهن دخلن في النكاح مع العلم برقه، فهو كما لو تزوجت امرأة رجلا به عيب ورضيت به، ثم أسلما. وحمل النص على الإماء إذا أعتقن.(9/351)
فإن قلنا: إن لهن الخيار، فاخترن فسخ النكاح.. لزمه نكاح الأمتين.
وإن قلنا: لا خيار لهن، أو قلنا: لهن الخيار فاخترن المقام على النكاح.. لزمه أن يختار اثنتين ممن شاء منهن.
وإن كان تحت العبد أربع إماء فأسلمن، وتخلف العبد في الشرك، ثم أعتقن.. فلهن فسخ النكاح؛ لأنه لا يؤمن أن يسلم قبل انقضاء عدتهن فيختار واحدة منهن، فإذا اختارت فسخ النكاح.. لزمها أن تستأنف العدة، وفي ذلك ضرر عليها. فإن لم يسلم العبد حتى انقضت عدتهن.. تبينا أنهن بن منه بإسلامهن، وأن الفسخ لا حكم له، وهل يلزمهن عدة حرة أو أمة؟ فيه قولان يأتي بيانهما. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. تبينا أن الفرقة حصلت بالفسخ ويلزمهن عدة الحرائر.
وإن سكتن، ولم يخترن الفسخ ولا المقام على النكاح.. لم يتعلق بذلك حكم. فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتهن.. بن منه من وقت إسلامهن. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. فلهن أن يخترن فسخ النكاح؛ لأنهن معتقات تحت عبد، فإن اخترن فسخ النكاح.. فلا كلام. وإن لم يخترن الفسخ.. لزمه أن يختار اثنتين منهن.
وإن اخترن المقام معه على النكاح.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، فيكون كما لو سكتن.
[مسألة الإماء يخيرن حين يسلمن إذا أسلم قبلهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يتقدم إسلامهن قبل إسلامه واخترن فراقه أو المقام معه.. خيرن حين أسلمن؛ لأنهن اخترن ولا خيار لهن) .
وجملة ذلك: أن العبد إذا أسلم وتخلفت الإماء في الشرك فأعتقن.. فليس لهن أن يخترن المقام على النكاح؛ لأنهن جاريات إلى بينونة. وهل لهن أن يخترن الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه:(9/352)
فذهب أبو الطيب بن سلمة إلى: أنه لا يجوز لهن اختيار الفسخ، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، ولا غرض لهن في الفسخ؛ لأن أمر النكاح هاهنا موقوف على إسلامهن، وفي التي قبلها أمر النكاح موقوف على إسلام الزوج.
وقال أكثر أصحابنا: لهن أن يخترن الفسخ كالتي قبلها؛ لأن الإسلام واجب عليهن في كل حال. وأنكر أبو إسحاق ما نقله المزني.
ومنهم من قال: له تأويلان:
أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر اختيار الفسخ والمقام، ثم أجاب عن اختيار المقام خاصة.
والثاني: أنهن قلن: قد اخترنا فراقه أو المقام، ولم يعين اختيارهن لأحد الأمرين.
[مسألة أسلم وثمان زوجات على دفعتين ومات بعضهن]
إذا نكح الحر ثماني زوجات في الشرك، فأسلم وأسلم منهن أربع وتخلف أربع، ثم مات الأربع المسلمات أو بعضهن، ثم أسلم الأربع الباقيات قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار الأربع الموتى للنكاح؛ لأن الاختيار ليس هو ابتداء عقد وإنما يتعين به من كانت زوجة. ولأن الاعتبار بالاختيار حال ثبوته وقد كن أحياء ذلك الوقت.
[فرع تزوج وثنية فأسلمت وتخلف فتزوج أختها ثم أسلموا]
إذا تزوج وثنية ثم أسلمت وتخلف الزوج في الشرك وتزوج أختها، فإذا أسلم بعد انقضاء عدة الأولى.. انفسخ نكاح الأولى، وثبت نكاح الثانية إن أسلمت معه قبل انقضاء عدتها. وإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الأولى وأسلمت معه الثانية.. اختار أيتهما شاء.(9/353)
[فرع أسلم وزوجاته الثمان أو تخلفن وطلق أو ظاهر أو آلى أو قذف]
إذا كان تحته ثمان زوجات، فأسلم وأسلمن معه، فقد قلنا: إنه إذا طلق واحدة منهن.. فإنه يكون اختيارا لزوجيتها. وإن ظاهر من واحدة، أو آلى منها، أو قذفها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة، فيكون ذلك موقوفا. فإن لم يختر التي ظاهر منها أو آلى.. لم يصح ظهاره ولا إيلاؤه، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أن ظهاره وإيلاءه منها صحيح. وأما المقذوفة: فإن لم يخترها للنكاح.. وجب عليه الحد بقذفها ولا يسقط إلا بالبينة، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أنها كانت زوجة، وله أن يسقط حد قذفها بالبينة أو باللعان.
وإن أسلم وتخلفن في الشرك، فطلق واحدة منهن أو ظاهر منها أو آلى منها أو قذفها، فإن لم يسلمن حتى انقضت عدتهن.. لم يكن لطلاقه وظهاره وإيلائه حكم ويجب عليه التعزير للمقذوفة. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. قال الشيخ أبو حامد: فإن اختار التي طلق أو ظاهر منها أو آلى.. وقع عليها الطلاق والظهار والإيلاء، ويلزمه التعزير بقذفها، وله أن يسقطه بالبينة أو اللعان. وإن لم يخترها.. فإنها أجنبية منه، فلا يقع عليها طلاق ولا ظهار ولا إيلاء، ويلزمه بقذفها التعزير، ولا يسقط إلا بالبينة.
قال ابن الصباغ: وفي هذا عندي نظر، بل يجب إذا أسلمت المطلقة أن يقع عليها الطلاق، ويكون ذلك اختيارا لها؛ لأن هذا الطلاق إذا كان يقع عليها مع اختياره.. وقع عليها بإسلامها.
[مسألة الزواج من المعتدة في حال الكفر]
وإن تزوج معتدة من غيره، فإن أسلما قبل انقضاء عدتها من الأول.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها.. فلم يجز إقراره على نكاحها، كذوات محارمه. وإن أسلما بعد انقضاء عدتها من الأول.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز له ابتداء نكاحها.. فأقرا عليه.(9/354)
[فرع نكاح المتعة بين المشرك والمشركة]
وإن نكح مشرك مشركة نكاح متعة ثم أسلما.. لم يقرا عليه؛ لأنهما إن أسلما قبل انقضاء المدة التي شرطاها.. فهما لا يعتقدان لزومه بعد انقضائها، وإن أسلما بعد انقضائها.. فهما لا يعتقدان لزومه الآن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أبطلا بعد العقد المتعة وجعلا العقد مطلقا.. لم يؤثر ذلك؛ لأن حالما عقداه.. كانا يعتقدان أنه لا يدوم بينهما، فلا يتغير ذلك الحكم بما يطرأ من الشرط) .
وهكذا: لو تزوجها على أن لهما أو لأحدهما الخيار في فسخ النكاح متى شاء، ثم أسلما.. لم يجز إقرارهما عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. فإن اتفقا على إسقاط الشرط.. لم يؤثر ذلك، ولم يقرا عليه؛ لما ذكرناه.
وإن شرطا بينهما خيار ثلاثة أيام، فإن أسلما قبل الثلاث.. لم يقرا عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. وإن أسلما بعد الثلاث.. أقرا عليه؛ لأنهما يعتقدان لزومه.
[فرع قهر حربي حربية أو ذمي ذمية فوطئها ثم أسلما]
قال في " الأم ": (وإن قهر حربي حربية على نفسها فوطئها، أو طاوعته فوطئها، ثم أسلما.. لم يقرا على ذلك إذا كانا لا يعتقدان ذلك نكاحا) .
قال أصحابنا: فإن اعتقدا ذلك نكاحا وأسلما.. أقرا عليه؛ لأنه نكاح عندهما.
وإن قهر ذمي ذمية على نفسها فوطئها ثم أسلما.. لم يقرا عليه بكل حال؛ لأنه لا يجوز لبعض أهل الذمة أن يقهروا بعضا؛ لأن على الإمام الذب عنهم.
[مسألة ردة أحد الزوجين]
قبل الدخول] :
إذا ارتد أحد الزوجين، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ نكاحهما.
وقال داود: (لا ينفسخ) .(9/355)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] . ولأن هذا اختلاف دين يمنع الإصابة.. فانفسخ به النكاح، كما لو أسلمت الذمية تحت كافر.
وإن ارتد أحدهما بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجع المرتد منهما إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح. وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم المرتد منهما.. بانت منه بردة المرتد منهما. وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ينفسخ النكاح في الحال) ، وهي الرواية الأخرى عن مالك.
دليلنا: أن هذا اختلاف دين بعد الدخول.. فلا يوجب الفسخ في الحال، كما لو أسلمت الحربية تحت الحربي.
فإن ارتدا معا، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح بينهما. وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجعا إلى الإسلام قبل انقضائها.. فهما على النكاح، وإن انقضت قبل إسلامهما.. بانت منه بالردة. وبه قال مالك وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا ينفسخ العقد؛ استحسانا) .
دليلنا: أنها ردة طارئة على النكاح، فوجب أن يتعلق بها فسخه، كما لو ارتد أحدهما.
[فرع ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها ثلاثا]
إذا ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها الزوج ثلاثا، فإن انقضت العدة قبل أن ترجع إلى الإسلام.. تبينا أنها بانت بالردة، ولم يقع عليها الطلاق. فإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.. تبينا أنها كانت زوجة وقت الطلاق، فوقع عليها.(9/356)
وإن تزوج أختها، أو عمتها، أو خالتها بعد الطلاق.. صح بكل حال؛ لأنها إما بائن منه بالردة أو بالطلاق.
وإن تزوج أختها أو عمتها بعد الردة وقبل الطلاق في العدة.. لم يصح؛ لجواز أن ترجع إلى الإسلام فتكون زوجته.
[فرع ردة الزوجة بعد الدخول وله امرأة صغيرة وحصل رضاع]
وإذا ارتدت زوجة رجل بعد الدخول، وله امرأة صغيرة فأرضعتها أم المرتدة قبل انقضاء عدة المرتدة خمس رضعات متفرقات، فإن رجعت المرتدة إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. انفسخ نكاح الصغيرة، وفي الكبيرة قولان. وإن لم ترجع إلى الإسلام.. بانت بالردة، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة.
وإن أرضعتها الكبيرة أو بنتها.. انفسخ نكاح الصغيرة بكل حال.
[مسألة انتقال الكتابي إلى دين آخر]
وإن انتقل اليهودي أو النصراني إلى دين لا يقر أهله عليه.. لم يقر عليه، كما لا يقر أهله عليه. وما الذي يقبل منه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: الإسلام، أو الدين الذي كان عليه، أو دين يقر أهله عليه؛ لأن كل دين من ذلك يقر أهله عليه.
والثاني: لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه الدين الحق، أو الدين الذي كان عليه؛ لأنا قد أقررناه عليه.
والثالث ـ وهو الأصح ـ أنه لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه قد أعترف ببطلان كل دين، فلم يبق إلا الإسلام.
فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه.. فهل يقر عليه؟ فيه قولان مضى توجيههما.
فإن قلنا: لا يقر عليه.. فهل يقبل منه الدين الذي كان عليه أو لا يقبل منه إلا دين الإسلام؟ فيه قولان مضى توجيههما.(9/357)
وكل موضع قلنا: لا يقبل منه ما انتقل إليه.. فحكمه في النكاح حكم المرتد، وقد مضى بيانه.
[مسألة تزوج الكتابي بكتابية أو غيرها]
] : إذا تزوج الكتابي بكتابية.. أقرا عليه قبل إسلامهما وبعد إسلامهما.
وإن تزوج الكتابي بوثنية أو مجوسية، فإن أسلما.. أقرا عليه بلا خلاف؛ لـ: «أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يختار منهن أربعا» ، ولم يسأله: هل هن كتابيات أو غير كتابيات، فدل على: أن الحكم لا يختلف. وإن ترافعا إلينا قبل الإسلام.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يقران عليه؛ لأن كل نكاح لم يقر عليه المسلم.. لم يقر عليه الكتابي، كالمرتد.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنهما يقران عليه؛ لأن كل نكاح أقرا عليه إذا أسلما.. أقرا عليه إذا لم يسلما، كنكاح الكتابية. ويخالف المسلم؛ فإن الكافر أنقص من المسلم، فجاز له استدامة نكاح المجوسية والوثنية وإن لم يجز ذلك للمسلم، كما قلنا في العبد: يجوز له تزوج الأمة، ولا يعتبر فيه خوف العنت وعدم طول الحرة؛ لنقصه.
[مسألة أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت زوجته أو عكسه وحكم النفقة]
إذا أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت الزوجة.. فلا نفقة لها. وإن أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج.. فعليه نفقتها.
فإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنا وأقمت أنت على الشرك، فأنا أستحق(9/358)
عليك النفقة. وقال الزوج: بل أسلمت أنا ولم تسلمي أنت، فلا نفقة لك علي.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الزوجة؛ لأنه قد ثبت استحقاقها للنفقة بالزوجية، والأصل بقاؤها.
والثاني: أن القول قول الزوج؛ لأن نفقة كل يوم تجب بيومه، والأصل عدم الوجوب.
[مسألة أسلم قبلها وقبل الدخول أو اختلفا وحكم النكاح والمسمى]
وإن أسلم الزوج قبل الزوجة، قبل الدخول.. وجب عليه نصف المسمى إن سمى لها مهرا صحيحا. وإن سمى لها مهرا باطلا ولم تقبضه في الشرك.. وجب لها نصف مهر المثل.
وإن أسلمت الزوجة قبله قبل الدخول.. لم يجب لها شيء.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقا أنهما أسلما قبل الدخول، وقالا: لا نعلم السابق منا بالإسلام.. انفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحال لا يفترق في انفساخ النكاح.
وأما الصداق: فإن كان في يد الزوج.. لم تقبض منه الزوجة شيئا؛ لأنها إن كانت أسلمت أولا.. فإنها لا تستحق منه شيئا، وإن أسلم الزوج أولا.. فلها نصفه، فإذا لم يعلم على أي وجه كان.. لم يتيقن استحقاقها لشيء من المهر. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يكن للزوج أن يقبض منه إلا النصف؛ لأنه لا يتيقن أنه يستحق إلا ذلك.
وإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنت أولا، فأنا أستحق عليك نصف الصداق. وقال الزوج: بل أسلمت أنت أولا، فلا تستحقين علي شيئا.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأنا تيقنا استحقاقها لنصف المهر، والأصل بقاء ذلك الاستحقاق.
وإن اختلفا في انفساخ النكاح، فقالت الزوجة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، قبل الدخول فانفسخ النكاح. وقال الزوج: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. ففيه قولان:(9/359)
أحدهما: القول قول الزوج مع يمينه، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المرزوي؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها، ولأن الظاهر أنه لا يتفق إسلامهما في حالة واحدة إلا نادرا.
وإن قلنا الزوج: أسلم أحدنا قبل صاحبه. وقالت الزوجة: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. فإنه يحكم على الزوج بانفساخ النكاح؛ لأنه أقر بذلك. وأما المهر: فيحتمل أن يكون على القولين، كالأولى.
وإن أقام الزوج البينة أنهما أسلما قبل الدخول حين طلعت الشمس، أو حين زالت، أو حين غربت.. لم ينفسخ النكاح.
وإن قال الزوجان: أسلمنا معا مع طلوع الشمس، أو مع زوالها، أو مع غروبها، أو حال طلوعها، أو حال زوالها، أو حال غروبها.. لم يثبت إسلامهما معا، فينفسخ نكاحهما.
والفرق بينهما: أن حين طلوعها، وحين زوالها، وحين غروبها.. هو حين تكامل الطلوع والزوال والغروب. وأما قولهما: مع الطلوع، أو حال الطلوع، أو الزوال، أو الغروب.. فإنه من ابتداء الطلوع أو الزوال أو الغروب إلى استكماله، فيجوز أن يكون إسلام أحدهما قبل الآخر.
[فرع أسلمت قبله بعد الدخول ثم أسلم واختلفا]
وإن أسلمت الزوجة بعد الدخول، ثم أسلم الزوج بعدها، ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء العدة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الزوج) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن طلق زوجته طلقة رجعية ثم راجعها، فقال الزوج: راجعت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل راجعت بعد انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) .(9/360)
وقال: (إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم، فقالت الزوجة: أسلمت بعد انقضاء العدة. وقال الزوج: بل أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) .
واختلف أصحابنا في هذه المسائل الثلاث على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: القول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) : إذا كان هو السابق بالدعوى.
وحيث قال: (القول قول الزوجة) : إذا كانت هي السابقة بالدعوى. ولأن قول كل واحد منهما مقبول فيما أظهره وسبق إليه.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (القول قول الزوج) : أراد إذا اتفقا على وقت إسلامه أو رجعته، واختلفا في وقت انقضاء عدتها، بأن قال: أسلمت أو راجعت في شعبان، فقالت: صدقت، لكني انقضت عدتي في رجب.
وحيث قال: (القول قول الزوجة) : أراد إذا اتفقا على وقت انقضاء عدتها، واختلفا في وقت إسلامه أو رجعته، بأن قالت: انقضت عدتي في شعبان، فقال: صدقت، لكني أسلمت أو راجعت في رجب؛ لأن الأصل بقاء العدة إلى شعبان، وعدم الإسلام والرجعة في رجب.
[فرع تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها]
] وإن تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها قبل الدخول.. انفسخ نكاحها؛ لأنها صارت مسلمة تبعا لمن أسلم من أبويها قبل الدخول، فهو كما لو أسلمت بعد بلوغها وقبل الدخول. وهل يجب لها من المهر شيء؟(9/361)
قال ابن الحداد: يسقط جميع مهرها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما قبل الدخول، ولم يكن من الزوج صنع فيها فسقط المهر، كما لو اشترت المرأة زوجها قبل الدخول.
فمن أصحابنا من صوبه، ومنهم من خطأه وقال: ويجب لها نصف المهر؛ لأنها لم يكن من جهتها صنع في الفرقة، فهو كما لو أرضعتها أم الزوج.
فإذا قلنا بهذا: فإن الزوج لا يرجع على من أسلم من أبويها بشيء، ويرجع على المرضعة.
والفرق بينهما: أن الإسلام واجب فلم يكن فعله جناية. وليس كذلك الإرضاع؛ فإنه ليس بواجب.
فوزانه: أن تجد هذه المرضعة هذه الصغيرة عطشانة قد أشرفت على الموت، ولم تجد أحدا يرضعها ولا لبنا تسقيها، ولم تتمكن من إحيائها إلا بإرضاعها.. فإنه يجب عليها إرضاعها، وإذا أرضعتها.. انفسخ النكاح، ولم يجب عليها شيء للزوج. وهكذا ذكره القاضي أبو الطيب.
وبالله التوفيق(9/362)
[كتاب الصداق](9/363)
كتاب الصداق (الصداق) هو: ما تستحقه المرأة بدلا في النكاح، وله سبعة أسماء: الصداق، والنحلة والأجر، والفريضة، والمهر، والعليقة، والعقر؛ لأن الله تعالى سماه: الصداق، والنحلة، والأجر، والفريضة. وسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المهر، والعليقة.(9/365)
وسماه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: العقر.
يقال: أصدقت المرأة ومهرتها، ولا يقال: أمهرتها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] [البقرة: 237] .
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق " قيل: وما العلائق؟ قال: " ما تراضى عليه الأهلون» .(9/366)
وقال أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (لها عقر نسائها) .
فإن قيل: لم سماه الله تعالى نحلة، و (النحلة) : العطية بغير عوض، والمهر ليس بعطية، وإنما هو عوض عن الاستمتاع؟ ففيه ثلاث تأويلات:
أحدها: أنه لم يرد بالنحلة العطية؛ وإنما أراد بالنحلة: من الانتحال، وهو: التدين؛ لأنه يقال: انتحل فلان مذهب كذا، أي: تدين به. فكأنه تعالى قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: تدينا.
والثاني: أن المهر يشبه العطية؛ لأنه يحصل للمرأة من اللذة في الاستمتاع ما يحصل للزوج وأكثر؛ لأنها أغلب شهوة، والزوج ينفرد ببذل المهر، فكأنها تأخذه بغير عوض.
والثالث: أنه عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء؛ لأن في شرع من قبلنا كان المهر للأولياء، ولهذا قال الله تعالى ـ في قصة شعيب وموسى صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ـ {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الآية [القصص: 27] .
إذا ثبت هذا: فالمستحب: أن يسمى الصداق في عقد النكاح؛ لما روي:(9/367)
(أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتزوج أحدا من نسائه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -، ولا زوج أحدا من بناته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - إلا بصداق سماه في العقد) .
وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، قد وهبت نفسي لك، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره إليها، ثم صوبه، ثم قال: " ما لي اليوم في النساء من حاجة "، فقام رجل من القوم، فقال: زوجنيها يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تصدقها؟ "، قال: إزاري. قال: " إن أصدقتها إزارك.. جلست ولا إزار لك "، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس شيئا "، فالتمس فلم يجد. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمعك شيء من القرآن؟ "، قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زوجتكها بما معك من القرآن» . ولأنه إذا زوجه بالمهر.. كان أقطع للخصومة.
فإن عقد النكاح بغير صداق.. انعقد النكاح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية [البقرة: 236] ، فأثبت الطلاق من غير فرض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح.
وروى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج رجلا امرأة، ولم يفرض لها صداقا، فلما حضرته الوفاة قال: إني تزوجتها بغير صداق، وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر، فباعته بمائة ألف» .(9/368)
ولأن المقصود في النكاح أعيان الزوجين دون المهر، ولهذا يجب ذكر الزوجين في العقد، وإنما العوض فيه تبع. بخلاف البيع؛ فإن المقصود فيه العوض، ولهذا لا يجب ذكر البائع والمشتري في العقد إذا وقع بين وكيليهما.
[مسألة مقدار الصداق والقنطار]
وليس لأقل الصداق حد ـ عندنا ـ بل كل ما يجوز أن يتمول، أو جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو أجرة.. جاز أن يكون صداقا.
وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، والحسن، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
قال القاضي أبو القاسم الصيمري: ولا يصح أن يكون الصداق نواة أو قشرة بصلة أو قمع باذنجانة أو ليطة أو حصاة، هذا مذهبنا.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (أقل الصداق: ما تقطع به يد السارق) . إلا أن عند مالك رحمة الله عليه: ما تقطع به يد السارق ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دينار، أو عشرة دراهم.
فإن أصدقها دون عشرة دراهم.. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (كملت العشرة) .
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسقط المسمى، ويجب مهر المثل.
وقال ابن شبرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله خمسة دراهم.
وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله أربعون درهما.(9/369)
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقله خمسون درهما.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق» ، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والعلائق: ما تراضى عليه الأهلون» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس شيئا» . «التمس ولو خاتما من حديد» . وهذه عمومات تقع على القليل والكثير.
وروي: «أن عبد الرحمن بن عوف أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه وضرة ـ أي: صفرة ـ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مهيم؟ " ـ وهي كلمة استفهام ـ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما سقت إليها؟ "، قال: نواة من ذهب. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أولم ولو بشاة» . و (النواة) : خمسة دراهم. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» . وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كف سويقا أو تمرا. فقد استحل» .
ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنا.. جاز أن يكون مهرا، كالمجمع عليه.
وأما أكثر الصداق: فليس له حد، وهو إجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فأخبر: أن القنطار يجوز أن يكون صداقا.(9/370)
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (القنطار: سبعون ألف مثقال) .
وقال أبو صالح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مائة أوقية.
وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألف ومائتا أوقية) .
وقال أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (القنطار: ملء مسك ثور ذهبا) . و (مسك الثور) : جلده.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معشر الناس، لا تغالوا في صدقات النساء، فوالله: لا يبلغني أحد زاد على مهر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا جعلت الفضل في بيت المال، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: كتاب الله أولى أن يتبع، إن الله تعالى يعطينا، وتمنعنا يا ابن الخطاب! فقال: أين؟ قالت: قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فليضع الرجل ماله حيث شاء) . وفي رواية أخرى: أنه قال: (كل الناس أفقه من عمر، فرجع عن ذلك) .(9/371)
وروي: (أنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، فأصدقها أربعين ألف درهم) .
وروي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان يزوج بنات أخيه عبيد الله على صداق عشرة آلاف درهم) .
و: (تزوج أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة وأصدقها عشرة آلاف) .
و: (تزوج الحسن بن على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة وبعث إليها مائة جارية، ومع كل جارية ألف درهم، ثم طلقها) ، وتزوجها رجل من بني تميم، فأصدقها مائة ألف درهم.
وتزوج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة، وأصدقها مائة ألف دينار.
قال الشافعي: (والاقتصاد في المهر أحب إلي من المغالاة فيه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعظم النكاح بركة أخفه مؤنة» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيرهن أيسرهن مهرا» .(9/372)
وروى صهيب بن سنان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أصدق صداقا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو زان، وأيما رجل ادان دينا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو سارق» .
والمستحب: أن لا يزيد على خمسمائة درهم، وهو صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان صداق أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدرون ما النش؟ نصف أوقية» . و (الأوقية) : أربعون درهما؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأوقية: أربعون درهما» و (النش) : عشرون درهما.
[فرع الصداق ما اتفقوا عليه أولا ومهر المثل إذا لم يتفقوا]
لو تواعدوا في السر على أن الصداق مائة، وعلى أنهم يظهرون للناس أنه ألف.. فقد قال الشافعي في موضع: (المهر مهر السر) . وقال في موضع: (المهر مهر العلانية) .
قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (المهر مهر السر) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا بمائة، ثم عقدوا النكاح ثانيا في العلانية بألف.
وحيث قال: (المهر مهر العلانية) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا في العلانية بألف، ثم عقدوه ثانيا في السر بمائة.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: في المهر قولان. والأول هو المشهور.(9/373)
فإن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، فقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة.. وجب لها مهر مثلها؛ لأن الإيجاب والقبول لم يتفقا على مهر واحد.
[مسألة الصداق عين أو دين أو منفعة]
ويصح أن يكون الصداق عينا أو دينا. وإذا كان دينا.. صح أن يكون حالا ومؤجلا، فإن أطلق.. كان حالا، كما قلنا في الثمن.
ويصح أن يكون الصداق منفعة يصح عقد الإجارة عليها، كمنفعة العبيد والبهائم والأرض والدور؛ لأنه عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه، كالإجارة.
[فرع منفعة الحر عندنا تكون صداقا]
ويصح أن تكون منفعة الحر صداقا، كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وما أشبه ذلك مما يصح استئجاره عليه. وبه قال مالك، إلا أنه قال: (يكره ذلك) .
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا ـ عليه ـ: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 27] . فذكر: أن الرعي صداق في شرع من قبلنا، ولم يعقبه بنكير.
و: «زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة التي وهبته نفسها من الرجل الذي خطبها بما معه من القرآن» . وتقديره: على تعليم ما معه من القرآن؛ لأن القرآن لا يجوز أن يكون صداقا.
ولأن كل منفعة جاز أن تستحق بعقد الإجارة.. جاز أن تستحق بعقد النكاح، كمنفعة العبيد والأرض.
[فرع فساد المهر أو كونه ثوبا أو عبدا موصوفا بالذمة]
وما لا يصح بيعه كالخمر، والكلب، والخنزير، والسرجين، والمجهول، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، والمنافع التي لا يصح الاستئجار عليها.. لا يصح(9/374)
أن يكون شيء من ذلك صداقا؛ لأنه عوض في عقد فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع والإجارة.
إذا ثبت هذا: فإن عقد النكاح بمهر باطل أو مجهول.. لم يبطل النكاح. وبه قال أبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال مالك: (لا يصح النكاح) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول للشافعي في القديم وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» ، ولم يفصل بين أن يكون المهر صحيحا أو فاسدا. ولأنه عقد نكاح فلم يبطل بفساد المهر، كما لو تزوجها على دراهم مغصوبة ـ فإن مالكا وافقنا على هذا ـ ولأن النكاح إذا انعقد مع عدم ذكر المهر.. فلأن ينعقد مع فساده أولى.
وإذا عقد النكاح بمهر باطل.. وجب لها مهر مثلها، بالغا ما بلغ. وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: (لها الأقل: من مهر المثل، أو المسمى) .
دليلنا: أنها دخلت في العقد على أن يكون لها المسمى، فإذا لم يسم وتعذر رجوعها إلى بضعها.. رجعت إلى قيمته، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا وقبضه وتلف في يده.
وإن تزوجها على عبد أو ثوب موصوف في ذمته.. لزمه تسليم ذلك على ما وصف.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (إن شاء.. سلم العبد بصفته، وإن شاء.. دفع قيمته) . وعن أبي حنيفة في الثوب روايتان: إحداهما: كقولنا. والثانية: هو كالعبد عنده.
دليلنا: أن هذه تسمية صحيحة، فلم يخير بين دفع المسمى وبين دفع قيمته، كالمكيل والموزون.(9/375)
[فرع التزويج بلا مهر أو بأقل من مهر المثل أو غير ذلك]
إذا قالت المرأة لوليها: زوجني بلا مهر، فزوجها بلا مهر.. صح النكاح بلا خلاف.
وإن قالت له: زوجني وأطلقت فزوجها بلا مهر، أو أذنت له أن يزوجها بمهر فزوجها بأقل منه أو بغير جنس ما أذنت فيه، أو زوج الأب أو الجد الصغيرة أو الكبيرة البكر بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها، أو وكل رجلا ليزوجها فزوجها بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها.. فنقل أصحابنا البغداديون: أن النكاح صحيح في جميع هذه المسائل، ولها مهر مثلها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] هل ينعقد النكاح في جميع هذه المسائل؟ فيه قولان.
قال ومن أصحابنا من قال: لا ينعقد النكاح من الوكيل قولا واحدا؛ لأنه يزوج بالنيابة عن الولي.
والأصح الطريق الأول؛ لأن النكاح الأول لا يفسد ـ عندنا ـ بفساد المهر. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا زوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، وكان ذلك مهرا لا ينقص عن أقل المهر وهو عشرة دراهم.. صح المهر) .
دليلنا: أن البنت إذا أذنت لعمها بالعقد فزوجها بأقل من مهر مثلها بغير إذنها.. استحقت مهر مثلها، فكذلك الأب والجد. ولأن الأب والجد لا يجوز لهما أن يبيعا مال الصغيرة بأقل من ثمن مثله، فكذلك لا يجوز لهما تزويجها بأقل من مهر مثلها.
وإن زوج الرجل وليته بأرض أو عرض أو بغير نقد البلد.. فهل يصح المهر؟ لا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي القياس: إن كان الولي أبا أو جدا وكانت المنكوحة(9/376)
صغيرة أو مجنونة.. صح المهر إذا كان قيمة ذلك مثل مهر مثلها، كما يجوز أن يبتاع لها ذلك بمالها.
وإن كان الولي غيرهما من العصبات، أو كان الولي أبا أو جدا والمنكوحة بالغة عاقلة.. لم يصح ذلك المهر إلا إن كان بإذنها ونطقها؛ لأنه لا ولاية له على مالها، وإنما ولايته على عقد النكاح بنقد البلد.
وإن كانت المنكوحة مجنونة وكان وليها الحاكم، ورأى أن يزوجها بشيء من العروض وقيمته قدر مهر مثلها.. صح ذلك؛ لأنه يجوز له التصرف في مالها.
[مسألة تزوج على تعليم القرآن أو بعضه]
إذا تزوج وأصدقها تعليم القرآن مدة معلومة.. صح ذلك إذا كانت المدة متصلة بالعقد، وتطالبه بالتعليم في تلك المدة على حسب عادة التعليم، ولها أن تطالبه بتعليم ما شاءت من القرآن. وإن كان الصداق تعليم شيء من القرآن.. فيشترط أن يذكر السورة التي يعلمها. فإن أصدقها تعليم عشرين آية من سورة كذا ولم يبين الأعشار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي خطب الواهبة: " ما معك من القرآن؟ "، قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: " زوجتكها على أن تعلمها عشرين آية» ، ولم يفصل.
والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن الأعشار تختلف. وأما الخبر: فإنما نقل الراوي جواز تعليم القرآن في الصداق، ولم ينقل عين الصداق، ولا يجوز في صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعقد الصداق على مجهول.
وهل من شرطه أن يبين الحرف الذي يعلمها به، كحرف نافع أو ابن كثير أو غيرهما؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في الإجارة.(9/377)
وإن أصدقها تعليم سورة وهو لا يحفظها، فإن كان على أن يحصل لها تعليمها.. صح ذلك، ويستأجر محرما لها أو امرأة تعلمها، أو يتعلمها هو بنفسه ثم يعلمها. وإن كان على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو أصدقها ألف درهم في ذمته وهو لا يملك شيئا.
والثاني: لا يصح، كما لو أصدقها خدمة عبد لا يملكه.
وإن أصدقها تعليم سورة، فأتت بامرأة غيرها ليعلمها مكانها.. فهل يلزمه تعليمها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، كما لو أكترت منه دابة لتركتها إلى بلد فأرادت أن تركبها مثلها.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن له غرضا في تعليمها؛ لأنه أطيب له؛ لأنه يلتذ بكلام زوجته ولا يلتذ بكلام غيرها. ولأنه أصدقها إيقاع منفعة في عين، فلا يلزمه إيقاعها في غيرها، كما لو أصدقها خياطة ثوب بعينه فأتت بثوب غيره ليخيطه.. فلا يلزمه ذلك.
وإن لقنها فحفظت، ثم نسيت.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيها: فإن علمها دون آية فنسيتها.. لم يعتد له بذلك، وكم القدر الذي إذا علمها إياه خرج من عهدة التعليم؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن أقله آية؛ لأنه يطلق عليه اسم التعليم.
فعلى هذا: إذا علمها آية فنسيها.. لم يلزمه تعليمها إياها ثانيا.
والثاني: أقله سورة؛ لأن ما دونها ليس بتعليم في العادة.
وذكر ابن الصباغ: أنه إذا علمها ثلاث آيات.. سقطت عنه عهدة التعليم وجها واحدا. وهل تسقط عنه بتعليم آية أو آيتين؟ فيه وجهان.
[فرع أصدقها تعليم شعر أو شيئا من التوراة أو الإنجيل لو كانت كتابية]
وإن أصدقها تعليم شعر مباح.. صح. قال المزني: وذلك كقول الشاعر:
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا(9/378)
وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش.. كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا.
وإن تزوج كتابية على أن يعلمها شيئا من القرآن.. فقال الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ وأكثر أصحابنا: إن كانت ممن يطمع في إسلامها بذلك.. صح الصداق؛ لأن المشرك إذا جاء مسترشدا وطلب أن يعلم شيئا من القرآن.. جاز تعليمه. وإن كانت تريده للمباهاة.. لم يصح الصداق؛ لأن فيه ابتذالا للقرآن.
وقال ابن الصباغ: يصح بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] ، ولم يفرق. ولأنها قد تريد ذلك للمباهاة، فإذا تعلمته.. انتفعت به وأسلمت.
وإن تزوج الكتابي كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو الإنجيل.. لم يصح الصداق؛ لأنه محرف مبدل. فإن ترافعا إلينا بعد التعليم.. فقد سقط عنه المهر. وإن ترافعا إلينا قبل التعليم.. حكمنا بفساد المهر المسمى، ولزمه مهر مثلها. وإن تزوج حر مسلمة كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو من الإنجيل.. لم يصح؛ لما ذكرناه.
فإن ترافعا إلينا.. حكمنا لها بمهر مثلها، سواء ترافعا قبل التعليم أو بعده؛ لأن المسلم لا يقر على المعصية؛ لأنه يعتقد تحريمها، بخلاف أهل الكتاب، فإنهم يقرون على ذلك؛ لأنهم يعتقدون إباحته.
[مسألة ترافع الذميان إلى حاكم مسلم في شأن العقد أو الصداق أو غيره]
إذا ترافع ذميان إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهما في ابتداء عقد النكاح.. لم يحكم بينهما إلا على الوجه الذي يحكم به بين المسلمين. فإن كان لها ولي مناسب عدل في دينه.. زوجها بشهادة مسلمين، ويكون ترتيب الولاة كترتيب ولاة المسلمة. فإن كانت المنكوحة بكرا.. أجبرها الأب أو الجد. وإن كانت ثيبا.. لم يصح تزويجها إلا بإذنها. وإن عضلها الولي.. زوجها حاكم المسلمين؛ لأنه يلي عليها بالحكم.(9/379)
وإن تحاكما في استدامته.. فإنه لا اعتبار بحال انعقاده على أي وجه كان، ولكن ينظر فيها: فإن كانت ممن لا يجوز له ابتداء نكاحها في هذه الحال.. فرق بينهما. وإن كانت ممن يجوز له ابتداء نكاحها.. أقرهما على نكاحهما وإن كان قد عقد بها بولي غير مرشد أو بغير شهود؛ لأنه عقد قد مضى في الشرك فلا يجوز تتبعه ومراعاته؛ لأن في ذلك إلحاق مشقة وتنفيرا لهم عن الدخول في الطاعة. وفي هذا المعنى نزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] ، فأمر بترك ما بقي في أيديهم من الربا وعفا عما قبض في الشرك.
وإن تحاكما في الصداق، أو أسلما وتحاكما، فإن كان قد أصدقها صداقا صحيحا.. حكم بصحته. وإن أصدقها صداقا فاسدا، كالخمر والخنزير، فإن كانت قد قبضت جميعه في الشرك.. فقد سقط عنه جميعه، وبرئت ذمته من الصداق؛ لأن ما قبض في الشرك لا يجوز نقضه؛ لما ذكرناه من الآية، ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . وإن كانت لم تقبض منه شيئا.. حكم الحاكم بفساد المسمى، وأوجب لها مهر مثلها من نقد البلد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحكم لها إلا بما سمي لها) .
دليلنا: أنه لا يمكن أن يحكم عليه بتسليم المسمى؛ لفساده، فحكم لها بمهر صحيح.
وإن قبضت بعضه في حال الشرك وبقي البعض من المهر.. سقط من المهر بقسط ما قبضته من المسمى، ووجب لها من مهر المثل بقسط ما لم تقبضه من المسمى؛ لأنها لو قبضت الجميع.. لم يحكم لها بشيء، ولو لم تقبض شيئا.. لحكم لها بمهر مثلها، فإذا قبضت البعض وبقي البعض.. قسط مهر المثل على المقبوض وعلى ما لم يقبض.
إذا ثبت هذا: فإن كان أصدقها عشرة أزقاق خمرا، فقبضت منها بعضها.. نظرت: فإن كانت متساوية لا يفضل بعضها على بعض.. قسم المهر على أعدادها، فإن قبضت خمسة.. سقط عنه نصف المهر، ووجب لها نصف مهر مثلها. وإن كانت مختلفة.. ففيه وجهان:(9/380)
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن المهر يقسط على أعدادها؛ لأنه لا قيمة للخمر، فاستوى الصغير والكبير.
والثاني: يقسط على كيلها. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأنه يمكن اعتبار كيلها.
وإن أصدقها عشرة خنازير، أو عشرة كلاب وقبضت منه خمسة.. ففيه ثلاثة أوجه:
والأول: قال أبو إسحاق: يعتبر بالعدد، سواء في ذلك الصغير والكبير، فيسقط نصف المهر، ويجب لها نصف مهر مثلها؛ لأن الجميع لا قيمة له، فكان الجميع واحدا.
والثاني: يعتبر التفاوت فيها، فيضم صغيران ويجعلان بإزاء كبير، أو صغير وكبير ويجعلان بإزاء أوسطهن، ويقسط المهر على ذلك.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس: ـ أنه يقال: لو كانت هذه الخنازير أو الكلاب مما يجوز بيعها.. كم كانت قيمتها؟ فيقسط المهر على ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبارها بأنفسها فاعتبرت بغيرها، كما قلنا في الجناية على الحر التي لا أرش لها مقدر: فإنها تعتبر بالجناية على العبد.
قال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: تقدر لو كانت غنما؛ لأنها أقرب إليها.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الغنم ليست من جنس الخنازير والكلاب فتعتبر بها، بخلاف الحر والعبد.
وينبغي على هذا: أن تقوم بما يتبايعونها بينهم؛ لتقدر بذلك ـ لا أن لها قيمة في الشرع ـ كما تقدر أن لو جاز بيعها.(9/381)
وإن أصدقها عشرة خنازير وخمسة كلاب وزق خمر، فقبضت بعض ذلك.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقسم المهر على عدد الأجناس، فيجعل كل جنس بإزاء ثلث المهر، ثم يقسط الثلث على كل جنس على ما مضى.
والثاني: يقسط المهر على العدد، فيخص الخنازير عشرة أجزاء من ستة عشر جزءا من المهر، ويخص الكلاب خمسة أجزاء، ويخص الخمر جزء.
والثالث: يعتبر كل جنس بما يجوز بيعه من الأعيان، فيقسط المهر على قيمة ذلك.
وعلى قول ابن الصباغ: يعتبر كل جنس بما يتبايعونه بينهم في العادة.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن تبايع مشركان ألف درهم بألفي درهم، فإن أسلما قبل التقابض.. سقط الربح دون رأس المال. وإن أسلما بعد التقابض.. لم يتعرض لهما.
وإن قبض منه ألفا ثم أسلما.. سئل المقبض، فإن قال: أقبضت بنية أصل المال.. سقط الربح. وإن قال: لم تكن لي نية.. ففيه وجهان:
أحدهما: يوزع عليهما، ويجب عليه خمسمائة درهم.
والثاني: يقال له: اصرف الألف المقبوضة إلى أيهما شئت.
وإن تقابض المشركان في ذلك بحكم حاكمهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو تقابضاه بغير حكم حاكمهم؛ لأنه قد وجد القبض في الشرك، فهو كما لو تقابضاه بأنفسهما.
والثاني: لا يصح القبض؛ لأنه إذا قبضه بحكم حاكمهم.. صار كأنه أكره على القبض، فلم يتعلق به حكم.(9/382)
[مسألة يستحب أن يعتق الجارية ثم يتزوجها]
يستحب للرجل إذا ملك جارية ذات جمال أن يعتقها ثم يتزوجها؛ لما روى أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين: عبد أدى حق الله تعالى وحق مواليه، ورجل كانت عنده جارية وضيئة، فأدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها، ثم تزوجها يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم جاء الكتاب الآخر فآمن به» .
إذا ثبت هذا: فإن قالت الأمة لسيدها: أعتقني على أن أتزوجك ويكون عتقي صداقي فأعتقها، أو قال الرجل لأمته: أعتقتك على أن تتزوجي بي ويكون عتقك صداقك، فقالت: قبلت.. عتقت ولا يلزمها أن تتزوج به.
وقال الأوزاعي: (يلزمها أن تتزوج به، فإن لم تفعل.. يجبرها الحاكم) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا كان ذلك بحضرة شاهدين.. انعقد النكاح بذلك؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» ، ولم ينقل أكثر من ذلك، وقد كانت صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
دليلنا ـ على الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه سلم في عقد فلم يصح، كما لو قال: أسلفتك هذه الألف على أن تتزوجي بي. ولأن ما يثبت في الذمة فعل أو عين، فـ (الفعل) : كالخياطة والبناء وما أشبهه من الأفعال.
و (العين) : أن يسلم إليه في ثوب موصوف أو غيره. وأما العقود: فلا تثبت في الذمة بحال، ألا ترى أنه لو قال: خذ هذه الدراهم على أن تبيعني دارك.. لم يصح؟(9/383)
ودليلنا ـ على أحمد رحمة الله عليه ـ: أن العتق يزيل ملك السيد عن الاستمتاع بأمته، فلا يجوز أن يزول ملكه عن استمتاعها بحق الملك، ويملك استمتاعها بحق النكاح، كما لا يستبيح استمتاعها ببيعها. وأما خبر صفية: فقد روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها» وهذا أزيد، فكان الأخذ به أولى. وإن ثبت الرواية أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.. فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مخصوص بذلك دون غيره.
واختلف أصحابنا في موضع تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا:
فقال أبو إسحاق: موضع التخصيص منه: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. لم يجز له أن يتزوجها إلا بمهر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. جاز له أن يتزوجها بغير مهر؛ لأن نكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز أن يخلو عن المهر، فموضع تخصيصه: خلو نكاحه عن المهر. فقول الراوي: «أعتق صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجعل عتقها صداقها» ، يعني: لم يجعل لها شيئا غير العتق.
ومن أصحابنا من قال: موضع تخصيصه من هذا: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. لم يلزمها أن تتزوج به وإذا أعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمة بشرط أن تتزوج به.. لزمها أن تتزوج به.
ومنهم من قال: موضع التخصيص: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به، ثم أراد أن يتزوج بها على قيمتها.. فلا بد أن يكونا عالمين بقدر قيمتها؛ لأن المهر المجهول لا يصح. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. جاز له أن يتزوج بها على قيمتها وإن كانا لا يعلمان قدرها؛ لأن الجهل بالمهر ليس بأكثر من عدمه.
إذا ثبت هذا: وأنه لا يلزمها أن تتزوج به، فرضيت بأن تتزوج به.. لم يجبر السيد عليه؛ لأنه إذا لم يلزمها ذلك.. لم يجبر السيد على قبوله، كما لو أعتقها على خمر أو خنزير، ويلزمها قيمتها لسيدها.(9/384)
وحكي عن مالك وزفر - رحمة الله عليهما -: أنهما قالا: (لا يلزمها) .
دليلنا: أنه أزال ملكه عن رقبتها ببدل، ولم يسلم له ذلك البدل، ولا يمكنه الرجوع إلى رقبتها، فرجع إلى قيمتها - كما لو ابتاع عبدًا بعوض محرم وتلف العبد في يده - وتعتبر قيمتها يوم العتق؛ لأنه وقت زوال ملكه عنها.
فإن لم يتراضيا على تزويجها.. طالبها بقيمتها إن كانت موسرة بها، وإن كانت معسرة.. أنظرها إلى يسارها.
وإن تراضيا على تزويجها بغير قيمتها، فتزوجها به.. صح، واستحقت عليه المهر، واستحق عليها القيمة. فإن كانا من نقد واحد في الذمة.. فهل يسقط ما استويا فيه من ذلك؟ على الأربعة الأقوال في المقاصة.
وإن تزوجها على قيمتها وهما يعلمان قدر قيمتها.. صح النكاح والصداق، كما لو تزوج رجل امرأة على دين له في ذمتها، فإذا انعقد النكاح.. سقطت القيمة من ذمتها، ولم تستحق عليه مهرًا. وإن كانا لا يعلمان قدر القيمة.. فهل يصح الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن خيران: يصح، كما لو تزوجها على عبد لا يعرفان قدر قيمته.
و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يصح الصداق، وهو الصحيح؛ لأن الصداق غير القيمة، والقيمة مجهولة عندهما فلم يصح، كما لو تزوجها على ثوب مجهول. ويخالف العبد؛ فإن عينه معلومة عندهما، فلا يضر الجهل بقيمته، كما لو اشترى عبدًا عرف عينه ولم يعرف قيمته.
[فرع علق عتق أمته على الزواج بها وعكسه]
) : قال ابن الصباغ: إذا قال لأمته: أنا أعتقك على أن أتزوج بك، أو تزوجيني نفسك، فقبلت.. عتقت، ووجب له عليها قيمتها؛ لأنه شرط عليها النكاح في مقابلة العتق.(9/385)
وإذا أراد حيلة يعتق بها أمته ويلزمها أن تتزوج به، فقال: أعتقك على أنه إن كان في معلوم الله - تعالى - أني أتزوجك بعد عتقك، أو قال لها: إن كان في معلوم الله - تعالى - أني إذا أعتقتك تزوجت بك، فأنت حرة، ثم تزوجها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن خيران: يصح النكاح وتعتق؛ لأنه إذا تزوجها بعد هذا القول.. تبينا أنها كانت في معلوم الله حرة حين عقد النكاح، فصح النكاح.
وقال أكثر أصحابنا: لا يصح النكاح ولا تعتق؛ لأنه حالما يعقد عليها النكاح يشك: أنها مملوكة له أو ليست بمملوكة له، وعقد النكاح لا يصح على من يشك في صحة نكاحها، وإذا لم يصح عقد النكاح.. لم يوجد شرط العتق.
[فرع علقت عتق العبد على الزواج به وعكسه]
) : وإن قالت امرأة لعبدها: أعتقك على أن تتزوج بي فقبل العبد، أو قال لها: أعتقيني بشرط أن أتزوج بك، فأعتقته.. عتق، ولا يلزمه أن يتزوج بها؛ لما ذكرناه في الأمة، ولا يلزم العبد لمولاته قيمته؛ لأنها لم تشرط عليه في مقابلة العتق شيئًا تملكه عليه، وإنما شرطت له أن تملكه مع رقبته شيئا، فهو كما لو قالت له: أعتقتك على أن أزيدك مائة درهم.
[فرع قال له أعتق عبدك عني أو عن نفسك أزوجك ابنتي]
إذا قال رجل لآخر: أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وله ولاؤه، ولا يلزمه تزويجه ابنته؛ لأنه سلف في عقد، ويلزم السائل لمالك العبد قيمة العبد؛ لأنه لم يسلم له ما شرط له.
وإن قال له: أعتق عبدك عن نفسك على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه.. عتق العبد على سيده، وله ولاؤه، ولا يلزم السائل تزويج ابنته مولى العبد؛ لأنه سلف في عقد. وهل يلزم السائل قيمة العبد لسيده؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين فيمن قال لآخر: أعتق عبدك عن نفسك على أن أدفع لك مائة درهم، فأعتقه.. فهل تلزمه المائة؟ فيه قولان:(9/386)
أحدهما: تلزمه المائة؛ لأنه أعتقه بعوض بذل له، فلزم الباذل ما بذله، كما لو قال له: أعتق عبدك عني على مائة، وكما لو قال لآخر: طلق امرأتك ولك مائة درهم.
فعلى هذا: يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد.
والثاني: لا تلزمه المائة، وهو الصحيح؛ لأنه بذل له العوض على ما لا منفعة له فيه، فلم يلزمه العوض، كما لو اشترى ما لا منفعة فيه. ويخالف إذا قال: أعتق عبدك عني؛ فإنه يحصل له الثواب والولاء، وفي الزوجة قد يكون له غرض في أن يتزوجها أو يعلمها على نكاح باطل، فيريد تخليصها.
فعلى هذا: لا يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد.
[مسألة عقد على أن لها ألفًا، وألفًا لأبيها أو لأبيها وأمها]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا عقد النكاح بألف على أن لأبيها ألفًا.. فالمهر فاسد) .
وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة بألف على أن لأبيها أو لعمها ألفًا أخرى.. فالنكاح صحيح، والمهر فاسد، وله مهر مثلها. وإنما صح النكاح؛ لأنه لا تفتقر صحته إلى صحة المهر. وإنما فسد المهر؛ لأن قوله: (على أن لأبيها ألفًا) ، إن أراد: أن ذلك هبة منه لأبيها.. فهذا شرط غير لازم له. وإن أراد أن جميع الألفين صداق لها - والصداق لا يستحقه غير الزوجة - فإذا فسد الشرط.. سقط المهر وقد نقصت المرأة من صداقها جزءًا لأجل الشرط، وإذا سقط الشرط.. وجب أن يرد إلى المهر الجزء الذي نقصته لأجل الشرط وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولًا. ولو أصدقها صداقًا مجهولًا.. لم يصح، ووجب لها مهر مثلها بالغًا ما بلغ.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (إذا تزوجها على ألف على أن لأبيها ألفًا ولأمها ألفًا.. صح النكاح، واستحقت الثلاثة الآلاف، ولا شيء للأم والأب) ، وبه قال مالك.(9/387)
قال أبو علي بن أبي هريرة: ويجيء على هذا: أن الألفين في الأولى للزوجة، وهذا مخالف لما نقله المزني وذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " في التي قبلها.
والأول أصح؛ لأنه إنما أصدقها ألفا لا غير، وما شرطه لأبيها وأمها لا يستحقانه ولا تستحقه الزوجة؛ لما قدمناه في التي قبلها.
إذا ثبت هذا، فقد ذكر المزني بعد الأولى: ولو نكح امرأة على ألف وعلى أن يعطي أباها ألفًا.. كان جائزًا، ولها منعه وأخذها منه؛ لأنها هبة لم تقبض أو وكالة.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل؛ ولا فرق بين هذه والأولى، ويكون المهر فاسدًا، وإنما نقل المزني جواب مسألة ثالثة ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/65) : (وهو: إذا تزوجها بألفين على أن تعطي أباها منهما ألفًا.. فيكون المهر جائزًا؛ لأنها قد ملكت الألفين بالعقد، وما شرطه عليها من دفعها لأبيها ألفًا لا يلزمها؛ لأنه إن كان هبة منها.. فلا تلزم عليها قبل القبض، أو على سبيل الوكالة منها لأبيها في القبض وذلك لا يلزم عليها، وإذا لم يلزمها.. سقط، ولا يؤثر ذلك في المهر؛ لأن المرأة لم تنقص من مهرها شيئًا لأجل هذا الشرط، ولأن الزوج زاد في مهرها لكي تعطي أباها؛ لأنه لا منفعة له في ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا أصدقها ألفين على أن يعطي الزوج منهما ألفًا لأبيها.. لم يؤثر ذلك؛ لأن ذلك هبة منها أو توكيل في قبضها، والتصرف لها، لا حق للزوج في ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: ومعنى هذا عندي: أنه لم يرد به الشرط، وإنما أراد به: أنه تزوجها على ألفين على أن لها أن تعطي أباها ألفًا.. أو يعطي هو أباها ألفًا، فالحكم ما ذكرناه.
وأما إذا خرج ذلك مخرج الشرط: فينبغي أن يفسد المهر؛ لأنه لم يملكها المهر ملكًا تامًا؛ لأنه إذا شرط أن يعطي بعضه لغيرها.. فلم يملكها ملكًا تامًا، فبطل.
وقد حكى الصيمري هذا عن بعض أصحابنا، ثم قال الصيمري: وهذا هو قياس(9/388)
التحقيق: أن لو كان من عقود المعاوضات وما الغرض فيه الغبن، فأما ما هو خلاف ذلك.. فلا.
[فرع لا يضر شرط من مقتضى العقد]
) : إذا تزوج امرأة بألف على أن يطأها ليلًا ونهارًا، أو على أن ينفق عليها ويكسوها ويسافر بها، أو على أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه.. صح ذلك، ولم يؤثر في الصداق؛ لأن ذلك من مقتضى العقد. وإن شرط على أن له أن يتزوج عليها، أو يتسرى عليها.. صح ولم يؤثر؛ لأنه لا ينافي مقتضاه.
وإن تزوجها بمائة على أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى عليها، أو على أن لا يسافر بها، أو على أن لا تكلم أباها أو أمها، أو على أن لا يكسوها، أو على أن لا ينفق عليها، أو على أن لها أن تخرج من بيتها متى شاءت.. فالنكاح صحيح، والشرط والمهر فاسدان. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشرط صحيح، ومتى لم يف لها به.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح) .
وروى ذلك عن عمر، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، وأبي الشعثاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» وهذا الشرط ليس في كتاب الله.
ويجب لها مهر مثلها؛ لأنها تركت لأجل الشرط جزءًا من المهر، فإذا سقط الشرط.. وجب رد الجزء وهو مجهول، وإذا صار الصداق مجهولًا.. وجب لها مهر المثل.
وقال أبو علي بن خيران: يجب لها أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل.
والمذهب الأول؛ لأن المسمى قد سقط اعتباره، وإنما الاعتبار بمهر المثل.
وإن تزوجها على ألف إن لم يخرجها من بلدها، وعلى ألفين إن أخرجها.. فالمهر فاسد، ويجب لها مهر مثلها.(9/389)
وقال أبو حنيفة: (إن وفى لها بالشرط الأول.. كان لها الألف، وإن لم يف لها.. كان لها مهر مثلها) .
وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان.
دليلنا: أنه دخل في العقد على التخيير بين عوضين، فكان العوض فاسداَ، كما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة.
[فرع الشرط المنافي لعقد النكاح يبطله]
) : إذا اشترطت المرأة على الزوج حال العقد أن لا يطأها، أو على أن يطأها في الليل دون النهار، أو على أن لا يدخل عليها سنة.. بطل النكاح؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضى العقد.
وإن شرط الزوج ذلك عليها في العقد.. لم يبطل النكاح؛ لأن ذلك حق له يجوز له تركه، فلم يؤثر شرطه، ولا يلزمه الوفاء بالشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» . وهذا ليس في كتاب الله، فكان باطلًا.
[فرع شرط الخيار في عقد النكاح أو في الصداق]
) : إذا تزوج امرأة بمهر وشرط خيار المجلس، أو خيار الثلاث في عقد النكاح.. فسد النكاح؛ لأن النكاح لا يقع إلا لازمًا، فإذا شرط فيه الخيار.. نافى ذلك مقتضاه، فأبطله.
وإن شرط الخيار في الصداق.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (كان المهر فاسدًا) . وظاهر هذا: أن النكاح صحيح. وقال في " الإملاء ": (إن المهر والنكاح باطلان) .
واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: يبطلان.. أراد إذا شرط الخيار في النكاح والمهر، أو في النكاح وحده.(9/390)
وحيث قال: لا يبطل النكاح.. أراد إذا شرط الخيار في المهر وحده.
ومنهم من قال: إذا شرط الخيار في المهر وحده.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه أحد عوضي النكاح، فبطل النكاح بشرط الخيار فيه، كما لو شرطه في البضع.
والثاني: يصح النكاح، وهو الصحيح؛ لأنه لو جعل الصداق خمرًا أو خنزيرًا.. لم يفسد النكاح، فلأن لا يفسد إذا شرط الخيار في المهر أولى.
فإذا قلنا بهذا: ففي المهر والخيار.. ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أن المهر والخيار صحيحان؛ لأن المهر كالثمن في البيع، فلما ثبت جواز الخيار في الثمن.. ثبت جوازه في المهر.
والثاني: أن المهر صحيح والخيار باطل؛ لأن المقصود هو الصداق، والخيار تابع، فثبت المقصود وبطل التابع.
والثالث: أن المهر والخيار باطلان، وهو المنصوص؛ لأن الخيار لما لم يثبت في المعوض، وهو البضع.. لم يثبت في العوض، وإذا سقط الخيار.. فقد ترك لأجله جزء من المهر، فيجب رده وذلك مجهول، وإذا كان المهر مجهولًا.. وجب مهر المثل.
قال الشيخ أبو حامد: والوجهان الأولان يساويان استمتاعهما.
[فرع عيب المهر يثبت خيار الرد]
) : ويثبت في الصداق خيار الرد بالعيب المتفاحش، واليسير مما يعد عيبًا في مثله.
وقال أبو حنيفة، وصاحباه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يرد بالمتفاحش دون اليسير) .
دليلنا: أن إطلاق العقد يقتضي سلامة المهر من العيب، فإذا رد بالمتفاحش.. رد باليسير، كالمبيع.(9/391)
[مسألة تملك المهر الصحيح عندنا بنفس العقد وحكم قبض وليها له]
) : وتملك المرأة جميع المهر المسمى لها بنفس العقد إن كان ما سماه صحيحًا، وإن كان باطلًا.. ملكت مهر المثل. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (تملك نصف المسمى بالعقد، والنصف الباقي أمانة في يدها للزوج، فإن دخل بها.. استقر ملكها على الجميع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، فلولا أنهن ملكنه.. لما أمر بتسليمه إليهن. ولأنه عوض في مقابلة معوض، فملك في الوقت الذي يملك به المعوض، كالأثمان في البيع.
وإن كانت المنكوحة صغيرة، أو كبيرة مجنونة، أو سفيهة.. فللأب أو الجد أن يقبض صداقها؛ لأن له ولاية على مالها.
وإن كانت بالغة عاقلة رشيدة.. سلم المهر إليها أو إلى وكيلها، وليس لوليها قبضه بغير إذنها.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. جاز له أن يقبض المهر بغير إذنها؛ لأنه إذا جاز له العفو عنه.. فلأن يجوز له قبضه أولى.
والأول أصح؛ لأنه إنما يجوز له العفو على هذا القول عن مهر الصغيرة أو المجنونة، فأما الكبيرة العاقلة: فليس له العفو عن مهرها بلا خلاف. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت المنكوحة ثيبًا.. لم يكن للأب أو الجد قبض صداقها بغير إذنها. وإن كانت بكرًا.. فله قبض صداقها بغير إذنها إلا أن تنهاه عن قبضه) .
دليلنا: أنها بالغة رشيدة، فلم يكن له قبض صداقها بغير إذنها، كالثيب.(9/392)
[فرع متى تجبر الزوجة على تسليم نفسها باعتبار المهر حالًا أو مؤجلًا]
؟) : إذا كان الصداق حالًا فطالبته الزوجة بتسليمه، فقال الزوج: لا أجده، وطلب الزوج إمهاله إلى أن يجمعه، وطالب بتسليم الزوجة إليه.. لم تجبر الزوجة على تسليم نفسها إليه، إلا أن يجمع صداقها ويسلمه إليها؛ لأن المهر في مقابلة البضع وعوض عنه، فإذا امتنع الزوج من تسليم العوض.. لم تجبر المرأة على تسليم المعوض، كما لا يجبر البائع على تسليم المبيع إذا امتنع المشتري من تسليم الثمن.
فإن قال الزوج: لا أسلم الصداق حتى تسلم الزوجة نفسها. وقالت الزوجة: لا أسلم نفسي حتى يسلم إليَّ الصداق.. فقد ذكرنا فيمن اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض السلعة ثلاثة أقوال مشهورة:
أحدها: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل أيهما تطوع بالتسليم.. أجبر الآخر.
والثاني: أنهما يجبران معًا، فيجبر البائع على تسليم السلعة إلى عدل، ويجبر المشتري على تسليم الثمن إلى عدل، ثم تسلم السلعة إلى المشتري، والثمن إلى البائع، وبأيهما بدأ.. جاز.
والثالث: أن البائع يجبر على تسليم السلعة إلى المشتري، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إلى البائع.
وأما الصداق: فلا يجيء فيه إلا القولان الأولان:
أحدهما: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل يقال لهما: أيكما تطوع بالتسليم.. أجبرنا الآخر على التسليم.
والثاني: يجبر الزوج على تسليم الصداق إلى عدل، فإذا حصل الصداق في يد عدل.. أجبرت الزوجة على تسليم نفسها إلى الزوج.(9/393)
ولا يجيء في هذا القول: أن تسلم المرأة نفسها إلى عدل، كما قلنا في البائع؛ لأن معنى قولنا: (تسلم نفسها) نعني به: ليطأها الزوج، وهذا لا يحصل بتسليمها نفسها إلى العدل.
وسقط هاهنا القول الثالث في البيع، وهو قولنا: يجبر البائع أولًا على تسليم السلعة إلى المشتري؛ لأنا إذا أجبرنا البائع على تسليم السلعة.. أخذ الثمن من المشتري إن كان حاضرًا، وإن كان غائبًا.. حجر على المشتري في السلعة وفي جميع أمواله إلى أن يسلم الثمن. والزوجة هاهنا بمعنى البائع، فلو أجبرناها على تسليم نفسها - وهو: تمكينها الزوج من وطئها - ربما أتلف ماله بعد وطئها، أو أفلس وقد أتلف بُضعَها؛ لأنه لا يتأتى فيها ما ذكرناه في السلعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : بل في الصداق ثلاثة أقوال أيضًا:
أحدها: لا يجبران.
والثاني: يجبران؛ بأن يوضع الصداق على يد عدل، وتجبر المرأة على التمكين.
والثالث: يجبر الزوج.
والأول هو المشهور.
فإذا قلنا لا يجبران.. لم تجب لها عليه نفقه في حال امتناعها؛ لأن الزوج لا يختص بالامتناع.
وإن قلنا: يجبر الزوج أولًا.. فلها النفقة في حال امتناعها قبل تسليم الزوج المهر؛ لأن المنع من جهته.
فإن تبرعت المرأة وسلمت نفسها إليه ووطئها الزوج.. لم يكن لها أن تمتنع بعد(9/394)
ذلك، بل يجبر الزوج على تسليم الصداق إن كان موسرًا. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لها أن تمتنع بعد ذلك حتى تقبض صداقها) .
دليلنا: أن التسليم الأول تسليم استقر به المسمى برضاها، فلم يكن لها الامتناع بعد ذلك، كما لو سلم البائع السلعة قبل قبض الثمن ثم أراد أخذها.
وإن أكرهها الزوج فوطئها.. فهل لها أن تمتنع بعد ذلك إلى أن تقبض المهر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ":
أحدهما: لها أن تمتنع؛ كما لو قبض المشتري العين المبيعة وأكره البائع على ذلك قبل قبض الثمن.
والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن المهر قد تقرر بذلك، والبائع إذا استرد المبيع.. ارتفع التقرير.
وإن كان الصداق مؤجلًا، فطلب الزوج تسليمها إليه قبل حلول الأجل.. لم يكن لها أن تمتنع. فإن امتنعت.. أجبرت؛ لأنها رضيت بتأخير حقها إلى الأجل، فلم يكن لها الامتناع من التسليم، كما لو باع سلعة بثمن مؤجل.. فليس له الامتناع من تسليمها قبل حلول الأجل.
فإن تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل.. فهل لها الامتناع إلى أن تقبض الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال الشيخ أبو حامد: ليس لها أن تمتنع؛ لأن التسليم مستحق عليها قبل المحل، فلم يسقط ما وجب عليها بحلول دينها.
و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لها أن تمتنع. قال: وقد ذكر المزني في " المنثور ": أنه إذا باع سلعة بثمن مؤجل، فلم يقبض السلعة حتى حل الأجل.. فإن للبائع الامتناع من تسليم السلعة حتى يقبض الثمن.(9/395)
ووجهه: أن لها المطالبة بالمهر، فكان لها الامتناع، كما لو كان حالًا.
وإن كان بعض الصداق مؤجلًا وبعضه حالًا.. فلها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض الحال منه، كما لو كان جميعه حالًا. فإذا قبضت الحال منه.. لم يكن لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض المؤجل، كما لو كان جميعه مؤجلًا.
[مسألة تصرف الزوجة بالصداق قبل قبضه]
) : إذا كان الصداق عينا فأرادت الزوجة أن تتصرف فيها بالبيع أو الهبة وما أشبههما قبل القبض.. لم يصح.
وقال بعض الناس: يصح.
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما لم يقبض» . وهذا لم يقبض.
وإن كان الصداق دينًا في الذمة.. فهل يصح لها أن تبيعه قبل قبضه؟ فيه قولان، كالثمن في الذمة. وهذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا أرادت بيع الصداق قبل أن تقبضه.. فهل يصح بيعها له؟ فيه قولان:
إن قلنا: إنه مضمون في يد الزوج ضمان العقد.. لم يصح.
وإن قلنا: ضمان اليد.. صح، وأراد بذلك إذا كان الصداق عينًا.
[مسألة الصداق العين مضمون على الزوج حتى يدفعه]
) : وإذا أصدق الرجل امرأته عينا معينة، إما عبدًا أو ثوبًا.. فإنها تكون مضمونة على الزوج ما لم تقبضها الزوجة؛ لأنها مضمونة عليه بعقد معارضة فكانت مضمونة، كالمبيع.
فإن قبضتها الزوجة.. سقط الضمان عنه، وصار ضمانها على الزوجة.(9/396)
وإن هلكت العين في يد الزوج قبل أن تقبضها الزوجة.. سقط حقها من العين؛ لأنها قد تلفت ولا يبطل النكاح؛ لأن النكاح ينعقد بغير مهر، فلا يبطل بتلف الصداق، ويجب على الزوج ضمان الصداق للزوجة؛ لأنا قد تبينا أنه مضمون عليه إلا أن تقبضه الزوجة. وفيما يضمنه به قولان:
(أحدهما) : قال في الجديد: (ترجع عليه بمهر مثلها) - وهو اختيار المزني، وأبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب - لأنه عوض معين تلف قبل القبض، وتعذر الرجوع إلى المعوض، فوجب الرجوع إلى بدل المعوض، لا إلى بدل العوض، كما لو اشترى عبدًا بثوب، وقبض العبد وتلف العبد، والثوب عنده.. فإنه يجب عليه قيمة العبد لا قيمة الثوب.
فقولنا: (عوض معين) احتراز من العوض في الذمة.
وقولنا: (تعذر الرجوع إلى المعوض به) ؛ لأن الشرع قد منع الزوجة من الرجوع إلى بُضعِها بتلف الصداق، فرجعت إلى بدله. وفيه احتراز من المبيع إذا تلف قبل القبض والثمن باق.
و (الثاني) : قال في القديم: (ترجع عليه ببدل العين التالفة) - وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن كل عين يجب تسليمها.. لا يسقط ضمانها بتلفها، فإذا تلفت.. ضمنت ببدلها، كالعين المغصوبة.
فقولنا: (عين يجب تسليمها) احتراز مما لم يجب تسليمه، كالعين المبيعة والثمن قبل البيع.
وقولنا: (لا يسقط ضمانها بتلفها) احتراز من العين المبيعة والثمن إذا تلفا قبل القبض.(9/397)
فإذا قلنا بقوله الجديد فإن تلفت العين بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. وجب لها مهر مثلها، سواء سلمت نفسها إلى الزوج وطالبته بها فمنعها، أو لم تطالبه بها ولم يمنعها. وإن أتلفتها الزوجة.. كان ذلك قبضًا لها.
وإن أتلفها أجنبي.. فظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر المثل ويرجع الزوج على الأجنبي ببدل الصداق الذي أتلف، وبين أن ترجع الزوجة على الأجنبي ببدل ما أتلف.
وإن نقص الصداق في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ الصداق ناقصًا ولا شيء لها، وبين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها.
فإن كان النقص بفعل أجنبي.. فهي بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها ويأخذ الزوج من الأجنبي الأرش، وبين أن تأخذ الصداق والأرش من الأجنبي.
وإن نقص الصداق بفعل الزوجة.. أخذته ناقصًا ولا شيء لها.
وإن قلنا بقوله القديم.. فحكمه في يد الزوج حكم المغصوب، إلا أنه لا يأثم إذا لم يمنعها من أخذه. فإذا تلف في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. رجعت عليه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل. ومتى تعتبر قيمته؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان:
المنصوص: (أنه تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين التلف) ؛ لأنه مضمون على الزوج في جميع هذه الأحوال، فهو كالمغصوب 0 والثاني: ترجع عليه بقيمته يوم التلف. والأول أصح. وإن نقص في يد الزوج.. نظرت: فإن كان بآفة سماوية.. كانت بالخيار: بين أن ترد الصداق لأجل النقص وترجع ببدله عليه، وبين أن تأخذه ناقصًا وتأخذ منه أرش النقص؛ لأنه كالغاصب. وإن نقص بفعل الزوج، فإن اختارت رده وأخذ بدله.. كان لها. وإن اختارت أخذه، فإن لم يكن للجناية أرش مقدر.. أخذت الصداق وما نقص من قيمته.
وإن كان لها أرش مقدر، بأن كان عبدًا فقطع يده.. رجعت عليه مع العبد بأكثر(9/398)
الأمرين: من نصف قيمته، أو ما نقص من قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه ضمان اليد والجناية.
وإن نقص بفعل أجنبي، فإن اختارت رده على الزوج وأخذ بدل منه.. كان لها ذلك لأجل النقص، ورجع الزوج على الأجنبي بالأرش. وإن اختارت أخذه.. أخذته، فإن كان الأرش غير مقدر.. رجعت به إن شاءت.. على الزوج، وإن شاءت على الأجنبي. وإن كان الأرش مقدرًا، فإن كان مثل أرش النقص، أو أكثر من أرش النقص00رجعت به على من شاءت منهما. وإن كان الأرش المقدر أقل من أرش النقص.. كانت بالخيار: بين أن ترجع بأرش النقص على الزوج، وبين أن ترجع على الأجنبي بالأرش المقدر وترجع على الزوج بتمام أرش النقص.
[فرع اختلال صفة المهر من جائز إلى محرم أو غيره]
) : إذا أصدقها عبدًا فخرج حرًا أو مستحقًا، أو شاة فخرجت خنزيرًا، أو خلا فخرج خمرًا.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض، فيكون على قولين:
أحدهما: ترجع عليه بمهر مثلها.
والثاني: ترجع عليه بقيمته.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: تزوجتك على هذه الجرة الخل فخرج خمرًا.. رجعت عليه بمهر مثله قولًا واحدًا؛ لأن الخل مجهول لا تعلم قيمته. وإن قال: تزوجتك على هذا الجرو، أو الخنزير، أو الخمر، أو هذا المغصوب.. وجب لها مهر المثل قولًا واحدًا؛ لأنه لم يسم لها شيئًا له بدل، بخلاف الأولى؛ فإنه قد سمى لها شيئاٍ له بدل.
وإن قبضت الصداق فوجدت به عيبًا فردته، أو كان الصداق تعليم سورة فلم تحفظ لها، أو تعلمتها من غير الزوج.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض. فعلى قوله الجديد: ترجع إلى مهر مثلها. وعلى قوله القديم: ترجع إلى بدل المردود بالعيب، وإلى أجرة التعليم.(9/399)
[مسألة ثبوت المهر بالوطء في مكان الحرث]
) : ويستقر المهر المسسمى للزوجة بالوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: 237) ، فلما أثبت للزوج الرجوع بنصف الصداق بالطلاق قبل المسيس.. دل على: أنه لا يرجع عليها بشيء منه بعد المسيس.
وقال في آية أخرى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] [النساء: 21] ، وفسر (الإفضاء) : بالجماع:
وإن وطئها في دبرها.. فهل يستقر به المسمى؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يستقر لها به المسمى؛ لأن المهر في مقابلة ما يملكه بالعقد، والوطء في الدبر غير مملوك في العقد، فلم يستقر به المهر.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يستقر به المسمى؛ لأنه موضع يجب بالإيلاج فيه الحد، فاستقر به المهر، كالفرج.
قال أصحابنا: وجميع الأحكام التي تتعلق بالوطء في القبل.. تتعلق بالوطء في الدبر، إلا خمسة أحكام: الإحلال للزوج الأول، والإحصان، وإيفاء المولي، والخروج من العنة، وتغير إذن المنكوحة.
فإن وطئ أجنبية في دبرها بشبهة.. وجب لها مهر المثل. وإن حلف أن لا يطأ امرأة فوطئها في دبرها.. حنث في يمينه.
قال الصيمري: فإن آلى من امرأته أكثر من أربعة أشهر فوطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها، وينبغي أن يحنث في يمينه.
وإن أتت امرأته بولد يلحقه بالإمكان ولم يقر بوطئها.. فهل يستقر عليه المهر المسمى؟ فيه قولان: أحدهما: يستقر عليه؛ لأن إلحاق النسب به يقتضي وجود الوطء.(9/400)
والثاني: لا يستقر عليه؛ لأن الولد يلحق بالإمكان، والمهر لا يستقر إلا بالوطء، والأصل عدم الوطء.
[فرع موت أحد الزوجين يثبت الصداق]
) : وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول.. استقر لها المهر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة فماتت قبل الدخول.. لم يستقر لها المهر.
والمذهب الأول؛ لأن النكاح إلى الموت، فاستقر به المهر، كالإجارة إذا انقضت مدتها.
[فرع لا اعتبار للخلوة في الجديد إلا مع الوطء]
) : وإن خلا الزوج بها ولم يجامعها.. فهل حكم الخلوة حكم الوطء في تقرير المهر ووجوب العدة؟ اختلف العلماء فيها:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد إلى: (أنه لا تأثير للخلوة في تقرير المهر، ولا في وجوب العدة) . وبه قال ابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الشعبي، وابن سيرين، وطاوس. ومن الفقهاء: أبو ثور.
وذهبت طائفة إلى: أن الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة. وذهب إليه(9/401)
عمر، وعلي بن أبي طالب - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -. وبه قال الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن خلا بها خلوة تامة، بأن يخلو بها في بيته دون بيت أبيها أو أمها.. رجح بها قول من يدعي الإصابة منهما عند اختلافهما فيها، ولا تكون الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة) .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديمِ: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم في الخلوة كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه: يرجح بها قول من ادعى الإصابة لا غير، إلا أنه لا فرق - عندنا - على هذا بين أن يخلو بها في بيته، أو في بيت أبيها أو أمها.
ومنهم من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم كقول أبي حنيفة، وهو المنصوص في القديم.(9/402)
فإذا قلنا بهذا.. فوجهه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن قناع امرأة.. فقد وجب عليه المهر» .
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنه قال: إذا أغلق الباب وأرخي الستر.. فقد وجب المهر؛ ما ذنبهن إن جاء العجز من قِبَلِكُمْ؟.
ولأنه عقد على المنفعة، فكان التمكين منها كالاستيفاء في تقرير البدل، كالإجارة.
وإذا قلنا بقوله الجديد، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يخلو بها، أو لا يخلو بها. ولأن الخلوة لو كانت كالإصابة في استقرار المهر ووجوب العدة.. لكانت كالإصابة في وجوب مهر المثل في الشبهة. وأما الخبر: فمحمول على أنه كنى عن الجماع بكشف القناع. وما روي عن أمير المؤمنين عمر.. فقد روينا عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خلاف ذلك.
فإذا قلنا بقوله الجديد، فوطئها فيما دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها.. وجبت عليها العدة وجهًا واحدًا؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه. وإن أتت من ذلك بولد.. لحقه نسبه، وهل يستقر بذلك صداقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستقر؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه، فهو كما لو وطئها.(9/403)
والثاني: لا يستقر به المهر؛ لأنه لم يوجد الجماع التام، فهو كما لو لم يسبق ماؤه إلى فرجها.
ولو استدخلت المرأة ماء غير ماء زوجها وظنته ماء زوجها.. لم يثبت له حكم من الأحكام؛ لأن الشبهة تعتبر في الرجل.
[مسألة الفرقة بعد الدخول أو قبله باعتبار المهر]
وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم افترقا.. لم ترجع إلى الزوج بشيء من المهر، سواء كانت الفرقة من جهة الزوج، أو من جهة الزوجة، أو من جهتهما، أو من جهة أجنبي؛ لأن المهر قد استقر بالدخول، فلم تؤثر الفرقة، وهذا لا خلاف فيه.
وإن أصدقها تعليم سورة من القرآن ودخل بها، ثم طلقها قبل أن يعلمها، فإن كان الصداق تحصيل التعليم.. لم يتعذر ذلك بالطلاق، بل يستأجر لها امرأة أو محرما لها ليعلمها. وإن كان الصداق على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التعليم لا يتعذر بذلك، بل يعلمها من وراء حجاب، كما يجوز أن يسمع مها أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء حجاب.
والثاني: أن تعليمه لها قد تعذر؛ لأنه يخاف عليهما الافتتان، ويخالف سماع الأخبار؛ لأنا لو لم نجوز ذلك.. لضاع ما عندها من الأخبار.
فإذا قلنا بهذا.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع في قوله الجديد إلى مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى أجرة التعليم.
وإن وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول.. نظرت: فإن بسبب من جهتها، بأن أسلمت، أو ارتدت، أو أرضعته، أو أرضعت زوجة له صغيرة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح.. سقط جميع المهر؛ لأن البضع تلف قبل الدخول بسبب من جهتها، فسقط ما يقابله، كالمبيع إذا تلف قبل القبض.(9/404)
وإن كانت بسبب من جهة الزوج، بأن طلقها.. سقط عنه نصف المسمى إن كانت لم تقبضه، ووجب عليها رد نصفه إن كانت قد قبضته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] .
وهكذا: إن أسلم أو ارتد.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن الفرقة من جهته، فهي كالطلاق.
وإن كانت الفرقة بسبب منهما.. نظرت: فإن كانت بخلع.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن المغلب فيه: جهة الزوج؛ بدليل: أنه يصح خلعه مع الأجنبي. وإن كانت بردة منهما، بأن ارتدا معًا في حالة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن حال الزوج في النكاح أقوى، فهو كما لو ارتد وحده.
والثاني: يسقط جميع المهر؛ لأن المغلب في المهر: جهة المرأة؛ لأنها صاحبة الحق وقد أقدمت على ما هو سبب الفرقة، فيسقط حقها.
وإن اشترت المرأة زوجها قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن البيع تم بالزوجة وسيد العبد، وهو قائم مقام العبد، فهو كالخلع.
والثاني: يسقط جميع المهر، وهو المنصوص؛ لأنه لا صنع للزوج في البيع، فهو كما لو أرضعته وكان صغيرًا.
فإذا قلنا بالأول، فإن كانت الزوجة قد قبضت جميع صداقها من كسب العبدِ.. رجع عليها سيده بنصفه. وإن كان الصداق في ذمة العبد.. فهل يبقى لها نصفه في الذمة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما.
وإن قلنا بالثاني، وكانت قد قبضته.. رجع سيده بجميعه عليها. وإن كان في ذمة العبد.. سقط جميعه عن ذمته.(9/405)
[مسألة قتل الزوجة نفسها أو بغيرها وسقوط المهر]
) : وإن كانت المنكوحة أمة فقتلت نفسها، أو قتل السيد قبل الدخول.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سقط جميع المهر) . وقال في الحرة إذا قتلت نفسها، أو قتلها وليها قبل الدخول: (إنه لا يسقط شيء من المهر) . واختلف أصحابنا فيهما:
فذهب أبو العباس، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين:
أحدهما: يسقط مهرها؛ لأن النكاح انفسخ بسبب من جهتها، فهو كما لو ارتدت.
والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأنها فرقة حصلت بانقضاء أجلها، فهو كما لو ماتت.
وذهب أبو إسحاق، وبعض أصحابنا إلى: أنهما على ظاهرهما، ففي الأمة يسقط، وفي الحرة لا يسقط؛ لأن الحرة مسلمة لنفسها بالعقد، ولهذا: لا يجوز لها السفر بغير إذن الزوج، والأمة غير مسلمة لنفسها، ولهذا: يجوز لسيدها السفر بها بغير إذن زوجها؛ لأن زوج الحرة يغنم ميراثها فجاز أن يغرم مهرها، وزوج الأمة لا يغنم ميراثها فلم يغرم مهرها.
فإذا قلنا: يسقط المهر بذلك.. فإن الحرة لا يسقط مهرها إلا إذا قتلت نفسها قبل الدخول، وإن قتلها وليها أو زوجها أو أجنبي.. لم يسقط مهرها.
وأما الأمة: فإن قتلت نفسها قبل الدخول.. سقط مهرها؛ لأنها هي الزوجة، وإن قتلها سيدها.. سقط مهرها؛ لأن المهر له. وإن قتل الأمة زوجها أو الأجنبي قبل الدخول.. لم يسقط مهرها.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يسقط مهرها إذا قتلها أجنبي؛ لأنها كالسلعة المبيعة، والسلع المبيعة إذا أتلفها أجنبي قبل القبض.. انفسخ البيع وسقط الثمن.
والمذهب الأول؛ لأنها إنما تكون كالسلعة إذا بيعت، فأما في النكاح: فهي كالحرة.(9/406)
قال الشيخ أبو حامد وأبو سعيد الإصطخري: إنما تخالف في الأمة إذا قتلها الأجنبي لا غير.
قال ابن الصباغ: وحكى بعض أصحابنا: أنها إن ماتت قبل الدخول.. كان كما لو قتلها أجنبي - وهي طريقة صاحب " المهذب " وقد مضى ذكرها - قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأمة في النكاح كالحرة يصح طلاقها وظهارها والإيلاء منها، فلا تجري مجرى السلعة.
[مسألة زوج أمته ثم باعها واعتبار النفقة والمهر]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن باعها حيث لا يقدر عليها.. فلا مهر لها حتى يدفعها إليه) .
وجملة ذلك: أنه إذا زوج أمته ثم باعها من آخر.. فقد ذكرنا: أنه يصح البيع ولا يكون طلاقًا، وقد مضى.
فإن كان المشتري يريد السفر بها، أو كان بدويًا وأراد الخروج بها إلى البادية.. كان له ذلك؛ لأن حق المالك للرقبة آكد من حق المالك للمنفعة. فإن كان الزوج قد دخل بها.. فقد استقر عليه المهر، فيجب عليه دفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه.. لم يسترجعه 0وإن كان ذلك قبل الدخول.. لم يجب على الزوج دفع المهر، وإن كان قد دفعه 00استرجعه؛ لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك 0 لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك.
وإن لم يرد المشتري السفر بها وسلمها إلى الزوج ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها، ولزمه تسليم مهرها إلى البائع إن لم تكن مفوضة.
وإن قال المشتري: لا أسلمها إلا ليلًا، ولا أسلمها نهارًا.. كان له ذلك؛ لأنه عقد على إحدى منفعتيها وهو الاستماع، فلم يلزمه تسليمها في غير زمان الاستمتاع، كما لو أجرها للخدمة ليلًا.(9/407)
قال أبو إسحاق: إلا أن تكون صانعة تنسج التِّكَكَ، أو تغزل.. فيلزمه إرسالها إلى الزوج ليلًا ونهارًا، وتعمل ذلك في بيت زوجها.
قال الشيخ أبو حامد: وفي هذا نظر؛ لأنه لا يتعين على السيد استعمالها في تلك الصنعة وحدها.
فإذا سلمها السيد بالليل دون النهار.. فهل يجب على الزوج شيء من النفقة؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب على الزوج نصف نفقتها اعتبارًا بما سلمت إليه من الزمان.
والمذهب: أنه لا يلزمه شيء من النفقة؛ لأنه لم يمكن من الاستمتاع التام بها.
وأما المهر: فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا لم يسلمها تسليمًا تامًا ليلا ونهارًا.. لم يلزمه تسليم المهر.
وقال غيره من أصحابنا: يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه يتمكن من وطئها ليلًا، فإذا وطئها.. استقر عليه المهر.
[مسألة الطلاق قبل الدخول وطروّ الزيادة أو النقصان على الصداق]
وإذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فقد ذكرنا: أن الزوج يرجع عليها بنصفه.
فإن كان الصداق قد تلف بيدها، فإن كان له مثل.. رجع عليها بنصف مثله؛ لأنه أقرب. وإن كان لا مثل له.. رجع عليها بنصف قيمته؛ لأن ما لا مثل له يضمن بالقيمة. فإن اختلفت قيمته من حين العقد إلى حين قبضه.. رجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن قيمته إن كانت حين العقد أقل ثم(9/408)
ازدادت.. فإن الزيادة حدثت في ملكها، فلا يلزمها ضمانها. وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقصت.. فإن النقص مضمون على الزوج لها، فلا تضمنه الزوجة له.
وإن كان الصداق باقيًا في يدها.. فلا يخلو من أربعة أحوال:
إما أن يكون باقيًا على حالته من حين القبض إلى حين الطلاق، أو يكون ناقصًا من جميع الوجوه عن حالته التي قبضته عليها، أو يكون زائدًا على حالته التي قبضته عليها من جميع الوجوه، أو يكون زائدًا من وجه ناقصًا من وجه.
فإن كان باقيًا على حالته.. رجع بنصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]
[البقرة 237] وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن كانت جارية سمينة فهزلت أو مرضت أو ما أشبه ذلك.. فالزوج بالخيار: بين أن يرجع بنصف الصداق ناقصًا ولا شيء له غير ذلك، وبين أن يرجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن الله تعالى قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] وإذا كان ناقصًا.. فليس هو المفروض.
وإن كان الصداق زائدًا من جميع الوجوه.. فلا تخلو الزيادة: إما أن تكون متميزة، أو غير متميزة:
فإن كانت متميزة، بأن أصدقها بهيمة حائلًا فحملت وولدت ثم طلقها، أو شجرة لا ثمرة عليها فأثمرت وجذت ثم طلقها.. رجع عليها بنصف الصداق دون النماء؛ لأنه نماء حدث في ملكها وتميز، فلم يكن له فيه حق، كما قلنا في المشتري إذا حدث في ملكه نماء متميز ثم وجد بالمبيع عيبًا فرده.
وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن، وتعلم القرآن، والعلم، والصنعة، فإن اختارت الزوجة تسليم نصفه.. أجبر الزوج على أخذه؛ لأنه يرجع إليه أكمل مما دفع إليها. وإن لم تختر تسليم نصفه.. لم تجبر عليه. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال محمد بن الحسن: تجبر الزوجة على تسليم نصفه مع زيادته المتصلة.
دليلنا: أن هذه زيادة حدثت في ملكها، فلم يلزمها تسليمها، كما لو كانت الزيادة(9/409)
متميزة، ويلزمها نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن كان على الزوجة ديون فأفلست وحجر عليها.. فهل للزوج أن يرجع عليها في نصف الصداق مع زيادته المتصلة به؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يرجع بنصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لأنا إنما لا نوجب الرجوع إلى نصف الصداق مع زيادته إذا كانت غير مفلسة؛ لأن ذمتها عامرة فيتوصل الزوج إلى استيفاء حقه من القيمة، وإذا كانت مفلسة.. فذمتها خربة، فلا يمكنه الوصول إلى استيفاء حقه بالقيمة، فثبت له الرجوع إلى نصفها.
و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يرجع الزوج إلى نصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى؛ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، والزائد غير المفروض، ولم يفرق بين المفلسة وغير المفلسة.
وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصًا من وجه، بأن كان عبدًا فتعلم صنعة ومرض، فإن اتفقا على أن يأخذ الزوج نصفه.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن طلب الزوج نصفه فامتنعت الزوجة من ذلك.. لم تجبر على ذلك؛ لزيادته. وإن بذلت المرأة نصفه وامتنع الزوج من أخذه 00لم يجبر على ذلك؛ لنقصانه، ويرجع إلى نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن طلقها قبل الدخول والصداق في يده، فإن كان الصداق بحاله لم يزد ولم ينقص.. كان لها النصف.
وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن مرض في يده أو عمي.. فالزوجة بالخيار: بين أن تأخذ نصفه ناقصًا ولا شيء لها - كالمبيع إذا نقص في يد البائع - وبين أن تفسخ الصداق لأجل نقصه. فإذا فسخت الصداق.. لم ينفسخ النكاح، وإلى ماذا يرجع؟ فيه قولان، كما لو تلف قبل القبض:
(أحدهما) : قوله الجديد: (يرجع إلى نصف مهر المثل) .
و (الثاني) : قوله القديم: (يرجع إلى بدل نصف الصداق) .(9/410)
وإن كان الصداق زائدًا.. نظرت: فإن كانت زيادة متميزة، كالولد، واللبن، والثمرة.. كان لها نصف أصل الصداق وجميع الزيادة.
وحكى المسعودي (في " الإبانة ") : أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (للزوج نصف الزيادة المنفصلة الحادثة في يده) .
دليلنا: أنها زيادة حدثت في ملكها، فلم يكن للزوج فيها حق، كما لو حدثت في يدها.
وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسِّمَن، وتعليم الصنعة.. فالمرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الصداق وتدفع إلى الزوج نصفه مع زيادته فيجبر الزوج على قبوله، وبين أن تأخذ جميع الصداق وتدفع إلى الزوج نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.
وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصا من وجه، بأن كانت جارية تعلمت صنعة ونسيت أخرى.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ نصفه وتسلم إلى الزوج نصفه فيجبر الزوج على ذلك؛ لأن النقص في يده مضمون عليه، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه في قوله الجديد إلى نصف مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى نصف بدل الصداق.
[فرع وقت تملك الزوج نصف الصداق إذا طلق قبل الدخول]
) : كل موضع قلنا: يرجع الزوج إلى نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول.. فمتى يملك الزوج ذلك النصف؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: لا يملكه إلا بالطلاق واختيار التملك - وهو قول أبي حنيفة - لأن الملك من غير اختيار لا يقع إلا بالإرث، وهذا ليس بإرث.
والثاني - وبه قال زفر، وهو المنصوص ـ: أنه يملكه بنفس الطلاق وإن لم يختر(9/411)
التملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يختار التملك أو لا يختار.
وما ذكره الأول: أن الإنسان لا يملك شيئاَ غير الميراث إلا باختيار التملك.. غير مسلم؛ فإن الإنسان لو أخذ صيدًا لينظر إليه لا ليتملكه.. لملكه بالأخذ من غير اختيار التملك.
فإن زاد الصداق بعد الطلاق وقبل اختيار التملك، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. كانت الزيادة للزوجة وحدها. وإن قلنا بالمنصوص.. كانت الزيادة بينهما.
وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق وقبل الاختيار، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. لم يلزمها ضمان النقص. وإن قلنا بالمنصوص.. لزمها ضمان النقص.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وهذا كله ما لم يقض القاضي بنصفه، فتكون هي حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) .
وقال الصيمري: هل يشترط قضاء القاضي في تملك الزوج نصف الصداق؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : ظاهر كلام الشافعي: أن ذلك شرط.
والثاني - وهو الأصح ـ: أن ذلك ليس بشرط.
وسائر أصحابنا قالوا: لا خلاف أن قضاء القاضي ليس بشرط؛ لأن الرجوع بنصف الصداق ثبت له بنص الكتاب والإجماع، فلم يشترط قضاء القاضي فيه.
فعلى هذا: اختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فمنهم من قال: أراد بقضاء القاضي: إذا اختلفا في وقت ملك الزوج، بأن قال الزوج: ملكته من شهرين ثم نقص بعد ما ملكته، فعليك ضمان النقص. وقالت: بل ملكته من شهر ونقص قبل أن تملكه، فلا يلزمني ضمان النقص.. فإنهما يترافعان إلى القاضي، فإذا قضى له القاضي بملكه من وقت.. كانت ضامنة لما حدث بعده من النقص.
وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الكلام عليه إذا(9/412)
طلقها قبل الدخول وقد نقص الصداق في يدها من جميع الوجوه.. فإن الزوج بالخيار: بين أن يرجع في نصفه ناقصًا ولا أرش له، وبين أن يرجع بقيمة نصفه. ومتى يملك نصفه؟
على قول أبي إسحاق: يملكه بالطلاق واختيار التملك.
وعلى المنصوص: يملكه بالطلاق، ولا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما عبر الشافعي عن وقت الملك بقضاء القاضي؛ لأنه أوضح ما يعلم به عود نصف الصداق، فمتى علم وقت عوده إليه ثم نقص بعد ذلك.. وجب عليها ضمان النقص؛ لأنها قبضت الصداق بعقد المعاوضة وقد انفسخت المعاوضة، فكان عليها ضمان ما نقص في يدها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبًا ففسخ البيع ثم نقصت في يده.. فإنه يجب عليه ضمان النقص.
وقد نص الشافعي في " الأم " (5/54) على: (أنه إذا طلقها قبل الدخول، والصداق في يدها فمنعته إياه.. كان عليها ضمان ما يحدث فيه من النقص) .
فمن أصحابنا من قال بظاهر هذا: وأنها إذا لم تمنعه.. لم يلزمها ضمان النقص، بل هو أمانة في يدها؛ لأنه حصل في يدها من غير تفريط.
ومنهم من قال: يجب عليها ضمان ما نقص في يدها، سواء منعته أم لم تمنعه، وهو الأصح، كما قلنا فيمن اشترى عينًا فوجد بها عيبًا ففسخ البيع، ثم نقصت في يده.. فإن عليه ضمان النقص بكل حال. وتأولوا كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " على أنه أراد: ضمان الغصب؛ لأن ضمان الغصب يطرأ على ما هو مضمون بالقيمة، كالعارية إذا منعها صاحبها. وقال أبو العباس: بل عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا إذا زاد الصداق في يد الزوجة من جميع الوجوه.. فقد قلنا: إن الزيادة كلها لها، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ما لم يقض القاضي بنصفه) يعني: ما لم يقض له قاض مالكي بنصفه مع زيادته؛ لأن(9/413)
مالكًا يقول: (نصف الصداق باق على ملك الزوج إلى أن يدخل بها) . فإذا قضى له قاض مالكيٌ بنصفه مع زيادته.. كان بينهما، ولا ينقض حكمه؛ لأنه موضع اجتهاد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويل حسن، إلا أن الشافعي قال بعده: (فتكون حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) ، ولا يمكن حمل هذا على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه يقول: (هو أمانة في يدها، لا يلزمها ضمان النصف ولا زيادته) .
[مسألة أصدقها نخلًا، ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيها ست مسائل:
الأولى: إذا أراد الزوج أن يرجع في نصف النخل بنصف ثمرتها فامتنعت الزوجة من ذلك.. فإنها لا تجبر على ذلك؛ لأن الثمرة إن كانت غير مؤبرة.. فهي زيادة متصلة بالنخل، وإن كانت مؤبرة.. فهي كالزيادة المنفصلة، وقد بينا أن الجميع لها.
الثانية: إذا بذلت له المرأة نصف النخل مع نصف الثمرة.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على قبوله؛ لأن هذه الزيادة ملك لها، فلا يجبر على قبولها، كما لو وهبت له شيئًا.. فإنه لا يجبر على قبوله.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يجبر على قبوله؛ لأنها زيادة متصلة بالصداق، فأجبر الزوج على قبولها، كالجارية إذا سمنت.
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": والوجهان إنما هما في الثمرة المؤبرة، فأما غير المؤبرة: فيجبر الزوج على قبولها وجهًا واحدًا.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن الوجهين في غير المؤبرة، ولم يذكر المؤبرة 0 فإذا قلنا: يجبر على القبول.. فإنه يجبر إلا أن يطول النخل طولا يكون عيبا فيها(9/414)
من الكبر، ويصير قحامًا - وهو: النخل الذي قل سعفه ودق أصله - فلا يجبر الزوج على قبولها؛ لما فيها من النقص بذلك.
الثالثة: إذا قال الزوج لها: اقطعي الثمرة لأرجع في نصف النخل بلا ثمرة.. فلا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن في قطع الثمرة قبل أوان قطعها إضرارًا بها، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، وهذه ليست بظالمة.
الرابعة: أن تقول المرأة للزوج: اصبر عن الرجوع حتى تدرك الثمرة فتجذ، ثم ترجع في نصف النخل.. فلا يجبر الزوج على ذلك؛ لأن حقه متعجل فلا يجبر على التأخير، ولأنه لا يؤمن أن يتلف النخل فلا يمكنه الرجوع فيها. فإن صبر باختياره إلى أن جذت الثمرة أو قطعت المرأة الثمرة قبل أوان جذاذها.. لم يكن للزوج إلا نصف النخل، إلا أن يحدث بها نقص.. فلا يجبر على نصفها.
الخامسة: أن يقول الزوج: أنا أصبر إلى أن تدرك الثمرة فتجذ، ثم أرجع في نصف النخل.. فإن المرأة لا تجبر على ذلك؛ لأن النخل بعد أن يرجع إليه نصفها يكون من ضمانها، فيلزمها الضرر بدخولها في ضمانها، ولأن النخل يزيد فإذا رجع في نصفها بعد ذلك.. رجع في نصفها وفي نصف زيادتها المتصلة الحادثة في يدها، ولأن حقه قد تعلق بالقيمة، فلا ينتقل عنها إلى النخل إلا برضا المرأة.
السادسة: إذا قال الزوج: أنا أرجع في نصف النخل في الحال مشاعًا، وأترك الثمرة لها إلى أن تجذها.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: له ذلك، وتجبر المرأة على ذلك؛ لأنه لا ضرر على المرأة بذلك.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: لا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن حقه قد صار في القيمة، فلا تجبر على تسليم نصف النخل.(9/415)
[فرع أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول]
وإن أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول، فإن بذلت له نصفها.. أجبر على قبولها؛ لأن الحرث زيادة من غير نقصان. وإن امتنعت من بذل نصفها.. لم تجبر على ذلك، وكان له نصف قيمتها؛ لأنها قد زادت في يدها.
فإن زرعتها أو غرستها وطلقها قبل الدخول والزرع والغرس فيها، فإن بذلت له نصف الأرض ونصف الزرع ونصف الغرس، وكانت قيمة الأرض قبل الزرع والغرس كقيمتها بعد الزرع والغرس.. قال الشيخ أبو حامد: أجبر على قبول ذلك على المذهب، كما قلنا فيه إذا بذلت له نصف النخل ونصف الثمرة.
وقال ابن الصباغ: لا يجبر الزوج على قبول ذلك؛ لأن الثمرة لا ينقص بها النخل، والزرع تنقص به الأرض وتضعف، ولأن الثمرة متولدة من النخل، فهي تابعة لها، والزرع والغرس ملك لها أودعته في الأرض، فلا يجبر على قبوله.
وإن نقصت قيمة الأرض بالزرع والغراس 00لم يجبر الزوج على قبول نصفها. فإن طلقها وقد استحصد الزرع ولم تحصده بعد، فقالت: أنا أحصده وأسلم نصف الأرض فارغة.. أجبر على قبول ذلك إلا أن يحدث بالأرض نقص.
وإن حصدت الزرع ثم طلقها، أو طلقها ثم حصدت الزرع.. كان له الرجوع في نصف الأرض إلا أن تكون قد نقصت بالزرع.. فلا يجبر على قبولها؛ لأن المانع من الرجوع.. الزرع، وقد زال.
[مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول وهي حامل.. فإن الحمل زيادة فيها من وجه ونقصان من وجه؛ لأنه يخاف عليها منه.
فإن تراضيا على أن يأخذ نصفها حاملًا.. جاز. وإن طلب الزوج أن يرجع بنصفها، وامتنعت الزوجة.. لم تجبر الزوجة؛ لزيادة الحمل.(9/416)
وإن بذلت المرأة له نصفها وامتنع الزوج.. لم يجبر؛ لما يخاف عليها منه.
وإن أصدقها شاة حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب ـ: أن حكمها حكم الجارية؛ لأنه يخاف عليها منه، كما يخاف على الجارية.
والثاني: أنه زيادة من كل وجه.
فإن بذلت له المرأة نصفها.. أجبر الزوج على قبوله؛ لأنه لا يخاف عليها منه بحال. والأول أصح.
[مسألة أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول]
إذا أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده.. فإن الولد ملك لها؛ لأنه متولد من ملكها.
فإن طلقها قبل الدخول، فإن كانا باقيين في يده لم ينقصا.. فإن الزوج يرجع بنصف الأم، وتأخذ الزوجة نصف الأم وجميع الولد.
وإن كانت الأم سالمة، وقد تلف الولد في يد الزوج.. رجع الزوج في نصف الأم، وهل يلزمه ضان الولد؟ ينظر فيه:
فإن طالبته بتسليمه فمنعها.. لزمه ضمانه؛ لأنه صار بالمنع لها كالغصب.
وإن لم تطالبه بتسليمه فهل يلزمه ضمانه؟ فيه قولان، نص عليهما في القديم - ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين ـ:
أحدهما: (يلزمه ضمانه) ؛ لأنه متولد من عين مضمونة، فهو كولد المغصوبة 0 والثاني (لا يلزمه ضمانه) لأنه حصل في يده بغير تعد، لا على وجه المعاوضة، فكان أمانة، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا 0 وإن كان الولد باقيًا في يده إلا أنه قد نقص، فإن كانت قد طالبته بتسليمه فمنعها منه.. لزمه أرش النقص. وإن لم تطالبه بتسليمه.. فهل يلزمه أرش النقص؟ على هذين الوجهين 0(9/417)
وإن كانت الأم باقية في يده إلا أنها قد نقصت، فإن كانت قد طالبته بتسليمها فامتنع.. كانت بالخيار: بين أن تطالبه بنصفها ونصف أرش نقصها قولًا واحدًا، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. كان كما لو تلفت، ولو تلفت قبل القبض.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها في قوله القديم. وإن لم تطالبه بتسليمها أو عرضها عليها فأقرتها في يده.. ففيه قولان نص عليهما في " لأم ":
أحدهما: (لا يجب عليه أرش النقص) ؛ لأنه غير متعد في إمساكها.
فعلى هذا: تكون المرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الأم ناقصة ولا شيء لها غير ذلك، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف بدل العين في قوله القديم. والقول الثاني: (أنها تأخذ نصف العين ناقصة، ونصف أرش النقص) ؛ لأنه ضامن للعين بعقد المعاوضة، فضمن أرش نقصها في يده.
قال ابن الصباغ: وعندي أن هذا لا يستقيم إلا على القول القديم الذي يقول: (إذا تلف الصداق قبل القبض.. كان مضمونًا عليه بالقيمة) . وأما إذا قلنا بالجديد و: (أنه مضمون ضمان العقد) .. فلا فرق بين أن تطالب به أو لا تطالب به، ألا ترى أن البائع إذا نقص المبيع في يده.. فليس للمشتري مطالبته بالأرش، سواء كان قد طالب بتسليمه أو لم يطالب؟.
وكل موضع قلنا: تأخذ نصف الأم ونصف الأرش، أو قلنا: تفسخ ففسخت وقلنا: تأخذ نصف قيمتها.. فإن الولد لها؛ لأنه نماء ملكها.(9/418)
وكل موضع قلنا: لها فسخ الصداق والرجوع بنصف مهرها، ففسخت.. ففي الولد وجهان:
أحدهما: أن الولد لها؛ لأنه انفصل في ملكها، فهو كما لو اشترى بهيمة حائلًا فولدت في يده، ثم وجد بها عيبًا فردها.
والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأنها إذا فسخت الصداق.. ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في غير ملكها.
وإن كانت الأم تالفة والولد باقيًا، وقد تلفت الأم قبل القبض.. فترجع عليه - على قوله الجديد - بنصف مهر مثلها، وعلى قوله القديم بصف قيمتها.
وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم و: (أنها ترجع بنصف قيمتها) .. كان الولد لها؛ لأن الأم هلكت على ملكها، والولد نماء ملكها. وإن قلنا بقوله الجديد و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) .. ففي الولد وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: يكون الولد لها؛ لأنه حدث في ملكها، فكانت أحق به، كما لو اشترت بهيمة حاملًا فولدت في يد البائع ثم ماتت قبل القبض.
والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأن العقد ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في ملك الزوج.
وإن كانت الأم والولد تالفين، فأما الأم: فإنها ترجع عليه بنصف قيمتها في قوله القديم، وبنصف مهر مثلها في قوله الجديد. وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم.. فإنه يكون لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ على القولين أو الوجهين في التي قبلها. وإن قلنا بقوله الجديد: و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) ، فإن قلنا بالمنصوص، وهو: أنه لا حق لها في الولد.. فلا كلام، وإن قلنا بقول بعض(9/419)
أصحابنا: إن الولد لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يضمنه؟ فعلى القولين أو الوجهين.
[مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت في يده وطلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يد الزوج من زوج أو زنا، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن تضع الجارية.. فهذا الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه، فتخير المرأة بين ثلاثة أشياء: بين أن ترضى بالنقص وتعطي الزوج نصفها ونصف حملها ويكون لها نصفهما، وبين أن تأخذ الكل لأجل الزيادة ويكون للزوج نصف قيمتها أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص، فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين الطلاق.
فأما إذا ولدت الجارية في يد الزوج ثم طلقها.. فالحكم فيها حكم البهيمة إذا ولدت في يده - وقد بيناه في التي قبلها - إلا في شيء واحد، وهو: أن الزوج هاهنا لا يرجع في نصف الأم إذا كان الولد صغيرًا؛ لأنه يكون تفرقة بينها وبين الولد، فيرجع الزوج في نصف قيمة الأم؛ لأن التفرقة إذا لم تجز بين الولد وبين جميعها.. فكذلك بين الولد وبين نصفها؛ لأنه يؤدي إلى التفرقة بينه وبينها في بعض الزمان.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن البويطي قال: وفيه قول آخر: أنهما يباعان فيكون لها ثمن الولد ونصف ثمن الأم، وللزوج نصف ثمن الأم. والأول هو المشهور.
فرع: (أصدقها جارية حاملًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول) :
وإن أصدقها جارية حاملًا من زوج أو زنا فولدت في يده، ثم طلقها قبل الدخول، فإن لم تنقص بالولادة عما كانت عليه.. كانت الأم بينهما. وإن نقصت، فإن كانت قد(9/420)
طالبته بها قبل الولادة فمنعها من أخذها.. كان عليه أرش النقص، وإن لم يمنعها.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها بالخيار: بين أن تأخذ نصفها ناقصة ولا شيء لها، وبين أن تفسخ الصداق وترجع إلى نصف قيمتها في القديم، وبنصف مهر مثلها في الجديد. والقول الثاني: أنها تأخذ نصفها ونصف أرش النقص.
فإن قيل: أليس الرجل إذا باع سلعة فنقصت في يد البائع قبل القبض.. لم يكن للمشتري أرش النقص، بل له الخيار: بين أن يفسخ البيع، أو يجيزه ولا شيء له؟
قلنا: الفرق بينهما: أن في البيع إذا فسخ.. رجع المشتري إلى الثمن، فلا معنى لأن يعطى الأرش، وهاهنا إذا فسخ الصداق.. لا ينفسخ النكاح، فكان لها أخذ الأرش.
وأما الولد: فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. قال الشيخ أبو حامد: كان الولد للمرأة ولا حق للزوج فيه؛ لأنه حدث في ملكها.
قلت: وينبغي على هذا أن لا يثبت للزوج الرجوع في نصف الأم، وإنما يرجع في القيمة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى التفرقة بينهما، كما قلنا فيه إذا أصدقها جارية حاملًا فولدت في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول.
وإن قلنا: للحمل حكم.. فقد تناول العقد الجارية وولدها، إلا أن الولد قد زاد بالولادة، فإن رضيت الزوجة بأن يرجع الزوج في نصف الأم ونصف الولد.. أجبر الزوج على ذلك، وإن لم ترض بذلك.. لم يكن له أن يرجع في نصف الأم؛ لأنه تفرقه بينها وبين ولدها الصغير، ويكون له نصف قيمة الأم. وهل يلزمها نصف قيمة الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمها نصف قيمة الولد؛ لأن حال العقد لا يمكن تقويمه، وحال(9/421)
الانفصال قد زاد في ملكها فلا يجوز تقويمه عليها.
والثاني: يلزمها نصف قيمته يوم الوضع؛ لأن العقد تناوله ولا يمكن تقويمه حال العقد، فقوم حال الانفصال؛ لأنه أول حالة إمكانه، كما قلنا في ولد المغرور.
[فرع أصدقها خشبًا أو فضة أو ذهبًا فصنعته ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها خشبًا، فشقتها أبوابًا، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادة قيمتها. وإن بذلت له نصفها بزيادته 00لم يجبر الزوج على قبوله؛ لأنها كانت تصلح وهي خشب لما لا تصلح له الآن0 وإن أصدقها فضة أو ذهبا، فصاغتها آنية، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادتها. وإن بذلت النصف بزيادته.. أجبر الزوج على القبول؛ لأنه يصلح وهو مصوغ لجميع ما كان يصلح له قبل ذلك.
هكذا ذكر الطبري في " العدة ".
وعندي: أنا إذا قلنا: لا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة.. أن المرأة تجبر على تسليم نصفها وإن كانت قيمتها زائدة؛ لأن صنعتها لا قيمة لها.
[فرع أصدقها حليًا أو قدحًا زجاجًا فكسرته ثم أعادته ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها حليًا فكسرته، ثم أعادت صياغته كالأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فقد قال ابن الحداد: لا تجبر المرأة على تسليم نصف، بل يرجع الزوج إلى نصف قيمته؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملكها لم تدخل في عقد الصداق، فلم يجب عليها تسليم نصفها، كما لو أصدقها ذهبًا غير مصوغ فصاغته.
ومن أصحابنا من خالفه وقال: تجبر المرأة على تسليم نصفه؛ لأن الرجوع بنصف القيمة للإضرار بها، فالإضرار به إذا كان ناقصًا، والإضرار بها إذا كان زائدًا، وهذه الزيادة هي مثل ما أخذته عليه، فلم يكن عليها ضرر.(9/422)
وهكذا: إذا أصدقها قدحًا من زجاج فكسرته ثم أعادته مثل صنعته الأولى، أو أصدقها جارية سمينة فهزلت في يدها ثم سمنت ورجعت إلى حالتها الأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فهل تجبر المرأة على تسليم نصف العين؟ على هذين الوجهين.
وإن صاغت الحلي أو القدح على غير هيئته الأولى.. رجع الزوج بنصف قيمته وجهًا واحدًا؛ لأنه يجوز أن يكون لها غرض في الصياغة الأخرى. فإن رضي الزوج بأخذ نصفه.. قال القاضي أبو الطيب: فالذي يقتضيه مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن لها أن تمتنع؛ لأن هذا زيادة من وجه ونقصان من وجه - قال - وبهذا يفسد قول من خالف ابن الحداد؛ لأنه قد لا يكون عليها إضرار مع اختلاف الصياغتين إذا كانت الأجرة واحدة والقيمة واحدة، ومع ذلك فلا يجب عليها تسليم نصف العين.
فإن قلنا: يرجع بنصف قيمته، وكانت قيمته تزيد على وزنه، ونقد البلد من جنسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يقوم بجنس آخر؛ لئلا يؤدي إلى الربا.
والثاني: يقوم بجنسه؛ لأن الزيادة لأجل الصنعة.
[فرع ذمي أصدق ذمية خمرًا أو جلد ميتة ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدق ذمي ذمية خمرًا فقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، فتحاكما إلينا قبل الإسلام، أو أسلما، أو أسلم أحدهما، فإن كانت الخمر باقية.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن العقد والقبض في حال الكفر لا ينقض، ولا يرجع عليها الزوج بشيء؛ لأن الخمر لا تملك بحكم الإسلام ولا قيمة لها. فإن أسلمت الزوجة.. أريقت الخمر، وإن لم تسلم.. لم يتعرض لها. وهكذا الحكم لو استهلكت الخمر.
وإن صارت الخمر خلا في يدها بغير علاج، ثم طلقها قبل الدخول والخل في يدها.. قال ابن الحداد: رجع عليها بنصفه.(9/423)
فمن أصحابنا من خالفه وقال: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن الصداق زاد في يدها، والصداق إذا زاد في يدها.. سقط حقه من العين إلى القيمة، والقيمة تعتبر أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، والصداق كان ذلك الوقت خمرًا، والخمر لا قيمة لها.
ومنهم من نصر ابن الحداد وقال: إنما يسقط حقه من العين إلى القيمة إذا أمكنه الرجوع إلى القيمة، وهاهنا لا يمكنه الرجوع إلى القيمة، فلم يسقط حقه من الرجوع بالعين لأجل زيادته، كما لو وهب لولده عينًا، فزادت في يد الولد، ورجع الأب فيها.. فإنه يرجع في العين وفي زيادتها.
فإن استهلكت المرأة الخل، ثم طلقها قبل الدخول.. لم يرجع الزوج عليها بشيء وجهًا واحدًا؛ لأن العين إذا هلكت.. سقط حقه إلى القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، ولا قيمة للصداق في ذلك الوقت.
وإن صارت الخمر خلًا في يده قبل التسليم، ثم طلقها قبل الدخول.. قال ابن الحداد: يكون الخل بينهما نصفين.
وخالفه هاهنا من خالفه في الأولى وقال: يكون الخل له، وترجع عليه بنصف مهر مثلها؛ لأن القبض لم يحصل.
وإن ترافعا قبل القبض وكان فاسدًا.. أفسدناه وأوجبنا مهر المثل.
وهكذا: إذا أصدقها جلد ميتة فدبغته، ثم طلقها قبل الدخول.. فالحكم فيه كالحكم في الخمر إذا تخللت.
[فرع أصدقها تعليم سورة ثم طلقها قبل الدخول]
وإن أصدقها تعليم سورة، فعلمها السورة ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف أجرة التعليم.
وإن طلقها قبل الدخول وقبل التعليم.. فقد سقط عنه نصف التعليم وبقى عليه(9/424)
النصف، فإن قلنا: إنه يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. علمها نصف السورة.
وإن قلنا: لا يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة التعليم في القول القديم.
[فرع أصدقها خياطة ثوب معين ثم طلقها قبل الدخول]
) : إذا تزوج امرأة وأصدقها خياطة ثوب بعينه، فهلك الثوب قبل الخياطة.. فهل لها أن تأتيه بثوب مثله ليخيطه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لها ذلك، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى مكان، فمات قبل أن يركبها.. فلوارثه أن يركبها إن كان مثل مورثه، أو يركبها مثله.
فعلى هذا: لو أتته بثوب مثله ليخيطه مع بقاء الثوب.. لزمه ذلك.
والثاني: لا يلزمه أن يخيطه؛ لأنه جعل صداقها إيقاع منفعة في عين بعينها، فإذا تلفت تلك العين.. بطل العقد ولا يقوم غيرها مقامها، كما لو استأجرته ليحصد لها زرعًا بعينه، فتلف الزرع قبل الحصاد.. فإن الإجارة تبطل، ولا يجوز أن يقال: يحصد لها زرعًا مثله.
فعلى هذا: ترجع عليه بمهر مثلها في قوله الجديد، وبأجرة الخياطة في قوله القديم. وإن كان الثوب باقيًا، فطلقها قبل الدخول وبعد الخياطة.. رجع عليها بنصف أجرة الخياطة.
وإن طلقها قبل الخياطة وقبل الدخول، فإن كان يمكنه أن يخيط نصفه وينضبط ذلك.. لزمه أن يخيط نصفه. وإن لم تنضبط خياطة نصفه.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة الخياطة في القول القديم. وهكذا ذكره أكثر أصحابنا.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الزوج إذا اختار خياطة جميعه.. لا يكون لها المطالبة بغير ذلك.(9/425)
[مسألة أصدقها عينًا فتصرفت بها ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها عينًا، فقبضتها، ثم باعتها أو وهبتها وأقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف بدلها؛ لأن ملكها قد زال عنها، فهو كما لو تلفت في يدها.
فإن رجع إليها ما باعته أو وهبته ببيع أو هبة أو إرث، ثم طلقها قبل الدخول.. فإن المسعودي قال (في " الإبانة ") : هل يرجع إلى نصف العين أو إلى نصف القيمة؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن وهب لولده عينًا، فخرجت عن ملك الولد ثم رجعت إليه.
وقال أصحابنا البغداديون: يرجع الزوج إلى نصف العين وجهًا واحدًا. والفرق بين الزوج والأب على الصحيح من الوجهين: أن الصداق لو تلف في يد الزوجة.. لرجع الزوج عليها بنصف بدله، فكان له الرجوع بنصف العين إذا وجدت في ملكها، والعين لو تلفت في يد الولد.. لم يرجع الأب عليه ببدلها، فلم يرجع عليه بها إذا خرجت من ملكه ثم عادت إليه، على الصحيح.
[فرع أصدقها عبدًا فدبرته أو تصرفت بالصداق بما لا يلزمها ثم طلقها قبل الدخول]
) : إذا أصدقها عبدًا فدبرته، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن ترجع في التدبير.. فقد روى المزني: أنه لا يرجع في نصفه؛ لأن الرجوع لا يكون إلا بإخراجها إياه عن ملكها. واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ (الطريق الأول) : منهم من قال: فيه قولان:
إن قلنا: إن التدبير وصية00رجع إلى نصفه؛ لأنه باق على ملكها، فهو كما لو وصت به.(9/426)
وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. لم يكن له الرجوع بنصفه؛ لأنه لا يمكن الرجوع فيه إلا بإزالة الملك. وحمل النص على هذا القول.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: لا يرجع بنصفه، وإنما يرجع بنصف قيمته قولًا واحدًا، وهو ظاهر النص؛ لأن العبد قد ثبت له حق الحرية، وفي الرجوع إلى نصف القيمة جمع بين الحقين، فكان أولى، كما لو وهبته وأقبضته.
و (الطريق الثالث) : منهم من قال: له أن يرجع بنصف العبد قولًا واحدًا؛ لأن على القول الذي يقول: (التدبير وصية) .. فهو تصرف غير لازم، فلا يمنع الرجوع. وعلى القول الذي يقول: (هو عتق بصفة) .. يصح الرجوع فيه بما يزيل الملك، ودفعها لنصفه إلى الزوج يزيل ملكها عنه، فهو كالبيع.
إذا ثبت هذا - وقلنا: له أن يرجع إلى نصفه ـ: فإن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": تجبر المرأة على الرجوع بنصفه بالقول، إذا قلنا: (إن التدبير وصية) .
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا: يرجع الزوج إلى نصفه.. كان الزوج مخيرًا: بين أن يرجع إلى نصفه، وبين أن يرجع إلى قيمة نصفه؛ لأن العبد إذا كان نصفه مدبرًا.. نقصت قيمة النصف الثاني؛ لأنه لا يأمن أن يرافعه إلى حاكم حنفي، فيحكم بتدبير جميعه، فيسقط حقه.
وإن دبرته ثم رجعت في التدبير بالقول - إذا قلنا: (إنه وصية) - أو بإزالة الملك، ثم رجع إليها، ثم طلقها قبل الدخول.. ثبت له الرجوع بنصفه.
وإن طلقها وهو مدبر، وقلنا: لا يكون له الرجوع بنصفه، فقبل أن يأخذ نصف قيمته رجعت في التدبير بالقول والفعل، ورجع إلى ملكها.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/60) : ليس له الرجوع بنصفه؛ لأنه رجع إلى ملكها، وقد تعلق حقه بنصف قيمته) .(9/427)
ومن أصحابنا من قال: يرجع إلى نصفه؛ لأن المانع من رجوعه إلى نصفه هو التدبير وقد زال، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على مثل هذا في النخل حيث قال: (ولو طلقها وقد أثمرت، فلم يرجع في القيمة حتى جذت.. كان حقه في نصف النخل) .
وإن وهبت الصداق لرجل ولم تقبضه، أو وصت به ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصفه؛ لأن ذلك تصرف غير لازم، وإنما هو بمنزلة الوعد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
وقال القاضي أبو حامد: إذا وهبته ولم تقبضه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تجبر الزوجة على الرجوع عن الهبة؛ لأنه عقد عقدته في ملكها في وقت لم يكن للزوج فيه حق.
والثاني: تجبر؛ لأن الهبة قبل القبض ليست بلازمة لها، ولو أرادت أن تسلم إلى الزوج نصفه.. كان لها، وإذا امتنعت من ذلك.. أجبرت عليه.
قال القاضي أبو حامد: وهكذا إذا باعته بشرط الخيار، ثم طلقها الزوج قبل الدخول وقبل انقضاء الخيار.. فعلى هذين القولين.
[فرع أصدقها جارية فزوجتها أو تصرفت بالصداق بما يلزمها ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن أصدقها جارية فزوجتها، ثم طلقت المولاة قبل الدخول.. كان زوجها بالخيار: بين أن يرجع بنصف الأمة، وبين أن يرجع بنصف قيمتها؛ لأنها قد نقصت بالتزويج.
وإن أجرت الزوجة الصداق مدة، ثم طلقها الزوج قبل انقضاء المدة.. كان للزوج أن يرجع بنصف قيمته؛ لنقصانه بالإجارة، فإن قالت الزوجة: اصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم ترجع في نصفه.. لم يلزمه ذلك؛ لأن حقه تعجل فلا يلزمه تأخيره.(9/428)
فإن قال الزوج: أنا أصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم أرجع في نصف العين.. لم تجبر المرأة على ذلك؛ لأن الصداق يكون في ضمانها ولا تدري: هل يهلك أو يبقى؟
وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف العين في الحال وأقبضه، وأصبر حتى تنقضي مدة الإجارة وآخذها.. لم يكن لها أن تمتنع من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليها في ذلك.
وقد ذكرنا: أنه إذا أصدقها نخلًا فأثمرت في يدها، فقال الزوج: أرجع في نصفها في الحال، وأتركها إلى أن تجذ الثمرة وجهين:
أحدهما: له ذلك.
والثاني: ليس له ذلك.
والفرق بينهما على هذا: أن في النخل يؤدي إلى اشتراك الأيدي في الثمرة التي لها، ولا يوجد ذلك هاهنا.
وإن رهنت الصداق وأقبضته، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف قيمته؛ لأن حق المرتهن متعلق برقبة الرهن.
[مسألة أصدقها نخلًا مثمرًا أو غير مثمر ثم اجتناها ودبسها]
إذا أصدقها نخلًا مثمرًا وشرط أن الثمرة للمرأة، أو نخلًا عليه طلع مؤبر، فلما بدا الصلاح في الثمرة.. اجتنى الزوج الثمرة وجعلها في قوارير - يعني: براني - وجعل عليها شيئًا من الذي يسيل من الرطب - ويسمى: الرُّبَّ والدبس بعد الطبخ، يفعل ذلك ليحفظ رطوبة الثمرة - فقد خلط الصداق بعضه ببعض، فإن لم تنقص قيمتهما بذلك في الحال ولا في الثاني، أو زادت قيمتهما بذلك.. فإن الزوجة تأخذ الثمرة وما جعل(9/429)
عليها مما سال منها، ولا شيء على الزوج، وإن نقصت قيمتهما في الحال أو في الثاني.. فقد نقص الصداق في يد الزوج.
فإن قلنا بقوله الجديد: (إنه إذا تلف في يد الزوج قبل القبض ورجعت إلى مهر المثل) .. كانت المرأة بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين ولا شيء لها على الزوج، وبين أن تردهما على الزوج وتأخذ مهر مثلها. وإن قلنا بقوله القديم.. كانت بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين وأرش نقصهما، وبين أن ترجع بمثل الثمر إن كان قد شمسه؛ لأن له مِثلًا، وإن جعله قبل التشميس.. رجعت بقيمته.
وأما ما سال من الثمرة، فإن كان قد أغلاه.. رجعت عليه بقيمته؛ لأنه لا مثل له، وإن لم يغله.. رجعت عليه بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال.
وإن قالت الزوجة: أنا آخذ النخل، وأرد الثمرة وما سال منها، وأرجع عليه ببدله.. فهل لها ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن جعل عليها الزوج الدبس من نخله.. فهي كالأولى إلا في شيء واحد وهو: أنه لا يعتبر النقص في الدبس؛ لأنه ملكه.
وإن أصدقها نخلًا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يده، فلما بدا صلاحها اجتناها الزوج وجعلها في قوارير وجعل عليها شيئًا مما سال من ثمرتها أو ثمرته.. فهو بمنزلة من غصب من غيره ثمرة ودبَّسها وخلطهما؛ لأن عقد الصداق لم يتناولهما.
[فرع أصدقها جارية فوطئها]
وإن أصدقها جارية فوطئها وأحبلها، فإن أقر: بأنه يعلم بتحريمه، أو ادعى الجهالة ومثله لا يخفى عليه ذلك 00فهو زنًا، فيجب عليه الحد، ولا يلحقه نسب الولد، ويكون الولد مملوكًا لها. فإن أكره الجارية على الوطء.. وجب عليه المهر، وإن طاوعته.. فوجهان، المنصوص: أنه لا يجب عليه المهر.
وإن كان جاهلًا بتحريم الوطء؛ بأن نشأ في بادية لا معرفة له في الأحكام، أو قريب العهد بالإسلام، أو كان يعتقد مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن المرأة لا تملك(9/430)
جميع الصداق إلا بالدخول) .. فهو وطء شبهة، فلا يجب عليه الحد، ويكون الولد حرًا، ويلحقه نسبه، ويلزمه قيمته يوم الوضع، ويجب عليه المهر، ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال. فإذا ملكها.. فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان.
[مسألة ارتداد المرأة قبل الدخول أو طلقها وكان صداقها صيدًا ثم أحرم]
) : وإن ارتدت المرأة قبل الدخول.. فقد ذكرنا: أن جميع الصداق يعود إلى الزوج؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها، والحكم فيه في الزيادة والنقصان حكم النصف الذي يعود إليه بالطلاق على ما مضى.
إذا ثبت هذا: فقال ابن الحداد: إذا أصدقها صيدًا بريًا وهما حلالان، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول والزوج محرم.. رجع الزوج بالصيد؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره.
قال القاضي أبو الطيب: هذا على القول الذي يقول: إن الحلال إذا اصطاد صيدًا وأحرم.. لا يزول ملكه عنه، فأما إذا قلنا: يزول ملكه عنه.. فلا يرجع في الصيد وإنما يرجع في قيمته؛ لأنه كالمعدوم.
فإذا قلنا: يرجع إلى الصيد.. قال ابن الحداد: دخل في ملكه ويلزمه إرساله.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي ذكره ابن الحداد مخالف لما ذكره أصحابنا بالعراق؛ فإنهم قالوا: إذا قلنا: لا يزول ملكه عنه.. يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة والإمساك، وإنما لا يجوز له ذبحه.
وأما إذا طلقها قبل الدخول، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إن نصف الصداق لا يدخل في ملك الزوج إلا بالطلاق واختيار التملك.. لم يجز له هاهنا أن يختار تملك نصف الصيد، وإنما يرجع إلى نصف قيمته.
وإذا قلنا بالمنصوص من: (أنه يدخل في ملكه بالطلاق) ، فإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. لم يكن له أن يرجع في نصفه، وإنما يرجع في نصف قيمته. وإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. رجع بنصفه.(9/431)
قال القاضي أبو الطيب: ويقال لابن الحداد: إذا كان الصيد واحدًا، ورجع إليه نصفه، وأنت توجب عليه الإرسال.. فكيف يرسل نصفه ولا سبيل إلى إرسال نصيب الشريك؟
وكذلك: إذا كان صيد بين رجلين، فأحرم أحدهما، وقلنا: يزول ملك المحرم عن الصيد.. فإنه يجب عليه إرساله إذا كان منفردًا به.. وأما إذا كان مشتركًا بينه وبين غيره.. لم يجز إرسال نصيب الحلال، وقد قال بعض أصحابنا: سقط الإرسال هاهنا للضرورة، ولكن تزال يد المحرم عنه.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا بأس به عندي.
[مسألة زوج ابنه أو تزوج بنفسه ثم ارتدت الزوجة أو طلقت قبل الدخول]
وإذا زوج ابنه الصغير وكان الابن موسرًا.. فإن الصداق يجب على الابن؛ لأن النكاح حصل له، فلا يجب على الأب إلا إن ضمنه عن ابنه الصغير.
وإن كان الابن معسرًا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فلا خلاف: أن الصداق يجب للزوجة في ذمة الابن؛ لأن النكاح له، ولكن هل يجب الصداق على الأب بالضمان؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه) ؛ لأنه لما زوجه مع العلم بإعساره.. كان رضًا منه بوجوب ضمانه عليه.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجب عليه) ، لأن النكاح للصغير، فلا يجب على الأب المهر، كما لو كان الابن موسرًا، ولو أن رجلًا معسرًا وكل رجلًا موسرًا ليتزوج له، فتزوج له.. لم يجب على الوكيل ضمان المهر، فكذلك هذا مثله.
فإن قلنا: يجب على الأب بالإطلاق أو ضمنه.. فللمرأة مطالبة الأب به.
فإن ارتدت المرأة قبل الدخول، أو بلغ الابن وطلقها قبل الدخول، فإن كان الأب لم يدفع الصداق إليها، بل هو في ذمته.. سقط جميعه بردة الزوجة، وسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، وكان لها مطالبته بالنصف. وإن كان الأب قد دفعه إليها من ماله، أو كان الابن الصغير موسرًا فتطوع الأب بدفع الصداق عنه.. فإن ذمة الابن تبرأ بذلك، كما لو قضى عن رجل دينًا بغير إذنه، ويكون ذلك هبة منه لابنه. فإذا(9/432)
ارتدت، أو طلقها الابن قبل الدخول.. فإن جميع الصداق يعود إلى الابن بردتها قبل الدخول، ونصفه بالطلاق قبل الدخول. وهل للأب أن يرجع بذلك على الابن؟ ينظر فيه: فإن رجع إلى الابن بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما لو وهب لابنه شيئًا فأتلفه، أو أتلفه متلف.. لم يرجع الأب عليه ببدله.
وإن رجع إلى الابن الصداق بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ فيه وجهان، كالوجهين فيما إذا وهب له عينا فخرجت من ملكه ثم رجعت إليه.
وإن كان الأب أصدقها عينا من ماله، فطلقها الابن قبل الدخول والعين في يد الأب.. فللابن أن ينزع نصفها من الأب؛ لأنه قد عاد إليه بالطلاق، ولأن ملك المرأة كان ثابتًا عليه. فإذا انتزعه الابن.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ على الوجهين في التي قبلها.
وإن تزوج الابن البالغ الرشيد بنفسه، وأصدقها صداقًا في ذمته، فدفع الأب عنه الصداق إليها من ماله.. برئت ذمة الابن، كما لو قضى عن غيره دينًا. فإن طلقها الابن قبل الدخول.. رجع إليه نصف الصداق. فإن كان أخذ بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما قلنا في الذي دفعه عن الصغير. وإن رجع إلى الابن الذي دفعه الأب بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا فيما دفعه عن الصغير.
ومنهم من قال: لا يرجع به الأب وجها واحد، والفرق بينهما: أن للأب أن يهب للصغير ويقبل الهبة له من نفسه، فيكون دفعه للصداق عنه هبة له. ولا يملك أن يقبل الهبة للبالغ الرشيد، فيكون دفعه للصداق عنه إسقاط حق عنه، فهو كما لو قضى عن الأجنبي دينًا.
[فرع تزوج بصداق في ذمته فأدى عنه آخر ثم طلقها قبل الدخول]
) : وإن تزوج امرأة بصداق في ذمته، فأدى عنه أجنبي الصداق.. برئ الزوج، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه. فإن طلقها الزوج قبل الدخول.. فهل يرجع نصفه إلى الزوج أو إلى الأجنبي؟ فيه وجهان:(9/433)
أحدهما: يعود إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملك الزوج إياه بقضائه عنه.
والثاني: يعود إلى الأجنبي؛ لأن الأجنبي لم يملكه إياه؛ لأنه لا يملكه إلا باختيار تملكه، ولم يختر ذلك، وإنما أسقط عنه الحق، فإذا سقط عنه نصف الحق بالطلاق.. رجع النصف إلى الذي دفعه القضاء.
[مسألة وهبت له الصداق أو نصفه أو أبرأته فطلقها قبل الدخول]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو وهبت له صداقها قبل القبض أو بعده، ثم طلقها قبل أن يمسها.. ففيه قولان) .
وجملة ذلك: أنه إذا أصدقها عينًا، ثم وهبتها من الزوج وأقبضته إياها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يرجع عليها بشيء، لأنه قد تعجل له ما كان يستحقه بالطلاق قبل محله، فلا يستحقه عند محله، كما لو تعجل دينه المؤجل قبل محله ثم جاء وقت محله.
والثاني: يرجع عليها بنصف مثله إن كان له مثل، أو بنصف قيمته إن لم يكن له مثل، وهو الأصح؛ لأنه عاد إليه بعقد، فلا يمنع ذلك رجوعه عليها ببدل نصفه، كما لو اشتراه منها، أو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه.
قال المحاملي وابن الصباغ: وسواء قبضت الصداق، أو لم تقبضه.
وإن كان الصداق دينا، فإن عينه الزوج في شيء وأقبضه إياها، ثم وهبته منه.. فهي كالأولى.
وإن أبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: لا يرجع عليها إذا كان عينًا فوهبتها منه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليها. وإن قلنا: يرجع عليها في العين..(9/434)
فهل يرجع عليها في الدين؟ فيه قولان، ومنهم من يقول: هما وجهان:
أحدهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنها قد ملكت الصداق بالعقد، فهو كالعين.
والثاني: لا يرجع عليها بشيء، وهو الصحيح، والفرق بينهما: أن الصداق إذا كان عينا.. فقد ضمنته بالقبض، وفي الدين لم تضمنه بالقبض، فلم يرجع عليها بشيء، ألا ترى أن الصداق لو نقص في يده ثم طلقها قبل الدخول.. لم برجع بالنقص؛ لأنها لم تضمنه؟ هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا في العين: يرجع عليها.. ففي الدين أولى أن يرجع عليها. وإن قلنا: لا يرجع عليها في العين.. ففي الدين قولان، والفرق بينهما: أن هناك عاد إليه بعقد جديد، بخلاف هذا.
وإن قبضت نصف الصداق، ثم وهبته النصف الباقي منه، ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: يرجع عليها إذا وهبت جميع الصداق له.. رجع عليها هاهنا بالنصف أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يرجع عليها بشيء.. فهاهنا قولان:
(أحدهما) : قال في " الأم ": (لا يرجع عليها بشيء؛ لأنه إنما يرجع عليها بالنصف، وقد تعجل له ذلك النصف، فلم يرجع عليها بشيء) .
و (الثاني) : قال في " الإملاء ": (يرجع عليها بنصف الباقي؛ لأنها لو وهبته جميعه.. لم يرجع عليها بشيء، فإذا وهبته نصفه.. كان ذلك من حقها وحقه؛ لأن حقهما شائع في الجميع) .
فإذا قلنا بهذا.. ففي كيفية رجوعه ثلاثة أقوال:
أحدها: يرجع عليها بالنصف الباقي؛ لأنه يستحق عليها النصف، وقد وجده.
والثاني: يرجع عليها بنصف النصف الباقي وقيمة نصف الموهوب؛ لأن حقهما شائع في الجميع، فصار الموهوب كالتالف.(9/435)
والثالث: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالنصف الباقي، وبين أن يرجع بنصف النصف الباقي ونصف قيمة الموهوب؛ لأنه تبعض عليه حقه.
[فرع وهبته الصداق أو أبرأته ثم ارتدت قبل الدخول]
وإن وهبته امرأته الصداق أو أبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول.. فحكم الرجوع عليها بجميع الصداق كالحكم في رجوعه عليها بالنصف عند الطلاق؛ لأنه يستحق عليها الرجوع بالجميع عند ردتها، كما يستحق عليها الرجوع بالنصف عند الطلاق.
[فرع هبة البائع ثمن العبد للمشتري أو السيد نجوم المكاتب]
) : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بثمن، ثم وهب البائع المشتري الثمن، ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا فرده.. فهل يرجع على البائع بالثمن؟ فيه وجهان بناء على القولين في الصداق.
وإن وجد بالعبد عيبًا وقد حدث به عنده عيب آخر.. فهل يرجع عليه بالأرش؟ فيه وجهان.
قال الشيخ أبو حامد: وإن كاتب عبده على نجوم، ثم وهبها السيد منه.. عتق المكاتب. وهل للمكاتب أن يطالب سيده بالإيتاء؟ على الوجهين.
وإن باع من رجل عبدا بثمن في الذمة، ثم إن المشتري وهب العبد من البائع وأفلس المشتري بالثمن.. فللبائع أن يضرب بالثمن مع الغرماء قولا واحدا؛ لأنه حق تعلق بالثمن دون العبد.(9/436)
[مسألة خالعته على شيء من مهرها قبل الدخول]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو خالعته على شيء مما عليه من المهر، فما بقي.. فعليه نصفه) .
وجملة ذلك: أنه إذا خالعها على نصف مهرها قبل الدخول.. نظرت: فإن كان الصداق عينًا، فخالعها على نصفها، فإن قلنا: إن الزوج يملك نصف الصداق بالطلاق.. لم يصح الخلع على نصف ما سماه في الخلع؛ لأن الخلع بمنزلة الطلاق الذي يوقعه ابتداء، فلم يصح خلعها على النصف الذي يملكه الزوج، وهل يصح في نصف ما سماه في الخلع؟ فيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وما فسد من المسمى في الخلع.. فهل يرجع الزوج عليها ببدله أو بمهر المثل؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا تلف الصداق قبل القبض.
وإن قلنا: إن الزوج لا يملك النصف إلا بالطلاق واختار التملك.. صح الخلع على النصف المسمى في الخلع، ويرجع عليها بالنصف. وهل يرجع عليها بجميع النصف الباقي في يدها، أو بنصفه وبنصف قيمته؟ على الأقوال الثلاثة التي مضت في التي قبلها.
وإن كان الصداق ألفًا في ذمة الزوج فخالعها على خمسمائة قبل الدخول.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه يملك نصف الصداق.. فسدت التسمية في الخلع في نصف الخمسمائة، ولا ينصرف ذلك إلى نصيبها من الألف بعد الطلاق؛ لأن وقت التسمية هي مالكة لجميعه، فكان ما سمته من الجملة. وهل تفسد التسمية في نصفها الباقي؟ على القولين. وهل يرجع عليها ببدلها أو بمهر مثلها؟ على القولين.
وإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق واختيار التملك.. صح الخلع على ما سمى فيه ويسقط الباقي عن ذمته باختيار التملك.(9/437)
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فما بقي.. فعليه نصفه) .
وظاهر هذا: أن الخلع يصح بخمسمائة، ويسقط عن ذمته من الخمسمائة الباقية مئتان وخمسون. واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو علي بن خيران: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا تخالعا علي خمسمائة من الألف وهما يعلمان أن الخلع لا يصح إلا على مائتين وخمسين منها؛ لأن نصفها يسقط عنه بالطلاق قبل الدخول، فإذا علما بذلك.. فقد رضيا أن يكون عوض الخلع مائتين وخمسين لا غير، فإذا بقي على الزوج خمسمائة، سقط عنه نصفها بالطلاق قبل الدخول.
وحكي: أن ابن خيران ألزم، إذا باع عبده وعبد غيره بألف وهما يعلمان أن بيع عبد الغير لا يصح، وأن البيع يصح في عبده بالألف، فالتزمه.
ومن أصحابنا من قال: بل أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا قال: اخلعيني بما يخصني من خمسمائة مصرحا بذلك.
وقال أبو إسحاق: تأويلها: أن العقد وقع على جميع الخمسمائة؛ لأنها كانت ملكا للزوجة، وإنما يعود نصفها إلى الزوج بعد الطلاق. فإذا تم الخلع..رجع إلى الزوج نصفها، فيكون هذا النصف كالتالف قبل القبض، فيرجع الزوج إلى بدل هذا النصف في القول القديم، وبدل الدراهم دراهم، فيستحق عليها في ذمتها بدل المائتين والخمسين التي كان يستحقها بالطلاق، ويبقى لها عليه خمسمائة، فيسقط عنه نصفها بالطلاق، ويبقى لها عليه مئتان وخمسون، فيتقاصان، فيكون معنى قوله: (فما بقي.. فعليه نصفه) يعني: الخمسمائة التي لم يقع بها الخلع، فذكر ما بقي لها عليه، ولم يذكر ما له عليها، ولا ذكر المقاصة أيضًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه طريقة صالحة.
وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنما قاله على أن الزوج لا يملك بالطلاق، وإنما يملك بالطلاق والاختيار، فقد صح الخلع بالخمسمائة ويرجع عليها بنصف الباقي وبقيمة نصف ما خالعها به، وإنما لم يذكر نصف ما خالعها به.(9/438)
وقال الشيخ أبو حامد: لا يمكن حمل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا؛ لأنه قال: (فما بقي.. فعليه نصفه) ، ولو أراد: أنه لا يملك إلا بالاختيار.. لقال: فعليه كل ما بقي إلا أن يختار تملك نصيبه.
قال أصحابنا: فإن أرادت الخلاص.. خالعته على خمسمائة في ذمتها، ويسقط عنه خمسمائة من الألف، ويبقى لها عليه خمسمائة فيتقاصان، أو تقول: اخلعني على ما تسلم لي من الألف أو على أن لا يبقى بيننا علقة ولا تبعة.
[مسألة العفو عن المهر قبل الدخول ومن بيده عقدة النكاح]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] [البقرة 237] وجملة ذلك: أنه إذا طلق امرأته قبل الدخول.. جاز لها أن تعفو عن نصف المهر الذي وجب لها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] البقرة [237] ، ولا خلاف: أن المراد به النساء. وجاز للزوج أن يعفو عن النصف الذي له الرجوع فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولا خلاف: أن المراد بذلك الأزواج. وفي الذي بيده عقدة النكاح قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (المراد به ولي المرأة) . وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والحسن البصري، والزهري، وطاوس، وربيعة، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم.
فيكون تقدير الآية- على هذا -: إلا أن تعفو الزوجات عن النصف الذي وجب لهن(9/439)
فيكون جميع الصداق للزوج، أو يعفو الولي عن نصيب الزوجة فيكون الجميع للزوج {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني: الأزواج. فيكون الجميع للزوجة، لأن الله تعالى قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وهذا ورد فيما بعد الطلاق، والذي بيده عقدة النكاح عليها: هو الولي دون الزوج. ولأن الكناية ترجع إلى أقرب مذكور قبله، وأقرب مذكور قبل هذا: هو النصف الذي للمرأة. ولأن الله تعالى ذكر العفو في الآية في ثلاثة مواضع، فإذا حمل هذا على الولي.. حصل لكل عفو فائدة، وإذا حمل على غيره.. جعل أحدهما مكررًا.
و (الثاني) : قال في الجديد: (الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وشريح - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وأهل الكوفة: الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
فيكون تقدير الآية: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] ؛ يعني به: الزوجات. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، يعني به: الأزواج.
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني أن عفو الأزواج أفضل من عفو الزوجات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وعقدة النكاح: عبارة عن معقوده، ومعقود النكاح بيد الزوج دون الولي؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وهذه مفاضلة بين عفوين تقدم ذكرهما، ولا يصح ذلك إلا إذا كان المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج. ولأن المهر مال للصغيرة، فلا يصح للولي إسقاطه، كسائر أموالها.
فإذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي.. لم يصح العفو إلا بخمسة شروط:
أحدها: أن يكون الولي أبا أو جدًا؛ لأنهما لا يتهمان فيما يريان من الحظ.(9/440)
الثاني: أن تكون المنكوحة صغيرة أو مجنونة، أو سفيهة، فإما البالغة العاقلة الرشيدة: فلا يملكان التصرف في مالها بغير إذنها.
الثالث: أن تكون بكرًا، فأما إذا كانت ثيبًا: فلا يملكان العفو عن مهرها؛ لأن الزوج إن كان قد دخل بها.. فقد استهلك بعضها. وإن لم يدخل بها.. فقد لحقها ابتذال، فلا يعفوان عن صداقها.
الرابع: أن يكون ذلك بعد الطلاق، فأما قبل الطلاق: فلا يجوز؛ لأن بضعها معرض للتلف. الخامس: أن يكون ذلك قبل الدخول، فأما بعد الدخول: فلا يجوز للولي العفو عن مهرها؛ لأن بضعها قد استهلك.
فأما إذا زوج ابنه الصغير، فرجع إليه المهر بانفساخ النكاح: برضاع أو بردتها قبل الدخول، أو زوج ابنه الكبير السفيه، فرجع إليه المهر بردتها قبل الدخول، أو نصفه بطلاقه.. فلا يجوز للأب والجد العفو عنه قولا واحدا؛ لأنه أخرجه من مالهما وقد عاد إليهما بخلاف الصغيرة؛ فإن الأب أكسبه إياها بالتزويج. ولأنه قد يرى لها الحظ في ذلك؛ لأن الناس يرغبون في نكاحها إذا علموا مسامحة الأب وحسن معاملته، بخلاف الابن.
[فرع كون الصداق في ذمة أو يد أحدهما ثم طلق قبل الدخول]
) : وإن كان الصداق دينا في ذمة الزوج وطلقها قبل الدخول، وأرادت المرأة العفو عن النصف الذي لها.. صح عفوها بأحد ستة ألفاظ: بأن تقول: أبرأتك عن كذا، أو وهبت لك، أو ملكتك، أو تركت لك، أو أسقطت عنك، أو عفوت عما لي في ذمتك. وهل يفتقر إلى قبول الزوج؟ فيه وجهان مضى ذكرهما، المنصوص: (أنه لا يفتقر) .
وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي رجع إليه بالطلاق، فإن قلنا: إنه لا يملك ذلك إلا بالطلاق واختيار التملك ولم يختر بعد.. فله أن يسقط حقه، بأن(9/441)
يقول: عفوت عنك، أو تركت، أو أسقطت حقي، أو تركت حقي من الاختيار وما أشبه ذلك. وإن قلنا: إنه يملك النصف بالطلاق.. لم يصح عفوه؛ لأن ذمته قد برئت من نصفه بالطلاق.
وإن كان الصداق في ذمتها، بأن سلم إليها الصداق وأتلفته، أو تلف ثم طلقها قبل الدخول، فإن أرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. لم يصح عفوها عنه؛ لأنه قد هلك على ملكها وفي يدها.
وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق والاختيار.. صح عفوه قبل الاختيار بكل لفظ يتضمن إسقاط حقه، كالعفو، والإسقاط، والترك، كما قلنا فيمن له شفعة فأسقطها، ولا يفتقر إلى قبولها وجها واحدًا.
وإن قلنا بالمنصوص، و: (أنه يملك نصفه بالطلاق) .. صح عفوه عنها بأحد الألفاظ الستة من الهبة، والتمليك، والإسقاط، والإبراء، والعفو، والترك. وهل يفتقر إلى قبولها؟ على الوجهين.
وإن كان الصداق عينًا في يد الزوج، وأرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. صح بلفظ الهبة، أو التمليك. ولا بد من قبول الزوج، ولا بد من مضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنها بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في (الرهن) . ولا يصح عفوها بلفظ: الإبراء والإسقاط؛ لأن ذلك إنما يصح عما في الذمم. وهل يصح بلفظ العفو؟ فيه وجهان، حكاهما في " التعليق "، الصحيح: أنه لا يصح.
وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي له، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. صح عفوه بكل لفظ يتضمن إسقاط الخيار. وإن قلنا بالمذهب: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. احتاج إلى شرائط الهبة من الإيجاب، والقبول، والإذن بالقبض، والقبض.
وإن كان الصداق عينًا في يد الزوجة، فأرادت الزوجة أن تعفو عن نصفها.. افتقر إلى شروط الهبة.(9/442)
وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. سقط حقه بما يتضمن إسقاط حقه من الخيار. وإن قلنا: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. فهو يهبها شيئًا في يدها، فلا بد فيه من الإيجاب، والقبول، ومضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنه بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.
[فرع تزوج بمهر حرام أو مجهول]
) : إذا تزوج امرأة بمهر حرام أو مجهول.. وجب لها مهر مثلها. فإن أبرأته عنه وكانت تعلم قدره.. صحت البراءة. وإن كانت لا تعلم قدره وأبرأته عنه.. لم تصح البراءة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أنه إزالة ملك بلفظ لا يسري، فلم يصح مع الجهل به، كالبيع. وفيه احتراز من العتق.
وإذا ثبت أن الإبراء في الكل لا يصح.. فهل يصح في قدر ما يتحققه؟
قال الشيخ أبو حامد: المعروف أنه لا يصح. وقال أبو إسحاق: يصح؛ لأنا إنما منعنا صحة البراءة في الكل لأجل الغرر، وهذا لا يوجد فيما يتحقق أنه لها.
وإن كانت تعلم أن المهر يزيد على مائة ولا يبلغ ألفا، فقالت: أبرأتك من مائة إلى ألف.. صح؛ لأن الغرر قد زال.
[مسألة نكاح المفوضة]
التفويض- في اللغة-: أن يكل الرجل أمره إلى غيره. ومنه قول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا(9/443)
يعني: إذا لم يكن لهم رأس، وإنما يكل بعضهم الأمور إلى بعض.
وأما التفويض - في الشرع-: فهو تفويض المرأة البضع في النكاح. يقال: امرأة مفوضة- بكسر الواو-: إذا أضفت التفويض إليها. ومفوضة - بفتح الواو-: إذا أضفت التفويض إلى غيرها.
والتفويض على ضربين: تفويض مهر، وتفويض بضع.
فأما (تفويض المهر) : فمثل أن يقول: تزوجتك على أي مهر شئت أو شئت أو شئنا.. فالنكاح صحيح، ويجب لها مهر مثلها في العقد.
وأما (تفويض البضع) : فبأن يقول الولي: زوجتكها ويسكت عن المهر، أو زوجتكها بلا مهر في الحال، وكان ذلك بإذن المرأة لوليها وهي من أهل الإذن.. فإن النكاح ينعقد.
وأما المهر: فقد قال الشيخ أبو حامد: لا يجب لها مهر في العقد قولًا واحدًا، ولكنها قد ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما؛ لأن لها المطالبة بفرضه، فهي كالشفيع ملك أن يملك الشقص. وأي مهر ملكت أن تملكه؟ فيه قولان:
أحدهما: مهر المثل، والمفروض بدل عنه.
والثاني: ما يتفقان عليه.
وقال أبو حنيفة: (يجب لها مهر المثل بالعقد) .
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه أحد قولينا؛ لأنه لو لم يجب بالعقد.. لما استحقت المطالبة به، ولما استقر بالدخول.(9/444)
ودليلنا - على أنه لا يجب بالعقد -: أنه لو وجب المهر لها بالعقد.. لتنصف بالطلاق، كالمسمى في العقد.
فإذا قلنا: إنها ملكت أن تملك مهر المثل، ويكون المفروض بدلا عنه؛ فلأنه إذا عقد عليها النكاح.. فقد استهلك بضعها، فوجب أن يكون لها بدله، وبدله هو مهر المثل.
وإذا قلنا: ملكت أن تملك مهرا ما، وإنما يتقدر ذلك بالفرض- قال أبو إسحاق: وهو أقواهما - ولأن المهر الذي تملكه المرأة بعقد النكاح مهران: مهر تملكه بالتسمية، ومهر تملكه بالفرض، ثم ثبت: أن المهر الذي تملكه بالتسمية لا يتقدر إلا بالتسمية، فكذلك المهر الذي تملكه بالفرض لا يتقدر إلا بالفرض. ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص: (على أنهما إذا فرضا لها أكثر من مهر المثل.. لزم لها الجميع) ، ولو كانت الزيادة على مهر المثل هبة.. لم يلزم بالفرض، وإنما يلزم بالقبض.
[فرع المفوضة تطالب بفرض المهر]
) : وللمفوضة أن تطالب بفرض المهر؛ لأن إخلاء العقد عن المهر خالص للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن ترافعا إلى الحاكم.. فرض لها مهر مثلها؛ لأن زيادته على ذلك.. ميل على الزوج، ونقصانه عنه.. ميل عليها.
ولا يصح فرضه إلا بعد معرفته بقدر مهر مثلها؛ لأنه لا يمكنه الفرض إلا بذلك.
وإن تراضى الزوجان ففرضاه بينهما، فإن كانا عالمين بقدر مهر مثلها.. صح فرضهما، فإن فرضا لها مهر مثلها.. صح، وإن فرضا أكثر من ذلك.. صح، ولزم وقد سمح الزوج، وإن فرضا أقل منه.. صح، ولم يلزم الزوج أكثر منه؛ لأنها سمحت.(9/445)
وإن كانا جاهلين بقدر مهر مثلها أو أحدهما، فإن قلنا: إنها ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. لم يصح فرضهما؛ لأن المفروض بدل عن مهر المثل، فلا بد أن يكون المبدل معلومًا عندهما. وإن قلنا: ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما.. صح فرضهما.
وإذا فرض لها الحاكم.. لم يفرض لها إلا من نقد البلد؛ لأنه بدل بضعها التالف، فهو كما لو أتلف عليها عينًا من مالها.
وإن فرضه الزوجان بينهما.. جاز أن يفرضا نقدًا أو عرضًا مما يجوز تسميته في العقد، ولا يلزم إلا ما اتفقا عليه من ذلك.
وإذا فرض لها مهر صحيح.. فكان ذلك كالمسمى لها في العقد يستقر بالدخول أو بالموت، ويتنصف بالطلاق قبل الدخول.
وقال أبو حنيفة: (إذا طلقها قبل الدخول.. سقط المفروض ووجبت لها المتعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . [البقرة 237] ولأنه مهر واجب قبل الطلاق فينصف بالطلاق، كالمسمى لها في العقد.
[فرع استحباب فرض المهر للمفوضة قبل الدخول وحصول طلاق أو موت]
ويستحب أن لا يدخل بها حتى يفرض لها لئلا تشتبه بالموهوبة. فإن لم يفرض لها حتى وطئها.. استقر عليه مهر المثل؛ لأن الوطء في النكاح من غير مهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن طلقها قبل الفرض والمسيس.. لم يجب لها المهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وهذا لم يفرض.
وإن مات أحدهما قبل الفرض والمسيس.. توارثا، ووجب عليها عدة الوفاة إن مات الزوج قبلها بلا خلاف؛ لأن الزوجية ثابتة بينهما إلى الموت، وهل يجب لها مهر المثل؟ فيه قولان:(9/446)
أحدهما: يجب لها مهر مثلها. وبه قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق - رحمة الله عليهم -، إلا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يجب لها مهر مثلها بالعقد) .
ووجه هذا القول: ما روى عبد الله بن عتبة بن مسعود: (أن ابن مسعود- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسمِّ لها مهرا، فمات عنها قبل الدخول، فردد السائل شهرًا، ثم قال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت.. فمن الله تعالى، وإن أخطأت.. فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان: لها الميراث، وعليها العدة، ولها مهر مثلها لا وكس ولا شطط. فقام إليه معقل بن سنان الأشجعي وقال: أشهد، لقد قضيت مثل ما قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق، ففرح ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك) .(9/447)
ولأن الموت سبب يستقر به المسمى، فاستقر به مهر المفوضة، كالدخول.
والثاني: لا يجب لها المهر. وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -، وأهل المدينة: الزهري وربيعة ومالك، والأوزاعي من أهل الشام. ولأنها فرقة وردت على المفوضة قبل الفرض والمسيس، فلم يجب لها المهر، كالطلاق. وأما خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو مضطرب، فروي: (أنه قام إليه ناس من أشجع) ، وروي: (أنه قام إليه رجل من أشجع) ، وروي (أنه قام إليه معقل بن سنان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أنه قام إليه معقل بن يسار) ، وروي: (أنه قام إليه أبو سنان) . ويجوز أن تكون بروع مفوضة المهر لا مفوضة البضع.
[فرع تزويج الولي وليته بدون مهر]
وإن زوج الولي وليته بإذنها وهي من أهل الإذن على أن لا مهر لها في الحال، ولا فيما بعد.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح النكاح؛ لأنها في معنى الموهوبة، وذلك لا يصح إلا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يصح النكاح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، فإذا شرط أن(9/448)
لا مهر لها بحال.. ألغي الشرط؛ لبطلانه، ولا يبطل النكاح؛ لأنه لا يبطل لبطلان المهر.
فعلى هذا: تكون مفوضة البضع، وقد مضى حكمها.
فإن زوج الأب أو الجد الصغيرة، أو الكبيرة المجنونة، أو البكر البالغة العاقلة بغير إذنها، وفوض بضعها، أو أذنت المرأة لوليها في تزويجها ففوض بضعها بغير إذنها.. لم تكن مفوضة، بل يجب لها مهر المثل؛ لأن التفويض إنما يتقرر بإذنها إذا كانت من أهل الإذن. هذا هو: المشهور من المذهب. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. صح تفويضه لبضع الصغيرة والمجنونة، كما يصح عفوه.
والأول أصح؛ لأنه إنما يصح عفوه على أحد القولين بعد الطلاق، فأما مع بقاء النكاح.. فلا يصح.
[فرع تفويض السيد بضع أمته]
) : وإن فوض السيد بضع أمته.. كانت مفوضة، وللسيد أن يطالب بفرض المهر، كما قلنا في الحرة. فإن أعتقها أو باعها قبل الفرض والمسيس، فإن قلنا: إن الحرة المفوضة ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. كان المهر هاهنا للبائع أو المعتق. وإن قلنا: ملكت أن تملك مهرًا ما.. كان المهر لها إن أعتقت، أو لمشتريها.
[فرع وطء الزوج المفوضة بعد سنين أو امرأة بنكاح فاسد واعتبار المهر]
قال ابن الصباغ: إذا وطئ الزوج المفوضة بعد سنين وقد تغيرت صفتها.. فإنه يجب لها مهر المثل معتبرًا بحال العقد؛ لأن سبب وجوب ذلك إنما هو بالعقد، فاعتبر به.(9/449)
وقال القاضي أبو الطيب: يعتبر مهرها أكثر ما كان من حين العقد إلى حين الوطء؛ لأن لها أن تطالبه بفرض المهر في كل وقت من ذلك.
وإن نكح امرأة نكاحًا فاسدًا ووطئها.. اعتبر مهرها حال وطئها. فإن أبرأته من مهرها قبل الفرض.. لم تصح البراءة؛ لأن المهر لم يجب، والبراءة من الدين قبل وجوبه لا تصح. وإن أسقطت حقها من المطالبة بالمهر.. قال ابن الصباغ: لم يصح إسقاطه عندي؛ لأن إثبات المهر ابتداء حق لها يتعلق به حق الله تعالى؛ لأن الشرع منعها من هبة بضعها، وإنما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا لا يصح أن يطأها بغير عوض.
[مسألة اعتبار العصبات في مهر المثل ومواضعه]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ومتى قلت: لها مهر نسائها.. فإنما أعني: نساء عصباتها، وليس أمها من نسائها) .
وجملة ذلك: أن أصحابنا قالوا: يجب لها مهر المثل في سبعة مواضع:
أحدها: مفوضة المهر.
الثاني: مفوضة البضع إذا دخل بها الزوج قبل الفرض، أو مات عنها في أحد القولين.
الثالث: إذا فوض الولي بضعها بغير إذنها.
الرابع: إذا نكحت المرأة بمهر فاسد أو مجهول.
الخامس: إذا نكحها نكاحا فاسدًا ووطئها.
السادس: إذا وطئ امرأة بشبهة.
السابع: إذا أكره امرأة على الزنا.
وكل موضع وجب للمرأة مهر مثلها.. فإنها تعتبر بنساء عصباتها، كالأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام.
ولا تعتبر بنساء ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها، ولا بنساء بلدها من غير عصباتها مع وجود نساء عصباتها.(9/450)
وقال مالك: (تعتبر بنساء بلدها) .
وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (تعتبر بنساء عصباتها، وبنساء ذوي أرحامها) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق: أن لها مهر نساء قومها» وهذا يقتضي قومها الذين تنسب إليهم. ولأنه إذا لم يكن بد من اعتبارها بغيرها من النساء.. فاعتبارها بنساء عصباتها أولى؛ لأنها تساويهن في النسب.
وتعتبر بمن هي في مثل حالها في الجمال، والعقل، والأدب، والسن، والبكارة، والثيوبة، والدين، وصراحة النسب.
وإنما اعتبر الجمال؛ لأن له تأثيرا في الاستمتاع، وهو المقصود في النكاح.
واعتبر العقل والأدب؛ لأن مهر العاقلة الأديبة أكثر من مهر من لا عقل لها ولا أدب.
وكذلك مهر الشابة والبكر أكثر من مهر العجوز والثيب. ومهر العفيفة أكثر من مهر الفاسقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وصراحتها) .
فمن أصحابنا من قال: أراد الفصاحة في اللسان.
وقال أكثرهم: أراد صراحة النسب؛ لأن العرب أكمل من العجم. فإن كانت بين عربيين.. لم تعتبر بمن هي بين عربي وعجمية؛ لأن الولد بين عربي وعجمية هجين، والولد بين عربية وعجمي مقرف ومذرع. قال الشاعر في المقرف:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل
فإن نتجت مهرًا كريمًا فبالحرى ... وإن يك إقرافًا فما أنجب الفحل(9/451)
وقال في المذرع:
إن المذرع لا تغني ضؤولته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويعتبر بالأقرب فالأقرب، فإن لم يكن في أخواتها مثلها.. صعد إلى بنات أخيها، ثم إلى عماتها، ثم إلى بنات عمها.
فإن كان لها نساء عصبات في بلاد متفرقة، ومهور أهل تلك البلاد تختلف.. اعتبرت بنساء عصباتها من أهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن.
فإن لم يكن لها نساء عصبة، أو كان لها نساء عصبة ولم يوجد فيهن مثلها.. اعتبرت بأقرب النساء إليها من ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها.
فإن لم يكن لها من يشبهها منهن.. اعتبرت بنساء بلدها، ثم بنساء أقرب بلد إلى بلدها.
[فرع عادات الآباء في المهور]
) : فإن كان من عادتهم إذا زوجوا من عشيرتهم خففوا المهر، وإذا زوجوا من الأجانب ثقلوا المهر.. حمل الأمر على ذلك.
فإن كان زوجها من عشيرتها.. خفف المهر، وإن كان من الأجانب.. ثقل؛ لأن المهر يختلف بذلك.(9/452)
قال ابن الصباغ: وينبغي على هذا: إذا كان الزوج شريفًا، والعادة جارية أن يخفف المهر لشرف الزوج.. أن يعتبر ذلك.
[فرع وجوب مهر المثل حالًا من نقد البلد]
) : ويجب مهر المثل حالًا من نقد البلد.
وقال الصيمري: إن جرت عادتهم في ناحية بالثياب وغير ذلك.. قضي لها بذلك.
والمنصوص: هو الأول؛ لأنه بدل متلف، فأشبه سائر المتلفات.
قال الطبري: وإن كان عادة نساء عصباتها التأجيل في المهر.. فإنه لا يجب لها المهر مؤجلًا، بل يجب حالًا، وينقص منه لأجل التأجيل؛ لأن القيم لا تكون مؤجلة.
[مسألة إعسار الزوج بالصداق]
) : وإذا أعسر الرجل بالصداق.. فهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ فيه ثلاثة طرق، حكاها ابن الصباغ.
ومن أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان قبل الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأنه تعذر عليها تسليم العوض والمعوض باق بحاله، فكان لها الرجوع إلى المعوض، كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع باق بحاله.
والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأن تأخير المهر ليس فيه ضرر متحقق، فهو بمنزلة الخادم في النفقة إذا أعسر بها الزوج.
ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهو كما لو تلف المبيع في يد المشتري ثم أفلس.(9/453)
والثاني: يثبت لها الخيار، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن المرأة يجب عليها التمكين من الوطء، وجميعه في مقابلة الصداق وإن سلمت بعضه فكان لها الفسخ في الباقي، فهو كما لو وجد البائع بعض المبيع في يد المفلس.
ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا؛ لأن قبل الدخول لم يتلف البضع، وبعد الدخول قد تلف البضع؛ لأن المسمى يستقر بالوطأة الأولى، كما يستقر الثمن بتسليم جميع المبيع، وباقي الوطآت تبع للأولى.
فإذا تزوجت امرأة رجلًا مع العلم بإعساره بالمهر، وقلنا: يثبت لها الخيار إذ لم تعلم به.. فهل يثبت لها الخيار هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها رضيت بتأخيره، بخلاف النفقة؛ فإن النفقة لا تجب بالعقد، ولأنه قد يتمكن المعسر من النفقة بالكسب والاجتهاد، بخلاف الصداق.
والثاني: يثبت لها الخيار؛ لأنه يجوز أن يقدر عليه بعد العقد، فلا يكون علمها بإعساره.. رضًا بتأخير الصداق، كالنفقة.
وإن أعسر بالصداق، فرضيت بالمقام معه.. لم يكن لها الخيار بعد ذلك؛ لأن حق الصداق لم يتجدد، بخلاف النفقة، هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا رضيت بإعساره بالمهر ثم رجعت، فإن كان قبل الدخول.. كان لها الامتناع، وإن كان بعد الدخول.. لم يكن لها الامتناع.
وإن رضيت بالمقام معه بعد ما أعسر بالصداق.. سقط حقها من الفسخ، ولا يلزمها أن تسلم نفسها، بل لها أن تمتنع حتى يسلم صداقها؛ لأن رضاها إنما يؤثر في إسقاط الفسخ دون الامتناع، ولا يصح الفسخ للإعسار بالصداق إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، فهو كفسخ النكاح بالعيب.(9/454)
[مسألة إذن السيد بالنكاح لعبده وتعلق المهر والنفقة]
) : وإن أذن السيد لعبده في النكاح.. فإن إطلاق إذنه يقتضي نكاحه بمهر المثل؛ لأنه محجور عليه، فلم يكن له الزيادة على مهر المثل، كالسفيه. فإن نكح بمهر المثل أو دونه نكاحًا صحيحًا.. لزمه المهر بالعقد، ولزمه نفقتها إذا أمكنته من الاستمتاع بها، كما قلنا في الحرة.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو العبد: إما أن يكون مكتسبًا غير مأذون له في التجارة، أو مأذونًا له في التجارة، أو غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة.
فإن كان مكتسبًا غير مأذون له في التجارة.. تعلق المهر والنفقة في كسبه؛ لأنه لا يخلو: إما أن يتعلق ذلك بذمة السيد، أو برقبة العبد، أو بذمته إلى أن يعتق، أو بكسبه، فبطل أن يقال: يتعلق بذمة السيد؛ لأنه لم يضمن ذلك، وإنما أذن في النكاح، وذلك ليس بضمان.
وبطل أن يقال: يتعلق ذلك برقبة العبد؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، وإنما يتعلق برقبته ما وجب بغير رضا من له الحق.
وبطل أن يقال يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه يجب في مقابلة ما يستحقه من الاستمتاع حالًا. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا تعلقه بكسبه.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين الدين الذي يلزم المأذون له في التجارة، حيث قلنا: لا يقضى من كسبه، وإنما يتعلق بذمته إلى أن يعتق؟
قلنا الفرق بينهما: أن هذا الدين لزمه بغير إذن السيد؛ لأنه إن دفع إليه مالا وقال: اتجر به، فما لزمه من غيره.. لم يلزمه بإذنه، وإن قال: اتجر بجاهك.. فقد أمره أن يأخذ ويعطي، فإذا أخذ ولم يعط حتى ركبه الدين.. كان لازمًا له بغير إذنه، فصار كما لو استدان بغير إذنه، والمهر والنفقة لزماه بإذنه. ولأن المقصود بالنكاح(9/455)
الاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالمهر والنفقة، والمقصود من التجارة حصول الربح للسيد، وفي المنع من قضاء الدين من كسبه توفير على السيد.
إذا ثبت هذا: وأن المهر والنفقة في كسبه.. فعلى السيد تخليته بالنهار للاكتساب، وبالليل للاستمتاع؛ لأن إذنه بالنكاح يتضمن ذلك، إلا أن يختار السيد أن يستخدمه نهارًا.. فإنه يلزمه نفقته ونفقة زوجته. هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز له استخدامه بالنهار إلا أن يضمن عنه المهر والنفقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (ولا يتعلق المهر والنفقة إلا في الكسب الحادث بعد النكاح) . فأما ما اكتسبه قبل النكاح.. فلا يتعلقان به؛ لأنهما إنما يجبان بالنكاح، فتعلقا بالكسب الحادث بعده دون ما قبله.
قال أصحابنا: وهكذا لو كان المهر مؤجلًا.. فإنه يتعلق بالكسب الحادث بعد حلوله دون ما اكتسبه قبل حلوله.
وإن كان العبد مأذونًا له في التجارة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " ونقله المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إنه يعطي مما في يده) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يدفع المهر والنفقة من أصل المال الذي في يده للتجارة؛ لأنه يجوز أن يقضي منه دين التجارة، والمهر والنفقة دين عليه لزمه برضا السيد، فهو كدين التجارة.
ومنهم من قال: لا يجوز له أن يدفع المهر والنفقة من المال الذي بيده للتجارة، وإنما يدفعهما من فضل المال الذي بيده للتجارة، كما لا يجوز أن يدفعهما من المال الذي اكتسبه قبل النكاح؛ لأن ذلك مال السيد، وحمل النص على فضل المال.
وإن كان العبد غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة.. فمن أين يستوفى المهر والنفقة؟(9/456)
حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق ـ: فيهما قولين، وحكاهما القاضي أبو الطيب وجهين:
أحدهما: يتعلقان بذمة العبد إلى أن يعتق؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته، كما لو استدان شيئًا.
فعلى هذا: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح.
والثاني: يجبان في ذمة السيد؛ لأنه لما أذن له في النكاح مع علمه بوجوب المهر والنفقة، وعلمه بحاله.. كان ذلك رضًا منه بضمانهما.
[فرع يصح تزوج العبد بأكثر من مهر المثل]
وإن أذن السيد لعبده في النكاح، فتزوج بأكثر من مهر المثل.. صح النكاح والمهر، إلا أن قدر مهر المثل يتعلق بكسبه، وما زاد عليه يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه لا ضرر على المولى بذلك.
[فرع النكاح بغير إذن السيد أو أذن له فنكح نكاحًا فاسدًا]
) : وإن نكح العبد بغير إذن سيده.. لم يصح النكاح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يصح، وللسيد فسخه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يكون النكاح موقوفًا على إجازة السيد) ، بناء على أصله.
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر» و (العاهر) : الزاني، ولم يرد أنه زان في الحقيقة، وإنما أراد: أنه فعل فعلًا محرمًا كالزاني.
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نكح العبد بغير إذن سيده.. فنكاحه باطل»(9/457)
إذا ثبت هذا: فإنه يفرق بينهما؛ لأن النكاح الفاسد لا يقر عليه. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان دخل بها.. وجب عليه لها المهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل " إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» ومن أين يستوفى؟ فيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (يتعلق برقبته فيباع فيه، إلا أن يختار السيد أن يفديه) ؛ لأنه كجنايته، وجنايته في رقبته.
و (الثاني) : قال في الجديد: (يتعلق في ذمته إلى أن يعتق) ؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، فهو كما لو استدان دينًا.
وإن أذن السيد لعبده بالنكاح فنكح نكاحًا فاسدًا.. فإنه يفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه المهر؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وهل يتضمن إذن السيد النكاح الصحيح والفاسد؟ فيه قولان:
أحدهما: أن إذنه يتضمنهما؛ لأن النكاح الفاسد لما كان حكمه حكم الصحيح في وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. جاز أن يكون الإذن متضمنًا له كالصحيح.
فعلى هذا: يستوفى المهر هاهنا من حيث يستوفى المهر في النكاح الصحيح.
والثاني: أنه يتضمن الصحيح دون الفاسد، وهو الصحيح؛ لأن إطلاق الإذن يقتضي نكاحًا شرعيًا، والشرعي هو الصحيح دون الفاسد، كما لو وكل وكيلًا يبيع له شيئًا أو يبتاعه.. فإن إذنه لا يتضمن الفاسد. وأما وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. فإن ذلك من أحكام الوطء في النكاح لا من أحكام النكاح.(9/458)
فعلى هذا: في محل استيفاء المهر هاهنا قولان، كما لو نكح بغير إذن سيده:
أحدهما: في ذمته.
والثاني: في رقبته.
[فرع الإذن للعبد بالنكاح وإرادة السفر به]
) : وإن أذن لعبده بالنكاح فنكح، ثم أراد أن يسافر بعبده، فإن لم يضمن المهر والنفقة عنه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينقطع بالسفر عن الاكتساب لهما. وإن ضمن عنه المهر والنفقة.. كان له أن يسافر به، كما يجوز له أن يسافر بالأمة المزوجة.
[فرع مطالبة المرأة السيد أو العبد المكتسب بالمهر]
) : وإن أذن لعبده أن يتزوج امرأة بألف، فتزوجها بألف، ثم ضمن السيد عنه الألف.. صح ضمانه؛ لأنه دين ثابت في ذمة العبد، فصح ضمانه. فإن كان العبد مكتسبًا.. فلها أن تطالب به السيد، ولها أن تطالب به من كسب العبد. وإن كان غير مكتسب.. طالبت به السيد لا غير.
فإن طلقها العبد.. نظرت: فإن كان بعد الدخول.. فقد استقر صداقها، فإن كانت قد استوفته.. فلا كلام. وإن لم تستوفه.. طالبت به.
وإن كان قبل الدخول، فإن كانتا لم تقبض الصداق.. سقط عن الزوج نصفه، وبرئت ذمة السيد عن ذلك النصف؛ لأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، ولها أن تطالب بالنصف الباقي كما كانت تطالب به قبل الطلاق. وإن كانت قد قبضت الصداق.. وجب عليها أن ترد النصف.
فإن كان العبد مملوكًا حال ما طلق.. وجب عليها رد ذلك النصف إلى السيد، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه مال له. وإن كان معتقًا حال الطلاق.. قال الشيخ أبو حامد: ردت ذلك النصف إلى الزوج، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه كسب للزوج بالطلاق وهو حر حال الطلاق فكان له، كما لو زوج(9/459)
ابنه الصغير ثم بلغ الابن وطلق قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فإنها ترد نصف الصداق إلى الابن، سواء قبضته من ماله أو تطوع أبوه بالدفع عنه.
[فرع تزوج حرة بإذن سيده ثم باع زوجها لها]
) : وإن تزوج العبد حرة بإذن سيده بألف، وضمن السيد عنه الألف، ثم باعها السيد زوجها بألف في ذمتها.. صح البيع، وانفسخ النكاح.
فإن كان ذلك قبل الدخول.. فهل المغلب فيه جهة الزوج أو جهة الزوجة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن قلنا: المغلب فيه جهة الزوج.. سقط عن الزوج نصف المهر، وسقط عن السيد ذلك، وبقي النصف لها في ذمتهما، وينبغي أن يكون في بقاء هذا النصف لها وجهان يأتي ذكرهما.
وإن قلنا: المغلب في الشراء جهة المرأة، وهو المنصوص.. سقط جميع المهر عن ذمتهما.
وإن كان الشراء بعد الدخول.. فقد استقر المسمى، ولكنها قد ملكت العبد، وهل يكون حدوث ملكها عليه موجبًا لسقوط مهرها عن ذمته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يسقط؛ لأن السيد لا يثبت له في ذمة عبده دين.
والثاني: لا يسقط، وهو المنصوص؛ لأن الملك إنما ينافي أن يتجدد للسيد في ذمة عبده دين، فأما الدين الثابت في ذمته قبل الملك: فإن حدوث الملك له عليه لا ينافيه.
فإذا قلنا بالأول.. سقط عن ذمة السيد؛ لأنه فرع لذمة العبد، فإذا سقط عن الأصل.. سقط عن الفرع.(9/460)
وإذا قلنا بالثاني.. فإن للسيد عليها الثمن، ولها على السيد المهر، وهل يتقاصان؟ على الأقوال في المقاصة.
وأما إذا باعها السيد زوجها بالألف التي هي المهر، فإن كان ذلك قبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن البيع لا يصح) ، وهذا يدل على: أن المغلب في الشراء جهة المرأة؛ لأنه إذا كان فسخ النكاح من جهتها.. سقط جميع المهر، وإذا سقط جميع المهر.. لم يصح البيع، وكل سبب إذا ثبت جر بثبوته سقوط غيره.. فإنه يسقط ولا يثبت.
وإن كان بعد الدخول.. فقد قال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا بسقوط مهرها عنه إذا ملكته.. لم يصح البيع. وإن قلنا: لا يسقط.. صح البيع.
وقال الشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: يصح البيع، ويبطل النكاح، وتكون مستوفية لمهرها؛ لأن الفسخ بعد الدخول لا يوجب سقوط المهر، وقد وقع البيع بنفس الصداق، فصارت مستوفية. ويفارق إذا اشترته بغير الصداق؛ لأن هناك تم ملكها وفي ذمته لها دين، فسقط في أحد الوجهين، وهاهنا تم ملكها عليه ولا شيء في ذمته لها، فلم يسقط تملكها إياه.
[فرع لا مهر على سيد زوج عبده بأمته]
إذا زوج الرجل عبده بأمته.. لم يجب المهر.
وحكى أصحاب أبي حنيفة: أنه يجب ويسقط؛ لأنه لا يخلو النكاح عن المهر.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن المهر لو وجب.. لوجب للسيد على عبده، والسيد لا يثبت له على عبده المال ابتداء.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (يستحب أن يذكر المهر في العقد؛ لأنه من سنة النكاح) .(9/461)
وقال في الجديد: (إن شاء.. ذكره، وإن شاء.. لم يذكره؛ لأنه لا فائدة في ذكره) ، وهذا أصح.
[فرع زوج عبده بأمة غيره وجعله صداقها]
) : وإن زوج الرجل عبده بأمة غيره، وجعل العبد الذي هو زوجها صداقها.. صح النكاح والصداق؛ لأن الزوجة لا تملك زوجها وإنما يملكه سيدها.
ويجوز للسيد أن يزوج عبده بأمته، فإن طلقها العبد قبل الدخول.. رجع إلى مولى العبد نصفه، ولمولى الأمة نصفه.
وإن أعتقت الأمة ففسخت النكاح قبل الدخول، أو وجدت به عيبًا، أو وجد بها عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع جميع العبد إلى مولاه.
وإن أعتق مولى الأمة العبد.. نفذ عتقه؛ لأنه ملكه، فإن طلق العبد الأمة قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الجارية بنصف قيمته. وكذلك إن وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الأمة بجميع قيمة العبد؛ لأنه أتلفه بالعتق، بخلاف ما لو أصدق عن ابنه الصغير من مال نفسه، ثم بلغ الصبي وطلقها قبل الدخول.. فإن نصف الصداق يرجع إلى الابن دون الأب؛ لأن ذلك هبة من الأب للابن، وهاهنا خرج العبد من مولاه إلى مولى الأمة فرجع ما خرج منه إليه.
[فرع زوج عبده بحرة وجعله صداقها]
وإن زوج الرجل عبده بحرة وأصدقها إياه.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح النكاح؛ لأنها لا تملك زوجها، ولأن ملك الصداق والبضع يقعان في حالة واحدة، فإذا لم تملك الصداق.. لم يملك البضع.(9/462)
[فرع زواج السفيه بغير إذن الولي]
) : وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي.. فالنكاح باطل، ويفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه بمنزلة جنايته.
والثاني: لا يجب عليه، وهو الأصح؛ لأنه إتلاف برضا من له الحق، فهو كما لو ابتاع منها سلعة فأتلفها.
وبالله التوفيق(9/463)
[باب اختلاف الزوجين في الصداق]
إذا اختلف الزوجان في قدر المهر، بأن قال: تزوجتك بمائة، فقالت: بل بمائتين، أو في جنسه، بأن قال: تزوجتك على دراهم، فقالت: بل على دنانير، أو في عينه، بأن قال: تزوجتك بهذا العبد، فقالت: بل بهذه الجارية، أو في أجله، بأن قال: تزوجتك بمهر مؤجل، فقالت بل بمهر حال، ولا بينة لهما ولا لأحدهما.. تحالفا. وسواء كان اختلافهما قبل الدخول أو بعده، وسواء كان قبل الطلاق أو بعده. وبه قال الثوري.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. تحالفا وفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) .
وقال النخعي، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف: القول قول الزوج بكل حال، إلا أن أبا يوسف قال: إلا أن يدعي الزوج مهرًا مستنكرًا لا يزوج بمثله في العادة.. فلا يقبل.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد: (إن كان اختلافهما بعد الطلاق.. فالقول قول الزوج، وإن كان اختلافهما قبل الطلاق.. فالقول قول الزوجة، إلا أن تدعي أكثر من مهر مثلها.. فيكون القول قولها في قدر مهر مثلها، وفي الزيادة.. القول قول الزوج مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، وكل واحد من الزوجين مدعى عليه، فكان عليه اليمين، كالذي أجمع عليه كل مخالف فيها.
إذا ثبت هذا: فالكلام في البادئ باليمين منهما، وفي صفة التحالف قد تقدم ذكره في التحالف في البيع، وإذا تحالفا.. لم ينفسخ النكاح.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ينفسخ) .(9/464)
دليلنا: أن أكثر ما فيه أن المهر يصير مجهولًا، والجهل بالمهر لا يفسد النكاح عندنا، وقد مضى الدليل عليه.. ويسقط المسمى؛ لأن كل واحد منهما قد حقق بيمينه ما حلف عليه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فسقطا. وهل يسقط ظاهرًا وباطنًا، أو يسقط في الظاهر دون الباطن؟ على الأوجه الثلاثة في البيع. وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى في البيع.
وترجع المرأة إلى مهر مثلها، سواء كان ذلك أكثر مما تدعيه أو أقل.
وقال أبو علي بن خيران: إن كان مهر المثل أكثر مما تدعيه.. لم تستحق الزيادة على ما تدعيه؛ لأنها لا تستحق ما لا تدعيه.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال - إذا قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن ـ: لا تستحق إلا أقل الأمرين: من مهر المثل، أو ما تدعيه.
والمشهور: هو الأول، ولأن بالتحالف سقط اعتبار المسمى، فصار الاعتبار بمهر المثل.
ويبطل ما قالاه بما لو كان مهر المثل أقل مما اعترف الزوج أنه تزوجها به.. فإنها لا تستحق أكثر من مهر مثلها، ولا يلزم الزوج ما اعترف به من الزيادة.
[مسألة تزوج حرة لها أبوان مملوكان له واختلفا فيهما]
وإن تزوج رجل حرة لها أبوان مملوكان له، فاختلف الزوجان، فقال الزوج: أصدقتك أباك، وقالت: بل أصدقتني أمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها وعتق الأب؛ لأن الزوج يقر: أنها قد ملكته وعتق عليها، فهو كما لو ادعى على رجل: أنه باعه عبده وأنه أعتقه، وأنكره المدعى عليه.. فإنه يحلف ويعتق العبد. وأما الأم: فلا تعتق؛ لأنها في ملك الزوج، فلا يقبل إقرار الزوجة عليه، ويكون ولاء الأب موقوفًا بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يدعيه. فإن رجع الزوج وصدق الزوجة: أنه أصدقها أمها.. عتقت عليها وكان ولاؤها لها، ولا يقبل قول الزوج بعد ذلك: أنه لم يصدقها أباها؛ لأنا قد حكمنا بعتقه عليه بإقراره، ويكون ولاؤه للزوج.(9/465)
وإن قالت الزوجة: بل كان أصدقني أبي، ولم يصدقها على أنه أصدقها أمها.. لم تعتق الأم، وكان ولاء الأب للزوجة، ووجب عليها أن ترد ما أخذته منه من المهر.
وإن قال الزوج: أصدقتك أباك ونصف أمك، وقالت الزوجة: بل أصدقتني أبي وأمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها.
قال ابن الحداد: ويعتق الأب عليها بإقرارهما، ويجب عليها قيمته للزوج.
وأما الأم: فإن كانت الزوجة موسرة.. عتقت عليها ولزمها قيمتها للزوج. وإن كانت معسرة.. عتق عليها نصفها، وعليها نصف قيمتها لزوجها، ويكون نصف الأم مملوكًا للزوج، وما عتق على الزوجة منها.. كان ولاؤه لها.
[فرع اختلاف الورثة في الصداق]
) : وإن مات الزوجان واختلف ورثتهما في الصداق، أو مات أحدهما واختلف وارثه هو والباقي.. فهو كالمتبايعين إذا ماتا، أو مات أحدهما، وقد مضى ذلك، إلا أن أيمان الزوجين، يحلف كل واحد منهما على القطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي؛ لأنه يحلف على فعل نفسه. وأما أيمان الورثة: فإن كانت على الإثبات.. حلفوا على البت والقطع. وإن كانت على النفي.. حلفوا على نفي العلم.
[مسألة اختلاف الولي والزوج في قدر المهر]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهكذا الزوج وأبو الصبية) .
وجملة ذلك: أن الأب أو الجد إذا زوج الصغيرة أو المجنونة، واختلف الأب أو الجد والزوج في قدر المهر.. فهل يتحالفان؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يحلف الزوج وتوقف يمين الزوجة إلى أن تبلغ الزوجة أو تفيق،(9/466)
ولا يحلف الولي؛ لأن النيابة لا تدخل في اليمين، وحمل النص على أنه أراد به العطف على قوله: (وبدأت بيمين الزوج مع الكبيرة، ثم مع أبي الصغيرة) .
وذهب أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: إلى أن الأب والجد يتحالفان مع الزوج، على ظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح؛ لأنه عاقد فحلف، كما لو وكل رجلًا ببيع سلعة فاختلف هو والمشتري.. فإنه يحلف.
إذا ثبت هذا: فإن التحالف بينهما إنما يتصور بشرطين:
أحدهما: إذا ادعى الأب أو الجد: أنه زوجها بأكثر من مهر المثل، وادعى الزوج: أنه إنما تزوجها بمهر المثل. فأما إذا اختلفا في مهر المثل أو أقل منه.. فلا تحالف بينهما؛ لأنه إذا زوجها بأقل من مهر المثل.. ثبت لها مهر المثل.
الثاني: إذا كانت المنكوحة عند الاختلاف صغيرة أو مجنونة، فأما إذا بلغت أو أفاقت قبل التحالف.. فإن عامة أصحابنا قالوا: لا يحلف الولي؛ لأنه لو أقر عنها بما يدعي الزوج.. لم يقبل في هذه الحالة، بخلاف ما قبل البلوغ والإفاقة؛ فإنه لو أقرها بما يدعي الزوج من مهر المثل.. قبل إقراره.
وقال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: يحلف الولي؛ لأن الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره، فكذلك الولي هاهنا.
[فرع ادعاء المرأة عقدين ومهرين]
) : إذا ادعت المرأة: أنه عقد عليها النكاح يوم الخميس بعشرين، ثم عقد عليها يوم الجمعة بثلاثين، وأقامت على ذلك بينة وطلبت المهرين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فهما لها؛ لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم الخميس بعشرين، ثم خالعها(9/467)
قبل الدخول أو بعده ثم تزوجها، أو طلقها بعد الدخول ثم تزوجها.. فيلزمه المهران) .
فإن قال الزوج: إنما عقدت يوم الجمعة تكرارًا وتأكيدًا.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر لزومهما.
قال المزني: للزوج أن يقول: كان الفراق قبل النكاح الثاني قبل الدخول، فلا يلزمه إلا نصف الأول وجميع الثاني؛ لأن القول قوله أنه: لم يدخل بها في الأول.
قال أصحابنا: إنما قصد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المهرين واجبان، فإن ادعى سقوط نصف الأول بالطلاق قبل الدخول.. كان القول قوله؛ لأن الأصل عدم الدخول.
قال أصحابنا: وهكذا لو أقام بينة: أنه باع من رجل هذا الثوب يوم الخميس بعشرة، وأنه باعه منه يوم الجمعة بعشرين.. لزمه الثمنان؛ لجواز أن يرجع إليه بعد البيع الأول ببيع أو هبة.
[مسألة ادعى دفع الصداق وأنكرت]
إذا ادعى الزوج: أنه دفع الصداق إلى زوجته، وأنكرت، ولا بينة له.. فالقول قول الزوجة مع يمينها. وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، وأهل الكوفة، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال مالك والأوزاعي رحمهما الله تعالى: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. فالقول قول الزوجة، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) .
وقال الفقهاء السبعة من أهل المدينة: إن كان الاختلاف قبل الزفاف.. فالقول قولها، وإن كان بعد الزفاف.. فالقول قول الزوج.(9/468)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، والزوجة مدعى عليها في جميع الحالات، فكان القول قولها.
[فرع أصدقها تعليمًا فأنكرت]
) : وإن أصدقها تعليم سورة وادعى: أنه قد علمها إياها، وأنكرت، فإن كانت لا تحفظها.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لما ذكرناه.
والثاني: القول قوله؛ لأن الظاهر أنه قد علمها.
[فرع اختلفا فيما دفعه صداقًا أو هدية]
) : وإن أصدقها ألف درهم، فدفع إليها ألف درهم، فقال: دفعتها عن الصداق، وقالت: بل دفعتها هدية أو هبة، فإن اتفقا: أنه لم يتلفظ بشيء.. فالقول قوله من غير يمين؛ لأن الهدية والهبة لا تصح بغير قول. وإن اختلفا في قوله، فقال: قلت هذا عن الصداق، وقالت: بل قلت: هذا هدية أو هبة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله.
[مسألة ادعاؤها بالخلوة والإصابة]
وإن ادعت الزوجة: أنه خلا بها وأصابها، أو أصابها من غير خلوة، فأنكر الزوج ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخلوة والإصابة.
وإن صادقها على الخلوة والتمكن فيها من الإصابة وأنكر الإصابة، فإن قلنا: إن(9/469)
الخلوة كالإصابة في تقدير المسمى ووجوب العدة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها ليست كالإصابة.. فهل القول قوله، أو قولها؟ فيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (القول قولها) ؛ لأن الظاهر معها.
و (الثاني) : قال في الجديد: (القول قوله) ، وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
[مسألة أصدقها عينًا ثم سرحها ووجد نقصًا في العين]
) : وإن أصدقها عينًا وقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، ووجد في العين نقص.. فقد ذكرنا أن هذا النقص إن حدث قبل الطلاق.. لا يلزمها أرشه، وإن حدث بعد الطلاق.. فعليها أرشه.
فإن اختلف الزوجان في وقت حدوثه، فقال الزوج: حدث في يدك بعد عود النصف إلي - إما بالطلاق على المنصوص، أو بالطلاق واختيار التملك على قول أبي إسحاق - وقالت الزوجة: بل حدث قبل ذلك.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الزوج يدعي وقوع الطلاق قبل حدوث النقص وهي تنكر ذلك، والأصل عدم الطلاق، والزوجة تدعي حدوث النقص قبل الطلاق، والأصل عدم حدوث النقص، فتعارض هذان الأصلان فسقطا، وبقي أصل براءة ذمتها من الضمان، فكذلك كان القول قولها.
وبالله التوفيق(9/470)
[باب المتعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (لا متعة للمطلقات إلا لواحدة، وهي: التي تزوجها ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول.. فلها المتعة) .
وقال في الجديد: (لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي: التي تزوجها وسمى لها مهرًا، أو تزوجها مفوضة وفرض لها المهر، ثم طلقها قبل الدخول.. فلا متعة لها) .
وجملة ذلك: أن المطلقات ثلاثة: مطلقة لها المتعة قولًا واحدًا، ومطلقة لا متعة لها قولًا واحدًا، ومطلقة هل لها المتعة؟ على قولين.
فأما (المطلقة التي لها المتعة قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها مفوضة ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الفرض والمسيس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] . ولأنه قد لحقها بالعقد والطلاق قبل الدخول ابتذال، فكان لها المتعة بدلًا عن الابتذال.(9/471)
وأما (التي لا متعة لها قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد، أو تزوجها مفوضة وفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول؛ لأن الله - تعالى - علق وجوب المتعة بشرطين وهما: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، وهاهنا أحد الشرطين غير موجود. ولأنا إنما جعلنا لها المتعة لكي لا يعرى العقد عن بدل، وهاهنا قد حصل لها نصف المهر.
وأما (المطلقة التي في المتعة لها قولان) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد ودخل بها، أو تزوجها مفوضة ثم فرض لها مهرًا ودخل بها، أو لم يفرض لها مهرًا ودخل بها، ففي هذه الثلاثة قولان:
(أحدهما) قال في القديم: (لا متعة لها) - وبه قال أبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة:236] ، فعلق المتعة بشرطين وهو: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، ولم يوجد الشرطان هاهنا.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] ، فجعل لهن المتعة قبل المسيس، وقد وجد المسيس هاهنا. ولأنها مطلقة من نكاح لم يخل نكاحها عن بدل، فلم يكن لها المتعة، كما لو سمى لها مهرًا ثم طلقها قبل الدخول.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لها المتعة) . وبه قال عمر، وعلي، والحسن بن علي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(9/472)
قال المحاملي: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، فجعل الله سبحانه وتعالى المتعة لكل مطلقة، إلا ما خصه الدليل، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] ، وهذا في نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي دخل بهن وقد كان سمى لهن المهر؛ بدليل: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان صداق نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتي عشرة أوقية ونشًَّا» ولأن المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابلة الوطء، والابتذال موجود، فكان لها المتعة.
إذا ثبت هذا: فإن المتعة واجبة عندنا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (هي مستحبة غير واجبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة236] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، وقَوْله تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] يدل على الوجوب.
[مسألة لا فرق في وجوب المتعة بين الحرية والملكية]
وكل موضع قلنا: تجب المتعة.. فلا فرق بين أن يكون الزوجان حرين، أو مملوكين، أو أحدهما حرًا والآخر مملوكًا.
وقال الأوزاعي: (لا تجب المتعة إلا إذا كانا حرين، فإن كانا مملوكين أو أحدهما.. لم تجب) .(9/473)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] (البقرة: 241) ، وهذا عام.
[فرع الفرقة بغير طلاق]
) : وإن وقعت الفرقة بغير طلاق في المواضع التي تجب فيها المتعة.. نظرت: فإن كانت بالموت.. لم تجب المتعة؛ لأن النكاح قد بلغ منتهاه، ولم يلحقها بذلك ابتذال. وإن وقعت بغير الموت.. نظرت: فإن كانت بسبب من جهة أجنبي.. فهي كالطلاق؛ لأنها كالطلاق؛ لأنها كالطلاق في تنصيف المهر قبل الدخول، فكذلك في المتعة. وإن كانت من جهة الزوج، كالإسلام قبل الدخول، والردة، واللعان.. فحكمه حكم الطلاق - قال القاضي أبو الطيب: وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، وأسلمن معه، واختار أربعًا منهن.. وجب للباقي منهن المتعة - وإن كانت الفرقة من جهتها، كالإسلام، والردة، والرضاع، أو الفسخ للإعسار بالمهر والنفقة، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فلا متعة لها؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها، ولهذا: إذا وقع ذلك قبل الدخول.. سقط جميع مهرها. وإن كانت بسبب منهما، فإن كانت بالخلع.. فهو كالطلاق. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : لا متعة لها.
وإن كانت بردة منهما في حالة واحدة.. ففيه وجهان، مضى بيانهما في الصداق.
وإن كان الزوج عبدًا فاشترته زوجته.. انفسخ النكاح، وينبغي أن لا تجب لها متعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا يجوز أن يجب للسيد في ذمة عبده حق ابتداء.
وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج.. انفسخ النكاح.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا متعة لها) . وقال في موضع: (لها المتعة) . واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق:
فـ[أحدهما] : منهم من قال: لا تجب لها المتعة قولًا واحدًا؛ لأن البيع تم بالزوج(9/474)
والسيد، والمغلب حكم السيد؛ لأنه يملك بيعها من غير الزوج، والمتعة حق له، فلم يجب له المتعة، كالخلع.
و (الثاني) : منهم من قال: تجب المتعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فسقطا، وصارت كالفرقة من جهة الأجنبي.
و (الثالث) : منهم من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه.
و (الرابع) : قال أبو إسحاق: هي على حالين:
فإن كان الزوج هو الذي استدعى البيع.. فعليه المتعة؛ لأن السبب في الفرقة من جهته. وإن كان السيد هو الذي دعا إليه.. فلا متعة؛ لأن الفرقة من قبله. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا يبطل بالخلع، وكان يلزمه أن يقول في الخلع مثله.
[فرع المتعة لامرأة العنين إذا فارقته]
فرع: (لا تجب المتعة لامرأة العنين إذا فارقته) : روى المزني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وأما امرأة العنين: فلو شاءت.. أقامت معه، ولها المتعة عندي) .
قال المزني: هذا غلط عندي، وقياس قوله: (لا متعة لها) ؛ لأن الفرقة من قبلها.
قال أصحابنا: اعتراض المزني صحيح، إلا أنه اخطأ في النقل، وقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " وقال: (ليس لها المتعة؛ لأنها لو شاءت.. أقامت معه) ، وإنما أسقط المزني: (ليس) .
[مسألة الواجب والمستحب في قدر المتعة ووقتها]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا وقت فيها، واستحسن تقدير ثلاثين درهمًا) .(9/475)
وجملة ذلك: أن الكلام في القدر المستحب في المتعة، وفي القدر الواجب.
فأما (المستحب) : فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (أستحسن قدر ثلاثين درهمًا) . وقال في القديم: (يمتعها ثيابًا بقدر ثلاثين درهمًا) . وقال في بعض كتبه: (أستحسن أن يمتعها خادمًا، فإن لم يكن.. فمقنعة، فإن لم يكن.. فثلاثين درهمًا) .
قال أصحابنا: أراد المِقْنَعةَ التي قيمتها أكثر من ثلاثين درهمًا.
وأقل المستحب في المتعة ثلاثون درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (يمتعها بثلاثين درهمًا) .
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكثر المتعة خادم، وأقلها ثياب) . يعني: كسوة. وروي عنه: (أقله مقنعة) .
وأما القدر الذي هو واجب: ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: ما يقع عليه اسم المال، كما يجزئ ذلك في الصداق.
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه لا يجزئ ما يقع عليه الاسم، بل ذلك إلى رأي الحاكم، وتقديره باجتهاده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236](9/476)
[البقرة: 236] ، فلو كان الواجب ما يقع عليه اسم المال.. لما خالف بينهما. ويخالف الصداق، فإن ذلك يثبت بتراضيهما.
وهل الاعتبار بحال الزوج أو بحال الزوجة؟ فيه وجهان:
أحدهما: الاعتبار بحال الزوجة؛ لأن المتعة بدل عن المهر؛ بدليل: أنه لو كان هناك مهر.. لم يجب لها متعة، والمهر معتبر بحالها، فكذلك المتعة.
والثاني: الاعتبار بحال الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، فاعتبر فيه حاله دون حالها. هذا مذهبنًا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يمتعها درعًا وخمارًا وملحفة، إلا أن يكون نصف مهر مثلها أقل من ذلك.. فينقصها ما لم ينقص عن خمسة دراهم) .
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في إحدى الروايتين عنه: (يتقدر بما تجزئ فيه الصلاة من الثياب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، ولم يفرق. وما روي عن أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ما ذكروه.
[فرع تزوج امرأة مفوضة ثم فرض لها أجنبي ثم طلقت قبل الدخول]
) : إذا تزوج رجل امرأة مفوضة البضع، فجاء أجنبي وفرض معها المهر ودفعه إليها من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أن الفرض لا يصح؛ لأنه يوجب على الزوج مالًا من غير ولاية له عليه ولا وكالة، فصار وجود هذا الفرض كعدمه.
فعلى هذا: يرد على الأجنبي ما دفعه، وتجب المتعة على الزوج.
والثاني: يصح الفرض؛ لأنه لما صح أن يتطوع عنه بدفع المهر المسمى.. صح فرضه لمهر المفوضة.(9/477)
فعلى هذا: لا تجب المتعة على الزوج. وإلى من يرجع نصف المدفوع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملكه إياه، كما لو قضى به دينًا عليه عنه.
والثاني: يرجع إلى الأجنبي؛ لأنه دفعه ليقضي به ما وجب لها عليه، فإذا طلقها قبل الدخول.. سقط عنه وجوب النصف، فوجب أن يرجع إلى من دفعه.
فعلى هذا: إذا تزوج امرأة بمهر مسمى، ودفعه عنه أجنبي من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. فإلى من يرجع نصف الصداق؟ على وجهين:
أحدهما: إلى الزوج.
والثاني: إلى الأجنبي، وقد مضى ذلك.
وبالله التوفيق(9/478)
[باب الوليمة والنثر]
الوليمة: تقع على كل طعام يتخذ عند حادث سرور من إملاك، أو نفاس، أو ختان، أو بناء، أو قدوم غائب، إلا أن استعمالها في طعام العرس أظهر. ويختص طعام كل واحد من هذه الأسباب باسم، فالطعام الذي يتخذ عند الولادة: الخرس والخرص - بالسين والصاد - والطعام الذي يتخذ عند الختان: الإعذار، والطعام الذي يتخذ عند البناء: الوكيرة، والطعام الذي يتخذ عند قدوم الغائب: النقيعة. قال الشاعر:
كل الطعام تشتهي ربيعة ... الخرس والإعذار والنقيعة
وقال آخر:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام(9/479)
(القدار) : الجرار.
والطعام الذي يتخذ يوم سابع الولادة: يسمى العقيقة. ويسمى الطعام الذي يتخذ لسبب وغير سبب: مأدبة بضم الدال، وبفتحها: التأديب، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجوع مأدبة الله في أرضه»
وإنما سمي الطعام الذي يدعى إليه ف العرس وليمة من ولم الزوجين وهو اجتماعهما؛ لأن الولم الجمع، ومنه سمي القيد الولم؛ لأنه يجمع الرجلين.
إذا ثبت هذا: فإن وليمة ما عدا العرس لا تجب؛ للإجماع، ولكن تستحب.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا تستحب) ؛ لما روي: أن عثمان بن أبي العاص دعي إلى ختان، فلم يجب إليه وقال: (إنا كنا ندعى إلى الختان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نجيب) .
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: لو دعيت إلى كراع.. لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع.. لقبلت»
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف»(9/480)
ولأن فيه ألفة للقلوب وإظهار لنعم الله سبحانه وتعالى، فكان مستحبًا. وأما الخبر: فما نقل فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قول ولا فعل، فلا يكون حجة فيه.
وأما وليمة العرس: فهل تجب أم لا؟
حكى الشيخ أبو حامد في " التعليق " فيها قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما: أنها واجبة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف: أولِم ولو بشاة» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ على صفية بسويق وتمر»
ولأنه لما كانت الإجابة إليها واجبة.. كان فعلها واجبًا.
والثاني: أنها تستحب ولا تجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة»
ولأنه طعام عند حادث سرور، فلم يكن واجبًا، كسائر الأطعمة.
وأما الخبر وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمحمول على الاستحباب. وأما ما ذكروه من الإجابة: فيبطل بالسلام؛ فإنه لا يجب، وإجابته واجبة.
وحكى الصيمري وجهًا ثالثًا: أن الوليمة فرض على الكفاية، فإذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية أو القبيلة، وشاع في الناس وظهر.. سقط الفرض عن الباقين.
وظاهر النص: هو الأول.
وأقل المستحب في الوليمة للمتمكن شاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف(9/481)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أَوْلِمْ ولو بشاة» . فإن نقص عن ذلك.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسويق وتمر» ، وهذا أقل من شاة في العادة.
[مسألة تلبية دعوة العرس وغيرها]
) : ومن دعي إلى وليمة العرس.. فهل يجب عليه الإجابة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الإجابة - وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله تعالى - لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو أن رجلًا أتى رجلًا، وقال: إن فلانًا اتخذ دعوة، وأمرني أن أدعو من شئت، وقد شئت أن أدعوك.. لا يلزمه أن يجيب) .
والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يلزمه أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "
«من دعي إلى وليمة فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وروي: «فقد عصى الله ورسوله» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي، فإنه ملهوف» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من دعي إلى وليمة.. فليأتها» ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وما احتج به القائل من كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.. فلا حجة فيه؛ لأن صاحب الطعام لم يعينه.(9/482)
إذا ثبت هذا وأن الإجابة واجبة.. فهل تجب على كل من دعي، أو هي فرض على الكفاية؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها فرض على الكفاية، فإذا أجابه بعض الناس.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد أن يعلم ذلك ويظهر، وذلك يحصل بإجابة البعض.
والثاني: يجب على كل من دعي؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وكذلك عموم سائر الأخبار.
وأما إذا دعي إلى وليمة غير العرس.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الإجابة لا تجب عليه قولا واحدا؛ لأن وليمة العرس آكد، ولهذا اختلف في وجوبها فوجبت الإجابة إليها، وغيرها لا تجب بالإجماع، فلم تجب الإجابة إليها.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي: أنها كوليمة العرس في الإجابة إليها، وهو الأظهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف» ، ولم يفرق. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن دعي نقرى.. لم تجب الإجابة. وإن دعي جفلى، بأن فتح الباب لكل من يدخل.. فلا يلزمه أيضًا. وإن خصه بالدعوة مع أهل حرفته.. فيلزمه. ولو لم يجب.. فهل يعصي؟ فيه وجهان.
و (النقرى) : أن ينتقر قومًا دون قوم. قال الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
(الآدب) : الداعي.(9/483)
[فرع الدعوة لوليمة كتابي]
) : وإن دعي إلى وليمة كتابي - وقلنا: تجب عليه الإجابة إلى وليمة المسلم - فهل تجب عليه الإجابة إلى وليمة الكتابي؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب الإجابة عليه؛ لعموم الأخبار.
والثاني: لا تجب عليه الإجابة؛ لأن النفس تعاف من أكل طعامهم، ولأنهم يستحلون الربا، ولأن الإجابة إنما جعلت لتتأكد الأخوة والموالاة، وهذا لا يوجد في أهل الذمة.
[فرع الدعوة بواسطة الغير وأعذار عدم الإجابة]
) : إذا جاءه الداعي وقال: أمرني فلان أن أدعوك فأجب.. لزمته الإجابة.
وإن قال: أمرني فلان أن أدعو من شئت أو من لقيت فاحضُر، أو إن خف عليك فاحضُر.. لم تلزمه الإجابة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (بل أستحب له أن لا يجب؛ لأنه لم يعينه) .
قال الصيمري: وإن قال له صاحب الوليمة: إن رأيت أن تجملني.. لزمه أن يحضر إلا من عذر.
والأعذار التي يسقط معها فرض الإجابة: أن يكون مريضًا، أو قيمًا بمريض، أو بميت، أو بإطفاء حريق، أو بطلب ماله، أو يخاف ضياع ماله، أو له في طريقه من يؤذيه؛ لأن هذه الأسباب أعذار في حضور الجماعة وفي صلاة الجمعة، ففي هذا أولى.(9/484)
[فرع دعوة الوليمة يومان]
وإذا كانت الوليمة ثلاثة أيام، فدعي في اليوم الأول.. وجب عليه الإجابة. وإن دعي في اليوم الثاني.. لم تجب عليه الإجابة، ولكن يستحب له أن يجيب. فإن دعي في اليوم الثالث.. لم يستحب له أن يجيب، بل يكره له؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوليمة في اليوم الأول حق، وفي اليوم الثاني معروف، وفي اليوم الثالث رياء وسمعة» وروي: أن سعيد بن المسيب دعي مرتين فأجاب، ودعي في اليوم الثالث فحصب الرسول.
[فرع دعي إلى وليمتين]
) : إذا دعاه اثنان إلى وليمتين، فإن سبق أحدهما.. قدم إجابته، وإن لم يسبق أحدهما.. قدم أقربهما إليه دارًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتمع داعيان.. فأجب أقربهما إليك بابًا؛ فإن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا، فإن سبق(9/485)
أحدهما.. فأجب الذي سبق» هكذا ذكر المحاملي وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنهما إذا تساويا في السبق.. أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في الرحم.. أجاب أقربهما دارًا.
وإن ثبت الخبر.. فأقربهما دارًا أولى؛ لأنه لم يفرق بين أن يكون أقربهما رحمًا أو أبعد. فإن استويا في ذلك.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
[مسألة ضرب الدف في العرس أو وجود منكر كخمر]
في الوليمة) : يجوز ضرب الدف في العرس؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فصل بين الحلال والحرام الدف» .
«وروي عن أم نبيط: أنها قالت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فمضيت ومعي الدف مع نسوة من بني النجار، فكنت أضرب بالدف وأقول:
أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت بواديكم
فاستقبلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما هذا يا أم نبيط؟ " فقلت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي كنتم تقولون؟ "، فأعدته عليه.» وهذا(9/486)
يدل على جوازه. فإن دعي إلى وليمة عرس فيها ضرب الدف.. أجاب.
وإن دعي إلى وليمة فيها منكر من خمر أو مزامير وطنابير ومعازف وما أشبه ذلك، فإن علم بذلك قبل الحضور، فإن كان قادرًا على إزالته.. لزمه أن يحضر؛ لوجوب الإجابة وإزالة المنكر، وإن كان غير قادر على إزالته.. لم تلزمه الإجابة ولم يستحب له الحضور، بل ترك الحضور أولى، فإن حضر ولم يشارك في المنكر.. لم يأثم.
وإن لم يعلم به حتى حضر فوجده، فإن قدر على إزالته.. وجب عليه تغييره وإزالته؛ لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإن لم يقدر على إزالته.. فالأولى له أن ينصرف؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» .(9/487)
فإن لم ينصرف؟ فإن قصد إلى استماع المنكر.. أثم بذلك. وإن لم يقصد إلى استماعه، بل سمعه من غير قصد.. لم يأثم بذلك؛ لما روى نافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كنت أسير مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -، فسمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: أتسمع يا نافع؟ حتى قلت: لا، فأخرج إصبعيه من أذنيه، ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع) .
فموضع الدليل: أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - لم ينكر على نافع سماعه. ولأن رجلًا لو كان له جار وفي داره منكر ولا يقدر على إزالته.. فإنه لا يلزمه التحول من داره لأجل المنكر.
وإن دعي إلى موضع فيه تصاوير، فإن كانت صور ما لا روح فيه، كالشمس والقمر والأشجار.. جلس، سواء كانت معلقة أو مبسوطة؛ لأن ذلك يجري مجرى النقوش.
وإن كانت صور حيوان، فإن كان على بساط أو مخاد توطأ أو يتكأ عليها.. فلا بأس أن يحضر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى سترًا معلقًا في بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عليه صور حيوان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقطعيه مخاد» ولأنه يبتذل ويهان. وإن كان على ستور معلقة.. فقد قال عامة أصحابنا: لا يجوز له الدخول إليها؛ لما روى «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اتخذت طعامًا فدعوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أتى الباب.. رجع ولم يدخل، وقال: لا أدخل بيتًا فيه صور؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صور» وقيل: إن أصل(9/488)
عبادة الأوثان كانت الصور؛ وذلك لأن آدم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لما مات.. جعل في تابوت، فكان بنوه يعظمونه، ثم افترقوا، فحصل قوم منهم على ذروة جبل، وقوم منهم في أسفله، وحصل التابوت مع أهل ذروة الجبل، فلم يقدر من في أسفله على الصعود إليهم، فاشتد عليهم ذلك، فصوروا مثاله من حجارة وعظموه، فلما طال الزمان ونشأ من بعدهم.. رأوا آباءهم يعظمون تلك الصور، فظنوا أنهم كانوا يعبدونها من دون الله فعبدوها. فإذا كان هذا هو السبب.. وجب أن يكون محرمًا.
وقال ابن الصباغ: هذا عندي لا يكون أكثر من المنكر، مثل الخمر والميسر والملاهي، وقد جوزوا له الدخول إلى المواضع التي هي فيه، سواء قدر على إزالتها أو لم يقدر، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فلا يدل على التحريم، بل يدل على الكراهية، وما روي عن الملائكة.. يحتمل أن يكون في ذلك الزمان؛ لأن الأصنام كانت تعظم فيه التماثيل، فأما الزمان الذي لا يعتقد فيه تعظيم شيء من ذلك.. فلا يجري مجراه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (فإن كانت المنازل مسترة.. فلا بأس أن يدخلها، وليس فيه شيء أكرهه سوى السرف) ؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا تستر الجدر) ، ولأن في ذلك سرفًا، فكره لمن فعله دون من يدخل إليه.
[مسألة الحاضر للوليمة وهو صائم أو مفطر]
) : وإذا حضر المدعو إلى طعام.. فلا يخلو: إما أن يكون صائمًا، أو مفطرًا.
فإن كان صائمًا.. نظرت: فإن كان الصوم فرضًا.. فإنه يجب عليه الإجابة، ولا يجب عليه الأكل؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دعي إلى وليمة.. فليأتها،(9/489)
فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليدع "، وروي: " فليصل " - و (الصلاة) : الدعاء - و: " ليَقُل: إني صائم»
ولما روي: (أن ابن عمر دعي وهو صائم، فلما حضر الطعام.. مد يده، فلما مد الناس أيديهم.. قال: باسم الله كلوا؛ إني صائم) . وإن كان صوم تطوع.. استحب له أن يفطر؛ لأنه مخير بين الأكل والإتمام، وفي الإفطار إدخال المسرة على صاحب الوليمة. فإن لم يفطر.. جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن كان صائمًا.. فليدع» ، ولم يفرق.
وإن كان المدعو مفطرًا.. فهل يلزمه أن يأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يأكل؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليصل» ولأن الإجابة واجبة، والمقصود منها الأكل، فكان واجبًا.(9/490)
والثاني: لا يجب عليه الأكل؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن شاء.. فليأكل، وإن شاء.. ترك» ولأنه لو كان واجبًا.. لوجب عليه ترك صوم التطوع؛ لأنه ليس بواجب. ولأن التكثير والتبرك يحصل بحضوره، وقد حضر.
[فرع آداب الطعام]
) : في آداب الطعام روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده» يريد بذلك: غسل اليد.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضر الأكل إلى أحدكم..فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله.. فليقل إذا ذكر: باْسم الله في أوله وآخره» .
وروى أبو جحيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أكل أحدكم.. فلا يأكل من أعلى القصعة، إنما يأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل في أعلاها»(9/491)
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه.. أكله، وإن كرهه.. تركه»
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة.. فيحمد الله عليها» ويستحب أن يدعو لصاحب الطعام؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر عند سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار»(9/492)
[مسألة نثر الحلوى والنقود]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في نثر السكر واللوز والجوز: (لو ترك.. كان أحب إلي؛ لأنه يؤخذ بخلسة ونهبة، ولا يتبين لي: أنه حرام) .
وجملة ذلك: أن نثر السكر واللوز والجوز والزبيب والدراهم والدنانير وغير ذلك لا يستحب، بل يكره. وروي: (أن أبا مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا نثر للصبيان.. يمنع صبيانه عن التقاطه، واشترى لهم) . وبه قال عطاء وعكرمة وابن سيرين وابن أبي ليلى ومالك.
وقال أبو حنيفة، والحسن البصري، وأبو عبيد، وابن المنذر: (لا يكره) .
وقال القاضي أبو القاسم الصيمري: يكره التقاطه، وأما النثر نفسه: فمستحب، وقد جرت العادة للسلف به. وروي (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- لما زوج عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأرضاها - نثر عليهما» والأول هو المشهور، والدليل عليه: أن النثار يؤخذ نهبة ويزاحم عليه، وربما أخذه من يكرهه صاحبه، وفي ذلك دناءة وسقوط مروءة. وما ذكره الصيمري غير(9/493)
صحيح؛ لأنه لا فائدة في نثر إذا كان يكره التقاطه. فإن خالف ونثر، فالتقطه رجل.. فهل للذي نثره أن يسترجعه؟ فيه وجهان، حكاهما الداركي:
أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه لم يوجد منه لفظ يملك به.
والثاني: ليس له أن يسترجعه، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأنه نثر للتملك بحكم العادة.
قال المسعودي (في " الإبانة ") : لو وقع في حجر رجل.. كان أحق به. فلو التقطه آخر من حجره.. أو قام فسقط من حجره، فهل يملكه الملتقط؟ الصحيح: أنه لا يملكه.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي أن أعربيًا تزوج امرأة فنثر على رأسه زبيبًا، وأنشد يقول:
ولما رأيت السكر العام قد غلا ... وأيقنت أني لا محالة ناكح
نثرت على رأسي الزبيب لصحبتي ... وقلت كلوا, أكل الحلاوة صالح
قال أبو العباس: ولا يكره للمسافرين أن يخلطوا أزوادهم ويأكلوا، وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، بخلاف النثار؛ لأن النثار يؤخذ بقتال وازدحام، بخلاف الزاد.
قال القاضي أبو الطيب: الكتب التي يكتبها الناس بعضهم إلى بعض قال بعض أصحابنا: لا يملكها المحمولة إليهم، ولكن لهم الانتفاع بها بحكم العادة؛ لأن العادة إباحة ذلك.
وبالله التوفيق(9/494)
[باب عشرة النساء والقسم]
إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة أو صغيرة يجامع مثلها، بأن تكون ابنة ثمان سنين أو تسع، وسلم مهرها وطلب تسليمها.. وجب تسليمها إليه؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين» .
فإن طلبت المرأة أو ولي الصغيرة من الزوج الإمهال لإصلاح حال المرأة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يؤخر يومًا ونحوه، ولا يجاوز بها الثلاث) .
وحكى القاضي الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الإملاء ": (إذا دفع مهرها ومثلها يجامع.. فله أن يدخل بها ساعة دفع إليها المهر، أحبوا أو كرهوا) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو حامد: يجب على الزوج الإمهال قولًا واحدًا، وما قاله في " الإملاء ".. أراد به بعد الثلاث.
وقال القاضي أبو حامد: هل يجب عليه الإمهال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه الإمهال؛ لأنه قد سلم العوض، فوجب تسليم المعوض، كالمتبايعين.
والثاني: يجب عليه الإمهال؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تطرقوا النساء(9/495)
ليلًا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة» ، فإذا منع الرجل أن يطرق امرأته التي قد تقدمت صحبتها وألف بعضهما بعضًا ليلًا لكي تصلح شأنها.. فلأن يكون ذلك في التي لم يصحبها أولى. ولا يجب عليه الإمهال أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنها كثيرة.
وإن عرضت الزوجة التي يجامع مثلها على الزوج.. وجب عليه تسلمها.
وإن كانت المنكوحة صغيرة لا يجامع مثلها، أو مريضة مرضًا يرجى زواله وطالب الزوج بها.. لم يجب تسليمها إليه؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وذلك لا يوجد في حقها؛ وذلك لأنه لا يؤمن أن يحمله فرط الشهوة على جماعها فيوقع بذلك جناية بها. وإن عرضت على الزوج.. لم يجب عليه تسلمها؛ لما ذكرناه إذا طالب بها، ولأنها تحتاج إلى حضانة، والزوج لا يجب عليه حضانة زوجته.
وإن كانت المرأة نضوة من أصل الخلق - بأن خلقت دقيقة العظام قليلة اللحم - وطلب الزوج تسليمها إليه.. وجب تسليمها إليه. فإن كان يمكن جماعها من غير ضرر بها.. كان له ذلك. وإن كان لا يمكن جماعها إلا بالإضرار بها.. لم يجز له جماعها، بل يستمتع بها فيما دون فرجها، ولا يثبت له الخيار في فسخ النكاح. والفرق بينها وبين القرناء والرتقاء: أن تعذر الجماع في الرتقاء والقرناء من جهتها؛(9/496)
ولهذا لا يتمكن أحد من جماعها، وهاهنا العذر من جهته وهو كبر خلقه؛ ولهذا: لو كان مثلها.. أمكنه جماعها. وهكذا: إن كانت مريضة مرضًا لا يرجى زواله.. فحكمه حكم نضوة الخلقة.
فإن أقضها.. منع من وطئها حتى يلتئم الجرح. فإن اختلفا، فادعى الزوج: أنه قد التأم الجرح التئامًا لا يخاف تخريقه، وادعت الزوجة: أنه لم يلتئم.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعلم بذلك.
[مسألة إجبار الزوجة على الغسل]
) : وللزوج أن يجبر زوجته الذمية والمسلمة على الاغتسال من الحيض والنفاس.
وقال أبو حنيفة: (ليس له إجبار الذمية) .
دليلنا: أن الوطء يقف عليه، فأجبرها عليه، كما يجبرها على الوقوف في بيته.
وهل له أن يجبرها على الاغتسال من الجنابة؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له إجبارها؛ لأنه يجوز وطء الجنب.
والثاني: له أن يجبرها؛ لأن النفس تعاف من وطء الجنب. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إن طالت مدتها، بحيث يقذرها الزوج.. فله أن يجبرها، وإلا.. فلا.
وهذا إنما يأتي في الذمية أو المسلمة الصغيرة، فأما المسلمة الكبيرة: فلا يتأتى فيها طول المدة على الجناية؛ لأنه يجب عليها الغسل للصلاة، وتجبر عليه قولًا واحدًا.(9/497)
[فرع إجبار الزوجة على قص الأظفار وحلق الشعور وغير ذلك]
) : وهل له أن يجبرها على قص الأظفار وحلق العانة؟ ينظر فيه:
فإن كان ذلك قد طال وصار قبيحًا في المنظر.. فله أن يجبرها عليه قولًا واحدًا؛ لأن ذلك يمنع من الاستمتاع بها.
وأما إذا صار بحيث يوجد في العادة.. فهل له إجبارها على إزالته، وعلى إزالة الدرن الوسخ من البدن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وحكماهما الشيخ أبو حامد وغيره قولين:
أحدهما: ليس له إجبارها عليه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع بها.
والثاني: له إجبارها؛ لأنه يمنع كمال الاستمتاع.
وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته، كالبصل والثوم والكراث؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى.
وقال القاضي أبو الطيب: له أن يمنعها منه قولًا واحدًا؛ لأنه يتأذى برائحته، إلا أن تميته طبخًا؛ لأن رائحته تذهب.
[فرع يمنع زوجته من تعاطي ما يسكر أو أكل لحم الخنزير]
وإن كانت ذمية فأرادت أن تشرب الخمر.. فله أن يمنعها من السكر؛ لأنه يمنعه من الاستمتاع، ولا يؤمن أن تجني عليه. وهل له أن يمنعها من القدر الذي لا تسكر منه؟
حكى الشيخ أبو إسحاق فيه وجهين، وسائر أصحابنا حكوهما قولين:
أحدهما: ليس له أن يمنعها منه؛ لأنها مقرة عليه، ولا يمنعه من الاستمتاع.
والثاني: له منعها منه؛ لأنه لا يتميز القدر الذي تسكر منه عن القدر الذي لا تسكر منه مع اختلاف الطباع، فمنعت الجميع، ولأنه يتأذى برائحته، ويمنعه كمال الاستمتاع.(9/498)
وإن كانت الزوجة مسلمة.. فله منعها من شرب الخمر؛ لأنه محرم عليها. فإن أرادت أن تشرب ما يسكر من النبيذ.. فله منعها منه؛ لأنه محرم بالإجماع. وإن أرادت أن تشرب منه ما لا يسكر، فإن كانا شافعيَّيْن.. فله منعها منه؛ لأنهما يعتقدان تحريمه. وإن كانا حنفيَّيْن أو هي حنفية.. فهل له منعها منه؟ فيه قولان، كما قلنا في الذمية إذا أرادت أن تشرب القليل من الخمر.
وهل له أن يمنع الذمية من أكل لحم الخنزير؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كشرب القليل من الخمر. وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى.
قال ابن الصباغ: وظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن كان يتقذره وتعافه نفسه.. فله منعها منه. وإن لم تعفه نفسه.. لم يكن له منعها منه.
إذا ثبت هذا: فإن شربت الخمر، أو أكلت لحم الخنزير، أو شربت الحنفية النبيذ.. فله أن يجبرها على غسل فيها؛ لأنه نجس وإذا قبلها.. نجس فمه.
[فرع لا يمنعها لبس الحرير ونحوه ويمنعها من جلد الميتة ونحوه]
) : وليس له أن يمنع زوجته من لبس الحرير والديباج ولا الحلي؛ لأن ذلك مباح لها. وله أن يمنعها من لبس جلد الميتة الذي لم يدبغ؛ لأنه نجس، وربما نجسه إذا التصق به. وله أن يمنعها من لبس الثوب المنتن؛ لأنه يمنع القرب إليها والاستمتاع بها.
[مسألة للزوج منع المرأة من الخروج إلى المسجد وغيره]
وللزوج أن يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد وغيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة أن تخرج من بيت زوجها وهو كاره.
»(9/499)
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ما حق الزوج على زوجته؟ فقال: (أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت.. لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تؤوب أو ترجع) ، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالمًا؟ قال: وإن كان لها ظالمًا» .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة؛ لا نور لها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت.. استشرفها الشيطان» ولأنها تفوت بالخروج من يملك عليها من الاستمتاع.
فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»
وروي: «لا تمنعوا نساءكم المساجد» ؟! قيل: له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه أراد به الاستحباب في غير ذوات الهيئات.
والثاني: أنه أراد به الاستحباب في الجمع والأعياد.
والثالث: أنه أراد به المسجد الحرام إذا أرادت الحج. وهذا التأويل ضعيف؛ لأنه قال: (مساجد الله) ، وذلك جمع.
ٍ
[مسألة للزوج منعها من شهود الجنائز وعيادة المرضى]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وله منعها من شهود جنازة أبيها وأمها وولدها) .
وجملة ذلك: أن للزوج أن يمنع زوجته من عيادة أبيها وأمها إذا مرضا، ومن(9/500)
حضور موتهما وتشييعهما إذا ماتا؛ لما روى ثابت البناني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «-: أن رجلًا سافر فنهى امرأته من الخروج، فمرض أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عيادته، فقال لها: (يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك) - قال- فمات أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تشييع جنازته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك "، فأوحى الله عز وجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها» .
ولأن عيادة أبيها وأمها وحضور مواراتهما ليس بواجب عليها، فلا تترك له واجبًا عليها.
ويستحب للزوج أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العداوة بينهما.
[مسألة معاشرة الأزواج بالمعروف]
ويجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، ولقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] [النساء:34] يعني: بالإنفاق عليهن وكسوتهن، ولقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] [البقرة:228] والمماثلة هاهنا بالتأدية لا في نفس الحق؛ لأن حق الزوجات النفقة والكسوة وما أشبه ذلك، وحق الأزواج على الزوجات التمكين من الاستمتاع، وقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء:19] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وجماع المعروف بين الزوجين: كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره.. فمطل الغني ظلم بتأخيره) .
قال أصحابنا: و (كف المكروه) هاهنا هو: أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول ولا فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب ولا يلبس ما يؤذي الآخر.
وقوله: (وإعفاء صاحب الحق من المؤونة في طلبه) : إذا وجب لها على الزوج نفقة أو كسوة.. بذله لها، ولا يحوجها إلى أن ترفعه إلى الحاكم، فيلزمها في ذلك(9/501)
مؤونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وكذلك: إذا دعاها إلى الاستمتاع.. لم تمتنع، ولم تحوجه إلى أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فيلزمه في ذلك مؤنة؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت عليه، فبات وهو عليها ساخط.. لعنتها الملائكة حتى تصبح» .
وقوله: (لا بإظهار الكراهية في تأديته) : إذا طلبت الزوجة حقها منه أو طلب الزوج حقه منها.. بذل كل واحد منهما ما وجب عليه لصاحبه وهو باش الوجه ضاحك السن؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صلى الله عيه وسلم - قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم»
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد.. لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها» .(9/502)
[فرع حق الاستمتاع وترك الزوج له وجمعه بين زوجتيه بمسكن]
ولا يجب على الزوج الاستمتاع بها.
وحكى الصيمري: أن مالكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة.. أمر بالوطء، فإن أبى.. فلها فسخ النكاح) .
وقال آخرون: يجبر على أن يطأ في كل أربع ليالٍ ليلة.
وهذا غير صحيح؛ لأنه حق له فجاز له تركه. ولأن الداعي إليه الشهوة، وذك ليس إليه.
والمستحب: أن لا يخليها من الجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي.. فليس مني» ولأنه إذا لم يجامعها.. لم يؤمن منها الفساد، وربما كان سببًا للعداوة والشقاق بينهما.
وإن كان له زوجتان.. لم يجمع بينهن في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن ذلك يؤدي إلى خصومتهما. ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن ذلك قلة أدب وسوء عشرة.
[مسألة ما يقوله أول ما يرى زوجته أو عند إرادته الجماع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (وإذا تزوج رجل امرأة.. فأحب له أول ما يراها أن يأخذ بناصيتها ويدعو باليمن والبركة، فيقول: بارك الله لكل واحد منا في(9/503)
صاحبه؛ لأن هذا بدء الوصلة بينهما، فأستحب له أن يدعو بالبركة) . ويستحب له إذا أراد أن يجامعها أن يقول: (باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) ؛ لما روي: أن الني - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يجامع امرأته، فقال ذلك، فإن رزقا ولدًا.. لم يقربه الشيطان» .
[مسألة إتيان المحاش من النساء]
قال المزني: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ذهب بعض أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن إلى إحلاله، وآخرون إلى تحريمه، ولا أرخص فيه، بل أنهى عنه) .
وروى محمد بن عبد الحكم: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ما صح فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في تحريمه، ولا في تحليله شيء، والقياس أنه حلال) .
قال الربيع: كذب ابن عبد الحكم والذي لا إله إلا هو، فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريمه في ستة كتب، فلا يختلف مذهبنا: في أنه محرم. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومجاهد، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وأحمد، وعامة أهل العلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وحكى العراقيون من أصحاب مالك عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل مذهبنا.
وحكى المصريون وأهل الغرب عنه: أنه مباح، ونص عليه في (كتاب السير) .(9/504)
وحكي: أن مالكًا سئل عن ذلك، فقال: (الآن اغتلست منه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] [البقرة:222] ، فأمر باعتزال النساء في المحيض للأذى، وأذى الحيض أخف من أذى الموضع المكروه.
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» وروى خزيمة بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» .
وروي: «أن أعرابيًا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، الرجل يكون في الفلاة وتكون معه الزوجة ويكون في الماء قلة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، إن الله لا يستحيي من الحق» وسئل قتادة عن ذلك، فقال: سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي اللوطية الصغرى» .
[فرع جواز التلذذ بين الأليتين مقبلة مدبرة]
ويجوز التلذذ بما بين الأليتين من الزوجة من غير إيلاج في الدبر؛ لأنه إنما نهي عن الإيلاج في الدبر لما فيه من الأذى، وذلك لا يوجد فيما بين الأليتين.(9/505)
ويجوز الوطء في الفرج مقبلة ومدبرة؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قالت اليهود: إذا جامع الرجل امرأته من ورائها.. جاء ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] الآية [البقرة:223] .
[فرع حرمة الاستمناء]
ويحرم الاستمناء، وهو: إخراج الماء الدافق بيده. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا) .
وروي: أن عمرو بن دينار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رخص فيه عند الاضطرار وخوف الهلكة. وبه قال أحمد ابن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] * {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون 5-6] ، فمنها دليلان:
أحدهما: أنه أباح الاستمتاع بالفرج بالزوجة أو ملك اليمين، وهذا ليس بواحد منهما.
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] [المؤمنون:7] ، والاستمناء وراء ذلك.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون ناكح كفه» ولأن فيه قطع النسل والامتناع من التزويج، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكْثُرُوا» .(9/506)
[مسألة كراهية العزل]
ويكره العزل، وهو: أن يولج، فإذا قارب الإنزال.. نزع وأنزل خارج الفرج؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكرنا العزل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لم يفعل ذلك أحدكم؟» .
وروت جدامة بنت وهب قالت: «حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي» .
و (الوأد) هو: أن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت لهم ابنة.. قتلوها، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] [التكوير:8-9] .
وهل يحرم عليه ذلك؟ ينظر فيه:
فإن كان في وطء أمته.. لم يحرم عليه؛ لأن الاستمتاع حق له.
وإن كان في وطء زوجته: فإن كانت زوجته أمة.. جاز له العزل بغير إذنها وغير(9/507)
إذن سيدها؛ لأن له غرضًا في ذلك، وهو: أن لا يكون ولده منها مملوكًا. وإن كانت حرة: فإن أذنت له في ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن لم تأذن له.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم عليه ذلك؛ لما روي: عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهما قالا: (تستأذن الحرة، ولا تستأذن الأمة) ولأنه لا غرض له في ذلك.
والثاني: لا يحرم عليه؛ لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن ذلك فقال: (أو تفعلون ذلك؟) فقيل له: نعم، فقال: ولا عليكم أن تفعلوا، إن الله لم يقض لنفس أن يخلقها إلا وهي كائنة» ولأن حقها في الإيلاج دون الإنزال؛ بدليل: أن العنين والمولى إذا أولج فيها ولم ينزل.. سقط حقها، فلا معنى لاعتبار إذنها.
[فرع استحباب خدمة الزوجة]
] : ولا يجب على الزوجة الخدمة للزوج في الخبز والطبخ والغزل وغير ذلك؛ لأن المعقود عليه هو الاستمتاع دون هذه الأشياء.
[مسألة القسم للزوجات]
وإذا كان له زوجتان أو أكثر.. لم يجب عليه القسم ابتداء، بل يجوز له أن ينفرد عنهن في بيت؛ لأن المقصود بالقسم هو الاستمتاع، وهو حق له.. فجاز له تركه.
وإن أراد أن يقسم بينهن.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه.
ولا يجوز له أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضا الباقيات إلا بالقرعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(9/508)
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] [النساء:129] .
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما دون الأخرى.. جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» وفي البداءة بإحداهن من غير قرعة ميل.
فإن كان له زوجتان.. أقرع بينهما مرة واحدة، وإن كان ثلاثًا.. أقرع مرتين، وإن كن أربعًا.. أقرع ثلاث مرات؛ لأنهن إذا كن ثلاثًا فخرجت القرعة لواحدة.. قسم لها، ثم أقرع بين الباقيتين. وهكذا في الأربع.
وإن قام عند واحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للباقيات؛ لأنه إذا لم يقض.. صار مائلًا.
[مسألة القسم للمريضة والحائض والمحرمة وغيرهن]
ويقسم للمريضة، والرتقاء، والقرناء، والحائض، والنفساء، والمحرمة، والتي آلى منها أو ظاهر؛ لأن المقصود الإيواء والسكن، وذلك موجود في حقهن.
وأما المجنونة: فإن كان يخاف منها.. سقط حقها من القسم؛ لأن الإيواء والألفة لا تحصل معها. وإن لم يخف منها.. وجب لها القسم؛ لأن الإيواء يحصل معها.
وإن دعاها إلى منزل له فامتنعت.. سقط حقها من القسم، كالعاقلة.(9/509)
[فرع القسم على المريض والمحرم ونحوه]
ويقسم المريض والمجبوب والعنين والمحرم؛ لأن الأنس يحصل به.
وإن كان مجنونا يخاف منه.. لم يقسم له الولي؛ لأنه لا يحصل به الأنس. وإن كان لا يخاف منه.. نظرت: فإن كان قد قسم لواحدة في حال عقله، ثم جن قبل أن يقضي.. لزم الولي أن يقضي للباقيات قسمهن منه، كما لو كان عليه دين.
وإن جن قبل أن يقسم لواحدة منهن، فإن لم ير الولي أن له مصلحة في القسم.. لم يقسم لهن، وإن رأى الولي المصلحة له في القسم.. قسم لهن؛ لأنه قائم مقامه.
وهل يجب على الولي ذلك أم لا؟ على قولين، وحكاهما بعض الأصحاب وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه، كما يجب على العاقل.
والثاني: يجب عليه ذلك؛ لأن العاقل له اختيار في ترك حقه، والمجنون لا اختيار له، فلزم الولي أن يستوفي له حقه بذلك.
فإن حمله إلى واحدة.. حمله ليلة أخرى، وكان بالخيار: بين أن يطوف على نسائه، وبين أن يتركه في منزله ويستدعيهن واحدة واحدة إليه. وإن طاف به على البعض واستدعى البعض.. جاز. فإن قسم الولي لبعضهن ولم يقسم للباقيات.. أثم الولي. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل يقسم الولي للمجنون؟ فيه وجهان- قال- فإن كان يجن يومًا، ويفيق يومًا فأقام ليلة جنونه عند واحدة، وليلة عقله عند الأخرى.. لم تحتسب بليلة جنونه عندها حتى يقضي لها.
ولو أقر الولي أنه ظلم إحداهن.. لم يسمع إقراره حتى تقر المقسومة لها للمظلومة.
[مسألة النفقة والقسم للمسافرة]
وإن سافرت المرأة مع زوجها.. فلها النفقة والقسم؛ لأنها في مقابلة الاستمتاع، وذلك موجود. وهكذا: إذا أشخصها من بلد إلى بلد للنقلة أو لحاجة له.. فلها النفقة والقسم وإن لم يكن معها.(9/510)
وإن سافرت من بلد إلى بلد وحدها لحاجة لها بغير إذنه.. فلا نفقة لها ولا قسم؛ لأنها ناشزة عنه. وإن سافرت لحاجة لها وحدها بإذنه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا نفقة لها ولا قسم، لأنها في مقابلة الاستمتاع. وذلك متعذر منها.
والثاني: لها النفقة والقسم، لأنها غير ناشزة، فهو كما لو أشخصها لحاجة له.
والأول أصح.
[مسألة التسوية في القسم بين المسلمة والذمية]
] : وإن كان عنده مسلمة وذمية.. سوى بينهما في القسم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وعاشروهن بالمعروف) [النساء:19] ، ولم يفرق. ولعموم الوعيد في الخبر.
[مسألة القسم للحرة والأمة]
وإن اجتمع عنده حرة وأمة.. قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وأبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يسوي بينهما) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأمة على الحرة؛ للحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث» .
وللأمة أن تحلل الزوج من قسمها أو تهبه لبعض ضرائرها بغير إذن سيدها؛ لأن الحق لها فيه دون سيدها.
[فرع القسم للحرة والأمة إذا عتقت]
وإن كانت عنده حرة وأمة، فقسم للحرة ليلتين، ثم انتقل إلى الأمة فأعتقت، فإن أعتقت بعد أن أقام عندها ليلة ويومًا.. فلا شيء عليه لها غير ذلك. وإن أعتقت قبل(9/511)
استكمال الليلة واليوم.. تمم لها ليلتين ويومين، لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة.
وإن قسم للأمة أولًا ليلة ويومًا، ثم دار إلى الحرة، فأعتقت الأمة، فإن أعتقت في الليلة الأولى ويومها.. لم يزد الحرة على ذلك، لأنها صارت مساوية لها. وإن أعتقت بعد انقضاء الليلتين.. لم يلزمه أن يقضي للأمة لليلة، لأنه قسم للحرة ليلتين وهي مستحقة لهما. ويستأنف القسم لهما من الآن متساويًا.
[مسألة القسم في الليل إن كان معاشه بالنهار]
وإذا كان طلب معاش الرجل بالنهار.. فعماد قسمته الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] [الأنعام:96] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] [النبأ 10-11]
وإن كان طلب معاشه بالليل.. فعماد قسمته النهار.
والمستحب: أن يقسم مياومة، وهو: أن يقيم عند واحدة يومًا ثم عند الأخرى يومًا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا كان يقسم، ولأنه أقرب إلى إيفاء الحق.
وإن أراد أن يقسم لكل واحدة ليلتين أو ثلاثًا.. جاز، لأن ذلك قريب.
وإن أراد أن يقيم عند كل واحدة أكثر من الثلاث..فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": إن أراد أن يقسم لهن مياومة، أو مشاهرة، أو مساناة.. كرهت له، وأجزأه) .
قال أصحابنا: يجوز له ما زاد على الثلاث برضاهن، وأما بغير رضاهن: فلا يجوز، لأنه كثير.
ويدخل النهار في القسم، لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لنسائه، ولكل واحدة يومها وليلتها، غير أن سودة(9/512)
وهبت ليلتها لعائشة) ، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري» ، فأضافت اليوم إليها، لأنه كان يوم نوبتها. و (السحر) : الرئة، لأنه كان متكئا على صدرها.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل إلى بيت حفصة فلم يصادفها، فقعد عند مارية جاريته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقالت: يا رسول الله، أفي بيتي، وفي يومي!» ، فأضافت اليوم إليها.
والأولى: أن يجعل اليوم تابعًا لليلة التي مضت قبله، لأن الشهر هلالي. وإن جعل النهار تابعًا لليلة التي بعده.. جاز.
[مسألة من ترك القسم مدة قضاه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وإذا كان له أربع زوجات، فترك إحداهن من القسم أربعين ليلة.. قضى لها عشر ليال) . واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال أكثرهم: أراد أنه أقام عند كل واحدة من الثلاث عشرًا، ثم أقام عشرًا وحده في بيت، فيقضي للرابعة عشرًا.. فأما لو أقام عند الثلاث أربعين ليلة.. قضى للرابعة ثلاث عشرة ليلة وثلثًا.
وقال ابن الصباغ: ظاهر كلامه أنه أقام عندهن أربعين ليلة.. وما قال.. له وجه جيد عندي، لأن الذي تستحقه بالقضاء عشر وثلاث ليال وثلث تستحقها أداء، لأن زمان القضاء، لها فيه قسم.(9/513)
[فرع يقسم للناشزة من حين طاعتها ويخص البكر بسبع والثيب بثلاث]
قال في " الأم ": وإن كان له أربع نسوة، فسافرت واحدة منهن بغير إذنه، وأقام عند اثنتين ثلاثين يومًا، عند كل واحدة خمسة عشر يومًا، فلما أراد أن يقيم عند الثالثة رجعت الناشزة وصارت في طاعته.. فلا حق لها فيما مضى من القسم، لأنها كانت عاصية، ولا يمكن أن يقسم للثالثة خمس عشرة ليلة، لأن القادمة تستحق الربع، فيجعل الليالي أربعًا، ويقيم عند القادمة ليلة وهو حقها، ويجعل للثالثة ثلاث ليال: ليلة هي حقها، وليلتين من حق الأولتين. فإذا دار بين القادمة والثالثة خمسة أدوار كذلك.. استوفت الثالثة خمس عشرة ليلة، والقادمة خمسا، واستأنف القسم بين الأربع.
ولو كان بدل المسافرة زوجة جديدة تزوجها قبل أن يوفي الثالثة.. خص الجديدة إن كانت بكرًا بسبع، وإن كانت ثيبًا بثلاث، ثم يقسم ثلاثًا للثالثة الأولى وليلة للجديدة حتى يدور خمسة أدوار، واستأنف القسم للأربع) .
[فرع سقوط حق الناشزة ويقضي لمن وجب لها قبل طلاقها لو راجعها]
قال في " الأم ": (وإن كان له أربع زوجات فقسم لثلاث ليلة ليلة، فلما كان ليلة الرابعة نشزت عنه وأغلقت دونه بابها، وادعت عليه الطلاق.. فقد سقط حقها. فإن عادت إليه وأطاعته.. استأنف لهن القسم ولم يقض لها، لأن حقها قد سقط.
ولو قسم للثلاث، ثم طلق الرابعة قبل أن يوفيها حقها.. أثم بذلك، لأنه أسقط حقها بعد وجوبه. فإن راجعها أو بانت منه فتزوجها.. قضى لها تلك الليلة، لأنها كانت واجبة لها) .
[مسألة الطواف على النساء في منازلهن أو باستدعائهن]
والمستحب: أن يطوف على نسائه في منازلهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، ولأن ذلك أصون لهن.(9/514)
وإن قعد في منزل واستدعى كل واحدة إليه في ليلتها.. كان له ذلك؛ لأن ذلك ليس بأكثر من السفر بهن.
وإن طاف على بعض نسائه في منازلهن واستدعى البعض إلى منزله.. كان له ذلك، فإن لم تأته واحدة منهن إلى حيث استدعاها.. سقط حقها من القسم، لأنها ناشزة.
وإن كان محبوسًا في مكان يصلن إليه ويصلح للسكنى، وأراد أن يقسم بينهن ويستدعيهن إليه.. كان له ذلك؛ لأنه كالمنزل.
وإن كان له امرأتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما، فإن أقام معها.. قضى للأخرى. وإن لم يقم معها.. لم يقض للأخرى، لأن إقامته في البلد التي هي بها من غير أن يقيم معها ليس بقسم.
[مسألة لا يشترط الوطء في القسم]
وليس من شرط القسم الوطء، غير أن المستحب: أن يساوي بينهن في الوطء، لأنه هو المقصود.
فإن وطئ بعضهن دون بعض.. لم يأثم بذلك؛ لأن الوطء طريقه الشهوة، وقد تميل شهوته إلى بعضهن دون بعض، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] [النساء: 129] ، قيل في التفسير: في الحب والجماع.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه ويقول: «اللهم، إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ، يعني: قلبه.(9/515)
[مسألة دخوله ليلًا على ضرة المقسم لها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يدخل في الليل على التي لم يقسم لها) .
وجملة ذلك: أنه إذا قسم بين نسائه.. فلا يجوز أن يخرج من عند المقسوم لها في ليلتها لغير ضرورة من غير إذنها؛ لأن عماد القسم الليل. فإن دعت ضرورة إلى ذلك، بأن مرض غيرها وأشرفت على الموت، فاحتاج إلى أن يخرج إليها لتوصي إليه، أو تكون تحتاج إلى قيم ولا قيم لها، أو ماتت واحتاج إلى الخروج لتجهيزها.. جاز له الخروج؛ لأن هذا موضع عذر. فإن برئت المريضة التي خرج إليها.. قضى للتي خرج من ليلتها من قسم ليلة المريضة مثل الذي أقام عندها. وإن ماتت.. لم يقض، بل يستأنف القسم للباقيات.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويعودها في ليلة غيرها) .
قال أصحابنا: هذا سهو في النقل أيضًا، إنما هو في يوم غيرها.
فإن خالف وخرج عنها في ليلتها لغير عذر إلى غيرها، وأقام عندها قليلًا.. فقد أساء، ولا يقضي ذلك؛ لأن ذلك يسير لا يضبط.
وإن أقام عندها مدة طويلة من الليل.. قضى للأخرى من ليلة التي أقام عندها مثل ذلك في وقته من الليل. وإن قضى مثله في غير وقته من الليل.. جاز؛ لأن المقصود الإيواء، وجميع الليل وقت للإيواء.
وإن دخل إلى غيرها في ليلتها، وجامعها وخرج سريعًا.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أوجه:(9/516)
أحدها: لا يجب عليه القضاء؛ لأن القصد الإيواء، ولم يفوت عليها بجماع غيرها الإيواء؛ لأن قدر مدته يسير.
والثاني: يجب عليه أن يقضيها بليلة من حق الموطوءة؛ لأن المقصود بالإيواء هو الجماع، فإن وقع ذلك لغيرها في ليلتها.. وجب عليه أن يقضيها بليلة الموطوءة.
والثالث: أنه يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها؛ لأنه أعدل.
[فرع حبس أو فوت نصف ليلتها]
فرع: [إن حبس أو فوت نصف ليلتها قضاه] :
فإن أخرجه السلطان عنها في ليلتها وحبسه نصف ليلتها، أو خرج عنها إلى بيت وقعد فيه نصف الليل.. وجب عليه أن يقضيها مثل الذي فوت عليها.
فإن فوت عليها النصف الأول من الليل.. فإنه يأوي إليها النصف الأول من الليل، ثم يخرج منها إلى منزل له أو لغيره، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأخير.
وقال ابن الصباغ: قال بعض أصحابنا: إلا أن يخاف العسس، أو يخاف اللصوص.. فيقيم عندها في باقي الليل ولا يخرج للعذر، ولا يقضي للباقيات.
وإن فوت عليها النصف الأخير من الليل.. فالمستحب: أن يقضيها في النصف الأخير، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأول من الليل، ويأوي إليها النصف الأخير. وإن أوى إليها النصف الأول وانفرد في النصف الأخير.. جاز.
[فرع خروجه للحاجة ودخوله على ضرة المقسم لها نهارًا]
ويجوز أن يخرج في نهار المقسوم لها؛ لطلب المعيشة إلى السوق ولقضاء الحاجات.(9/517)
وإن دخل إلى غيرها في يومها، فإن كان لحاجة، مثل: أن يحمل إليها نفقتها، أو كانت مريضة فدخل عليها يعودها، أو دخل لزيارتها لبعد عهده بها، أو يكلمها بشيء، أو تكلمه، أو يدخل إلى بيتها شيئًا، أو يأخذ منه شيئًا، ولم يطل الإقامة عندها.. جاز، ولا يلزمه القضاء لذلك؛ لأن المقصود بالقسم الإيواء، وذلك يحصل بالليل دون النهار. ولا يجامعها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «ما كان يوم إلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف علينا جميعًا، فيقبل ويلمس، فإذا جاء إلى التي هي يومها.. أقام عندها» .
وهل له أن يستمتع بالتي يدخل إليها في غير يومها بغير جماع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن ذلك مما يحصل به السكن فأشبه الجماع.
والثاني - وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لحديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
فإن دخل إليها في يوم غيرها وأطال المقام عندها.. لزمه القضاء، كما قلنا في الليل.
وإن أراد الدخول إليها في غير يومها لغير حاجة.. لم يجز؛ لأن الحق لغيرها.
وإن دخل إليها في يوم غيرها، ووطئها وانصرف سريعًا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مستحق، ووقته لا ينضبط.
والثاني: يلزمه أن يدخل إليها في يوم الموطوءة فيطأها؛ لأنه أعدل.(9/518)
[مسألة زواجه بجديدة يقطع الدور سبعًا للبكر وثلاثًا للثيب]
إذا كان تحته زوجة أو زوجتان فتزوج بأخرى.. قطع الدور للجديدة. فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا، ولا يقضي. وإن كانت ثيبا.. كان بالخيار: بين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يقضي، وبين أن يقيم عندها سبعًا ويقضي ما زاد على الثلاث.
ومن أصحابنا من قال: يقضي السبع كلها. والأول هو المشهور.
هذا مذهبنا، وبه قال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والشعبي، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال ابن المسيب والحسن البصري: يقيم عندها إذا كانت بكرًا ليلتين، وعند الثيب ليلة.
وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه: (يقيم عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، ويقضي مثل ذلك للباقيات) .
دليلنا: ما روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للبكر سبع، وللثيب ثلاث» وما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ما بك على أهلك هوان! فإن شئت.. سبعت عندك وقضيت لهن، وإن شئت.. ثلثت عندك ودرت) ، فقلت: ثلث. وروي: " إن شئت.. سبعت عندك، وسبعت عندهن» .(9/519)
فإن قلنا: يجب عليه قضاء السبع إذا أقامها عند الثيب.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعت عندك، وسبعت عندهن» .
وإذا قلنا: يقضي ما زاد على الثلاث.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلثت عندك ودرت» فلو كان يجب قضاء الثلاث كما كان يجب قضاء ما زاد.. لما كان للتخيير معنى. ولأن الثلاثة مستحقة لها، بدليل: أنها لو اختارت أن يقيم عندها الثلاث لا غير.. لم يجب عليه قضاؤها، فكذلك لا يجب قضاؤها إذا أقامها مع الأربع.
[فرع زفاف اثنتين بليلة]
فرع: [كراهة زفاف اثنتين بليلة] :
ويكره أن تزف إليه امرأتان في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكنه أن يوفيهما حق العقد معًا، وإذا أقام عند إحداهما.. استوحشت الأخرى.
فإن زفتا إليه، فإن كانت إحداهما قبل الأخرى.. أوفى الأولى حق العقد ثم الثانية؛ لأن الأولى لها مزية بالسبق. وإن زفتا إليه في حالة واحدة.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
وإن كان عنده امرأتان فبات عند إحداهما ليلة، فزفت إليه زوجة جديدة قبل أن يوفي الثانية حقها.. قضى للجديدة حق العقد؛ لأن حقها آكد؛ لأنه متعلق بالعقد، وحق الأولى متعلق بفعله، فإذا قضى حق العقد؛.. فقد بقي للثانية من الأوليين ليلة: نصفها من حقها ونصفها من حق الأولى، فيوفيها إياها. ويجب للجديدة بحق القسم نصف ليلة؛ لأجل هذه الليلة، ثم يستأنف القسم بينهن.
[فرع زفت أمة إلى عبد وعنده زوجة]
وإن زفت إلى عبد أمة وعنده امرأة أخرى، سواء كانت حرة أو أمة.. ففي الذي تستحقه الأمة بحق العقد ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:(9/520)
أحدها: أنها كالحرة، فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ثلاثًا ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها سبعًا ويقضي؛ لأن هذا يراد للأنس وزوال الوحشة، والأمة كالحرة في ذلك.
والثاني: أن الأمة على النصف من الحرة، كما قلنا في القسم الدائم، إلا أن الليالي والأيام تكمل.
فعلى هذا: إن كانت بكرًا.. أقام عندها أربع ليال. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ليلتين ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها أربع ليال ويقضي، كما قلنا في الأقراء.
والثالث: أنها على النصف، ولا تكمل الليالي والأيام، فيقيم عند البكر ثلاث ليال ونصفًا، وعند الثيب إن شاءت.. ليلة ونصفًا ولا يقضي، وإن شاءت.. ثلاث ليال ونصفًا ويقضي؛ لأنها تتبعض، بخلاف الأقراء.
[فرع ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة]
فرع: [استحباب ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة] :
قال في (الأم) : (ولا أحب له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يمنعه ذلك من عيادة مريض، ولا شهود جنازة، ولا إجابة وليمة) .
وجملة ذلك: أنه إذا أقام عند الجديدة بحق العقد.. فهو كالقسم الدائم، فعماده الليل. وأما بالنهار: فله أن ينصرف في طلب معاشه، ويصلي مع الجماعة، ويشهد الجنازة، ويعود المريض، ويجيب الولائم؛ لأن الإيواء عندها بالنهار مباح، وهذه الأشياء طاعات، فلا يترك الطاعات للمباح.
قال ابن الصباغ: فأما بالليل: فقال أصحابنا: لا يخرج فيه لشيء من ذلك؛ لأن حق الزوجة فيه واجب، وما يخرج له.. فليس بواجب، بخلاف الكون عندها بالنهار.. فإنه ليس بواجب.(9/521)
[مسألة المعدد إذا أراد السفر وتخييره]
وإذا كان لرجل زوجتان أو أكثر، وأراد السفر.. كان بالخيار: بين أن يسافر وحده ويتركهن في البلد؛ لأن عليه النفقة والكسوة والسكنى دون المقام معهن، كما لو كان بالحضر وانفرد عنهن.
وإن أراد أن يسافر بهن جميعهن.. لزمهن ذلك، كما يجوز أن ينتقل بهن من بلد إلى بلد.
وإن أراد أن يسافر ببعضهن.. جاز؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر ببعض نسائه» . وإذا أراد أن يسافر ببعض نسائه.. أقرع بينهن؛ لما روت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه إذا أراد السفر، فأيتهن خرج سهمها.. خرج بها» وهو بالخيار: بين أن يكتب الأسماء ويخرج على السفر والإقامة، وبين أن يكتب السفر والإقامة ويخرج على الأسماء. فإذا خرج السفر على واحدة.. لم يلزمه المسافرة بها، بل لو أراد أن يدعها ويسافر وحده.. كان له ذلك. وإن أراد أن يسافر بغيرها.. لم يجز؛ لأن ذلك يبطل فائدة القرعة.
وإن اختار أن يسافر باثنتين، وعنده أكثر.. أقرع بينهن. فإن خرجت قرعة السفر على اثنتين.. سافر بهما، ويسوي بينهما في القسم في السفر، كما لو كان في الحضر.
وإذا سافر بها بالقرعة، فإن كان السفر طويلًا.. لم يلزمه القضاء للمقيمات. وإن كان السفر قصيرًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه القضاء للمقيمات، كالسفر الطويل.
والثاني: يلزمه؛ لأنه في حكم الحضر.
هذا مذهبنا. وقال داود: (يلزمه القضاء للمقيمات في الطويل والقصير) .(9/522)
دليلنا: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها ذكرت السفر ولم تذكر القضاء. ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم.
[فرع السفر بإحداهن بلا قرعة]
وإن سافر بواحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للمقيمات. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (لا يقضي) .
دليلنا: أنه خص بعض نسائه بمدة على وجه تلحقه فيه التهمة، فلزمه القضاء، كما لو كان حاضرًا.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : فلو قصد الرجوع إليهن.. فهل تحتسب عليه المدة من وقت القصد؟ فيه وجهان:
[فرع سافر بقرعة ثم أقام أو غير جهة السفر]
وإن سافر بواحدة منهن بالقرعة، ثم نوى الإقامة في بعض البلاد وأقام بها معه، أو لم ينو الإقامة إلا أنه أقام بها أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. قضى ذلك للباقيات؛ لأنه إنما لم يجب عليه أن يقضي مدة السفر، وهذا ليس بسفر.
وإن سافر بها إلى بلد، فلما بلغه.. عنَّ له أن يسافر بها إلى بلد آخر فسافر بها.. لم يقض للمقيمات؛ لأنه سفر واحد وقد أقرع له.
[فرع انتقل بواحدة فيقضي للبواقي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أراد النقلة.. لم يكن له أن ينتقل بواحدة إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها) . واختلف أصحابنا في تأويلها:(9/523)
فمنهم من قال: تأويلها إذا كان له نساء، فأراد النقلة إلى بلد، فنقل واحدة منهن معه، ونقل الباقيات مع وكيله إلى ذلك البلد، فلما وصل إلى ذلك البلد أقام مع التي نقلها.. فعليه أن يقضي للباقيات مدة إقامته مع التي نقلها بعد السفر دون مدة السفر؛ لأن مدة السفر لا تقضى.
وقال أبو إسحاق: تقضى مدة السفر ومدة الإقامة بعده؛ لأنه متى أراد نقل جميعهن.. فقد تساوت حقوقهن، فمتى خص واحدة بالكون معه.. لزمه أن يقضي للباقيات مدة الإقامة معها، كما لو أقام في الحضر معها، بخلاف السفر بإحداهن.
فعلى قول الأول.. يحتاج إلى القرعة. وعلى قول أبي إسحاق.. لا يحتاج إلى قرعة.
[فرع عنده اثنتان وزف إليه اثنتان معًا وأراد السفر أو سافر بإحداهما ثم تزوج]
] : إذا كان عنده امرأتان، فتزوج باثنتين وزفتا إليه في وقت واحد، وأراد السفر بإحداهن قبل أن يقضي حق العقد.. أقرع بينهن، فإن خرج السفر لإحدى الجديدتين.. سافر بها، ويدخل حق العقد في قسم السفر؛ لأن الأنس يحصل به.
فإذا قدم.. فهل يلزمه أن يقضي للجديدة الأخرى حق العقد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه، كما لو كانتا قديمتين، فسافر بإحداهما بالقرعة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يلزمه أن يقضيها حق العقد، وهو الصحيح؛ لأنه سافر بالأخرى بعدما استحقت الجديدة حق العقد، فيلزمه قضاؤها، كما لو كان تحته أربع نسوة، فقسم لثلاث منهن، ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل أن يقضي للرابعة حقها.
وإن خرجت قرعة السفر لإحدى القديمتين.. سافر بها.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإذا قدم.. قضى حق العقد للجديدتين. وينبغي أن يكون في ذلك وجهان كالأولى، ولعله أجاب على الأصح.
قال في (الأم) : (وإن كان له امرأتان، فسافر بإحداهما بالقرعة، فلما كان في(9/524)
بعض الطريق تزوج بأخرى، فإن سافر بهما.. قضى للجديدة حق العقد، ثم قسم بينها وبين القديمة. وإن أراد أن يسافر بإحداهما.. أقرع بينهما، فإذا خرج السفر للجديدة.. سافر بها وترك الأخرى، ودخل حق العقد في قسم السفر. وإن خرج السفر للقديمة.. سافر بها، فإذا رجع..قضى للجديدة حق العقد؛ لأنه سافر بها بعد وجوبه عليه) . وهذا يدل: على صحة قول أبي إسحاق في التي قبلها.
[مسألة هبة المرأة قسمها]
] : ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج سودة بنت زمعة بعد موت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكان يقسم لها، فلما كبرت وأسنت.. هم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطلاقها، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني ودعني حتى أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لأختي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فتركها، فكان يقسم لكل واحدة ليلة ليلة ولعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» .
إذا ثبت هذا: فإن القبول فيه إلى الزوج؛ لأن الحق له، ولا يصح ذلك إلا برضاه؛ لأن الاستمتاع حق له عليها، ولا يعتبر فيه رضا الموهوبة؛ لأن ذلك زيادة في حقها.
فإن كانت ليلة الواهبة توالي ليلة الموهوبة.. والاهما لها. وإن كانتا غير متواليتين.. فهل للزوج أن يواليهما من غير رضا الباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن لها ليلتين، فلا فائدة في تفريقهما.
والثاني: ليس له ذلك، وهو المذهب، ولم يذكر غيره؛ لأنها قائمة مقام الواهبة.
وإن وهبتها لزوجها.. جاز له أن يجعلها لمن شاء من نسائه؛ لأن الحق له. فإن جعلها لواحدة تلي ليلتها ليلة الواهبة، إما قبلها أو بعدها.. والاهما لها. وإن جعلها لمن لا تلي ليلتها.. فهل له أن يواليهما لها؟ على الوجهين. هكذا نقل البغداديون.(9/525)
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل للزوج أن يخص بها بعض نسائه؟ فيه وجهان.
وإن وهبتها لجميع ضرائرها.. صح ذلك، وسقط قسمها، وصارت كأن لم تكن.
فإن رجعت الواهبة في هبة ليلتها.. لم تصح رجعتها فيما مضى؛ لأنها هبة اتصل بها القبض. ويصح رجعتها في المستقبل؛ لأنها هبة لم يتصل بها القبض.
فإن لم يعلم الزوج برجعتها حتى قسم ليلتها لغيرها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم يكن لها بدلها. فإن أخذت عن ليلتها عوضًا من الزوج.. لم يصح؛ لأنه ليس بعين ولا منفعة لها. فترد العوض، ويقضيها الزوج حقها؛ لأنها تركت حقها بعوض ولم يسلم لها العوض) .
[مسألة القسم للإماء]
مسألة: [لا يجب القسم للإماء] : وإن كان له جماعة إماء.. لم يجب عليه القسم لهن ابتداء ولا انتهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء:3] ، فدل على: أنه لا يجب عليه العدل فيما ملكت يمينه. ولأنه لا حق لها في الاستمتاع، بدليل: أنه لو آلى منها أو ظاهر.. لم يصح، ولو وجدته عنينًا أو مجبوبًا.. لم يثبت لها الخيار.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يعضلهن؛ لئلا يفجرن. وله أن يفصل بعضهن عن بعض. والمستحب أن يساوي بينهن) .
وإن كان تحته إماء وزوجات، فبات عند بعض إمائه.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن قسم الإماء غير مستحق، فهو كما لو بات في المسجد.(9/526)
وله أن يطوف على إمائه بغسلٍ واحد،، وهو: أن يجامع واحدة بعد واحدة، ثم يغتسل.
وإن كان تحته زوجات.. فله أن يطوف عليهن بغسل واحد إذا حللنه عن ذلك في القسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوف على نسائه بغسل واحد» .
وبالله التوفيق(9/527)
[باب النشوز]
إذا ظهر من المرأة أمارات النشوز، بقول أو فعل.. وعظها.
فـ (أمارته بالقول) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها.. أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها.. أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها.. لا تجيب بالتلبية، وإذا خاطبها أو كلمها.. لا تجيبه بكلام جميل.
و (ظهور أمارته بالفعل) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش.. أجابته باشة طلقة الوجه، ثم صارت بعد ذلك تأتيه متكرهة. أو كان من عادتها إذا دخل إليها.. قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه.
فإذا ظهر له ذلك منها.. فإنه يعظها، ولا يهجرها ولا يضربها. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال الصيمري: إذا ظهرت منها أمارات النشوز.. فله أن يجمع بين العظة والهجران.
والأول هو المشهور؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا النشوز بفعله فيما بعد، ويحتمل أن يكون لضيق صدرٍ من غير جهة الزوج، أو لشغل قلبٍ.
وإن نشزت منه، بأن دعاها إلى فراشه فامتنعت منه، فإن تكرر ذلك الامتناع منها.. فله أن يهجرها، وله أن يضربها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] .(9/528)
وإن نشزت منه مرة واحدة.. فله أن يهجرها، وهل له أن يضربها؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يضربها- وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لأنها تستحق العقوبة على قدر جرمها؛ بدليل: أنها لا تستحق الهجران لخوف النشوز، فكذلك لا تستحق الضرب بالنشوز مرة واحدة.
فعلى هذا: يكون ترتيب الآية: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا نشزن، و: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا أصررن على النشوز.
والثاني: له أن يضربها، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] .
فظاهر الآية: أن له أن يفعل الثلاثة الأشياء لخوف النشوز، فدل الدليل على: أنه لا يهجرها ولا يضربها عند خوف النشوز، وبقيت الآية على ظاهرها إذا نشزت.
ولأنها معصية يحل هجرانها، فأحلت ضربها، كما لو تكرر منها النشوز.
إذا ثبت هذا: فـ (الموعظة) : أن يقول لها: ما الذي منعك عما كنت آلفه من برك، وما الذي غيرك، اتقي الله وارجعي إلى طاعتي؛ فإن حقي واجب عليك، وما أشبه ذلك.
و (الهجران) : هو أن لا يضاجعها في فراش واحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] ..
ولا يهجر بالكلام، فإن فعل.. لم يزد على ثلاثة أيام. فإن زاد عليها.. أثم؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام»(9/529)
وأما (الضرب) : فقال الشافعي: (لا يضربها ضربًا مبرحًا، ولا مدميًا، ولا مزمنًا، ويتقي الوجه) .
فـ (المبرح) : الفادح الذي يخشى تلف النفس منه، أو تلف عضو.
و (المدمي) : الذي يجرح، فيخرج الدم.
و (المزمن) : أن يوالي الضرب على موضع واحد؛ لأن القصد منه التأديب.
ويتوقى الوجه؛ لأنه موضع مجمع المحاسن. ويتوقى المواضع المخوفة.
قال الشافعي: (ولا يبلغ به حدّا) . ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به الأربعين؛ لأنها كحد الخمر أقل حدود الحد.
ومنهم من قال: لا يبلغ به العشرين؛ لأن العشرين حد في العبد؛ لأنه تعزير.
وليس للزوج أن يضرب زوجته على غير النشوز، بقذفها له أو لغيره؛ لأن ذلك إلى الحاكم. والفرق بينهما: أن النشوز لا يمكنه إقامة البينة عليه، بخلاف سائر جناياتها.
إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضربوا إماء الله» .
وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنا معشر قريش يغلب رجالنا نساءنا، فقدمنا المدينة، فوجدنا نساءهم تغلب رجالهم، فخالط نساؤنا نساءهم، فذئرن(9/530)
على أزواجهن، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: ذئر النساء على أزواجهن! فأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة، كلهن يشتكين أزواجهن، وما تجدون أولئك بخياركم» .
فإذا قلنا: يجوز نسخ السنة بالكتاب.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ضربهن، ثم نسخ الكتاب السنة يقوله: وَاضْرِبُوهُنَّ، ثم أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضربهن موافقًا للكتاب، غير أنه بين أن تركه أولى بقوله: "وما تجدون أولئك بخياركم ".
وإن قلنا: إن نسخ السنة لا يجوز بالكتاب.. احتمل أن يكون النهي عن ضربهن متقدمًا، ثم نسخه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأذن في ضربهن، ثم ورد الكتاب موافقًا للسنة في ضربهن.
ومعنى قوله: (ذئر النساء على أزواجهن) أي: اجترأن على أزواجهنِ.
قال الصيمري: وقيل في قَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] : سبع تأويلات.
إحداها: أن حل العقدة إليه دونها.
والثاني: أن له ضربها عند نشوزها.
والثالث: أن عليها الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وليس عليه ذلك.
الرابع: أن له منعها من الخروج، وليس لها ذلك.
الخامس: أن ميراثه منها على الضعف من ميراثها منه.
السادس: أنه لو قذفها.. كان له إسقاط حقها باللعان، وليس لها ذلك.
السابع: موضع الدرجة اشتراكهما في لذة الوطء، واختص الزوج بتحمل مؤونة الصداق والنفقة والكسوة وغير ذلك.(9/531)
[مسألة نشوز الزوج]
وأما إذا ظهر من الزوج أمارات النشوز، بأن يكلمها بكلام غير لين، أو لا يستدعيها إلى الفراش كما كان يفعل وغير ذلك.. فلا بأس أن تترك له بعض حقها من النفقة والكسوة والقسم؛ تطيب بذلك نفسه، وبذلك ورد قَوْله تَعَالَى:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 28] .
قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (نزلت هذه الآية في امرأة إذا دخلت في السن.. جعلت يومها لامرأة أخرى) .
وإن ظهر من الزوج النشوز، بأن منعها ما يجب لها من نفقة وكسوة وقسم وغير ذلك.. أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ ليستوفي لها حقها.
وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه النشوز بمنع ما يجب عليه.. أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ لكي يشرف عليهما، فإذا عرف الظالم منهما.. منعه من الظلم. وإن بلغ ما بينهما إلى الشتم أو إلى الضرب وتخريق الثياب.. بعث الحاكم حكمين ليجمعا بينهما أو يفرقا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] الآية [النساء: 35] .
وهل هما وكيلان من قبل الزوجين، أو حكمان من قبل الحاكم؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما وكيلان من قبل الزوجين - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لما روى(9/532)
عبيدة السلماني قال: جاء إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجل وامرأة، ومع كل واحد منهما فئام من الناس - يعني: جماعة - فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) ، ثم قال للحكمين: (أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا.. جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا.. فرقتما) ، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الرجل: أما الجمع: فنعم، وأما الفرقة: فلا، فقال علي: (كذبت: لا والله، لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك) ، فاعتبر رضاه.
ولأن الطلاق بيد الزوج، وبدل العوض بيد المرأة، فافتقر إلى رضاهما.
فعلى هذا: لا بد أن يوكل كل واحد منهما الحكم من قبله على الجمع أو التفريق.
والثاني: أنهما حكمان من قبل الحاكم. وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو الأشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] ، وهذا خطاب لغير الزوجين، وسماهما الله تعالى حكمين.
فعلى هذا: لا يفتقر إلى رضا الزوجين.
إذا ثبت هذا: فإن الحكمين يخلو كل واحد منهما بأحد الزوجين وينظر ما عنده، ثم يجتمعان ويتشاوران. فإن رأيا الجمع بينهما.. لم يتم إلا برضاهما.
وإن رأيا التفريق بينهما، فإن رأيا أن يفرقا فرقة بلا عوض.. أوقعها الحاكم من قبل الزوج. وإن رأيا أنهما يفرقان بينهما بعوض.. بذل الحاكم من قبلها العوض عليها، وأوقع الحاكم من قبل الزوج الفرقة.(9/533)
والمستحب: أن يكونا من أهلهما؛ للآية. ولأنهما أعلم بباطن أمرهما. وإن كان من غير أهلهما.. جاز؛ لأن الحاكم والوكيل يصح أن يكون أجنبيًا.
ولا بد أن يكونا من حرين مسلمين ذكرين عدلين؛ لأنا إن قلنا: إنهما حكمان.
فلا بد أن يكون الحكم بهذه الشرائط. وإن قلنا: إنهما وكيلان، إلا أنه توكيل من قبل الحاكم.. فلا بد أن يكونا كاملين.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إنهما حكمان.. فلا بد أن يكونا فقيهين. وإن قلنا: إنهما وكيلان.. جاز أن يكونا من العامة.
وإن غاب الزوجان أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما وكيلان.. صح فعلهما؛ لأن تصرف الوكيل يصح بغيبة الموكل. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يصح فعلهما؛ لأن الحكم لا يصح للغائب وإن صح الحكم عليه؛ لأن كل واحد منهما محكوم له وعليه.
وإن جنا أو أحدهما.. لم يصح فعلهما؛ لأنا إن قلنا: إنهما وكيلان.. بطلت وكالة من جن موكله. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. فإنهما يحكمان للشقاق، وبالجنون زال الشقاق.
وإن لم يرضيا أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يعتبر رضاهما، وإن قلنا: إنهما وكيلان.. لم يجبرا على الوكالة، فينظر الحاكم فيما يدعيه كل واحد منهما، فإذا ثبت عنده.. استوفاه له من الآخر.
وإن كان لهما أو لأحدهما حق على الآخر من مهر أو دين.. لم يصح للحكمين المطالبة به إلا بالوكالة قولا واحدًا، كالحاكم.
وبالله التوفيق(9/534)
[كتاب الخلع]
سمي الخلع خلعا؛ لأن المرأة تخلع نفسها منه، وهي لباس له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
ويسمى: الافتداء؛ لأنها تفتدي نفسها منه بما تبذله من العوض.
إذا ثبت هذا: فالخلع ينقسم ثلاثة أقسام: مباحين، ومحظور.
فـ (أحد المباحين) : إذا كرهت المرأة خلق الزوج أو خلقته أو دينه، وخافت أن لا تؤدي حقه، فبذلت له عوضا ليطلقها.. جاز ذلك وحل له أخذه بلا خلاف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .
وروى الشافعي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن حبيبة بنت سهل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى صلاة الصبح وهي على بابه، فقال: " من(10/7)
هذه؟ " فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، فقال: " ما شأنك " فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت - تعني: زوجها ثابت بن قيس - فلما جاء ثابت قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذه حبيبة تذكر ما شاء الله أن تذكر "، فقالت: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثابت: " خذ منها "، فأخذ منها، وجلست في أهلها» . وفي رواية غير الشافعي: (أنها اختلعت من زوجها) .
وقال الشيخ أبو إسحاق: جميلة بنت سهل.
وروي: «أن الربيع بنت معوذ بن عفراء اختلعت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
(القسم الثاني من المباح) : أن تكون الحال مستقيمة بين الزوجين، ولا يكره أحدهما الآخر، فتراضيا على الخلع.. فيصح الخلع، ويحل للزوج ما بذلت له. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.(10/8)
وقال النخعي، والزهري، وعطاء، وداود، وأهل الظاهر: (لا يصح الخلع، ولا يحل له ما بذلته) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] [النساء: 4] ، ولم يفرق. ولأن رفع عقد الزواج يجوز عند خوف الضرر، فجاز من غير ضرر، كالإقالة في البيع.
(القسم الثالث) : هو أن يضربها، أو يخوفها بالقتل، أو يمنعها نفقتها وكسوتها لتخالعه، فهذا المحظور؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] [النساء: 19] . و (العضل) : المنع.
فإن خالعته في هذه الحالة.. وقع الطلاق، ولا يملك الزوج ما بذلته على ذلك. فإن كان بعد الدخول.. كان رجعيا؛ لأن الرجعة إنما تسقط لأجل ملكه المال، فإذا لم يملك المال.. كان له الرجعة.
فإن ضربها للتأديب للنشوز فخالعته عقيب الضرب.. صح الخلع؛ لـ: «أن ثابت بن قيس كان قد ضرب زوجته، فخالعته مع علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحال، ولم ينكر عليهما» . ولأن كل عقد صح قبل الضرب صح بعده، كما لو حد الإمام رجلا ثم اشترى منه شيئا عقيبه.
قال الطبري: وهكذا لو ضربها لتفتدي منه، فافتدت نفسها منه عقيبه طائعة.. صح ذلك؛ لما ذكرناه.
وإن زنت فمنعها حقها لتخالعه، فخالعته.. ففيه قولان:(10/9)
أحدهما: أنه من الخلع المباح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، فدل على: أنها إذا أتت بفاحشة.. جاز عضلها.
والثاني: أنه من الخلع المحظور؛ لأنه خلع أكرهت عليه بمنع حقها، فهو كما لو أكرهها بذلك من غير زنا. وأما الآية: فقيل: إنها منسوخة بالإمساك بالبيوت، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] [النساء: 15] ، ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم.
[مسألة ما يصح الخلع به ومقداره]
] : ويصح الخلع بالمهر المسمى، وبأقل منه، وبأكثر منه. وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأكثر أهل العلم.
وقال طاوس، والزهري، والشعبي، وأحمد، وإسحاق: (لا يصح الخلع بأكثر من المهر المسمى) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق، ولأنه عوض مستفاد بعقد فلم يتقدر، كالمهر والثمن.
ويصح بالدين والعين والمنفعة، كما قلنا في المهر.
[مسألة: لا يحق للأب تطليق زوجة ابنه القاصر]
] : ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة ابنه الصغير أو المجنون بعوض ولا بغير عوض.
وقال الحسن وعطاء وأحمد: (له أن يطلقها بعوض وبغير عوض) .
وقال مالك: (له أن يطلقها بعوض، ولا يصح بغير عوض) .(10/10)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» . ولأن في ذلك إسقاط حقه من النكاح، فلم يصح من الأب، كالإبراء عن دينه.
[فرع: طلب الأب من ختنه طلاق ابنته ويبرئه من مهرها]
وإن قال رجل لآخر: طلق ابنتي وأنت بريء من مهرها، أو على أنك براء من مهرها، فطلقها الزوج.. وقع الطلاق، ولا يبرأ من مهرها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة؛ لأنها إن كانت كبيرة.. فلأنه لا يملك التصرف في مالها. وإن كانت صغيرة.. فلا يجوز له التصرف في مالها بما لا حظ لها فيه. ولا يلزم الأب شيء للزوج؛ لأنه لم يضمن له.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الولي الذي بيده عقدة النكاح.. صح إذا كانت صغيرة أو مجنونة. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا الإبراء قبل الطلاق.
وإن قال: طلقها وأنت بريء من مهرها وعلي ضمان الدرك، أو إذا طالبتك فأنا ضامن، فطلقها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يبرأ الزوج من المهر، ويكون له الرجوع على الأب، وبماذا يرجع عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: بمهر مثلها.
والثاني: بمثل مهرها المسمى. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: طلقها على أنك بريء من مهرها، فطلقها.. لم يقع الطلاق. وأما إذا قال: وأنت بريء من صداقها وأنا ضامن، أو إذا طالبتك فأنا ضامن.. ففيه وجهان، بناء على القولين فيمن بيده عقدة النكاح.(10/11)
ولو خالعه الأب بعين من أعيان مالها، وضمن الأب دركها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يملك الزوج العين. وبماذا يرجع على الأب؟ على قولين:
أحدهما: بمهر مثلها.
والثاني: ببدل العين. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كان الزوج جاهلا بأنها من مالها.. فسد العوض، وفيما يرجع به على الأب قولان. وإن علم أنها من مالها، فإن نسب الأب ذلك إلى مالها.. وقع الطلاق رجعيا. وإن أطلق.. فوجهان:
أحدهما: يقع رجعيا؛ لأنه قد علم أنه من مالها.
والثاني: يقع بائنا، ولا يملك العين. وبماذا يرجع على الأب؟ على القولين؛ لأنه إذا لم يضف ذلك إلى مالها.. احتمل انتقال ملكها إلى الأب.
[مسألة: لا تخالع السفيهة]
] : ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشيء من مالها ولا في ذمتها، سواء أذن لها الولي أو لم يأذن؛ لأنه لا حظ لها في ذلك. فإن فعلت ذلك.. وقع الطلاق رجعيا؛ لأن الرجعة لا تسقط؛ لأن الزوج يملك العوض، ولم يملكه.
[فرع: جواز مخالعة العبد والمكاتب]
] : ويجوز للعبد أن يخالع زوجته بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنه يملك أن يطلقها بغير عوض بغير إذن سيده، فلأن يملك ذلك بالعوض أولى. ولكن لا يجوز للزوجة أن تسلم العوض إليه بغير إذن سيده؛ لأنه ملك للسيد، فإن أذن لها في تسليم المال إلى العبد فسلمته إليه.. برئت بذلك.(10/12)
ويجوز للمكاتب أن يخالع زوجته بإذن السيد وبغير إذنه؛ لما ذكرناه في العبد. ويجوز له أن يقبض المال منها بغير إذن سيده؛ لأنه من أهل القبض.
[فرع: الإذن للأمة والمكاتبة بالمخالعة]
] : وإذا أذن السيد لأمة أن تخالع زوجها.. فإطلاق إذنه ينصرف إلى الخلع بمهر مثلها.
فإذا خالعت بمهر مثلها أو أقل في ذمتها.. صح ذلك. فإن كانت مأذونا لها في التجارة.. أدت المال مما في يدها. وإن كانت مكتسبة.. أدت العوض من كسبها. وإن كانت غير مكتسبة ولا مأذون لها.. ثبت ذلك في ذمتها إلى أن تعتق.
وقال المسعودي [في الإبانة] : هل يكون السيد ضامنا له بإذنه لها؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا أذن لعبده في النكاح، وكان العبد غير مأذون له ولا مكتسب.
وإن اختلعت على أكثر من مهر مثله.. كان مهر مثلها في كسبها، وكانت الزيادة على مهر مثلها في ذمتها إلى أن تعتق.
وإن اختلعت بغير إذن سيدها.. صح الخلع. فإن كان بعوض في ذمتها.. كان ذلك في ذمتها إلى أن تعتق. وإن كان على عين في يدها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يملك الزوج العين؛ لأنها ملك للسيد. وهل يرجع عليها بمهر مثلها، أو ببدل العين في ذمتها إلى أن تعتق؟ على القولين.
وإن خالعت المكاتبة زوجها بغير إذن سيدها.. فهي كالأمة إذا اختلعت بغير إذن سيدها.
وإن كان بإذن سيدها.. فقد نص الشافعي: (أنه لا يصح الخلع) . وأراد تسمية العوض، وأما الطلاق: فيقع. وقال: (إذا وهبت لغيرها عينا في يدها بإذن سيدها.. هل يصح؟ فيه قولان) .(10/13)
فـ[الأول] : من أصحابنا من قال: في الخلع قولان، كالهبة، وإنما نص على أحدهما.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح إذنه في عوض الخلع قولا واحدا. والفرق بينهما: أن في الهبة يحصل الثواب لهما جميعا، والخلع إنما يستفاد به رجوع البضع إليها، فلا يجوز أن يشاركها السيد في العقد وتنفرد هي بملك البضع.
فإن قلنا: لا يصح.. فهو كما لو اختلعت بغير إذن سيدها.
وإن قلنا: يصح، فإن قدر لها العوض فزادت عليه.. كانت الزيادة في ذمتها تتبع بها إذا عتقت، والمأذون فيه فيما بيدها أو بكسبها.
وإن أطلق الإذن.. اقتضى ذلك مهر مثلها. فإن زادت عليه.. كانت الزيادة في ذمتها، وقدر مهر مثلها فيما بيدها أو بكسبها.
[مسألة: طلب الأجنبي الطلاق أو الخلع على مال]
] : إذا قال رجل لآخر: طلق امرأتك بألف علي، فطلقها.. وقع الطلاق بائنا، واستحق الزوج الألف على السائل.
وبه قال عامة أهل العلم، إلا أبا ثور فإنه قال: (يقع الطلاق رجعيا، ولا يستحق على السائل عوض) .
دليلنا: أن الزوج له حق على المرأة يجوز لها أن تسقطه عن نفسها بعوض، فجاز ذلك لغيرها، كما لو كان عليها دين.
قال المسعودي [في الإبانة] : وإن سأل رجل امرأة أن تختلع من زوجها على ألف، فاختعلت.. فإن الألف على السائل.(10/14)
[مسألة: صحة الخلع في الحيض ومن غير حاكم]
] : ويصح الخلع في الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق. وخالعت حبيبة بنت قيس زوجها بإذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يسألها: هل هي حائض أم طاهر؟ فدل على: أن الحكم لا يختلف.
ويصح الخلع من غير حاكم. وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحسن البصري وابن سيرين: لا يصح إلا بالحكم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق. ولأنه عقد معاوضة، فصح من غير حاكم، كالبيع والنكاح.
[مسألة: الخلع بصريح أو كنايات الطلاق]
] : إذا خالعها بصريح الطلاق، أو بشيء من كنايات الطلاق ونوى به الطلاق.. فهو طلاق ينقص به عدد الطلاق.
وإن خالعها بلفظة الخلع ولم ينو به الطلاق.. ففيه قولان:
أحدهما - وهو قوله في القديم -: (أنه فسخ) . وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر، والمسعودي [في الإبانة] ؛ لأنه نوع فرقة لا تثبت فيه الرجعة بحال، فكان فسخا، كما لو أعتقت الأمة تحت عبد ففسخت النكاح.
فعلى هذا: لا ينقص به عدد الطلاق، بل لو خالعها ثلاث مرات وأكثر.. حلت له قبل زوج.(10/15)
والثاني: (أنه طلاق) . وبه قال عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه؛ لأنه فرقة لا تفتقر إلى تكرار اللفظ، ولا تنفرد به المرأة، فكان طلاقا كصريح الطلاق.
فقولنا: (لا تفتقر إلى تكرار) احتراز من اللعان. وقولنا: (لا تنفرد به المرأة) احتراز من الردة.
فإذا قلنا بهذا: فهل هو صريح أو كناية؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " الإملاء ": (هو صريح في الطلاق؛ لأن دخول العوض فيه كدخول النية في كنايات الطلاق) .
و [الثاني] : قال في " الأم ": (هو كناية في الطلاق، فلا يقع به الطلاق إلا بالنية، كسائر كنايات الطلاق) .
فإذا قلنا: إنه طلاق.. نقص به عدد الطلاق.
وإذا قلنا: إن الخلع فسخ.. كان صريحه: الخلع والمفاداة؛ لأن الخلع وردت به السنة وثبت له عرف الاستعمال، والمفاداة ورد بها القرآن وثبت لها عرف الاستعمال.
وإن قالت: فاسخني على ألف، أو افسخني بألف، فقال: فاسختك أو فسختك.. فهل هو صريح في الفسخ، أو كناية فيه؟ على وجهين:
أحدهما: أنه كناية في الفسخ، فلا يقع به الفسخ حتى ينويا الفسخ؛ لأنه لم يثبت له عرف الاستعمال، ولم يرد به الشرع.(10/16)
والثاني: أنه صريح فيه، فينفسخ النكاح من غير نية، وهو الأصح؛ لأنه حقيقة فيه ومعروف في عرف أهل اللسان.
وإن قالت: خلني على ألف، أو بتني على ألف، وغير ذلك من كنايات الطلاق، فقال: خليتك أو بتتك، ولم ينويا الطلاق، فإن قلنا: إن الخلع صريح في الطلاق بدخول العوض.. صارت هذه الكنايات صريحة في الطلاق بدخول العوض فيها.
وإن قلنا: إن الخلع كناية في الطلاق، فإن نويا الطلاق في هذه الكنايات.. كان طلاقا بائنا واستحق العوض.
وإن لم ينويا الطلاق.. لم يقع الطلاق ولم يستحق العوض؛ لأن الكناية لا يقع بها الطلاق من غير نية. وإن نوت الطلاق ولم ينو الزوج.. لم يقع الطلاق؛ لأنه هو الموقع. وإن نوى الزوج الطلاق ولم تنو هي.. ففيه وجهان، وحكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يقع طلقة رجعية ولا يستحق العوض؛ لأنه نوى الطلاق ولم يوجد منها استدعاء الطلاق.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يقع طلاقا؛ لأنه أوقعه بعوض، فإذا لم يثبت العوض.. لم يقع به الطلاق.
وإن قلنا: إن الخلع فسخ ونويا بهذا الكنايات الفسخ.. فهل ينفسخ النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينفسخ؛ لأن الفسخ لا يصح تعليقه بالصفة، فلم يصح بالكناية.
والثاني: ينفسخ، وهو المذهب؛ لأنه أحد نوعي الفرقة، فانقسم إلى الصريح والكناية، كالطلاق.
وإن خالعها بصريح الخلع ونويا به الطلاق، فإن قلنا: إن الخلع صريح في الطلاق، أو كناية فيه.. وقع الطلاق.(10/17)
وإن قلنا: إنه فسخ.. فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يقع به الطلاق، ويكون فسخا؛ لأنه صريح في الفسخ، فلم يجز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح، كما لا يجوز أن يكون الطلاق كناية في الظهار.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنه يقع به الطلاق؛ لأنه يحتمل الطلاق، وقد اقترنت به نية الطلاق.
[فرع: طلبت الخلع عن عوض فطلقها وعكسه]
] : إذا قالت: خالعني على ألف ونوت به الطلاق، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق بائنا واستحق الألف، سواء قلنا: الخلع صريح في الطلاق أو كناية؛ لأنا إن قلنا: إنه صريح.. فقد أجابها إلى ما سألت. وإن قلنا: إنه كناية.. فقد سألت كناية وأجابها بالصريح، فكان أكثر مما سألت.
وإن قالت: طلقني على ألف، فقال: خالعتك ونوى به الطلاق، وقلنا: إنه صريح في الطلاق.. استحق الألف.
وقال ابن خيران: إذا قلنا: إنه كناية.. لم يقع عليها طلاق ولم يستحق الألف؛ لأنها بذلت الألف للصريح ولم يجبها إليه.
والأول أصح؛ لأن الكناية مع النية كالصريح.
وإن لم ينو به الطلاق.. لم يقع به طلاق ولا فسخ؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت.
وإن قالت: اخلعني على ألف، فقال: طلقتك على ألف، وقلنا: الخلع فسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع عليه طلاق ولا يستحق عوضا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت.
والثاني: يقع عليها الطلاق ويستحق الألف؛ لأنه أجابها إلى أكثر ما سألت منه.(10/18)
[فرع: الخلع من غير ذكر العوض]
] : وإن قال: خالعتك، فقالت: قبلت، ولم تذكر العوض، فإن قلنا: الخلع طلاق، فإن نوى به الطلاق.. وقع عليها رجعيا ولا شيء عليها؛ لأنها لم تلتزم له عوضا.
وإن قلنا: إن الخلع فسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون هذا شيئا؛ لأنه لم يذكر المال.
والثاني: أنه خلع فاسد، فيلزمها مهر مثلها؛ لأنه قد وجد اللفظ الصريح في الخلع.
وهكذا: لو قال: بعتك هذا العبد، فقال: قبلت، ولم يذكر الثمن، فقبضه المشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس ببيع، فيكون أمانة في يد المشتري.
والثاني: أنه بيع فاسد، فيضمنه بالقبض.
[مسألة: صحة الخلع منجزا ومعلقا]
] : يصح الخلع منجزا؛ لما فيه من المعاوضة. ويصح معلقا بشرط؛ لما فيه من الطلاق.
فـ (المنجز) : أن يوقع الفرقة بعوض، مثل أن يقول الزوج: طلقتك، أو خالعتك، أو خلعتك، أو فاديتك، أو فديتك بألف، فتقول الزوجة عقيب قوله: قبلت، كما يقول البائع: بعتك هذا بألف، ويقول المشتري: قبلت. وللزوج أن يرجع في الإيجاب قبل القبول، كما قلنا في البيع.
فإن قالت الزوجة: طلقني بألف، فقال الزوج عقيب استدعائها: طلقتك، أو قالت: اخلعني أو خالعني بألف، فقال عقيب استدعائها: خلعتك أو خالعتك.. صح، كما يقول المشتري: بعني هذا بألف فيقول البائع: بعتك. فإن تأخرت إجابته لها(10/19)
على الفور.. بطل الاستدعاء، ولها أن ترجع قبل أن يجيبها، كما قلنا في المشتري.
فإن قالت الزوجة: خالعتك بألف، فقال الزوج: قبلت.. لم يصح ولم يقع بذلك فرقة؛ لأن الإيقاع إليه دونها، وقوله: قبلت ليس بإيقاع، فهو كما لو قالت له: طلقتك بألف، فقال: قبلت.
وإن قالت له: إن طلقتني، أو إذا طلقتني، أو متى طلقتني، أو متى ما طلقتني فلك علي ألف، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق بائنا، واستحق الألف عليها؛ لأنه الطلاق لا يحتاج إلى استدعائها ورضاها به. ولهذا: لو طلقها بنفسه.. صح. وإنما الذي يحتاج إليه منها هو التزامها للمال وقد وجد الالتزام منها. ويعتبر أن يكون جوابه على الفور؛ لأنه معاوضة محضة من جهتها، فاقتضى الجواب على الفور.
وإن قال: إن بعتني هذا فلك ألف.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في الإبانة] :
أحدهما: يصح، كما قلنا في الخلع.
والثاني: لا يصح، وهو المشهور؛ لأن البيع تمليك يحتاج فيه إلى رضا المملك، وقوله: إن بعتني، ليس بقبول ولا جار مجراه.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إن قالت له: أجزت لك ألفا لتطلقني أو على أن تطلقني، فقال: أنت طالق.. طلقت، واستحق عليها الألف.
وقال ابن الصباغ: إذا استأجرته على أن يطلق ضرتها.. لم يصح.
وأما (المعلق) : فمثل أن يعلق الطلاق على ضمان مال أو إعطاء مال، فينظر فيه:
فإن كان بحرف (إن) مثل أن يقول: إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق، فإن قالت: ضمنت لك، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق؛ لأنه وجد الشرط. وإن تأخر الجواب عن قوله بزمان طويل أو بعد أن أخذت في كلام.. لم يقع(10/20)
الطلاق، ولم يلزمها الألف؛ لأنه معاوضة، ومن شرطها القبول فيه على الفور. وإن ضمنت له في المجلس بعد زمان ليس بطويل.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، قال: وظاهر النص: أنه يلزم ذلك.
وإن قال: إن أعطيتني ألفا.. فأنت طالق، فأعطته ألفا، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق، ويكفي أن تحضر الألف وتأذن له في قبضها، سواء أخذها أو لم يأخذها؛ لأنه يقع عليها اسم العطية. وإن تأخرت العطية عن الفور بسبب منها، بأن لم تعطه إياها، أو بسبب منه، بأن غاب أو هرب.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإذا أخذ الألف.. فهل يملكها؟
قال عامة أصحابنا: يملكها؛ لأنه معاوضة، فملكها كما لو قال: طلقتك على هذه الألف، فقالت: قبلت.
وحكى أبو علي السنجي فيها وجهين:
أحدهما: يملكها؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يملكها، وهو قول المزني وابن القاص؛ لأنه معاوضة، فلم يصح تعليقها على الصفة، كالبيع.
فعلى هذا: يرد الألف إليها ويرجع عليها بمهر مثلها. والأول هو المشهور.
فإن قال: إن قبضت منك ألفا.. فأنت طالق، فجاءته بألف ووضعته بين يديه وأذنت له في قبضه، فلم يقبضه.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن أكرهها على الإقباض فقبض.. قال المسعودي [في الإبانة] : وقع الطلاق رجعيا، ورد المال إليها.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويصح رجوع الزوج قبل الضمان والعطية، كما قلنا فيما عقد بلفظ المعاوضة.
فإن قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق إن شئت، فإن وجدت المشيئة منها(10/21)
بالقول جوابا لكلامه على الفور.. وقع الطلاق بائنا، ولزمها الألف؛ لأنه علق الطلاق بالمشيئة منها وقد وجدت. وإن تأخرت مشيئتها عن الفور.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد؛ لأنه لم يرض بطلاقها إلا بعوض ولا يلزم العوض إلا بالقبول على الفور.
وإن قالت: طلقني بألف، فقال لها: طلقي نفسك إن شئت، فإن قالت: طلقت نفسي.. طلقت، ولزمها الألف. ولا يشترط أن تقول: شئت؛ لأن طلاقها لنفسها يدل على مشيئتها.
وإن كان ذلك بحرف من الحروف التي لا تقتضي الفور، كقوله: متى ضمنت لي ألفا.. فأنت طالق، أو متى ما ضمنت لي، أو أي وقت ضمنت لي، أو أي حين ضمنت لي، أو أي زمان، فمتى ضمنت له على الفور أو على التراخي.. وقع عليها الطلاق؛ لأن هذه الألفاظ تستغرق الزمان كله وتعمه في الحقيقة، بخلاف (إن) : فإنه لا يعم الزمان ولا يستغرقه، وإنما هو كلمة شرط يحتمل الفور والتراخي، إلا أنه لما قرن به العوض.. حمل على الفور؛ لأن المعاوضة تقتضي الفور.
فإن رجع الزوج قبل الضمان.. لم يصح رجوعه؛ لأنه تعليق طلاق بصفة، فلم يصح رجوعه كما لو قال لها: إن دخلت الدار.. فأنت طالق.
وإن كان ذلك بحرف (إذا) ، بأن قال: إذا أعطيتني ألفا، أو إذا ضمنت لي ألفا فأنت طالق.. فقد ذكر أكثر أصحابنا: أن حكمه حكم قوله: إن ضمنت لي ألفا، أو إن أعطيتني ألفا؛ لأنها كلمة شرط لا تستغرق الزمان، فهي كقوله: إن ضمنت لي.
وقال الشيخ أبو إسحاق: حكمه حكم قوله: متى ضمنت لي، أو أي وقت ضمنت لي؛ لأنها تفيد ما تفيده متى، وأي وقت، ولهذا: لو قال: متى ألقاك.. جاز أن يقول: إذا شئت، كما يجوز أن يقول: متى شئت، وأي وقت شئت. بخلاف (إن) : فإنها لا تفيد ما تفيد متى، ولهذا: لو قال له: متى ألقاك.. لم يجز أن يقول: إن شئت. وهكذا إذا قال: أنت طالق أن أعطيتني ألفا - بفتح الهمزة - وقع الطلاق في الحال، وتقديره: لأجل أنك أعطيتني ألفا.(10/22)
وإن قال: أنت طالق إذ أعطيتني ألفا.. وقع عليها الطلاق وكان مقرا: بأنها أعطته ألفا، فترد إليها.
[فرع: شرط عليها ضمان مبلغ وتطليق نفسها]
] : إذا قال لها: إن ضمنت لي ألفا فطلقي نفسك.. فإنه يقتضي ضمانا وتطليقا على الفور، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه. وسواء قالت: ضمنت الألف وطلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي وضمنت الألف.. فإنه يصح؛ لأنه تمليك بعوض، فكان القبول فيه على الفور، كالنكاح والبيع.
[فرع: الطلاق المؤجل على عوض]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أخذ منها ألفا على أن يطلقها إلى شهر، فطلقها.. فالطلاق ثابت، ولها الألف، وعليه مهر المثل) .
قال أصحابنا: وهذا يحتمل ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه أراد إذا مضى الشهر طلقها.. فلا يصح؛ لأنه سلف في الطلاق.
الثاني: أنه أراد أن يطلقها الآن، ثم يرفع الطلاق بعد شهر.. فلا يصح؛ لأن الطلاق إذا وقع.. لم يرتفع.
الثالث: أنه أراد أن يطلقها إن شاء الساعة، وإن شاء إلى مضي شهر.. فلا يصح لأنه سلف في الطلاق، ولأن وقت إيقاع الطلاق مجهول.
وإن قالت له: إذا جاء رأس الشهر وطلقتني.. فلك علي ألف، فطلقها عند رأس الشهر، أو قال لها: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت طالق على الألف، فقالت قبلت.. ففيه وجهان:(10/23)
أحدهما: يصح؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على الصفات.
الثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن المعاوضة لا يصح تعليقها على الصفات. فإذا قلنا: يصح.. قال ابن الصباغ: وجب تسليم العوض في الحال؛ لأنها رضيت بتأجيل المعوض.
وإن قلنا: لا يصح، فأعطته ألفا.. وقع عليها الطلاق، وردت الألف إليها، ورجع عليها بمهر مثلها.
[مسألة: الخلع المنجز على العوض المملوك أو الفاسد]
] : وإن خالعها خلعا منجزا على عوض معلوم بينهما تملكه.. صح الخلع وملك العوض بالعقد. فإن هلك العوض قبل القبض.. رجع عليها ببدله، وفي بدله قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد.. (مهر مثلها) .
و [الثاني] : قال في القديم: (مثل العوض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل) . كما قلنا في الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل القبض.
وإن خالعها على خمر، أو خنزير، أو شاة ميتة، وما أشبه ذلك فيما لا يصح بيعه.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: (يقع الطلاق، ولا يرجع عليها بشيء) .
دليلنا: أن هذا عقد على البضع، وإذا كان المسمى فاسدا.. وجب مهر مثلها، كما لو نكحها على ذلك.
وإن خالعها على ما في هذا البيت من المتاع ولا شيء فيه.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يرجع عليها بمثل المتاع المسمى) .
دليلنا: أنه عقد على البضع بعوض فاسد، فوجب مهر المثل، كما لو سمى ذلك في النكاح.(10/24)
وإن قال: خالعتك على ما في هذه الجرة من الخل، فبان خمرا.. وقع الطلاق بائنا. قال الشافعي في " الأم ": (وله مهر مثلها) .
قال أصحابنا: ويحكى فيه القول القديم: (أنه يرجع عليها بمثل الخل) .
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الخل مجهول فلا يمكن الرجوع إليه. هذا مذهبنا.
وقال أحمد: (يرجع عليها بقيمة الخل) .
دليلنا: ما مضى في التي قبلها.
[مسألة: خالعها على شرط رضاع وحضانة ولده]
] : إذا خالع امرأته على أن ترضع ولده وتحضنه وتكفله بعد الرضاع، وبين مدة الرضاع، وقدر الطعام وصفته، والأدم وصفته، وكم يحل منه في كل يوم، وكان الطعام والأدم مما يجوز السلم فيه، وبين مدة الكفالة بعد الرضاع.. فالمنصوص (أنه يصح) .
ومن أصحابنا من قال: هل يصح العوض؟ فيه قولان؛ لأن هذا جمع أصولا للشافعي في كل واحد منها قولان:
أحدها: البيع والإجارة؛ لأن في هذا إجارة الرضاع، وابتياعا للنفقة.
والثاني: السلم على شيئين مختلفين.
والثالث: فيه السلم على شيء إلى آجال.
والصحيح: يصح قولا واحدا؛ لأن السلم والبيع إنما لم يصح على أحد القولين؛ لأن كل واحد منهما مقصود، والمقصود هاهنا هو الرضاع والباقي تبع له، ويجوز في التابع ما لا يجوز في غيره، ألا ترى أنه يجوز أن يشتري الثمرة على الشجرة مع الشجرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، ولو اشترى الثمرة وحدها.. كذلك لم يصح.(10/25)
وأما السلم على شيء إلى آجال، وعلى شيئين إلى أجل.. فإنما لم يصح؛ لأنه لا حاجة به إليه، وهاهنا به إلى هذا حاجة؛ لأنه كان يمكنه أن يسلم على كل واحد وحده، وهاهنا لا يمكنه الخلع على ذلك مرتين.
إذا ثبت هذا: فإن عاش الولد حتى استكمل مدة الرضاع وحل وقت النفقة.. فللأب أن يأخذ كل يوم قدر ما يحل عليها من النفقة والأدم فيه، فإن شاء أخذه لنفسه وأنفق على ولده من ماله، وإن شاء أنفقه على ولده. فإن كان ذلك أكثر من كفاية الولد. كانت الزيادة للأب. وإن كان أقل من كفاية الولد. كان على الأب تمام نفقة الولد.
وإن أذن لها في إنفاق ذلك على الولد.. فقد قال أكثر أصحابنا: يصح ذلك، كما لو كان في ذمته لغيره دين فأمره بدفعه إلى إنسان.. فإنه يبرأ بدفعه إليه، وسواء كان المدفوع إليه ممن يصح قبض أو ممن لا يصح قبضه، كما لو كان له في يده طير فأمره بإرساله.
وقال ابن الصباغ: يكون في ذلك وجهان، كالملتقط إذا أذن له الحاكم في إنفاق ماله على اللقيط.
وإن مات الصبي بعد استكماله الرضاع دون مدة النفقة.. لم يبطل العوض؛ لأنه قد استوفى الرضاع، ويمكن الأب أخذ النفقة، فيأخذ ما قدره من النفقة. وهل يحل عليها ذلك بموت الولد، أو لا يستحق الأب أخذه إلا على نجومه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحل عليها، فيطالبها به الأب؛ لأن تأجيله إنما كان لحق الولد.
والثاني: لا يستحق أخذه إلا على نجومه، وهو الأصح؛ لأنه وجب عليها هكذا، وإنما مات المستوفي.
وإن مات الصبي بعد أن رضع حولا، وكانت مدة الرضاع حولين.. فهل تنفسخ الإجارة في الحول الثاني، أو لا تنفسح بل يأتيها بصبي آخر لترضعه؟
قال المسعودي [في الإبانة] : إن لم يكن الصبي الميت منها.. لم تنفسخ الإجارة قولا واحدا، بل يأتيها بصبي آخر لترضعه. وإن كان الولد الميت منها.. فهل تنفسح(10/26)
الإجارة، أو لا تنفسح بل يأتيها بصبي آخر لترضعه؟ فيه قولان.
والفرق بينهما: أنها تدر على ولدها ما لا تدر على غيره. وسائر أصحابنا حكوا القولين من غير تفصيل.
أحدهما: لا تنفسخ، فيأتيها بصبي آخر؛ لأن الصبي الميت مستوفى به، فلم تبطل الإجارة بموته، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد فمات قبل أن يستوفي الركوب.
والثاني: ليس له أن يأتيها بغيره، بل تنفسخ الإجارة؛ لأن الرضاع يتقدر بحاجة الصبي إليه، وحاجتهم تختلف، فلم يقم غيره مقامه، بخلاف الركوب، ولأنه عقد على إيقاع منفعة في عين، فإذا تلفت تلك العين.. لم يقم غيرها مقامها، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد فماتت.
فإذا قلنا بهذا، أو قلنا بالأول، ولم يأت بمن يقيمه مقامه.. انفسخ العقد في الحول الثاني. وهل ينفسخ في الحول الأول وفيما بقي من العوض؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن استأجر عينا حولين فتلفت في أثنائها.
فإن قلنا: لا يبطل العقد في الحول الأول ولا في النفقة.. فقد استوفى الرضاع في الحول الأول، وله أن يستوفي النفقة. وهل يحل جميعها عليها، أو يستوفيها على نجومها؟ على الوجهين. وأما الحول الثاني: فقد انفسخ العقد فيه، وبماذا يرجع عليها؟ فيه قولان:
أحدهما: بأجرة الحول الثاني.
والثاني: بقسطه من مهر المثل.
فعلى هذا: يقسم مهر المثل على أجرة الرضاع في الحولين وعلى قيمة النفقة والأدم، فما قابل أجرة الحول الثاني.. أخذه، وما قابل غيره.. لم يستحقه عليها.
وإن قلنا: يبطل العقد عليها في الجميع.. رجع عليها بمهر مثلها، ورجعت عليه بأجرة رضاعها في الحول الأول.
وإن قلنا: له أن يأتيها بولد آخر، فإن أتاها به.. فحكمه حكم الأول. وإن أمكنه(10/27)
أن يأتي به، فلم يفعل حتى مضى الحول الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط حقه من إرضاعها في الحول الثاني؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه وفوته باختياره، فهو كما لو اكترى دابة ليركبها شهرا، فحبسها حتى مضى الشهر ولم يركبها.
والثاني: لا يسقط حقه؛ لأن المستحق بالعقد إذا تعذر تسليمه حتى تلف.. لم يسقط حق مستحقه، سواء كان بتفريط منه أو بغير تفريط، كما لو اشترى عبدا وقدر على قبضه فلم يقبضه حتى مات في يد البائع، بخلاف الدابة؛ فإن منفعتها تلفت تحت يده.
وإن ماتت المرأة.. نظرت: فإن ماتت بعد الرضاع.. لم يبطل العقد، بل يستوفي النفقة من مالها. وإن ماتت قبل الرضاع أو في أثنائه، أو انقطع لبنها.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الرضاع؛ لأن المعقود عليه إرضاعها، وقد تعذر ذلك، فبطل العقد، كما لو استأجر دابة ليركبها فماتت قبل استيفاء الركوب. وهل يبطل العقد فيما بقي من العوض؟ على الطريقين فيمن استأجر عبدا سنة فمات في يده في أثنائها، والتفريع على الطريقين كما مضى.
وإن خالعها على خياطة ثوب، فهلك الثوب قبل الخياطة.. فهل يبطل العقد، أو لا يبطل العقد ويأتيها بثوب آخر لتخيطه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الصبي إذا مات.
[مسألة: علق طلاقها بشرط حصوله على عبد]
] : وإن قال: إن أعطيتني عبدا فأنت طالق، فأعطته على الفور عبدا تملكه، صغيرا كان أو كبيرا، سليما كان أو معيبا.. فإنها تطلق؛ لوجود الصفة، ولا يملكه؛ لأنه مجهول، ويرجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا؛ لأنه مجهول.
وإن أعطته عبدا مكاتبا، أو مغصوبا، أو مرهونا.. لم تطلق؛ لأن إطلاق العطية إنما ينصرف إلى عبد يصح تملكه، وهذا مما لا يصح تملكه، فلم يوجد الشرط.(10/28)
وإن قال: إن أعطيتني عبدا من صفته كذا وكذا - ووصفه بالصفات التي يصح السلم فيها على العبيد - فأعطته عبدا على الفور بتلك الصفات، فإذا قبضه.. طلقت عليه؛ لوجود الصفة. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه وبين أن يرده؛ لأن إطلاق العبد يقتضي السليم. فإن أمسكه.. استقر ملكه عليه، وإن رده.. رجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في القول الجديد، كما لو خالعها على عبد معين فتلف في يدها قبل القبض. وإن أعطته عبدا ناقصا عن الصفات التي وصفها.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد.
وإن خالعها على عبد موصوف في ذمتها خلعا منجزا.. وقعت الفرقة بينهما بالإيجاب والقبول. فإن دفعت إليه عبدا بتلك الصفات.. لزمه أخذه، كما قلنا في من أسلم في عبد. فإن وجده معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه، وبين أن يرده. فإن أمسكه.. فلا كلام، وإن رده.. طالبها ببدله سليما؛ لأن العوض في ذمتها. وإن قالت: طلقني على هذا العبد، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق وملكه. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه، وبين أن يرده. فإن رده.. رجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد، ولا تطالب بعبد سليم؛ لأن العقد تعلق بعينه، فهو كما لو اشترى عبدا فوجده معيبا.
وإن كانت لا تملكه.. وقع عليها الطلاق ولم يملكه الزوج، ورجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد.
وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، وأشار إلى عبد بعينه، فأعطته إياه وكانت تملكه.. طلقت لوجود الصفة. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فله أن يمسكه، وله أن يرده. فإن أمسكه.. فلا كلام، وإن رده.. رجع بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. هذا قول عامة أصحابنا.(10/29)
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجيء على قوله القديم أن لا يرده، ويرجع بأرش العيب؛ لأن الواجب قيمته، وما يجب قيمته.. فإنما يجب عند تلفه دون نقصانه، كالمغضوب.
والأول أصح؛ لأن العيب الموجود في المعقود عليه إنما يثبت الرد، فلا يجوز الرجوع بالأرش مع إمكان الرد.
وإن أعطته العبد المعين وهي لا تملكه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن الإعطاء يقتضي ما تملكه، فهو كما لو قال: إن أعطيتني عبدا فأنت طالق، فأعطته عبدا مغصوبا أو مكاتبا.
والثاني: يقع عليها الطلاق، وهو المذهب؛ لأنه علق الطلاق على عطية ذلك العبد بعينه، وقد وجدت الصفة، فوقع الطلاق وإن كانت لا تملكه، كما لو علقه على عطية خمر أو خنزير فأعطته إياها. ويخالف إذا علق الطلاق على عطية عبد غير معين، فأعطته عبدا مغصوبا.. فإن فوض الاجتهاد إليها، فانصرف الإطلاق إلى عبد تملكه.
قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يشبهان الوجهين فيمن وكل رجلا ليشتري له عبدا بعينه فوجده الموكل معيبا.. فهل له رده؟ على الوجهين.
فإذا قلنا: يقع الطلاق.. فإنه لا يملك العبد، ولكن يرجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد.
[فرع: خالعته على هذا الثوب المروي فكان هرويا أو كتانا]
] : وإن قالت: خالعني على هذا الثوب على أنه مروي، فقال: خالعتك، فخرج الثوب هرويا.. صح الخلع؛ لأنهما جنس واحد من القطن، وإنما هما نوعان، ويكون بالخيار: بين إمساكه ورده؛ لأنه لم يسلم له النوع المشروط، فهو كما لو وجده معيبا، فإن رده.. رجع بقيمته في قوله القديم، وبمهر المثل في قوله الجديد.(10/30)
فإن قيل: هلا قلتم: إذا رد العوض بالعيب في الخلع ارتفع الطلاق، كما قلتم في السيد إذا كاتب عبده على عوض فقبضه، فوجده معيبا، فرده.. ارتفع العتق؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الخلع والكتابة الصحيحة يجمع كل واحد منهما صفة ومعاوضة، إلا أن المغلب في الكتابة الصحيحة المعاوضة، والمغلب في الخلع الصفة؛ بدليل أنه لو كاتب عبدا على مالين في ذمته كتابة صحيحة ثم أبرأه عنهما.. عتق.. ولو علق طلاق امرأته على مال في ذمتها ثم أبرأها منه.. لم تطلق. فوزان الخلع: الكتابة الفاسدة؛ فإن المغلب فيها الصفة.
وإن قال لامرأته: إن أعطيتني ثوبا مرويا فأنت طالق، فأعطته ثوبا هرويا.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد.
وإن قالت: خالعني على هذا الثوب على أنه مروي، فقال: خالعتك، فخرج كتانا.. صح الخلع؛ لأنه وقع على ثوب معين، ولكن لا يملك الزوج الثوب؛ لأنه من غير جنس الثوب المسمى، فهو كما لو خالعها على خل فخرج خمرا، فيرجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد.
وحكى المحاملي: أن الشيخ أبا حامد حكى وجها آخر: أن الزوج بالخيار: بين إمساكه ورده، كما لو خرج هرويا؛ لأن العين واحدة وإنما اختلف جنسه.
والأول هو المشهور.
[فرع: خالعته على حمل الجارية أو ما في جوفها]
] : إذا قالت له: طلقني على ما في جوف هذه الجارية من الحمل، فقال: أنت طالق.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها.
وقال أبو حنيفة: (إن خرج الولد سليما.. استحقه الزوج، وإن لم يكن شيئا فعليها مهر مثلها) .(10/31)
دليلنا: أن كل ما لا يصح أن يكون عوضا في غير الخلع.. لا يصح أن يكون عوضا في الخلع، كالخمر.
وإن قالت: طلقني على ما في جوف هذه الجارية، ولم تقل: من الحمل، فقال: أنت طالق.. فهي كالأولى عندنا.
وقال أبو حنيفة: (إن خرج الولد سليما.. استحقه الزوج، وإن لم يكن شيئا.. فلا شيء له؛ لأنها إذا قالت: من الحمل.. فقد وقع الخلع على مال، وإذا لم تقل ذلك.. لم يقع على مال) .
ودليلنا: أن الخلع وقع على مجهول، فهو كما لو قالت: اخلعني على ثوب.
[مسألة: طلبتا الطلاق على مبلغ فأجابهما أو إحداهما]
] : وإن كان له امرأتان، فقالتا له: طلقنا على ألف درهم، فقال: أنتما طالقان - جوابا لكلامهما - وقع عليهما الطلاق، وهل يصح تسميتهما للألف؟ فيه قولان، كما قلنا فيمن كاتب عبدين على عوض واحد.
فإذا قلنا: تصح التسمية.. قسمت الألف عليهما على قدر مهر مثلهما. وإن قلنا: إن التسمية لا تصح.. رجع عليهما بمثل الألف في القول القديم؛ لأن لها مثلا، فيقسم عليهما على مهر مثلهما وعلى القول الجديد: يرجع على كل واحدة منهما بمهر مثلها.
وإن أخر الطلاق عن الفور، ثم طلقها.. كان رجعيا، إلا أن يقول: أنتما طالقان على ألف، فتقولان عقيب قوله: قبلنا، فتكون كالأولى.
وإن قالتا له: طلقنا على ألف بيننا نصفين، فطلقهما عقيب قولهما.. وقع الطلاق بائنا، واستحق على كل واحدة منهما خمسمائة قولا واحدا؛ لأن كل واحدة منهما استدعت الطلاق بعوض معلوم.
وإن قالتا له: طلقنا بألف، فطلق إحداهما على الفور ولم يطلق الأخرى.. وقع طلاق التي طلقها. وهل تصح التسمية بقسطها من الألف؟ على القولين.(10/32)
فإذا قلنا: تصح.. قسمت الألف على مهر مثلها ومهر مثل الأخرى، فما قابل مهر مثل المطلقة.. استحقه عليها.
وإن قلنا: التسمية فاسدة.. رجع عليها بحصتها من الألف في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد.
وإن طلقهما عقيب استدعائهما الطلاق، ثم ارتدتا.. لم تؤثر الردة؛ لأنها وقعت بعد الفرقة.
وإن ارتدتا عقيب استدعائهما الطلاق، ثم طلقهما في مجلس الخيار، فإن كانتا غير مدخول بهما.. بانتا بالردة، فلا يقع الطلاق ولا يلزمهما عوض.
وإن كانتا مدخولا بهما.. فإن طلاقهما موقوف على حكم نكاحهما، فإن انقضت عدتهما قبل أن يرجعا إلى الإسلام.. تبينا أن الفرقة وقعت بردتهما، فلا يقع عليهما الطلاق، ولا يلزمهما العوض. وإن رجعتا إلى الإسلام قبل انقضاء عدتهما.. تبينا أن الطلاق وقع عليهما، فلزمهما العوض. وفي قدر ما يلزم كل واحدة منهما ما ذكرناه في الأولى. وإن رجعت إحداهما إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها، وانقضت عدة الأخرى وهي باقية على الردة.. وقع الطلاق على التي رجعت إلى الإسلام - وفي قدر ما يلزمها من العوض ما ذكرناه إذا طلق إحداهما - ولم يقع الطلاق على الأخرى، ولا يلزمها عوض.
[فرع: قالتا طلقنا بألف فأجابهما على مشيئتهما]
] : وإن قالتا له: طلقنا بألف، فقال لهما على الفور: أنتما طالقان إن شئتما، فإن قالتا له على الفور: شئنا.. طلقتا، وفي قدر ما يلزم كل واحدة منهما من العوض ما ذكرناه إذا لم يعلق طلاقهما بمشيئتهما. وإن أخرتا المشيئة على الفور.. لم تطلقا؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن شاءت إحداهما على الفور ولم تشأ الأخرى.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه علق طلاقهما بمشيئتهما، ولم توجد مشيئتهما.(10/33)
وإن كانت بحالها، وإحداهما بالغة رشيدة، والأخرى كبيرة محجور عليها، فقالتا: شئنا على الفور.. وقع عليهما الطلاق، إلا أن البالغة الرشيدة يقع الطلاق عليها بائنا، وفيما يستحقه عليها من العوض ما ذكرناه من القولين. وأما المحجور عليها: فيقع عليها الطلاق، ولا عوض عليه؛ لأنها ليست من أهل المعاوضة وإن كانت من أهل المشيئة، ولهذا يرجع إليها في النكاح وما تأكله.
وإن كانت صغيرة مميزة.. فهل تصح مشيئتها؟ فيه وجهان يأتي بيانهما.
وإن كانت صغيرة غير مميزة.. فهل تصح مشيئتها؟ فيه وجهان.
أو كبيرة مجنونة.. فلا مشيئة لها وجها واحدا.
[فرع: قالت طلقني وضرتي بألف]
فرع: [قالت إحداهما: طلقني وضرتي بألف أو طلقني بألف على أن تطلق ضرتي أو لا تطلقها] :
وإن قالت له إحدى زوجتيه: طلقني وضرتي بألف، فقال على الفور: أنتما طالقان.. وقع الطلاق عليهما بائنا؛ لأنها بذلت له العوض على طلاقها وطلاق ضرتها، وبذل العوض على الطلاق من الأجنبي يصح. وهل تصح التسمية؟
قال أصحابنا: فيه قولان؛ لأنه أوقع به الطلاق على امرأتين، فكان كما لو سألتاه الطلاق.
قال ابن الصباغ: ويحتمل عندي أن يقال هاهنا: يصح المسمى قولا واحدا؛ لأنه عقد واحد والعاقد واحد، وإن كان مقصوده يقع لهما، فهو كما لو كان لرجل على رجلين دين فصالحه أجنبي عنهما. فإن طلق إحداهما.. وقع عليها الطلاق.
فإن قلنا - لو طلقهما -: إن التسمية على قولين.. كان فيما يستحقه على الباذلة لأجل المطلقة قولان:
أحدهما: مهر مثل المطلقة.
والثاني: حصتها من الألف.(10/34)
وإن قلنا بقول ابن الصباغ في الأولى.. استحق على الباذلة حصة مهر مثل المطلقة من الألف قولا واحدا. قال ابن الصباغ: وإن قالت له: طلقني بألف على أن لا تطلق ضرتي.. فإن هذا شرط فاسد لا يلزم الوفاء به، ويكون المسمى فاسدا؛ لأنه مجهول؛ لأنه وجب أن يرد إليها ما زادته لأجل الشرط، وذلك مجهول، ويجب له عليها مهر مثلها.
وإن قالت له: طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي، فطلقها.. قال الشيخان: وقع عليها الطلاق، ويرجع عليها بمهر مثلها؛ لأن الشرط فاسد، فإذا سقط.. وجب إسقاط ما زيد في البدل لأجله، وهو مجهول، فصار العوض مجهولا، فوجب مهر المثل.
[فرع: قالت له بعني أو أعطني عبدك وطلقني بألف]
] : وإن قالت له: بعني عبدك هذا وطلقني بألف، فقال: بعتك وطلقتك.. فقد جمعت بين خلع وبيع بعوض، ففيه قولان، كما لو جمع بين البيع والنكاح بعوض.
فإذا قلنا: يصحان.. قسم الألف على قيمة العبد وعلى مهر مثلها، فما قابل قيمة العبد.. كان ثمنا، وما قابل مهر مثلها.. كان عوض خلعها.
فإن وجدت بالعبد عيبا، فإن قلنا: تفرق الصفقة.. ردت العبد، ورجعت عليه بحصته من الألف.
وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. ردت العبد، ورجعت عليه بجميع الألف، ورجع عليها بمهر مثلها.
وإن قلنا: لا يصحان.. لم يصح البيع، ولم يصح العوض في الخلع، ولكن الخلع صحيح. وفي ماذا يرجع به عليها؟ قولان:
أحدهما: يقوم العبد المبيع، وينظر إلى مهر مثلها، ويقسم الألف عليهما.(10/35)
والثاني: يرجع عليها بمهر مثلها.
هكذا ذكر ابن الصباغ، وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي: أنه يرجع عليها بمهر المثل. ولعلهما أرادا على الصحيح من القولين.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا الحكم فيه إذا قالت: خذ مني ألف درهم وأعطني هذا العبد وطلقني.
قال المحاملي: وهكذا إذا قالت: طلقني على ألف، على أن تعطيني العبد الفلاني، فطلقها.
[مسألة: الخلع يمنع لحوق الطلقات]
عندنا] : إذا خلع امرأته.. لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق، سواء قلنا: الخلع طلاق أو فسخ، وسواء طلقها في العدة أو في غيرها، وسواء طلقها بالصريح أو بالكناية مع النية. وبه قال ابن عباس، وعروة بن الزبير، وأحمد، وإسحاق.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (يلحقها الطلاق بالصريح ما دامت في العدة، ولا يلحقها بعد العدة، ولا يلحقها الطلاق بالكناية بحال) .
وقال مالك والحسن البصري: (يلحقها الطلاق عن قرب، ولا يلحقها عن بعد) .
فـ (القرب) - عند مالك -: أن يكون الطلاق متصلا بالخلع.
والحسن البصري يقول: إذا طلقها في مجلس الخلع.. لحقها، وإن طلقها بعده.. لم يلحقها.
دليلنا: أنه لا يملك رجعتها، فلم يلحقها طلاقه، كالأجنبية.
أو نقول: لأن من لا يصح طلاقها بالكناية مع النية.. لم يصح طلاقها بالصريح،(10/36)
كما لو انقضت عدتها، إذ من لا يلحقها الطلاق بعوض.. لا يلحقها بغير عوض، كالأجنبية.
[فرع: لا رجعة على المختلعة إلا بعقد جديد]
عندنا] : ولا يثبت للزوج الرجعة على المختلعة، سواء خالعها بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق. وبه قال الحسن البصري، والنخعي، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة.
وذهب ابن المسيب والزهري إلى: أنه بالخيار: إن شاء.. أخذ العوض ولا رجعة له، وإن شاء.. ترك العوض وله الرجعة.
قال الشيخ أبو حامد: وأظنهما أرادا ما لم تنقض العدة.
وقال أبو ثور: (إن كان بلفظ الخلع.. فلا رجعة له، وإن كان بلفظ الطلاق.. فله الرجعة؛ لأن الرجعة من موجب الطلاق، كما أن الولاء من موجب العتق، ثم لو أعتق عبده بعوض.. لم يسقط حقه من الولاء، فكذلك إن طلقها بعوض) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .
وإنما يكون فداء إذا خرجت عن قبضته وسلطانه، فإنه لو أثبتنا له الرجعة.. لم يكن للفداء فائدة. ولأنه ملك العوض بالخلع، فلم تثبت له الرجعة، كما لو خالعها بلفظ الخلع.
ويخالف الولاء؛ فإنه بإثبات الولاء عليه لا يملك ما أخذ عليه العوض من الرق، وبإثبات الرجعة له.. يملك ما أخذ عليه العوض من البضع.
[فرع: خالعها على أن له الرجعة]
] : قال الشافعي في " المختصر ": (لو خالعها بطلقة بدينار على أن له الرجعة.. فالطلاق لازم، وله الرجعة، والدينار مردود) .(10/37)
وقال المزني: يسقط الدينار والرجعة، ويجب مهرها، كما قال الشافعي فيمن خالع امرأته على عوض وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت الدينار، وثبتت الرجعة: (أن العوض يسقط، ولا تثبت الرجعة) .
ونقل الربيع الأولى في " الأم "، كما نقلها المزني. قال الربيع: وفيها قول آخر: (أن له مهر مثلها ولا رجعة) .
فمن أصحابنا من ضاق عليه الفرق بين المسألتين اللتين حكاهما المزني، ونقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجها على قولين.
وقال أكثرهم: لا يختلف المذهب في الأولى: أنه له الرجعة ويسقط الدينار، وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه، وما ذكره المزني.. فهو مذهبه بنفسه؛ لأن الخلع اشتمل على العوض وشرط الرجعة، وهذان شرطان متضادان، فكان إثبات الرجعة أولى؛ لأنها تثبت بالطلاق، والعوض لا يثبت إلا بالشرط. وأما الفرق بين الأولى والثانية.. فإنه قد قطع الرجعة في الثانية، وإنما شرط عودتها فيما بعد، فلم تعد، وفي الأولى.. لم يقطع الرجعة في الحال، فكانت باقية على الأصل.
[مسألة: توكيل الزوجين في المخالعة]
يجوز التوكيل في الخلع من جهة الزوجة والزوج؛ لأنه عقد معاوضة، فجاز التوكيل فيه، كالبيع.
ويجوز أن يكون الوكيل منهما مسلما وكافرا، حرا وعبدا، رشيدا ومحجورا عليه.
ويجوز أن يكون الوكيل من جهة الزوجة امرأة، وهل يجوز أن يكون الوكيل من قبل الزوج امرأة؟ فيه وجهان:
المنصوص: (أنه يصح) ؛ لأنه من صح منه عقد المعاوضة.. صح أن يكون وكيلا فيه، كالبيع.(10/38)
والثاني: لا يصح في النكاح؛ لأنها لا تملك إيقاع الطلاق لنفسها، فلم تملك في حق غيرها.
قال الشافعي: (ويجوز أن يكون وكيل واحد عنه وعنها) .
فمن أصحابنا من حمله على ظاهره، وقال: يجوز أن يلي الواحد طرفي العقد في الخلع، كما يجوز أن يوكل الرجل امرأته في طلاقها.
ومنهم من قال: لا يصح، كما لا يصح في النكاح أن يكون الواحد موجبا قابلا، وحمل النص على أنه يجوز لكل واحد منهما أن يوكل وحده.
إذا ثبت هذا: فإن الوكالة تصح منهما مطلقا ومقيدا، كما قلنا في البيع، فإذا أطلقت الوكالة.. اقتضت مهر المثل، كالوكيل في البيع والشراء.
والمستحب: أن يقدر الموكل منهما العوض لوكيله؛ لأنه أبعد من الغرر.
فإن وكلت المرأة في الخلع.. نظرت: فإن أطلقت الوكالة.. فإن الإطلاق يقتضي مهر المثل حالا من نقد البلد. فإن خالع عنها بذلك.. صح، ولزمها أداء ذلك. وإن خالعها بدون مهر مثلها، أو بمهر مثلها مؤجلا.. صح؛ لأنه زادها بذلك خيرا. قال ابن الصباغ: وهكذا إن خالع عنها بدون نقد البلد.. صح؛ لأنه زادها خيرا.
وإن خالع بأكثر من مهر مثلها.. وقع الطلاق. قال الشافعي في " الإملاء ": (ويكون المسمى فاسدا، فيلزمها مهر مثلها) ؛ لأنه خالع على عوض لم تأذن فيه، فكان فاسدا، فسقط ووجب مهر مثلها، كما لو اختلعت بنفسها على مال مغصوب.
وقال في " الأم ": (عليها مهر مثلها، إلا أن تبذل الزيادة على ذلك.. فيجوز) .
قال الشيخ أبو حامد: فكأن الشافعي لم يبطل هذه الزيادة على مهر المثل بكل حال، ولكن لا يلزمها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي على قولين:
أحدهما: يجب عليها مهر مثلها.
والثاني: لها الخيار: إن شاءت.. فسخت المسمى وكان عليها مهر مثلها، وإن شاءت.. أجازت ما سمى الوكيل.(10/39)
وإن قدرت له العوض، بأن قالت: اخلعني بمائة، فإن خلعها بمائة.. صح؛ لأنه فعل ما أمرته، وإن خلعها بمائة مؤجلة، أو بما دونها.. صح؛ لأنه زادها خيرا. وإن خلعها بمائتين.. ففيه قولان:
أحدهما: يقع الطلاق، ويلزمها منه مهر مثلها لا غير؛ لأنه خالع بأكثر مما أمرته، فكان فاسدا، فسقط ووجب مهر المثل، كما لو اختلعت هي بخمر أو خنزير.
والثاني: يلزمها أكثر الأمرين: من المائة، أو مهر مثلها؛ لأن المائة إن كانت أكثر.. لزمتها؛ لأنها قد أذنت فيها، وإن كان مهر المثل أكثر.. لزمها؛ لأن المسمى فاسد، فسقط ولزمها مهر مثلها.
إذا ثبت هذا: فهل يلزم الوكيل ما زاد على مهر المثل في هذه والتي قبلها؟ ينظر فيه:
فإن قال.. طلقها على كذا وكذا وعلي ضمانه.. لزمه للزوج الجميع؛ لأنه ضمنه.
وإن قال: طلقها على كذا، ولم يقل من مالها، بل أطلق.. لزمه ذلك للزوج؛ لأن الظاهر أنه يخالع من مال نفسه، وللوكيل أن يرجع عليها بمهر مثلها؛ لأنه وجب عليه بإذنها وما زاد عليه يدفعه من ماله ولا يرجع عليها به؛ لأنه وجب عليه بغير إذنها.
وإن قال: طلقها على كذا وكذا من مالها.. لزمها مهر مثلها، ولم يلزم الوكيل ما زاد على مهر مثلها؛ لأنه أضاف ذلك إلى مالها، ولم تأذن له فيه فسقط عنها.
وإن قيدت له الوكالة أو أطلقتها، فخالع عنها بخمر أو خنزير.. وقع الطلاق بائنا ورجع عليها بمهر مثلها؛ لأن المسمى فاسد، فسقط ووجب مهر مثلها، كما لو خالعت هي بنفسها على ذلك. وقال المزني: لا يقع الطلاق؛ لأن الوكيل لم يعقد على ما هو مال، فارتفع العقد من أصله، كما لو وكله أن يبيع له عينا فباعها بخمر أو خنزير.(10/40)
وهذا خطأ؛ لأن وكيل المرأة لا يوقع الطلاق وإنما يقبله، فإن قبله بعوض فاسد.. لم يمنع ذلك وقوع الطلاق، كما لو قبلت هي الطلاق بخمر أو خنزير، وإنما يصح هذا الذي قاله لوكيل الزوج.
وإن وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض، فإن خالع عنه الوكيل بمهر المثل من نقد البلد حالا.. صح؛ لأن إطلاق إذنه يقتضي ذلك. وإن خالع عنه بأكثر من مهر المثل.. صح؛ لأنه زاده خيرا. وإن خالع بدون مهر المثل، أو بمهر المثل مؤجلا.. فقد نص الشافعي فيها على قولين:
أحدهما: (أن الطلاق واقع، والعوض فاسد) ؛ لأنه خالف مقتضى الإذن، ويرجع الزوج عليها بمهر مثلها، كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد.
والثاني: (أن الزوج بالخيار.. بين أن يرضى بهذا العوض المسمى ويكون الطلاق بائنا، وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعيا) ؛ لأنه لا يمكن أن يلزم الزوجة أكثر من المسمى؛ لأنها لم تلتزمه، ولا يمكن أن يلزم الزوج الطلاق بالعوض المسمى؛ لأنه خلاف مقتضى إذنه، فثبت له الخيار، فإن رضي به وإلا.. أسقطنا العوض والبينونة؛ لأن البينونة من أحكام العوض، وبقي الطلاق رجعيا.
وإن قيد له العوض، بأن قال: خالع عني بمائة، فإن خالعها بمائة.. جاز؛ لأنه فعل ما أذن له فيه. وإن خالع بأكثر منها.. صح؛ لأنه زاده خيرا. وإن خالع بما دون المائة.. فنص الشافعي: (أن الطلاق لا يقع) ؛ لأنه أذن له في إيقاع الطلاق على شيء مقدر، فإذا أوقعه على صفة دونها.. لم يصح، كما لو خالع بخمر أو خنزير.
واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من نقل القولين فيه إذا لم يقدر له العوض، فخالع على أقل من مهر المثل(10/41)
إلى هذه، وجوابه في هذه إلى تلك، وقال: فيها ثلاثة أقوال، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق:
أحدها: يقع الطلاق فيهما بائنا، ويلزمها مهر المثل.
والثاني: يثبت للزوج فيهما الخيار: بين أن يرضى بالعوض المسمى في العقد فيهما ويكون الطلاق بائنا، وبين أن لا يرضى به ويكون الطلاق رجعيا.
والثالث: لا يقع فيهما طلاق. ووجهه ما ذكرناه؛ لأن الوكالة المطلقة تقتضي المنع من النقصان عن مهر المثل، كما أن الوكالة المقيدة تقتضي المنع من النقصان عن العوض المقيد.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فجعل الأولى على قولين، والثانية على قول واحد - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - لأنه إذا قيد له العوض في ألف، فخالع بأقل منه.. فقد خالف نص موكله فنقض فعله، كالمجتهد إذا خالف النص، وإذا أطلق الوكالة.. فإنما علمنا أن الإطلاق يقتضي مهر المثل من طريق الاجتهاد، فإذا أدى الوكيل اجتهاده إلى المخالعة بأقل منه.. لم ينقض، كما لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.
قال ابن الصباغ: وهذه الطريقة ظاهر كلام الشافعي، والأولى أقيس. قال: والأقيس من الأقوال: أن لا يقع الطلاق.
[فرع: عين للوكيل يوما للمخالعة أو الطلاق فخالف]
] : إذا وكله أن يطلق أو يخالع يوم الجمعة، فطلق أو خالع يوم الخميس.. لم يصح؛ لأنه لم يفعل المأذون فيه.
وإن طلقها يوم السبت.. قال الداركي: وقع عليها الطلاق؛ لأنه إذا طلقها يوم الجمعة.. كانت مطلقة يوم السبت، وإذا طلقها يوم الجمعة.. لا تكون مطلقة يوم(10/42)
الخميس، فكأن الموكل قد رضي بطلاقها يوم السبت، ولم يرض بطلاقها يوم الخميس.
[مسألة: صحة المخالعة في مرض الموت]
] : يصح الخلع في مرض الموت من الزوجين، كما يصح منهما النكاح والبيع.
فإن خالع الزوج في مرض موته بمهر المثل أو أكثر.. صح، كما لو اتهب في مرض موته. وإن خالع بأقل من مهر المثل.. صح، ولا اعتراض للورثة عليه؛ لأنه لا حق لهم في بضع امرأته، ولهذا لو طلقها بغير عوض.. لم يكن لهم الاعتراض عليه.
وإن خالعت الزوجة في مرض موتها بمهر المثل أو دونه.. كان ذلك من رأس المال.
وقال أبو حنيفة: (يكون ذلك من الثلث) .
دليلنا: أن الذي بذلته بقيمة ما ملكته، فهو كما لو اشترت به متاعا بقيمته.
فإن خالعت بأكثر من مهر مثلها.. اعتبرت الزيادة من الثلث؛ لأنها محاباة، فاعتبرت من الثلث، كما لو اشترت متاعا بأكثر من قيمته.
وإن خالعته في مرض موتها على عبد قيمته مائة، ومهر مثلها خمسون.. فقد حابته بنصف العبد. فإن لم يخرج النصف من الثلث، بأن كان عليها دين يستغرق مالها.. فالزوج بالخيار: بين أن يأخذ نصف العبد لا غير، وبين أن يفسخ ويضرب مع الغرماء بمهر مثلها.
وإن خرج من الثلث، بأن كانت تملك منه غير العبد.. استحق جميع العبد، نصفه بمهر مثلها، ونصفه وصية.
ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار: بين أن يرضى بهذا، وبين أن يفسخ ويرجع بمهر مثلها؛ لأن الصفقة تبعضت عليه؛ لأنه دخل على أن يأخذ جميع العبد عوضا، ولم يصح له بالعوض إلا نصفه، ونصفه وصية.(10/43)
والصحيح: أنه لا خيار له؛ لأن العبد قد سلم له على كل حال.
وإن لم يكن لها مال غير العبد، ولم يجز الورثة.. كان للزوج نصف العبد بمهر المثل، وسدسه بالمحاباة، فذلك ثلثا العبد، فيكون الزوج بالخيار: بين أن يأخذ ثلثي العبد، وين أن يفسخ ويرجع بمهر المثل.
فإن قال الزوج: أنا آخذ مهر المثل نقدا، وسدس العبد بالوصية.. لم يكن له ذلك؛ لأن سدس العبد إنما يكون له وصية تبعا للنصف.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي: (أن له نصف العبد، ونصف مهر المثل) ، ثم اعترض عليه، وقال: هذا ليس بشيء، بل له نصف العبد وثلث ما بقي.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل، وقد ذكرها الشافعي في " الأم " فقال: (له نصف العبد بمهر مثلها) .
[فرع: خالعته في مرض موتها ثم تزوجها بمرض موته]
] : فإن خالعته في المرض الذي ماتت فيه على مائة، ومهر مثلها أربعون، ثم عاد الزوج فتزوجها على تلك المائة في مرض موته، وماتا، وخلفت الزوجة عشرة غير المائة، ولم يخلف الزوج شيئا، فإن مات الزوج أولا.. بطلت محاباته لها؛ لأنها ورثته، وصحت محاباتها له؛ لأنه لم يرثها، فيكون للزوج منها أربعون مهر مثلها، وله شيء بالمحاباة، فتكون تركته أربعين وشيئا، للمرأة منه أربعون وترث ربع الشيء، فتكون تركتها مائة وعشرة إلا ثلاثة أرباع شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلاثة أرباع شيء، فإذا بسطت الشيئين أرباعا وضممت إليها الثلاثة أرباع.. كان ذلك أحد عشر جزءا، فإذا قسمت المائة والعشرة على ذلك.. كان الشيء الكامل أربعين درهما، فيكون للزوج أربعون مهر مثلها، وأربعون بالوصية، فيرجع إليها أربعون بالمهر وترث من الأربعين الباقية عشرة، فيجتمع لها ثمانون، وذلك مثلا محاباتها له.(10/44)
وإن ماتت الزوجة أولا ولم تترك غير المائة.. بطلت محاباتها له؛ لأنه ورثها.
وأما محاباة الزوج لها: فإن أصدقها المائة التي خالعته عليها بعينها.. لم يصح؛ لأنه لما أصدقها المائة وهو لا يملك منها غير أربعين.. فكأنه أصدقها ما يملك وما لا يملك، فبطل المسمى ورجعت إلى مهر المثل، فيجب لكل واحد منهما على الآخر مهر مثلها، فيتقاصان، ثم يرث الزوج نصف المائة عنها إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، فيكون ذلك لورثته.
وإن أصدقها مائة في ذمته.. صحت لها المحاباة، وحسابه: له أربعون مهر المثل، ولا محاباة له، ويرجع إليها صداقها، ولها شيء محاباة في ذمته، فتكون تركتها مائة وشيئا، يرث الزوج نصف ذلك - وهو: خمسون ونصف شيء - يخرج من ذلك لها شيء بالمحاباة، فيبقى في يد ورثته خمسون إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت الخمسون شيئين ونصف شيء، الكامل عشرون وهو الجائز لها بالمحاباة، ويجب للزوج عليها مهر مثلها، ولها عليه مهر مثلها، فيتقاصان، ويفضل لها عليه عشرون، فيكون ذلك تركة لها مع المائة، فذلك مائة وعشرون، يرث الزوج نصف ذلك - وهو: ستون - فتأخذ المرأة منها بالمحاباة عشرين، ويبقى لورثته أربعون - وهو: مثلا محاباته لها - فيكون لورثته ستون.(10/45)
[فرع: تزوجها في مرض موته ثم خالعته في مرض موتها]
] : ولو تزوجها في مرض موته على مائة درهم، ومهر مثلها خمسون، ودخل بها، ثم خالعته في مرض موتها على مائة في ذمتها، ثم ماتا ولا يملكان غير هذه المائة، ولم يجز ورثتهما.. فحسابه: للزوجة خمسون مهر مثلها من رأس المال، ولها شيء محاباة، فجميع تركتها خمسون وشيء، للزوج منها خمسون - مهر المثل - وله ثلث شيء محاباة، فتكون تركته مائة إلا ثلثي الشيء تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت المائة بشيئين وثلثي شيء، الشيء الواحد ثلاثة أثمان المائة - وهو: سبعة وثلاثون ونصف - وهو الذي صح لها بالمحاباة، فتأخذه من الزوج مع مهر المثل، فذلك سبعة وثمانون ونصف، فيرجع إليه مهر مثلها بالخلع، ويبقى معها سبعة وثلاثون ونصف، يستحق الزوج ثلث ذلك بالمحاباة، فيبقى لورثتها ثلثا ذلك، فيجتمع لورثة الزوج خمسة وسبعون، وذلك مثلا محاباته لها، فالدور وقع في فريضة الزوج لا في فريضة الزوجة. فإن تركت الزوجة شيئا غير الصداق.. فإنك تضم ثلث تركتها إلى المائة التي تركها الزوج، ثم تأخذ ثلاثة أثمان ذلك، وهو الجائز بالمحاباة. وسواء مات الزوج أولا أو الزوجة.. فالحكم واحد؛ لأنهما لا يتوارثان.(10/46)
قال ابن اللبان: ولو خالعته على المائة بعينها.. بطلت محاباتها له؛ لأنها خالعته على ما تملك وعلى ما لا تملك، فبطل المسمى ووجب مهر المثل. وحسابه: للمرأة مهر المثل، ولها بالمحاباة شيء، فجميع تركتها خمسون وشيء، للزوج منها خمسون، ولا محاباة له، فتركته مائة إلا شيئا تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت المائة ثلاثة أشياء، الشيء ثلاثة وثلاثون وثلث، يكون لها من ذلك مع مهر مثلها، فيأخذ الزوج من ذلك مهر مثلها مع ما بقي معه من المائة، فذلك ستة وستون وثلثان، وذلك مثلا محاباته لها.
وبالله التوفيق.(10/47)
[باب جامع الخلع]
إذا قالت المرأة: طلقني ثلاثا ولك ألف، فطلقها ثلاثا.. استحق الألف عليها. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحق عليها شيئا) .
دليلنا: أنها استدعت منه الطلاق بالعوض، فهو كما لو قالت: طلقني وعندي ألف.
وإن قالت: طلقني ثلاثا ولك ألف، أو بألف، أو على ألف، فطلقها واحدة.. استحق عليها ثلث الألف. وبه قال مالك.
وقال أحمد: (لا يستحق عليها شيئا) .
وقال أبو حنيفة: (إن قالت: بألف.. استحق عليها ثلث الألف. وإن قالت: على ألف.. لم يستحق شيئا) .
دليلنا: أنها استدعت منه فعلا بعوض، فإذا فعل بعضه.. استحق بقسطه، كما لو قالت: من رد عبيدي الثلاثة من الإباق.. فله ألف، فرد واحدا منهم.
وإن قالت: طلقني ثلاثا ولك ألف، فطلقها واحدة ونصفا.. وقع عليها طلقتان. وكم يستحق عليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحق ثلثي الألف؛ لأنه وقع عليها طلقتان.
والثاني: لا يستحق عليها إلا نصف الألف؛ لأنه لم يوقع عليها إلا نصف الثلاث، وإنما سرت الطلقة بالشرع.
وإن قال: إن أعطيتني ألفا.. فأنت طالق ثلاثا، فأعطته ثلث الألف أو نصفها.. لم يقع الطلاق عليها؛ لأن الصفة لم توجد، بخلاف ما لو استدعت منه الطلاق، فإن طريقه المعاوضة، وهذا طريقه الصفة.(10/48)
[مسألة: طلقها ثلاثا بألف فقبلت واحدة بثلثه]
] : وإن قال: أنت طالق ثلاثا بألف، فقالت: قبلت واحدة بثلث الألف.. قال ابن الحداد: لم يقع الطلاق، ولم يلزمها شيء؛ لأنه لم يرض بانقطاع رجعته عنها إلا بألف، فلا تنقطع بما دونه.
وإن قالت: قبلت واحدة بألف.. قال ابن الحداد: وقعت عليها طلقة واحدة، واستحق عليها الألف؛ لأنها زادته خيرا. وقال بعض أصحابنا: بل يقع عليها ثلاث طلقات بالألف؛ لأن إيقاع الطلاق إليه دونها، وإنما إليها قبول العوض، وقد وجد منه إيقاع الثلاث، فوقعن.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا بألف، فقالت: قبلتها بخمسمائة.. لم يقع عليها طلاق، ولم يلزمها عوض؛ لأنه لم يرض وقوع الطلاق عليها بأقل من ألف، ولم تلتزم له الألف.
وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا بألف ودينار أو بألفين.. لم يقع عليها الطلاق، إلا بأن تقول عقيب قوله: قبلت؛ لأنها لم ترض بالتزام أكثر من الألف، ولم يرض بإيقاع الطلاق إلا بأكثر من الألف.
وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا بخمسمائة، أو قالت: طلقني بألف ولم تقل: ثلاثا، فقال: أنت طالق بخمسمائة.. وقع عليها الثلاث في الأولى، وفي الثانية ما نوى، ولم يلزمها إلا خمسمائة فيهما؛ لأنه زادها بذلك خيرا؛ لأن رضاها بالألف رضا بما دونه.
هكذا: ذكر القاضي أبو الطيب، وقال: إذا قال: طلقتك على ألف، فقالت: قبلت بألفين.. وقع عليها الطلاق، ولم يلزمها إلا ألف.(10/49)
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: خالعتك بألف، فقالت: اختلعت بألفين.. لم تقع الفرقة؛ لأن من شرط القبول أن يكون على وفق الإيجاب.
[فرع: له عليها طلقة أو طلقتان فطلبت ثلاثا بألف]
] : إذا بقي له على امرأته طلقة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (استحق عليها الألف) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس وأبو إسحاق: هذه مفروضة في امرأة تعلم أنه ما بقي عليها إلا واحدة، فيكون معنى قولها: (طلقني ثلاثا) أي: أكمل لي الثلاث، فيلزمها. فأما إذا كانت لا تعلم ذلك: فلا يستحق عليها إلا ثلث الألف؛ لأنها بذلت الألف على الثلاث، فإذا طلقها واحدة.. لم يستحق عليها إلا ثلث الألف، كما لو كان يملك عليها ثلاثا فطلقها واحدة.
ومن أصحابنا من قال: يستحق عليها الألف بكل حال، وهو ظاهر النص، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المقصود بالثلاث قد حصل لها بهذه الطلقة.
وقال المزني: لا يستحق عليها إلا ثلث الألف بكل حال؛ لأن التحريم إنما يحصل بهذه الطلقة وبالأولتين قبلها، كما إذا شرب ثلاثة أقداح خمر فسكر.. فإن السكر حصل بالثلاثة أقداح.
وإن بقي له عليها طلقتان، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فإن قلنا بالطريقة الأولى، وكانت عالمة بأنه لم يبق عليها إلا طلقتان، فإن طلقها طلقتين.. استحق عليها الألف، وإن طلقها واحدة.. استحق عليها نصف الألف. وإن لم تعلم أنه بقي له طلقتان، فإن طلقها طلقتين.. استحق عليها ثلثي الألف، وإن طلقها واحدة.. استحق عليها ثلث الألف.
وعلى الطريقة الثانية: إن طلقها طلقتين. استحق عليها الألف، وإن طلقها واحدة.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه لا يستحق عليها إلا ثلث الألف؛ لأن هذه الطلقة لم يتعلق بها تحريم العقد، فصار كما لو كان له ثلاث طلقات، فطلقها واحدة.(10/50)
[مسألة: طلبت طلقة بألف وله عليها ثلاث طلقات فطلقها ثلاثا]
] : وإن كان يملك عليها ثلاث طلقات، فقالت له: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثا.. وقع عليها الثلاث، واستحق عليها الألف؛ لأنه حصل لها ما سألت وزيادة.
قال أبو إسحاق: الألف في مقابلة الثلاث.
وقال غيره من أصحابنا: بل الألف في مقابلة الواحدة، والاثنتان بغير عوض، وليس تحت هذا الاختلاف فائدة.
وقال القفال: تقع الثلاث، ويستحق عليها ثلث الألف؛ لأنها رضيت بواحدة عن العوض وهو جعل كل طلقة واحدة بإزاء ثلث الألف.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن من أصحابنا من قال: يقع عليها واحدة بثلث الألف لا غير؛ لأنه أوقع الأخريين على العوض ولم تقبلهما، فلم يقعا. والأول هو المشهور.
[فرع: طلقها اثنتين على أن إحداهما بألف]
] : وإن قال لها: أنت طالق طلقتين، إحداهما بألف.. قال ابن الحداد: إن قبلت وقع عليها طلقتان ولزمها الألف. وإن لم تقبل.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنها لم ترض بإيقاع طلقتين عليها إلا بأن يحصل له الألف، فإذا لم تقبل.. لم يقع عليها الطلاق، كما لو أوصى: أن يحج عنه رجل بمائة، وأجرة مثله خمسون.. فلا تحصل له المائة إلا أن يحج عنه.
قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل أن يقال: إذا لم تقبل أن تقع عليها طلقة.. فلا شيء عليها؛ لأنه يملك إيقاعها بغير قبول، وقد أوقعها.
وإن قالت: قبلت الطلقتين، ولم أقبل العوض.. كان بمنزلة ما لو لم تقبل؛ لأن الطلاق لا يفتقر إلى القبول، وإنما الذي يحتاج إلى القبول هو العوض، فلا يقع عليها الطلاق على قول ابن الحداد. وعلى قول القاضي أبي الطيب: تقع عليها الطلقة التي لا عوض فيها.(10/51)
[فرع: قال لزوجتيه أنتما طالقان وإحداكما بألف]
] : وإن قال لامرأتيه: أنتما طالقتان، إحداكما بألف، فإن قبلتا جميعا.. وقع عليهما الطلاق، ويقال له: عين المطلقة بالألف، فإذا عين إحداهما.. كان له عليها مهر مثلها؛ لأن المسمى لا يثبت مع الجهالة بالتسمية.
وإن قبلت إحداهما، ولم تقبل الأخرى.. قيل له: عين المطلقة بالألف، فإن قال: هي القابلة.. وقع عليها الطلاق بائنا، ولزمها مهر مثلها، ووقع الطلاق على الأخرى بغير عوض، وإن قال: المطلقة بالألف هي التي لم تقبل.. وقع الطلاق على القابلة بغير عوض، ولم يقع الطلاق على التي لم تقبل.
وإن لم تقبل واحدة منهما.. سقط الطلاق بالألف، ويقال له: عين المطلقة بغير الألف، فإذا عين إحداهما.. وقع الطلاق عليها بغير عوض.
وإن ردتا جميعا ولم تقبلا.. قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد في التي قبلها يجب أن لا يقع على واحدة منهما طلاق؛ لأنه لم يسلم له شرطه من الألف. قال: وعلى ما ذكرته في التي قبلها يسقط الطلاق الذي شرط فيه الألف، ويقع الطلاق الذي أوقعه بغير شيء، ويطالب بالتعيين.
[مسألة: قالت طلقني عشرا بألف فطلقها واحدة أو أكثر]
] : وإن قالت له: طلقني عشرا بألف، فطلقها واحدة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يستحق عليها عشر الألف؛ لأنها جعلت لكل طلقة عشر الألف.
والثاني: يستحق عليها ثلث الألف؛ لأن ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم.
قال: فإن طلقها ثلاثا.. استحق عليها - على الوجه الأول - ثلاثة أعشار الألف، وعلى الثاني جميع الألف.
وأما القاضي أبو الطيب: فحكى عن ابن الحداد: إذا قالت: طلقني عشرا بألف، فطلقها واحدة.. استحق عليها عشر الألف.(10/52)
قال القاضي: قلت أنا: وإن طلقها اثنتين.. استحق عليها خمس الألف، وإن طلقها ثلاثا.. استحق عليها جميع الألف. وهكذا ذكر ابن الصباغ، ولم يذكر الوجه الثاني.
[فرع: لها واحدة فقالت طلقني ثلاثا بألف]
] : إذا بقي له عليها طلقة، فقالت له: طلقني ثلاثا بألف: واحدة هي التي بقيت علي، واثنتين من نكاح آخر إذا نكحتني بعد زوج آخر، فطلقها ثلاثا.. وقع عليها طلقة؛ لأنها هي التي يملك، ولا تقع عليها الطلقتان الأخريان؛ لأنه طلاق قبل نكاح. وكم يستحق من العوض؟
قال الشافعي: (له مهر مثلها) .
قال أصحابنا: إن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. استحق عليها مهر مثلها، وحمل النص على هذا. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يستحق عليها ثلث الألف.
وقال الشيخ أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: يستحق عليها ثلث الألف.
والثاني: يستحق عليها جميع الألف.
[فرع: لها طلقة فقالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها اثنتين]
إذا بقيت له على امرأته طلقة، فقالت له: طلقني ثلاثا بألف، فقال لها: أنت طالق طلقتين: الأولى بألف، والثانية بغير شيء.. فقال أبو العباس بن القاص: وقعت الطلقة التي بقيت له بألف عليها، ولا تقع عليها الثانية.
وإن قال: الأولى بغير شيء، والثانية بألف.. وقعت عليها الطلقة التي بقيت له بغير شيء، ولم تقع الثانية.(10/53)
فاعترض عليه بعض أصحابنا، وقال: إذا قال: أنت طالق طلقتين.. فليس فيهما أولى ولا ثانية.
قال القاضي أبو الطيب: أخطأ هذا المعترض؛ لأن كلامه إذا لم يقطعه.. قبل منه ما شرط فيه وقيده، ولهذا يقبل استثناؤه.
وإن بقيت له واحدة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق طلقتين إحداهما بألف. قال أبو العباس بن القاص: وقعت عليها واحدة ولزمها الألف.
وقال أبو عبد الله الختن في " شرح التلخيص ": يجب أن يرجع إلى بيانه، فإن قال: أردت بقولي: (إحداهما بألف) الأولى دون الأخرى.. فله الألف. وإن قال: أردت بقولي: (إحداهما بألف) الثانية.. لم يكن له شيء.
قال القاضي أبو الطيب: الصحيح: ما قاله ابن القاص؛ لأنه إذا لم يقل المطلق: الأولى أو الثانية بلفظه.. لم يكن فيهما أولى ولا ثانية، فترجع الألف إلى الطلقة التي بقيت له.
[فرع: قالت له طلقني واحدة بألف فطلقها وقال وطالق وطالق]
] : وإذا قالت: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق على ألف، وطالق وطالق.. وقعت عليها الأولى بالألف، ولم يقع ما بعدها.
وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق على ألف.. قيل له: أي الثلاث أردت بالألف؟
فإن قال: أردت الأولى.. بانت بالأولى، ولم يقع عليها ما بعدها.
وإن قال: أردت الثانية بالألف.. وقعت الأولى رجعية. فإن قلنا يصح خلع الرجعية.. وقعت الثانية أيضا بالألف، ولم تقع الثالثة. وإن قلنا: لا يصح خلع الرجعية.. وقعت الأولى رجعية والثانية رجعية، وبانت بالثالثة، ولا يستحق عليها عوضا.
وإن قال: أردت الثالثة بالألف.. قال المحاملي: صح ذلك، واستحق عليها(10/54)
الألف قولا واحدا؛ لأن الثالثة تقع بها بينونة لا تحل إلا بعد زوج، فيوجد فيها معنى يختص بها ولا يوجد في الأولى ولا في الثانية، فصح.
وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يستحق عليها الألف على القول الذي يقول: لا يصح خلع الرجعية، كما قلنا في التي قبلها.
وإن قال: أردت الثلاث بالألف.. وقعت الأولى بثلث الألف وبانت بها، ولم يقع ما بعدها.
[مسألة: قال لها طالق وعليك ألف أو على أن عليك ألفا]
قال الشافعي: (وإن قال لها: أنت طالق وعليك ألف درهم.. فهي طالق ولا شيء عليها) . وإنما كان ذلك؛ لأن قوله: (أنت طالق) ابتداء إيقاع، وقوله: (وعليك ألف) استئناف كلام، فلم يتعلق بما قد تقدم، فيكون الطلاق رجعيا. فإن ضمنت له الألف.. لم يلزمها بهذا الضمان حق؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وإن أعطته الألف.. كان ابتداء هبة لم تنقطع به رجعته.
وإن قال: أنت طالق على أن عليك ألفا.. قال الشافعي في " الأم ": (فإن ضمنت في الحال.. وقع الطلاق، وإن لم تضمن.. لم يقع) ؛ لأن (على) : كلمة شرط، فقد علق وقوع الطلاق بشرط، فمتى وجد الشرط.. وقع الطلاق. بخلاف الأولى؛ فإن قوله: (وعليك ألف) استئناف كلام وليس بشرط.
[مسألة: شرط ألف درهم لطلاقها فأعطته]
] : وإن قال: إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق، فأعطته في الحال بحيث يكون جوابا لكلامه.. نظرت:
فإن أعطته ألف درهم مضروبة لا زائدة ولا ناقصة.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الشرط. وإن أعطته ألف درهم مضروبة وزيادة.. وقع الطلاق؛ لوجود الشرط(10/55)
والزيادة لا تمنعها، كما لو قال: إن أعطيتني ثوبا فأنت طالق، فأعطته ثوبين.
فإن قيل: أليس الإعطاء عندكم بمنزلة القبول، والقبول إذا خالف الإيجاب، فإن كان بالزيادة.. لم يصح، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا بألف، فقال: قبلت بألفين.. لم يصح؟
قلنا: الفرق بينهما: أن القبول يقع بحكم الإيجاب في العقد، فمتى خالفه.. لم يصح، وهاهنا المغلب فيه حكم الصفة، فوقع الطلاق.
والذي يقتضي المذهب: أن لها أن تسترد الزيادة على الألف، ويملك الزوج الألف إذا كانت الدراهم معلومة، وإن كانت مجهولة.. ردها ورجع عليها بمهر المثل.
وإن أعطته دراهم ناقصة، فإن كانت ناقصة العدد والوزن، بأن أعطته دراهم عددها دون الألف ووزنها دون وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد.
وإن كانت وافية العدد ناقصة الوزن، بأن أعطته ألف درهم مضروبة إلا أن وزنها دون وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن إطلاق الدراهم يقتضي وزن الإسلام.
وإن كانت ناقصة العدد وافية الوزن، بأن أعطته تسعمائة درهم مضروبة إلا أن وزنها وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة؛ لأن الاعتبار بالوزن دون العدد إذا لم يكن مشروطا.
وإن أعطته قطعة فضة نقرة، وزنها ألف درهم.. لم يقع الطلاق؛ لأن إطلاق الدراهم إنما ينصرف إلى المضروبة. وإن أعطته ألف درهم مضروبة رديئة، فإن كانت رداءتها من جهة الجنس أو السكة، بأن كانت فضتها خشنة أو سكتها مضطربة.. وقع الطلاق؛ لوجود الصفة.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وله ردها والمطالبة ببدلها سليمة من نقد البلد؛ لأن إطلاق المعاوضة يقتضي السلامة من العيوب(10/56)
وإن أعطته ألف درهم مغشوشة بغير جنسها، بأن كانت مغشوشة برصاص أو نحاس، فإن كانت الفضة لا تبلغ ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد. وإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم من دراهم الإسلام.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة.
[فرع: طلبت الطلاق على ألف فطلقها ثلاثا]
] : إذا قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا.. استحق الألف.
وإن طلقها واحدة أو اثنتين.. قال الصيمري: سألناها، فإن قالت: أردت ما أجابني به أو أقل.. لزمها الألف. وإن قالت: أردت أكثر.. فالقول قولها مع يمينها، وله العوض بحساب ما طلق.
وإن سألت الطلاق مطلقا بعوض، فقال: أنت طالق، فإن قال: أردت الثلاث.. وقع عليها الثلاث، واستحق الألف. وإن قال: أردت ما دون الثلاث.. رجع إليها في ما سألت، وكان الحكم كالأولى.
[فرع: خالعته على ألف درهم فخالعها أو علق طلاقها]
] : إذا قالت: خالعني على ألف درهم، فقال: خالعتك.. نظرت: فإن قيداه بدراهم من نقد بلد معلوم.. صح، ولزم الزوجة منها. وإن لم يقيدا ذلك بنقد بلد معروف، وكانا في بلد فيه دراهم غالبة.. انصرف ذلك إليها، كما قلنا في البيع.
وإن كان في بلد لا دراهم فيها غالبة ونويا صنفا من الدراهم، أو قال: خالعتك على ألف - ولم يقل من الدراهم ولا من الدنانير - فقالت: قبلت، ونويا صنفا من الدراهم والدنانير واتفقا عليه.. انصرف إطلاقهما إلى ما نوياه؛ لأنهما إذا ذكرا ذلك واعترفا: أنهما أرادا صنفا.. صار كما لو ذكراه. وإن لم ينويا صنفا.. صح الخلع، وكان العوض فاسدا، فيلزمها مهر المثل.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا قال: إن دفعت إلي ألف درهم فأنت(10/57)
طالق، ونويا صنفا من الدراهم.. صح الخلع، وحمل على ما نويا.
والذي يقتضي المذهب: أن نيتهما إنما تؤثر في الخلع المنجز على ما مضى، وأما هذا: فهو طلاق معلق على صفة، وأي صنف من الدراهم أعطته.. وقع به الطلاق، ولا تأثير للنية.
[فرع: إرضاع زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة وحصول خلع]
] : إذا كانت له زوجتان، صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة رضاعا يحرم، وخالع الزوج الكبيرة، فإن علم أن الخلع سبق الرضاع.. صح الخلع. وإن علم أن الرضاع سبق الخلع.. لم يصح الخلع؛ لأن النكاح انفسخ قبل الخلع. وإن أشكل السابق منهما.. صح الخلع أيضا؛ لأن الأصل بقاء الزوجية.
[مسألة: مخالعة الذميين والوثنيين]
] : إذا تخالع الزوجان الوثنيان أو الذميان.. صح الخلع؛ لأنه معاوضة فصح منهما، كالبيع. ولأن من صح طلاقه بغير عوض.. صح بعوض، كالمسلمين.
فإن عقدا الخلع بعوض صحيح، ثم ترافعا إلينا.. أمضاه الحاكم قبل التقابض وبعده؛ لأنه صحيح.
وإن تخالعا بعوض فاسد كالخمر والخنزير، فإن ترافعا إلينا قبل التقابض.. لم يأمر بإقباضه، بل يوجب له مهر المثل.
وإن ترافعا بعد تقابض الجميع.. لم ينقضه، بل يحكم ببراءة ذمتها.
فإن ترافعا بعد أن قبض البعض.. فإن الحاكم يمضي من ذلك ما تقابضاه، ويحكم له من مهر المثل بقسط ما بقي، كما قلنا في الصداق.
وإن تخالع المشركان على خمر أو خنزير، ثم أسلما أو أحدهما قبل التقابض.. فإن الحاكم يحكم بفساد العوض، ويوجب مهر المثل اعتبارا بحال المسلم منهما.(10/58)
[فرع: ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول ثم تخالعا]
] : وإن ارتد الزوجان المسلمان أو أحدهما بعد الدخول، ثم تخالعا في حال الردة.. كان الخلع موقوفا. فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنه بان أن النكاح باق. وإن انقضت عدتها قبل أن يجتمعا على الإسلام.. لم يصح الخلع؛ لأنه بان أن النكاح انفسخ بالردة.
[مسألة: ادعاء الزوجة أنه طلقها بألف وأنكر]
] : إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه طلقها بألف، وأنكر، فإن لم يكن معها بينة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الطلاق. وإن كان معها بينة، شاهدان ذكران، واتفقت شهادتهما.. حكم عليه بالطلاق وانقطاع الرجعة.
قال الشيخ أبو حامد: ويستحق عليها الألف، فإن شاء.. أخذها، وإن شاء.. تركها.
وإن شهد أحدهما أنه خالعها بألف، وشهد الآخر أنه خالعها بألفين.. لم يحكم بالخلع؛ لأنهما شهدا على عقدين.
وإن أقامت شاهدا واحدا وأرادت أن تحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. لم يحكم بصحة الخلع؛ لأن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين.
[مسألة: ادعاء الزوج الطلاق على ألف وأنكرت أو أنها كانت مكرهة]
] : وإن ادعى الزوج على زوجته أنه طلقها بألف وأنكرت، فإن كان ليس له بينة حلفت؛ لأنه يدعي عليها دينا في ذمتها، والأصل براءة ذمتها منه، ويحكم عليه بالبينونة؛ لأنه أقر على نفسه بذلك.
وإن كان معه بينة، فإن أقام شاهدين ذكرين.. حكم له عليها بالمال. وإن أقام شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. ثبت له المال؛ لأن دعواه بالمال، وذلك يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.(10/59)
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قالت: طلقني بألف إلا أني كنت مكرهة على التزامه.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها.
[فرع: ادعاؤه أنها طلبت طلاقها بألف فطلقها واختلفا]
] : وإن ادعى الزوج عليها أنها استدعت منه الطلاق بألف فطلقها عليه، فقالت: قد كنت استدعيت منك الطلاق بألف ولكنك لم تطلقني على الفور، بل بعد مضي مدة الخيار، وقال: بل طلقتك على الفور.. بانت منه بإقراره، والقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها.
وإن قال الزوج: طلقتك بعد مضي وقت الخيار فلي الرجعة، وقالت: بل طلقتني على الفور فلا رجعة لك.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الطلاق.
[فرع: اختلفا في قدر أو صفة أو عين العوض أو عدد الطلاق]
] : وإن اختلفا في قدر العوض، بأن قال: خالعتك على ألفي درهم، فقالت: بل على ألف. أو اختلفا في صفة العوض، بأن قال: خالعتك على ألف درهم من نقد بلد كذا، وقالت: بل على ألف درهم من نقد بلد كذا. أو اختلفا في عين العوض، بأن قال: خالعتك على هذه الجارية، فقالت: بل على هذا العبد. أو في تعجيله وتأجيله، بأن قال: خالعتك على ألف درهم معجلة، فقالت: بل على ألف درهم مؤجلة. أو في عدد الطلاق، بأن قالت: بذلت لك ألفا لتطلقني ثلاثا، فقال: بل بذلت لي ألفا لأطلقك واحدة ولم أطلق غيرها.. فإنهما يتحالفان في جميع ذلك على النفي والإثبات، كما قلنا في المتبايعين.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (القول قول المرأة) .
دليلنا: أن الخلع عقد معاوضة، فإذا اختلفا في قدر عوضه أو صفته أو معوضه.. تحالفا، كالمتبايعين.
إذا ثبت هذا: فإنهما إذا تحالفا.. فإن التحالف يقتضي فسخ العقد، إلا أنه لا يمكن هاهنا أن ينفسخ الخلع؛ لأنه لا يلحقه الفسخ، فيسقط العوض المسمى في(10/60)
العقد ويرجع عليها بمهر مثلها، كالمتبايعين إذا اختلفا بعد هلاك السلعة.
وعلى قول من قال من أصحابنا: إن البائع يرجع بأقل الأمرين: من الثمن الذي يدعيه البائع، أو قيمة السلعة.. يرجع الزوج هاهنا بأقل الأمرين: من العوض الذي يدعيه الزوج، أو مهر المثل.
وإذا اختلفا في قدر الطلاق.. فلا يقع إلا ما أقر به الزوج.
[فرع: خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه واختلفا]
فرع: [خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه أو فيه دراهم غالبة واختلفا] : وإن خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه، فقال أحدهما: نوينا من دراهم بلد كذا، وقال الآخر: بل نوينا من دراهم بلد كذا. أو خالعها على ألف مطلقا، وقال أحدهما: نوينا من الدراهم، وقال الآخر: بل نوينا من الدنانير.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يتحالفان، بل يجب مهر المثل؛ لأن ضمائر القلوب لا تعلم.
والثاني - وهو المذهب -: أنهما يتحالفان؛ لأن النية لما كانت كاللفظ في صحة العقد.. كانت كاللفظ عند الاختلاف، ولأنه يجوز أن يعرف كل واحد منهما ما نواه الآخر في ذلك بإعلامه إياه أو بأمارات بينهما، فإذا اختلفا في ذلك.. تحالفا.
وإن قال أحدهما: خالعت على ألف درهم من نقد بلد كذا وكانا في بلد فيه دراهم غالبة، وقال الآخر: بل خالعت على ألف مطلقة غير مقيدة بدراهم ولا دنانير.. تحالفا؛ لأن أحدهما يدعي أن العوض الدراهم المسماة، والآخر يدعي أن العوض مهر المثل، فتحالفا، كما قلنا لو اختلفا في قدر العوض.
وإن بقيت له على امرأته طلقة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة - وقلنا بقول أبي العباس وأبي إسحاق: إنها إذا علمت أنه لم يبق لها إلا طلقة واحدة إنه يستحق عليها الألف - فادعى الزوج: أنها كانت عالمة بأنه ما بقي له إلا طلقة، وقالت: ما كنت عالمة بذلك.. تحالفا؛ لأنهما اختلفا في عدد الطلاق المبذول به الألف، فهي تقول: ما بذلت الألف إلا في مقابلة الثلاث، والزوج يقول: بذلت الألف في مقابلة الواحدة لعلمك بها، فتحالفا، كما لو كان يملك عليها ثلاث طلقات واختلفا في عدد الطلاق، ويجب له مهر مثلها؛ لما ذكرناه.(10/61)
[مسألة: اختلفا في بذل العوض على المخالعة]
] : إذا قال: خالعتك على ألف درهم، فقالت: ما بذلت لك العوض على طلاقي وإنما بذل لك زيد العوض من ماله على طلاقي.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها، وتبين منه لاتفاقهما على طلاقها بعوض.
وإن قال: خالعتك بألف درهم في ذمتك، فقالت: خالعتني بألف في ذمتي إلا أن زيدا ضمنها عني.. لزمها الألف؛ لأنها أقرت بوجوبها عليها، إلا أنها ادعت أن زيدا ضمنها عنها، وذلك لا يسقطها من ذمتها.
وإن قالت: خالعتني بألف يزنها عني زيد.. لزمها الألف؛ لأنها أقرت بوجوبها عليها؛ لأن زيدا لا يزن عنها إلا ما وجب عليها.
وإن قال: خالعتك على ألف درهم في ذمتك أو في يدك، وقالت: بل خالعتني على ألف درهم في ذمة زيد لي.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في عين العوض فتحالفا، كما لو قال: خالعتك على هذه الدراهم في هذا الكيس، فقالت: بل على هذه التي في الكيس الآخر.
والثاني: أنهما لا يتحالفان؛ لأن الخلع على ما في ذمة الغير لا يصح؛ لأنه غير مقدور عليه، فهو كما لو خالعها على عبدها الآبق.
فعلى هذا: يلزمها مهر مثلها. والمذهب الأول؛ لأن بيع الدين في الذمة من غير السلم والكتابة يصح في أحد الوجهين. وإن قلنا: لا يصح، فلم يتفقا على أنه خالعها عليه، وإنما هي تدعي ذلك والزوج ينكره، فهو كما لو قالت: خالعتني على خمر أو خنزير، فقال: بل على الدراهم أو الدنانير.. فإنهما يتحالفان، فكذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق(10/62)
[كتاب الطلاق](10/63)
كتاب الطلاق الطلاق ملك للأزواج يصح منهم على زوجاتهم، والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ، وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الآية [البقرة: 229] .
وأما السنة فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة بنت عمر ثم راجعها» .(10/65)
وروي عن ابن عمر: أنه قال: «كان تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأمرني أن أطلقها» .
وأجمعت الأمة على جواز الطلاق.
إذا ثبت هذا: فإن الطلاق لا يصح إلا بعد النكاح. فأما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إذا تزوجت امرأة من القبيلة الفلانية فهي طالق، أو إذا تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال لأجنبية: إذا دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق.. فلا يتعلق بذلك حكم، فإن تزوج.. لم يقع عليها الطلاق. وكذلك: إذا عقد العتق قبل الملك.. فلا يصح.
هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(10/66)
ومن التابعين: شريح وابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والحسن وعروة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
ومن الفقهاء: أحمد وإسحاق إلا أن أحمد له في العتق روايتان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (تنعقد الصفة في عموم النساء وخصوصهن. وكذلك: إذا قال لامرأة أجنبية: إذا دخلت الدار وأنت زوجتي، فأنت طالق، فتزوجها ودخلت الدار.. طلقت) . وكذلك يقول في عقد العتق قبل الملك مثله.
وحكي ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الزهري.
وقال مالك: (إن عين ذلك في قبيلة بعينها أو امرأة بعينها.. انعقدت الصفة، وإن عم لم تنعقد) . وبه قال النخعي والشعبي وربيعة والأوزاعي وابن أبي ليلى.
دليلنا: ما روى المسور بن مخرمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك» . ولأن من لم يقع طلاقه المباشر، لم ينعقد طلاقه بصفة كالمجنون والصغير.(10/67)
[مسألة: طلاق من رفع القلم عنه]
] : ولا يصح طلاق الصبي والنائم والمجنون.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (إذا عقل الصبي الطلاق.. وقع) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولا يصح طلاق المعتوه، ومن زال عقله بمرض أو بسبب مباح؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه والصبي» .(10/68)
ولأنه يلفظ بالطلاق ومعه علم ظاهر يدل على فقد قصده بوجه هو معذور فيه، فلم يقع طلاقه، كالطفل.
[فرع: طلاق السكران]
] : وإن شرب خمرا أو نبيذا فسكر، فطلق في حال سكره.. فالمنصوص: (أن طلاقه يقع) .
وحكى المزني: أنه قال في القديم: (في ظهار السكران قولان) .
فمن أصحابنا من قال: إذا ثبت هذا: كان في طلاقه أيضا قولان:
أحدهما: لا يقع، وإليه ذهب ربيعة والليث وداود وأبو ثور والمزني؛ لأنه زال عقله، فأشبه المجنون.
والثاني: يقع طلاقه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] ، فخاطبهم في حال السكر، فدل على أن السكران مكلف.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال: إن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر واستحقروا حد العقوبة فيه، فما ترون؟ فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه إذا شرب.. سكر، وإذا سكر.. هذى، وإذا هذى.. افترى،(10/69)
فحده حد المفتري) . فلولا أن لكلامه حكما.. لما زيد في حده لأجل هذيانه.
وقال أكثر أصحابنا: يقع طلاقه قولا واحدا؛ لما ذكرناه من الآية والإجماع.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأن السكر لا يعلم إلا من جهته وهو متهم في دعوى السكر لفسقه.
فعل هذا: يقع الطلاق في الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
ومنهم من قال: وقع طلاقه تغليظا عليه.
فعلى هذا: يقع منه كل ما فيه تغليظ عليه، كالطلاق والردة والعتق وما يوجب الحد، ولا يقع منه ما فيه تخفيف، كالنكاح والرجعة وقبول الهبة.
ومنهم من قال: لما كان سكره بمعصية.. سقط حكمه، فجعل كالصاحي. وهذا هو الصحيح، فيصح منه الجميع.
فإن شرب دواء أو شرابا غير الخمر والنبيذ فسكر، فإن شربه لحاجة.. فحكمه حكم المجنون. وإن شربه ليزول عقله.. فهو كالسكران يشرب الخمر؛ لأنه زال عقله بمعصية، فهو كمن شرب الخمر أو النبيذ.
[مسألة: طلاق المكره]
] : وإن أكره على الطلاق فطلق، فإن كان مكرها بحق، كالمولى إذا أكره.. وقع الطلاق، كما نقول في الحربي إذا أكره على كلمة الإسلام. وإن كان مكرها بغير حق ولم ينو إيقاع الطلاق.. فالمنصوص: (أنه لا يقع طلاقه) .(10/70)
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] ، وابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يقع إذا ورى بغير الطلاق، مثل أن يريد به طلاقها من وثاق، أو يريد امرأة اسمها كاسم امرأته، فأما إذا لم يور.. وقع.
والمذهب الأول، وبه قال عمر، وعلي، وابن الزبير، وابن عمر، وشريح، والحسن، ومالك، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والنخعي، والشعبي: (يقع طلاقه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» و (الإغلاق) : الإكراه. ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح، كما لو أكره على الإقرار بالطلاق.
وقولنا: (بغير حق) احتراز من المولى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق.
إذا ثبت هذا: فلا يكون مكرها حتى يكون المكره له قاهرا له لا يقدر على الامتناع منه، وأن يغلب على ظنه أنه إذا لم يطلق فعل به ما أوعده به.
فإن أوعده بالقتل أو قطع طرف.. كان ذلك إكراها. وإن أوعده بالضرب أو الحبس أو الشتم أو أخذ المال.. فاختلف أصحابنا فيه:(10/71)
فقال أبو إسحاق: إن ذلك لا يقع به الإكراه.
وقال عامة أصحابنا - وهو المذهب -: إن أوعده بالضرب والحبس والشتم، فإن كان المكره من ذوي الأقدار والمروءة ممن يغض ذلك في حقه.. كان إكراها له؛ لأن ذلك يسوؤه. وإن كان من العوام السخفاء.. لم يكن ذلك إكراها في حقه؛ لأنه لا يبالي بذلك.
وإن أوعده بأخذ القليل من ماله مما لا يتبين عليه.. لم يكن إكراها. وإن أوعده بأخذ ماله أو أكثره.. كان مكرها. وإن أوعده بإتلاف الولد.. فهل يكون إكراها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . وإن أوعده بالنفي عن البلد، فإن كان له أهل في البلد.. كان ذلك إكراها. وإن لم يكن له أهل. ففيه وجهان.
أحدهما: أنه إكراه؛ لأنه يستوحش بمفارقة الوطن.
والثاني: ليس بإكراه؛ لتساوي البلاد في حقه. هذا مذهبنا.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (ما أوعده به.. فليس بإكراه؛ لأنه لم ينله ما يستضر به) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد، فأما ما فعله به.. فلا يمكن إزالته.
[فرع: الإكراه في الطلاق مع التورية أو النية]
] : إذا أكره على الطلاق، ونوى بقلبه من وثاق، أو نوى غيرها ممن يشاركها في الاسم وأخبر بذلك.. قبل منه؛ لموضع الإكراه. وإن نوى إيقاع الطلاق عليها. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع؛ لأنه صار مختارا لإيقاعه.(10/72)
والثاني: لا يقع؛ لأن حكم اللفظ يسقط بالإكراه، وتبقى النية، والنية لا يقع بها الطلاق.
[فرع: وقوع الطلاق في الرضا والغضب وغيرهما]
] : ويقع الطلاق في حال الرضا والغضب، والجد والهزل؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» .
ويقع الطلاق من المسلم والكافر، والحر والعبد والمكاتب؛ لإجماع الأمة على ذلك.
وإن تزوج امرأة فنسي أنه تزوجها، فقال: أنت طالق.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه صادف ملكه.(10/73)
[مسألة: طلق أعجمي مع جهل المعنى]
وإن قال العجمي لامرأته: أنت طالق ولم يعرف معناه ولا نوى موجبه.. لم يقع الطلاق، كما لو تكلم بالكفر ولا يعرف معناه ولا نوى موجبه. فإن نوى موجبه بالعربية.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها الطلاق؛ لأنه نوى موجبه.
الثاني: لا يقع، كما لو تكلم بالكفر ولا يعلم معناه ونوى موجبه.
[مسألة: اعتبار عدد الطلاق]
] : عدد الطلاق معتبر بالرجال دون النساء، فيملك الحر ثلاث تطليقات، سواء كانت زوجته حرة أو أمة. ولا يملك العبد إلا طلقتين، سواء كانت زوجته حرة أو أمة. وبه قال ابن عمر، وابن عباس. ومن الفقهاء: مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (عدد الطلاق معتبر بالنساء. فإن كانت الزوجة حرة.. ملك زوجها عليها ثلاث تطليقات، سواء كان حرا أو عبدا. وإن كانت أمة.. لم يملك زوجها عليها إلا طلقتين، سواء كان حرا أو عبدا) . وبه قال علي بن أبي طالب.
دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كان الرجل يطلق امرأته في صدر الإسلام ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فأتت المرأة فأخبرتني بذلك، فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فسكت حتى نزل قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .(10/74)
وهذه الآية وردت في بيان عدد الطلاق؛ لأن معنى قوله: {مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] يعني: طلقتين، أي: من طلق طلقتين.. فله الرجعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ، وله أن يطلقها الثالثة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .. وروي: أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
وإنما وردت الآية في الحر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فأحل الله تعالى له الأخذ، والذي يحل له الأخذ هو الحر دون العبد، ولم يفرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة.
فإن قيل: الأمة لا تفتدي! قلنا: بلى تفتدي، فإن افتدت بإذن سيدها.. كان ذلك مما في يدها أو كسبها، وإن افتدت الأمة بغير إذن سيدها.. كان ذلك في ذمتها.
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء» .(10/75)
وروى الشافعي: (أن مكاتبا لأم سلمة طلق امرأته وهي حرة تطليقتين، وأراد أن يراجعها، فأمره أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عثمان فيسأله، فذهب إليه فوجده أخذ بيد زيد بن ثابت، فسألهما عن ذلك فانتهراه - وروي: فابتدراه - وقالا: حرمت عليك حرمت عليك) ، ولا مخالف لهما، فدل على: أنه إجماع، ولأنه عدد محصور يملك الزوج رفعه، فكان اعتبار عدده به، كعدد المنكوحات.
فقولنا: (عدد محصور) احتراز من القسم بين النساء.
وقولنا: (يملك الزوج رفعه) احتراز من الحدود؛ فإن الاعتبار بالموقع فيه.
[فرع: علق الطلاق ثلاثا على عتقه]
] : إذا قال العبد لزوجته: إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا، فأعتق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تقع عليها الثالثة؛ لأنه عقدها في وقت لا يملكها.
والثاني: يقع؛ لأنه كان مالكا لأصل الطلاق، فهو كما لو علق الطلاق البدعي في وقت السنة.
[فرع: طلاق الذمي الحر]
] : إذا طلق الذمي الحر امرأته طلقة، فنقض الأمان ولحق بدار الحرب، فسبي واسترق، ثم تزوج زوجته التي طلقها بإذن سيده.. قال ابن الحداد: لم يملك عليها(10/76)
أكثر من طلقة واحدة؛ لأن النكاح الثاني يبني على الأول في عدد الطلاق.
وإن طلقها طلقتين، ونقض الأمان، ولحق بدار الحرب، فسبي واسترق، ثم تزوجها بإذن سيده.. كانت عنده على واحدة؛ لأن الطلقتين الأوليين لم يحرماها عليه، فلم يتغير الحكم بالرق الطارئ بعده.
وكذلك: إذا طلق العبد امرأته طلقة، فأعتق ثم تزوجها.. ملك عليها تمام الطلاق وهو طلقتان؛ لأن الطلقة الأولى لم تحرمها عليه.
ولو طلق العبد امرأته طلقتين، ثم أعتق العبد.. لم يجز له أن يتزوجها قبل زوج؛ لأنه حرمت عليه بالطلقتين الأوليين، فلا يتغير الحكم بالعتق الطارئ.
[مسألة: محل وقوع الطلاق وأقسامه والطلاق البدعي وأحكامه]
] : ويقع الطلاق على كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها؛ لعموم الآية والإجماع.
وينقسم الطلاق على أربعة أضرب: واجب ومستحب ومكروه ومحرم.
فأما (الواجب) : فهو طلاق الحكمين عند شقاق الزوجين إذا قلنا: إنهما حكمان، وكذلك طلاق المولي إذا انقضت مدة الإيلاء وامتنع من الفيئة على ما يأتي.
وأما (المستحب) : فبأن تقع الخصومة بين الزوجين وخافا أن لا يقيما حدود الله، فيستحب له أن يطلقها؛ لأنه إذا لم يطلقها.. ربما أدى إلى الشقاق. أو تكون المرأة غير عفيفة، فيستحب له أن يطلقها؛ لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: " طلقها "، فقال: إني أحبها قال "أمسكها»(10/77)
وأما (المكروه) : فأن تكون الحال بينهما مستقيمة، ولا يكره شيئا من خلقها ولا خلقها ولا دينها، فيكره له أن يطلقها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .
وأما (المحرم) : فهو طلاق المرأة المدخول بها في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يتبين حملها، ويسمى طلاق البدعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] أي: لوقت عدتهن، ووقت العدة: هو الطهر.
ولما روي «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها.. فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وفي رواية أخرى: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» . ولأنه إذا طلقها في حال الحيض.. أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في حال الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يتبين أنها حامل.. ربما كانت حاملا، فندم على مفارقتها.(10/78)
وإن كانت غير مدخول بها وطلقها في الحيض.. لم يكن طلاق بدعة؛ لأنه لا عدة عليها.
وإن طلق الصغيرة أو الآيسة في الطهر الذي جامعها فيه.. لم يكن طلاق بدعة؛ لأنها لا تحبل فيندم على مفارقتها. وإن طلقها وهي حامل في الطهر الذي جامعها فيه.. لم يكن طلاق بدعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مره فليطلقها طاهرا أو حاملا» . فإن رأت الدم على الحمل، فإن قلنا: إنه ليس بحيض.. فليس بطلاق بدعة، وإن قلنا: إنه حيض.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: هو طلاق بدعة؛ لأنه طلقها على الحيض.
والثاني - وهو المذهب -: أنه ليس بطلاق بدعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليطلقها طاهرا أو حاملا» ، ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: فإن خالف وطلقها في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق. وبه قال كافة أهل العلم.
وذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وبعض أهل الظاهر، والشيعة إلى: أن الطلاق لا يقع.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مره فليراجعها» ، فلولا أن الطلاق قد وقع.. لما أمره أن يراجعها. وروي: «أن ابن عمر قال: يا رسول الله، أرأيت أن لو طلقتها ثلاثا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبنت امرأتك، وعصيت ربك» .
والمستحب: أن يراجعها؛ لحديث ابن عمر، فإن لم يراجعها.. جاز.
وقال مالك: (تجب عليه الرجعة) .(10/79)
دليلنا: أن الرجعة ليست بأولى من ابتداء النكاح أو البقاء عليه، وهما لا يجبان، فكذلك الرجعة.
[مسألة: تفريق الطلقات وحكم طلاق البتة والثلاث]
] : والمستحب لمن أراد أن يطلق امرأته: أن يطلقها واحدة؛ لأنه إن ندم على طلاقها.. أمكنة تلافي ذلك بالرجعة. وإن أراد أن يطلقها ثلاثا.. فالمستحب: أن يفرقها في كل طهر طلقة.
وحكى أبو علي السنجي، عن بعض أصحابنا: أنه قال: لا سنة في عدد الطلاق ولا بدعة، وإنما السنة والبدعة في الوقت.
والمنصوص هو الأول؛ لأنه يسلم بذلك من الندم. ويجوز أن يكون فعل الشيء سنة ولا يكون تركه بدعة، كتحية المسجد والأضحية وما أشبهه.
فإن كانت صغيرة أو آيسة، وأراد أن يطلقها.. فالمستحب: أن يطلقها في كل شهر طلقة؛ لأن كل شهر بدل عن قرء في حقها.
وإن كانت حاملا.. فقد قال بعض أصحابنا: يطلقها كل شهر طلقة.
وقال أبو علي السنجي: يطلقها على الحمل واحدة، فإذا طهرت من النفاس.. طلقها ثانية، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس.. طلقها الثالثة.
وأراد أبو علي: إذا استرجعها قبل وضع الحمل.
فإن خالف وطلقها ثلاثا في طهر واحد، أو في كلمة واحدة.. وقع عليها الثلاث وكان مباحا، ولم يكن محرما. وبه قال عبد الرحمن بن عوف، والحسن بن علي بن أبي طالب.
ومن التابعين: ابن سيرين. ومن الفقهاء: أحمد بن حنبل.
وقال مالك وأبو حنيفة: (جمع الثلاث في وقت واحد محرم، إلا أنه يقع كالطلاق في الحيض) . وبه قال عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود.(10/80)
وذهب بعض أهل الظاهر إلى: أن الثلاث إذا أوقعها في وقت واحد.. لا تقع. وبه قال بعض الشيعة. وقال بعضهم: تقع واحدة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ، ولم يفرق بين أن يطلقها واحدة أو ثلاثا، فلو كان الحكم يختلف.. لبينه.
وروي: «أن عويمرا العجلاني لاعن امرأته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: إن أمسكتها.. فقد كذبت عليها، وهي طالق ثلاثا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها» ، فموضع الدليل: أن العجلاني لم يعلم أنها قد بانت منه باللعان، فطلقها ثلاثا بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيقاعه الثلاث، فلو كان محرما أو كان لا يقع.. لأنكره. ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبيل لك عليها» أي: لا سبيل لك عليها بالطلاق؛ لأنها قد بانت باللعان.
وروي: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " ما أردت بقولك: البتة؟ "، فقال: واحدة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»(10/81)
فدل على: أنه لو أراد الثلاث.. وقعن، إذ لو لم يقعن.. لم يكن لاستحلافه معنى.
وروي: «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبنت امرأتك وعصيت ربك» . وهذا يبطل قول أهل الظاهر والشيعة.
[مسألة: يطلق الزوج أو وكيله وماذا لو فوض إليها الطلاق]
؟] : إذا أراد أن يطلق امرأته.. فله أن يطلق بنفسه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وله أن يوكل من يطلقها، كما يجوز أن يوكل من يتزوج له. وله أن يفوض إليها الطلاق؛ لأن الله أمر نبيه: أن يخير زوجاته، فاخترنه.
وإذا فوض الطلاق إليها.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا أعلم خلافا: أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو يحدث قطعا لذلك.. أن الطلاق يقع عليها) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن القاص: إذا فوض إليها طلاق نفسها.. فلها أن تطلق نفسها ما دام في المجلس ولم تخض في حديث آخر، فإن حاضت في حديث آخر، أو قامت من ذلك المجلس.. لم يكن لها أن تطلق نفسها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو إسحاق: لا يتقدر بالمجلس، بل إذا طلقت نفسها عقيب قوله، بحيث يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق. وإن أخرته عن ذلك ثم طلقت.. لم يقع الطلاق؛ لأنه نوع تمليك، فكان قبوله على الفور كسائر التمليكات. وحمل النص(10/82)
على أنه: أراد مجلس خيار القبول لا مجلس العقود. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان بناء على أن تفويض الطلاق إليها تمليك أو توكيل؟ وفيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: تمليك.. اشترط القبول فيه على الفور، وإن قلنا: توكيل.. يقدر بالمجلس.
و [الثاني] : قال الصيمري: يتقدر بالمجلس قولا واحدا.
والأول أصح؛ لأن التوكيل لا يتقدر بالمجلس. هذا مذهبنا.
وقال الحسن البصري، والزهري، وقتادة: (لها الخيار أبدا) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روي: عن عمر وعثمان: أنهما قالا: (إذا خير الرجل امرأته وملكها أمرها، فافترقا من ذلك المجلس ولم يحدث شيء.. فأمرها إلى زوجها) . وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر، ولا يعرف لهما مخالف.
وإن قال لها: طلقي نفسك متى شئت.. كان لها ذلك؛ لأنه قد صرح لها بذلك.
[فرع: تفويض الطلاق للمرأة أو ضبطه بعدد أو باستثناء]
فرع: [تفويض الطلاق أو التخيير للمرأة ورجوعه عنه أو ضبطه بعدد أو باستثناء] : إذا فوض إليها الطلاق أو خيرها، ثم رجع قبل أن تطلق أو تختار.. بطل التفويض والتخيير.
وقال ابن خيران: لا يبطل. وبه قال مالك وأبو حنيفة، كما لو قال لها: إذا اخترت فأنت طالق، ثم رجع قبل أن تختار.
والمذهب الأول؛ لأن التفويض إما تمليك أو توكيل، وله الرجوع فيهما قبل القبول.(10/83)
وإن قال لها: طلقي نفسك، فإن طلقت بالكناية مع النية.. وقع الطلاق.
وقال ابن خيران، وأبو عبيد بن حربويه: لا يقع.
والأول أصح؛ لأن الكناية مع النية كالصريح.
وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثا، فطلقت واحدة أو طلقتين.. وقع عليها ما أوقعت.
وقال أبو حنيفة: (لا يقع عليها شيء) .
دليلنا: أن من ملك إيقاع الثلاث.. ملك إيقاع الواحدة والاثنتين، كالزوج.
وإن قال لها: طلقي نفسك واحدة، فطلقت ثلاثا.. وقع عليها واحدة.
وقال مالك: (لا يقع عليها شيء) .
دليلنا: أن الواحدة المأذون فيها داخلة في الثلاث، فوقعت دون غيرها.
وقال ابن القاص: ولو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فطلقت ثلاثا، أو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثا، فطلقت واحدة.. لم يقع الطلاق عليها؛ لأنها فوض إليها الطلاق في الأولى بشرط أن تشاء واحدة، وفي الثانية بشرط أن تشاء ثلاثا، ولم توجد الصفة، فلم يقع.
قال الطبري: فإن أخر المشيئة، بأن قال: طلقي نفسك ثلاثا إن شئت، فطلقت واحدة، أو قال: طلقي نفسك واحدة إن شئت، فطلقت ثلاثا.. وقع عليها واحدة فيهما. والفرق: أنه إذا قدم المشيئة.. كان التمليك معلقا بشرط أن تشاء العدد المأذون فيه، فإذا أوقعت غيره مما شاءته.. فلم يقع عليها طلاق، وإذا أخر المشيئة.. كانت المشيئة راجعة إلى الطلاق لا إلى العدد.
[: فرع لو وكله بطلقة فطلق ثلاثا أو عكسه]
فرع: [الوكيل يطلق متى شاء وماذا لو وكله بطلقة فطلق ثلاثا أو عكسه؟] : وإن وكل رجلا ليطلق له امرأته.. كان له أن يطلق متى شاء، كما قلنا في الوكيل في البيع والشراء، بخلاف إذا فوض الطلاق إليها.. فإنه تمليك لمنفعتها، والتمليك يقتضي القبول في الحال.(10/84)
وإن وكله أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أو وكله أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كالزوجة فيما ذكرناه.
والثاني: لا يقع عليها طلاق فيهما؛ لأنه فعل غير مأذون له فيه، فلم يصح.
[مسألة: طلاق جزء من المرأة أو عضو أو عرض منها]
] : إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول، أو إلى عضو من أعضائها، بأن قال: نصفك، أو بعضك، أو يدك، أو رجلك، أو شعرك، أو ظفرك طالق.. فإنها تطلق.
وقال أبو حنيفة: (إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول، أو إلى أحد خمسة أعضاء وهي: الرأس، والوجه، والرقبة، والظهر، والفرج.. وقع عليها الطلاق. وإن أضاف الطلاق إلى سائر أعضائها، كاليد والرجل، أو إلى الشعر والظفر.. لم يقع عليها الطلاق) .
وقال أحمد: (إذا أضاف الطلاق إلى ما ينفصل عنها في حال الحياة، كالشعر والسن والظفر.. لم يقع عليها. وإن أضافه إلى سائر أعضائها.. وقع عليها الطلاق) .
دليلنا: أن الطلاق لا يتبعض، فكانت إضافته إلى جزء منها أو إلى عضو منها كإضافته إلى جميعها، كالعفو عن القصاص، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما يتصل ببدنها اتصال خلقة، فكان كالإشارة إلى جملتها، وكالإشارة إلى الأعضاء الخمسة.
وإن أضاف الطلاق إلى دمها.. فقد قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه غير متصل بالبدن، وإنما هو يجري في البدن.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أضافه إلى دمها.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه كلحمها.(10/85)
وإن قال: ريقك أو بولك أو عرقك طالق.. فقال أصحابنا البغداديون: لا تطلق؛ لأنه ليس بجزء منها، وإنما هو من فضول بدنها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يقع عليها الطلاق.
وإن قال: حملك طالق.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه ليس بمتصل بالبدن، وإنما هو يدور في الرحم.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان.
وإن قطعت أذنها وأبينت منها، ثم ألصقت بالدم فلصقت، فطلق أذنها الملتصقة.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان.
وإن قال: منيك أو لبنك طالق.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فمن أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالدمع والعرق. ومنهم من قال: يقع عليها الطلاق وجها واحدا كالدم، وهذا على أصله.
وإن قال: سوادك أو بياضك طالق.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها الطلاق؛ لأنه من جملة الذات التي لا تنفصل عنها فهي كالأعضاء.
والثاني: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنها أعراض تحل الذات.
إذا ثبت هذا، وأضاف الطلاق إلى عضو منها، أو إلى جزء منها.. فكيف يقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقع الطلاق على جملتها؛ لأن الطلاق لا يتبعض.
والثاني: يقع الطلاق على الذي أوقعه منها، ثم يسري اعتبارا بما سماه.(10/86)
[مسألة: قوله أنا منك طالق ونحوه كناية]
] : وإن قال لامرأته: أنا منك طالق، أو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق.. فهو كناية في الطلاق. فإن نوى الطلاق في الأولى ونوته في الثانية.. وقع عليها الطلاق.
وقال أبو حنيفة: (لا يقع عليها الطلاق) .
دليلنا: أن كل لفظ صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوجة.. صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوج، كالبينونة، فإن أبا حنيفة وافقنا عليها، ولأنه أحد الزوجين فصح إضافة الطلاق إليه كالزوجة.
وإن قال لعبده أو أمته: أنا منك حر.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هو كناية في العتق، فيقع به العتق إذا نواه؛ لأنه إزالة ملك يصح بالصريح والكناية، فجاز إضافته إلى المالك، كإضافة الطلاق إلى الزوج.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يقع به العتق؛ لأن كل واحد من الزوجين يقال له: زوج، فهما مشتركان في الاسم، فإذا جاز إضافة الطلاق إلى الزوجة.. جاز إضافته إلى الزوج، وليس كذلك الحرية؛ لأنها تقع بملك والذي ينفرد بالملك هو السيد فلم تجز إضافة الحرية إليه
وبالله التوفيق.(10/87)
[باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع إلا بالنية]
إذا نوى الرجل طلاق امرأته ولم ينطق به.. لم يقع عليها الطلاق.
وقال مالك في إحدى الروايتين: (يقع) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تجاوز الله لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تكلم به أو تعمل به» .
[مسألة: صريح الطلاق وكنايته]
] : وأما الكلام الذي يقع به الطلاق: فينقسم قسمين: صريحا وكناية.
فـ (الصريح) : ما يقع به الطلاق من غير نية، وهو ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح.
وقال أبو حنيفة: (الصريح: هو لفظ الطلاق لا غير، وأما الفراق والسراح: فهما كنايتان في الطلاق) . وبه قال الطبري في " العدة "، والمحاملي، وإلى هذا أشار الشافعي في القديم؛ لأن العرف غير جار بهاتين اللفظتين.
والمشهور من المذهب هو المذهب الأول: لأن القرآن ورد بهذه الألفاظ الثلاثة على وجه الأمر، فقال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] .
وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] .
وقال في موضع آخر: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] [البقرة: 231] .
إذا ثبت هذا: فالصريح من لفظة الطلاق ثلاثة، وهي قوله: طلقتك أو أنت طالق أو أنت مطلقة.(10/88)
وقال أبو حنيفة: (قوله: أنت مطلقة ليس بصريح، وإنما هو كناية) .
دليلنا: أن قوله: أنت طالق ليس بإيقاع الطلاق، وإنما هو وصف لها بالطلاق، كقوله: أنت نائم، فإن كان صريحا.. فكذلك قوله: (أنت مطلقة) مثله.
وأما (الفراق والسراح) : فالصريح منهما لفظتان لا غير، وهو قوله: فارقتك أو أنت مفارقة، أو سرحتك أو أنت مسرحة. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : في قوله: أنت مفارقة أو أنت مسرحة وجهان:
أحدهما: أنه صريح، كقوله: أنت مطلقة.
والثاني: أنه كناية؛ لأنه لم يرد به الشرع ولا الاستعمال. والأول هو المشهور.
فإن خاطبها بلفظة من الألفاظ الصريحة في الطلاق، ثم قال: لم أقصد الطلاق وإنما سبق لساني إليها.. قال الصيمري: فقد قيل: إن كان هناك حال تدل على ما قال، بأن كان في حالة جرت العادة فيها بالدهش.. جاز أن يقبل منه.
وقيل: لا يلتفت إليه، بل يقع عليها الطلاق- وهو المشهور؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر - ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
[فرع: صرح بالطلاق وادعى أنه قصد ما يصرفه عن ظاهره]
] : وإن قال: أنت طالق، وقال: أردت طلاقا من وثاق. أو قال: فارقتك، وقال: أردت به إلى المسجد. أو قال: سرحتك، وقال: أردت به إلى البيت أو إلى أهلك.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأنه يعدل بالكلام عن ظاهره، ويدين فيما يدعيه بينه وبين الله تعالى.
وقال مالك: (إن قال هذا في حال الرضا.. لم يقبل منه في الحكم، وقبل منه(10/89)
فيما بينه وبين الله تعالى، وإن قاله في حال الغضب.. لم يقبل منه في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسبوا العبد حساب الرب، واعلموا على الظاهر، ودعوا الباطن» . ولأن اللفظ يصلح في الحالين؛ لما ذكره، فيقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى.
وكل ما قلنا: لا يقبل فيه قول الزوج من هذا وما أشبهه، ويقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن الزوجة إذا صدقته على ما يقول.. جاز لها أن تقيم معه. فإن رآهما الحاكم على اجتماع ظاهر.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يفرق بينهما؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احكم بالظاهر والله يتولى السرائر» .(10/90)
والثاني: لا يفرق بينهما؛ لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع.
فإن لم تصدقه الزوجة على قوله واستفتت.. فإنا نقول لها: امتنعي عنه ما قدرت عليه. وإذا استفتى.. قلنا له: إن قدرت على وطئها في الباطن.. حل لك فيما بينك وبين الله تعالى.
وإن قال لها: أنت طالق من وثاق، أو فارقتك مسافرا إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك.. لم يحكم عليه بالطلاق، لأنه وصله بكلام أخرجه عن كونه صريحا، فهو كما لو قال: لا إله وسكت.. كان كفرا؛ وإذا قال: لا إله إلا الله.. كان توحيدا. وكما لو قال: له علي عشرة إلا خمسة.
[مسألة: إجابة الزوج بنعم وغيرها فيما لو سئل عن طلاقه لزوجته]
] : إذا قال له رجل: طلقت امرأتك، أو امرأتك طالق، أو فارقتها، أو سرحتها؟ فقال: نعم.. ففيه قولان، حكاهما ابن الصباغ والطبري:
أحدهما: أن هذا كناية، فلا يقع به الطلاق إلا بالنية؛ لأن قوله: (نعم) ليس بلفظ صريح.
والثاني: أنه صريح في الطلاق، وهو اختيار المزني، ولم يذكر الشيخان غيره، وهو الأصح؛ لأنه صريح في الجواب، وتقديره: نعم طلقت، كما لو قيل له: لفلان عليك كذا، فقال: نعم.. كان إقرارا.
قال الطبري: قال بعض أصحابنا: وهذا مخرج على ما لو قال: زوجتك ابنتي بكذا، فقال الزوج: نعم بدل القبول، أو قال: قبلت لا غير. أو قال الزوج: زوجني ابنتك بكذا، فقال الولي: نعم.. فهل يصح النكاح؟ على قولين.
إذا ثبت هذا، وقلنا: يقع عليه الطلاق.. نظرت: فإن كان صادقا فيما أخبر به من الطلاق.. وقع عليها الطلاق في الظاهر والباطن. وإن لم يكن طلق قبل ذلك وإنما(10/91)
كذب بقوله نعم.. وقع الطلاق في الظاهر دون الباطن. وإن قال: أردت أني كنت طلقتها في نكاح آخر ثم تزوجتها، فإن أقام بينة على ما قال.. فالقول قوله مع يمينه وأنه أراد ذلك؛ لإمكان ما يدعيه. وإن لم يقم على ذلك بينة.. لم يقبل منه قوله في الظاهر، ودين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال له رجل: طلقت امرأتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك.. سئل، فإن قال: أردت أني كنت علقت طلاقها بصفة.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
[فرع: قوله طالق لولا أبوك لطلقتك أو لولا الله]
] : إذا قال لامرأته: أنت طالق، لولا أبوك لطلقتك.. فذكر المزني في فروعه: أنها لا تطلق؛ لأنه ليس بإيقاع للطلاق، وإنما حلف بطلاقها أنه إنما يمسكها لأجل أبيها، ولولا أبوها لطلقها، فلم يحنث، كما لو قال: والله لولا أبوك لطلقتك.
قال صاحب " الفروع ": ويحتمل أن يقع عليها الطلاق؛ لأن قوله: (لولا أبوك لطلقتك) كلام مبتدأ منفصل عن الأول، ولهذا يفرد بجواب. والأول هو المشهور.
فإن كان صادقا بأنه امتنع من طلاقها لأجل أبيها.. لم يقع عليها الطلاق لا ظاهرا ولا باطنا. وإن كان كاذبا.. وقع الطلاق في الباطن دون الظاهر إلا أن يقر بكذبه.. فيقع في الظاهر أيضا.
فإن قال: أنت طالق لولا أبوك أو لولا الله.. لم يقع عليها الطلاق.
[مسألة: ألفاظ كنايات الطلاق]
] : وأما (الكنايات) فهي: كل كلمة تدل على الطلاق، كقوله: أنت خلية،(10/92)
وبرية، وبتة، وبتلة، وبائن، وحرة، وحرام، ومقطوعة، ومنقطعة، وواحدة، انطلقي، اخرجي، الزمي الطريق، اجمعي ثيابك، تزوجي، اختاري لنفسك بعلا، أنفقي على نفسك من مال، اذهبي، ابعدي، اعتدي، تقنعي، استبرئي رحمك، ذوقي، تجرعي، استفلحي، حبلك على غاربك، قد رفعت يدي عنك، قد صرمتك، قد انصرفت عنك، أنت الآن أعلم بشأنك، وهبتك لأهلك، وما أشبه ذلك من الكلام.
فإن نوى بذلك الطلاق.. وقع عليها الطلاق. وإن لم ينو به الطلاق.. لم يقع عليها الطلاق، سواء قال ذلك في حالة الرضا أو في حالة الغضب، وسواء سألته الطلاق أو لم تسأله.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان ذلك في حال مذاكرة الطلاق، وقال لها: أنت بائن، وبتة، وبتلة، وحرام، وخلية، وبرية، والحقي بأهلك، واذهبي.. فلا يحتاج إلى النية. وإن قال لها: حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي.. فإنه يحتاج إلى النية) .
وقال مالك: (الكنايات الظاهرة لا تحتاج إلى النية، كقوله: بائن، وبتة،(10/93)
وبتلة، وحرام، وخلية، وبرية - والفراق والسراح عنده من الكنايات الظاهرة - وأما الكنايات الباطنة: فتفتقر إلى النية، وهي مثل قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي، واذهبي، وحبلك على غاربك، وما أشبه ذلك) .
وقال أحمد: (دلالة الحال في جميع الكنايات تقوم مقام النية) .
دليلنا: أن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره ولا تتميز إلا بالنية، كالإمساك عن الطعام والشراب يحتمل الصوم وغيره ولا يتميز إلا بالنية، ولأن هذه كنايات في الطلاق، فإذا لم تقترن بها النية.. لم يقع بها الطلاق، كالألفاظ التي سموها.
[فرع: قوله أغناك الله ونوى الطلاق وأمثلة أخر]
فرع: [قوله: أغناك الله ونوى وأمثلة أخر] : قال ابن القاص: إذا قال لزوجته: أغناك الله، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا.
فمن أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن هذا دعاء لها، فهو كقوله: بارك الله فيك.
ومنهم من أوقعه؛ لأنه يحتمل أن يريد الغناء الذي قال الله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] [النساء: 130] .
وإن قال لها: زوديني، ونوى به الطلاق.. فقد قال الماسرجسي: يقع به الطلاق؛ لأن الزاد يكون للفراق.
وقال القاضي أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن المراد به الصلة، فهو كقوله: أطعميني واسقيني.
وإن قال لها: كلي واشربي، ونوى به الطلاق.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يقع عليها الطلاق. وبه قال أبو حنيفة، كقوله: أطعميني واسقيني.
والثاني: يقع به الطلاق. وهو اختيار الشيخين؛ لأنه يحتمل: كلي ألم الفراق، واشربي كأسه.(10/94)
فإن قال لامرأته: لست لي بامرأة، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف: لا يقع.
دليلنا: أنه محتمل للطلاق؛ لأنه إذا طلقها.. لا تكون امرأته، فهو كقوله: أنت بائن.
وإن قال له رجل: ألك زوجة؟ فقال: لا، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا.
قال في " الفروع ": ويحتمل أن لا يكون كناية ولا صريحا.
والأول هو المشهور؛ لأنه يحتمل الطلاق.
[فرع: الكنايات وصورها في الطلاق]
فرع: [من الكنايات أنت حرة وأمثلة أخر] : وإن قال لامرأته: أنت حرة، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا.
وإن قال لأمته: أنت طالق، ونوى به العتق.. كان عتقا؛ لأن لفظ الطلاق يتضمن إزالة ملك الزوجية، فكان كناية في العتق، كقوله لا سبيل لي عليك.
وإن قال لامرأته: باب الاستطابة، أو أنت طلاق.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كناية، فلا يقع به الطلاق إلا مع النية؛ لأن الطلاق مصدر، والأعيان لا توصف بالمصادر، فكان مجازا.
والثاني: أنه صريح، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن الطلاق قد يستعمل في معنى طالق. قال الشاعر:
فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما(10/95)
وقال آخر:
فأنت الطلاق والطلاق عزيمة ... ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم
وإن قال له رجل: أخليت امرأتك، أو أبنتها وما أشبه ذلك من الكنايات؟ فقال الزوج: نعم، فإن اعترف الزوج أنه نوى بذلك الطلاق.. كان إقرارا منه بالطلاق. وإن لم يعترف أنه نوى بذلك الطلاق.. لم يلزمه بذلك شيء.
[فرع: مقارنة النية للكناية في الطلاق]
فرع: [مقارنة النية للكناية وعدم وقوع الطلاق بألفاظ لا تصلح له] : وإذا خاطبها بشيء من الكنايات التي يقع بها الطلاق، بأن قال: أنت خلية، فإن لم ينو الطلاق في اللفظ وإنما نواه قبله أو بعده.. لم يكن لهذه النية حكم؛ لأنها لن تقارن اللفظ ولا بعضه، فهو كما لو نوى الطلاق من غير لفظ.
وإن نوى الطلاق في بعض اللفظ، بأن نوى الطلاق في قوله: أنت، وعزبت نيته في قوله: خلية، أو نوى الطلاق في قوله: خلية، دون قوله: أنت.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع الطلاق. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن النية إذا قارنت بعض الشيء ذكرا واستصحب حكمها إلى آخره وإن عزبت في أثنائه.. صح، كالعبادات من الطهارة والصلاة إذا قارنتها النية في أولها ذكرا واستصحب حكمها في باقيها.(10/96)
والثاني: لا تطلق. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن النية قارنت لفظا لا يصلح للطلاق.
وأما الألفاظ التي لا تدل على الفراق إذا خاطبها كقوله: بارك الله فيك، وما أحسن وجهك، أطعميني واسقيني، قومي واقعدي، وما أشبه ذلك.. فلا يقع به الطلاق وإن نواه؛ لأنها لا تصلح للفرقة، فلو أوقعنا الطلاق بذلك.. لأوقعنا الطلاق بمجرد النية، والطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ.
واختلف أصحابنا: هل للفارسية صريح في الطلاق؟ فذهب أكثرهم إلى: أن له صريحا في لغتهم، كما نقول في لغة العرب.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا صريح له في لغتهم.
[مسألة: تخيير الزوجة وحكم الطلاق]
] : يجوز للزوج أن يخير زوجته، فيقول لها: اختاري أو أمرك بيدك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] ، فـ: (خير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه، فاخترنه) .
إذا ثبت هذا، فقال لزوجته: اختاري، فاختارت زوجها.. لم يقع عليها الطلاق. وبه قال ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة، وبه قال أكثر الفقهاء.
وروي: عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايتان:
إحداهما: كقولنا.
والثانية: أنها إذا اختارت زوجها.. وقع عليها طلقة واحدة رجعية. وبه قال الحسن البصري وربيعة.
دليلنا: ما روي: «أن رجلا سأل عائشة عن رجل خير زوجته فاختارته، فقالت: خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه فاخترنه، أكان ذلك طلاقا؟!) فأخبرت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير نساءه فاخترنه، ولم يجعل ذلك طلاقا» وهي أعلم الناس بهذه القصة؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بها.(10/97)
وإن اختارت نفسها.. فهو كناية في الطلاق. فإن نويا الطلاق.. وقع الطلاق. وإن نوى أحدهما دون الآخر ... لم يقع الطلاق؛ لأن الزوج إذا لم ينو.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يجعل إليها الطلاق. وإن نوى الزوج ولم تنو الزوجة.. لم يقع؛ لأنها لم توقع الطلاق.. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (هو صريح، فإذا اختارت الطلاق.. وقع، سواء نويا أو لم ينويا) .
وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى نية الزوجة) .
دليلنا: أن قوله (اختاري) : يحتمل الطلاق وغيره، وكذلك قولها: (اخترت نفسي) : يحتمل الطلاق وغيره، وما كان هذا سبيله.. فلا بد فيه من النية، كسائر الكنايات.
وهل من شرط اختيارها لنفسها: أن يكون على الفور، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه، أو يجوز إذا وقع منها في المجلس قبل أن تخوض المرأة في حديث غيره؟ على وجهين مضى ذكرهما.
وإن قالت المرأة: اخترت الأزواج، ونوت الطلاق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن زوجها من الأزواج.
والثاني: يقع عليها الطلاق، قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأظهر عندي؛ لأنها لا تحل للأزواج إلا بعد مفارقتها لهذا.
وإن قالت: اخترت أبوي، ونوت الطلاق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن ذلك لا يتضمن فراق الزوج.
والثاني: يقع؛ لأنه يتضمن العود إليهما بالطلاق.
وإن قال لها: أمرك بيدك، ونوى به إيقاع الطلاق.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها الطلاق قبل أن تختار؛ لأنه يحتمل الطلاق، فكان كقوله: حبلك على غاربك.(10/98)
والثاني: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه صريح في تمليكها الطلاق ووقوعه بقبولها، فلا يجوز صرفه إلى الإيقاع.
[مسألة: قوله أنت علي حرام]
] : إذا قال لزوجته: أنت حرام علي، فإن نوى به الطلاق.. كان طلاقا. وإن نوى به الظهار - وهو: أن ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه - كان مظاهرا. وإن نوى تحريم عينها، أو تحريم وطئها، أو فرجها بلا طلاق.. وجبت عليه كفارة يمين وإن لم يكن يمينا. وإن لم ينو شيئا.. ففيه قولان.
أحدهما: تجب عليه كفارة يمين، فيكون هذا صريحا في إيجاب الكفارة.
والثاني: لا يجب عليه شيء، فيكون هذا كناية في إيجاب الكفارة، ويأتي توجيههما.
وأما إذا قال الرجل لأمته: أنت حرام علي: فإن نوى عتقها.. عتقت. وإن أراد به طلاقها أو ظهارها.. فقد قال عامة أصحابنا: لا يلزمه شيء؛ لأن الطلاق والظهار لا يصح من السيد في حق أمته.
وقال ابن الصباغ: عندي أنه إذا نوى الظهار.. لا يكون ظهارا، ويكون بمنزلة ما لو نوى تحريمها؛ لأن معنى الظهار: أن ينوي أنها عليه كظهر أمه في التحريم، وهذه نية التحريم المتأكد. وإن نوى تحريم عينها.. وجبت عليه كفارة يمين.
وإن أطلق ولم ينو شيئا.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالزوجة.
ومنهم من قال: تجب الكفارة قولا واحدا؛ لأن النص ورد فيها، والزوجة مقيسة عليها. فهذا جملة المذهب.
وقد اختلف الصحابة فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام، فذهب أبو بكر الصديق وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى: (أن ذلك يمين تكفر) . وبه قال الأوزاعي.(10/99)
وقال عمر بن الخطاب: (هي طلقة رجعية) . وبه قال الزهري.
وقال عثمان بن عفان: (هو ظهار) . وبه قال أحمد.
وقال علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة: (يقع به الطلاق الثلاث) . وبه قال مالك وابن أبي ليلى.
وقال ابن مسعود: (تجب به كفارة يمين) . وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس، وهو كقولنا.(10/100)
واختلف الناس بعد الصحابة بهذه الكلمة، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومسروق: لا يجب فيها شيء. قال أبو سلمة: لا أبالي أن أحرمها أو أحرم ماء النهر. وقال مسروق: لا أبالي أن أحرمها أو أحرم قصعة ثريد.
وقال حماد بن أبي سليمان. هو طلقة بائنة.
وقال أبو حنيفة: (إن نوى الطلاق.. كان طلاقا، وإن نوى الظهار.. كان ظهارا، وإن نوى طلقة.. كانت طلقة بائنة، وإن نوى اثنتين.. لم تقع إلا واحدة، وإن نوى الثلاث.. وقع الثلاث، وإن لم ينو شيئا.. كان موليا؛ فإن فاء في المدة.. كفر، وإن لم يفئ حتى انقضت المدة.. بانت منه. وإن قال ذلك لأمته.. كان حالفا من إصابتها؛ فإن أصابها.. كفر، وإن لم يصبها.. فلا شيء عليه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منزل حفصة فلم يجدها، وكانت عند أبيها، فاستدعى جاريته مارية القبطية، فأتت حفصة، فقالت: يا رسول الله! في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أرضيك، وأسر إليك سرا فاكتميه، هي علي حرام» . فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] [التحريم: 1] ، فقال: لم تحرم، ولم يقل: لم تحلف، ولم تطلق، ولم تظاهر، ولم تولي.
وإذا ثبت هذا في الأمة: قسنا الزوجة؛ لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه.
وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم على نفسه جاريته مارية، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] [التحريم: 1] ،(10/101)
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل من حرم على نفسه ما كان حلالا له أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم» . وهذا يجمع الأمة والزوجة.
فإذا قلنا: إن لفظة الحرام صريح في إيجاب الكفارة.. فوجهه: حديث ابن عباس، ولأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية.. وجب أن يكون لوجوب تلك الكفارة صريح، كالظهار.
وبيان هذا: أنه إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ونوى به الظهار.. وجبت عليه كفارة الظهار، وكان كناية عن الظهار، ثم كان للظهار صريح وهو قوله: أنت علي كظهر أمي. كذلك كفارة التحريم لما وجبت بالكناية مع النية، وهو قوله: أنت علي كالميتة والدم ونوى به تحريم عينها.. وجب أن يكون لهذه الكفارة صريح، وهو قوله: أنت علي حرام.
وإذا قلنا: إن التحريم كناية لا يجب به شيء من غير نية.. فوجهه: أن كل ما كان كناية في جنس.. لم يكن صريحا في ذلك الجنس، كقوله: أنت خلية.
[فرع: قوله أنت كالميتة والدم طلاق أم ظهار]
فرع: [قوله: أنت كالميتة والدم] : إذا قال لامرأته: أنت علي كالميتة والدم، فإن نوى به الطلاق.. كان طلاقا، وإن نوى به الظهار.. كان ظهارا؛ لأنه يصلح لهما. وإن لم ينو شيئا.. لم يكن عليه شيء؛ لأنها كناية تعرت عن النية، فلم تعمل في التحريم.
وإن قال: نويت بها: أنت علي حرام، فإن قلنا: إن قوله: (أنت علي حرام) صريح في إيجاب الكفارة.. وجبت عليه الكفارة؛ لأن الصريح له كناية. وإن قلنا: إن التحريم كناية في إيجاب الكفارة.. لم تجب عليه هاهنا كفارة؛ لأن الكناية لا تكون لها كناية. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: أنه إذا نوى بذلك تحريم عينها.. لزمته الكفارة.. وإنما يبنى على القولين إذا طلق ولم ينو شيئا.(10/102)
[فرع: قوله إصابتك علي حرام ونحوه]
] : قال الشافعي: (وإن نوى إصابة.. قلنا له: أصب وكفر) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته: إصابتك علي حرام، أو فرجك علي حرام، أو قال: أنت علي حرام ثم قال: نويت به إصابتك.. فيجب عليه الكفارة؛ لأن موضع الإصابة هو الفرج، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار، فيقع ما نواه.
وقول الشافعي: (أصب وكفر) أراد: أن يبين أن له أن يطأها قبل أن يكفر، بخلاف المظاهر.
وإن قال لها: أنت علي حرام، ثم قال: نويت إن أصبتها فهي علي حرام.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
[فرع: قوله كل ما أملك أو حلال الله علي حرام]
] : إذا قال الرجل: كل ما أملك علي حرام، فإن كان له مال، ولا زوجات له ولا إماء.. لم ينعقد بهذا اللفظ يمين، ولا يجب عليه شيء.
وقال أبو حنيفة: (يكون معناه: والله لا انتفعت بمالي، فإن انتفع بماله.. حنث، ووجب عليه كفارة يمين) .
دليلنا: أن التحريم ليس بيمين، فلم تجب به كفارة في الأموال، كغيره من الألفاظ. ويخالف الأبضاع؛ فإن للتحريم تأثيرا في الأبضاع بالرضاع، والظهار، والعتق، والطلاق، فأثر به التحريم وأما إذا كان له زوجات وإماء، فإن نوى طلاق النساء وعتق الإماء، أو الظهار في النساء والعتق في الإماء.. حمل على ما نواه. وإن نوى تحريم أعيانهن.. وجبت عليه الكفارة.(10/103)
وإن أطلق، فإن قلنا: إنه صريح في إيجاب الكفارة.. وجبت عليه الكفارة. وإن قلنا: إنه كناية في إيجاب الكفارة.. لم تجب عليه الكفارة.
إذا ثبت هذا: فإن كانت له زوجة واحدة، أو أمة واحدة ونوى تحريم عينها، وقلنا: إنه صريح في إيجاب الكفارة.. وجب عليه كفارة واحدة. وإن كان له زوجات وإماء، ونوى الظهار عن الزوجات.. فهل تجب عليه كفارة أو كفارات؟ فيه قولان، يأتي توجيههما في الظهار. وإن نوى تحريم أعيانهن.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالظهار.
ومنهم من قال: تجب عليه كفارة واحدة قولا واحدا؛ لأنه يجري مجرى اليمين، كما لو قال لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، فأصابهن.. فإنه لا يجب عليه إلا كفارة واحدة. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال الرجل: حلال الله علي حرام.. فقد قال المتقدمون من أصحابنا: إن ذلك كناية. وقال المتأخرون منهم: إنه صريح؛ لأنه كثر استعمالهم لذلك.
وكان القفال إذا استفتاه واحد عن هذا.. قال له: إن سمعت هذا من غيرك قاله لامرأته، ماذا كنت تفهم منه؟ فإن قال: فهمت منه الصريح.. قال: هو صريح لك.
[مسألة: كتابة طلاق زوجته]
] : إذا كتب طلاق امرأته وتلفظ به.. وقع الطلاق؛ لأنه لو تلفظ به ولم يكتبه.. وقع الطلاق، فكذلك إذا كتبه ولفظ به.
وإن كتب طلاقها ولم يتلفظ به ولا نواه.. لم يقع الطلاق. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: (يقع به الطلاق) . وحكاه أبو علي السنجي وجها لبعض أصحابنا، وليس بمشهور، ولأن الكتابة قد يقصد بها الحكاية، وقد يقصد بها تجويد الخط، فلم يقع به الطلاق من غير نية.(10/104)
وإن كتب طلاقها ونوى به الطلاق.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الطلاق) :
(إنه يقع به الطلاق من غير نية) . وقال في (الرجعة) : (لا يكون بالوطء، كما لو لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام) .
وقال أصحابنا البغداديون: هي على قولين.
وقال بعض الخراسانيين: يقع به الطلاق قولا واحد، وما قال في (الرجعة) .. أراد به الرد على أبي حنيفة.
فإذا قلنا: يقع به الطلاق - وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو الصحيح - فوجهه: أن الإنسان يعبر عما في نفسه بكتابته، كما يعبر عنه بلسانه، ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين، وقد ثبت أنه لو عبر عن الطلاق باللسان.. لوقع، فكذلك إذا عبر بالكتابة.
وإذا قلنا: لا يقع به الطلاق.. فوجهه: أنه فعل ممن يقدر على القول، فلم يقع به الطلاق، كالإشارة، وفيه احتراز من إشارة الأخرس.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يقع به الطلاق.. فلا تفريع عليه. وإن قلنا: يقع به الطلاق، فإن كانت غائبة عنه وكتب بطلاقها.. وقع، وإن كانت حاضرة معه.. فهل يقع طلاقها بكتابته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقع؛ لأن الكتابة إنما جعلت كالعبارة في حق الغائب دون الحاضر، كالإشارة في حق الأخرس دون الناطق.
والثاني: يقع؛ لأنه كناية في الطلاق، فصحت من الغائب والحاضر، كسائر الكنايات.
[فرع: كتب امرأتي طالق ونواه أو علقه بوصوله إليها]
] : فإذا كتب: امرأتي طالق ونواه.. وقع عليها الطلاق، سواء وصلها أو لم يصلها؛ لأن الطلاق غير معلق به، ولكن حكم بوقوعه في الحال، والعدة تكون من وقت الكتبة له.(10/105)
وإن كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، ونواه، فإن وصلها الكتاب سليما.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن ضاع الكتاب ولم يصلها.. لم يقع الطلاق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن وصلها الكتاب وقد تخرقت الحواشي.. وقع عليها الطلاق؛ لأن ما تخرق ليس بكتاب. وإن وصلها الكتاب وقد انمحى جميع الكتاب حتى صار القرطاس أبيض، أو انطمس حتى لا يفهم منه شيء.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن الكتاب هو المكتوب، وإن انمحى بعضه.. نظرت:
فإن انمحى موضع الطلاق.. لم تطلق؛ لأن المقصود لم يأتها. وإن انمحى جميعه إلا موضع الطلاق.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: يقع؛ لأن المقصود من الكتاب موضع الطلاق، وقد أتاها.
ومنهم من قال: لا يقع؛ لأن قوله: كتابي هذا.. يقتضي جميعه، ولم يوجد ذلك.
وإن قال: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، فأتاها الكتاب وقد انمحى جميعه إلا موضع الطلاق.. وقع عليها الطلاق لوجود الصفة.
وإن قال: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، وكتب: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، وأتاها الكتاب.. وقع عليها طلقتان؛ لوجود الصفتين.
[فرع: كتب أنت طالق ثم استمد وعلقه بوصوله إليها]
] : إذا كتب: أنت طالق، ثم استمد وكتب: أنت طالق، ثم استمد وكتب: إذا وصل إليك كتابي:(10/106)
فإن استمد لحاجته إليه.. لم يقع الطلاق إلا بعد وصول الكتاب، كما لو قال: أنت طالق وسكت لانقطاع نفسه، ثم قال: إن دخلت الدار.
وإن استمد لغير حاجة إليه.. وقع عليها الطلاق في الحال، كما لو قال: أنت طالق ثم سكت بغير حاجة، ثم قال: إن دخلت الدار.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: إذا قرأت كتابي فأنت طالق.. فلا تطلق ما لم تقرأه بنفسها إن كانت تحسن القراءة أو يقرأ عليها إن كانت أمية.
وحكى الصيمري وجها آخر: إذا قرئ عليها.. لم تطلق؛ لأن حقيقة الوصف لم توجد.
[فرع: شهد على كتابة الطلاق أنه خطه]
] : قال الشافعي: (وإن شهد عليه أنه خطه.. لم يلزمه حتى يقر به) .
وهذا كما قال: إذا شهد رجلان على رجل: بأن هذا الكتاب خطه بطلاق امرأته.. فلا يجوز لهما أن يشهدا إلا إذا رأياه يكتبه ولم يغب الكتاب عن عينهما، فأما إذا رأياه يكتبه ثم غاب الكتاب عن أعينهما.. لم يجز لهما أن يشهدا أنه كتبه؛ لأن الخط قد يزور على الخط. فإذا ثبت أنه خطه بالشهادة أو بالإقرار.. لم يحكم عليه بالطلاق إلا إذا أقر أنه نوى الطلاق؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته، وهذا مراد الشافعي بقوله: (حتى يقر به) .
[مسألة: إشارة الناطق إلى الطلاق]
] : وإن أشار الناطق إلى الطلاق ونواه.. لم يقع الطلاق به؛ لأن ذلك ليس بصريح ولا كناية، هذا هو المشهور.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": إذا قلنا: إن الكتابة كناية.. ففي الإشارة وجهان:
أحدهما: أنه كناية؛ لأنه علم يعلم به المراد، فهو كالكتابة.(10/107)
والثاني: أنه ليس بكناية؛ لأنه ليس من الأعلام الجارية فيما بينهم في فهم المراد، وإنما يستعمل خاصا، ولا حاجة به إلى الإشارة، بخلاف الكتابة.
وإن أشار الأخرس إلى الطلاق، وكانت إشارته مفهومة.. حكم عليه بالطلاق؛ لأن إشارته كعبارة غيره.
وإن كتب الأخرس بطلاق امرأته وأشار إلى أنه نواه، فإن قلنا: لا يقع الطلاق بالكتابة في الناطق.. لم يقع به من الأخرس. وإن قلنا: إن الطلاق يقع من الناطق بالكتابة.. وقع أيضا من الأخرس به.
وبالله التوفيق.(10/108)
[باب عدد الطلاق والاستثناء فيه]
إذا قال لامرأته: أنت طالق أو طلقتك، فإن لم ينو عددا.. انصرف ذلك إلى طلقة. وإن نوى بذلك اثنتين أو ثلاثا.. وقع ما نواه، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يقع بذلك إلا واحدة وإن نوى أكثر منها، إلا أن يقول: أنت طالق أو طلقي نفسك ثلاثا، فإنه إذا نوى بذلك ثلاثا.. وقعن) .
دليلنا: أن كل لفظ لو اقترن به لفظ الثلاث.. وقعن به، فإذا اقترن به نية الثلاث.. وقعن به، كقوله: أنت الطلاق.
وإن خاطبها بشيء من الكنايات ونوى به الطلاق، فإن لم ينو به العدد.. انصرف ذلك إلى طلقة رجعية. وإن نوى اثنتين أو ثلاثا.. انصرف ذلك إلى ما نواه، سواء في ذلك الكنايات الظاهرة أو الباطنة.
وقال مالك: (الكنايات الظاهرة - وهي قوله: أنت خلية وبرية وبتة وبتلة وبائن وحرام وفارقتك وسرحتك - يقع بها الثلاث إذا خاطب بها مدخولا بها، سواء نوى بها الطلاق أو لم ينو. وإن خاطب بها غير مدخول بها، فإن لم ينو الطلاق.. وقع بها الثلاث، وإن نوى الطلاق.. وقع ما نواه. وأما الكنايات الباطنة - وهي قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي، واذهبي، وحبلك على غاربك، وما أشبهها - فإن لم ينو بها العدد.. كانت طلقة رجعية. وإن نوى بها أكثر.. وقع ما نواه) كقولنا.
وقال أبو حنيفة: (الكنايات الظاهرة إذا نوى بها طلقة.. وقعت طلقة بائنة، وإن نوى بها طلقتين.. لم يقع إلا واحدة، وإن نوى بها الثلاث.. وقعت الثلاث. وأما الكنايات الباطنة: فلا يقع بها إلا طلقة واحدة رجعية وإن نوى أكثر منها) .
دليلنا: ما روي: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أردت بالبتة؟ "، قال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت(10/109)
به إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها عليه» . فدل على: أنه لو أراد به ما زاد على واحدة.. لوقع، وعلى أنه لو وقع به الثلاث.. لما سأله عنه، ولما استحلفه، ولا ردها عليه.
ودليلنا على أن ما دون الثلاث يقع رجعيا: أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعيا، كقوله: أنت طالق.
وإن قال لها: أنت طالق واحدة، وأنت واحدة، ونوى طلقتين أو ثلاثا.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقع عليها ما نواه؛ لأنه يحتمل: أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين.
والثاني: لا يقع عليها إلا واحدة؛ لأنه صريح فيه، فلو أوقعنا ما زاد عليها.. لكان إيقاع طلاق بالنية من غير لفظ.
والثالث - وهو اختيار القفال -: إن نوى ما زاد على واحدة عند قوله: (أنت) .. وقع ما نواه، وإن نوى ذلك بمجموع الكلام.. لم يقع إلا واحدة.
[مسألة: قوله للمدخول بها أنت طالق واحدة بائنا]
] : قال الشافعي: (إذا قال للمدخول بها: أنت طالق واحدة بائنا.. وقعت عليه طلقة رجعية) .
قال الصيمري: وهكذا إذا قال: أنت طالق واحدة لا رجعة لي بها.. كان له الرجعة؛ لأن الواحدة لا تبين بها المدخول بها، وله الرجعة بها، فلا يسقط ذلك بشرط.
[فرع: قوله أنت طالق طلاقا أو الطلاق]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق طلاقا، أو أنت طالق الطلاق.. فإنه لا يقع عليها إلا طلقة؛ لأن المصدر لا يزيد به الكلام، وإنما يدخل للتأكيد، كقوله: ضربت زيدا ضربا، إلا أن ينوي به ما زاد على واحدة فيقع ما نواه، كما لو لم يأت بالمصدر.(10/110)
[فرع: طلق واحدة فماتت فأتبعها بقوله ثلاثا]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق فماتت، ثم قال: ثلاثا، متصلا بقوله.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الطبري في " العدة ":
أحدها - وهو قول ابن سريج -: أنه يقع عليها الثلاث؛ لأنه قصده بقوله: أنت طالق.
والثاني: لا يقع عليها إلا واحدة؛ لأن الثلاث لا تعلم إلا بقوله، ولم يقل ذلك إلا بعد موتها، والميتة لا يلحقها الطلاق.
الثالث: أنه لا يقع عليها شيء؛ لأن الجملة كلها إنما تقع بجميع اللفظ ولا يتقدم وقوع واحدة على الاثنتين، ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا.. لوقع الثلاث؟! فلو وقع باللفظ أولا واحدة.. لبانت بها، ولم يقع ما بعدها، ولم يتم الكلام إلا وهي ميتة، والميتة لا يلحقها الطلاق.
وقال الطبري: والصحيح: أنه لا يقع إلا واحدة، كما لو قال: أنت طالق وجن، ثم قال: ثلاثا.
[فرع: خير زوجته بعدد من الطلاق]
] : إذا قال لزوجته: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فإن نويا عددا من الطلاق واتفقا في عدد ما نوياه.. وقع ما نوياه. وإن اختلفا، فنوى أحدهما أكثر مما نوى الآخر.. وقع العدد الأقل، ويقع رجعيا.
وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى نية الزوجة، فإن نوى الزوج واحدة.. وقعت بائنة، وإن نوى ما زاد عليها.. لم تقع إلا واحدة بائنة) .
وقال مالك: (إذا نوى الطلاق.. وقع الثلاث إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها.. قبل منها أنها أرادت واحدة أو اثنتين) .
وروي: أن مروان بن الحكم أجلس زيد بن ثابت ليسأله، وأجلس كاتبا يكتب ما قال، فكان فيما سأله: إذا خير الرجل زوجته؟ فقال زيد: إن اختارت نفسها..(10/111)
فهي ثلاث، وإن اختارت زوجها.. فهي واحدة رجعية.
دليلنا: أنه لم يقترن به لفظ الثلاث ولا نيتها، فلم يقع به الثلاث، ولا يقع بقطع الرجعية، كقوله: أنت طالق.
وإن كرر الزوج لفظ الاختيار ثلاثا ونوى به واحدة.. كانت واحدة.
وقال أبو حنيفة: (إذا قبلت.. وقع الثلاث) .
دليلنا: أنه يحتمل أنه يريد به التأكيد، فإذا قيد فيه.. قبل منه، كقوله: أنت طالق الطلاق.
وإن قال لها: اختاري من الثلاث طلقات ما شئت.. فليس لها أن تختار الثلاث، ولها أن تختار ما دونها. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف ومحمد: لها أن تختار الثلاث.
دليلنا: أن (من) للتبعيض، وقد جعل إليها بعض الثلاث، فلا يكون لها إيقاع الثلاث.
[فرع: قوله يا مائة طالق أو أنت طالق كمائة]
] : إذا قال لها: يا مائة طالق، أو أنت مائة طالق.. وقع عليها ثلاث طلقات.
وإن قال لها: أنت طالق كمائة، أو قال: أنت طالق كألف.. قال ابن الصباغ: وقع عليها الثلاث. وبه قال محمد بن الحسن وأحمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن لم يكن له نية.. لم يقع عليها إلا واحدة) .
دليلنا: أنه تشبه بالعدد خاصة، فوقع العدد، كقوله: أنت طالق كعدد مائة أو ألف.
[مسألة: الطلاق والإشارة بالأصابع]
] : وإن قال لامرأته: أنت، وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق.. لم يقع الطلاق؛ لأن قوله: (أنتِ) ليس بإيقاع.
وإن قال لها: أنت طالق هكذا، وأشار بإصبع.. وقعت عليها طلقة، وإن أشار(10/112)
بإصبعين.. وقع عليها طلقتان، وإن أشار بثلاثة أصابع.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأنه شبه الطلاق بأصابعه، وهي عدد.
وإن قال: أردت بعدد الأصبعين المقبوضين.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملي وابن الصباغ: أنه يقبل في الحكم؛ لأنه يحتمل الإشارة بهما.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه لا يقبل قوله في الحكم؛ لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه، ولم يقل هكذا، ثم قال: أردت واحدة، أو لم أرد بعدد الأصابع.. قبل منه في الحكم؛ لأنه قد يشير بالأصابع ولا يريد العدد.
[مسألة: الطلاق بصيغة الحساب]
] : إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن كان غير عالم بالحساب.. قلنا له: ما أردت بهذا؟ فإن قال: أردت واحدة مقرونة مع اثنتين.. وقع عليها الثلاث؛ لأنه قد يعبر عن (مع) بـ: (في) ، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] [الفجر: 29] أي: مع عبادي.
وإن قال: لم أنو شيئا.. وقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق واحدة، ولا يلزمه حكم الحساب؛ لأنه لا يعرفه ولا نواه، فهو كما لو تكلم العجمي بقوله: أنت طالق، وهو لا يعرف معناه.
وإن قال: نويت موجبه في الحساب.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو بكر الصيرفي: تلزمه طلقتان؛ لأن هذا موجبه عندهم.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يلزمه إلا طلقة؛ لأنه لا يعرف معناه فلا يلزمه موجبه، كما لو تكلم العجمي بكلمة الكفر بالعربية وهو لا يعرف معناها، ونوى موجبها في لسان العرب.(10/113)
وأما إذا كان ممن يعرف الحساب، فإن نوى واحدة مقرونة مع اثنتين.. وقع عليها الثلاث. وإن نوى موجبها في الحساب.. لزمه طلقتان؛ لأن هذا موجبه في الحساب. وإن لم ينو شيئا.. فالمنصوص: (أنه لا يلزمه إلا طلقة) ؛ لأنه غير متعارف عند الناس.
وقال أبو إسحاق: يلزمه طلقتان؛ لأنه يعرف الحساب ويعلم أن هذا موجبه، فيلزمه وإن لم ينوه.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا طلقة، سواء نوى موجبه في الحساب أو لم ينو) .
دليلنا: أن هذا موضوع في الحساب لاثنين، فإذا نواه وهو ممن يعرفه.. لزمه، كما لو قال: أنت طالق اثنتين.
وإن قال: أنت طالق اثنتين في اثنتين، وليس هو من أهل الحساب، فإن نوى اثنتين مع اثنتين.. لزمه ثلاث. وإن لم ينو ذلك ولا غيره.. لزمه اثنتان.
وإن نوى موجبه عند أهل الحساب.. لزمه على قول الصيرفي ثلاث، وعلى قول سائر أصحابنا: يلزمه طلقتان.
وإن كان من أهل الحساب وأراد موجبه في الحساب، أو نوى مع اثنتين.. لزمه ثلاث. وإن لم ينو شيئا.. فعلى المنصوص: (لا يلزمه إلا طلقتان) ، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه ثلاث، وعلى قول أبي حنيفة: يلزمه طلقتان بكل حال، وقد مضى دليل ذلك.
[فرع: الطلاق بصيغة الإضراب أو بقوله: من واحدة إلى ثلاث]
] : إذا قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقع عليها طلقتان، كما إذا قال له: علي درهم، بل درهمان.
والثاني: يلزمه الثلاث؛ لأن الطلاق إيقاع، فحملت كل لفظة على إيقاع، والإقرار والإيقاع إخبار، فجاز أن يدخل الدرهم في الخبر مرتين.
وإن قال لامرأته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث.. ففيه ثلاثة أوجه:(10/114)
أحدها: تقع واحدة بقوله: أنت طالق، وقوله: (من واحدة إلى ثلاث) لا تدخل واحدة منهن، كما لو قال: له من هذا الحائط إلى هذا الحائط.. لم يدخل الحائطان في الإقرار.
والثاني: تقع عليها طلقتان؛ لأن الأولى والثانية أوقعهما، والثالثة حد يجوز أن يدخل ويجوز أن لا يدخل، فلم يدخل بالشك.
والثالث: تقع عليها ثلاث؛ لأنه وجد في اللفظ الثلاث، فلم يجز إلغاؤها.
[مسألة: طلق ثلاثا غير المدخول بها]
] : إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثا.. وقع عليها الثلاث. وبه قال جميع الفقهاء، إلا رواية عن عطاء؛ فإنه قال: تقع عليها طلقة.
دليلنا: أن قوله: (أنت طالق) : اسم لجنس من الفعل يصلح للواحدة ولما زاد عليها، وقوله: (ثلاثا) مفسر له، فكان وقوع الثلاث عليها دفعة واحدة.
وإن قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، ولم ينو بالأولى الثلاث.. وقع عليها بقوله الأول - أنت طالق - طلقة، وبانت بها، ولا يلحقها ما بعدها، وبه قال الثوري وأبو حنيفة.
وقال مالك، والليث بن سعد، والأوزاعي: (تقع الثلاث) .
وقال أبو علي بن أبي هريرة: للشافعي في القديم ما يدل على ذلك. فجعلها على قولين.
وقال أبو علي الطبري: فيها وجهان:
أحدهما: تقع عليها الثلاث؛ لأنه ربط الكلام بعضه ببعض، فحل محل الكلمة الواحدة.
والثاني: أنه تقع عليها طلقة واحدة تبين بها، ولا يقع ما بعدها؛ لأنه قد فرق، فوقع بالأولى طلقة وبانت بها، ولم يقع ما بعدها.(10/115)
وقال أكثر أصحابنا: هي على قول واحد، ولا يقع عليها إلا طلقة واحدة، وما ذكره في القديم.. فإنما حكى مذهب مالك.
ووجهه: ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت: أنهم قالوا: (تقع عليها طلقة واحدة، ولا يقع ما بعدها) . ولا مخالف لهم.
[مسألة: تكرار أنت طالق للمدخول بها أو غاير بينها بحروف العطف]
أو بألفاظ الطلاق] : إذا قال للمدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، فإن نوى بالأولى الثلاث.. لم يسأل عما بعدها. وإن لم ينو الثلاث.. وقع عليها بها طلقة، وسئل عن الكلمتين بعدها، فإن قال: أردت بهما تأكيد الأولى.. قبل منه، ولم يلزمه إلا طلقة؛ لأن التأكيد يقع بالتكرار. وإن قال: أردت بهما الاستئناف.. لزمه ثلاث طلقات. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الثانية.. لزمه طلقتان. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل، كما لو قال: أردت بهما تأكيد الأولى.
والثاني: لا يقبل منه؛ لأنه قد تخلل بين الأولى والثالثة الثانية.
وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في " الإملاء ": (لا يلزمه إلا طلقة) ؛ لأنه لما لم يدخل (واو) العطف.. كان الظاهر أنه أراد التأكيد، كما لو قال: له علي درهم درهم درهم.. فلا يلزمه إلا درهم، ولأنه يحتمل: أنه أراد التأكيد أو الاستئناف، فلا يلزمه الطلاق بالشك.
و [الثاني] : قال في " الأم ": (يلزمه ثلاث طلقات) وهو الأصح؛ لأن الثاني والثالث كالأول في الصيغة، فكان مثله في الإيقاع.(10/116)
وإن قال: أنت طالق، ثم سكت طويلا وقال: أنت طالق، ثم قال: أردت بالثاني تأكيد الأول.. لم يقبل؛ لأن الظاهر أنه أراد الإيقاع.
وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق، ولم ينو بالأولى ما زاد على واحدة.. وقع بالأولى طلقة وبالثانية طلقة؛ لأن الثاني عطف لا يحتمل التأكيد، ورجع في الثالثة إليه، فإن قال: أردت به تأكيد الثانية.. قبل منه. وإن قال: أردت به الاستئناف.. لزمه ثلاث طلقات. وإن قال: أردت به تأكيد الأولى.. لم يقبل منه وجها واحدا، كما لا يقبل إذا قال: أردت بالثانية تأكيد الأولى، وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان، كالأولى، والصحيح: أنه يقع بها طلقة ثالثة. وهكذا: الحكم فيه إذا قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أو قال: أنت طالق فطالق فطالق، أو: طالق بل طالق بل طالق.
وإن قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، أو طالق فطالق بل طالق.. لزمه بكل لفظة طلقة. فإن قال: أردت التأكيد.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأن المغايرة بينهما بحروف العطف تقتضي الاستئناف، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال: أنت مطلقة، أنت مفارقة، أنت مسرحة.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ لأنه لم يأت بحروف عطف، والفراق والسراح كالطلاق.
والثاني: حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق؛ لأن الحكم إذا تغير بمغايرة حروف العطف.. فلأن يتغير بمغايرة اللفظ أولى.
[فرع: قوله أنت طالق وطالق لا بل طالق أو يا مطلقة أو البتة]
فرع: [قوله أنت طالق وطالق لا بل طالق أو أنت طالق يا مطلقة أو البتة] : قال في " الإملاء ": (إذا قال لامرأته: أنت طالق وطالق لا بل طالق، ثم قال: شككت في الثانية فقلت: لا بل طالق استدراكا لإيقاعها.. قبل منه) ؛ لأن (بل) للاستدراك، فاحتمل ما قاله.
وإن قال: أنت طالق يا مطلقة.. وقع بالأولى طلقة إن لم ينو بها ما زاد عليها،(10/117)
وسئل عن قوله: (يا مطلقة) ، فإن قال: أردت به الإيقاع.. لزمه ما نواه. وإن قال: أردت به يا مطلقة بالأولى.. قبل منه في الحكم.
وإن قال: أنت طالق البتة، ولم ينو ما زاد على واحدة.. وقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق، وسئل عن (البتة) ، فإن قال: أردت به إيقاع طلاق آخر.. لزمه. وإن قال: لم أرد به شيئا.. قبل منه في الحكم؛ لحديث ركانة بن عبد يزيد.
[مسألة: الطلاق لا يتبعض وماذا لو تنصف]
؟] : إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض طلقة.. وقعت عليها طلقة. وبه قال جميع الفقهاء، إلا داود؛ فإنه قال: (لا يقع عليها شيء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولم يفرق: بين أن يطلقها طلقة، أو بعض طلقة. ولأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا.. غلب التحريم، كما لو تزوج نصف امرأة أو أعتق نصف أمته. ولأنه لو طلق بعض امرأته.. لكان كما لو طلق جميعها، كذلك إذا طلق بعض طلقة.. كان كما لو طلقها طلقة.
وإن قال: أنت طالق نصفي طلقة.. وقعت عليها طلقة؛ لأن نصفي الطلقة طلقة.
وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع عليها إلا طلقة؛ لأنه لم يوقع عليها إلا طلقة، وإنما وصفها بأن لها ثلاثة أنصاف وليس لها إلا نصفان.
والثاني: يقع عليها طلقتان؛ لأن ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف، فيسري النصف.
فعلى قوله الأول: يتعلق الحكم بقوله: (طلقة) ، ويلغى قوله: (ثلاثة أنصاف طلقة) .
وعلى قوله الثاني: يلغى قوله: (طلقة) ، ويتعلق الحكم بقوله: (ثلاثة أنصاف طلقة) .
قال صاحب " الفروع ": ويحتمل وقوع الثلاث؛ ووجهه: أنه إذا ألغي قوله:(10/118)
(طلقة) ، وتعلق الحكم بثلاثة أنصاف.. سرى كل نصف، فوقع عليها ثلاث.
وإن قال: أنت طالق نصفي طلقتين.. وقع عليها طلقتان؛ لأن نصفي طلقتين طلقتان.
وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين.. فعلى وجهين:
أحدهما: يقع عليها طلقتان.
والثاني: يقع عليها ثلاث طلقات.
وإن قال: أنت طالق نصف طلقتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه طلقة؛ لأنها نصف طلقتين.
والثاني: يلزمه طلقتان؛ لأنه يلزمه نصف من كل طلقة، ثم يكمل النصفان.
[فرع: قسم الطلقة إلى نصف وثلث وسدس أو قال أنت نصف طلقة]
] : وإن قال: أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة.. لم يقع عليها إلا طلقة؛ لأن هذا أجزاء الطلقة.
وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة.. طلقت ثلاثا؛ لأنه عطف جزءا من طلقة على جزء من طلقة، فظاهره يقتضي طلقات متغايرة.
قال ابن الصباغ: وإن قال: أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقة.. طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء طلقة.
وإن قال: أنت طالق نصفا، وثلثا، وسدسا.. طلقت طلقة، ويرجع إليه في النصف والثلث والسدس، فإن نوى نصفا من طلقة، وثلثا من طلقة، وسدسا من طلقة.. وقع عليها الثلاث، وإن لم ينو شيئا.. فلا شيء عليه.
وإن قال: أنت نصف طلقة.. ففيه وجهان - كما لو قال: أنت الطلاق -:
أحدهما: أنه صريح، فيقع عليها طلقة.
والثاني: أنه كناية، فلا يقع عليها شيء إلا بالنية.(10/119)
[مسألة: أوقع طلقة أو أكثر أو أجزاءها بين أربع نسوة]
] : وإن قال لأربع نسوة له: أوقعت بينكن طلقة.. طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأنه يخص كل واحدة ربع طلقة وتكمل.
وإن قال لهن: أوقعت بينكن طلقتين.. وقع على كل واحدة طلقة؛ لأن ما يخص كل واحدة لا يزيد على طلقة، إلا أن يقول: أردت أن أقسم كل طلقة منهما عليهن.. فيقع على كل واحدة طلقتان.
وإن قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات أو أربع طلقات.. وقع على كل واحدة طلقة، إلا أن يريد قسمة كل طلقة منهن.. فيقع على كل واحدة ثلاث، هذا هو المشهور.
وقال في " الفروع ": ويحتمل أن يقع على كل واحدة ثلاث؛ لأن بعض كل طلقة يكمل في حق كل واحدة منهن.
وإن قال: أوقعت بينكن خمس طلقات، ولم يرد قسمة كل واحدة منهن.. وقع على كل واحدة طلقتان؛ لأنه يخص كل واحدة طلقة وربع، فيكمل الربع. وكذلك: إذا قال: أوقعت بينكن ستا أو سبعا أو ثمانيا.
فإن قال: أوقعت بينكن تسع طلقات.. طلقت كل واحدة منهن ثلاثا؛ لأنه يخص كل واحدة طلقتان وربع، ويكمل الربع.
وإن قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة.. وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ لأنه لما عطف.. قسم كل جزء بينهن وكمل.
[مسألة: قوله طالق ملء الدنيا أو طلقها باستعمال صيغة أفعل]
مسألة: [قوله طالق ملء الدنيا أو غيرها أو طلقها باستعمال صيغة أفعل التفضيل] : وإن قال لامرأته: أنت طالق ملء الدنيا، أو ملء مكة، أو ملء المدينة.. وقعت عليها طلقة؛ لأن الطلاق حكم، والأحكام لا تشغل الأمكنة، فعلم: أنه أراد ملء الدنيا أو ملء مكة ذكرا أو انتشارا، وتكون رجعية.(10/120)
وقال أبو حنيفة: (تقع بائنة) ..
دليلنا: أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعيا، كقوله: أنت طالق.
وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله، أو أعرضه، أو أقصره.. وقعت عليها طلقة؛ لأن قوله يحتمل أشد وأغلظ؛ لأنه يهواها أو تهواه، ولا يتصف الطلاق بطول ولا عرض، فكان كما لو لم يصفه بذلك، وتقع رجعية.
وقال أبو حنيفة: (تقع بائنة، إلا في قوله: أقصر الطلاق) .
دليلنا: ما ذكرناه في ملء مكة.
وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر الطلاق - بالثاء المعجمة بثلاث نقط - وقعت عليها ثلاث طلقات؛ لأن ذلك كل الطلاق وأكثره.
وإن قال: أنت طالق أكمل الطلاق، أو أتم الطلاق، أو أكبر الطلاق - بالباء المعجمة بواحدة - وقعت عليها طلقة سنية؛ لأن أكمل الطلاق وأتمه طلاق السنة.
قال في " الفروع ": ويحتمل أن يقع عليها ثلاث طلقات في قوله: أكمل الطلاق وأتمه؛ لأنه هو الأكمل والأتم، والمشهور هو الأول، وتكون رجعية.
وقال أبو حنيفة: (تقع في قوله: أكبر الطلاق.. واحدة بائنة) .
دليلنا عليه: ما ذكرناه في قوله: ملء مكة.
[مسألة: قوله للمدخول بها طالق طلقة معها طلقة أو قبلها أو بعدها]
وإن قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة.. وقع عليها طلقتان في الحال.
وإن قال لها: أنت طالق طلقة بعد طلقة، أو طلقة قبل طلقة.. وقع عليها طلقتان، إحداهما بعد الأخرى.(10/121)
وإن قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة.. وقع عليها طلقتان؛ لأن الجميع يصادف الزوجية. وإن قال: أردت بقولي: (بعدها طلقة) : أوقعها فيما بعد.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير طلاق واقع في الظاهر. ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لاحتمال ما يدعيه.
وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة.. قال الشافعي: (وقع عليها طلقتان) . واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما:
فحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والمحاملي: أن أبا إسحاق المروزي قال: يقع عليها طلقتان، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى قبلها بالمباشرة؛ لأن الإنسان يملك أن يعلق بالصفة طلاقا فيقع قبل الصفة، كقوله: أنت طالق قبل موتي بشهر، ثم يموت بعد شهر.
وحكى الشيخ أو حامد في " التعليق ": أنَّ أبا إسحاق قال: يقع عليها طلقة بالمباشرة بقوله: أنت طالق، وطلقة بالإخبار: أنه طلقها قبلها طلقة.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يقع عليها طلقتان معا؛ لأنه لا يتقدم الوقوع على الإيقاع. هكذا حكى الشيخ أبو إسحاق عنه.
وسائر أصحابنا حكوا عنه أنه قال: يقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق، وطلقة بعدها بقوله: قبلها طلقة.
فعلى ما حكاه الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق: يحكم عليه بوقوع الطلقة التي باشرها ظاهرا وباطنا. وأما الطلقة التي أخبر أنه أوقعها قبلها.. فإنما يحكم بوقوعها في الظاهر دون الباطن إن لم يكن صادقا في إقراره.(10/122)
وعلى ما حكاه الشيخ أبو إسحاق عنه: يحكم عليه بوقوع الطلقتين ظاهرا وباطنا.
وإن قال: أردت بقولي: (قبلها طلقة) في نكاح كنت نكحتها قبل هذا النكاح وطلقتها فيه، فإن كان لما قاله أصل.. قبل منه. وإن لم يكن له أصل.. لم يقبل منه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة وبعدها طلقة.. وقع عليها ثلاث طلقات، وفي كيفية وقوعها ما مضى.
وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها وبعدها طلقة.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن كل واحد من النصفين يسري.
وحكى المحاملي: أن من أصحابنا من قال: لا يقع عليها إلا طلقتان، وليس بشيء.
[فرع: قوله أنت طالق قبل أن تخلقي]
] : قال الصيمري: إذا قال لامرأته: أنت طالق قبل أن تخلقي.. فلا طلاق؛ إذ لم يكن له إرادة.
[مسألة: طلق غير المدخول بها مرة بعد أخرى وغير ذلك]
] : وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة بعدها طلقة.. وقعت الأولى وبانت بها، ولم تقع الثانية.
وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن وقوع طلقة عليها يوجب وقوع طلقة قبلها، ووقوع ما قبلها يمنع وقوعها، وما أدى ثبوته إلى سقوطه.. سقط.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يقع عليها طلقة ليس قبلها شيء؛ لأن وقوع ما قبلها يوجب إسقاطها، ووقوعها يوجب إسقاط ما قبلها، فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها.(10/123)
ويشبه أن يكون الأول إنما هو على ما حكاه في " المهذب " عن أبي إسحاق في المدخول بها. فأما على ما حكاه في " التعليق " عنه: أنه إخبار.. فإنه يقع عليها الطلقة التي أخبر بوقوعها أولا لا غير.
وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها طلقة لا غير؛ لأنه أفردها فبانت بها، ولم يقع ما بعدها، كما لو قال: طلقة بعدها طلقة.
والثاني: يقع عليها طلقتان؛ لأنهما يجتمعان في الوقوع.
وإن قال لها: أنت طالق طلقتين ونصفا.. وقع عليها طلقتان لا غير؛ لأنه جمع بينهما فوقعتا وبانت بهما، فلم يقع ما بعدها.
[مسألة: الاستثناء والاستفهام في الطلاق ورفع جميع ما أوقعه أو بعضه]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق طلقة لا تقع عليك.. وقع عليها طلقة؛ لأنه رفع لجميع ما أوقعه، وذلك لا يصح. وإن قال لها: أنت طالق طلقتين لا تقع عليك إحداهما.. وقعت عليها واحدة؛ لأن ذلك استثناء. وإن قال لها: أنت طالق طلقة لا تقع.. قال أبو العباس: وقعت عليها طلقة؛ لأن ذلك رفع لها، فلم ترتفع.
فإن قال لها: أنت طالق طلقتين إلا طلقة.. فعلى قياس الأولى: لا يقع عليها إلا طلقة.
وإن قال لها: أنت طالق، أو لا؟ لم يقع عليها طلاق؛ لأن ذلك استفهام لا طلاق.
وإن قال لها: أنت طالق واحدة، أو لا شيء.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه قياس قوله: أن لا يقع شيء، وبذلك قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد.
وقال محمد: تقع واحدة.
والأول أصح؛ لأن الواحدة صفة للفظ الموقعة، فما اتصل بها.. يرجع إليها، فصار كقوله: أنت طالق أو لا شيء.(10/124)
[مسألة: أنواع الاستثناء في الطلاق وبعض صوره]
] : قال الشافعي: (ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين.. فهي واحدة) .
وجملة ذلك: أن الاستثناء جائز في الجملة؛ لأن القرآن ورد به، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] [العنكبوت: 14] .
والاستثناء ضد المستثنى منه، فإن استثنى من إثبات.. كان المستثنى نفيا، وإن استثنى من نفي.. كان المستثنى إثباتا، وسواء استثنى أقل العدد أو أكثره.. فإنه يصح.
وقال بعض أهل اللغة: لا يصح استثناء أكثر العدد. وبه قال أحمد.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى حاكيا عن إبليس: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] [الحجر: 39 - 40] ، ثم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] [الحجر: 42] ، فاستثنى العباد من الغاوين، واستثنى الغاوين من العباد، وأيهما كان أكثر.. فقد استثنى من الآخر.(10/125)
ولا يصح أن يستثنى جميع العدد؛ لأنه غير مستعمل في الشرع ولا في اللغة.
إذا ثبت هذا، فقال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين.. طلقت واحدة؛ لأنه أثبت ثلاثا ثم نفى منها اثنتين، فبقي واحدة.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة.. طلقت اثنتين.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا.. طلقت ثلاثا؛ لأن الاستثناء رفع جميع المستثنى منه، فسقط.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة.. طلقت واحدة. وكذلك إذا قال: ثلاثا إلا واحدة وإلا واحدة؛ لأن واو العطف تجعل العطف والمعطوف عليه سواء، فكأنه قال: ثلاثا إلا اثنتين.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين وواحدة، أو أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقع عليها الثلاث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه استثنى ثلاثا من ثلاث.(10/126)
والثاني: يقع عليها واحدة، وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ لأنه لو لم يعطف بالواحدة.. لصح، فكان العطف بها هو الباطل، فسقط.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة.. طلقت ثلاثا.
ومن أصحابنا من قال: يقع عليها طلقتان؛ لئلا يؤدي إلى إبطال استثناء صحيح، وليس بشيء؛ لأنا لا نبطل الاستثناء، وإنما بقي طلقتان ونصف، فسرى النصف.
وإن قال لها: أنت طالق طلقتين، ونصفا إلا واحدة.. وقع عليها ثلاث طلقات، واختلف أصحابنا في علته:
فقال ابن الحداد: لأن النصف يسري فتصير واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح.
وقال القاضي أبو الطيب: لأنه استثناء واحدة من نصف؛ لأن الاعتبار بالمنطوق به في العدد، لا بما صح في الشرع.
وإن قال: أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق.
أحدهما: تطلق طلقة؛ لأن الواو في الاسمين المنفردين كالتثنية، فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تطلق طلقتين؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه، وهو طلقة، واستثناء طلقة من طلقة لا يصح) .
قال الشيخ أبو حامد: وإن قال: أنت طالق ثم طالق بل طالق إلا طلقة، أو أنت طالق فطالق ثم طالق إلا طلقة، أو أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة.. وقع عليها في هذه المسائل ثلاث طلقات؛ لأنه إذا غاير بين الألفاظ.. وقع بكل لفظة طلقة، واستثناء طلقة من طلقة لا يصح.
وإن قال: أنت طالق خمسا إلا ثلاثا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي علي الطبري -: أنه يقع عليها(10/127)
ثلاث؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يملك من الطلقات، والذي يملك هو الثلاث، فلم يقع من الخمس إلا ثلاث، واستثناء ثلاث من ثلاث لا يصح.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أنه يقع عليها طلقتان؛ لأن الاستثناء يرجع إلى العدد المنطوق به، ويكون بالمستثنى منه مع الاستثناء عبارة عما بقي، فإذا استثنى ثلاثا من خمس.. بقي طلقتان. وقد نص الشافعي في " البويطي " على أنه: (إذا قال: أنت طالق ستا إلا أربعا.. وقع عليها طلقتان) . وهذا يرد قول أبوي علي.
وإن قال لها: أنت طالق خمسا إلا اثنتين.. وقع عليها طلقة على قول أبوي علي، وعلى قول سائر أصحابنا: يقع عليها ثلاث طلقات.
وإن قال: أنت إلا واحدة طالق ثلاثا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال بعض أصحابنا.. يقع عليها الثلاث؛ لأن الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم، فلا يتقدم على المستثنى منه.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: يقع عليها طلقتان؛ لأن الاستثناء يجوز أن يتقدم على المستثنى منه. قال الشاعر:
وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب
[مسألة: صحة الاستثناء من الاستثناء]
ويصح الاستثناء من الاستثناء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] [الحجر: 58 - 60] .
فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة.. طلقت طلقتين؛ لأنه أثبت ثلاثا(10/128)
ثم نفى منها اثنتين فبقيت واحدة مثبتة، ثم أثبت من الطلقتين اللتين نفى واحدة، فصار مثبتا لاثنتين، فوقعتا.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط، والثاني عائد إليه وتابع له، فسقطا.
والثاني: يقع عليها طلقة؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط، ونفى الثاني فكان عائدا إلى الإثبات، فكأنه قال: ثلاثا إلا طلقتين.
والثالث: يقع عليها طلقتان؛ لأن استثناء الثلاث من الثلاث لا يصح إذا اقتصر عليه. فأما إذا تعقبه استثناء آخر.. بني عليه، فكأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا، ثم أثبت اثنتين فوقعتا.
[فرع: طلق ثلاثا إلا أن يشاء أبوها واحدة]
] : إذا قال لها: أنت طالق ثلاث إلا أن يشاء أبوك واحدة، فقال أبوها: شئت واحدة.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه أوقع الطلاق بشرط أن يشاء أبوها واحدة، فإذا شاء أبوها واحدة، لم يوجد الشرط.. فلم يقع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إلا أن تدخلي الدار، أو إن لم تدخلي الدار، فدخلت الدار.. فإنها لا تطلق.
ولا أعلم نصا في اعتبار وقت المشيئة، والذي يقتضي القياس: أن المشيئة تعتبر أن تكون عقيب إيقاع الزوج، كما لو علق إيقاع الطلاق على مشيئة الأب.
[مسألة: علق الطلاق أو غيره بمشيئة الله]
إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، أو علي لله كذا وكذا أو والله لا فعلت كذا أو علي لفلان كذا إن شاء الله.. لم يلزمه شيء من ذلك. وبه قال طاوس والحكم وأبو حنيفة وأصحابه.(10/129)
وقال مالك والليث: (يدخل الاستثناء في الأيمان دون الطلاق والعتق والنذر والإقرار) .
وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: (يدخل الاستثناء في اليمين والطلاق دون غيره) .
وقال أحمد: (يدخل الاستثناء في الطلاق دون العتق) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، ثم قال على إثرها: إن شاء الله.. لم يحنث» . ولم يفرق بين أن يحلف بالله أو بالطلاق. ولأنه علق الطلاق بمشيئة من له مشيئة، فلم يقع قبل العلم بمشيئته، كما لو علق بمشيئة زيد.
إذا ثبت هذا: فقال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو إذا شاء الله، أو متى شاء الله، أو بمشيئة الله.. لم يقع الطلاق؛ لأنه علق وقوع الطلاق بمشيئة الله، ومشيئة الله بذلك لا تعلم.
فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله.. لم يقع الطلاق؛ لأنا لا نعلم أنه لم يشأ، كما لا نعلم أنه شاء.(10/130)
وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر: أنه يقع عليها الطلاق؛ لأنه قد أثبت عليها الطلاق، وإنما علق رفعه بمشيئة الله، ونحن لا نعلمها. والمشهور هو الأول.
وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بمشيئة الله، فلم يقع، كما لو قال: إن شاء الله.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يقع الطلاق؛ لأنه أوقع الطلاق، وإنما علق رفعه بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم، فثبت الإيقاع وبطل الرفع.
وإن قال: أنت طالق إذ شاء، أو أن شاء الله - بفتح الهمزة - طلقت؛ لأنه جعل مشيئة الله علة لوقوع الطلاق، ولم يعلقه بمشيئة الله.
[فرع: قوله إن شاء الله أنت طالق أو أنت طالق ما شاء الله]
قال ابن الصباغ: إذا قال: إن شاء الله فأنت طالق، أو إن شاء الله أنت طالق.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط يجوز أن يقدم على المشروط.
وإن قال: أنت طالق ما شاء الله.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الطبري في " العدة ": لا يقع عليها الطلاق.
وقال ابن الصباغ: تقع عليها واحدة؛ لأنا لا نعلم مشيئته لأكثر من ذلك.
[فرع: لا يصح الاستثناء إذا كان منفصلا أو لم يقصد إليه]
ولا يصح الاستثناء إلا إذا كان متصلا بالكلام؛ لأن هذا هو العرف في الاستثناء، فإذا انفصل لضيق نفس.. كان كالمتصل؛ لأنه انفصال لعذر.(10/131)
ولا يصح إلا إن قصد إليه. ومتى تعتبر النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تعتبر من ابتداء الكلام إلى آخره؛ لأن الطلاق يقع بجميع اللفظ.
والثاني: إذا نوى قبل الفراغ من الكلام.. صح؛ لأن النية قد وجدت منه قبل الاستثناء متصلة به.
فإذا قال لامرأته: يا طالق، أنت طالق ثلاثا إن شاء الله.. لزمه طلقة بقوله: يا طالق، والاستثناء يرجع إلى قوله: أنت طالق ثلاثا.
وإن قال لها: أنت طالق يا طالق إن شاء الله.. فيقع بقوله: (يا طالق) طلقة ولا يرجع إليه الاستثناء، وإنما يرجع إلى الأول.
وقال محمد بن الحسن: يرجع الاستثناء في هذه إلى الكل، ووافقنا في الأولى.
دليلنا: أن قوله: (يا طالق) اسم، والاستثناء لا يعود إلى الأسماء، وإنما يعود إلى ما يوقع من الطلاق.
[فرع: قوله أنت طالق يا عاهرة إن دخلت الدار]
ونحوه وماذا لو كان عنده زوجتان؟] :
وإن قال لامرأته: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار.. فالصفة تعود إلى الطلاق دون القذف.
وهكذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق يا زانية إن شاء الله.. فإن الاستثناء يرجع إلى الطلاق دون القذف.
وقال محمد بن الحسن: يقع الطلاق فيها منجزا، وترجع الصفة والاستثناء إلى القذف فيهما.
دلينا: أن قوله: (يا زانية) اسم، فلا ترجع إليه الصفة والاستثناء، وإنما يرجعان إلى الإيقاع، كما لو قال لها: يا زانية أنت طالق إن دخلت الدار، أو يا زانية أنت طالق إن شاء الله.. فإن الصفة والاستثناء يرجعان إلى الطلاق في هاتين. وقد وافقنا على ذلك، فكذلك في الأوليين.(10/132)
وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال: حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع الاستثناء إلى ما يليه، وهو طلاق عمرة؛ لأنهما جملتان.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: يرجع الاستثناء إليهما؛ لأن المجموع بالواو كالجملة الواحدة.
[مسألة: طلبت زوجة الطلاق فطلق الكل]
إذا كان له زوجات، فقالت له واحدة منهن: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن لم يعزل السائلة بنيته.. طلق جميع نسائه.
وقال مالك: (تطلق جميع نسائه إلا السائلة) .
دليلنا: أن هذا اللفظ يعم نساءه فطلقن، كما لو قال ابتداء: كل امرأة لي طالق.
وإن عزل بقلبه التي سألته أو غيرها.. فهل يقبل؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو حفص بن الوكيل: يقبل قوله في الظاهر والباطن، ولا تطلق التي استثناها بقلبه؛ لأن الشافعي قال: (إلا أن يكون عزلها بقلبه) . ولأن قوله: (كل امرأة لي) يحتمل الخصوص والعموم، فإذا أراد به الخصوص.. قبل.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل في الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، وهو المذهب؛ لأن قوله: (نسائي) يعم جميع نسائه، وما ادعاه مخالف للظاهر، فلم يقبل في الحكم، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقا من وثاق.
[مسألة: طلق بلسانه واستثنى بقلبه]
فيلزمه الطلاق] :
قال الشافعي: (ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه لزمه الطلاق] :
وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق، ونوى بقلبه: إن شاء الله.. لم يقبل في الحكم، ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن اللفظ أقوى من النية، فلا يجوز(10/133)
إسقاطه بها، كما لا يجوز نسخ الكتاب والسنة بالقياس.
وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا، ونوى بقلبه إلا واحدة.. فلا يقبل في الحكم؛ لأنه نص على الثلاث، فلا يسقط بعضهن بالنية، كما لو نوى: إن شاء الله. وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يدين، كما لو قال: نسائي طوالق، واستثنى بالنية بعضهن.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يدين؛ لأن الثلاث لا يعبر به عما دونه من العدد؛ لأنه اسم لثلاثة آحاد، فلا يجوز إسقاط بعض ذلك بالنية، بخلاف النساء؛ فإنه اسم عام، وقد يعبر به عن الخصوص.
وهكذا: إن قال لأربع نسوة له: أربعكن طوالق، واستثنى بالنية بعضهن.. لم يقبل في الحكم، وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ على الوجهين.
[فرع: طلق زوجتيه ثم استثنى واحدة]
] : قال الصيمري: إذا قال لامرأتيه: أنتما طالقتان إلا أنت يا زينب.. طلقتا، ولا يعمل الاستثناء شيئا، كما لا يحسن أن يقول: جاءني زيد وعمرو إلا عمرا. ولو قال: أربع زوجات لي طوالق إلا واحدة أو إلا عمرة.. جاز.
وبالله التوفيق.(10/134)
[باب الطلاق البدعي والسني والتعليق بالصفة والشرط]
إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل.. لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد وقد لا يوجد، كقوله: إذا قدم زيد فأنت طالق.
هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: (إذا علق الطلاق بشرط يوجد لا محالة، كمجيء الليل والنهار وطلوع الشمس والقمر وما أشبهها.. وقع عليها الطلاق في الحال قبل وجود الشرط) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . ولأنه علق الطلاق على شرط غير مستحيل، فلم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، كما لو علقه على قدوم زيد.
وقولنا: (على شرط غير مستحيل) احتراز مما إذا علقه على صعود السماء، وشرب جميع ماء البحر.
وإن علق طلاقها على شرط، ثم قال قبل وجود الشرط: عجلت ما كنت علقت على الشرط.. لم تطلق في الحال؛ لأنه تعلق بالشرط، فلا يتعجل بلفظ التعجيل، كالدين المؤجل.
وإن قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.(10/135)
وإن قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: أردت به الطلاق في الحال، وإنما سبق لساني إلى الشرط.. قبل قوله؛ لأنه في ذلك تغليظا عليه.
[مسألة: الطلاق نوعان من حيث السنة والبدعة]
النساء على ضربين:
ضرب: لا سنة في طلاقهن ولا بدعة، وهن أربع: التي لم يدخل بها، والصغيرة، والآيسة من الحيض، والتي استبان حملها.
وضرب: في طلاقهن سنة وبدعة، وهي: المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء.
إذا ثبت هذا: فقال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة.. طلقت في الحال؛ لأنه علق الطلاق بصفة لا تتصف بها المرأة، فألغيت الصفة، وصار كما لو قال: أنت طالق. وإن قال: أنت طالق للسنة وللبدعة.. طلقت في الحال؛ لأنه وصفها بصفتين متضادتين فألغيتا، وتجرد الطلاق. وإن قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة.. طلقت في الحال؛ لوجود الصفة.
وإن قال للصغيرة المدخول بها، أو للحامل: أنت طالق للسنة أو للبدعة، ثم قال: أردت به إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، فلم يقبل، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، فيقال له: أمسك امرأتك فيما بينك وبين الله تعالى إلى أن تحيض الصغيرة وتلد الحامل إن علقه على البدعة، وإلى أن تطهر إن علقه على السنة. ولا يجيء هذا في الآيسة، وهل يجيء هذا في التي لم يدخل بها؟ اختلف الشيخان فيهما:(10/136)
فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجيء فيها هذا.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يجيء فيها هذا.
[فرع: علق طلاق من لا سنة ولا بدعة في طلاقها وقيده]
فرع: [علق طلاق من لا سنة ولا بدعة في طلاقها للسنة أو للبدعة وقيده] :
وإن قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة إن كنت في هذا الحال ممن يقع عليها طلاق السنة، أو أنت طالق للبدعة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق البدعة.. قال الشافعي في " الأم ": (وقع عليها الطلاق في الحال) .
وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب قال: فيه نظر. وأن الشيخ أبا حامد قال: لا يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد، كقوله: إن كنت علوية فأنت طالق، وليست بعلوية. ويخالف الصفة؛ لأنها تلغى إذا لم تتصف بها.
قال ابن الصباغ: ولما قال الشافعي - عندي - وجه آخر وهو: أن قوله: (أنت طالق للسنة إن كان يقع عليك طلاق السنة) يقتضي: طلاقا مضافا إلى السنة، وهو يقع عليها. وقوله: (وصفها بصفة محال) يريد: إذا قال: أنت طالق للسنة.. فإنه تلغو الصفة.
[مسألة: كانت من جماعة سنة الطلاق وبدعته فقال لها أنت طالق]
للسنة] :
وإن كان له امرأة من أهل سنة الطلاق وبدعته، فقال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. طلقت؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر جامعها فيه، أو في حيض.. لم تطلق؛ لعدم الصفة، فإذا طهرت من الحيض.. طلقت بأول جزء من الطهر.
وقال أبو حنيفة: (إن طهرت لأكثر الحيض.. طلقت بأول جزء من الطهر، وإن طهرت لدون أكثر الحيض.. لم تطلق حتى تغتسل) .(10/137)
دليلنا: أن كل طهر لو صادف غسلا وقع فيه الطلاق.. وجب أن يقع فيه الطلاق وإن لم يصادف الغسل، كما لو طهرت لأكثر الحيض.
فإن جامعها في آخر الحيض وانقطع الدم في حال الجماع.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه طهر صادفه الجماع.
وإن وطئها في أثناء الحيض وطهرت بعده.. فإن القفال قال: لا تطلق بالطهر إذا علقه بالسنة؛ لاحتمال أن تكون قد علقت منه، ووجود بقية الحيض لا يدل على براءة رحمها، كما لا يكون بعض الحيض استبراء في الأمة.
وإن قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كانت حائضا، أو في طهر جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة.
وهكذا: إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكنها استدخلت ماء الزوج.. وقع عليها الطلاق؛ لاحتمال أن تكون علقت منه.
وإن وطئها في الدبر أو فيما دون الفرج، ولم يتحقق وصول الماء إلى رحمها.. فليس بطلاق بدعة وإن كانت العدة واجبة عليها؛ لأن العدة تجب: مرة لبراءة الرحم، ومرة للتعبد.
وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم يقع عليها الطلاق، فإذا طعنت في الحيض، أو غيب الحشفة في الفرج بعد ذلك.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة.
[فرع: الزواج من زانية حامل ووطؤها ثم طلاقها]
إذا تزوج رجل امرأة حاملا من الزنا.. فهل يجوز له وطؤها قبل وضعها؟ فيه وجهان، المشهور: أنه يجوز.
إذا ثبت هذا، ودخل بها، ثم قال لها: أنت طالق للسنة.. لم تطلق حتى تلد وتطهر من النفاس؛ لأن هذا الحمل لا حكم له، فكان وجوده كعدمه.(10/138)
[فرع: طلق من لها سنة وبدعة وشرط وجود صفة حال العقد]
قال في " الأم ": (إذا قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق السنة. فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر جامعها فيه أو حائضا.. لم يقع عليها الطلاق؛ لعدم الصفة، فإن طعنت بعد ذلك في الطهر.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأنه شرط أن تكون حال عقد الطلاق ممن يقع عليها طلاق السنة، ولم توجد الصفة.
وإن قال لها: أنت طالق للبدعة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق البدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم يقع عليها الطلاق، فإن جامعها أو حاضت.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأنه شرط أن تكون حال عقد الطلاق من أهل البدعة، ولم يوجد الشرط.
وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه، فقال: أنت طالق للبدعة.. فقد قلنا: لا يقع عليها الطلاق في الحال. وإن قال: أنا أردت طلاق السنة، وإنما سبق لساني إلى البدعة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن فيه تغليظا عليه) .
[فرع: طلقها ثلاثا وقيدها بالسنة]
وإن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا للسنة وكانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الثلاث؛ لأن السنة والبدعة للوقت - عندنا - دون العدد.(10/139)
فإن قال: أردت السنة على مذهب مالك وأبي حنيفة: أنه يقع في كل قرء طلقة.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه؛ بدليل: أنه لو صرح به في الطلاق.. حمل عليه، فيقع عليها في الحال طلقة. فإن لم يراجعها، فإنها إذا حاضت ثم طهرت.. طلقت أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة وبانت.
وإن راجعها بعد الأولى ووطئها، فإنها إذا حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول الطهر. فإذا راجعها ثانيا وطئها، ثم حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة وبانت، واستأنفت العدة.
وإن راجعها ولم يطأها حتى حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول الطهر الثاني.
فإن راجعها ثانيا ولم يطأها حتى حاضت وطهرت.. وقعت الثالثة وبانت، وهل تبني على عدتها أو تستأنف؟ على قولين يأتي ذكرهما.
قال الشافعي: (ويسعه أن يطأها، وعليها الهرب وله الطلب؛ لأنه يعتقدها زوجته، وهي تعتقد أنها غير زوجته) .
[فرع: طلقها للسنة وللبدعة لعدة صور وهي ممن لها تلك الصفة]
وإن قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة، وأنت طالق للبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنها بإحدى الحالتين، فإذا صارت في الحالة الثانية.. وقع عليها الثانية.
وإن قال لها: أنت طالق للسنة والبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين فسقطتا، وبقي الطلاق فوقع.(10/140)
وإن قال لها: أنت طالق طلقتين: طلقة للسنة وطلقة للبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة، وفي الحالة الثانية طلقة أخرى.
وإن قال لها: أنت طالق طلقتين للسنة والبدعة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها في الحال طلقتان؛ لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة من الطلقتين، وإيقاع كل واحدة من الطلقتين على الصفتين لا يمكن فسقطت الصفتان، وبقيت الطلقتان فوقعتا.
والثاني: يقع عليها في الحال طلقة، فإذا صارت في الحالة الثانية.. وقعت عليها الثانية؛ لأن الظاهر من القسمة: أنها تعود إلى الأعداد دون الأبعاض.
وإن قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، وثلاثا للبدعة.. وقع عليها في الحال ثلاث؛ لأنها في إحدى الحالتين، وبانت بها.
وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا: بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة، وأطلق ذلك ولم يقيده بلفظ ولا نية.. وقع عليها في الحال طلقتان، وإذا صارت إلى الحالة الأخرى.. وقع عليها الطلقة الثالثة.
وقال المزني: يقع عليها في الحال طلقة، وفي الحال الثانية طلقتان؛ لأن البعض يقع على الأقل والأكثر، فأوقعنا الواحدة؛ لأنها يقين، وما زاد مشكوك فيه.
والمذهب الأول؛ لأنه أضاف الثلاث إلى الحالتين وسوى بينهما في الإضافة، والظاهر: أنه أراد التسوية بينهما في الثلاث، كما لو قال: بعض هذه الدار لزيد، وبعضها لعمرو.. فإنها تكون بينهما نصفين، وإذا كان كذلك.. كان للحالة الأولى طلقة ونصف، فسرى هذا النصف، فوقع طلقتان.
فإن قيل: هلا قلتم: يقع في الحال ثلاث طلقات؛ لأنه يقتضي أن يكون بعض كل طلقة من الثلاث للسنة وبعضها للبدعة، فيخص كل حال ثلاثة أبعاض من الثلاث طلقات، فتكمل الأبعاض؟
فالجواب: أنا لا نقول هذا؛ لأن كل عدد أمكن قسمته قسمة صحيحة من غير(10/141)
كسر.. لم يجز قسمته على الكسر، وفي مسألتنا يمكن قسمة طلقتين من الثلاث جبرا على الحالتين، فلم تتبعضا.
وإن قيد ذلك باللفظ، بأن قال: أنت طالق ثلاثا، نصفها للسنة ونصفها للبدعة.. وقع في الحال طلقتان، وفي الحال الثانية طلقة؛ لما ذكرناه.
وإن قال: واحدة للسنة واثنتين للبدعة، أو قال: اثنتين للسنة وواحدة للبدعة.. حمل على ما قيده بقوله.
فإن لم يقيده باللفظ، بل قال: أنت طالق ثلاثا، بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة، ثم قال: أنا أردت نصفهن للسنة ونصفهن للبدعة، أو أردت في الحالة الأولى طلقتين وفي الثانية طلقة.. حمل على ذلك؛ لأنه لو لم ينو ذلك.. لحمل إطلاقه عليه، فكذلك إذا نواه.
وإن قال: أردت في الحالة الأولى طلقة وفي الحالة الثانية طلقتين.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الظاهر أنه أراد التسوية، فلا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر.
ومنهم من قال: يقبل في الحكم، وهو الصحيح؛ لأن البعض يقع على الأقل والأكثر، فإذا أخبر: أنه نوى ذلك.. قبل منه، كما لو قيده باللفظ.
[مسألة: علق طلاقها على مجيء زيد أو على رأس الشهر]
مسألة: [علق طلاقها على مجيء زيد وأطلقه أو على رأس الشهر وقيده بالسنة] :
إذا قال: إذا قدم فلان فأنت طالق، فقدم فلان وهي في حال السنة.. طلقت طلاق السنة. وإن قدم وهي في حال البدعة. وقع عليها طلاق البدعة، إلا أنه لا يأثم؛ لأنه لم يقصد إليه.
وإن قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، فإن قدم وهي في حال السنة.. طلقت(10/142)
لوجود الصفة. وإن كانت في حال البدعة.. لم تطلق؛ لعدم الصفة، فإذا صارت بعد ذلك إلى حال السنة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن الشرطين قد وجدا.
قال صاحب " الفروع ": ويحتمل أن لا يقع الطلاق حينئذ أيضا؛ لأن ظاهر الشرطين أن يكونا معتبرين حالة القدوم، والمنصوص هو الأول.
وإن قال: أنت طالق رأس الشهر للسنة.. قال في " الأم ": (فإن كانت رأس الشهر في طهر لم يجامعها فيه.. طلقت. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه رأس الشهر.. لم تطلق، فإذا طهرت بعد ذلك من غير جماع.. وقع عليها الطلاق) .
وعلى الوجه الذي خرجه صاحب " الفروع " في التي قبلها: يحتمل أن لا يقع عليها الطلاق هاهنا بالطهر بعد رأس الشهر، إلا أن: المنصوص هو الأول.
[فرع: علق طلاقها قبل الدخول بقدوم فلان للسنة]
قال في " الأم ": (إذا قال لامرأته - وهي ممن تحيض - قبل الدخول: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، فدخل بها قبل أن يقدم فلان، ثم قدم وهي طاهر غير مجامعة.. وقع عليها الطلاق) .
وإن قدم وهي حائض أو في طهر جامعها فيه.. قال أصحابنا: فالذي يجيء على قول الشافعي: أنها لا تطلق حتى تصير إلى زمان السنة؛ لأنه يعتبر صفتها حين قدومه لا حين عقد الصفة، فلو لم يدخل بها وقدم فلان.. طلقت؛ لأنه ليس في طلاقها سنة ولا بدعة.
فإن دخل بها الزوج وقال: ما أردت بقولي: (طلاق السنة) سنة الزمان، وإنما أردت سنة طلاقها قبل الدخول.. وقع عليها الطلاق بقدوم فلان، سواء كانت في زمان السنة أو في زمان البدعة.
[مسألة: طلقها أحسن الطلاق أو أقبحه أو جمع بينهما]
وإن قال: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أحسنه، أو أكمله، أو أفضله، أو أتمه، ولم يكن له نية.. طلقت للسنة؛ لأنه أعدل الطلاق وأحسنه، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. لم يقع(10/143)
الطلاق، فإذا صارت إلى طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق.
وإن كانت له نية، فإن كانت نيته موافقة لظاهر قوله.. كانت تأكيدا. وإن خالفت ظاهر قوله، بأن قال: أردت به طلاق البدعة، واعتقدت أنه الأعدل والأحسن في طلاقها لسوء عشرتها، فإن كانت حال عقد الطلاق في حال البدعة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن في ذلك تغليظا عليه، فقبل. وإن كانت في حال عقد الطلاق في حال السنة.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه فلم يقبل، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، ولهذا: لو صرح به حال عقد الطلاق.. قبل منه.
وإن قال: أنت طالق أكمل الطلاق اجتنابا.. قال الصيرفي: طلقت ثلاثا؛ لأنه أكمل الطلاق اجتنابا.
وإن قال: أنت طالق أقبح الطلاق، أو أسمجه، أو أفحشه وما أشبه ذلك من صفات الذم، فإن لم يكن له نية.. طلقت للبدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. طلقت؛ لأن ذلك أقبح الطلاق وأفحشه. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم تطلق، فإذا طعنت في الحيض أو جامعها.. طلقت.
وإن كانت له نية، فإن وافقت نيته ظاهر قوله وهو: أن ينوي طلاق البدعة.. قبل منه وكانت نيته تأكيدا. وإن خالف ظاهر قوله، بأن قال: نويت طلاق السنة واعتقدت أن الأقبح في حقها طلاق السنة لحسن عشرتها، فإن كانت حال عقد الطلاق في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لأن فيه تغليظا عليه. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لاحتمال ما يدعيه.(10/144)
وإن قال لها: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة.. وقع عليها في الحال طلقة. واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنه وصفها وصفين لا يمكن وجودهما معا، وقد وجدت إحداهما، فوقع بها الطلاق.
ومنهم من قال: لأنه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا، وبقي مجرد الطلاق فوقع.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوع الطلاق بإحدى الصفتين ليس بأولى من الأخرى.
[فرع: طلاق الحرج بدعي]
وإن قال لامرأته: أنت طالق طلاق الحرج.. وقع عليها طلقة بدعية.
وقال علي بن أبي طالب: (يقع عليها الطلاق الثلاث في الحال) .
دليلنا: أن (الحرج) : الضيق والإثم، ولا يأثم إلا بطلاق البدعة.
وإن قال: أنت طالق طلاق الحرج والسنة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا، وبقي الطلاق مجردا فوقع.
[مسألة: علق الطلاق على مجرد الحيض]
إذا قال لامرأته وهي طاهر: إن حضت فأنت طالق، فرأت الدم في زمان إمكانه.. وقع الطلاق عليها، ويكون بدعيا. فإن استمر بها الدم يوما وليلة.. استقر الطلاق، وإن انقطع لدون اليوم والليلة واتصل بعده طهر صحيح.. حكمنا بأن الطلاق لم يقع.(10/145)
وإن قال لها وهي حائض: إذا حضت فأنت طالق.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو القاسم الصيمري: لا يقع الطلاق حتى تطهر من هذا الحيض، ثم تطعن في الحيضة الثانية. وبه قال أبو يوسف؛ لأن قوله: إذا حضت، أو إن حضت يقتضي الاستقبال.
وقال ابن الصباغ: يقع عليها الطلاق بما يتجدد من حيضها؛ لأنه قد وجد منها الحيض، فوقع الطلاق لوجود صفته، كما لو قال للصحيحة: إذا صححت فأنت طالق.. فإنه يقع عليها الطلاق في الحال.
وإن قال لامرأته: كلما حضت فأنت طالق، فإذا رأت الدم.. طلقت برؤيته، فإذا انقطع الدم وطهرت طهرا كاملا ثم رأت الدم.. طلقت طلقة ثانية، فإذا طهرت ثم رأت الدم.. طلقت الثالثة؛ لأن (كلما) : تقتضي التكرار، فتكون الطقات كلها بدعية.
[فرع: تعليق الطلاق على حيضها حيضة]
] : إذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، فإن كانت طاهرا.. لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر؛ لأنه قال: (حيضة) ، وذلك لا يوجد إلا بطهرها من الحيض. وإن كانت حائضا.. لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ويكون الطلاق سنيا؛ لأنه يقع بأول الطهر.
وإن قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، فإذا حاضت حيضة كاملة بعد عقد الصفة.. وقع عليها طلقة بأول جزء من الطهر بعد الحيض، ثم إذا حاضت الثانية وطهرت منه.. طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت الثالثة وطهرت منه.. طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر؛ لأنه (كلما) تقتضي التكرار، وتكون الطلقات للسنة.
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، وإذا حضت حيضتين فأنت طالق، فإنها إذا حاضت حيضة.. وقع عليها طلقة بانقطاع الدم لوجود الحيضة، فإذا حاضت حيضة ثانية.. وقع عليها طلقة ثانية بانقطاع دمها من الحيضة الثانية؛ لأنها مع الأولى(10/146)
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق، فإذا انقطع دمها من الحيضة الأولى.. وقع عليها طلقة لوجود الصفة، وإن حاضت بعدها حيضة ثانية.. لم تطلق حتى تطهر من الحيضة الثالثة؛ لأن (ثم) للترتيب، و (الواو) للجمع.
[فرع: تعليق الطلاق بمجرد الطهر أو بالطهر الكامل]
وإن قال لامرأته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق.. طلقت بانقطاع الدم؛ لوجود الشرط، ويكون الطلاق سنيا؛ لأنه يقع في الطهر.
وإن قال لها كذلك وهي طاهر.. قال الشيخ أبو إسحاق: لم تطلق حتى تحيض وتطهر؛ لأن (إذ) اسم لزمان مستقبل. وعلى قياس قول ابن الصباغ في الحيض: تطلق عقيب قوله.
وإن قال لها: إذا طهرت طهرا فأنت طالق، فإن كانت حال عقد الصفة حائضا.. لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض. وإن كانت طاهرا.. لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض؛ لأنه لا يوجد الطهر الكامل إلا بذلك، ويكون الطلاق بدعيا؛ لأنه يقع بأول جزء من الحيض، ويأثم به.
فإن قال لها: أنت طالق في كل طهر طلقة، فإن كانت طاهرا.. طلقت طلقة، وإن رأت الدم وانقطع.. طلقت الثانية، فإذا رأت الدم ثانيا وانقطع.. طلقت الثالثة.
وإن كانت حال عقد الطلاق حائضا.. لم تطلق حتى ينقطع الدم فتطلق، ثم بانقطاع الحيض الثاني تطلق ثانية، ثم بانقطاع الحيض الثالث تطلق الثالثة.
وإن رأت الدم على الحمل، فإن قلنا: إنه حيض.. طلقت بانقطاعه، ويتكرر عليها الطلاق في الحمل بانقطاع كل دم على هذا القول.(10/147)
[مسألة: طلقها ثلاثا في كل قرء طلقة]
وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقة، فإن كانت حاملا طاهرا.. وقع عليها في الحال طلقة. وإن كانت حاملا حائضا، فإن قلنا: إن الدم على الحمل ليس بحيض.. وقع عليها طلقة، وإن قلنا: إنه حيض.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: يقع عليها الطلاق؛ لأن زمان الحمل كله قرء واحد؛ بدليل: أن العدة لا تنقضي إلا بوضعه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والقاضي أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر؛ لأن الأقراء - عندنا - الأطهار، وهذا حيض، فلم يقع عليها الطلاق. وبه قال المسعودي [في " الإبانة "] .
وهل يتكرر الطلاق في كل طهر على الحمل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتكرر؛ لأن العدة لا تنقضي بثلاثة منها.
والثاني: يتكرر، وهو الأقيس؛ لأنه طهر من حيض.
وإذا وقع على الحامل طلقة.. نظرت: فإن لم يراجعها حتى وضعت.. انقضت عدتها وبانت منه، ولا يلحقها بعد ذلك طلاق. وإن استرجعها قبل أن تضع.. لم تطلق حتى تطهر من النفاس، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس.. وقعت عليها الثالثة.
وإن كانت حاملا مدخولا بها.. نظرت: فإن كانت حائضا.. لم يقع عليها الطلاق في الحال؛ لأن الحيض ليس بقرء، فإذا انقطع دمها.. وقعت عليها طلقة، فإذا حاضت وانقطع دمها.. وقعت عليها الثانية بأول جزء من الطهر، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها.. وقعت عليها الثالثة بأول جزء من الطهر. ولا فرق في هذا بين أن يراجعها أو لا يراجعها.
وإن كانت طاهرا حين عقد الطلاق.. وقع عليها طلقة؛ لأن بقية الطهر قرء، وإن كان قد جامعها في هذا الطهر.. وقعت الطلقة بدعية، وإن لم يجامعها فيه.. وقعت(10/148)
سنية، فإذا حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر. ولا فرق في هذا أيضا بين أن يراجعها أو لا يراجعها.
وإن كانت غير مدخول بها، فإن كانت طاهرا.. وقعت عليها طلقة، ولا تقع عليها الثانية والثالثة بالطهر الثاني والثالث؛ لأنها تبين بالأولى، فلم يلحقها ما بعدها. وإن كانت حال عقد الطلاق حائضا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يقع عليها طلقة وتبين بها؛ لأنها ليست من أهل سنة الطلاق وبدعته.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه لا يقع عليها طلاق حتى تطهر من حيضها؛ لأن الأقراء هي الأطهار، فإذا طهرت.. وقعت عليها طلقة وبانت بها.
وإن كانت صغيرة مدخولا بها.. وقع عليها في الحال طلقة، فإذا مضت ثلاثة أشهر ولم يراجعها.. بانت ولم تلحقها الثانية والثالثة، فإن راجعها قبل انقضاء عدتها.. لم تطلق حتى ترى الحيض ثم تطهر منه، فتقع الثانية بانقطاع الحيض الأول، ثم تقع الثالثة بانقطاع الحيض الثاني. وإن كانت غير مدخول بها.. وقع عليها في الحال طلقة وبانت بها، ولا تلحقها الثانية والثالثة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يقع على الصغيرة طلقة في الحال؟ على وجهين، بناء على أنها إذا حاضت.. فهل يحتسب على ما مضى قرءا؟ على قولين.
وإن كانت آيسة غير مدخول بها.. وقعت عليها طلقة وبانت بها، ولا تلحقها الثانية والثالثة. وإن كانت مدخولا بها.. وقعت عليها طلقة، فإن لم يراجعها حتى انقضت ثلاثة أشهر.. بانت ولم تلحقها الثانية والثالثة، وإن راجعها قبل انقضاء الثلاثة.. لم تلحقها الثانية والثالثة إلا إن عاودها الدم. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يلحقها في الحال طلقة؟ على وجهين.
فإن عاودها الدم.. علمنا أنه وقع عليها طلقة حال عقد الطلاق وجها واحدا.(10/149)
[مسألة: علق طلاقها أو ضرتها على حيضها أو حيضهما واختلفا]
إذا قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فقالت: حضت، فإن صدقها الزوج.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه اعترف بوجود شرط الطلاق. وإن كذبها.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الحيض أمر تستبد به المرأة ولا يمكنها إقامة البينة عليه، فكان القول قولها.
وإن قال لها: إن حضت فضرتك طالق، فقالت: حضت، فإن صدقها.. وقع الطلاق على ضرتها. وإن كذبها.. لم يقع الطلاق على ضرتها. والفرق بينهما: أن في الأولى الحق لها، فحلفت على إثبات حق نفسها، وهاهنا الحق لضرتها، والإنسان لا يحلف لإثبات الحق لغيره، فتبقى الخصومة بين الزوج والضرة، فإن قالت الضرة: قد حاضت، وقال الزوج: لم تحض.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنه مساو للضرة في الجهل بحيض الأخرى، وللزوج مزية عليها؛ لأن الأصل بقاء الزوجية، فكان القول قوله. والذي يقتضي المذهب: أنه يحلف ما يعلم أنها حاضت؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
وإن قال لها: إن حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت، فإن صدقها.. طلقتا، وإن كذبها.. حلفت وطلقت، ولم تطلق ضرتها؛ لأنها تحلف على إثبات حق نفسها، ولا تحلف لإثبات حق ضرتها. وإن ادعت عليه الضرة.. حلف لها، على ما مضى.
وإن قال لهما: إن حضتما فأنتما طالقان، فإن قالتا: حضنا، فصدقهما.. طلقتا، وإن كذبهما.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأن طلاق كل واحدة منهما معلق بحيضها وحيض صاحبتها، وقول كل واحدة منهما لا يقبل في حق غيرها، فيحلف لهما. وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى.. طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقة؛ لأنه قد اعترف بحيض المصدقة، والقول قول المكذبة مع يمينها في حيضها في حق نفسها، فوجد الشرط في طلاقها.(10/150)
[فرع: طلقها لحيضتهما]
وإن قال لامرأتين: إن حضتما حيضة فأنتما طالقان.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تنعقد هذه الصفة؛ لأنه يستحيل اشتراكهما في حيضة.
والثاني: ينعقد، وهو الأصح.
وإذا حاضتا.. طلقتا؛ لأن الذي يستحيل هو قوله: (حيضة) ، فسقط وصار كما لو قال: إن حضتما فأنتما طالقتان، وهكذا ذكر أصحابنا.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه يقع عليهما الطلاق في الحال؛ لأنه علق الطلاق بشرط يستحيل وجوده، فألغي ووقع الطلاق في الحال، كما لو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة.. فإنها تطلق في الحال.
[فرع: تعليق الطلاق بحيض الأربع]
وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: إن حضتن فأنت طوالق، فإن قلن: حضنا، وصدقهن.. طلقن؛ لوجود الصفة في حقهن، وإن كذبهن.. لم تطلق واحدة منهن؛ لأنه علق طلاق كل واحدة بحيضهن، ولم توجد الصفة.
وإن صدق واحدة أو اثنتين.. لم تطلق واحدة منهن.
وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة.. طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقات؛ لأنه قد وجد حيض الأربعة في حقها؛ لأنه قد صدق الثلاث، وقولها مقبول مع يمينها في حيضها في حق نفسها، ولا تطلقن المصدقات؛ لأن حيض المكذبة لم يوجد في حقهن، بل يحلف الزوج لهن.
[فرع: علق طلاق كل واحدة منهن على حيض صواحبها]
وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: أيتكن حاضت فصواحبها طوالق.. فقد علق طلاق كل واحدة بحيض صواحبها، فإن قلن: حضنا، فإن كذبهن.. حلف(10/151)
لهن، ولم تطلق واحدة منهن؛ لأن كل واحدة منهن لا تحلف لإثبات حق صاحبتها.
وإن صدقهن.. وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ لأنه ثبت لها ثلاث صواحب حضن.
وإن صدق واحدة وكذب الباقيات.. لم تطلق المصدقة؛ لأنه لم تثبت لها صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقة؛ لأن لها صاحبة ثبت حيضها.
وإن صدق اثنتين وكذب اثنتين.. وقع على كل واحدة من المصدقات طلقة؛ لأنه ما ثبت لكل واحدة منهما إلا صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ثبت حيضهما.
وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة.. طلقت المكذبة ثلاثا؛ لأن لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن، وطلق كل واحدة من المصدقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما.
وإن كان له ثلاث نسوة، فقال: أيتكن حاضت فصاحبتاها طالقتان، فإن قلن: حضنا، فصدقهن.. طلقت كل واحدة طلقتين، وإن كذبهن.. لم تطلق واحدة منهن.
وإن صدق واحدة وكذب اثنتين.. لم تطلق المصدقة، وطلقت المكذبتان طلقة طلقة.
وإن صدق اثنتين وكذب واحدة.. طلقت المكذبة طلقتين، وطلقت المصدقتان طلقة طلقة؛ لما ذكرناه في الأولى.
[فرع: علق طلاقها على حيضها بيوم الجمعة أو نهاره]
أو على رؤيتها لدم] :
قال الصيمري: إذا قال لها: إذا حضت يوم الجمعة فأنت طالق، فابتدأها الحيض قبل الفجر، ثم أصبحت يوم الجمعة حائضا.. لم يقع عليها الطلاق. ولو بدأها الحيض بعد الفجر أو عند طلوع الشمس.. طلقت. ولو قالت: لا أعلم ابتدأ قبل(10/152)
الفجر أو بعده.. وقع الطلاق في الظاهر؛ لأنا على يقين من حصوله.
فإذا قال لها: إذا حضت في نهار يوم الجمعة فأنت طالق، فحاضت بعد طلوع الشمس يوم الجمعة.. وقع عليها الطلاق. وإن حاضت بعد الفجر وقبل طلوع الشمس.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري.
وإن قال: إذا رأيت دما فأنت طالق، فحاضت، أو استحيضت، أو نفست.. وقع الطلاق. فإن قال: أنا أردت دما غير هذا الذي رأيته.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ودين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
فلو رعفت أو بظت جرحا فخرج منه دم.. قال الصيمري: الظاهر أن لا يقع عليها الطلاق؛ لأن إطلاق الدم لا ينصرف إلا إلى الحيض أو الاستحاضة أو النفاس - قال - وفيه احتمال.
وإن قال لصغيرة: إن حضت فأنت طالق.. لم تطلق حتى تحيض. وإن قال لها: إن طهرت فأنت طالق.. لم تطلق حتى ترى النقاء بعد الحيض؛ لأن حقيقة الطهر في الإطلاق هذا.
وإن قال للآيسة: إذا حضت فأنت طالق.. لم تطلق؛ لأن الصفة لا توجد. وإن قال لها: إن طهرت فأنت طالق.. قال الصيمري: لم تطلق؛ لأن حقيقة ذلك أن تدخل في طهر بعد حيض، وهذا لا يوجد في حقها.
[مسألة: علق الطلاق على عدم الحمل أو عكسه]
إذا قال لامرأته: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، أو إن كنت حاملا فأنت(10/153)
طالق.. حرم عليه وطؤها قبل أن يستبرئها؛ لأن الأصل عدم الحمل.
وبماذا يجب استبراؤها؟ فيه وجهان:
أحدهما: بثلاثة أقراء؛ لأن الحرة تعتد بثلاثة أقراء، كذا هذه.
والثاني: بقرء واحد؛ لأن براءة الرحم تعلم بذلك.
فإذا قلنا: تستبرئ بثلاثة أقراء.. كانت أطهارا.
وإذا قلنا: تستبرئ بقرء.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه الطهر؛ لأن القرء عندنا الطهر.
والثاني: أنه الحيض؛ لأن معرفة براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض.
فإذا قلنا: إنه الطهر، فإن كانت حائضا وطهرت، وطعنت في الحيض الثاني.. حصل براءة الرحم. وإن كانت طاهرا.. لم يكن بقية الطهر قرءا حتى تكمل الحيض بعده؛ لأن بعض الطهر لا يحصل به معرفة البراءة، فكمل بالحيضة بعده.
وإذا قلنا: إنه الحيض، فإن كانت حائضا.. لم تعتد ببقية الحيض، فإذا طهرت وأكملت الحيضة بعده.. حصل براءة رحمها. وإن كانت طاهرا.. فحتى تكمل الحيضة بعده.
وهل يكفي استبراؤها قبل أن يطلقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكفي؛ لأن الاستبراء لا يعتد به قبل وجود سببه، كالمستبرأة.
والثاني: يعتد به؛ لأن الغرض معرفة براءة رحمها، ولهذا: لو كانت صغيرة.. وقع عليها الطلاق من غير استبراء، وذلك يحصل باستبرائها قبل الطلاق.(10/154)
وإذا استبرأت بثلاثة أقراء أو بقرء، فإن لم تظهر بها أمارات الحمل.. حكم بوقوع الطلاق حين حلف، فإن كانت قد استبرأت بثلاثة أقراء بعد اليمين.. فقد انقضت عدتها، وإن استبرأت بقرء.. فقد بقي عليها من العدة قرءان.
وإن ظهر بها الحمل.. نظرت: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين حلف.. لم يقع الطلاق؛ لأنه بان أنها كانت حاملا وقت اليمين. فإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين حلف.. حكمنا بأنها كانت حائلا، وأن الطلاق وقع عليها. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى تمام أربع سنين، بأن لم يطأها الزوج بعد الطلاق.. حكمنا بأن الحمل كان موجودا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع.
وإن كان الزوج قد راجعها بعد الطلاق ووطئها.. نظرت: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوطء.. علمنا أن الحمل كان موجودا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقع عليها الطلاق؛ لأن الأصل عدم الحمل وقت اليمين.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه يحتمل أنه كان موجودا وقت اليمين، ويحتمل أنه حدث من الوطء، والأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق.
[فرع: قوله إن كنت حاملا فأنت طالق]
فأما إذا قال لها: إن كنت حاملا فأنت طالق.. فعليه أن يستبرئها؛ لأنا لا نعلم الحمل وعدمه إلا بالاستبراء، وفي كيفية الاستبراء ووقته ما ذكرناه في الأولى، وهل يحرم عليه وطؤها قبل أن يعلم براءة رحمها بالاستبراء؟ فيه وجهان:(10/155)
أحدهما: لا يحرم؛ لأن الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة.
والثاني: يحرم؛ لأنه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها، ويجوز أن تكون حائلا فيحل وطؤها، فغلب التحريم.
فإن استبرأت ولم يظهر بها الحمل.. علمنا أنها كانت حائلا وقت الحلف، ولم يقع عليها الطلاق.
وإن ظهر بها الحمل.. نظرت: فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين حلف الطلاق.. علمنا أنها كانت حاملا وقت اليمين، وأن الطلاق وقع عليها.
وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت اليمين.. علمنا أنها كانت حائلا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع عليها.
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين أو ما دونها من حين اليمين، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين.. وقع عليها الطلاق؛ لأنا تبينا أنها كانت حاملا وقت اليمين. وإن وطئها الزوج بعد اليمين، فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. حكمنا بوقوع الطلاق؛ لأنا نعلم أنه كان موجودا حين اليمين. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء.. لم يقع الطلاق وجها واحدا؛ لأنه يجوز أن يكون موجودا حال اليمين، ويجوز أن يكون حدث من الوطء.. فلا يقع الطلاق بالشك.
[مسألة: علق الطلاق بالولادة]
وإن قال لزوجته: إن ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت حيا كان أو ميتا.. وقع عليها الطلاق؛ لوقوع اسم الولد.
فإن قالت: ولدت، فصدقها الزوج أو كذبها، فأقامت عليه بينة.. حكم عليه بوقوع الطلاق.
والذي يقتضي المذهب: أنه إذا أقامت أربع نسوة على الولادة.. وقع عليها الطلاق، كما يثبت النسب بذلك. وإن ولدت ولدا آخر.. لم تطلق به؛ لأن قوله لا يقتضي التكرار.(10/156)
وإن قال لها: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد واحد، بين كل ولدين دون ستة أشهر.. طلقت بالأول طلقة، وطلقت بالثاني طلقة؛ لأنها رجعية عند وضع الثاني، والرجعية يلحقها الطلاق، و (كلما) تقتضي التكرار.
فإذا ولدت الثالث.. لم يقع به طلاق.
وحكى أبو علي بن خيران: أن الشافعي قال في بعض آماليه القديمة: (أنها تطلق به طلقة ثالثة) . وأنكر أصحابنا هذا، وقالوا: لا نعرف هذا للشافعي في قديم ولا في جديد؛ لأن عدتها تنقضي بوضع الثالث، فتوجد الصفة وليست بزوجة، فلم يقع عليها طلاق، كما لو قال لها: إذا مت فأنت طالق، فمات.. فإنها لا تطلق. وتأولوا هذه الحكاية: على أنه راجعها بعد ولادة الثاني، فولدت الثالث وهي زوجة.
وإن ولدت أربعة، واحدا بعد واحد من حمل.. طلقت بالأول طلقة، وبالثاني طلقة، وبالثالث طلقة وبانت، وانقضت عدتها بوضع الرابع.
وإن وضعت الثلاثة دفعة واحدة.. طلقت ثلاثا؛ لأن الصفة وجدت وهي زوجة.
وإن وضعت الثاني لستة أشهر فما زاد من وضع الأول.. طلقت بالأول طلقة، ولم تطلق بالثاني ولا بالثالث؛ لأنها من حمل آخر.
وإن ولدت ولدين، واحدا بعد الآخر من حمل.. طلقت بالأول طلقة، وانقضت عدتها بوضع الثاني ولم تطلق به، إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران.
وإن وضعتهما دفعة واحدة.. طلقت بوضعهما طلقتين.
[فرع: علق طلاقها بولادتها ذكرا أو أنثى طلقة للذكر واثنتين للأنثى]
وإن قال لها: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا.. طلقت واحدة، واعتدت بالأقراء. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين، واعتدت بالأقراء. وإن ولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفتين، واعتدت بالأقراء.(10/157)
وإن ولدت الذكر أولا، ثم ولدت الأنثى بعده، وبينهما أقل من ستة أشهر.. طلقت بولادة الذكر طلقة، وانقضت عدتها بوضع الأنثى، ولم تطلق بولادتها إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران.
وإن ولدت الأنثى أولا، ثم ولدت الذكر بعده من حمل واحد.. طلقت بولادة الأنثى طلقتين، وانقضت عدتها بولادة الذكر، ولم تطلق به إلا على ما حكاه ابن خيران.
وإن ولدتهما واحدا بعد واحد، ولم يعلم السابق منهما.. طلقت واحدة؛ لأنها يقين وما زاد مشكوك فيها، والورع له أن يلتزم اثنتين.
وإن لم يعلم: هل وضعتهما معا، أو واحدا بعد واحد؟ لم تطلق إلا واحدة؛ لأنه يقين. والورع أن يلتزم الثلاث لجواز أن تكون ولدتهما معا.
وإن ولدت ذكرا وأنثيين من حمل واحد.. نظرت: فإن ولدت الذكر أولا، ثم أنثى، ثم أنثى.. طلقت بولادة الذكر طلقة، وبالأنثى الأولى طلقتين وبانت، وانقضت عدتها بوضع الثانية.
وإن ولدت أولا أنثى، ثم الذكر، ثم الأنثى.. طلقت بالأنثى الأولى طلقتين، وبالذكر طلقة وبانت، وانقضت عدتها بوضع الثانية.
وإن وضعت الأنثيين أولا، واحدة بعد واحدة، ثم الذكر بعدهما.. طلقت بالأولى طلقتين، ولم تطلق بالأنثى الثانية؛ لئلا تقتضي التكرار، وانقضت عدتها بوضع الذكر، ولا تطلق به على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران.
وإن ولدت الذكر أولا، ثم ولدت الأنثيين بعده دفعة واحدة.. طلقت بالذكر طلقة، وانقضت عدتها بوضع الأنثيين، ولا تطلق بهما على المذهب.(10/158)
وإن ولدت الذكر وأنثى بعده دفعة واحدة، ثم ولدت الأنثى بعدهما.. طلقت بوضع الأنثى والذكر ثلاثا، وانقضت عدتها بوضع الثانية.
[فرع: علق بولادة أول ولد أو بآخره طلقة للذكر واثنتين للأنثى]
وإن قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا وأنثى.. نظرت: فإن ولدت الذكر أولا.. طلقت طلقة، فإذا ولدت الأنثى بعده.. انقضت عدتها بولادتها ولا تطلق بولادتها. وإن ولدت الأنثى أولا.. طلقت بها طلقتين، وانقضت عدتها بولادة الذكر ولا تطلق به. وإن أشكل الأول منهما.. طلقت واحدة؛ لأنها يقين وما زاد مشكوك فيها. وإن ولدتهما معا.. لم تطلق؛ لأنه ليس فيهما أول.
وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق طلقة، وإن كان آخر ولد تلدينه جارية فأنت طالق ثلاثا، فولدت غلاما وجارية من حمل واحد، واحدا بعد الآخر.. فإن ولدت الغلام أولا.. طلقت طلقة؛ لأن اسم الأول يقع عليه، وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادتها. وإن ولدت الجارية أولا، ثم الغلام بعدها.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال لها: آخر إلا إذا كان قبلها أول. وإن ولدت الغلام بعدها.. لم تطلق؛ لأنه ليس بأول.
وإن ولدت ولدا واحدا لا غير.. قال ابن الحداد: فإن كان غلاما.. وقع عليها طلقة؛ لأن اسم الأول واقع عليه، وإن كانت جارية.. لم يقع عليها شيء؛ لأن اسم الآخر لا يقع عليها؛ لأن الآخر يقتضي أن يكون قبله أول، ولا يقتضي الأول أن يكون بعده آخر.
قال القاضي أبو الطيب: ينبغي أن يقال في الغلام مثله؛ لأنه لما لم يقع اسم الآخر إلا لما قبله أول.. فكذلك لا يقع اسم الأول إلا لما بعده آخر.(10/159)
[فرع: علق طلاقه على ولادة غلام أو ولد]
وإن قال لها: إن ولدت ولدا فأنت طالق، وإن ولدت غلاما فأنت طالق، فإن ولدت أنثى.. طلقت طلقة؛ لأنه يقع عليها اسم الولد. وإن ولدت غلاما.. طلقت طلقتين؛ لأنه يوجد فيه الصفتان، وهما الولد والغلام، كما لو قال لها: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت شريفا فأنت طالق، فكلمت رجلا شريفا.
[فرع: علق طلاقه على ما في جوفها أو جميع حملها]
وإن قال لها: إن كان ما في جوفك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان ما في جوفك أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا.. طلقت طلقة حين حلف، وانقضت عدتها بوضع الغلام. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين حين حلف، وانقضت عدتها بالولادة. وإن ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفتين، سواء ولدتهما واحدا بعد واحد أو ولدتهما معا؛ لأن الصفة أن يكون ما في جوفها.
وينبغي أن يقال: إنها تطلق إذا ولدت لدون ستة أشهر من حين عقد الصفة، سواء وطئها أو لم يطأها.
وإن ولدت لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين اليمين.. نظرت: فإن لم يطأها بعد اليمين.. طلقت. وإن وطئها بعد اليمين، فإن ولدت لست أشهر فما زاد من وقت الوطء.. لم تطلق؛ لجواز أن يكون الولد حدث من الوطء بعد اليمين، فلم يكن في جوفها وقت اليمين. وإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. طلقت؛ لأنا نتبين أنه لم يحدث من الوطء بعد اليمين.
وإن قال: إن كان ما في جوفك أو حملك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت من ستة أشهر من وقت اليمين، أو لست أشهر فما(10/160)
زاد ولم يطأها، أو وطئها بعد اليمين وولدته لأقل من ستة أشهر من حين الوطء.. نظرت: فإن ولدت ذكرا.. طلقت طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بولادته. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين حين عقد الصفة، وانقضت العدة بولادتها. وإن ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد.. لم تطلق، سواء ولدت أحدهما بعد الآخر أو ولدتهما معا؛ لأنه شرط أن يكون ما في جوفها أو جميع حملها ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد ذلك فلم تطلق.
[فرع: علق طلاقه على حملها بغلام وولادتها بجارية]
وإن قال لها: إن كنت حاملا بغلام فأنت طالق طلقة، وإن ولدت جارية فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت غلاما لا غير.. طلقت طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بوضع الغلام. وإن ولدت جارية لا غير.. طلقت طلقتين بولادتها، واعتدت بثلاثة أقراء.
وإن ولدت غلاما وجارية من حمل واحد.. نظرت: فإن ولدت الغلام أولا ثم الجارية بعده.. تبينا أنه وقع عليها طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادة الجارية؛ لأن الصفة وجدت وهي غير زوجة، إلا على حكاية ابن خيران.
وإن ولدت الجارية ثم الغلام بعدها.. تبينا أنه وقع عليها طلقة حين عقد الصفة؛ لكونها حاملا بغلام، ووقع عليها طلقتان بولادة الجارية، وانقضت عدتها بولادة الغلام. وهكذا: الحكم إذا ولدتهما معا.
وإن ولدت أحدهما بعد الآخر ونسي الأول منهما.. طلقت طلقة؛ لأنها يقين، وما زاد مشكوك فيه، فلم يقع.(10/161)
[فرع: علق بولادتها طلاقها للسنة]
قال ابن الحداد: إذا قال لها: كلما ولدت فأنت طالق للسنة، فولدت ولدا وبقي في بطنها آخر.. طلقت بالأول طلقة؛ لأنها حامل بعد ولادة الأول، ولا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن عدتها تنقضي بوضع الولد الباقي. فإن لم يراجعها قبل ولادة الولد الثاني.. لم تطلق بولادة الثاني؛ لأن عدتها تنقضي بولادته، وإن راجعها قبل ولادة الثاني.. لم تطلق حتى تطهر من نفاسها.
وإن قال لها: إن ولدت فأنت طالق، فخرج بعض الولد ومات أحد الزوجين قبل استكمال خروج الولد.. لم تطلق؛ لأن بخروج بعض الولد لا يقال: ولدت، بخلاف ما لو علق الطلاق على الحيض.. فإنه تطلق برؤية الدم؛ لأنه يقال لها: حاضت.
[مسألة: علق طلاق زوجاته الأربع على ولادة إحداهن]
وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فصواحبها طوالق، فولدن دفعة واحدة.. قال ابن الحداد: طلقت كل واحدة ثلاثا، وكانت عدتهن بالأقراء؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب ولدن.
وإن ولدت واحدة بعد واحدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الحداد: وقع على الأولى ثلاث طلقات، وعلى الثانية طلقة، وعلى الثالثة طلقتان، وعلى الرابعة ثلاث طلقات. وإليه ذهب القفال.
ووجهه: أن الأولى لما ولدت.. وقع على كل واحدة طلقة سواها، ولما ولدت الثانية.. وقعت على الأولى طلقة، وعلى الثالثة طلقة، وعلى الرابعة طلقة، وبانت الثانية بولادتها.
ولما ولدت الثالثة.. وقعت على الأولى طلقة ثانية، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، ولم يقع على الثانية شيء؛ لأنها قد بانت، وبانت الثالثة بولادتها.(10/162)
ولما ولدت الرابعة.. وقع على الأولى طلقة ثالثة، ولم يقع على الثانية والثالثة طلاق؛ لأنهما قد بانتا، وبانت الرابعة بولادتها.
وعدة الأولى بالأقراء، وهل تبني على عدتها بعد وقوع الأولى أو تستأنف؟ على قولين يأتي بيانهما في موضعهما.
وقال أبو العباس بن القاص: يقع على كل واحدة طلقة لا غير، إلا الأولى.. فإنه لا يقع عليها شيء، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وأكثر أصحابنا؛ لأن الأولى لما ولدت.. وقع على الباقيات طلقة طلقة؛ لأنها صاحبة لهن، ولم يقع عليها بولادتها طلاق؛ لأن الصفة ولادة الصاحبة، فلما ولدت المطلقات بعد الأولى.. انقضت عدة كل واحدة منهن بولادتها، ولم يقع بولادة كل واحدة منهن طلاق على غيرها؛ لأنها ليست بصاحبة لواحدة منهن لبينونتها بالولادة، والصفة لا توجد إلا بعد البينونة.
وإن ولد اثنتان منهن دفعة واحدة، واثنتان بعدهما دفعة واحدة.. فعلى قول ابن الحداد: كل واحدة من الأوليين تطلق طلقة بولادة صاحبتها، وتطلق كل واحدة من الأخريين طلقتين بولادة الأوليين؛ لأن لها صاحبتين ولدتا، فإذا ولد الأخريان.. انقضت عدتها بولادتها، ولم يقع على إحداهما بولادة صاحبتها طلاق؛ لأن الصفة لا توجد مع البينونة.
فإن كانت عدة الأوليين قد انقضت بالأقراء.. لم يقع عليهما طلاق، وإن كانت لم تنقض.. وقع على كل واحدة منهما طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ولدتا.
وعلى قول ابن القاص: يقع على كل واحدة من الأوليين طلقة بولادة صاحبتها معها، ويقع على كل واحدة من الأخريين طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ولدتا، وإذا ولدت الأخريان.. بانتا بولادتهما، ولم يقع بولادتهما طلاق عليهما ولا على الأوليين.(10/163)
وإن قال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فسائركن طوالق.. فالحكم فيها ما ذكره ابن الحداد في الصواحب وجها واحدا؛ لأن المعنى الذي ذكره ابن القاص في الصاحبة لا يوجد هاهنا.
وإن قال: كلما ولدت واحدة منكن فصواحبها طوالق، ثم طلقهن طلقة طلقة، ثم ولدن، فإن ولدن دفعة واحدة.. لم تطلق واحدة منهن بذلك؛ لأن عدة كل واحدة منهن تنقضي بولادتها، ولا يلحقها الطلاق بعد البينونة. وإن ولدت واحدة بعد واحدة.. فعلى قول ابن الحداد: لما ولدت الأولى.. لم يقع عليها بولادتها طلاق، وانقضت عدتها ووقع على كل واحدة من الثلاث طلقة ثانية، فلما ولدت الثانية.. انقضت عدتها، ووقع على الثالثة طلقة ثالثة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فلما ولدت الثالثة والرابعة.. انقضت عدتهما، فيكون على الأولى طلقة، وعلى الثانية طلقتان، وعلى الثالثة والرابعة ثلاث ثلاث.
وعلى قول ابن القاص: لا يقع على كل واحدة منهن إلا الطلقة الأولى، ولا يقع عليهن طلاق بالولادة؛ لأن عدة كل واحدة منهن تنقضي بولادتها، فلا تكون صاحبة لواحدة منهن.
وإن قال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق، فولدت واحدة بعد واحدة.. فإن الأولى لما ولدت.. ووقع عليها طلقة، وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة؛ لأن ولادة كل واحدة منهن صفة لطلاقها وطلاق صواحبها، فلما ولدت الثانية.. انقضت عدتها، ولم يقع عليها طلاق بولادتها على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران. ويقع على الأولى بولادة الثانية طلقة ثانية، وعلى الثالثة طلقة ثانية، وعلى الرابعة طلقة ثانية، فلما ولدت الثالثة.. لم يقع عليها بولادتها طلاق على المذهب، ووقع على الأولى طلقة ثالثة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فلما ولدت الرابعة.. انقضت عدتها، ولم يقع بولادتها على واحدة طلاق.(10/164)
[فرع: علق طلاق زوجتيه على ولادة إحداهما أنثى أو ذكرا أو بولادتهما]
وإن كانت له امرأتان - حفصة وعمرة - فقال: يا حفصة، إن كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فولدت ذكرا أو أنثى، فإن ولدت الذكر أولا.. طلقت عمرة. وإن ولدت الأنثى أولا.. طلقت حفصة. وإن ولدتهما معا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه ليس فيهما أول.
وإن قال لهما: كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقان، فولدت كل واحدة ولدين من حمل واحد، واحدا بعد واحد، فإن ولدت عمرة أولا ثم حفصة بعدها، فإن عمرة إذا ولدت الأول.. وقع على كل واحدة منهما طلقة، فإذا ولدت الثاني.. انقضت عدتها، ولا يقع عليها بولادته طلاق على المذهب، ويقع على حفصة طلقة ثانية. فإذا ولدت حفصة الأول.. طلقت طلقة ثالثة وانقضت عدتها بولادة الثاني.
وإن ولدت عمرة أولا ولدا.. وقع على كل واحدة طلقة، ثم إذا ولدت حفصة بعدها.. وقع على كل واحدة طلقة ثانية، ثم إذا ولدت عمرة الثاني.. بانت بولادته ولم يقع عليها بولادته طلاق على المذهب، ولكن يقع به على حفصة الثالثة، وتنقضي عدة حفصة بوضع الولد الثاني.
وإن قال: كلما ولدتما فأنتما طالقان، فإن لم تلدا جميعا.. لا يطلقان، فإذا ولدتا.. طلقتا، سواء ولدتا معا أو إحداهما بعد الأخرى، ويقع الطلاق عليهما بولادة الأخرى منهما.
وإن ولدت كل واحدة منهما ولدين من حمل، فإن ولدتا معا ولدا، ثم ولدتا معا ولدا.. طلقتا بالأول طلقة، وتنقضي عدتهما بالثاني، ولا تطلقان به على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران.
وإن ولدت الأولى منهما أولا ولدين معا، أو أحدهما بعد الآخر، ثم ولدت الثانية(10/165)
ولدين أحدهما بعد الآخر.. فإن الأولى تطلق طلقتين، وتطلق الثانية طلقة؛ لأن الأولى لا يقع عليها طلاق بولادتها. فإذا ولدت الثانية الأول.. وقع على الأولى طلقة، وطلقت الثانية طلقة، فإذا ولدت الثانية الثاني.. طلقت الأولى طلقة ثانية، وبانت الثانية، ولم يقع عليها به الطلاق على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران.
[فرع: خالعته على مائة على أنها طالق إن كانت حاملا]
قال في " الإملاء ": (إذا أعطته زوجته مائة دينار على أنها طالق إن كانت حاملا، فإن كانت حائلا.. لم يقع الطلاق، والمائة لها. وإن كانت حاملا.. وقع الطلاق، وله عليها مهر مثلها، وأكره له وطأها ولا يحرم) .
قال الشيخ أبو حامد: وإنما فسدت التسمية؛ لأنه شرط كونها حاملا، فكان لكونها حاملا قسط من العوض، فسقط ذكر القسط، فصار ذلك مجهولا.
قال ابن الصباغ: ويحتمل أن تفسد التسمية؛ لأن الحمل مجهول لا يمكن التوصل إليه في هذه الحال، فإذا شرطه.. فسد بذلك الخلع، كما إذا جعله عوضا فيه.
[فرع: علق طلاقها بولادتها فادعت ذلك]
إذا علق طلاقها بولادتها، فادعت أنها ولدت ولدا تنقضي به عدتها، فكذبها الزوج، ولا بينة.. فهل يقبل قولها مع يمينها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يقبل قولها مع يمينها، كما قلنا فيه إذا علق طلاقها على حيضها.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يقبل قولها؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ولادتها، فهو كما لو علقه على دخولها الدار، بخلاف الحيض.(10/166)
[مسألة: علق طلاقها بتطليقه إياها]
إذا قال للمدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق.. فقد علق طلاقها بتطليقه إياها، فإن قال لها بعد عقد الصفة: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة.
وهكذا: إذا قال لها بعد عقد الصفة: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقتان: طلقة بدخول الدار، وطلقة بالصفة المتقدمة؛ لأن معنى قوله: (إذا طلقتك) : إذا أحدثت طلاقك، وقد يحدث طلاقها بالمباشرة وبالصفة.
فإن قال: لم أرد بقولي: (إذا طلقتك فأنت طالق) عقد الصفة، وإنما أردت به: أني إذا طلقتك تطلقين بما أوقعه عليك.. لم يقبل في الحكم؛ لأن الظاهر أنه عقد الطلاق بالصفة، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
[فرع: علق طلاقه بصفة بعد صفة أو أعاده]
وإن قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار. وقع عليها طلقة بدخول الدار، ولا تطلق بقوله: إذا طلقتك فأنت طالق؛ لأن معنى قوله: (إذا طلقتك) أي: إذا أحدثت طلاقك، وعقد الطلاق بدخول الدار كان سابقا لهذا.
وإن قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها.. وقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، ولا تطلق بالصفة؛ لأنه لم يطلقها.
وإن قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم أعاد هذا القول.. لم تطلق؛ لأن تعليق الطلاق ليس بطلاق.(10/167)
[فرع: علق طلاقها بوقوع طلاقه عليها وماذا لو طلقها وكيله]
وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة.
وهكذا: لو قال لها بعد عقد الصفة أو قبلها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقتان. بخلاف ما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. فإنها لا تطلق إلا طلقة؛ لأن الصفة هاهنا وقوع طلاقه وقد وجد، وفي تلك: الصفة إحداثه الطلاق، ولم توجد.
وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، كما قلنا في قوله: إذا طلقتك فأنت طالق.
والثاني: يقع عليها طلقتان: طلقة بإيقاع الوكيل، وطلقة بالصفة؛ لأن الصفة وقوع طلاق الزوج، وما أوقعه الوكيل هو طلاق الزوج.
وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، وإذا طلقتك فأنت طالق.. فإنه لا يقع عليها بهذا طلاق؛ لأنهما تعليقان للطلاق.
فإن أوقع عليها بعد ذلك طلقة بالمباشرة أو بالصفة.. وقع عليها ثلاث طلقات: طلقة بإيقاعه وطلقتان بالصفتين.
فإن قال لها: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة أو بصفة عقدها بعد هذا القول أو قبله ... وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، فإذا وقع عليها طلقة.. اقتضى وقوعها وقوع طلقة ثانية، واقتضى وقوع الثانية وقوع الثالثة.
وإن قال لها: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها(10/168)
طلقة بالمباشرة وطلقة بالصفة، ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، والصفة لم تتكرر.. فلم يتكرر الطلاق.
قال ابن الصباغ: وهكذا إذا قال: كلما أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان، ولا تقع الثالثة؛ لما ذكرناه.
وإن قال: كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة، ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية؛ لأنه لم يوقع الثانية، وإنما وقعت حكما.
وإن قال لها: إذا أوقعت عليك الطلاق، أو كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقة بدخول الدار، وهل يقع عليها طلقة بالصفة الأولى؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يقع عليها؛ لأن الصفة أن يوقع عليها الطلاق، ولم يوقع هذه الطلقة، وإنما وقعت بالصفة، فلم يوجد شرط الثانية.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: تقع الثانية؛ لأن الصفة أن يوقع الطلاق عليها، فإذا علق الطلاق بصفة، فوجدت الصفة.. فهو الموقع للطلاق، كما قلنا فيه إذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخلت الدار.
[فرع: جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للأخرى]
وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال لحفصة: كلما طلقت عمرة فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما طلقت حفصة فأنت طالق.. فقد جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للأخرى وعقد صفة طلاق حفصة أولا، فينظر فيه:
فإن بدأ وقال لحفصة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، ويقع على عمرة بهذه الطلقة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على عمرة تقع طلقة ثانية على حفصة بالصفة؛ لأن عمرة طلقت بصفة تأخرت من عقد صفة طلاق حفصة، فهو محدث(10/169)
لطلاقها، فصار كما قلنا فيه إذا قال لها: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقة بدخول الدار، وأخرى بوجود الصفة؛ لأنه قد أحدث طلاقها بعد أن عقد لها الصفة وإن كان أحدثه بصفة لا بمباشرة.
وإن بدأ فقال لعمرة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة تقع على حفصة طلقة بالصفة، ولا يعود الطلاق إلى عمرة؛ لأنه ما أحدث طلاق حفصة بعد عقد صفة طلاق عمرة، وإنما هذه الصفة سابقة لصفة طلاق عمرة، فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. لم تطلق إلا واحدة بدخول الدار.
وإن قال لحفصة: إذا طلقتك فعمرة طالق، ثم قال لعمرة: إذا طلقتك فحفصة طالق، فإن بدأ وقال لحفصة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة على حفصة تطلق عمرة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على عمرة لا يعود الطلاق على حفصة؛ لأنه ما وجد شرط وقوعها؛ لأن قوله لعمرة: (إذا طلقتك فحفصة طالق) معناه: إذا أحدثت طلاقك، ولم يحدث طلاقها بعد هذا العقد، وإنما طلقت بالصفة السابقة، فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. فإنها تطلق طلقة بدخول الدار لا غير.
وإن بدأ فقال لعمرة: أنت طالق.. طلقت عمرة طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة يقع على حفصة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على حفصة يقع على عمرة طلقة ثانية بالصفة؛ لأنه قال لحفصة: إذا طلقتك فعمرة طالق قبل أن أقول لعمرة: إذا طلقتك فحفصة طالق.. فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. وقع عليها طلقتان: طلقة بدخول الدار، وطلقة بوجود صفة الطلاق.(10/170)
[فرع: علق طلاق كل واحدة منهما بكلما وقع على الأخرى]
ولو قال لحفصة: كلما وقع على عمرة طلاقي فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما وقع على حفصة طلاقي فأنت طالق، ثم طلق إحداهما.. فالذي يقتضي المذهب: أنهما تطلقان ثلاثا ثلاثا.
[مسألة: تعليق طلاق غير المدخول بها]
وإن كان له امرأة غير مدخول بها، فقال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما أوقعت عليك الطلاق، أو كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: أنت طالق.. لم يقع عليها إلا الطلقة التي أوقعها؛ لأنها تبين بها، والبائن لا يلحقها طلاق.
وإن قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار.. ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: يقع طلقتان؛ لأنهما تقعان بالدخول من غير ترتيب.
والثاني: لا تقع إلا واحدة، كما إذا قال لها: أنت طالق وطالق.
قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل أن يكون هذا الوجه على قول من قال من أصحابنا: إن (الواو) للترتيب. والأول أصح.
[مسألة: حروف الطلاق المعلق سبعة وأحواله ثلاثة]
قال الشافعي: (ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك، أو متى لم أطلقك، فسكت مدة يمكنه فيها الطلاق.. طلقت) .
وجملة ذلك: أن الحروف التي تستعمل في الطلاق المعلق بالصفات سبعة: إن وإذا ومتى ومتى ما وأي وقت، وأي حين وأي زمان.(10/171)
وإذا استعملت في الطلاق.. فله ثلاثة أحوال:
أحدهما: أن تستعمل في الطلاق متجردا عن العوض، وعن كلمة (لم) .
الثاني: أن تستعمل فيه مع العوض.
الثالث: أن تستعمل فيه مع كلمة (لم) .
فإن استعملت في الطلاق متجردا عن العوض، وعن كلمة (لم) ، مثل أن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إذا دخلت الدار، أو متى دخلت الدار، أو متى ما دخلت الدار، أو أي وقت دخلت، أو أي حين دخلت، أو أي زمان دخلت.. فجميع هذا لا يقتضي الفور، بل أي وقت دخلت الدار.. طلقت؛ لأن ذلك يقتضي دخولها الدار، فأي وقت دخلت الدار.. فقد وجد الشرط.
وإن استعملت في الطلاق مع العوض، بأن قال: إن أعطيتني، أو إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق.. فإن خمسة أحرف منها لا تقتضي الفور، بل هي على التراخي بلا خلاف على المذهب، وهي: متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي زمان.
وحرف منها يقتضي الفور بلا خلاف على المذهب، وهو: إن.
وحرف منها اختلف أصحابنا فيه، وهو: إذا، فعند أكثر أصحابنا: هو على الفور.
وعند الشيخ أبي إسحاق: لا يقتضي الفور، وقد مضى ذلك في الخلع.
وإن استعملت في الطلاق مع كلمة (لم) .. فلا خلاف على المذهب: أن خمسة أحرف منها على الفور، وهي: متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي زمان.
فإذا قال: متى لم تعطني ألفا فأنت طالق، أو متى لم أطلقك، أو متى لم تدخلي الدار فأنت طالق، وما أشبهه من الصفات، فإن أعطته ألفا على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه، أو دخلت الدار.. فقد بر في يمينه ولا تطلق.
وهكذا: إذا قال: متى لم أطلقك، فطلقها على الفور.. فقد بر في يمينه، ولا يقع عليها إلا ما أوقعه.(10/172)
وإن تأخرت العطية أو دخول الدار أو الطلاق عن ذلك.. وقع عليها الطلاق؛ لأن تقديره: أي زمان فقدت فيه العطية أو الدخول أو الطلاق فأنت طالق. فإذا مضى زمان يمكن إيجاد هذه الصفة ولم توجد.. فقد وجد شرط وقوع الطلاق المعلق بذلك فوقع.
وأما حروف: إن وإذا.. فقد نص الشافعي: (أن (إذا) على الفور، كالحروف الخمسة، وأن حرف (إن) لا يقتضي الفور، بل هو على التراخي) .
فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق بينهما، وقال: لا فرق بينهما، ولهذا إذا كان معهما العوض.. كانا على الفور، فنقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما وجعل (إذا) على الفور، و (إن) على التراخي، وفرق بينهما: بأن حرف (إذا) يستعمل فيما يتحقق وجوده، وحرف (إن) يستعمل فيما يشك بوجوده، بدليل: أنه يقال: إذا طلعت الشمس، ولهذا قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] [الانشقاق: 1] . ولا يقال: إن طلعت الشمس، ويقال: إن قدم زيد. فجاز أن تكون (إذا) على الفور، و (إن) على التراخي.
فإذا قلنا بهذا، وقال لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، أو إذا لم تدخلي الدار فأنت طالق، فإذا مضى بعد قوله زمان يمكنه أن يقول فيه: أنت طالق ولم يطلق، أو مضى زمان يمكنها فيه دخول الدار ولم تدخل الدار.. وقع عليها الطلاق.
وإن قال لها: إن لم أطلقك، أو لم تدخلي الدار فأنت طالق.. فإنها لا تطلق إلا إذا فات الطلاق أو الدخول، وذلك بآخر جزء من آخر حياة الميت الأول منهما.
وإن قال لها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فمضى بعد هذا ثلاثة أوقات يمكنه أن يطلق فيها فلم يطلق.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار؛ لأن تقديره: كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق، وقد سكت ثلاثة أوقات، فطلقت ثلاثا.(10/173)
[فرع: علق طلاق نسوته بعدم وطء إحداهن]
إذا كان له أربع زوجات، فقال لهن: أيتكن لم أطأها اليوم فصواحبها طوالق، فإن ذهب اليوم ولم يطأ واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب لم يطأهن.
وإن وطئ واحدة منهن في ذلك اليوم.. طلقت الموطوءة ثلاثا؛ لأن لها ثلاث صواحب لم يطأهن، وتطلق كل واحدة من الثلاث اللاتي لم يطأهن طلقتين؛ لأن لها صاحبتن لم يطأهما.
وإن وطئ اثنتين منهن في اليوم طلقت كل واحدة من الموطوءتين طلقة؛ لأن لهما صاحبتين لم يطأهما وتطلق كل واحدة من اللتين لم يطأهما طلقة؛ لأنه ليس لها إلا صاحبة لم يطأها.
وإن وطئ ثلاثا منهن في اليوم.. طلقت كل واحدة من الثلاث اللائي وطئهن طلقة؛ لأنه ليس لهن إلا صاحبة لم يطأها، ولا تطلق الرابعة؛ لأنه ليس لها صاحبة غير موطوءة.
وإن وطئهن كلهن في اليوم.. انحلت الصفة، ولم تطلق واحدة منهن.
وإن قال لهن: أيتكن لم أطأها فصواحبها طوالق، ولم يقل اليوم.. كان ذلك على التراخي. فإن مات قبل أن يطأ واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا. وإن ماتت واحدة منهن قبل أن يطأها.. طلقن الباقيات طلقة طلقة ولم تطلق هي.
[مسألة: علق طلاقها على حلف أو ما يشبه الحلف]
إذا قال لامرأته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، أو: إن لم تدخلي الدار، أو: أخبرها بشيء، أو أخبرته، فقال لها: إن لم يكن الأمر كما أخبرتك، أو كما أخبرتيني فأنت طالق.. طلقت؛ لأنه قد حلف بطلاقها.
وإن قال لها: إذا طلعت الشمس، أو إذا قدم الحاج فأنت طالق.. فإنه لم يحلف(10/174)
بطلاقها، فلا تطلق قبل طلوع الشمس وقبل قدوم الحاج.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (كل ذلك حلف فتطلق به، إلا قوله: أنت طالق إن طهرت أو حضت أو نفست) .
دليلنا أن اليمين هو ما يقصد بها المنع من شيء، كقوله: إن دخلت الدار، أو إلزام فعل شيء، كقوله: إن لم أدخل، أو إن لم تدخل، أو التصديق، كقوله: إن لم يكن هذا الأمر كما أخبرتك، أو كما أخبرتيني.
وقوله: إذا طلعت الشمس، أو إذا قدم الحاج.. ليس فيه يمين، وإنما هو تعليق طلاق على صفة، فهو كقوله: إن طهرت، أو حضت، أو نفست.
وإن قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد هذا الكلام ثانيا.. طلقت طلقة؛ لأنه حلف بطلاقها؛ لأنه باليمين الأولى منع نفسه من الحلف بطلاقها، وقد حلف. فإن أعاد ذلك ثالثا.. طلقت الثانية، فإن أعاد ذلك رابعا.. طلقت الثالثة وبانت.
[فرع: علق طلاقها إذا لم يحلف بطلاقها أو بالحلف وعلقه بصفة]
قال ابن الصباغ: إذا قال لامرأته: إذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، وكرر ذلك ثلاث مرات، فإن فرق وسكت بعد كل يمين سكتة يمكنه أن يحلف فلم يحلف.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن (إذا) في النفي تقتضي الفور.
وإن لم يفرق بينهن.. لم يحنث في الأولى والثانية؛ لأنه حلف عقيبهما، ويحنث في الثالثة فتطلق؛ لأنه لم يحلف عقيبها.
فأما إذا قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، فمضى ثلاثة أوقات يمكنه أن يحلف فيها ولم يحلف.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار.(10/175)
وإن قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا جاء المطر ولم أكن بنيت هذا الحائط، أو لم أكن خطت هذا القميص فأنت طالق.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه ألزم بذلك نفسه أن يبني الحائط أو يخيط القميص قبل مجيء المطر.
[فرع: جعل ترك اليمين بطلاق إحداهما شرطا لطلاق الثانية]
] : وإن كان له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. قال ابن القاص: فمتى سكت عقيب هذا القول قدرا يمكنه أن يحلف بطلاقها فلم يحلف.. طلقتا؛ لأنه جعل ترك اليمين بطلاق كل واحدة منهما شرطا لطلاق صاحبتها. فلو كرر هذا القول مرارا متصلا بعضها ببعض.. لم تطلق واحدة منهما ما دام مكررا؛ لأن هذا القول منه يمين بطلاقها تبين الأولى بالثانية، وتبين الثانية بالثالثة، فإذا سكت طلقتا باليمين الأخرى. فلو كرر هذا القول ثلاثا وسكت عقيب كل يمين.. طلقت كل واحدة ثلاثا.
وقال أبو علي السنجي: وعندي أن هذا خطأ؛ لأن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. ليس في لفظه (متى يحلف بطلاقها) فيكون على التراخي، ومعناه: إن فاتني الحلف بطلاقها فغيرها طالق، ولا يعلم الفوات إلا بموت أحدهما، إلا أن يقول: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها الساعة فغيرها طالق.. فالجواب صحيح حينئذ. ولو قال: متى لم أحلف، أو أي وقت لم أحلف، أو أي زمان، أو كلما لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. كان الجواب كما ذكر ابن القاص.
[فرع: علق طلاق زوجة بالحلف بطلاقهما وكرره]
وإن كان له امرأتان - زينب وعمرة - فقال لهما: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق.. فهذا تعليق طلاق عمرة بالحلف بطلاقهما جميعا، فإن أعاد هذه الكلمة مرارا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما، وإنما كرر تعليق طلاق عمرة.(10/176)
ولو قال - بعد ذلك -: إن دخلتما الدار فأنتما طالقان.. طلقت عمرة؛ لأنه حلف بطلاقهما.
وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق، وكرر هذا القول.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما، وإنما حلف بطلاق واحدة منهما.
ولو قال - بعد ذلك -: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان.. طلقت إحداهما لا بعينها؛ لأنه حلف بطلاقهما.
ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم أعاد هذا مرة مرة.. طلقت كل واحدة منهما طلقة؛ لأنه علق طلاقهما بالحلف بطلاق إحداهما، فإذا حلف بطلاقهما.. فقد حلف بطلاق إحداهما لا محالة.
ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم قال: إذا حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق.. طلقتا جميعا؛ لأنه قد حلف بطلاق إحداهما فيحنث في اليمين الأولى.
وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، وإن حلفت بطلاقكما فزينب طالق.. قال ابن القاص: فإن أعاد ما قاله في زينب مرة.. لم تطلق، وإن أعاد ما قاله في عمرة أخرى.. طلقت؛ لأنه علق طلاق عمرة بصفتين: إحداهما اليمين بطلاقها، والأخرى: اليمين بطلاق زينب، فما لم يحلف بعد القول الأول بطلاقهما معا أو مجتمعا أو متفرقا.. لم يحنث في طلاق عمرة. وكذلك إذا قال في المرة الثانية في طلاق زينب.
فإذا كرر ما قال في زينب، وهو قوله الثاني: إن حلفت بطلاقكما فزينب طالق.. فلا تطلق واحدة منهما؛ لا زينب ولا عمرة؛ لأنه وجد إحدى الصفتين دون الأخرى.
فإذا أعاد في عمرة.. طلقت عمرة؛ لأنه علق ابتداء طلاق عمرة بالحلف(10/177)
بطلاقهما، وقد حلف بعد ذلك بطلاق زينب وحدها، فإذا حلف بطلاق عمرة بعد ذلك.. فقد اجتمع الصفتان في طلاق عمرة بعد تعليقه بهما، فوقع بها.
فإذا أعاد في زينب مرة أخرى ما قال فيها بعد ما أعاد في عمرة.. طلقت زينب أيضا؛ لأنه قد حلف بعد ذلك بطلاقهما جميعا.
فإذا حلف بعد ذلك بطلاقهما: إما مجتمعا، أو متفرقا.. فإنه يقع.
[فرع: الحلف بطلاق غير المدخول بها إذا بانت]
فرع: [لا يصح الحلف بطلاق غير المدخول بها إذا بانت] :
وإن كانت له امرأتان، مدخول بها وغير مدخول بها، فقال لهما: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثم أعاد هذا القول.. طلقت المدخول بها طلقة رجعية، وطلقت غير المدخول بها طلقة بائنة. فإن أعاد هذا القول ثالثا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأن الصفة لم توجد؛ إذ البائن لا يصح الحلف بطلاقها.
[مسألة: علق طلاق كل زوجة أو أكثر بعتق عبد أو أكثر]
وإن كان له أربع زوجات وعبيد، فقال لزوجاته: كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت اثنتين فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أعبد أحرار، وكلما طلقت أربعا فأربعة عبيد أحرار، فطلق زوجاته الأربع، إما بكلمة أو بكلمات.. طلقن. واختلف أصحابنا في عدد ما يعتق من العبيد على أربعة أوجه:
أحدهما - وهو المذهب -: أنه يعتق خمسة عشر عبدا؛ لأنه إذا طلق واحدة.. عتق بها عبد؛ لوجود صفة طلاق الواحدة. وإذا طلق الثانية.. عتق بها ثلاثة أعبد؛ لأن فيها صفتين: صفة الواحدة، وصفة الاثنتن. فإذا طلق الثالثة.. عتق بها أربعة أعبد لأن فيها صفتين: صفة الواحدة، وصفة الاثنتن؛ فإذا طلق الرابعة، عتق بها سبعة أعبد؛ لأنه اجتمع ثلاث صفات: صفة الواحدة، وصفة الاثنتين - لأن الثالثة والرابعة اثنتان - وصفة الأربع.(10/178)
وإن شئت.. عبرت عن هذا: أنه قد وجد في طلاق جميع النساء أربعة آحاد؛ لأن كل واحدة منهن يقع عليها اسم الواحدة، فيعتق بذلك أربعة أعبد، ووجد فيهن صفة اثنتين مرتين؛ لأن الأولى والثانية اثنتان والثالثة والرابعة اثنتان، فيعتق بذلك أربعة أعبد، ووجد فيهن صفة الثلاث وهي الأولى والثانية والثالثة، ولم يوجد ذلك إلا مرة، فيعتق به ثلاثة أعبد، ووجد فيهن صفة الأربع مرة أيضا فيعتق بها أربعة أعبد، فذلك خمسة عشر عبدا.
والوجه الثاني: أنه يعتق سبعة عشر عبدا؛ لأنه يعتق بالثالثة ستة أعبد؛ لأنه يوجد فيها صفة الواحدة وصفة الاثنتين وصفة الثلاث.
والثالث: أنه يعتق عشرون عبدا، فيعتق بالثالثة ستة أعبد - كما قال الذي قبله - ويعتق بالرابعة عشرة أعبد؛ لأنه يوجد فيها صفة الواحدة وصفة الاثنتين وصفة الثلاث وصفة الأربع.
والرابع - وهو قول ابن القطان -: أنه يعتق عشرة أعبد لا غير؛ لأن الواحدة والاثنتين والثلاث والأربع عشرة.
والأول أصح؛ لأن في الوجه الثاني والثالث قد عدت الثانية مع الأولى في صفة الاثنتين، فلا نعدها مع الثالثة في صفة الاثنتين ثانيا. وعدت الثالثة مع الأولى والثانية ثالثة، فلا تعد مع الرابعة ثالثة؛ لأن ما عد في صفة.. لا يتكرر في تلك الصفة، كما لو قال: كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر، وكلما أكلت رمانة فعبد حر، فأكل رمانة.. فإنه يعتق ثلاثة أعبد بالنصفين وبالرمانة وإن كان الربع الثاني مع الربع الثالث نصفا.
وأما قول ابن القطان: فخطأ أيضا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، ولم يوجد ذلك في قوله.(10/179)
[فرع: علق طلاقها على أوصاف]
] : وإن قال لامرأته: إذا أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وإذا أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة.. طلقت طلقتين؛ لأنه وجدت الصفتان؛ فإنها أكلت نصفها وأكلت جميعها.
وإن قال: كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، وقد أكلت نصفين، فوقع بهما طلقتان، وأكلت رمانة فوقع بها طلقة، وهذا كما لو قال: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت طويلا فأنت طالق، وإن كلمت فقيها فأنت طالق، فكلمت رجلا طويلا فقيها.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفات الثلاث.
[فرع: قوله أنت طالق مريضة]
إذا قال لامرأته: أنت طالق مريضة - بالنصب، أو بالرفع - لم يقع الطلاق إلا إذا مرضت؛ لأن معنى قوله (مريضة) - بالنصب - أي: في حال مرضك، ومعنى قوله (مريضة) - بالرفع - أي: وأنت مريضة، هذا هو المشهور.
وحكى ابن الصباغ: أن البندنيجي قال: إذا قال (مريضة) - بالرفع - وهو من أهل الإعراب.. وقع عليها الطلاق في الحال؛ لأنه صفة لها وليس بحال.
وهذا خطأ؛ لأنه نكرة فلا توصف به المعرفة، وقد عرفها بالإشارة إليها، فلا يكون صفة لها، وإنما يكون حالا، وإنما لحن في إعرابه، أو على إضمار مبتدأ فيكون شرطا.
[مسألة: علق طلاقهن بكلما طلق إحداهن]
إذا كان له أربع زوجات، فقال لهن: كلما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق، فطلق واحدة منهن.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة، ويقع على الثلاث الباقيات طلقة طلقة.(10/180)
وإن قال: كلما وقع على واحدة منكن طلاقي فأنتن طوالق، أو أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق، فطلق واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا؛ لأنه إذا طلق واحدة منهن طلقة.. وقع على كل واحدة من الباقيات طلقة، ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة من الباقيات يوقع الثانية على صواحبها، ووقوع الثانية يوقع الثالثة.
[فرع: علق وقوع طلقتين لدخولها الدار طالقا]
وإن قال لامرأته: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار طالقا.. فقد علق وقوع طلقتين بدخول الدار وهي طالق، فإن دخلت الدار وهي مطلقة طلاقا رجعيا.. وقع عليها طلقتان بالصفة، وإن دخلت الدار وهي زوجته غير مطلقة أو بائن.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد.
[مسألة: قوله لإحداهما أنت طالق واحدة لا بل هذه ثلاثا]
وإن كان له زوجتان، فقال لإحداهما: أنت طالق واحدة، لا: بل هذه ثلاثا.. وقع على الأولى طلقة، وعلى الثانية ثلاث؛ لأنه أوقع على الأولى طلقة فوقعت، ثم رجع عنها وأوقع على الثانية ثلاثا، فلم يصح رجوعه عما أوقعه على الأولى، وصح ما أوقعه على الثانية.
وإن قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق واحدة، لا: بل ثلاثا إن دخلت الدار.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الحداد: يقع عليها طلقة في الحال، ويقع باقي الثلاث بدخول الدار؛ لأنه أوقع واحدة فوقعت، ثم رجع وأوقع الثلاث بدخول الدار، فلم يصح رجوعه عن الأولى، وتعلق بدخول الدار باقي الثلاث.(10/181)
ومنهم من قال: يرجع الشرط إلى الجميع، فلا تطلق حتى تدخل الدار؛ لأن الشرط يعقب الإيقاعين فرجع إليهما.
وإن كانت غير مدخول بها.. فالذي يقتضي القياس: أن على قول ابن الحداد في الأولى: تقع عليها الطلقة المنجزة وتبين بها، ولا يقع ما بعدها بدخول الدار.
وعلى قول القائل الآخر: لا يقع عليها طلاق حتى تدخل الدار، فإذا دخلت وقع عليها الثلاث.
[فرع: قوله لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه]
وإن قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إن دخلت الدار، لا: بل هذه.. قال ابن الحداد: فإن دخلت الأولى الدار.. طلقتا جميعا. وإن دخلت الثانية.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه علق طلاق الأولى بدخولها الدار، ثم رجع عن ذلك وعلق بدخولها طلاق الثانية فتعلق به، ولم يصح رجوعه عن طلاق الأولى.
ومن أصحابنا من قال: إذا دخلت الأولى الدار.. طلقت وحدها، وإذا دخلت الثانية.. طلقت وحدها؛ لأنه علق طلاق الأولى بدخولها الدار، ثم رجع عن هذه الصفة جملة وعلق طلاق الثانية بدخولها الدار.. فلم يصح رجوعه، وتعلق طلاق الثانية بدخولها.
[فرع: علق طلاقها بمكان طلقت فورا إلا إذا نوى وجودها فيه بعد ذلك]
] : قال في " البويطي ": (إذا قال: أنت طالق في مكة أو بمكة، أو في الدار أو بالدار.. فهي طالق ساعة تكلم به، إلا أن ينوي: إذا كنت بمكة، فإذا قال: نويت ذلك.. قبل منه؛ لأن لفظه يحتمله) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو قال: إن قذفت فلانا في المسجد فأنت طالق.. فيشترط أن يكون المقذوف في المسجد.(10/182)
وإن قال إن قتلت فلانا في المسجد فأنت طالق.. يشترط أن يكون المقتول في المسجد.
[مسألة: علق طلاقه إلى شهر ولا نية]
وإن قال لامرأته: أنت طالق إلى شهر ولا نية له.. لم يقع عليها الطلاق إلا بعد مضي الشهر من حين عقد الصفة.
وقال أبو حنيفة: (يقع الطلاق في الحال) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال - في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إلى سنة -: (هي امرأته سنة) . ولأن (إلى) تستعمل في انتهاء الفعل، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وتستعمل في ابتداء الفعل، كقولهم: فلان خارج إلى شهر، فلا يقع به الطلاق في الحال بالشك.
وإن قال: أردت أن الطلاق يقع في الحال ويرتفع بعد شهر.. وقع عليها الطلاق في الحال؛ لأنه فسر قوله بما يحتمله وفيه تغليظ عليه، فقبل ولا يرتفع الطلاق بعد شهر؛ لأن الطلاق إذا وقع لم يرتفع.
[مسألة: قوله: أنت طالق في شهر أو غرة أو نهار رمضان]
وإن قال: أنت طالق في شهر رمضان.. وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى من شهر رمضان.
وقال أبو ثور: (لا تطلق إلا في آخر جزء من الليلة الأولى من شهر رمضان) .
وهذا خطأ؛ لأن الطلاق إذا علق على شيء.. وقع بأول جزء منه، كما إذا قال(10/183)
لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت أول جزء من الدار.. طلقت.
فإن قال: أردت به الطلاق في النصف أو في آخره.. لم يقبل في الحكم؛ لأن ذلك يخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن قوله يحتمل ذلك.
وإن قال: أنت طالق في غرة شهر رمضان، أو في غرة هلال رمضان، أو في رأس رمضان، أو في أول رمضان.. طلقت في أول جزء من الليلة الأولى من رمضان.
فإن قال: أردت به نصف الشهر أو آخره.. لم يقبل في الحكم، ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن لفظه لا يحتمل ذلك.
وإن قال: أردت بالغرة بعض الثلاث الأولى من الشهر.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يسمى غررا.
وإن قال: أنت طالق في نهار رمضان.. لم تطلق إلا بأول جزء من اليوم الأول من الشهر؛ لأنه علقه بالنهار.
[فرع: قوله أنت طالق في آخر رمضان أو أول آخره وغير ذلك]
وإن قال: أنت طالق في آخر رمضان، أو في سلخ رمضان، أو في انقضائه، أو في خروجه.. طلقت بغيبوبة الشمس في آخر يوم منه.
وإن قال: أنت طالق في أول آخر رمضان.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: تطلق في أول جزء من ليلة السادس عشر؛ لأن أول الشهر هو النصف الأول، وآخره النصف الثاني، فكان أول آخره أول ليلة السادس عشر.(10/184)
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الأصح -: أنها تطلق بطلوع الفجر من اليوم الأخير من الشهر؛ لأن آخر الشهر هو آخر يوم فيه، فأوله طلوع فجره.
وإن قال: أنت طالق في آخر أول رمضان.. فعلى قول أبي العباس: تطلق بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر؛ لأن أول الشهر عنده النصف الأول، وآخر أوله غروب الشمس من اليوم الخامس عشر.
وعلى قول أكثر أصحابنا: يقع الطلاق في آخر الليلة الأولى من الشهر؛ لأنها أول الشهر، هكذا ذكر ابن الصباغ.
وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فقالا: تطلق على هذا آخر اليوم الأول من الشهر.
وقول ابن الصباغ: أقيس.
وإن قال: أنت طالق في آخر أول آخر رمضان.. قال الشيخ أبو إسحاق:
فعلى قول أبي العباس: تطلق عند طلوع الفجر من هذا اليوم السادس عشر؛ لأن أول آخر الشهر ليلة السادس عشر، وآخرها عند طلوع الفجر من يومها.
وعلى الوجه الثاني: تطلق بغروب الشمس من آخر يوم من الشهر؛ لأن أول آخره إذا طلع الفجر من آخر يوم منه، فكان آخره عند غروب الشمس.
وإن قال: أنت طالق في أول آخر أول رمضان.. قال الشيخ أبو إسحاق: طلقت على قول أبي العباس بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر؛ لأن آخر أوله غروب الشمس من هذا اليوم، فكان أوله طلوع الفجر منه.
وعلى الوجه الثاني: تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر؛ لأن آخر أول الشهر غروب الشمس من أول يومه، فكان أوله طلوع الفجر.
وعندي: أنها تطلق على هذا في أول جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ لأن أول الشهر هو أول جزء من الليلة الأولى منه، وآخر أوله آخر جزء من هذه الليلة، فكان أول آخر أوله هو أول جزء من تلك الليلة.(10/185)
[فرع: قوله أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان]
وإن قال: أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان.. فاختلف أصحابنا: متى تطلق؟
فمنهم من قال: تطلق في أول رجب.
ومنهم من قال: تطلق في أول شعبان، ولم يذكر في " الفروع " غيره؛ لأن الشهر الذي بعد قبل رمضان هو رمضان نفسه، فالشهر الذي قبله شعبان.
ومنهم من قال: تطلق في أول شوال، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ لأنه أول وقت الطلاق في شهر وصفه؛ لأن قبل ما بعد قبله رمضان، ذلك لأنه يقتضي أن قبله رمضان، لأن ما بعد قبل الشهر هو الشهر نفسه، وقبله رمضان.
[مسألة: قوله أنت طالق اليوم]
إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم.. طلقت في الحال؛ لأنه من اليوم.
وإن قال لها: إذا مضى يوم فأنت طالق، فإن قال ذلك بالليل.. لم تطلق حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة. وإن قال ذلك بالنهار.. لم تطلق حتى يمضي باقي يومه، ثم تمضي الليلة التي تستقبلها وتبلغ من اليوم الثاني إلى الوقت الذي عقد فيه الطلاق.
وإن قال: أنت طالق إذا مضى اليوم.. فالذي يقتضي المذهب: أنه إذا قال ذلك في النهار.. طلقت بغروب الشمس من ذلك اليوم؛ لأن اليوم للتعريف.
[فرع: قوله أنت طالق في غد وغير ذلك]
وإن قال لها: أنت طالق في غد.. طلقت بطلوع الفجر من الغد، سواء قال ذلك ليلا أو نهارا.
وإن قال لها: أنت طالق اليوم إذا جاء غد.. قال أبو العباس: لم تطلق؛ لأنه(10/186)
لا يجوز أن تطلق اليوم؛ لأنه لم يوجد شرط الطلاق، وهو مجيء الغد، ولا يجوز أن تطلق غدا؛ لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله.
وإن قال: أنت طالق اليوم غدا.. رجع إليه: ما أراد بذلك؟ فإن قال: أردت أنها تطلق اليوم طلقة وتكون طالقا غدا بتلك الطلقة.. لم يقع عليها إلا طلقة؛ لأن قوله يحتمل ذلك.
وإن قال: أردت أنها تطلق اليوم طلقة وغدا طلقة.. طلقت طلقتين؛ لأن قوله يحتمل ذلك، وقد أقر على نفسه بما فيه تغليظ عليه.
وإن قال: أردت اليوم نصف طلقة وغدا نصف طلقة أخرى.. طلقت طلقتين؛ لأن كل نصف يسري طلقة.
وإن قال: أردت نصف طلقة في اليوم ونصفها الثاني في غد.. وقع عليها في اليوم طلقة؛ لأنه لا يمكن إيقاع نصف طلقة، فسرى إلى طلقة، وهل تقع عليها طلقة أخرى إذا جاء غد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقع عليها؛ لأن النصف الذي أوقعه في غد قد سرى في اليوم الأول، فلم يتبق ما يقع في غد.
والثاني: تطلق في غد طلقة ثانية؛ لأنه لم يقع عليها في اليوم الأول بإيقاعه إلا نصف طلقة، وإنما الشرع أوجب سرايتها، وقد أوقع عليها في الغد نصف طلقة، فيجب أن تقع وتسري.
وإن قال: لا نية لي.. وقع عليها في اليوم طلقة؛ لأنها يقين، ولا يقع عليها في الغد طلقة أخرى؛ لأنه مشكوك فيها.
وإن قال: أنت طالق اليوم أو غدا.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: لا تطلق إلا غدا؛ لأنه يقين.(10/187)
والثاني: أنها تطلق اليوم؛ لأنه جعل كل واحد منهما محلا للطلاق، فتعلق بأولهما.
[فرع: علق طلاقها بغد أو عتق عبده بعد غد]
وإن قال لها: إذا جاء غد فأنت طالق، أو عبدي حر بعد غد.. لم تطلق امرأته إذا جاء غد؛ لأنه أوقع الطلاق غدا أو العتق بعد غد.. كان بالخيار: بين أن يعين الطلاق في امرأته، أو العتق في عبده، كما لو قال لامرأتيه: هذه طالق أو هذه.
[فرع: طلقها ثلاثا موزعة كل يوم طلقة أو بعد مضي ثلاثة أيام]
إذا قال لامرأته في يوم: أنت طالق ثلاثا، في كل يوم طلقة.. وقع عليها في الحال طلقة، ووقعت عليها الثانية بطلوع الفجر من اليوم الثاني، ووقعت الثالثة بطلوع الفجر من اليوم الثالث؛ لأن ذلك أول وقت يقتضي وقوع الطلاق.
قال ابن الصباغ: وإن قال لها: أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام.. وقع عليها الطلاق إذا طلع الفجر من اليوم الثالث.
وإن قال لها: أنت طالق في مضي ثلاثة أيام.. فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام.
قال ابن الصباغ: فإن قال ذلك بالليل.. طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث. فإن قال ذلك بالنهار.. طلقت إذا صار إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع.
[مسألة: علق طلاقها برؤية هلال رمضان]
وإن قال لامرأته: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق، فإذا رآه آخر يوم من شعبان قبل الزوال أو بعده.. لم تطلق حتى تغيب الشمس من ذلك اليوم؛ لأن هلال الشهر ما كان في أوله لا قبله.
وإن لم يره بنفسه وإنما رآه غيره.. طلقت امرأته.(10/188)
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (لا تطلق إلا أن يراه هو) .
دليلنا: أن رؤية الهلال المعهود في الشرع هي العلم بالهلال برؤية نفسه أو برؤية غيره؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» . ولم يرد به رؤيته بنفسه وإنما أراد علمه به برؤيته أو رؤية غيره، فحمل المطلق على ذلك، كما لو قال لها: إن صليت فأنت طالق.. فإنها تطلق بالصلاة الشرعية، لا بالصلاة اللغوية، وهي الدعاء.
فإن قال: أردت رؤيتي بنفسي.. لم يقبل في الحكم؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان.
وإن غم عليهم الهلال.. قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدوا شعبان ثلاثين يوما.. طلقت بمغيب الشمس من آخر يوم منه؛ لأنه بالضرورة يعلم أن بعد ذلك هلال رمضان؛ لأن الشهر لا يكون واحدا وثلاثين يوما.
قال الشيخ أبو حامد: وإن صح عند الحاكم رؤية الهلال ولم يعلم المطلق، فإن كان شهر شعبان ناقصا.. لم يلزمه حكم الطلاق حتى يعلم بالرؤية. وإن كان شعبان تاما.. لزمه الطلاق بغروب الشمس من آخر يوم من شعبان؛ لأن الشهر لا يكون أحدا وثلاثين.
ولعل الشيخ أبا حامد أراد به: أنه لا يلزمه حكم الطلاق إذا كان شعبان ناقصا قبل علمه؛ أي: إذا وطئها قبل علمه أنه لا يأثم، وأما الطلاق: فيحكم به عليه بأول جزء من الليلة التي رأى فيها الهلال، ويلزمه المهر إن وطئ بعد ذلك، سواء علم به أو لم يعلم، كما لو علقه بقدوم زيد، فقدم ولم يعلم بقدومه.(10/189)
[فرع: علق الطلاق لرؤية الهلال بنفسه أو أطلق ثم رآه قمرا]
وإن قال: إذا رأيت الهلال بنفسي فأنت طالق، أو أطلق ذلك وقال: أردت رؤيته بنفسي، فلم يره حتى صار قمرا.. لم تطلق عليه إلا إذا قيد ذلك ظاهرا وباطنا، ولا يدين فيما بينه وبين الله تعالى إذا رآه لأنه ليس بهلال.
واختلف الناس فيما يصير به قمرا:
فمنهم من قال: يصير قمرا إذا استدار، وقال بعضهم: إذا بهر ضوءه.
[مسألة: علق طلاقها لمضي سنة]
إذا قال لامرأته: إذا مضت سنة فأنت طالق.. اعتبر ذلك من حين حلف. فإن كان أول الشهر.. اعتبر جميع السنة بالأهلة، فإذا مضى اثنا عشر شهرا تامة أو ناقصة.. طلقت؛ لأن الاعتبار بالسنة الهلالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وإن كانت اليمين وقد مضى بعض الشهر، فإن مضى منه خمسة أيام.. اعتد بما بقي من أيام هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة. فإن كان الشهر الذي حلف فيه تاما.. لم تطلق حتى يمضي بعد الأحد عشر شهرا خمسة أيام؛ لأن الطلاق إذا كان في أثناء الشهر.. لم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر جميعه بالعدد، بخلاف غيره من الشهور.
وإن قال: أنا أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما، أو سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.(10/190)
وإن قال: إذا مضت السنة فأنت طالق.. طلقت إذا انقضت سنة التأريخ، وهو: إذا انسلخ شهر ذي الحجة؛ لأن التعريف يقتضي ذلك.
وإن قال: أنا أردت سنة كاملة.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
[فرع: طلقها ثلاثا كل سنة طلقة]
وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا، في كل سنة طلقة.. وقع عليها طلقة عقيب إيقاعه؛ لأنه جعل السنة ظرفا لوقوع الطلاق، فإذا وجد أول جزء منها.. وقع الطلاق، كما لو جعل الشهر أو اليوم ظرفا للطلاق.. فإن الطلاق يقع في أوله. وهل تطلق في أول السنة الثانية والثالثة؟ ينظر فيه:
فإن كانت في عدة من هذا الطلاق، بأن طالت عدتها.. طلقت في أول كل سنة منهما طلقة؛ لأن الرجعية يلحقها الطلاق. وإن كانت زوجة له في هذا النكاح، بأن راجعها بعد الأولى قبل انقضاء عدتها، فمضى عليه سنة من حين اليمين الأولى.. طلقت طلقة ثانية.
وكذلك إذا راجعها بعد الطلقة الثانية، فجاء أول الثالثة وهي زوجة له من هذا النكاح.. وقعت عليها طلقة ثالثة.
وإن جاء أول الثانية أو الثالثة وقد بانت منه ولم يتزوجها.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن البائن لا يلحقها الطلاق. وإن تزوجها بعد أن بانت منه فجاء أول الثانية أو الثالثة وهي زوجة له من نكاح جديد.. فهل يعود عليها حكم الصفة الأولى؟ فيه قولان، يأتي بيانهما إن شاء الله.
فإن قال: أردت بقولي في أول كل سنة، أي: في كل أول سنة التأريخ وهو دخول المحرم.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.(10/191)
[مسألة: قال أنت طالق في الشهر الماضي]
وإن قال: أنت طالق في الشهر الماضي.. فإنه يسأل عن ذلك، فإن قال: أردت أني أوقع الطلاق الآن في الشهر الماضي.. فالمنصوص: (أنها تطلق في الحال) .
قال الربيع: وفيها قول آخر: (أنها لا تطلق) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن خيران: قد نص الشافعي على: (أنه إذا قال لها: إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق.. فإنها لا تطلق) ، وهذا تعليق طلاق بصفة محال، كإيقاع الطلاق الآن في زمن ماض. فجعل الأولى على قولين، وهذه على وجهين:
أحدهما: لا تطلق؛ لأنه علق الطلاق على شرط، فلا يقع قبل وجوده، كما لو علقه على دخولها الدار.
والثاني: تطلق في الحال؛ لأنه علقه على شرط مستحيل، فألغي الشرط ووقع الطلاق، كما لو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة وللبدعة.
وقال أكثر أصحابنا: إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي، وقال: أردت به إيقاع الطلاق الآن في الشهر الماضي.. أنها تطلق قولا واحدا؛ لما ذكرناه، وما حكاه الربيع.. من تخريجه. وإذا قال لها: أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء.. فعلى وجهين:
أحدهما: تطلق؛ لما ذكرناه.
الثاني - وهو المنصوص -: (أنها لا تطلق حتى توجد الصفة) .
والفرق بينهما: أن إيقاع الطلاق الآن في زمان ماض مستحيل وجوده في العقل؛ لأن الله تعالى ما أجرى العادة بمثل ذلك وإن كان غير مستحيل في قدرة الله تعالى، والطيران والصعود إلى السماء غير مستحيل وجوده في العقل؛ لأن الله قد أجرى العادة بذلك؛ إذ جعل ذلك للملائكة، وقد أسرى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد يجعل الله لها إلى ذلك سبيلا. ولأن إيقاع الطلاق في الزمن الماضي يتضمن وقوعه الآن، فحكم عليه بالطلاق الآن.(10/192)
وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق في الشهر الماضي، أي: كنت طلقتها في الشهر الماضي في نكاح آخر، أو طلقها زوج غيري في الشهر الماضي وأردت الإخبار عنه، فإن صدقته الزوجة على أنه طلقها في الشهر الماضي، أو طلقها زوج غيره في الشهر الماضي، وأنه أراد بقوله هذا الإخبار عن ذلك.. فلا يمين على الزوج ولا طلاق.
وإن صدقته على طلاقه أو طلاق زوجها الأول في الشهر الماضي، وكذبته أنه أراد ذلك.. فالقول قوله مع يمينه: أنه أراد ذلك؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر.
وإن كذبته أن يكون طلقها هو أو غيره في الشهر الماضي.. لم يقبل حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على ذلك، فإذا أقام البينة عليه.. حلف أنه أراده، وإن لم يقم البينة.. لم يقبل في الحكم؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: كنت طلقتها في هذا النكاح في الشهر الماضي، فإن صدقته الزوجة على ذلك.. حكمنا بوقوع الطلاق من ذلك الوقت، وكانت عدتها من ذلك الوقت.
وإن كذبته.. فالقول قوله مع يمينه. والفرق بينهما: أن في التي قبلها يريد أن يرفع الطلاق من هذا النكاح، فلم يقبل، وهاهنا لا يريد أن يرفعه، وإنما يريد نقله إلى ما قبل هذا، فقبل. وتجب عليها العدة من الآن؛ لأنها تقر أن هذا ابتداء عدتها، وليس للزوج أن يسترجعها بعد انقضاء عدتها من الشهر الماضي؛ لأنه يقر أن ابتداء عدتها من الشهر الماضي.
وإن قال: لم يكن لي نية.. حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال؛ لأن الظاهر أنه أراد تعليق إيقاعه الآن في الشهر الماضي.
وإن مات، أو جن، أو خرس فلم تعقل إشارته قبل البيان.. قال الشافعي في " الأم ": (حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال) . وهذا يدل على أن الطلاق ينصرف إلى ذلك.(10/193)
[فرع: أنت طالق إن شربت دجلة أو علقه على صفة مستحيلة]
] : وإن قال لها: أنت طالق إن شربت ماء دجلة، أو حملت الجبال على رأسك.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه علق الطلاق على صفة، فلم يقع قبلها.
والثاني: يقع في الحال؛ لأنه علقه على صفة مستحيلة في العادة، فألغيت الصفة وبقي الطلاق مجردا، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، والأول اختيار ابن الصباغ.
[مسألة: علق طلاقها على ما قبل قدوم زيد بشهر]
وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم زيد بعد هذا بشهر وزيادة.. تبينا أن الطلاق وقع في لحظة قبل شهر من قدومه. وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (يقع الطلاق بقدوم زيد) .
دليلنا: أنه أوقع الطلاق في زمان على صفة، فإذا حصلت الصفة.. وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر.. فإن أبا حنيفة وافقنا على ذلك.
وإن قدم زيد قبل شهر من وقت اليمين.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنها كما لو قال: أنت طالق في الشهر الماضي، فيكون على قولين:
عند ابن خيران: أنها لا تطلق.
وعند سائر أصحابنا: تطلق في الحال قولا واحدا؛ لأنه إيقاع طلاق قبل عقده.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المشهور -: أنها لا تطلق هاهنا قولا واحدا؛ لأنه علق الطلاق على صفة قد كان وجودها ممكنا فوجب اعتبارها، وإيقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره.
فعلى هذا: إذا قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، ثم خالعها الزوج، ثم قدم(10/194)
زيد.. نظرت: فإن قدم زيد لشهر فما دونه من حين تعليق الطلاق.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنها لم تطلق بالصفة قبل الخلع.
وإن قدم زيد لأكثر من شهر من حين عقد الطلاق، فإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم شهر فما دون.. تبينا أن الخلع لم يصح؛ لأنه إذا كان بينهما أقل من شهر.. بان أن الطلاق بالصفة كان سابقا للخلع. وإذا كان بينهما شهر لا غير.. بان أنها طلقت بائنا قبل تمام الخلع، فلم يصح. وإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم أكثر من شهر.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنه بان أن الخلع وقع قبل الطلاق بالصفة.
[فرع: علق الطلاق أو العتق بالموت]
] : وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي.. طلقت في الحال؛ لأن ذلك قبل موته، وهو أول وقت يقتضيه الطلاق، فوقع فيه الطلاق.
وإن قال: أنت طالق قبيل موتي.. قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق في الحال، وإنما يقع قبل موته بجزء يسير؛ لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير.
وكذلك إذا قال: أنت طالق قبيل رمضان.. طلقت إذا بقي من شعبان جزء يسير.
وإن قال لها: أنت طالق مع موتي.. لم تطلق؛ لأن تلك حال البينونة، فلا يقع فيها طلاق، كما لو قال لها: أنت طالق مع انقضاء عدتك وكانت رجعية. وكما لو قال لها: أنت طالق بعد موتي.
وإن قال لعبده: أنت حر مع موتي.. عتق من الثلث، كما يصح أن يقول: أنت حر بعد موتي.
وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإن مات بعد هذا الشهر وزيادة(10/195)
لحظة.. طلقت في تلك اللحظة قبل الشهر. وإن مات لأقل من شهر.. لم تطلق؛ لتقدم الشرط على العقد. وإن مضى شهر بعد هذا ومات على رأس الشهر.. لم تطلق؛ لأن الطلاق إنما يقع بعد الإيقاع لا مع الإيقاع، فلو حكمنا بالطلاق هاهنا.. لوقع معه.
[مسألة: علق الطلاق أو العتق ليوم قدوم زيد]
إذا قال لامرأته: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قدم زيد ليلا.. لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قال: أردت باليوم الوقت.. طلقت؛ لأن اليوم قد يستعمل في الوقت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] .
وإن ماتت المرأة في يوم ثم قدم زيد بعد موتها في ذلك اليوم.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: ماتت مطلقة، فلا يرثها إن كان الطلاق بائنا. وكذلك: إذا علق عتق عبده بذلك، ثم باعه بعد ذلك بيوم، وقدم زيد بعد البيع في ذلك اليوم.. تبينا أن العتق وقع قبل البيع، وأن البيع باطل - وهو اختيار القاضي أبي الطيب - لأن أول اليوم طلوع الفجر، وإنما عرفه بقدوم زيد، فإذا قدم.. تبينا أن الصفة وجدت بطلوع الفجر، كما إذا قال لها: أنت طالق يوم الخميس.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق، ولا يصح العتق - وبه قال ابن سريج - لأن معنى قوله: يوم قدوم زيد، أي: وقت قدوم زيد، فلا تطلق قبله، كما لو علقه على القدوم من غير ذكر اليوم.
[مسألة: علق طلاقها بعدم التزوج عليها]
إذا قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، فإن قيد ذلك بمدة، فإن لم يتزوج حتى بقي من المدة قدر لا يتسع لعقد النكاح.. طلقت.
وإن أطلق.. اقتضى التأبيد، فإن مات أحدهما قبل أن يتزوج.. طلقت إذا بقي من(10/196)
حياة الميت ما لا يتسع لعقد النكاح. فإن كان الطلاق رجعيا.. ورث الباقي منهما. وإن كان بائنا، فإن ماتت الزوجة.. لم يرثها الزوج، وإن مات الزوج.. فهل ترثه؟ فيه قولان.
وإن قال: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق، فمضى بعد يمينه زمان يمكنه أن يعقد فيه النكاح فلم يعقد.. طلقت عند من قال من أصحابنا إن (إذا) على الفور. وإن تزوج عليها.. بر في يمينه.
وقال مالك وأحمد: (لا يبر حتى يتزوج عليها من يشبهها في الجمال، ويدخل بها) .
دليلنا: أن اليمين معقودة على التزويج بها، وقد وجد ذلك بالعقد وإن كانت ممن لا يشبهها. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال لامرأته: إن لم أتزوج فأنت طالق.. لم تطلق ما لم يوأس من تزويجه. فلو ماتت قبل أن يتزوج، فإن قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق.. طلقت قبل موتها، وإن أطلق.. لم تطلق.
فإن ماتت في الأولى وكان الطلاق بائنا.. لم يرثها، وإن مات.. فهل ترثه؟ فيه قولان.
وإن قتل فأجهز قتله.. فقد قال القفال مرة: لا ترثه؛ لأنه لم يوجد من جهته عجز. وقال مرة: ترثه؛ لأنه وجد منه العجز في حال لطيفة قبل خروج الروح.
[فرع: قوله إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم]
وإن قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم، فخرج اليوم ولم يطلقها.. ففيه وجهان:(10/197)
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنها لا تطلق؛ لأن الصفة توجد بخروج اليوم، فإذا خرج اليوم.. لم يقع الطلاق؛ لأنه قد فات.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنها تطلق في آخر جزء من اليوم؛ لأن معناه: إن فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق، فإذا بقي من اليوم ما لا يمكنه الطلاق فيه.. فقد فاته الطلاق، فوقع الطلاق في ذلك الجزء.
[فرع: علق طلاقها أو عتق عبده على صفة]
] : وإن قال لعبده: إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق، فأعتقه في اليوم.. طلقت حين أعتقه؛ لأنه قد فاته البيع. وكذلك إذا مات العبد. وإن دبره.. لم تطلق قبل خروج اليوم؛ لأن المدبر يصح بيعه.
وإن قال رجل: إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر، ثم قال: إن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق، فكانا في السوق.. عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأنه بدأ يمين العتق فعتق العبد، فلم توجد الصفة في الطلاق؛ لأنه ليس بعبده بعد عتقه.
وعلى قياس هذا: إذا قال: إن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق ثلاثا، وإن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر، فكانا في السوق.. طلقت المرأة، ولم يعتق العبد؛ لأنه بدأ بيمين الطلاق، فإذا وقع الطلاق.. فليست امرأته، فلم يعتق العبد بكونها في السوق.
وإن قال لعبده: متى دخلت الدار فأنت حر، ثم قال لامرأته: متى أعتقت عبدي فأنت طالق، ثم دخل العبد الدار.. عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأن إيقاع العتق هاهنا سابق لعقد الطلاق بالصفة.
وإن قال لامرأته: متى أعتقت عبدي فأنت طالق، ثم قال لعبده: متى دخلت الدار فأنت حر، ثم دخل العبد الدار.. عتق العبد، وطلقت المرأة؛ لأنه معتق للعبد بالصفة بعد عقد الطلاق بالصفة.
وإن قال لعبده: متى دخلت هذه الدار فأنت حر، ثم قال لامرأته: متى عتق(10/198)
عبدي.. فأنت طالق، ثم دخل الدار.. عتق العبد، وطلقت المرأة؛ لأن صفة الطلاق وقوع الحرية، وقد وقعت الحرية بعد عقد الطلاق بالصفة.
[مسألة: تزوج أمة أبيه وعلق طلاقها بموته]
وإن تزوج رجل أمة أبيه، ثم قال الابن: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات الأب ولا دين عليه والابن وارثه.. فهل تطلق؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس، وابن الحداد، والشيخ أبي حامد في درسه -: أنها لا تطلق؛ لأن الأب إذا مات.. ورثها الابن أو ورث بعضها، فينفسخ النكاح، والطلاق لا يقع في حال انفساخ النكاح، كما لو قال: أنت طالق مع موتي.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد في درسه ثانية -: أنها تطلق؛ لأن بموت الأب لا يحصل الفسخ، وإنما يملكها بموت الأب، ثم ينفسخ النكاح، فيكون وقوع الطلاق سابقا للانفساخ، فوقع.
فإن كان على الأب دين.. فعلى قول الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة، فيقع الطلاق.
وعلى المذهب: لا يمنع، فيكون كما لو لم يكن عليه دين.
فإن كانت بحالها، وقال الأب: إذا مت فأنت حرة، فمات الأب ولا دين عليه، فإن كانت تخرج من الثلث.. وقع الطلاق؛ لأنها تعتق بموت الأب، ولا يملكها الابن.
وإن كان على الأب دين.. فإنها لا تعتق، فإذا قلنا: الدين يمنع انتقال الملك.. طلقت، وإذا قلنا: لا يمنع.. كان الطلاق على وجهين.
وإن لم يكن على الأب دين إلا أنها لا تخرج من الثلث.. قال ابن الصباغ: فإن لم يجز الورثة.. عتق منها ما يخرج من الثلث، ورق الباقي، ولم يقع الطلاق على قول ابن الحداد.(10/199)
وإن أجاز الورثة، فإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عطية من الورثة.. لم يقع الطلاق، وإن قلنا: إنه تنفيذ.. وقع الطلاق.
وإن كاتبها الأب ثم مات.. قال ابن الصباغ: لم يقع الطلاق على قول ابن الحداد؛ لأن المكاتبة ينتقل ملكها إلى الورثة، وينفسخ نكاحها.
[فرع: علق طلاقها على شرائه لها وعلق سيدها حريتها على بيعها]
وإن تزوج حر أمة غيره، فقال: إذا اشتريتك فأنت طالق، وقال سيدها: إن بعتك فأنت حرة، فاشتراها الزوج.. قال ابن الحداد: عتقت وطلقت؛ لأن صفة العتق والطلاق وجدا جميعا.
قال أصحابنا: أما العتق: فيقع بكل حال، وأما الطلاق: فإنما يقع على القول الذي يقول: ينتقل الملك إلى المشتري بالعقد والتفرق، أو على القول الذي يقول: إنه موقوف، فأما على القول الذي يقول: يملكها المشتري بنفس العقد.. فلا تطلق؛ لأن النكاح ينفسخ فلا يصادف الطلاق زوجية.
قال ابن الصباغ: ويجيء هاهنا ما ذكره الشيخ أبو حامد التي قبلها: أن الطلاق يقع؛ لأن الملك يحصل على هذا عقيب الشراء فتوجد الصفة فتطلق، والفسخ يقع بعد الملك، فكان وقوع الطلاق سابقا.
قال ابن الحداد: قال الشافعي: (وإن اشترى امرأته الأمة، فلم يتفرق هو والبائع حتى طلقها ثلاثا، فإن تم الشراء.. فلا طلاق؛ لأنه يستدل على أن طلاقه صادف أمته لا امرأته. وإن لم يتم الشراء.. عمل بطلاقه وحرمت عليه) ، وهذا على القول الذي يقول: (إنه موقوف) .(10/200)
[فرع: علق طلاقه على كونه يملك أكثر من مائة أو لا يملك إلا مائة]
قال أبو العباس: إذا قال لامرأته: إن كنت أملك أكثر من مائة فأنت طالق، وكان معه خمسون، فإن قال: أردت أني لا أملك زيادة على مائة.. لم يحنث؛ لأنه صادق. وإن قال: أردت بيميني أني أملك مائة.. حنث. وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن هذا يعبر به عن ملك المائة، فإذا كان بخلافه.. حنث.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه علق الطلاق بملكه أكثر من مائة، وليس يملك ذلك، فلم يقع طلاقه.
فأما إذا قال: إن كنت لا أملك إلا مائة فأنت طالق.. فإنه إذا كان يملك أقل من مائة.. فإنه يحنث.
ومن أصحابنا من يحكي فيه وجهين. والأول أصح؛ لأن (إلا) هاهنا استثناء من النفي فيجب أن يكون إثباتا.
[مسألة: علق طلاقها بقدوم فلان]
وإن قال: إذا قدم فلان فأنت طالق، فمات فلان قبل أن يقدم، ثم قدم به.. لم تطلق؛ لأنه لم يقدم وإنما قدم به. وهكذا: إذا أكره فقدم به محمولا.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال له: قدم.
وإن أكره حتى قدم بنفسه.. فهل تطلق؟ فيه قولان، كما لو أكل في الصوم مكرها على الأكل.
وإن قدم غير مكره والمحلوف عليه عالم باليمين.. حنث الحالف. وإن كان غير عالم باليمين، أو كان عالما ثم نسيها عند القدوم.. نظرت: فإن كان القادم ممن لا يقصد الحالف منعه من القدوم، كالسلطان أو الحجيج أو أجنبي لا يمنع من القدوم لأجل يمين الحالف.. طلقت؛ لأن ذلك ليس بيمين، وإنما هو تعليق طلاق بصفة وقد وجدت، فوقع الطلاق، كقوله: إن دخل الحمار الدار أو طلعت الشمس فأنت طالق.(10/201)
وإن كان القادم ممن يقصد الحالف منعه من القدوم، كقرابة الرجل أو قرابة المرأة أو بعض من يسوؤه طلاقها.. ففيه قولان، كالقولين فيمن حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: ينبغي أن يقال: إذا كان المحلوف على قدومه ممن يمنعه الحالف من القدوم باليمين.. أن يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد منعه من القدوم.. فهو كما مضى، وإن أراد أن يجعل ذلك صفة.. كان ذلك صفة.
قال الطبري: فلو قدم المحلوف على قدومه وهو مجنون، فإن كان يوم عقد اليمين عاقلا ثم جن بعد ذلك.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لا حكم لفعله في ذلك. وإن كان في ذلك اليوم مجنونا.. وقع الطلاق؛ لأنه يجري مجرى الصفات.
[فرع: علق طلاقه بضرب زيد فضربه بعد موته]
] : وإن قال لها: إذا ضربت فلانا فأنت طالق، فضربه بعد موته.. فقال أكثر أصحابنا: لم تطلق؛ لأن القصد بالضرب أن يتألم به المضروب، وهذا لا يوجد في ضرب الميت. هذا هو المشهور.
وقال ابن الصباغ: وهذا يخالف أصلنا؛ لأنا لا نراعي إلا ظاهرا من اللفظ في اليمين دون ما يقصد به في العادة، ألا ترى أنه لو حلف: لا ابتعت هذا، فابتاعه له وكيله.. لم يحنث، وإن كان القصد بالابتياع هو التملك وقد حصل له؟ وحقيقة الضرب موجودة في ضرب الميت وإن لم يألم به، ألا ترى أنه لو ضربه وهو نائم أو سكران فلم يتألم به، وإن ضربه ضربا لا يؤلمه.. لبر في يمينه؟
[فرع: علق طلاقها على رؤيتها شخصا فرأته]
وإن قال: إن رأيت فلانا فأنت طالق، فرأته حيا أو ميتا.. طلقت؛ لأن رؤيته حاصلة وإن كان ميتا.(10/202)
قال ابن الصباغ: وإن رأته مكرهة.. فهل تطلق؟ فيه قولان على ما ذكرناه في القدوم.
وإن رأته في مرآة أو رأت ظله في الماء.. لم تطلق؛ لأنها ما رأته، وإنما رأت مثاله. وإن رأته من وراء زجاج شفاف.. طلقت؛ لأنها رأته حقيقة.
[مسألة: علق طلاقها على خروجها بغير إذنه]
وإن قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فإن خرجت بغير إذنه.. طلقت. فإن أذن لها فخرجت.. انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك.. لم تطلق.
وكذلك إذا قال: إن خرجت إلا بإذني، أو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك، أو حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك.. فالحكم واحد.
وقال أبو حنيفة: (إذا قال: إلا بإذني، أو قال: إن خرجت بغير إذني، فإذا خرجت بإذنه.. لم تنحل اليمين، ومتى خرجت بعد ذلك بغير إذنه.. حنث) . ووافقنا في الألفاظ الثلاثة.
وخالفنا أحمد في الكل.
دليلنا: أن اليمين تقدمت بخروج واحد؛ لأن هذه الحروف لا تقتضي التكرار، فلم يحنث بما بعد الأول؛ لأن قوله لا يقتضي التكرار.
وإن قال: كلما خرجت بغير إذني فأنت طالق، فخرجت بغير إذنه.. طلقت، وإن خرجت بغير إذنه ثانيا.. طلقت الثانية، وإن خرجت بغير إذنه ثالثا.. طلقت الثالثة؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار.
وإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت إلى غير الحمام بغير إذنه.. طلقت، وإن خرجت قاصدة إلى الحمام ثم عدلت إلى غير(10/203)
الحمام.. لم تطلق؛ لأن قصدها بالخروج كان إلى الحمام. وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق؛ لأن الصفة خروجها إلى غير الحمام، وهذا الخروج مشترك.
والثاني: تطلق؛ لأنه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الإذن وانضم إليه غيره فطلقت، كما لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمت زيدا وعمرا معا.
وإن أذن لها بالخروج، فخرجت ولم تعلم بالإذن.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد؛ لأنه شرط إذا خرجت بغير إذنه وقد وجد الإذن منه وإن لم تعلم به. هذا هو المشهور.
وحكى الطبري: إذا خرجت على ظن أنها تطلق.. فهل تطلق؟ فيه وجهان، الظاهر: أنها لا تطلق، بناء على القولين في الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم بالعزل.
[مسألة: علق طلاقها على مخالفة أمره أو على نهيها له عن منفعة أمه]
إذا قال لها: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي أباك، فكلمته.. لم تطلق؛ لأنها لم تخالف أمره، وإنما خالفت نهيه.
وإن قال لها: متى نهيتيني عن منفعة أمي فأنت طالق، فقالت له: لا تعط أمك مالي.. لم تطلق؛ لأنه لا يجوز له أن يعطي أمه مال زوجته، ولا يجوز للأم أن تنتفع به.
[فرع: علق طلاقها على مكالمة رجل]
وإن قال لها: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع كلامها.. طلقت، سواء سمعها أو لم يسمعها؛ لوجود الصفة. ولهذا يقال: كلمته فلم يسمع.(10/204)
وإن كلمته وهو منها على مسافة بعيدة لا يسمع كلامها في العادة.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال: كلمته.
وإن كان أصم، فكلمته بحيث يسمع لو كان يسمع.. ففيه وجهان:
أحدهما: تطلق؛ لأنها قد كلمته، وإنما لم يسمع لعارض، فهو كما لو لم يسمع لشغل.
والثاني: لا تطلق؛ لأن الاعتبار بما يكون كلاما له، وذلك ليس بكلام له، كما يختلف الكلام في القرب والبعد.
وإن كلمته وهو ميت.. لم تطلق؛ لأن الميت لا يكلم. فإن قيل: فقد «كلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتلى بدر وهم في القليب حيث قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا عتبة! يا شيبة! يا فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ ". فقيل: يا رسول الله، أتكلم الموتى؟! فقال: " اللهم إنهم لأسمع منكم، ولكن لم يؤذن لهم في الجواب» .
قلنا: تلك معجزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الله رد إليهم أرواحهم حتى سمعوا كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان الميت لا يسمع، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] [فاطر: 22] ، سمى الكفار بمنزلة من في القبور.
وإن كلمته وهو نائم، أو مغمى عليه.. لم تطلق، كالميت.
وإن كلمته وهي مجنونة.. قال ابن الصباغ: لم يحنث.
وإن كانت سكرانة.. حنث؛ لأن السكران بمنزلة الصاحي في الحكم.
وإن كلمته وهو سكران، فإن كان بحيث يسمع.. حنث، وإن كان بحيث لا يسمع.. لم يحنث.(10/205)
[فرع: علق طلاقها بمكالمتها وعلقت عتق عبدها بمكالمته]
وإن قال لها: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، ثم قالت له: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر، فكلمها.. لم تطلق ولم يعتق عبده؛ لأن يمينه انحلت بيمينها، ويمينها انحلت بكلامه.
وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق.. طلقت؛ لأنه كلمها باليمين الثانية. وإن أعاد اليمين الأولى.. طلقت؛ لأنه كلمها.
وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك.. طلقت؛ لأنه كلمها بقوله: فاعلمي ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن وصله باليمين.. لم تطلق؛ لأنه من صلة الأول. والأول أصح.
[فرع: علق طلاقها بمكالمة اثنين أو أحدهما حتى قدوم الآخر]
وإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وبكر مع خالد - برفع بكر - فكلمت زيدا وعمرا.. طلقت؛ لأن اليمين على كلامهما وقد وجد، وقوله: (وبكر مع خالد) لا يتعلق باليمين؛ لأنه ليس بمعطوف على الأولين.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون كلامها لزيد وعمرو في حال كون بكر مع خالد، مثل قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] [آل عمران: 154] ، فكانت هذه الجملة حالا من الأولى، فكذلك هاهنا.
فإن كلمت زيدا أو عمرا.. لم تطلق؛ لأن صفة الطلاق كلامهما.
فإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وخالدا، فكلمت بعضهم.. لم تطلق.(10/206)
وإن قال: أنت طالق إن كلمت زيدا ولا عمرا ولا خالدا، فكلمت واحدا منهم.. طلقت.
وإن قال لها: إن كلمت زيدا إلى أن يقدم عمرو، أو حتى يقدم عمرو فأنت طالق، فإن كلمت زيدا قبل قدوم عمرو.. طلقت. وإن كلمته بعد قدوم عمرو.. لم تطلق؛ لأن (حتى) و (إلى) للغاية، والغاية ترجع إلى الكلام لا إلى الطلاق، فيصير كقوله: أنت طالق إن كلمت زيدا إلى أن يشاء عمرو، أو حتى يشاء عمرو.
[مسألة: طلقها على مكثها وخروجها من ماء جار أو راكد أو كانت على سلم]
إذا كانت في ماء جار، فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.. فأكثر أصحابنا قالوا: لا تطلق، سواء أقامت فيه أو خرجت منه؛ لأن الإشارة وقعت إلى الماء الذي هي فيه، فإذا ذهب وجاء غيره.. فلم تقم في الماء الذي تناولته اليمين، ولم تخرج منه.
وقال القفال: عندي أنها على قولين، كما لو قال لها: إن لم تشربي ماء هذا الكوز اليوم فأنت طالق، فانصب ذلك الماء.. فهل تطلق؟ على قولين.
فقال أبو علي السنجي: وهذا يشبه هذا، إلا أن الشرب قد فات من كل وجه، والمقام في ذلك الماء لم يفت بالجريان؛ لأنها لو جرت في ذلك الماء بجريان الماء.. لكان يحنث، فمكثها حتى جاوزها ذلك الماء خروج منه. ألا ترى أنه لو حول ذلك الماء في الكوز إلى دار، بحيث يمكنها الذهاب إليه للشرب في هذا اليوم، فلم تفعل.. تعلقت به اليمين؛ لأن الماء قائم يمكنها شربه؟
ولو قال لها: إن لم تخرجي من هذا النهر الآن فأنت طالق، فلم تخرج.. طلقت؛ لأن النهر اسم للمكان الذي فيه الماء، والخروج منه ممكن.(10/207)
وإن كانت في ماء راكد، فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.. فالخلاص من الحنث: أن تحمل منه مكرهة عقيب يمينه.
وإن كانت على سلم، فقال لها: إن صعدته فأنت طالق، وإن نزلت منه فأنت طالق، وإن أقمت عليه فأنت طالق.. فالخلاص منه: أن تتحول إلى سلم آخر، أو تنزل منه مكرهة.
[فرع: علق طلاقها على ازدراد التمرة أو لفظها وغير ذلك]
وإن كان في فيها تمرة، فقال لها: إن أكلتها فأنت طالق، وإن رميتها فأنت طالق، وإن أمسكتها فأنت طالق.. فالخلاص من الحنث: أن تأكل بعضها؛ لأنها إذا فعلت ذلك.. فما أكلتها، ولا رمتها، ولا أمسكتها.
وإن قال لها: إن أكلتها فأنت طالق، وإن لم تأكليها فأنت طالق.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أكلت بعضها.. لم تطلق، قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا أكلت بعضها فما أكلتها، فيجب أن يحنث.
والذي قاله ابن الصباغ إنما يتصور الحنث في عدم أكلها إذا ماتت المرأة، أو تلف باقي التمرة قبل موتها، فأما قبل ذلك.. فلا يتصور الحنث في عدم أكلها. والذي رأيته في " التعليق " عن الشيخ أبي حامد: إذا قال: إذا أكلتيها فأنت طالق، وإن أخرجتيها فأنت طالق، فإذا أكلت بعضها.. لم يحنث؛ لأنها لم تأكلها ولم تخرجها.
وإن قال: إن أكلت هذه التمرة فأنت طالق، فرماها في تمر كثير واختلطت ولم تتميز، وأكل الجميع إلا تمرة واحدة، ولم يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها.. لم تطلق؛ لجواز أن تكون هي المحلوف عليها، والأصل بقاء النكاح وعدم وقوع الطلاق.(10/208)
[فرع: علق طلاقها على إخباره بعدد ما أكلت تمرا وغير ذلك]
وإن أكلت تمرا كثيرا، وقال: إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق، أو قال: إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة قبل كسرها فأنت طالق.. فالخلاص من أن يحنث: أن تقول في الأولى: أكلت واحدة، أكلت اثنتين، أكلت ثلاثا، فلا تزال تعدد واحدة بعد واحدة حتى يتيقن أن عدد الذي أكلته قد دخل فيما أخبرته به. وكذلك تقول: عدد حب هذه الرمانة واحدة اثنتان، فتعدد واحدة بعد واحدة حتى يعلم أن عدد حبها قد دخل فيما أخبرت به.
وإن أكلا تمرا واختلط النوى، فقال لها: إن لم تميزي نوى ما أكلت، أو ما أكل كل واحد منها فأنت طالق، فميزت كل نواة وحدها.. لم تطلق؛ لأنها ميزت.
وإن اتهمها بسرقة شيء، فقال لها: أنت طالق إن لم تصدقيني أنك سرقت، فقالت: سرقت وما سرقت.. لم تطلق؛ لأنها صدقته في أحد الخبرين.
وإن قال لها: إن سرقت مني شيئا فأنت طالق، فسلم إليه دراهم أو غيرها، فأخذت من ذلك شيئا.. لم تطلق؛ لأن ذلك ليس بسرقة؛ بدليل: أنها لا تقطع.
[مسألة: علق طلاقهن على من يبشره بقدوم زيد]
إذا كان له زوجات، فقال لهن: من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق، فقالت له واحدة منهن: قد قدم، وكانت صادقة.. طلقت لوجود الصفة. فإن أخبرته الثانية بقدومه.. لم تطلق؛ لأن البشارة: ما دخل بها السرور، وقد حصل ذلك بقول الأولى. وإن كانت الأولى كاذبة.. لم تطلق؛ لأنه لا بشارة في الكذب.
وإن قال لهن: من أخبرتني بقدوم زيد.. فهي طالق، فقالت له واحدة منهن: قد قدم.. طلقت، صادقة كانت أو كاذبة؛ لأن الخبر ما دخله الصدق أو الكذب. فإن(10/209)
أخبرته بقدومه بعدها ثانية وثالثة ورابعة.. طلقن؛ لأنه علق الطلاق بإخبارهن إياه بقدوم زيد، والخبر قد تكرر منهن فوقع الطلاق به.
هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: أيتكن أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق، فأخبرته واحدة منهن، ولم يكن قادما.. لم تطلق.
وإن قال: أيتكن أخبرتني بأن زيدا قد قدم فهي طالق، فإذا أخبرته واحدة منهن بقدومه.. طلقت وإن لم يكن قادما؛ لأنه علق الطلاق بالإخبار، وقد وجد.
وإن قال: أيتكن بشرتني بقدوم زيد فهي طالق.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كالإخبار على ما ذكره.
والثاني: أنه كما ذكره البغداديون.
[مسألة: علق طلاقها على مشيئتها]
وإن قال لها: أنت طالق إن شئت، فإن قالت في الحال: شئت وكانت صادقة.. وقع الطلاق ظاهرا وباطنا؛ لوجود الصفة. وإن كانت كاذبة.. وقع الطلاق في الظاهر، وهل يقع في الباطن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقع؛ لأن قولها (شئت) : إخبار عن مشيئتها بقلبها واختيارها للطلاق، فإذا لم تشأ ذلك بقلبها.. لم يقع في الباطن.
والثاني: يقع في الباطن؛ لأن الصفة قولها: (شئت) وقد وجدت، فوقع الطلاق ظاهرا وباطنا، كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت.
وإن قالت: شئت إن شئت.. لم يقع الطلاق، سواء شاء الزوج أو لم يشأ؛ لأنه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها المشيئة، وإنما وجد منها تعليق المشيئة بمشيئته، فهو كما لو قالت: شئت إذا طلعت الشمس.(10/210)
[فرع: علق طلاقها على مشيئة زيد أو مشيئتهما معا]
وإن قال: أنت طالق إن شاء زيد، فإن قال زيد على الفور: شئت.. وقع الطلاق. وإن لم يشأ على الفور.. لم يقع الطلاق.
وإن قال: أنت طالق إن شئت وزيد، فإن قالا في الحال: شئنا.. وقع الطلاق. وإن شاء أحدهما دون الآخر.. لم يقع الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بمشيئتهما، وذلك لا يوجد بمشيئة أحدهما. وإن قالت: شئت إن شاء زيد، فقدم زيد: شئت.. لم تطلق؛ لأنها لم توجد منها المشيئة، وإنما وجد منها تعليق المشيئة.
[فرع: علق طلاقها على مشيئتها فشاءت مجنونة أو صغيرة وغير ذلك]
وإن علق الطلاق على مشيئتها، فشاءت وهي مجنونة.. لم تطلق؛ لأن المجنونة لا مشيئة لها. وإن شاءت وهي سكرانة.. فهي كما لو طلق السكران. وإن شاءت وهي صغيرة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: لا تطلق؛ لأن ذلك خبر عن مشيئتها واختيارها للطلاق، والصغيرة لا يقبل خبرها.
والثاني: تطلق؛ لأن الصفة قولها: (شئت) وقد وجد ذلك منها، فهو كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت. ولأن لها مشيئة، ولهذا يرجع إلى اختيارها لأحد الأبوين.
وإن كانت خرساء، فأشارت إلى المشيئة.. وقع الطلاق، كما إذا أشار الأخرس إلى الطلاق. وإن كانت ناطقة وقت اليمين فخرست فأشارت.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن مشيئتها كانت بالنطق.(10/211)
والثاني: يقع اعتبارا بحالها وقت المشيئة.
وإن قال: أنت طالق إن شاء الحمار.. فهو كما لو قال: أنت طالق إن طرت أو صعدت السماء.
[فرع: علق طلاقها على محبتها وغيره أو إذا لم يجر غريمه على الشوك]
وإن قال لها: أنت طالق إن كنت تحبينني، أو إن كنت تبغيضيني، أو إن كنت معتقدة لكذا، أو محبة لكذا.. رجع في ذلك إليها؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتها.
قال الصيمري: وإن قال لغريمه: امرأتي طالق إن لم أجرك على الشوك ولا نية له.. فقد قيل: إذا ماطله مطالا بعد مطال.. بر في يمينه.
[فرع: طلق لرضا إنسان]
وإن قال: أنت طالق لفلان، أو لرضا فلان، ولا نية له.. طلقت في الحال؛ لأن معناه: لأجل فلان ولكي يرضى فلان، فصار كقوله لعبده: أنت حر لوجه الله، أو لرضا الله تعالى.
وإن قال: أردت أن رضا فلان شرط في وقوع الطلاق.. فهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه يعدل بالكلام عن ظاهره، فلم يقبل، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار.
فعلى هذا: يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
والثاني: يقبل في الحكم؛ لأن قوله: (لفلان، أو لرضا فلان) يحتمل التعليل والشرط، فإذا أخبر أنه أراد أحدهما.. قبل.(10/212)
[مسألة: علق طلاقها على مكالمتها أو دخول دارها مستعملا حروف عطف]
وإن قال لها: إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، فإن كلمها أو دخل دارها.. طلقت.
وإن قال لها: إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق.. لم تطلق إلا بالدخول والكلام، سواء تقدم الدخول أو الكلام؛ لأن (الواو) تقتضي الجمع دون الترتيب.
وإن قال: إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق.. لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها ويكون دخوله الدار عقيب كلامها؛ لأن حكم (الفاء) في العطف الترتيب والتعقيب.
وإن قال لها: أنت طالق إن كلمتك ثم دخلت دارك.. لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها بعد كلامها بمدة، سواء طالت المدة أو لم تطل؛ لأن (ثم) تقتضي الترتيب والمهلة.
وإن قال: إن كلمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق.. طلقت بكل واحدة منهما طلقة؛ لأنه كرر حرف الشرط، فكان لكل واحد منهما جزاء.
[فرع: قوله أنت طالق لو دخلت الدار]
قال ابن الصباغ: إذا قال لها: أنت طالق لو دخلت الدار.. فقد قال بعض أصحابنا: يقع الطلاق؛ لأن (لو) تقتضي الجواب؛ لأن معناه: لو دخلت الدار لكان كذا وكذا، فلما قطع الجواب.. وقع الطلاق، كأنه أراد أن يجعله يمينا، فلم يجعله، فصار واقعا.
وحكي عن أبي يوسف: أنه قال: يكون بمنزلة قوله: إن دخلت الدار.(10/213)
[فرع: علق طلاق زوجتيه بدخول الدار أو بأكل رغيف]
فرع: [علق طلاق زوجتيه بدخولهما دارين وغير ذلك أو إحداهما بأكل رغيف أجزاء] :
وإن قال لامرأتين له: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فإن دخلت كل واحدة منهما الدارين.. طلقتا. وإن دخلت إحداهما إحدى الدارين، والأخرى الدار الأخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما: تطلقان؛ لأنهما دخلتا الدارين.
والثاني: لا تطلق واحدة منهما؛ لأنه يقتضي دخول كل واحدة منهما الدارين.
وإن قال لهما: أنتما طالقان إن ركبتما هاتين الدابتين، فركبت كل واحدة منهما دابة.. فعلى الوجهين في الأولى.
وإن قال: إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا.. قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، كالدارين.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يقع الطلاق هاهنا وجها واحدا؛ لأن اليمين واحدة، واليمين لا تنعقد على أن تأكل كل واحدة منهما الرغيفين، بخلاف دخول الدارين.
وإن قال لها: أنت طالق إن أكلت هذا الرغيف، وأنت طالق إن أكلت نصفه، وأنت طالق إن أكلت ربعه، فإن أكلت جميع الرغيف.. طلقت ثلاثا.
قال الصيمري: وإن أكلت نصفه.. طلقت ثلاثا. ولم يذكر توجيهه! فيحتمل أنه أراد لأنه وجد بأكل نصفه ثلاث صفات: أكل نصفه وأكل ربعيه، إلا أن حرف (إن) لا يقتضي التكرار. ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق إن أكلت ربعه فأكلت نصفه.. لم تطلق إلا واحدة، وينبغي أن لا تطلق إلا طلقتين؛ لأنه وجد صفتان، وهو أكل ربعه وأكل نصفه.(10/214)
[فرع: علق الطلاق على دخولها لمكانين]
قال ابن الصباغ: إذا قال: إن دخلت الدار، وإن دخلت هذه الأخرى فأنت طالق.. لم تطلق إلا بدخولهما؛ لأنه علق الطلاق بدخولهما.
وإن قال: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، وإن دخلت الأخرى.. طلقت بدخول كل واحدة منهما، ويفارق الأولى؛ لأنه جعل الطلاق جوابا لدخولهما.
[مسألة: علق طلاقها على شرط من شرط]
] : إذا قال: أنت طالق إن كلمت زيدا إن كلمت عمرا إن ضربت بكرا.. لم تطلق حتى تضرب بكرا أولا، ثم تكلم عمرا، ثم تكلم زيدا؛ لأن الشرط دخل على الشرط.. فتعلق الأول بالثاني، كقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] [هود: 34] ، وتقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم.. فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم.
وإن قال: إن أكلت إن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق إن أكلت متى دخلت الدار، أو متى أكلت متى دخلت الدار.. لم تطلق حتى تدخل الدار أولا، ثم تأكل؛ لما ذكرناه. وكذلك إذا قال لها: أنت طالق إن ركبت، إن لبست.. لم تطلق حتى تلبس ثم تركب.
وإن قال لها: أنت طالق إذا قمت إذا قعدت.. لم تطلق حتى تقعد أولا ثم تقوم.
وإن قال: أنت طالق إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني.. لم تطلق حتى تسأله، ثم يعدها، ثم يعطيها.
[فرع: علق الطلاق بأن دخلت الدار أو بما يفيد التعليل]
وإن قال لها: أنت طالق أن دخلت الدار، أو أن كلمتني - بفتح الهمزة - فالذي ذكر الشيخ أبو حامد: إن لم يكن الحالف من أهل الإعراب.. كان ذلك بمنزلة قوله - بكسر الهمزة - وإن كان من أهل الإعراب.. وقع الطلاق في الحال؛ لأن (أن) المفتوحة(10/215)
ليست للشرط، وإنما هي للتعليل، كأنه قال: أنت طالق لأنك دخلت الدار، أو لأنك كلمتني.
وقال القاضي أبو الطيب: يقع الطلاق في الحال، إلا إن كان الحالف من غير أهل الإعراب وقال: أردت به الشرط.. فيقبل؛ لأن الظاهر أنه إذا لم يكن من أهل الإعراب: أنه لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة.
قال ابن الصباغ: وهذا أولى؛ لأنه قبل أن يتبين لنا مراده.. يجب حمل لفظه على مقتضاه في اللغة، فلا يكون لعدم معرفته بالكلام تصرف عما يقتضيه بغير قصده.
[فرع: علق طلاقها بقوله إن دخلت الدار أنت طالق أو وأنت طالق]
قال أبو العباس: وإن قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء.. لم تطلق حتى تدخل الدار.
وقال محمد بن الحسن: يقع الطلاق في الحال.
دليلنا: أن الشرط يثبت بقوله: (إن دخلت الدار) ، ولهذا: لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار.. ثبت الشرط وإن لم يأت بالفاء.
وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق.. سئل، فإن قال: أردت الطلاق في الحال.. قبل قوله من غير يمين؛ لأنه أقر بما هو أغلظ عليه.
وإن قال: أردت بدخولها الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق غيرها، وهو أني أردت أن أقول: إن دخلت الدار وأنت طالق فامرأتي الأخرى طالق، أو عبدي حر، ثم سكت عن طلاق الأخرى، وعن عتق العبد.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: أردت أن أقول: إن دخلت الدار فأنت طالق، وأقمت (الواو) مقام (الفاء) .. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.(10/216)
[مسألة: قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق أو ذكر اسما مشتركا بينهما]
وإن قال لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت به الزوجة.. قبل. وإن قال: أردت به الأجنبية، وقالت الزوجة: بل أردتني.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ما أرادها وإنما أراد الأجنبية؛ لأن الطلاق إنما يقع على امرأته؛ بأن يشير إليها أو يصفها، وقوله: (إحداكما) ليس بإشارة إليها ولا بصفة لها، فلم يقع عليها الطلاق.
وإن كانت له زوجة اسمها زينب، وجارة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، وقال: أردت الجارة، وقالت زوجته: بل أردتني.. فهل يقبل قوله في الحكم مع يمينه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: يقبل قوله مع يمينه، كما لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل؛ لأن هذا الاسم يتناول زوجته وجارته تناولا واحدا، فإذا أوقع الطلاق على من هذا اسمها.. كان منصرفا في الظاهر إلى زوجته. ويخالف قوله: (إحداكما) ؛ لأنه لا يتناول زوجته والأجنبية تناولا واحدا، وإنما يتناول إحداهما دون الأخرى، فإذا أخبر: أنه أراد به الأجنبية دون زوجته.. قبل منه؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر.
[مسألة: نادى زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالقة وأشار إلى عمرة]
مسألة: [نادى زينب فأجابته عمرة فقال: أنت طالقة أو قال: يا زينب أنت طالقة وأشار إلى عمرة] :
وإن كان له زوجتان - زينب وعمرة - فقال: يا زينب، فأجابته عمرة، فقال: أنت طالق.. سئل عن ذلك، فإن قال: علمت أن التي أجابتني عمرة، ولكني لم أرد طلاقها، وإنا أردت طلاق زينب.. طلقت زينب ظاهرا وباطنا؛ لأنه اعترف أنه طلقها، وطلقت عمرة بالظاهر؛ لأنه خاطبها بالطلاق، فالظاهر أنه أراد طلاقها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله يحتمل ذلك.(10/217)
وإن قال: ما علمت أن التي أجابتني عمرة، بل ظننتها زينب وإياها طلقت.. قال الشيخ أبو حامد: فالحكم فيها كالأولى، وهو: أن زينب تطلق ظاهرا وباطنا؛ لاعترافه بذلك. وتطلق عمرة في الظاهر دون الباطن؛ لأنه واجهها بالخطاب بالطلاق.
وإن قال: طلقت التي أجابتني ولكن ظننتها زينب.. طلقت عمرة ولم تطلق زينب؛ لأنه أشار بالطلاق إلى عمرة وإن ظنها زينب، فهو كما لو قال لأجنبية: أنت طالق، وقال: ظننتها زوجتي.. لم تطلق زوجته؛ لأن الطلاق انصرف بالإشارة إلى التي أشار إليها دون التي ظنها.
وإن قال: أردت عمرة، وإنما ناديت زينب لآمرها بحاجة.. طلقت عمرة؛ لأنه خاطبها بالطلاق، ولا تطلق زينب؛ لأن النداء لا يدل على الطلاق.
وإن قال: يا زينب أنت طالق وأشار إلى عمرة.. سئل عن ذلك، فإن قال: قد علمت أن التي أشرت إليها هي عمرة، ولكني لم أردها بالطلاق، وإنما أردت طلاق زينب.. طلقت زينب ظاهرا وباطنا؛ لاعترافه بذلك، وطلقت عمرة في الظاهر؛ لإشارته بالطلاق إليها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الحال يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: لم أعلم أن هذه التي أشرت إليها عمرة، بل ظننتها زينب، ولم أرد بالطلاق إلا هذه التي أشرت إليها.. طلقت عمرة، ولا تطلق زينب؛ لأنه قد أشار بالطلاق إليها ولم يرد به غيرها، واعتقاده أن هذه المشار إليها زينب لا يضر، كما لو قال لأجنبية: أنت طالق وقال: ظننتها زوجتي.. فإن زوجته لا تطلق.
[فرع: علق طلاقهما بقوله كلما ولدت إحداكما ولدا]
] . وإن كان له زوجتان - زينب وعمرة - فقال: كلما ولدت إحداكما ولدا فأنتما طالقان، فولدت زينب يوم الخميس ولدا، ثم ولدت عمرة يوم الجمعة ولدا، ثم ولدت زينب يوم السبت ولدا، ثم ولدت عمرة يوم الأحد ولدا.. فإن زينب لما ولدت يوم الخميس.. وقع على كل واحدة منهما طلقة، فلما ولدت عمرة يوم الجمعة(10/218)
وقع على كل واحدة منهما طلقة ثانية، فلما ولدت زينب يوم السبت.. وقع على عمرة طلقة ثالثة ولم يقع على زينب بذلك طلاق؛ لأن عدتها انقضت بوضعه - إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران - فلما ولدت عمرة يوم الأحد.. انقضت عدتها به.
[مسألة: علق على وقوع الطلاق طلاقا قبله بالثلاث أو ما يسمى بطلاق التنافي]
إذا قال لامرأته: متى وقع عليك طلاقي، أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها: أنت طالق.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يقع عليها الطلاق الذي باشر إيقاعه - وحكاه القاضي أبو الطيب عن شريح وابن القاص، وهو اختيار ابن الصباغ - لأنه زوج مكلف أوقع الطلاق مختارا فوجب أن يقع، ولا يقع الثلاث قبله؛ لأن وقوعها يوجب ارتفاع الطلاق المباشر، ولا يصح رفع طلاق واقع. ولأنه لو قال لها: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم ارتد أو أحدهما، أو اشتراها.. لوقع الفسخ ولم تطلق الثلاث قبله، كذلك هذا مثله.
وقال أبو عبد الله - ختن الإسماعيلي -: تقع الطلقة التي باشر إيقاعها، ويقع تمام الثلاث من الثلاث المعلقة بالصفة، وبه قال أصحاب أبي حنيفة.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق المباشر ولا الطلاق بالصفة، بل هذا حيلة لمن أراد أن لا يقع على امرأته الطلاق بعد ذلك. وبه قال المزني، والشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق، والقفال، وابن الحداد، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والصيدلاني. وهو الأصح؛ لأنه لو وقع الطلاق الذي باشر إيقاعه.. وقع قبله الثلاث بالصفة، ولو وقع الثلاث قبله.. لم يقع الطلاق المباشر، وما أدى إثباته إلى إسقاطه.. سقط إثباته؛ قياسا على ما قاله الشافعي فيمن زوج عبده بحرة بألف في الذمة وضمنها السيد عنه، ثم باع السيد منها زوجها بالألف قبل الدخول: (أن البيع لا يصح) ؛ لأن إثبات البيع يؤدي إلى إسقاطه فسقط إثباته؛ لأنها إذا ملكت(10/219)
زوجها.. انفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح.. سقط المهر؛ لأن الفسخ من جهتها، وإذا سقط المهر.. سقط الثمن، وإذا سقط الثمن.. بطل البيع.
وأما الجواب عما ذكره الأول: فمنتقض بالثلاث المعلقة بالصفة؛ فإنه قد أوقعها وهو زوج مكلف مختار، ولم تقع. وأما الفسخ: فإنما وقع؛ لأن إثباته لا يؤدي إلى إسقاطه، بخلاف الطلاق.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر أصحابنا في طلاق التنافي مسائل:
إحداهن: المسألة التي مضت.
والثانية - ذكرها المزني في " المنثور " -: إذا قال لها: إذا طلقتك طلاقا أملك به عليك الرجعة فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه لو وقع عليها ذلك.. لملك عليها الرجعة، ولو ملك عليها الرجعة.. لوقع الثلاث قبله، ولو وقع الثلاث قبله.. لم يقع ما بعده.
وإن أوقع عليها الثلاث أو ما دون الثلاث بعوض، أو كانت غير مدخول بها.. وقع عليها الطلاق المباشر؛ لأنه لا يملك به الرجعة عليها، فلا يوجد صفة الثلاث قبله.
الثالثة: إذا قال لها: إذا طلقتك ثلاثا فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلقها ثلاثا.. لم يقع؛ لما ذكرناه. وإن طلقها واحدة أو اثنتين.. وقع ذلك.
الرابعة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم ثلاثا إن طلقتك غدا، فإن طلقها غدا.. لم يقع عليها طلاق. وإن طلقها بعد غد.. وقع عليها ما أوقعه.
الخامسة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة.. فهل يقع عليها طلقة؟ فيه وجهان مضى ذكرهما.
السادسة: رجل قال لامرأته: إن لم أحج في هذه السنة فأنت طالق ثلاثا، ثم قال لها قبل أن يحنث: إن حنثت في هذه اليمين فأنت طالق ثلاثا قبل حنثي.. قال القاضي(10/220)
أبو الطيب: وهذه تعرف بالعمانية؛ لأنها وقعت في عمان وكتبوها إلى بغداد، واختلف فيها القائلون بأن طلاق التنافي لا يقع.
فمنهم من قال: لا تنحل اليمين الأولى، فإن لم يحج في سنته.. طلقت؛ لأن عقد اليمين قد صح فلم يرتفع.
ومنهم من قال: تنحل اليمين الأولى، قال القاضي أبو الطيب: وأفتيت بذلك وبه أعمل؛ لأنه يعد هذا القول كقوله قبله، فلو وقع الطلاق بالحنث.. لوقع الثلاث قبلها، ولو وقع الثلاث قبلها.. لم يقع الطلاق بالحنث. والقول الأول أن عقد اليمين إذا صح.. لم يرتفع لا يصح؛ لأنه يجوز أن يعلق الطلاق بصفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول لزوجته: أنت طالق الآن.
السابعة: إذا قال لزوجته: متى دخلت جاريتي الدار وأنت زوجتي فهي حرة، ومتى عتقت فأنت طالق ثلاثا قبل عتقها بثلاثة أيام، فمضت ثلاثة أيام، ثم دخلت الأمة الدار.. لم تعتق الأمة ولم تطلق الزوجة؛ لأنا لو أعتقناها لوجدت الصفة بالطلاق الثلاث قبله؛ لأنها عتقت وقد قال لها: إذا عتقت فأنت طالق قبله ثلاثا بثلاثة أيام، وإذا وقع الطلاق الثلاث قبله.. لم تكن له زوجة في حال دخولها الدار، وإذا لم توجد صفة الزوجية.. لم تعتق، وإذا لم تعتق.. لم يقع الطلاق.
الثامنة: قال ابن الحداد: إذا كان عبد بين شريكين، فقال أحدهما للآخر: متى أعتقت نصيبك منه فنصيبي منه حر قبل عتقك إياه بثلاثة أيام - وهما موسران - فأمهل المقول له ثلاثا فأكثر، ثم أعتق نصيبه.. لم يعمل عتقه؛ لأنه لو عمل.. لدل على وقوع عتق صاحبه قبله، ولو وقع عتق صاحبه قبل عتقه.. لما وقع عتقه، وإذا لم يقع عتقه.. لم توجد الصفة في وقوع عتق الذي خاطبه.(10/221)
قال القاضي أبو الطيب: لا يحتاج إلى قوله بثلاث، بل يكفي قوله قبل عتقك، ولا يحتاج إلى يسار المقول له، وإنما يحتاج إلى يسار القائل وحده، فإذا أعتق المقول له نصيبه.. لم يعتق؛ لأنه لو عتق نصيبه.. لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق نصيب القائل.. لسرى إلى نصيب المقول له؛ لأنه موسر، وإذا سرى إلى نصيبه.. لم يصح إعتاقه لنصيبه، فكأن إثبات عتق نصيبه يؤدي إلى إسقاطه، فسقط حكم إثباته.
[مسألة: علق طلاقه على صفة ثم أبان زوجته ثم تزوجها ثم وجدت الصفة]
إذا علق طلاق امرأته على صفة فبانت منه قبل وجود الصفة، ثم تزوجها، ثم وجدت الصفة في النكاح الثاني.. فهل يعود حكم الصفة وتطلق؟ فيه قولان.
قال في القديم: (إن أبانها بدون الثلاث.. عاد حكم الصفة قولا واحدا، وإن أبانها بالثلاث.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان) .
وقال في الجديد: (إن أبانها بالثلاث ثم تزوجها.. فإن حكم الصفة لا يعود قولا واحدا، وإن أبانها بدون الثلاث.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان) .
فالقديم أقرب إلى عود الصفة، فحصل في المسألتين ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يعود حكم الصفة، سواء بانت بالثلاث أو بما دونها - وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح» فلو قلنا: يعود حكم الصفة.. لكان هذا طلاقا قبل نكاح؛ لأنه عقد قبل هذا النكاح، فلم نحكم(10/222)
بوقوعه، كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها، ثم دخلت الدار.
والثاني: يعود حكم الصفة، سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وبه قال أحمد.
وقال الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: وهو الأصح؛ لأن عقد الطلاق والصفة وجدا في ملك، فهو كما لو لم يتخللهما بينونة.
والثالث: أنه إن بانت بما دون الثلاث ثم تزوجها.. عاد حكم الصفة، وإن بانت بالثلاث ثم تزوجها.. لم يعد حكم الصفة -- وبه قال مالك وأبو حنيفة - لأنها إذا بانت بما دون الثلاث.. فإن أحد النكاحين يبنى على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم الصفة. وإذا بانت بالثلاث.. فإن أحدهما لا يبنى على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم الصفة.
[فرع: علق عتق عبده على صفة فباعه ثم اشتراه ثم وجدت الصفة]
وإن قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم اشتراه ثم دخل الدار.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث؛ لأنه يمكنه أن يشتريه بعد أن باعه، كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث قبل زوج.
فعلى هذا: يعود حكم الصفة على القول القديم قولا واحدا. وعلى القول الجديد: هل يعود حكم الصفة؟ على قولين.
و [الثاني] : منهم من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بالثلاث؛ لأن علائق الملك قد زالت بالبيع، كما زالت بالبينونة بالثلاث.
فعلى هذا: لا يعود حكم الصفة على القول الجديد قولا واحدا، وعلى القول القديم هي على قولين.(10/223)
[فرع: الخلاص لمن علق طلاقها بالثلاث على صفة]
وإن علق طلاق امرأته على صفة بحرف لا يقتضي التكرار، مثل أن قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق ثلاثا، فأبانها قبل كلامها لزيد، فكلمت زيدا في حال البينونة، ثم تزوجها.. فإن حكم الصفة لا يعود، فإن كلمته بعد النكاح.. لم تطلق.
وهذه حيلة في إبطال تعليق الطلاق الثلاث بصفة، بأن يخالعها بما دون الثلاث، أو بلفظ الخلع - إذا قلنا: إنه فسخ - ثم توجد الصفة في حال البينونة إن كانت الصفة غير وطئها، ثم يتزوجها، فلا يعود حكم الصفة، فأما إذا كانت الصفة وطأها.. فلا نأمره بهذه الحيلة؛ لأنه لا يحل له وطؤها في حال البينونة، فإن خالف ووطئها.. تعلق به حكم الوطء المحرم، وانحلت الصفة.
وكذلك إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم دخل الدار، ثم اشتراه.. فإن حكم الصفة لا يعود.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يعود حكم الصفة - وبه قال مالك وأحمد - لأن عقد الصفة مقدر بالملك، فصار كما لو قال: إن دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق، أو قال لعبده: إن دخلت الدار وأنت عبدي فأنت حر.
وهذا غلط؛ لأن اليمين إذا علقت بصفة.. فإنها تتعلق بالصفة التي علق بها اللفظ، ولا تعتبر صفة أخرى لم يتلفظ بها، كما لو قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فباع الدار ودخلتها.
وإن كان بحرف يقتضي التكرار، بأن قال لها: كلما دخلت الدار فأنت طالق، فأبانها ودخلت الدار في حال البينونة، ثم تزوجها ودخلت الدار في حال النكاح الثاني.. لم تطلق بدخولها الدار في حال البينونة. وهل تطلق بدخولها الدار بعد النكاح الثاني؟ على الأقوال الثلاثة في التي قبلها.
وبالله التوفيق(10/224)
[باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه]
إذا شك الرجل: هل طلق امرأته أم لا؟ لم يلزمه الطلاق - وهو إجماع - لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق.
وقال الشافعي: (والورع والاحتياط أن يحنث نفسه، فإن كان يعرف من عادته أنه إذا طلق امرأته طلق واحدة أو اثنتين.. راجعها، وإن كان يعرف من عادته أنه يطلق الثلاث.. طلقها ثلاثا، فتحل لغيره بيقين) .
وإن تيقن أنه طلق امرأته وشك: هل طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم يلزمه إلا الأقل، والورع أن يلتزم الأكثر. وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأحمد.
وقال مالك وأبو يوسف: (يلزمه الأكثر) .
دليلنا: أن ما زاد على القدر الذي يتيقنه.. طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق.(10/225)
[مسألة: طلق إحداهما وجهلها]
إذا كان تحته زوجتان، فطلق إحداهما وجهلها.. نظرت: فإن طلق إحداهما بعينها ثم نسيها، أو رأى شخصها في ظلمة أو سمع كلامها فقال لها: أنت طالق، ولم يدر أيتهما هي.. فإنه يتوقف عن وطئهما حتى يتبين عين المطلقة منهما؛ لأنه قد تحقق التحريم في إحداهما، فلم يحل له وطء واحدة منهما قبل البيان، كما لو اختلطت امرأته بأجنبية فلم يعرفها. ويرجع في البيان إليه؛ لأنه هو المطلق، فكان أعرف بعين من طلقها. وليس البيان إلى شهوته - وهو: أن يعين الطلاق فيمن يشتهي منهما - وإنما يرجع إلى نفسه ويتذكر من التي طلقها منهما، ويستدل على ذلك من نفسه فيخبر عنها، ويؤخذ بنفقتهما؛ لأنهما محبوستان عليه.
فإن قال: طلقت هذه.. حكم عليها بالطلاق من حين طلق، ويكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت لا من حين عين؛ لأنه أخبر عن عين المطلقة منهما وقت طلاقه. فإن كذبته المعينة.. لم يفد تكذيبها له. وإن كذبته الأخرى وادعت: أنها هي المطلقة.. حلف لها؛ لأن الأصل عدم طلاقها. وإن أقر: أن التي طلقها هي الثانية بعد الأولى.. حكم بطلاقها بإقراره.
فإن قال: طلقت هذه، لا بل هذه.. طلقتا جميعا في الحكم؛ لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل منه، ثم رجع عن ذلك وأخبر بطلاق الثانية، فلزمه حكم إقراره الثاني، ولم يقبل رجوعه عن طلاق الأولى.
وإن قال: لم أطلق هذه.. قال الشيخ أبو حامد: حكم عليه بطلاق الأخرى؛ لأنا قد تيقنا أنه طلق إحداهما، فإذا قال: لم أطلق هذه.. كان اعترافا منه بأن التي طلقها هي الأخرى.(10/226)
[فرع: طلق إحداهن بعينها وأشكلت أو بدون تعيين ولا نية]
] : وإن كان له ثلاث زوجات، فطلق واحدة بعينها وأشكلت، فقال: طلقت هذه، لا بل هذه، لا بل هذه. أو: طلقت هذه، بل هذه، بل هذه.. طلقن جميعا؛ لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل، ثم رجع عن طلاقها وأقر بطلاق الثانية، ثم رجع عن طلاق الثانية وأقر بطلاق الثالثة.. فلزمه حكم إقراره ولم يقبل رجوعه، كما لو قال: له علي درهم، بل دينار، بل ثوب.
وإن قال: طلقت هذه، بل هذه أو هذه.. طلقت الأولى وواحدة من الأخريين، ويلزمه أن يعين الطلاق في إحدى الأخريين.
وإن قال: طلقت هذه أو هذه، لا بل هذه.. طلقت الثالثة وإحدى الأوليين، ويلزمه التعيين في إحدى الأوليين.
وإن قال: طلقت هذه وهذه، أو هذه.. طلقت الأوليان أو الثالثة، ويلزمه البيان.
وإن قال: طلقت هذه، أو هذه وهذه.. طلقت الأولى أو الأخريان، ويلزمه البيان.
وقال أبو العباس: تطلق الثالثة وإحدى الأوليين؛ لأنه عدل عن لفظ الشك إلى (واو) العطف، فينبغي أن لا يشاركها في الشك، فتكون معطوفة على الجملة.
وإن كن أربعا، فقال: طلقت هذه أو هذه، بل هذه أو هذه.. طلقت إحدى الأوليين وإحدى الأخريين وأخذ ببيانهما.
وإن قال: هذه، ثم قال بعد ذلك: لا أدري أن التي عينتها هي المطلقة أو غيرها.. لزمه الطلاق في التي عينها، ووقف عن وطء الباقيات إلى أن يتبين أن التي طلقها هي التي عين أو غيرها.
وإن قال: التي عينتها ليست المطلقة.. لم يقبل رجوعه عن طلاق المعينة، ولزمه أن يعين واحدة من الباقيات للطلاق؛ لأن هذه يتضمن الإقرار بأن واحدة من الباقيات مطلقة، فلزمه بيانها.(10/227)
وإن وطئ إحداهن.. لم يكن ذلك تعيينا للطلاق في غير الموطوءة؛ لأن الطلاق لا يقع بالفعل، فكذلك البيان لا يقع بالفعل. ويؤخذ بالبيان، فإن عين الطلاق في غير الموطوءة.. علمنا أنه إنما وطئ زوجته، وإن عين الطلاق في الموطوءة.. وجب عليه لها مهر المثل للوطء بعد الطلاق؛ لأنه وطء شبهة.
وأما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها، بأن قال: إحداكن طالق، ولم يعين بقلبه واحدة بعينها منهن.. وقع الطلاق على واحدة منهن لا بعينها؛ لأن الطلاق يقع مع الجهالة.
وقال مالك: (يقع على جميعهن) .
دليلنا: أنه أضاف الطلاق إلى واحدة.. فلم يقع على الجماعة، كما لو عينها.
إذا ثبت هذا: فإنه يوقف عن وطئهن حتى يعين المطلقة منهن؛ لأنا نتحقق التحريم في واحدة منهن لا بعينها فوقف عن وطئهن، كما لو طلق واحدة بعينها ونسيها. ويؤخذ بتعيين المطلقة منهن؛ لتتميز المطلقة من غير المطلقة. وله أن يعين الطلاق فيمن اشتهى منه؛ لأنه أوقع الطلاق على واحدة لا بعينها.. فكان له التعيين فيمن اختار، بخلاف الأولى؛ فإنه أوقع الطلاق على واحدة بعينها وإنما أشكلت، فلذلك قلنا: لا يعينه فيمن اشتهى منهن.
إذا ثبت هذا: فإن قال: طلقت هذه.. تعين فيها الطلاق.
وإن قال: هذه التي لم أطلقها، وكانتا اثنتين.. طلقت الأخرى؛ لأن هذا يتضمن الإقرار بطلاق الأخرى.
وإن قال: طلقت هذه، لا بل هذه.. طلقت الأولى دون الثانية؛ لأن الأولى إذا تعينت للطلاق.. لم يبق ما يقع على الثانية، بخلاف المسألة الأولى؛ فإن ذلك إخبار منه فيمن طلقها بعينها. فإذا أخبر بطلاق واحدة ثم رجع عنها إلى الثانية.. لزمه حكم إقراره في الثانية، ولم يقبل رجوعه عن الأولى.(10/228)
وإن وطئ إحداهما.. فهل يكون وطؤه لها بيانا لإمساكها واختيارا للطلاق في الأخرى إذا كانتا اثنتين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون تعيينا؛ لأنه وطء فلم تتعين به المطلقة، كما لو طلق واحدة بعينها وجهلها أو نسيها.
والثاني: يكون تعيينا، وهو الأصح؛ لأن هذا اختيار شهوة فوقع بالوطء، كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة في حال الخيار.
وقال أحمد بن حنبل: (لا تتعين المطلقة بالقول ولا بالوطء، وإنما تتعين بالقرعة) .
دليلنا: أن القرعة لا مدخل لها في الزوجات في أصل الشرع.
إذا ثبت هذا، وعين الطلاق في واحدة.. فمتى وقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يقع عليها من حين إيقاعه؛ لأن الطلاق لا يجوز أن يكون في الذمة وإن لم تتعين المطلقة، فإذا عينها.. تبينا أن الطلاق وقع من حين الإيقاع.
فعلى هذا: يكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه وقع عليها من حين التعيين - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه - لأن الطلاق لم يوقعه على واحدة منهن، بدليل: أن له أن يختار التعيين فيمن شاء منهن، فلو قلنا: إنه من وقت الإيقاع.. لما خيره في التعيين.
فعلى هذا: يكون ابتداء عدتها من وقت التعيين.
وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: وقع الطلاق من حين الإيقاع، إلا أن العدة من وقت التعيين، كما نقول فيمن نكح امرأة نكاحا فاسدا ووطئها.
[فرع: قوله زوجتي طالق وله زوجات ولم يعينها]
إذا كان له زوجات، فقال: زوجتي طالق، ولم يعين واحدة بقلبه.. وقع الطلاق على واحدة منهن لا بعينها. وبه قال عامة العلماء.(10/229)
وقال أحمد: (يقع الطلاق على جميعهن) . وحكي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: أنه أوقع الطلاق على واحدة، فلا يقع على جميعهن، كما لو قال: إحدى نسائي طالق.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع في البيان إليه على ما مضى.
[مسألة: طلق إحداهما بعينها ونسيها أو إحداهما لا بعينها وحصول موت]
وإن طلق إحدى امرأتيه ثلاثا وجهلها أو نسيها، أو طلق إحداهما لا بعينها، وماتت إحداهما قبل أن يعين المطلقة.. لم يتعين الطلاق في الأخرى، بل له أن يعين الطلاق في إحداهما بعد الموت.
وقال أبو حنيفة: (يتعين الطلاق في الباقية) .
دليلنا: أنه يملك تعيين الطلاق قبل موتها.. فملكة بعد الموت، كما لو كانتا باقيتين.
إذا ثبت هذا: فإنه يوقف له من مال الميتة منهما ميراث زوج، وهو: النصف مع عدم الولد وولد الولد، أو الربع مع وجود الولد أو ولد الولد؛ لأنا نعلم أن إحداهما زوجته يرث منها والأخرى أجنبية لا يرث منها، فلم يجز أن يدفع إلى ورثة كل واحدة منهما إلا ما يتيقن أنهم يستحقونه، ونحن لا نعلم أنهم يستحقون قدر ميراث الزوج منهما فوقف. فيقال له: بين المطلقة منهما.(10/230)
فإن كان قد طلق واحدة منهما بعينها ثم جهلها أو نسيها، ثم قال: التي كنت طلقتها فلانة وهي الميتة.. دفع ما عزل له من تركة الميتة إلى باقي ورثتها. وإن قال: التي طلقتها هي الباقية.. دفع إليه ما عزل له من تركة الميتة. وإن ماتتا قبل التعيين.. عزل من تركة كل واحدة منهما ميراث زوج، ثم يقال له: عين المطلقة منهما، فإن قال: التي طلقتها فلانة.. دفع ما عزل له من تركتها إلى باقي ورثتها؛ لأنه أقر أنه لا يرثها، ودفع إليه ما عزل له من تركة الأخرى؛ لأنه أخبر: أنها زوجته. فإن كذبه ورثتها فقالوا: بل هي التي كنت طلقتها.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء نكاحها وعدم طلاقه لها إلى الموت. فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل عن اليمين، فحلف ورثتها: أنها هي التي طلقها.. سقط ميراثه عن الأولى بإقراره، وعن الثانية بنكوله وأيمان ورثتها.
وإن كان قد أطلق إحداهما لا بعينها فعين الطلاق في إحداهما.. دفع ما عزل له من تركة المعينة للطلاق إلى باقي ورثتها، ودفع ما عزل له من تركة الأخرى إلى الزوج. فإن كذبه ورثتها.. فلا يمين على الزوج؛ لأن هذا اختيار شهوة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا طلق إحداهما لا بعينها.. فهل له أن يعينها بعد موتها؟ فيه وجهان، بناء على أن الطلاق يقع من وقت التعيين أو من وقت الإيقاع؟
فإن قلنا: يقع وقت الإيقاع.. كان له.
وإن قلنا: يقع وقت التعيين.. لم يكن له.
فإن مات الزوج وهما باقيتان قبل أن يعين الطلاق في إحداهما، فإن قال وارث الزوج: لا أعلم المطلقة منهما.. وقف من مال الزوج ميراث زوجة - وهو: الربع مع عدم الولد وولد الولد، والثمن مع وجود أحدهما - لأنا نتيقن أن إحداهما وارثته(10/231)
بيقين، فلا يدفع إلى باقي ورثته إلا ما يتيقن استحقاقهم له، ويوقف ذلك بين الزوجين إلى أن يصطلحا عليه.
وإن قال وارث الزوج: أنا أعرف المطلقة منهما.. فهل يرجع إلى بيانه؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: هما وجهان:
أحدهما: يرجع إلى بيان الوارث؛ لأنه يقوم مقام الزوج في الملك والرد بالعيب، وفي استحقاقه النسب بالإقرار، فقام مقامه في تعيين المطلقة.
فعلى هذا: إذا قال: المطلقة فلانة.. دفع ما عزل من تركة الزوج إلى الأخرى، وإن كذبته المطلقة.. حلف لها.
والثاني: لا يقوم مقامه؛ لأن في ذلك إسقاط حق وارث معه في الظاهر بقوله.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فقال أبو إسحاق: القولان فيمن طلق إحداهما بعينها، وفيمن طلق إحداهما لا بعينها.
ومنهم من قال: القولان فيمن طلق إحداهما بعينها ثم جهلها أو نسيها، فأما إذا طلق إحداهما لا بعينها: فلا يقوم مقام المورث قولا واحدا؛ لأنه يمكنه التوصل إلى العلم بالمطلقة منهما إذا وقع الطلاق بواحدة بعينها بسماع من الزوج، فإذا طلق واحدة منهما لا بعينها.. فتعيين المطلقة إلى شهوة الزوج، فلا يقوم وارثه مقامه، كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار.
فإن كانت بحالها وماتت واحدة منهما، ثم مات الزوج قبل البيان، وبقيت الأخرى.. عزل من تركة الزوج ميراث زوجة؛ لجواز أن تكون الباقية هي الزوجة، وعزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج؛ لجواز أن تكون الميتة هي الزوجة.
فإن قال وارث الزوج: الميتة قبل الزوج هي المطلقة.. قبل قوله؛ لأن في ذلك إضرارا عليه من جهة أنه لا يرث من الميتة، وترث معه الباقية.(10/232)
وإن قال: بل الميتة قبل الزوج هي الزوجة، والباقية هي المطلقة، فإن صدقته الباقية وورثة الأولى.. ورث ميراث الزوج من الأولى، ولم ترث معه الباقية.
وإن كذبوه.. فهل يقبل قول الوارث؟ فيه قولان، وقد مضى توجيههما.
والذي يقتضي المذهب: أن يكون في موضع القولين وجهان كالتي قبلها:
فـ[أحدهما] : إذا قلنا: لا يقبل قول وارث الزوج.. كان ما عزل من تركة الميتة قبل الزوج موقوفا حتى يصطلح عليه وارثها ووارث الزوج، وما عزل من تركة الزوج موقوفا حتى يصطلح عليه وارث الزوج والزوجة الباقية.
و [الثاني] : إذا قلنا: يقوم مقام الزوج، فإن كان الزوج قد أوقع الطلاق في إحداهما بعينها ثم نسيها أو جهلها.. فإن وارث الزوج يحلف لورثة الميتة: ما يعلم أنه طلقها؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي علمه، ويحلف للباقية: أنه طلقها؛ لأنه يحلف على الإثبات.. فكانت يمينه على القطع.
وإن كان الزوج طلق إحداهما لا بعينها، وقلنا: يقبل قول وارث الزوج فيها.. فلا يمين على وارث الزوج، كما لا يمين على الزوج في ذلك.
[فرع: أشكل عليه طلاق إحداهما لصفة تقديما أو تأخيرا]
وإن قال: يا حفصة، إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فولدت حفصة ذكرا وأنثى أحدهما بعد الآخر وأشكل المتقدم منهما.. علمنا أن إحداهما قد طلقت بعينها وهي مجهولة، فيرجع إلى بيانه، كما لو أشرفت إحداهما من موضع فقال: هذه طالق ولم يعرفها.. فإنه يرجع إلى بيانه.
[فرع: قال إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق فطار ولم يعرف]
فرع: [رأى طائرا فعلق الطلاق أو العتق على أنه غراب أم لا فطار ولم يعرف] :
وإن رأى رجل طائرا، فقال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق، وإن كان غير غراب فإمائي حرائر، فطار الطائر ولم يعرف: هل هو غراب أو غير غراب.. فقد علمنا أنه حنث في الطلاق أو العتق؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون غرابا أو غير غراب،(10/233)
فيوقف عن وطء الجميع وعن التصرف؛ لأنا نتحقق التحريم: إما في الزوجات، وإما في الإماء وإن جهلنا عين المحرم منهما، فوقف عن الجميع تغليبا للتحريم، ويؤخذ بالبيان؛ لأنه هو الحالف ويجوز أن يكون عنده علم، فإن أقر: أن عنده علما وامتنع من البيان.. حبس وعزر إلى أن يبين، وعليه نفقة الجميع إلى أن يبين؛ لأنهن في حبسه.
فإن قال: كان الطائر غرابا.. طلقن النساء، سواء صدقنه أو كذبنه.
فإن صدقته الإماء على أنه كان غراب.. فلا يمين عليه، وإن قلن: ما كان غرابا.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الملك عليهن. فإن طلبن يمينه فحلف لهن.. لم يعتقن، وإن كذبنه ولم يطلبن إحلافه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحلفه الحاكم؛ لما في العتق من حق الله تعالى.
والثاني: لا يحلفه؛ لأن العتق يسقط بتصديقهن أن الطائر كان غرابا، فسقطت يمينه بترك مطالبتهن.
وإن نكل فحلفن.. عتق بأيمانهن ونكوله، وطلقن النساء بإقراره السابق.
وإن قال ابتداء: كان الطائر غير غراب.. عتقن الإماء، صدقنه أو كذبنه. فإن صدقنه النساء أنه لم يكن غرابا.. فلا كلام. وإن قلن النساء: بل كان غرابا.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، فإن حلف.. بقين على الزوجية، وإن نكل فحلفن.. طلقن بنكوله وأيمانهن، وعتقن الإماء بإقراره.
وإن قال: لا أعلم: هل كان غرابا أو غير غراب؟ فإن صدقته النساء والإماء أنه لا يعلم.. بقين على الوقف، وإن كذبنه وقلن: بل هو يعلم.. حلف لهن: أنه لا يعلم، وبقين على الوقف. وإن نكل عن اليمين.. حلف من ادعى منهن: أنه يعلم أنه حنث في يمينه فيه، وكان كما لو أقر.
فإن مات قبل البيان.. فهل يرجع إلى الورثة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو(10/234)
إسحاق وابن الصباغ، ويشبه أن يكونا مأخوذين من القولين في التي قبلها:
أحدهما: يرجع إليهما في البيان؛ لأن الورثة يقومون مقامه في الملك والرد بالعيب، فكذلك في بيان المطلقات والمعتقات.
والثاني: لا يرجع إليهم في البيان؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط بعض الورثة بقول البعض.
وعندي: أن الوجهين إنما هما إذا قال الورثة: كان الطائر غرابا ليطلق النساء ولا يعتق الإماء. فأما إذا قلنا: كان الطائر غير غراب.. فإنه يقبل قوله وجها واحدا؛ لأنه أقر بما فيه تغليظ عليه من جهتهن:
أحدهما: أن الإماء يعتقن عليه.
والثاني: أن الزوجات يرثن معه.
إذا ثبت هذا: فإن قال الوارث: لا أعلم: هل كان غرابا أو غير غراب، أو قال الوارث: كان الطائر غرابا ولم يصدقنه النساء والإماء، وقلنا: لا يقبل قوله.. فإنه يقرع بين النساء والإماء؛ لتمييز العتق لا لتمييز العتق لا لتمييز الطلاق، فتجعل الزوجات جزءا والإماء جزءا، ويضرب عليهن بسهم حنث وسهم بر، فإن خرج سهم الحنث على الإماء.. عتقن ولم تطلق النساء، وإن خرج سهم الحنث على النساء.. لم يطلقن ولا تعتق الإماء.
وقال أبو ثور: (يطلقن النساء كما تعتق الإماء) .
وهذا خطأ؛ لأن القرعة لا مدخل لها في الطلاق، ولهذا: لو طلق إحدى امرأتيه ومات قبل أن يعين.. لم يقرع بينهما. ولو أعتق عبديه في مرض موته ولم يحتملهما الثلث.. أقرع بينهما.(10/235)
فإن خرجت قرعة الحنث على الإماء.. حكم بعتقهن من رأس المال إن كان قال ذلك في الصحة، ومن الثلث إن قاله في المرض الذي مات فيه. ولا يحكم بطلاق النساء، بل تكون عليهن عدة الوفاة. ويكون للزوجات الميراث، إلا أن يكن قد ادعين الطلاق وكان الطلاق مما لا يرثن معه لو ثبت.. فلا يرثن؛ لأنهن أقررن أنهن لسن بوارثات.
وإن خرجت قرعة الحنث على الزوجات.. فقد ذكرنا: أنهن لا يطلقن.
قال الشافعي: (والورع لهن أن يدعن الميراث؛ لأن الظاهر بخروج الحنث عليهن أنه طلقهن، إلا أن القرعة ليس لها مدخل في الطلاق، فكذلك لم يحكم بوقوعه. فإن طلبن الميراث.. كان لهن) . وأراد به: إذا لم يتقدم منهن الدعوى في الحنث في الطلاق، على ما مضى.
وهل تزول الشبهة في ملك الإماء، ويكون الملك ثابتا عليهن ظاهرا وباطنا بخروج قرعة الحنث على النساء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تزول الشبهة؛ لأن القرعة لما لم تؤثر في الجنبة التي خرجت عليها.. لم تؤثر في الجنبة الأخرى.
فعلى هذا: يكون ملك الورثة ثابتا على الإماء مع الشبهة.
والثاني: تزول الشبهة بذلك، كما إذا خرجت قرعة الحنث عليهن. ولأن القرعة إنما تؤثر في جنبة النساء؛ لأنه لا مدخل لها فيهن في أصل الشرع، ولها مدخل في الإماء في أصل الشرع في العتق.
فعلى هذا: يكون ملك الورثة ثابتا على الإماء بلا شبهة.
وعلى الوجهين ينفذ تصرف الورثة فيهن بالبيع والاستمتاع وغيره، إلا أن في الأول يصح تصرفه مع الشك، وعلى الثاني من غير شك.(10/236)
[فرع: علق الطلاق أو العتق على أن الطائر غراب أو حمام فطار ولم يعرف]
وإن قال: إن كان هذا الطائر غرابا فنساؤه طوالق، وإن كان حماما فإماؤه حرائر، فطار ولم يعرف.. لم يحكم عليه بطلاق ولا عتق؛ لجواز أن لا يكون غرابا ولا حماما.
فإن ادعى النساء: أنه كان غرابا، وادعى الإماء: أنه كان حماما، ولا بينة.. حلف: أنه ليس بغراب يمينا، وأنه ليس بحمام يمينا؛ لأن الأصل بقاء النكاح والملك.
[فرع: اختلفا في عتق على طائر أنه غراب أم لا فطار ولم يعرف]
فرع: [اختلفا في عتق على طائر أنه غراب أم لا أو غراب أو حمام وطار ولم يعرف] :
وإن رأى رجلان طائرا، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فعبدي حر، فطار ولم يعرف.. علمنا أن أحدهما قد حنث في يمينه ولكن لا نعلمه بعينه.. فلا يحكم على أحدهما بالعتق؛ لأن كل واحد منهما يشك: هل زال ملكه عن عبده أم لا؟ والأصل بقاء ملكه.
فإن ملك أحدهما عبد الآخر بهبة أو ببيع أو إرث.. عتق عليه؛ لأن إمساكه لعبده إقرار منه بحرية عبد الآخر، وإنما لم يقبل إقراره على صاحبه؛ لأنه يقر بما لا يملكه، فإذا ملكه بعد ذلك.. لزمه حكم إقراره الأول، كما لو شهد رجل على رجل: أنه أعتق عبده، فلم تقبل شهادته عليه، ثم ملكه الشاهد بعد ذلك.. فإنه يعتق عليه بإقراره الأول.
وإن قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر، وقال الآخر: إن كان حماما فعبدي حر، فطار الطائر ولم يعرف.. لم يحكم على أحدهما بعتق عبده.
فإن ملك أحدهما عبد الآخر بعد ذلك.. لم يعتق عليه؛ لجواز أن يكون ذلك الطائر ليس بغراب ولا حمام.
[مسألة: ادعت طلاقها وأنكره أو أنكر عدده]
وإن ادعت المرأة على زوجها: أنه طلقها فأنكر، أو ادعت عليه: أنه طلقها ثلاثا فقال: بل طلقتها واحدة أو اثنتين ولا بينة.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(10/237)
«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . ولأن الأصل عدم الطلاق وعدم ما زاد على ما أقر به الزوج.
[فرع: خيرها فاختارت أو قال: أنت طالق وكررها ثم اختلفا]
وإن خيرها الزوج، فقالت: قد اخترت، وقال: ما اخترت.. فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدم الاختيار. والذي يقتضي المذهب: أنه يحلف: ما يعلم أنها اختارت؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
وإن ادعت: أنها نوت الطلاق، وقال الزوج: ما نويت.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النية.
والثاني: القول قولها مع يمينها؛ لأنهما اختلفا في نيتها، ولا يعلم ذلك إلا من جهتها، فقبل قولها مع يمينها، كما لو علق الطلاق على حيضها.
وإن قال: أنت طالق أنت طالق، وادعى: أنه أراد التأكيد، وادعت: أنه أراد الاستئناف.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بإرادته.
وإن قال أردت الاستئناف، وقالت: بل أردت التأكيد.. لزمه حكم الاستئناف؛ لأنه أقر بالطلاق فلزمه، ولا يمين عليه؛ لأنه لو رجع.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه.
[فرع: عبد طلق زوجته ثنتين وأعتق وأشكل السابق أو اختلفا]
إذا تزوج العبد امرأة فطلقها طلقتين وأعتق، فإن كان العتق قبل استيفاء الطلقتين.. فله أن يطلق الثالثة، وله أن يسترجعها. وإن كان طلاق الاثنتين قبل العتق.. لم يجز له استرجاعها، ولا يملك الثالثة.
وإن أشكل السابق منهما.. لم يكن له استرجاعها، ولا يملك الثالثة عليها؛ لأنه(10/238)
يشك في وقت الطلاق أنه في رقه أو في حريته، والأصل فيه الرق.
وإن اختلفا، فقالت الزوجة: كان الطلاق سابقا، وقال الزوج: كان العتق سابقا.. فهو كما لو ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها: أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها، وقالت: لم تراجعني إلا بعد انقضاء عدتي. ويأتي بيانه.
وبالله التوفيق(10/239)
[كتاب الرجعة](10/241)
كتاب الرجعة
إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها، ولم يستوف ما يملكه عليها من عدد الطلاق، وكان الطلاق بغير عوض.. فله أن يراجعها قبل انقضاء عدتها.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وإلى قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فقوله: {بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] يعني: برجعتهن.
وقوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] أي: إصلاح ما تشعث. من النكاح بالرجعة.
وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فأخبر: أن من طلق طلقتين.. فله الإمساك وهو الرجعة، وله التسريح وهي الثالثة.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] والإمساك: هو الرجعة. وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يعني: الرجعة.
وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه طلق حفصة وراجعها»(10/243)
و «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها» .
وروي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة ألبتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» . والرد: هو الرجعة.
وأجمعت الأمة: على جواز الرجعة في العدة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الله تعالى في آية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [القرة: 232] ، وحقيقة البلوغ: هو الوصول إلى الشيء، إلا أن سياق الكلام يدل على اختلاف البلوغين في الاثنتين، فالمراد بالبلوغ بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] أي: إذا قاربن البلوغ. فسمى المقاربة بلوغا مجازا؛ لأنه يقال إذا قارب الرجل بلوغ بلد: بلغ فلان بلد كذا مجازا، أو بلغها: إذا وصلها حقيقة.
والمراد بالآية الأخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] أي إذا انقضى أجلهن، وإذا انقضت عدتها.. لم تصح الرجعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] أي: في وقت عدتهن، وهذا ليس بوقت عدتهن. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] ، فنهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح، فلو صحت رجعتهن.. لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح.
وإن طلق امرأته قبل الدخول.. لم يملك الرجعة عليها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فخص الرجعة بوقت العدة، ومن لم يدخل بها.. فلا عدة عليها، فلم يملك عليها الرجعة.(10/244)
[مسألة: ما يجوز وما يحرم على من طلق رجعيا وماذا لو وطئها]
؟] : وللزوج أن يطلق الرجعية في عدتها، ويولي منها، ويظاهر منها. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان، وهل يصح أن يخالعها؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما.
والثاني: لا يصح؛ لأن الخلع للتحريم، وهي محرمة عليه.
وإن مات أحدهما قبل انقضاء العدة.. ورثه الآخر؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما، وهذا من أحكامها.
ويحرم عليه وطؤها، والاستمتاع بها، والنظر إليها بشهوة وغير شهوة. وبه قال عطاء ومالك وأكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز له وطؤها) .
وعن أحمد روايتان: إحداهما: كقولنا، والأخرى: كقول أبي حنيفة.
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد على مسكنها، فكان يسلك طريقا أخرى حتى راجعها) . ولأنه سبب وقعت به الفرقة، فوقع به التحريم، كالفسخ والخلع والطلاق قبل الدخول.
فإن خالف ووطئها في العدة.. لم يجب عليهما الحد، سواء علما تحريمه أو لم يعلما؛ لأنه وطء مختلف في إباحته، فلم يجب به الحد، كما لو تزوج امرأة بغير ولي ولا شهود ووطئها.
وأما التعزيز: فإن كانا عالمين بتحريمه، مثل: أن كان شافعيين يعتقدان(10/245)
تحريمه.. عزرا؛ لأنهما أتيا محرما مع العلم بتحريمه.
وإن كانا غير عالمين بتحريمه، بأن كانا جاهلين أو حنفيين لا يعتقدان تحريمه.. لم يعزرا.
وإن كان أحدهما عالما بتحريمه والآخر جاهلا بتحريمه.. عزر العالم بتحريمه دون الجاهل به.
وإن أتت منه بولد.. لحقه نسبه بكل حال للشبهة.
وأما مهر المثل: فهل يلزمه؟ ينظر فيه:
فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فلها عليه مهر مثلها بكل حال. وكذلك إذا أسلم أحد الحربيين بعد الدخول، فوطئها الزوج في عدتها، فانقضت عدتها قبل اجتماعهما على الإسلام.. فلها عليه مهر مثلها لهذا الوطء؛ لأن العدة لما انقضت قبل اجتماعهما على النكاح.. تبينا أنه وطئ أجنبية منه، فهو كما لو وطئ أجنبية بشبهة.
وإن راجعها قبل انقضاء العدة، أو اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فقد قال الشافعي: (إن للرجعية مهر مثلها) ، وقال في الزوجين - إذا أسلم أحدهما ووطئها قبل انقضاء عدتها وقبل الإسلام ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة -: (إنه لا مهر لها) ، وكذا قال في المرتد - إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم قبل انقضاء العدة -: (لا مهر عليه) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في الجميع قولان:
أحدهما: يجب عليه مهر مثلها؛ لأنه وطئ في نكاح قد تشعث، فهو كما لو لم يرجعها ولم يجتمعا على الإسلام.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن التشعث قد زال بالرجعة والإسلام.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في الرجعة: يجب عليه المهر؛ لأن النكاح انثلم بالطلاق ثلمة لا ترتفع بالرجعة؛ بدليل: أنه لا يرتفع ما أوقعه من الطلاق(10/246)
بالرجعة، بل تبقى معه على عدد ما بقي من عدد الطلاق، وليس كذلك إذا اجتمع الحربيان أو المرتدان على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فإن الثلمة التي حصلت في النكاح ترتفع وتصير كأن لم تكن.
[مسألة: ما يشترط لصحة الرجعة وألفاظها]
وتصح الرجعة من غير ولي، وبغير رضاها، وبغير عوض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها.. لكان الحق لهما.
ولا تصح الرجعة إلا بالقول من القادر عليه أو بالإشارة من الأخرس، فأما إذا وطئها أو قبلها أو لمسها.. فلا يكون ذلك رجعة، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو. وبه قال أبو قلابة وأبو ثور.
وقال الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: (تصح الرجعة بالوطء، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو ذلك) .
قال أبو حنيفة: (إذا قبلها بشهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة.. وقعت به الرجعة) .
وقال مالك وإسحاق: (إذا وطئها ونوى به الرجعة.. كان رجعة، وإن لم ينو به الرجعة.. لم يكن رجعة) .
دليلنا: أنها جارية إلى بينونة، فلم يصح إمساكها بالوطء، كما لو أسلم أحد الحربيين وجرت إلى بينونة.. فلا يصح إمساكها بالوطء. ولأنه استباحة بضع مقصود يصح بالقول، فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول، كالنكاح.
فقولنا: (بضع مقصود) احتراز ممن باع جاريته ووطئها في مدة الخيار.
وقولنا: (يصح بالقول) احتراز من السبي؛ فإنه لا يصح بالقول، وإنما يصح بالفعل.(10/247)
وقولنا: (ممن يقد عليه) احتراز ممن يكون أخرس.
إذا ثبت هذا: فقال: رددتك.. صح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .
وإن قال: راجعتك أو ارتجعتك.. صح؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» .
وهل من شرطه أن يقول: إلى النكاح؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] ، المشهور: أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو تأكيد.
وإن قال: أمسكتك.. قال الشيخ أبو حامد: فهل ذلك صريح في الرجعة أو كناية؟ فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين:
أحدهما: أنه صريح في الرجعة؛ لأن القرآن ورد به، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، وأراد به الرجعة.
والثاني: أنه ليس بصريح، وإنما هو كناية؛ لأنه استباحة بضع مقصود في عينه فلم يصح إلا بلفظتين، كالنكاح.
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل تصح به الرجعة؟ على وجهين. ولم يذكر الصريح ولا الكناية.
وإن قال: تزوجتك، أو نكحتك، أو عقد عليها النكاح.. فهل تصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرجعة لا تصح بالكناية، والنكاح كناية فيه، ولأن النكاح لا يخلو من عوض، والرجعة لا تتضمن عوضا، فلم ينعقد أحدهما بلفظ الآخر، كالهبة لا تنعقد بلفظ البيع.(10/248)
والثاني: يصح؛ لأن لفظ النكاح والتزويج آكد من الرجعة؛ لأنه تستباح به الأجنبية، فإذا استباح بضعها بلفظ الرجعة.. ففي لفظ النكاح والتزويج أولى.
[فرع: قوله راجعتك أمس أو راجعتك للمحبة أو للإهانة]
وإن قال: راجعتك أمس.. كان إقرارا برجعتها، وهو يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها.
وإن قال: راجعتك للمحبة أو للإهانة.. سئل عن ذلك: فإن قال: أردت بقولي للمحبة: لأني كنت أحبها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح؛ لأردها إلى تلك المحبة، أو كنت أهينها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح وإلى تلك الإهانة.. أو لحقها بالطلاق إهانة، فراجعتها إلى النكاح لأرفع عنها تلك الإهانة.. صحت الرجعة؛ لأنه قد راجعها وبين العلة التي راجعها لأجلها.
وإن قال: لم أرد الرجعة إلى النكاح، وإنما أردت: أني كنت أحبها قبل النكاح، فلما نكحتها أبغضتها، فرددتها بالطلاق إلى تلك المحبة قبل النكاح، أو كنت أهينها قبل النكاح، فلما نكحتها زالت تلك الإهانة، فرددتها بالطلاق إلى تلك الإهانة.. لم تصح الرجعة؛ لأنه أخبر: أنه لم يردها إلى النكاح، وإنما بين المعنى الذي لأجله طلقها.
وإن مات قبل أن يبين.. حكم بصحة الرجعة؛ لأنه يحتمل الأمرين، والظاهر أنه أراد الرجعة إلى النكاح؛ لأجل المحبة أو لأجل الإهانة.
[مسألة: الرجعة والإشهاد عليها]
وهل تصح الرجعة بغير شهادة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح الرجعة إلا بحضور شاهدين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، فأمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود فكانت الشهادة شرطا فيه، كالنكاح.(10/249)
والثاني: تصح من غير شهادة - وبه قال أبو حنيفة - «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» ولم يأمره بالإشهاد، فلو كان شرطا.. لأمره به. ولأنها لا تفتقر إلى الولي.. فلم تفتقر إلى الشهادة، كالبيع والهبة، وعكسه النكاح. والآية محمولة على الاستحباب.
[فرع: تعليق الرجعة على المشيئة وغيرها]
قال في " الأم ": (وإن قال: راجعتك إن شئت، فقالت في الحال: شئت.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه عقد يستبيح به البضع، فلم يصح تعليقه على صفة، كالنكاح.
قال في " الأم ": (وإن قال لها: كلما طلقتك فقد راجعتك.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه علق الرجعة على صفة فلم يصح، كما لو قال: راجعتك إذا قدم زيد. ولأنه راجعها قبل أن يملك الرجعة عليها فلم تصح، كما لو قال لأجنبية: طلقتك إذا نكحتك.
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فارتدت المرأة، ثم راجعها الزوج في حال ردتها.. لم تصح الرجعة. فإن انقضت عدتها قبل أن ترجع إلى الإسلام.. بانت باختلاف الدين.
وإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. افتقر إلى استئناف الرجعة.
قال المزني: تكون الرجعة موقوفة، كما لو طلقها في الردة.
وهذا خطأ؛ لأنه عقد استباحة بضع مقصود، فلم تصح في حال الردة كالنكاح، ويخالف الطلاق؛ فإنه يصح تعليقه على الخطر والغرر.
[مسألة: اختلفا راجعها قبل انقضاء العدة أو بعدها]
إذا قال الزوج: راجعتك، وأنكرت المرأة، فإن كان قبل انقضاء عدتها.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يملك الرجعة، فملك الإقرار بها، كالزوج إذا أقر بطلاق زوجته.
وإن انقضت عدتها، فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدتك وقالت(10/250)
الزوجة: بل انقضت عدتي قبل أن تراجعني، ولا بينة للزوج.. فقد نص الشافعي: (على أن القول قول الزوجة مع يمينها) . وكذلك قال في الزوج إذا ارتد بعد الدخول، ثم رجع إلى الإسلام وقال: رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل أن ترجع إلى الإسلام.. (فالقول قول الزوجة) .
وقال في نكاح المشركات إذا أسلمت الزوجة بعد الدخول وتخلف الزوج، ثم أسلم فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك، وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء عدتي.. (فالقول قول الزوج) . واختلف أصحابنا في هذه المسائل على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في الجميع قولان - وهو اختيار القاضيين أبي حامد وأبي الطيب -:
أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الزوجة تدعي أمرا يرفع النكاح، والزوج ينكره، فكان القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: أن القول قول الزوجة؛ لأن الظاهر حصول البينونة وعدم الرجعة والإسلام.
والطريق الثاني: إن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام، ثم قالت الزوجة بعد ذلك: قد كانت عدتي انقضت قبل ذلك.. فالقول قول الزوج؛ لأنها ما دامت لم تظهر انقضاء العدة.. فالظاهر أن عدتها لم تنقض. وإن أظهرت الزوجة انقضاء العدة أولا، ثم قال الزوج: كنت راجعتك أو أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قولها؛ لأنها إذا أظهرت انقضاء عدتها في وقت يمكن انقضاؤها فيه.. فالظاهر أنها بانت، فإذا ادعى الزوج الرجعة أو الإسلام قبله.. كان القول قولها؛ لأن الأصل عدم ذلك. وإن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام في الوقت الذي أظهرت فيه انقضاء العدة، ولم يسبق أحدهما الآخر.. ففيه وجهان:(10/251)
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يقرع بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يقرع بينهما، بل لا تصح الرجعة ولا يجمع بينهما في النكاح؛ لأنه يمكن تصديق كل واحد منهما، بأن يكون قد راجعها أو أسلم في الوقت الذي انقضت عدتها فيه، فلم يصح اجتماعهما على النكاح، كما لو قال لامرأته: إن مت فأنت طالق.. فإنها لا تطلق بموته.
والطريق الثالث - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أن قول كل واحد منهما مقبول فيما اتفقا عليه، فإن اتفقا أنه راجع أو أسلم في رمضان، فقالت الزوجة: إلا أن عدتي انقضت في شعبان، وأنكرها الزوج.. فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء العدة. وإن اتفقا أن عدتها انقضت في رمضان، إلا أن الزوج ادعى أنه كان راجعها أو أسلم في شعبان وأنكرت الزوجة ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة والإسلام.
وإذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر.. لم يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، ولا يقبل في أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور - عندنا - أقل من ذلك.
[فرع: ادعاء الأمة مضي العدة وادعاء الزوج مراجعتها قبل ذلك]
وإن كانت الزوجة أمة وادعت انقضاء العدة، وقال الزوج: كنت راجعتها قبل ذلك، وصدقه المولى.. فكل موضع قلنا: القول قول الزوج في حق الحرة. قبل قول الزوج. وكل موضع قلنا: القول قول الزوجة إذا كانت حرة.. قال ابن الصباغ: فالذي يجيء على المذهب: أن القول قول السيد. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (القول قولها؛ لأنه يقبل قولها في انقضاء عدتها) .(10/252)
ووجه الأول: أن النكاح حق للسيد؛ ولهذا يثبت بقوله وإقراره، فكذلك الرجعة. ويخالف انقضاء العدة؛ لأنه لا طريق إلى معرفتها إلا من جهتها.
[فرع: اختلفا هل طلقها قبل الإصابة أو بعدها]
فرع: [اختلفا: طلقها قبل الإصابة أو بعدها] :
وإن طلق امرأته طلقة أو طلقتين، فقال: طلقتك بعد أن أصبتك فعليك العدة ولي عليك الرجعة ولك السكنى والنفقة وجميع المهر، وقالت الزوجة: بل طلقتني قبل الإصابة.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر وقوع الفرقة بالطلاق، والأصل عدم الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإنها إذا حلفت.. فلا عدة عليها ولا رجعة، ولا تجب لها نفقة ولا سكنى؛ لأنها لا تدعي ذلك وإن كان مقرا لها به. وأما المهر: فإن كان في يد الزوج.. لم تأخذ الزوجة منه إلا النصف؛ لأنها لا تدعي أكثر منه وإن كان الزوج مقرا لها بالجميع. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يرجع الزوج عليها بشيء؛ لأنه لا يدعيه.
وإن نكلت عن اليمين، فحلف.. ثبت له الرجعة عليها. وأما النفقة والسكنى: فالذي يقتضي المذهب: أنها لا تستحقه؛ لأنها لا تدعيه.
وإن قال الزوج: طلقتك قبل الإصابة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة ولا سكنى لك ولك نصف المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الإصابة فلك الرجعة ولي عليك النفقة والسكنى وجميع المهر.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإنه لا رجعة له عليها، سواء حلف أو لم يحلف؛ لأنه أقر: بأنه لا يستحق ذلك، ويجب عليها العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها.
وأما النفقة والسكنى: فإن حلف: أنه طلقها قبل الإصابة.. لم تستحق عليه النفقة والسكنى. وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. استحقت ذلك عليه.(10/253)
وأما المهر: فإن حلف.. لم تستحق عليه إلا نصفه، سواء كان بيده أو بيدها. وإن نكل عن اليمين، وحلفت.. استحقت جميع المهر.
وهذا إذا لم يثبت بالبينة أو بإقرار الزوج: أنه قد كان خلا بها. وأما إذا ثبت بالبينة أو بإقراره: أنه قد كان خلا بها.. فعلى القول الجديد: (لا تأثير للخلوة) ، وقال في القديم: (للخلوة تأثير) .
فمن أصحابنا من قال: أراد: أنه يرجح بها قول من ادعى الإصابة منهما.
ومنهم من قال: بل الخلوة كالإصابة، وقد مضى بيان ذلك.
[فرع: أخبر عنها بانقضاء عدتها فراجعها ثم كذبت نفسها]
قال في " الأم ": (إذا قال: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، ثم قالت بعد ذلك: ما كانت عدتي منقضية.. فالرجعة صحيحة؛ لأنه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر عنها، فإذا أنكرت ذلك.. فقد كذبت نفسها، وكانت الرجعة صحيحة) .
[مسألة: ما يشترط لصحة الرجوع]
مسألة: [لا يشترط لصحة الرجوع رضا وعلم الزوجة وماذا لو تزوجت بآخر وادعى الزوج رجعتها؟] : وتصح الرجعة من غير علم الزوجة؛ لأن ما لا تفتقر صحته إلى رضاها.. لم تفتقر صحته إلى علمها، كالطلاق.
إذا ثبت هذا: فإن انقضت عدتها فتزوجت بآخر، وادعى الزوج الأول أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها منه، وقال الزوج الثاني: بل انقضت عدتها قبل أن تراجعها.. نظرت: فإن أقام الزوج الأول بينة: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. حكم بزوجيتها للأول، وبطل نكاح الثاني، سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها. وبه قال علي بن أبي طالب، وأكثر الفقهاء.(10/254)
وقال مالك: (إن دخل بها الثاني.. فهو أحق بها) . وإن لم يدخل بها الثاني.. ففيه روايتان:
(إحداهما: أنه أحق بها.
والثانية: أن الأول أحق بها) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء: 24] . و (المحصنة) : من لها زوج، وهذه لها زوج وهو الأول، فلم يصح نكاح الثاني.
إذا ثبت هذا فإن كان الثاني لم يدخل بها.. فرق بينهما ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. فرق بينهما، وعليه مهر مثلها، وعليها العدة؛ لأنه وطء شبهة، ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها من الثاني.
وإن لم يكن مع الأول بينة.. فله أن يخاصم الزوج الثاني، وله أن يخاصم الزوجة. والأولى: أن يبتدئ بخصومة الثاني؛ لأنه أقرب، فإن بدأ بخصومة الثاني.. نظرت في الثاني: فإن أنكر، وقال: لم يراجعها إلا بعد انقضاء عدتها.. فالقول قول الثاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رجعة الأول، وكيف يحلف؟
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": يحلف: أنه لم يراجعها في عدتها.
وقال ابن الصباغ: يحلف: أنه لا يعلم أنه راجعها في عدتها؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وهذا أقيس.
فإن حلف الثاني.. سقطت دعوى الأول عنه. وإن نكل الثاني عن اليمين.. ردت اليمين على الأول، فإن حلف: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. سقط حق الثاني من نكاحها؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها في أحد القولين، أو كإقرار الثاني بصحة رجعة الأول، وذلك يتضمن إسقاط حق الثاني منهما.
فإن صدقت الزوجة الأول على صحة رجعته.. سلمت إليه. فإن كان الثاني لم(10/255)
يدخل بها.. فلا شيء عليه وتسلم الزوجة في الحال. وإن كان الثاني دخل بها.. استحقت عليه مهر مثلها، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني.
وإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول، فإن قلنا: إن يمين الأول كبينة أقامها الأول.. كان كأن لم يكن بين الثاني وبينها نكاح، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها عليه، وإن كان بعد الدخول.. فلها عليه مهر مثلها. وإن قلنا: إن يمين الأول بمنزلة إقرار الثاني.. فلا يقبل إقراره في إسقاط حقها، بل إن كان قبل الدخول.. لزمه نصف مهرها المسمى، وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى.
ولا تسلم المرأة إلى الأول: على القولين؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها، أو كإقرار الثاني في حق الثاني لا في حقها.
وإن صدق الثاني الأول أنه راجعها قبل انقضاء عدتها، فإن صدقته المرأة أيضا.. كان كما لو أقام الأول البينة، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها على الثاني، وتسلم الزوجة إلى الأول في الحال. وإن كان بعد الدخول.. فلها على الثاني مهر مثلها، وله عليها العدة، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني. فإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول بعد أن صدقه الثاني.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، ويحكم بانفساخ نكاح الثاني..؛ لأنه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول.. لزمه نصف المسمى. وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى.
وإن بدأ الزوج الأول بالخصومة مع الزوجة.. نظرت: فإن صدقته.. لم يقبل إقرارها؛ لتعلق حق الثاني بها، وهل يلزمها المهر للأول؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يلزمها له شيء؛ لأن إقرارها لم يقبل؛ لحق الثاني، فلم يلزمها غرم، كما لو ارتدت أو قتلت نفسها.
والثاني - ولم يذكر المحاملي والشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يلزمها للأول المهر؛ لأنها فوتت بضعها عليه بالنكاح الثاني، فهو كما لو شهد عليه شاهدان: أنه طلقها ثم(10/256)
رجعا عن شهادتهما.. فإنه يجب عليهما المهر، فكذلك هذا مثله.
وإن أنكرت.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، وهل يلزمها أن تحلف؟ قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمها أن تحلف؛ لأن اليمين إنما تعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها للأول؛ لحق الثاني، فلا فائدة في ذلك.
والثاني: يلزمها أن تحلف؛ لأنها ربما خافت من اليمين فأقرت بصحة رجعة الأول فيلزمها له المهر.
قال ابن الصباغ: يبنى على الوجهين إذا أقرت للأول:
فإن قلنا هناك: يلزمها له المهر.. لزمها أن تحلف له؛ لجواز أن تخاف فتقر، فيلزمها المهر.
وإن قلنا: لا يلزمها المهر.. لم يلزمها أن تحلف؛ لأنه لا فائدة في ذلك.
فإن قلنا: لا يمين عليها.. فلا كلام.
وإن قلنا: عليها اليمين، فإن حلفت.. سقطت دعوى الزوج عنها، وإن نكلت.. ردت اليمين على الزوج الأول، فإذا حلف.. احتمل أن يبنى على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه:
فإن قلنا: إنها كالبينة.. لزمها المهر للأول.
وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهل يلزمها المهر للأول؟ على الوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ.
ولا تسلم الزوجة إلى الأول مع إنكار الثاني على القولين؛ لأنها كالبينة أو كالإقرار في حق المتداعيين - وهما الزوج الأول والزوجة - لا في حق الثاني.
وكل موضع قلنا: لا تسلم المرأة إلى الأول إذا أقرت له لحق الثاني، فزالت(10/257)
زوجية الثاني بموته أو طلاقه.. سلمت إلى الأول بعد انقضاء عدة الثاني منها؛ لأن المنع من تسليمها إلى الأول لحق الثاني، وقد زال.
[مسألة: بينونة الحرة بثلاث والأمة باثنتين وماذا لو أراد رجعتها]
؟] : وإذا طلق الحر امرأته ثلاثا، أو طلق العبد امرأته طلقتين.. بانت منه وحرم عليه استمتاعها والعقد عليها حتى تنقضي عدتها منه، ثم تتزوج غيره ويصيبها، ويطلقها أو يموت عنها وتنقضي عدتها منه. وبه قال عامة الفقهاء، إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه قال:
إذا تزوجها وفارقها.. حلت للأول وإن لم يصبها الثاني. وحكي ذلك عن بعض الخوارج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة رفاعة القرظي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني كنت عند رفاعة فطلقني وبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .(10/258)
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر وطلقها قبل أن يدخل بها: أتحل للأول؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى تذوق العسيلة» . وإنما أراد بذلك لذة الجماع، وسماه العسيلة تشبيها من العسل.
فثبت نكاح الثاني بالآية، وثبتت إصابته بالسنة، وهو إجماع الصحابة؛ لأنه روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولا يعرف لهم مخالف.
إذا ثبت هذا: فإن أقل الوطء الذي يتعلق به الإحلال للأول: أن يغيب الثاني الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء من الغسل والحد وغيرهما تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه.(10/259)
فإن أولج الحشفة في فرجها وأفضاها.. تعلق به الإحلال؛ لأنه حصل به الإحلال وزيادة.
وإن غيب الحشفة في الفرج من غير انتشار، أو غيبه في الموضع المكروه، أو وطئها فيما دون الفرج.. لم يتعلق به الإحلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علقه على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل بما ذكرناه.
[فرع: إحلال الصبي أو من به عيب للبائن وحكم العبيد]
فرع: [إحلال الصبي أو من به عيب وحكم العبيد] : وإن تزوجها صبي فجامعها، فإن كان صبيا غير مراهق، كابن سبع سنين فما دون.. فلا يحكم بمجامعته , ولا يحلها للأول؛ لأن هذا الجماع لا يلتذ به، فهو كما لو أدخل إصبعه في فرجها. وإن كان مراهقا ينتشر عليها.. أحلها للأول.
وقال مالك: (لا يحلها) .
دليلنا: أنه جماع ممن يجامع مثله، فأحلها للأول، كالبالغ.
وإن كان مسلول الأنثيين فغيب الحشفة في الفرج.. أحلها للأول؛ لأنه جماع يلتذ به، فهو كغيره.
وإن كان مقطوع الذكر من أصله.. لم تحل للأول بجماعه؛ لأنه لا يوجد منه الجماع.
وإن قطع بعضه، فإن بقي من ذكره قدر الحشفة وأولجه.. أحلها للأول. وإن كان الذي بقي منه، أو الذي أولج فيها دون الحشفة.. لم يحلها للأول؛ لأنه لا يلتذ به.
وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا، وكانت الزوجة أمة أو مكاتبة.. كان حكمهما حكم الحر والحرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، حتى تذوق العسيلة» . ولم يفرق.(10/260)
[فرع: الإحلال مع ارتكاب محظور]
وإن أصابها الزوج الثاني وهي محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة، أو حائض.. أحلها للأول.
وقال مالك: (لا يحلها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حتى تذوق العسيلة» ، ولم يفرق. ولأنها إصابة يستقر بها المهر المسمى، فوقعت بها الإباحة للأول، كما إذا وطئها محلة مفطرة طاهرة.
[فرع: للذمية حكم المسلمة وماذا لو طرأ جنون وانتفى القصد]
؟] : وإن كان تحت مسلم ذمية فطلقها ثلاثا، فتزوجت بذمي وأصابها، ثم فارقها.. حلت للمسلم.
وقال مالك: (لا تحل) .
دليلنا: أنه إصابة من زوج في نكاح صحيح.. فحلت للأول، كما لو تزوجها مسلم.
وإن تزوجها الثاني فجن، فأصابها في حال جنونه، أو جنت فأصابها في حال جنونها، أو وجدها الزوج على فراشه فظنها أجنبية فوطئها فبان أنها زوجته.. حلت للأول بعد مفارقة الثاني؛ لأنه إيلاج تام صادف زوجية ولم يفقد إلا القصد، وذلك غير معتبر في الإصابة، كما لو قلنا في استقرار المسمى.
[مسألة: إصابة المبتوتة ثلاثا بعد الردة]
] : قال الشافعي: (وإن كانت الإصابة بعد ردة أحدهما، ثم رجع المرتد منهما.. لم تحلها الإصابة؛ لأنها محرمة في تلك الحال) .
وجملة ذلك: أن المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بآخر، ثم ارتد أحدهما أو(10/261)
ارتدا وطئها في حال الردة.. لم يحلها للأول؛ لأن الوطء إنما يصح إذا حصل في نكاح صحيح تام، والزوجية هاهنا متشعثة بالردة.
وقال المزني: هذه المسألة محال؛ لأنهما إن ارتدا أو ارتد أحدهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح بنفس الردة، وإن ارتدا أو ارتد أحدهما بعد الدخول.. فقد حصل الإحلال بالوطء قبل الردة، فلا تؤثر الردة.
قال أصحابنا: ليست بمحال، بل يتصور على قوله القديم الذي يقول: (إن الخلوة كالإصابة، فإذا خلا بها ثم ارتدا أو أحدهما.. فعليها العدة) . فما دامت في العدة.. فالزوجية قائمة.
ويتصور على قوله الجديد: بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى الفرج، أو تستدخل ماءه، ثم يرتد أحدهما، فتجب عليها العدة، أو يطأها في الموضع المكروه، فيرتدا أو أحدهما، فتجب عليها العدة، فيتصور هذا في هذه المواضع الثلاث.
[مسألة: وطئها بعد العدة خطأ أو في نكاح فاسد]
أو كانت أمة فوطئها سيدها أو اشتراها زوجها] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فانقضت عدتها منه، فوجدها رجل على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها، أو كانت أمة لآخر فوطئها سيدها.. لم يحلها للأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، وهذا ليس بزوج.
وإن اشتراها زوجها قبل أن تنكح زوجا غيره.. فهل يحل له وطؤها بالملك؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحل له وطؤها؛ لأن الطلاق من خصائص الزوجية، فأثر في تحريم الوطء بالزوجية دون ملك اليمين.(10/262)
والثاني: لا يحل له، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولم يفرق. ولأن كل امرأة يحرم عليه نكاحها.. لم يجز له وطؤها بملك اليمين، كالملاعنة.
وإن نكحها رجل نكاحا فاسدا ووطئها.. فهل تحل للأول؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحلها؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فهو كوطء الشبهة.
والثاني: يحلها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، فسماه محللا. ولأنه وطء في نكاح، فأشبه النكاح الصحيح.
قال في " الإملاء ": (وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، فانقضت عدتها، فجاءها رجل فقال: توقفي، فلعل زوجك قد راجعك.. لم يلزمها التوقف؛ لأن انقضاء العدة قد وجد في الظاهر، والرجعة أمر محتمل، فلا يترك الظاهر للمحتمل) .(10/263)
[مسألة: مبتوتة ادعت انقضاء عدتها من آخر]
] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فجاءت إلى الذي طلقها، وادعت أن عدتها منه قد انقضت، وأنها قد تزوجت بآخر وأصابها، وطلقها الثاني وانقضت عدتها منه، وكان قد مضى من يوم الطلاق زمان يمكن صدقها فيه.. جاز للأول أن يتزوجها؛ لأنها مؤتمنة فيما تدعيه من ذلك.
فإن وقع في نفس الزوج كذبها.. فالورع له أن لا يتزوجها، فإن نكحها.. جاز؛ لأن ذلك مما لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهتها.
وإن كانت عنده صادقة.. لم يكره له تزوجها، ويستحب له: أن يبحث عن ذلك؛ ليعرف به صدقها، فإن لم يبحث عن ذلك.. جاز.
فإن رجعت المرأة عما أخبرت به.. نظرت: فإن كان قبل أن يعقد عليها الأول.. لم يجز له العقد عليها. وإن كان بعدما عقد عليها.. لم يقبل رجوعها؛ لأن في ذلك إبطالا للعقد الذي لزمها في الظاهر.
[فرع: مبتوتة تزوجت وادعت إصابتها واختلفت مع الزوجين]
وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، وطلقها الثاني، فادعت الزوجة على الثاني أنه طلقها بعد أن أصابها، وأنكر الثاني الإصابة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ما أصابها؛ لأن الأصل عدم الإصابة، ولا يلزمه إلا نصف المسمى، وتلزمها العدة للثاني؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها.
فإن صدقها الأول: أن الثاني قد كان أصابها في النكاح.. حل له أن يتزوجها؛ لأن قولها مقبول في إباحتها للأول وإن لم يقبل على الثاني.
فإن قال الأول: أنا أعلم أن الثاني لم يصبها.. لم يجز له أن يتزوجها، فإن عاد(10/264)
وقال: علمت أن الثاني أصابها.. قال الشافعي: (حل له أن يتزوجها؛ لأنه قد يظن أنه لم يصبها، ثم يعلم أنه أصابها فحلت له) .
[مسألة: الفرقة المحرمة للتزاوج]
] : الفرقة التي يقع بها التحريم بين الزوجين على أربعة أضرب:
الأول: فرقة يقع بها التحريم، ويرتفع ذلك التحريم بالرجعة، وهو: الطلاق الرجعي على ما مضى، وهذا أخفها.
والضرب الثاني: فرقة يرتفع بها التحريم بعقد نكاح مستأنف قبل زوج؛ وهو: أن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولا يسترجعها حتى تنقضي عدتها، أو يطلقها طلقة أو طلقتين بعوض، أو يجد أحدهما بالآخر عيبا فيفسخ النكاح، أو يعسر الزوج بالمهر أو النفقة فتفسخ الزوجة النكاح.. فلا رجعة للزوج في هذا كله، وإنما يرتفع التحريم بعقد نكاح مستأنف، ولا يشترط أن يكون ذلك بعد زوج وإصابة. وهذا الضرب أغلظ من الأول.
والضرب الثالث: فرقة يقع بها التحريم، ولا يرتفع ذلك التحريم إلا بعقد مستأنف بعد زوج وإصابة؛ وهو: أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، فيحرم عليه العقد عليها إلا بعد زوج وإصابة على ما مضى. وهذا أغلظ من الأولين.
والضرب الرابع: فرقة يقع بها التحريم على التأبيد لا ترتفع بحال، وهي الفرقة الواقعة باللعان على ما يأتي بيانه. وهذا أغلظ الفرق.
إذا ثبت هذا: فإن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا، ثم راجعها في عدتها.. فإنها تكون عنده على ما بقي له من عدد الطلاق.
وإن طلق امرأته ثلاثا، ثم تزوجها بعد زوج.. فإنه يملك عليها ثلاث تطليقات. وهذا إجماع لا خلاف فيه.(10/265)
وإن أبان امرأته بدون الثلاث، بأن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بعوض، أو طلقها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها قبل أن تتزوج زوجا غيره.. فإنها تكون عنده على ما بقي من عدد الثلاث، وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإن تزوجها بعد أن تزوجت غيره.. فإنها تعود إليه - عندنا - على ما بقي من عدد الثلاث لا غير. وبه قال في الصحابة: عمر، وعلي، وأبو هريرة.
ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، ومحمد بن الحسن، وزفر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (تعود إليه بالثلاث) . وروي عن ابن عباس مثل ذلك.(10/266)
دليلنا: أن إصابة الزوج ليست شرطا في الإباحة للأول، فلم تؤثر في الطلاق، كإصابة السيد.
وبالله التوفيق.(10/267)
[كتاب الإيلاء](10/269)
كتاب الإيلاء الإيلاء - في اللغة - هو: الحلف لا يتعلق بمدة مخصوصة. يقول الرجل: آليت لأفعلن كذا، أو لا فعلت كذا، أولي إيلاء وألية، وآلى إليه اليمين.(10/271)
قال الشاعر:
فآليت لا آتيك إلا محرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا
وقال آخر:
ولا خير في مال عليه ألية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم
وأما الإيلاء في الشرع فهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته مطلقا أو مدة معلومة، على ما يأتي وقد كان ذلك فرقة مؤبدة في الجاهلية.
وقيل: إنه عمل به في أول الإسلام، والأصح: أنه لم يعمل به في الإسلام فرقة. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] .
إذا ثبت هذا: فإن الإيلاء يصح من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء.
فأما إذا حلف رجل على امرأة ليست له بزوجة.. انعقدت يمينه، ولا يصير موليا تتعلق به أحكام الإيلاء، فإن تزوجها وقد بقي من المدة أكثر من أربعة أشهر.. فقد قال القاضي أبو الطيب هل يصير موليا؟ فيه قولان، كما قلنا فيمن آلى من امرأته ثم أبانها، ثم تزوجها وقد بقيت مدة التربص:
أحدهما: يصير موليا. وبه قال مالك.
والثاني: لا يصير موليا.
وقال ابن الصباغ: لا يصير موليا قولا واحدا؛ لأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح، فلم يصح من الأجنبية، كالطلاق.(10/272)
ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن يمينهما لا تنعقد.
وأما الخصي: فضربان: مسلول ومجبوب:
فأما (المسلول) فهو: الذي سلت خصيتاه وبقي ذكره، فيصح إيلاؤه؛ لأنه كالفحل في الجماع. وقيل: هو أقوى منه على الجماع، فيصح إيلاؤه، كالفحل.
وأما (المجبوب) : فإن كان بقي من ذكره ما يمكنه أن يطأ به، ويغيب منه قدر الحشفة في الفرج.. صح إيلاؤه؛ لأنه يقدر على الجماع به، فهو كمن له ذكر قصير.
وإن بقي ما يمكنه الجماع به، إلا أنه أقر أنه لا يقدر على الجماع به.. فهو كالعنين، ويضرب له أجل العنين، فإن جامع وإلا.. فسخ عليه النكاح.
وإن بقي له من الذكر ما لا يتمكن من الجماع به في العادة، أو جب من أصله.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين المجبوب وغيره؛ لأن (المولي) هو الذي يمتنع من وطء امرأته باليمين مدة تزيد على أربعة أشهر، وهذا موجود فيه، فكان موليا.
والثاني: أنه لا يصح إيلاؤه؛ لأنه حلف على ترك ما لا يقدر عليه بحال، فلم تنعقد يمينه، كما لو حلف لا يصعد السماء.
ويصح إيلاء المريض والمحبوس؛ لأنه يقدر على وطئها في غير هذه الحالة، فانعقدت يمينه.
وإن آلى من الرتقاء والقرناء.. قال ابن الصباغ: فهل يصح إيلاؤه منها؟ فيه قولان، كإيلاء المجبوب.
وإن آلى من الصغيرة.. صح إيلاؤه قولا واحدا؛ لأنه قادر على وطئها.(10/273)
ويصح إيلاء الزوج، سواء كان حرا أو عبدا، مسلما كان أو ذميا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاء الذمي باليمين بالله، ويصح بالطلاق والعتاق.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، فعم ولم يخص. ولأن من صح طلاقه أو يمينه عند الحاكم.. صح إيلاؤه، كالمسلم.
[مسألة: الإيلاء بالله تعالى وماذا لو آلى بغيره تعالى أو بنذر أو قذف]
؟] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والمولي من الحلف بيمين، تلزمه بها كفارة) .
وجملة ذلك: أنه إذا حلف بالله أن لا يطأ امرأته.. صار موليا. وهو إجماع لا خلاف فيه.
وإن حلف بغير الله، مثل أن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو قال: فعبدي حر، أو فعلي أن أعتق عبدي، أو فأنت طالق، أو امرأتي الأخرى طالق.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يصح إيلاؤه) ، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، والحلف إذا أطلق.. فإنما ينصرف إلى الحلف بالله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف.. فليحلف بالله أو ليصمت» .(10/274)
ولأنه قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي العفو عن الكفارة عند الفيئة، وذلك إنما يوجد في الحلف بالله دون غيره.
فعلى هذا: يكون حالفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر، وإنما لا يتعلق به أحكام الإيلاء.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يصح إيلاؤه) . وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، وهذا عام في الحلف بالله وبغيره. ولأنها يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح إيلاؤه بها، كاليمين بالله. وهذا هو الأصح، وعليه التفريع.
إذا ثبت هذا: فإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أطلقك، أو أطلق امرأتي الأخرى.. لم يكن موليا؛ لأنه لا يلزمه بوطئها شيء؛ لأن هذا نذر، ونذر الطلاق لا يصح.
وإن قال: إن وطئتك فأنت زانية.. لم يكن موليا، وإن وطئها.. لم يكن قاذفا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأ امرأته إلا بضرر يدخل عليه، وهذا يقدر على وطئها بغير ضرر يدخل عليه؛ لأنه لا يصير بوطئه لها قاذفا، فلم يكن موليا.
[فرع: علق وطأها على صيام شهر]
] : وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم هذا الشهر.. لم يكن موليا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يصبر هذا الشهر فلا يطؤها، ويمكنه الوطء بغير ضرر يلحقه، ويكون ناذرا نذر لجاج وغضب.(10/275)
فإن وطئها بعد مضي هذا الشهر.. فلا شيء عليه. وإن وطئها في أثناء الشهر.. لم يلزمه صوم ما فات منه، وأما صوم ما بقي منه بعد الوطء.. فهو بالخيار: بين أن يصومه، وبين أن يكفر كفارة يمين، على ما مضى في النذر.
وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم شهرا.. صار موليا؛ لأنه إذا نكر الشهر.. لم يقتض شهرا بعينه، ولا يمكنه وطؤها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه.
قال المسعودي [في " الإبانة] : إذا قال: إن وطئتك فلله علي أن أصوم الشهر الذي أطؤك فيه.. كان موليا، فإن وطئها في أثناء الشهر.. لزمه صوم بقية الشهر.
وهل يلزمه صوم بقية اليوم الذي وطئها فيه؟ على وجهين بناء على أنه إذا قال: علي لله أن أصوم هذا اليوم.. هل يلزمه؟ فيه وجهان:
[فرع: مظاهر علق عتق عبده على وطء امرأته]
] : وإن كان مظاهرا من امرأته ثم قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري، أو لم يعلم أنه كان مظاهرا ثم قال ذلك.. فإنه يكون إقرارا منه بالظهار، ويكون موليا في الحال؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو عتق العبد المعين.
فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. أوفاها حقها ولم يعتق العبد، وإن وطئها.. عتق العبد، وهل يجزئه عن الظهار؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه عتق عبده بعد عقد الظهار، عن الظهار فأجزأه، كما لو أعتقه عن الظهار.
والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن عتقه وقع مشتركا بين الظهار وبين الحنث عن الإيلاء، فلم يجزئه عن الظهار.
وإن قال لامرأته: إن وطئتك فلله علي أن أعتق عبدي عن ظهاري، وهو مظاهر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إنه يكون موليا) .
ونقل المزني: (أنه لا يكون موليا) - وبه قال المزني وأبو حنيفة وأصحابه - لأنه لا يملك تعيين عتق في ذمته في عبد بعينه، فلم تنعقد يمينه، كما لو كان عليه(10/276)
صوم يوم، فقال: إن وطئتك فعلي أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي في ذمتي.
وقال أصحابنا: يكون موليا قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار موليا، كما لو قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق هذا العبد.
وأما الصوم: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يتعين بالنذر، كالعتق.
وقال أكثر أصحابنا: لا يتعين، وهو المنصوص؛ لأن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام، والرقاب تختلف وتتفاضل لتفاضل أثمانها. وأما ما نقله المزني: فقد قال بعض أصحابنا: أخطأ في النقل، ولا يعرف هذا للشافعي.
ومنهم من قال: إنما نقله على قوله القديم: (أنه لا يصح الإيلاء إلا بالله تعالى) .
وإذا ثبت هذا: وانقضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولا يتعين عليه عتق العبد عن الظهار.
وإن وطئها.. فقد حنث في نذره، فيكون بالخيار: بين أن يكفر كفارة يمين ثم إن شاء أعتق العبد المنذور عن الظهار وإن شاء أعتق غيره، وبين أن يفي بنذره فيعتق هذا العبد عن نذره.
فإذا أعتقه.. فهل يجزئه عن ظهاره؟ فيه وجهان مضى ذكرهما.
إذا تقرر هذا: فذكر في " المهذب ": إذا قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري، وهو مظاهر.. فهو مول.
وقال المزني: لا يكون موليا؛ لأن ما وجب عليه.. لا يتعين بالنذر.
وسائر أصحابنا إنما ذكروا خلاف المزني فيه، إذا قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، على ما مضى، وهو المنصوص في " المختصر "، وتعليل الشيخ أبي إسحاق يدل عليه.(10/277)
[فرع: علق عتق عبده على وطئه زوجته إن تظاهرت]
] : وإن قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، أو قال لها: إن تظاهرت فعبدي حر عن ظهاري إن وطئتك.. فإنه لا يكون موليا قبل الظهار؛ لأنه علق عتق عبده بصفتين: بالظهار والوطء، فلا يعتق قبل وجودهما. وإذا كان كذلك.. فإنه يمكنه وطؤها قبل الظهار من غير ضرر يلحقه، فلم يكن موليا في الحال، كما لو قال: إن دخلت الدار ووطئتك فعبدي حر.
إذا ثبت هذا: فإن وطئها قبل أن يظاهر.. لم يلزمه شيء. وإن ظاهر قبل أن يطأها.. صار موليا؛ لأنه لا يقدر على وطئها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار كما لو قال: إن وطئتك فعبدي حر.
فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن وطئها.. عتق العبد؛ لأنه وجد شرط عتقه، ولا يجزئه عن الظهار، بلا خلاف بين أصحابنا. واختلفوا في علته:
فقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأنه علق عتقه عن الظهار قبل الظهار، فلم يجزئه عن الظهار.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجزئه؛ لأنه جعله مشتركا بين الحنث بالوطء، والإعتاق للتكفير. والأول أصح. ومن هذين التعليلين خرج الوجهان في التي قبل هذه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ظاهر منها.. صار موليا، وهل يصير موليا قبل الظهار؟(10/278)
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على أنه لو قال: والله لا أطؤكن.. فهل يصير موليا من كل واحدة منهن؟ على قولين.
ومنهم من قال: لا يصير موليا قولا واحدا.
[فرع: علق عتق عبده على ما قبل وطئه بشهر]
] : قال الطبري: وإن قال: إن وطئتك فعبدي حر قبل وطئي إياك بشهر.. فلا تحتسب عليه مدة الإيلاء حتى يمضي شهر من وقت تلفظه بهذا؛ لأنه لو وطئ قبل شهر.. لم يعتق العبد، فإذا مضى شهر.. صار موليا، ثم إذا مضت مدة التربص.. فهل يطالب بالفيئة؟
قال القفال: لا يطالب حتى يمضي شهر آخر.
وقال غيره: يطالب بالفيئة؛ لأنه إذا طلق.. لم يستند الطلاق إلى ما قبله.
وإذا صار موليا بعد مضي شهر، وباع ذلك العبد.. لم يسقط حكم الإيلاء حتى يمضي شهر، وذلك لأنه لو وطئها قبل مضي شهر.. بان أنه باع حرا.
[فرع: حرم زوجته إن أصابها]
إذا قال لامرأته: إن أصبتك فأنت علي حرام، فإن نوى به الطلاق أو الظهار أو تحريم عينها.. كان موليا على قوله الجديد. وإن قلنا: إنه كناية.. لم يكن موليا.
وإن قال: أنت علي حرام، ثم قال: نويت إن أصبتك فأنت علي حرام.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل منه في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ظاهر لفظه يوجب الكفارة في الحال، فلم يقبل قوله فيما يقتضي تأخيرها، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار.
وقال ابن الصباغ: يقبل قوله؛ لأن الكفارة لا يطالب بها الحاكم، فلا معنى لإيجاب ذلك في الحكم وهو مقر بالإيلاء، فيلزمه حكم إقراره، ويثبت للمرأة مطالبته بعد مدة التربص.(10/279)
[فرع: يولي الرجل في الرضا والغضب]
] : ويصح الإيلاء في حال الغضب والرضا.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يصح في حال الرضا، وإنما يصح في حال الغضب) .
وقال مالك: (إنما يصح في حال الرضا إذا كان للإصلاح، مثل أن يحلف لأجل ولده) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين حال الرضا والغضب.
[مسألة: حلف على عدم الجماع في الدبر أو إلا فيه]
] : وإن قال: والله لا جامعتك في دبرك.. فهو محسن وليس بمول؛ لأن المولي هو الذي يمتنع من وطء امرأته بيمين، وترك الجماع في الدبر واجب، فلم يكن موليا بذلك.
وإن قال: والله لا وطئتك إلا في الدبر.. كان موليا؛ لأنه حلف على ترك وطئها في القبل، وذلك مما يضر بها.(10/280)
[مسألة: أنواع الصريح والكناية في الإيلاء]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ولا يلزمه الإيلاء حتى يصرح بأحد أسماء الجماع التي هي صريحة فيه) .
وجملة ذلك: أن الألفاظ التي تستعمل في الإيلاء على أربعة أضرب:
أحدها: ما هو صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا، وذلك قوله: والله لا أنيكك، ولا أغيب ذكري في فرجك، أو لا جامعتك بذكري، أو لا أقتضك بذكري وهي بكر، فإذا قال ذلك.. كان موليا سواء نوى به الإيلاء أو لم ينو؛ لأنه لا يحتمل غير الجماع لغة وشرعا.
فإن قال: لم أرد به الإيلاء.. لم يقبل منه في الظاهر والباطن؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر.
والضرب الثاني: ما هو صريح في الإيلاء في الحكم، وذلك قوله: والله لا جامعتك، أو لا وطئتك، فإذا قال ذلك.. كان موليا في الحكم؛ لأنه مستعمل فيه في العرف.
فإن قال: لم أرد به الجماع في الفرج، وإنما أردت بالجماع الاجتماع والموافقة، وبالوطء الوطء بالرجل.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله محتمل في اللغة.
وإن قال: والله، لا أقتضك - وهي بكر - ولم يقل: بذكري.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا كالقسم الأول؛ لأنه لا يحتمل غير الاقتضاض بالذكر.
والثاني - وهو قول القاضيين: أبي حامد وأبي الطيب، وأبي علي السنجي، واختيار ابن الصباغ -: أنه صريح في الإيلاء في الحكم. فإن ادعى: أنه لم يرد الجماع(10/281)
بالذكر.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيه؛ لأنه يحتمل الاقتضاض بالأصبع.
الضرب الثالث: ما لا يكون إيلاء إلا بالنية، وذلك كقوله: والله لا يتوافق رأسي ورأسك، أو لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا جمعني وإياك بيت، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، أو لأسوءنك، أو لأغيظنك، أو ما أشبه ذلك، فإن نوى به الجماع بالذكر.. كان موليا؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن لم ينو به ذلك.. لم يكن موليا؛ لأن هذه الألفاظ لا تستعمل فيه غالبا.
الضرب الرابع: اختلف فيه قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وهو قوله: والله لا باشرتك، أو والله لا لامستك، أو لا أفضي إليك.
فقال في القديم: (وهو صريح في الإيلاء في الحكم، كقوله: والله لا وطئتك، أو لا جامعتك) ؛ لأن القرآن ورد بهذه الألفاظ، والمراد به: الجماع. قال الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] يعني: جامعتم. وقال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} [النساء: 21] [النساء: 21] .
فإن قال: لم أرد به الوطء.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وقال في الجديد: (هي كناية، فلا يكون موليا إلا أن ينوي به الجماع) . وهو الأصح؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل الجماع وغيره، فهو كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك.
وإن قال: والله لا أصبتك.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كقوله: لا لامستك، أو لا باشرتك.
ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كقوله لا اجتمع رأسي ورأسك.
وقال الشيخ أبو حامد: هو صريح في الإيلاء في الحكم قولا واحدا، كقوله: لا جامعتك، ولا وطئتك.
وإن قال: والله لا لمستك، أو لا غشيتك، أو لا باضعتك، أو لا قربتك.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كقوله: لا باشرتك.(10/282)
ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كما لو قال: لا اجتمع رأسي ورأسك.
وإن قال: والله لا كسوتك، أو لا أطعمتك، أو لا أخرجتك من داري.. لم يكن موليا بصريح وكناية؛ لأن ذلك لا يتضمن ذكر الجماع.
[فرع: الحلف على ما يلزم منه الإيلاء أو عدمه]
] : وإن قال: والله لا غيبت الحشفة في الفرج.. كان موليا؛ لأن ما دون ذلك.. ليس بجماع تام، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك.
وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يمنع نفسه من جماعها، وإنما منع نفسه من الجماع القوي، والجماع الضعيف كالقوي في الحكم.
وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت لا جامعتها إلا في دبرها.. كان موليا؛ لأنه حلف أن لا يطأها في قبلها وذلك هو الإيلاء. وإن قال: أردت لا غيبت الحشفة في فرجها.. كان موليا؛ لأن تغييب ما دون الحشفة ليس بجماع تام. وإن قال: أردت لا جامعتها إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأن الجماع الضعيف كالقوي في الحكم. وإن قال: والله لأجامعنك جماع سوء.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يحلف أنه لا جامعها، وإنما حلف ليجامعنها جماع سوء، وذلك لا يتضمن ترك جماعها.
[فرع: القسم على أنه لا يغتسل أو لا يجنب منها]
] : وإن قال: والله لا أغتسل منك، أو لا أجنب منك.. سئل، فإن قال: أردت أني لا أرى الغسل والجنابة من التقاء الختانين، أو أردت أني أطأ غيرك. قبلك ثم(10/283)
أطؤك، أو أردت أني حلفت على الغسل دون الجماع.. لم يكن موليا. وإن قال: أردت لا أجامعك.. كان موليا.
[مسألة: مدة الإيلاء الشرعي عندنا]
] : و (الإيلاء الشرعي) عندنا هو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر.
وإن حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، أو ما دون ذلك.. لم يكن موليا في الشرع، وكان حالفا، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يطأها أبدا) ، أو يطلق ولا يقدره بمدة.
وقال أبو حنيفة: (إذا حلف أن لا يطأ أربعة أشهر.. كان موليا) .
وقال النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وقتادة: إذا حلف أن لا يطأها يوما أو يومين، أو أقل أو أكثر.. كان موليا.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] . فموضع الدليل فيها على ابن عباس: أن الله تعالى جعل لكل من آلى من امرأته أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين أن يولي عنها أبدا أو مدة دونها.
وموضع الدليل على أبي حنيفة والنخعي والبصري: أن الله تعالى جعل للمولي أن يتربص أربعة أشهر، ثم قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي عفوه عن الكفارة بعد مدة التربص، والكفارة لا تجب إلا إذا كانت اليمين باقية. ولأن المولي هو الذي منع نفسه باليمين من وطء امرأته وقصد الإضرار بها، والإضرار لا يلحقها في ترك وطئها ما دون أربعة أشهر، لما روي: (أن عمر بن(10/284)
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز في موضع من المدينة ليلا، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
وروي:
[ألا طال هذا الليل] واخضل جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
فسألها عمر عن حالها، فأخبرته: أن زوجها قد بعثه إلى الجهاد، فلما كان من الغد.. سأل عمر نسوة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، ويفنى الصبر في أربعة أشهر، فضرب لهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مدة أربعة أشهر، فكلما قام الرجل في الغزو أربعة أشهر.. قدم إلى أهله، وذهب مكانه غيره، وكتب إلى أمراء الجنود: أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر) .(10/285)
إذا ثبت هذا: فقال لامرأته: والله لا وطئتك.. كان موليا؛ لأن إطلاقه يقتضي التأبيد.
وإن قال: والله لا وطئتك مدة، أو والله لأطولن تركي لجماعك، أو ليطولن عهدك بجماعي.. فإن هذا صريح في الجماع، ولكن المدة وطولها تحتمل القليل والكثير.
فإن قال: أردت به ما زاد على أربعة أشهر.. كان موليا. وإن قال: أردت به أربعة أشهر فما دونها.. لم يكن موليا؛ لأنه يحتمل الجميع احتمالا واحدا، فكان المرجع إليه؛ لأنه أعلم بما أراد.
وإن قال: والله لتطولن غيبتي عنك.. فإنه كناية في الجماع والمدة.
فإن قال: لم أرد به ترك الجماع.. لم يكن موليا، ولا حالفا عن الجماع. وإن قال: أردت به ترك الجماع في أربعة أشهر وما دونها.. لم يكن موليا وكان حالفا. وإن قال: أردت به ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر.. كان موليا.
وإن قال: والله لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، وقال: أردت به ترك الجماع.. فإنه يستغرق الزمان ويكون موليا.
وإن قال: والله لأغيظنك، أو لأسوءنك.. فهو كناية في الجماع. فإن لم ينو(10/286)
الجماع.. لم يكن موليا. وإن نوى به الجماع.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يكون صريحا في استغراق الزمان، فيكون موليا.
وقال ابن الصباغ: لا يكون موليا، إلا أن ينوي بذلك ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأن غيظها قد يكون بترك الجماع فيما دون ذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال: إذا مضت خمسة أشهر فوالله لا أطؤك.. لم يصر موليا حتى تمضي خمسة أشهر.
[فرع: حلف أن لا يجامع خمسة أشهر وحلف إذا انقضت لا يطؤها سنة]
] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك سنة.. فإن هذا إيلاءان، وجد زمان أحدهما، فلا يدخل حكم أحدهما في الآخر؛ لأنه أفرد كل واحد بيمين، فيضرب له مدة التربص للإيلاء الأول من حين العقد. فإذا انقضت مدة التربص، فإن وطئها.. أوفاها حقها، وإن انقضت الخمسة الأشهر.. ضربت له مدة التربص للإيلاء الثاني.
وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولكن طلقها.. فقد أوفاها حقها. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فقد بانت منه. وإن راجعها وقد بقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أربعة أشهر فما دون.. لم تضرب له المدة، وإن بقي منها ما زاد على أربعة أشهر.. ضربت له المدة للإيلاء الثاني.
وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولا طلقها، ولكن دافعها حتى انقضت الخمسة الأشهر.. فقد بر في اليمين الأولى، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك بوطء ولا طلاق للإيلاء الأول؛ لأن زمانه قد انقضى، وإنما تضرب له مدة التربص للإيلاء الثاني. فإن وطئها.. أوفاها حقها. وإن طلقها.. أوفاها حقها، فإن لم يراجعها حتى انقضت(10/287)
عدتها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء؛ لأنه لم يبق من الزمان ما يكون فيه موليا.
وإن بقي منها أكثر من أربعة أشهر.. كان موليا؛ لأنه ممتنع من وطئها بعقد يمين، فيتربص أربعة أشهر، فإذا مضت.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن دافع حتى انقضت السنة.. خرج من الإيلاء وبر في يمينه.
[فرع: آلى أن لا يطأ خمسة أشهر ثم قال: سنة وصور أخر]
] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال: والله لا وطئتك سنة.. فهما يمينان، إلا أن كل واحدة منهما تكون مدتها من حين اليمين.
وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يستأنف السنة بعد انقضاء الخمسة الأشهر، كالتي قبلها؛ لأن الخمسة الأشهر قد تعلقت بها اليمين الأولى، فلا تحمل الثانية على التكرار.
والأول أصح؛ لأن اليمين الثانية أفادت زيادة على المدة الأولى.. فدخلت الأولى في الثانية، كما لو قال: له علي مائة درهم، ثم قال: له علي ألف درهم.. فإن المائة تدخل في الألف.
إذا ثبت هذا: فإنه تضرب له مدة التربص أربعة أشهر.
فإن وطئها قبل انقضاء الخمسة الأشهر.. فقد حنث في يمينه، فإذا أوجبنا عليه الكفارة في الحنث بالأولى.. فهل تجب هاهنا كفارة أو كفارتان؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في (الأيمان) .
وإن وطئها بعد انقضاء الخمسة الأشهر.. وجبت عليه كفارة واحدة.
وإن طلقها.. فقد سقط حكم الإيلاء في اليمين الأولى، سواء راجعها أو لم يراجعها.
وأما اليمين الثانية: فإن لم يراجعها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء.(10/288)
وإن بقي أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص ثانية، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق. فإن امتنع عن الطلاق أو الفيئة حتى انقضت السنة.. فقد أساء، وبر في اليمين.
وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فهل يكون موليا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون موليا؛ لأنه امتنع من وطئها ثمانية أشهر بالحلف، فهو كما لو حلف: أن لا يطأها ثمانية أشهر.
والثاني: لا يكون موليا، بل يكون حالفا، وهو الأصح؛ لأن حكم إحدى اليمينين لا يبنى على الأخرى، وكل يمين تقصر مدتها عن مدة الإيلاء الشرعي.. فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك خمسة أشهر، فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فعلى الوجه الأول: يكون موليا عقيب اليمين. وعلى الثاني: لا يكون موليا في الأربعة الأشهر الأولى إيلاء شرعيا، ولكن يكون فيها حالفا. فإذا مضت أربعة أشهر.. كان موليا في الخمسة الأشهر إيلاء شرعيا، فإذا انقضت.. لم يكن موليا في الأربعة الأشهر بعدها، ولكن يكون حالفا.
[مسألة: تعليق الإيلاء على شرط الوطء]
] : إذا قال لامرأته: إن وطئتك فوالله لا وطئتك.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يكون موليا في الحال) ؛ لأن المولي هو الذي يمنع نفسه من وطء امرأته خوف الضرر بالحنث، وهذا يمتنع من وطئها خوفا أن يصير موليا، فكان موليا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يكون موليا في الحال) ؛ لأنه علق الإيلاء بشرط(10/289)
قبله، فما لم يوجد الشرط.. لم يوجد الإيلاء، كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا وطئتك.
فعلى هذا: إذا وطئها.. صار موليا؛ لأنه قد وجد شرط الإيلاء.
وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا مرة.. ففيه قولان، كالأولى:
[أحدهما] : قال في القديم: (يصير موليا في الحال) ؛ لأنه يمتنع من وطئها خوفا أن يوجد شرط الإيلاء، فصار موليا.
والثاني: لا يصير موليا في الحال؛ لأنه يقدر على وطئها من غير حنث يلزمه.
فعلى هذا: إذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص، وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم يصر موليا إيلاء شرعيا، ويكون حالفا.
[مسألة: علق الإيلاء على شرط مستحيل أو ممكن]
] : فإن قال: والله لا وطئتك أبدا.. كان موليا؛ لأن أبد الإنسان مدة عمره، فكأنه قال: والله لا وطئتك ما عشت.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى تصعدي إلى السماء أو تطيري.. كان موليا؛ لأنه علق الإيلاء على شرط يستحيل وجوده، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أبدا.
وإن قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أن القيامة لا تقوم من هذا الوقت إلى أربعة أشهر فما دون، وإنما تقوم لأكثر من ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أن لها علامات: مثل خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج(10/290)
الدجال، ونزول عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.
وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أذهب إلى الصين وأجيء، وهو من الصين في موضع لا يمكنه أن يذهب إليها ويجيء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.. فإنه يكون موليا؛ لأنا نتيقن أن ذلك لا يوجد منه إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال، وينزل عيسى ابن مريم.. كان موليا؛ لأن الظاهر أن ذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.
وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي.. كان موليا؛ لأن الظاهر بقاؤهما أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: ما عشت أو ما عشنا.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يموت فلان.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: يكون موليا، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن الظاهر بقاؤه أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: حتى أموت.
والثاني - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون موليا؛ لأنه لا يتيقن(10/291)
بقاؤه أكثر من أربعة أشهر بخلاف قوله: حتى أموت؛ فإن الإنسان يستبعد موت نفسه، ولهذا يطول أمله.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يفسد هذا الطبيخ، أو حتى يجف هذا الثوب، وما أشبه ذلك.. لم يكن موليا؛ لأنه يتيقن أن ذلك يوجد في أقل من أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم الحجيج، وقد بقي إلى وقت قدومهم أربعة أشهر فما دون، أو حتى يقدم فلان ومن عادته أنه يقدم إلى أربعة أشهر.. لم يكن موليا؛ لأن الظاهر وجود ذلك فيما دون أربعة أشهر.
وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم فلان، وهو على مسافة قد يقدم على أربعة أشهر فما دون، وقد يقدم فيما زاد على أربعة أشهر، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يعلق الإيلاء على شرط يتيقن وجوده فيما زاد على أربعة أشهر، ولا أن الظاهر أنه لا يوجد إلا فيما زاد على أربعة أشهر، فلم يكن موليا. ولأن الأصل عدم الإيلاء.
إذا ثبت هذا: فإن تأخر الحجيج أو فلان، فقدم بعد أربعة أشهر من وقت اليمين.. فإنه لا يكون موليا، ولا تضرب له مدة التربص؛ لأنا لم نحكم عليه بالإيلاء حال عقد اليمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: تبين أنه صار موليا.
[فرع: تعليق الوطء إلى وقت الفطام]
] : فإن قال: والله لا وطئتك حتى تفطمي ولدك.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لا يكون موليا) . ونقل المزني: (أنه يكون موليا) .
قال أصحابنا: لا يعرف ما نقله المزني، فإن صح ما نقله.. فليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا فيها:(10/292)
فمنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) أراد إذا كان الصبي ابن سنة، وأراد بالفطام فعل الفطام، وقد يفطم مثله فيما دون أربعة أشهر.
وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا أراد بالفطام بلوغ وقت الفطام، وذلك انتهاء الحولين من مولده.
ومنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) ، إذا كان الصبي مما يمكن فطامه قبل مضي مدة الإيلاء في العادة.
وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا كان الصبي ابن يوم أو يومين، بحيث لا يمكن أن يفطم في العادة إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأنا نتحقق أنه لا يفطم إلا فيما زاد على أربعة أشهر. هذا مذهبنا.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يكون موليا بحال؛ لأنه لم يقصد الإضرار بها، وإنما قصد منفعة ولدها) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه حلف على ترك وطئها مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو علقه بمدة، وما ذكره لا يصح؛ لأن الإضرار قد دخل عليها بحكم اليمين وإن لم يقصده، كما لو حلف أن لا يطأها خمسة أشهر وقصد به ليتوفر على الدرس والقراءة.
[فرع: تعليق الوطء لوقت الحبل]
] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي.. فنقل المزني: (أنه يكون موليا) .
وقال أصحابنا: ينظر فيها: فإن كانت من الصغار اللاتي نتيقن أنهن لا يحبلن مثل ابنة خمسة سنين وسبع.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل إلا بعد مدة تزيد على أربعة أشهر. وكذلك: إذا كانت من النساء الآيسات.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل. وهكذا: إن كانت صغيرة إلا أنها في سن يجوز أن تحبل مثلها فيه، مثل ابنة تسع سنين.. فإنه يكون موليا؛ لأنها وإن كانت في سن يجوز فيه أن تحبل إلا أن الظاهر أنها لا تحبل؛ لأن من يحبل في مثل هذا السن نادر.(10/293)
وإن كانت من ذوات الأقراء.. فإنه لا يكون موليا؛ لأنها قد تحبل في أربعة أشهر فما دون، أو في أربعة أشهر فما زاد، فليس لوجود حملها ولا لعدمه ظاهر، فلم يكن موليا، كما لو قال: والله لا وطئتك حتى تمرضي أو أمرض.
[مسألة: علق وطأها إلى أن يخرجها من بلدها]
] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى أخرجك من هذا البلد.. لم يكن موليا؛ لأنه يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يخرجها من ذلك البلد، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك على هذا السرير، أو في هذا البيت.
فإن قيل: فقد قلتم: إنه إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر.. إنه يكون موليا، وقد كان يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يبيع العبد ثم يطأها؟
فالجواب: أنه قد يلحقه الضرر ببيع العبد؛ بأن يكون محتاجا إليه، أو لا يبتاع منه إلا بدون ثمن مثله.
[فرع: علق جماعها على رضاها]
] : وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك.. لم يكن موليا؛ لأنه لا تتوجه عليه المطالبة إلا وهي راضية، فلا تكون يمينه مانعة من الوطء.
[فرع: علق قربها على مشيئتها]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس.. فهو مول) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال لها: والله لا أقربك إن شئت.. فقد عقد الإيلاء وعلقه بمشيئتها أن لا يقربها. فإن قالت في الحال، بحيث يكون جوابا لكلامه: شئت أن لا تقربني.. كان موليا. وإن أخرت المشيئة حتى قامت من المجلس.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يوجد شرط الإيلاء. وإن شاءت في المجلس بعد يمينه بمدة طويلة،(10/294)
إلا أنها لم تشتغل عنه بكلام غيره.. ففيه وجهان، كما قلنا فيه إذا قال لها: أنت طالق إن شئت.
فإن قيل: هلا قلتم: إنها إذا شاءت.. لا يكون موليا؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها، كما قلتم في المريض إذا طلق امرأته برضاها: أنها لا ترث؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه يقصد بالإيلاء الإضرار بها بترك الجماع باليمين، وقد حصل ذلك بيمينه، ويمكنه رفع تلك اليمين بالوطء، وإذا استدامها.. فقد حصل ذلك بيمينه، والمطلقة بمرض الموت إنما ورثت في قوله القديم؛ لأنه متهم في قطع ميراثها، فإذا حصل برضاها.. انتفت التهمة عنه، ولا يمكنه رفع ذلك الطلاق بعد وقوعه.
وإن قال لها: والله لا أقربك متى شئت.. فالمشيئة هاهنا على التراخي. فمتى قالت: شئت أن لا تقربني، ولو بعد زمان طويل من وقت اليمين.. كان موليا.
وإن قال: والله لا أقربك إن شئت أن أقربك، فإن قالت في الحال: شئت أن تقربني.. انعقدت يمينه، وصار موليا. وإن لم تشأ.. لم يكن موليا.
وإن قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، فإن شاءت في الحال.. لم يكن موليا. وإن أخرت المشيئة.. كان موليا؛ لأن مشيئتها قد بطلت.
وإن قال لها: والله لا وطئتك حتى تشائي.. لم يكن موليا.
والفرق بينهما: أنه قد جعل في هذه غاية اليمين مشيئتها، وقد تشاء في الحال، وقد لا تشاء.
وإن كانت اليمين معلقة بفعل، قد يوجد قبل مضي مدة الإيلاء وقد لا يوجد.. لم يكن موليا.
وليس كذلك إذا قال: إلا أن تشائي.. فإن يمينه مطلقة، وإنما استثنى منها مشيئتها، وإذا لم توجد مشيئتها.. كانت اليمين على إطلاقها.(10/295)
[مسألة: أقسم على أربع بأن لا يقربهن]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا أقربكن.. فقد منع نفسه من الأربع بيمين واحدة، فلا يحنث إلا بوطئهن جميعهن.
وأما إذا وطئ واحدة منهن أو اثنتين أو ثلاثة.. لم يحنث، كما لو قال: والله لا كلمت زيدا وعمرا وبكرا وخالدا.. فإنه لا يحنث إلا بكلامه لجميعهم.
وهل يصير موليا منهن كلهن في الحال؟
نقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (يكون موليا منهن كلهن، ويوقف لكل واحدة منهن) .
وقال المزني: لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن أيتهن وطئ.. لم يحنث في يمينه.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - وأكثر أصحابنا: المذهب ما قاله المزني: وأنه لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن المولي هو: من لا يقدر على الوطء إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يطأ ثلاثا منهن من غير ضرر يلحقه. فإن وطئ ثلاثا منهن.. صار موليا من الرابعة؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو الحنث من يمينه.
وتأولوا ما نقله: على أن كل واحدة منهن يصح أن يكون موليا عنها، ويصح أن يوقف لها، وهو إذا وطئ صواحبها الثلاث.
ومن أصحابنا من قال: هذا الذي نقله المزني على القول القديم، وهو: (أن كل وطء يقرب من الحنث.. يكون موليا فيه، ووطء كل واحدة منهن يقرب من الحنث) . وهذه طريقة المسعودي [في " الإبانة "] .
قال القاضي أبو الطيب: هذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على أنه يكون موليا منهن، ومذهبه في " الأم " [5/253] : أن ما قرب من الحنث لا يكون موليا فيه.
ومن أصحابنا من قال: بل المذهب: ما نقله المزني، ويكون موليا منهن كلهن -(10/296)
وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لأنه منع نفسه من وطئهن بيمين بائنة فكان موليا، كما لو قال: والله لا أقرب كل واحدة منكن.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بعد هذا ثلاث مسائل:
إحداهن: قال: (إذا وطئ اثنتين منهن.. خرج من حكم الإيلاء فيهما، وكان موليا من الباقيتين) .
فمن قال من أصحابنا بصحة ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه.
ومنهم من قال: ما نقله المزني متأول، قال: تأويل هذا: أنه إذا وطئ اثنتين منهن.. فقد خرجتا من حصول الحنث فيهما بوطئهما. ومعنى قوله: (كان موليا من الباقيتين) أي: يجوز أن يكون موليا من كل واحدة منهما، بأن يطأ إحداهما فيصير موليا من الأخرى.
الثانية: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا طلق ثلاثا منهن.. كان موليا من الرابعة) .
فمن قال من أصحابنا بظاهر ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه؛ لأنه مول من كل واحدة منهن، فإذا طلق بعضهن.. أوفاهن حقهن، وكان موليا ممن لم يطلق، كما لو آلى منهن بأيمان.
ومن تأول منهم ما نقله المزني، قال: تأويل هذا: أن المطلقات قد خرجن من حكم الإيلاء بالطلاق، وأما الرابعة: فيجوز أن يكون موليا منها، بأن يتزوج المطلقات فيطأهن، أو يطأهن بشبهة أو زنا، فيحنث بوطء الرابعة، والوطء المحظور كالمباح في الحنث؛ ولهذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال لامرأته: والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية.. لم يكن موليا من امرأته حتى يطأ الأجنبية) .
الثالثة: إذا ماتت واحدة من الأربع.. قال الشافعي: (خرج من الإيلاء فيها ومن غيرها؛ لأنه يجامع البواقي ولا يحنث) .(10/297)
قال ابن الصباغ: وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا؛ لأن وطء الميتة قد تعذر:
فمن أصحابنا من قال: إنما تعذر؛ لأن وطأها لا يحصل به الحنث؛ لأنها خرجت بالموت من أن يتعلق بوطئها حق من حقوق الآدميين، ولهذا لا يجب به مهر.
ومنهم من قال: إنما تعذر؛ لأنها إذا دفنت.. فلا سبيل إلى وطئها بحال؛ لأنها تبلى وتتقطع أوصالها. وأما قبل الدفن.. فلم يبطل حكم الإيلاء؛ لأن اسم الوطء يقع عليه، ويجب به الغسل، فكذلك الكفارة.
وهذا يدل على أن الأصح لا يصير موليا منهن في الحال؛ لأنه لو كان موليا منهن.. لما بطل بموت واحدة منهن، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين.
[فرع: قوله لزوجاته الأربع لا وطئت واحدة منكن وأراد كلهن أو صرح به]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: أردتهن كلهن، صار موليا من كل واحدة منهن في الحال؛ لأن تقديره لا وطئتكن ولا واحدة منكن، ولا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بضرر يلحقه، فكان موليا منهن في الحال.
إذا ثبت هذا: فإنه يتربص بهن أربعة أشهر، فأيتهن طالبته.. وقف لها، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيات. فإن طالبته الثانية فطلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيتين. فإن طلق الثالثة.. لم يسقط حق الرابعة.
فإن لم يطلق، ولكن لما طالبته الأولى فوطئها.. فقد أوفاها حقها، وسقط حكم الإيلاء فيها وفي الباقيات. وكذلك إذا طلق الأولى ووطئ الثانية.. سقط حكم الإيلاء في الباقيات.
والفرق بين الطلاق والوطء: أنه إذا طلق بعضهن.. لم يحنث في يمينه، فكان الإيلاء باقيا في الباقيات. وإذا وطئ واحدة منهن.. فقد حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، واليمين إذا حنث فيها.. سقطت؛ لأنها يمين واحدة، فهو كما لو قال: والله لا كلمت واحدة منكن، ثم كلم واحدة منهن.. فإنه يحنث، ويسقط حكم اليمين، وانحلت.(10/298)
وإن قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن.. فإنه يكون موليا من كل واحدة منهن؛ لأنه صرح بذلك، ويتربص لهن أربعة أشهر، ويوقف لكل واحدة منهن. فإن طلق بعضهن.. لم يسقط الإيلاء من الباقيات. وإن وطئ بعضهن.. فقد أوفى الموطوءة حقها، وهل يسقط الإيلاء في الباقيات؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط؛ لأنه منع نفسه من وطء كل واحدة بالحلف، فإذا وطئ بعضهن.. لم يسقط الإيلاء في الباقيات، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين.
والثاني - حكاه ابن الصباغ واختاره - أنه يسقط؛ لأنه حلف يمينا واحدة. فإذا وطئ واحدة منهن.. حنث في يمينه، وانحلت في الباقيات كالتي قبلها.
[فرع: حلف والله لا وطئت واحدة منكن]
] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: لم أنو شيئا.. كان موليا منهن كلهن؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ كل واحدة منهن على الانفراد، وقد مضى بيانها.
وإن قال: أردت واحدة منهن بعينها.. قبل منه في الحكم.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يقبل منه في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر.
والأول أصح، وقد نص عليه الشيخ أبو حامد في " التعليق "؛ لأن قوله: (واحدة منكن) يحتمل واحدة بعينها، ويحتمل جميعهن، ويحتمل واحدة لا بعينها، وهو أعلم بما أراد من ذلك.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع إليه في بيان عين المولي منها. فإذا عين واحدة منهن.. كان موليا منها، وكان ابتداء المدة من حين اليمين.
فإن صدقته الباقيات.. فلا كلام. وإن قالت كل واحدة من الباقيات: بل أنا التي أردت الإيلاء منها.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن حلف لها.. فلا(10/299)
كلام، وإن رد عليها اليمين فحلفت.. ثبت فيها حكم الإيلاء لنكوله ويمينها، وثبت بالأولى بإقراره.
وإن قال: أردت به واحدة منهن لا بعينها.. قبل منه؛ لأن ما قاله محتمل. فإن صدقته الباقيات على أنه أراد ذلك.. فله أن يعين الإيلاء ممن شاء منهن، فإذا عينه في واحدة.. فلا مطالبة للباقيات عليه ولا يمين عليه؛ لأنه اختيار شهوة. وهل يكون ابتداء مدة الإيلاء من حين اليمين، أو من حين التعيين؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا طلق واحدة لا بعينها ثم عينها: فمتى يقع عليها الطلاق؟
وإن قلن الباقيات أو بعضهن: أردت واحدة بعينها، أو إياي أردت بذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه أراد ذلك، وهو أعلم بما أراد.
[مسألة: حلف لواحدة أنه لا يجامعها وقال للثانية أشركتك معها]
] : وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال لحفصة: والله لا وطئتك، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. لم يصر موليا من عمرة؛ لأن اليمين بالله إنما تنعقد باسم الله وصفته، ولا تنعقد بالكناية مع النية.
فإن قال لحفصة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت أني إن وطئت عمرة كان ذلك مع وطء حفصة شرطا في طلاق حفصة.. كان ذلك لغوا؛ لأن طلاق حفصة قد صار معلقا بوطئها وحدها، فلا يفيد ضم وطء عمرة، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق.. فإنه لا يفيد قوله: (وكلمت زيدا) حكما، بل إذا دخلت الدار.. طلقت، ولا يصير موليا من عمرة؛ لأنه لم يول منها.
وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة وحدها طلقت حفصة.. كان موليا من عمرة؛ لأنه علق طلاق حفصة بوطء عمرة.. فتعلق به، كما لو قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق، وإن وطئت ضرتك فأنت طالق.(10/300)
وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة فهي طالق أيضا.. صار موليا من عمرة أيضا؛ لأن الطلاق يقع بالكناية، وهذا كناية في الطلاق، فوقع الإيلاء به.
[مسألة: لا مطالبة بالفيئة إلا بعد أربعة أشهر عندنا]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا سبيل على المولي لامرأته حتى تمضي أربعة أشهر) .
وجملة ذلك: أنه إذا آلى إيلاء شرعيا، وهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر.. فإنه يتربص أربعة أشهر، ولا مطالبة للزوجة عليه في مدة التربص بفيئة ولا طلاق إلى أن تنقضي. وبه قال عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وأكثر الصحابة. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق.(10/301)
وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (مدة التربص محل للمطالبة بالفيئة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] .
فموضع الدليل من الآية: أن الله جعل مدة التربص حقا للزوج، وإذا كانت حقا له.. فلا يجوز أن تكون محلا لوجوب الحق عليه، كالأجل في الدين.
والدلالة الثانية منها: أن الله تعالى ذكر مدة التربص في الإيلاء، ثم عقب مدة التربص بذكر الفيئة - بالفاء - فقال: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] والفاء للتعقيب، فعلم أن محل المطالبة بالفيئة بعد مدة التربص.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون المولي حرا أو عبدا، ولا فرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة؛ فإن مدة التربص في الجميع أربعة أشهر.
وقال أبو حنيفة: (الاعتبار بالمرأة، فإن كانت حرة.. فمدة التربص أربعة أشهر، وإن كانت أمة.. فشهران) .
وقال مالك: (الاعتبار بالزوج، فإن كان حرا.. تربص أربعة أشهر، وإن كان عبدا.. تربص شهرين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فجعل الله للمولي: أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين الحر والعبد، والحرة والأمة. ولأنها مدة ضربت للوطء.. فاستوى فيها الجميع، كمدة العنة.(10/302)
[فرع: الامتناع من الجماع من غير يمين]
] : وإن امتنع الرجل من وطء امرأته من غير يمين.. لم تضرب له مدة التربص. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أحمد: (إذا قصد بامتناعه الإضرار بها.. ضربت له المدة) .
دليلنا: أنه لم يحلف على ترك وطئها.. فلم يكن موليا، كما لو لم يقصد الإضرار بها بالامتناع.
[فرع: مدة التربص لا تفتقر إلى حكم حاكم]
] : ولا يفتقر ضرب مدة التربص إلى الحاكم؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم يفتقر ضربها إلى الحاكم، كمدة العدة. ويكون ابتداؤها من حين اليمين؛ لأن ذلك أول وقت تقتضيه، فهو كالأجل في الثمن.
[فرع: ضرب المدة ووجود عذر يمنع الوطء]
] : وإن آلى منها وهناك عذر يمنع الوطء.. نظرت: فإن كان العذر من جهتها؛ بأن كانت صغيرة لا يمكن جماعها، أو مريضة مضناة من المرض، أو ناشزة، أو مجنونة، أو محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة عن واجب، أو معتكفة عن واجب، أو محبوسة في موضع لا يمكنه الوصول إليها.. فإن المدة لا تحسب عليه ما دامت هذه الأعذار؛ لأنه لا يتمكن من وطئها لو أراده مع ذلك.
وإن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء مدة التربص.. قطعها؛ لأنه إذا منع ابتداءها.. منع استدامتها. فإذا زال ذلك.. استؤنفت مدة التربص، ولم يبن على ما مضى منها قبل العذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، وذلك يقتضي تواليها، فإذا انقطعت.. وجب استئنافها، كمدة الشهرين في صوم التتابع. هذا نقل أصحابنا البغداديين.(10/303)
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب استئناف مدة التربص، أو يجوز البناء على ما مضى قبل العذر؟ فيه وجهان.
وإن آلى منها وهي حائض.. احتسبت المدة عليه. وكذلك إذا طرأ الحيض في أثناء مدة التربص.. لم يقطعها؛ لأن الحيض في النساء جبلة وعادة لا تخلو منه أربعة أشهر في الغالب.
فلو قلنا: إنه يمنع الاحتساب.. لأدى ذلك إلى اتصال الضرر بها إلى الإياس من الحيض، فلم يقطع؛ ولهذا لم يقطع؛ في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن آلى منها وهي نفساء، أو طرأ النفاس في أثناء المدة.. فهل يمنع الاحتساب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يمنع من الاحتساب؛ لأنه كالحيض في سائر الأحكام، فكذلك في هذا.
والثاني: يمنع من الاحتساب؛ لأنه نادر، بخلاف الحيض.
وإن آلى وبه عذر يمنعه من الجماع؛ بأن كان مريضا، أو محبوسا في موضع لا تصل إليه، أو محرما، أو صائما عن واجب، أو معتكفا عن فرض.. حسبت مدة التربص عليه مع وجود هذه الأعذار؛ لأنها ممكنة من نفسها في نكاح تام، وإنما المنع من جهته.. فلم يمنع من احتساب المدة عليه، كما إذا مكنت من نفسها وهناك عذر من جهته يمنعه من الجماع.. فإن النفقة تجب عليه.
وإن طرأ عليه شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة.. لم يقطعها؛ لأنها لما لم تمنع ابتداء المدة.. لم تمنع استدامتها.
وإن ظاهر منها وجبت عليه الكفارة ثم آلى منها، أو آلى منها ثم ظاهر منها في مدة التربص ووجبت عليه الكفارة.. فإن مدة التربص محسوبة عليه؛ لأن المنع من جهته.(10/304)
[فرع: إدخال الإيلاء على الطلاق وعكسه]
] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا فآلى منها قبل انقضاء العدة.. فقد ذكرنا: أنه يصح الإيلاء منها؛ لأنها في معنى الزوجات، ولكن لا يحتسب عليه المدة ما لم يراجعها.
وكذلك: إذا آلى منها وهي زوجته، ثم طلقها في مدة التربص طلاقا رجعيا.. انقضت مدة التربص بذلك؛ لأن ملكه غير تام عليها؛ لأنها جارية إلى بينونة.
فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت لها مدة التربص. وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم تستأنف لها مدة التربص، ولكنه إن وطئها.. حنث في يمينه.
وإن راجعها بعد انقضاء مدة الإيلاء.. فقد بر في يمينه.
وإن بانت، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء ويستأنف لها ضرب مدة التربص؟
على قوله القديم: يعود قولا واحدا.
وعلى الجديد: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى بيان دليله في الطلاق.
وإن طلق امرأته في أثناء مدة التربص ثلاثا.. انقطعت مدة التربص. فإن تزوجها بعد زوج وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
على القول الجديد: لا يعود قولا واحدا.
وعلى القول القديم: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق.
[فرع: إدخال الردة أو الخلع على الإيلاء]
] : وإن آلى من امرأته ثم ارتدت، أو ارتد، أو ارتدا في مدة التربص.. انقطعت مدة التربص؛ لأن المدة إنما ضربت لتطالبه بالفيئة أو الطلاق، والفيئة لا تمكن مع الردة.
فإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فهما على النكاح، وتستأنف مدة(10/305)
التربص من حين الإسلام إن كانت مدة الإيلاء باقية؛ لأنها عادت إلى الزوجية التامة.
وإن لم يسلم المرتد منهما حتى انقضت العدة.. بانت بالفسخ. فإن أسلم المرتد منهما، ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
من أصحابنا من قال: حكمها حكم من بانت بالثلاث ثم تزوجها؛ لأن بالفسخ تنقطع علائق النكاح. فعلى القول الجديد: لا يعود حكم الإيلاء قولا واحدا. وعلى القول القديم، هل يعود؟ على قولين:
ومنهم من قال: حكمهما حكم من بانت بها دون الثلاث لأن له أن يتزوجها قبل زوج كما لو بانت بدون الثلاث، فيعود الإيلاء على القول القديم قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان.
وإن آلى من امرأته ثم خالعها في مدة التربص ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية، فإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فحكمه حكم النكاح إذا انفسخ بالردة، وقد مضى. وإن قلنا: إن الخلع طلاق، فإن خالعها بدون الثلاث.. عاد حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين.
وإن خالعها بالثلاث.. لم يعد حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا.
وهل يعود على القول القديم؟ فيه قولان.
[فرع: حكم إيلاء الأمة إذا اشتراها زوجها أو إيلاء العبد إذا اشترته زوجته]
] : وإن تزوج رجل أمة غيره فآلى منها، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح بينهما. فإن باعها من آخر، أو وهبها منه، ثم تزوجها ثانيا ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ قال الشافعي: (لا يعود) .
وإن تزوج العبد حرة فآلى منها، ثم اشترته.. انفسخ النكاح. فإن أعتقته ثم تزوج بها، أو باعته من آخر، أو وهبته منه ثم تزوج بها ومدة الإيلاء باقية.. قال الشافعي: (لم يعد حكم الإيلاء) .
واختلف أصحابنا فيه:(10/306)
فقال أبو إسحاق: البينونة بالفسخ كالبينونة بالثلاث؛ لأنه بالفسخ تنقطع علائق النكاح، كما تنقطع بالثلاث.
فعلى هذا: لا يعود حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا، وعليه تأويل النص. وهل يعود على القديم؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: البينونة بالفسخ كالبينونة بدون الثلاث، وهو الأشبه؛ لأن للزوج أن يتزوجها قبل زوج، كما له أن يتزوجها قبل زوج إذا بانت بدون الثلاث.
فعلى هذا: يعود حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان.
[مسألة: حصول الجماع في مدة التربص]
] : وإن جامعها في مدة التربص.. فقد حنث وأوفاها حقها؛ لأنه يطالب بذلك بعد انقضاء مدة التربص، فإذا فعله قبل انقضاء المدة.. وقع موقعه، كمن دفع الدين المؤجل قبل حلول الأجل. وإن وطئها وهي نائمة.. حنث في يمينه وسقط الإيلاء؛ لأن الضرر زال عنها بذلك. وإن استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . وهل يسقط بذلك حقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنها وصلت إلى حقها.
والثاني: لا يسقط؛ لأن حقها في فعله لا في فعلها.
[فرع: إدخال الإيلاء على الجنون وعكسه]
] : فإن آلى الرجل من امرأة في حال جنونها، أو آلى منها وهي عاقلة ثم جنت في مدة التربص، فإن نشزت وخرجت من تحت يده.. لم تحسب المدة. وإن كانت في(10/307)
قبضته.. حسبت المدة عليه؛ لأنها ممكنة من نفسها في زوجية تامة. فإن وطئها زوجها.. فقد حنث في يمينه، وقد وفاها حقها؛ لأن الضرر زال عنها بذلك.
وإن آلى منها وهو عاقل، ثم جن في مدة التربص.. احتسبت المدة؛ لأن المنع من جهته، فإن وطئها في حال جنونه.. لم يحنث في يمينه ولم تلزمه الكفارة؛ لارتفاع القلم عنه. وهل يخرج من حكم الإيلاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخرج من حكم الإيلاء، وهو المنصوص؛ لأن الوطء حق عليه، فإذا أوفاها إياه.. صح وإن كان مجنونا، كما لو كانت عنده وديعة فردها في حال جنونه.
والثاني: لا يخرج من حكم الإيلاء؛ لأنه إنما يخرج من حكم الإيلاء بوطء يحنث فيه، وهذا لم يحنث فيه.
فإذا قلنا: يخرج من الإيلاء.. فإنه يكون حالفا، ولا يكون موليا، فإن أصابها في حال إفاقته.. حنث في يمينه، ولا تتوجه عليه مطالبة، ولا تضرب له مدة التربص.
وإذا قلنا: لا يخرج من الإيلاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يطالب بالفيئة أو الطلاق إذا أفاق، ولا تضرب له المدة؛ لأن اليمين قائمة.
والثاني: تضرب له المدة ثانيا؛ لأن الأولى قد انقضت وأوفاها حقها من الوطء فيها، فاحتاج إلى مدة ثانية. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وطئها في حال جنونه.. فهل يحنث في يمينه، وتجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، كالمحرم إذا قتل الصيد في حال جنونه.
فإذا قلنا: لا كفارة عليه، فأفاق ووطئها.. فهل تلزمه الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تلزمه، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن فعله في حال الجنون كـ: لا فعل.
والثاني: لا تلزمه؛ لأن اليمين قد انحلت بالوطء الأول.
فإذا قلنا: تلزمه الكفارة إذا وطئ في حال الإفاقة.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ على وجهين.(10/308)
[فرع: الخروج من الإيلاء بوطء محظور لصيام ونحوه]
] : وإن جامعها وهو محرم، أو صائم صوما واجبا، أو معتكف اعتكافا واجبا، أو كانت محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، أو حائضا.. فقد أوفاها حقها، وخرج من حكم الإيلاء؛ لأن هذا الوطء وإن كان محظورا.. فإنه يتعلق به جميع أحكام الوطء المباح؛ بدليل: أنه يتعلق به الإحصان والإباحة للزوج الأول، ويثبت النسب، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: لا تبين بانقضاء مدة التربص عندنا]
] : وإذا انقضت مدة التربص قبل أن يطلقها أو يطأها.. فإنها لا تبين بانقضاء المدة، ولكن تثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق. وبه قال من الصحابة: عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة، ومن الفقهاء: مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (تبين منه بانقضاء المدة بطلقة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس.
وقال سعيد بن جبير والزهري: تطلق بانقضاء المدة طلقة رجعية.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] إلى قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] [البقرة: 226 - 227] ، فأضاف الطلاق إلى الأزواج وجعله فعلا لهم، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة؛ لأن الله تعالى وصف نفسه عند عزيمة(10/309)
الطلاق بأنه: سَمِيعٌ عَلِيمٌ فاقتضى ذلك عزيمة طلاق يكون مسموعا، والمسموع هو القول، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة.
إذا ثبت هذا، وانقضت المدة، وليس هناك عذر يمنع الوطء.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لما روى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر نفسا من الصحابة عن المولي، فقالوا: (يتربص أربعة أشهر، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وفي بعض الأخبار: (يتربص أربعة أشهر، ولا شيء عليه فيها، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وروي عن سليمان بن يسار: أنه قال: أدركت بضعة عشر نفسا من الصحابة، كلهم يوقف المولي أربعة أشهر.
و (الفيئة) هاهنا: هو الجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الفيئة) : هو الرجوع عما فعل، والذي فعله هو أنه حلف أن لا يجامعها، فالفيئة هو الرجوع إلى جماعها.
[فرع: المطالبة في الإيلاء للزوجة]
ولو أمة أو غيرها] : وإن كانت الزوجة أمة، فآلى منها زوجها.. فلها المطالبة بعد انقضاء مدة التربص بالفيئة أو الطلاق، وليس لسيدها المطالبة بذلك؛ لأن الحق لها في ذلك دون السيد.
فإن قيل: للسيد حق في الفيئة؛ وهو: أن تحبل منه فيملك الولد.
قلنا: القدر الذي يطالب به الزوج من الفيئة هو: تغييب الحشفة في الفرج لا غير،(10/310)
وذلك لا تحبل منه المرأة، فلم يكن للسيد فيه منفعة.
وإن كانت الزوجة معتوهة، أو مجنونة.. لم يكن لوليها المطالبة بذلك؛ لأن المقصود بالفيئة حصول اللذة، والولي لا يحصل له ذلك، وإنما يحصل لها، فلم يقم مقامها في المطالبة به.
والمستحب: أن يقال للزوج: اتق الله فيها، فإما أن تفيء إليها أو تطلقها.
فإن لم تطالبه المرأة بذلك، أو عفت عن مطالبته.. كان لها ذلك؛ لأن الحق لها، فجاز لها ترك المطالبة به والعفو عنه.
فإن بدا لها، ثم طالبته بعد الترك أو بعد العفو.. كان لها ذلك؛ لأن الضرر يتجدد عليها بذلك في كل وقت، فجاز لها المطالبة، كما لو رضيت بإعسار الزوج بالنفقة، ثم أرادت الفسخ بعد ذلك.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا عفت عن المطالبة.. لم يكن لها المطالبة إلا بمدة ثانية، كما لو طلقها سقطت مطالبتها، فإن راجعها.. لم تطالب إلا بمدة ثانية؟
قلنا: الفرق بينهما: أنه إذا طلقها.. فقد أوفاها حقها في هذه المدة، فإذا راجعها.. استأنفت المدة؛ لأنه لم يبق لها حق للمدة التي مضت. وليس كذلك إذا عفت؛ فإنها لم تستوف حقها، وإنما تركت المطالبة، فكان لها المطالبة، كما لو كان له دين وقد حل، فقال: قد تركت المطالبة به.. فإن له أن يطالب به من غير أجل ثان.
فإن قيل: أليس امرأة العنين إذا رضيت به.. لم يكن لها أن تعود فتطالب؟
قلنا: الفرق بينهما: أن العنة عيب في الزوج، وإذا رضيت به.. سقط حقها، كما لو اشترى معيبا فرضي به. وهاهنا ليس الإيلاء عيبا، وإنما هو للضرر الذي يدخل عليها، وهذا الضرر يتجدد عليها كل يوم، فكان لها المطالبة به.
وإذا طولب بالفيئة أو الطلاق بعد انقضاء مدة التربص، فسأل أن يمهل ليفيء.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يمهل ثلاثة أيام؛ لأنه لا خلاف أنه لا يلزمه الوطء على الفور، بل(10/311)
لو سأل الإمهال إلى أن يأكل أو يصلي.. كان له ذلك. ولا خلاف أنه لا يمهل الشهر والشهرين، فلا بد أن يكون بينهما فاصل يقدر بثلاثة أيام؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة.
والثاني: لا يجب إمهاله أكثر من القدر الذي يتمكن معه من الجماع؛ وهو: إن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ناعسا.. فحتى ينام، وإن كان شبعان.. فحتى يخف.
وهو الأصح؛ لأن الله جعل له أن يتربص أربعة أشهر، فلو قلنا: يمهل ثلاثا.. لزدنا على ما جعل له، فلم يجب إمهاله أكثر من القدر الذي تدعو الحاجة إليه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. ولأن بانقضاء المدة.. حلت لها المطالبة وتعجل حقها، فلا يجوز تأخيره، كما لو كان لرجل دين مؤجل فحل.. لم يجز تأخيره عنه، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: الفيئة وما يترتب عليها من الجماع والكفارة وإيلاء العتق والنذر]
] : وإن أراد أن يفيء إليها.. فأدنى ذلك أن يغيب الحشفة في قبلها؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، ولا تتعلق بما دونه.
وإن كانت بكرا.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حتى تزول بكارتها) ، وليس ذهاب البكارة شرطا، وإنما الشرط التقاء الختانين، والتقاؤهما لا يحصل إلا بإذهاب البكارة.
وإن وطئها فيما دون الفرج، أو وطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك.
إذا ثبت هذا، وكان إيلاؤه بالله تعالى، فوطئها في قبلها في مدة التربص أو بعدها.. فقد حنث في يمينه، وهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان:
قال في القديم: (لا تجب عليه) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] . فذكر الله تعالى التربص والفيئة ولم(10/312)
يذكر الكفارة، فلو كانت واجبة.. لذكرها. ولأن الله تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فوصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة، وهذا يقتضي أنه إذا أفاء.. فلا تبعة عليه من كفارة ولا غيرها.
وقال في الجديد: (تجب عليه الكفارة) . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» ، وهذا عام في المولي وغيره.(10/313)
وقوله الأول: (إنه لم يذكر الكفارة في آية الإيلاء) فقد ذكرها في هذه الآية.
وقوله: (إن الله وصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة) فإن ذلك إنما يتوجه إلى الإثم، فأما إلى الكفارة: فلا يرجع إليها؛ بدليل: أنه لا يقال: غفر الله الكفارة، وإنما يقال: غفر الله الإثم. كمن حلف أن لا يكلم أباه فتاب وكلمه.. فإن الله تعالى يغفر له الإثم بالحنث باليمين، ولا تسقط عنه الكفارة.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان فيما إذا جامع بعد مدة التربص؛ لأن الفيئة عليه لذلك الوقت واجبة، فأما إذا جامع في مدة التربص: فإن الكفارة تجب عليه قولا واحدا؛ لأن الفيئة لا تجب عليه.
ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه حانث في يمينه في الحالين.
وإن كان الإيلاء بعتق منجز؛ بأن قال: إن وطئتك فعبدي حر فوطئها.. عتق العبد.
وإن كان بنذر؛ بأن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو أصلي، أو أصوم.. فهو نذر لجاج وغضب، وقد مضى بيانه في النذر.(10/314)
[فرع: علق وطئها على طلاق الأخرى]
وهل يمنع من الفيئة لو علقه على طلاقها ثلاثا؟] :
وإن قال لها: إن وطئتك فامرأتي الأخرى طالق، فوطئ المولي منها.. طلقت الأخرى - قال - لأنه علق طلاقها بصفة، وقد وجدت الصفة، فوقع الطلاق.
وإن قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا، وأراد أن يفيء إليها.. فهل يمنع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن خيران: يمنع من الفيئة؛ لأن بإيلاج الحشفة في الفرج يقع عليها الطلاق الثلاثة ويتعقبه التحريم؛ لأنها تصير أجنبية منه، وكل إيلاج يعقبه التحريم.. منع منه، كما لو أراد أن يولج من امرأته قبل الفجر في شهر رمضان، وعلم أن الفجر يطلع قبل أن ينزع.
فعلى هذا: يتعين عليه الطلاق، فنوقع عليه طلقة رجعية؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كمن تعذر عليه العتق والكسوة في كفارة اليمين ووجد الإطعام.. فإنه يتعين عليه.
وقال أكثر أصحابنا: لا يمنع من الفيئة، وهو المذهب؛ لأن الإيلاج يصادف الزوجية، وينزع في الحال فلا يتعقبه التحريم.
وأما الإخراج: فإنه ترك للجماع، فلا إثم عليه فيه وإن لم يصادف الزوجية، كما لو استأجر دارا مدة.. فله أن يسكنها تلك المدة بكاملها، فإذا خرج منها عقيب انقضاء المدة.. فإنه لا يكون غاصبا لها وقت الخروج.
وأما ما ذكره ابن خيران في الصوم.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يمنع أيضا. فلا فرق بينهما على هذا.
وقال بعضهم: يمنع. والفرق بينهما على هذا: أنه لا يقطع أن ذلك الوقت من الليل؛ لأنه إنما يعلم ذلك بغلبة الظن، ويجوز أن يكون ذلك الوقت من النهار،(10/315)
فلهذا منع من الوطء. وهاهنا يتحقق أن وطأه يصادف زوجية، فلم يمنع منه. فوزانه من الصوم: أن يعلم أن ذلك الوقت من الليل بإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه، فلا يمنع الرجل فيه من الإيلاج.
فإذا قلنا بالمذهب: إنه لا يمنع، فإنه إذا غيب الحشفة في الفرج.. طلقت ثلاثا لوجود الشرط في طلاقها. ثم ينظر فيه:
فإن نزعه في الحال.. فلا شيء عليه لها - قال - كما إذا خرج المستأجر من الدار المستأجرة عقيب انقضاء مدة الإجارة.. فلا أجرة عليه لمدة خروجه.
فإن زاد على تغييب الحشفة، أو غيب الحشفة ولم ينزع في الحال بل أقر ذكره في فرجها.. لم يجب عليه الحد وجها واحدا؛ لأنه إيلاج واحد، فإذا لم يجب الحد في أوله.. لم يجب في آخره، ولا في استدامته. وهل يجب عليه بذلك مهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه بذلك مهر المثل؛ لأن الاستدامة كابتداء الإيلاج في الكفارة في الصوم، فكذلك في المهر.
والثاني: لا يجب عليه المهر؛ لأن هذه الاستدامة تابعة للإيلاج، فإذا لم يجب مهر المثل من الإيلاج.. لم يجب في الاستدامة.
وأما إن نزع منها في الحال، ثم أولجه ثانيا.. فإن الإيلاج الثاني في غير زوجية، فلا يخلو: إما أن يكونا جاهلين بالتحريم أو عالمين، أو أحدهما جاهلا والآخر عالما.
فإن كانا جاهلين بالتحريم؛ بأن جهلا أن الطلاق يقع بالإيلاج.. فلا حد عليهما للشبهة، ويجب لها عليه مهر مثلها؛ لأنه وطء شبهة، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب منه.
وإن كانا عالمين بالتحريم.. فهل يكونا زانيين؟ فيه وجهان:(10/316)
أحدهما: أنهما زانيان؛ لأنه إيلاج تام محرم من غير شبهة، فهو كما لو طلقها ثلاثا، ثم وطئها.
فعلى هذا: يجب عليهما الحد، ولا يجب لها المهر.
والثاني: لا يكونان زانيين؛ لأن قولنا: (إن الطلاق الثلاث يقع بتغييب الحشفة) إنما قلنا ذلك من طريق الاستدلال وغلبة الظن، وإلا فالظاهر من قوله: (إن وطئتك) أنه أراد الوطء التام، فصار ذلك شبهة.
فعلى هذا: لا يجب الحد عليهما، ويجب لها عليه مهر المثل.
وإن كان أحدهما جاهلا والآخر عالما، فإن كانت الزوجة جاهلة بالتحريم، والزوج عالما بالتحريم.. لم يجب عليها الحد، ويجب لها المهر. وهل يجب الحد على الزوج، ويلحقه النسب، ويجب عليها العدة؟ على الوجهين.
وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم، وهي عالمة بالتحريم.. فلا حد على الزوج، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب. وهل يجب على المرأة الحد، ويجب لها المهر؟ على الوجهين.
[مسألة: امتناعه عن الفيئة والطلاق ونيابة الحاكم وماذا لو طلقت]
؟] : وإن لم يختر الزوج الفيئة وطلقها طلقة.. فقد أوفاها حقها. وإن طلقها اثنتين أو ثلاثا.. فقد تطوع بما زاد على واحدة.
وإن امتنع الزوج من الفيئة والطلاق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه في الفيئة؛ لأن النيابة لا تدخل فيها، وهل ينوب عنه في الطلاق؟ فيه قولان:
قال في القديم: (لا ينوب عنه في الطلاق، وإنما يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق) - وهي إحدى الروايتين عن أحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] [البقرة: 227] . فأضاف الطلاق إلى الأزواج، فدل على: أن الحاكم لا يطلق عليهم.(10/317)
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» ، والزوج هو الذي يأخذ بالساق دون الحاكم. ولأنه أحد ما يخرج به من الإيلاء، فلم يكن للحاكم فيه مدخل، كالفيئة.
وقال في الجديد: (يطلق عليه الحاكم) . وهو قول مالك، والرواية الأخرى عن أحمد، وهو الأصح؛ لأنه حق تدخله النيابة لمعين، فإذا امتنع المستحق عليه.. قام الحاكم مقامه، كقضاء الدين.
فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الفيئة.
وقولنا: (لمعين) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، وامتنع من اختيار أربع منهن.
إذا ثبت هذا: فإن الحاكم يطلق عليه طلقة. فإن طلق عليه أكثر من واحدة.. لم يقع أكثر من واحدة؛ لأنه إنما يقوم مقامه في الواجب عليه، والواجب عليه طلقة.
وإذا طلق الزوج بنفسه طلقة أو طلقتين، أو طلق عليه الحاكم.. فإن الطلاق يقع رجعيا. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو ثور: (يقع الطلاق بائنا؛ لأن هذه فرقة لإزالة الضرر، فإذا كانت رجعية.. ملك رجعتها، فلا يزول الضرر عنها، فوجب أن تقع بائنة، كفرقة العنة والإعسار بالنفقة) .
وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، ولم يفرق بين أن يكون الطلاق في الإيلاء أو غيره. ولأنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد.. فكان رجعيا، كالطلقة في غير الإيلاء. ويخالف فرقة العنة والإعسار؛ فإن تلك فسخ وهذا طلاق.(10/318)
وقوله: (إذا راجعها لم يزل الضرر عنها) غير صحيح؛ لأنه إذا راجعها.. ضربت له المدة ثانيا.
إذا ثبت هذا: فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت له مدة التربص أربعة أشهر، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق، على ما مضى.
وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فتزوجها، وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟
على القول القديم: يعود حكم الإيلاء قولا واحدا.
وعلى القول الجديد: فيه قولان.
[فرع: علق طلاق إحداهما على جماع الثانية]
] : فإن كان له امرأتان، فقال: إن وطئت إحداكما فالأخرى طالق، فإن قال ذلك على طريق التعليل، وأرادهما جميعا بذلك.. صار موليا من كل واحدة منهما. وإن أراد واحدة بعينها، أو واحدة منهما لا بعينها.. فقد صار حالفا بطلاق إحداهما، وموليا من الأخرى.
فإذا مضت أربعة أشهر.. قال له الحاكم: أنت مول من إحداهما وحالف بطلاق الأخرى، فبين ذلك. فإذا بين التي آلى منها.. كان لها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وبقيت الأخرى على النكاح. وإن فاء إليها.. طلقت الأخرى.
فإن امتنع من الفيئة إلى التي آلى عنها، أو من طلاقها.. فهل يطلقها الحاكم عليه، أو يضيق عليه حتى يطلقها؟ على القولين.
وإن امتنع من بيان المولي منها والمحلوف بطلاقها، وقلنا: إن الحاكم يطلق عليه(10/319)
المولي منها المعينة إذا امتنع من الفيئة أو الطلاق.. فقد قال ابن الحداد: إن الحاكم يقول له: طلقت عليك التي آليت منها، ثم أنت ممنوع من وطئها حتى تراجع التي طلقت عليك؛ لأن التي منع نفسه من وطئها بيمينه إحداهما بغير عينها دون الأخرى، إلا أنها ليست بمعينة، فهو كما لو قال: إحداكما طالق.
ومن أصحابنا من قال: يكون موليا منهما. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن المولي هو الذي يلزمه بوطء زوجته شيء، وهذا إذا وطئ أيتهما كان.. حنث في يمينه، ووقع الطلاق على الأخرى، فكان موليا منهما.
وقال القفال: لا يطلق عليه الحاكم؛ لأن المستحقة منهما غير متعينة، فهي كرجلين قدما إلى القاضي برجل، فقالا: لأحدنا على هذا كذا.. فإن دعواهما لا تسمع، فكان هذا مثله.
[فرع: تكرار الحلف في الإيلاء]
] : إذا كرر اليمين في الإيلاء، فإن كان ذلك في مدة واحدة؛ بأن قال لواحدة: والله لا وطئتك والله لا وطئتك.. فإن إطلاقه يقتضي التأبيد.
أو قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك خمسة أشهر، ثم جامعها في الخمسة الأشهر، فإن قال: أردت باليمين الثانية تأكيد الأولى، وقلنا: تجب عليه الكفارة.. وجبت عليه كفارة واحدة. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف.. فهل تجب عليه كفارة أو كفارتان.. فيه قولان:
أحدهما: تجب عليه كفارتان؛ لأنه حنث في يمينين، فوجب عليه كفارتان، كما لو حلف يمينين على فعلين.
والثاني: تجب عليه كفارة واحدة؛ لأن الحنث لا يتكرر.
وإن قال: لم أقصد التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان مأخوذان من القولين فيمن قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق ولم يرد التأكيد ولا الاستئناف.(10/320)
وإن كانت اليمينان على مدتين، فإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك سنة.. فقد ذكرنا: أن ابتداء السنة من حين اليمين على المذهب. فإن وطئها بعد الخمسة الأشهر.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة بكل حال؛ لأنه لم يحنث إلا في اليمين الثانية. وإن وطئها في الخمسة الأشهر، وإن قال: أردت باليمين الثانية التأكيد.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة. وإن قال: أردت بها الاستئناف.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: هي على قولين كالأولى.
ومنهم من قال: تجب عليه كفارتان قولا واحدا. وهو اختيار أبي علي الطبري؛ لأنهما يمينان مختلفان.
[مسألة: وجود عذر يمنع من الجماع بعد مضي مدة التربص]
] : وإن انقضت مدة التربص وهناك عذر يمنع الجماع.. نظرت: فإن كان لمعنى من جهتها؛ بأن انقضت المدة وحدث بها مرض لا يمكن الجماع معه، أو أحرمت بإذنه، أو بغير إذنه ولم يحللها، أو حبست بحق أو بغير حق، أو كانت صائمة صوما واجبا، أو معتكفة اعتكافا واجبا، أو حائضا، أو نفساء.. فليس لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه لا يمكنه وطؤها لو اختاره، فلم يكن لها المطالبة، كما لو أراد وطأها فمنعته.
فإن قيل: فهلا قلتم: إذا مرضت، أو حاضت، أو نفست.. لا تسقط مطالبتها؛ لأن هذه الأسباب وقعت عليها بغير اختيارها؟
قلنا: إذا كان المانع لمعنى من جهتها.. فلا فرق بين أن يقع باختيارها أو بغير اختيارها، كما تسقط مطالبة البائع بالثمن إذا تلف المبيع قبل القبض باختياره أو بغير اختياره.(10/321)
وإن جنت بعد انقضاء المدة، أو أغمي عليها.. فقد قلنا: إن الولي لا يطالب الزوج بشيء؛ لأن الحق لها في ذلك دونه.
وإن كان العذر من جهته.. نظرت: فإن كان مجنونا أو مغمى عليه.. فإنه لا يطالب؛ لأن المطالبة إيجاب تكليف، وليس هو من أهل التكليف. فإذا أفاق.. طولب من ساعته بالفيئة أو الطلاق.
وإن كان محبوسا بغير حق في موضع لا تصل إليه المرأة، أو كان مريضا مرضا لا يقدر معه على الجماع، أو يقدر معه على الجماع إلا أنه يخاف من الجماع الزيادة في العلة أو تباطؤ البرء، فإن اختار أن يطلقها وطلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن لم يختر أن يطلقها.. لزمه أن يفيء فيئة المعذور.
قال الشيخ أبو حامد: و (فيئة المعذور) : هو أن يقول: قد ندمت على ما فات، ولو قدرت على الفيئة.. لكنت أفيء.
وقال القاضي أبو الطيب: يقول: إذا قدرت.. وطئت.
قال ابن الصباغ: وهذا أحسن؛ لأن الفيئة: هو الرجوع، والرجوع هاهنا: أن يظهر رجوعه عن المقام على اليمين، وعزمه يحصل بذلك.
وقال أبو ثور: (لا يلزم المعذور أن يفيء باللسان؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك) .
وهذا خطأ؛ لأن الفيئة تجب عليه على حسب إمكانه، إما بالفعل إن كان قادرا. فإذا كان عاجزا.. قامت الفيئة باللسان مقام الفعل، كالرجل إذا ثبتت له الشفعة وكان حاضرا.. فإنه يطالب بها، وإن كان غائبا. فإنه يجب عليه أن يشهد على نفسه أنه مطالب بالشفعة.
إذا ثبت هذا: وفاء باللسان على ما ذكرناه.. سقطت عنه المطالبة في الحال.
فإذا زال عذره.. كلف الإصابة في الحال من غير أن تضرب له المدة، كما قلنا في الشفيع إذا أشهد على نفسه إذا كان غائبا، فإذا حضر.. أخذ بالشفعة، وإلا.. سقط حقه.(10/322)
فإن امتنع المعذور أن يفيء باللسان أو يطلق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه بالفيئة باللسان؛ لأنه لا يمكنه الوفاء من المولي بذلك، ولكن هل يطلق عليه؟ على القولين.
[فرع: المطالبة حال سفره]
] : إذا انقضت المدة وهو غائب عن البلد التي هي بها.. حلت لها المطالبة.
وإن وكلت رجلا يطالبه.. جاز؛ لأنه يطالبه بالفيئة أو الطلاق، والنيابة تصح في المطالبة.
فإذا طالبه وكيلها، فإن أمكنه المسير إليها.. قال له الوكيل: إما أن تسير معي لتفيء، أو تطلق، فإن اختار الفيئة.. قال ابن الصباغ: فاء فيئة معذور؛ وهو أن يقول: إن وصلت إليها وطئتها.. فيلزمه أن يسير على حسب الإمكان. وإن امتنع من المسير إليها.. تعين عليه الطلاق. فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وإن لم يمكنه المسير.. قيل له: أنت بالخيار: بين أن تطلق أو تفيء فيئة المعذور، فإن فاء فيئة معذور.. سقطت عنه المطالبة في هذه الحال. فإذا أمكنه السير.. سار، وإن لم يفعل.. تعين عليه الطلاق، فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين.
قال ابن الصباغ: وإن أراد أن يستوطن الموضع الذي هو فيه.. كان له أن يستدعيها إلى الموضع الذي هو فيه، فإذا وصلت إليه.. فاء إليها.
[مسألة: انقضاء المدة حالة الإحرام في الإيلاء]
مسألة: [انقضاء المدة حالة الإحرام] : وإن انقضت المدة وهو محرم.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه أدخل نفسه في الإحرام، فلا يمنع ذلك من مطالبته. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن أراد أن يطأها.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا، فإن فعلت.. أثمت، ويفسد نسكك، ويلزمك ما يلزم المفسد. فإن اختار ذلك.. فهل لها أن تمتنع من ذلك؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب:(10/323)
أحدهما: لها أن تمتنع من ذلك؛ لأن هذا الوطء محرم، فلها أن تمتنع منه كما لو كان لرجل على رجل دين، فدفع إليه مالا مغصوبا.. فله أن يمتنع من قبضه.
والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن حقها في الوطء، وإنما حرم عليه لأجل إحرامه؛ ولهذا إذا وطئها.. سقط حقها. بخلاف المال المغصوب؛ فإنه لو قبضه.. لم يستوف حقه.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن موافقتها له على المعصية لا تجوز.
فإذا قلنا بهذا: تعين عليه الطلاق.
وإذا قلنا بالثاني، ولم تمكنه من نفسها.. سقط حقها.
وإن لم يطأ ولم يطلق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يقنع منه بفيئة معذور؛ لأنه غير قادر على الوطء، فهو كالمريض والمحبوس.
والثاني: لا يقنع منه بذلك. ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره، وهو ظاهر النص؛ لأنه ممتنع من الوطء بسبب من جهته.
[مسألة: مضي زمن التربص حال ظهاره]
] : وإن انقضت مدة التربص وهو مظاهر منها، ولم يكفر.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق.
فإن كان موسرا بالكفارة، وسأل أن يمهل بالفيئة إلى أن يشتري رقبة ويعتقها.. أمهل اليوم واليومين والثلاثة؛ لأنه قد لا يمكنه شراء الرقبة إلا بذلك.
وإن كان معسرا، وسأل أن يمهل إلى الصوم.. لم يلزمها ذلك؛ لأن مدة الصوم تطول.(10/324)