ويجوز أن يستأجر جارحة الصيد، ولا يصح حتى يعلم الجارحة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأن الجوارح تختلف، ولا بد من ذكر جنس الصيد الذي ترسل عليه الجارحة؛ لأن لكل صيد تأثيرًا في إتعاب الجارحة.
[مسألة: الاستئجار لرعي الأغنام]
وإن استأجره ليرعى له غنمًا معينة.. تعين العقد بها، فإن تلفت قبل انقضاء مدة الإجارة.. قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: تنفسخ الإجارة، ولا يكون للمستأجر إبدالها، وإن تلف بعضها.. انفسخ خفيه العقد، وإن توالدت.. لم يلزمه أن يرعى أولادها.
قال ابن الصباغ: وعندي أنه إذا عين الغنم.. جاز له إبدالها، كما إذا استأجر دابة ليركبها.. جاز له أن يركبها مثله.
وإن استأجره ليرعى له الغنم مدة وأطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يصح؛ لأن لكل قدر من الغنم تأثيرًا في إتعاب الراعي.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يصح، ويرعى له ما جرت العادة أن يرعى الواحد من رعاة الغنم، فإذا تلف شيء منها.. أبدله، وإذا توالدت.. رعى أولادها؛ لأن العادة جرت بأن الأولاد تتبع الأمهات في الرعي.
[فرع: استئجار كحال للعين]
وإن استأجر كحالا ليكحل له عينه.. جاز له؛ لأنه عمل جائز يمكن تسليمه، ويقدره بالمدة، فإن قدره بالبرء.. لم يجز؛ لأنه لا يعلم متى يبرأ.
ولا يجب الكحل على الكحال؛ لأن الأعيان لا تستحق بالإجارة، فإن شرط الكحل على الكحال.. ففيه وجهان:(7/316)
أحدهما: يجوز؛ لأن العادة جرت به عليه، ولأنه يشق على العليل تحصيل الدواء، فجوز ذلك، كالرضاع.
والثاني: أن الإجارة باطلة، وهو الأصح؛ لأن ذلك في معنى بيعتين في بيعة فإن اشترى منه الكحل، واستأجره على الكحل في عقد واحد.. فقد جمع بين بيع وإجارة، وفي ذلك قولان، مضى ذكرهما.
وإن استأجره ليصبغ له ثوبًا بصبغ من عند الصباغ، أو ليكتب له كتابًا بحبر من الكاتب، فإن قلنا: يجوز اشترط الكحل على الكحال.. صح هاهنا أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الكحل.
والثاني: يصح؛ لأنه بيع للصبغ والحبر والعمل، والكتاب فيه تسليم الصبغ والحبر؛ لأنه مقدر بذلك.
[مسألة: استئجار امرأة للرضاع والحضانة]
] : وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي.. صحت الإجارة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في المطلقات: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . والأجرة لا تكون إلا في إجارة.
فإن استأجرها على الحضانة، وهي حفظ الصبي، وتربيته، ودهنه، وكحله، وغسل خرقه، وتنظيفه.. لزمها ذلك دون الإرضاع. وإن استأجرها على إرضاعه وحضانته.. لزمها ذلك.
واختلف أصحابنا هل المقصود الحضانة، واللبن تبع، أو المقصود اللبن والحضانة تبع؟
فمنهم من قال: المقصود هو اللبن، والحضانة تبع؛ لأن الله تعالى قال:(7/317)
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] . فذكر الإرضاع، ولم يذكر الحضانة، والإرضاع إنما ينصرف إلى اللبن دون الحضانة.
ومنهم من قال: المقصود الحضانة، واللبن تبع، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن اللبن عين، والأعيان لا تستباح بعقد الإجارة متبوعًا، وإنما تستباح على وجه التبع لغيرها، ألا ترى أن من استأجر بئرًا ليشرب منها.. لم يصح، وإن استأجر دارًا وفيها بئر ماء.. جاز أن يستقي منها تبعًا للدار؟ وأما الآية: فلأن الرضاع يشتمل على حضانة ولبن، فما قابل الحضانة منها.. كان أجرة، وما قابل اللبن.. كان ثمنًا؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، وقول الله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] . تغليب للأكثر منهما؛ لأن من شأن العرب إذا جمعت بين شيئين أن تغلب الأكثر، فعلم أن الحضانة هي المقصودة.
وإن استأجرها على الإرضاع، ولم يذكر الحضانة.. فهل يلزمها الحضانة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمها ذلك؛ لأن العادة جارية بأن المرضعة تتولى ذلك.
والثاني: لا يلزمها؛ لأن المذكور في العقد هو الإرضاع، وذلك لا يتناول أكثر من سقي اللبن.
إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة الإجارة على الإرضاع: أن يعلم الصبي، ولا يصير معلومًا إلا بالمشاهدة؛ لأنه لا يضبط بالوصفِ، وتقدر المنفعة فيها بالمدة؛ لأن تقديرها بالعمل لا يمكن.
ولا تصح الإجارة حتى يشترط أنها ترضعه في بيتها، أو في بيت أبي الصبي؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن للأب غرضًا في أن ترضعه في بيته، لكي يشرف على ولده، ولها غرض في أن ترضعه في بيتها؛ لأنه أسهل لها، ولكي لا تبتذل في القعود في بيوت الناس.
فإن استأجرها الأب بأجرة من مال الصبي.. جاز؛ لأن نفقته في ماله.
وإن استأجرها الأب بأجرة في ذمته.. قال الشيخ أبو حامد: صح، ولزم الأب(7/318)
الأجرة؛ لأن الصبي إن لم يكن له مال.. فنفقته على الأب، وإن كان له مال.. فقد تطوع الأب بالأجرة من ماله، وما تطوع به الإنسان بعقد.. لزمه.
[فرع: تأجير المتزوجة نفسها للإرضاع]
إذا كان للمرأة زوج، فأجرت نفسها للإرضاع بإذن الزوج.. صحت الإجارة ولزمت؛ لأن الحق لهما، وإن أجرت نفسها للإرضاع بغير إذنه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تصح؛ لأن العقد يتناول محلًا غير المحل الذي يتناوله عقد النكاح؛ لأنه لا يملك خدمتها ولا إرضاعها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت، وفي تصحيح عقد الإرضاع عليها ما يمنعه من الاستمتاع بها.
فإذا قلنا: لا تصح.. فلا كلام، وإن قلنا: تصح.. فللزوج فسخ الإجارة؛ لأنها تعوق استمتاعه.
وإن أجرت نفسها للإرضاع، ثم تزوجت.. لم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأنها سابقة لحقه، وإن أجرت نفسها، ثم أقرت: أنها قد كانت تزوجت برجل قبل الإجارة، وصدقها الزوج.. ثبتت الزوجية بينهما، ولم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأن الإجارة قد لزمت في الظاهر، فلا يقبل قولها فيما يؤدي إلى فسخها.
وكل موضع لزمت فيه الإجارة، ولم يكن للزوج فسخها.. فهل يمنع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان:
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 330] : يمنع من وطئها، وهو قول أحمد؛ لأنه لا يؤمن أن تحبل، فينقص اللبن.
وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يمنع الزوج من وطئها؛ لأن(7/319)
استمتاعه بها حق له متحقق، وجواز الحبل من الوطء أمر مظنون، فلم يسقط حقه المتحقق بأمر المظنون.
فعلى هذا: ليس للزوج أن يطأها في وقت إرضاع الصبي، وإنما يطؤها إذا نام الصبي، أو إذا روي باللبن.
[فرع: استئجار المرأة العبد لخدمة الخلوة]
] : قال الطبري في " العدة ": إذا استأجرت امرأة عبدًا لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة.
وقال أبو حنيفة: (تصح الإجارة، والخدمة حرام) . وكذلك: لو استأجر حرة أجنبية منه لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة.
وفي الأمة وجهان. وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن الإجارة وقعت لخدمة خاصة، وهي ممتنعة؛ لكونها محرمة، فلم يصح العقد كمن استأجر شيئًا لا منفعة فيه.
[مسألة: الاستئجار لحفر بئر ونحوه]
وإن استأجر رجلًا ليحفر له بئرًا أو نهرًا.. صح، ولا بد من تقدير العمل.
قال ابن الصباغ: وذلك يحصل بأمرين، إما بأن يقدره بالمدة، بأن يستأجره ليحفر له شهرًا أو شهرين، أو بالعمل، فإن كانت بئرًا.. ذكر قدر عمقها، وقدر دورها. وإن كان نهرًا.. ذكر طوله وعرضه وعمقه.
قال ابن الصباغ: فإن كانت الإجارة على أن يحفر له مدة.. لم يفتقر إلى معرفة(7/320)
الأرض التي يحفر فيها، وإن كانت على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فلا بد من مشاهدة الأرض التي يحفر فيها؛ لأنها تختلف بالصلابة والرخاوة، وإن استأجره على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فعلى الحافر أن يخرج التراب الذي يحصل بالحفر؛ لأنه لا يمكنه أن يحفر إلا بإخراج تراب ما حفر، فإن تهور شيء من تراب ما حفره من جانبي البئر.. لم يلزم الحافر إخراج ذلك، بل على المستأجر أن يخرج ذلك؛ لأنه سقط من ملكه، ولم يتضمنه عقد الإجارة، فهو كما لو سقط في البئر بهيمة لمالك البئر.
فإن حفر الأجير، فوصل إلى حجر في البئر يمكنه حفرها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه حفرها إذا أمكنه وإن شق عليه؛ لأنه قد التزم الحفر بالعقد.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه حفرها؛ لأنها مخالفة لما شاهد من الأرض.
وإن وصل إلى حجر لا يمكنه حفرها، أو نبع فيها ماء لا يمكنه معه الحفر وقد بقي من الذرعان التي استأجره عليها بعضها.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل ينفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإذا قلنا: ينفسخ فيما مضى.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل فيما قد عمل.
وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت لكل واحد منهما الخيار في الفسخ لأجل ما بقي، فإن فسخا، أو فسخ أحدهما.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل لما قد عمل. وإن لم يفسخ واحد منهما.. قال ابن الصباغ: وجب للأجير من المسمى بقدر ما عمل، ولا يقسط ذلك على عدد الأذرع؛ لأن ذلك يختلف، لأن أعلى البئر أسهل في نقل التراب، ولكن يقال: كم أجرة ما قد عمل؟ وكم أجرة ما بقي؟ ويقسم المسمى عليهما.(7/321)
[فرع: الاستئجار لحفر القبر]
] : وإن استأجره لحفر قبر.. فليس عليه رد التراب إلى القبر بعد وضع الميت فيه. وقال أبو حنيفة: (عليه ذلك) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الحفر، وقد وجد ذلك، فلا يلزمه غيره.
[فرع: الاستئجار على البناء]
ويجوز الاستئجار على البناء، ويجوز تقدير ذلك بالزمان، بأن يقول: استأجرتك لتبني لي يومًا أو شهرًا بآجر، أو أحجار، أو طين، أو لبن.
ويجوز تقديره بالعمل، بأن يقول: لتبني لي حائطًا بآجر، أو حجر، أو طين، أو لبن، ويذكر طوله وعرضه وسمكه.
ويجوز أن يستأجره ليضرب له اللبن، ويقدره بالمدة أو بالعمل، فإن قدره بالعمل.. ذكر عدد اللبن، ويذكر طولها وعرضها وسمكها.
قال ابن الصباغ: فإن كان القالب معلومًا.. جاز أن يطلق، كما إذا كان المكيال معلومًا معروفًا.. جاز إطلاقه في السلم.
وإن قال: بهذا القالب.. قال القاضي أبو الطيب: صح، وقال ابن الصباغ: في هذا نظر، وينبغي أن لا يصح، كما لو علق السلم على مكيال بعينه.
ولا بد أن يذكر موضع الضرب؛ لأنه يختلف بقرب الماء منه وبعده؛ لأن نقل الماء والتراب على الأجير.(7/322)
[فرع: استئجار الحمام]
إذا استأجر حمامًا.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع به مع بقاء عينه، فهو كالدور.
إذا ثبت هذا: فلا بد أن يشاهد المستأجر بيوت الحمام؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ولا بد أن يشاهد القدر؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ويشاهد بئر الحمام؛ لأن البئر إذا كانت عميقة وبعيدة من الحمام.. كانت أكثر مؤنة من القريبة القليلة العمق، ويشاهد موضع الوقود، ومطرح الرماد، والموضع الذي يستنقع فيه الماء إذا خرج من الحمام؛ لأنه إذا كان بعيدًا عميقًا.. ذهب الماء سريعًا، وإذا كان قريبًا من الحمام غير عميق.. امتلأ ترابًا.
وكذلك: إذا أراد أن يشتري حمامًا.. فلا يصح حتى يشاهد جميع هذه المواضع؛ لما ذكرناها.
[فرع: الاستئجار ليعلمه سورة ما من القرآن]
وإن استأجره على أن يعلمه سورة من القرآن.. لم تصح حتى يعينا السورة؛ لأن السور تختلف، وإن استأجره ليعلمه عشر آيات من سورة بعينها.. فهل يصح من غير أن يعين آيات منها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة التي له وهبت نفسها - لرجل: (ما تحفظ من القرآن؟) قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: (قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» .(7/323)
والثاني: لا يصح؛ لأن الأعشار تختلف.
وأما الخبر: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» .
وإن صح الخبر.. حملناه على: أنه عقد له النكاح بتعليم عشرين آية معينة، وإنما أعاد ذكر ذلك.. حكاية لما وقع عليه العقد، بدليل: أن قوله: «قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» ليس بنكاح.
وهل تفتقر صحة الإجارة على تعليم القرآن إلى أن يعين الحرف الذي يعلمه إياه، كحرف نافع، أو ابن كثير، أو غيرهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل: «زوجتكها بما معك من القرآن» . ولم يفرق، ولأن هذه الحروف كلها مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلة عليه، فجاز أن يعلمه ما شاء منها، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة.. فإن له أن يدفع إليه القفيز من أي جانب شاء منها.
والثاني: لا تصح الإجارة حتى يبين الحرف؛ لأن بعض القراءات أشد من بعض، وبعضها أكثر من بعض.(7/324)
قال الشيخ أبو حامد: وقيل: إن قراءة ابن كثير أكثر من قراءة غيره، وإذا كان كذلك، وكان الإطلاق مجهولًا.. فلم تصح.
فرع: [نسيان المستأجر ما تعلمه أو بعضه] :
وإن استأجره على أن يعلمه سورة أو آيات معلومة، فإن علمه ثلاث آيات، ثم نسيها المستأجر.. لم يلزم الأجير إعادة التعليم، وجهًا واحدًا.
وإن علمه بعض آية، فنسيها المستأجر قبل أن يفرغ من تعليم باقيها.. لزم الأجير إعادة تعليمها، وجهًا واحدًا؛ لأن بعض الآية لا يقع به الإعجاز.
وإن علمه آية أو آيتين، فنسي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون المستأجر قابضًا، فيلزم الأجير إعادة التعليم؛ لأن الإعجاز لا يقع بأقل من ثلاث آيات؛ لأنه قدر به سورة قصيرة.
والثاني: يكون المستأجر قابضًا؛ لأن الآية من جنس الإعجاز، فأشبهت الثلاث.
فرع: [الاستئجار مدة لتعليم القرآن] :
وإن استأجره ليعلم ابنه الصغير القرآن مدة معلومة.. صحت الإجارة.
وهل تدخل الجمع في المدة من غير أن يستثنيها؟ سمعت شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن تكون على وجهين مأخوذين من الوجهين، فيمن استأجر ظهرًا ليركبه في طريق، وقد جرت العادة بأن ينزل الراكب في بعض تلك الطريق للرواح عن الدابة، هل يلزم المكتري ذلك بالإطلاق؟(7/325)
[مسألة: الاستئجار لأحد المناسك]
] : وإن استأجره للحج والعمرة.. لم تصح حتى يبين أنه إفراد، أو تمتع، أو قران؛ لأن الغرض يختلف باختلاف ذلك. وهل تفتقر صحة الإجارة إلى أن يبين موضع الإحرام؟ ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (أن ذلك شرط) ، وذكر في موضع آخر: (أن ذلك ليس بشرط) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين:
أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الميقات، وتختلف الأجرة باختلاف المواقيت.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن له عرفًا في الشرع، وهو ميقات البلد، فانصرف إليه الإطلاق، كمن باع بنقد مطلق في بلد فيه نقد غالب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يشترط ذكر موضع الإحرام) إذا كان للبلد ميقاتان مختلفان.
وحيث قال: (لا يشترط) أراد: إذا لم يكن للبلد إلا ميقات واحد.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (يشترط) إذا كان الحج عن حي؛ لأن له اختيارًا يرجع إليه.
وحيث قال: (لا يشترط) إذا كان المحجوج عنه ميتًا؛ لأنه لا يمكن الرجوع إلى اختياره.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يشترط بيان موضع الإحرام، فإن شرط على الأجير أن يحرم من موضع، إما من الميقات، أو قبله.. لزمه ذلك. وإن أطلق.. لزمه الإحرام من ميقات ذلك البلد.
وإن قلنا: يشترط بيان موضع الإحرام، فإن عين الميقات أو قبله.. لزمه أن يحرم(7/326)
منه، وإن عين له دون الميقات.. لم يصح؛ لأنه يمر على الميقات وهو مريد للنسك بلا إحرام، وإن أطلق.. كانت الإجارة فاسدة.
فإن أحرم الأجير عن المستأجر.. انعقد الإحرام عن المستأجر؛ لأنه فعله عنه بإذنه، فوقع عنه وإن كان العقد فاسدًا، كما لو وكله وكالة فاسدة ليشتري له عينًا، فاشتراها له.. فإن الملك فيها للموكل.
[مسألة: إجارة الحلي]
ولا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له أجرته» ، ولأن عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض، كالبيع، وفيه احتراز من النكاح؛ لأنه لا يقصد به العوض.
ويجوز أن يستأجر حلي الذهب بالذهب والفضة، وحلي الفضة بالفضة والذهب.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من توقف في إجارة حلي الذهب بالذهب، وحلي الفضة بالفضة. وليس بصحيح؛ لأن المعقود عليه هو منفعة الذهب لا عين الذهب، فلم يكن فيه ربًا.
[فرع: استئجار منفعة عين بمنفعة عين أخرى]
ويجوز أن يستأجر منفعة عين بمنفعة عين أخرى، سواء كانت من جنسها أو من غير جنسها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن تكون المنفعتان من جنس، بأن يستأجر دارًا بمنفعة دار أخرى، فإن كانتا مختلفتين، بأن يستأجر منفعة عبد بمنفعة دار.. صح) .(7/327)
ودليلنا: أنهما منفعتان يجوز إجارتهما، فجاز أن يستأجر إحداهما بالأخرى، كما لو كانتا مختلفتين.
إذا ثبت هذا: فلا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة القدر؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنه عقد معاوضة.. فلم يصح بعوض مجهول، كالبيع.
فإن استأجر أجيرًا كل يوم بطعام معلوم، من بر، أو ذرة، أو شعير، أو غير ذلك مما يجوز السلم فيه.. صح؛ لأنه عوض يجوز أن يكون ثمنًا في البيع، فجاز أن يكون عوضًا في الإجارة، كالدراهم والدنانير.
وإن استأجره بطعامه الذي يأكله كل يوم وكسوته.. لم تصح الإجارة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك في إجارة المرضعة وحدها) .
وقال مالك، وأحمد: (يجوز ذلك في كل أجير) .
دليلنا: أن هذا عوض في عقد.. فلم يجز أن يكون مجهولًا، كالبيع.
وعلى أبي حنيفة: أن كل ما لا يجوز أن يكون أجرة في غير الرضاع.. لا يجوز أن يكون أجرة في الرضاع، كالدراهم المجهولة.
فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . إلى أن قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] .
قلنا: المراد بهذا: بيان نفقة الزوجة، فنص على وجوب نفقتها في حالة الإرضاع؛ لينبه على وجوبها في كل حالٍ؛ لأنها إذا وجبت مع تشاغلها بالإرضاع، فمع عدم التشاغل أولى.
[فرع: الاستئجار لحمولة معينة]
] : فإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة بعشرة دراهم.. صح، كما لو اشتراها بعشرة دراهم.
وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صحت(7/328)
الإجارة؛ لأن جملة الصبرة معلومة، وأجزاء الأجرة معلومة، بخلاف ما لو قال: أجرتك هذه الدار: كل شهر بدرهم.. فإنه لا يصح؛ لأنه ليس للشهور غاية تنتهي إليها، ولقفزان الصبرة حد يعلم بالتفصيل.
وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. صحت الإجارة؛ لأن أجزاء الأجرة قد علمت، وأن كل قفيز في مقابله درهم، وما زاد بحساب ذلك، فهو كما لو قال: لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قال: استأجرتك لتحمل لي من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم.. لم تصح؛ لأن (من) للتبعيض، ولا يدري كم يحمل منها؟
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو اكترى حمل مكيلة، وما زاد فبحسابه.. فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد، وله أجرة مثله) . واختلف أصحابنا في تأويلها.
فقال أبو إسحاق المروزي: تأويلها: هو أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، وتحمل لي صبرة أخرى - لم يشاهدها الأجير - بهذا الحساب، أي: ما زاد على الصبرة المشاهدة فبحسابها.. فتصح الإجارة في المشاهدة، وتبطل في التي لم يرها، ولا يكون في الحاضرة قولان؛ لأنهما صفقتان، فلا تبطل إحداهما لبطلان الأخرى. ولو قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة والصبرة الأخرى كل قفيز بدرهم.. لبطل العقد في الغائبة، وفي الحاضرة قولان.
ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة - وهي عشرة أقفزة - كل قفيز بدرهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فتصح في العشرة؛ لأنها متحققة، ولا تصح في الزيادة؛ لأنها مبهمة الوجود.
ومنهم من قال: تأويلها: أن تكون له صبرة حاضرة، فقال: استأجرتك لتحمل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك.. فتصح في(7/329)
الصبرة وما يحمله بعد ذلك، فقد وعده بأن تكون أجرته مثل ذلك، فلا يؤثر في العقد، ولا يلزمه الوعد.
ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فيجوز في العشرة، ولا يجوز فيما زاد عليها. وهذا غير صحيح؛ لأنا قد قلنا: إن هذا عقد صحيح.
[فرع: الاستئجار للطحن أو للرعي بجزء من كل]
قال أبو علي في " الإفصاح ": إذا استأجره ليطحن له حنطة بربعها.. لم يصح. وإن استأجره ليطحن له ثلاثة أرباعها بربعها.. صح.
قلت: وعلى قياس ما قال أبو علي الطبري: إذا استأجره ليرعى له بهيمة مدة معلومة بربعها.. لم تصح الإجارة، وإن استأجره ليرعى له ثلاثة أرباعها بربعها.. صحت الإجارة.
فإن قيل: كيف يتصور له أن يرعى ثلاثة أرباعها؛ لأنه لا يتأتى له ذلك إلا برعي جميعها؟
فالجواب: أنه لا يمتنع مثل ذلك في الإجارة، ألا ترى أنه يجوز له أن يستأجر نصف ظهر ليركبه، وإن كان لا يتصور إلا بركوب جميعه، وإنما يملك منفعة نصفه، ثم يتهايآن؟ وكذلك: لو كان بين رجلين بهيمة.. جاز لأحدهما أن يستأجر غيره على رعي نصيبه منها، ثم يكون القيام بها واجبًا على الأجير والمالك الآخر.
[فرع: استئجار الشريك]
فرع: [جواز استئجار الشريك] : قال الطبري: وإن كان بين رجلين حنطة مشتركة بينهما.. جاز لأحدهما أن يستأجر الآخر على طحن نصيبه منها، أو على حمله إلى موضع آخر.(7/330)
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أن ما تقبل جنبيته الإجارة.. صح عقدها على ما هو منفعة؛ لأن منفعة الشريك كمنفعة الدابة.
[فرع: الاستئجار على جزاف]
إذا كانت الإجارة مشاهدة، إلا أنها جزاف لا يعرفان قدرها، مثل: أن يستأجره بصبرة طعام لا يعلمان كيلها، أو بملء كفه دراهم قد شاهداها ولم يعلما عددها.. فهل يصح؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أسلم دراهم جزافا على طعام أو غيره.
وإن كانت الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يستأجر بهيمة ليركبها إلى بلد، أو استأجره ليخيط له بها ثوبًا.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأن الإجارة عقد على معدوم، فهي كالسلم.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان؛ لأنها متعلقة بعين حاضرة، والسلم يتعلق بموجود ومعدوم.
[فرع: الإجارة على منفعة]
وما عقد من الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يقول: أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا، أو لأركبه إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو ليخيطه بكذا وكذا.. فيصح أن تكون الأجرة في هذه الإجارة معينة، وفي الذمة.(7/331)
(فالمعينة) : أن يقول: بهذا الدينار، أو بهذه الدراهم.. فيجوز قبض الدينار في المجلس، وبعد التفرق منه.
والتي (في الذمة) : بأن يقول: بعشرة دراهم في ذمتي؛ لأن ذلك بمنزلة بيع العين بثمن معين، وبثمن في الذمة، فإذا كانت الأجرة في هذه الإجارة في الذمة.. نظرت: فإن شرطا تعجيلها.. وجب تعجيلها، وإن شرطا تأجيلها.. كانت مؤجلة، وإن أطلقا ذلك.. كانت معجلة، ووجب تسليمها.
وقال أبو حنيفة: (إذا أطلقا ذلك.. فالقياس يقتضي: أن المكتري كلما قبض جزءًا من المنفعة.. وجب عليه تسليم ما في مقابله من الأجرة، ولكن يشق ذلك) .
فعلى هذا: يجب كلما مضى يوم من المدة.. وجب تسليم ما في مقابلته من الأجرة، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف رشحه» ، وروي: (عرقه) .
ودليلنا: أنه عقد لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلا، فاقتضى إطلاقه تعجيل العوض، كالبيع.
وقولنا: (لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلًا) احتراز من القراض والكتابة، فإن القراض لو شرط فيه تعجيل العوض.. لم يتعجل، ولو شرط في الكتابة تعجيل العوض.. لبطلت.
وأما الخبر: فنحمله على إذا شرط تعجيل الأجرة، بأن يستأجره يومًا، ويشترط تأجيل الأجرة إلى آخر اليوم، وعلى أن الأجير قد يعرق بابتداء العمل.
فإن قبض المستأجر العين التي استأجرها، واستوفى المنفعة منها، أو عمل الأجير العمل الذي استؤجر عليه.. استقرت الأجرة، كما قلنا فيمن اشترى عينًا وقبضها.. فإن الثمن يستقر عليه.(7/332)
وإن قبض المستأجر العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه أن يستوفي منها منفعته ولم يستوفها، أو جاء المؤاجر بالعين المؤاجرة وعرضها على المستأجر فلم يقبضها، ومضى زمان قد كان يمكنه استيفاء المنفعة فيه.. استقر على المستأجر المسمى.
وقال أبو حنيفة: (لا يستقر عليه حتى يستوفي المنفعة) .
دليلنا: أنه مكنه من الاستيفاء.. فوجب عليه البدل، كالمبيع إذا تلف في يد المشتري.
[فرع: الانتفاع بعين مستأجرة بأجرة فاسدة]
فإن استأجر عينًا إجارة فاسدة وقبضها، فإن انتفع بها المستأجر.. وجب عليه أجرة المثل، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه أقل الأمرين من المسمى، أو أجرة المثل) .
دليلنا: أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمن بجميع القيمة في العقد الفاسد، كبيع الأعيان.
وإن لم ينتفع بها المستأجر.. وجبت عليه أجرة المثل، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه شيء) .
دليلنا: أن كل ما لو تلف تحت يده بعقد صحيح ضمنه.. وجب أن يضمنه إذا تلف تحت يده بعقد فاسد، كالأعيان في البيع، وعكسه الأعيان في الهبة، فإنها لما لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة صحيحة.. لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة فاسدة.
إذا ثبت هذا فإن الشيخ أبا إسحاق ذكر في " المهذب ": إذا استأجر عينًا إجارة(7/333)
صحيحة، وقبضها، ومضى زمان يمكنه فيه الاستيفاء.. استقر عليه المسمى. وإن عرضت عليه العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه الاستيفاء.. استقرت الأجرة. ثم قال بعد هذا: فإن كان هذا في إجارة فاسدة.. استقرت عليه أجرة المثل.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن هذه المسألة في الإجارة الفاسدة إنما تكون معطوفة على الأولى، وهو إذا قبض العين، لا على الثانية، وهو إذا عرض عليه العين؛ لأن الأجرة إنما تستقر عليه لأحد أمرين: إما أن يكون العقد صحيحًا، أو يتمكن من استيفاء المنفعة، أو بأن تتلف المنفعة تحت يده، ولم يوجد هاهنا أحدهما.
[مسألة: ما يستأجر في الذمة يدفع حالًا]
وما عقد من الإجارة على منفعة في الذمة.. فيجوز أن تكون المنفعة حالة، ولا يجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تعجيل خياطة هذا الثوب حالًا. ويجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب إلى أول شهر كذا؛ لأن المنفعة في الذمة كالمسلم فيه، والمسلم فيه يصح أن يكون حالًا مؤجلًا، وإن أطلق ذلك.. اقتضى الحلول، كما قلنا في السلم إذا لم يذكره مؤجلًا.
وتنعقد هذه الإجارة بلفظ السلم، فيقول: أسلمت إليك دينارًا في ذمتي، أو هذا الدينار بمنفعة ظهر من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى بلد كذا وكذا، وتنعقد بلفظ الإجارة، بأن يقول: أجرني ظهرًا من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى موضع كذا.
وسئل الشيخ أبو حامد عمن قال: استأجرت منك ظهرًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا؛ لأركبه شهرًا، أتسلمه إلى الشهر الفلاني غير متصل بالعقد؟ فتوقف، وقال: أنا أنظر فيه، فقال بعض أصحابه: عندي أنه يجوز؛ لأن المنفعة في هذه(7/334)
الإجارة يصح أن تتقدر بالمدة وبالعمل، فلما جاز أن تتقدر بالعمل.. جاز أن تتقدر بالمدة، ولا يجوز أن تكون الأجرة هاهنا مؤجلة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الكالئ بالكالئ» . و (الكالئ بالكالئ) : هو بيع النسيئة بالنسيئة، ولأن هذه الإجارة في معنى المسلم فيه، ورأس مال السلم لا يصح أن يكون مؤجلًا. وهل يشترط هاهنا قبض الأجرة في المجلس قبل أن يتفرقا؟ ينظر فيه:
فإن عقد الإجارة بلفظ السلم.. اشترط قبض الأجرة قبل أن يتفرقا، كما قلنا في السلم.
وإن عقد بلفظ الإجارة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط قبضه في المجلس قبل التفرق اعتبارًا باللفظ.
والثاني: يشترط قبضه قبل التفرق، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق اعتبارًا بالمعنى، ومثل هذين الوجهين الوجهان في قبض رأس مال السلم في المجلس إذا عقد السلم بلفظ البيع، وقد مضى ذكرهما.
[فرع: استيفاء المنفعة يوجب المسمى من الأجرة]
فإن استأجر منه ظهرًا في ذمته ليركبه إلى بلد، أو ليركبه شهرًا، فأحضر المؤاجر ظهرًا، وقبضه المستأجر، وركبه إلى تلك البلد، أو إلى مثلها، أو ركبه شهرًا.. استقر عليه المسمى؛ لأنه استوفى المعقود عليه.
وإن لم يركبه، وأمسكه في يده زمانا يمكنه استيفاء المعقود عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أن الأجرة تستقر، ويلزمه أن يرد الظهر؛ لأن منفعة الظهر تلفت تحت يده، فهو كما لو استوفاها.
وإن عرض المؤاجر الظهر على المستأجر، فامتنع من قبضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن المؤاجر يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض له الظهر منه، فإن ركبه المستأجر، وإلا.. أجره الحاكم له، كما قلنا فيمن أسلم إلى رجل في شيء فأحضر المسلم إليه المسلم فيه، فامتنع المسلم من قبضه.(7/335)
[فرع: الاستئجار على تحصيل الحج]
] : وإن استأجره على تحصيل حج.. جاز أن يكون على حج في هذه السنة، وجاز أن يكون على حج في سنة بعدها، كما قلنا في الإجارة على الأعمال في الذمة. فإن عين الحج في سنة، فمضت تلك السنة، ولم يحج الأجير.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن هذه السنة محلها، ولم يتعين بها، فصار بمنزلة تأخير الدين عن محله. وهل للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؟
قال أبو إسحاق المروزي: إن كانت الإجارة عن ميت.. لم يكن للمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه التصرف في الأجرة، ولا بد من استئجار غيره.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يخشى إفلاس الأجير.. فيرفعه الوصي إلى الحاكم؛ ليفسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة.
فإن قيل: هلا قلتم: يجوز فسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة هاهنا؛ لأنه ربما استأجر غيره بأقل منه؟
قيل: هذا أمر مظنون، فلا ينفسخ العقد لأمر مظنون.
وإن كانت الإجارة عن حي.. جاز له فسخ الإجارة؛ لأن له أن يتصرف في الأجرة.
[فرع: لا يعقد الإجارة على منفعة مؤجلة]
وما عقد من الإجارة على منفعة معينة.. لا يجوز مؤجلا، مثل: أن يقول: أكرني هذا الظهر لأركبه إلى موضع كذا، تسلمه إلى أول الشهر الفلاني منفصلا عن العقد.. فإن ذلك لا يصح، كما نقول فيمن باع عينًا، واشترط تأخير قبضها عن حال العقد.. فإن ذلك لا يصح.
وإن استأجره ليحج بنفسه، فإن كان في الحرم.. لم تصح هذه الإجارة إلا في أشهر الحج، ليمكنه الشروع في الحج عقيب العقد، وإن كان في غير الحرم.. جاز عقدها قبل أشهر الحج بقدر مدة يمكنه الوصول فيها إلى الميقات أول أشهر الحج، وهكذا:(7/336)
إن استأجره ليحج ماشيًا، وكان المشاة يخرجون قبل ذلك.. جاز العقد قبل ذلك للحاجة.
[مسألة: استئجار بعض منفعة]
] : ويجوز أن يكتري جملًا معينًا ليركبه عقبة في الطريق، وتكون منفعته في باقي الطريق لمالكه، ويجوز أن يكتري الرجلان من رجل جملًا معينًا يتعاقبان عليه في الطريق.
وقال المزني: لا تصح هذه الإجارة في الجمل المعين، إلا أن يكون الظهر موصوفًا في الذمة فتصح؛ لأن الإجارة المعينة لا يدخلها الأجل، وإذا ركب أحدهما بعد الآخر.. لم تتصل منفعة الثاني بالعقد، فلم تصح.
والأول هو المنصوص؛ لأن ملك كل واحد منهما مقارن للعقد، وإنما يتأخر حق أحدهما لأجل القسمة، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ابتاع رجلان صبرة بينهما.
إذا ثبت هذا: فإن كان لتلك الطريق عادة فيما يركب كل واحد من المتعاقدين، مثل: أن يركب أحدهما يومًا، والآخر يومًا، أو يركب أحدهما أميالًا معروفة، والآخر مثله.. حملا على ذلك.
وإن طلب أحدهما أن يركب ثلاثة أيام، ويركب الآخر ثلاثة أيام.. قال الشافعي: (لم يكن له ذلك) ؛ لأن في ذلك إضرارًا على الماشي وعلى المركوب، ولأن الإنسان إذا ركب وهو غير تعب.. خف على المركوب، وإذا ركب وهو بعد كلال وتعب.. وقع على المركوب كالميت، فأتعب المركوب.(7/337)
وإن لم يكن في تلك الطريق عادة فيما يركبه المتعاقبان.. لم يصح العقد حتى يبينا ما يركبه كل واحد منهما.
قال الشيخ أبو حامد: ولو اتفقا على: أن يركب كل واحد منهما ثلاثة أيام بثلاثة أيام.. لم يجز؛ لما فيه من الضرر على المركوب وغيره.
وأما من يبدأ بالركوب منهما: فإن اتفقا عليه.. فلا كلام، وإلا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
[مسألة: لزوم عقد الإيجار]
وإذا تم عقد الإجارة.. فإنه يكون لازمًا، وليس لأحدهما أن يفسخه من غير عيب يجده، وبه قال مالك، والثوري.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزم من جهة المكتري، فمتى حدث له عذر فيما استأجر له، مثل: أن يستأجر دكانًا للبز فيحترق بزه، أو يذهب رأس ماله، أو يفلس، أو اكترى جمالًا للحج فبدا له منع الحج، أو مرض، أو اكترى دارًا في بلد ليسكنها، فخرج من تلك البلد، وما أشبه ذلك.. فله فسخ الإجارة) .
دليلنا: أنه عقد معاوضة محضة لازم من أحد الطرفين، فكان لازمًا من الطرف الآخر، كالبيع.
فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من الرهن.
وقولنا: (محضة) احتراز من الكتابة.
وقولنا: (لازم من أحد الطرفين) احتراز من القراض.
والله أعلم وبالله التوفيق.(7/338)
[باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما]
إذا اكترى ظهرًا للركوب.. كان ما يحتاج إليه للتمكن من الركوب على المكري، مثل: السرج واللجام للفرس، والإكاف للبغل، والبرذعة للحمار، والخطام للجمل، والبرة التي في أنفه، والحزام، والقتب، والحقيبة تحت القتب؛ لأن كون الظهر عريًا يتأذى الإنسان بركوبه.
ولا يمشي الجمل بغير زمام، ويتصعب الفرس بغير لجام. وما يحتاج إليه للوطاء والترفه.. فهو على المكتري، كالمحمل، والكنيسة، والغطاء الذي فوقهما، والمضربة التي تكون تحت الكنيسة؛ لئلا تتحرك الكنيسة.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وكذلك: الحبل الذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر، والحبل الذي يشد به المحمل على الجمل، فهو على المكتري؛ لأنهما من آلة المحمل.
قالا: وأما شد أحد المحملين إلى الآخر: فاختلف أصحابنا فيه:
فـ[الأول] : منهم من قال: إنه على المكتري؛ لأن ذلك من تمام المحمل وإصلاحه للركوب، فهو كتأليف المحمل.
والثاني: إنه على المكري، وهو الأصح؛ لأنه يراد للتمكن من الركوب، فهو كشد المحمل على الجمل.(7/339)
وأما صاحب " المهذب ": فحكى الوجهين فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، يعني: الحبل.
[فرع: لوازم المؤجر تابعة له]
وإذا أكراه دارًا، أو دكانًا.. فعلى المكري تسليم المفتاح إلى المكتري؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالدار إلا بالمفتاح، إذ به يفتحها، فهو كالباب عليها. وكل ما ذكرنا: أنه على المكري إذا تلف في يد المكتري من غير تفريط منه.. لم يضمنه، ويجب على المكري إبداله، كما لو انكسر جذع من الدار.
[فرع: تجهيز الدابة وأجرة دليل الطريق والسائق]
وعلى المكري رفع المحمل والكنيسة إلى ظهر الجمل، وشدهما عليه بالحبل، وحطهما؛ لأنه لا يتواصل إلى الركوب إلا بشد ذلك عليه، ولأن العادة جرت أن الجمال يتولى ذلك.
وأما أجرة دليل الطريق: فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب أو المتاع في بلد.. فإن ذلك على المكري؛ لأن عليه تحصيل ذلك، وهذا من جملة التحصيل.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن استأجر منه جملًا ليحمله عليه إلى مكة أو غيرها من المواضع.. فإن أجرة الدليل على المكري؛ لأن عليه أن يحمله إلى ذلك الموضع.
وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه يسلمه إليه.. فإن أجرة الدليل على المكتري؛ لأنه ليس على المكري أكثر من تسليم الظهر، وقد فعل.(7/340)
وأما سائق الظهر وقائده: فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه على المكري من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي: أنه كأجرة الدليل على ما مضى.
فرع: [ما يجب على الجمال أن يفعله لأجل الراكب] :
وكل ما لا يمكن الراكب فعله على الجمل والحاجة داعية إليه.. فعلى الجمال أن يوقف الجمل حتى ينزل الراكب، ويفعله على الأرض، وذلك كالغائط، والبول، والطهارة؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك على الظهر، ويصلي الفرض على الأرض؛ لأنه لا يصح فعلها على الظهر. قال الشافعي: (وليس للجمال أن يستعجله في الصلاة، ولا للراكب أن يطول الصلاة، بل تكون خفيفة في تمام) .
وكل ما يمكن الراكب أن يفعله على الظهر، مثل: الأكل، والشرب، وصلاة النفل.. فلا يلزم الجمال أن يوقف له الجمل لأجله؛ لأنه يمكنه فعل ذلك وهو راكب.
وعلى الجمال أن يبرك الجمل للمرأة عند ركوبها ونزولها؛ لأن العادة جرت أنهن يركبن وينزلن والجمل بارك، فحمل مطلق العقد عليه، ولأن المرأة عورة، فلا يؤمن إذا ركبت أو نزلت والجمل قائم أن ينكشف شيء من عورتها. وأما الرجل: فإنه يركب وينزل والجمل قائم؛ لأن العادة جرت بذلك، إلا أن يكون الرجل زمنًا، أو شيخًا ضعيفًا، أو سمينًا لا يمكنه ذلك مع قيام الجمل، أو كان مريضًا.. فيلزم الجمال أن يبرك له الجمل؛ لأنه لا يقدر على ذلك من قيام. فإن أكرى رجلًا صحيحًا، ثم مرض.. فعليه أن يبرك له الجمل، وإن أكراه وهو مريض، فبرئ.. لم يلزمه أن يبرك له الجمل اعتبارًا بحالة الركوب لا بحالة العقد.(7/341)
[فرع: عدم الإضرار بالمؤجر شرط في استعماله]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن اختلفا في الرحلة.. رحل لا مكبوبًا ولا مستلقيًا) . واختلف أصحابنا في صورته:
فقال أبو إسحاق: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من مؤخر البعير، ويوسع قيد المحمل من مقدم البعير، و (المستلقي) : أن يوسع مؤخره، ويضيق مقدمه. فالمكبوب أسهل على الجمل، والمستلقي أسهل على الراكب.
ومنهم من قال: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من المقدم والمؤخر، و (المستلقي) : أن يوسعهما.
وأي التأويلين كان.. فإن لا يجاب الجمال ولا الراكب إليه، بل يفعل ما جرت العادة به، مما لا يضر بالمركوب ولا بالراكب.
قال ابن الصباغ: وكذلك: إذا اختلفا في جلوس الراكب.. رجع فيه إلى العادة. ومن طلب منهما مفارقة القافلة، إما بالحث، أو بالتقصير.. لم يلتفت إليه إلا برضا الآخر بذلك.
[فرع: ما يجب في إكراء دار للسكنى]
وإن أكراه دارًا للسكنى.. فعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش من الأذى؛ لأنه من مؤن التمكين، فإن امتلأ في يد المكتري.. فعلى من تجب مؤنة إخراجه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه على المكري؛ لأن التمكين من الانتفاع يتعلق بذلك.
والثاني: أنه على المكتري؛ لأنه هو الذي شغله بذلك.(7/342)
قال المسعودي [في " الإبانة: ق \ 335] : وعلى هذين الوجهين إخراج رماد الحمام المستأجر، وتنقية الحوض الذي يخرج إليه الغسالة.
وعلى المكري تسوية الدعامة في الدار، وإصلاح المغلاق، وتطيين السطح، وإن تكسر شيء من الخشب.. فعليه إبداله؛ لأن المكتري لا يمكن من الانتفاع إلا بذلك.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 335] : وأما نصب باب جديد، أو إحداث ميزاب، فينظر فيه: فإن لم يمكن الانتفاع بالدار حسب ما كان يمكن وقت العقد إلا بنصب ذلك.. فعلى المكري ذلك، وإلا.. فلا.
[مسألة: نفقة المركوب على المكري]
وعلى المكري علف الظهر وسقيه؛ لأن التمكين من الانتفاع عليه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بذلك. فإن هرب الجمال.. فلا يخلو: إما أن يهرب بجماله، أو يهرب بنفسه ويترك جماله.
فإن هرب بجماله.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على ظهر في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة بهرب الجمال؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف. فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم، وأثبت الإجارة عنده.. فإن الحاكم ينظر:
فإن وجد للمكري مالًا استأجر منه للمستأجر ظهرًا؛ لأن المنفعة في ذمته، فإذا تعذرت من جهته.. قام الحاكم مقامه، كما لو كان في ذمته لغيره دين، فهرب.. فإن الحاكم يقضي الدين من ماله.(7/343)
فإن لم يجد له مالًا.. اقترض عليه من بيت المال، أو من رجل من الرعية ما يكتري به الظهر، وإن لم يكن في بيت المال ما يقرضه، ولم يجد من يقرضه من الرعية، فإن اختار المكتري أن يقرضه، فقبض الحاكم المال منه، واكترى له به، أو فوض ذلك إلى أمين.. جاز، كما لو اقترض له من غيره، وإن أمر الحاكم المكتري ليكتري لنفسه من ماله، ويكون ذلك قرضًا على المكري.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي قال في " البويطي ": (لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في القبض من نفسه) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 333] في ذلك وجهين.
فإن تعذر عليه الاقتراض.. فالمكتري بالخيار: بين أن يقيم على الإجارة إلى أن يجد المكري، فيطالبه بما عليه، وبين أن يفسخ الإجارة، وتكون الأجرة دينًا له في ذمة المكري؛ لأن المعقود عليه تعذر، فثبت له الخيار، كما لو أفلس المشتري.
وإن كانت الإجارة على أجمال بأعيانها.. لم يكن للحاكم أن يكتري له غيرها؛ لأن الإجارة وقعت على عينها، فلا يجوز إبدالها بغيرها، كما لو باعه عينًا، فهرب بها، ويكون المكتري هاهنا بالخيار: بين أن يفسخ الإجارة؛ لأنه استحق المنفعة معجلة وقد تأخرت، فثبت له الخيار، وبين أن يصبر إلى أن يجد الجمال، فيستوفي حقه.
فإن اختار فسخ الإجارة.. نظرت:
فإن كان قد استوفى بعض المنفعة.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإن قلنا: تنفسخ في الجميع.. رجع بجميع المسمى إن كان قد دفعه، ووجبت عليه أجرة المثل لما قد استوفاه، فيقاصه الحاكم.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي.. كان له الخيار فيما مضى، فإن اختار الفسخ.. فهو(7/344)
كما لو قلنا: تنفسخ في الجميع، وإن اختار الإمضاء.. رجع بقسط ما بقي من المسمى.
وإن كان لم يستوف شيئًا من المنفعة.. انفسخ العقد في الجميع. فإن كان قد سلم المسمى، وأقام البينة على ذلك عند الحاكم.. نظر الحاكم:
فإن وجد للمكري مالًا.. دفع إلى المكتري ما سلمه من مال المكري.
وإن لم يجد له مالا.. كان ذلك دينا في ذمة المكري للمكتري إلى أن يجده، ولا يقترضه الحاكم هاهنا للمكتري؛ لأن الدين في ذمة المكتري، فإذا اقترض له من غيره.. كان ذلك دينًا في ذمته، فلا يحصل في ذلك فائدة، ويفارق المنفعة؛ لأنها من غير جنس المال المقترض، ولأن المنفعة تفوت بتأخيرها.
وإن لم يختر المكتري الفسخ.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على مدة، بأن اكترى منه الجمال ليركبها شهرًا.. فإنه كلما مضى جزء من الشهر.. انفسخ من الإجارة بقدره، فإن مضى الشهر قبل أن يرجع الجمال.. انفسخت الإجارة، وكان الحكم فيها كما لو فسخ المستأجر.
وإن كانت الإجارة على عمل، مثل: أن يستأجر الجمال ليركبها إلى موضع كذا.. لم تنفسخ الإجارة، ولكن متى وجد المستأجر الجمال التي اكتراها.. استوفى منفعته منها.
فأما إذا هرب الجمال وترك الجمال في يد المكتري.. فإن الجمال قد هرب من حقين:
أحدهما: النفقة على الجمال بالعلف والسقي.
والثاني: القيام رفع الأحمال وحطها.
فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم.. نظر الحاكم:(7/345)
فإن وجد للجمال مالًا.. أخذ منه ما يحتاج إليه لنفقة الجمال، وللقيام برفع الحمال وحطها، وسوق الظهر وقوده.
إن لم يجد له مالًا غير الجمال، فإن كان فيها فضل على ما يحتاج إليه المكتري.. باع الحاكم منها بقدر ما يحتاج إليه لذلك، وإن لم يكن فيها فضل.. اقترض عليه الحاكم من بيت المال إن كان فيه فضل، أو من رجل من الرعية.
وإن أراد أن يقترض من المكتري.. نظرت:
فإن قبض منه المال ودفعه إليه، أو إلى رجل من أهل القافلة لينفقه على الجمال، أو استأجر من يرفع الأحمال ويحطها.. جاز ذلك.
وإن أمر الحاكم المكتري لينفق من ماله على ذلك قرضًا على الجمال.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة؛ لأن إقامة أمين في ذلك يشق ويتعذر؛ لأنه يحتاج إلى الخروج معها وإلى الإنفاق في الطريق، فجاز له ذلك؛ لأن الحاكم قد لا يجد غيره.
ولا بد للجمال من علف وسقي.
فإذا قلنا بهذا: واختلف الجمال والمكتري في قدر ما أنفق عليها، فإن كان الحاكم قد قدر له ما ينفق عليها كل يوم، فادعى: أنه أنفق ذلك، وخالفه المكري.. فالقول قول المكتري فيه؛ لأن الحاكم قد قدر له ذلك، وهو أمين.
وقوله: إنه أنفق ذلك، مقبول، وإن كان الحاكم لم يقدر له ما ينفق كل يوم، وإنما أذن له في الإنفاق، فإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول(7/346)
المكتري مع يمينه: أنه أنفق ذلك. وإن ادعى أكثر من ذلك.. لم يقبل قوله في الزيادة؛ لأنه متطوع بها.
فإذا بلغ المكتري إلى الموضع الذي اكترى إليه.. فقد استوفى حقه، ويبيع الحاكم شيئًا من الجمال بقدر دين المكتري، ويقضيه إياه، فإن رأى الحاكم أن يبقي باقيها إلى أن يعود صاحبها، ويبيع منها شيئًا لينفق عليها.. جاز، وإن رأى أن يبيع باقيها، ويحفظ ثمنها على صاحبها.. جاز.
وإن أنفق المكتري بغير إذن الحاكم، فإن قدر على الحاكم ولم يستأذنه.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن أنفق من غير إشهاد، ولا شرط الرجوع.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن أشهد شاهدين: أنه أنفق ليرجع به على الجمال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لم ينفق بإذن من له الإذن، فلا يرجع به.
وإن لم يجد من يشهده.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لما ذكرناه إذا أشهد مع وجود الحاكم.
والثاني: يرجع؛ لأن الجمال قد علم أنه لا بد للجمال من القيام بالعلف والسقي. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة " ق \ 333] : إذا لم يجد قاضيًا، فأنفق.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجع به.
والثاني: لا يرجع به.
والثالث: إن أشهد.. رجع به، وإن لم يشهد.. لم يرجع به.(7/347)
[مسألة: استيفاء مدة المأجور]
] : إذا استأجر عينًا على عمل، فاستوفاه، أو استأجرها مدة، فمضت تلك المدة وهي في يده.. فهل يلزم المكتري ردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، وهو ظاهر النص، وبه قال مالك؛ لأنه قبضها لاستيفاء ما وجب له، فإذا انقضت الإجارة.. كان ممسكًا لها بغير إذن مالكها، فلزمه ردها، كالعارية، وكما لو أطارت الريح ثوبًا إلى بيته، وعرف مالكه.. فإن عليه رده إليه.
فعلى هذا: إن كان لردها مؤنة.. لزمته تلك المؤنة. فإن تمكن من ردها، فلم يردها حتى مضت مدة، ثم تلفت.. لزمه أجرة المثل لتلك المدة، ولزمه قيمتها.
والوجه الثاني: لا يلزمه ردها، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها أمانة في يده، فلا يجب عليه ردها إلا بالمطالبة، كالوديعة، وتقدير الإجارة بالمدة لا يخرجها عن أن تكون أمانة بعد المدة، كما لو قال: أودعتك هذا شهرًا.. فإنه في الشهر بعده أمانة.
فعلى هذا: إذا مضت مدة بعد استيفاء منفعته.. لم يلزمه لها أجرة، إلا إن استوفى منفعته منها، فتكون مؤنة الرد على المؤاجر.
فإن استأجر عينًا، وشرط المؤاجر: أن على المستأجر ردها بعد انقضاء الإجارة، فإن قلنا: يلزمه الرد من غير شرط.. كان هذا الشرط تأكيدًا، وإن قلنا: لا يلزمه الرد.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": يلزمه الرد؛ لأنه دخل في العقد على ذلك.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تبطل الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة.(7/348)
[مسألة: هيئة سكنى الدار]
إذا استأجر دارًا للسكنى.. فليس من شرطه أن يفسر السكنى؛ لأنه لا يمكن ضبطها بالوصف.
فعلى هذا: له أن يسكنها بنفسه وبغيره، وله أن يترك فيها الأمتعة التي لا تدق سقوفها، ولا يترك فيها السرجين؛ لأنه يفسدها.
وهل له أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الفأر ينقب الحائط لأجله.
والثاني: له ذلك؛ لأن ذلك متعارف في السكنى.
ولا يسكنها الحدادين والقصارين؛ لأن ذلك يوهن الجدران فيها.
وإن استأجر دارًا ليسكنها وحده، فتزوج.. قال أبو حنيفة وصاحباه: (فله أن يسكنها معه) .
وقال أبو ثور: (ليس له أن يسكنها معه) . قال الصيمري: وهو القياس.
[فرع: استئجار القميص]
وإن استأجر قميصًا ليلبسه.. فله أن يلبسه ليلًا ونهارا إذا كان مستيقظًا، وإن أراد أن ينام فيه.. نظرت:
فإن كان ليلًا.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف.
وإن كان نهارًا.. قال الصيمري: فإن كان ساعة أو ساعتين.. جاز؛ لأن ذلك متعارف، وإن نام فيه أكثر النهار.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف. وليس له أن(7/349)
يتزر به؛ لأن ذلك غير متعارف في لبس القميص، وهل له أن يرتدي به؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، كما قلنا في الاتزار به.
والثاني: له ذلك؛ لأنه أخف من اللبس.
وإن استأجره ليلبسه ثلاثة أيام ولم يذكر الليالي.. فهل تدخل الليالي؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة "، الأصح: تدخل.
وإن استأجره يومًا كاملًا.. فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. فإن قال: يومًا، وأطلق.. قال الصيمري: كان ذلك من وقته إلى مثله من الغد.
وإن استأجره نهار يوم.. فوجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها.
[فرع: اشتراط النزول في الطريق]
وإن اكترى ظهرًا ليركبه إلى بلد، فإن شرط المكري: أنه ينزل للرواح عن الدابة، أو شرط المكتري: أنه لا ينزل للرواح عنها.. حملا على ما شرطا، وإن أطلقا ذلك وقد جرت عادة الناس في النزول عن الدواب في تلك الطريق للرواح عليها، فإن كان الراكب مريضًا، أو امرأة، أو شيخًا زمنًا.. لم يلزمه النزول، وإن كان رجلًا صحيحًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه النزول؛ لأن العرف قد جرى بذلك، فصار كالمشروط.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه عقد الإجارة على جميع المسافة، وفي إيجاب النزول إخلال ببعض ما عقد عليه، فلم يجب.(7/350)
[فرع: استئجار مركب مسافة معينة]
وإن استأجر ظهرًا ليركبه إلى مكة.. لم يكن له أن يحج عليه؛ لأن ذلك أكثر، وإن استأجره ليحج عليه.. فله أن يركبه من مكة إلى عرفات، ومن عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف والسعي، وله أن يطوف عليه ويسعى، وهل له أن يركبه من مكة إلى منى؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه قد حل من الإحرام.
[مسألة: استئجار مركب لأجل نقل بضاعة]
وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه أرطالًا من الزاد إلى بلد، فإن سرق الزاد، أو تلف بغير الأكل.. فله إبداله، وإن نقص الزاد بالأكل المعتاد.. فهل له إبداله؟ فيه قولان:
أحدهما: له إبداله، كما لو اكترى ظهرًا ليحمل عليه ثيابًا إلى بلد، فباع في الطريق بعضها.. فله أن يبدل مكان ما باع غيرها، ولأنه لا خلاف أنه إذا اكتراه ليحمل له الماء.. فإن له أن يبدل مكان ما فني منه، فكذلك الزاد.
والثاني: ليس له إبداله؛ لأن العادة جرت أن الزاد لا يبقى في جميع مسافة الطريق، وإنما ينقص بالأكل، فحمل ذلك على العرف.
وقال أبو إسحاق: القولان إذا كان الزاد من أول الطريق إلى آخره بسعر واحد، لا يزيد ولا ينقص، فأما إذا كان الزاد في موضع من الطريق غاليًا، وفي موضع رخيصًا.. فله أن يبدله مكان ما أكله، قولًا واحدًا؛ لأن له غرضًا إذا اختلف سعره أن لا يشتري من موضع واحد.(7/351)
[مسألة: لا يمنع من ضرب الدابة المعتاد]
وإن استأجر دابة.. فله أن يضربها الضرب المعتاد للمشي؛ لما روي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه جملًا، وحمله عليه إلى المدينة، وكان يضربه بالعصا» .
وله أن يكبحها باللجام، وهو: أن يجبذ لجامها بالعنان حتى يلوي رأسها، ويرده إليه؛ لأن ذلك متعارف.
[مسألة: استأجره لمنفعة فله أن يفوت بعضها]
وإن استأجر عينًا لمنفعة معينة.. فله أن يستوفي تلك المنفعة، أو مثلها، أو دونها، مثل: أن يستأجر دابة ليركبها في طريق إلى بلد، فله أن يركبها في مثل تلك الطريق في الأمن والسهولة والحزونة القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها في طريق حزن.. فله أن يركبها في طريق سهل لا يزيد عليه في القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها بنفسه.. فله أن يركبها من هو في مثل حاله في الطول والقصر والهزال والسمن، وليس له أن يستوفي أكثر من المنفعة التي استأجر عليها، كما قلنا فيمن استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرعها، ولو استأجرها للزرع.. لم يغرس فيها.
ولو اكترى دابة بعينها، فأراد المكري أن يعطيه غيرها.. لم يلزم المكتري قبولها. والفرق بينهما: أن المعقود عليه منفعة الدابة، فلم يكن له أن يدفع إليه غيرها، كما لو باع منه دابة، وأراد أن يعطيه غيرها. وليس كذلك الراكب، فإنه هو المستوفي، فجاز أن يستوفي بنفسه وبغيره، كما لو كان له دين على غيره.. فإن له أن يستوفيه بنفسه، وله أن يوكل من يستوفيه.(7/352)
[فرع: ما اكتراه له لا يغيره]
فإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه القطن. لم يكن له أن يحمل عليه الحديد، وإن اكتراه ليحمل عليه الحديد.. لم يكن له أن يحمل عليه القطن؛ لأن في كل واحد منهما ضررًا على الظهر، وارتفاقًا له ليس في الآخر مثله.
وإن اكتراه ليركبه بالسرج.. لم يركبه من غير سرج؛ لأنه أضر به، وإن اكتراه ليركبه من غير سرج. لم يكن له أن يركبه بسرج؛ لأنه أثقل عليه.
وإن اكتراه ليركبه.. لم يحمل عليه المتاع، وإن اكتراه ليحمل عليه المتاع.. لم يكن له أن يركبه؛ لأنهما لا يتساويان.
[فرع: الاستئجار للسكن والإسكان]
وإن أكراه دارًا ليسكنها ويسكن بها من شاء.. فله أن يسكنها القصارين، والحدادين، وأضر من سكن؛ لأنه مأذون فيه.
وإن قال: على أن تسكنها بنفسك، أو أطلق.. فله أن يسكنها بنفسه، وله أن يسكنها من هو في مثل حاله، ولا يسكنها من هو أضر منه، كالحدادين، والقصارين.
وإن أجره إياها على أن يسكنها بنفسه، ولا يسكنها مثله، ولا من هو دونه، أو أجره بهيمة ليركبها في طريق، ولا يركبها في مثله ولا دونه، ولا يركبها من هو مثله، أو دونه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تصح الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها.
والثاني: الإجارة صحيحة والشرط باطل؛ لأنه لا ضرر على المؤاجر بذلك، فبقيت الإجارة على مقتضاها.
والثالث: أن الإجارة جائزة، والشرط صحيح؛ لأن المستأجر لم يملك المنفعة إلا من جهة المؤاجر، فلم يملك غير ما ملكه إياه.(7/353)
[مسألة: المستأجر يؤجر المؤجر وغيره]
إذا استأجر عينًا وقبضها.. فله أن يؤاجرها من المؤاجر، ومن غيره.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها من المؤاجر) .
دليلنا: أن كل ما جاز العقد عليه مع غير العاقد.. جاز مع العاقد، كما لو اشترى عينًا وقبضها. ولأن على قول من قال من أصحابنا: عقد الإجارة وقع على العين، وقد قبض العين، وعلى قول من قال: إنها وقعت على المنفعة، فإن المنفعة قد صارت في حكم المقبوض. ولأنه قد أمكنه استيفاؤها، فصار كما لو اشترى عينًا فقبضها، وإن كان لم يقبضها.
فإن أجرها من غير المكري.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن المنفعة في محلها تحل محل الأعيان، بدليل: أنها تضمن بالعقد الصحيح بالمسمى، وبالفاسد بالمثل، كبيع الأعيان، وقد ثبت أنه لو ابتاع عينًا لم يجز له أن يبيعها قبل أن يقبضها، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يجوز، وهو قول أبي العباس؛ لأن قبض العين في الإجارة لا تأثير له في قبض المنفعة، ألا ترى أنه إذا استأجر دارًا، فقبضها، وانهدمت قبل استيفاء المنفعة.. انفسخت الإجارة، كما لو انهدمت قبل القبض؟ والأول أصح.
وإن أجرها المستأجر من المؤاجر قبل القبض، فإن قلنا: يصح أن يؤاجرها من غيره.. فمنه أولى أن يصح، وإن قلنا: لا يصح أن يؤاجرها من غير المؤاجر.. فهل يصح أن يؤاجرها من المؤاجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأنها في قبضته. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن اشترى عينًا وباعها من بائعها قبل القبض.
إذا ثبت هذا: فيجوز أن يؤاجرها بمثل ما استأجرها به، وبأقل منه، وبأكثر منه.(7/354)
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها بأكثر منه إلا أن يكون قد أحدث فيها عمارة) .
دليلنا: أن كل ما جاز أن يؤاجره بمثل ما استأجره.. جاز أن يؤاجره بأكثر منه، كما لو أحدث فيها عمارة.
[مسألة: زرع ما لا يستحصد قبل مضي مدة الإجارة]
إذا اكترى أرضًا مدة ليزرعها، وأطلق.. فقد مضى في ذلك وجهان، الأصح: أن الإجارة صحيحة.
إذا ثبت هذا: فإن أراد المستأجر أن يزرع فيها زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة.. فهل للمكري أن يمنعه؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يمنع منه؛ لأنه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة، فلا يجوز منعه منه قبل انقضائها، ولأنه لا خلاف أنه إذا سبق وزرع.. لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، فلم يمنع من زراعته.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يمنع من زراعته؛ لأنه متعد بذلك؛ لأنه لا يستحق منفعة الأرض أكثر من المدة المقدرة، وإذا أراد أن يزرع ما لا يستحصد فيها.. فربما رأى حاكم تبقية الزرع إلى أن يحصد، فيؤدي ذلك إلى الضرر بصاحب الأرض.
فإن بادر وزرع، أو قلنا بالأول: إنه لا يمنع.. لم يكن لصاحب الأرض مطالبته بقلعه قبل انقضاء المدة؛ لأنه ملك منفعة الأرض فيها، فإذا انقضت المدة.. فله أن يطالبه بنقله؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن اتفقا على تركه بعارية أو أجرة.. جاز؛ لأن الحق لهما.(7/355)
[فرع: مضت المدة والزرع لم يستحصد]
وإن اكترى أرضًا مدة ليزرعها، فزرعها، وانقضت المدة والزرع لم يستحصد.. فلا يخلو: إما أن يكون استأجرها لزرع مطلق، أو لزرع معين.
فإن كان استأجرها لزرع مطلق، وقلنا: يصح، فإن لم يستحصد لتفريط من المكتري، بأن زرع في الأرض زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة، أو كان مما يستحصد فيها إلا أنه أخر زراعته.. فللمكري أن يطالبه بنقله عند انقضاء المدة؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا تفريغ العين المستأجرة، فإن اتفقا على ترك الزرع إلى الحصاد بإعارة أو إجارة.. جاز. وإن لم يستحصد بغير تفريط منه، بأن اشتد البرد، أو قل المطر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر المكتري على نقل الزرع؛ لأنه فرط، أو كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة.
فعلى هذا: إن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة إلى الحصاد.. جاز.
والثاني: لا يجبر على نقله، وهو الصحيح؛ لأنه لا صنيع له في تأخر الزرع، وقد زرع ما يجوز له زرعه، وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأنه لا فائدة في أن يكتري أكثر مما جرت العادة بأن يدرك الزرع فيه في الغالب؛ لأن فيه تضييع الأجرة، و: «قد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال» .
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة المثل لما زاد على مدة الإجارة؛ لأنه لا يجوز الإضرار به في تعطيل منفعة أرضه بغير عوض.
وإن كان استأجر الأرض لزرع معين لا يستحصد في مثل تلك المدة.. نظرت:
فإن شرط عليه قلعه عند انقضاء المدة.. فالإجارة صحيحة؛ لأن له غرضًا في(7/356)
قلعه، فإذا انقضت المدة.. أخذ بقلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» ، وإن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
وإن شرطا تبقية الزرع فيها إلى أن يستحصد.. فالإجارة باطلة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة، فأبطلها، وله أن يمنعه من الزراعة، فإن بادر المكتري، فزرعها قبل المنع.. لم يجبر على نقله؛ لأنه زرع مأذون فيه، ويجب للمكري أجره المثل؛ لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد باطل.
وإن أطلقا ولم يشرطا القلع ولا التبقية.. فإن الإجارة صحيحة؛ لأن الانتفاع بالزرع في تلك المدة ممكن، وهل يجبر على نقله عند انقضاء المدة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجبر؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لأن المكري لما أجره أرضه مدة لزرع لا يستحصد فيها.. فقد رضي بتركه فيها؛ لأن العادة جرت أن الزرع لا يحصد إلا بعد أن يستحصد.
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة مثل أرضه؛ لما زاد على مدة الإجارة.
[فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد]
] : وإذا اكترى أرضًا للزراعة، فزرعها، وحصد زرعه.. فإنه يلزم المكتري قلع ما بقي في الأرض من قصب الزرع وعروقه؛ لأنه عين ماله، فلزمه إزالته عن أرض الغير.
[مسألة: غرس زرع بعد انقضاء المدة]
وقبلها] :
وإن اكترى أرضًا مدة للغراس.. فليس له أن يغرس بعد انقضاء المدة؛ لزوال العقد، فإن غرس شيئًا بعد المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه غرس غير مأذون فيه، وأما ما غرسه قبل انقضاء المدة: فينظر فيه:(7/357)
فإن كان قد شرط قلعه بعد انقضاء المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه دخل في العقد على ذلك، ولا يجب على المكري غرامة ما نقص الغراس بالقلع، ولا على المكتري تسوية حفر الأرض، ولا أرش نقصها بالقلع؛ لأنهما رضيا بذلك.
فإن قيل: هلا قلتم: إن شرط القلع يبطل هذه الإجارة؛ لأن إطلاقها يقتضي التبقية، وكل عقد صح مطلقًا بطل بالتوقيت، كالنكاح؟
قلنا: التبقية بعد المدة ليست من مقتضى العقد، فلذلك لم يبطل العقد إذا شرط ما يخالف مقتضاه، وإنما التبقية من مقتضى الإذن، فلذلك شرط القلع لم يؤثر في العقد.
وإن لم يشرطا القلع، ولكن أطلقا أو شرطا التبقية.. فالحكم فيهما واحد.
فإن لم يختر المكتري القلع.. لم يجبر على قلعه من غير عوض.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجبر على قلعه من غير عوض) .
وقال مالك: (المكري بالخيار: بين أن يطالب بالقلع من غير ضمان، أو يدفع قيمته ليكون له، أو يبقيه في الأرض، ويكونا شريكين) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم، فوجب أن يكون له حق، ولأن كل من اكترى ملكًا لغيره.. فإن تفريغه على حسب العادة، والعادة في الشجر أنه يراد للتأبيد، ولا ينقل حتى يجف وييبس.
إذا ثبت هذا: فإن اختار المكري أن يقلع غراسه.. كان له ذلك؛ لأنه عين ماله، فملك نقله إلى حيث شاء، وهل يلزمه تسوية حفر الأرض، وأرش نقص إن حدث بها لأجل القلع؟ ينظر فيه:
فإن قلعه بعد انقضاء مدة الإجارة.. لزمه ذلك. واختلف أصحابنا في تعليله:(7/358)
فمنهم من قال: لأنه قلع غراسه من ملك الغير بغير إذنه، فهو كالغاصب.
ومنهم من زاد وصفًا آخر، فقال: لأنه قلعه من أرض غيره بغير إذنه، ولا يد له عليها.
وإن كان ذلك قبل انقضاء المدة، فمن قال بالتعليل الأول.. فإنه قال: يجب عليه تسوية الأرض وأرش النقص، ومن قال بالثاني.. قال: لا يجب عليه هاهنا شيء. والأول أصح.
وإن لم يختر المكتري القلع.. فالمكري هاهنا بالخيار بين ثلاثة أشياء:
[الأول] : بين أن يعطي المكتري قيمة غراسه، ويتملكه مع أرضه. قال الشافعي: (وإن كانت عليه ثمرة.. أعطاه قيمة الثمرة أيضًا؛ لأنها ملك لصاحب الغراس) . فلما جاز أن يعطيه قيمة الشجرة ويملكها.. فكذلك الثمرة.
و [الثاني] : بين أن يقلع الغراس، ويضمن ما نقص بالقلع، فيقال: كم قيمته وهو ثابت؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وهو مقلوع؟ فإن قيل: خمسون.. دفع إليه خمسين، وقلع.
و [الثالث] : بين أن يقر الغراس في الأرض، ويطالبه بأجرة مثلها؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
فإن اختار إقراره بالأجرة، ثم بدا للمكري، وبذل قيمته ليتملكه، أو بذل أرش نقصه ليقلعه.. كان له ذلك.. وكذلك لو اختار المكتري قلع غراسه بعد أن كان قد رضي ببذل الأجرة.. كان له ذلك.
فإن باع صاحب الغراس غراسه من صاحب الأرض.. صح بيعه، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأن لصاحب الأرض أن يبذل قيمته ليتملكه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن ملكه ثابت عليه في الحال، واستحقاق المكري إزالة ملكه عنه لا يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فيه الشفعة.(7/359)
[فرع: غرس أرضًا في إجارة فاسدة]
فإن اكترى أرضًا كراء فاسدًا، فغرس فيها أو بنى.. كان الحكم في قلع ذلك أو إقراره حكم ما ذكرناه في الإجارة الصحيحة؛ لأنه مأذون فيه.
وبالله التوفيق(7/360)
[باب ما يوجب فسخ الإجارة]
إذا وجد المستأجر بالعين التي استأجرها عيبًا لم يعلم به، تنقص به المنفعة، بأن وجد الظهر أعرج، أو وجد العبد المستأجر للخدمة أجذم، أو أبرص، أو انقطع الماء في البئر في الدار المستأجرة، وما أشبه ذلك.. فله أن يرد العين بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت له الرد لأجله، كما لو اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، وكذلك: إذا حدث العيب في العين المستأجرة في يد المستأجر.. فله أن يردها؛ لأن العين في يد المستأجر كالعين في يد المؤاجر، فإذا ثبت له الرد فيما كان موجودًا في يد المؤاجر.. فكذلك بما أحدث في يد المستأجر.
وإن اكترى أرضًا للزراعة فزرعها، فأفسد الماء أو الجراد زرعه، أو اكترى دكانًا ليبيع فيه البز، فاحترق بزه.. لم يكن له أن يفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما هلك مال المستأجر.
وأما إذا جاء سيل فغرق الأرض المستأجرة، أو زاد نهر فغرقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن كان السيل والماء ينفصل عنها بعد يوم أو يومين، أو بعد مدة لا تفوت بها الزراعة.. فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما عارضها عارض، إلا أن له خيار الفسخ؛ لأن المنفعة تأخرت، فهو كإباق العبد المستأجر، وإن كان الماء بحيث لا يزول عنها، فإن كان ذلك عقيب عقد الإجارة.. انفسخت الإجارة؛ لأن المنفعة قد تلفت، ويسترد المستأجر المسمى إن كان قد دفعه، وإن كان قد مضى من زمان الإجارة مدة لها أجرة.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وهل ينفسخ فيما مضى منها؟ على الطريقين فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإذا قلنا: تنفسخ في الجميع.. وجبت عليه أجرة المثل؛ لما مضى من المدة.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي لا غير.. ثبت للمستأجر الخيار فيما مضى من المدة؛(7/361)
لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن فسخ العقد فيها.. كان كما لو قلنا: ينفسخ، وإن لم يفسخ.. قسم المسمى على أجرة المثل لما مضى، وأجره المثل لما بقي من المدة.
وإن استأجر دارا فتشعثت: لزم المكري إصلاحها، فإن أصلحها.. فلا كلام، وإن لم يصلحها.. فللمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن ذلك عيب بها. وإن لم تفسخ حتى مضت مدة الإجارة.. فهل يلزمه جميع الأجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه جميع الأجرة؛ لأنه لم يستوف جميع المنفعة، فهو كما لو سكنها بعض المدة، فانهدمت.
فعلى هذا: يقال: كم أجرة مثل هذه الدار قبل التشعث؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: فكم أجرة مثلها وهي متشعثة؟ فإن قيل: خمسة عشر.. سقط عنه من المسمى ربعه إن وجد التشعث في ابتداء مدة الإجارة، وإن وجد بعد مضي بعض المدة، بأن مضى من المدة نصفها.. رجع بثمن الأجرة.
والوجه الثاني: يلزمه جميع الأجرة المسماة؛ لأنه رضي بسكناها ناقصة، فلزمه جميع المسمى، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا ولم يرده.
[فرع: رد العين المستأجرة بالعيب]
ومتى رد العين المستأجرة بالعيب، فإن كانت الإجارة وقعت على عينها.. لم يكن له أن يطالب ببدلها، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا فرده.. فإنه لا يطالبه ببدله.
فإن ردها بالعيب قبل أن يمضي شيء من المدة.. انفسخ العقد، ورجع بجميع المسمى، وإن كان ذلك بعد أن مضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.
وإن كانت الإجارة على عين في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة برد العين، بل له أن يطالب ببدلها سليمة، كما لو أسلم إليه على شيء، فدفعه إليه، فوجد به عيبًا.(7/362)
[مسألة: استأجر دابة فماتت]
وإن استأجر من رجل عبدًا، فمات قبل قبض العبد، أو بهيمة بعينها، فماتت، فإن كان ذلك قبل أن يقبضها المستأجر.. انفسخت الإجارة، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض. وإن قبضه المستأجر واستوفى المنفعة، ثم مات العبد، أو البهيمة.. لم يؤثر ذلك في الإجارة؛ لأنه قد استوفى المنفعة. وإن مات بعد أن قبضه المستأجر، وقبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة، وبه قال كافة الفقهاء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (لا تنفسخ، كما لو اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات في يده) . وهذا خطأ؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وقد تلفت قبل القبض، فانفسخت الإجارة، كما لو مات قبل القبض.
وإن مات العبد بعد أن استوفى المستأجر بعض المنفعة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.
[مسألة: استأجر دارًا فهدمت]
وإن استأجر دارًا للسكنى فانهدمت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تنفسخ الإجارة) ، وقال فيمن أجر أرضًا للزراعة، فانقطع ماؤها: (فإن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة) .
فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان:
أحدهما: تنفسخ فيهما الإجارة؛ لأن المنفعة المعقود عليها قد تلفت، فهو كما لو مات العبد المستأجر.(7/363)
والثاني: لا تنفسخ الإجارة فيهما؛ لأن المنفعة فيهما لم تتلف، وإنما نقصت المدة، فهو كما لو تشعثت الدار المستأجرة.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنفسخ الإجارة في الدار، ولا تنفسخ في الأرض؛ لأن الدار غير باقية بعدم الانهدام، والأرض باقية بعد انقطاع الماء.
[فرع: غصب العين المستأجرة]
وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة، فيطالب المستأجر المؤاجر بإقامة عين غيرها مقامها؛ لأن المعقود عليه في ذمته.
وإن كانت الإجارة على منفعة تلك العين.. نظرت:
فإن غصبها أجنبي.. فللمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه تأخر حقه، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، فإن كانت الإجارة على عمل.. لم تنفسخ، بل متى وجد العين المستأجرة.. استوفى منفعته منها، وإن كانت الإجارة على مدة، فمضت المدة.. فهو كما لو اشترى عينًا، فأتلفها أجنبي قبل القبض.
وإن غصبها المؤاجر وكانت على مدة، فمضت قبل أن يفسخ المستأجر الإجارة.. فعلى الطريقين في العين المبيعة إذا أتلفها البائع قبل القبض.
[مسألة: استكرى مرضعة فماتت]
وإن استأجر امرأة للإرضاع، فماتت المرأة، فإن كان قبل أن يمضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة، وإن كان بعد أن مضى شيء من المدة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان.
وإن مات الصبي قبل أن يمضي شيء من المدة.. ففيه قولان:(7/364)
أحدهما: لا تنفسخ الإجارة بموته؛ لأنه مستوفى به، فلا تبطل الإجارة بموته، كالراكب.
والثاني: تنفسخ، وهو المشهور؛ لأن العقد وقع على إيقاع الفعل فيه، وقد تعذر ذلك بموته، فانفسخت الإجارة، كما لو استأجره لخياطة ثوب، فتلف الثوب.
فإذا قلنا بالأول.. أقيم غير الصبي مقامه، إن تراضيا على ذلك.. جاز، وإن تشاحا.. فسخ العقد.
فرع: [قذف الطفل لبن المرضع] :
وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي، فصار يقذف من لبنها.. قال الصيمري: فللمستأجر أن يفسخ الإجارة؛ لأنه عيب فيها.
[فرع: استنكف عن استئجار الطبيب]
وإن استأجر رجلًا ليقلع له ضرسًا ألمًا، فبرئ، أو ليكحل له عينًا عليلة، فبرئت قبل الكحال.. فهو كما لو مات الصبي الذي استؤجر على إرضاعه على ما مضى؛ لأنه لا يجوز قلع ضرس لا ألم فيه، ولا كحل عين لا علة بها.
وإن لم يبرأ، ولكن امتنع المستأجر من القلع أو الكحل.. قال ابن الصباغ: فإنه لا يجبر عليه؛ لأن الأجير إذا بذل العمل ومكن منه.. وجب على المستأجر دفع الأجرة.
وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنها لا تستقر، حتى إن هذا الضرس لو انقلع.. لانفسخت الإجارة، ووجب رد الأجرة، كما قلنا في النكاح إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها، ويفارق إذا حبس الدابة مدة المسافة.. فإن الأجرة تجب عليه؛ لأن المنافع تلفت تحت يده.(7/365)
[مسألة: موت الأجير في الحج]
] : وإن مات الأجير في الحج بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه يمكن استيفاؤه بعد موته، ولا يستحق الأجير لما قطع من المسافة شيئًا من الأجرة.
وإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت الإجارة؛ لأن المعقود عليه عمل الأجير بنفسه، وقد فات ذلك بموته.
وهل يستحق الأجير هاهنا شيئًا من الأجرة؟ المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يستحق شيئًا من الأجرة) .
واستفتي أبو بكر الصيرفي وأبو سعيد الإصطخري عام القرامطة، وقد أحصر الناس قبل الإحرام، فأفتيا: أن للأجراء بقدر ما قطعوا من المسافة من الأجرة؛ لأن هذه المسافة لا بد منها، ولا يتوصل إلى النسك إلا بقطعها، فوجبت لها الأجرة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأجرة إنما يقابل المقصود بها، وهي الأفعال الواقعة على المستأجر، فأما السبب: فلا يقابله، كما إذا استأجره ليبني له، أو ليخبز له، فقرب آلة البناء وآلة الخبز، فمات قبل البناء والخبز.
فأما إذا مات الأجير بعد ما أتى بجميع أركان الحج، وبقي عليه الرمي والمبيت.. فقد سقط الحج عن المحجوج عنه، ويلزم الأجير الجبران بالدم لما بقي عليه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان:(7/366)
من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يرد شيئًا؛ لأنه قد جبر ما تركه بالدم، فصار كما لو لم يترك شيئًا.
والثاني: يرد؛ لأنه فعل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وأما الدم: فإنه وجب على الأجير لحق الله تعالى دون حق المستأجر.
وإن مات الأجير بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالوقوف في الحج، أو بالطواف والسعي.. فهل يستحق هاهنا شيئًا من الأجرة؟
إن قلنا بقول الصيرفي وأبي سعيد الإصطخري: إنه يستحق شيئًا من الأجرة إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. فهاهنا أولى أن يستحق.
وإن قلنا بالمنصوص: (إنه لا يستحق هناك شيئًا) .. فهل يستحق الأجير هاهنا من الأجرة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأن ما أتى به لا يسقط به عن المستأجر الفرض، فلم يستحق له أجرة، كما لو استأجر رجل رجلًا ليرد عليه عبده الآبق، فرده إلى بعض الطريق، ثم هرب منه.
والثاني: يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأنه قد عمل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
فإذا قلنا بهذا: فكم يستحق من الأجرة؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين:
أحدهما: يقسط على قطع المسافة والعمل، وإن كان لو انفرد قطع المسافة.. لم يستحق له شيئًا؛ لأنه هاهنا تابع للعمل. ويجوز أن يتناول العقد شيئًا على وجه التبع وإن لم يفرد، كأساس الحيطان، وطي الآبار، يصح بيعه تبعًا لغيره، ولا يصح بيعه وحده.(7/367)
والثاني: يقسط على العمل وحده؛ لأنه المقصود، بخلاف قطع المسافة، فإنه لو قابلها بشيء من العوض بعد العمل.. لقابلها قبل العمل.
و [الثاني] : قال أبو العباس: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على العمل خاصة) إذا استأجره ليحصل له حجة، ولم يعين المسير من بلده.
والموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على قطع المسافة والعمل) إذا استأجره ليحصل له حجة من بلده.
إذا ثبت هذا: فهل يجوز البناء على عمل الأجير؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز) ؛ لأنه عمل تدخله النيابة، فجاز البناء عليه، كسائر الأعمال.
وقال في الجديد: (لا يجوز) . وهو الصحيح؛ لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها، فلا يتأدى بنفسين، كالصوم، والصلاة، وفيه احتراز من تفرقة الزكاة.
فإن قلنا بقوله الجديد، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. استأجر المستأجر من يحرم عنه بالحج، وإن كانت الإجارة في الذمة.. لم تبطل الإجارة بموت الأجير، ويستأجر ورثة الأجير من يستأنف الإحرام عن المستأجر. وإن فات وقت الوقوف.. تأخر الحج إلى السنة الثانية، فإن كانت الإجارة عن حي.. فله أن يفسخ الإجارة، ويسترجع الأجرة، وإن كانت عن ميت.. لم يكن للوصي أن يفسخ الإجارة؛ لأن الحي يستفيد بالفسخ التصرف في الأجرة، وهذا لا يوجد في الإجارة عن الميت.
وإن قلنا بقوله القديم، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو المستأجر، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تبطل بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو وارث الأجير.
وأما ما يحرم به الأجير الثاني: فينظر فيه:(7/368)
فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. فإن الثاني يحرم بالحج من مكانه، ولا يجب الدم؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
وإن كان قد فات وقت الوقوف بعد وقوف الأول.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يحرم بالعمرة، ويطوف ويسعى؛ لأنه لا يجوز أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج، ولا يأتي بالرمي والمبيت؛ لأنه ليس في العمرة رمي ولا مبيت.
والثاني - حكاه الشيخ أبو حامد -: أنه يحرم إحرامًا مطلقًا لا ينوي به حجًا ولا عمرة.
والثالث - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه يحرم بالحج؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
قال أصحابنا: وجميع هذه الأوجه ضعيفة؛ لأن:
على قول أبي إسحاق: يحرم بالعمرة، ويطوف عنها ويسعى، ثم يقع ذلك عما عليه من طواف الحج وسعيه، وهذا لا يجوز.
وعلى قول الثاني: الإحرام المطلق لا بد من صرفه إلى حج أو عمرة.
وعلى قول الثالث: يحرم بالحج في غير أشهر الحج، وهذا لا يجوز. وضعفها يدل على ضعف القول القديم الذي تفرعت عليه.
[مسألة: أجر عبده ثم أعتقه]
وإن أجر عبده، ثم أعتقه قبل انقضاء مدة الإجارة.. صح عتقه؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم يمنع صحة العتق، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ولأنه إذا صح عتق العبد المغصوب.. فلأن يصح عتق العبد المستأجر أولى، وهل يرجع العبد على سيده بأجرة المدة بعد العتق؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يرجع عليه بأجرة المثل لمدة الإجارة بعد العتق) ؛ لأنه فوت(7/369)
عليه بالإجارة ما كان يملكه من منفعة نفسه بعد العتق، فوجب عليه بدلها، كما لو أكرهه على العمل.
وقال في الجديد: (لا يرجع عليه بشيء) . وهو الصحيح؛ لأنه تصرف في منافعه تصرفًا كان له، فإذا طرأت الحرية.. لم يملك الرجوع عليه بشيء، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها.
فإذا قلنا بقوله القديم.. كانت نفقة العبد على نفسه بعد العتق.
وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب نفقته على المولى؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه ملك بدل منفعته.
والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجابها على المولى؛ لأنه قد زال عن ملكه. ولا على نفسه؛ لأنه لا يقدر عليها مدة الإجارة.
فإذا قلنا: تجب على المولى.. ففي قدرها وجهان:
أحدهما: تجب عليه نفقته بالغة ما بلغت، لأن من وجبت عليه نفقة شخص بالملك.. وجبت بالغة ما بلغت، كالعبد المملوك.
والثاني: يجب عليه أقل الأمرين من نفقته، أو قدر أجرة مثله؛ لأنها إنما وجبت عليه؛ لاستحقاقه بدل منفعته بعد العتق، فلا يجب عليه أكثر من بدل المنفعة.
[مسألة: استئجار عين وموت أحد المتكاريين]
إذا استأجر من رجل عينًا، أو استأجره على منفعة، فمات أحد المتكاريين أو ماتا قبل استيفاء المنفعة.. لم تبطل الإجارة، وبه قال عثمان البتي، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
ويقال أبو حنيفة، والثوري، والليث: (تبطل بموت أحدهما) .
دليلنا: أنه عقد لازم، فلا يبطل بموت العاقد، كالبيع.(7/370)
[مسألة: بيع المؤجر لغير المستأجر قبل استيفاء الزمن]
] : وإن أجر داره، ثم باعها من غير المستأجر قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البائع لا يمكنه تسليمه إلى المشتري، فلم يصح كالمغصوب.
والثاني: يصح البيع، فإن كان المشتري عالمًا بكونه مستأجرًا.. فلا خيار له. وإن لم يعلم.. فله الخيار، وبه قال مالك، وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم تمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته، ثم باعها.
وقال أبو حنيفة: (البيع موقوف على إجازة المستأجر، فإن أجازه.. صح، وإن رده.. بطل) . بناء على أصله في البيع الموقوف، وقد مضى.
[فرع: أكرى عينًا ثم باعها من المستأجر]
وإن أكرى عينًا وباعها من المكتري قبل أن يستوفي المنفعة.. صح البيع، قولًا واحدًا؛ لأنه ليس هاهنا يد تحول بينه وبين العين المبيعة، وهل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنفسخ، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن الإجارة عقد على منفعة الرقبة، فإذا ملك الرقبة.. بطل العقد على منفعتها، كما لو تزوج أمة، ثم اشتراها.
والثاني: لا تنفسخ الإجارة، وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأنه ملك المنفعة بعقد، والرقبة بعقد، لم يتنافيا، كما لو اشترى الثمرة، ثم اشترى الأصل، ولأن الموصى له بالمنفعة لو أجر منفعته من مالك الرقبة.. لاجتمع للمستأجر ملك الرقبة والمنفعة، ولم تبطل الإجارة، فكذلك هذا مثله، ولأنه لو أجر عينًا من رجل، ثم استأجرها المكري من المكتري.. لصح أن يجتمع له ملك الرقبة والمنفعة، فكذلك هذا مثله.(7/371)
فإذا قلنا بهذا: فتلفت العين قبل انقضاء مدة الإجارة.. لم يبطل البيع؛ لأن المبيع هلك في يد المبتاع، ولكن تبطل الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تبطل فيما مضى؟ على طريقين، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: تبطل.. فهل يرجع المكتري بأجرة المدة بعد البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الإجارة انفسخت لمعنى من جهة المستأجر، فلم يرجع بشيء، كالمرأة إذا ارتدت قبل الدخول.
والثاني: يرجع بأجرة المدة بعد البيع، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لأن الإجارة انفسخت قبل انقضاء مدتها، فرجع بأجرة ما بقي، كما لو تقايلا.
وإن استأجر رجل من أبيه دارًا، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ على الوجهين الأولين.
فإن مات الأب وعليه دين يحيط بالتركة، فإن قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ.. فإن الأجرة تؤخذ من الابن، وتقسم على أصحاب الديون، ولا تباع الدار حتى يستوفي الابن منفعته. وإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ.. فإن أجرة ما بقي من المدة بعد الموت لا تؤخذ من الابن إن كان لم يدفعها، وتؤخذ الدار في الحال، وتباع لحق أصحاب الديون.
وإن كان الابن قد دفع جميع الأجرة إلى الأب.. قال ابن الحداد: رجع الابن هاهنا بأجرة ما بقي من المدة؛ لأنه لا صنع له في انفساخ الإجارة، بخلاف الشراء.
[فرع: استأجر من أبيه فمات فورثه]
وإن استأجر رجل من أبيه دارًا مدة معلومة، وسلم الأجرة إلى الأب، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة ولا دين عليه، وخلف ابنين أحدهما هذا المكتري، فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة إذا مات الأب ولا وارث له غير المكتري.. لم تنفسخ الإجارة هاهنا في شيء من الدار، ولا يرجع الابن المكتري هاهنا على أخيه بشيء. وإن قلنا هناك: تنفسخ الإجارة.. فإن الإجارة لا تنفسخ هاهنا في نصف الدار الذي ورثه الابن غير(7/372)
المكتري، ولكن تنفسخ الإجارة في نصفه الذي ورثه الابن المكتري، وهل يرجع الابن المكتري على أخيه بشيء من الأجرة؟
قال ابن الحداد: يرجع عليه بربع أجرة الدار في المدة التي بقيت من الإجارة بعد موت الأب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الإجارة لما انفسخت في نصف الدار.. استحق الابن الرجوع في أجرة ما انفسخت فيه الإجارة، وذلك دين تعلق بتركة الميت، فكان على الابن غير المكتري نصف ذلك بقسطه من الميراث، ألا ترى أن الأجرة التي سلمها الابن لو كانت باقية.. لكانت بينهما نصفين؟ فإذا كانت تالفة.. وجب أن يأخذ من الذي أخذ أخوه من التركة بقسط ما انفسخت فيه الإجارة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على أخيه بشيء؛ لأن الذي انفسخت فيه الإجارة هو النصف الذي ورثه المكتري، فلا يجوز أن يرجع على أخيه بشيء.
قال ابن الصباغ: وما قاله ابن الحداد.. غير صحيح؛ لأنه إذا جعل ما انفسخ فيه العقد من الأجرة بينهما.. فقد ملك المكتري بميراثه نصف الدار بمنفعته. وورث الآخر نصف الدار مسلوب المنفعة. قال: والأولى في ذلك أن يقوم نصيب المكتري بمنفعته، ويقوم نصيب غير المكتري مسلوب المنفعة، ويكون لغير المكتري من التركة ما بين القيمتين، ويكون للمكتري نصف المسمى فيما بقي من المدة من التركة.
[فرع: استأجر دارًا وقبل مضي المدة اشتراها]
] : فإن اكترى رجل من رجل دارًا مدة، ثم اشتراها المكتري قبل انقضاء مدة الإجارة، ثم وجد بها عيبًا يرد به المبيع، فردها المشتري، وفسخ البيع، فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإنه يستوفي ما بقي له من الإجارة بعد الرد بالعيب، وإن قلنا بقول ابن الحداد: إن الإجارة تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإن الإجارة لا تعود بالرد بالعيب؛ لأن الإجارة انفسخت حين ملكها بالشراء، فلا تعود الإجارة بالرد بالعيب إلا بعقد جديد.(7/373)
[فرع: وجد المكتري في العين عيبًا بعد بيعها من آخر]
وإن اكترى رجل من رجل عينًا مدة، ثم باعها المكري من غير المكتري قبل انقضاء المدة، وقلنا: يصح البيع، فوجد المكتري بالعين عيبًا فردها.. فلمن تكون منفعة العين فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: تكون للمشتري؛ لأن المنفعة تابعة للرقبة، وإنما استحقها المكتري بعقد، فإذا زال حقه.. عادت إلى مالك العين، كما نقول فيمن زوج أمته من رجل، ثم باعها من آخر، ثم طلقها الزوج، فإن منفعة البضع تكون للمشتري.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: بل تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة للمكري؛ لأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة تلك المدة، فلا يجوز أن يرجع إليه ما لم يملكه، ولأن المكري يستحق عوض المنفعة على المكتري تلك المدة، فإذا سقط العوض.. عاد المعوض إليه.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول من خالف ابن الحداد: يجوز أن يبيع الرجل داره، ويستثنى منفعته مدة معلومة، وعلى قوله فيها: لا يصح.
[مسألة: أجر الموقوف له العين الموقوفة]
إذا أجر الموقوف عليه العين الموقوفة عليه مدة.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 334] :
أحدهما: لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يملك العين، وإنما يملك منفعتها مدة حياته، ولعله يموت قبل مضي مدة الإجارة، فلم تصح الإجارة، كما لو استعار عينًا من غيره مدة، وأجرها.
والثاني: يصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور؛ لأن منفعة الوقف الآن حق له، فجاز له العقد عليها، كما لو استأجر عينًا، ثم أجرها.(7/374)
وهذان الوجهان إنما هما إذا جعل الواقف النظر للموقوف عليه، أو لم يجعل الواقف النظر إلى أحد، وقلنا: إن النظر فيه يكون للموقوف عليه.
فأما إذا جعل الواقف النظر في الوقف على أهل البطون إلى رجل، فأجر الوقف عليهم مدة.. صحت الإجارة، وإذا مات أهل البطن الأول.. استحق أهل البطن الثاني أجرة العين من حين انتقال الوقف إليهم، ولا تبطل الإجارة بموت أهل البطن الأول، وجهًا واحدًا.
وأما إذا كان النظر في الوقف للموقوف عليه، فأجر الوقف مدة، وقلنا: تصح، ثم مات الموقوف عليه قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه أجر عينًا ملك عقد الإجارة عليها، فلم تبطل بموته، كما لو أجر عينًا يملكها مدة، ثم مات قبل انقضاء المدة.
والثاني: تبطل بموت الموقوف عليه الأول؛ لأن منافع الوقف بعد موت الأول حق للثاني، فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولاية.
ويفارق إذا أجر ملكه ثم مات؛ لأن الوارث يملك من جهة المورث، وقد زال ملك المورث عن المنفعة، والموقوف عليه الثاني يملك من جهة الواقف، فلا ينفذ عقد الأول.
فإذا قلنا: لا تبطل الإجارة، فإن كان ما يخص البطن الثاني من الأجرة على المكتري لم يقبضه منه الأول.. أخذه منه الثاني، وإن كان الأول قد قبضه من المكتري.. رجع الموقوف عليه الثاني بذلك في تركة الأول؛ لأنه لما لزم الثاني عقد الأول.. لزمه قبضه.
وإذا قلنا: تبطل الإجارة فيما بقي من المدة.. فهل تبطل فيما مضى؟ فيه طريقان:(7/375)
فـ[الأول] : إذا قلنا: تبطل.. كان للموقوف عليه الأول أجرة المثل؛ لما مضى.
و [الثاني] : إن قلنا: لا تبطل.. ثبت للمكتري وورثة الأول الخيار في فسخ عقد الإجارة، فإن فسخاه أو أحدهما.. كان لورثة الأول أجرة المثل فيما مضى، وإن لم يفسخه واحد منهما.. كان لهم بقسط ما مضى من المدة من المسمى.
[فرع: بلوغ الصبي يؤثر في الإجارة]
وإن أجر رجل صبيًا له عليه ولاية، أو أجر ماله مدة، ثم بلغ الصبي قبل انقضاء المدة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا تنفسخ، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه عقده في حال ولايته عليه، فصار كما لو زوجه، ثم بلغ.
ومنهم من قال: تنفسخ؛ لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي عليه إلى هذا الوقت.
ومنهم من قال: ينظر فيما عقد عليه الولي من المدة:
فإن تحقق أن الصبي يبلغ قبل انقضائها، مثل: أن يكون له أربع عشرة سنة، فأجره سنتين.. فإنه لا يصح في السنة الأخيرة؛ لأنه يتحقق أنه يبلغ بخمس عشرة سنة، وهل يصح في الأولى؟ على قولين في تفريق الصفقة.
وإن كانت مدة لا يتحقق بلوغه فيها، مثل: أن يؤجره وله أربع عشرة سنة، فبلغ فيها بالاحتلام.. لم تنفسخ الإجارة، وكانت لازمة له.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الوجهين الأولين إنما هما إذا كانت مدة الإجارة لا يتحقق بلوغه فيها، وأما إذا كان يتحقق بلوغه فيها.. فلا يلزم بعقد الولي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يعقد على منافعه طول عمره، ويفارق النكاح؛ لأن النكاح لا يمكن تقدير مدة فيه.
وبالله التوفيق(7/376)
[باب تضمين المستأجر والأجير]
إذا استأجر عينًا لمنفعة فقبضها، فتلفت في يده مدة الإجارة من غير فعله.. لم يلزمه ضمانها؛ لأنه قبضها لمنفعة يستحقها، فهو كما لو اشترى ثمرة نخلة، فتلفت النخلة حال أخذه الثمرة، وإن تلفت بفعله.. نظرت:
فإن كان فعلًا جائزًا، كضرب البهيمة المعتاد للمشي، وكبحها المعتاد باللجام.. لم يلزمه ضمانها، وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه ضمانها، كما لو ضرب زوجته فماتت) .
دليلنا: أن الضرب والكبح المعتاد معنى تضمنه عقد الإجارة، فلم يكن موجبًا للضمان، كالركوب، ويخالف ضرب الزوجة، فإنه كان يمكنه تخويفها وزجرها بالكلام، بخلاف الدابة.
وإن كان فعلًا غير جائز، بأن ضربها ضربا غير معتاد، أو كبحها كبحًا غير معتاد، فماتت.. لزمه ضمانها؛ لأنه متعد بذلك، فلزمه ضمانها كما لو ذبحها.
مسألة: [استأجر ظهرًا مسافة فزاد عليها] :
وإن اكترى ظهرًا ليركبه من الجند إلى عدن، فركبه إلى عدن، ثم ركبه من عدن إلى أبين.. فإن عليه الأجرة المسماة إلى عدن؛ لأنه ملك ذلك عليه، وعليه(7/377)
أجرة المثل بركوبه من عدن إلى أبين.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه أجرة المثل لما زاد) . بناء على أصله: أن المنافع لا تضمن بالغصب. وقد مضى ذلك.
وقال مالك: (إذا جاوز بها إلى مسافة بعيدة، مثل: أن اكتراها من بغداد إلى واسط، فركبها إلى البصرة.. فصحابها بالخيار: بين أن يطالبه بأجرة المثل، وبين أن يطالبه بقيمتها يوم التعدي) .
دليلنا [على أبي حنيفة] : أنه استوفى أكثر مما استحقه، فهو كما لو اشترى من رجل عشرة أقفزة فقبض منه خمسة عشر قفيزًا.
وعلى مالك: لأن العين قائمة، فلا يطالب بقيمتها، كما لو كانت المسافة قريبة.
وأما وجوب ضمان الظهر على المكتري: فإنه يضمنه من حين جاوز من عدن إلى أبين؛ لأنه تعدى بالمجاوزة، فإن رده من أبين إلى عدن.. فإنه لا يزول عنه الضمان حتى يرده إلى يد مالكه أو وكيله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وفرَّقا بينها وبين الوديعة بأنه إذا تعدى فيها، وردها إلى الحرز.. زال عنه الضمان؛ لأن الوديعة مأذون في إمساكها، والظهر غير مأذون له في إمساكه بعد العود.
وقال محمد، وزفر: يزول عنه الضمان في الإجارة إذا رده إلى الموضع الذي اكترى إليه، كما قالوا في الوديعة إذا ردها إلى الحرز.
دليلنا: أنه ضمنها بالتعدي، فلا يزول الضمان عنه بالرد إلى المكان، كما لو غصب عينًا، وردها إلى المكان الذي غصبها منه.
وإن مات الظهر.. نظرت:(7/378)
فإن مات في المسافة التي استأجر إليها.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه أمانة في يده. وإن مات بعد أن جاوز به المكان الذي استأجر إليه.. نظرت:
فإن كان صاحبها معها، بأن كانا لما بلغا إلى عدن جاوز بها المستأجر إلى أبين وصاحبها ساكت يسير معها.. فإن المكتري لا يضمنها باليد؛ لأن يد صاحبها عليها؛ لأنه لم تزل يده عنها، فهو كما لو سرق الرجل جملًا وعليه خز.. فإنه لا يضمنه.
فإن نزل المستأجر عن الدابة، وتلفت بعد نزوله عنها، أو مضى بها صاحبها لسقيها، فتلتف في يده.. لم يجب على المكتري الضمان؛ لأنها تلفت في يد صاحبها.
وإن تلفت والمكتري راكب عليها.. فالظاهر أنها تلفت من فعلين:
أحدهما: لا يوجب الضمان، وهو ركوبه لها إلى المكان الذي اكترى إليه.
والثاني: يوجب الضمان، وهو ركوبه لها بعد المجاوزة، فيلزمه الضمان، وفي قدر ما يلزمه قولان:
أحدهما: يلزمه نصف قيمته؛ لأن الظهر تلف من جائز وغير جائز، فلزمه نصف قيمتها، كما لو جرحه مالكه، وجرحه المكتري، ومات.
والثاني: تسقط القيمة على المسافتين، فما قابل المسافة التي اكترى إليها.. لا تجب عليه، وما قابل المسافة التي تعدى بها.. تجب عليه؛ لأنه يمكن التقسيط للقيمة عليهما.
وأصل هذه المسألة: إذا أمر الإمام الجلاد أن يجلد رجلًا ثمانين جلدة في القذف، فجلده إحدى وثمانين، فمات المجلود.. فكم يضمن الجلاد؟ على قولين:
أحدهما: نصف الدية.
والثاني: جزءًا من إحدى وثمانين جزءًا من الدية.(7/379)
وسئل الشيخ أبو حامد عمن سخر رجلًا مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها؟ فقال: لا يضمنها الغاصب؛ لأنها في يد صاحبها.
وأما إذا لم يكن المكري مع الظهر، فتلف الظهر في يد المكتري بعد أن جاوز به المكان الذي اكترى إليه.. فإنه يلزمه جميع قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به إلى أن تلف؛ لأنه تعدى بذلك، وقد تلف في يده، فهو كالغاصب.
[فرع: اكتريا ظهرًا فركب ثالث]
وإن اكترى رجلان ظهرًا ليركباه، فركباه، وارتدف معهما ثالث بغير إذن، فتلف الظهر.. وجب على المرتدف الضمان؛ لأنه تعدى بذلك. وفي قدر ما يلزمه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه نصف قيمة الظهر؛ لأنه تلف من جائز وغير جائز.
والثاني: يلزمه ثلث قيمته؛ لأن الرجال لا يوزنون، فيقسط على عددهم.
والثالث: تقسط القيمة على أوزانهم؛ لأنه يمكن وزنهم.
فرع: [اكترى مركبة ليحمل عليها وزنًا معينًا] :
إذا اكترى منه بهيمة ليحمل عليها عشرة أقفزة إلى بلد، فحمل عليها طعامًا، فكيل، فوجد أحد عشر قفيزًا، فإن كانت تلك الزيادة حصلت بفعل المكتري، بأن كان المكتري هو الذي كال الطعام، وحمله على البهيمة، وساقها، فتلفت البهيمة.. فإنه يجب على المكتري الأجرة المسماة لحمل العشرة الأقفزة، ويجب عليه أجرة(7/380)
المثل بحمل ما زاد على عشرة، كما لو اكتراه إلى بلد، فجاوز به إلى غيره، ويجب عليه جميع قيمة البهيمة؛ لأنها تلفت تحت يده بعدوانه، وإن كان صاحبها معها.. لزم المكتري الضمان؛ لما تعدى به من حمله على البهيمة أكثر مما يستحقه. وفي قدر ما يلزمه من الضمان قولان:
أحدهما: نصف قيمتها.
والثاني: يقسط الزائد، بناء على القولين في الجلاد إذا جلد إحدى وثمانين.
وليس للمكتري أن يطالب المكري برد الزيادة إلى البلد الذي اكترى منه. وأما إن كانت الزيادة حصلت بفعل المكري، بأن فوض المكتري إليه أن يكيل عشرة أقفزة، ويحملها على بهيمة، فكال المكري أحد عشر قفيزًا، وحملها على بهيمته.. فإنه غاصب لما زاد على العشرة؛ لأنه قبضه بغير إذن مالكها، ولا تجب له أجرة بحمله؛ لأنه متطوع بحمله، فإن تلفت البهيمة.. لم يلزم المكتري ضمانها؛ لأنها تلفت بفعل صاحبها، وللمكتري أن يطالب المكري برد ما زاد على العشرة إلى البلد الذي اكترى منه؛ لأنه حمله بغير إذنه، وليس للمكتري إجباره على رده، بل لو اختار إقراره في البلد الذي حمله إليه.. كان له؛ لأنه عين ماله.
وإن لقيه المكتري في البلد الذي حمل منه الطعام.. فهل له أن يطالبه ببدل الطعام إلى أن يرد إليه طعامه؟
نقل المزني: (أن له مطالبته ببدله) . وقال في " الأم ": (له مطالبته برده) . وقد قيل: له المطالبة ببدل الطعام.
ومن أصحابنا من قال: له المطالبة ببدله إلى أن يرد إليه طعامه، كمن غصب من رجل عبدًا، فأبق منه.
ومنهم من قال: ليس له المطالبة ببدله؛ لأن عين ماله باقية يمكن ردها، ويفارق الآبق، فإنه لا يمكن رده، والذي حكاه الشافعي فليس بمذهب له.
وأما إذا كال المكتري أحد عشر قفيزًا، وحملها المكري على بهيمته، ولم يعلم.. ففيه وجهان:(7/381)
أحدهما: أن حكمه حكم ما لو كاله المكتري، وحمله على البهيمة؛ لأن التدليس حصل بالكيل؛ لأن المكري لم يعلم به.
والثاني: أن حكمه حكم ما لو كاله المكري، وحمله على البهيمة؛ لأنه مفرط في ذلك، وكان الاحتياط أن لا يحمل إلا بعد المعرفة بقدره.
وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن سم طعامه، وقدمه إلى غيره، فأكله.
قال أبو إسحاق: وهذا إذا كانت الزيادة بحيث يمكن الاحتراز منها، ولا يقع التفاوت فيها بين الكيلين، وأما إذا كانت يسيرة لا يمكن الاحتراز منها، ويقع مثلها في الكيلين، مثل: أن يزيد مكوكًا أو مكوكين.. فلا يكون لها حكم في أجرة ولا ضمان ولا رد؛ لأن ما يقع في المكيال في العادة من الغلط يعفى عنه، كما يعفى عن الغبن الذي يتغابن الناس بمثله في بيع الوكيل.
وإن كانت الزيادة بفعل أجنبي، بأن استأمنه المكتري والمكري على أن يكيل عشرة أقفزة، ويحمله على البهيمة، فكال عليها أحد عشر قفيزًا، وحمله عليها.. فإنه يجب عليه أجرة المثل للزيادة للمكري، ويجب عليه ضمان البهيمة إن تلفت، ويجب عليه رد الزيادة للمكتري إلى البلد الذي حمل منه؛ لأنه تعدى بمال كل واحد منهما، فتعلق لكل واحد منهما حكم التعدي في ماله.
[فرع: اختلاف المكري والمكتري في وزن الحمل]
وإن اختلف المكري والمكتري في الزيادة، بأن قال المكتري: أنا حملت عليها أحد عشر قفيزًا، وقال المكري: بل حملت أنت عليها عشرة أقفزة، وحملت عليها لنفسي قفيزًا.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأن يده عليها. قيل له: وإن كان المكتري مع الطعام؟ قال: نعم؛ لأن ذلك على بهيمة المكري ويده عليها وعلى المتاع الذي عليها.(7/382)
[فرع: اكترى أرضًا ليزرعها حنطة فزرع غيرها]
] : وإن اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها ما هو أضر من الحنطة، بأن زرعها ذرة أو دخنًا.. فاختلف أصحابنا فيما يلزمه من الأجرة:
فقال الشيخ أبو إسحاق: هي على قولين:
أحدهما: يلزمه أجرة المثل للأرض؛ لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه أجرة المثل، كما لو استأجر أرضًا ليزرعها وزرع غيرها.
والثاني: يلزمه الأجرة المسماة وأجرة المثل للزيادة؛ لأنه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرًا إلى مكان، فجاوز به.
وقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة.
والثاني: أن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع.
وقال القاضي أبو حامد: المسألة على قول واحد، وأن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع؛ لأنه أخذ شبهًا ممن اكترى أرضًا، فزرع غيرها، وشبهًا ممن اكترى ظهرًا إلى مكان، فجاوز به إلى غيره، فخير بين موجبيها.
وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه مائة منا قطنًا، فحمل عليه مائة منا حديدًا.. فهو كما لو اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها دخنًا على ما مضى من الخلاف. والذي(7/383)
يقتضيه المذهب: أن الأرض والبهيمة إذا تلفتا تحت يد المكتري.. وجب عليه ضمانهما؛ لأنه تعدى بما فعله، فصار ضامنًا لهما بذلك.
[مسألة: تلف العين بيد الأجير]
وإن استأجر رجل رجلًا ليعمل له في عين، فتلفت العين في يد الأجير.. نظرت: فإن كان بتفريط من الأجير، مثل: أن استأجره ليخبز له، فألزق الخبز قبل أن يسكن حمي التنور أو الفرن ويهدأ لهبه، أو ترك الخبز فيه أكثر مما يترك في العادة، فاحترق.. ضمنه بكل حال؛ لأنه هلك بعدوانه.
وإن هلك بغير تفريط من الأجير.. نظرت:
فإن كان يعمل في ملك المستأجر، مثل: أن استدعى خياطًا إلى داره أو دكانه ليخيط له، أو استدعى صباغًا إلى ملكه ليصبغ له، أو لم يكن في ملكه، إلا أنه واقف مع الأجير مشاهد له، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فلا يجب على الأجير ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد المالك ثابتة على عين ماله حكمًا، فهو كما لو أجر رجلًا دابة ليركبها، فركبها وصاحبها معها.
وإن لم تكن يد صاحبها عليها، مثل: أن كان الخياط يخيط في ملك نفسه، والمستأجر غائب عنه، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فهل يجب على الأجير الضمان؟ ينظر فيه:
فإن كان أجيرًا مشتركًا.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وروي ذلك عن عمر، وعلي.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» ، ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق، فضمنها، كالعارية.(7/384)
فقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة.
وقولنا: (بغير استحقاق) احتراز من الرهن ومن العين التي استأجرها.
والثاني: لا يجب عليه الضمان، وبه قال عطاء، وطاوس، وزفر، وأحمد، وإسحاق، والمزني. وهو الصحيح؛ لأنها عين قبضها بعقد الإجارة، فلم يضمنها من غير تعد، كالعين المستأجرة، أو لأنها عين قبضها لمنفعة نفسه ومنفعة المالك، فلم يضمنها من غير تعد فيها، كمال القراض والنخل في المساقاة.
وقال الربيع: كان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى: أنه لا ضمان على الأجير، قولًا واحدًا، وإنما كان لا يبوح به لفساد الصناع. هذا مذهبنا.
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن تلفت العين بأمر ظاهر، كالحريق، والنهب.. فلا ضمان عليه، وإن تلفت بغير ذلك.. ضمن.
وقال أبو حنيفة: (إن تلفت بفعله.. ضمنها وإن كان الفعل مأذونًا فيه، وإن تلفت بغير فعله.. فلا ضمان عليه) . وتوجيه القولين دليل عليهم.
وإن كان الأجير منفردًا.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هو على قولين. وهو المنصوص؛ لأن الشافعي قال: (والأجراء كلهم سواء) .
ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان، قولًا واحدًا، كما لو كان العمل في دكان المستأجر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في صفة الأجير المشترك والمنفرد:
فمنهم من قال: (المشترك) : هو الذي استأجره على عمل في ذمته؛ لأن لكل أحد أن يستأجره على عمل في ذمته، وهو مشترك بين الناس. و (المنفرد) : هو الذي استأجره ليعمل له مدة؛ لأنه لا يجوز لغيره أن يستأجره في تلك المدة، فقد انفرد بها.
ومنهم من قال: (المشترك) : هو أن يستأجره ليعمل له شيئًا، وقال له: اعمله في أي موضع شئت، فيجعله شريكًا في الرأي والتدبير. و (المنفرد) : أن يستأجره(7/385)
ليعمل له شيئًا، وقال: اعمله في هذا الموضع، ولا تعمله في غيره. والصحيح هو الأول.
[فرع: استأجر معلمًا ليعلم صبيًا]
وإن استأجر رجلًا ليعلم له صبيًا.. فللمعلم أن يضربه ويؤدبه على التعليم؛ لأن العادة جرت به.
فإن مات الصبي منه.. وجب على الأجير ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأنه قد كان يمكنه تأديبه بالتخويف والزجر بالقول، بخلاف البهيمة، حيث قلنا: إذا ضربها المستأجر ضربًا معتادًا، فماتت منه.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنه لا يمكن زجرها بغير ذلك.
وإن مات الصبي في يد المعلم من غير فعل منه، فإن كان حرًا.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يده ثابتة على نفسه، وإن كان مملوكًا.. فعلى قولين؛ لأن يد المعلم تثبت على المملوك.
[فرع: لا يد للحجام على الحر]
ولا يد للحجام على الحر، فإن مات بغير تعد من الحجام فيه.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يد الحر ثابتة على نفسه، وإن كان المحجوم مملوكًا، فمات وهو في يد الحجام بغير تعد منه فيه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ فيه قولان، كالبهيمة.
وإن استأجر رجلًا ليرعى له غنمًا، فتلفت في يد الأجير من غير تفريط منه، فإن كان يرعاها في ملك صاحبها، أو في غير ملكه إلا أن مالكها مشاهد لها.. لم يجب على الراعي ضمانها، قولًا واحدًا، وإن كان يرعاها في موات، أو في ملك الأجير ومالكها غير مشاهد لها.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه قولان.
وإن استأجر له رجلًا ليحفظ له متاعًا في دكانه.. لم يضمنه الأجير من غير تفريط منه، قولًا واحدًا؛ لأنه في ملك صاحبه.(7/386)
[فرع: استأجر سائسًا ليروض دابته]
وأن استأجر رواضًا ليروض له دابة.. فله أن يضربها ويكبحها باللجام، ويحمل عليها في السير أكثر مما يكون لمستأجر الدابة؛ لأن القصد تأديبها، وذلك لا يحصل إلا بذلك، فإن فعل ذلك وماتت منه، فإن كانت في ملك صاحبها، أو كان مشاهدًا لها.. لم يجب على الرائض ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد صاحبها عليها، وإن كان في غير ملك صاحبها وهو غائب عنها.. فهل يجب على الأجير ضمانها؟ فيه قولان.
وإن ضربها، أو كبحها، أو حمل عليها في السير أكثر مما جرت عادة الرواض به، فماتت.. ضمنها، قولًا واحدًا؛ لأنه متعد بذلك.
[فرع: ما يضمنه الأجير]
وأما قدر ما يضمنه الأجير.. فينظر فيه:
فإن استأجره ليعمل له في عين في ملكه أو غير ملكه وهو مشاهد لها.. فقد قلنا: إنه لا يضمنها الأجير إلا بالتعدي فيها، فإن تعدى الأجير فيها، ثم أتلفها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يلزمه قيمتها يوم الإتلاف لا يوم التعدي؛ لأنه إذا تعدى فيها وهي باقية.. فيد مالكها عليها، فزال تعديه بثبوت يد صاحبها عليها.
وإن كان الأجير يعمل في غير ملك المستأجر والمالك غير مشاهد لها، فإن قلنا: إن يده يد أمانة فتعدى فيها.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين التعدي إلى أن تلفت. وإن قلنا: إن يده ضمان.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.
ومن أصحابنا من قال: يجب قيمتها يوم التلف إلا أن يتعدى بها.. فيلزمه على هذا قيمتها أكثر ما كانت من حين تعدى بها إلى أن تلفت. والأول أصح.
وأما وجوب الأجرة للأجير إذا تلفت العين بعد أن عمل جميع العمل أو بعضه.. فينظر فيه:(7/387)
فإن كان العمل في ملك المستأجر أو في غير ملكه وهو مشاهد لها.. استحق الأجير أجرة ما عمل؛ لأنه كلما عمل الأجير شيئًا.. صار قابضًا له.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يكون الأجير تعدى في العين حين ابتدأ في العمل، فإنه لا يستحق أجرة ما عمل؛ لأنه متعد حين العمل، فلم يستحق أجرة.
وإن كان العمل في ملك الأجير والمستأجر غير مشاهد له.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه أمين.. لم يستحق الأجرة؛ لأنه لم يسلم العمل، وإن قلنا: إنه ضامن.. استحق عليه الأجرة؛ لأنه يقوم عليه معمولًا، فيصير بالتضمين مسلمًا للعمل، فاستحق الأجرة.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يستحق الأجير الأجرة على القولين، وإن كان قد أخذ الأجرة.. ردها؛ لأن الأجرة إنما تستقر له بتسليم العمل، ولم يسلم له شيئًا من العمل.
[فرع: استأجر حائكًا لينسج غزله]
قال ابن الصباغ: إذا دفع إلى حائك غزلًا، واستأجره لينسجها له ثوبًا طوله عشرة أذرع في عرض أربعة، فنسجه دون الطول والعرض المذكورين.. استحق من الأجرة بحصة ما عمل من المسمى، وإن نسجه أكثر مما قدر له.. لم يستحق زيادة على المسمى.
وقال محمد بن الحسن: إذا جاء به أكثر من الذرع المشروط أو أقل.. فصاحب الثوب بالخيار: بين أن يطالبه بمثل غزله ويدفع إليه الثوب، وبين أن يدفع إليه بحسابه من الأجرة؛ لأن غرضه لم يسلم له. وهذا غير صحيح؛ لأنه استأجره ليعمل له عملًا، فعمل له بعضه فاستحق بقدره من الأجرة، كما لو استأجرة ليضرب له لبنا معلومًا، فضرب له بعضه.(7/388)
[فرع: استأجره لينسج ثوبًا صفيقًا]
قال الطبري: وإن استأجره لينسج له غزلًا ثوبًا صفيقًا، فنسجه رقيقًا.. فله أجرة المثل، وإن استأجره لينسجه رقيقاُ، فنسجه صفيقًا.. فله المسمى، ولا شيء له للزيادة في العمل.
وقال أبو حنيفة: (يضمن قيمة الغزل في الحالين، والثوب له) .
دليلنا: أن ما عمله من جنس ما استؤجر عليه، والنقص عن المشروط عبث بمال الغير، فاقتضى ضمانًا، ولا ينقل الملك قهرًا، والزيادة التي أحدثها متطوع بها، فلم يستحق لأجلها أجرة.
وإن جحد النساج الغزل، ثم نسجها ثوبًا.. فالثوب لمالك الغزل، ولا شيء للأجير.
وقال أبو حنيفة: (الثوب للنساج، وعليه قيمة الغزل) .
دليلنا: أنه صار ضامنًا له بالجحود، فلا يستحق أجرة بعد ذلك، ولا يملكها، كالغاصب.
[فرع: استأجره بريدًا]
وإن استأجر رجلًا ليحمل له إلى رجل كتابًا، ويرد الجواب، فأوصل الأجير الكتاب إلى المكتوب إليه، فمات المكتوب إليه قبل رد الجواب.. فللأجير من الأجرة بقدر ذهابه.
وقال أبو حنيفة: (لا شيء له) .
دليلنا: أنه عمل بعض ما استؤجر عليه على مقتضى الأمر، فاستحق من الأجرة بقدر ما عمل، كما لو كتب إلى جماعة، فأوصل إليهم، فرد بعضهم الجواب دون بعض.(7/389)
وإن استأجره ليحمل له الكتاب إلى رجل، ولم يقل: وترد الجواب، فلم يجد الأجير المكتوب إليه. استحق الأجير الأجرة.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحق) .
دليلنا: أنه عمل المعقود عليه؛ لأن عليه قطع المسافة بالكتاب، فاستحق الأجرة، كما لو وجد المكتوب إليه، فدفع إليه الكتاب، فامتنع من أخذه.
[مسألة: إتلاف الخياط القماش]
إذا دفع إلى رجل ثوبًا، وقال: إن كان يكفيني للقميص فاقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لزم القاطع الضمان، لأنه أذن له بالقطع بشرط، وقد قطعه من غير وجود الشرط، فضمنه.
وإن قال: أيكفينى للقميص؟ فقال: نعم، فقال: اقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لم يلزم القاطع الضمان؛ لأنه قطعه بإذن مطلق.
وإن دفع إلى رجل ثوبًا، فقال: استأجرتك لخياطته، فإن خطته روميًا فلك درهمان، وإن خطته فارسيًا فلك درهم.. فالأجرة فاسدة.
وقال أبو حنيفة: (الأجرة صحيحة) .
دليلنا: أن المنفعة المعقود عليها غير معينة، فلم تصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين، أو بعتك هذا الثوب بدرهم، أو هذا العبد، أو هذين العبدين بدرهمين.
[فرع: أجرة الحمامي]
واختلف أصحابنا فيما يأخذه الحمامي:
فمنهم من قال: هو ثمن الماء، وهو متطوع بحفظ الثياب، ومعير للسطل.(7/390)
فعلى هذا: لا يضمن الحمامي الثياب إذا تلفت من غير تفريط، وله عوض السطل إذا تلف بكل حال.
ومنهم من قال: هو أجرة الدخول والسطل ولحفظ الثياب.
فعلى هذا: لا يضمن الداخل السطل إذا تلف بغير تعد منه.
وهل يضمن الحمامي الثياب إذا لم يفرط فيها؟ على قولين؛ لأنه أجير مشترك.
[مسألة: ارتكاب الأجير محظورًا في الحج]
إذا ارتكب الأجير في الحج شيئًا من محظورات الحج، بأن تطيب أو لبس.. وجبت الفدية في ماله؛ لأنها جناية، فكان بدلها عليه.
وإن استأجره ليقرن عنه أو يتمتع.. فإن الدم يجب على المستأجر؛ لأنه وجب بإذنه.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيها قولًا مخرجًا: أنه يجب على الأجير، كدم الجبرانات. والأول هو المشهور.
فإن شرط المستأجر: أن دم القران والتمتع على الأجير.. بطلت الإجارة؛ لأنه في معنى بيع وإجارة، إلا أن الهدي مجهول، فلذلك لم يصح، قولًا واحدًا.
[فرع: إفساد الأجير الحج]
وإن أفسد الأجير الإحرام بالوطء.. فإن الإحرام ينقلب إلى الأجير، وعليه أن يمضي في فساده، ويلزمه بدنة، ويلزمه القضاء.
وقال المزني: لا ينقلب إلى الأجير، بل يمضي فيه الأجير عن المستأجر، ولا يجب القضاء على أحدهما؛ لأن الحج لا يجوز أن ينعقد عن شخص وينقلب إلى(7/391)
غيره، ولا يجب القضاء على الأجير؛ لأن الحج فسد على غيره ولا على المستأجر؛ لأنه لم يفسد. وهذا خطأ؛ لأنه أتى بالحج على غير الوجه المأذون فيه، فوقع عنه، كما لو وكله أن يشتري له عينًا بصفة، فاشترى له عينًا بغير تلك الصفة، وهل تنفسخ الإجارة؟
قال ابن الصباغ: إن كانت الإجارة على حج الأجير بنفسه.. انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه حجه بنفسه في هذه السنة، وقد فات ذلك، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. فهل يثبت للمستأجر الخيار؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة عن حي.. ثبت له الخيار؛ لأنه يستفيد بذلك التصرف بالأجرة.
وإن كانت الإجارة عن ميت من ماله.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يثبت للمستأجر الخيار؛ لأن له فائدة في الفسخ، وهو أنه يتعجل عنه الاستئجار في السنة الثانية؛ لأن الأجير يقضي فيها عما أفسده.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا بد من استئجار غيره. وأما قضاء الأجير في الثانية: فإنه يمكنه أن يستأجر من يحج عن الميت؛ لأن الإجارة في ذمته.
[فرع: إحصار الأجير]
] : وإن أحرم الأجير عن المستأجر، وأتى ببعض النسك، ثم أحصر.. فإنه يتحلل، وعمن يقع ما فعله قبل التحلل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يقع عن المستأجر؛ لأنه أتى به على الوجه المأذون فيه، بخلاف الإفساد.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يقع عن المحصر، والدم عليه. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس. وهل يكون له شيء من الأجرة؟ على قولين، كما لو مات.(7/392)
وإن لم يتحلل الأجير، وأقام حتى فات الحج وزال الحصر.. قال ابن الصباغ: انقلب إلى الأجير في قول الشيخ أبي حامد والقاضي، ويتحلل بعمل عمرة، ولا يستحق الأجرة على ما فعل بعد الفوات؛ لأنه فعل ذلك ليتحلل من إحرامه.
وهل يستحق الأجرة لما فعله قبل الإحرام؟ على قولين.
فرع: [استأجره ليحرم من ميقات معين] :
وإن استأجره ليحرم عنه من ميقات طريق، فسلك الأجير طريقًا آخر، فأحرم من ميقاتها.. أجزأ عن المحجوج عنه، ولا يلزم الأجير الدم، ولا يرد شيئًا من الأجرة وإن كان الميقات الذي أحرم منه أقرب إلى الحرم؛ لأن الشرع جعل هذه المواقيت يقوم بعضها مقام بعض من غير نقص.
وإن أحرم عنه من دون الميقات، أو استأجره ليحرم عنه من موضع فوق الميقات، فجاوز ذلك الموضع، وأحرم دونه.. لزم الأجير دم؛ لأنه ترك الإحرام من موضع لزمه الإحرام منه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟
روى المزني: (أنه يرد بقدره من الأجرة) . وقال في القديم: (أراق دمًا) . ولم يتعرض للأجرة. واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: يرد؛ لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه.
والثاني: لا يرد؛ لأن ما تركه قد انجبر بالدم، فهو كما لو تطيب أو قتل صيدًا.
ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا، وسكوته عن الأجرة لا يدل على أنه لا يرد منها شيئًا.
فعلى هذا: يقال: كم أجرة حجه من الميقات أو من الموضع الذي عينه؟ وكم أجرة حجه من الموضع الذي أحرم منه؟ وينظر ما بينهما، فيرد من المسمى مثل تلك النسبة.(7/393)
فرع: [استأجره في اليمن ليحرم بحج] :
وإن استأجر رجل رجلًا من اليمن ليحرم عنه بالحج من الميقات، فلما بلغ الأجير الميقات، أحرم بعمرة عن نفسه، فلما تحلل عنها، أحرم عن المستأجر بحجة من مكة.. لزم الأجير الدم، لا لأجل المنفعة ـ لأنهما عن شخصين ـ ولكن لأجل أنه ترك الإحرام عن المستأجر من الميقات، وهل يلزم الأجير أن يرد شيئًا من الأجرة؟ على ما مضى من الطريقين.
فإذا قلنا: يلزمه أن يرد.. فكيف يقسط؟ فيه قولان:
قال في " الأم ": (يلزمه أن يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من مكة، بأن يقال: كم أجرة حجة يحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: تسعة.. لزمه أن يرد عشر المسمى؛ لأن الحج إنما هو من الميقات، وما قبله ليس بحج) .
وقال في " الإملاء ": (تقسط الأجرة هاهنا على المسافة والعمل) . فيقال: كم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: وكم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من مكة؟ فإن قيل: عشرة.. لزمه أن يرد نصف المسمى؛ لأنه استأجره على عمل وسفر، وقد جعل السفر عن نفسه، فرد ما في مقابلته.
والفرق بين هذه المسألة على هذا القول والتي قبلها: أن هاهنا صرف المسافة إلى نفسه؛ لأنه اعتمر عن نفسه من الميقات، وفي التي قبلها لم يصرف المسافة إلى نفسه، بل قطعها عن المستأجر؛ لأنه أحرم بالنسك عنه، وإنما ترك بعض العمل. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: تقسط على حجة من اليمن وحجة من مكة؛ لأن سفره كان لنفسه. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه لا يعلم ذلك.(7/394)
فإن فرغ المعتمر من عمرته، ورجع إلى الميقات، فأحرم منه بحجة عن المستأجر.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قوله في " الأم ": (لا يرد شيئًا) ، وعلى قوله في " الإملاء ": (يرد ما بين الموضع الذي استأجره منه وبين الميقات) .
[فرع: استأجره لحج فترك واجبًا]
وإن استأجره للحج، فحج عنه وترك المبيت والرمي.. لزمه من الدماء ما يلزمه إذا ترك ذلك في حجة نفسه، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ على الطريقين فيمن أحرم دون الميقات.
فرع: [استأجره ليحج قارنًا فتمتع] :
إذا استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأتى بالعمرة والحج عنه متمتعًا.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه.
أما الزيادة: فلأنه استؤجر على نسكين ليأتي بهما معًا فأفردهما، وهذا أزيد، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه تطوع بها.
وأما النقصان: فلأنه استؤجر ليأتي بهما من الميقات، وقد أتى بالحج من مكة، فيقعان عن المحجوج عنه، ويجب على المستأجر دم التمتع؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم.
قال الشيخ أبو حامد: ويجب على الأجير دم لتركه الإحرام بالحج من الميقات. وقال المحاملي: يجزئ الدم الذي على المستأجر عن الأجير.
وهل يجب على الأجير أن يرد بقسط ما ترك من إحرامه بالحج من الميقات إلى مكة؟ فيه طريقان.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل على: أن الأجير يجب عليه الدم، إذ لو لم يجب عليه الدم.. لوجب أن يرد من الأجرة، قولًا واحدًا.(7/395)
فرع: [استأجره ليقرن فأفرد] :
وإن استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأفرد الحج عنه، فإن أتى بالحج لا غير، فقد استؤجر على نسكين ولم يأت إلا بأحدهما.. فيكون له من الأجرة بقسط ما أتى به، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه القران؟ فإذا قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة مفردة لا عمرة بعدها؟ فإن قيل: ثمانية.. لزمه أن يرد خمس المسمى. وإن أتى بالعمرة بعد الحج.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الصباغ: لا تقع العمرة عن المستأجر؛ لأنه عين له أن يأتي بها في أشهر الحج، فإذا فات ذلك الوقت لم يكن له أن يأتي بها عنه.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنها تقع عن المستأجر؛ لأنه قد أذن له بها.
فعلى هذا: إن أحرم الأجير بالعمرة من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه قد أتى بها من الميقات، وقد زاده خيرًا؛ لأن إفراد الحج والعمرة أفضل من القران، ولا يستحق لهذه الزيادة أجرة؛ لأنه متطوع بها. وإن أتى بالعمرة من أدنى الحل.. وجب عليه الدم؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ فيه طريقان.
فرع: [استأجر من يتمتع فقرن] :
إذا استأجر رجلًا ليحج عنه متمتعًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة من الميقات عنه.. وقعًا عن المستأجر، لأنه أذن فيهما، وقد زاد الأجير من وجه، ونقص من وجه، أما الزيادة: فلأنه أتى بالنسكين من الميقات، وأما النقصان: فلأنه استؤجر على أن يأتي بالنسكين منفردين، فجمع بينهما. ويجب على المستأجر دم؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم، ولا شيء للأجير بالزيادة حيث أحرم بالحج من الميقات؛ لأنه متطوع به، ولا يلزمه دم لترك إحرامه بالحج من مكة؛ لأن الميقات أبعد منها، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة لأجل النقصان؟ فيه وجهان:(7/396)
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: عليه أن يرد ما بين أجرة المتمتع والقارن من المسمى إن كان بينهما شيء.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه أن يرد شيئًا؛ لأن ذلك العمل يجزئ في الشرع عن العبادتين.
وإن استأجره ليحج عنه متمتعًا، فحج عنه مفردًا، فإن أتى بالحج عنه لا غير.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه، أما الزيادة: فلأنه كان عليه أن يحرم عنه بالحج من مكة، وقد أحرم به عنه من الميقات، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه متطوع بها، وأما النقصان: فلأنه استأجره ليأتي بنسكين عنه، فأتى عنه بأحدهما، فيرد من الأجرة بقدر ما ترك، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه التمتع؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: خمسة.. لزمه أن يرد نصف المسمى. وإنما قلنا: كم أجرة حجة يحرم بها من مكة؛ لأنه تطوع بالإحرام بها من الميقات.
وإن أتى بالعمرة عنه بعد الحج.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أحرم بها من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه زاده خيرًا، وإن أحرم بها من أدنى الحل.. فعليه دم لتركه الإحرام بالعمرة من ميقات البلد، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان.
وعلى قياس ما قال ابن الصباغ فيمن استؤجر ليقرن، فأفرد الحج وأتى بالعمرة بعده.. أن لا تقع العمرة هاهنا عن المستأجر؛ لأنه استأجره ليأتي بالعمرة عنه في أشهر الحج، وقد فاتت، فلا تقع عنه.
وعلى قياس قول الشيخ أبي حامد أنا إذا قلنا: إن التمتع أفضل من الإفراد.. أن يرد من الأجرة المسماة بقدر ما بين أجرة المتمتع والمفرد.
فرع: [استأجره ليفرد فقرن] :
وإن استأجر رجلًا ليحج عنه مفردًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة عنه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المناسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن المحجوج عنه، وقد زاده خيرًا، وعلى المستأجر دم القران) .(7/397)
وجملة ذلك: أن الأجير إذا استؤجر ليفرد الحج، فقرن بين الحج والعمرة، فإن كانت الإجارة عن ميت عليه فرض العمرة، أو عن حي قد كان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة، بأن يقول: تحج عني وتعتمر بكذا، فيقول الأجير: بل أحج عنك لا غير هذا، ثم عقد الإجارة على إفراد الحج، ثم قرن الأجير الحج والعمرة عنه.. فإن الحج والعمرة يقعان عن المحجوج عنه؛ لأن الميت لا يمكن إذنه. وأما الحي: فقد وجد منه ما يدل على الإذن. وعلى من يجب دم القران؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يصرح بالرضا بوجوبه عليه.
والثاني: على المحجوج عنه؛ لأن النسكين وقعا عنه.
وإن كانت الإجارة عن ميت لا عمرة عليه، أو عن حي لم يكن في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع النسكان عن المحجوج عنه؛ لأن العمرة من جنس الحج وتابعة له، فتضمن إذنه له بالحج إذنًا بالعمرة.
فعلى هذا: على من يجب دم القران؟ على الوجهين الأولين.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور ـ: أن النسكين يقعان عن الأجير؛ لأنه لم يوجد من المحجوج عنه الإذن في العمرة، فوقعت عن الأجير، وإذا انعقدت له العمرة.. انعقد له الحج؛ لأنهما نسك واحد، فلا يتبعض.
وإن استأجره للإفراد، فتمتع.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أتى بالعمرة من الميقات، وبالحج من مكة.. فقد أتى بالعمرة عن المستأجر بغير إذنه.
فإن كان المحجوج عنه ميتًا عليه فرض العمرة، أو حيًا وكان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. وقعت العمرة والحج عن المحجوج عنه، ودم التمتع على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يأذن بها، ولا شيء للأجير للعمرة؛ لأنه تطوع بها، وعلى(7/398)
الأجير دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين.
وإن كان المحجوج عنه ميتًا لا عمرة عليه، أو حيًا لم يوجد منه إذن بالعمرة ولا ما يدل عليه، ولم يعد الأجير للإحرام بالحج إلى الميقات.. فإن العمرة تقع عن الأجير، والحج يقع عن المحجوج عنه، ولا يجب على الأجير دم التمتع؛ لأنهما وقعا عن شخصين، ولكن عليه دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين.
فإذا قلنا: يجب عليه. فهل تقسط على المسافة والعمل، أو على العمل دون المسافة؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وبالله التوفيق(7/399)
[باب اختلاف المتكاريين]
إذا اختلفا في قدر الأجرة أو في قدر المنفعة.. تحالفا، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن أو المثمن.
وإن اختلفا في التعدي بالعين المستأجرة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التعدي.
وإن اختلفا في ردها.. فالقول قول المكري مع يمينه، كما قلنا في المعير.
وإن اختلف الأجير المشترك والمستأجر في رد العين التي استؤجر على العمل فيها، فإن قلنا: إنه ضامن.. فالقول قول المستأجر مع يمينه، كالمعير، وإن قلنا: إنه ليس بضامن.. ففيه وجهان، كالوكيل بجعل.
وإن قال الأجير: هلكت العين بعد العمل، فلي الأجرة، وقال المستأجر: بل هلكت قبل العمل فلا أجرة لك.. فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته.
[مسألة: اختلاف المستأجر والخياط على الصنع]
إذا دفع إلى خياط ثوبًا، فقطعه قباء، فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قميصًا، وقال الخياط: بل أمرتني أن أقطعه قباء.. فقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(7/400)
(اختلاف العراقيين) ، ونقلها المزني، فقال: فيها قولان:
أحدهما: القول قول الخياط، وهو قول ابن أبي ليلى.
والثاني: أن القول قول رب الثوب، وهو قول أبي حنيفة.
قال الشافعي: (وهذا أشبه، وكلاهما مدخول؛ لأن الخياط يدعي الأجرة، وينفي الغرم، ورب الثوب يدعي الغرم، وينفي الأجرة. ولا أقبل قولهما، وأردهما إلى أصل السنة، فيتحالفان) .
وقال في (الإملاء) : (إذا دفع إلى صباغ ثوبًا، فصبغه أسود، فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه أحمر، فقال الصباغ: بل أمرتني أن أصبغه أسود.. أنهما يتحالفان، وعلى الصباغ أرش النقص) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: أن القول قول الخياط.
والثاني: أن القول قول رب الثوب.
و [الطريق الثانية] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: القول قول الخياط.
والثاني: أن القول قول رب الثوب.
والثالث: أنهما يتحالفان.
و [الطريق الثالثة] : قال الشيخ أبو حامد: الأشبه بالمذهب: أنها على قول واحد، وأنهما يتحالفان؛ لأن الشافعي ذكر القولين في (اختلاف العراقيين) ، وطعن عليهما، ولما ذكر التحالف.. لم يطعن فيه.
فإذا قلنا: القول قول الخياط.. فوجهه: أنه قد ملك القطع لاتفاقهما عليه، فكان الظاهر أنه إنما فعل ما ملكه، فكيف يحلف؟(7/401)
قال ابن الصباغ: يحلف بالله: ما أذنت لي في قطعه قميصًا، ولقد أذنت لي في قطعه قباء.
وقال الشيخ أبو حامد: يحلف: أن رب الثوب أذن له في قطعه قباء.
فإذا حلف.. لم يلزمه الغرم؛ لأنه حقق بيمينه أنه مأذون له فيما فعله، وهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق؛ لأنه يسقط بيمينه ما يدعى عليه من الغرم، فلا يجوز أن يثبت بيمينه حقا له.
والثاني: أنه يستحق؛ لأنا حكمنا بيمينه أنه مأذون له بالقطع، فاستحق الأجرة.
فإذا قلنا بهذا: فأي أجرة يستحق؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان:
أحدهما: الأجرة التي ادعاها أنها مسماة في العقد؛ لأنا قبلنا قوله: إن رب الثوب أذن له، فوجب له ما اقتضاه الإذن.
والثاني: لا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأنا لو قبلنا قوله.. لم يؤمن أن يدعي ألفًا، وأجرة مثله درهم.
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أنه يستحق المسمى، وجهًا واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: ما رأيت أحدًا من أصحابنا يقول: يستحق المسمى، وإن كان القياس يقتضي ذلك.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الشيخ أبا حامد، ومن قال: يستحق أجرة المثل ولا يستحق المسمى، أرادوا: إذا كان ما يدعيه من المسمى أكثر من أجرة المثل، فأما إذا كان الذي يدعيه من المسمى أقل من أجرة المثل.. استحق ذلك، وجهًا واحدًا إذا قلنا: إنه يستحق الأجرة؛ لأنه لا يجوز أن يوجب له أكثر مما يدعيه.
وإذا قلنا: إن القول قول رب الثوب ـ قال في (التعليق) : وهو الأصح ـ فوجهه:(7/402)
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» . والخياط يدعي على رب الثوب الإذن، ولأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول رب الثوب، فكذلك إذا اختلفا في صفته.
قال ابن الصباغ: وعندي: أنه يكفيه أن يحلف أنه ما أذن له في قطعه قباء، ولا يحتاج إلى إثبات إذنه في قطع القميص، فإذا حلف.. وجب الغرم على الخياط؛ لأنه أثبت بيمينه أن الخياط غير مأذون له في قطعه، والقطع بغير إذن يوجب الغرم، وفي قدر الغرم قولان:
أحدهما: يجب ما بين قيمة الثوب صحيحًا ومقطوعًا قباء؛ لأنه تعدى بقطعه قباء، فلزمه أرش القطع.
والثاني: يلزمه ما بين قيمته مقطوعًا قميصًا ومقطوعًا قباء؛ لأن قطع القميص مأذون فيه. وهل يجب للأجير أجرة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب له أجرة قطع ما تحصل من قطع القباء للقميص؛ لأنه مأذون فيه.
و [الثاني]ـ المنصوص ـ: (أنه لا شيء له) ؛ لأنه لم يقطعه للقميص، فهو متعد في ابتداء القطع.
وإذا قلنا: إنهما يتحالفان ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ فوجهه: أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه؛ لأنه الخياط يدعي الأجرة، ورب الثوب ينكرها. ورب الثوب يدعي الأرش، والخياط ينكره، فتحالفا، كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن.
فعلى هذا: إذا حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الحكم فيه كما لو قلنا: إن القول قول الحالف، وحلف. وإن حلفا.. لم يستحق الخياط الأجرة؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا يستحق لها أجرة.(7/403)
وهل يجب على الخياط أرش القطع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأن كل واحد منهما قد نفى بيمينه ما ادعي عليه به.
والثاني: يجب عليه؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد. والقطع من غير عقد يوجب الضمان.
فعلى هذا: في قدر الأرش القولان الأولان.
فكل موضع أوجبنا للخياط الأجرة.. فإن الخياط لا يرجع في الخيوط؛ لأنها إن كانت من الثوب.. فهي لصاحب الثوب، وإن كانت للخياط.. فهي تابعة للخياطة التي أخذ عليها الأجرة.
وكل موضع قلنا: لا أجرة له، فإن كان الثوب مخيطًا بخيوط من رب الثوب أو من الثوب.. فإن رب الثوب يأخذ ثوبه مخيطًا، وليس للخياط فتق الخياطة؛ لأنه قد عمل في ملك غيره عملًا لا عين له فيه، فلم يكن له إزالته، كما لو نقل ملك غيره من زاوية إلى زاوية.. فليس له رده إلا برضا المالك. وإن كانت الخيوط من الخياط.. فله أن يأخذ خيوطه؛ لأنها عين ماله. فإن بذل له رب الثوب قيمة الخيوط.. لم يجبر الخياط على قبولها؛ لأنها عين مال الخياط لا يتلف بردها ما له حرمة، فلم يلزمه أخذ عوضها. فإن قال رب الثوب: أنا أشد بطرف خيطك خيطًا، فإذا جررت خيطك دخل هذا الخيط مكان خيطك.. لم يلزم الخياط تمكينه من ذلك؛ لأنه انتفاع بملكه، ولأنه يتأخر بذلك وصوله إلى خيطه إلى أن يثبت الخيط الآخر مكانها، فلم يجبر على ذلك.
[مسألة: الأجير يحبس العين ليستوفي الأجرة]
إذا استأجر رجلًا ليعمل له عملًا في عين، مثل: خياطة، أو صياغة، فعمل الأجير ذلك.. فهل له أن يحسب العين إلى أن يستوفي الأجرة؟ فيه وجهان:(7/404)
أحدهما: لا يجوز له؛ لأن العين غير مرهونة عنده بالأجرة، ولأنه لو استأجره على حمل متاع فحمله.. لم يكن له حبس المتاع إلى أن يستوفي الأجرة، فكذا هذا مثله.
والثاني: له أن يحبس العين؛ لأن العمل في العين ملكه، فجاز له حبسه، كالعين المبيعة، بخلاف الحمل، فإنه لا يمكن حبسه.
[فرع: استحقاق أجرة المثل]
إذا دفع إلى رجل ثوبا ليخيطه له، أو متاعًا ليحمله له إلى مكان، فإن سمى له أجرة صحيحة.. استحق المسمى ولا كلام، وإن سمى له أجرة فاسدة، أو عرض له بالأجرة، بأن قال: اعمل وأنا أحاسبك على أجرتك، أو لا ترى مني إلا ما يسرك.. استحق أجرة المثل؛ لأنه قد عرض له بالأجرة وهي مجهولة، فاستحق أجرة المثل، كما لو سمى له عوضًا فاسدًا.
وأن دفعها إليه فعملها الأجير.. فهل يستحق أجرة الثمل؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يستحق أجرة المثل؛ لأنه قد أتلف عليه منافعها، فاستحق عليه بدلها، فهو كما لو أكرهه على العمل.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: إن استدعى الصانع لأن يعمل، بأن قال: أعطني ثوبك لأخيطه.. لم يستحق أجرة؛ لأنه اختار إتلاف منفعة نفسه بغير عوض. وإن استدعاه رب الثوب إلى العمل، بأن قال: خط لي هذا الثوب.. لزمه أجرة المثل؛ لأنه أدى ما عليه منفعته، فاستحق عليه بدلها.
والثالث: إن كان الصانع معروفًا بأخذ الأجرة على العمل.. استحق الأجرة؛ لأن(7/405)
العرف في حقه كالشرط، وإن كان غير معروف بذلك.. فلا أجرة له.
والرابع ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يستحق أجرة) ؛ لأن المنافع ليست بأولى من الأعيان، وقد ثبت أنه لو قدم إلى رجل طعامًا، وقال: كله.. لم يستحق عليه عوضه، فكذلك هذا مثله.
والله أعلم.(7/406)
[باب الجعالة]
يجوز عقد الجعالة في رد الآبق وخياطة الثوب، وكل عمل يجوز عقد الإجارة عليه، فيقول: من رد عبدي الآبق، أو خاط لي هذا القميص، أو خاط لي قميصًا. فله دينار؛ لقول تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] .
فذكر الله الجعالة في شرع من قبلنا ولم ينكرها، فدل على جوازها، ولأن بالناس حاجة إلى الجعالة؛ لأنه قد يأبق له عبد لا يعلم مكانه، ولا يقدر على رده بنفسه، ولا يجد من يتطوع بالمضي لرده، ولا تصح الإجارة على رده؛ للجهالة بمكانه، فجوز عقد الجعالة لذلك.
إذا ثبت هذا: فيصح أن يكون العامل في الجعالة غير معلوم، والعمل غير معلوم؛ للآية.
والفرق بين الجعالة والإجارة: أن الإجارة عقد لازم، فوجب تقدير العمل فيها والعامل، والجعالة عقد جائز، فجاز أن يكون العمل فيها غير معلوم، كالعارية.(7/407)
فإن قال: من رد عبدي من موضع كذا فله كذا.. صح؛ لأنه إذا صح ذلك مع جهالة العمل.. فلأن يصح إذا كان العمل معلومًا أولى.
فإن قال: من رد عبدي من البصرة في هذا الشهر فله كذا.. قال القاضي في (المجرد) : لم يصح؛ لأنه يكثر بذلك الغرر، حيث قدره بمدة معلومة.
[مسألة: تعيين قدر الجعل]
ولا تصح الجعالة حتى يكون عوض العمل معلومًا؛ لأنه عوض في عقد، فلم يصح مع الجهالة به، كالمسلم فيه.
والفرق بين العمل والعوض: أن العمل قد تدعو الحاجة إلى أن يكون مجهولًا؛ لما ذكرناه، ولا تدعو الحاجة إلى أن يكون العوض مجهولًا، ولأن العمل لا يكون لازمًا، والعوض يكون لازمًا بعد العمل.
فرع: [فيمن قال: أول من يحج عني فله كذا] :
فإن، قال: أول من يحج عني فله مائة درهم، فحج عنه رجل.. قال الشافعي في (المنثور) : (استحق المائة) .
وقال المزني: يستحق أجرة المثل. وليس بشيء؛ لأنه جعالة، والجعالة تصح لعامل غير معين.
[فرع: تفاوت الجعل في اختلاف المدة]
قال ابن الصباغ: فإن قال لرجل: إن خطت لي هذا الثوب اليوم فلك دينار، وإن خطته غدًا فلك نصف دينار.. فهو عقد فاسد، فإذا خاطه.. استحق أجرة المثل، وبه قال مالك، وزفر.
وقال أبو حنيفة: (الشرط الأول جائز، والثاني فاسد، فإن خاطه في اليوم الأول.. فله دينار، وإن خاطه بعده.. فله أجرة مثله) .(7/408)
وقال أبو يوسف، ومحمد: الشرطان جائزان.
دليلنا: أنه عقد واحد، فإذا اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير.. كان فاسدًا، كما لو قال: أجرتك هذا بدرهم نسيئة، أو بنصف درهم نقدًا.
إذا ثبت هذا: فكل موضع شرط فيه جعلًا فاسدًا، فعمل الأجير.. استحق أجرة مثله، كما قلنا في الإجارة.
[مسألة: العوض يلزم بشرط رب المال]
ولا يستحق العامل العوض إلا إذا عمل بإذن صاحب المال، وشرط العوض له، فأما إذا رد لرجل عبدًا آبقًا، أو رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. فإنه لا يستحق عليه عوضًا، سواء رده من موضع قريب أو بعيد، وسواء كان معروفًا برد الضوال أو لم يكن معروفًا بذلك.
وقال أبو حنيفة: (إن رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. لم يستحق عليه العوض ـ كقولنا ـ وإن رد له عبدا آبقًا بغير إذنه.. فالقياس: أنه لا يستحق عليه جعلًا، ولكن يعطى عليه جعلًا استحسانًا، فإن رده من مسيرة ثلاثة أيام فما زاد، وكانت قيمة العبد أربعين درهما فأكثر.. استحق عليه أربعين درهما، وإن رده من مسيرة دون ثلاثة أيام.. استحق عليه أجرة مثل عمله، وإن رده من مسيرة ثلاثة أيام، وقيمة العبد أربعون درهما.. استحق أربعين درهمًا إلا درهمًا، وإن كانت قيمته عشرة.. استحق عشرة دراهم إلا درهمًا) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: يعطى أربعين درهمًا بكل حال حتى لو كانت قيمته عشرة دراهم.
وقال مالك: (إن كان الراد معروفًا برد الضوال والأباق.. استحق أجرة مثله،(7/409)
وإن كان غير معروف بذلك.. فلا شيء له) .
دليلنا: أنه رد لغيره ما لم يشرط له عليه عوضًا، فلم يستحق عليه عوضًا، كما لو رد بهيمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان غير معروف برد الضوال مع مالك.
[فرع: الرد لا يستوجب العوض]
وإن رد عبده بإذنه، ولم يشرط له عوضًا.. فهل يستحق عليه أجرة المثل؟ على الأوجه الأربعة المذكورة في الإجارة، الصحيح: أنه لا يستحق عليه.
وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده من لم يسمع قوله ولا بلغه.. لم يستحق عليه شيئًا؛ لأنه متطوع.
وإن قال رجل: من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل.. استحق الدينار على الذي قال ذلك؛ لأنه التزم العوض فلزمه بالعمل. وإن نادى، فقال: قال فلان: من رد عبدي فله دينار، فرده رجل.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه حكى قول غيره، ولم يلتزم ضمانه. فإن أنكر مالك العبد أنه قال ذلك.. فالذي يقتضي المذهب: أنه المنادي إذا كان عدلًا وشهد عليه بذلك.. حلف من رد العبد معه إذا صدقه، واستحق على مالك العبد الدينار، وإن لم يكن عدلًا أو لم يشهد عليه.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه يقول: أنا صادق، ومالك العبد كاذب، فلا يلزمني الغرم بكذبه، ولأنه لا يلتزم ضمانه، فلا يلزمه بالحكاية.
[مسألة: يستحق الجعل بتمام العمل]
فإن قال: إن جئتني بعبدي فلك دينار، فرده حتى صار على باب البلد، فهرب العبد أو مات.. لم يستحق العامل شيئًا؛ لأن المقصود رده، ولم يوجد ذلك.(7/410)
والفرق بينه وبين الأجير في الحج ـ إذا عمل بعض العمل فمات.. أنه يستحق بقسط ما عمل في أحد القولين ـ: أن المقصود بالحد تحصيل الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب ببعض العمل، والمقصود هاهنا الرد، ولم يوجد، ولأن الإجارة عقد لازم.. فلزمت الأجرة بنفس العقد، وهاهنا الجعالة عقد جائز.. فلم تلزم إلا بالعمل.
فرع: [ما يستحق لبعض العمل] :
قال ابن الصباغ: فإن قال رجل لآخر: إن علمت ابني القرآن فلك كذا وكذا، فعلمه القرآن أو بعضه، ومات الصبي.. استحق الأجير بقدر ما علمه؛ لأن العمل وقع مسلمًا؛ لأن الصبي لا تثبت يد المعلم عليه.
ولو قال: إن خطت لي هذا الثوب فلك درهم، فخاط نصفه، وتلف الثوب في يد الخياط.. لم يستحق شيئًا؛ لأن رب الثوب لم يتسلم العمل.
وإن قال رجل: من رد عبدي من موضع كذا.. فله دينار، فرده رجل من نصف تلك المسافة.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل، وإن رده من أبعد من الموضع المذكور.. لم يستحق أكثر من الجعل المسمى؛ لأنه تطوع بما زاد عليها.
وإن أبق له عبدان، فقال: من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل. وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده جماعة.. اشتركوا في الدينار؛ لاشتراكهم في الرد.
وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك ديناران، وقال لآخر: إن رددته فلك ثلاثة، فردوه جميعًا.. استحق كل واحد منهم ثلث ما شرطه له؛ لأن كل واحد منهم عمل ثلث العمل. وإن شرط لواحد منهم جعالة فاسدة، ولآخرين جعالة صحيحة.. استحق من شرط له جعالة صحيحة ثلث ما سمى له، ويستحق من شرط له جعالة فاسدة ثلث أجرة مثله اعتبارًا بالانفراد.(7/411)
[فرع: معاون المجعول له لا يستحق عوضًا]
وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، فرده معه رجلان آخران، فإن قالا: عاوناه في الرد.. استحق المجعول له الدينار، ولم يستحقا شيئًا؛ لأنهما عملا له بغير عوض.
وإن قالا: شاركناه في العمل لنشاركه في الجعل.. استحق المجعول له ثلث الدينار؛ لأنه عمل ثلث العمل ولا شيء للآخرين؛ لأن مالك العبد لم يشرط لهما شيئًا، وإنما شرط للثالث.
[مسألة: فسخ الجعالة]
الجعالة عقد غير لازم؛ لأنها عقد على عمل مجهول بعوض، فكانت غير لازمة، كالقرض.
إذا ثبت هذا: فيجوز لكل واحد منهما فسخها، فإن فسخها العامل قبل العمل أو قبل تمامه.. لم يستحق شيئًا، وإن فسخها رب المال، فإن كان قبل أن يبتدئ العامل شيئًا من العمل.. لم يستحق العامل شيئًا من الأجرة؛ لأنه إنما عمل بقول رب المال، وقد رفع ذلك، وإن فسخ بعد تمام العمل.. لم يسقط عنه ما بذله من الجعل؛ لأنه قد استقر بالعمل، وإن كان بعد أن عمل العامل شيئًا من العمل.. استحق العامل أجرة ما قد عمله؛ لأنه ليس له إسقاط عمله بغير عوض.
[فرع: تعداد الجعل]
إذا قال: من رد عبدي فله عشرة دراهم، ثم قال: من رده فله درهم، أو قال: من رده فله درهم، ثم قال: من رده فله عشرة.. كان الاعتبار بالبذل الأخير؛ لأنه عقد غير لازم، فجاز النقصان والزيادة في عوضه، كالربح في القراض.(7/412)
[مسألة: اختلفا في العوض وقدره]
وإن قال العامل: شرطت لي العوض في رد عبدك، وقال مالك العبد: لم أشرط لك، أو قال العامل: شرطت لي العوض في رد هذا العبد، فقال: بل شرطت لك في رد غيره، ولا بينة.. فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل براءة ذمته.
وإن اختلفا في قدر العوض المشروط.. تحالفا، ووجب للعامل أجرة المثل، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد هلاكها.
وإن قال: أنا رددت عبدك الآبق، وقال العبد: بل جئت بنفسي، وصدقه المولى.. فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رده.
وبالله التوفيق(7/413)
[كتاب السبق والرمي](7/415)
كتاب السبق والرمي الأصل في جواز المسابقة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] [يوسف: 17] . فذكر الله(7/417)
المسابقة في شرع من قبلنا، ولم ينكرها، فدل على جوازها.
وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
وأجمعت الأمة على جواز المسابقة. إذا ثبت هذا: فتجوز المسابقة على الخيل والإبل؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل» .
وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها، فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه حق على الله أن لا يرتفع شيء من(7/418)
الدنيا ـ وروي: من هذه القذرة ـ إلا وضعه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
وروي: (لا سبق) بسكون الباء وبفتحها، فبسكونها: هو المصدر، وبفتحها: هو المال المسابق عليه. وأما (النصل) : فهي السهام التي يرمى بها، مثل: السهام العربية، والنشاب. وأما (الخف) : فهي الإبل. و (الحافر) : الخيل.
ويجوز ذلك بغير عوض؛ لما «روى سلمة بن الأدرع، قال: أتى علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نترامى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حسن هذا لعبًا، ارموا، فإن أباكم إسماعيل كان راميًا، ارموا، واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»(7/419)
ويجوز ذلك بعوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المتسابق عليه.
«وسئل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل كنتم تراهنون؟ فقال: نعم، راهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس له، فجاءت سابقة، فهش لذلك وأعجبه» والرهان(7/420)
لا يكون إلا على عوض. وهل تجوز على الفيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . والفيل له خف، ويقاتل عليه، فهو كالإبل.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد؛ لأنه لا يصلح للكر والفر، فهو كالبقر.
قال ابن الصباغ: والأول أولى، لأنه يقال: إنه يسبق الخيل.
وفي جواز المسابقة على البغال والحمير قولان:
أحدهما: لا تجوز؛ لأنها لا تصلح للكر والفر.
والثاني: تجوز، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو حافر» .
وتجوز المسابقة على الأقدام بغير عوض؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سابقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت.. سبقني، وقال: هذه بتلك» .
يقال: بدن الرجل ـ بضم الدال وتخفيفها ـ: إذا سمن. وبدن ـ بفتح الدال وتشديدها ـ: إذا كبر، يبدن تبدينًا. قال الشاعر
وكنت خلت الشيب والتبدينا ... والهم مما يذهل القرينا
وهل تجوز المسابقة على الأقدام بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لأنه يحتاج إليه الراجل في القتال، كما يحتاج إليه في الفرس للقتال.(7/421)
والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص، وبه قال أحمد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المسابق عليه.
وتجوز المسابقة على الطير بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز؛ لأنه يستعان بها في الحرب في حمل الكتاب بالأخبار.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر» . والطيور ليست بواحد منها.
وتجوز المسابقة على السفن بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز؛ لأنه يقاتل عليها في البحر، كما يقاتل على الخيل في البر.
والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها ليست بآله للحرب، وإنما الحرب فيها.
وتجوز المصارعة بغير عوض، وهل تجوز بعوض؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صارع يزيد بن ركانة على مائة، فصرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان لا يصرع، ثم عاد، فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم عاد فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسلم، ورد عليه الغنم» .(7/422)
والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلى في نصل، أو خف، أو حافر» . ولأن الصراع ليس بآلة الحرب.
وأما صراع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليزيد بن ركانة: فإنما كان طمعًا منه في إسلامه، ولهذا لما أسلم.. رد عليه الغنم.
[مسألة: المناضلة بالرمي]
وتجوز المسابقة على الرمي بالقسي العربية والعجمية بعوض وغير عوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» .
فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى مع رجل قوسًا عجمية، فقال: لعن الله حاملها، عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم بها» .(7/423)
فالجواب: أن الأمة أجمعت على جواز الرمي بالأعجمية، فيستدل بهذا الإجماع على أن هذا الخبر منسوخ، وإن لم نعلم ناسخه، ويحتمل أن يكون إنما نهى عنها ولعن حاملها؛ لأن العجم لم يكونوا أسلموا يومئذ، فلذلك لعنهم، ومنع العرب أن يتعرضوا بما لا يعرفون ولم يألفوه.
وتجوز المسابقة على الرمي بالمزاريق؛ لأن لها نصلًا، ويقاتل بها، فهي كالسهام، وهل تصح المسابقة بالرمح والسيف والعمود؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تجوز، وبه قال أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو نصل» ؛ لأنه لا يرمى بها، فلا معنى للمسابقة بها.
والثاني: تجوز، وقد قال الشافعي في (الأم) [4/148] : (بكل ما ينكي العدو، من سيف، أو رمح، أو مزراق) ، ولأنه سلاح يقاتل به، فهو كالنشاب.
وهل تجوز المسابقة على رمي الأحجار عن المقلاع بعوض؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما ـ ولم يذكر ابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه ليس بآلة للحرب.
والثاني ـ ولم يذكر في (المهذب) غيره ـ: أنه يصح؛ لأنه آلة للحرب، فهو كالنشاب.(7/424)
[فرع: المسابقة على غير آلة الحرب]
وأما المسابقة على ما ليس آلة للحرب، كضرب كرة الصولجان، ورفع الأحجار، واللعب بالخاتم، وما أشبه ذلك.. فلا يصح بعوض؛ لأنه لا منفعة في ذلك للحرب.
[مسألة: ما جاز أن يدفع له من أفراد جاز البذل له من بيت المال]
] : كل موضع قلنا: تجوز المسابقة بعوض، فيجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، أو من مال نفسه؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل، وجعل بينها سبقًا» ، ولأن في ذلك حثًا على تعلم الفروسية والرمي ليتقووا به على الجهاد، ويقع فيه الصلاح للمسلمين.(7/425)
ويجوز أن يكون العوض من رجل من الرعية.
وقال مالك: (لا يجوز ذلك لغير الإمام) .
دليلنا: أنه بذل مال لمصلحة، فصح من غير الإمام، كوقف الخيل في سبيل الله.
ويجوز أن يكون السبق من أحدهما، بأن يقول: سبقتك عشرة، فإن سبقتني.. فهي لك، وإن سبقتك.. فلا شيء لك علي ولا شيء لي عليك.
وقال مالك: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلون وقد سبق أحدهما الآخر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع ". فكف القوم أيديهم وقسيهم، وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك، غلب من كنت معه. فقال: ارموا، وأنا معكم جميعًا»
ويجوز أن يكون السبق بينهما بشرط أن يدخلا معهما محللا على فرس مماثل لفرسيهما، فإن سبقهما.. أحرز السبقين، وإن سبقاه.. فلا شيء له.
وإن أخرج كل واحد منهما مالًا، ولم يدخلا بينهما محللا.. لم يصح.
وقال مالك: (لا يصح أن يكون المال منهما، سواء كان بينهما محلل أو لم يكن) . وحكاه الطبري، وابن الصباغ، عن ابن خيران.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق.. فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» .(7/426)
ومعنى قوله: «وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» أراد: إذا كان فرس المحلل بطيئًا لا يرجى له السبق.. فإن ذلك لا يجوز؛ لأن وجوده كعدمه.
ومعنى قوله: «وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» أراد: إذا كان مكافئًا لهما؛ لأن المكافئ يرجى له السبق.
[فرع: صحة العقد بعوض معلوم حالا أو مؤجلًا]
ولا يصح العقد إلا أن يكون العوض معلومًا، إما معينا، أو في الذمة، وإذا كان في الذمة.. جاز أن يكون حالا ومؤجلًا، كما قلنا في الثمن والإجارة.
وإن قال أحدهما لصاحبه: سبقتك عشرة، فإن سبقتني فهي لك على أن لا أسابق، أو على أن لا أرمي أبدًا.. كان باطلا؛ لأنه شرط ترك ما هو مندوب إليه.
وإن قال: سبقتك عشرة، فإن سبقتني أخذتها وتعطيني قفيز حنطة.. قال الشافعي في " الأم " [4/148] : (لم يصح؛ لأن العقد يقتضي أن لا يكون على السابق شيء، وإنما يكون على المسبوق) .
[فرع: عمل مخرج العطاء كالجعل]
إذا كان المخرج للسبق هو السلطان، أو رجل من الرعية، أو أحد المتسابقين.. فهو كالجعالة.
وإن كان المال من المتسابقين وبينهما محلل.. ففيه قولان:(7/427)
أحدهما: أنه لازم، كالإجارة، لأنه عقد يشترط أن يكون العوض فيه والمعوض معلومين، فكان لازمًا، كالإجارة.
والثاني: أنه غير لازم، كالجعالة؛ لأنه عقد بذل العوض فيه على ما لا يتقين حصوله، فلم يكن لازمًا، كالقراض. والأول أصح.
فإذا قلنا: إنه كالإجارة.. كان الحكم في الرهن والضمان فيه حكم الإجارة.
وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فحكم الرهن والضمان فيه حكم مال الجعالة، وقد مضى.
وأما الزيادة والنقصان في المال أو في السبق أو في الرمي: فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يجز إلا أن يفسخا الأول، ثم يعقد ثانيًا. وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن اتفقا على الزيادة أو النقصان جاز، وإن طلب أحدهما ذلك، فإن كانا متساويين في السبق، أو في عدد الرمي والإصابة.. كان له ذلك، وقيل للآخر: إن رضيت بما طلب صاحبك، وإلا.. فافسخ العقد.
وإن كانا غير متساويين: فإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو الذي له الفضل.. جاز؛ لأنه لا ضرر على الآخر بذلك.
وإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو المفضول.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه عقد غير لازم.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لو قلنا: يجوز.. لأفضى إلى أن لا يسبق أحد أحدًا بحال.
[فرع: جعل المخرج لمن سبق]
وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية.. نظرت:
فإن جعله فيما بينهم، بأن قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، فإن(7/428)
كانا اثنين، وسبق أحدهما إلى الغاية.. استحق العشرة، وإن كانوا ثلاثة، فجاء اثنان منهم إلى الغاية جميعًا.. استحقا العشرة، كما لو قال: من رد عبدي.. فله دينار، فرده اثنان، وإن جاءوا جميعًا إلى الغاية في حالة واحدة.. لم يستحق واحد منهم شيئًا؛ لأنه لم يسبق بعضهم بعضًا.
وهكذا لو قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، ومن صلى.. فله عشرة، وكان المتسابقون أكثر من اثنين.. صح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون سابقًا أو مصليًا. فمن سبق منهم إلى الغاية.. استحق العشرة، ومن صلى استحق العشرة أيضًا. ولا شيء لمن بعد المصلي. والمصلي: هو الثاني؛ لأن رأس فرس الثاني يكون عند صلا فرس الأول، فلهذا سمي مصليًا. قال الشاعر:
إن تبتدر غاية يومًا لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا
وإن جعل السبق لجميعهم، فإن لم يفاضل بينهم، بأن كانا اثنين، فقال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله عشرة.. لم يصح؛ لأنه لا فائدة فيه؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق، سواء كان سابقا أو مسبوقًا فلا يجتهد.(7/429)
وإن فاضل بينهما، بأن قال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله خمسة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق عوضًا، سواء كان سابقًا أو مسبوقًا، فلا يجتهد في الركض.
والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما يجتهد في الركض ليأخذ الأكثر.
فرع: [المخرج للسبق أحدهما] : وإن كان المخرج للسبق أحد المتسابقين، فإن سبق المخرج.. أحرز سبقه، ولا يستحق الآخر شيئًا؛ لأنه لم يسبق، وإن سبق غير المخرج.. أخذ سبق المخرج.
وإن أخرج كل واحد من المتسابقين سبقًا، وأدخلا بينهما محللا.. نظرت:
فإن جاء الثلاثة إلى الغاية معًا، أو جاء المخرجان إلى الغاية في حالة واحدة وجاء المحلل بعدهما.. لم يستحق المحلل شيئًا؛ لأنه لم يسبقهما، ويحرز كل واحد من المخرجين سبقه؛ لأن أحدهما لم يسبق صاحبه.
وإن سبقهما المحلل إلى الغاية، ثم جاء المخرجان بعده معًا.. أخذ المحلل سبقيهما، لأنه سبقهما. وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل والمخرج الثاني معًا.. أحرز السابق سبق نفسه. وفي سبق المسبوق وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يأخذه السابق ولا المحلل؛ لأنا لو قلنا: يأخذه السابق.. لكان هناك من يغرم مرة، ويغنم أخرى، وهذا قمار.
و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنه يأخذه السابق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار، وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» ، ولأن المحلل يغنم ولا يغرم) . وبهذا خرجا من القمار.
وعبر بعض أصحابنا عن هذين الوجهين، فقال: هل دخول المحلل لتحليل المال، أو لتحليل العقد؟ فيه وجهان، فإن قلنا: إنه لتحليل العقد لا غير.. لم(7/430)
يستحق المخرج سبق صاحبه، وإن قلنا: إنه لتحليل المال.. استحقه.
وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل بعده، ثم المخرج الآخر.. فإن المخرج السابق يحوز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق أربعة أوجه، حكاها الطبري:
أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أنه للسابق المخرج) .
والثاني: أنه للمحلل؛ لأنه سبقه.
والثالث: أنه لا يستحقه السابق المخرج ولا المحلل، وهو إذا قلنا: إن المحلل دخل لتحليل العقد.
والرابع: أنه بين السابق المخرج والمحلل؛ لأنهما سبقاه.
وإن جاء أحد المخرجين والمحلل معا إلى الغاية، وتأخر المخرج الآخر عنهما.. فإن المخرج السابق يحرز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق وجهان:
[الأول] : المنصوص (أنه للسابق والمحلل) .
و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: يكون جميعه للمحلل.
وإن جاء المحلل أولا، ثم صلى بعده أحد المخرجين، ثم فسكل المخرج الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الطبري:
أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أن سبقي المخرجين للمحلل؛ لأنه سبقهما) .
والثاني: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل بين المحلل والمصلي.
والثالث: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل للمصلي. والأول أصح.
[مسألة: يشترط اتحاد جنس المركوب]
وهل تصح المسابقة على مركوبين من جنسين؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يصح أن يسابق بين الخيل والإبل، ولا بين البغال والحمير؛(7/431)
لأن فضل أحد الجنسين على الآخر معلوم.
فعلى هذا: يجوز أن يسابق بين نوعين من جنس، كالهجين والعتيق من الخيل، والبخاتي والعراب من الإبل.
وقال أبو إسحاق: يجوز أن يسابق بين جنسين إذا تقاربا في الجري، كالخيل والنجب، والخيل والبغال، والبغال والحمير؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوب، فإذا علم تقاربهما في الجري.. جازت المسابقة عليهما، كما لو كانا من جنس واحد.
فعلى هذا: لو سابق بين فرسين يعلم أن أحدهما يسبق الآخر.. لم يصح؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبقهما.. فهو قمار» .
فرع: [المسابقة على مركوبين معينين] :
ولا يصح عقد المسابقة إلا على مركوبين معينين؛ لأن المقصود معرفة جودتهما. وذلك لا يحصل إلا بتعيينهما.
[مسألة: معرفة المسافة التي يسابق عليها]
شرط] :
ولا يصح عقد المسابقة حتى تكون المسافة التي يستبقان فيها معلومة الابتداء والانتهاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء(7/432)
إلى ثنية الوداع، وبين ما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق» . و (الخيل المضمرة) : هي التي تسقى اللبن، وتعلف المنعقد من العلف، وتجري في طرفي النهار، فإذا نزل الفارس عن الفرس وهو عرق.. أزال ذلك العرق، وتجلل بالأجلة، يفعل ذلك أربعين يومًا، فيشتد لحم الفرس وعصبه، ويكثر جريه. ولأن بعض الخيل قد يكون مقصرًا في ابتداء عدوه، سريعًا في انتهائه، وبعضها بضد ذلك.
ولا بد من بيان غاية معلومة الابتداء والانتهاء ليجمع لفرسه حاليه، فيظهر جودته، فإن شرط السبق في بعض الطريق إلى الغاية.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
أحدهما: يصح؛ لأنه قد يسبق في بعض الطريق، فصار كالغاية.
والثاني: لا يصح؛ لأن الفرس قد يسبق في أول الطريق، ثم يسبق في آخرها، فكان الاعتبار بالغاية المشروطة.
[مسألة: مكان الانطلاق واحد]
ويطلق المركوبان في مكان واحد؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوبين في السبق، ولا يعلم إلا بذلك، فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه.. جعل بينهما؛ لأنه أعدل، وإن اختلفا في اليمين واليسار.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يجلب وراء الفرس بشيء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أجلب(7/433)
على الخيل يوم الرهان.. فليس منا» . و (الجلب) : هو أن يضرب بعد الفرس بشيء يابس أو غيره مما يفزع منه الفرس، فيسرع في الجري لذلك. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب» .
فأما (الجلب) : فله تأويلان:
أحدهما: الجلب وراء الفرس في المسابقة على ما ذكرناه
و [الثاني] : قيل: بل هو في الصدقة، وهو أن يقدم المصدق بلدًا، فينزل في موضع، ثم يرسل إلى أهل المواشي ليجلبوا مواشيهم إليه.
وأما (الجنب) : فهو في خيل السباق أيضًا، وهو أن يجنب الرجل خلف فرسه(7/434)
الذي سابق عليه فرسًا آخر، فإذا بلغ قريبًا من الغاية.. نزل عن الذي هو راكب عليه، وركب الآخر فيسبق؛ لأنه أقل كلالا من الأول.
[مسألة: تقييد السبق بأقدام]
وإذا تسابقا واشترطا في السبق أن يسبق أحدهما الآخر بخمسة أقدام وما أشبهه.. فقد قال أبو علي الطبري في (الإفصاح) : يجوز ذلك؛ لأنهما يتحاطان فيما استويا فيه، وينفرد أحدهما بالأقدام المشروطة، فصح، كما قلنا في الرمي.
وحكى فيه وجها آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء.
فإذا قلنا بالأول.. لم نحكم للسابق بالسبق حتى يسبق بما شرطا، وإن لم يشرطا شيئًا.. قال الشافعي: (فالسبق: أن يسبق أحدهما صاحبه، وأقل السبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) .
قال أصحابنا: إن كان المركوبان متساويين في (الهادي) ـ وهو: العنق ـ اعتبر السبق أن يسبق أحدهما الآخر ببعض العنق أو ببعض الكتد، و (الكتد) : الكاهل: وهو العالي بين أصل العنق والظهر ـ وهو مجتمع الكتفين ـ وهو من الخيل مكان السنام من الإبل.
وإن كانا مختلفين في العنق، بأن كان طول عنق أحدهما ذراعا وشبرًا، وطول عنق الآخر ذراعًا لا غير.. فإن سبق صاحب العنق القصير ببعض عنقه أو ببعض كتده. حكم له بالسبق، وإن سبق صاحب العنق الطويل بقدر شبر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأن ذلك قدر زيادة الخلقة، وإن سبق بأكثر من شبر من عنقه.. حكم له بالسبق؛ لأنه سبق بذلك، فإن سبق صاحب العنق الطويل بأكثر من زيادة الخلقة من عنقه، وسبق الآخر ببعض كتده.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :(7/435)
أحدهما: أن السابق هو المتقدم بعنقه؛ لأن سبق الخيل هو هكذا.
والثاني: أن السابق هو المتقدم ببعض كتده؛ لأن القصد من وصول العنق وصول البدن، ومن سبق ببعض كتده.. فقد وصل ببدنه، فكان أولى.
فإن قيل: فلم قال الشافعي: (أقل السبق أن يسبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) ، ونحن نعلم أن من سبق بأحدهما.. فقد سبق الآخر؟ فأجاب أصحابنا عن هذا بأجوبة:
فمنهم من قال: أراد إذا تساوى المركوبان بالعنق، اعتبر السبق بالعنق. وإن اختلفا في طول العنق.. اعتبر السبق بالكتد؛ لأنه لا يختلف.
ومنهم من قال: أراد: إذا كانت المسابقة بين الخيل والإبل.. فيكون الاعتبار بالتقدم ببعض الكتد؛ لأن من عادة الخيل أن تمد أعناقها إذا عدت، ومن عادة الإبل أن ترفع أعناقها.
ومنهم من قال: أراد بذلك: بالمسابقة في الخيل؛ لأن منها ما يمد أعناقها إذا عدت، ومنها ما يرفع أعناقها، فلا يعتبر السابق منهما بالعنق، وإنما يعتبر بالكتد.
هذا مذهبنا.
وقال الثوري: إذا سبق أحد الفرسين صاحبه بأذنه.. حكم له بالسبق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كاد أن يسبق أحدهما الآخر بأذنه» .(7/436)
ودليلنا: أن الاعتبار: هو السبق بسرعة العدو، وقد يكون أحدهما أسرع، وأذن الآخر أسبق؛ بأن يرفع السريع رأسه قليلًا، والآخر يمد عنقه، فيسبق بأذنه. وأما الخبر: فالمقصود به ضرب المثل، وقد يضرب المثل بما لا يكاد يوجد، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» . ولا يمكن ذلك، أو نحمله على الفرسين إذا تساويا في طول العنق ومدها.
[فرع: توقف أحد الفرسين]
فإن عثر أحد المركوبين أو وقف لعلة، فسبقه الآخر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأنه سبقه لعلة طارئة لا بجودة جريه.(7/437)
وإن مات أحد المركوبين قبل بلوغ الغاية.. بطل العقد؛ لأن العقد تعلق بعينه وقد فات.
وإن مات الراكب، فإن قلنا: إنه كالجعالة.. بطل العقد، وإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يبطل، وقام وارثه مقامه.
[مسألة: أقل المناضلة يكون بين اثنين]
وإن كان العقد على الرمي.. لم يجز بأقل من نفسين؛ لأن المقصود معرفة حذق الراميين وذلك لا يبين بأقل من اثنين.
فإن قال رجل لرجل: ارم عشرين سهمًا، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. فنقل المزني: (أنه لا يجوز) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: إذا قال: ارم عشرين سهماُ، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. صح ذلك فإن كان صوابه أحد عشر من عشرين.. استحق المسمى، ويكون ذلك جعالة؛ لأنه شرط له عوضا بما له فيه غرض صحيح، ولا يكون نضالا. فأما ما نقله المزني.. فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد به: إذا قال له: ناضل نفسك، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا.. فلا يصح؛ لأنه لا يناضل نفسه.
والتأويل الثاني: أن يقول: فإن كان صوابك أكثر فقد نضلتني.. فلا يصح أيضا؛ لأنه لا يجوز أن ينضله إذا لم يرم معه.
ومن أصحابنا من قال مثل ما نقله المزني، وأنه لا يصح، واختلفوا في تعليله: فمنهم من قال: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له الجعالة على العشرين، ومنها صواب ومنها خطأ، والخطأ لا تجوز له جعالة.(7/438)
وقال أبو جعفر الأستراباذي: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له عوض على الإصابة وهي مجهولة، فلو قال: إن أصبت من العشرين عشرة أو اثني عشر.. صح ذلك، واستحق المسمى بإصابة المشروط.
والوجه الأول أصح: وقد نص الشافعي على ذلك في " الأم "، فقال: (ولو قال: ناضل نفسك) فأخل المزني بذلك.
وقول من قال: فقد نضلتني، خلاف ما قال الشافعي.
وقول من قال: إنه جعل الجعالة في مقابلة الخطأ والصواب، فليس بصحيح؛ لأنه إنما جعله في مقابلة إصابة الأكثر دون الجميع.
وقول الأستراباذي ليس بصحيح؛ لأن أكثر العشرين أحد عشر.
فرع: [لا يناضل واحد عن اثنين]
فلو قال لرجل: ارم عن نفسك عشرة أسهم وعني عشرة أسهم، فمن كانت الإصابة في عدده أكثر فهو الناضل.. لم يصح؛ لأنه يجتهد في نوبة نفسه دون نوبة صاحبه.
[مسألة: جواز الجعل من السلطان وغيره]
] : وأما إخراج المال في المناضلة في الرمي.. فعلى ما ذكرناه في إخراجه بالمسابقة: يجوز أن يكون من السلطان، أو من رجل من الرعية، أو من أحد المتناضلين، أو منهما وبينهما محلل مكافئ لهما.
قال الطبري: فإن تناضل رجلان، وكان المال من أحدهما، فجاء رجل إلى المخرج، وقال: أن شريكك فيما بذلت، فإن نضل صاحبك غرمت معك، وإن نضلته أخذت منك نصف ما بذلته.. لم يجز. وهكذا: لو أخرجا المال وأدخلًا بينهما محللًا، فجاء رجل إلى أحدهما أو إليهما، فقال: أنا شريككما في ذلك ولا أرمي،(7/439)
فإن نضلكما المحلل غرمت معكما نصف ما أخرجتما، وإن نضلتماه أخذت منكما النصف.. لم يجز؛ لأن الذي يغنم ويغرم في عقد النضال من يرمي، وهذا لا يرمى.
[فرع: النضال بين الماهر والمخطئ]
فإن كان أحد المتناضلين كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ.. فهل يصح عقد النضال بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر معلوم.
والثاني: يصح؛ لأن المناضلة تبعثه على الاجتهاد في الرمي.
[مسألة: مناضلة مختلفي آلة الرمي]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربية) .
وجملة ذلك: أنهما إذا عقدا عقد النضال وأطلقا، ولم يذكرا قوسًا عربية ولا قوسًا عجمية، فإن كان في البلد نوع متعارف من القسي، إما العربية، أو العجمية.. صح العقد، وحملًا على ذلك النوع، كما قلنا فيمن باع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب. وإن لم يكن فيه نوع متعارف.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يصح، ويستويان في القوس، إما العربية، وإما العجمية.
وقال أبو العباس بن القاص: لا بد من بيان القوس التي يرميان عنها في الابتداء؛ لأنه قد يكون أحدهما أحذق في أحد النوعين دون الآخر. قال ابن الصباغ: وهذا أصح.
وإن اتفقا على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالعجمية.. جاز؛ لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان، فإن أراد أحدهما أن ينتقل من النوع الذي عينه إلى النوع الآخر.. لم يلزم الآخر إجابته إلى ذلك؛ لأن الأغراض تختلف؛ لأنه قد يكون رميه بأحدهما أجود من رميه بالنوع الآخر، وإن عين قوسًا من نوع، وأراد أن ينتقل إلى قوس آخر من ذلك النوع.. جاز؛ لأن المقصود معرفة حذق الرامي، وحذقه(7/440)
لا يختلف فيما بين القوسين من نوع واحد اختلافًا متباينًا فإن شرطا في العقد على أنه لا ينتقل من ذلك القوس إلى قوس أخرى من ذلك النوع.. فهل يصح؟ فيه ثلاثة أوجه، كما قلنا فيمن اكترى دابة ليركبها في طريق ولا يركبها مثله، ولا في مثل تلك الطريق.
وإن عقدا النضال على الرمي بجنسين، بأن يرمي أحدهما بالنبل، والآخر بالحراب.. لم يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر لا يعلم بذلك.
[مسألة: شروط عقد المناضلة]
ولا يصح عقد النضال على الرمي إلا بشروط:
أحدها: أن يكون عدد الرشق معلومًا، وهو عدد ما يرميان من السهام؛ لأنهما إذا لم يذكرا عددًا محدودًا.. لم يعلم متى ينتهي الرمي، ولا يظهر فضل أحدهما على الآخر.
و (الرشق) ـ بكسر الراء ـ: هو عدد الرمي، ويسمى: الوجه، واليد، والدست.
وأما (الرشق) ـ بفتح الراء ـ: فهو عبارة عن الرمي نفسه، يقول: رشقت رشقًا، أي: رميت رميًا.
الشرط الثاني: أن يكون عدد الإصابة من الرشق معلومًا؛ ليعلم تفاضلهما، فإن شرطا أن يصيب عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه قد يصيب ذلك، فهو كما لو شرط إصابة ثمانية من عشرة.
والثاني: لا يصح؛ لأن ذلك يندر، فلا يحصل المقصود.
الشرط الثالث: أن تكون المسافة التي بين الرامي وبين الغرض معلومة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب من الغرض والبعد منه، فإن كان هناك غرض معلوم المدى.. قال الشيخ أبو إسحاق: صح إطلاق العقد، ويحمل عليه، كما قلنا في البيع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب.(7/441)
ولا يجوز أن تكون المسافة مما لا يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وإنما يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وهل يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها نادرًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن إصابتهما في ذلك تندر، فلا يحصل المقصود.
والثاني: يجوز؛ لأن ذلك يبعثهما على الاجتهاد في الرمي.
وقدر أصحابنا ما يصاب في مثله بمائتين وخمسين ذراعًا؛ لما روي عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قيل له: كيف تقاتلون العدو؟ فقال: (إذا كانوا على مائتين وخمسين ذراعًا.. قاتلناهم بالنبل، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالرماح، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالسيوف) . وما لا يصاب في مثله ما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعًا، وقيل: (إنه ما رمى إلى أربعمائة إلا عقبة بن عامر الجهني) .
وفيما بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة وخمسين وجهان:
أحدهما: يجوز العقد عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الإصابة معتادة فيه.(7/442)
والثاني: لا يجوز؛ لأن الإصابة فيه لا توجد غالبًا.
وإن تناضلا على أن يكون السابق من بعد وقوع سهمه من غير تحديد الغاية.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز السباق إلى غير غاية محدودة.
والثاني: يجوز؛ لأن الإبعاد في الرمي مقصود، كالإصابة، فصح العقد عليه.
الشرط الرابع: أن يكون قدر الغرض معلومًا، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، وأنه شبر أو أكثر أو أقل؛ لأن الحاذق يصيب الصغير والكبير، وغير الحاذق لا يصيب الصغير.
قال أصحابنا: و (الغرض) : هو ما ينصب في الهدف، وهو التراب المجموع، أو البناء المرتفع من رق أو شن أو قرطاس. و (الشن) : الجلد البالي الذي ينصب.
وقال الأزهري: (القرطاس) : ما ينصب في الهدف. و (الغرض) : ما ينصب في الهواء. والمستحب: أن يكون الرمي بين غرضين، وقد روي ذلك عن ابن عمر وأنس؛ لأنه أبعد من التنافر.
الشرط الخامس ـ ذكره الشيخ أبو إسحاق ـ: أن يكون موضع الإصابة معلومًا، بأن يشرطا أن يصيبا الهدف أو البناء أو الغرض أو الدارة التي في الغرض، أو الخاتم التي في الدارة؛ لأن الغرض يختلف بذلك. قال: فإن أطلقا.. حمل على إصابة الغرض؛ لأن المتعارف في الرمي إصابة الغرض، فحمل الإطلاق عليه.
الشرط السادس: أن تكون صفة الإصابة معلومة.
قال المحاملي: وقد ذكر الشافعي في صفة الإصابة أربعة أوصاف، بأن يقول:(7/443)
حوابي، أو خواصر، أو خوازق، أو خواسق. قال ابن الصباغ: أو خواصل.
فأما (الحوابي) : فقال المحاملي، والطبري: هو أن يمر السهم مع الأرض، فيصيب الغرض. وقال ابن الصباغ: هو أن يقع السهم بين يدي الغرض، ثم يحبو إليه، ومنه يقال: حبا الصبي.
وأما (الخواصر) : قال المحاملي: فهو السهم الذي يصيب الغرض ولا يؤثر فيه، وسماه في " المهذب " [1/424] : القرع.
وقال ابن الصباغ: الخواصر: ما كان في جانبي الغرض، ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها من جانبي الإنسان.
وما قال المحاملي أقيس؛ لأنه تفسير لصفة الإصابة. وما قاله ابن الصباغ تفسير لموضع الإصابة، وإن كان صحيحًا في اللغة.
وأما (الخوازق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وسقط عنه، ولم يثبت فيه.
وأما (الخواسق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وثبت.
وأما (الخواصل) : فحكى ابن الصباغ عن الأزهري: أنه قال: هي ما أصاب القرطاس، يقال: خصلت مناضلي أخصله خصلًا.
قال ابن الصباغ: وللإصابة أسماء غير هذه، وليست من شرائط المناضلة، وهي: (المارق) : وهو السهم الذي ينفذ في الغرض، ويقع من الجانب الآخر، ويسمى: الصارد.(7/444)
و (الخارم) : وهو السهم الذي يصيب الغرض ويقطعه، ويخرج طرفه من الجانب الآخر لا غير.
و (المزدلف) : وهو السهم الذي يقع على الأرض دون الغرض، ويثب إليه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المرق والخرم كالخزق والخسق في وجوب بيانه في الإصابة.
[فرع: شرط المحاطة والمبادرة]
وهل يشترط في صحة عقد المناضلة أن يذكر أن الرمي محاطة أو مبادرة؟ فيه وجهان، هكذا قال عامة أصحابنا، وأضاف صاحب " المهذب " [1/424] الحوابي إلى ذلك:
أحدهما: أن ذكر ذلك شرط، فإن لم يذكر.. بطل العقد؛ لأن غرض الرماة يختلف، فإن منهم من تكثر إصابته في ابتداء الرمي، ومنهم من تكثر إصابته في الانتهاء.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن مقتضى المناضلة المبادرة.. فصح العقد مع الإطلاق، ويحمل على المبادرة؛ لأنه مقتضى العقد.
إذا ثبت هذا: (فالمحاطة) : أن يتفقا على أن يحطا ما يتساويان فيه من الإصابة، ويفضل لأحدهما إصابة معلومة.
وأما (المبادرة) : فأن يشترطا إصابة معلومة من الرشق، وأن من بدر إليها منهما كان ناضلًا.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا يعقوب البويطي قال: قيل في المبادرة: هو أن يفرقا جميعًا سهميهما، وأيهما وقع سهمه أولًا.. بدر بالسبق. والأول هو الصحيح.(7/445)
[فرع: شرط من يبدأ الرمي]
وهل من شرط صحة عقد المناضلة أن يذكرا عند العقد من يبدأ بالرمي؟ فيه وجهان، وحكاهما ابن القاص قولين:
أحدهما: لا يصح العقد حتى يذكر ذلك، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر بالبداية، وإذا قدمنا أحدهما بالقرعة.. انكسر قلب الآخر، وفسد رميه.
والثاني: يصح العقد؛ لأن ذلك من توابع العقد.
قال المحاملي: فعلى هذا: إن كان السبق منهما.. أقرع بينهما، وإن كان السبق من أحدهما.. كانت البداية له. وإن كان المال من أجنبي.. كان للمخرج أن يجعل البداية لأحدهما. وقال في " المهذب ": فيه وجهان:
أحدهما: إن كان المال من أحدهما.. قدم، وإن كان منهما.. أقرع بينهما.
والثاني: يقرع بينهما بكل حال.
وإن كان الرمي بين غرضين، فبدأ أحدهما من أحد الغرضين.. بدأ الثاني من الغرض الثاني؛ لأن ذلك أعدل.
وإن كانت البداية لأحدهما، فبدأ الآخر ورمى.. لم يعتد له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ؛ لأنه رمى من غير عقد.
[فرع: موقف الرامي]
قال الشافعي: (وللمبتدئ أن يقف في أي مقام شاء، ثم للآخر أن يقف من الغرض الآخر أي مقام شاء) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان الرمي بين غرضين: فاختلفا: فقال أحدهما: يقف عن يمين الغرض، وقال الآخر: بل يقف عن يساره.. فإن الخيار في ذلك إلى من يبدأ(7/446)
بالرمي؛ لأنه لا مزية بالبداية، فكان له الاختيار في المكان. فإذا صار إلى الغرض الثاني.. كانت البداية بالرمي والاختيار في الوقوف في المكان إلى الثاني.
فإن كان النضال من ثلاثة، فبدأ أحدهم.. اقترع الآخران، فمن خرجت له القرعة.. رمى بعد الأول، وكان له الخيار في المكان.
[فرع: يقبل القول في استدبار الشمس]
قال في " الأم ": (فإن طلب أحدهما أن يكونا مستقبلين الشمس في حال الرمي، وطلب الآخر استدبارها.. أجيب من طلب استدبارها؛ لأن العرف هكذا، فحمل الإطلاق عليه) . فإن شرطا في العقد أن يرميا مستقبلين للشمس.. قال الشافعي: (حملا على ذلك، كما لو شرطا الرمي ليلًا) .
[مسألة: يرمي الأول ثم الثاني سهمًا سهمًا على ما اتفقا]
قال الشافعي: (ويرمي البادئ السهم حتى ينفذا نبلهما) .
وجملة ذلك: إن إطلاق المناضلة تنصرف إلى المراسلة، وهو أن يرمي أحدهما سهمًا، ثم يرمي الآخر سهمًا، إلى أن يستكملا عدد رشقهما؛ لأن ذلك هو المتعارف في الرمي، ولأن الآخر يصلح قوسه إلى أن يرمي الآخر، فكان ذلك أولى.
فإن شرطا أن يرمي أحدهما خمسة أسهم، ثم يرمي الآخر خمسة، أو يرمي أحدهما جميع رشقه، ثم يرمي الآخر جميع رشقه.. حملا على ذلك؛ لأنه لا يؤثر في مقصود المناضلة.
فإن عقد النضال على أرشاق كثيرة، فإن شرطا أن يرميا كل يوم أرشاقًا منها معلومة.. جاز، وحملا عليه، وإن أطلقا ذلك.. جاز، وحملا على التعجيل، فيرميان من أول النهار إلى آخره، إلا أن يعرض عذر من مرض، أو ريح تشوش السهام، أو مطر؛ لأنه يرخي الوتر، ويفسد الريش. وكذلك: إن عرضت الحاجة إلى الطعام والشراب، أو قضاء حاجة الإنسان من غائط أو بول، لهما أو لأحدهما.. قطع الرمي لذلك.(7/447)
وإذا جن الليل.. قطعا الرمي؛ لأن العادة ترك الرمي بالليل، إلا أن يكونا قد شرطا الرمي بالليل، فإنهما يرميان به، فإن كان القمر منيرًا.. كفى، وإن لم يكن منيرًا.. فلا بد أن يكون معهما شمعة أو ما أشبهها؛ ليتمكنا من الإصابة.
[مسألة: اتحادهما في عدد الرميات]
ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق، فيكون رشق أحدهما ثلاثين والآخر عشرين، ولا أن يحتسب خسق أحدهما خاسقين، ولا أن تكون الشمس في وجه أحدهما دون الآخر.
ولا يجوز أن يختلفا في عدد الإصابة، ولا في موضعها؛ لأن المناضلة إنما تراد ليعرف بها فضل أحدهما على الآخر، فكانت موضوعة على التساوي.
فرع: [لا يتفاضلان في عدد النبال] :
قال الشافعي: (ولا يجوز أن ينتضل رجلان وفي يد أحدهما من النبل أكثر مما في يد الآخر) . فتأول أصحابنا هذا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد باليد الرشق، فلا يكون رشق أحدهما أكثر من رشق الآخر، والرشق يسمى: يدًا، ووجهًا، ودستًا.
والثاني: أراد به اليد في الحقيقة؛ لأن بعض الرماة قد يرمي وفي يده سهم أو سهمان، فأراد: أنه لا يجوز أن يشترطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر مما في يد الآخر؛ لأن من كثرت في يده السهام تشوش رميه.
[فرع: الشرط الفاسد في المناضلة يبطلها]
] : وإذا شرطا في المناضلة أو المسابقة شرطًا فاسدًا.. بطل العقد؛ لأنه كالإجارة في أحد القولين، أو كالجعالة في الآخر، وهما يبطلان بالشروط الفاسدة، وهل يستحق الناضل والسابق شيئًا في العقد الفاسد؟ فيه وجهان:(7/448)
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يستحق شيئًا؛ لأن عوض المثل إنما يستحق في العقد الفاسد إذا تلفت منفعة العامل في نفع صاحبه، وهاهنا لم يحصل للآخر نفع، فلم يستحق عليه عوض المثل.
والثاني: أنه يستحق عوض المثل. وهو الصحيح؛ لأن كل منفعة ضمنت بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمنت بعوض المثل في العقد الفاسد، كالقراض.
[مسألة: الشرط الباطل يبطل النضال]
ولو قال: سبقتك عشرة، على أنك إن نضلتنى أطعمت السبق أصحابك، أو كان المال منهما، وبينهما محلل، وشرطا أن الناضل يطعم السبق أصحابه. فالمنصوص: (أن الشرط باطل، والنضال باطل) .
وقال أبو إسحاق: يحتمل قولًا آخر، أن يبطل الشرط، ويصح النضال، كما قال الشافعي ـ فيمن قال: أصدقتك ألفين على أن تعطي أباك ألفا ـ: (إن الشرط باطل، والصداق صحيح) ؛ لأنه شرط عليها ما لا يعود نفعه إليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تمليك شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط.. بطل العقد، كما لو باعه شيئًا، وشرط على المشتري أن يتصدق بالمبيع، أو كما لو باعه شيئًا، واشترط عليه أن لا يبيعه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يصح النضال.. كان الناضل بالخيار: بين أن يطعم أصحابه، أو لا يطعمهم، وإذا قلنا: لا يصح النضال.. لم يستحق الناضل المسمى، وهل يستحق عوض المثل؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
مسألة: [عقد على إصابة خمسة سهام] :
فإن عقد النضال على عشرين رشقًا وإصابة خمسة منها مبادرة، فإن أصاب أحدهما خمسة من خمسة، أو من ستة، وأصاب الآخر منها أربعة.. فالذي أصاب خمسة هو الناضل، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأن أحدهما قد نضل صاحبه.(7/449)
وإن رميا عشرة، فأصاب أحدهما ثلاثة، والآخر أربعة، أو استويا في عدد الإصابة.. رميا ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه، فإن رمى المصيب أربعة سهمًا، فأصاب.. لم يرم المصيب ثلاثة ذلك السهم؛ لأنه لا فائدة له في رميه؛ لأن عليه إصابة سهمين، وقد بقي له من الرشق سهم.
وإن أصاب كل واحد منهما خمسة من خمسة أو أكثر.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن أحدهما لم يبدر إلى عدد الإصابة، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنهما قد أصابا العدد المشروط في الإصابة.
وإن شرطا إصابة خمسة من عشرين رشقًا محاطة، فإن رمى كل واحد منهما عشرة، وأصاب خمسة.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن إصابتهما متساوية، فتسقط إحداهما بالأخرى، ولا يسقط ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه. وإن أصاب أحدهما عشرة أسهم من عشرين رشقًا، [و] أصاب الآخر خمسة من عشرين.. فقد نضل المصيب عشرة؛ لأن خمسة تسقط بخمسة، ويبقى له خمسة، وهو العدد المشروط. وإن رمى كل واحد منهما ستة عشر سهمًا، ولم يصب أحدهما شيئًا، أو أصاب كل واحد منهما سهمًا من سبعة عشر سهمًا، أو سهمين من ثمانية عشر سهمًا.. فالذي يقتضي المذهب: أن يسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنه لا يرجو أحدهما أن ينضل صاحبه، فلا فائدة في رميه.
وإن رمى أحدهما خمسة عشر، فأصابها كلها، وأصاب الآخر خمسة من خمسة عشر، فطلب صاحب الخمسة أن يرمي باقي الرشق.. لم تجب إجابته إلى ذلك؛ لأنه(7/450)
لا فائدة له في ذلك، لأن أكثر ما فيه أن يصيب صاحب الخمسة الخمسة الباقية له، ويخطئ الآخر فيها، ويبقى لصاحب الخمسة عشر خمسة، فينضله بها.
وإن استويا في عدد الرمي، وبدر أحدهما إلى إصابة العدد المشروط قبل إكمال الرشق، فطالبه الآخر بإكمال الرشق، فإن كان يرجو أن ينضله، أو يساويه، أو يمنعه أن ينضله:
فأما رجاء أن ينضله: فمثل أن يرمي أحدهما عشرة، فيصيب منها ستة، ويرمي الآخر عشرة، فيصيب منها واحدًا، ويرمي صاحب الواحد العشرة الباقية، فيصيبها كلها، فيكون له أحد عشر، ويخطئ الآخر بالعشرة الباقية، فيسقط ستة بستة، ويفضل للآخر خمسة.
وأما المساواة: فبأن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر، فربما رمى صاحب الخمسة ما بقي من الرشق، فأصابها كلها، وأخطأ فيها صاحبه، فيكون له عشرة ولصاحبه عشرة.
وأما منعه أن ينضله: فبأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر، ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر، فربما أصاب صاحب السهمين الخمسة الباقية، وأخطأ صاحبه فيها، فيصير معه سبعة، فإذا سقط من أحد عشر ـ وهي إصابة صاحبه ـ سبعة.. بقي له أربعة، وهي دون العدد المشروط في الإصابة.
فمتى رجا واحدًا من هذه الأحوال.. فهل له المطالبة برمي باقي الرشق؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له المطالبة بذلك؛ لأن صاحبه قد حصل له العدد المشروط من الإصابة بعد الحط، فلا معنى لإكمال الرشق، كما قلنا في المبادرة.
والثاني: أن له المطالبة بذلك؛ لأن له فائدة في ذلك، بخلاف المبادرة، فإنه لا فائدة له في الإصابة بعد استوائهما في العدد المشروط.(7/451)
[فرع: تناضلا على عشرين وإصابة عشرة]
لو تناضلا على رمي عشرين رشقا، وإصابة عشرة منها، فرمى أحدهما، فأصاب سهمين، وأصاب الآخر سهمين، فقال أحدهما للآخر: ارم هذا السهم، فإن أصبت، فقد نضلتني.. لم يجز؛ لأنه لا يكون ناضلًا له إلا أن يتفقا في عدد الرمي، وينضله في الإصابة.
فإن تفاسخا عقد المناضلة، ثم قال: إن رميت هذا السهم، فأصبت، فلك كذا.. جاز؛ لأن ذلك جعالة مبتدأة فيما له فيه غرض صحيح، وهو حثه له على الرمي والإصابة.
قال ابن الصباغ: وينبغي أنه إذا قال: ارم هذا السهم، فإن أصبته فلك كذا ـ غير المشروط بينهما ـ ولا يعد هذا السهم من النضال الذي بينهما.. أن يجوز ذلك؛ لأنه خارج من المناضلة. فإن قال: ارم سهمًا، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت فعليك كذا.. لم يجز؛ لأنه قمار.
[مسألة: صور النضال على الحوابي]
مسألة: [] :
إذا عقد النضال على الحوابي، على أن ما كان من الإصابة أقرب إلى الشن أسقطت الإصابة التي هي أبعد منها، ويفضل للناضل عدد معلوم.. جاز ذلك؛ لأن المحاطة جائزة، وهذا نوع من المحاطة.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في هذا مسائل:
[الأولى] منها: إذا رمى أحدهما سهمًا، فوقع في الهدف، ورمى الآخر خمسة، فوقعت أبعد من سهم الأول، ثم رمى الأول سهمًا، فوقع أبعد من الخمسة.. سقطت الخمسة بالأول، وسقط الذي بعد الخمسة بالخمسة؛ لأن الخمسة إلى الغرض أقرب منه.
الثانية: إذا رمى الأول خمسة، فوقعت قريبة من الشن، وبعضها أقرب إلى الشن(7/452)
من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت أبعد من الخمسة الأولى.. سقطت الخمسة الثانية، وثبتت الأولى، ولم يسقط الأقرب منها الأبعد منها؛ لأن الأقرب من رمي أحدهما يسقط الأبعد من رمي الآخر، لا من رمي نفسه.
الثالثة: إذا رمى أحدهما فأصاب الهدف، ورمى الآخر فأصاب الغرض.. أسقطت إصابة الغرض إصابة الهدف؛ لأن الأقرب إلى الغرض يسقط الأبعد منه، فلأن تسقط إصابة الغرض ما خرج عنه أولى.
الرابعة: أن يصيب أحدهما الغرض، ويصيب الآخر العظم الذي في وسط الرقعة في الغرض، قال الشافعي [في " الأم " (4/149) ] : فمن الرماة: (من قال: تسقط الإصابة في العظم ما كان أبعد منها في الغرض) ؛ لأنه لما كان القريب إلى الشن يسقط ما بعد منه.. كذلك القريب إلى الرقعة يسقط ما بعد منها.
قال الشافعي: (والقياس عندي: أن لا يسقطه) ؛ لأن الشن كله موضع إصابته، فليس بعض إصابته أقرب من بعض.
الخامسة: قال الشافعي: (من الرماة من قال: إنهما يتقايسان النبل ما كان منه في الوجه أو عاضدًا، وليس هذا بقياس. والقياس: هو أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا. وخارجًا) .
وأراد بذلك: أن من الرماة من يقول: إنهما يتقايسان النبل، ويسقط القريب منه البعيد إذا كان ذلك في وجه الشن، وهو ما وقع بين يدي الغرض وأسفل منه، وهو المراد بقوله: (ساقطًا) .
وقوله: (عاضدًا) : وهو ما كان من جانبي الغرض دون ما أصاب ما جاوز الغرض من فوق.(7/453)
وقال الشافعي: (ليس هذا بقياس، بل القياس: أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا وخارجًا، فيسقط الأقرب منها من أي جهات الغرض ما كان أبعد منها) .
السادسة: إذا رميا فأصابا الهدف، وكانا في القرب سواء إلى الهدف.. قال الشافعي: (تناضلا) يريد: أنهما سواء، فيسقطان.
[مسألة: النضال بين فئتين]
ويجوز أن يكون النضال بين جهتين.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز؛ لأنه لا يجوز لأحدهم أن يأخذ بإصابة غيره. والأول هو المنصوص؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلان، فقال: ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع» ولم ينكر عليهم.
إذا ثبت هذا: فإن أرادوا التحزب.. فإنه ينتصب لكل حزب رئيس، يم يختار أحد الرئيسين واحدًا من الرماة، ثم يختار الرئيس الآخر واحدًا بإزائه، ثم يختار الأول واحدًا، ثم يختار الثاني واحدًا، إلى أن يستكمل كل واحد حزبه، فإن اختلف الرئيسان فيمن يختار أولًا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن أرادوا أن يجعلوا الرئيس واحدًا في اختيار الحزبين.. لم يجز؛ لأنه تدخله التهمة، فيختار لنفسه الحذاق. ولا يجوز أن يختار أحد الرئيسين جميع أهل حزبه أولًا؛ لأنه يختار لنفسه الحذاق، بل يختار كل رئيس واحدًا على ما مضى. فإن قال أحد الرئيسين: أن أختار أولًا على أن أخرج السبق، أو على أن يكون السبق على حزبي، أو قال لصاحبه: اختر أولًا، على أن يكون السبق عليك.. لم يجز؛ لما ذكرناه من أن ذلك يؤدي إلى أن يختار أحدهما لحزبه الحذاق. فإن عدل بين الحزبين بالقوة والضعف، ثم اقترع الزعيمان على الحزبين.. لم يصح؛ لأن المناضلة كالإجارة في أحد القولين، وكالجعالة في الآخر، وأيهما كان.. فلا تدخله القرعة.(7/454)
[فرع: معرفة المتناضلين لبعضهما]
شرط] :
قال الشافعي: (ولا يجوز السبق حتى يعرف كل واحد من المتناضلين من يرمي معه، بأن يكون حاضرًا يراه أو غائبًا يعرفه) .
قال القاضي أبو الطيب: ظاهر هذا: أنه يكفي معرفة الزعيم لهم، ولا يصح حتى يتساوى الحزبان في العدد؛ لأن المقصود معرفة حذقهم، فإذا كان أحدهما أكثر عددًا.. كان الفضل بكثرة العدد لا بجودة الرمي، ويكون عدد الرشق منقسمًا بينهم؛ لأنه إذا لم يكن منقسمًا عليهم.. بقي هناك سهم، وتنازعوا فيمن يرميه. وتبنى إصابة بعض الحزب على إصابة بعض، وخطأ بعضهم على خطأ البعض؛ لأنهم بمنزلة الرجل الواحد.
[فرع: شرط التقديم مفسد]
وإن شرطوا أن يكون فلان مقدمًا في الرمي، وفلان في الحزب الآخر معه، ثم فلان وفلان بعده.. قال الشافعي: (كان فاسدًا) ؛ لأن تدبير الحزب في البداية إلى زعيمهم؛ ليقدم من رأى تقديمه، فإذا شرطوا أن يكون ذلك إلى اختيار الزعيم الآخر.. كان شرطًا ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
[فرع: اختيار أحد الزعماء للغريب]
فإن جاء رجل غريب لا يعرفونه، فادعى: أنه يحسن الرمي، فاختاره أحد الرئيسين.. نظرت:
فإن خرج من أهل الرمي إلا أنه كثير الخطأ، فقال أهل حزبه: ظنناه أنه كثير الإصابة.. وقد بان بخلافه، أو خرج كثير الإصابة، فقال أهل الحزب الآخر: ظنناه قليل الإصابة.. لم يسمع ذلك منهم. قال الشافعي: (وكان كمن عرفوه) ؛ لأن شرط دخوله في العقد: أن يكون من أهل الصنعة دون الحذق والنقص، كما اشترى عبدًا(7/455)
على أنه كاتب، فبان حاذقًا فيها أو ناقصًا.. فإن ذلك لا يؤثر.
وإن بان أنه لا يحسن الرمي أصلا.. بطل العقد فيه؛ لأنه ليس من أهل العقد.
قال ابن الصباغ: ويبطل العقد في محاذيه؛ لأنا قد قلنا: إن أحد الزعيمين يختار واحدًا، ويختار الآخر واحدًا، وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: لا يبطل.. ثبت للحزبين الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليهم.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن العقد يبطل في واحد من الحزبين غير معين.
وهل يبطل العقد في الباقي؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: يبطل، قولًا واحدًا؛ لأن من في مقابلته لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة.
فإذا قلنا: لا يبطل، وتنازعوا فيمن يخرجونه بإزائه.. فسخ العقد.
[فرع: قسمة الربح بين أحد الحزبين]
وإذا تناضل حزبان، فنضل أحدهما الآخر.. ففي قسمة المال بينهم وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يقسم بينهم بالسوية، كما يقسم على المنضولين بالسوية إذا التزموه.
فعلى هذا: إن خرج فيهم من لم يصب.. استحق.
والثاني: يقسم بينهم على عدد إصابتهم؛ لأنهم استحقوا ذلك بالإصابة، فإن خرج فيهم من لم يصب.. لم يستحق شيئًا.(7/456)
[فرع: تفاضل أحد المتناضلين]
وإذا تناضلا فظهر لأحدهما فضل على الآخر في الإصابة، فقال المفضول: اطرح فضلك وعلي لك دينار.. لم يجز؛ لأن ذلك يمنع معرفة الحاذق منهما، فإن تفاسخا العقد، وعقدا عقدًا آخر.. جاز، وإن لم يتفاسخاه، ولكن رميا تمام الرشق فتمت له الإصابة مع ما أسقطه.. استحق السبق، ورد الدينار إن كان أخذه؛ لأنه لم يملكه.
والله أعلم(7/457)
[باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإذا تناضلا، فكان الشرط بينهما إصابة الشن خاصة.. لم يعتد له إلا بما أصاب الشن دون ما يصيب الجريد والعروة والمعاليق) .
قال المحاملي: و (الشن) : هو الجلد المنصوب للرمي. و (الجريد) : هو الطوق الذي يكون حول الجلد. و (العروة) : هي التي يعلق بها ذلك الطوق. و (المعاليق) : هي الخيوط التي تربط بالعروة؛ ليعلق بها الغرض، و (الغرض) : هو الشن، والجريد، والعرى.
إذا ثبت هذا: فإن شرطا إصابة الشن.. لم يعتد إلا بإصابة الجلد خاصة، دون ما زاد عليه.
وإن كان الشرط إصابة الغرض، فإن أصاب الشن أو الجريد أو العروة.. اعتد له بذلك؛ لأن اسم الغرض يجمع ذلك كله، وإن أصاب المعاليق، وهي: الخيوط التي يعلق بها الغرض.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتد له بذلك؛ لأنهما من جملة الغرض، ألا ترى أن المعاليق إذا مدت.. امتد الغرض؟
والثاني: لا يعتد له بذلك؛ لأنه ليس من جملة الغرض، وإنما يراد لإمساك الغرض، فهي كالهدف.
[مسألة: ثبوت السهم في الهدف]
قال الشافعي: (وإن كان في الشن نبل، فأصاب سهمه فوق سهم في الشن.. لم يحتسب، ورد عليه، فرمى به) .(7/458)
قال أصحابنا: إذا وقع سهمه في فوق سهم ثابت في الغرض.. نظرت:
فإن كان السهم الذي في الغرض لم يغرق إلى فوقه، بل باقيه خارج.. لم يحتسب لمن أصاب فوقه ولا عليه؛ لأن بين سهمه والغرض طول السهم.
وإن كان السهم الذي في الغرض قد غرق فيه إلى فوقه؛ فإن كان الشرط في الإصابة مطلقًا.. احتسب له بالإصابة، لأنا نعلم أنه لولا فوق هذا السهم لأصاب الغرض، وإن كانت الإصابة هي الخسق.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم مع فوق هذا السهم الثابت، هل كان يخسق، أو لا؟
قال ابن الصباغ: فإن أصاب فوق السهم، وسبح على الشن، فأصاب الغرض. حسبت إصابته.
[فرع: نقل الريح الغرض]
إذا رمى إلى الغرض، فنقلت الريح الغرض من مكانه إلى مكان آخر، فإن أصاب الغرض في مكانه الذي انتقل إليه.. حسب عليه في الخطأ؛ لأن الشرط بينهما الإصابة في الموضع الأول، وإن أصاب الموضع الذي كان فيه الغرض، فإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقًا.. حسب له؛ لأن الغرض لو كان مكانه أصابه. وإن كان الشرط الخواسق، فإن كان الهدف صلبًا قويًا.. حسب له؛ لأنه لو كان الغرض بحاله.. خسقه، وإن كان ترابًا.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم لو كان الغرض هناك، هل كان يخسقه، أم لا؟
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي في " الأم ": (ولو رمى والشن منصوب، فطرحه الريح، أو طرحه إنسان قبل أن يقع سهمه.. كان له أن يعود فيرمي بذلك السهم؛ لأن الرمية زالت) .
قال ابن الصباغ: واختلف أصحابنا فيه:(7/459)
فذهب ابن القاص إلى: أن المسألة على ظاهرها، وأنه إذا أصاب مكان الغرض.. لا يكون إصابة؛ لأن محل الإصابة زال.
ومنهم من قال: أراد الشافعي: إذا كان الشرط الخواسق، وكان الموضع ترابًا. على ما مضى بيانه، وهذا أصح.
قال الشافعي: (فإن اتفقا على أن يرميا الغرض في موضعه الثاني.. جاز، كما لو اتفقا على ذلك ابتداء) .
فرع: [معاونة الريح على الإصابة] :
إذا رمى مفارقًا للغرض، فحملت السهم ريح خفيفة، فأصاب الغرض، أو نزع نزعًا مقصرًا ليصيب مع معاونة الريح، فأعانته الريح، وأصاب.. احتسب له؛ لأن ذلك غاية الحذق في الرمي، وإن أخطأ.. احتسب عليه؛ لأنه أخطأ بسوء رميه.
فأما إذا رمى وفي الجو ريح عاصف، فصرفت سهمه عن الإصابة، أو حملت سهمه، فأصاب.. لم يحتسب عليه ولا له؛ لأنه لم يصب بجودة رميه، ولا أخطأ بسوء رميه.
وإن رمى من غير ريح، فثارت ريح بعد خروج السهم، فحملت سهمه، فأخطأ.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه، وإن أصاب.. فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان، بناء على القولين في السهم المزدلف، وقال الشيخ أبو إسحاق: عندي: أنه لا يحتسب له، قولًا واحدًا.
[فرع: لا تحتسب إلا إصابة النصل]
قال الشافعي: (إذا أصاب بالقدح.. لم يحتسب إلا ما أصاب بالنصل) .
قال أصحابنا: أراد (بالقدح) : الفوق، وهو: الثلمة في أسفل السهم التي يوضع فيها الوتر، فإذا أصاب به.. لم يحتسب له؛ لأن ذلك من أسوأ الرمي.(7/460)
[مسألة: عوارض تعتري الرمي]
وإن انكسر القوس، أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح، أو أغرق السهم، فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، قال ابن الصباغ: لأن من شأن السهم أن يمر على إبهام يساره، فإذا زاد في النزع.. عثر السهم، فمر على أصل سبابة يساره، فإن رمى، ووقع السهم دون الغرض مع شيء من هذه العوارض.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ باختلال الآلة لا بسوء رميه.
ومن أصحابنا من حكى وجهًا آخر: أن يحتسب عليه بالخطأ في إغراق السهم. والأول هو المنصوص.
قال الشافعي بعد هذا: (فإن جاء السهم، وجاز من وراء الناس.. فهذا سوء رمي وليس بعارض، فلا يرد) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو إسحاق: عطف به الشافعي على المسألة قبلها، وهو أنه إذا عرض له بعض العوارض التي ذكرناها، فلم يقصر سهمه، ولكن جاوز الغرض ولم يصبه.. اعتد عليه به في الخطأ؛ لأنه إنما لا يحتسب عليه به في الخطأ إذا قصر سهمه دون الغرض؛ لأن العارض منعه، فأما إذا جاوز السهم الغرض.. فإنه أخطأ بسوء رميه لا للعارض؛ لأنه لو كان للعارض تأثير.. لمنعه عن بلوغه.
ومن أصحابنا من قال: هذه غير معطوفة عليها، بل هي مبتدأة، وأراد به: إذا رمى فجاوز سهمه الغرض، والناس الذين عنده يشهدون الإصابة من غير عارض.. فإنه يعتد عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بسوء رميه.
فأما إذا عرض شيء من العوارض التي ذكرناها، وجاوز سهمه الغرض، وأخطأه.. فإنه لا يعتد به عليه في الخطأ، كما لو قصر سهمه عن الغرض.
وإن أصاب الغرض مع شيء من هذه العوارض التي ذكرناها.. فهل تحتسب له الإصابة؟ حكى المحاملي، وابن الصباغ فيها وجهين:(7/461)
[الأول] : على قول أبي إسحاق: يعتد له به؛ لأنه لما اعتد عليه بالخطأ عند مجاوزة السهم الغرض.. اعتد له بالإصابة.
و [الثاني] : على قول غيره من أصحابنا: لا يعتد له بالإصابة؛ لأنه لما لم يعتد عليه بالخطأ.. لم يعتد عليه بالإصابة.
وذكر في " المهذب " [1/427] : أنه يعتد له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن الإصابة مع اختلال الآلة أدل على حذقه.
[فرع: انكسار السهم]
وإن انكسر السهم، فوقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه.
وإن أصاب بالنصل.. احتسب له به في الإصابة؛ لأن ذلك أدل على حذقه. وإن أصابه بفوقه أو عرضه.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ باختلال الآلة.
فرع: [حدوث عارض رد السهم] :
وإن عرض دون الغرض عارض، من إنسان أو بهيمة، فإن رد العارض السهم، ووقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإن وقع السهم في العارض، ثم جاوز السهم الغرض ولم يصبه.. فهل يحتسب عليه في الخطأ؟ فيه وجهان، ذكرناهما في انكسار القوس وانقطاع الوتر:
[الأول] : قال أبو إسحاق في " المهذب " [1/428] : يحسب عليه.
و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: لا يحتسب عليه.
وإن نفذ السهم في العارض وأصاب الغرض.. فهل يحتسب له في الإصابة؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان:(7/462)
[أحدهما] : إن قلنا: يحتسب عليه. بالخطأ إذا جاوز الغرض.. احتسب له بالإصابة.
و [الثاني] : إن قلنا: لا يحتسب عليه بالخطأ عند مجاوزة الغرض.. لم يحتسب له بالإصابة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يحتسب له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه.
وإن رمى بسهم، فازدلف ووقع في الغرض وأصابه؛ بأن يقع في الأرض دون الغرض، ثم يقوم من الأرض إلى الغرض.. فهل يحتسب له بالإصابة؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: هما قولان:
أحدهما: يحتسب له بالإصابة؛ لأنه أصاب الغرض بنصل السهم، فهو كما لو لم يزدلف سهمه.
والثاني: لا يحتسب له في الإصابة؛ لجواز أن تكون الإصابة بازدلاف السهم في الأرض واضطرابه، لا بجودة الرمي.
قال المحاملي: فعلى هذا: لا يحتسب له في هذا الرمي ولا عليه.
وقال أبو إسحاق المروزي: يحتمل أن يكون على اختلاف حالين: فإن كانت الأرض أعانت.. لم يحتسب له، وإن لم تكن أعانت.. احتسب له.
وإن ازدلف سهمه، فأخطأ.. قال المحاملي: احتسب عليه بالخطأ؛ لأن الازدلاف من سوء الرمي والخطأ فيه. وحكى صاحب " المهذب " فيه وجهين:
أحدهما: يحتسب عليه فيه بالخطأ؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يحتسب عليه فيه؛ لأن الأرض تشوش الرمي، وتزيل السهم عن سننه، فإذا أخطأ.. لم يكن ذلك بسوء رميه.(7/463)
[مسألة: يحتسب خاسقًا إذا خرق]
قال الشافعي: (ولو تشارطا الخواسق.. لم يحتسب له خاسقًا حتى يخرقه فيتعلق بنصله) وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فإن أصاب السهم الغرض وثقبه وثبت فيه.. حسب له في الإصابة؛ لأن هذا هو الخاسق، وإن خدشه ولم يثقبه.. احتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخسق، وإن ثقبه وسقط عنه ولم يثبت فيه، فهل يحتسب له خاسقا؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:
أحدهما: يعتد له به في الإصابة؛ لأنه قد خرقه، والخسق والخرق واحد، ولعله لم يثبت فيه لسعة الثقب.
والثاني: لا يحتسب له فيه، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما مخالف للآخر في الاسم والمعنى، والخسق أعلى من الخرق.
فعلى هذا: يحتسب عليه فيه بالخطأ. وإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقا فأصاب وخرق أو خسق أو خرم أو مرق.. احتسب له في الإصابة؛ لأن الإصابة توجد في هذه الأنواع.
[فرع: اشتراط الخسق]
وإن كان الشرط بينهما الخسق، فأصاب أحدهما الغرض وكان ملصقًا بالهدف، فسقط عنه السهم ولم يثبت فيه، وادعى الرامي أنه قد خسق وإنما لم يثبت سهمه لغلط لقيه من نواة أو حصاة أو ما أشبه ذلك، وقال المصاب عليه: إنما لم يثبت سهمك لسوء رميك، لا لما ذكرت، فإن علم موضع الإصابة باتفاقهما، أو بقيام البينة عليه.. نظرت:(7/464)
فإن لم يكن في الغرض ما يمنع ثبوت السهم وقد خرقه.. ففيه قولان بناء على أن الخارق هل يحسب خاسقًا؟ فإن قلنا: يحسب له.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يحسب له.. حسب عليه في الخطأ.
وإن علم موضع الإصابة، وكان فيه ما يمنع من جري السهم من نواة أو حصاة، وقد خرق إلى أن يبلغ إلى المانع، فإن قلنا: إن الخارق يحسب خاسقًا.. حسب له في الإصابة. وإن قلنا: لا يحتسب الخارق خاسقًا.. لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه إنما لم يخسق للعارض، لا لسوء رميه.
وإن علم موضع الإصابة ولا مانع فيه، ولا خرقه الرامي.. حسب عليه في الخطأ، ولا يمين على المصاب عليه؛ لأن ما ادعاه الرامي غير ممكن.
وإن كان هناك مانع، فقال الرامي: لم يخرق سهمي للمانع، وقال المصاب عليه: لم يخرق سهمك لسوء رميك لا لمانع.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: القول قول الرامي مع يمينه؛ لأن المانع يشهد له.
والثاني: القول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق.
وإن لم يعلم موضع الإصابة: فإن فتش الغرض ولم يوجد وراءه حصاة، ولا نواة تمنع الخسق.. فالقول قول المصاب عليه بغير يمين؛ لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن، ويحسب على الرامي بالخطأ. وإن وجد بعد الغرض ما يمنع من الثبوت.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن ما يدعيه الرامي ممكن، فلذلك حلف المصاب عليه.
[فرع: إصابة الخرق وثبوته فيه]
قال الشافعي: (وإن كان الشن باليًا، فأصاب موضع الخرق، فغاب في الهدف.. فهو مصيب) .(7/465)
وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فوقع السهم في موضع من الغرض قد خلق وبلي، أو ثقبه كانت فيه، وثبت في الهدف، فإن كان الهدف قويًا مثل صلابة الشن، بأن يكون بناء أو طينًا يابسًا وما أشبهه.. احتسب له فيه؛ لأنا نعلم أن السهم لو وقع في الغرض لخسقه. وهذا مراد الشافعي.
وإن كان الهدف ترابًا أو طينًا رطبًا.. لم يعتد له به؛ لأنا لا نعلم لو أصاب الغرض، هل كان يثبت أم لا؟ ولا يحتسب عليه به في الخطأ أيضًا؛ للاحتمال فيه.
وإن كان الشرط الخسق، فأصاب طرف الشن وخرقه وثبت مكانه، فحصل الشن من أحد جانبي السهم والجانب الآخر فارغ.. ففيه قولان، حكاهما المزني في " المختصر ":
أحدهما: لا يعتد له به؛ لأن الخاسق هو الذي يثبت في الغرض، ويحيط الغرض بجميع السهم، والغرض هاهنا لا يحيط بجميع السهم، فلم يعتد به خاسقًا.
والثاني: يعتد له به.
قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن الخاسق هو الذي يصيب الغرض ويثبت فيه وقد وجد ذلك.
[فرع: المروق في الغرض خسق]
وإن كان الشرط الخسق، فرمى أحدهما فوقع في الغرض ومرق منه.. قال الشافعي: (كان عندي خاسقا) قال: (ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه) .(7/466)
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: هو خاسق قولًا واحدًا، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره؛ لأنه قد وجد فيه الخسق وزيادة.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يعتد به خاسقًا؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يعتد له به؛ لأن المقصود بالمناضلة أن يعلم حذق الرامي وحسن رميه، والخسق فيه ضرب من الحذق وهو أن ينزع نزعًا يعلم أن سهمه يثبت في الغرض، ولا يزيد عليه، فإذا مرق، لم يوجد هذا المعنى، ولم يعد مصيبًا.
قال في " الأم " [4/150] : إذا كان الشرط الخواسق، فرمى أحدهما، فوجد السهم في ثقبة من الغرض، وهو ثابت في الهدف مع جليدة من الغرض، فقال الرامي: خسقت، ولشدة الرمي قطعت هذه الجليدة، وثبت في الهدف، فأنكر الآخر، وقال: بل كان في الغرض ثقبة وفيها هذه الجليدة، فوقع سهمك في الجليدة.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ـ كما قدمنا في المسألة قبلها ـ إن كان الهدف رخوًا.. لم يثبت كونه خاسقًا، وإن كان صلبًا.. كان خاسقًا. وأراد: إذا كان الهدف رخوًا.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه. وإن كان صلبًا.. حكم للرامي بالخسق من غير يمين؛ لما قدمناه.(7/467)
[مسألة: ما يبطل المناضلة]
وإن مات أحد المتناضلين، أو ذهبت يده.. بطلت المناضلة؛ لأن المقصود معرفة حذقهما، وقد فات ذلك.
وإن مرضا، أو أحدهما، أو رمدت عينه.. لم يبطل العقد؛ لأنه يمكن استيفاء ذلك بعد زوال العذر، ويحتمل أن يثبت للآخر الخيار في فسخ العقد؛ لأنه تأخر المعقود عليه.
وإن أراد أحدهما أن يفسخ العقد، أو يجلس عن الرمي، وكان العوض منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يصح فسخه، وأجبر الممتنع منهما عن الرمي بالحبس والتعزير، وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن كان قبل الرمي أو بعد الرمي، وهما متساويان في الإصابة.. صح الفسخ، ولم يجبر الممتنع عن الرمي.
فإن كان أحدهما قد ظهر له فضل إصابة، فإن كان الذي فسخ أو امتنع من الرمي هو الفاضل.. صح فسخه، ولم يجبر على الرمي، وإن كان الفاسخ أو الممتنع هو المفضول، فهل يصح فسخه، ولا يجبر على الرمي؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في أول الباب.
وإن شرطا أن كل واحد منهما يجلس عن الرمي أي وقت شاء، فإن كان ذلك في حال العقد، فإن قلنا: إن العقد لازم.. بطل الشرط والعقد، وإن قلنا: إنه كالجعالة.. لم يبطل العقد؛ لأنه شرط ما هو من مقتضى العقد.
وإن كان هذا الشرط بعد العقد.. لم يبطل العقد، قولًا واحدًا، كما لو شرطا في البيع شرطًا باطلًا بعد العقد وانقضاء الخيار.(7/468)
[مسألة: لا يعجل أحد المتناضلين صاحبه]
] : وإذا رمى أحد المتناضلين فأصاب.. فليس للمصيب أن يعجل صاحبه في الرمي ويدهشه؛ لأنه ربما أخطأ مع العجلة. وليس للمصاب عليه أن يطول إرساله، فيمسح قوسه وسهمه، ويمد مدًا طويلًا، يقصد بذلك تبريد يد المصيب؛ لينسى القصد الذي أصاب به، ويقال له: لا نكلفك أن ترمي على عجلة، ولا يجوز أن تطول لتضر بصاحبك، ولكن ارم على حسب العادة. وليس للمصيب أن يفتخر في إصابته، ويتبجح فيها؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه ويدهشه.
ويستحب أن يكون عند الغرض شاهدان ليشهدا الإصابة والخطأ، ويخبرا بها، وليس للشاهد أن يمدح المصيب؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه، ولا يذم المخطئ؛ لأنه إنما استحب كونه هنالك للشهادة، ولا للمدح والذم.
وبالله التوفيق(7/469)
[كتاب إحياء الموات](7/471)
كتاب إحياء الموات يجوز إحياء الموات وتملكه بذلك؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له، وليس لعرق ظالم حق» .
وروي: «لعرق ظالم» بإضافة العرق إلى ظالم.
وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» وأراد به في الموات.(7/473)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» هكذا روي بفتح الميم والواو.
و" الموتان" ـ بضم الميم وسكون الواو ـ: الموت الذريع. و" الموتان" ـ بفتح الميم وسكون الواو ـ عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب: إذا كان لا يفهم.
وأجمع المسلمون على جواز إحياء الموات والتملك به.(7/474)
إذا ثبت هذا: فإن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز إحياء الموات إلا بإذن الإمام) .
وقال مالك: (إن كان قريبًا من العمران في موضع يتشاح الناس فيه.. افتقر إلى إذن الإمام، وإلا.. لم يفتقر) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ، و «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» ولم يفرق بين أن يكون بإذن الإمام، أو بغير إذنه، ولأنها عين مباحة، فلم يفتقر تملكها إلى إذن الإمام، كالصيد والحشيش.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهي لكم مني» أراد: هي لكم أن تحيوها.
[مسألة: البلاد نوعان]
والبلاد على ضربين: بلاد إسلام وبلاد شرك. فأما بلاد الإسلام فعلى ضربين: عامر وموات.
فأما العامر: فهو لمالكه، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في شيء منه إلا بإذن مالكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه.. طوقه الله إياه يوم القيامة إلى سبع أرضين» .
إذا ثبت هذا: فإن كان هذا العامر يجاور مملوكًا، كالدور والأرض المتلاصقة.. فإن ملك كل واحد منهما لا يتجاوز إلى ملك غيره، إلا أن يكون له في ملك غيره رسم مسيل ماء، أو طريق، فله ذلك، ولكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه بما شاء من وجوه التصرفات وإن كان فيه ضرر على جاره.
وإن كان العامر يجاور مواتًا.. فلصاحب العامر من الموات الذي يجاور ملكه ما لا يمكنه الانتفاع بالعامر إلا به، مثل الطريق، ومسيل الماء الذي يخرج من الدار، وما تحتاج إليه الأرض من مسيل الماء.(7/475)
وإن كانت بئرًا.. فله من الموات قدر ما يحتاج إليه في نزع الماء منها، فإن كانت يستقى منها بالسواني.. فقدر ما تحتاج إليه من السانية في ذهابها ومجيئها. وإن كان دولابًا.. فقدر ما يدور فيه الثور. وإن كانت للماشية.. فقدر ما تعطن فيه الماشية.
وإن كانت ليستقى باليد منها.. فقدر ما يقف فيه المستقي، ولا يقدر ذلك بشيء.
وقال أبو يوسف: حريم البئر أربعون ذراعًا، وحريم العين خمسمائة ذراع.
وقال أحمد: (حريم البئر خمسة وعشرون ذراعًا، إلا أن يكون البئر عاديًا، فحريمه خمسون ذراعًا؛ لما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا» .
وأراد بقوله: (البديء) الذي ابتدئ حفرها.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها، كلها لأعطان الإبل والغنم، وابن السبيل أول شارب، ولا يمنع فضل ماء يمنع به الكلأ» .(7/476)
وإنما حد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حريم البئر بأربعين ذراعًا على عادة أهل الحجاز؛ لأنهم كانوا يحفرون آبارًا عميقة يغور الماء فيها، فيحتاج أن يمشي الثور فيها أربعين ذراعًا.
وأما الخبر الذي رواه أحمد: فمختلف، وإن صح حملناه على ما تدعو الحاجة إليه.
قال الشيخ أبو حامد: وللدار حريم، فإذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها.. منع منه.
قال ابن الصباغ: وعندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ألا ترى أنه لو أراد رجل أن يحيي إلى جنبها دارًا.. لم يلزمه أن يبعد عن فنائها؟ وإنما يمنع من حفر البئر في أصل الحائط؛ لأنه يضر به، وينبغي إذا كان لا يضر به أن يجوز.
وهل يكون صاحب العامر مالكًا لمرافق العامر من الموات؟
حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يكون مالكًا له، وإنما يكون أحق به؛ لأنه لم يحصل له فيه إحياء، فلم يملكه.
وقال القاضي أبو الطيب: يكون مالكًا له؛ لأنه تابع للعامر، فلما كان مالكًا للعامر.. ملك ما تبعه.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن العامر إذا بيع دخلت هذه الحقوق في البيع، ولأن معنى الملك في هذه الحقوق موجود، فإنه لا يجوز لأحد إحياؤها، وقد اختلفوا في ثبوت الشفعة في الطريق، وهذا يدل على ثبوت الملك فيها.
وأما الموات: فعلى ضربين:
ضرب: لم يجر عليه ملك قط لأحد، فهذا يجوز إحياؤه وتملكه، وهذا الذي ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» .
والضرب الثاني: موات قد كان جرى الملك عليه لمسلم ثم مات، أو غاب وخربت الأرض وصارت كالموات، فإن كان المالك لها معروفًا.. فهذا لا يجوز إحياؤه بلا خلاف، كما قلنا في العامر، وإن كان المالك لها غير معروف.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يملك ذلك بالإحياء عندنا.(7/477)
وقال أبو حنيفة: (يملك بالإحياء) .
وحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: أن ذلك وجه لبعض أصحابنا؛ لأنها عادت مواتًا كما كانت، فصارت مباحة كما لو لم يجر عليها أثر ملك.
ودليلنا: ما روى كثير بن مرة، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة في غير حق مسلم.. فهو أحق بها» وهذه في حق مسلم.
وروى ابن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد.. فهو أحق بها» ولأن هذه لها مالك، فلا يجوز إحياؤها كما لو كان المالك لها معينًا.
وأما بلاد الشرك: فضربان، عامر وموات:
فأما العامر، وما يحتاج إليه العامر من المرافق: فإنه ملك للكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] فأضافها إليهم، فدل على: أنهم ملكوها ولا يجوز إحياؤها، وإنما تملك بالقهر والغلبة.
وأما الموات: فإن كان قد جرى عليها ملك لمالك معروف.. لم يجز إحياؤها، كالعامر، وإن لم يجر عليها ملك.. جاز إحياؤها. ومن أحياها ملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق.
فعلى هذا: إذا أحيا مسلم مواتًا في أرضهم، ثم ظهر المسلمون على أرضهم فملكوها.. كانت غنيمة، إلا ما أحياه المسلم.
وإن كانت مواتًا قد جرى عليها أثر ملك لهم، ولا يعرف مالكها، فهل يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 342] قولين:(7/478)
أحدهما: يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» وأراد به: الأرض التي كانت ملكًا لقوم عاد، ولأنه لو وجد في بلاد الشرك ركاز من ضرب المشركين.. لملكه بالوجود وإن كان قد جرى عليه ملك مشرك، فكذلك إذا أحيا مواتًا جرى عليه ملك لمالك غير معروف من المشركين.
والثاني: لا تملك بالإحياء.
قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والموات ما ليس عليه أثر عمارة) ، ولأنها أرض حية جرى عليها الملك، فلم تملك بالإحياء، كما لو كان لها مالك معروف، ولأنه يجوز أن تكون لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يكون ماله مباحًا.
ومن قال بهذا.. قال: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عادي الأرض لله ولرسوله» أراد به: الملك القديم، فعبر عن الملك القديم بالعادي؛ لأنه يقال: شيء عادي، أي: قديم. فإن أحيا المسلم مواتًا في بلد صولح الكفار على الإقامة فيها.. لم يملكها بذلك؛ لأن الموات يتبع البلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم، فكذلك ما تبعه.
[فرع: إحياء قرب العامر]
ويجوز إحياء الموات بقرب العامر إذا لم يكن من مرافق العامر.
وقال مالك: (لا يجوز إيحاء ذلك بغير إذن الإمام، ولم يحده بحد) .
وقال أبو حنيفة: (لا يحيي إلا ما جاوز مدى الصوت من العامر، بأن يصيح إنسان في العامر، فالذي ينتهي إليه صوته من الموات.. لا يجوز إحياؤه) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق.
وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الناس الدور، فقال حي من بني زهرة، يقال لهم:(7/479)
بنو عبد زهرة: يا رسول الله: نكب عنا ابن أم عبد ـ أي: أخرج من جملتنا ابن مسعود ـ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه» .
قال الشافعي: (وفي ذلك دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل، وأن ذلك ليس لأهل العامر) .
وفي بعض نسخ المزني: (وأن ذلك لأهل العامر) .
فإن كان الأول.. فمعناه: وأن ذلك ليس لأهل العامر منعه. وإن كان الثاني.. فمعناه: أن ذلك لأهل العامر أن يحيوه أيضًا، كغيرهم.
وأما معنى قوله: (أقطع الدور) فقد اختلف أصحابنا في تأويله:
فمنهم من قال: كان الذي أقطعهم دورًا قديمة عادية خربت. وهذا قول من يقول: إن ما كان مملوكًا ومات أهله في الجاهلية، ولا يعرف مالكه.. يجوز إحياؤه.
ومنهم من قال: إنه أقطعهم ما يبنونه دورًا. فسماها دورًا؛ لأنها تؤول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فسمى العصير خمرًا؛ لأنه يؤول إليه.(7/480)
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق وهو على ميل من المدينة) ولم ينكر عليه أحد، ولأنه موات لم يملك، غير متعلق بمصلحة العامر، فجاز إحياؤه، كما لو زاد على مدى الصوت.
[مسألة: لا يقطع لكافر في دار الإسلام]
] : وإذا أحيا الكافر الحربي أو الذمي مواتا في دار الإسلام.. لم يملكه بذلك، وليس للإمام أن يأذن له في ذلك.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز للإمام أن يأذن في ذلك، وإذا أحيا أرضًا مواتًا في بلاد الإسلام بالإذن.. ملكه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» .
فوجه الدليل من الخبر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضاف الموات إلى الله لا على سبيل أنه يملكها؛ لأنه مالك لها ولغيرها، وإنما أضافها إلى الله تعالى تشريفًا لها؛ لأنها تملك بغير عوض ولا عن مالك، كما أضاف خمس الغنيمة إليه لشرفه؛ لأنه يملك بغير عوض ولا عن مملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] .
فلما لم يكن للكافر حق في خمس الغنيمة.. فكذلك في الموات في بلاد الإسلام. وإنما لم يضف الزكاة إليه؛ لأنها أوساخ الناس، ثم قال: «هي لكم مني» وهذا خطاب للمسلمين.(7/481)
[فرع: لا تحفر بئر تضر ببئر موات]
] : قال ابن الصباغ: إذا حفر بئرًا في موات للتملك، فجاء آخر فحفر قريبًا منها بئرًا ينسرق إليها ماء البئر الأولى.. لم يكن له ذلك.
قال أصحابنا: فلو حفر الثاني في ملكه بئرًا بحيث ينسرق ماء جاره إليه.. جاز.
والفرق بينهما: أن الذي يحفر في الموات يبتدئ التملك، وليس له أن يتملك الموات على وجه يضر بملك غيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه، فلا يمنع من ذلك.
ولو حفر رجل في ملكه كنيفًا يفسد على جاره بئره.. قال القاضي أبو الطيب: لم يمنع من ذلك؛ لأنه يتصرف في ملكه، فهو بمنزلة أن يكون له دكان، فيخبز فيه، فيتأذى الجيران به، فلا يمنع.
وحكى في " المهذب " [1/431] : أن بعض أصحابنا قال: ليس له أن يحفر في أصل حائطه حشًا؛ لأنه يضر بالحاجز الذي بينه وبين جاره في الأرض.. وليس بشيء.
[مسألة: العرف في إحياء الموات]
] : قال الشافعي: (والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا) .
وجملة ذلك: أن الشرع ورد بالإحياء مطلقًا، وما ورد به الشرع مطلقًا.. رجع فيه إلى العرف والعادة في ذلك الشيء، كما قلنا في أقل الحيض وأكثره، والتفرق في البيع والقبض فيه، والحرز في السرقة.
إذا ثبت هذا: فإن كان يحيي الموات دارًا للسكنى.. فإحياؤها أن يبني حيطان الدار بالحجارة، أو اللبن، أو الآجر، وما أشبه ذلك مما يبنى به.
قال الصيمري: ويبني الحيطان عالية، بحيث يمنع من أراده، ويسقف منها ولو(7/482)
بيتًا واحدًا؛ لأن الدار تراد للإيواء، ولتقي من البرد والحر والمطر، ولا يقيه إلا السقف، فإن لم يسقف كان متحجرًا.
وهل من شرط تمام الإحياء في الدار نصب الباب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الدور لا تكون دورًا إلا بذلك.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن عدم ذلك لا يمنع السكنى، وإنما يراد للحفظ.
وإن أراد أن يحيي الموات حظيرة للغنم، أو للحطب، أو للشوك.. فإحياؤها أن يبني حولها حائطًا بحجارة، أو لبن، أو آجر، أو ما أشبهه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» .
قال ابن الصباغ: وهل من شرط تمام إحيائها نصب الباب؟ على الوجهين في الدار.
وإن جمع ترابًا حول الحظيرة وسنمه، أو اتخذ حائطًا من حجارة نصبه من غير بناء، أو من حطب، أو شوك، أو خشب.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يملكه بذلك، ولكن يكون بذلك متحجرًا.
قال الشافعي: (لأن المسافر قد ينزل منزلًا وينصب الحجارة حول الخباء، ولا يكون ذلك إحياء) .
وليس من شرط الحظيرة التسقيف؛ لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحظيرة، بخلاف الدار للسكنى.
وإن أراد أن يحيي الموات للزراعة.. فإحياؤها أن يجمع ترابًا يحيط بها بما يبين به الأرض من غيرها، ويحرثها، ويسوق الماء إليها، فإن كانت تشرب من بئر.. حفر(7/483)
لها بئرًا، وإن كانت تشرب من ماء مباح.. فأن يطرق إليها طريقًا للماء، وإن كانت تشرب من ماء المطر.. فأن يطرق إليها طريقًا ينزل فيه الماء إليها.
وهل من شرط تمام إحيائها الزراعة فيها؟
قال الشافعي في " المختصر " [3/108] : (ويزرعها) واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: إن الزرع ليس بشرط في الإحياء، وهو المنصوص في " الأم " [3/266] لأن الزراعة انتفاع من المحيا، فلم يكن شرطًا في الإحياء، كما لو أحيا حظيرة للغنم، فلا يشترط في إحيائها ترك الغنم فيها.
ومنهم من قال: إن ذلك شرط في الإحياء. وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأن الأرض لا تكون معمورة للزرع إلا بالزرع.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهًا ثالثًا: أن أبا العباس قال: لا تكون الأرض محياة للزرع حتى يزرعها ويسقيها؛ لأن عمارتها للزراعة لا تكمل إلا بذلك.
قال الشافعي في " الأم ": (وعمارة الأرض للغراس أن يغرس الأرض) .
والفرق بين الزراعة والغرس على أحد الوجهين: أن الغراس يراد للبقاء، فهو كبناء الدار، والزرع لا يراد للبقاء، فهو كسكنى الدار.
وإن حفر في الموات بئرًا.. لم يتم الإحياء حتى يصل إلى الماء. فإن كانت الأرض صلبة.. فقد تم الإحياء، وإن كانت رخوة.. لم يتم الإحياء حتى يطويها.
[مسألة: العمارة في الموات]
تثبت الحق] : وإذا سبق إلى موات فشرع في عمارته.. كان متحجرًا له بذلك، وصار أحق به من غيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» .(7/484)
فإن مات.. انتقل إلى وارثه؛ لأن يد الوارث تقوم مقام يد المورث.
وإن نقله إلى غيره.. صار الثاني أحق به؛ لأنه قد أقامه مقام نفسه.
وإن باعه.. فهل يصح بيعه؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيه وجهين، وحكاهما المسعودي قولين [في " الإبانة " ق \ 343] :
أحدهما: يصح؛ لأنه صار أحق به، فصح بيعه له كالمالك.
والثاني: لا يصح، وهو المذهب؛ لأنه لم يملكه، وإنما ملك أن يملك. فإن بادر غيره فأحياها:
فإن كان قبل أن يتطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكها الثاني؛ لأن يد الأول قد ثبتت عليها، وقد ملك أن يملكها، فلم يملكها غيره.
والثاني: أن الثاني يملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق بين أن تكون قد تحجرها غيره، أو لم يتحجرها.
وإن تطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها: فإن السلطان يستدعيه، ويقول له: إما أن تحييه، وإما أحياه غيرك، فإن استمهله.. قال الشيخ أبو حامد: أمهله يومًا، وثلاثًا، وشهرًا، فإن أحياه.. ملكه، وإن تركه.. زال ملكه عنه. وإن لم يتركه فجاء غيره وأحياه.. ملكه، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا عذر له مع تطاول المدة.(7/485)
[مسألة: المعادن في الموات]
والمعادن على ضربين: ظاهرة، وباطنة.
فأما الظاهرة: فهي ما لا يحتاج في الانتفاع بها إلى عمل، فهي مثل: الماء في الأنهار، والعيون، وكالنفط، والمومياء، والياقوت، والملح، والكحل، فهذا لا يملكه أحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» . فعلق الملك بالإحياء، وهذا لا يحتاج إلى إحياء.
إذا ثبت هذا: فإن الناس يشتركون فيها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاثة: النار، والماء، والكلأ» .(7/486)
فأما اشتراكهم في النار: فهو أن يضرم رجل نارًا في حطب مباح مطروح في موات. فأما إذا حطب الرجل حطبًا، وأضرم فيه نارًا.. فهو أحق بها، وله أن يمنع غيره منها.
وأما اشتراكهم في الكلأ: فهو الكلأ النابت في الموات.
وأما اشتراكهم في الماء: فهو الماء في الأنهار والعيون التي ليست بمملوكة.
فإذا سبق واحد إلى شيء من هذه المعادن الظاهرة.. أخذه وملكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» .
فإن أخذ منها وانصرف، وجاء غيره وأخذ منها وانصرف، وعلى هذا يأخذ واحد بعد واحد.. جاز. وإن جاء واحد وأطال يده عليها.. ففيه وجهان:(7/487)
أحدهما: لا يزيل الإمام يده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.. فهو أحق به» .
والثاني: أن الإمام يزيل يده عنها؛ لأنه يصير متحجرًا، وتحجرها لا يجوز.
وإن جاء اثنان في حالة واحدة، فإن اتسع المعدن لهما.. أخذاه، ولا كلام. وإن ضاق المعدن عليهما، فإن كانا يأخذان شيئًا قليلًا، كالماء الذي يأخذانه ليشرباه، أو ليتطهرا به، وما أشبهه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
والثاني: أن الإمام ينصب رجلًا ليستقي منه لهما، ثم يقسمه بينهما؛ لأن قسمة ذلك ممكنة.
والثالث: أن الإمام يقدم أحدهما باجتهاده.
وإن كانا يأخذان الكثير للتجارة.. هايأ الإمام بينهما يومًا بيوم أو شهرًا بشهر على حسب ما يراه، ويقرع في البادئ منهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
وإن كان بقرب الساحل بقعة إذا حفرت وانساق الماء إليها ظهر بها ملح.. جاز إحياؤها؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بالعمل، فهي كالموات.
وأما المعادن الباطنة: وهي ما لا يتوصل إلى أخذ شيء منها إلا بعلاج وعمل، كمعدن الذهب والفضة والفيروز والرصاص والنحاس وما أشبهه، فإذا عمل فيها رجل ووصل إلى نيله.. ملك ما أخذ منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم. فهو أحق به» .
وهل يملك المعدن؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يملكه؛ لأنه أرض غير مملوكة، لا يتوصل إلى منفعتها إلا بنفقة ومؤونة، فيملك بالإحياء، كالموات.
والثاني: لا يملكه بالإحياء، وهو الصحيح؛ لأن المحيا: ما يتكرر الانتفاع به(7/488)
بعد عمارته من غير إحداث عمارة وعمل آخر، فهذا لا يمكن في المعادن؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بعمل متجدد في كل شيء يأخذه.
قال الشافعي: (ولأنه لو ملكه.. لجاز بيعه، وبيعه لا يجوز؛ لأن المقصود منه مجهول) .
فإذا قلنا: يملكه بالإحياء.. فإحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وقبل ذلك تحجر.
وإن قلنا: إنه لا يملكه.. فلا يجوز تحجره، بل لكل أحد أن يجيء ويأخذ منه.
فإن أطال المقام عليه، فهل تزال يده؟ على وجهين، كما قلنا في المعادن الظاهرة.
وإن سبق إليه اثنان في حالة واحدة.. فهو كما لو سبقا إلى معدن ظاهر على ما مضى. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق، وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنه لا يأتي فيه إلا وجهان:
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام من يرى منهما. ولا يجيء الثالث، وهو: أن يقسم بينهما؛ لأن الموضع لا يتسع إلا لأحدهما.
[فرع: غلبة المسلمين على أرض معدن]
وإن عمل جاهلي في الموات على معدن باطن، وظهر على نيله، ثم غلب المسلمون على تلك الأرض.. فهو كما لو لم يعمل عليه. وهل يملك بالإحياء؟ على القولين.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه يصير غنيمة على القول الذي يقول: إن هذه المعادن تملك بالإحياء؟
فالجواب: أن المعادن إنما تملك بالإحياء إذا قصد المحيي تملكها، ونحن لا نعلم أن الجاهلي قصد تملكها أم لا، فجرى مجرى من حفر بئرًا في موات وارتحل عنها، فإنه يجوز لغيره الانتفاع بها؛ لأنا لا نعلم أنه يملكها أم لا؟(7/489)
[فرع: إحياء الأرض يقتضي ملكها وما فيها]
إذا أحيا رجل مواتًا.. ملكها. فإن ظهر بها معدن ذهب أو فضة أو غير ذلك مما ذكرنا.. ملك ذلك المعدن، قولًا واحدًا؛ لأنه قد ملك الأرض بالإحياء، فملك جميع أجزائها، والمعدن من أجزائها، فملكه، كما لو أحيا أرضًا فنبع فيها عين ماء. ويفارق إذا حفر في الموات معدنًا منفردًا في أحد القولين؛ لأنه لم يملك الأرض، وإنما قصد تملك المعدن، والموات لا تملك إلا بعمارة، ولا يوجد ذلك في المعدن.
[مسألة: مقاعد الباعة في الأسواق]
ويجوز القعود بمقاعد الأسواق، ورحاب المساجد، والطرق الواسعة للبيع والشراء بإجماع الأمة على جواز ذلك.
فإن سبق رجل إلى شيء من هذه المواضع.. كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق» .
وله أن ينصب فيها ما يستظل به مما ينقله معه ولا يضر به على الناس، كالبواري ونحوه.(7/490)
وليس له أن يبني فيها دكة ولا بيتًا؛ لأن في ذلك ضررًا على الناس.
فإن جاء آخر، وقعد بين يدي الأول حتى ضيق عليه المكان.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 344] : كان له منعه.
فإن قام رجل من شيء من هذه المواضع وترك رحله فيه.. لم يكن لغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول لم تزل عنه. فإن نقل رحله عنه:
قال الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: فلغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول زالت عنه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : إذا فارق ذلك الموضع ليلًا.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وكذلك لو لم يقعد فيه يومًا أو يومين لمرض أو شغل.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وإن طالت غيبته.. بطل حقه، ولغيره أن يقعد فيه، ولا يرده عليه إذا عاد.
قال: وهكذا لو كان جالسًا في مسجد فسبقه الحدث فذهب ليتوضأ.. لم يكن لغيره أن يجلس في مكانه.
[فرع: للإمام المنع من القعود]
وإن قعد رجل في شيء من هذه المواضع وأطال الإقامة.. فهل للإمام أن يزيل يده عنه؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن سبق إلى معدن ظاهر وأطال.
وإن جاء اثنان إلى ذلك الموضع في حالة واحدة، ولم يتسع المكان لهما.. ففيه وجهان
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام أحدهما، كما قلنا في الرجلين إذا جاءا معًا إلى معدن ظاهر.
ولا يجيء الوجه الثالث هناك هاهنا ـ وهو: أن يقسم بينهما ـ لأن الموضع لا يتسع لهما، فلا فائدة في قسمته.(7/491)
فرع: [مواضع النجعة في البادية] :
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : المواضع التي ينزل بها أهل البادية للنجعة، فمن نزل بها.. فهو أحق بها، وكذا لو أرسل نعمه في صحراء.. فليس لغيره أن ينحي نعمه عنها، ويرسل نعمه فيها.
والله تعالى أعلم(7/492)
[باب الإقطاع والحمى]
يجوز للإمام أن يقطع الموات لمن تملكها بالإحياء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع الزبير حفر فرسه ـ يعني: عدوه ـ فأجراه، فلما قام.. رمى بسوطه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقطعوا له من ميتتها سوطه»
و: (أقطع أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق) ولم ينكر عليهما أحد، فدل على إجماعهم على صحة الإقطاع.
ولا يقطع الإمام أحدًا من الموات إلا ما يقدر المقطع له على إحيائه؛ لأنه إذا أقطعه ما لا يقدر على إحيائه.. استضر الناس بذلك من غير فائدة.
ومن أقطعه الإمام شيئًا.. صار أحق به، كالذي يتحجر شيئًا من الموات بابتداء العمل على ما مضى بيانه.(7/493)
[مسألة: إقطاع المعدن]
وأما إقطاع المعادن: فينظر فيه: فإن كان معدنًا ظاهرًا ـ وهو: الذي يتوصل إلى نيله من غير إحداث عمل ـ كالأنهار والعيون وما أشبهه.. فلا يصح إقطاعه؛ لما روي: «أن الأبيض بن حمال المازني وفد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقطعه ملح مأرب ـ فروي: أنه أقطعه، وروي: أنه أراد أن يقطعه ـ فقال له رجل من المجلس ـ قيل: إنه الأقرع بن حابس ـ: أتدري يا رسول الله ما الذي تقطعه؟ إنما تقطعه الماء العد، فانتزعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) .
وفي رواية الشافعي [في " الأم " 3/265] : قال: "فلا آذن"، وذكر في " المهذب " [1/432] : «فاستقاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال: هو منك صدقة» .(7/494)
و (الماء العد) : هو الذي لا ينقطع، وأراد: أنه بمنزلة ما لا ينقطع من الماء.
فإن قيل: في الخبر ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه إياه، ثم تبين أنه أخطأ فاسترده، وأن الخطأ عليه جائز.. قلنا: عن هذا أجوبة:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان أقطعه إياه ولم يخطئ في الحكم، وإنما أخطأ في الصورة؛ لأنه ظن أنه معدن باطن يحتاج الانتفاع به إلى نفقة ومؤنة، فلما أخبر أنه معدن ظاهر لا يحتاج إلى نفقة ومؤنة.. امتنع.
والثاني: أنه وإن أخطأ في الحكم فالخطأ في الحكم جائز على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وإنما لا يقرهم الله عليه بخلاف غيرهم، فإنهم يخطئون ويقرون عليه.
والثالث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أقطعه، وإنما أراد أن يقطعه، فلما أخبر أنه كالماء العد.. امتنع من إقطاعه.
فعلى هذا: لم يخطئ في حكم ولا في صورة، بل كان وعده، ثم استقاله؛ لتطيب نفسه من النفقة.
وأما المعادن الباطنة ـ وهي: المعادن التي لا يتوصل إلى أخذ ما فيها إلا بحفر بعد حفر ـ كمعادن الذهب والفضة: فإن قلنا: يجوز تملكها بالإحياء.. جاز إقطاعها، كما قلنا في الموات، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء.. فهل يجوز إقطاعها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إقطاعها؛ لأنها لا تملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعها، كالمعادن الظاهرة.
والثاني: يجوز إقطاعها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وأخذ منه الزكاة» ، ولأنه يجوز إقطاع ما لا يملك بالإحياء، كمقاعد الأسواق والطرق.(7/495)
وإن شئت قلت: في المعادن الباطنة ثلاثة أقوال:
أحدها: تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
والثاني: لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها.
والثالث: لا تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
فإذا قلنا: يجوز إقطاعها.. لم يقطع الإمام منها رجلًا إلا ما يقوم بعمارته، كما قلنا في الموات.
فرع: [يجوز إقطاع مقاعد الأسواق] :
ويجوز إقطاع مقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، فإذا أقطعه الإمام شيئًا من ذلك.. صار أحق به من غيره. فإن قام عنه ونقل رحله عنه، ثم رجع إليه ووجد غيره فيه.. فالأول الذي أقطعه الإمام أحق به. وهذا هو الفرق في الارتفاق بهذه المواضع بغير الإقطاع، وبالإقطاع.
[مسألة: المعدن الباطن لمالك الأرض]
ومن ملك معدنًا باطنًا، ثم جاء غيره وأخذ منه شيئًا، فإن كان ذلك بغير إذن المالك. كان ما أخرجه لمالك المعدن، ولا أجرة للمخرج، وإن كان بإذنه.. نظرت:
فإن قال: استخرجه لنفسك، فأخرجه.. فالهبة فاسدة؛ لأنه مجهول، ويأخذه مالك المعدن، ولا أجرة للمخرج؛ لأنه أخرجه لنفسه.
فإن قيل: أليس لو قارضه على أن يكون الربح كله للعامل، فعمل وربح.. كان القراض فاسدًا، وكان الربح لرب المال وللعامل أجرة ما عمل؟
قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: الفرق بينهما: أن العمل وقع لغيره؛ لأن(7/496)
العمل في رأس المال وهو يعلم أنه لغيره، والبيع والشراء وقع لصاحب المال، وهاهنا عمل لنفسه؛ لأنه اعتقد أن ما يعمل فيه له.
قال ابن الصباغ: والفرق الجيد عندي: أن إذنه هاهنا تمليك للعين الموجودة، والعمل فيها لا يكون بالإذن؛ لأن عمله في ملك نفسه لا يفتقر إلى إذن غيره، فلم يستحق في مقابلته شيئًا. أما القراض: فإنه لا يملك فيه بالإذن إلا التصرف، وبه يملك الربح، فإذا لم يحصل له بتصرفه ملك ما يحصل بالتصرف، وحصل لغيره.. كان له أجرة العمل الذي حصل به ملك غيره.
وإن قال مالك المعدن: استخرجه لي، ولم يشرط له أجرة، فاستخرج له منه شيئًا.. كان المخرج لمالك المعدن.
وهل يستحق المخرج أجرة المثل على مالك المعدن؟ فيه أربعة أوجه، مضى ذكرها.
وإن شرط له أجرة معلومة على عمل معلوم، بأن قال: استأجرتك أن تحفر لي كذا وكذا يوما بكذا.. صح. وإن قال: إن أخرجت لي كذا وكذا فلك كذا.. صح، وكان جعالة.
[مسألة: الحمى لموضع]
] : وأما الحمى: فهو أن يحمي الرجل موضعًا من الموات الذي فيه الكلأ ليرعى فيه البهائم، يقال: حمى الرجل يحمي حمى، وحامى يحامي محاماة، وحماء، فيجوز قصر الحمى ومده، والمشهور فيه: القصر. قال الشاعر:
أبحت حمى تهامة ثم نجد ... وما شيء حميت بمستباح
إذا ثبت هذا: فإن الحمى كان جائزًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيحمي لنفسه وللمسلمين؛ لما(7/497)
روى الصعب بن جثامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» .
فأما لنفسه: فإنه ما حمى، وأما للمسلمين: فإنه قد حمى، والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع لخيل المجاهدين» .
و (النقيع) : بالنون: اسم للمكان الذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبالباء: اسم لمقابر المدينة.
وأما آحاد الرعية: فليس لأحد منهم أن يحمي شيئًا من الموات؛ لأن الرجل العزيز في الجاهلية كان إذا انتجع بلدًا مخصبًا.. أوفى بكلب على جبل، أو نشز من الأرض ـ إن لم يكن جبل ـ ثم استعواه، ووقف له من يسمع منتهى صوته ـ وهو العواء ـ فحيث انتهى صوته.. حماه من كل ناحية لضعفاء ماشيته خاصة، ويرعى مع الناس في غيره، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» .
وأما إمام المسلمين: فليس له أن يحمي لنفسه، قولًا واحدًا، وهل له أن يحمي لخيل المجاهدين، ونعم الصدقة، ونعم من يضعف من المسلمين عن طلب النجعة؟ فيه قولان:(7/498)
أحدهما: ليس له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى إلا لله ولرسوله» ، ولأنه لا يجوز له أن يحمي لنفسه، فلا يحمي لغيره كآحاد الرعية.
والثاني: يجوز، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لما روي في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين» .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أتاه أعرابي من أهل نجد وقال: يا أمير المؤمنين: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعل ينفخ ويفتل شاربه ـ وكان إذا كره أمرًا فعل ذلك ـ فجعل الأعرابي يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت عليهم شبرًا في شبر) .
قال مالك: (نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر) ، وقال مرة: (من الخيل) .
وروي: (أن عمر حمى موضعًا وولى عليه مولى له يسمى هنيًا، وقال: يا هني: ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما.. يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة، إن تهلك ماشيته.. يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا، لا أبا لك؟ إن الماء والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم، وايم الله: إنهم ليرون أني ظلمتهم،(7/499)
وإن البلاد لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت شبرًا من أرض المسلمين) .
قال الشيخ أبو حامد: فقوله: (ضم جناحك للناس) أي: تواضع لهم ـ وقيل معناه: اتق الله؛ لأن ضم الجناح هو تقوى الله، فكأنه قال: اتق الله في المسلمين.
وقوله: (وأدخل رب الصريمة والغنيمة) أي: لا تمنع الضعفاء من هذا الحمى.
و (الصريمة) تصغير صرمة، وهي: ما بين العشر إلى الثلاثين من الإبل. وما دون العشر يقال له: الذود.
و (الغنيمة) : تصغير غنم.
وأما قوله: (وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف) أي: لا تدخلها الحمى؛ لأنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما.
إذا ثبت هذا: وقلنا: يجوز للإمام أن يحمي.. فإنه يحمي قدرًا لا يضيق به على المسلمين؛ لأنه إنما يحمي للمصلحة، وليس من المصلحة إدخال الضرر على المسلمين.
[فرع: حمى النبي لا ينقض]
إذا حمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواتًا لمصلحة، فإن كان ما حمى له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المصلحة باقيًا.. لم يجز لأحد إحياؤه، وإن زال ذلك المعنى.. فهل يجوز إحياؤه؟ فيه وجهان:(7/500)
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما عاد ذلك المعنى فيحتاج إلى ذلك الحمى، كما قلنا في المحلة إذا خربت وفيها مسجد.. فلا يجوز نقضه ونقل خشبه، ولأن ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلوم أنه مصلحة، فلا يجوز تغييره، كما أمر بالرمل والاضطباع بسبب، ولم يزل بزوال ذلك السبب.
والثاني: يجوز إحياؤه.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الحكم إذا وجب لعلة.. زال بزوال العلة، بخلاف المسجد، فإنه يرجى عود العمارة فيحتاج إلى المسجد ولا يتمكن منه؛ لأنه لا يحتاج إلى الإنفاق عليه، وليس كذلك الحمى؛ لأنه إن عاد ذلك المعنى واحتيج إلى الحمى.. فإنه يحمى في الوقت، ولا شيء يتعذر.
[فرع: حمى الحاكم]
وأما إذا حمى الإمام مواتًا لمصلحة، وقلنا: يصح حماه، فأحياه إنسان، فإن كان بإذن الإمام.. جاز وملكه إذا أحياه؛ لأن إذن الإمام نقض لذلك الحمى، وإن أحياه بغير إذنه.. قال ابن الصباغ.. فقد قيل: فيه وجهان، وقيل: هما قولان:
أحدهما: لا يملكه من أحياه؛ لأنها أرض محمية، فلم يملكها من أحياها، كالذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يملكه؛ لأن الملك بالإحياء ثبت بالنص، وحمى الإمام اجتهاد، فكان النص مقدمًا على الاجتهاد.
[فرع: توسع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ملك خيبر وغيرها]
قال الشيخ أبو حامد: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الإسلام ـ حيث كان الأمر ضيقًا ـ ما كان يدخر إلا قوت يوم لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي في بره، فلما انتشر(7/501)
الإسلام، وكثرت الفتوح، وملك خيبر وبني النضير وغير ذلك.. اتسع، فكان يدخر قوت سنة لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي، وكان ممن يملك. وقال بعض الناس: ما كان يملك شيئًا، ولا يتأتى منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله وما يحتاج إليه، فأما تملك شيء: فلا. وهذا غلط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] [الحشر: 7] فأضاف ذلك إليه، والإضافة تقتضي الملك، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها» و: «استولد مارية» ولا يكون ذلك إلا في ملك.
فرع: [لا حق لعرق ظالم] :
روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ليس لعرق ظالم حق» .
قال الشافعي: (والعرق: ما وضع في الأرض للبقاء والدوام) .
والعروق أربعة:
عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء.
وعرقان باطنان، وهما: البئر والنهر.
[باب حكم المياه]
7 -(7/502)
باب حكم المياه
إذا حفر الرجل بئرًا في ملكه.. فالبئر ملك له؛ لأن من ملك أرضًا ملكها إلى القرار، فإن نبع فيها ماء فهل يملكه؟ على وجهين، مضى ذكرهما في البيوع.
وإن حفر الرجل بئرًا في موات ليتملكها، فما لم ينبع فيها الماء.. فلا يملكها، لكنه متحجر لها، فإن نبع فيها الماء وكانت صلبة لا تفتقر إلى طي، أو كانت رخوة فطواها.. ملك البئر، وهل يملك ما فيها من الماء؟ على الوجهين.
وإن حفرها في موات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها، فنبع فيها الماء.. فإنه لا يملكها؛ لأنه لم يقصد تملكها، وإنما قصد الارتفاق بها، فلم يملكها. فما دام مقيمًا عليها.. فهو أحق بها؛ لأنه سابق إليها، فإن أزال يده عنها وجاء غيره.. كان أحق بها؛ لأنه ماء مباح.
إذا ثبت هذا: فإن الماء الذي ينبع في البئر التي يملكها، لا يلزمه أن يبذل لغيره منه ما يحتاج إليه لنفسه وماشيته وزرعه وشجره.
وأما ما يفضل عن حاجة نفسه وماشيته وزرعه وشجره: فيجب عليه أن يبذله لماشية غيره إذا كان بقرب هذا الماء كلأ مباح لا يمكن للماشية رعيه إلا بأن تشرب من هذا الماء، فيلزم مالك الماء بذل الماء بغير عوض. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أبو عبيدة بن حرب: لا يلزمه ذلك، وإنما يستحب له بذله، كما لا يلزمه بذل الكلأ في أرضه لماشية غيره.
ومن الناس من قال: يلزمه بذله بعوض، كبذل الطعام للمضطر. والأول أصح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ» .(7/503)
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ.. منعه الله فضل رحمته يوم القيامة» فأوجب عليه بذل الفضل من غير عوض، وتوعده على منعه. والتوعد لا يكون إلا على فعل معصية.
ولا يلزمه بذل فضل الماء لزرع غيره وشجره. ومن الناس من قال: يلزمه بذل الفضل لزرع غيره وشجره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن التوعد إنما ورد في منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، ويخالف بذل الماء للماشية؛ لأن الماشية لها حرمة بنفسها، ولهذا يلزمه سقي ماشيته، والزرع والشجر لا حرمة له بنفسه، ولهذا لو كان له زرع أو شجر لم يلزمه سقيه.
[فرع: الشرب من النهر المملوك]
قال ابن الصباغ: وإذا كان لرجل نهر مملوك.. جاز لكل أحد أن يتقدم ويشرب منه؛ لأنه به حاجة إلى ذلك، وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، إذا كان لا يؤثر فيه.
[مسألة: الماء مباح مملوك حسب مكانه]
المياه على ثلاثة أضرب:
[الأول] : ماء مباح في موضع مباح.(7/504)
والثاني: ماء مباح في موضع مملوك.
والثالث: ماء نبع في ملك.
فأما الماء المباح في موضع مباح: فمثل الماء في الأنهار العظيمة، كدجلة والفرات، وما جرى من ذلك إلى نهر صغير، وكالسيول في الموات، فهذا الماء الناس فيه شرع واحد، لكل أحد أن يأخذ منه، ومن قبض منه شيئًا.. ملكه، وفيه ورد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في ثلاثة شركاء: الماء والنار والكلأ» .
وأما الماء المباح في موضع مملوك: فمثل أن يحفر رجل ساقية إلى أرضه، ويرد فيها الماء من هذه الأنهار العظيمة، أو ينزل في أرضه ماء من المطر.. فهذا الماء مباح؛ لأنه ليس من نماء أرضه، وإنما هو على أصل الإباحة. ولا يملك المباح إلا بالتناول وهو: أن يأخذه في جرة أو جب، إلا أن صاحب الأرض أحق به لكونه في أرضه، ولا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه بغير إذنه، فإن خالف الغير ودخل إلى هذه الأرض، وأخذ شيئًا من هذا الماء.. ملكه، وكان متعديًا بدخول أرض غيره بغير إذنه.
قيل للشيخ أبي حامد: فإن سقى الرجل زرعه بماء مباح، أيملك الماء الذي في أرضه بين زرعه؟ قال: لا يملكه، كما لو دخل الماء إلى أرضه وفيه سمكة، فإنه لا يملك السمكة بدخولها إلى أرضه، وإنما يكون أحق بها من غيره.
وإن توحل في أرضه ظبي، أو عشش فيه طائر.. فإنه لا يملكه لكونه في أرضه، ولكن لا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه ويأخذ هذا الظبي والطير منها؛ لأنه لا يجوز له التخطي فيها بغير إذن مالكها، فإن خالف ودخلها، وأخذ الظبي والطير منها.. ملكه بالأخذ.
وحكى الطبري في " العدة " وجهًا آخر:
أنه يملك الظبي المتوحل في أرضه والطائر الذي عشش في أرضه، وليس بشيء. وإن نصب رجل شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه؛ لأن الشبكة كيده.
وأما الضرب الثالث ـ وهو الماء الذي ينبع في موضع مملوك ـ: فهو: أن ينبع في(7/505)
أرضه عين ماء، أو يحفر في أرضه بئرًا أو عينًا، أو يحفر في الموات بئرًا ليتملكها، وينبع فيها الماء.. فقد مضى ذكر هذا في أول الباب.
[فرع: السقي من الأنهار]
وأما السقي بالماء: فإن كان الماء مباحًا في موضع مباح: فإن كان نهرًا عظيمًا لا يحصل فيه تزاحم، كدجلة والفرات، وكالسيول العظيمة.. فلكل أحد أن يسقي منه متى شاء وكيف شاء؛ لأنه لا ضرر على أحد بذلك.
وإن كان يحصل فيه تزاحم، بأن كان هذا الماء المباح في الموضع المباح قليلًا لا يمكن سقي الأرض إلا بجميعه.. فإن ترتيب السقي فيه: أن الأعلى يسقي أرضه منها إلى أن يجول الماء في أرضه ـ إذا كانت مستوية ـ إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى من تحته، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأرضون؛ لما روى عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في شرب النخل من سيل: أن للأعلى أن يسقي حتى يبلغ الماء إلى الكعبين، ثم للأسفل كذلك حتى ينتهي الأرضون» .
وروى ابن الزبير: «أن الزبير ورجلًا من الأنصار اختصما في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: يا زبير اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغصب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: "يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر". قال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] » .(7/506)
قال أبو عبيد [في "غريب الحديث (4/2) ] : و (الشراج) : جمع شرج، والشرج: نهر صغير. و (الحرة) : أرض ملبسة بالحجارة. و (الجدر) : الجدار.
فقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر الزبير في المرة الأولى أن يسقي أرضه أقل من حقه مسامحة لجاره، فلما أغضبه الأنصاري.. أمره أن يسقي إلى الجدر، وعلم أن الماء إذا بلغ الجدر، بلغ إلى الكعب، وذلك قدر حقه.
وقيل: بل كان أمره في الأولى أن يسقي أرضه قدر حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى الكعب، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسقي أرضه أكثر من حقه عقوبة للأنصاري، إذ كانت العقوبات يومئذ في الأموال.
قال أصحابنا: والأول أشبه. وفرع أبو جعفر الترمذي على هذا: إذا كان لرجل أرض بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في العالية إلى الكعبين حتى يحول في المتسفلة إلى الركبتين.. فليس له أن يحبس الماء في المتسفلة إلى الركبتين، ولكن يسقي المتسفلة إلى الكعبين، ثم يسدها، ويسقي العالية إلى الكعبين.
وفرع الترمذي والإصطخري على هذا فرعًا آخر وهو: إذا أراد رجل أن يحيي مواتًا ويجعل شربه من هذا النهر: فإن لم يضق الماء على الذين قد حصلت لهم الأرض والشرب من النهر قبل هذا.. كان للثاني أن يسقي معهم؛ لأن الماء مباح، ولا ضرر عليهم في ذلك.
وإن كان الماء يضيق على أهل الأرض.. لم يكن للثاني ذلك.
قال أبو سعيد الإصطخري: لأن من أحيا مواتًا.. ملكه، وملك مرافقه وما يصلح(7/507)
به. ومن مرافق هذه الأرض كفايتها من الماء، فإذا كان في إحياء هذا نقصان الماء عليهم.. لم يكن له ذلك.
وعلل الترمذي تعليلًا آخر، فقال: من سبق إلى شيء مباح.. كان أحق به، وهؤلاء الذين تقدم إحياؤهم سبقوا إلى هذا الماء والشرب منه، فكانوا أحق به من غيرهم.
[فرع: السقي من ماء مملوك]
وأما السقي من الماء المملوك: فإن حفر رجل بئرًا في ملكه، أو نهرًا، ونبع فيه الماء.. فإنه يملك البئر والنهر، وفي ملكه للماء وجهان.
وسواء قلنا: يملكه، أو لا يملكه.. فليس لأحد أن يدخل ملكه بغير إذنه ليأخذ منه شيئًا، فيسقي هذا الرجل أرضه بهذا الماء كيف شاء.
وإن حفر بئرًا أو نهرًا في ملكه، ونزل فيها ماء مباح.. فإنه لا يملك هذا الماء، ولكنه أحق به؛ لكونه في أرضه، ويسقي به أرضه كيف شاء. فإن وقف رجل في موات بقرب هذه البئر ـ أو النهر ـ ورمى حبلًا عليه دول في هذه البئر.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينتفع بما هو ملك غيره، ولكنه إن خالف وأخذ منه الماء.. ملكه.
وإن حفر جماعة نهرًا من موات ـ أو بئرًا ـ فنبع فيها الماء.. ملكوا النهر والبئر. وهل يملكون الماء؟ على الوجهين.
فإن أرادوا أن يتساووا في الملك.. تساووا في النفقة.
وإن أرادوا التفاضل في الملك.. تفاضلوا في النفقة؛ لأنهم إنما ملكوا بالعمارة.. فاختلف ملكهم باختلاف نفقاتهم.
إذا ثبت هذا: وأرادوا السقي بهذا الماء، فإن اتفقوا على المهايأة، وأن يسقي كل واحد منهم يومًا.. جاز، غير أن المهايأة لا تلزمهم، فمتى أرادوا نقضها.. جاز.
وإن أرادوا قسمته من غير مهايأة:
قال أبو جعفر الترمذي: أمكن ذلك، بأن تؤخذ خشبة مستوية الطرفين والوسط،(7/508)
فتفتح فيها كواء على قدر حقوقهم، ثم توضع في مكان بين الأرضين والنهر، ويكون الموضع مستويًا، ثم يجمع الماء إلى ذلك الموضع، فيدخل في كل كوة قدر حق صاحبها، فإذا فعل ذلك.. فقد صار مقسومًا قسمة صحيحة، وليس لأحدهم أن يوسع كوته ولا يعمقها؛ لأنه يدخل فيها بذلك أكثر من حقه. فإن تغيرت.. أصلحها.
فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل موضع القسمة، ويحفر ساقية إلى أرضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحريم مشترك بينه وبين غيره، فلم يكن له خرقه.
وإن أراد أحدهم أن يدير قبل موضع القسمة رحى.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يضعها في موضع مشترك بينه وبين غيره بغير إذن شركائه.
وإن أراد أن ينصب رحى بعد موضع القسمة في ساقيته التي تجري إلى أرضه.. جاز؛ لأنه وضع الرحى في ملك له منفرد به.
فإن أحيا رجل منهم مواتًا ليسقيها من مائه من هذا النهر وساقيته، أو كان له أرض أخرى ليس لها رسم شرب من هذا النهر، فأراد أن يسقيها منه بمائه ومن ساقيته.. فذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأنه يجعل لهذه الأرض شربًا من هذا النهر، فلم يكن له ذلك، كرجل له دار في درب لا ينفذ، فاشترى دارًا في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى، فإنه لا يكون له ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد عندي، غير أن الدارين قد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من جوز ذلك، ويمكن من جوز ذلك في الدارين أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى الدرب، وإنما يستطرق إلى أخرى، ومن أخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل في الساقية إليها، فيصير لها رسم في الشرب.(7/509)
[فرع: كري النهر على المنتفعين]
قال ابن الصباغ: إذا كان النهر مشتركًا بين عشرة، فأرادوا أن يكروه، فإن على الجماعة أن يشتركوا في الكري في أوله، فإذا جاوزوا الأول.. كان على الباقين دونه، فإذا جاوزوا الثاني.. كان على الباقين دونه.. وعلى هذا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: يشتركون في جميعه؛ لأن الأول ينتفع بجميعه؛ لأنه ينتفع بأوله بسقي أرضه، وبالباقي بصب مائه، فكان الكري على الكل بقدر شربه وأرضه.
ودليلنا: أنه ينتفع بالماء الذي في موضع شربه، فأما ما بعده: فإنه يختص بالانتفاع به من دونه، فلا يشاركهم فيه.
والله أعلم(7/510)
[كتاب اللقطة](7/511)
كتاب اللقطة اللقطة ـ بسكون القاف ـ: هو المال الملقوط.
وأما اللقطة ـ بفتح القاف ـ: فاختلف أهل اللغة فيها:
فقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هو اسم المال الملقوط.
وقال الخليل: هو اسم الرجل الملتقط؛ لأن ما جاء على وزن فعلة.. فهو اسم الفاعل، كقولهم: همزة ولمزة وضحكة.
إذا ثبت هذا: فإذا وجد الحر الرشيد لقطة.. لم تخل: إما أن يجدها في موضع مملوك، أو في موضع مباح:
فإن وجدها في موضع مملوك.. فهي لمالك ذلك الموضع؛ لأن يده ثابتة على الموضع وعلى ما فيه، إلا إن قال مالك الموضع: ليست بملك لي.
وإن وجدها في موضع مباح.. فلا يخلو: إما أن يكون حيوانًا، أو غير حيوان، فإن(7/513)
كان غير حيوان.. نظرت:
فإن كانت يسيرة بحيث يعلم أن صاحبها لو علم أنها ضاعت منه لم يطلبها، كزبيبة أو تمرة وما أشبههما.. لم يجب تعريفها، وله أن ينتفع بها في الحال؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة مطروحة في الطريق فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها»
وروى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» .
وروي: (أن عمر بن الخطاب رأى رجلًا يعرف زبيبة، فقال: إن من الورع ما يمقته الله) .
وإن كانت اللقطة كثيرة بحيث يطلبها من ضاعت منه، كالذهب والفضة والثياب والجواهر وغيرها، فإن وجدها في غير الحرم.. جاز التقاطها للتملك؛ لما روى زيد بن خالد الجهني، قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» . وروي: «فاستنفع بها» .
وسئل عن ضالة الغنم، فقال: «خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .(7/514)
وسئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه، فقال: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجيء صاحبها فيأخذها»
«وروى أبو ثعلبة، قال: قلت يا رسول الله: أفتني في اللقطة فقال: ما وجدته في طريق ميتاء،، أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن وجدت صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما وجدته في طريق غير ميتاء، أو قرية غير عامرة.. ففيها وفي الركاز الخمس» .
قال أبو عبيد ["في غريب الحديث" (2/204) ] : و (الميتاء) : الطريق العامر المسلوك، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي ابنه إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فبكى عليه وقال:(7/515)
«لولا أنه وعد حق، وقول صدق، وطريق ميتاء.. لحزنا عليك يا إبراهيم أشد من حزننا»
قال: وبعضهم يقول: مأتي عليه الناس. وكلاهما جائز.
ويجوز أن يلتقطها للحفظ على صحابها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
وإن وجدها في الحرم.. لم يجز له التقاطها للتملك. ومن الناس من قال: يجوز له التقاطها للتملك. وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه ابن الصباغ عن مالك وأبي حنيفة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: «لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» .
و (المنشد) : المعرف، يقال: أنشدت الضالة إنشادا، فأنا منشد: إذا عرفتها. فأما الطالب لها: فيقال له: الناشد.
يقال من الطلب: نشدت الضالة، أنشدها نشدانا: إذا طلبتها، فأنا ناشد.
ومنه ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد» .(7/516)
وإذا كان المنشد هو المعرف.. كان معناه أنها لا تحل إلا للمعرف لها إذا لم يجد صاحبها.
والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] [العنكبوت:67] وما وصفه الله تعالى بالأمن لا يجوز أن يضيع فيه مال الغير.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل لقطة الحاج» .
وعموم الخبر يقتضي: لا تحل لقطة الحاج بمكة، ولا بغيرها، فأجمع المسلمون على أنها تحل بغير مكة، وبقي الحرم على ظاهر الخبر.
وأما الخبر الأول: فأراد به أنه لا يحل للمنشد منها إلا إنشادها، فأما للانتفاع بها.. فلا تحل له، إذا لو حل له تملكها لما كان لمكة مزية على غيرها من البلاد. والخبر ورد في بيان فضيلة مكة على غيرها.
وقيل: أراد بقوله: (إلا لمنشد) أي: لا تحل إلا لصاحبها الذي يطلبها، وسماه منشدا. وهذا حسن في الفقه، ولكن لا يجوز في اللغة أن يسمى الطالب منشدا، وإنما هو ناشد.
ولأن مكة بلد صغير، وينتابها الناس من الآفاق، فإذا عرفنا اللقطة فيها.. استشاع التعريف فيها، فإن كانت لأحد من أهلها.. تعرفها في الحال وأخذها.
وإن كانت لمن ينتابها من الناس من غيرها وقد راح إلى أهله.. فلا يخلو أن يخرج من بلده غيره، من صديق له أو قريب، فيمكنه أن يتعرفها له، فكان الحظ في تركها وحفظها إلى أن يجيء صاحبها؛ لأن الظاهر أنها تصل إليه وليس كذلك سائر البلاد؛ لأن البلد قد يكون كبيرا لا يستشيع التعريف فيه إن كانت لأهلها، وربما كانت لغريب(7/517)
دخل ذلك البلد، وربما لا يعود إليه، فالظاهر أنها لا تعود إلى مالكها، فلذلك جاز تملكها.
إذا ثبت هذا: فإن الملتقط يلزمه المقام لتعريفها، فإن لم يمكنه المقام.. دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.
[فرع: رؤية اللقطة في طريق مسلوك]
] وإن وجد شيئا من ضرب الجاهلية في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة. وإن وجده في موات، أو في قرية خربة كانت عامرة للجاهلية.. فهو ركاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان منها في طريق ميتاء.. فعرفها حولا كاملا، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما كان منها في خراب.. ففيها وفي الركاز الخمس» و (الركاز) : المال المدفون.
هكذا: إذا احتملت الأمرين، بأن تكون آنية، أو دراهم لا نقش عليها.. قال الشيخ أبو حامد: فهو ركاز أيضا.
[فرع: اللقطة ذات الشأن]
وإن كانت اللقطة يسيرة، إلا أنها تتبعها النفس، ويطلبها صاحبها إذا علم أنها ضاعت منه.. فهل يجب تعريفها سنة أو ثلاثة أيام؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب تعريفها سنة، بل يكفي ثلاثة أيام؛ لأن ذلك يشق.
والثاني: وهو المذهب: - أنه يجب تعريف الكثير واليسير سنة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عرفها سنة» ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: وقلنا لا يجب تعريف اليسير سنة.. ففي قدره ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الدينار فما دونه: يسير، وما زاد عليه كثير؛ لما روي: «أن عليا(7/518)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بأكله» .
والثاني: أن اليسير درهم فما دونه، وما زاد عليه كثير.
والثالث: أن ما دون ربع دينار يسير، وربع دينار فما زاد عليه كثير؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كانت يد السارق تقطع في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» . ومعلوم أنها كانت تقطع بربع دينار.(7/519)
[مسألة: استحباب اللقطة للأمين]
إذا وجد اللقطة وكان أمينا.. قال الشافعي في " المختصر " [3/125] : (لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها) .
وقال في موضع آخر: (لا يحل له ترك اللقطة إذا كان أمينا عليها) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم قال فيه قولان:
أحدهما: يستحب له أخذها، ولا يجب عليه، لأن ذلك أمانة، فلم يجب عليه أخذها، كقبول الوديعة.
والثاني: يجب عليه أخذها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] ، ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة:71] . وإذا كان وليا عليه.. وجب عليه حفظ ماله.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . ولو خاف على دمه.. لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق وغيرهما: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال (يستحب له أخذها، ولا يجب عليه) أراد به: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة، يعلم أمانة أهلها؛ لأن ترك أخذها لا يكون تغريرا بها؛ لأن غيره يقوم مقامه في حفظها، فجرى مجرى الصلاة على الجنازة، ودفن الميت إذا كان هناك من يقوم بها غيره.
والموضع الذي قال (يجب عليه أخذها) أراد: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة يعلم أن أهلها غير ثقات، أو وجدها في مسلك يسلكه أخلاط الناس؛ لأن في تركها تغريرا بها.(7/520)
فإن تركها الأمين ولم يأخذها فتلفت.. لم يجب عليه ضمانها، سواء قلنا: يجب عليه أخذها، أو يستحب له أخذها؛ لأن الضمان إنما يكون باليد أو الإتلاف، ولم يوجد منه أحدهما، وإنما يفيد الوجوب الإثم لا غير.
فأما إذا كان الواجد لها غير أمين: فلا يستحب له أخذها؛ لأن المقصود بأخذها حفظها على صاحبها، والتغرير يحصل بأخذه لها، فإذا تركها.. فربما وجدها من يحفظها على صاحبها.
إذا ثبت هذا: فقد حكي عن مالك وأحمد: (أنهما كرها الالتقاط للأمين أيضا) .
وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» .
ودليلنا: حديث زيد بن خالد الجهني، ولأنه أخذ أمانة فلم تكره، كالوديعة. وأما الخبر: فمحمول على كبار الحيوان إذا وجده في البرية.
[فرع: تضمن اللقطة بالحفظ مدة التعريف]
] : إذا أخذ لقطة بنية التعريف.. لم يلزمه ضمانها بالأخذ، ولكن يلزمه حفظها مدة التعريف، فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يبرأ بذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، بخلاف الوديعة، فإنه خالفنا فيها.(7/521)
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال في اللقطة أيضا: (إنه يبرأ بذلك) كما قال في الوديعة.
ودليلنا: أنه لما أخذها.. فقد التزم حفظها فإذا تركها في الموضع الذي وجدها فيه.. فقد ضيعها، فلزمه ضمانها، كما لو رماها إلى موضع آخر.
وإن أخذ اللقطة من موضعها بنية تملكها في الحال.. ضمنها بالأخذ، ولا يبرأ بالتعريف. وإن عرفها بعد ذلك. فهل يملكها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] :
أحدهما: لا يملكها، لأنها دخلت في ضمانه، فهو كما لو أخذها غصبا.
والثاني: يملكها، وهو الأصح؛ لظاهر الأخبار، ولم يفرق، ولأن سبب التملك هو التعريف، وقد وجد.
[مسألة: وجد اللقطة رجلان]
وإذا وجد رجلان لقطة، فأخذاها معا.. كانت بينهما بعد التعريف، كما إذا أثبتا صيدا، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها.. كانت لمن أخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ دون الرؤية، كما قلنا في الاصطياد.
فإن رآها أحدهما، فقال لصاحبه: أعطنيها، فأخذها الآخر؛ فإن أخذها لنفسه.. كان أحق بها؛ لأن استحقاقها بالأخذ دون الرؤية، وإن أخذها لصاحبه الذي أمره بأخذها، فهل تكون للآمر؟ فيه وجهان، بناء على القولين في التوكيل في الاصطياد والاحتشاش.
وإن أخذ رجل اللقطة فضاعت منه، ووجدها آخر.. فإن الثاني يعرفها، فإن جاء مالكها، وأقام البينة عليها.. وجب عليه ردها إليه؛ لأنه هو المالك لها. وإن لم يجد مالكها ولكن جاء الملتقط الأول، وأقام البينة على التقاطه لها.. وجب على الثاني ردها إليه؛ لأن الأول قد ثبت له عليها حق بالالتقاط، فوجب ردها إليه كما لو تحجر مواتا.(7/522)
[مسألة: ما تعرف به اللقطة]
قال الشافعي: (ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتبها ويشهد عليها) .
وجملة ذلك: أنه إذا وجد لقطة.. فيحتاج أن يعرف منها أشياء:
أحدها: (العفاص) : وهو الوعاء الذي يكون فيه اللقطة: كالكيس الذي يكون فيه الدنانير أو الدراهم، واللفافة التي تكون فوق الثوب، والصندوق الذي يكون فيه المتاع، يقال أعفصت الإناء: إذا أصلحت له العفاص، وعفصته: إذا شددته عليه. وأما (الصمام) : فهو ما يسد به رأس المحبرة والقارورة.
والعفاص والوعاء شيء واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث زيد بن خالد: «اعرف عفاصها» . وفي حديث أبي بن كعب قال: «اعرف وعاءها» فدل أن المعنى واحد.
الثاني: أن يعرف (وكاءها) : وهو الخيط الذي يشد به المال في الوعاء. ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان وكاء السه» .
الثالث: أن يعرف (جنسها) ، بأن يعرف أنها دنانير أو دراهم أو ثياب أو طعام.
الرابع: أن يعرف (قدرها) ، بأن يعرف عددها إن كانت معدودة، أو وزنها إن كانت موزونة، وكيلها إن كانت مكيلة، وذرعها إن كانت مذروعة.
الخامس: أن يعرف (حليتها) : وهو صفتها، فإن كانت من النقود.. عرف من أي السكك هي. وإن كانت ثيابا.. عرف أنها قطن أو كتان أو حرير، وأنها دقيقة أو غليظة. وإن كانت حيوانا.. عرف نوعه وحليته.(7/523)
وإنما قلنا ذلك؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها» وفي حديث أبي بن كعب «اعرف عددها، ووعاءها، ووكاءها» فنص على هذه الأشياء، وقسنا غيرها عليها؛ لأنها في معناها.
واختلف أصحابنا لأي معنى أمر بتعرف هذه الأشياء؟
فقال أبو إسحاق: يحتمل ثلاثة معان:
أحدها: أن المقصود ما في الوعاء، فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معرفة الوعاء والوكاء وحفظهما؛ لينبه على معرفة ما في الوعاء وحفظه.
والثاني: أن الوعاء والوكاء لا خطر له، والعادة أن الإنسان إذا وجد شيئا ربما يرمي بالوعاء والوكاء، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظهما؛ لئلا يرمى بهما.
والثالث: أن الملتقط ربما خلط اللقطة ورفعها في جملة أمواله، فأمر بمعرفة الوعاء والوكاء؛ لكي تتميز عن أمواله ولا تختلط بها.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأن صاحبها ربما جاء ووصفها بذلك، فإن غلب على ظنه صدقه.. جاز له الدفع إليه بذلك.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأنه إذا عرف ذلك أمكنه الإشهاد عليها، والتعريف لها لتكون معلومة بما ذكرناه.
قال الشافعي: (ويكتبها ويشهد عليها) .
قال أصحابنا: يكتبها؛ لئلا ينسى ما عرفه، وذلك مستحب غير واجب.
وأما الإشهاد عليها: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يستحب ولا يجب، فإن تركه.. لم يجب عليه ضمانها. وبه قال مالك؛ لحديث زيد بن خالد، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإشهاد عليها، ولأنه آخذ أمانة، فلا يجب الإشهاد عليها، كالوديعة.
والثاني: يجب الإشهاد عليها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن لم يشهد عليها.. ضمنها) ؛ لما روى عياض بن حمار: أن(7/524)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة.. فليشهد ذا عدل- أو ذوي عدل - ولا يكتم ولا يغيب. فإن وجد صاحبها.. فليردها عليه، وإلا.. فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء» ولأنه إذا لم يشهد عليها.. كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ولأن القصد من أخذ اللقطة حفظها على صاحبها، والحفظ إنما يتم بالإشهاد؛ لأنه ربما غاب أو مات، ويأخذها ورثته.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 362] : إذا قلنا: يجب الإشهاد.. فإنه يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم الشهود بالعفاص والوكاء وغير ذلك.
[مسألة: نية حفظ اللقطة]
إذا أخذ اللقطة بنية أن يحفظها على صاحبها أبدا.. فهل يلزمه تعريفها؟ فيه وجهان، حاكهما الطبري:
أحدهما: لا يلزمه، وهو المشهور؛ لأن التعريف يراد للتملك وإباحة أكلها، ولا نية له في ذلك.
والثاني: يلزمه التعريف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها سنة» ، ولأن صاحبها لا يعلم بها إلا بالتعريف. وإن أراد أن يتملكها.. عرفها.
والكلام في التعريف في سبعة مواضع: في وجوبه، وقدر مدته، ووقته، وقدر التعريف، ومكانه، وكيفيته، ومن يتولاه.
فأما الوجوب: فالدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم عرفها سنة» . وهذا أمر، والأمر(7/525)
يقتضي الوجوب، ولأن سبب التملك هو التعريف، فمتى أراد التملك.. لزمه الإتيان بالسبب.
وأما قدر مدته: فسنة؛ للخبر، ولأن من ضاع منه شيء.. ربما لم يتمكن من طلبه في الحال لشغل، أو لأنه لم يعلم إلا بعد زمن، أو لبعده عن الموضع الذي ضاع فيه، فلم يكن بد من مدة، فقدرت بسنة؛ لأنه يمر فيها الفصول الأربعة. ولأن الغالب ممن ضاع منه شيء أنه يتمكن من طلبه في سنة، فإذا لم يوجد له مالك.. فالظاهر أنه لا مالك له.
فإن قيل: فقد روي «عن أبي بن كعب: أنه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا"، ثم أتيته فقال: "عرفها حولًا" فأمره بتعريفها ثلاثة أحوال؟» .
قلنا: عن ذلك أجوبة:
أحدها: أن ابن المنذر قال: قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث، فيستدل بالإجماع على نسخه.
وأيضًا فإن له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه عرفها حولًا، وقصر في تعريفها، فأمره أن يعيد التعريف فعرفها حولًا آخر وقصر في التعريف، فأمره أن يأتي بالتعريف الكامل حولًا.
والتأويل الثاني: أنه ذكر ذلك لفظًا، فقال: «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، لا أنه كرر الأحوال.
والثالث: أنه أمره بتعريفها حولًا، فأتاه في بعض الحول، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول، ثم أتاه قبل إتمامه أيضًا، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول.
إذا ثبت هذا: فابتداء السنة من حين التعريف لا من حين الالتقاط. فإن عرفها سنة متوالية.. فلا كلام، وإن عرفها شهرًا، ثم قطع التعريف مدة، ثم عرفها، ثم قطع(7/526)
التعريف، ثم عرفها إلى أن استوفى مدة التعريف متفرقة، ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه يقع عليها اسم سنة التعريف، فهو كما لو نذر صوم سنة وصامها سنة متفرقة.. أجزأه.
والثاني: لا تجزئه حتى يأتي بها متوالية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها حولًا» وظاهره التوالي، ولأن المقصود بالتعريف وصول الخبر إلى المالك، وذلك لا يحصل إلا بالتوالي، كما لو حلف أن لا يكلم زيدًا سنة.
وأما وقت التعريف: فهو بالنهار دون الليل، ودون أوقات الخلوة؛ لأن العادة جرت بتعريف اللقطة وطلبها بالنهار دون الليل، ويستحب أن يكثر منه في أدبار الصلوات؛ لأن الناس يجتمعون لها، فيتصل الخبر بمالكها.
وأما قدر التعريف: فليس عليه أن يعرف من أول النهار إلى آخره؛ لأن في ذلك مشقة عليه، وينقطع عن دينه ودنياه.
قال الصيمري: بل يعرفها في اليوم مرة أو مرتين؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويكون أكثر تعريفها في الجمعة التي أصابها فيها) .
وقال في موضع آخر: (يكون أكثر تعريفه في البقعة التي أصابها فيها) .
ونقل الربيع: (ويكون أكثر تعريفه في الجماعات التي أصابها فيها) .
فقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] : إذا وجدها في الجامع.. عرفها كل جمعة؛ لأن الغالب أن مالكها يعود كل جمعة.
وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: الصحيح ما نقله الربيع من هذا، حيث قال: (في الجماعات) وهو موافق لقوله: (في البقعة التي أصابها فيها) وأنه يعرفها في الجماعات والبقعة التي وجدها فيها؛ لأن ذلك أبلغ في تعريفها.
وأما رواية المزني في الجمعة التي أصابها فيها: فإنه يقتضي أنه يكثر تعريفها في(7/527)
الأسبوع الذي وجدها فيه. فإذا لم يجد صاحبها.. قل تعريفه، وليس بشيء.
وأما مكان التعريف: فإنه يعرفها على أبواب الجوامع، وأبواب مساجد الجماعات، وفي الأسواق، وإذا اجتمع الناس في المجالس في المحال؛ لأن القصد بالتعريف إعلام صاحبها بها، والتعريف في هذه المواضع أبلغ. ولا يعرفها داخل المسجد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيها الناشد غيرك الواجد، إنما بني المسجد لذكر الله والصلاة»
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد.. فليقل: لا ردها الله عليك". [و] "إنما بنيت المساجد للصلاة» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء، وإنشاد الضوال في المساجد» .
قال الصيمري: وقد كره قوم إنشاد الشعر في المساجد، وليس ذلك عندنا بمكروه.
وقد كان حسان بن ثابت ينشد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشعر في المسجد، وقد أنشده(7/528)
كعب بن زهير قصيدتين في المسجد. ولكن لا يكثر منه في المسجد.
وأما كيفية التعريف: فهو أن يقول: وجدت شيئًا أو لقطة، أو يقول: من ضاع له شيء، أو من ضاع له ذهب أو دراهم، ولا يزيد عليه. فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، فهل يكون ضامنًا بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصير ضامنًا بذلك؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بمجرد الصفة.
والثاني: يكون ضامنًا؛ لأنه ربما حفظ ذلك رجل وحاكمه إلى حنبلي يوجب الدفع بالصفة.
وأما من يتولى التعريف: فإن الواجد يتولى التعريف بنفسه، وإن تطوع رجل بتعريفها.. جاز. وإن لم يجد من يتطوع عنه بالتعريف.. فعليه أن يستأجر من ماله من يعرفها؛ لأن هذا سبب للتملك، والتملك له، فكانت الأجرة عليه.(7/529)
وإن دفعها الملتقط إلى القاضي ليعرفها القاضي عنه أو دفعها إلى أمين بأمر القاضي.. جاز. وإن دفعها إلى أمين ليعرفها عنه بغير أمر القاضي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] :
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنها أمانة في يده.. فلم يكن له إخراجها من يده بغير إذن المالك والقاضي من غير ضرورة، كالوديعة.
والثاني: له ذلك؛ لأن صاحب الشرع قد جعله وليا على هذه اللقطة، فصار كتصرف الأب في مال الابن.
[مسألة: تملك اللقطة بعد سنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي له بعد سنة) .
وقال في موضع آخر: (فإذا عرفها سنة فإن شاء ملكها على أن يغرمها لصاحبها إذا جاء، وإن شاء حفظها عليه) .
وجملة ذلك: أنه إذا وجد اللقطة وعرفها سنة.. فهل تدخل في ملكه من غير أن يختار تملكها، اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تدخل في ملكه بمضي سنة التعريف وإن لم يختر تملكها، واحتج بظاهر كلام الشافعي: (وإلا فهي له بعد سنة) ، وبما روي في حديث أبي ثعلبة الخشني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ما وجدته في طريق ميتاء أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك» ، ولأن سبب التملك هو التعريف فإذا وجد السبب.. حصل الملك، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات.
وقال أكثر أصحابنا: لا يملكها بمضي السنة، وهو الأصح؛ لأن الشافعي قال: (فإذا عرفها سنة: فإن شاء ملكها) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد بن خالد الجهني: «ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» فأغراه بتملكها بعد التعريف، فدل على أنه لم يملكها بمضي مدة التعريف، ولأنه تملك بعوض، فافتقر إلى اختيار التملك - وفيه احتراز من الصيد والاحتشاش. فإذا قلنا بهذا:(7/530)
فبماذا يحصل له الملك؟ فيه ثلاثة أقوال، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أنه لا يملكها إلا بثلاثة أشياء: وهو أن ينوي بقلبه تملكها، ويتلفظ بذلك وهو أن يقول: تملكتها - ويتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في أحد الوجهين: أنه لا يملك ما استقرض إلا بالعقد والتلفظ والقبض والتصرف.
والقول الثاني: أن الملتقط يملك اللقطة بالنية والقول، وإن لم يتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في الوجه الثاني: أنه يملك بالعقد والقبض وإن لم يتصرف.
و [القول] الثالث: أن الملتقط يملك اللقطة بمجرد نية التملك، وإن لم يتلفظ بها، ولم يتصرف؛ لأن القول إنما يفتقر إليه إذا كان هناك موجب، فيقبل منه. ولا يوقف الملك على التصرف؛ لأنه لو لم يملك قبل التصرف.. لما صح تصرفه.
وحكى ابن الصباغ وجها رابعا - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يملك اللقطة بمجرد القول وهو: أن يختار تملكها بالقول وإن لم ينو بقلبه ولم يتصرف؛ لأن الملك في الأموال يحصل بالاختيار بالقول من غير نية ولا تصرف، كما قلنا في الشفعة والغنيمة، فحصل فيها خمسة أوجه.
[فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول]
وإذا عرف الملتقط للقطة لسنة.. فقد ذكرنا أن له أن يحفظها على صاحبها، وله أن يختار تملكها سواء كان الواجد غنيا أو فقيرًا، وسواء كان من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من غيرهم.
وقال أبو حنيفة) إذا وجدها الفقير وعرفها حولا.. فهو بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتملكها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. ويكون ذلك موقوفا على إجازة صاحبها، فإن رضي به.. وقعت الصدقة عنه، وإن رده.. كانت الصدقة عن الواجد، ووجب عليه ضمانها. وإن وجدها الغني فعرفها حولا.. كان(7/531)
بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. فإن أجازها صاحبها.. وقعت عنه، وإن ردها.. وقعت عن الواجد، وكان عليه ضمانها، ولا يجوز للغني تملكها) .
وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة (إذا كان الواجد من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فليس له أن يتملك اللقطة وإن كان فقيرًا)
وقال مالك: (إن كان الواجد فقيرًا.. فله أن يتملك اللقطة بعد التعريف، وإن كان غنيا.. فليس له أن يتملكها بعد التعريف، بل يحفظها على صاحبها)
دليلنا: ما وري في حديث زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها» أي: افعل بها ما تشاء. وروي: «وإلا.. فاستنفع بها» ولم يفرق بين الغني والفقير.
«وروى أبي بن كعب قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولا" ثم أتيته" فقال: "عرفها حولا" - مرتين أو ثلاثا - إلى أن قال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فاستمتع بها»
قال الشافعي: (وأبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم)
ولأن من صح أن يملك بالقرض.. صح أن يملك اللقطة، كالفقير، وعكسه العبد.
[مسألة: اللقطة أمانة كالوديعة]
وإذا التقط الرجل لقطة بنية التملك بعد التعريف، أو بنية الحفظ على صاحبها.. فإن اللقطة أمانة في يده مدة التعريف؛ لأن الحظ في التعريف لصاحبها، فهي كالوديعة. فإن تلفت في يده، أو نقصت من غير تفريط.. فلا ضمان عليه، كما قلنا في الوديعة. فإن جاء صاحبها قبل انقضاء مدة التعريف.. أخذها وزيادتها المتصلة بها والمنفصلة عنها؛ لأنها باقية على ملكه.
وإن نوى الملتقط تملكها قبل انقضاء مدة التعريف.. لم يملكها بذلك؛ لأن(7/532)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له تملكها بتعريفها سنة، فلا يملكها قبل ذلك، وهل يضمنها بهذه النية؟ ينظر فيه:
فإن نقلها بعد هذه النية من موضع إلى موضع.. ضمنها، ولم يزل عنه الضمان بترك نية الخيانة، ولا يملكها بعد السنة بالتعريف؛ لأنه قد صار غاصبًا.
وإن لم ينقلها بعد هذه النية.. ففيه وجهان حكاهما الطبري:
أحدهما: يصير ضامنا لها؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه.
فعلى هذا: لا يملكها بالتعريف، ولا يزول عنه الضمان بنية ترك الخيانة، وإنما يبرأ بالتسليم إلى مالكها.
والثاني: لا يصير ضامنا لها، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] غيره؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد النية، وذلك لا يوجب الضمان. فإن ترك هذه النية وعرفها.. تملكها بعد استيفاء التعريف.
[فرع: ثبوت بدل اللقطة بعد تملكها]
وإذا أخذ اللقطة فعرفها حولا، فإن قلنا: لا يملكها إلا باختيار التملك.. فهي أمانة في يده، كما كانت قبل انقضاء مدة التعريف.
وإن قلنا: إنه يملكها بمضي مدة التعريف، أو قلنا: لا يملكها إلا باختيار تملكها، فاختار تملكها.. ملكها ببدلها في ذمته. فإن كان لها مثل.. ثبت مثلها في ذمته، وإن لم يكن لها مثل.. ثبتت قيمتها في ذمته.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا تملك اللقطة بعد الحول.. لا يثبت بدلها في ذمته، وإنما يضمنها إذا جاء صاحبها وطالب بها.
وقال داود: (يملكها، ولا يثبت بدلها في ذمته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء(7/533)
صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عياض بن حمار: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها، وإلا.. فهي مال الله، يؤتيه من يشاء» ولم يذكر وجوب البدل عليه) .
وهذا ليس بصحيح؛ لما روى الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يعرفه، فعرفه، فلم يعترف به، فأمره بأكله، فلما جاء صاحبه.. أمره أن يغرمه» . وفي رواية غير الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه دخل على فاطمة، فرأى الحسن والحسين - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت أصابهما الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجد دينارا بالسوق، فحمله إليها، فقالت: احمله إلى الدقاق، فاشتر به دقيقا، فحمله إليه، فقال: أنت ختن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ـ وكان الدقاق يهوديا ـ فقال علي: نعم، فقال: خذ الدينار والدقيق، فأخذه، فأتى به فاطمة، فقالت: احمله إلى فلان الجزار وخذ عليه لحمًا بدرهم، فمر عليه، وأخذ اللحم وحمله إليها، فعجنت وخبزت، وأرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أتاها، ذكرت له الأمر، وقالت له: إن كان حلالًا أكلت وأكلنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "باسم الله" فبينا هو في ذلك إذ سمع رجلا ينشد الله والمسلمين.. فاستدعاه وسأله، فقال: ضاع مني دينار، فقال لعلي: مر على الجزار واسترجع منه الدينار وقل: علي الدرهم، ورده إليه»
ولأنه مال من له حرمه، فوجب أن لا يملكه بغير عوض بغير اختيار صاحبه، كالمضطر إلى الطعام.
فإن جاء صاحبها والعين باقية في ملك الملتقط.. أخذها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها» .
وإن وجدها زائدة.. نظرت.. فإن كانت زيادة متصلة، كالسمن والكبر.. أخذها مع(7/534)
زيادتها؛ لأنه يتبعها.. وإن كانت زيادة منفصلة، كاللبن والولد المنفصلين.. كانت الزيادة للملتقط؛ لأنها زيادة حدثت في ملكه.
وإن وجدها صاحبها ناقصة.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يأخذها وأرش ما نقصت؛ لأن جميعها مضمون على الملتقط إذا تلفت، فكذلك إذا تلف بعضها.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالعين ويأخذ أرش النقص معها، وبين أن يطالب ببدلها؛ لأن بدلها ثابت في ذمة الملتقط، فكان لصاحبها المطالبة به.
والثالث: حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " - "أنه يأخذها ولا أرش له؛ لأن النقص كان في ملكه. والمذهب الأول.
وإن جاء صاحبها وقد تلفت العين في يد الملتقط، أو أتلفها.. رجع بمثلها إن كان لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل.
وقال داود: (لا يرجع عليه ببدلها) ، ووافقه الكرابيسي من أصحابنا. وهذا ليس بصحيح؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمتها؟ وفيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم يطالب بها صاحبها؛ لأنه وقت وجوبها؛ لأنه لو وجبت عليه قيمتها حين التملك.. لوجب إذا مات قبل أن يجيء صاحبها أن لا يكون لورثته أن يقتسموا جميع التركة، بل يعزل منها قدر قيمتها، كمن مات وعليه دين.
و [الثاني] : - وهو المذهب - أن قيمتها تعتبر يوم تملكها؛ لأن للقطة تجري مجرى القرض، ومن اقترض شيئا.. وجبت عليه قيمته، فإن قيمته تعتبر وقت تملكه، لا حين يطالب به.
قال الشيخ أبو حامد: وأما قسمة التركة التي ذكرها أبو إسحاق: فلا نسلمه، وإن سلمناه.. فإنما كان كذلك؛ لأنه لا يعرف المستحق، والظاهر أنه لا يعرف، فلم توقف التركة.(7/535)
[فرع: بيع الملتقط اللقطة]
فإن تملك الملتقط اللقطة وباعها، وحضر المالك في حال الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يفسخ المالك البيع ويأخذه؛ لأنه يستحق العين، والعين باقية.
والثاني: لا يملك الفسخ؛ لأن الفسخ حق للمتعاقدين، فلم يملكه غيرهما من غير إذنهما.
[مسألة: لا تدفع اللقطة بالتخمين]
وإذا التقط الرجل لقطة فعرفها، فجاء رجل وادعى أنها له:
فإن وصفها المدعي بصفاتها، وشهدت له البينة أن تلك اللقطة بهذه الصفة له..
وجب دفعها إليه؛ لأنه قد عرف أنه مالكها بالبينة.
وإن لم يصفها، ولم يقم عليها بينة.. لم يجز دفعها إليه.
وإن وصفها بصفاتها، ولم يقم عليها بينة، فإن لم يغلب على ظن الملتقط أنها له.. لم يجب دفعها إليه، ولم يجز؛ لأنه لا يدفع إليه أمانة عنده بالتخمين.
فإن طلب المدعي يمين الملتقط.. نظرت: فإن أقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط يمينًا: ما يعلم أنها ملك الطالب، وإن لم يدع الطالب أن الملتقط يعلم أنها ملكه.. لم يجب عليه أن يحلف. وإن لم يقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط، وقال: هي ملكي.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] : فإن الملتقط يحلف على البت والقطع. فأما إذا غلب على ظن الملتقط بوصف الطالب أنها ملكه.. فإنه يجوز له دفعها إليه، ولكن(7/536)
لا يجب عليه دفعها إليه. وبه قال أبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال أحمد وبعض أصحاب الحديث: (يجب عليه دفعها إليه بذلك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء ربها.. فهو أحق بها، وإلا.. فشأنك بها» .
و (ربها) : مالكها، ونحن لا نعلم مالكها بوصفه لها، ولأنه وصف لما ادعاه فلم يستحقه بالصفة، كالمغصوب والمسروق. وكما لو كان عند رجل وديعة، وأشكل عليه المودع لها، فجاء رجل ووصفها بصفاتها، فإنه لا يجبر على دفعها إليه بذلك فكذلك هذا مثله.
إذا ثبت هذا: فإن اختار الملتقط دفع اللقطة إلى من وصفها بصفاتها، ثم جاء طالب آخر وادعى أنها له، وأقام بينة أن تلك اللقطة ملكه، أو أنه ابتاعها من مالكها، ولا يعلم أنها انتقلت منه - قال الشيخ أبو حامد: أو شهدت له أنه ورثها ولا يعلم أنها انتقلت من ملكه - حكم لصاحب البينة بملك اللقطة؛ لأن البينة أولى من الصفة.
فإن كانت اللقطة باقية.. أخذها الثاني ولا كلام، وإن كانت قد تلفت في يد الأول الذي أخذها بالصفة.. فللثاني الذي أقام البينة أن يطالب ببدلها الملتقط؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، وله أن يطالب الذي تلفت في يده؛ لأن التلف حصل بيده. فإن ضمن الذي تلفت بيده.. لم يرجع بما ضمنه على الملتقط؛ لأنه يقول: ظلمني صاحب البينة، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن رجع صاحب البينة على الملتقط.. فهل للملتقط أن يرجع بما ضمنه على الذي تلفت في يده؟ ينظر فيه:
فإن كان قد سمع من الملتقط إقرار أن الملك للواصف، بأن يقول: هي ملكك، أو صدقت هي ملكك، وما أشبه ذلك.. لم يرجع الملتقط على الذي تلفت بيده بشيء؛ لأنه يعترف أن صاحب البينة ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وإن لم يتقدم منه إقرار بالملك للواصف، بأن قال حين الدفع: يغلب على ظني صدقه، إذا دفع إليه بالصفة.. كان له الرجوع على الواصف؛ لأن التلف حصل بيده، ولم يقر له بالملك.
هذا إذا دفعها الملتقط إلى الواصف برأيه. فأما إذا دفعها إليه برأي حاكم يرى(7/537)
وجوب الدفع بالصفة، وألزمه ذلك.. فليس للذي أقام البينة أن يرجع على الملتقط بشيء؛ لأن الملتقط غير مفرط في الدفع.
فأما إذا تلفت اللقطة في يد الملتقط بعد أن تملكها، فجاء رجل فادعاها ووصفها، فغلب على ظن الملتقط صدقه، فدفع إليه قيمتها، ثم جاء آخر وادعاها، وأقام عليها بينة.. فلصاحب البينة أن يطالب الملتقط بقيمة اللقطة، وليس له أن يطالب الواصف؛ لأن القيمة التي قبضها ليست عليه اللقطة.
[مسألة: لقطة الحيوان]
] : وإن كانت اللقطة حيوانًا.. فلا يخلو: إما أن يجدها في صحراء، أو في قرية: فإن وجدها في صحراء.. نظرت: فإن كان حيوانًا يمتنع بقوته من صغار السباع، كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو يبعد أثره في الأرض لخفته، كالظباء والغزلان والأرانب، أو بطيرانه، كالحمام.. فلا يجوز التقاطها للتملك.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (يجوز التقاطها للتملك) .
ودليلنا: ما روي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنا نصيب هوامي الإبل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضالة المسلم حرق النار فلا تقربنها» .
وفي حديث آخر: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» و (الضالة) : اسم للحيوان خاصة.(7/538)
وفي حديث زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه، وقال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» .
وسئل عن ضالة الغنم فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .
فقوله: «معها حذاؤها» يعني: أخفافها، أي: أنها تقوى على السير، وقطع البلاد.
وقوله: «سقاؤها» يعني: أجوافها: لأنها تأخذ الماء الكثير في أجوافها، فيبقى معها.
وقوله: «ترد الماء، وتأكل الشجر» أي: هي محفوظة بنفسها.
فزجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أخذ الإبل وبين لأي معنى منع منه. وقسنا عليه ما في معناها.
إذا ثبت أنه لا يجوز التقاطها للتملك.. فهل يجوز أخذها للحفظ على صاحبها؟
ينظر فيه:
فإن كان الواجد لها هو الإمام، أو الحاكم.. جاز له أن يأخذها ليحفظها على صاحبها؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت له حظيرة يجمع فيها الضوال) . ولأن في ذلك مصلحة لصاحبها. فإن كان له حمى.. تركها في الحمى، ويسمها بسمة الضوال؛ لتتميز عن نعم الصدقة والجزية وخيل المجاهدين. وإن لم يكن له حمى، واحتاجت إلى الإنفاق عليها، فإن طمع في مجيء صاحبها في يوم أو يومين أو ثلاث.. أنفق عليها. وإن لم يطمع في مجيء(7/539)
صاحبها.. باعها وحفظ ثمنها له؛ لأنه لو تركها.. استغرقت النفقة قيمتها، فكان بيعها أحوط لصاحبها.
وإن كان الواجد لها من الرعية، فأخذها ليحفظها على صاحبها.. فهل يضمنها بالأخذ لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنها؛ لأنه أخذها ليحفظها عل صاحبها، فهو كالحاكم.
والثاني: يضمنها بالأخذ؛ لأنه لا ولاية له على مالكها بحال، بخلاف الإمام والحاكم فإنهما يرصدان لمصالح المسلمين، ولهما ولاية على غير الرشيد.
فإذا قلنا بهذا: أو أخذها بنية التملك.. فقد لزمه ضمانها؛ فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن ما لزمه ضمانه "لا يزول عنه ضمانه برده إلى مكانه، كما لو غصب شيئا من مكان ثم رده إليه. وإن سلمها إلى الإمام أو الحاكم.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يزول عنه الضمان؛ لأن الإمام والحاكم لا ولاية له على رشيد، ويجوز أن يكون مالكها رشيدا.
والثاني: يزول عنه الضمان، وهو الصحيح؛ لأن الإمام أو الحاكم لو أخذها ليحفظها على صاحبها.. جاز فإذا قبضها.. كذلك، لأن له ولاية على مال الغائب، ولهذا يقضي منه ديونه ويحفظه عليه.
فعلى هذا: إن أخذها الإمام أو الحاكم منه.. كان كما لو وجدها بنفسه وأخذها ليحفظها على ما مضى.
وإن كان الحيوان مما لا يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالشياه، وعجاجيل البقر، وفصلان الإبل الصغار، وما أشبهها.. فيجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن(7/540)
خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الغنم، فقال: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .
ومعنى هذا: أي هي لك إن أخذتها، أو هي لأخيك إن أخذها.
قال الصيمري: يحتمل أنه أراد: أنها باقية على ملك مالكها.
وقوله: «أو للذئب» أي: إذا لم تأخذها أنت ولا أحد.. أكلها الذئب بلا شك.
فإذا التقط الرجل شيئا من هذا.. فهو بالخيار:
إن شاء تطوع بالإنفاق عليها، وحفظها لصاحبها.
وإن شاء عرفها حولا، وتملكها بعد ذلك.
وإن شاء باعها وحفظ ثمنها لصاحبها، أو عرف الحيوان نفسه حولا وتملك الثمن. وإن شاء أكلها قبل الحول، وعرفها حولا، فإن جاء صاحبها.. غرم له قيمتها. وقال مالك: (لا يجب عليه غرم قيمتها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» ولم يذكر الغرم) .
ودليلنا: أن هذا ملك لغيره، فلم يكن له تملكه بغير عوض من غير رضا المالك، كما لو كان في البنيان. والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها.
إذا ثبت هذا: فإن أراد الملتقط بيعها، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعها بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة. وإن كان في البلد حاكم.. رفع الأمر إليه ليبيعها الحاكم، أو يأمره بالبيع أو يأمر غيره.
فإن باعها الملتقط من غير إذن الحاكم مع قدرته عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه لما قام مقام المالك في الحفظ. قام مقامه في البيع.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه لا ولاية له على المالك في بيع ماله، بخلاف الحاكم.
فإذا قلنا بهذا: وجاء المالك.. كان له أن يطالب الملتقط برد العين إن كانت باقية، أو بقيمتها إن كانت تالفة.(7/541)
وله أن يطالب المشتري بذلك. فإن تلفت في يد المشتري، فرجع عليه بقيمتها ... لم يرجع المشتري على الملتقط بالقيمة، بل يرجع عليه بالثمن إن كان دفعه. وإن رجع المالك على الملتقط بالقيمة.. رجع بها الملتقط على المشتري، ورد عليه الثمن.
وإذا قلنا بالأول: أو باعها بإذن الحاكم.. فإن الثمن يكون أمانة في يده مدة التعريف. فإن جاء المالك بعد البيع. لم يملك فسخ البيع، بل يرجع بالثمن، سواء كان قبل أن يتملكه الملتقط أو بعد ما تملكه؛ لأنه قام مقام اللقطة.
فإن هلك الثمن في يد الملتقط في مدة التعريف من غير تفريط منه، ثم جاء مالك اللقطة.. لم يجب على الملتقط ضمان، كما لو هلكت اللقطة في مدة التعريف.
وإن اختار المتلقط أكلها قبل الحول.. كان له ذلك؛ لأن في ذلك حظا لصاحبها؛ لأن قيمتها ثبتت في ذمة الملتقط، فإذا تركت، ربما تلفت، فسقط حق مالكها.
وهل يلزم المتلقط عزل قيمتها مدة التعريف؟
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يلزمه عزل قيمتها هاهنا، وجها واحدا. وحكى في " المهذب " في عزل القيمة هاهنا وجهين:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن كل موضع جاز له أكل اللقطة.. لم يلزمه عزل بدلها، كما بعد الحول.
والثاني: يلزمه عزل بدلها من ماله؛ لأنه ليس له أن ينتفع باللقطة قبل الحول، فلما جوزنا له بالانتفاع بها هاهنا قبل الحول.. لزمه عزل بدلها من ماله؛ ليقوم بدلها مقامها.
فإذا قلنا: لا يلزمه عزل بدلها.. فإن بدلها يكون دينا في ذمته، ويعرف اللقطة نفسها. فإن مات أو أفلس، ثم جاء صاحبها.. ضارب مع الغرماء بقدر قيمة اللقطة.
وإن قلنا: يلزمه عزل بدلها، فعزله.. فإنه يعرف اللقطة نفسها، لا ما عزله، ويكون ما عزله أمانة في يده مدة التعريف، فإن تلفت في يده من غير تفريط.. لم يلزم الملتقط شيء آخر غير الذي عزله؛ لأن القيمة قد قامت مقام اللقطة، فإن اختار أن يحفظ القيمة أبدا على صاحب اللقطة بعينه.. كان له ذلك، وإن أراد أن يتملكها بعد(7/542)
التعريف.. كان له ذلك، فإذا تملكها كانت القيمة في ذمته، وإن مات المتلقط أو أفلس قبل أن يتملك القيمة، فجاء مالك اللقطة.. كان أحق بالقيمة المعزولة وله من سائر الغرماء.
[فرع: وجد حيوانا في قرية عامرة]
وإن وجد الحيوان في بلد أو قرية عامرة.. فقال المزني: قال الشافعي فيما وضعه بخطه - لا أعلمه سمع منه -: (فالجميع لقطة) .
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: الصحيح ما ذكره المزني: فالصغير والكبير من الحيوان لقطة في البلد؛ لأنا إنما منعناه من أخذ الكبير من الحيوان في الصحراء؛ لأن ترك أخذه أحظ لصاحبه؛ لأنه يأكل الشجر، ويرد الماء، ويحتفظ بنفسه، وهذا المعنى غير موجود فيه في البلد، لأنه لا يجد ما يرعى فيه، فكان التقاطه أحظ لصاحبه.
ومن أصحابنا من قال: ما يجده من الحيوان في البلد كالذي يجده في الصحراء، فإن كان إبلا، أو ما كان في معناها.. لم يكن له أخذها.
وإن كان غنما، أو ما كان في معناها.. كان له أخذها؛ لعموم حديث زيد بن خالد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق فيه بين البلد والصحراء، وإنما فرق فيه بين الصغير والكبير؛ لأن الكبير في البلد لا يضيع أيضا ولا يخفى أمره بخلاف الصغير.
فإذا قلنا بهذا: فليس له أن يأخذ الكبار للتملك، وله أن يأخذ الصغار ويكون فيه بالخيار: بين أن يتطوع بالإنفاق عليها ويحفظها على صاحبها، وبين أن يعرفها حولا ويتملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكها بعد التعريف، وهل له أن يأكلها في البلد؟ فيه وجهان:
قال أكثر أصحابنا: لا يأكلها. والفرق بين البلد والصحراء: أنه لا يجد في الصحراء من يشتريها في الغالب، فجاز له أكلها، وفي البلد يجد من يشتريها في الغالب.. فلم يجز له أكلها.(7/543)
وقال الشيخ أبو حامد: يجوز له أكلها في البلد؛ لأن الشافعي قد نص على: (أنه إذا وجد الطعام الرطب في البلد.. فله أكله وإن كان يجد من يشتريه) . وهذا في معناه.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الصغار والكبار لقطة.. فهو بالخيار: بين أن ينفق على الجميع ويحفظها على صاحبها، أو يعرفها ويتملكها، أو يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكه بعد التعريف، وهل له أكل الجميع؟ على الوجهين في الصغار في البلد.
[فرع: وجد ضالة في دار الحرب]
إذا وجد لقطة أو ضالة في دار الحرب، ولا مسلم في دار الحرب.. فهي غنيمة، لأهل الخمس خمسها، والباقي لمن وجدها.
وإن وجد لقطة أو ضالة للحربي في دار الإسلام.. فهي فيء لا يختص به الواجد.
[فرع: لقطة الهدي الضال]
إذا وجد هديا ضالا في أيام منى أو قبلها.. فقد قال ابن القاص: أخذه وعرفه، فإن لم يجد صاحبه، وخاف أن يفوته الذبح.. ذبحه.
قال الشافعي: (وأحب إلي أن يرجع إلى الحاكم حتى يأمره الحاكم بذبحه) .
قال أبو علي السنجي: قياس قول الشافعي: أنه لا يأخذ الهدي إذا وجده في الصحراء؛ لعموم الخبر. ويحتمل ما حكاه ابن القاص، أن الشافعي قال: (يرجع به إلى الحاكم) أراد به: إذا وجده في المصر. وإن ثبت النص فيها عن الشافعي.. فوجهه: أنه معد للذبح، فإذا وجده وأشرف الوقت على الخروج.. فالغالب أنه انفلت من صاحبه. وإن تركه خرجت العبادة عن وقتها، فجاز له أخذه وذبحه.
وقال القفال: إذا وجد الهدي مشعرا مقلدا.. فهل له أن يذبحه؟ فيه قولان مأخوذان من القولين فيمن وجد هديا مذبوحا في الطريق، وقد أشعر وقلد، وضرب(7/544)
بدمه على صفحة سنامه.. هل له الأكل منه بهذه العلامة؟ على قولين. وهكذا لو قلد هديه وأشعره.. هل يقوم هذا الفعل مقام النطق في إيجابه؟ على قولين.
[مسألة: التقاط العبد الصغير]
إذا التقط الرجل عبدا صغيرا غير مميز.. فله أن يحفظه على صاحبه، ويتطوع بالإنفاق عليه. وله أن يعرفه حولا ويتملكه. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 363) : وله أن يبيعه، كالشاة.
وإن وجد جارية صغيرة غير مميزة.. فله أن يحفظها على صاحبها، ويتطوع بالإنفاق عليها، وهل له أن يتملكها؟ ينظر فيه:
فإن كان لا يحل له وطؤها: بأن كانت من ذوي محارمه.. جاز له أن يتملكها بعد التعريف، كما يجوز له أن يقترضها.
وإن كانت ممن يحل له وطؤها.. لم يجز له تملكها، كما لا يجوز له اقتراضها.
وإن وجد عبدًا كبيرًا، أو صغيرًا مميزًا يتحفظ بنفسه، أو جارية كبيرة، أو صغيرة مميزة، تتحفظ بنفسها.. لم يكن له التقاطهما؛ لأنهما يحفظان أنفسهما.
فإن أراد الواجد أن يحفظهما على مالكهما، وينفق عليهما من كسبهما.. جاز. وإن لم يكن لهما كسب.. رفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيعهما، ويحفظ ثمنهما على مالكهما، فإن باعه الحاكم، أو كان العبد صغيرًا فتملكه المتلقط وباعه، ثم جاء مالكه وأقر أنه كان قد أعتق قبل البيع.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين:
أحدهما: يقبل قول السيد فيه، ويحكم بحريته، ويبطل البيع؛ لأن السيد أقر على نفسه بما يضره، فلا تهمة عليه فيه.. فيقبل.
والثاني: لا يقبل قوله، بل نحكم بصحة البيع؛ لأن الإمام يلي بيعه حين باعه.. فلم يقبل قول المالك بما يبطله، كما لو باع الرجل عبد نفسه، ثم أقر أنه كان أعتقه قبل ذلك.(7/545)
وحكى القاضي أبو الطيب: أن من أصحابنا من قال: لا يقبل قوله قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
[فرع: ادعاء عبد آبق في مصر وطلبه في مكة]
إذا أبق للرجل عبد، فحصل عند الحاكم بمصر، فجعله مع الضوال، فأقام رجل عند حاكم مكة شاهدين شهدا على أن ذلك العبد بصفاته له، فكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر: حضر إلي فلان بن فلان، وادعى أن له في يدك عبدًا، من صفته كذا وكذا، وشهد له ذلك شاهدان.. فهل يجب تسلميه بذلك إلى المدعي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب تسليمه بذلك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد؛ لأنهم لم يشهدوا على عينه، وإنما شهدوا على الصفات، والصفات تشتبه، وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان.
فعلى هذا: لو جاء طالب له آخر، وادعى أنه له، ووصفه بصفاته.. لم يجز دفعه إليه حتى يتضح له: من المالك منهما؟
القول الثاني: يجب تسليمه إليه بذلك. وبه قال أبو يوسف؛ لأن البينة أثبتته له بصفاته، كما ثبتت في الذمة بوصفه في السلم. فإذا قلنا بهذا: فإن حاكم مصر يجعل في رقبة العبد خيطا، ويضيقه بحيث لا يمكن أن يخرجه من رأسه، ويختم على ذلك الخيط، ويسلمه إلى المدعي أو وكيله، ويكون مضمونا على المدعي إن تلف، فيحمله إلى حاكم مكة، فإن قال الشاهدان: إن هذا هو العبد الذي شهدنا عليه للمدعي.. استقر ملكه عليه. وإن قالا: هو غيره.. لزمه رده إلى حاكم مصر. والأول أصح؛ لأنه يدخل على الثاني ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه إذا أسلم العبد إلى المدعي.. لم يؤمن أن يموت المدعي أو يفلس، وقد تلف العبد في يده، ويكون لغيره، فلا يصل صاحبه إلى العبد، ولا إلى قيمته.
الثاني: أنه قد يكون للغير، فتذهب منفعته في الطريق مع المدعي.
الثالث: قد تكون أم ولد للغير، فيسلمها إلى غيره، وهذا لا سبيل إليه.(7/546)
وإذا قلنا بالأول: فرأى حاكم مصر بيعه وحفظ ثمنه، فنصب المدعي رجلا ليبتاعه له من حاكم مصر، فابتاعه له، ثم مضى به إلى مكة فحضر الشاهدان وشهدا أن هذا العبد ملكه. حكم بفساد البيع، فيكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر بذلك ليرد له الثمن إن كان قد قبضه؛ لأنه قد بان أنه ملكه، ولا يقول المدعي لحاكم مصر: بعني هذا العبد؛ لأن ذلك إقرار منه أنه ليس بملك له.
[مسألة: التقاط كلب صيد]
إذا التقط كلب صيد.. عرفه حولا، فإن لم يجد صاحبه.. كان له أن ينتفع به بعد الحول؛ لأنه وإن كان غير مملوك فإن الانتفاع به جائز، فقام بعد الحول والتعريف مقام صاحبه. فإن جاء صاحبه وقد هلك.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له.
وهل يضمن قيمة منفعته بعد الحول؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز إجارته.
[مسألة: التقاط الطعام الرطب]
وإن كانت اللقطة طعامًا رطبًا لا يمكن استبقاؤه، كالطبائخ والهرائس.. فقد قال الشافعي: (له أن يأكله إذا خاف فساده، ويغرمه لربه) .
قال المزني: وقال الشافعي فيما وضعه بخطه ـ لا أعلمه سمع منه ـ: (إذا خاف فساده.. أحببت له أن يبيعه) فجعل المزني هذا قولًا آخر أنه لا يجوز له أكله؛ لأنه يمكنه بيعه.
قال أصحابنا: وما خرجه المزني غير صحيح، بل يجوز له الأكل، قولًا واحدًا.
وما ذكره الشافعي بخطه لا يدل على أنه لا يجوز له الأكل، وإنما يدل على أن البيع أولى من الأكل، وهذا صحيح.
وإذا ثبت هذا: فهو بالخيار: بين أن يبيعه، وبين أن يأكله، كما قلنا في الشاة إذا(7/547)
وجدها في صحراء؛ لأنه يخاف على كل واحد منهما الهلاك؛ فإن اختار بيعه، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة، ويعرف الطعام الذي وجده لا نفس الثمن. وإن كان في البلد حاكم، فرفع الأمر إليه، فباعه الحاكم بنفسه، أو أمر الملتقط أو غيره أن يبيعه فباعه.. صح البيع.
وإن باعه الملتقط بنفسه من غير إذن الحاكم.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح البيع.
قلت: ويحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في بيع الشاة التي وجدها في الصحراء.
وإن اختار أكله.. فهل يلزمه عزل قيمته؟ حكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فيه وجهين عن أبي إسحاق، وقد مضى تعليلهما في أكل الشاة التي وجدها في الصحراء.
[فرع: التقاط ما يحتاج إلى مؤونة]
وإن التقط ما لا يبقى إلا بمؤونة وعلاج، كالرطب والعنب، فإن كان بيعه رطبًا أحوط.. قال ابن الصباغ: كان كالطعام الرطب على ما مضى.
وذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: أنه يباع ويحتفظ بثمنه لصاحبه.
وإن كان تجفيفه أحوط، فإن تطوع الواجد بالإنفاق على تجفيفه.. جاز، وإن لم يتطوع.. باع الحاكم جزءًا منه، وأنفقه على تجفيفه، بخلاف الحيوان فإنه لا يباع منه شيء؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر، بخلاف النفقة على الحيوان فإنها تتكرر، فلذلك قلنا: لا يباع منه شيء لذلك.
[مسألة: لقطة خمر مراق]
وإن وجد خمرًا أراقها صاحبها.. لم يجب تعريفها؛ لأن إراقتها مستحقة، فإن صارت عنده خلًا.. ففيه وجهان:(7/548)
أحدهما: يجب تعريفها؛ لأنها عادت إلى الملك السابق لصاحبها.
والثاني: لا يجب تعريفها؛ لأن صاحبها قد أسقط حقه منها بإراقتها.
[مسألة: لقطة العبد]
إذا التقط العبد لقطة.. فهل يصح التقاطه؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من التقط لقطة.. فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتمها ولا يغيبها» ولم يفرق بين الحر والعبد. ولأنه كسب بفعل، فصح من العبد، كالاصطياد والاحتشاش، وفيه احتراز من الميراث.
والثاني: لا يصح التقاطه. وهو اختيار المزني؛ لأن الالتقاط يقتضي: أمانة وولاية في مدة التعريف، وتملكًا بعوض في ذمته، والعبد ليس من أهل الأمانة والولاية، ولا ذمة له يستوفى الحق منها، فلم يصح.
فإذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يعلم السيد باللقطة.. فإنها أمانة في يد العبد. وإن تلفت في يد العبد بغير تفريط منه.. لم يضمنها؛ لأن الأمانة لا تضمن بغير تعد.
وإن أتلفها العبد، أو تلفت في يده بتفريط منه.. ضمنها في رقبته، كما لو أتلف مالًا لغيره.
وإن عرفها العبد حولًا تعريفًا كاملًا.. لم يملكها العبد قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملك المال على القول الجديد، ويملكه على القول القديم إذا ملكه السيد، ولم يملكه السيد هاهنا.
فإن قلنا: إن اللقطة تدخل في ملك الملتقط بعد انقضاء التعريف.. دخلت في ملك السيد.
وإن قلنا: لا يملكها الملتقط إلا باختيار التملك.. لم يملكها السيد حتى يختار(7/549)
تملكها، فإن تملكها العبد وتصرف فيها. فإنه لا يملكها ويضمنها، وفي محل ضمانه لها وجهان:
أحدهما: يضمنها في ذمته، كما لو اقترض شيئًا فاسدًا، أو قبضه وأتلفه.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يضمنها في رقبته؛ لأنه لزمه بغير رضى من له الحق، بخلاف القرض الفاسد.
وأما إذا علم بها السيد: فله أخذها من يده؛ لأن كسبه له، فإن أخذها السيد بعد أن عرفها العبد.. كان للسيد أن يتملكها. وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول.. فللسيد أن يكمل التعريف ويتملكها. وإن كان قبل أن يعرفها العبد.. عرفها السيد حولًا وتملكها. وإن لم يأخذها السيد من العبد، بل أقرها في يده، فإن كان العبد ثقة.. جاز، كما لو استعان به في حفظ ماله، ويكون الحكم فيه كما لو أخذها السيد منه. وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد وزال الضمان عن العبد؛ لأن السيد فرط في إقرارها بيده، فلزمه ضمانها، كما لو أخذها من يده وردها إليه؛ لأن يد العبد كيد سيده.
وإن علم فلم يأخذها من يده ولم يقرها، وإنما أهملها في يده.. فهل يجب على السيد ضمانها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، يأتي توجيههما.
وأما إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد.. فإن العبد يضمنها بالأخذ؛ لأنه أخذ ما لًا يجوز له أخذه، فهو كما لو غصب مال غيره، فإن علم بها السيد.. فإنه لا يخلو: إما أن يأخذها من يده، أو يقرها في يده، أو يهملها. فإن أخذها من يده.. زال الضمان عن العبد، وصار كأن السيد التقطها.
قال ابن الصباغ: وينبغي لو أخذها غير السيد من الأحرار.. أن يزول عن العبد الضمان؛ لأن كل من هو من أهل الالتقاط نائب عن صاحبها.
فإن قيل: إذا حصل الشيء مضمونًا، لم يزل الضمان بالانتقال إلى يد غير يد مالكه..
فالجواب: أنه إنما لا يزول الضمان إذا أخذه من لا يجوز له أخذه، وهاهنا يجوز للسيد أخذها، فصار كما لو غصب عينًا، فدفعها الغاصب إلى وكيل المغصوب منه.(7/550)
إذا ثبت هذا: فإن اختار السيد حفظها على صاحبها.. جاز. وإن اختار تملكها.. عرفها حولًا ثم تملكها. فإن كان العبد قد عرفها.. لم يعتد بتعريفه؛ لأن وجود التقاطه بمنزلة عدمه، فكذلك تعريفه.
وإن لم يأخذها السيد منه، ولكن أقرها في يده ليعرفها، فإن كان العبد ثقة.. جاز وزال عن العبد الضمان؛ لأن العبد صار ممسكًا لها عن السيد، فصار كما لو أخذها السيد من يده وردها إليه.
وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد؛ لأنه فرط في تركها في يده؛ لأن يد السيد على العبد وعلى ما في يده، فصار كما لو أخذها السيد منه ثم ردها إليه.
وإن لم يأخذها السيد منه ولا أقرها، ولكن أهملها في يده.. فقد روى المزني: (أن السيد يضمنها في رقبة عبده) ، ونقل الربيع: (أنه يضمنها في رقبة عبده وسائر أمواله) . وأراد بقوله (وسائر أمواله) : في ذمته.
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما نقله المزني، وأنه يضمنها في رقبة عبده لا غير؛ لأن السيد لا يضمن جنايات عبده في ذمته، وإنما يتعلق الضمان برقبة العبد لا غير، فإن تلف العبد.. سقط حق صاحب اللقطة.
وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله الربيع، وقد نقله المزني في "جامعه الكبير " وإنما أسقطه في " المختصر "؛ لأن السيد قد كان يمكنه أن يأخذها منه، أو يقرها في يده، فإذا لم يفعل.. صار متعديًا، فكان ضامنًا لها في ذمته، كما لو غصب العبد مالًا لغيره، وعلم به السيد، وأمكنه انتزاعه منه، فلم يفعل حتى تلف في يد العبد، فإن السيد يضمنه في ذمته.
فعلى هذا: إن تلف العبد.. تعلق الضمان بذمة السيد.
وإن كان على السيد ديون وأفلس.. كان للملتقط أن يأخذ حقه من العبد، ولا يشاركه الغرماء فيه.
وإن لم تف قيمته بحقه.. ضارب الغرماء فيما بقي له من قيمة اللقطة في مال السيد. ومن أصحابنا من قال: فيها قولان، ووجههما ما ذكرناه.(7/551)
فرع: [عتق العبد ومعه لقطة لم يعلم بها سيده] :
إذا التقط العبد لقطة فأعتقه سيده قبل أن يعلم باللقطة، فإن قلنا: يصح التقاطه.. كان للسيد أخذها منه، كما لو اكتسب مالًا قبل العتق ولم يعلم به السيد.
وإن قلنا: لا يصح التقاطه.. لم يكن للسيد أخذها؛ لأنه قبل أن يعتق لم يتعلق به حق للسيد.
وهل للعبد أن يبتدئ تعريفها بعد العتق، ويتملكها بعد التعريف؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد صار على صفة يصح التقاطه، فصار كما لو وجدها في هذه الحالة.
والثاني ـ خرجه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأن يده قد صارت يد ضمان، فلا تنقلب يد أمانة.
[مسألة: المكاتب في اللقطة]
قال الشافعي في " المختصر " [3/128] : (والمكاتب في اللقطة كالحر؛ لأن ماله يسلم له) ونص في " الأم " [3/289] : (أنه كالعبد) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق، بدليل أنه لا يرث، ولا تصح الوصية إليه.
ومنهم من قال: إنه كالحر قولًا واحدًا.
قال الشافعي في " الأم ": (لأن ماله له) وهذا التعليل أصح من التعليل الذي نقله المزني: (أن ماله يسلم له) ؛ لأنه قد يسلم له، وقد لا يسلم له.(7/552)
فإذا قلنا: إنه كالحر، أو قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإذا التقط لقطة.. فهي أمانة في يده، فإذا عرفها حولًا.. صح تعريفه، وله أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه من أهل التملك كالحر.
وإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فالتقط لقطة.. ضمنها بأخذه لها، وليس للسيد أن يأخذها منه، كما يأخذها من العبد؛ لأنه لا سبيل للسيد على ما في يد المكاتب، ولكن يسلمها إلى الحاكم، فإذا قبضها الحاكم.. برئ المكاتب من ضمانها، فإن عرفها الحاكم حولًا، فهل للمكاتب أن يتملكها؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب: له أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: ليس له أن يتملكها؛ لأنه ليس من أهل الالتقاط، فلم يملكها بالحول والتعريف.
فعلى هذا: تكون في يد الحاكم إلى أن يجد صاحبها.
[فرع: لقطة المبعض]
وأما إذا وجد من نصفه حر ونصفه عبد لقطة.. فقد نص الشافعي: (أنه كالحر) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق. ومنهم من قال: هو كالحر قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكًا تامًا.
فإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فهو كالعبد يصير ضامنًا لها، وإذا أخذها السيد منه.. زال عنه الضمان.
وإذا قلنا: إنه كالحر، أو كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فاللقطة لهما بعد التعريف. وإن كان بينهما مهايأة.. فهل تكون اللقطة لمن وجدت في يومه؟ فيه قولان:(7/553)
أحدهما: تكون له؛ لأنه كسب للعبد، فكانت لمن وجدت في يومه، كالمعتاد.
والثاني: أنها لا تكون لمن وجدت في يومه، بل تكون بينهما؛ لأنه كسب نادر، والنادر غير معلوم وجوده، فلا يدخل في المهايأة.
[فرع: لقطة المدبر والمعلق عتقه]
وأما المدبر والمعتق بصفة، إذا التقط لقطة.. فحكمه حكم العبد القن على ما مضى.
وأما أم الولد إذا التقطت لقطة.. فنص الشافعي: (أنها كالعبد القن) .
قال الشافعي: (إلا أنها إذا تلفت اللقطة في يدها، فإن علم بها السيد.. كان الضمان عليه في ذمته، وأما إذا لم يعلم بها.. كان الضمان في ذمتها) .
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أن ضمانها في ذمته) . وقوله: (في ذمتها) غلط.
واختلف أصحابنا في قول الشافعي: (في ذمتها) :
فقال أكثرهم: هو غلط كما قال الربيع؛ لأن هذا فرعه الشافعي على القول الذي يقول: لا يصح التقاط العبد، وكان يجب أن يكون ضمانها في رقبتها، إلا أن السيد قد منع من بيعها بالإحبال، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الحق بذمتها إذا لم يعتقها، فوجبت جنايتها في ذمته. وقوله (في ذمتها) غلط من الكاتب. وقال أبو إسحاق: يمكن تأويل قول الشافعي: (في ذمتها) أن يكون فرعه على القول الذي يقول: يصح التقاط العبد، فإذا التقطت أم الولد لقطة.. حصلت في يدها أمانة، إلا أنه يجب عليها أن تعلم السيد بها ليأخذها منها، فإذا لم تفعل حتى تلفت في يدها.. فقد فرطت، فتعلق الضمان بذمتها؛ لأن صاحبها كأنه رضي بكونها في يدها، فصار بمنزلة أن يدفع رجل وديعة إلى أم ولد لتدفعها إلى سيدها، فلم تدفعها حتى تلفت في يدها، فإن ضمانها يكون في ذمتها.(7/554)
قال الشيخ أبو حامد وهذا وإن كان صحيحًا في الفقه، فلا يحمل كلام الشافعي على هذا؛ لأنه إنما فرعه على القول الذي يقول: لا يجوز التقاط العبد.
[مسألة: لقطة معدومي أهلية التكليف]
إذا وجد الصبي أو المجنون أو المحجور عليه للسفه لقطة فالتقطها.. صح التقاطه؛ لعموم الأخبار، ولأن هذا كسب، فصح منهم، كالاصطياد والاحتشاش.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 360] : في التقاط الصبي قولان، كالعبد. وهذا ليس بمشهور. إذا ثبت هذا: فإن تلفت اللقطة في يد أحدهم بغير تفريط، قبل أن يعلم بها الولي.. لم يجب ضمانها؛ لأنه قبض ما له قبضه. وإن تلفت في يده بتفريط منه، أو أتلفها.. وجب ضمانها في ماله، كما لو أتلف مال غيره.
وإن علم بها الولي.. فعليه أن يأخذها منه؛ لأنه ليس من أهل حفظ الأموال. فإن تركها الولي في يده حتى تلفت.. قال القاضي أبو الطيب ضمنها الولي؛ لأن الولي يلزمه حفظ مال الصبي وما تعلق به حقه، وهذا قد تعلق بها حقه، فإذا تركها في يده.. صار مضيعًا لها، فضمنها.
وإن أخذها الولي فعرفها حولًا.. نظر الولي: فإن كان المولى عليه ممن يجوز أن يقترض عليه.. تملكها له. وإن كان ممن لا يجوز أن يقترض له، بأن كان غنيًا، فهل للولي أن يتملكها له؟ فيه وجهان.
قال عامة أصحابنا: ليس له أن يتملكها له؛ لأن الملك في اللقطة يجري مجرى الاقتراض. فإذا كان لا حاجة به إلى الاقتراض، لم يتملكها له.
وقال ابن الصباغ: له أن يتملكها له؛ لأن الظاهر عدم صاحبها، ولهذا جعلناه(7/555)
بمنزلة الاكتساب. ولو جرى مجرى الاقتراض.. لم يصح الالتقاط من الصبي والمجنون، وكان يراعى في صحة الالتقاط الحاجة إلى الاقتراض.
[مسألة: لقطة الفاسق]
إذا وجد الحر الفاسق لقطة فيكره له أخذها؛ لأنه ربما تدعوه نفسه إلى استحلالها وكتمانها. فإن التقطها.. صح التقاطه قولًا واحدًا؛ لأنه من جهات التكسب، فصحت من الفاسق، كالاصطياد. وهذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 361] : في صحة التقاطه قولان، كالعبد.
إذا ثبت أنه يصح التقاطه.. فهل يقرها الحاكم في يده؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقرها في يده، بل ينتزعها ويسلمها إلى أمين؛ لأن اللقطة في الحول الأول أمانة في يد الملتقط، والفاسق ليس من أهل الأمانة.
والقول الثاني أنه يقرها في يده، ولكن لا يهمل الحاكم أمرها، بل يضم إليه أمينًا يشرف عليه ويمنعه من التصرف فيها قبل الحول؛ لأن الفاسق لما ساوى الأمين في تملك اللقطة بعد الحول.. ساواه في كونها بيده. والأول أصح.
وفي الذي يتولى تعريفها قولان، سواء قلنا تقر في يده، أو لا تقر:
أحدهما: يعرفها الواجد لها وإن كان فاسقًا؛ لأنه هو الواجد، ولأنها إنما انتزعت منه خوفًا من أن يخون بها، ولا خيانة في التعريف.
والثاني: أن الفاسق لا ينفرد بتعريفها، ولكن يضم إليه الحاكم أمينًا يعرفها معه؛ لأنه لا يؤمن أن يقصر في التعريف. فإذا انتهى التعريف.. كان للفاسق أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك.
[فرع: لقطة الذمي في بلاد المسلمين]
] : واختلف أصحابنا في الذمي إذا التقط لقطة في دار الإسلام:
فمنهم من قال: لا يصح التقاطه؛ لأن الالتقاط أمانة بولاية، والذمي ليس من(7/556)
أهلها، ولأنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، فلا يملك بالالتقاط فيه.
ومنهم من قال: يصح التقاطه؛ لأن له ذمة صحيحة ويملك بالقرض، فصح التقاطه.
فإذا قلنا: يصح التقاطه.. فهل تقر في يده، ويصح تعريفه بنفسه، أو ينزعها الحاكم منه، ويضم من يعرفها معه؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفاسق.
ومنهم من قال: تقر في يده، وينفرد بالتعريف قولًا واحدًا؛ لأنه وإن كان كافرًا، فهو مقر على دينه، كما أنا نقول: لا يصح إنكاح الفاسق، ويصح إنكاح الذمي.
[فرع: القول للمدعي حتى يأتي صاحب اليد بالبينة]
قال الشافعي في " الأم ": (إذا كان في يد رجل عبد، فادعاه آخر، وشهد له به شاهدان أنه ملكه، فقال من بيده العبد: هذا اشتريته من فلان، ببلد كذا، ولي عليه بينة هناك تشهد أني ابتعته، وكان مالكًا له حين باعه مني.. فإن العبد يسلم إلى المدعي، ولا يعتد بدعوى من بيده العبد؛ لأن بينة المدعي قد قامت، وثبت له الملك، فلا يوقف بالدعوى، فيسلم العبد إلى المدعي إلى أن يأتي من بيده العبد ببينة) .
والله أعلم(7/557)
[كتاب اللقيط](8/5)
كتاب اللقيط اللقيط، والملقوط، والمنبوذ: اسم للطفل الذي يوجد مطروحًا. وهو فعيل: بمعنى مفعول، كما يقال للمقتول: قتيل، وللمدهون: دهين.
والتقاط المنبوذ فرض، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأمر بالمعاونة على البر، وهذا من البر.
وقَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الحج: 77] فأمر بفعل الخير، وهذا من فعل الخير.
وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] والولي يلزمه حفظ المولى عليه.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] [المائدة: 32] .
فقيل: معناه: له ثواب من أحيا الناس كلهم. وفي أخذ اللقيط إحياء له، فكان واجبًا، كبذل الطعام للمضطر.
إذا ثبت هذا: فإن التقاطه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس.. سقط عن الباقين. وإن تركوه.. أثم جميع من علم به، كما نقول في غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه.(8/7)
[مسألة حرية اللقيط]
) : وإذا وجد لقيط مجهول الحال.. حكم بحريته، لما روى سنين أبو جميلة - رجل من بني سليم - قال: (وجدت منبوذًا على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذته، فذكره عريفي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما رآني.. قال: عسى الغوير أبؤسًا، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، لا يتهم في ذلك، قال عمر: أهو كذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: اذهب فهو حر، وولاؤه لك، وعلينا نفقته) .
وفي بعض الروايات: (ونفقته من بيت المال) . وإنما أراد عمر بهذا: أي لعل هذا الرجل الذي وجده هو صاحب المنبوذ. فقال: (عسى الغوير أبؤسًا) ، حتى أثنى عليه عريفه خيرًا. وهذا مثل لكل شيء يخاف منه أن يأتي بشر.
قال الأصمعي: (والأبؤس) : جمع البأس. وأصل هذا: أن غارًا كان فيه ناس، فانهار عليهم الغار، فماتوا. وقيل: أتاهم فيه عدو فقتلهم، فصار ذلك مثلًا لكل أمر يخاف منه، صم صغر الغار فقيل: غوير.(8/8)
وقال الكلبي: (الغوير) ماء لكلب، يسمى الغوير. وقال: وهذا المثل إنما تكلمت به الزباء، وذلك أنها وجهت قصيرًا اللخمي بعير ليحمل إليها من بز العراق، وكان يطلبها رجال جذيمة الأبرش، فحمل الأحمال صناديق - وقيل: غرائر - وجعل في كل واحد منها رجلًا معه السلاح، ثم تنكب بهم على الغوير؛ لأنه طريق منهج، فسألت عنه، فأخبرت أنه تنكب بالعير على الغوير، فقالت: (عسى الغوير أبؤسًا) أي: عسى أن ذلك الطريق يأتيها منه شر، واستنكرت حاله.
قال أبو عبيد: وهذا أشبه من الأول.
وأما نصب أبؤس.. فأراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤسًا.
وأما قول عمر: (وولاؤه لك) .. فإنا نحمله على أنه أراد ولاء حضانته، لا ولاء ميراثه.
وقد حمله قوم على ولاء الميراث، ونحن نذكره في موضعه - إن شاء الله - ولأن الأصل في الناس الحرية.
[فرع اللقيط ومعه مال]
الصبي الصغير يملك المال الكثير؛ لأنه يرث، ويوصي له، ويبتاع له، فهو كالكبير في الملك، وإذا ثبت أنه يملك.. فإن يده تثبت على المال، كالبائع.
فإذا ثبت هذا: فإن وجد لقيط ومعه مال، فإن كانت يده ثابتة عليه، بأن وجده لابسًا ثوبًا، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجده على فراش، أو سرير أو في سفط، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجد معه دراهم معقودة على ثيابه أو تحت فراشه، أو وجده مشدودًا على بهيمة، أو وجد في يده عنان دابة، أو وجده في خيمة أو دار.. فإن ذلك كله له؛ لأن(8/9)
ذلك كله في يده، وله يد صحيحة، فهو كما لو وجد ذلك في يد بالغ.
وإن كان تحته مال مدفون، أو بالبعد منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. لم يكن ذلك له؛ لأنه لا يد له عليه.
وإن كان بالقرب منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه له؛ لأن الإنسان قد يترك ماله ودابته بالقرب منه.
والثاني: أنه لا يكون له، وهو ظاهر النص؛ لأن اليد يدان، يد مشاهدة ويد حكمية. (فالمشاهدة) : ما كان ممسكًا له بيده. (والحكمية) : ما كان في ملكه، وإن لم يكن ممسكًا له، وهذا ليس بواحد منهما.
ويفارق الكبير؛ لأن ما يقربه يكون مراعيًا له، فكان بمنزلة المتصل به. والطفل لا مراعاة له، فجرى مجرى البعيد من الكبير.
إذا ثبت هذا: فإن كل مال يكون للقيط.. ينظر فيه:
فإن كان في ملك إنسان.. فهو لصاحب الملك؛ لأن الظاهر أنه له.
وإن كان في غير ملك إنسان، فإن كان من غير ضرب الجاهلية.. فهو لقطة. وإن كان من ضرب الجاهلية، فإن كان في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة.
وإن كان في موات، أو قرية خربة كانت عامرة في الجاهلية.. فهو ركاز، وكل ما كان في يد اللقيط فهو ملك له.
وإذا أخذ رجل اللقيط، وأخذ ماله.. فهل له إمساكه وحفظه عليه بغير أمر الحاكم؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي. (في " الإبانة " ق \ 364) :
أحدهما: له ذلك، كما كانت له حضانته.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن مالكه متعين.(8/10)
[مسألة الناس ضربان من حيث التكليف]
الناس في الإسلام على ضربين: مكلف، وغير مكلف.
فأما (المكلف) : فهو البالغ العاقل. فهذا لا يحكم بإسلامه إلا بأن يأتي بالشهادتين.
وأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون. وقد يسلم الصبي، وقد يتبع غيره في الإسلام.
فأما إسلامه بنفسه: فيأتي ذكره في السير إن شاء الله.
وأما إسلامه تبعًا لغيره: فذلك الغير ثلاثة أشياء:
الأبوان، أو السابي، أو الدار.
فأما الأبوان: فإذا أسلما ولهما ولد صغير.. تبعهما في الإسلام.
وهكذا: إن أسلم الأب وحده.. تبعه في الإسلام بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] (الطور: 21) وإن أسلمت الأم وحدها.. تبعها ولدها الصغير في الإسلام. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يتبعها)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة: وأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه» .
وعند مالك: (إن الأم لا مدخل لها في التهويد والتنصير والتمجيس) .(8/11)
ولأنها أحد الأبوين، فيتبعها الولد في الإسلام تغليبًا للإسلام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» كالأب.
وأما السابي: فإذا سبي طفل من أولاد الكفار، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. فإنه يتبعهما في الكفر إن كانا كافرين. وإن أسلم أحدهما.. تبعه. وإن سبي وحده.. فهل يتبع السابي في الإسلام؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يتبعه؛ لأن يده يد ملك.
والثاني: يتبعه؛ لأنه لا يمكن اعتبار إسلامه بنفسه، ولا بأبويه، فلم يبق من يتبعه غير السابي.
فعلى هذا: إن كان السابي مسلمًا.. حكم بإسلام الصبي. وإن كان السابي يهوديًا أو نصرانيًا.. لم يحكم بإسلامه.
وأما إسلامه بالدار: فالدار على ثلاثة أضرب: دار إسلام يسكنها المسلمون، ودار إسلام يسكنها المشركون، ودار شرك يسكنها المشركون.
أما دار الإسلام التي يسكنها المسلمون: فكأرض الحجاز كلها، والعراق والكوفة واليمن. فإذا وجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، سواء كان أكثر ساكنيها مسلمين، أو(8/12)
كفارًا؛ لأنه يحتمل أنه مسلم، ويحتمل أنه كافر، فغلب الإسلام تغليبًا للدار، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» .
وأما دار الإسلام التي يسكنها الكفار: فهي على ضربين:
دار فتحها المسلمون فملكوها وأقروا الكفار فيها ببذل الجزية، فهذه دار إسلام؛ لأن حكم الإسلام جار فيها. فإن وجد فيها لقيط: فإن كان فيها من المسلمين ولو واحد.. فإنه يحكم بإسلام اللقيط الذي وجد فيها، سواء دخلها ذلك المسلم ساكنًا أو تاجرًا، تغليبًا لحكم الدار وحكم الإسلام. فإن قال ذلك المسلم: ليس بابني.. قبل قوله في نفي نسبه عنه، ولكن لا يحكم بسقوط إسلامه بذلك.
وإن لم يدخل إليها مسلم.. فإن اللقيط الموجود فيها كافر؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم.
وإن كانت دار إسلام إلا أن المشركين غلبوا عليها المسلمين وأخرجوهم منها، كـ: طرسوس، وأرض القدس، والمصيصة وما أشبهها من الثغور، فإن كان فيها مسلمون بين الكفار، ووجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، لاجتماع حكم الدار والمسلم الذي فيها.
وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين.. ففيه وجهان:
قال ابن الصباغ: لا يحكم بإسلام اللقيط الموجود فيها؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم.
وقال أبو إسحاق: يحكم بإسلامه؛ لأنها دار إسلام، ويحتمل أن يكون بقي فيها مسلم أخفى نفسه وهذا ابنه.(8/13)
وأما دار الشرك التي يسكنها المشركون: فمثل الروم والترك وغيرهما: فإن لم يكن فيها مسلم.. فاللقيط الموجود فيها كافر؛ لأن الدار دار كفر.
وإن كان معهم مسلم أسير أو غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه مسلم تغليبًا للمسلم الذي فيها.
والثاني: أنه كافر؛ لأنه يحتمل أنه ابن مسلم، ويحتمل أنه ابن كافر.. فغلب الكفر؛ لأن الدار دار كفر، والكفار فيها أكثر، ولأن الظاهر من الأسير أنه لا يتمكن من الوطء بنكاح ولا بغيره.
[فرع الإشهاد على أخذ اللقيط]
وإذا أخذ الملتقط اللقيط.. فهل يجب عليه الإشهاد عليه؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا في اللقطة.
ومنهم من قال: يجب عليه الإشهاد وجهًا واحدًا؛ لأن الإشهاد في اللقطة لحفظ المال، والإشهاد ها هنا لحفظ النسب، وللنسب مزية على المال في الإشهاد، ولهذا وجب الإشهاد في عقد النكاح دون البيع وغيره من العقود.
[مسألة الإنفاق على اللقيط]
وأما نفقة اللقيط، فلا يخلو: إما أن يكون له مال، أو لا مال له. فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله؛ لأنه الطفل إذا كان له أبوان موسران وله مال، كانت نفقته في ماله، فلأن تكون نفقة من لا يعرف أبواه في ماله أولى.
فإن كان في البلد حاكم.. لم يجز للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بغير إذن الحاكم؛ لأن الملتقط لا ولاية له على مال اللقيط، وإنما له الولاية على حضانته، فإن خالف وأنفق عليه من ماله بغير إذن الحاكم.. لزمه الضمان؛ لأنه تعدى بذلك.
وإن جاء الملتقط إلى الحاكم وعرفه الحال.. نظرت: فإن أخذ الحاكم المال منه، ودفعه إلى أمين، وأمره أن يعطي الملتقط كل يوم قدر النفقة، أو ينفقه الأمين عليه،(8/14)
أو قبض الحاكم المال من الملتقط، ودفع إليه كل يوم قدر نفقة اللقيط، وأمره بإنفاق ذلك عليه.. جاز.
وإن أقر الحاكم المال في يد الملتقط، وأمره أن ينفق منه قدر ما يحتاج إليه.. فقد قال الشافعي ها هنا وفي (الدعوى) : (يجوز) .
وقال في (اللقطة الكبير) من " الأم " (3/290) : (إذا وجد الرجل ضالة وأراد أن ينفق عليها من ماله على أن يرجع بذلك على صاحبها.. لم يجز، إلا أن يدفع ذلك إلى الحاكم حتى ينصب عدلًا، فيأمر الملتقط بدفع المال إليه، حتى يتولى الإنفاق) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يجوز أن يأذن له في الموضعين بالإنفاق، بل ينصب أمينًا يجعل المال في يده، ويعطيه قدر النفقة كل يوم؛ لأنه إذا أذن له في أن ينفق النفقة مما في يده.. صار قابضًا من نفسه ومقبضًا، وإنما يجوز ذلك في الأب والجد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا التعليل إنما يصح في الضالة، وفي اللقيط إذا لم يكن له مال فأقرضه الملتقط.
والقول الثاني: أنه يجوز أن يأذن له في الإنفاق، وهو الصحيح؛ لأن الملتقط أمين. فإذا أذن له في الإنفاق.. صار وليًا، وللولي أن ينفق على المولى عليه من ماله بإذن الحاكم، كالولي على اليتيم من قبل الحاكم والوصي. ولأنه لا خلاف أنه إذا أخذ المال من يده، جاز أن يدفع إليه كل يوم قدر النفقة ويتولى إنفاق ذلك عليه، فجاز إقرار المال بيده لينق منه قدر حاجته.
ومن أصحابنا من حملها على ظاهرهما فقال في اللقيط: يجوز، وقال في الضالة: لا يجوز.
والفرق بينهما: أن اللقيط مولى عليه بكل حال؛ لأنه إذا لم يكن له أب ولا جد.. فالحاكم وليه. وإذا كان له أحدهما.. قام الحاكم مقامه عند غيبته، وقد أذن له. وأما الضالة: فيجوز أن تكون لبالغ رشيد لا ولاية للحاكم عليه.(8/15)
إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: إنه ينصب أمينًا يدفع المال إليه ليعطيه النفقة.. قدر له الحاكم ما يعطيه كل يوم.
وإن قلنا: يأمره بالإنفاق.. فإنه ينفق ما يحتاج إليه في العرف. فإذا بلغ اللقيط واختلفا في قدر النفقة، فإن كان ما يدعيه الملتقط النفقة بالمعروف.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. وإن أدعى أكثر من النفقة بالمعروف.. لم يقبل قوله في الزيادة، ولزمه ضمان الزيادة. فإن لم يكن في البلد حاكم، فأنفق الملتقط من غير إشهاد ... ضمن. وإن أشهد، فهل يضمن؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأنه أنفق بغير إذن الحاكم، فضمن كما لو كان في البلد حاكم.
والثاني: أنه لا يضمن؛ لأنه موضع ضرورة، والإنفاق لا بد منه، إذ لو ترك من غير إنفاق.. مات.
وإن لم يكن للقيط مال.. أنفق عليه من بيت المال، لما روي (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في نفقة اللقيط.. فقالوا: ينفق عليه من بيت المال) ، ولأنه لو كان بالغًا معسرًا، كانت نفقته في بيت المال، فاللقيط بذلك أحق. وإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه شيء ولكن احتيج إليه لما هو أهم من ذلك.. فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، كما لو أضطر بالغ إلى الطعام، فإنه يجب على المسلمين بذل ما يحتاج إليه من الطعام، وهل يجب ذلك عليهم على وجه الإنفاق، أو على وجه القرض؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليهم ذلك على وجه الإنفاق بلا عوض؛ لأنه ضائع لا حيلة له، فوجب الإنفاق عليه بغير عوض، كالمجنون الذي لا يعقل ولا شيء له، فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، وكذلك يجب عليهم كفن ميت لا مال له.
والثاني: يجب عليهم ذلك، ويكون قرضًا لهم عليه، وهو المنصوص؛ لأنه نفقة لإحيائه، فلم يجب إلا بعوض، كالمضطر إلى الطعام. فإذا قلنا: يجب عليهم بغير عوض.. فإن ذلك يجب على من علم به. فإذا قام به بعضهم.. سقط الفرض عن(8/16)
الباقين. وإن تركوا الإنفاق عليه.. أثموا، وللإمام أن يقاتلهم عليه كما يقاتلهم على ترك صلاة الجنازة.
وإن قلنا: يجب عليهم، ويكون قرضًا لهم.. قيل للملقط: أتقرضه أنت؟ فإن قال: نعم.. جاز أن يقترض منه.
فإن قبض الحاكم منه المال، ثم دفعه إليه، أو إلى أمين لينفقه عليه.. جاز، وإن أمره الحاكم أن ينفق عليه قرضًا عليه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا أمره أن ينفق من مال اللقيط بيده.
وإن لم يجد مع الملتقط ما يقرضه.. اقترض له من غيره من المسلمين. فإن لم يقرضوه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحصى الحاكم أهل البلد وأحصى نفسه معهم وقسط نفقته عليهم بالحصص) . ثم ينظر: فإن حصل في بيت المال شيء قبل بلوغ اللقيط، أو قبل يساره.. قضى عنه ذلك من بيت المال؛ لأنه لو كان في بيت المال شيء، كانت نفقته منه. فوجب قضاء ما اقترض عليه منه. وإن حصل للطفل مال.. وجب قضاء ذلك منه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا لم يكن للقيط مال.. ففي نفقته قولان:
أحدهما: يجب في بيت المال.
فعلى هذا: لا يرجع بما ينفق عليه على أحد.
والثاني: لا يجب في بيت المال؛ لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره، واللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فتكون نفقته على سيده، أو حرا له مال، فنفقته في ماله، أو فقيرًا له من يلزمه نفقته.
فعلى هذا: يستقرض له الإمام نفقته من بيت المال، أو من رجل من المسلمين. فإن لم يكن يمكن ذلك.. جمع الإمام من له مكنة وعد نفسه فيهم، وقسط نفقته عليهم. فإن بان أنه عبد.. رجع على مولاه. وإن بان أن له أبًا موسرًا.. رجع عليه بما(8/17)
اقترض عليه. وإن كان له كسب.. قضى منه. وإن لم يكن له شيء من ذلك.. قضى من سهم من يرى الإمام من المساكين أو الغارمين.
[مسألة ثبوت الولاية على اللقيط]
) : إذا التقط اللقيط حر مسلم ثقة موسر مقيم.. أقر في يده؛ لأنه لا بد له أن يكون في يد من يكفله، فكان الملتقط أحق.
وإن التقطه عبد.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يقدر على حضانته مع خدمة سيده. فإن علم به السيد وأقره في يده.. جاز وكان السيد هو الملتقط، كما قلنا في العبد إذا التقط لقطة وعلم بها السيد وأقرها في يده.
وإن التقطه كافر، فإن كان اللقيط محكومًا بإسلامه.. لم نقره في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والكافر ليس من أهل الولاية على المسلم، ولأنه ربما فتنه عن دينه.
وإن كان اللقيط محكومًا بكفره.. أقر في يده؛ لأن الكافر يلي على من هو من أهل دينه.
وإن التقطه فاسق.. لم يقر في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والفاسق ليس من أهل الولاية، ولأنه لا يؤمن أن يسترقه.
وإن التقطه معسر. ففيه وجهان.
(أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يقر في يده؛ لأن نفقته لا تجب على الملتقط، ولأن حضانة اللقيط ولاية، والمعسر من أهل الولاية.
والثاني: قال أبو إسحاق: لا يقر بيده؛ لأنه قد يريد التبرع بالإنفاق عليه، فلا يمكنه ذلك مع الإعسار.
وإن وجد اللقيط في مصر أو قرية: فإن وجده من يصلح للحضانة من أهل المصر والقرية، ويريد الإقامة فيه.. أقر في يده. وإن وجده من هو على الخروج منها إلى غيرها.. نظرت: فإن كان يريد الانتقال إلى بادية.. لم يقر في يده لثلاثة معان:(8/18)
أحدها: أن تركه في الموضع الذي وجده فيه أرجى لظهور نسبه من الموضع الذي ينقله إليه.
والثاني: أن الحضر أوفق للقيط، وأحظ له؛ لأنه يوجد في الحضر ما يحتاج إليه لتربية الطفل، ولا يوجد ذلك في البادية.
والثالث: أن تركه في الحضر أظهر لحريته؛ لأنه إذا أقام به في المصر.. علم الناس به. وإذا خرج به إلى البادية. لا يؤمن أن يسترقه الملتقط، أو يموت فيسترقه وارثه.
وإن أراد الملتقط أن ينتقل به إلى مصر أو قرية مثل الموضع الذي وجده فيه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه ينقله إلى مثل الموضع الذي وجده فيه.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز، لما ذكرناه إذا أراد الانتقال به إلى البادية.
وإذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أراد الذي التقطه الظعن به، فإن كان يؤمن أن يسترقه. فذلك له، وإلا.. منعه) .
قال أصحابنا: أراد بهذا: أن الرجل إذا التقط لقيطا، وثبتت ولايته عليه بكونه أمينًا، ثم أراد بعد ذلك أن يظعن من ذلك البلد، وينتقل إلى بلد أخر، أو قرية أخرى، وينقل اللقيط معه. فإن كان يؤمن أن يسترقه، بأن يكون قد عرفت أمانته، وخبر في الظاهر والباطن.. فله أن ينقله مع؛ لأنه قد ثبت له حق الولاية والتربية، فكان أولى من غيره لثبوت يده عليه وولايته. وإن لم يؤمن أن يسترقه، مثل أن لم تختبر أمانته في الظاهر والباطن.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه.
فإن قيل: هذا مناقضة على قول الشافعي؛ لأن اللقيط لا يقر إلا في يد أمين، فكيف قال ها هنا: (إذا أراد أن يظعن به - إن كان يؤمن أن يسترقه - ترك، وإلا منع) ؟(8/19)
فالجواب: أن الملتقط إذا لم يكن فاسقًا، وهو أمين في الظاهر دون الباطن، بأن يكون غريبًا دخل البلد، ولم تختبر أمانته في الباطن، فإن اللقيط يقر بيده؛ لأنه عدل في الظاهر، فهذا لا يمكن من الانتقال به وإن أقر بيده في البلد.
وأما الأمين الذي عرفت أمانته في الظاهر والباطن، بأن كان قد نشأ في البلد، وعرفت أمانته ظاهرًا وباطنًا.. فهذا يقر اللقيط بيده، ويمكن من الانتقال به بعد ثبوت ولايته عليه.
وأما إذا وجدا اللقيط في البادية، فإن كان الواجد له من مصر أو قرية بقرب تلك البادية، وأراد حمله معه إلى المصر أو القرية.. أقر بيده؛ لأن ذلك أحظ له من البادية.
وإن كان الواجد له بدويًا، فإن كان مقيمًا في الموضع الذي وجده فيه.. أقر بيده؛ لأن ذلك أرجى لظهور نسبه، وإن كان ينتقل في طلب الماء والكلأ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقر بيده؛ لأنه هو الواجد له، وهو من أهل الولاية.
والثاني: لا يقر في يده؛ لأن على اللقيط مشقة في التنقل.
[مسألة تنازع واجدان حضانة لقيط]
) : إذا وجد اثنان لقيطًا، وتنازعا في حضانته وهما من أهل الحضانة: فإن كان ذلك قبل أن يأخذاه.. أخذه الحاكم، وأقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا حق لهما قبل أن يأخذاه. وإن التقطاه وتشاحا في حضانته.. أقرع الحاكم بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان أحق به.
وقال أبو علي بن خيران: يقره الحاكم بيد من يرى منهما من غير قرعة. والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] [آل عمران: 44] ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما؛ لأنه لا يمكن اجتماعهما على حضانته. ولا يمكن أن يجعل بينهما فيكون عند أحدهما زمانًا، وعند الآخر مثله؛ لأن في ذلك إضرارًا باللقيط؛ لأن الأغذية تختلف عليه، ويستوحش بمفارقة من أنس إليه. ولا(8/20)
يمكن أن يقدم أحدهما على الآخر؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا أن يقرع بينهما.
قال الشافعي في " الأم ": (ولا فرق بين أن يكونا رجلين أو امرأتين، أو رجلًا وامرأة؛ لأنهما من أهل الحضانة والتربية) .
فإن قيل: أليس لو افترق الزوجان، ولهما ولد له دون سبع سنين، فإن الأم أولى بحضانة الولد، فهلا قلتم: إن المرأة ها هنا أولى بالحضانة؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الولد هناك خلق من ماء الزوجين، وللأم مزية بحمله ورضاعه، وشفقتها عليه أكثر، فلذلك قدمت على الأب. وها هنا إنما ثبت لهما الحق بالالتقاط، وهما متساويان فيه، فلم يقدم أحدهما على الآخر، ولأنا إذا جعلنا الحضانة للأم.. فإن حق الأب لا ينقطع منه؛ لأن التأديب والتعليم إليه، وذلك جمع بين الحقين، وليس كذلك ها هنا، فإنا إذا جعلنا الحضانة للمرأة.. انقطع حق الرجل عنه.
[فرع تنازل أحد الواجدين عن الحضانة للآخر]
) : فإن التقطه اثنان، وترك أحدهما حقه من الحضانة للآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقره في يد الآخر؛ لأن الملتقط إنما يملك الحضانة ولا يملك نقل الولاية إلى غيره.
والثاني: يقر في يد الآخر من غير إذن الحاكم، وهو المذهب؛ لأن الحق لهما، فإذا ترك أحدهما حقه ثبت الجميع للآخر، كما لو ثبت لهما الشفعة فعفا أحدهما عن حقه.. وليس ذلك بنقل ولاية وإنما ترك حق.
وإن تنازعا حضانته وأحدهما من أهل الحضانة، والآخر ليس من أهل الحضانة.. أقر في يد من هو من أهل الحضانة؛ لأنه لا حق للآخر في حضانته.(8/21)
[مسألة ادعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا]
إذا تداعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا.. فقال كل واحد منهما: أنا التقطه، فلي حق حضانته، فإن لم يكن لأحدهما عليه يد.. فإن الحاكم يأخذه ويقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما عليه. وإن كان في يد أحدهما ... كان صاحب اليد أحق به؛ لأن له يدًا تدل على الالتقاط. فإن قال الآخر: أنا التقطته أولًا، وإنما غصبه الآخر مني.. فالقول قول صاحب اليد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الغصب. وإن كان في يديهما:
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يتحالفان. فإن حلفا أو نكلا.. أقرع بينهما. وهذا أولى؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه هو الملتقط أولًا، وأن الآخر أدخل يده معه، فتحالفا كالمختلفين في الملك. فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي به للحالف.
وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضى لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة: فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخًا واحدًا، أو مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. تعارضتا، وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان. فيكون الحكم كما لو لم يكن مع أحدهما بينة.
والثاني: يستعملان. وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يقسم بينهما.
والثاني: يوقف الأمر حتى ينكشف.(8/22)
والثالث: يقرع بينهما
ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن ذلك يضر باللقيط. ولكن يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.
وإن كانتا مؤرختين، وتاريخ إحداهما أسبق من الأخرى. قدمت السابقة بالتأريخ؛ لأنه ثبت أنه سابق. ويفارق إذا ادعيا ملك عين، وأقام كل واحد منهما بينة، وتاريخ إحداهما أسبق، فإنهما سواء في أحد القولين؛ لأن الملك قد ينتقل عن الأسبق إلى الأحدث. والملتقط إذا ثبتت يده على اللقيط.. لم ينتزعه من يده إلا الحاكم - إذا تغير حاله - ويقره في يد آخر، وذلك ليس بالتقاط.
إذا ثبت هذا: فإن البينة التي تقبل في الالتقاط عند التداعي إنما هي شاهدان.
فأما الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين، أو النساء منفردات.. فإنها لا تقبل؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال. وهو مما يطلع عليه الرجال، فلم يقبل فيه إلا الشاهدان، كالوصية إليه.
[مسألة ادعى الملتقط ابنًا فيلحقه]
) : وإذا التقط رجل لقيطًا، ثم قال الملتقط: هو ابني.. فإنه يلحقه نسبه، ويكون ابنًا له.
وحكي عن مالك: أنه قال: (إن كان قد تعسر عليه الولد.. لم يثبت نسبه منه. وإن لم يتعسر عليه الولد.. ثبت نسبه منه) .
دليلنا: أنه أقر بنسب مجهول النسب، ويمكن أن يكون منه، وليس في(8/23)
إقراره إضرار بغيره، فقبل، كما لو أقر له بمال، أو كما لو لم يتعسر عليه الولد.
فقولنا: (أقر بنسب مجهول النسب) احتراز ممن أقر بنسب معلوم النسب من غيره.
وقولنا: (ويمكن أن يكون منه) احتراز ممن أقر ببنوة من هو أكبر منه سنًا، فإنه لا يقبل؛ لأنه يقطع بكذبه.
وقولنا: (وليس في إقراره إضرار بغيره) احتراز ممن أقر ببنوة عبد لغيره، فإنه لا يقبل؛ لأنه يضر بالمولى؛ لأنه قد يعتقه فيكون ميراثه للأب دون المولى.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (المستحب للحاكم أن يسأل الملتقط من أين صار ابنه، لئلا يكون ممن يعتقد أنه يكون ابنًا له بالالتقاط والتربية. وإن لم يسأله.. جاز) .
وإن أدعى غير الملتقط بنوة اللقيط.. لحقه نسبه، وصار ابنًا له، للمعنى الذي ذكرناه في الملتقط. ويدفع إلى الأب؛ لأنه أحق بحضانته من غيره.
[فرع ادعاء المسلم وغيره نسب لقيط]
) : قال الشافعي: (ودعوة المسلم والعبد والذمي سواء. غير أن الذمي إذا ادعاه، ووجده في دار الإسلام، فألحقته به.. أحببت أن أجعله مسلمًا) .
وجملة ذلك: أن الدعوة - بكسر الدال-: ادعاء النسب، وبضمها: الطعام الذي يدعى إليه الناس، وبفتحها: مصدر دعا يدعو دعوة.
إذا ثبت هذا: فإن الحر المسلم إذا أدعى نسب لقيط.. فإنه يقبل، ويثبت نسبه منه، لما ذكرناه، ويلحقه في الإسلام؛ لأنه صار ابنًا له.
وأما العبد إذا أدعى بنوة لقيط.. فقد نص الشافعي ها هنا: (أنه يقبل) . قال المسعودي (في " الإبانة " ق\366) : ونص في موضع آخر: (أنه لا يقبل) .
واختلف أصحابنا فيه:(8/24)
فمنهم من قال: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه؛ لأن العبد كالحر في جهات استحقاق النسب من الوطء بالنكاح وبالشبهة.. فكان كالحر في دعوة النسب.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه، لما ذكرناه.
والثاني: لا تقبل دعوته؛ لأن في ذلك إبطال حق السيد من الولاء عليه؛ لأنه قد يعتقه ويموت، فيكون ميراثه لابنه.
ومنهم من قال: لا تقبل دعوته قولًا واحدًا، لما ذكرناه.
والطريق الأول هو نقل البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور.
فعلى هذا: لا يسلم اللقيط إلى أبيه؛ لأنه مشغول بخدمة سيدة، ولا تجب عليه نفقته؛ لأنه مملوك، ولا تجب على سيده لأن الولد حر، فلم تجب على مولى العبد نفقته.
وإن أدعى كافر بنوة اللقيط، قبلت دعوته، وثبت نسبه منه؛ لأنه كالمسلم في الجهات التي يثبت منها النسب، من الوطء بالنكاح في الملك والشبهة.. فكان كالمسلم في لحوق النسب به، وهل يلحق به في الدين؟
قال الشافعي ها هنا: (أحببت أن أجعله مسلمًا) فظاهر هذا: أنه يكون كافرًا. وقال في (الدعوى والبينات) : (أجعله مسلمًا) . فظاهر هذا: أنه لا يكون كافرًا.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث جعله كافرًا.. أراد: إذا أدعى نسبه وأقام على ذلك بينة؛ لأنه إذا ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر.. كان مولودًا بين كافرين، فكان كافرًا.
والموضع الذي جعله مسلمًا.. أراد: إذا أدعى بنوته ولم يقم بينة. فإنه يلحقه نسبه، ولا يكون كافرًا؛ لأنا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار.. فلا نحكم بكفره بقول كافر.(8/25)
ومن أصحابنا من قال: إذا ادعاه وأقام البينة. حكم بكفره قولًا واحدًا، كما قال أبو إسحاق. وإن لم يقم البينة.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم بكفره؛ لأن كل ما ألحقه بنسبه، ألحقه بدينه، كالبينة.
والثاني: لا يحكم بكفره؛ لأن إقراره تضمن ما ينفع اللقيط وهو: وجوب نفقته وحضانته عليه، وما يضره وهو: كونه كافرًا، فقبل قوله فيما ينفع اللقيط دون ما يضره. ولأنه يجوز أن يكون ولده وهو مسلم بإسلام أمه، وإذا احتمل هذا. لم يحكم بكفر من حكم بإسلامه بظاهر الدار بقول كافر.
والصحيح: طريقة أبي إسحاق، وقد نص الشافعي عليها في " الإملاء ". فكل موضع حكمنا بكفره، فإن الشافعي قال: (أحببت أن أجعله مسلمًا) . قال أصحابنا: أراد: أن المستحب أن لا يدفع إليه، لئلا يفتنه عن الإسلام إن أراده، بل يترك في يد الملتقط، ويؤخذ الكافر بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. وإن وصف الإسلام.. حكمنا بإسلامه من الآن. وإن وصف الكفر.. فهو كافر لم يزل، ودفعناه إلى أبيه.
وكل موضع حكمنا بإسلامه.. فلا يجوز دفعه إلى أبيه، بل يقر في يد الملتقط ويطالب أبوه بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. فإن وصف الإسلام.. حكمنا بأنه مسلم لم يزل. وإن وصف الكفر.. فهل يقر عليه؟ يأتي بيانه.
[مسألة دعوة المرأة]
قال الشافعي: (ولا دعوة للمرأة إلا ببينة) .
وجملة ذلك: أن المرأة إذا ادعت بنوة اللقيط.. هل تقبل دعوتها من غير بينة؟ أختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أقوال:
فـ (الأول) : منهم من قال: لا تقبل دعوتها. وهو المذهب؛ لأن الأم يمكنها(8/26)
إقامة البينة على أن الولد منها قطعًا، فلم يقبل قولها بمجرد الدعوى، والأب لا يمكنه إقامة البينة على أن الولد منه قطعًا، فلذلك قبلنا قوله، كما نقول فيمن علق طلاق امرأته على ولادتها، أو على دخول الدار، فإنه لا يقبل قولها على الولادة والدخول إلا ببينة. ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها فيه من غير بينة.
والثاني: منهم من قال: تقبل دعوتها بكل حال؛ لأنها أحد الأبوين.. فقبل قولها في إلحاق النسب بها، كالأب. ولأن المرأة كالرجل في الجهات التي يلحق منها النسب، وتزيد عليه في أنها يلحقها ولدها الذي زنت به. فإذا لحق الرجل النسب بالإقرار.. فالمرأة بذلك أولى.
فعلى هذا: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحق الولد بالزوج ولا بالسيد؛ لأنا إنما ألحقناه بها لإقرارها. ولم يوجد من الرجل إقرار. وإن كانت مملوكة.. لم يحكم برقه؛ لأنا نقبل قولها فيما يضره.
والثالث: منهم من قال: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحقها النسب؛ لأن ذلك يتضمن إلحاق النسب بغيرها من غير رضاه. وإن كانت خالية من الفراش.. لحقها النسب؛ لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها.
[مسألة ادعيا بنوة لقيط]
إذا ادعى رجلان بنوة لقيط.. لم يلحق بهما. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يلحق بهما) .
وقال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة: يجوز أن يلحق الولد بمائة أب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] (الحجرات: 13) .
إذا ثبت هذا: نظرت في المتداعيين: فإن جاءا معًا وادعيا نسبه، ولا بينة مع أحدهما.. فإنه يعرض على القافة. فإن ألحقته بأحدهما.. لحق به. وبه قال علي(8/27)
وأنس، وإحدى الروايتين عن عمر. وبه قال عطاء والأوزاعي ومالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا أريه القافة، وألحقه بهما) .
دليلنا: ما روى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عروة «عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرف السرور في وجهه، فقال: " أي عائشة: ألم تري إلى مجزز المدلجي: نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة، وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» . ولو لم يكن ذلك حقًا وصوابًا.. لما سر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعا قائفًا في رجلين تداعيًا ولدًا، فقال: لقد اشتركا فيه، فقال: وال أيهما شئت) .(8/28)
وإن سبق أحدهم بالدعوى، أو ادعياه معًا، وكان في يد أحدهما.. فهل يقدم السابق بالدعوى أو صاحب اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان:
أحدهما: يقدم السابق بالدعوى، وصاحب اليد لا مزية له بذلك.
فعلى هذا: لو كان في يد أحدهما، فسبق أحدهما بدعواه، ثم ادعاه صاحب اليد.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه حكم بثبوت نسبه من الأول.
والوجه الثاني: أنه لا يقدم السابق بالدعوى ولا صاحب اليد. بل يعرض على القافة، وهو المنصوص؛ لأن ولد الإنسان قد يكون في يد غيره. ولأن اليد إنما تدل على الملك لا على النسب. وأما السبق بالدعوى: فإنه إذا لم يقدم به في الملك.. ففي النسب أولى. فإن علم أن أحدهما قد سبق بالدعوى وأشكل عليه، وقلنا: يقدم السابق بالدعوى.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان:
أحدهما: يكون كما لو ادعياه معًا. فيعرض على القافة؛ لأنه لم يثبت السابق.
والثاني: لا يعرض على القافة، بل يوقف أبدًا؛ لأنه يرجى معرفة السابق بقيام البينة.
[فرع ادعيا نسبًا له فترجحه القافة]
) : إذا ادعى رجل نسب لقيط.. لحق به. فلو جاء آخر بعده وادعى نسبه ولا بينة. وقلنا: لا يقدم السابق بالدعوى.. فإنه يعرض على القافة، وفي كيفية عرضه على القافة وجهان:(8/29)
أحدهما- وهو المشهور -: أنه يعرض مع الثاني وحده، فإن لم تلحقه بالثاني، أو نفته عنه.. لحق بالأول بدعوته الأولى. وإن ألحقته بالثاني.. عرض أيضًا مع الأول، فإن لم تلحقه بالأول، أو نفته عنه.. لحق بالثاني وانتزع من يد الأول. وإن ألحقته بالأول.. لم يثبت نسبه من أحدهما، وترك حتى يبلغ، وينتسب إلى أحدهما.
وحكى ابن سريج عن بعض أصحابنا: أنه يلحق بهما. وليس بشيء.
والوجه الثاني: أن الولد يعرض مع الأول والثاني معًا؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أبًا، والأول أصح؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بدعوته السابقة.
وأما إذا جاءا معًا وادعيا نسبه: فإنه يعرض معهما على القافة؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإن أحقته بأحدهما.. لحق به، وانتفى عن الآخر. وإن ألحقته بهما.. لم يلحق بهما، وترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما.
وقال بعض أصحابنا: يلحق بهما، وهو قول أحمد، وليس بشيء؛ لما ذكرناه من حديث عمر؛ لأنه لا يجوز أن يكون ابنهما. وهكذا إن نفته القافة عنهما، أو لم يكن هناك قافة، أو كانت وأشكل عليها الأمر.. فإنه يترك حتى يبلغ، أو يقال له: انتسب إلى من يميل إليه طبعك، لحديث عمر، ولأن الولد يميل طبعه إلى من هو منه.
فإن انتسب إلى أحدهما، ثم قال بعد ذلك: أخطأت، وإنما أنا ابن الآخر.. لم يقبل قوله. وهكذا لو ألحقته القافة بأحدهما، ثم قالت: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قولها؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بقولها، فلا يسقط بقولها، كما لو ادعى رجلان عينًا، فشهد لأحدهما بها شاهدان، وحكم بشهادتهما، ثم قالا: أخطأنا، وإنما هي ملك الآخر.. فإنه لا يحكم بها للثاني.
وهل يصح أن ينتسب إلى أحدهما إذا صار مميزا قبل أن يبلغ؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح، كما يصح أن يختار الولد الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزًا، وإن لم يبلغ.(8/30)
والثاني: لا يصح؛ لأن قوله يثبت به النسب وتلزم به الأحكام، فلم يصح من الصبي بخلاف الكون مع أحد الأبوين.. فإنه غير لازم. وأما إذا كان هناك بينة، فإن كانت مع أحدهما دون الآخر.. حكم لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى، كما قلنا في الملك. وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. تعارضتا. وفي البينتين إذا تعارضتا قولان:
أحدهما: أنهما تسقطان. وهو الصحيح.
فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن هناك بينة، فيعرض على القافة.
والثاني: أنهما تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة. ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن القسمة لا تمكن، والوقف يضر باللقيط. وهل تجيء ها هنا القرعة؟ فيه وجهان:
(الوجه الأول) : قال الشيخ أبو حامد: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالنسب، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان يأتي بيانهما.
و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لا يقرع بينهما؛ لأن القرعة لا مدخل لها في النسب، وإنما يعرض على القافة. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس.
فإن ادعى الملتقط نسب اللقيط.. ثبت نسبه منه. فإن جاء آخر وادعى أنه ابنه، فإن أقام الثاني بينة، ولا بينة مع الملتقط.. لحق النسب بالثاني؛ لأن البينة أقوى من الدعوى واليد. وإن أقام الأول بينة أيضًا.. تعارضت البينتان، وكان الحكم فيه ما مضى في تعارض البينتين.
فإن قيل: هلا قدمتم بينة الملتقط كما قدمتم بينة صاحب اليد في الملك؟
قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن اليد لا تدل على الأنساب، وإنما تدل على الأملاك، ولأن الملك قد يحصل باليد- وهو: الاصطياد والاغتنام- والنسب لا يحصل باليد بحال.(8/31)
[فرع ذكر علامة من أحدهما لا تقدمه]
) : وإن ادعى رجلان نسب لقيط، وذكر أحدهما في اللقيط علامة، من خال في بدنه، أو شامة، وما أشبه ذلك، ولم يذكر الآخر ذلك.. لم يقدم الواصف له بذلك.
وقال أبو حنيفة: (يقدم الواصف له بذلك) .
دليلنا: أن معرفة العلامة هو وصف للمدعى، والمدعي لا يقدم بوصف ما ادعاه، كما لو ادعيا ملك عين ووصفها أحدهما.
وإن ادعى حر وعبد نسب لقيط، أو مسلم وكافر.. لم يقدم أحدهما على الآخر.
وقال أبو حنيفة: (يقدم الحر على العبد، والمسلم على الكافر) .
ودليلنا: أن كل واحد منهما لو انفرد بالدعوى.. قبلت دعواه، فإذا اجتمعا.. تساويا، كالحرين المسلمين.
[فرع ادعتا ولادة لقيط]
) : وإن ادعت امرأتان ولادة لقيط، ولا بينة لواحدة منهما:
فإن قلنا: لا تقبل دعوى المرأة في النسب بكل حال.. لم تقبل دعوى واحدة منهما.
فإن قلنا: تقبل دعوتها إذا لم تكن فراشًا، ولا تقبل إذا كانت فراشًا، فإن كانتا(8/32)
فراشين لرجلين.. لم تقبل دعوتهما. وإن كانت إحداهما فراشًا دون الأخرى.. قدمت دعوة من ليست بفراش.
وإن كانتا ليستا بفراش، أو قلنا: تقبل دعوة المرأة بكل حال.. فهل تعرضان على القافة مع الولد؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يعرضان؛ لأن الأم يمكن معرفتها يقينًا من طريق المشاهدة، فلم يرجع فيه إلى القافة.
والثاني: أنهما تعرضان مع الولد على القافة، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنهما أحد الأبوين، فعرضتا مع الولد على القافة، كالرجلين.
وإن أقامت إحداهما بينة بالولادة: رجلين، أو رجلًا وامرأتين، أو أربع نسوة.. حكم بثبوت النسب منها؛ لأن البينة أقوى من الدعوى. فإن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لحق به الولد؛ لأن البينة قد شهدت بولادتها له، فلحق صاحب الفراش، ويخالف إذا ألحقناه بها بإقرارها؛ لأنا لا نلحقه بغير المقر.
وإن أقامت كل واحدة منهما بينة بالولادة، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم تكن بينة، وقد مضى. وإن قلنا: تستعملان.. فلا يجيء الوقف ولا القسمة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: ولا تجيء ها هنا القرعة؛ لأن معنا ما هو أقوى من القرعة، وهو القافة، فنعرضه عليها، فإن ألحقته بإحداهما.. قوينا بينتها بذلك، وألحقناه بها وبزوجها، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ألحقته القافة بها، أو نفته(8/33)
عنهما، أو أشكل عليها الأمر، أو لم يكن قافة.. ترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى إحداهما، وتكون نفقته عليهما.
فإذا انتسب إلى إحداهما. رجحنا به بينتها، ولحقها ولحق زوجها، وانتفى عنه باللعان.
فإن ماتت إحدى المرأتين، أو مات زوجها قبل بلوغ اللقيط.. عزل من ميراث الميت ميراث ابن. فإن بلغ وانتسب إلى الميتة.. أخذ ما عزل له من ميراثها، أو من ميراث زوجها.
وإن انتسب إلى الحية.. رد المعزول على ورثة الميتة.
[فرع ادعاء رجل وامرأة لقيطًا]
) : ذكر الطبري: إذا اجتمع رجل وامرأة، وللرجل زوجة غير هذه المرأة، وللمرأة زوج غير هذا الرجل. فادعى كل واحد منهما بنوة اللقيط، وأقام كل واحد منهما بينة.. قال أبو العباس بن سريج: ففيه أربعة أقوال.
أحدها: أن بينة الرجل أولى؛ لأنا لو ألحقناه بالمرأة.. لالتحق بزوجها من غير أن يدعيه.
والثاني: أن بينة المرأة أولى؛ لأن خروج الولد منها يعرف بالمشاهدة والقطع، وخروج الولد من الزوج لا يعلم إلا بغلبة الظن.
والثالث: أنهما يتعارضان؛ لأنه ليس إحداهما بأولى من الأخرى.
والرابع: أنه يعرض معهما على القافة.
[مسألة اشتركا بوطء وجاء ولد]
إذا اشترك رجلان في وطء امرأة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وادعى أحدهما أنه ابنه وصادقه الآخر.. ففيه قولان حكاهما الطبري:(8/34)
أحدهما: أنه يحكم بأنه ابن للمدعي، كما لو كان في يدهما عين فادعى أحدهما ملكها، وصادقه الآخر.
والثاني: أنه لا ينتفي عن الآخر بالمصادقة؛ لأنه قد وجد منه الوطء، ويجوز أن يكون ابنه.. فلا ينتفي عنه بالإنكار، كما لو وطئ امرأة وانفرد بوطئها، فأتت بولد يمكن أن يكون منه، وتصادق الرجل والمرأة أنه ليس بابنه. فعلى هذا: يعرض معهما على القافة.
[مسألة اعتبار قول قائف]
وهل يصح أن يحكم بقول قائف واحد؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي وحده. ولأنه مجتهد.. فقبل فيه قول الواحد، كالقاضي.
والثاني: لا يصح إلا بقول اثنين؛ لأنه حكم بالشبه في الخلقة.. فلم يقبل إلا من اثنين، كالحكم في المثل في جزاء الصيد.
وهل يصح أن يكون القائف امرأة؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يصح؛ لأن القائف يجري مجرى الحاكم، والمرأة لا يصح أن تكون حاكما.
والثاني: يصح؛ لأن قول القائف يجري مجرى الشهادة، وقول المرأة يقبل في النسب وهو الشهادة.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن شهادتها لا تقبل في النسب، وإنما تقبل في الولادة.(8/35)
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : وهل يصح أن يكون القائف عبدا؟ فيه قولان بناء على أن القيافة حكم أو شهادة، فإن قلنا: حكم.. لم يصح. وإن قلنا: شهادة.. صح. قلت: هذا ضعيف؛ لأن العبد لا يصح أن يكون شاهدًا بحال.
وهل يصح أن يكون القائف من غير بني مدلج؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح، لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي» . ولأن القيافة في طباع بني مدلج من كنانة، فلم يصح من غيرهم.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه علم يتعلم ويتعاطى فلم تختص به قبيلة بعينها، كالعلم بالأحكام.
وأما الخبر: فلا يدل على أنه يختص ببني مدلج، ولو كان كذلك، لاختصت القيافة بمجزز المدلجي وحده: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقوله.
[فرع عدالة القائف]
ولا يحكم بقول القائف حتى يكون عدلا؛ لأن الحكم والشهادة لا تصح إلا من عدل. ولا يصح الحكم بقوله حتى يكون حاذقًا في القيافة، مجربًا، كما لا يقبل الحكم إلا ممن عرف حذقه في الحكم.
قال البغداديون من أصحابنا: ومعرفة حذقه في ذلك: بأن يرى صبيًا ثابت النسب من رجل بعينه، لا يعرف القائف أباه، مع جماعة ليس فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإن قال: ليس فيهم أبوه.. أري الصبي مع جماعة رجال فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإذا أخبرنا بأبيه منهم.. علم صدقه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : معرفة حذقه: بأن يؤتى بالولد ونسوة(8/36)
فيهن أمه فيقال: أيتهن أمه منهن؟ فإن أصابها.. علم صدقه؛ لأن كون الولد منها معلوم قطعا، بخلاف الأب.
قال المحاملي: وأصحابنا أطلقوا ذلك، ولم يذكروا تكرر ذلك منه.
والأشبه بالمذهب: أنه يحتاج إلى أن يتكرر ذلك منه ثلاث مرات؛ لأنه قد يتفق منه ذلك مرة أو مرتين. فإذا تكرر منه ثلاث مرات.. علم أنه من أهل الصنعة بذلك.
[فرع كيف يلحق القائف]
؟) : والأشباه التي يلحق بها القائف نوعان: ظاهرة وخفية:
فـ (الظاهرة) : كالسواد والبياض وما أشبههما مما يشترك في معرفتها الخاص والعام.
و (الخفية) : هي الشبه بالأطراف، كالأيدي والأرجل. فهذا يختص بمعرفته القافة.
فإن تنازع رجلان في نسب صبي، وكان يشبه أحدهما بالأشباه الظاهرة، ويشبه الآخر بالأشباه الخفية.. ففيه قولان:
أحدهما: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الظاهرة؛ لأن الأشباه الظاهرة كالنص، والأشباه الخفية كالقياس، والنص مقدم على القياس.
والثاني: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الخفية؛ لأن الأشباه الظاهرة كالعموم والخفية كالخاص، والخاص مقدم على العموم. ولأن الظاهرة معرفة العامة، والخفية معرفة الخاصة، والخاصة مقدمة على العامة.(8/37)
[فرع اختلف قول القافة]
فإن ألحقته القافة بأحدهما، ثم جاء الآخر بقافة أخرى وألحقته بالثاني.. لم يلحق بالثاني؛ لأن القائف كالحاكم، ولو حكم حاكم بعين لرجل.. لم يحكم بها لآخر بحكم حاكم آخر.
وهكذا: لو قال القائف - بعد أن ألحقه بأحدهما -: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قوله، كما لو حكم الحاكم بعين لرجل، ثم تغير اجتهاده.. فإنه لا ينقض.
[فرع عرض الميت على القافة]
وإن مات الولد قبل أن يعرض على القافة.. فهل يعرض قبل الدفن؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعرض؛ لأن التمييز قد يقع بالأشباه الغامضة، وذلك ينقطع بالموت، وإنما تبقى الأشباه الظاهرة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو المشهور -: أنه يعرض؛ لأن إلحاقه بالشبه، وذلك ممكن بعد الموت.
فإن قلنا: لا يجوز أن يعرض الميت، أو كان قد دفن وتغير، وله ولد.. فإنه يعرض على القافة، ويقوم مقامه في الانتساب.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\366] : وإن ألقت سقطًا، فإن كان قد تخطط.. فإنه يرى القافة، وإن لم يتخطط لم يرى القافة
وإن مات الأبوان أو أحدهما، وقلنا: لا يجوز عرض الميت، أو كانا قد دفنا.. قال ابن اللبان: فإن عصبة الميت وقرابته تعرض على القافة، مثل أبي الميت وإخوته وأخواته وأعمامه وعماته وسائر أولاد آباء الميت الذكور والإناث، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعل عرقا نزعه» .(8/38)
[فرع ادعاء غائب نسب مجهول]
إذا قدم رجل من أرض الأعاجم كالترك والهند، فادعى نسب رجل مجهول النسب، وصادقه المجهول - إن كان بالغا عاقلًا -، فإن كان لم يثبت على المجهول ولاء لغيره.. قبلت دعواه، وثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر على أحد في ذلك: وإن كان قد ثبت عليه ولاء، بأن كان قد سباه رجل وأعتقه، أو كان قد اشترى رجل عبدًا مجهول النسب فأعتقه، وأقر آخر بنسبه.. نظرت في المقر:
فإن ادعى أنه أخوه أو عمه أو ابن عمه أو ما أشبه ذلك.. لم تقبل دعواه؛ لأنه يسقط بذلك ولاء معتقه منه وإرثه.
وإن ادعى أنه ابنه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تقبل دعوة المقر؛ لأنه يسقط بذلك ولاء مولاه.
والثاني: تقبل دعوته، ويثبت نسبه منه، ويقدم على المولى.
والفصل بين الولد وغيره من القرابات: أنه غير مضطر إلى الإقرار بالأخ والعم وغيرهما من القرابات؛ لأنه إذا لم يقر به.. أقر به غيره. أما أبوه أو أخوه: فلم يقبل إقراره فيه، وهو مضطر إلى الإقرار بالولد؛ لأنه لا يثبت نسبه إلا من جهته.(8/39)
[مسألة ادعاء رجل أن الملتقط عبده]
] : إذا ادعى رجل أن اللقيط عبده.. سمعت دعواه سواء ادعاء الملتقط أو غيره؛ لأن ما يدعيه ممكن، وذلك أنه يحتمل أنه ولد أمته من زواج أو زنا، فإن قيل: إن الملتقط قد اعترف بأنه التقطه، فكيف سمعت دعواه أنه عبده؟ قيل بالجواب: إن اعترافه أنه التقطه لا يمنع من قبول دعواه بعد ذلك أنه عبده؛ لأن أمته قد تلده من زواج أو زنا، فترمي به، ولا يعلم به، فيلتقطه، ثم يعلم بعد ذلك أنه ابن أمته.
إذا ثبت أن دعواه تسمع.. فإنه لا يحكم له برقه إلا بعد أن يقيم البينة؛ لأن الظاهر حريته. فإذا أقام المدعي البينة: فلا يخلو: إما أن يقيم البينة على الولادة، أو على الملك، أو على اليد.
فإن أقام البينة على الولادة.. قبل فيه شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو أربع نسوة، فإن قالت البينة: نشهد أن أمة هذا ولدته في ملكه. حكم له برقه؛ لأن ما تلده أمته في ملكه.. يكون مملوكًا له ولا يلحقه نسبه؛ لأنها ليست بفراش له، وإن قالت البينة: نشهد أن هذا ولد أمته.. فقد قال الشافعي في (اللقيط) : (يحكم له بملكه في هذه الشهادة) وقال في (الدعوى والبينات) : (إذا شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه.. حكمت له برقه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يحكم له برقه قولًا واحدًا، وإن لم يقولوا ولدته في ملكه؛ لأنهم قد شهدوا أن أمته ولدته. والظاهر أنها ولدته في ملكه، وما ذكره في (الدعوى والبينات) إنما ذكره تأكيدًا لا شرطًا.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يحكم له برقه، لما ذكرناه.
والثاني: لا يحكم له برقه؛ لأنها قد تلده قبل أن يملكها، فيكون ابن أمته ولا يكون مملوكًا له.(8/40)
وأما إذا شهد له بالملك شاهدان، فإن قالا: نشهد أن هذا ملكه أو عبده اشتراه أو اتهبه من مالكه أو ورثه.. حكم له بالملك. وإن قالا: ملكه أو عبده، ولم يذكرا سبب الملك.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم له بملكه؛ لأنهما قد شهدا له بالملك، فهو كما لو ادعى على رجل عينًا في يده، فشهدت له البينة بملكها.
والثاني: لا يحكم له بملكه؛ لأنهم قد يرونه بيده فيشهدون له بملكه، لثبوت يده عليه. ولا فرق في هذين القسمين بين الملتقط وغيره.
وأما إذا شهدت البينة للمدعي باليد.. نظرت: فإن شهدت بذلك للملتقط.. لم يحكم له بملكه قولا واحدًا؛ لأن يده يد التقاط لا يد ملك.
وإن ادعى ملكه غير المتلقط، فشهدت له البينة باليد.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين:
أحدهما: لا يحكم له بالملك؛ لأن ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك؛ لأن الظاهر الحرية.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنه يحكم له باليد؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ويحلف أنه ملكه؛ لأن الظاهر ممن بيده شيء أنه ملكه، فإذا ادعاه.. حلف عليه.
[مسألة الصبي يتبع في الإسلام أحد أبويه]
قد ذكرنا أن الصبي يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبويه أو لأحدهما، أو للسابي أو للدار.
فإذا ثبت هذا: فإن حكم هذا الصبي - الذي حكم بإسلامه تبعًا لأحد هذه الأشياء قبل البلوغ - حكم سائر المسلمين. وإن مات له مناسب مسلم.. ورثه. وإن مات.. غسل، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين، وورثه مناسبه المسلم؛ لأن الذي أوجب إسلامه موجود قطعا، فهو كالمسلم بنفسه. فإن بلغ ووصف الإسلام.. استقر(8/41)
إسلامه، وتيقنا أنه لم يزل مسلماَ. وإن بلغ ووصف الكفر.. نظرت:
فإن كان حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو لأحدهما أو للسابي.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه مرتد) فلا يقر على الكفر قولا واحدًا؛ لأنه محكوم بإسلامه قطعًا، فهو كما لو أسلم بنفسه بعد البلوغ، ثم ارتد.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنها على قولين:
أحدهما: أنه مرتد، ولا يقر على الكفر، وهو الأصح، لما ذكرناه.
والثاني: أنه ليس بمرتد، فيقر على كفره؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعًا لغيره في صغره؛ لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه. فإذا بلغ أمكن اعتباره بنفسه، وزال حكم التبع.
وأما إذا كان حكم بإسلامه بالدار، فبلغ ووصف الكفر: فإن قلنا: إن من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، يقر على الكفر إذا بلغ ووصف الكفر.. فهذا أولى أن يقر.
وإن قلنا: هناك لا يقر.. ففي هذا قولان:
أحدهما: لا يقر على الكفر؛ لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لغيره، فلم يقر عليه، كمن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقرع ويتهدد على الكفر، فإن أقام عليه.. أقر عليه) ؛ لأنه أضعف حالًا ممن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى نسبه كافر وأقام البينة على ذلك.. حكم بكفره.
إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: لا يقر على كفره.. فهو مرتد، فإن تاب، وإلا قتل. وكل موضع قلنا: يقر على كفره.. نظرت:(8/42)
فإن وصف كفرًا يقر أهله عليه، كاليهودية والنصرانية، والمجوسية.. أقر عليه. فإن التزم الجزية.. عقدت له الذمة، وأقر في بلاد الإسلام حيث يجوز إقرار أهل الذمة فيه.. وإن لم يبذل الجزية.. لم يقر في بلاد الإسلام، ولكن يقال له: الحق بأهل الحرب.
وإن وصف كفرًا لا يقر أهله عليه، كعبادة الأوثان.. قلنا له: لا تترك على هذا، فإما أن تسلم، أو تلحق بدار الحرب وأنت في أمانٍ إلى أن تلحق بدار الحرب، أو تصف كفرا يقر أهله عليه.
وكل موضع أقررناه على الكفر، فإن كان الإمام قد أنفق عليه شيئًا من بيت المال.. ففيه قولان:
أحدهما: يسترد منه بدله، كما لو انفق عليه على سبيل القرض.
والثاني: لا يسترد منه بدله؛ لأنه صدقة عليه، ومن تصدق على كافر ... لم يرجع عليه بها.
وإن بلغ هذا الصبي فقتله قاتل قبل أن يصف الكفر أو الإسلام، وكانت الجناية عمدا، فإن كان حكم بإسلامه تبعا لأبويه أو للسابي ... فهل يجب القود على قاتله؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتل من هو محكوم بإسلامه قطعًا عمدًا، فوجب عليه القود، كما لو قتله قبل البلوغ.
والثاني: لا يجب عليه القود، وإنما يجب عليه دية مسلم، وهو المنصوص؛ لأنه يحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه لم يسأل عنه - وهو مسلم - فيجب عليه القود، ويحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه غير راضٍ بالإسلام، بل هو معتقد للكفر، وذلك شبهة يسقط به القود عن القاتل.(8/43)
وإن كان محكومًا بإسلامه بظاهر الدار.. فهل يجب القود على قاتله؟ إن قلنا: إنه لا يجب القود على من قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. فهذا أولى. وإن قلنا: يجب القود على قاتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. ففي هذا قولان:
أحدهما: يجب على قاتله القود، كما قلنا فيمن قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه.
والثاني: لا يجب على قاتله القود، وإنما تجب عليه دية مسلم، وهو الصحيح؛ لأنه أضعف حالا ممن حكم بإٍسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى كافر أنه ابنه وأقام عليه البينة.. حكم بكفره.
[مسألة جناية اللقيط]
وإن جنى اللقيط على غيره.. نظرت:
فإن كانت جنايته خطأ. وجب الأرش في بيت المال، سواء كانت جنايته قبل البلوغ أو بعده، وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأنه حر مسلم لا مناسب له، فكانت جنايته الخطأ في بيت المال، كغير اللقيط.
وأما إن جنى على غيره عمدًا، فإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه القود، إن كان المجني عليه ممن يجب له عليه القود، أو الدية، وإن كان المجني عليه لا يستحق عليه القود، أو إن كانت جنايته قبل البلوغ.. لم يجب عليه القود؛ لأن الصبي لا يجب عليه القود.
وأما الأرش: فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ.. وجب الأرش في بيت المال. وإن قلنا: إن عمده عمد.. وجب الأرش عليه، فيؤخذ منه إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا.. ثبت في ذمته إلى أن يوسر.(8/44)
وإن جني على اللقيط قبل البلوغ.. نظرت:
فإن قتله قاتل، فإن كانت الجناية خطأ.. وجب دية اللقيط على عاقله الجاني، ويأخذها الإمام إلى بيت المال إرثًا للمسلمين، كسائر أمواله.
وإن قتله عمدًا.. كان الإمام بالخيار: بين أن يقتل القاتل، وبين أن يعفو عنه على الدية؛ لأن ذلك يجب للمسلمين، والإمام نائب عنهم، ولا يفعل من ذلك إلا ما رأى فيه الصلاح.
وإن جنى عليه فيما دون النفس.. نظرت:
فإن كانت الجناية خطأ.. وجب الأرش للقيط ويأخذه الملتقط له؛ لأنه مال للقيط.
وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص، فإن كان اللقيط موسرًا.. لم يكن لوليه أن يقتص؛ لأن القصاص جعل للتشفي، والتشفي يحصل له إذا بلغ. وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه. ويحبس له الجاني إلى أن يبلغ، وإن كان اللقيط معسرًا: فإن كان عاقلًا لم يكن للولي أن يقتص؛ لأن التشفي إنما يحصل للمجني عليه وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأن نفقته تجب في بيت المال. وإن كان معسرًا معتوهًا.. قال الشافعي: (أحببت للحاكم أن يعفو على مال؛ لأنه لا يرجى له أن يقتص، فكان العفو على مال أحظ) .
وأما إذا جني عليه بعد البلوغ.. نظرت:
فإن كانت على النفس.. فهو كما لو جنى عليه قبل البلوغ. وإن كانت على ما دون النفس، فإن كانت خطأ.. وجب له الأرش، وإن كانت عمدًا يجب فيها القصاص.. فهو بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال كغيره. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : إذا قتل اللقيط عمدًا.. ففيه قولان: أحدهما: يقتص الإمام؛ لأنه وليه، كالأب ولي الصبي.
والثاني: لا يقتص؛ لأن أولياء اللقيط المسلمون، وهم لا يتعينون.
وإن قتل اللقيط خطأ.. ففيه قولان:(8/45)
أحدهما: يجب فيه دية حر؛ لأنه حر.
والثاني: يتوقف إلى أن يتبين أحر هو أم مملوك؛ لأنه يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب إلا باليقين.
[مسألة قذف اللقيط]
إذا قذف اللقيط غيره: فإن كان قبل البلوغ.. لم يجب عليه حد القذف؛ لأن الصغير لا يجب عليه الحد ولكن يؤدب. وإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه حد القذف إن كان المقذوف محصنًا، أو التعزير إن كان غير محصن.
وإن قذف اللقيط قاذف، فإن قذفه قبل البلوغ.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يعزر القاذف؛ لأن الصبي لا يجب الحد بقذفه.
وإن قذفه بعد البلوغ، فإن اتفق اللقيط والقاذف أن اللقيط عبد.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير. وإن اتفقا أنه حر.. وجب على القاذف حد القذف.
وإن قال القاذف: هو عبد، وقال اللقيط: بل أنا حر.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول اللقيط مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه حر.
والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه حر، فيجب على القاذف الحد، ويحتمل أنه عبد، فلا يجب عليه الحد، والأصل براءة ذمته.
فأما إذا جنى رجل على اللقيط عمدًا، فقال الجاني: أنت عبد، فلا يجب علي القصاص، وقال اللقيط: بل أنا حر.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا في القذف.(8/46)
ومنهم من قال: القول قول اللقيط قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أن حد القذف يراد للردع والزجر، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير.. حصل به الردع، والقصاص يراد للتشفي، فإذا عدلنا منه إلى الدية.. لم يحصل بها التشفي. ولأن التعزير بعض الحد، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير، فقد عدلنا عن مشكوك فيه إلى يقين، فجاز. وليس كذلك الجناية، فإن اللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب في الجناية عليه قصاص، ويجوز أن يكون حرًا، فيجب على الجاني عليه القصاص. فالقصاص مشكوك فيه، والقيمة مشكوك فيها، فإذا جعلنا القول قول الجاني.. انتقلنا من مشكوك فيه إلى مشكوك فيه، فلم يجز.
[مسألة قبول قول اللقيط بأنه رقيق]
قال الشافعي: (فإذا بلغ اللقيط فباع واشترى، ونكح وأصدق، ثم أقر على نفسه بالرق.. قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) .
وجملة ذلك: أن اللقيط إذا بلغ، ثم باع واشترى، ووهب وأقبض، ونكح، فجاء آخر وادعى أنه عبده، فصدقه اللقيط، ولم يقم عليه بينة، أو قال اللقيط: أنا عبد فلان، وصدقه المقر له.. نظرت:
فإن كان اللقيط قد تقدم منه إقرار قبل هذا أنه حر.. لم يقبل إقراره الثاني أنه عبد؛ لأنه بإقراره الأول أنه حر، لزمته أحكام في العبادات لله تعالى فلا يقبل إقراره بما يسقطها، ولهذا لو أن حرًا قال لرجل: جعلت نفسي عبدك.. لم يصر عبده بذلك.
وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية.. فقد قال الشافعي: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) .
واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فقال أبو الطيب بن سلمة: هل يقبل إقراره في الرق؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل إقراره ويحكم برقه؛ لأنه مجهول الحال.. فقبل إقراره على نفسه بالرق، كما لو قدم رجل من بلاد الكفر لا يعرف نسبه، فأقر على نفسه بالرق. ولأن(8/47)
إقراره آكد من البنية. لأنه لا يتهم في إقراره على نفسه، والبينة متهمة. ثم ثبت أن البينة لو قامت برقه.. حكم برقه، فكذلك إذا أقر على نفسه.
والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، فلم يقبل إقراره بالرق، وقد تعلق عليه حقوق لله تعالى، فلم يقبل إقراره بما يسقطها، كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق. ويخالف المجهول؛ لأنه لم يلزمه حق لغيره فيسقطها بالإقرار.
وقال عامة أصحابنا: يقبل إقراره في الجميع، فيما له وفيما عليه؛ لأن هذه الأحكام فرع للرق، فإذا ثبت الأصل.. ثبتت فروعه، ولأن إقراره آكد من البينة. ثم لو قامت البينة.. لثبتت عليه جميع أحكام الرق، فكذلك إذا أقر.
والثاني: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن إقراره تضمن ما يضره ويضر غيره، فقبل قوله فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كمن أقر بدين عليه وعلى غيره. ولأن اللقيط قد يكون جارية وقد أنكحها الحاكم، فإذا قلنا: يقبل قولها فيما يضر غيرها.. أدى إلى أن ينفسخ النكاح بقولها، والنكاح لا ينفسخ بقول النساء. وقول الأول: (إن الأصل إذا ثبت.. تثبت فروعه) يبطل بالرجل إذا مات وخلف أخا وارثا، فأقر الأخ بابن للميت.. فإن النسب يثبت، ولا يثبت الميراث. وهذا الطريق أصح؛ لأن الشافعي قال: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) وأراد: في إلزامه أحكام الرق قولان. فإن قلنا بالطريق الأول، فإن قلنا: يقبل إقراره في الرق.. كان حكمه حكم الرقيق إذا تصرف بغير إذن سيده في التصرفات الماضية والمستقبلة. وإن قلنا: لا يقبل قوله في الرق.. لم يؤثر هذا الإقرار في التصرفات الماضية ولا في المستقبلة.
وإذا قلنا بالطريق الثاني، وعليه التفريع.(8/48)
فعلى هذا: حكمه في التصرفات بعد الإقرار حكم الرقيق فيما يضره ويضر غيره.
وأما تصرفاته بعد البلوغ وقبل الإقرار: فلا تخلو: إما أن يكون اللقيط ذكرًا أو أنثى:
فإن كان أنثى وقد زوجها الحاكم بإذنها بحر ثم أقرت بالرق، فإن قُلنا: يقبل إقرارها فيما يضرها ويضر غيرها.. حكم بأن النكاح وقع باطلا؛ لأنه بغير إذن سيدها، فإن لم يدخل بها الزوج.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها لسيدها وفرق بينهما واعتدت بقرأين؛ لأنها عدة أمة، هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق وابنُ الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأنه استبراء، والأمة تستبرئ بقرء. وإن أتت أمته بأولاد.. فهم أحرار؛ لأنه اعتقد أنها حرة، وذلك شبهة، ويجب عليه لسيدهم قيمتهم حين الوضع. فإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة الوفاة.
وإن قلنا: يقبل قولها فيما يضرها، ولا يقبل فيما يضر غيرها.. لم يحكم بفساد النكاح؛ لأن ذلك يضر بالزوج. فإن لم يدخل بها الزوج.. لم يجب لها مهر؛ لأن السيد يقر بفساد نكاحها. والنكاح الفاسد لا تستحق به المهر قبل الدخول. فإن طلقها الزوج قبل الدخول، أو مات عنها.. لم يطالبه السيد بشيء؛ لأنه لا يدعيه.
وإن كان الزوج قد دخل بها.. وجب عليه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يلزمه ما زاد؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب عليه ما زاد عليه؛ لأنها لا تدعى أكثر منه.
وإن أتت منه بأولاد قبل الإقرار.. فهم أحرار؛ لأنه وطئها وهو يعتقد أنها حرة. ولا يجب عليه قيمتهم؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها، ولكن يقال للزوج: قد(8/49)
ثبت أن زوجتك أمة، فإن شئت اخترت المقام معها على أنك إذا وطئتها بعد ذلك، وحبلت منك.. كان الولد مملوكا بلا كلام؛ لأنك تطؤها على علم بأنها أمة.
فإن قيل: فهذا مما يضره، وقد قلتم لا يقبل قولها فيما يضر غيرها.. فالجواب: أنا لم نقبل قولها فيما يضر غيرها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه.
فأما الحكم في المستقبل: فيمكن إيفاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها، بأن يطلقها، فلا يلزمه ما لم يدخل عليه، أو يقيم على نكاحها، فلا يسقط حق سيدها.
فإن قيل: إذا أثبتم حق الرق الآن، فاعتبروا أن يكون ممن يجوز له نكاح الإماء.. قلنا: لا يعتبر ذلك؛ لأنا إن أثبتنا ذلك، وقلنا بفساد النكاح إذا لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء.. أفسدنا العقد بقولها؛ لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في الاستدامة، وإنما تعتبر في الابتداء.
وإن طلقها الزوج.. اعتدت بثلاثة أقراء، وهي عدة حرة.
قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يطلقها ثلاثًا أو دون الثلاث؛ لأن عدة الطلاق حق للزوج، وقولها لا يقبل فيما يضر غيرها؛ لأنها إن طلقت دون الثلاث.. فله الرجعة في العدة، وإن طلقت ثلاثًا، أو كان الطلاق بائنًا.. فالعدة لاستبراء مائه. ألا ترى أنها لا تجب في الموضع الذي لا يحتاج إلى الاستبراء، وهو: قبل الدخول؟
وإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة حرة؛ لأن عدة الوفاة حق لله تعالى، لا حق للزوج فيها. ألا ترى أنها تجب في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الاستبراء؟ وقولها مقبول فيما يسقط حق الله عز وجل. وتعتد بشهرين وخمس ليالٍ، وحكى المحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأن استبراء الأمة بقرء.
وإن كان اللقيط ذكرًا: فإن كان قد باع واشترى بعد البلوغ، أو كان اللقيط أنثى، فباعت واشترت بعد البلوغ، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد العقود كلها. فإن كانت الأعيان قائمة.. ردت إلى أهلها، وإن كانت تالفة.. ثبتت قيمتها في ذمته، يتبع بها إذا عتق.
وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يحكم بفساد العقود وتلزمه الأثمان.(8/50)
فإن كان في يده مال.. دفعت الأثمان عنه، وما بقي منه يكون لسيده. وإن لم يف بالأثمان، أو لم يكن في يده مال.. كان ذلك دينًا في ذمته، يتبع به إذا عتق. هكذا قال الشيخ أبو حامدٍ.
وقال ابن الصباغ: إن كان له كسب.. استوفى ذلك من كسبه.
وإن كان غلامًا، فنكح، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد النكاح؛ لأنه وقع بغير إذن سيده. وإن لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها. ومن أين يستوفى؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يستوفى من رقبته، كأرش الجناية) .
وقال في الجديد: (يتبع به إذا عتق) لأنه وجب برضا من له الحق، فهو كثمن المبيع، هكذا ذكر الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا دخل بها.. لزمه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأنها لا تدعيه. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأن قوله مقبول وإن ضر غيره.
وأما إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره.. فإنا نحكم بأن النكاح وقع صحيحًا، ولا نحكم ببطلانه فيما مضى؛ لأن ذلك يضر بالزوجة. ولكن يحكم بانفساخه من الآن؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان لم يدخل بها.. لزمه نصف المسمى. وإن كان قد دخل بها.. لزمه جميع المسمى، فإن كان في يده كسب.. استوفى المهر منه، وإن لم يكن في يده كسب.. استوفى مما يكسبه من الآن؛ لأنه لو تزوج بإذن المولى.. لكان المهر من كسبه، فكذلك ها هنا مثله.
[فرع جناية اللقيط عمدًا]
وإن جنى اللقيط على غيره عمدًا بعد أن أقر بالرق.. وجب عليه القود، سواء كان المجني عليه حرًا أو عبدًا؛ لأن ذلك يضره، وإن كانت جنايته على غيره خطأ.. ففيه ثلاثة أوجه:(8/51)
[الوجه الأول] قال الشيخ أبو حامد: يتعلق الأرش برقبته على القولين؛ لأنا قد حكمنا بأن أرش هذه الجناية في بيت المال، والآن فقد أقر بالرق، وهذا يضره، فقبل، فيؤخذ بالأرش من ماله إن كان بيده مال. وإن لم يكن بيده مال، أو كان ولم يف.. بيعت رقبته.
و [الوجه الثاني] قال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. كان الأرش في بيت المال؛ لأن كونه في بيت المال أنفع للمجني عليه؛ لأن الرقبة قد لا تفي بالجناية، وربما تلفت قبل استيفاء الأرش منها، فيسقط الأرش.
و [الوجه الثالث] قال ابن الصباغ: إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يكن للمجني عليه حق في بيت المال، بل يتعلق حقه في رقبة اللقيط. وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره، وكان الأرش أكثر من قيمة الرقبة.. استحق المجني عليه قيمة الرقبة، ووجب ما زاد له في بيت المال؛ لأنه قد تعلق حقه في بيت المال، فلا يسقط بقول الجاني.
وأما إذا جني على اللقيط بعد أن أقر بالرق.. نظرت:
فإن كانت الجناية عليه عمدًا، فإن كان الجاني عليه عبدًا.. وجب عليه القود؛ لأنه مكافئ له. وإن كان الجاني عليه حرًا.. لم يجب عليه القود؛ لأن العبد لا يستحق القود على الحر، ويكون عليه من الأرش ما على المخطئ عليه.
وإن كانت الجناية عليه خطأ، بأن قطع رجل يده خطأ، فإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، أو كانا سواء.. وجب على الجاني نصف القيمة. وإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية، فإن قلنا: يقبل إقراره فيما يضره ويضر غيره.. لزم الجاني نصف القيمة، وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لزمه نصف الدية لا غير.
[فرع إقرار اللقيط بالرق]
وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل، فكذبه المقر له.. سقط حق المقر له لتكذيبه. فإن أقر اللقيط بعد ذلك أنه عبد لآخر، أو صادقه المقر له الأول.. فقد قال أبو العباس:(8/52)
يقبل، كما لو أقر لرجل بدار فكذبه المقر له، ثم أقر بها لآخر، أو صادقه المقر له.
والمنصوص: (أنه لا يقبل) ؛ لأنه قد أخبر أنه لا يملكه غير الأول، فإذا أسقط المقر له إقراره بتكذيبه له.. رجع إلى الأصل- وهو: الحرية - فلم يقبل إقراره لغيره. ويخالف الدار، فإن الأول إذا كذب إقراره.. رجعت الدار إلى ملكه، وإقراره في ملكه مقبول.
[فرع ادعاء رجل عبودية اللقيط]
وإن ادعى رجل على اللقيط أنه عبده، فأنكر اللقيط أنه عبده، ثم أقر له بعد ذلك.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : قبل إقراره له، كما لو ادعى الزوج أنه راجع امرأته في عدتها، فأنكرت، ثم أقرت بصحة الرجعة.
وإن أنكر اللقيط فأقام المدعي بينة.. حكم له بملكه، وكان حكمه حكم الرقيق في التصرفات قبل قيام البينة وبعدها، سواء تقدم منه إقرار بحريته أو لم يتقدم.
وإن لم يكن مع المدعي بينة، وسأل اللقيط أن يحلف له: فإن كان قد تقدم من اللقيط إقرار بالحرية.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في عرض اليمين. وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية، فإن قلنا بقول عامة أصحابنا: يقبل إقراره بالرق قولا واحدًا.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر. وإن قلنا بقول أبي الطيب بن سلمة.. هل يقبل إقراره بالرق؟ فيه قولان:
فإن قلنا: يقبل.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر.
وإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في اليمين.
قلت: وينبغي أن يبني على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه،(8/53)
فإن قلنا: إنها كالبينة.. عرضت اليمين على اللقيط على هذا القول أيضا، لجواز أن ينكل عن اليمين، فيحلف المدعي فيكون كما لو أقام البينة. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. لم تعرض.
والله أعلم(8/54)
[كتاب الوقف](8/55)
كتاب الوقف
الوقف: عطية مؤبدة. يقال: وقف، ولا يقال: أوقف، إلا في شاذ اللغة. ويقال حبس وأحبس.
إذا ثبت هذا: فإن الوقف يصح، ويلزم بالقول ولا يفتقر إلى القبض. وبه قال مالك وأبو يوسف.(8/57)
وقال محمد بن الحسن وابن أبي ليلى: يصح الوقف، ولكن يفتقر إلى القبض.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الوقف أصلا) ولكن أصحابه استشنعوا هذا، فقالوا: يصح الوقف، ولكن لا يلزم، بل له بيعه وهبته. ولا يلزم إلا في موضعين: إما أن يحكم به الحاكم، أو يوصي الواقف به.
دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ملك مائة سهم بخيبر ابتاعها، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وقال: يا رسول الله إني ملكت مالًا لم أملك مثله قط، وأردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حبس الأصل، وسبل الثمرة» . قال: فتصدق به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا يباع ولا يوهب ولا يورث. لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا، تنظر فيها حفصة ما عاشت، فأما إذا ماتت فذوو الرأي من أهلها، يعني: من أهل الوقف.(8/58)
فوجه الدليل من الخبر: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن جهة التقرب، فقال: «حبس الأصل» فاقتضى الظاهر أن القربة تحصل بنفس الحبس. ولم يعتبر حكم الحاكم به بعد الوقف، ولا الوصية به.
قال الشافعي: (ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل» أي بما عليه الأموال المطلقة، فلا تباع ولا توهب ولا تورث. إذ لا معنى لقوله: «حبس الأصل» إلا هذا. وأيضًا فإن عمر حبس، وقال: (لا يباع ولا يوهب ولا يورث) وهذا بيان حكم الوقف) .
ومعلوم: أن عمر كان جاهلًا بأصل الوقف حتى سأل النبي صلى لله عليه وسلم. فكيف يجهل أصل الوقف، ويعلم حكمه؟ فعلم أنه إنما ذكر هذا الحكم بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن لم يكن بتوقيف منه، فلا يجوز أن يخفى هذا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما لم ينكره.. دل على أن هذا حكم الوقف.
وروي: عن أبي بكر، وعثمان، وطلحة: أن كل واحد منهم وقف داره.
وروي: (أن فاطمة وقفت على بني هاشم، وبني المطلب) . ووقف علي عليهم، وأدخل معهم غيرهم.(8/59)
وروي عن جابر: أنه قال: (لم يبق في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من له مقدرة إلا وقد وقف) .
وروي: أن عمرو بن العاص قدم من اليمن إلى المدينة فقال: (لم يبق في المدينة لأهلها شيء إلا وهو وقف) .
وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حفر بئرًا بـ: ينبع، فخرج ماؤها مثل عنق البعير. فقيل: بخت الوارث. قال: فتصدق بها علي وكتب: (هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب ابتغاء وجه الله، وليصرفه عن النار، ويصرف النار عنه ينظر فيه الحسن ما عاش، ثم الحسين، ثم ذوو الرأي من ولده) .
وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الوقف.
[مسألة وقف ما تثبت عينه]
ويصح الوقف في كل عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كالدور والأرضين والثياب والأثاث والسلاح والحيوان.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح وقف الحيوان وإن حكم به الحاكم) .
وقال محمد بن الحسن: يصح الوقف في الحيوان إلا في الخيل.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعث عمر ساعيًا، فلما رجع.. شكا ثلاثة نفر: العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد.. فقد ظلمتموه، قد احتبس أدراعه(8/60)
وأعبده في سبيل الله. وروي: وأعتده» . والأعتد: الخيل.
فالخبر حجة على أبي حنيفة ومحمد.
وروي: «أن أم معقل أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله! إن أبا معقل وقف ناقة في سيبل الله، وإني أريد الحج، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركبيها، فإن الحج والعمرة في سبيل الله»
ويصح وقف الصغير من الحيوان؛ لأنه يرجى الانتفاع به. ولا يصح الوقف في الحمل؛ لأنه تمليك منجز.. فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع. وقولنا: (تمليك منجز) احتراز من الوصية. وقولنا: (وحده) احتراز ممن وقف حيوانًا حاملًا، فإنه يصح الوقف في الحمل تبعًا لأمه، ولا يصح الوقف فيما لا يمكن الانتفاع به على الدوام، كالحيوان الذي تحطم، والطعام والريحان.(8/61)
وحكي عن مالك والأوزاعي أنهما قالا: (يجوز وقف الطعام) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يمكن حبس أصله.
[فرع وقف العين غير الثابتة]
وهل يصح وقف الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان:
إن قلنا: تصح إجارتها.. صح وقفها.
وإن قلنا: لا تصح إجارتها.. لم يصح وقفها. وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا خلاف أنه لو غصب منه دراهم أو دنانير.. لم يجب عليه أجرتها.
وأما وقف الكلب: فاختلف أصحابنا فيه: فقال بعضهم: فيه وجهان بناء على الوجهين في إجارته. وقال القفال: لا يصح وقفه وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح تمليكه. وقال بعضهم: يصح وقفه وجهًا واحدًا، كما تصح الوصية به.
وهل يصح وقف أم الولد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الوقف تمليك، وأم الولد لا تملك.
والثاني: يصح وقفها، كما يصح إجارتها.
فعلى هذا: إذا مات سيدها.. عتقت بموته؛ لأن ذلك قد ثبت لها بالاستيلاد، فلا يبطل بوقفها، كما لا يبطل بإجارتها.
[فرع الوقف في شيء معين]
ولا يصح الوقف إلا في عين معينة. فإن وقف عينًا في ذمته.. لم يصح؛ لأن ذلك إبطال لمعنى الملك فيها، فلم يصح في عين بذمته، كالعتق.(8/62)
فإن قال: وقفت أحد هؤلاء العبيد.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في عين غير معينة، كالبيع والهبة.
[فرع وقف المشاع]
ويصح الوقف في المقسوم والمشاع، وبه قال مالك وأبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: لا يصح الوقف في المشاع.
دليلنا: حديث عمر: (أنه وقف مائة سهم بخيبر) . وهذا وقف مشاع.
ويصح وقف علو الدار دون سفلها، أو سفلها دون علوها؛ لأنهما كالعينين.
[مسألة الوقف فيما فيه طاعة]
ولا يصح الوقف إلا على ما فيه طاعة لله، كالوقف على أولاده أو على قرابته أو الفقراء والمساكين وطلبة العلم، وكالوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر، لما ذكرناه من أخبار الصحابة.
فإن كان الوقف على غير معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه.
وإن كان على معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه؟ فيه وجهان:
الصحيح: أنه لا يفتقر.
وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\352) : يفتقر إلى قبوله.
ومن قال: لا يفتقر إلى القبول.. فإن الموقوف عليه إذا كان معينًا، ورد الوقف.. بطل الوقف عليه.
وإن وقف على آدمي.. فلا بد أن يكون موجودًا حيًا يوم الوقف عليه.
وإن وقف على ميت، أو على من يولد له.. لم يصح؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح إلا على موجود حي، كالهبة والبيع.(8/63)
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه) .
فإن قال قائل: لم قال الشافعي: (لا يجوز الوقف إلا على مالك) وعنده يجوز الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر؟!
قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر وقف على المسلمين في الحقيقة؛ لأن منفعة هذه الأشياء ترجع إليهم.
والثاني: أنه أراد بذلك: إذا وقف على الآدمي.. فلا يصح الوقف إلا على موجود حي. فأما الميت والمعدوم: فلا يصح الوقف عليه.
فإن قيل: أليس لو وقف على أولاده وعقبهم.. جاز، وأن كان العقب لم يخلق؟
قلنا: إنما جاز ذلك على سبيل التبع للموقوف عليه الموجود.
[فرع الوقف على ذمي]
وإن وقف مسلم أو ذمي على ذمي.. صح الوقف؛ لأنه يصح أن يملك بصدقة التطوع.. فصح الوقف عليه، كالمسلم.
وإن وقف مسلم أو ذمي على كنائس أهل الذمة وبيعهم.. لم يصح الوقف؛ لأنها مجامع الكفر ومشاتم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك الوقف على خادمها.. لا يصح؛ لأن خدمتها من عمارتها.
وإن وقف على النازلين في الكنائس من المارة من أهل الذمة.. قال ابن الصباغ: صح الوقف؛ لأنه وقف على أهل الذمة دون الكنائس والبيع.
وإن وقف شيئًا على كتب التوراة والإنجيل.. لم يصح؛ لأنها مبدلة مغيرة، فلا حرمة لها.
وإن وقف شيئًا على من يقطع الطريق، أو يرتد عن الدين.. لم يصح؛ لأن الوقف(8/64)
لا يصح إلا على بر، وهذا إعانة على المعصية.
وإن وقف على مرتد أو حربي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يصح، كما يصح الوقف على الذمي.
والثاني: لا يصح؛ لأنه مأمور بقتلهما، فلا معنى للوقف عليهما. وهذا يبطل بالزاني المحصن، فإنه مأمور بقتله، ويصح الوقف عليه.
[فرع الوقف على بهيمة رجل]
وإن وقف على بهيمة رجل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها لا تملك، فلم يصح الوقف عليها.
والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن ذلك وقف على مالكها، قال: إلا أنه ينفق منه عليها، فإذا نفقت- أي: ماتت- كان لصاحبها. وأما إذا وقف على عبد أو أم ولد.. ففيه طريقان:
قال الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح الوقف عليهما؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على العبد، كالهبة.
وقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : يبني على القولين في أنه: هل يملك إذا ملكه السيد؟
فإن قلنا: إنه يملك.. صح الوقف عليه. فإذا أعتق.. كان له مثله.
وإن قلنا: إنه لا يملك.. فهو كما لو وقف على بهيمة غيره، على وجهين:
الصحيح: يصح.(8/65)
[مسألة وقف على نفسه ثم الفقراء]
) : إذا وقف شيئًا على نفسه، ثم على الفقراء والمساكين، أو على نفسه وأولاده، ثم على الفقراء.. لم يصح الوقف على نفسه.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وأحمد: (يصح) . قال ابن الصباغ: وإليه ذهب أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف قال: (لا بأس على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا) . فجعل لمن يليها أن يأكل منها. وقد يليها الواقف وغيره. وقد كانت بيده إلى أن مات.
وروي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف بئر رومة قال: (دلوي منها كدلاء المسلمين) ولأن الوقف وقفان: وقف خاص، ووقف عام. ثم ثبت: أن الوقف العام له فيه حظ، وهو: إذا وقف مسجدًا أو سقاية.. فإن له أن يصلي في المسجد، ويشرب من السقاية، فكذلك في الوقف الخاص.
ودليلنا: أن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلا يجوز أن يملك نفسه من نفسه، كما لا يجوز ذلك في البيع والهبة. وأما حديث عمر: فمحمول على أنه شرط ذلك لغيره.
وأما حديث عثمان: فلأن ذلك وقف عام، وهو يدخل في العام من غير شرط.
إذا ثبت هذا، وأن وقفه على نفسه لا يصح: فإنه يكون وقفًا منقطع الابتداء متصل الانتهاء، على ما يأتي بيانه.(8/66)
[فرع التحبيس على الولد بشرط]
) : قال في (البويطي) : (إذا قال: داري حبس على ولدي، ثم مرجعها إلي إذا انقرض.. فالحبس باطل) . وقد قيل: جائز، ويرجع إلى أقرب الناس بالمحبس.
[مسألة الوقف المعلق أو على التخيير]
) : وإن قال: وقفت داري هذه على أحد هذين الرجلين، أو على من يختاره فلان.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على غير معين، كالبيع.
وإن قدر الوقف بمدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح من غير تفصيل.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\349] : إذا قال: وقفت داري هذه على زيد سنة، ثم تعود ملكي بعد السنة.. ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يصح الوقف؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وليس هذا بمؤبد.
والثاني: يصح الوقف، ويرجع إليه بعد السنة، فكأنه جعل غيره أحق بمنفعة الدار هذه السنة بإجارة أو إعارة.
والثالث: يكون كما لو قال: وقفتها على زيد وأولاده، وأطلق.. فيكون وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه.
وقال ابن الصباغ: وإن قال: وقفتها على زيد سنة، وأطلق.. فإنه وقف متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه.
وإن قال: وقفت هذا على زيد سنة، ثم بعد السنة على الفقراء والمساكين.. فظاهر كلام ابن الصباغ أنه يصح قولًا واحدًا. وقد ذكر الشيخ أبو حامد ما يدل على ذلك في التي بعدها.(8/67)
[مسألة الوقف على أحوال]
وإذا وقف وقفًا: فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون معلوم الابتداء والانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء والانتهاء، أو يكون معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء معلوم الانتهاء.
فإن كان معلوم الابتداء والانتهاء.. صح الوقف، وذلك يتصور من وجهين:
أحدهما: أن يقفه على قوم معينين بالصفة لا يجوز بحكم العادة انقطاعهم، مثل: أن يقفه على الفقراء والمساكين، أو على طلبة العلم، أو أبناء السبيل، وما أشبه ذلك، أو على قبيلة لا تنقطع، كبني تميم.
الثاني: أن يقفه على قوم معينين ينقطعون في العادة، ثم بعدهم على من لا ينقطع، مثل أن يقفه على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز أن يكون الابتداء معلومًا بالصفة، والانتهاء معلومًا بالتعيين، مثل أن يقول: وقفت هذا على الفقراء والمساكين. ثم على أولادي، أو على بني تميم؛ لأن هذا لا يفنى؛ لأن الدنيا لا تخلو من فقراء ومساكين.
قال: إلا أن يقدره بمدة، مثل أن يقول: وقفته على الفقراء والمساكين سنة، أو عشر سنين، ثم على أولادي، ثم على بني تميم، فيصح.
فإن كان الوقف مجهول الابتداء والانتهاء، مثل أن يقول: وقفت داري على أولادي، ولا أولاد له، أو على رجال، أو على حمل هذه المرأة.. فلا يصح الوقف؛ لأن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلم يصح على من لا يملك، كما لا يصح البيع والإجارة من غير ملك.
فإن كان الوقف معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، مثل أن يقول: وقفت هذا على أولادي، ويسكت، وله أولاد، أو على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا،(8/68)
ولم يصرفه بعد انقراضهم على سبيل لا ينقطع.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الوقف باطل. وبه قال محمد بن الحسن؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وهذا ليس بمؤبد؛ لأن نسله قد ينقطع، فلم يصح الوقف، كما لو كان مجهول الابتداء والانتهاء.
والثاني: يصح الوقف. وبه قال مالك؛ لأن ابتداء الوقف معلوم، ويمكن نقله إلى غيره بعد انقراضه، فصح، كما لو كان معلوم الابتداء والانتهاء.
فإذا قلنا: إن الوقف باطل.. فإن الموقوف يكون باقيًا على ملك الواقف.
وإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى الموقوف عليهم ما داموا. فإذا انقرضوا.. ففيه ثلاثة أقوال حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\347] :
أحدها: يصرف إلى المساكين؛ لأنهم هم الذين يؤول إليهم الوقف الصحيح.
والثاني- وهو قول أبي يوسف -: أنه يرجع ملكًا إلى الواقف إن كان باقيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا؛ لأنه جعله وقفًا على ما سماه، فلا يجوز أن يكون وقفًا على غيره، فرجع إلى الواقف.
والثالث- وهو الصحيح، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره-: أن ينقل إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه على وجه القربة، فلم يعد إليه، كما لو أعتق عبدا. وإذا لم يعد ملكه إليه.. كان أقاربه بعد من سماه أولى؛ لأنه قصد جهة الثواب وأولى جهات الثوب أقاربه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة وذو رحم محتاج» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي رحم اثنتان: صدقة وصلة» .(8/69)
فإذا قلنا بهذا: قال المسعودي [في " الإبانة " ق\346] : فاختلف أصحابنا في أقرب الناس إليه:
فمنهم من قال: هم ورثته الذين جعلهم الله أحق بميراثه.
وقال ابن سريج: أقربهم جوارًا لا قرابة؛ لأن الشافعي قال: (يصرف إلى أقرب الناس بالواقف) وأقربهم به: جاره.
ومنهم من قال: أقربهم به رحمًا وإن لم يكن وارثًا. وهذا هو المشهور.
فعلى هذا: إن كان هناك ابن بنت أو ابنة بنت، وابن عم.. كان ابن البنت أو ابنة البنت أولى من ابن العم.
وإن كان هناك قرابة له ذكور ونساء: سوى بينهم، فيقدم الأقرب فالأقرب. فأقربهم الأولاد، ثم أولادهم وإن سفلوا، فإن لم يكن أحد منهم.. فالأبوان. فإن اجتمعا.. استويا. فإن اجتمع له جد وأخ لأب.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، كما قلنا في الميراث.
والثاني: أن الأخ أولى؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد.
وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك به الأغنياء والفقراء؟ فيه قولان:
أحدهما: يشترك فيه الأغنياء والفقراء؛ لأن اسم القرابة يجمعهم.
والثاني: يختص به الفقراء؛ لأن القصد منه القربة، والقربة في الفقراء أكثر ثوابًا من الغني.
فإن كان الوقف مجهول الابتداء معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على ولده ولا ولد له، ثم على الفقراء. أو على قوم غير معينين ثم على الفقراء، أو على زيد ثم على الفقراء فرد زيد الوقف.. فإن الوقف يبطل عليه. وهل يبطل الوقف على الفقراء في هذه المسائل؟ اختلف أصحابنا فيه:(8/70)
فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي على قولين كالتي قبلها. وقد نص الشافعي على القولين فيها في (حرملة) ؛ لأن الجهالة دخلت في أحد طرفي الوقف، فهو كما لو دخلت في الانتهاء.
وقال أبو إسحاق: يبطل الوقف هاهنا قولًا واحدًا، وهو المنصوص في (المختصر) ؛ لأن الثاني فرع لأصل باطل، فكان باطلًا.
فإذا قلنا: إنه باطل.. فلا كلام.
وإذا قلنا: إنه صحيح.. فلا حق للبطن الأول فيه. وهل ينقل الوقف إلى البطن الثاني؟ ينظر فيه:
فإن كان البطن الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين.. نقل الوقف في الحال إلى البطن الثاني.
وإن كان الأول يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده، أو وقف على وارثه في مرض موته ثم على الفقراء.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ينقل في الحال إلى البطن الثاني؛ لأن الوقف لم يصح على الأول، فكان وجوده كعدمه.
والثاني: أنه يرجع إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض البطن الأول؛ لأنه لا يمكن نقله إلى الثاني في الحال؛ لأنه شرط في صرفه إليه انقراض الأول، فبقي على ملك الواقف.
والثالث- وهو اختيار ابن الصباغ -: أنه ينقل إلى أقرب الناس بالواقف إلى أن ينقرض الأول، ثم ينقل إلى الثاني، كما قلنا في الوقف المعلوم الابتداء، المجهول الانتهاء.(8/71)
قال الشيخ أبو حامد: وقد نص الشافعي في (حرملة) : (أن رجلا لو وقف داره في مرض موته على ولده، وولد ولده.. صح الوقف في نصف الدار على ولد الولد، ولم يصح في النصف على الولد؛ لأنه وارث. فيكون للولد أخذ نصف غلة الوقف ما عاش، فإذا مات.. صار ذلك لولد الولد) فجعل للولد أخذ نصف الغلة بحق الملك، فإذا مات.. نقل إلى ولد الولد.
فإذا قلنا: إنه ينقل إلى أقرباء الواقف.. فهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم؟ على ما مضى من القولين.
[فرع وقف داره على اثنين ولم يذكر من بعدهما]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\347] : لو وقف داره على زيد وعمرو، وسكت عن ذكر من بعدهما، وقلنا: يصح، فمات أحدهما.. ففيه قولان:
أحدهما: يرجع نصيب الميت إلى الباقي منهما؛ لأنها موقفة عليهما، فكان الباقي منهما أحق بها.
والثاني: يصرف نصيب الميت منهما إلى ما يصرف جميعها إذا ماتا، على ما مضى.
[فرع لم يذكر الموقوف عليه]
) : وإن قال: وقفت داري، أو تصدقت به صدقة محرمة، ولم يقل على من.. ففيه قولان:
أحدهما: إن الوقف باطل؛ لأن الوقف تمليك فلا بد من مملك، كالبيع والهبة، ولأنه لا خلاف أنه لو قال: وقفت داري على أقوام أو رجال، أنه لا يصح الوقف وقد ذكر الموقوف عليه.. فبأن لا يصح ولم يذكره أولى.
والثاني: يصح الوقف؛ لأن القصد من الوقف القربة، فصح وإن لم يذكر الواقف الموقوف عليه، كما لو قال: علي لله أن أضحي بهذه الشاة. ولأنه لو قال: أوصيت(8/72)
بثلثي وأطلق.. لصحت الوصية وصرفت إلى الفقراء، فكذلك هذا مثله. ويفارق البيع والهبة؛ لأنه ليس لهما مصرف معروف. ويفارق إذا وقف على قوم أو رجال غير معينين؛ لأنا لو صححناه ورددناه على قوم.. ربما أخطأنا مراده إن كان قصده غيرهم.
فإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى أقرباء الواقف؛ لأنهم أولى جهات الثواب.
قال الشافعي: (ويستوي فيه الأغنياء والفقراء) .
قال الشيخ أبو حامد: فنص على أحد القولين، ويجيء فيه القول الآخر أنه يختص به فقراؤهم.
[مسألة يشترط للوقف القول]
) : ولا يصح الوقف إلا بالقول. وألفاظه ستة:
وقفت، وحبست، وسبلت، وتصدقت، وحرمت، وأبدت.
فإما الوقف: فهو صريح؛ لأنه لا يصلح في عرف اللغة إلا لذلك.
وأما التحبيس، والتسبيل: فهما صريحان أيضًا؛ لأن الشرع ورد بهما، وهو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل وسبل الثمرة» ولا يصلحان في اللغة إلا لذلك.
أما الصدقة: فهو كناية. فإن نوي به الوقف، صار وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم، إلا أن يقول: أنا نويت به الوقف، فيصير وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى وفي الحكم؛ لأن هذه اللفظة مشتركة بين صدقة الفرض والتطوع، وهي في صدقة التطوع أظهر.
فإن قرن بالصدقة لفظة من ألفاظ الوقف، بأن قال: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة أو محرمة، أو مؤبدة، أو قرن بها حكمًا من أحكام الوقف، بأن قال: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث.. صار ذلك وقفًا؛ لأن انضمام ذلك إلى لفظ الصدقة لا يحتمل غير الوقف.
وأما قوله: حرمت، وأبدت: ففيهما وجهان:(8/73)
أحدهما: أنهما كناية. وهو اختيار المحاملي؛ لأن قوله حرمت: يقتضي تحريمًا عن نفسه، ولا يقتضي تمليك العين. والوقف يقتضي تمليك العين، فلم تكن صريحة.
وقوله أبدت: يقتضي التأبيد، وليس لهذه اللفظة عرف مستعمل.
والثاني: أنهما صريحان. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن لفظة التحريم والتأبيد في الجمادات لا يصلحان لغير الوقف.
قال ابن الصباغ: ولأن الشافعي جعلهما مع لفظة الصدقة صريحين في الوقف. ولو كانا كناية في الوقف.. لم تصر الصدقة بهما صريحًا؛ لأن بإضافة الكناية إلى الكناية لا يحصل الصريح.
[فرع يلزم الواقف للمسجد والمقبرة أن يتلفظ بذلك]
] : فإن بنى مسجدًا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس في الدفن في أرضه.. لم يصيرا بذلك وقفًا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بنى في داره مسجدًا، وفتح بابه إلى الشارع، وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس بالدفن في أرضه.. صار بذلك وقفًا) .
دليلنا: أنه تحبيس عين على وجه القربة، فكان من شرطه القول مع القدرة عليه، كما لو حبس دارًا على الفقراء والمساكين. وهذا احتراز من الأخرس.
[مسألة صحة الوقف تزيل الملك]
) : وإذا صح الوقف.. زال ملك الواقف عن الوقف.
وحكى أبو العباس ابن سريج فيه قولًا آخر: أنه لا يزول ملكه عن الوقف، وهو قول مالك، والأول هو المشهور؛ لأن الوقف سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك، كالعتق.(8/74)
إذا ثبت هذا: فإلى من ينتقل الملك في الوقف؟
نص الشافعي ها هنا: (أن الملك ينتقل فيه إلى الله تعالى) ونص في (الشهادات) : (أن الرجل إذا ادعي أن أباه وقف عليه، وأقام عليه شاهدًا واحدًا.. حلف معه) .
فمن أصحابنا من قال: هذا يدل على أن الملك انتقل إلى الموقوف عليه؛ لأنه حكم بثبوت الوقف بشاهد ويمين، ولو انتقل إلى الله تعالى.. لم يحكم بثبوته بشاهد ويمين، كما قلنا في العتق، فتكون المسألة على قولين:
أحدهما: ينتقل الملك فيه إلى الموقوف عليه، إلا أنه لا يملك التصرف في رقبته؛ لأن الوقف متمول، بدليل أنه يجب على متلفه القيمة، وما كان متمولًا، فإن الملك فيه للآدمي، كالحربي إذا استرق، والصيد.
والثاني: أنه ينتقل إلى الله تعالى، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يزيل الملك، لا يقصد به الانتفاع بالرقبة، فانتقل إلى الله تعالى كالعتق.
وقال أبو العباس: ينتقل إلى الله تعالى قولًا واحدًا، لما ذكرناه. وإنما حكم الشافعي فيه بالشاهد واليمين؛ لأن ملك المنفعة للموقوف عليه، والمنافع تثبت بالشاهد واليمين.
وحكى القاضي أبو الطيب طريقًا ثالثًا: أن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه قولًا واحد. وحيث قال الشافعي: (يملك الموقوف عليه منفعته لا رقبته) أراد به: لا يملك بيع رقبته ولا هبتها، والصحيح الطريق الأول.
وأما منفعة الوقف: فإنها ملك للموقوف عليه بلا خلاف.
فإن كان الموقوف شجرة.. ملك الموقوف عليه ثمرتها، وتجب فيها الزكاة؛ لأنه يملكها.
وإن كان الموقوف نصابًا من الماشية على رجل تجب عليه الزكاة، وحال عليها الحول، فإن قلنا: إن الملك فيها لله تعالى.. لم تجب فيها الزكاة، وإن قلنا: إنها في ملك الموقوف عليه، فهل تجب الزكاة عليه؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة.(8/75)
قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا: يجب عليه.. فإنه لا يخرجها منها، وإنما يخرجها من ماله، ويملك الموقوف عليه صوفها ولبنها؛ لأنه غلتها. وإن ولدت أولادًا بعد الوقف.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الولد ملك للموقوف عليه يجوز له بيعه؛ لأنه من نمائها، فهو كثمرة الشجرة وكسب العبد.
والثاني: أن الولد يكون وقفًا، كالأم؛ لأن كل حكم ثبت للأم، تبعها فيه الولد، كأم الولد.
وإن وقف بهيمة حاملًا.. قال ابن الصباغ:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد وقفًا.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان كالولد الحادث بعد الوقف، على الوجهين.
[فرع وطء الجارية الموقوفة]
] : وإن كان الموقوف جارية فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، أو أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر للموقوف عليه؛ لأن ذلك من كسبها.
ولا يجوز للموقوف عليه وطؤها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملكها في أحد القولين، ويملكها في الثاني، إلا أنه ملك ضعيف، بدليل أنه لا يملك بيعها ولا هبتها. والوطء لا يكون إلا في ملك تام، فإن خالف ووطئها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه وطء شبهة، ولا يجب عليه المهر؛ لأنه لو وطئها غيره وطئًا يوجب المهر.. لكان المهر الذي يستحق عليه للموقوف عليه، فلا يجوز أن يستحق مهرها على نفسه.
وهل يجوز تزويجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز. كما يجوز إجارتها.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يخاف عليها أن تحبل من الوطء، وتموت منه، فيبطل حق البطن الثاني منها.
وإذا قلنا: يجوز تزويجها.. فمن يزوجها؟(8/76)
إن قلنا: إن الملك فيها للموقوف عليه.. زوجها.
وإن قلنا: إنه لله تعالى.. زوجها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ويجب له مهرها. وإن أتت بولد.. كان على الوجهين في ولد البهيمة.
[مسألة تلف الموقوف]
وإن أتلف أجنبي الوقف، أو أتلفه الواقف.. وجب عليه قيمته، ولمن يكون؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الملك للموقوف عليه.. وجبت له القيمة، يتصرف فيها بما شاء.
وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. اشترى بالقيمة شقصًا وأوقفه ويكون وقفًا بالعين التي أتلفت.
و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يشتري بالقيمة مثل العين على القولين، وهو اختيار ابن الصباغ، لئلًا يبطل حق البطن الثاني منها.
فإن كان الموقوف عبدًا، فقتله عبد عمدًا.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه للموقوف عليه إذا قلنا: إن الموقوف عليه يستحق قيمته، أن يثبت له القصاص. وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. فإن القصاص إلى الإمام إن رأى ذلك.
وإن قطعت يده خطأ.. وجبت فيها نصف قيمته، وفيها وجهان:
أحدهما: تكون للموقوف عليه.
والثاني: يشترى بها شقص من عبد.
وإن قتله الموقوف عليه:
فإن قلنا: إن القيمة تصرف إليه.. لم يجب عليه دفع القيمة؛ لأنه لا يستحق شيئًا على نفسه، كما لو قتل عبد نفسه.(8/77)
وإن قلنا: يشتري بالقيمة مثل العين.. أخذت منه القيمة، واشتري بها عبد يكون وقفًا كالأول، وعلى الموقوف عليه الكفارة بكل حال.
[فرع وطء الواقف أو الأجنبي بشبهة]
وإن كان الموقوف جارية، فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حرًا للشبهة، ويجب عليه قيمته؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده.
فإن قلنا: إن الولد لو كان مملوكًا لكان للموقوف عليه.. وجبت القيمة له.
وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه لو كان مملوكًا.. ففي قيمة الولد طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا أتلفه أجنبي، أو أتلفه الواقف.
ولا تصير الجارية أم ولد للواطئ؛ لأنه وطئها في غير ملكه. وإن وطئها الموقوف عليه وأولد منها ولدًا.. فإن الولد يكون حرًا، سواء علم تحريم الوطء أو لم يعلم؛ لأنه يملكها في أحد القولين، وله فيها شبهة ملك في القول الثاني. فإن قلنا بأحد الوجهين- لو كان الولد مملوكًا كان للموقوف عليه- لم يجب عليه دفع قيمته. وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه.. بني على الطريقين في العين الموقوفة إذا أتلفها أجنبي، فإن قلنا: تؤخذ منه القيمة وتسلم إلى الموقوف عليه.. لم يجب على الموقوف عليه شيء. وإن قلنا: يشتري بها مثلها.. أخذت منه قيمة الولد، واشتري بها مثله.
وهل تصير أم ولد للموقوف عليه؟
إن قلنا إن الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى.. لم تصر أم ولد له.
وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صارت أم ولد له. فإن مات وهي باقية.. عتقت بموته وأخذت قيمتها من تركته، وكان الحكم فيها كما لو أتلفها أجنبي على الطريقين: منهم من قال:(8/78)
إن قلنا: إن الملك ينتقل إلى الله تعالى.. اشترى بالقيمة مثل الجارية، وتكون وقفًا مكانها.
وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صرفت القيمة ها هنا إلى أهل البطن الثاني بعده.
ومنهم من قال: يشترى بها مثل الجارية على القولين.
[فرع جناية العبد الموقوف]
وإن جنى العبد الموقوف على غيره:
فإن كانت جنايته توجب- واختار المجني عليه- القصاص فاقتص منه.. فلا كلام، فإن كان على النفس فقتله.. بطل الوقف، كما لو مات. وإن كانت فيما دون النفس.. بقي الوقف فيما بقي منه.
وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدًا، فعفي عنه على مال.. وجب الأرش، ولا يجوز بيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه.
فإن قلنا: إن ملك الواقف لم يزل عنه.. وجب عليه أرش جنايته.
وإن قلنا: إن ملك الوقف للموقوف عليه.. وجب أرش الجناية عليه، بالغة ما بلغت حتى لو جنى جنايات كثيرة.. وجب عليه أرشها.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل على ضعف هذا القول؛ لأنه لا يجوز أن يجب عليه أرش جناية غيره على وجه يجحف به.
وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تجب على الواقف؛ لأنه منع من بيعه بسبب لم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته، فلزمه الأرش، كأم الولد.
والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الأرش على الواقف؛ لأن(8/79)
ملكه قد زال عنه. ولا على الموقوف عليه؛ لأنه لا يملكه، فلم يبق إلا بيت المال.
والثالث: يجب في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابه على الواقف، ولا على الموقوف عليه؛ لأنهما لا يملكانه، ولا في رقبته؛ لأنه لا يمكن بيعها، فوجب ذلك في كسبه. فإن لم يكن له كسب.. كانت على الوجهين الأولين.
[مسألة تعليق الوقف على شرط مستقبل]
ولا يصح تعليق أصل الوقف بشرط مستقبل، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري هذه على المساكين؛ لأن هذا تصرف لم يبن على التغليب، فلا يصح تعليقه على شرط، كالبيع والهبة.
ولا يصح الوقف بشرط الخيار، ولا بشرط أن يبيعه متى شاء، ولا بشرط أن يدخل فيه من شاء، أو يخرج منه من شاء.
وقال أبو يوسف: يصح بشرط الخيار، وبشرط أن يبيعه متى شاء، في إحدى الراويتين.
دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضاه، فلم يصح، كما لو أعتق عبدًا وشرط شيئًا من هذه الشروط.
وأما صرف غلة الوقف: قال الشافعي: (فهي على ما شرط الواقف من الأثرة، والتقدمة، والتسوية بين أهل الغنى والحاجة، ومن إخراج من أخرج منها بصفة، ورده إليها بصفة) .
قال أصحابنا: فـ (الأثرة) : أن يخص قومًا دون قوم، مثل: أن يقف على أولاده، على أن يخص الذكور دون الإناث، أو الإناث دون الذكور.
وأما (التقدمة) : فإنه يقدم قومًا على قوم، وذلك يحصل من وجهين:
أحدهما: أن يفاضل بينهم، مثل: أن يقول وقفت عل أولادي للذكر مثل حظ الأنثيين، أو على أن للأنثى الثلثين وللذكر الثلث.
والثاني: أن يقول: على أن البطن الأعلى يقدم على البطن الثاني.(8/80)
وأما (التسوية) : فمثل أن يقول: على أن يسوى بين الغني والفقير منهم، أو بين الذكور والإناث. والإطلاق يقتضي ذلك وشرط تأكيدًا.
وأما (إخراج من أخرج بصفة) : فمثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه. وعلى أن من استغنى من أولادي.. فلا حق له فيه.
وأما (رده إليها بصفة) : فمثل أن يقول: على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه، فإن طلقها زوجها، أو مات عنها.. عادت إلى الوقف.
فكل هذا وما أشبهه جائز، ويحمل على ما شرطه الواقف.
فإن قيل: فهذا وقف معلق على شرط، والوقف المعلق على شرط لا يصح؟
فالجواب: أن هذا ليس بوقف معلق على شرط؛ لأن الوقف المعلق على الشرط هو: أن يعلق أصل الوقف على الشرط، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري. وأما هذا: فهو وقف منجز في الحال، وإنما الاستحقاق معلق بشرط، كما قلنا في الوكالة لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك، فلا يصح. ولو قال: وكلتك ولا تتصرف إلا أول الشهر.. صح.
[فرع وقف شيئا على جماعة فقراء]
إذا وقف شيئًا على فقراء بني فلان: فمن جاء منهم وادعى أنه فقير.. أعطي، ولم يكلف إقامة البينة على فقره؛ لأن الأصل في الناس الفقر.
ولو قال على الأغنياء منهم: فمن ادعى الغنى منهم ليأخذ.. كلف إقامة البينة؛ لأن الأصل عدم الغنى.
[فرع وقف على رجل دابة للركوب دون نتاجها]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : إذا وقف دابة على رجل للركوب، ولم يجعل له درها ووبرها.. فللموقوف عليه الركوب، ولي له الدر والوبر، وكان الحكم في الدر والوبر حكم من وقف شيئًا على زيد، وسكت عمن يصرف إليه بعده.(8/81)
[فرع الوقف في سبيل الله للغزاة]
وإن وقف شيئًا في سبيل الله.. كان ذلك وقفا على الغزاة عند نشاطهم دون المرتبين في ديوان الإمام.
وقال أحمد: (الحج من سبيل الله) وتعلق بحديث أم معقل.
دليلنا: أن مطلق كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع، وقد ثبت أن سهم سبيل الله في الصدقات مصروف إليهم، فكذلك الوقف المطلق.
وأما الخبر: فيحتمل أن في كلام الواقف ما دل أنه أراد سبيل الثواب.
وإن وقف شيئًا في سبيل الثواب.. صرف ذلك إلى أهله وقرابته؛ لأنهم أعظم جهات الثواب، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة. وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» .
وإن وقف شيئًا على سبيل الخير.. صرف ذلك إلى من يستحق الزكاة لحاجته إليها، وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمون- لمصلحتهم- وابن السبيل.
[فرع الوقف على وجوه البر]
وإن وقف شيئًا على وجوه البر.. صرف ذلك إلى من اختاره الناظر من الفقراء والمساكين والمساجد والقناطر وسائر مصالح المسلمين.
وقال بعض أهل العلم: يصرف إلى من يستحق الزكاة سوى العاملين عليها. وليس بشيء؛ لأن ذلك يعم جميع مصالح المسلمين.
[فرع الوقف على العلماء]
قال الصيمري: وإن قال: وقفت هذا على العلماء.. صرف ذلك إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها، ولا يصرف إلا إلى من يكمل لهما.(8/82)
وإن قال: وقفت على الفقهاء.. صرف إلى أهل الفروع.
وإن قال: على النحاة.. لم يصرف إلى أهل اللغة.
[فرع وقف ضيعة لحقوق وتبعات]
قال أبو العباس: وإن وقف ضيعة، وقال: يكون الانتفاع منصرفا إلى عمارتها وحق السلطان، وما فضل بعد ذلك في تبعاتي في الزكاة والكفارات.. صح الوقف، وصرفت الغلة إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الظاهر أنه أخرج زكاته وكفارته، وإنما خاف النقص، فيكون هذا تطوعا منه.
[مسألة الوقف على الأولاد يدخل الجميع]
وإن وقف على أولاده.. دخل فيه أولاده من صلبه، الذكور والإناث والخناثى؛ لأن الجميع ولده، ولا يدخل أولاد البنين، ولا أولاد البنات؛ لأن ولده حقيقة هو ولده من صلبه.
وإن كان له حمل.. استحق من الغلة الحادثة بعد انفصاله، دون الحادثة قبل انفصاله؛ لأنه لا يسمى ولدًا إلا بعد الانفصال.
وإن كان له ولد فنفاه باللعان.. لم يدخل فيه.
وقال أبو إسحاق: يدخل فيه. وهذا خطأ؛ لأنه بالنفي خرج عن أن يكون ولده.
[فرع الوقف على أولاد أولاده]
وإن وقف على أولاد أولاده.. دخل فيه أولاد البنين، وأولاد البنات الذكور والإناث والخناثى.(8/83)
وروي: أن رجلا هاشميا بالبصرة وقف على أولاده وأولاد أولاده، وكان له ابن بنت، يقال له: ابن عائشة من أصحاب الحديث، وكان يأخذ من الوقف، فلما ولي عيسى بن أبان القضاء بالبصرة أسقطه من الوقف.
واختلف أصحاب أبي حنيفة فيما فعله عيسى بن أبان: فقال بعضهم: تحامل عليه، لكونه من أصحاب الحديث. فبلغ ذلك أبا حازم - وكان قاضيا ببغداد - فقال: ما تحامل عليه، وإنما هو مذهب محمد بن الحسن؛ لأنه قال: لو قال الإمام لمشرك: أمنتك وأولادك وأولاد أولادك.. لم يدخل أولاد البنات في الأمان؛ لأنهم لا يدخلون في إطلاق اسم أولاد الأولاد. ولهذا قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
دليلنا: أنه لو قال: وقفت على أولادي لدخل فيه الذكور والإناث من ولد صلبه. فإذا قال: على أولاد أولادي.. دخل فيه أولاد بناته.
وأما البيت: فإنما أراد أن أولاده الذين ينسبون إليه، هم أولاد بنيه، دون أولاد بناته.
إذا ثبت هذا: فإن قال: وقفت هذا على أولاد أولادي الذين ينسبون إلي.. دخل فيه أولاد أبنائه دون أولاد بناته؛ لأن أولاد بناته لا ينسبون إليه.
وإن قال هاشمي: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي الهاشميين.. دخل فيه أولاده الذكور والإناث، وأولاد أبنائه؛ لأنهم هاشميون.
وأما أولاد بناته: فمن تزوجت منهن بهاشمي فأولد منها.. دخل فيه؛ لأنه هاشمي. ومن تزوجت بعامي فأولد منها.. لم يدخل في الوقف؛ لأنه عامي، وليس بهاشمي.(8/84)
[فرع الوقف على النسل]
] : وإن وقف على عقبه، أو نسله، أو ذريته.. دخل فيه أولاد صلبه الذكور والإناث والخناثى. ويدخل فيه أولاد أبنائه، وأولاد بناته من قرب منهم، ومن بعد؛ لأن الجميع عقبه ونسله وذريته، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] الآية [الأنعام: 84] فنسب الجميع إلى إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على البعد منه، ونسب عيسى إليه، وهو من أولاد البنات.
وإن قال: وقفت على عشيرتي. فإن كان له عشيرة يحصى عددهم- وهي: قبيلة الرجل التي ينسب إليها- صح الوقف وصرف ذلك إلى جميعهم. وإن كان عددهم لا يحصى- كبني تميم وطيء - ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الوقف؛ لأنه عين الموقوف عليهم، ولا يمكن تعميمهم بالانتفاع به، فلم يصح، كما لو وقف على قوم.
والثاني: يصح، ويعطي ثلاثة ممن يختاره الناظر منهم، وهو الصحيح؛ لأن كل من صح الوقف عليه إذا كان عددهم محصورًا.. صح، وإن كان عددهم غير محصور، كالفقراء والمساكين.
وإن وقف على عترته.. فقد قال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته. وقال ابن قتيبة: هم عشيرته.
[فرع الوقف على جنس من الأولاد]
وإن وقف على البنين من أولاده.. لم يدخل فيه الإناث ولا الخناثى. وإن وقف على الإناث من أولاده.. لم يدخل فيه الذكور ولا الخناثى. وإن وقف على البنين والبنات من أولاده.. فهل يدخل معهم الخنثى المشكل؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:(8/85)
أحدهما: لا يدخل؛ لأنه ليس من البنين ولا من البنات.
والثاني: يدخل فيه؛ لأنه لا يخلو أن يكون من أحدهما، وهذا أصح.
وإن وقف على بني زيد.. لم يدخل فيه بناته. وإن وقف على بني تميم وقلنا: يصح الوقف عليهم.. فهل يدخل الإناث منهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخلن؛ لأن اسم البنين إنما ينصرف إلى الذكور. فعلى هذا: لا يدخل معهم الخناثى.
والثاني: يدخلن؛ لأنه إذا أطلق اسم القبيلة.. دخل فيه الذكور والإناث. فعلى هذا: يدخل معهم الخناثى.
[مسألة الوقف على أولاده وأولاد أولاده مرتبًا ومشتركًا]
وإذا وقف وقفًا على أولاده وأولاد أولاده: فلا يخلو: إما أن يكون الوقف مشتركًا، أو مرتبًا:
فإن كان مشتركًا، وذلك بأن يقول: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن انقرضوا كان على الجامع، أو على الفقراء والمساكين.. فإن الوقف على أولاده وأولاد أولاده يكون مشتركًا بين أهل البطن الأول ومن يحدث بعده، فيشارك من يحدث من كان موجودًا في الغلة الحادثة بعد حدوث الولد؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فإن قال: يستوي الأعلى والأدنى.. كان ذلك تأكيدًا، فإذا انقرضت ذريته.. نقل إلى من بعدهم.(8/86)
وإن كان الوقف مرتبًا، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا الأول فالأول، أو الأدنى فالأدنى، أو الأقرب فالأقرب، أو الأعلى فالأعلى، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، والمساكين.. استحق أهل البطن الأعلى الوقف. فإذا انقرض أهل البطن الأعلى.. صرف إلى أهل البطن الثاني. وعلى هذا: لا يستحق أهل بطن وهناك أحد من أهل البطن الذي فوقه، فإذا انقرضوا.. صرف إلى الفقراء والمساكين.
والثاني: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، وعلى هذا أبدًا.
أو يقول: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولادهم، وعلى هذا أبدًا، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صح وكان مرتبًا. ولكن لا بد أن يقول هاهنا: وعلى هذا أبدًا؛ لأنه ربما يحدث بطن آخر لم يذكره في قوله: فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، أو في قوله: ثم على أولادهم. فإذا قال: وعلى هذا أبدًا.. استغرق جميع من يحدث، بخلاف القسم الأول، حيث قال: ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن ذلك يغني عن قوله: وعلى هذا أبدًا.
فإن قال: وقفت هذا على ولدي، وولد ولدي، ثم على ولد ولد ولدي.. فإن ولده وولد ولده يشتركان في الوقف، فإذا انقرضا.. كان للبطن الثالث.
وإن قال: وقفت هذا على ولدي، ثم على ولد ولدي وولد ولد ولدي.. فإن البطن الأول ينفرد بالوقف، فإذا انقرضوا.. اشترك البطن الثاني والثالث في الوقف؛ لأنه رتب الأول وشرك بين الثاني والثالث.
فإن قال: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على عقبهم ونسلهم، ثم على الفقراء والمساكين:(8/87)
قال الشافعي في " البويطي ": (فإن الوقف يكون للبطن الأول - وهم: أولاده ما عاشوا - فإذا انقرضوا.. كان لأهل البطن الثاني لا يشاركهم فيه أهل البطن الثالث، ولا من بعدهم. فإذا انقرض أهل البطن الثاني.. كان للبطن الثالث والرابع ومن حدث من بعدهم، يشتركون فيه. فإذا انقرض نسله.. كان للفقراء والمساكين؛ لأنه رتب الوقف في البطن الأول. وفي الثاني: يشترك فيمن بعدهم من نسله) .
[فرع وقف كيلا ما على أولاد بناته والباقي للذكور]
] : فإن قال: وقفت نخلي هذه على أولادي، على أن لبناتي منه مكيلة كذا، ويكون الباقي للذكور.. صح، وكان للبنات ما شرطه. فإن بقي شيء.. استحقه الذكور، وإن لم يبق شيء.. فلا شيء لهم.
وإن قال: وقفت هذه على أولادي، فإذا انقرضوا، فعلى أولادهم أبدًا ما تناسلوا، فمن مات منهم وكان له ولد، كان نصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، كان نصيبه لأهل الوقف، فإن كان للواقف ثلاثة أولاد.. كان الوقف أثلاثًا بينهم، فإن مات واحد منهم وله ولد.. كان نصيب أبيه له، فإن مات الثاني بعده ولا ولد له.. رجع نصيبه إلى أخيه وابن أخيه.
[فرع الوقف على أولاده ثم للفقراء بعدهم]
فإن قال: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا أو انقرض أولادهم فعلى الفقراء والمساكين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن أولاد الأولاد يستحقون الوقف بعد انقراض الأولاد؛ لأنهم لما اعتبر انقراضهم لاستحقاق الفقراء.. دل على استحقاقهم من الوقف.
والثاني - وهو الصحيح -: أنهم لا يستحقون شيئًا؛ لأنه لم يجعل لهم من الوقف شيئًا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.(8/88)
فعلى هذا: يكون الوقف منقطع الوسط، فيكون على قولين، كالوقف المنقطع الانتهاء:
أحدهما: أنه باطل.
والثاني: أنه صحيح، فيكون لأولاد الواقف. فإذا انقرضوا وهناك أولاد أولاد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يصرف إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض ولد الولد، ثم يصرف إلى الفقراء والمساكين.
والثاني: أن الوقف يصرف إلى الفقراء والمساكين في الحال.
والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض ولد الولد. وقد مضى دليلها.
[مسألة الوقف على الأقرباء يكون من طرفي الأبوين]
وإن قال: وقفت هذا على قراباتي، أو على أقربائي، أو على ذوي رحمي، أو على أرحامي، أو كان ذلك في الوصية.. صرف ذلك إلى من يعرف بقرابته من قبل الآباء والأمهات. فإن كان له جد يعرف به عند عامة الناس.. صرف إلى من ينسب إلى ذلك الجد دون من ينسب إلى أبي ذلك الجد، ولا إلى من ينسب إلى أخي ذلك الجد، كالشافعي إذا وقف على قرابته، فإنه يصرف إلى من ينسب إلى شافع بن السائب، ولا يصرف إلى من ينسب إلى علي وعباس ابني السائب، ولا إلى من ينسب إلى السائب بن عبيد.
ويدخل فيه بنات الواقف، وأولاد بناته. ويدخل فيه أمهات الواقف، وآباء أمهاته، وأخواته، وخالاته.
وقال أبو حنيفة: (يدخل فيه كل ذي رحم محرم بالنسب، مثل: الآباء والأمهات، والبنين والبنات، وأولادهم، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات دون بنيهم) .
وقال مالك: (يدخل فيه من يرث الواقف لا غير) .(8/89)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] .
وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] [الحشر: 7] . ولنا منها ثلاثة أدلة:
أحدها: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى من سهم ذوي القربى بني أجداده- وهم: بنو هاشم - وبني أعمامه - وهم: بنو المطلب -) .
والثاني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى بني هاشم وبني المطلب سهم ذوي القربى.. أتاه عثمان بن عفان - وهو: من ولد عبد شمس بن عبد مناف -، وجبير بن مطعم - وهو: من ولد نوفل بن عبد مناف - وقالا: أما بنو هاشم فلا ينكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بال بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - إنهم ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام» . فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على دعواهما القرابة، ولكنه أخبر أن ذلك السهم لا يستحق بالقرابة منفردة، وإنما يستحق بالقرابة والنصرة.
والثالث: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي من ذلك السهم من كان يرثه، ومن لا يرثه، فإنه أعطى منه العمات) .
وروي عن الزبير: أنه قال: (كنت أضرب في الغنائم بأربعة أسهم: سهم لي، وسهمين لفرسي، وسهم لأمي) ، وأمه كانت: صفية بنت عبد المطلب عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/90)
وروي: أنه «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشيرته وقال: " يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا عباس، يا فاطمة بنت محمد، إني لا أغني عنكم من الله شيئًا " فعندها قال أبو لهب: ألهذا جمعتنا!؟ تبًا لك، فنزل قَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] » .
إذا ثبت هذا: فإنه يصرف إلى غني قرابته وفقيرهم، وذكرهم وأنثاهم، ويسوى بين الذكر والأنثى، كما لو وهب لرجل وامرأة شيئا.
فإن حدث له قريب بعد الوقف.. دخل في الوقف. وقال في " البويطي ": (لا يدخل في الوقف) وهذا غير صحيح؛ لأن اسم القرابة يتناوله، فدخل فيه، كما لو قال: وقفت هذا على أولادي.. فإنه يدخل فيه من يحدث من أولاده بعد الوقف. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\409-410] : إذا أوصى للقرابة، فهل تقدم قرابة الأب على قرابة الأم؟ ينظر فيه:(8/91)
فإن كان الموصي من العجم.. فلا تقدم قرابة الأب على الأخرى، بل يصرف ذلك إلى أقاربه من جانب الأب والأم.
وإن كان من العرب.. فإنما هو لقرابته من قبل أبيه، فيدفع إلى البطن الذي ينتمي إليه؛ لأن العجم لا تعرف القبائل والبطون، فعندهم الرجل إذا سمى قرابته فإنما يريد به قرابته من جهة آبائه وأمهاته، والعرب تعرف القبائل والبطون بينهم، فلا ينسب الرجل إلى قرابة أمه ألبتة.
[فرع الوقف على أقرب الناس رحما]
وإن وقف على أقرب الناس إليه، أو أقربهم رحمًا به، أو أمسهم رحمًا به، أو أوصى له.. فإنه يصرف إلى أقرب الناس إليه من الرجال والنساء، فإن لم يكن له والدان.. صرف إلى أولاده الذكور والإناث، ويسوى بينهم، ثم إلى أولادهم، ثم إلى أولاد أولادهم، فإن كان له ابن ابنِ ابن، وابنة بنت.. صرف إلى ابنة البنت؛ لأنها أقرب من ابن ابنِ الابن. فإن لم يكن له ولد، ولا ولد ولدٍ، وله أحد الأبوين.. صرف إليه، وإن اجتمعا.. تساويا؛ لأنهما في درجة واحدة.(8/92)
وإن كان له أب وابن.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما سواء؛ لأنهما في أول درجة من الميت.
فعلى هذا: يقدم الأب على ابن الابن.
والثاني - وهو المذهب -: أن الابن يقدم؛ لأنه جزء من الواقف، وأقوى تعصيبًا من الأب.
فعلى هذا: يقدم ابن الابن وإن سفل، على الأب.
وإن اجتمعت الأم والابن.. فينبغي أن يكون على الوجهين المذكورين في الأب والابن.
فإن لم يكن له والد ولا ولد، وله إخوة وأخوات.. صرف إليهم. فإن كان فيهم من يدلي بالأبوين، وفيهم من يدلي بأحدهما.. قدم من يدلي بهما؛ لأنه أقرب. وإن كان أحدهما يدلي بالأب والآخر يدلي بالأم.. فهما سواء، وأولادهم يقومون مقامهم.
فإن لم يكن له إخوة، وله جد من قبل الأب أو من قبل الأم.. صرف إليه. وإن كانت له جدة من قبل أحدهما.. صرف إليها، فإن اجتمع الجد أبو الأب، والجد أبو الأم، وأم الأم، وأم الأب.. صرف إليهم بالسوية؛ لأنهم منه بمنزلة واحدة.
وإن اجتمع الجد أبو الأب، والأخ من قبل الأب والأم، أو من الأب.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء، لتساويهما في القرب منه.
فعلى هذا: يقدم الجد على ابن الأخ.
والثاني: أن الأخ أولى؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه.
فعلى هذا: يقدم ابن الأخ على الجد.
فإن لم يكن له أحد هؤلاء، وله أعمام.. صرف إليهم على ترتيب الأخوة.
فإن كان له عم وأبو جد.. فعلى القولين في الأخ والجد.(8/93)
فإن كان له عم وخال، أو عمة وخالة، أو عم وخالة.. صرف إليهما، وأولادهم يقومون مقامهم.
فإن كانت له جدتان: إحداهما تدلي بقرابتين، والأخرى تدلي بقرابة واحدة، بأن يتزوج رجل بابنة عمته، أو ابنة خالته، ثم يولد له منها ولد.. فإن أم أمّ زوجته تدلي إلى ولدهما بقرابتين، فإن كان هناك جدة تحاذيها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التي تدلي بقرابتين أولى.
والثاني: أنهما سواء.
[فرع الوقف على جماعة من أقرب القرابة]
وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، أو أوصى لهم.. صرف إلى ثلاثة من أقرب الدرجات إليه.
فإن كان له ثلاثة أولاد في درجة واحدة.. صرف إليهم؛ لأنهم أقل الجمع. فإن كان في الدرجة الأولى أقل من ثلاثة.. تمموا من الدرجة التي تليها. فإن كان هناك ثلاثة من ثلاث درجات.. صرف إلى كل واحد منهم ثلث الوقف. فإن كان في الدرجة الأولى أكثر من ثلاثة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الناظر في الوقف والوصية يصرف ذلك إلى ثلاثة يختارهم منهم، كما لو وقف على الفقراء أو أوصى لهم.
والثاني: يصرف إلى جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض، بخلاف الفقراء؛ لأنهم لا ينحصرون، فالوقف والوصية إنما يقع بجهتهم دون أعيانهم.
وإن كان في الدرجة الأولى اثنان، وفي الثانية اثنان.. صرف الثلثان إلى اللذين في الدرجة الأولى، وفي الثلث الباقي وجهان:(8/94)
أحدهما: يصرفه الناظر إلى واحد يختاره من اللذين في الدرجة الثانية.
والثاني: يصرف إليهما بالسوية.
[فرع الوقف على أهل بيته]
وإن وقف على أهل بيته أو أوصى لهم.. صرف إلى أبيه وأقاربه من جهة أبيه، نحو أجداده وإخوته؛ لأنه روي عن ثعلب: أنه قال: أهل البيت: الأقارب من جهة الأب.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: لا يكن لبنيه ولا لأقاربه من أمه شيء؛ لأنهم ليسوا من أهل بيته، فمن كان من أهل بيته وارثًا.. لم تصرف إليه الوصية، بل إلى الباقين.
[مسألة الوقف في مرض الموت]
إذا وقف شيئًا في مرض موته.. فإن ذلك وصية.
فإن كان الوقف على أجنبي: فإن احتمله الثلث من تركته.. صح الوقف. وإن لم يحتمله الثلث.. لزم الوقف في قدر الثلث ووقف ما زاد عليه على إجازة الورثة.
وإن وقف على وارثه في مرض موته.. وقف على إجازة الورثة، سواء احتمله الثلث أو لم يحتمله، كالوصية له.
فإن كان له دار لا يملك غيرها، فوقفها على ابنه في مرض موته، ولا وارث له سواه..
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\411] : لزم الوقف في ثلثها؛ لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ثلثها، وله أن يفعل ذلك في ثلثه.
وأما الثلثان: فللابن إبطال الوقف فيهما؛ لأن الإنسان لا يملك التبرع في مرض موته إلا بثلث تركته، فإن أبطله.. فلا كلام، وإن اختار أن يجيزه وقفًا على نفسه:(8/95)
فإن قلنا: إن الإجازة من الوارث ابتداء عطية منه.. لم يصح، كما لا يجوز أن يقف على نفسه.
وإن قلنا: إنه تنفيذ لما فعله الموصي.. صح.
[فرع وقف داره على ابنه وابنته]
وإن كان له دار، فوقفها على ابنه وابنته بينهما نصفين، واحتملها الثلث، ولا وارث له غيرهما، فإن أجاز الابن الوقف على أخته.. صح، وكانت الدار وقفًا بينهما نصفين. وإن أبى أن يجيزه.. قال ابن الحداد: بطل الوقف في نصف الموقوف على الابنة - وهو: ربع الدار - ويبقى الربع موقوفًا على الابنة، والنصف موقوفًا على الابن، ثم يقتسمان الربع الذي بطل فيه الوقف بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
وتصح المسألة من اثني عشر: للابن ثمانية أسهم: ستة منها وقف عليه، وسهمان طلق له، وللابنة أربعة أسهم: ثلاثة وقف عليها، وسهم طلق لها.
فإن كانت له دار وقفها على ابنه وزوجته نصفين بينهما، ولا وارث له غيرهما، وخرجت الدار من ثلثه، فإن أجاز الابن الوقف على الزوجة.. كانت وقفًا بينهما نصفين. وإن لم يجز.. فقد فضل الزوج الزوجة بثلاثة أسهم من ثمانية من الدار، فيبطل الوقف فيها، ويكون ذلك ملكًا للابن طلقًا، ويبقى أربعة أسهم من ثمانية من الدار وقفًا على الابن، فيصير أربعة أسباع نصيبه وقفًا عليه، وثلاثة أسباع نصيبه طلقًا له، فيجب أن يكون نصيب الزوجة كذلك؛ لأنه سوى بينهما في الوقف، فيكون أربعة أسباع ثمنها وقفًا عليها، وثلاثة أسباع ثمنها طلقًا لها، فنضرب ثمانية في سبعة، فذلك ستة وخمسون، للابن تسعة وأربعون سهمًا: ثمانية وعشرون منها وقف عليه، وأحد وعشرون طلق له. وللزوجة سبعة أسهم: أربعة وقف عليها، وثلاثة طلق لها.
[مسألة وقف على الموالي]
وإن وقف على مواليه، أو أوصى لهم:
فإن كان له مولى من أعلى، وهو الذي أعتقه وأنعم عليه.. صرف ذلك إليه.(8/96)
وإن كان له مولى من أسفل، وهو الذي أعتقه الواقف أو الموصي.. صرف ذلك إليه.
وإن كان له مولى من أعلى ومولى من أسفل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يصرف ذلك إليهما؛ لأن اسم المولى لجميعهما.
والثاني: يصرف ذلك المولى من أعلى؛ لأن جنبته أقوى؛ لأنه الوارث له.
والثالث: لا يصح الوقف؛ لأن اسم المولى في أحدهما لمعنى معين، وفي الآخر لمعنى آخر، فصار من أسماء الأضداد؛ لأن أحدهما منعم، والآخر منعم عليه، ولا يمكن حمله على العموم فيهما؛ لأن العموم إنما يحمل إذا كان من أسماء الأجناس كالمسلمين والمشركين.
وإن كان الموقوف عليه والموصى له منهما مجهولًا.. لم يصح.
[مسألة وقف على جماعة فمات أحدهم وله ولد]
إذا قال: وقفت هذا على زيد وعمرو وبكر، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على شرطه.
وإن قال: وقفته على زيد وعمرو وبكر، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، نقل نصيبه إلى أهل الوقف، أو إلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على ما شرطه.
وإن قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين، وأطلق، فمات واحد منهم.. ففيه قولان سواء كان له ولد أو لم يكن:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري -: أن نصيبه يصرف إلى الفقراء(8/97)
والمساكين؛ لأنه لما جعل الجميع لهم إذا انقرضوا.. وجب أن يكون نصيب كل واحد منهم لهم إذا انقرض.
والثاني- وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن نصيبه يكون لمن بقي من الآخرين) . وبه قال مالك.
قال أبو العباس: ولأي معنى صرف إليهما.. يحتمل معنيين:
أحدهما: لأنه لا يمكن دفع نصيبه إلى الفقراء والمساكين؛ لأنه جعل انقراض أهل الوقف شرطًا في استحقاق الفقراء، ولم يوجد انقراضهم، فلا يمكن رده إلى الواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه فلم يبق إلا صرفه إلى من بقي منهم؛ لأنه أقرب.
والمعنى الثاني: أنه لما قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صار كأنه وقفه عليهم وعلى من عاش منهم، وهذا من ضمن كلامه معلوم.
[مسألة وقف مسجدا لفئ]
ة] : إذا وقف مسجدًا على الشفعوية.. فهل يمكن غيرهم من الصلاة فيه؟ حكى الطبري فيه قولين.
وإن وقف مسجدًا في محلة فخربت المحلة، أو وقف دارا فخربت وتعطلت منافعها.. لم يبطل الوقف فيهما.
وقال أحمد: (إذا خربت المحلة.. جاز نقض المسجد وصرف آلته إلى بناء مسجد آخر، وإذا خربت الدار.. جاز بيعها، وصرف ثمنها إلى بناء دار أخرى) .
وقال محمد: يبطل الوقف فيهما، ويكونان ملكًا للواقف.(8/98)
دلينا: أن ما زال الملك فيه لحق الله.. لا يبطل باختلال الانتفاع به، كما لو أعتق عبدًا ثم زمن، ولأنه قد يصلي فيه أفراد الناس، وقد تعمر المحلة وتعمر الدار.
[فرع وقف نخلة فيبست أو مسجدًا فتلف منه شيء]
وإن وقف نخلة فانقلعت أو يبست، أو وقف مسجدًا فانكسرت خشبة منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز بيعها، لما ذكرناه في المسجد.
والثاني: يجوز بيعها؛ لأن منفعتها بطلت، فكان بيعها أولى من تركها.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب صرف ثمنها في شراء مثلها لتكون وقفًا مثلها، أو يكون ملكًا للموقوف عليه، ويصرف في سائر مصالح المسجد؟ فيه طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا تلف.
قال أبو علي السنجي: وكل ما اشتري للمسجد من الحصير والخشب والآجر والطين. لا يجوز بيع شيء منه؛ لأن ذلك كله في حكم المسجد، فهو كجزء من أجزائه. فإن أشرفت على الهلاك ولا يحتاج المسجد إليها، كالحصيرة البالية والأخشاب العفنة.. فهل يجوز بيعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنا لو قلنا: لا يجوز بيعها.. لهلكت.
والثاني: لا يجوز، قال: وهو الأصح؛ لأنها في حكم المسجد.
قال الطبري: وما أشرف على الهلاك من أستار الكعبة، ولم يبق فيه جمال ولا منفعة.. فهل يجوز بيعه؟ يحتمل أن يكون على هذين الوجهين.
قال: والصحيح في الكل: لا يجوز بيعه.(8/99)
[فرع وقف على ثغر فبطل]
وإن وقف أرضًا على ثغر، فبطل الثغر وتعذر القتال فيه.. حفظ انتفاع الوقف. وهو: غلته - ولا يصرف إلى غيره، لجواز أن يعود الثغر كما كان.
[مسألة احتياج الوقف إلى نفقة]
وإذا احتاج الوقف إلى نفقة، بأن كان حيوانًا أو أرضًا تحتاج إلى العمارة:
فإن شرط الواقف أن نفقة ذلك من غلة الوقف.. أنفق عليها من غلتها، وما بقي صرف إلى أهل الوقف.
قال ابن الصباغ: وإن شرط الواقف أن تكون نفقتها من ماله.. حمل على ذلك. وإن أطلق ذلك.. أنفق عليه من غلته؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك.
فإن بطلت منفعته، بأن كان عبدًا فزمن:
فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. أنفق عليه من بيت المال، كالحر المعسر.
وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كانت نفقته عليه.
وإن قلنا بالقول المخرج: إن ملك الواقف باق عليه.. وجبت نفقته عليه.
[مسألة النظر في الوقف]
وأما النظر في الوقف: فإن جعل الواقف النظر فيه لنفسه أو لغيره.. حمل على ذلك؛ لما ذكرناه من أخبار الصحابة.(8/100)
وإن لم نجعله إلى أحد: فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله.. كان النظر فيه إلى الحاكم.
وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كان النظر فيه إليه.
وإن قلنا بالقول المخرج: إنه باق على ملك الواقف.. كان النظر فيه إليه.
فإن جعل الواقف النظر فيه إلى اثنين من أهل الوقف، ولم يوجد في أهل الوقف من يصلح للنظر إلا واحد.. ضم إليه الحاكم واحدًا؛ لأن الواقف لم يرض إلا بنظر اثنين.
[مسألة وقف على أولاده أرضًا بأيديهم]
إذا وقف على أولاده أرضًا وهي في أيديهم، فاختلفوا فيها:
فقال الذكور: جعلها للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال الإناث: بل جعل الذكور فيها والإناث سواء.
أو قال أهل البطن الأول: هي على الترتيب، وقال أهل البطن الثاني: هي على التشريك بيننا وبينكم: فإن كان هناك بينة.. عمل بها، وإن لم تكن هناك بينة، فإن كان الواقف حيًا.. رجع إليه في بيانه؛ لأنه ثبت بقوله، فرجع إليه. وإن كان ميتًا.. حلفوا، وجعلت بينهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، فتحالفوا، كما لو اختلف اثنان في ملك دار.
[فرع أرض بعضها وقف والآخر طلق]
إذا كان هناك أرض بعضها وقف وبعضها طلق، فأراد أهل الطلق أن يقاسموا أهل الوقف، والأرض مما يحتمل القسمة، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم تصح القسمة؛ لأن الوقف لا يصح بيعه، وإن قلنا: إنها فرز النصيبين، ولم يكن فيها رد.. صحت القسمة، وإن كان فيها رد.. نظرت:
فإن كان صاحب الطلق يرد على أهل الوقف.. لم يصح؛ لأنه يعطي عوضًا عن شيء يأخذه من الوقف، وذلك لا يجوز.(8/101)
وإن كان أهل الوقف يردون على صاحب الطلق.. صح؛ لأنهم يميزون الوقف، ويبذلون العوض عن شيء يملكونه من حق الشريك، وذلك جائز.
وأما قسمة الوقف بين أربابه: فقال سليم وابن الصباغ: لا يصح قولا واحدًا؛ لأنا وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين، إلا أنه يتعلق بها حق البطن الثاني، فلا يجوز لأهل البطن الأعلى التصرف بحقوقه، ولأن ذلك تغيير للوقف، وهو لا يجوز تغييره.
[مسألة أشياء كانت في الجاهلية]
ذكر أصحابنا في تفسير قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] [المائدة: 103] وهذه أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، فورد الشرع بإبطالها.
فأما (السائبة) : فإن الناقة كانت إذا ولدت عشرة بطون كلها إناث متوالية سيبوها إكرامًا لها، فلا تركب ولا يجز وبرها، ولا يشرب من لبنها أحد إلا أن يطرقهم ضيف ولا لبن عندهم فيحلبونها له، فإذا ماتت: أكلها الرجال دون النساء، وكانوا يستحلون أكل الميتة. وقد سمى الفقهاء العبد يعتق بشرط أن لا ولاء عليه سائبة.
وأما (البحيرة) : فهو ولد السائبة بعد أن تسيب، ويكون حكمه حكم أمه.
وإنما سمي بحيرة؛ لأنهم كانوا يشقون أذنه ليعلم أنه ولد السائبة. و (البحر) : الشق. ومنه سمي البحر بحرًا؛ لأن الله تعالى جعله مشقوقًا في الأرض شقًا.
وقيل (البحيرة) : الناقة إذا ولدت خمسة بطون، فتشق أذنها وتسيب. والأول أصح.
وأما (الوصيلة) : فهي الناقة أو الشاة إذا ولدت سبعة بطون، في ست أنثيان أنثيان، وفي السابعة ذكر وأنثى؛ لأنها وصلت الذكر بالأنثى، فيسيبونها ولا يشرب من لبنها إلا الرجال دون النساء.
وأما (الحام) : فقيل: هو الفحل إذا نتج منه عشرة بطون، قيل: قد حمى ظهره، وسيب.(8/102)
وقيل: هو الفحل الذي نتج ولد ولده، فيسيب ولا ينتفع به، وكانوا يعتقدون ذلك قربة.
قال الشافعي: (وهذا تأويل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بإطلاق الحبس، وهو الحبس الذي كانت تفعله الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولا يعلم أن أحدًا منهم حبس داره أو أرضه) .
والله أعلم وبالله التوفيق(8/103)
[كتاب الهبة](8/105)
كتاب الهبة الهبة: تمليك العين بغير عوض. وهي مندوب إليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] [البقرة: 177]
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تهادوا تحابوا» .(8/107)
وأجمع المسلمون على استحبابها.
إذا ثبت هذا: فإن الهبة للأقارب أفضل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] [البقرة: 177] فبدأ بهم، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم.
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها.. وصله الله، ومن قطعها.. قطعه الله» .
و (الشجنة) : تروى بضم الشين وكسرها.
وروي: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يقول الله: أنا الله، وأنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها.. وصلته، ومن قطعها.. بتته» . يعني: قطعته.(8/108)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة: على ذي الرحم الكاشح» يعني: المعادي؛ لأن الصدقة تقطع العداوة وترفعها.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سره أن ينسأ في أجله، ويوسع في رزقه.. فليصل رحمه» .
وفي الهبة صلة للرحم.
فإذا أراد أن يهب أولاده. فالمستحب أن يعمهم، وأن يساوي بين الذكور والإناث. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.
وقال شريح: المستحب أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال أحمد وإسحاق.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدًا.. لفضلت البنات» .(8/109)
«وروى النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل ولدك نحلت مثل هذا؟ " قال: لا. قال: " أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ " قال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي: " فاردده» .
و (النحلة) - بضم النون وبكسرها - هي: العطية.
قال الشافعي [في " مختصر المزني " (3/122) ] : (ولأن الأقارب ينفس بعضهم بعضًا ما لا ينفس العدا) .
يعني: أن الأقارب يتنافسون ويتحاسدون أكثر من الأجانب، وربما أدى ذلك إلى قطع الرحم. فـ (العدا) - بكسر العين -: الأجانب والأباعد. و (العدا) - بضم العين -: العداوة.(8/110)
فإن وهب لبعض أولاده دون بعض، أو فاضل بينهم.. صح ذلك، ولم يأثم به، غير أنه قد فعل مكروها، وخالف السنة. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال طاووس، وأحمد، وإسحاق: (لا تصح الهبة) .
وقال داود: (تصح، ولكن يجب عليه أن يرجع فيها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النعمان بن بشير: " فارجعه ". فلولا أن الهبة قد صحت.. لما أمره بالرجعة.
وفي رواية: «أن النعمان بن بشير قال: يا رسول الله! إن أمه قالت: لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قال له ما قال من أنه لم ينحل جميع ولده مثله.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أشهد على هذا غيري» فلو لم تصح الهبة.. لما أمره بأن يشهد عليه غيره، وإنما امتنع من أن يشهد على ذلك، لئلا يصير ذلك سنة.
وروي: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (نحل عائشة جداد عشرين وسقًا من ماله دون سائر أولاده) .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهب ابنه عاصمًا دون عبد الله وعبيد الله وزيد) . وكذلك روي عن عبد الرحمن بن عوف. ولا مخالف لهم.(8/111)
ولا يستنكف أن يهب القليل، ولا أن يتهبه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أهدي إلى ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» .
[مسألة قبول الهبة والهدية]
الهبة والهدية وصدقة التطوع حكمها واحد، وكل لفظ من هذه يقوم الألفاظ يقوم مقام الآخر، ولا يصح شيء من هذا كله إلا بالإيجاب والقبول، ويكون القبول فيه عقيب الإيجاب، كما قلنا في البيع.
وقال أبو العباس: يصح أن يكون القبول في ذلك متراخيًا عن الإيجاب، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة» .(8/112)
والأول أصح؛ لأنه تمليك في حال الحياة، فكان القبول فيه على الفور، كالبيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : الهدية لا تفتقر إلى القبول.
وقال ابن الصباغ: لا تفتقر الهبة والهدية وصدقة التطوع إلى الإيجاب والقبول، بل إذا وجد منه ما يدل على التمليك.. صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يهدى إليه، فيقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل في شيء من ذلك أن الرسول أوجب له، ولا أنه قبل. وكذلك: (أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة) . وما نقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإيجاب والقبول. وكذلك الناس يدفعون صدقات التطوع فيقبضها المدفوع إليهم، ويتصرفون فيها من غير إيجاب وقبول، ولم ينكر هذا منكر، فدل على أنه إجماع.
فإن قيل: فهذه إباحات مال؟ فالجواب: أن الناس أجمعوا على تسمية ذلك هبة، وهدية، وصدقة، ولأن الإباحة تختص بالمباح له، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أهدي إليه شيء.. يهديه إلى زوجاته وغيرهن، وقد أهديت له حلة، فأهداها لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب الأول.(8/113)
[مسألة لزوم الهبة بالقبض]
ولا تلزم الهبة إلا بالقبض: فإذا وهب لغيره عينا.. فالواهب بالخيار: إن شاء أقبض الموهوب له، وإن شاء لم يقبضه. وبه قال الثوري وأبو حنيفة.
وقال مالك: (تلزم الهبة بالإيجاب والقول من غير قبض، فإن امتنع الواهب من الإقباض.. رفعه الموهوب له إلى الحاكم، ليجبره على الإقباض) ، كما قال في الرهن، وقال: (إذا أعار الرجل داره شهرًا.. فقد لزم المعير ذلك، وليس له أن يرجع في العارية قبل انقضاء الشهر) .
دليلنا: ما روي: (أن أبا بكر نحل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جداد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة.. قال: يا بنية، ما أحد أحب إلي منك ولا أعز علي فقدًا منك) . وفي رواية: (ما أحد أحب إلي غنى منك، ولا أعز علي فقرًا منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي، ووددت أنك جذذته وحزته وقبضته، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هم أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، فقالت: لو كان كذا وكذا - تعني: أكثر - لتركته، أما أخواي.. فنعم، وأما أختاي.. فما لي إلا واحدة: أسماء، فمن الأخرى؟! فقال: إنه قد ألقي في روعي - وفي رواية: أن روح القدس نفث في روعي - أن في بطن بنت خارجة جارية، وكانت زوجة أبي بكر بنت خارجة حاملًا فولدت جارية) .
قال: و (الروع) ـ بضم الراء ـ: الذهن، وـ بفتحها ـ: الزيادة.
ووجه الدلالة من الخبر: أنه كان وهبها في صحته، وإنما لم يقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح.
وقيل: إن الذي كان نحلها ثمرة نخل.(8/114)
وروي عن عمر: أنه قال: (لا تتم نحلة حتى يحوزها المنحول) .
وروي ذلك: عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، ومعاذ، وأنس، ولا مخالف لهم، فدل على أنه إجماع، ولأنها هبة لم تقبض، فكانت غير لازمة، كما لو مات الواهب قبل أن يقبض الموهوب، فإن وارث الواهب لا يجبر على الإقباض. وقد وافقنا مالك على ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن الموهوب له ليس أن يقبض إلا بإذن الواهب، فإن قبض بغير إذنه.. لم يصح القبض.
وقال أبو حنيفة: (إذا قبضه الموهوب له في مجلس الهبة بغير إذن الواهب.. صح القبض، وإن قاما من المجلس.. لم يكن له أن يقبض بغير إذنه) .
دليلنا: أنه لم يأذن له في القبض، فلم يصح له قبضه، كما لو قاما من المجلس قبل أن يأذن له.
[فرع القبض قبل الإيجاب والقبول]
إذا أذن له بقبض العين الموهوبة قبل الإيجاب والقبول.. لم يصح الإذن، كما لو شرط المتبايعان الخيار قبل العقد.
وإن قال: وهبتك هذه الدار، وأذنت لك في قبضها، فقال الموهوب له: قبلت.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو قول شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه(8/115)
لا يصح؛ لأنه أذن في القبض قبل تمام العقد.. فلم يصح، كما لو أذن له في القبض قبل العقد.
ولأنه فصل بين الإيجاب والقبول بالإذن، فلم يصح، كما لو فصل بينهما بكلام.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب في " المنهاج "، والشيخ أبو إسحاق في " التعليقة ": بالخلاف- أي- يصح.
ووجه ذلك عندي: أن الإذن شرط في الهبة، فلم يفصل بين الإيجاب والقبول، كذكر الثمن في البيع.
[فرع رجوع الواهب قبل الإقباض]
إذا وهب له عينًا، وأذن له في قبضها، ثم رجع الواهب عن الإذن قبل القبض.. بطل الإذن؛ لأن الإذن يبطل بالرجوع.
وإن وهبه عينًا، ثم باعها الواهب قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فإن اعتقد أن الهبة ما تمت.. صح بيعه، وبطلت الهبة. وإن كان يعتقد أن الهبة قد تمت قبل القبض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح بيعه؛ لأنه عقد وهو متلاعب، وأنه ليس ببيع.
والثاني: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكه.
وإذا قبض الموهوب له العين الموهوبة بإذن الواهب.. فقد ملكها، ومتى يملكها؟ فيه وجهان:(8/116)
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: تبين الملك أنه ملك بالعقد، فإن حدث في العين الموهوبة نماء بعد العقد وقبل القبض.. كان ملكًا للموهوب له؛ لأن الشافعي قال: (لو وهب له عبدا قبل أن يهل هلال شوال، وقبضه بعدما أهل.. فإن زكاة الفطر على الموهوب له) .
والثاني- وهو المنصوص -: (أنه ملكه من حين القبض) .
فعلى هذا: يكون النماء الحادث بعد العقد وقبل القبض للواهب؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، فلا يقع الملك للموهوب قبله، كما لا يملك قبل تمام العقد.
وما حكي عن الشافعي: فإنما فرعه على مذهب مالك. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\354] هذين الوجهين قولين.
[فرع موت الواهب قبل الإقباض]
إذا مات الواهب بعد العقد وقبل القبض.. فهل تبطل الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل الهبة؛ لأنها عقد غير لازم، فبطلت بالموت، كالوكالة.
والثاني- وهو المنصوص -: (أنها لا تبطل) ؛ لأنها عقد يؤول إلى اللزوم، فلم تبطل بالموت، كالبيع بشرط الخيار. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : إذا مات أحدهما بعد العقد وقبل القبض، فإن قلنا: إنها تملك بالقبض.. بطل العقد. وإن قلنا: تبين بالقبض أنه ملك بالعقد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل العقد؛ لأن القبض ركن في الهبة، كما أن القبول ركن في البيع، ومعلوم أن البيع يبطل بموت أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يبطل. وهو الأصح؛ لأن العقد قد تم إلا أن إمضاءه موقوف على القبض، فصار كالبيع بشرط الخيار.(8/117)
[فرع أذن بالقبض ثم مات]
إذا أذن له في القبض، ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، وقلنا: لا تبطل الهبة.. بطل الإذن؛ لأنه جائز، فبطل بالموت.
قال أبو العباس: إذا بعث رجل مع رجل هدية إلى رجل، فمات المهدي قبل أن يقبض المهدى إليه الهدية.. كان ذلك لورثة المهدي.
وكذلك إذا اشترى الحاج هدايا لأهل بيته وأصدقائه، فمات قبل أن يصل.. كان ذلك لورثته؛ لأن ملكه لم يزل عن ذلك كله.
[فرع وهبه وأقبضه ثم نكل]
] : إذا قال: وهبت داري هذه من فلان، وأقبضته إياها، فصدقه المقر له.. قُبِل إقراره، وحكم للموهوب له بملك الدار.
فإن قال الواهب: لم أكن أقبضته، فحلفوه أني أقبضته:
قال الشافعي: (أحلف المقر له، لجواز أنه لم يكن أقبضه) .
وإن قال: وهبت له هذه الدار، وخرجت إليه منها.. قال الشافعي: (لم يكن ذلك إقرارًا منه بالقبض؛ لأن قوله: خرجت إليه منها يحتمل أنه أراد بالهبة) .
وإن قال: وهبت له هذه الدار وملكها.. لم يكن إقرارا منه بالقبض، لجواز أن يعتقد أن القبض ليس بركن في الهبة، وأنه لا يفتقر إليه في لزوم الهبة على مذهب مالك.
[فرع كساه ولم يرد الهبة]
قال الطبري: إذا قال رجل لآخر: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة.. قبل قوله. وقال أبو حنيفة: (لا يقبل) .
دليلنا: أن هذا اللفظ يصلح للإعارة والهبة، فهو كما لو قال: حملتك على دابتي، أو أخدمتك جاريتي.(8/118)
وإن قال: أطعمتك هذا الطعام، فاقبضه، ثم قال: ما أردت به الهبة.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقبل. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يطعم إلا ما ملكه.
والثاني: يقبل؛ لأن اللفظ يصلح للإباحة دون التمليك، فهو كما لو قال: أطعمتك أرضي.
وإن قال لرجل: لك هذه الأرض، فاقبضها.. لم يكن صريحًا في الهبة.
وقال أبو حنيفة: (يكون صريحًا فيها) .
دليلنا: أن هذا اللفظ يصح من غير مالك على وجه الخبر، فهو كما لو قال: هذه الدار لك، ولم يقبضها.
وإن قال: منحتك هذه الدار، أو هذا الثوب، وقال: قبلت، وأقبضه.. كان ذلك هبة.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون هبة إلا أن يريدها، وتكون عارية) .
دليلنا: أنه لفظ يصلح للتمليك، فكان صريحًا في التمليك، كلفظ الهبة.
[مسألة ما صح هبة كله صح هبة بعضه]
] : كل عين صحت هبتها.. صح هبة جزء منها مشاع. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت مما لا ينقسم كالعبد والدابة والثوب وما أشبهها.. صحت هبة جزء منها مشاع. وإن كانت مما ينقسم كالدار والأرض والطعام.. لم يصح هبة جزء منها مشاع من الشريك ولا من غيره) .
قال: (وإن كان بين رجلين دار فوهباها لرجل بينهما.. صحت الهبة. وإن وهب الرجل داره لرجلين.. لم يصح) .(8/119)
وقال أبو يوسف ومحمد: يصح هاهنا، وإجارة المشاع عند أبي حنيفة لا تصح من الشريك ولا من غيره، ورهن المشاع عنده لا يصح بحال.
دليلنا: ما روى أبو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتينا الروحاء، فوجدنا حمار وحش معقورًا، فأردنا أخذه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإنه يوشك أن يجيء صاحبه " فجاء رجل من فهر - وكان هو الذي عقره- فقال: هو لكم يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: " اقسمه بين الناس» . فوجه الدليل من الخبر: أن الرجل وهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الحمار مشاعا، فدل على جواز هبة المشاع، ولأنه مشاع يصح بيعه.. فصحت هبته، كالذي لا ينقسم.
إذا ثبت هذا: فإن كان الموهوب مما لا ينقل ولا يحول، كالأرض والدور:
قال الشيخ أبو حامد: فإن القبض فيه أن يخلي بينه وبينه فيحضره إياه، ويقول: خليت بينك وبينه فتسلمه.
وإن كان مما ينقل ويحول.. فإن القبض لا يحصل فيه إلا بالنقل، فإن رضي الشريك الذي لم يهب أن يكون ذلك الشيء في يد الموهوب له.. جاز، فيكون نصفه له ونصفه وديعة. وإن لم يرض الشريك الذي لم يهب بذلك، فإن وكل الموهوب له الشريك ليقبض له.. صح. وإن لم يرض واحد منهما.. نصب الحاكم أمينًا ليقبض ذلك الشيء، وينقله، ويكون في يده أمانة للموهوب والشريك.
[فرع الهبة لرجلين]
وإن وهب رجل لرجلين شيئًا، فقبل أحدهما دون الآخر.. صحت الهبة في نصفه للذي قبل؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.(8/120)
[فرع ما لا يصح بيعه لا تصح هبته]
] : وما لا يصح بيعه من المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملكه عليه.. لا تصح هبته؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع.
فإن وهبه عينًا مجهولة.. لم تصح الهبة.
وقال مالك: (تصح الهبة) .
دليلنا: أنه تمليك لا يتعلق بخطر، فلم يصح في المجهول، كالبيع. وقوله: (بخطر) احتراز من الوصية.
وإن وهب المغصوب منه العين المغصوبة منه للغاصب.. صحت الهبة. وهل تفتقر إلى الإذن بالقبض؟ على وجهين. مضى ذكرهما في الرهن.
وإن وهبها لغير الغاصب ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب.. صحت الهبة، فإذا أذن له في القبض، فقبضه. لزمت الهبة. وإن وكل الغاصب في القبض له، فمضى زمان يمكن فيه القبض.. صارت مقبوضة للموهوب له، وزال الضمان عن الغاصب؛ لأن الملك الذي صار مضمونًا زال، وصار مقبوضًا لمالك آخر بإذنه، بخلاف ما إذا وهبه الغاصب، وأذن له في قبضه.. فإن الضمان لا يزول عنه؛ لأن الملك باق لم يزل.
وإن وهب المعير العين المستعارة منه للمستعير.. صحت الهبة. فإن أذن له في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صار مقبوضًا عن الهبة.
وإن وهبها لغير المستعير.. صحت الهبة، فإن وكله في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صارت مقبوضة للموهوب له، وبطلت العارية، لزوال ملك المعير.
[فرع هبة العين المؤجرة]
وإن وهب المؤاجر العين المستأجرة لغير المستأجر.. ففيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها:(8/121)
فإن قلنا: تصح هبتها.. فهل تصح هبة العين المرهونة بغير إذن المرتهن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\353] .
أحدهما: يصح، كما تصح هبة المستأجر، ولا يبطل الرهن، بل إذا انفك الرهن.. سلم في الهبة، كما تسلم العين المستأجرة بعد انقضاء الإجارة.
والثاني: لا تصح الهبة؛ لأن الهبة تصرف بإزالة الملك، والراهن ممنوع من التصرف بما يزيل الملك، كما لا يجوز له بيع الرهن.
وهل تصح هبة الأرض المزروعة دون زرعها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".
[فرع تعليق الهبة على شرط مستقبل]
ولا يجوز تعليق الهبة على شرط مستقبل، كما قلنا في البيع.
وهل تبطل الهبة بالشروط الفاسدة؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: تبطل- وهو المشهور - كما قلنا في البيع.
والثاني: تصح الهبة ويبطل الشرط، كما قلنا في العمرى والرقبى. فإذا قلنا بهذا: فوهبه جارية حاملا، واستثنى الواهب حملها.. بقي الحمل للواهب.
[مسألة يقبل الهبة للصبي وليه]
قال الشافعي: (ويقبض للطفل أبوه) .
وجملة ذلك: أنه إذا وهب غير ولي الطفل للطفل هبة: فإن كان له أب أو جد، وكان عدلًا.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه هو المتصرف عنه. وإن كان فاسقًا.. لم يصح قبوله ولا قبضه؛ لأنه لا ولاية له عليه مع الفسق.
وإن لم يكن له أب ولا جد، وكان الناظر في ماله الوصي من قبلهما، أو الأمين من قبل الحاكم.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه المتصرف عنه.
وإن كان الواهب للطفل هو وليه: فإن كان الولي عليه الوصي، أو الحاكم، أو(8/122)
أمينه.. لم يصح قبوله له من نفسه ولا قبضه، بل ينصب له الحاكم أمينا ليقبل له الهبة، ويقبض له؛ لأنه لا يصح أن يبيع ماله بماله، فلم يصح قبوله له.
وإن كان وليه أباه أو جده.. صح أن يقبل له الهبة من نفسه؛ لأنه يجوز له أن يبتاع ماله بماله.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : وهل يفتقر إلى أن يتلفظ بالإيجاب والقبول، أو يكفيه أحدهما؟ فيه وجهان، والمشهور: أنه لا بد أن يتلفظ بهما.
وأما القبض:
فإن قلنا: إنه إذا وهب لغيره وديعة في يده لا تحتاج إلى القبض.. صار ذلك مقبوضًا له. وإن قلنا: لا بد من القبض في هبة الوديعة.. فلا بد أن يقول هاهنا: وقبضت له من نفسي.
وإن وهب الرجل لابنه البالغ.. لم يصح حتى يقبل الابن الهبة، أو وكيله. فإن قبل له الأب الهبة.. لم يصح.
وقال ابن أبي ليلى: يصح إذا كان يعوله.
دليلنا: أنه لا ولاية له عليه بعد البلوغ، فلم يصح قبوله له، كما لو كان لا يعوله.
[فرع الهبة للغائب لا يقبضها الوكيل]
] : قال أبو العباس: فإن وهب رجل لرجل غائب هبة، فوكل الواهب رجلًا ليقبل الهبة للغائب منه، ويقبضها منه.. لم يصح؛ لأن الواهب لا ولاية له على الغائب، فلم يصح توكيله عنه.(8/123)
[مسألة رجوع الأصل في هبته لفرعه]
] : وإذا وهب أحد الأبوين لولده شيئًا.. جاز له الرجوع فيه، سواء أقبضه إياه، أو لم يقبضه.
وكذلك إذا وهب أحد الأجداد، أو الجدات من قبل الأب، أو الأم وإن علا شيئًا لولد الولد وإن سفل، وأقبضه.. فله أن يرجع عليه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وحكى الخراسانيون: أن الجدات من قبل الأب والأم، والأجداد من قبل الأم، هل يصح لهم الرجوع فيما وهبوه لولد الولد؟ فيه قولان؛ لأنهم لا يملكون التصرف في مال الولد بأنفسهم، فليس لهم الرجوع في الهبة.
وقال أبو العباس بن سريج: إنما يرجع الأب في هبته لولده إذا قال: إنما قصدت بالهبة ليزيد في بري، أو يترك عقوقي، ولم يفعل. فأما إذا أطلق الهبة. فإنه لا يرجع فيها.
والمشهور من المذهب: هو الأول.
وقال أبو حنيفة والثوري: (إذا وهب الوالد لولده، وأقبضه.. لم يكن له أن يرجع عليه) .
وقال مالك (إذا وهب الوالد لولده هبة، فإن ظهر نفعها للولد، بأن أمنه الناس فبايعوه أو زوجوه.. لم يكن له أن يرجع عليه، وإن لم يظهر نفعها له.. جاز له الرجوع عليه) .
دليلنا: حديث النعمان بن بشير: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " فارجعه ".
وروى ابن عباس وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية،(8/124)
أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما وهب لولده» .
فأما إذا وهب لغير ولده، أو ولد ولده، وإن سفل.. فليس له أن يرجع في هبته له بعد إقباضه له، سواء كان ذا رحم محرم، أو أجنبيًا.
وقال أبو حنيفة: (إذا وهب لذي رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرًا.. لم يحل له نكاحها، مثل: أن يهب لأبيه، أو لجده، أو لعمه، أو لخاله.. لم يجز له أن يرجع عليه بعد الإقباض، وهكذا إذا وهب أحد الزوجين للآخر. وإن وهب لغير ذي رحم محرم، مثل أن يهب لابن عمه، أو لابن خاله، أو لابنة عمه، أو كان أجنبيًا منه.. فيجوز له أن يرجع عليه في هبته له بعد الإقباض) ، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب لذي رحم محرم هبة.. فليس له أن يرجع فيها، ومن وهب لغير ذي رحم محرم.. فله أن يرجع عليه إلا أن يثيبه عليه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما أعطى ولده. ومثل الراجع في هبته كمثل الكلب قاء بعد ما شبع، ثم رجع في قيئه» وهذا أولى من حديث عمر.
وقد روي عن ابن عمر، وابن عباس ما يخالف قول عمر أيضًا.(8/125)
[فرع الصدقة على الولد]
وإن تصدق على ابنه وأقبضه.. فهل يثبت له الرجوع عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح رجوعه عليه؛ لأن المقصود بالصدقة القربة إلى الله تعالى، فلم يصح له الرجوع فيها بعد لزومها، كالعتق، والقصد بالهبة صلة الرحم، وإصلاح حال الولد.
والثاني - وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن له أن يرجع؛ لأن الصدقة تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة، من الإيجاب والقبول والإذن بالقبض، والقبض) فكان حكمها حكم الهبة في الرجوع، بخلاف العتق.
وإن تداعى رجلان نسب مولود، ووهبا له قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجز لأحدهما أن يرجع عليه؛ لأن بنوته لم تثبت من أحدهما. فإن لحق بأحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له الرجوع عليه؛ لأن بنوته ثبتت منه.
والثاني: لا يجوز له الرجوع عليه؛ لأنه كان لا يجوز له الرجوع عليه في حال العقد.
[فرع وهب الولد فمات فورثه ابنه]
وإن وهب الرجل لولده هبة، وأقبضه إياها، ثم وهبها الولد لولده، أو مات الولد وورثه ولده. فهل يجوز للجد أن يرجع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له الرجوع فيها؛ لأن للجد أن يرجع على ولد الولد فيما وهب له وهي في ملكه.
والثاني: لا يرجع فيها، وهو الأصح؛ لأن الملك لم ينتقل منه إليه، فهو كما لو وهب لأجنبي، ثم وهبها الأجنبي لابن الواهب.(8/126)
وإن ابتاعها الولد من والده.. لم يرجع الجد فيها وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع فيها لمن انتقل منه الملك بها، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه بها الملك إلى الواهب أولى.
وإن وهب الرجل لولده شيئًا، وأقبضه إياه فوهبها هذا الولد لأخيه من أبيه.. فينبغي أن لا يثبت للأب فيها الرجوع وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع لمن انتقل منه الملك، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه إلى الواهب أولى.
[فرع وهب لولده فأفلس وحجر عليه]
وإن وهب لولده شيئًا، وأقبضه إياه، فأفلس الولد وحجر عليه.. فهل للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده قبل أن يقسم على الغرماء؟ فيه وجهان.
أحدهما: له أن يرجع فيه؛ لأن حقه أسبق.
والثاني: لا يجوز له الرجوع فيه، وهو الأصح؛ لأن بالحجر تعلقت به حقوق الغرماء، فهو كما لو رهنها الولد.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\354] : فإن ارتد الابن الموهوب له:
فإن قلنا: إن ملكه باق.. فللأب أن يرجع عليه.
وإن قلنا: إن ملكه قد زال بالردة.. فليس للأب الرجوع عليه في حال ردته.
فإن عاد للإسلام.. فهل له الرجوع عليه؟ على الوجهين في الولد إذا أفلس.
وإن قلنا: إن ملكه موقوف، فإن عاد إلى الإسلام.. فللأب الرجوع؛ لأنا تبينا أن ملكه لم يزل.(8/127)
[فرع زيادة الهبة في يد الولد]
] : وإذا وهب لولده عينًا وأقبضه إياها، فزادت في يد الولد. نظرت:
فإن كانت زيادة غير منفصلة عنها، بأن كان عبدًا فسمن، أو تعلم القرآن، أو كانت جارية فسمنت، أو تعلمت صنعة.. فللوالد أن يرجع في العين وزيادتها.
وحكى الطبري وجها لبعض أصحابنا: أنه لا يملك الرجوع هاهنا، وهو قول محمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة: (لا يرجع إلا أن تكون الزيادة تعلم قرآن، أو إسلامًا، أو قضاء دين، فلا تمنع الرجوع) .
دليلنا: أنها زيادة في الموهوب، فلا تمنع الرجوع، كما لو حدثت قبل القبض.
وإن كانت زيادة منفصلة، بأن وهبه نخلة، فأطلعت في يده وأبرها، ثم رجع الوالد.. كانت الثمرة للولد؛ لأنها زيادة حدثت في ملك الولد، فلم تتبع الأصل، كما قلنا في الرد بالعيب.
فأما إذا وهبه شاة، أو بقرة حاملًا: فإن رجع الوالد قبل الوضع.. رجع في البهيمة وحملها. وإن وضعت في يد الولد:
فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد فيهما.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد.
وإن وهبها وهي حائل فحملت في يد الوالد: فإن ولدت في يد الولد.. رجع الولد في الأم دون الولد؛ لأنه نماء حدث في يد الولد. وإن رجع فيها قبل الوضع:
فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد في الأم دون الولد.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع الوالد فيها.(8/128)
[فرع وهب ولده عينا فأتلفها]
] : وإن وهب لولده عينا، وأقبضه إياها، فأتلفها الولد، بأن كان طعاما فأتلفه، أو عبدا فقتله.. لم يكن للأب أن يرجع فيها؛ لأن حقه يتعلق بالعين، والعين غير موجودة، ولا يرجع في قيمتها؛ لأن حقه يتعلق بالعين دون القيمة.
وهكذا: لو كانت العين باقية، إلا أنها قد نقصت في يد الولد.. رجع الوالد فيها، ولا يرجع بأرش ما نقصت، كما لا يرجع في قيمتها إذا كانت تالفة.
وهكذا: لو كان في معنى الإتلاف، بأن كان عبدا فأعتقه، أو كانت جارية فاستولدها الولد؛ لأن العين باقية، وإنما تلف الرق.. فليس للوالد أن يرجع في العين ولا في قيمتها.
وإن تصرف الولد في العين تصرفا لم يتلفها به.. نظرت:
فإن كان تصرفا لا يقطع تصرف الابن، بأن كانت أمة فزوجها الابن، أو أجرها، أو دبرها، أو أعتقها بصفة.. فللأب أن يرجع فيها؛ لأن تصرف الابن لم ينقطع فيها، فإذا رجع.. لم يبطل النكاح، ولا الإجارة، ولكن إذا انقطعا.. رجعت المنفعة للأب.
وأما التدبير والعتق بالصفة: فيبطلان؛ لأن ملك الابن قد زال.
وإن كان تصرف الابن قد انقطع عن العين، بأن باع العين، أو وهبها وأقبضها.. لم يكن للأب أن يرجع؛ لأن تصرف الابن يصح فيها، فهي كما لو تلفت.
فإن عادت العين إلى الابن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل للأب أن يرجع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأن العين موجودة في ملك الابن.
والثاني: لا يرجع.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن ملك الابن لم يكن من جهة الأب.(8/129)
فإن قلنا بالأول: وكان الابن قد اشتراها بثمن في ذمته، وأفلس، وقلنا: إن الإفلاس لا يمنع الأب من الرجوع، والابن لم يدفع ثمن العين.. فإن بائعها أحق بها من الأب ومن الغرماء؛ لأن حق البائع تعلق بها من جهة البيع.
وإن كان تصرف الابن انقطع عن العين انقطاعا مراعى، بأن كان قد رهنه، أو كان عبدا فكاتبه.. فليس للأب أن يرجع فيه في الحال؛ لأن الابن لا يصح تصرفه فيه في هذه الحالة، فكذلك الأب.
فإن فك الرهن، أو عجز المكاتب ففسخت الكتابة.. كان للأب أن يرجع؛ لأن ملك الابن قد عاد إليه. هذا هو المشهور.
وحكى القاضي أبو الطيب في " المجرد " وجها آخر في المكاتب: أنه إذا عجز ورق.. كان كما لو باعه، ثم رجع إليه؛ لأن الكتابة تقطع تصرفه فيه، كما لو باعه والأول أصح.
[فرع جناية العبد الموهوب في يد الابن]
وإن جنى العبد في ملك الابن فتعلق الأرش برقبته:
قال القاضي أبو الطيب: فليس للأب أن يرجع فيه؛ لأن تعلق الأرش برقبته حق، فهو كما لو رهنه الابن.
قال: فإن بذل الأب فكه ليرجع فيه.. كان له ذلك. ولو كان مرهونا فبذل الأب فكه ليرجع فيه.. لم يكن له.
والفرق بينهما: أن فك الرهن فسخ لعقد الموهوب له، فلم يكن له ذلك، وهاهنا لم يتعلق به حق من جهة العقد.
[فرع ارتجاع الموهوب من الولد]
والرجوع هو أن يقول الأب: ارتجعتها منك، أو رجعت فيما وهبته لك. ولا يفتقر إلى قضاء قاض.(8/130)
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الرجوع إلا بقضاء قاض) .
دليلنا: أنه خيار في فسخ عقد، فلا يفتقر إلى قضاء قاضٍ، كفسخ العقد في خيار الثلاث.
وإن كان الموهوب جارية فوطئها الأب.. فهل يكون رجوعا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا، كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار، في حال الخيار.
والثاني: لا يكون رجوعا؛ لأن ملك الابن ثابت عليها، فلا يزول إلا بصريح الرجوع، بخلاف المبيع.
فإن باع الأب العين الموهوبة، أو وهبها، وأقبضها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\355] :
أحدها - وهو الأصح -: أن الرجوع والبيع يصحان.
والثاني: أن البيع والهبة لا يصحان، ولا يصح الرجوع.
والثالث: أن الرجوع يصح، ولا يصح البيع والهبة.
[مسألة الواهبون على ثلاثة أضرب]
الواهبون على ثلاثة أضرب:
أحدها: هبة الأعلى للأدنى، مثل: أن يهب السلطان لبعض الرعية، أو يهب الغني للفقير.
قال الشيخ أبو حامد: أو يهب الأستاذ لغلامه، فهذه لا تقتضي الثواب؛ لأن القصد من هذه الهبة القربة إلى الله تعالى، دون المجازاة.
والثاني: هبة النظير للنظير، كهبة السلطان لمثله، أو الغني لمثله، فهذه لا تقتضي الثواب أيضا؛ لأن القصد بهذه الهبة الوصلة والمحبة.
والثالث: هبة الأدنى للأعلى، مثل: أن يهب بعض الرعية للسلطان شيئا، أو يهب الفقير للغني، أو يهب الغلام لأستاذه.. ففيه قولان:(8/131)
قال في القديم: (يلزمه أن يثيبه) . وبه قال مالك؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب هبة يرجو ثوابها.. فهي رد على صاحبها ما لم يثب عليها) .
وروي: أن رجلا سأل فضالة بن عبيد، فقال: إني أهديت إلى رجل بازيا فلم يثبني عليه، فقال: إن أثابك وإلا فارجع وخذ بازيك.
ولأن العرف والعادة: أن من وهب لمن أعلى منه، إنما يقصد به الثواب من المال، فصار هذا العرف كالشرط.
وقال في الجديد: (لا يلزمه أن يثيبه) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه تمليك بغير عوض، فلم يقتض ثوابا كهبة الأعلى لمن هو دونه. وما روي عن عمر وفضالة بن عبيد، فقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلافه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إذا وهب لمن هو في مثل حاله.. فهل يقتضي إطلاق الهبة الثواب؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: إذا أطلق الهبة، فإن كان قد نوى الثواب.. استحقه، وإن لم ينو.. فهل يستحقه؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يستحق إلا مع النية، فاختلفا: هل نوى أم لا؟ ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول الواهب؛ لأن الأصل أنه لم يرض بزوال ملكه بغير عوض.
والثاني: أن القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل عدم النية. والمشهور: طريقة البغداديين.(8/132)
فإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الهبة لا تقتضي الثواب.. نظرت:
فإن وهب لمن هو أعلى منه من غير شرط الثواب، فوهب الموهوب له للواهب هبة.. كان ذلك ابتداء عطية تلزم بالقبض. وإن خرج أحدهما معيبا أو مستحقا.. لم يرجع صاحبها بهبته.
وإن وهبه بشرط الثواب: فإن كان ثوابا مجهولا.. بطلت الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الهبة، ولأنه شرط ثوابا مجهولا، فلم يصح، كالبيع بثمن مجهول، فإن قبضها الموهوب له.. كان حكمه حكم البيع الفاسد.
وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل تصح الهبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها، فلم تصح، كما لو عقد النكاح بلفظ الهبة.
فعلى هذا: إذا قبضه كان حكمه حكم البيع الفاسد.
والثاني: تصح الهبة، ويلزم الموهوب الثواب المشروط؛ لأن الهبة تمليك العين، وقد ثبت أنه لو قال: ملكتك هذه العين، ولم يذكر العوض.. كان هبة. ولو قال: ملكتكها بدينار.. صح وكان بيعا، فكذلك الهبة بالعوض.
فإذا قلنا بهذا: فحكمه حكم البيع الصحيح في خيار المجلس، والثلاث، والرد بالعيب والشفعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل حكمه على هذا القول حكم البيع أو حكم الهبة؟ فيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم البيع اعتبارا بالمعنى؛ لوجود العوض فيه.
والثاني: حكمه حكم الهبة اعتبارا باللفظ.(8/133)
وإن قال: وهبتك درهما بدرهمين.. لم يصح على الطريقين؛ لأنه ربا.
وإن قلنا بقوله القديم.. نظرت: فإن أطلق ولم يشرط الثواب.. فالموهوب له بالخيار: بين أن يثيبه، وبين أن يرد الموهوب:
فإن اختار أن يثيبه: ففي قدر ما يلزمه ثلاثة أقوال:
أحدها: يلزمه أن يثيبه إلى أن يرضى الواهب؛ لما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أهدى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة، فأعطاه بدلها ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فرضي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي» .
والثاني: يلزمه أن يثيبه بقدر قيمته. وهو قول مالك؛ لأن كل عقد اقتضى العوض إذا لم يسم فيه عوض.. وجبت فيه قيمة المعوض، كالنكاح.
والثالث: يلزمه أن يثيبه ما يكون ثوابا لمثله في العادة؛ لأن هذا الثواب وجب بالعرف، فوجب قدره بالعرف.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\356] وجها آخر: أنه يلزمه أن يثيبه ما يقع عليه الاسم؛ لأنه رضي بزوال ملكه بعوض، وقد يشتري الشيء النفيس بالثمن القليل.(8/134)
فإن لم يثبه الموهوب.. فللواهب أن يرجع في العين الموهوبة إن كانت باقية؛ لأنه لم يرض بزوال ملكه عنها إلا بعوض، ولم يحصل العوض. فإن كانت زائدة زيادة متصلة.. رجع فيها وبزيادتها. وإن كانت زائدة زيادة منفصلة.. رجع فيها دون الزيادة، كما قلنا في هبة الأب لولده.
وإن كانت العين تالفة.. فهل يرجع عليه بقيمتها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يرجع عليه بقيمتها؛ لأنها تلفت في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه عينا وتلفت في يده.
والثاني: يرجع عليه بقيمتها؛ لأنه ملكها بعوض، فإذا تلفت.. ضمنها بقيمتها. والمذهب الأول.
وإن وجد العين وقد نقصت في يد الموهوب له.. رجع الواهب فيها، وهل يرجع عليه بأرش النقص؟ على الوجهين.
وإن وهبه بشرط الثواب:
فإن كان ثوابا مجهولا، بأن قال: وهبتك على أن تثيبني، فقال: قبلت.. صحت الهبة؛ لأن الهبة تقتضي الثواب، وشرطه تأكيد.
وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الهبة تقتضي ثوابا مجهولا، فإذا شرط ثوابا معلوما، فقد شرط ما ينافي مقتضاها، فلم يصح.
والثاني: يصح؛ لأن الهبة إذا صحت بشرط الثواب المجهول.. فلأن تصح مع المعلوم أولى.(8/135)
[فرع اختلفا على طلب البدل]
] : وإن اختلفا فقال الواهب: وهبتك ببدل، وقال الموهوب له: وهبتني بغير بدل.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأنه لم يقر بخروج ملكه إلا ببدل.
والثاني: القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل براءة ذمته وعدم شرط البدل.
وإن وهبه جارية هبة تقتضي الثواب، فقبضها الموهوب له، ووطئها، ولم يثب الواهب.. فللواهب أن يرجع في جاريته، ولا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه جارية فوطئها الابن ثم رجع الأب عليه، فإنه لا مهر عليه.
وإن وهب له ذهبا أو فضة هبة تقتضي الثواب، فإن أثابه من جنس الأثمان.. نظرت:
فإن كان قبل التفرق.. صح ذلك، ويعتبر التساوي بينهما إن كانا من جنس واحد، كما قلنا في البيع.
وإن كان بعد التفرق.. بطلت الهبة؛ لأن ذلك معاوضة.
وإن أثابه من غير جنس الأثمان.. جاز، سواء كان قبل التفرق أو بعد التفرق، كالبيع.
والله أعلم وبالله التوفيق(8/136)
[باب العمرى والرقبى]
العمرى: نوع من الهبة تفتقر إلى الإيجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض، ولا يصح القبض فيها إلا بإذن الواهب.
وفي العمرى ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يقول: أعمرتك داري هذه، وجعلتها لك حياتك، أو عمرك، ولعقبك بعدك. فإذا قال الآخر: قبلت، وأذن له في القبض، فقبض.. صح، وكان ذلك هبة. وبه قال أكثر الفقهاء.
ومن الناس من قال: لا تجوز العمرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا ولا ترقبوا» .
وقال مالك: (يكون للمعمر في حياته ولعقبه، فإذا انقضى.. رجعت إلى المعمر) .
ودليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة» . وروى(8/137)
جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لا يرجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» .
يعني: أنه ورث عن المعطي.
وفي رواية أخرى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا، أو أرقبه.. فهو سبيل الميراث» .
وأما النهي: فإنما نهى عما كان يفعله أهل الجاهلية، وهو أنهم كانوا يجعلونها للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعمر.
المسألة الثانية: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك عمرك، أو ما عشت، أو ما حييت، وأطلق.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (تصح، وتكون للمعمر في حياته، ولورثته من بعده، ولا ترجع إلى المعطي) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا.. فهو له ولعقبه» .
وروى جابر: «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة، فماتت، فقال: أنا أحق بها؛ لأني أعطيتها مدة حياتها، فقال إخوته: نحن فيها شركاء، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلها ميراثا بينهم» .(8/138)
وأما القول القديم: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: قوله القديم: (إنها تكون للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لأ ترجع إلى الذي أعطاها» فدليل خطابه أنه إذا لم يشترط لعقبه.. فإنها ترجع إلى الذي أعطاها.
وقال أكثر أصحابنا: قوله القديم: (إن العطية تكون فاسدة) لأنه تمليك عين وقته، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتك هذا شهرا، أو بعتك هذا شهرا.
المسألة الثالثة: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك حياتك، أو عمرك، فإذا مت عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا.. فهي كالثانية على قولين:
[الأول] : على القول الجديد: تكون للمعمر في حياته، ولورثته بعده.
و [الثاني] : على ما حكاه أبو إسحاق عن القديم: تكون على ما شرط للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا. وعلى ما حكاه غيره عن القديم.. تكون العطية باطلة.
فإن قيل: هلا قلتم تبطل الهبة على القول الجديد؛ لأن العمرى تقتضي التمليك على التأبيد، فإذا قدره بحياة المعمر، فقد شرط شرطا ينافي مقتضى العقد فأبطله، كما لو قال: وهبتك هذه الدار سنة؟
فالجواب: أن هذا الشرط لا يبطل العمرى؛ لأنه ليس بشرط على المعمر، وإنما(8/139)
هو شرط على ورثته. فإذا لم يكن الشرط على المعقود له.. لم يؤثر في العقد، بخلاف ما لو قال: وهبت لك داري سنة، فإنه لا يصح؛ لأن النقصان دخل في ملك المعقود له، فلم يصح.
[فرع فيمن أعمره داره]
إذا قال رجل لآخر: جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] :
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو حامدٍ غيره -: أن الحكم فيها كما لو قال: جعلتها لك عمرك أو حياتك، على ما مضى.
والثاني: لا تصح بحال؛ لأنه إذا جعلها للمعمر مدة حياته.. فكأنه أبد التمليك له؛ لأنه إنما يملك الشيء مدة عمره.
فأما إذا قال: عمري أو حياتي، فلم يجعلها له مؤبدا؛ لأن المعطي قد يموت والمعمر حي، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتكما شهرا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : وهكذا الوجهان إذا قال: أعمرتكها عمر زيد، أو حياته.
[مسألة ما يعطى على سبيل الرقبى]
] : وأما الرقبى: فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو جعلت داري لك رقبى
ومعنى هذا: أنها لك مدة حياتك، فإن مت قبلي.. عادت إلي، وإن مت قبلك.. فهي لك ولورثتك بعدك.(8/140)
فهي كالمسألة الثانية من العمرى، على القول الجديد، تكون للمرقب في حياته ولورثته بعده.
وأما على القول القديم: فعلى ما حكاه أبو إسحاق تكون للمرقب في حياته، فإن مات والمعطي حي.. رجعت إليه. وإن مات المعطي أولا.. كانت للمرقب في حياته، ولورثته بعده.
وعلى ما حكاه غير أبي إسحاق عن القديم: تكون العطية باطلة.
هذا مذهبنا، وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (الرقبى لا تملك، وتكون عارية؛ لأن معناها أنها لآخرنا موتا، فلا يصح التمليك بهذا؛ لأن التمليك معلق بخطر وغرر) .
وقال مجاهد: الرقبى هو: أن يقول: هذه الدار للآخر مني ومنك موتا.
وتعلقوا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز العمرى وأبطل الرقبى» .
ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الأنصار: أمسكوا عليكم أموالكم؛ لأ تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا أو أرقبه.. فهو له ولورثته» .
وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها» وما رووه غير معروف.(8/141)
فإن قيل: فقد سويتم بين معنى العمرى والرقبى، واختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات؟
قلنا: بينهما فرق، وذلك: أن المعمر يملك ما أعمره مدة عمره، فإذا مات.. اقتضى ذلك أن يرجع إلى المعمر، أو إلى ورثته إن لم يكن باقيا.
وأما الرقبى: فاقتضت أنه ملكه إياها، فإن مات.. رجعت إلى المرقب. وإن مات المرقب قبله.. استقرت على ملك المرقب، ولم ترجع بموته إلى ورثة المرقب.
[فرع تعطى العمرى من الثلث]
إذا قال رجل لآخر: إذا مت فهذه الدار لك عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فإذا مات المعطي، وخرجت الدار من الثلث.. كانت على قولين، كما لو قال: هذه الدار لك عمرك، فإذا مت قبلي، عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : إذا قال الشريكان في الدار، هي لآخرنا موتا.. صار نصيب كل واحد منهما رقبى لصاحبه، وقد مضى بيان الرقبى.
[مسألة صحة إبراء صاحب الدين]
] : ومن وجب له على غيره دين.. صح إبراؤه منه. وهل يفتقر إلى قبول البراءة ممن عليه الدين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى قبوله؛ لأن عليه منة في إسقاط الحق عنه.. فافتقر إلى قبوله، كقبول الهبة.(8/142)
الثاني - وهو الأصح -: أنه لا يفتقر إلى قبوله؛ لأنه إسقاط وليس بتمليك عين، فلم يفتقر إلى القبول، كإسقاط الشفعة والقصاص والعتق، بخلاف الهبة، فإنها تمليك عين.
ولا يصح الإبراء من دين مجهول؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح مع الجهل به، كالهبة. فإن قال: أبرأتك من دينار إلى مائة دينار، وكان يعلم أنه يستحق ذلك عليه.. صحت البراءة. وإن أبرأه من دين وكان من له الدين لا يعلم أنه يستحق ذلك عليه، ثم بان أنه كان يستحقه عليه.. فهل تصح البراءة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح البراءة؛ لأنها وافقت وجوب الدين.
والثاني: لا تصح، وهو الأصح؛ لأنه عقد البراءة، وهو متلاعب.
وإن قال: تصدقت عليك بالدين الذي لي عليك.. صح ذلك، وكان براءة بلفظ الصدقة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] [النساء: 92]
وقَوْله تَعَالَى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] [البقرة: 280]
وأراد بالصدقة في الآيتين البراءة.
قال أبو العباس: وهذا يدل على صحة البراءة بلفظ الصدقة، وعلى أن الصدقة تصح على الغني والفقير، وعلى أن صدقة التطوع تصح على بني هاشم، وبني المطلب؛ لأنه لم يفرق في الآيتين.
وإن وهب دينه لمن هو في ذمته.. صحت الهبة وجها واحدا؛ لأن الهبة والصدقة واحد، فإذا صحت الصدقة.. صحت الهبة، وهل يكون حكمها حكم الإبراء؛ لا يفتقر إلى القبول على الأصح، أو حكم الهبة يفتقر إلى القبول، ولا يلزم حتى تمضي مدة يتأتى فيها القبض؟ على وجهين.
فإن وهب من له الدين دينه لغير من هو عليه، أو باعه منه، وكان الدين مستقرا. فهل يصحان؟ فيه وجهان:(8/143)
أحدهما: لا يصحان؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
والثاني: يصحان، وهو الأصح؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، بدليل: أن الرجل يبتاع بعين ماله، ويبتاع بثمن في ذمته. وكذلك يبيع عين ماله، ويبيع ما في ذمته، وما جاز بيعه وابتياعه.. جازت هبته؛ لأنه لا خلاف أن الحوالة تصح، وهي في الحقيقة بيع، فكذلك البيع.
فإذا قلنا بهذا: فهل يفتقر لزوم الهبة إلى الإذن بالقبض، وإلى القبض؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك؛ لأن هذا شرط في لزوم الهبة في العين، فكذلك في الدين.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو الأصح، كالحوالة لا يعتبر فيها القبض.
والله أعلم وبالله التوفيق.(8/144)
[كتاب الوصايا](8/145)
كتاب الوصايا الوصية: مأخوذة من قولهم: وصيت الشيء أصيه إذا وصلته؛ لأن الموصي يصل ما كان منه في حياته بما بعده من أمر مماته.
والأصل في ثبوت الوصية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» .(8/147)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة.. سأل عن البراء بن معرور، فقالوا له: إنه هلك، وأوصى لك بثلث ماله، فقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رده على ورثته» .
وأما الإجماع: فروي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى بالخلافة إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . و: (لما طعن عمر.. أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وهم ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص) .
وظهر ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفهم أحد، بل عمل به.
إذا ثبت هذا: فإن ما يوصي به الإنسان ضربان، وصية بالنظر فيما كان النظر له فيه، ووصية بثلث ماله.(8/148)
فأما الوصية بالنظر: فإن من ثبت له الخلافة على الأمة.. فله أن يوصي بها إلى رجل توجد فيه شروط الخلافة على ما يأتي بيانه إن شاء الله في موضعه؛ لما ذكرناه من حديث أبي بكر وعمر رضى الله عنهما.
وإن ثبت لرجل النظر في ملك ولده الصغير، ولا جد للصغير من أبيه، ولا أم له.. فللأب أن يوصي بالنظر في ماله إلى من يصلح لذلك، ويكون وصي الأب أولى بالنظر في مال الصغير من الحاكم؛ لما روي: (أنه أوصى إلى الزبير سبعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر أولادهم الصغار، منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن، وابن مسعود) .
وإن كان للصغير جد من أبيه يصلح للنظر، فأوصى الأب إلى غير الجد.. كان الجد أولى بالنظر.
وقال أبو حنيفة: (وصي الأب أولى من الجد) وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين، والجويني؛ لأنه لما كان الأب أولى بالنظر من الجد.. كان وصيه أولى من الجد، كما قلنا في وصي الأب مع الحاكم.
وهذا غلط؛ لأنها ولاية يستحقها الجد بالقرابة، فكان مقدما على وصي الأب، كولاية النكاح.
وإن لم يكن للصبي جد، ولكن له أم تصلح للنظر في ماله، وأوصى الأب إلى غيرها:(8/149)
فإن قلنا بالمذهب: وأن الأم لا ولاية لها بالنظر في مال ولدها.. كان الناظر هو وصي الأب.
وإن قلنا بقول الإصطخري: وأن الأم لها ولاية بالنظر في مال ابنها.. فهل يقدم وصي الأب عليها؟ ينبغي أن يكون على الوجهين في وصي الأب مع الجد.
والصحيح: أن الأم مقدمة على وصي الأب.
[مسألة الناظر لا يزوج]
] : وإن أوصى رجل إلى رجل بالنظر في أمر أولاده، وله بنات.. لم يكن للوصي تزويجهن بلا خلاف.
وإن أوصى إليه بالنظر في مال أولاده الصغار، وتزويج بناته.. لم يكن للوصي تزويجهن، سواء كن البنات صغارا أو كبارا، عين له الزوج أو لم يعينه، بل إن كان للبنات ولي مناسب.. زوجهن، وإلا.. فالحاكم يزوجهن. وبه قال الثوري وأبو حنيفة.
وقال أبو ثور: (الوصي أولى بتزويجهن من الولي المناسب) .
وقال مالك: (إذا أوصى إليه في تزويج بناته مطلقا.. كان الوصي أحق بإنكاحهن من الولي المناسب. فإن كن كبارا.. لم يزوجهن إلا بإذنهن. وإن كن صغارا.. لم يزوجهن الوصي إلا إن عين له الموصي الزوج) .
دليلنا: ما «روى عبد الله بن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فمضى المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، فذهبت أمها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فمضى قدامة بن مظعون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أنا عمها ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» .(8/150)
فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح إلا بإذنها» وقد أخبره قدامة أنه وصي أبيها، ولم يسأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل وصى إليه بإنكاحها، أم لا؟ وهل عين له الزوج، أم لا؟ فلو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأله عنه. فقيل: إن المغيرة تزوجها بعد ذلك.
ولأن ولاية النكاح لها تستحق بالشرع، فلم يجز نقلها عنه بالوصية، كالوصية في أمر الصغير مع وجود الجد.
[فرع الوصية بالدين والحج والكفارة]
ومن عليه دين، أو زكاة، أو حج، أو كفارة. أو كان في يده وديعة، أو غصب.. فله أن يوصي إلى من يخرج ذلك من تركته؛ لأنه إذا ملك أن يوصي بالنظر في أمر غيره.. فلأن يملك ذلك في خاصة نفسه أولى.
[مسألة الوصية بالثلث]
] : وأما الوصية بالثلث: فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة. ملك الوصية بثلث ماله بما فيه قربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم» .(8/151)
وروي «عن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: مرضت بمكة عام الفتح مرضا أشرفت فيه على الموت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله: إن لي مالا كثيرا، وإنما يرثني ابنة لي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: " لا ". قلت: أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا ". قلت: فبالشطر؟ قال: " لا ". قلت: فبالثلث؟ قال: " الثلث، والثلث كثير - وروي " كبير " - إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» فلم ينهه عن الثلث، وإنما قال: هو كثير. فدل على جواز التصدق به.
و (العالة) : الفقراء.
قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] [الضحى: 8] .
وقوله: «يتكففون الناس» معناه: يسألون بأكفهم الناس.
فإن كان ورثته فقراء.. فالمستحب له أن لا يوصي بجميع الثلث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» .(8/152)
وإن كانوا أغنياء: استحب له أن يوصي بجميع الثلث؛ لأنه لما كره له استيفاء الثلث إذا كانوا فقراء.. دل على أنه يستحب له أن يستوفي الثلث إذا كانوا أغنياء.
والمستحب لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] [النساء: 9] .
قال أهل التفسير: المراد بذلك الحاضرون عند الموصي.
والمستحب لمن أراد التصدق: أن يفعل ذلك في صحته؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الصدقة، فقال: «أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم.. قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» .
وإن اختار الوصية.. فالمستحب له أن يقدمها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» .
قال الشافعي: (معناه: ما الحزم، وما الأحوط، أو ما الاحتياط له، إلا هذا) .
وقال غيره: هذا في الرجل عنده أمانات للناس، أو عليه ديون لهم، فتلزمه الوصية بذلك.
إذا ثبت هذا: فالناس الموصى لهم على ثلاثة أضرب:(8/153)
[إحداها] : ضرب تجوز لهم الوصية ولا تجب، بلا خلاف بين أهل العلم، وهو: من كان أجنبيا من الموصي؛ لأن البراء بن معرور أوصى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلث ماله فقبلها منه، ولا قرابة بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرشي والبراء أنصاري.
والضرب الثاني: تجوز لهم الوصية ولا تجب عندنا، وهم من لا يرث الموصي وبينهما قرابة، كالعمات والخالات، وسائر ذوي الأرحام. أو كان ممن يرثه إلا أن هناك من يحجبه.
وقال الضحاك، والزهري، وأبو مجلز، وداود، وابن جرير: (تجب لهم الوصية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] .
وفسر ذلك بالوصية، فجعل ذلك إليهم.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» فعلق الوصية على الإرادة.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة» . وهذا يدل على أنها لا تجب؛ لأن ترك الوارث غنيا لا يكون خيرا من الواجب.
وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل على [رجل من بني] هاشم، فقال له: لي ثمانمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا) .
وروي: (أن ابن عباس دخل على مريض، فقال: لي سبعمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا، إنك لا تترك خيرا) . والخبر عنده ثمانمائة درهم. وقيل: ألف.(8/154)
وكذلك روي عن ابن عمر وعائشة. وأما الآية: فمنسوخة بآية المواريث.
والضرب الثالث: إذا أوصى رجل لوارثه:
قال الشيخ أبو حامد: فلا تصح الوصية له، قولا واحدا؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» . فإن أجاز سائر الورثة الوصية، فهل تكون إجازتهم لها تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية؟ منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: إنه ابتداء عطية منهم؛ لحديث أبي أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» ولأنها عطية لا تلزم في حق الوارث، فكانت ابتداء عطية منه، كما لو وهبه الوارث شيئا من مال نفسه.(8/155)
والثاني: إنه تنفيذ لما فعله الموصي. وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة» فدل على أنهم إذا شاءوا.. جازت الوصية.
وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية للوارث؟ على قولين، ووجههما ما ذكرناه.
فإذا قلنا: تصح الوصية له، فلأي.
[مسألة الوصية بأكثر من الثلث]
وإذا أوصى بما زاد على ثلث ماله: فإن لم يكن له وارث متعين.. لم تصح الوصية بما زاد على الثلث. وبه قال مالك، وأهل المدينة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم» ولم يفرق، ولأن ما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة، ولا وارث له غير المسلمين، وهم غير معينين، ولا تتأتى الإجازة منهم.
وإن كان له وارث متعين.. فالحكم فيه كالحكم فيمن أوصى لوارثه.
قال الشيخ أبو حامد: لا تصح الوصية بما زاد على الثلث، قولا واحدا.
فإن أجازه الورثة.. فهل يكون ذلك تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية من الورثة؟ على قولين.(8/156)
وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية بما زاد على الثلث؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
والثاني: تصح؛ لأن الوصية صادفت ملكه، وإنما يتعلق بها حق الوارث فيما بعد، وذلك لا يمنع صحة تصرفه، كما لو اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فباع الشقص قبل أن يأخذه الشفيع.
فإن قلنا: إن إجازة الورثة في الوصية للوارث فيما زاد على الثلث تنفيذ لما فعله الموصي.. كفاهم لفظ الإجازة، ولا يحتاج الموصى له إلى قبول الإجازة.
وإن قلنا: إن إجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. ففيه وجهان:
[إحداهما] : قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح ذلك إلا بما تصح به الهبة من الإيجاب والقبول، والإذن بالقبض، والقبض.
و [الثاني] : قال القفال، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 410] ، وابن الصباغ: يكفيه لفظ الإجازة على القولين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في جميع كتبه: (إذا أجاز الورثة ذلك.. كانت عطية) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» فعلقها على الإجازة، فدل على أنهم إذا أجازوها بلفظ الإجازة.. صح.
وإن أعتق المريض عبدا لا مال له غيره.. عتق ثلثه عليه، وثبت ولاؤه له.
وأما ثلثاه: فإن لم يجز الورثة العتق.. رق. وإن أجازوه.
فإن قلنا: إن الإجازة تنفيذ لما فعله الميت.. كفاهم لفظ الإجازة، وكان ولاء جميع العبد للمريض.
وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عطية منهم.. فهل تفتقر إلى لفظ العتق، أو يكفي فيه لفظ الإجازة؟ على وجهين.(8/157)
وهل يكون ولاء ما زاد على الثلث للمريض، ولوارثه إذا قلنا: لا يعتق إلا بإعتاق الوراث؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ولاءه للوارث؛ لأنه باشر عتقه.
والثاني: أنه للموصي. وهو قول ابن اللبان؛ لأن الوارث وإن باشر عتقه إلا أنه أعتقه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عن غيره عبده بإذنه.. فإن ولاءه للمعتق عنه.
[فرع إجازة الورثة الوصية بعد الموت]
وإذا مات الموصي فأجاز ورثته وصيته فيما زاد على الثلث، أو أجازوا وصيته لوارثه.. صحت الإجازة.
وإن أجازوا ذلك قبل موت الموصي.. لم تصح الإجازة، سواء أجازوا ذلك في صحة الموصي، أو في مرض موته. وبه قال ابن مسعود، وشريح، وطاووس، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد.
وقال الحسن، وعطاء، والزهري، وربيعة: تصح الإجازة.
وقال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: (إن أجازوا ذلك في صحة الموصي.. لم تصح. وإن أجازوا ذلك في مرض موته.. صحت إجازتهم) .
دليلنا: أنه لا حق للوارث قبل موت الموصي، فلم تصح إجازته، كما لو عفا الشفيع عن الشفعة قبل البيع.
[فرع اختلفا بعد إجازة الوصية لكثرتها]
وإن أوصى لرجل بثلثي ماله، ومات الموصي، فأجاز الوارث الوصية، ثم قال: أجزته لأنني ظننت أن الذي أجزته يسير وقد بان لي أنه كثير.
فإن كان مع الموصى له بينة أن الوارث يعلم قدر ما أجازه.. لزمته الإجازة في الجميع.
وإن لم يكن معه بينه.. لزم الوارث الإجازة في قدر ما علمه من المال، والقول(8/158)
قوله مع يمينه فيما لم يعلمه؛ لأن الإجازة كالإسقاط في أحد القولين، وكالهبة في الآخر. والجميع لا يصح مع الجهالة به.
وإن أوصى لرجل بعبد، وقيمته أكثر من ثلث المال، وأجازه الوارث، ثم قال: ظننت أن الزيادة على الثلث يسيرة فأجزته، وقد بان أنه كثير.. ففيه قولان:
أحدهما: أنها كالمسألة قبلها.
والثاني: يلزم الوارث الإجازة في العبد، ولا يقبل قوله أنه لا يعلم قدر ما أجازه؛ لأن الموصى به هاهنا شيء بعينه، وقد أجازه، فلم يقبل قوله، وفي التي قبلها: الوصية في جزء مشاع، فقبل قوله.
[فرع الوصية للوارث بقدر الإرث]
وإن أوصى لأحد ورثته بما كان نصيبه من جهة الميراث بالقيمة إلا أنه عين له عينا، مثل أن يموت رجل وخلف ابنا وابنة، وخلف دارا بألف، وأوصي بها للابن، وعبدا بخمسمائة، وأوصى به للابنة.. فهل تصح الوصية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 436] :
أحدهما: تصح، ولا تفتقر إلى إجازة؛ لأن حقوق الورثة في المقادير لا في الأعيان، فهو كما لو باع الدار من ابنه بألف، وباع العبد من ابنته بخمسمائة في مرض موته.
والثاني: لا تصح الوصية لهما من غير إجازة؛ لأن الوارث قد يكون له غرض في ملك العين، فلا يجوز للموصي إبطال ذلك عليه.
[فرع وقت اعتبار قيمة الثلث]
وفي الوقت الذي يعتبر به المال لإخراج الثلث وجهان:
أحدهما: أن الاعتبار به وقت الوصية؛ لأن الوصية عقد على المال، فكان الاعتبار بقدر المال وقت العقد، كالبيع والنذر.(8/159)
فعلى هذا: إذا أوصى له بثلث ماله، ولا مال له وقت الوصية.. لم تصح له الوصية، وإن استفاد مالا بعد ذلك.. لم تتعلق به الوصية الأولى.
وإن كان ثلثه عند الوصية ألفا، فصار عند الوفاة ألفين.. لم تصح الوصية إلا بالثلث، وهو عند الوصية ألف.
وإن كان له مال عند الوصية، فهلك ذلك المال واستفاد مالا آخر.. لم تتعلق به الوصية الأولى.
والوجه الثاني - وهو المذهب، وهو قول أهل العراق، قال الشيخ أبو حامد: وأظنه إجماعا -: أن الاعتبار بالمال وقت موت الموصي؛ لأن الوصية وعد في حياة الموصي لا حكم لها، وإنما تجب ويصير لها حكم بوفاته، فاعتبر المال وقت وجوبها، ولأنه لا خلاف أنه لو وصى بثلث ماله، وله مال فباعه، فإن الوصية تتعلق بالثمن، فلو كان الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لبطلت هاهنا.
فعلى هذا: إذا وصى بثلث ماله وكان له ألف، فصار عند الوفاة ألفين، أو كان له مال وقت الوصية فهلك واستفاد غيره.. تعلقت الوصية بجميع ماله الموجود عند موته.
وإن وصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح الوصية، فإن استفاد مالا بعد ذلك.. تعلقت به الوصية الأولى؛ لما ذكرناه.
والثاني - حكاه ابن اللبان -: لا تصح الوصية حتى يكون له مال وإن قل؛ لتتوجه إليه الوصية. وهذا ليس بشيء.
[مسألة وصية الصغير والسفيه بقربة]
وهل تصح وصية الصبي المميز، والمحجور عليه للسفه، بما فيه قربة؟ فيه قولان:(8/160)
أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا يصح تصرفه في ماله بالبيع والهبة، فلم تصح وصيته كغير المميز.
والثاني: تصح؛ لأنه إنما منع من بيع ماله وهبته خوفا من إضاعته، وبالوصية لا يضيع ماله؛ لأنه إن عاش.. فالمال باق على ملكه، وإن مات.. فله حاجة إلى الثواب، والثواب يحصل له بالوصية.
[مسألة فساد الوصية بما فيه معصية]
ولا تصح الوصية بما لا قربة فيه، كالوصية لمن يرتد عن الدين، ويقطع الطريق. وكالوصية للكنائس، والبيع، والوصية بالسلاح لأهل الحرب؛ لأن ذلك إعانة على المعصية، والوصية إنما جعلت لاكتساب الحسنات.
وإن وصى للحربي بغير السلاح.. فهل تصح وصيته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنا مأمورون بقتله، فلا معنى للوصية له.
والثاني: تصح. وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 11] ولم يفرق، ولأن من صح تملكه بالبيع.. صحت الوصية له، كالمسلم.
وتصح الوصية للذمي؛ لـ (أن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصت لأخيها بثلثها، ثلاثين ألفا، وكان ذميا يهوديا) .(8/161)
[فرع وصى ببيع فيه محاباة]
وإن وصى ببيع عين من رجل بمحاباة.. صحت الوصية؛ لأن في ذلك نفعا للموصى له.
وإن وصى أن تباع إليه من غير محاباة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح الوصية؛ لأنه لا منفعة للموصى له في البيع إليه من غير محاباة.
والثاني: تصح الوصية؛ لأنه قصد تخصيصه بملك المبيع.
[مسألة الوصية للقاتل]
وإن وصى لقاتله.. فهل تصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده، وليس للقاتل شيء» .
وهذا عام، ولأنه مال مستحق بالموت، فلم يستحقه القاتل، كالميراث. وفيه احتراز من الدين الثابت له عليه.(8/162)
والثاني: تصح الوصية. وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] ولم يفرق، ولأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يمنع القتل منه، كالبيع. وفيه احتراز من الميراث.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا وصى رجل لرجل، ثم قتل الموصى له الموصي.
فأما إذا جرح رجل رجلا، ثم أوصى المجروح للجارح، ثم مات المجروح.. فيصح قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور.
[فرع قتل أم ولد مولاها]
وإن قتلت أم ولد مولاها.. عتقت بموته؛ لأن عتقها ليس بوصية.
وإن قتل المدبر مولاه:
فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. عتق المدبر.
وإن قلنا: إنه وصية.. كان في عتقه القولان في الوصية للقاتل.
وإن كان لرجل على آخر دين مؤجل، فقتل من له الدين من عليه الدين قبل حلوله.. حل الدين؛ لأن حلوله حظ لمن عليه الدين؛ لإبراء ذمته.
[مسألة الوصية ممن يملك]
] : ولا تصح الوصية لمن لا يملك، فإن وصى لميت.. لم تصح الوصية، سواء ظنه حيا، أو علمه ميتا. وبه قال أبو حنيفة.(8/163)
وقال مالك: (إن ظنه حيا فبان أنه ميت.. بطلت الوصية. وإن علمه ميتا.. صحت الوصية، وتكون لوارثه) .
دليلنا: أنه تمليك، فلم تصح للميت، كالهبة، ولأنها وصية لميت، فلم تصح، كما لو ظنه حيا.
[فرع الوصية لحمل امرأة]
] : وإن وصى لحمل امرأة وكان موجودا حال الوصية.. صحت؛ لأن الوصية أوسع من الميراث، بدليل: أن كل من ورث المال صحت الوصية له، وقد تصح الوصية لمن لا يرث، وهو العبد. والحمل ممن يرث، فصحت له الوصية، ولأن أكثر ما في الحمل الغرر والجهالة به، وذلك لا يؤثر في الوصية.
إذا ثبت هذا: فإن خرج الحمل ميتا.. لم تصح الوصية؛ لأنا لا نتيقن حياته عند الوصية.
وإن خرج حيا: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. صحت الوصية، سواء كانت فراشا لزوج أو لسيد، أو لم تكن فراشا؛ لأنا نتيقن وجوده حين الوصية.
وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية.. لم تصح الوصية، سواء كانت فراشا أو لم تكن؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية
وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين الوصية: فإن كانت فراشا لزوج أو سيد أقر بوطئها.. لم تصح له الوصية؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية، بل يجوز حدوثه بعد الوصية.
وإن كانت غير فراش.. فنقل البغداديون من أصحابنا: أن الوصية تصح له؛ لأنا نحكم بوجوده حال الوصية، بدليل: أنه يلحق بالزوج.
ونقل المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك قولين:
أحدهما: تصح الوصية له؛ لما ذكرناه.(8/164)
والثاني: لا تصح الوصية؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، والوصية لا تثبت بالاحتمال.
وإن وصى لما تحمل هذه المرأة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: تصح الوصية له وإن كان معدوما حال الوصية. فعلى هذا: إذا حملت بعد الوصية له.. صحت الوصية؛ لأن الموصي لم يعتبر وجوده، بخلاف الأولى.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تصح الوصية له؛ لأن الوصية لا تصح لمعدوم.
وإن قال: وصيت بثلثي لحمل هذه المرأة من فلان.. لم تصح الوصية له إلا بشرطين:
أحدهما: وجوده حال الوصية على ما مضى
والثاني: ثبوت نسبه من أبيه المذكور.
فإن أتت بولد يلحق ذلك الرجل بالإمكان، ونتيقن وجوده حال الوصية، فنفاه ذلك الرجل باللعان.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: ينتفي عنه، ولا تبطل الوصية له؛ لأن النفي حكم يتعلق بين الولد والوالد، فلم يتعلق به حكم آخر، بدليل: أن المرأة تعتد بوضعه.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أن الوصية لا تصح؛ لأن الوصية له تثبت بشرطين: وجوده حال الوصية، وثبوت نسبه من ذلك الرجل. وباللعان سقط نسبه عنه، فلم تصح له الوصية.
[فرع الوصية للحمل تشمل الجنسين]
وكل موضع صححنا الوصية فيه للحمل: فإن ولدت ذكرا أو أنثى.. أعطي ذلك كله. وإن ولدت ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى.. صرف إليهما بالسوية؛ لأنها عطية فلم يفضل الذكر فيها على الأنثى، كما لو وهب لهما. وهكذا: إن ولدت ذكرا وأنثى(8/165)
وخنثى.. صرفت الوصية إليهم أثلاثا؛ لما ذكرناه.
وإن قال: إن ولدت هذه المرأة ذكرا فله ألف، وإن ولدت أنثى فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف، وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. استحق المائة؛ لأنه يقين، ووقف ما زاد على المائة إلى الألف. فإن تبين أنه امرأة.. لم يستحقه، وإن تبين أنه رجل.. استحقه.
وإن ولدت ذكرا وأنثى.. استحق الذكر الألف، والأنثى المائة.
وإن ولدت ذكرين أو أنثيين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذكرين يشتركان في الألف، والأنثيين تشتركان في المائة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
والثاني: أن الوصي يدفع الألف إلى من شاء من الذكرين، والمائة إلى من شاء من الأنثيين؛ لأنه جعله لأحدهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فخير بينهما.
والثالث: يوقف الألف بين الذكرين، والمائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا؛ لأنه لا يجوز أن يجعل لأحدهما بعينه؛ لأنه لا يتعين، ولا يجوز أن يجعل بينهما؛ لأن الموصي جعله لأحدهما، ولا يجوز أن يختار الوصي أحدهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلم يبق إلا أن يوقف بينهما إلى أن يصطلحا.
وإن ولدت ذكرا وأنثى وخنثى:
فإن قلنا في التي قبلها بالاشتراك.. لم يمكن أن يشارك الخنثى الذكر؛ لجواز أن تكون امرأة. ولا يجوز أن يشارك الأنثى؛ لجواز أن يكون رجلا.
قال القاضي أبو الفتوح: فيحتمل أن يقال هاهنا بالوقف، ويحتمل أن يقال: يعطى الذكر الألف والأنثى المائة، ولا يعطى الخنثى شيئا.
وإن قلنا بالتي قبلها: أن الوصي بالخيار.. فلا يمكن أن يعطي الخنثى الألف ولا المائة؛ لأنه لا يتيقن حاله ولكن يدفع الألف إلى الذكر والمائة إلى الأنثى.(8/166)
وإن قلنا بالتي قبلها بالوقف.. وقف الألف والمائة بينهم إلى أن نتبين حال الخنثى، فإن بان امرأة.. دفع الألف إلى الذكر، ووقف المائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا عليها. وإن بان أنه رجل.. دفعت المائة إلى الأنثى، ووقف الألف بين الذكرين إلى أن يصطلحا عليه.
[فرع قدر الوصية لنوع المولود]
وإن قال لامرأة: إن كان حملك ذكرا.. فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة. أو قال: إن كان ما في بطنك ذكرا، أو إن كان الذي في بطنك ذكرا فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف. وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. ففيه وجهان، خرجهما القاضي:
أحدهما: له المائة؛ لأنها يقين.
والثاني: لا شيء له؛ لأنه ليس بذكر ولا أنثى.
وإن ولدت ذكرا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين، أو ذكرا وخنثى، أو أنثى وخنثى، أو خنثيين.. لم يستحق واحد منهما في هذه المسائل شيئا؛ لأنه شرط أن يكون جميع حملها، أو جميع ما في بطنها ذكرا أو أنثى، ولم يوجد ذلك.
[مسألة الوصية لأحد شخصين]
وإن قال: وصيت بهذا لأحد هذين الرجلين.. لم يصح؛ لأنه تمليك لغير معين.
وإن قال: أعطوا هذا العبد لأحد هذين الرجلين.. صح؛ لأنه ليس بتمليك، وإنما هو وصية بالتمليك. ولهذا لو قال: بعت عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. لم يصح البيع. ولو قال لوكيله: بع عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. صح التوكيل.(8/167)
[مسألة الوصية لعبد غير وارثه]
] : وإن وصى لعبد غير وارثه.. صحت الوصية؛ لأن ذلك وصية لسيده، إذ العبد لا يملك.
إذا ثبت هذا: فلا يختلف المذهب أن قبول العبد يصح؛ لأن الإيجاب له، والعقد مضاف إليه، فكان القبول إليه، كالوكيل في الشراء.
وهل يصح قبوله بغير إذن سيده؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح من غير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة للسيد بكل حال، فلا يملك التصرف فيها بغير إذن السيد، كالشراء.
والثاني: يصح، وهو المذهب؛ لأنه اكتساب بغير عوض، فصح منه بغير إذن السيد، كالاصطياد.
وإن قبل السيد الوصية.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الإيجاب للعبد، فلا يصح القبول من غيره، كالبيع.
والثاني: يصح؛ لأن الملك له، فصح القبول منه. ويخالف البيع، فإن القبول فيه لا يصح من غير الموجب له، وفي الوصية يصح القبول من غير الموجب لها، وهو إذا مات الموصى له قبل القبول.. فإن وارثه يقبل الوصية.
[فرع الوصية لعبد وارثه أو مكاتبه أو أم ولده]
وإن وصى لعبد نفسه، أو لعبد وارثه.. فهو كما لو وصى لوارثه؛ لأن الملك لسيده.
وإن وصى لمكاتبه، أو لمكاتب وارثه.. صحت الوصية؛ لأنه يملك المال ولا سبيل للوارث عليه، وإنما يستحق المال في ذمته، وذلك لا يمنع صحة الوصية له، كما لو وصى لرجل في ذمته دين لوارثه.(8/168)
وإن وصى لأم ولده.. صحت الوصية؛ لأنها وقت وجوب الوصية حرة لا ملك لأحد عليها.
وإن وصى لمدبره.. صحت الوصية، كما قلنا في أم الولد، فإن خرج من الثلث.. عتق كله وملك الوصية. وإن خرج بعض العبد من الثلث.. عتق منه قدر ذلك، وملك من الوصية بقدر ما عتق منه.
[مسألة الوصية]
بالمجهول بالمجهول] :
وتصح الوصية بالمجهول، كالوصية بالحمل في البطن واللبن في الضرع. وتصح إذا كانت غير معينة، كعبد من عبيد، وبما لا يقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلث تركته كما يخلفه الوارث في ثلثيها، فلما خلفه الوارث في هذه الأشياء.. خلفه الموصى له فيها.
وتصح الوصية بما ينتفع به من النجاسات، كالكلب والدمن وجلد الميتة؛ لأن الوارث يرث عنه هذه الأشياء، فكذلك الموصى له.
وتصح الوصية بالميتة؛ لأن فيها منفعة مباحة، بأن يطعمها كلابه أو بزاته أو يأكلها عند الضرورة، فصحت الوصية بها، كالدمن.
ولا تصح الوصية بالخمر والخنزير والكلب العقور؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها.
وهل تصح الوصية بالمعدوم، كالوصية بمن تحمل هذه الجارية، وبما تحمله هذه الشجرة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لم تصح الوصية بها.
و [الثاني] : المذهب أن الوصية تصح بذلك، وجها واحدا؛ لأن الجهالة لا تؤثر في الوصية.(8/169)
وأما إذا أوصى له بحمل هذه الجارية.. فإنه يعتبر أن يكون الحمل موجودا وقت الوصية، كما قلنا في الوصية للحمل على ما مضى.
[فرع الوصية بالمنافع]
وتصح الوصية بالمنافع التي تستباح بالإجارة والإباحة، كسكنى الدار وخدمة العبد وثمرة البستان وما أشبهه. وهو قول كافة العلماء.
وقال ابن أبي ليلى: لا يصح.
دليلنا: أن هذه المنافع تصح المعاوضة عليها؛ لأن منافع العبيد والدور تملك بالإجارة، وثمرة الشجرة تملك بالمساقاة عليها. وما ملك بالمعاوضة عليه.. صحت الوصية به، كالأعيان.
وتصح الوصية بالمنفعة لرجل، وبالعين لآخر؛ لأن المنفعة والعين كالعينين، فجاز العقد على كل واحد منهما.
إذا ثبت هذا: فتصح الوصية بمنفعة مقدرة، وبمنفعة مؤبدة؛ لأن الوصية تصح بالمعلوم والمجهول.
[فرع وصى له بشيء من ريع ثم وقف المورد]
وإن وصى رجل لرجل بدينار من غلة داره في كل سنة، وخرجت الدار من الثلث ووقفت الدار.. فلا يجوز للورثة بيعها؛ لأن ذلك يسقط حق الموصى له من غلتها، فلم يجز بيعها، كالمرهون، فيدفع إلى الموصى له من غلتها كل سنة دينار. فإن بقي من غلتها شيء بعد الدينار.. دفع ذلك إلى الورثة. وإن لم يبق لهم شيء.. فلا شيء لهم. وإن لم تف غلة الدار كل سنة بدينار. فلا شيء للموصى له غير ما جاء من غلتها.
وإن كانت الدار تغل كل سنة دنانير كثيرة، فقال الورثة: نحن نبيع منها قدر ما تزيد غلته على الدينار ونبقي منه ما يغل دينارا.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه ربما نقص كراء الباقي عن الدينار.(8/170)
[مسألة تعليق الموصي على شرط في حياته]
] : يجوز تعليق الوصية على شرط في حياة الموصي، بأن يقول: إن حج فلان في حياتي، أو قدم في حياتي.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن الوصية تصح في المجهول، فصح تعليقها على شرط، كالطلاق والعتاق.
ويصح تعليقها على شرط بعد موت الموصي، بأن يقول: إن حج فلان بعد موتي، أو تعلم القرآن وما أشبهه.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليق الوصية، على شرط في حالة الحياة.. جاز بعد الموت.
وإن قال: إذا ملكت عبد فلان.. فقد أوصيت به لفلان، فملكه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي يعقوب الأبيوردي، وأبي حنيفة -: (أن الوصية صحيحة؛ لأن الجهالة والغرر لا تؤثر في الوصية) .
والثاني - حكاه الطبري في " العدة " -: أنه لا تصح الوصية.
[مسألة إيجاب قول الموصي في الوصية]
ولا تصح الوصية إلا بإيجاب من الموصي.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : والإيجاب كل ما يدل على التمليك والعطية، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو أعطوا فلانا كذا، أو لفلان كذا، وما أشبهه.
وأما القبول: فإن كانت الوصية لغير معين، كالوصية للفقراء والمساكين.. لزمت بالموت؛ لأنه لا يمكن اعتبار القبول منهم. وإن كانت الوصية لمعين، كالوصية لرجل مسمى أو لقوم محصورين.. فلا بد من القبول من الموصى له.(8/171)
هل القبول شرط في الملك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هو شرط في الملك على ما سيأتي بيانه؛ لأنه تمليك لعين، فلم تصح من غير قبول، كالبيع والهبة.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال: إن القبول في الوصية ليس بشرط في صحة الملك، وإنما يتبين به اختياره للملك حال الموت، فتبين حصول الملك باختياره.
ولا يصح القبول إلا بعد موت الموصي؛ لأن إيجاب الوصية بعد الموت، فكان القبول بعده.
وإذا قبل الموصى له الوصية بعد الموت.. حكم له بالملك. ومتى يملك؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما: أن الملك حصل له بشرطين: الموت والقبول. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تمليك عين لمعين، فلم يقع الملك فيه قبل القبول، كالهبة.
فقولنا: (تمليك) احتراز من الميراث.
وقولنا: (عين) احتراز من الوقف.
وقولنا: (لمعين) احتراز من الوصية للفقراء والمساكين.
والقول الثاني: أن الملك موقوف. فإن قبل الموصى له.. تبينا أنه ملك بالموت. وإن لم يقبل.. تبينا أنه لم يملك، وأن الملك بعد الموت كان للورثة، وهو الصحيح؛ لأن الموصى به بعد موت الموصي لا يخلو: إما أن يقال: إنه ملك للميت، أو يقال: إنه دخل في ملك الورثة، أو يقال: إنه قد ملكه الموصى له، أو يقال: إنه مراعى، فبطل أن يقال: إنه ملك للميت؛ لأنه جماد لا يملك. وبطل أن يقال: إنه ملك للورثة؛ لأنهم لا يملكون إلا بعد الدين والوصية، ولأنه خلاف الإجماع.
وبطل أن يقال: إنه قد دخل في ملك الموصى له؛ لأنه لو ملكه.. لما صح رده له، كالميراث.(8/172)
فإذا بطلت هذه الأقسام.. ثبت أنه مراعى.
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا - ليس بمشهور -: (أن الموصى له يملكه بنفس الموت؛ لأنه مال مستحق بالموت، فانتقل إليه بالموت، كالميراث) .
[فرع رد الموصى له الوصية]
وإن رد الموصى له الوصية.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: إذا ردها في حياة الموصي.. فلا يصح هذا الرد؛ لأنه لا حق له في هذه الحال، بدليل أنه لا يصح قبوله للوصية، فلم يصح رده، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع.
الثانية: إذا رد بعد موت الموصي، وقبل القبول.. فيصح الرد؛ لأنه وقت القبول، فصح منه الرد، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع.
الثالثة: إذا قبل الوصية وقبضها، ثم ردها.. فلا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به، واستقر ملكه عليه. فإن أراد أن يملكه الورثة.. افتقر إلى لفظ التمليك أو الهبة بشروطها.
الرابعة: إذا رد بعد القبول وقبل القبض.. فهل يصح الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به إما بالقبول أو بالموت، فلم يصح رده؛ كما لو وهبه عينا وقبلها وقبضها بإذنه، ثم ردها.
والثاني: يصح رده، وهو المنصوص عليه؛ لأن ملكه لم يستقر عليها بالقبض، فصح الرد.
وإن كان القبض غير معتبر، كما لو وقف وقفا على رجل.. فإن القبول فيه غير معتبر. ثم لو رد الموقوف عليه الوقف.. لبطل الوقف عليه. فكذلك هذا مثله.(8/173)
[فرع الرجوع في قبول الوصية]
قال في " الأم ": (إذا رد الموصى له الوصية، ثم بدا له غير ذلك، وقال: أريد أن أرجع فيها؛ لأن الوارث لم يقبضها.. لم يكن للموصى له ذلك؛ لأن الموصى له لما ملك الموصى به وإن لم يقبضه بالوصية.. ملكه الوارث برد الموصى له، وإن لم يقبضه الوارث) .
[فرع رد الوصية إلى وارث]
قال في " الأم ": (إذا أوصى لرجل بوصية، ثم قال الموصى له بعد موت الموصي: رددت الوصية لفلان، وسمى واحدا من الورثة.. رجع إلى الموصى له، وقيل له: ما أردت بقولك: لفلان، فإن قال: أردت أني رددت الوصية إلى جميع الورثة لأجل ذلك المسمى.. عادت إلى جميع الورثة، وكان المسمى كغيره، وإن قال: إني أردت بذلك أني جعلتها للمسمى خاصة.. اختص المسمى بملكها دون سائر الورثة) .
وإن لم يقبل الموصى له الوصية، ولم يرد.. كان للورثة مطالبته بالقبول أو الرد. فإن امتنع من القبول. حكم عليه الحاكم بالرد؛ لأن الملك متردد بينه وبين الورثة، فهو كما لو تحجر مواتا وامتنع عن إحيائه.
[فرع موت الموصي لحمل]
إذا أوصى رجل لحمل امرأة بشيء، فمات الموصي، ثم قبل أبو الحمل الوصية له قبل الانفصال.. فهل يصح هذا القبول؟
اختلف أصحابنا فيه:
فقال القفال: لا يصح القبول قبل الولادة؛ لأنه قبله في وقت لا يدري، هل الحمل موجود أم لا؟
وقد قال ابن سريج: لا يصح الأخذ بالشفعة للحمل إلا بعد الولادة.(8/174)
وقال الشيخ أبو زيد: فيه وجهان بناء على القولين في الحمل: هل له حكم أم لا؟
فإن قلنا: له حكم.. صح القبول له.
وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح القبول له إلا بعد الوضع.
قال: وكذلك الشفعة له، على هذين الوجهين.
[مسألة موت الموصى له قبل الموصي]
وإن أوصى لرجل بوصية فمات الموصى له قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه مات قبل استحقاق الوصية.
وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن وارث الموصى له يقوم مقامه في القبول والرد.
وقال أبو حنيفة: (تبطل الوصية) .
دليلنا: أنه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوارث مقامه، كخيار الشفعة.
فقولنا: (ثابت) احتراز من الموصى له إذا رد الوصية قبل موته.
وقولنا: (في تملك المال) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار.
فإن رد الوارث الوصية.. كانت ملكا لورثة الموصي. وإن قبلها الوارث.. فهل يقضي منها دين الموصى له وينفذ منها وصاياه؟
إن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. قضي منها دين الموصى له، ونفذت منها وصاياه؟
إن قلنا: لا تملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يقضى منها دين الموصى له، ولا تنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بقبوله من جهة الموصي.(8/175)
والثاني: يقضى منها دين الموصى له وتنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بما ورثه عن الموصى له من القبول، فصار كالمملوك من تركته.
[مسألة وصية مالك الأمة بها لزوجها]
وإذا تزوج حر بأمة لغيره، فأوصى مالك الأمة بها لزوجها، ثم مات الموصي، فإن رد الموصى له الوصية.. بقيت الأمة على ملك ورثة الموصي، والزوجية باقية.. وإن قبل الزوج الوصية.. ملك زوجته، وانفسخ النكاح؛ لأن حكم النكاح والملك يتنافيان، فثبت الأقوى وهو الملك، وسقط الأضعف وهو النكاح.
ومتى يحكم بانفساخ النكاح؟ يبنى ذلك على وقت ملك الموصى له الموصى به بعد القبول. وقد مضى.
ثم ينظر في الجارية: فإن كانت حائلا.. فلا كلام.
وإن كانت حاملا فولدت.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تضعه قبل موت الموصي، أو بعد موته وقبل قبول الموصى له، أو بعد موته وبعد قبول الموصى له.
فالحالة الأولى: إذا وضعته في حياة الموصي.. نظرت:
فإن وضعته لستة أشهر فما زاد من حين الوصية.. كان الولد ملكا للموصي ولورثته بعده؛ لأنا لا نحكم بوجوده حال الوصية.
وإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. فإنا نحكم بوجوده حال الوصية: فإن قلنا: إن الحمل له حكم.. كان الولد موصى به مع الأم، ويملكه الموصى له مع الأم، ويعتق عليه، ولا تصير الجارية أم ولد له.
وإن قلنا: لا حكم له.. كان الولد ملكا لورثة الموصي.
الحالة الثانية: إذا وضعته بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له.. ففي هذا ثلاث مسائل:(8/176)
إحداهن: أن تكون حملت به بعد موت الموصي، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي:
فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك الوصية إلا بالقبول.. فإن الولد هاهنا ملك لورثة الموصي.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فإن الولد حر الأصل؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه ولا ولاء عليه؛ لأنه لم يمسه الرق، والجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
المسألة الثانية: إذا حملت به قبل موت الموصي وبعد الوصية، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين الوصية، ولأقل من ستة أشهر من حين موت الموصي:
فإن قلنا: للحمل حكم.. فإن الولد غير موصى به، بل كان ملكا للموصي في حياته، ولورثته بعده.
وإن قلنا: لا حكم له، فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالقبول.. كان الولد ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بالموت، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كان الولد ملكا للزوج، ويعتق عليه، ويثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت به وهو مملوك.
المسألة الثالثة: إذا حملت به قبل الوصية، بأن تضعه لدون ستة أشهر من حين الوصية:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد موصى به؛ لأنه مع الأم كعين أخرى موصى بها. فإذا قبل الموصى له الوصية.. ملك الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك.
وإن قلنا: لا حكم للحمل، فإن قلنا: إن الملك حصل بقبول الموصى له.. فالولد ملك لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فقد ملك الزوج الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.(8/177)
الحالة الثالثة: إذا وضعته بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن تكون حملته بعد القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين القبول.. فإن الولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والأمة أم ولد للزوج؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
الثانية: إذا حملته بعد موت الموصي وقبل القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي، ولدون ستة أشهر من وقت القبول.
فإن قلنا: إن الملك للموصى له حصل بنفس القبول.. يثبت على القولين في الحمل:
فإن قلنا: له حكم.. كان ذلك ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: لا حكم له.. كان ملكا للموصى له، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أو ولد له.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. انعقد الولد حر الأصل، وصارت الجارية أم ولد للموصى له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه.
الثالثة: إذا حملته بعد الوصية وقبل موت الموصي، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من وقت موت الموصي:
فإن قلنا: للحمل حكم.. كان ذلك ملكا للموصي ولورثته بعده.
وإن قلنا: لا حكم للحمل.. ملك الموصى له الولد بملك الأم، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.
الرابعة: إذا حملته قبل الوصية، مثل: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية.. فإن الولد يكون ملكا للموصى له بكل حال، ويعتق عليه، وله عليه الولاء؛ لأنا إن قلنا: للحمل حكم: فقد أوصى له بهما. وإن قلنا: لا حكم له.. اعتبر وقت انفصاله، وقد انفصل في ملكه. ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك.(8/178)
[فرع موت الموصي ثم الموصى له قبل القبول]
) : فإن كانت المسألة بحالها، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد، وله وارث، إما ابن أو أخ أو غيرهما.. قام مقامه في القبول والرد. فإن رد الوارث الوصية.. كانت الجارية وأولادها ملكا لورثة الموصي.
قال الشافعي: (وكرهت لهم ذلك؛ لأن الأولاد قد يعتقون ويثبت للأمة حكم الاستيلاد، وذلك يبطل برد الوارث) .
وإن قبل الوارث الوصية.. بنيت على وقت ملك الموصى له:
فإن قلنا: إنه يملك بنفس القبول.. ملك الوارث الجارية وأولادها، ولا يعتقون عليه، ولا يرث أولاد الجارية الموصى له؛ لأن وارث الموصى له ملك الجارية وأولادها بالموصى له لا من جهته؛ لأن الموصى له لم يملكهم.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي.. تبينا أن الموصى له قد كان ملك الجارية وأولادها قبل موته، فيكون قبول وارث الموصى له كقبوله.
فكل موضع قلنا في التي قبلها على هذا القول: إذا قبل الموصى له الوصية أن الجارية تكون ملكا للزوج وأولادها لورثة الموصي.. كان هاهنا مثله.
وكل موضع قلنا: لو قبل الأب الوصية على هذا، وقلنا يكون أولاد الجارية أحرار الأصل.. فإنهم يكونون أحرار الأصل إذا قبل وارث الموصى له الوصية إلا أن الأولاد يرثون الأب إذا قبل، ويكونون أحرار الأصل.
وأما إذا قبل وارث الموصى له، وحكمنا بأن الأولاد أحرار الأصل.. فهل يرثون الأب؟ اختلف أصحابنا فيهم:
فقال الشيخ أبو حامد: لا يرثون؛ لأنا لو جعلنا أولاد الأمة من جملة الورثة..(8/179)
لوقف صحة قبول الوصية على جماعتهم، إذ قبول جملة الوصية لا تصح إلا من جميع الورثة، وهم عند القبول مماليك لا يصح قبولهم، فتبطل الوصية. وإذا بطلت الوصية.. سقط عتقهم، فيؤدي إثبات ميراثهم إلى نفيه، فثبت العتق وسقط الميراث.
وقال ابن الصباغ: يرث أولاد الأمة، ويعتبر قبول من هو وارث في حال اعتبار القبول؛ لأن اعتبار القبول في حقهم يؤدي إلى إسقاطهم وإسقاط الميراث، فأسقطنا القبول وأثبتنا الميراث؛ لأنا لو لم نورثهم.. لأدي إلى إثبات ولد بلا ميراث.
وقال القاضي أبو الطيب والمسعودي (في " الإبانة ") : إن كان الوارث القابل ممن يحجبه أولاد الأمة.. لم يرث أولاد الأمة. وإن كان ممن لا يحجبه أولاد الأمة.. فهل يرثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرثون؛ لأن توريثهم لا يؤدي إلى حجب الوارث القابل.
والثاني: لا يرثون، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأن توريثهم يخرج القابل عن أن يكون جميع الورثة، ولا يصح القبول إلا من جميع الورثة.
وقال الداركي: إن كان القبول ثبت للموصى له وهو مريض.. لم يرثه أولاد الأمة؛ لأن قبول وارث الموصى له يقوم مقام قبوله، ولو قبل هو لكان وصية ولم يرثه أولاد الأمة.
وإن ثبت له القبول وهو صحيح.. ورثه أولاد الأمة؛ لأنه لو قبل الوصية في صحته.. لورثه الأولاد، فكذلك قبول ورثته يقوم مقام قبوله.
[فرع وصى بأمة لمن له ابن منها فماتا]
وإن وصى رجل لرجل بأمة، وللموصى له ابن منها حر يرثه، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن ابن الموصى له من الجارية الموصى بها يقوم مقامه في القبول والرد.. فإن ردها.. بقيت على ملك ورثة الموصي. وإن قبلها، فإن احتملها الثلث.. عتقت على الابن؛ لأنا إن قلنا: أن الملك يحصل بالقبول.. فقد(8/180)
ملكها ابنها بقبوله. وأن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فبقبول الابن نتبين أن أباه كان قد ملكها، ثم انتقلت منه إرثا إلى ابنه، فعتقت عليه.
وإن لم يحتملها الثلث، فإن كان الابن معسرا.. عتق منها ما ملكه منها لا غير.
وإن كان موسرا بقيمة باقيها:
فإن قلنا: تملك الوصية بنفس القبول.. قوم باقيها على الابن.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فهل تقوم عليه؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا تقوم عليه؛ لأنه ملك بعضها بالإرث من أبيه، ومن ملك بالإرث.. لم يقوم عليه، كما لو ورث بعض أمة.
و (الثاني) : قال ابن الحداد: تقوم عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه ملك بعضها باختياره للقبول، فصار كما لو اشترى بعضها، بخلاف الإرث فإنه يدخل في ملكه بغير اختياره.
[فرع الوصية للمبعض]
وإن أوصى رجل لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه بثلث ماله:
فإن لم يكن بين العبد وبين سيده مهايأة.. لم تصح الوصية؛ لأن تصحيحها يؤدي إلى أن تصح الوصية للوارث.
وإن كان بينهما مهايأة:
فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. لم تصح الوصية أيضا؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إنها تدخل:
فإن قلنا: إن الوصية لا تملك إلا بنفس القبول.. نظر في اليوم الذي قبل فيه(8/181)
الموصى له الوصية، فإن كان يوم نفسه.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية.
وإن قلنا: نتبين بالقبول أن الموصى له ملك الوصية بموت الموصي.. نظر في اليوم الذي مات فيه الموصي، فإن كان يوم الموصى له.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية.
وغلط بعض أصحابنا فقال: يعتبر يوم عقد الوصية، كما يعتبر في اللقطة يوم الوجود. وليس بشيء.
وإن وصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي.. صحت الوصية.. فإن لم يكن بينهما مهايأة.. كانت الوصية بينهما. وإن كان بينهما مهايأة.
فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. كانت الوصية بينهما.
وإن قلنا: إنها تدخل.. بني على القولين في وقت ملك الوصية، وكانت لمن كان يومه يوم ملك الوصية.
[فرع الوصية لعبد رجل]
وإن وصى رجل لعبد رجل وصية فعتق العبد.. نظرت:
فإن عتق في حياة الموصي، ثم قبل العبد المعتق الوصية بعد موت الموصي.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه.
وإن عتق بعد موت الموصي، وبعد القبول.. فإن المال للمولى؛ لا حق للعبد فيه. وإن عتق بعد موت الموصي وقبل القبول، ثم قبل العبد: فإن قلنا: إن الوصية تملك بنفس القبول.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فالوصية ملك للسيد.. فإن امتنع العبد من القبول على هذا.. فهل يجوز للسيد أن يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يقبل؛ لأن الملك له.
والثاني: ليس له أن يقبل؛ لأن الإيجاب للعبد.(8/182)
[فرع الوصية لعبده]
) : وإن أوصى رجل بثلث ماله لعبده.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول ابن الحداد -: أنه يعتق ثلث العبد؛ لأن العبد من جملة ماله، والوصية عامة فيه وفي سائر أمواله، فصار كما لو أوصى له بنفسه. ولا يقوم عليه باقي نفسه؛ لأنه معسر بقيمة باقيه.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يجمع ثلث التركة في العبد. ويعتق. وإن فضل من الثلث شيء بعد قيمته.. دفع إليه. وإن نقص الثلث عن قدر قيمته.. عتق منه بقدر الثلث ورق باقيه؛ لما روي: «أن رجلا أعتق ستة أعبد في مرضه، فأعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم اثنين وأرق أربعة» فجمع الثلث لتكميل الحرية، فكذلك هذا مثله.
و (الثالث) منهم من قال: لا تصح الوصية؛ لأن الظاهر أن الموصى به غير الموصى له. وإذا لم يدخل العبد في الوصية.. لم تصح الوصية.
والله أعلم(8/183)
[باب ما يعتبر من الثلث]
العطايا على ضربين: منجزة وغير منجزة
فأما غير المنجزة: فهو ما يوصي به الإنسان أن يخرج من ماله بعد موته، فينظر فيه: فإن وصى بما لم يلزمه في حياته، كالهبة وصدقة التطوع والمحاباة والعتق وما أشبه ذلك.. فإن ذلك يعتبر من ثلث تركته، سواء وقعت الوصية به في الصحة أو في مرض الموت، أو بعضها في الصحة وبعضها في مرض الموت؛ لأن الوصية وعد، بدليل أنه يصح الرجوع فيها، وإنما تلزم بموت الموصي، وكلها متساوية في وقت اللزوم.
وأما ما وجب عليه في حياته، كالدين والزكاة والكفارة والحج: فإن لم يوص بها.. وجب قضاؤها من رأس ماله؛ لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، وهذه الأشياء مقدمة على الميراث. وإن وصى بها.. نظرت:
فإن وصى أن تؤدى من رأس ماله.. أخرجت من رأس ماله؛ لأنها في الأصل من رأس المال، ووصيته بها تأكيد.
وإن وصى أن تخرج من ثلث تركته.. أخرجت من ثلث تركته، وزاحم أصحاب الوصايا في الثلث؛ لأنه قصد الرفق بالورثة، فإن لم يف ما يخص الواجب من الثلث.. تمم من رأس المال على ما سيأتي بيانه.
وإن وصى أن يفعل عنه، ولم يقل من رأس المال، ولا من الثلث.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يعتبر من الثلث، وهو ظاهر النص؛ لأنه في الأصل من رأس المال فلما وصى به.. علم أنه قصد الرفق بالورثة في أن يخرج من الثلث.
وقال أكثر أصحابنا: يخرج من رأس المال، وهو الأصح؛ لأنه في الأصل من(8/184)
رأس المال، والوصية به تقتضي التذكارية، والنص محمول عليه إذا صرح بأن يفعل من الثلث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن لم يقرن بوصيته بالواجب وصية أخرى.. كان من رأس المال. وإن قرن بها وصية أخرى يكون من الثلث، بأن قال: اقضوا ديني، وأعتقوا عني رقبة، أو تصدقوا عني تطوعا بكذا.. كان جميع ذلك من الثلث؛ لأنه لما قرن الواجب مع ما يخرج من الثلث.. علم أن الجميع من الثلث.
وأما العطايا المنجزة: فمثل أن يهب ويقبض، أو يبيع ويشتري بمحاباة، فإن كان ذلك في صحته.. اعتبر من رأس ماله وإن تأتى على جميع ماله؛ لأنه لا حق لأحد في ماله، ولا اعتراض عليه. وإن فعل ذلك في مرضه.. فالمرضى على ثلاثة أضرب:
مريض حكمه حكم الصحيح، ومريض حكمه حكم الميت، ومريض يخاف عليه التلف من مرضه ويرجى برؤه.
فأما [الضرب الأول] الذي حكمه حكم الصحيح فهو: أن يكون به مرض ولا يخاف عليه منه التلف، مثل: حمى يوم، ووجع الضرس والصداع ووجع العين وما أشبه ذلك.. فهذا حكم تصرفه حكم الصحيح؛ لأن هذه الأشياء لا يخاف منها التلف غالبا، ولا يخلو الإنسان من مثلها. وإن اتصل الموت بهذه الأشياء.. صار كمن مات فجأة بلا مرض.
وفي هذا المعنى: المرض الذي لا يرجى برؤه، ولكنه يطول بصاحبه، ولا يعاجله الموت منه، كالسل في ابتدائه، والفالج إذا طال به، وما أشبه ذلك مما لا يخاف منه معاجلة الموت، وإن تحقق أنها لا تزول.. فحكمه حكم الصحيح، كتصرف الشيخ الهرم، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\404] : الاعتبار بالمآل لا بالحال، فلو كان مرضا يسيرا فمات منه.. بان أنا أخطأنا، وأنه مخوف.(8/185)
وأما (الضرب الثاني) المريض الذي حكمه حكم الميت فهو: الميؤوس من حياته، مثل: أن يكون في النزع وقد شخص بصره وابيضت عيناه، أو يكون قد علاه الماء ولا يحسن العوم، أو كان قد قطع حلقه ومريئه، أو خرجت حشوته أو أبينت، أو قطع بنصفين وهو يتكلم - وحكى أبو على بن أبي هريرة: أن رجلا قطع بنصفين، فجعل يعاتب من فعل به ذلك - فهذا لا حكم لكلامه في وصية ولا عقد ولا إسلام ولا توبة.
قال الشيخ أبو حامد: فإن جنى جناية، أو أتلف مالا.. لم يلزمه ضمانها. وإن قتله قاتل.. لم يجب عليه قود ولا دية ولا كفارة؛ لأنه لم يبق فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك حركة مذبوح، وهذه حالة فرعون التي قال بها: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] (يونس: 90) فلم يقبل منه. وهي الحالة التي قال الله تعالى فيها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] (النساء: 18) .
وأما الضرب الثالث: فهو المرض الذي يخاف منه التلف غالبا، وقد يرجى البرء منه، فهذا إذا وصى فيه.. صحت وصيته. وإن تصرف فيه.. صح تصرفه. وإن أعتق أو وهب وأقبض أو حابى فيه بالبيع والشراء.. صح جميع ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) ولم يرد به الموت نفسه؛ لأنه لا يمكنه معه الوصية، وإنما أراد به: إذا حضر سبب الموت.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن.. سقاه الطبيب لبنا، فخرج من الجرح، فقال: اعهد إلى الناس، فعهد، وأمضت الصحابة عهده) .
فإن كان فعله ذلك في حالة مخوفة: فإن برئ.. لزم الكل، وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبرت تبرعاته فيه مثل العتق والهبة والمحاباة من ثلث تركته؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرضه الذي مات فيه ستة مملوكين؛ لا مال له غيرهم، فجزأهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» .(8/186)
وروى: أن النبي صلى الله عليم وسلم قال: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم» .
ولأنه في تلك الحالة يتخوف الورود على الله، وقد يحمله ذلك الخوف على أن يتصدق بجميع ماله تقربا إلى الله ويتلفه على الوارث، فيضر به، فلذلك قصر تصرفه على ثلث تركته.
فأما إذا أنفق ماله في لذاته من المطعم والمشرب والملبس.. فإنه يكون من أصل ماله وإن استغرق جميع ماله؛ لأن منفعة نفسه مقدمة على منفعة الورثة.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي الأمراض المخوفة وغير المخوفة، فبدأ بذكر الحمى، وهي على ضربين: مطبقة وغير مطبقة.
فأما المطبقة: فإنها لا تكون مخوفة في يوم ولا يومين. فإذا أعطى في تلك لحال.. لم يعتبر من الثلث؛ لأن العادة ما جرت بأن الإنسان يضعف بحمى يوم ولا يومين، ولا يخاف منه التلف. فإذا دامت واتصلت.. صارت مخوفة، وما أعطاه في تلك الحال، اعتبر من الثلث؛ لأنه يخاف منها التلف.
وأما غير المطبقة فهي: الغب: التي تجيء يوما وتذهب يوما. والربع: وهي التي تجيء يوما وتذهب يومين، ثم تعود في اليوم الرابع، فهذه الحمى ليست بمخوفة وإن طالت زمانا؛ لأنه وإن ضعف في يوم الحمى، فإنه يقوى في يوم الصحة، فتكون القوة بإزاء الضعف فتتعادلان.
قال الشافعي: (فإن كان معها وجع.. كان مخوفا وذلك مثل البرسام، أو الرعاف الدائم أو ذات الجنب أو الخاصرة أو القولنج) .(8/187)
وظاهر هذا: أن هذه الأمراض ليست بمخوفة إلا إذا انضافت إلى حمى الغب أو الربع.
قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره، بل هذه الأمراض مخوفة وإن انفردت، وإنما هي مع الحمى أشد خوفا. وقد نص على ذلك في " الأم "؛ لأن (البرسام) : بخار من الحمى يرتقي إلى الرأس أو الصدر فيختلط معه العقل فيهذي، فيكون مخوفا. وأما (الرعاف) : فإن كان يسيرا لحظة أو ساعة.. فليس بمخوف. وإن كان متصلا دائما.. فهو مخوف؛ لأنه ينزف دمه، فهو كما لو افتصد ولم يسده.
وأما (ذات الجنب) : فهو داء يقع في الجنب، فيرم وينتفخ وينفذ، ويكون ذلك بقرب القلب، يؤلم ألما شديدا، وربما انفتح إلى قلبه فمات عقيبه.
وكذلك (ذات الخاصرة) : جرح يقع في الخاصرة.. فهو مخوف. وكذلك قروح الصدر والرئة مخوفة؛ لأنه يصعب علاج قروح الصدر، والرئة لا تقبل العلاج؛ لأنها تضطرب أبدا وتتحرك فلا تقبل العلاج.
(والقولنج) : هو أن يستمسك طبعه فيحمي جسمه، ويرتفع إلى رأسه بخارات نخمية، فيختلط معها العقل، فيهلك.
وأما (القيام) : فهو إسهال البطن، فإن كان مسترسلا بحيث لا يقدر على حبسه، بل يخرج منه بغير اختياره.. فهو مخوف وإن كان قليلا؛ لأن هذا لا يكون إلا بسقوط القوة، ويخشى منه معاجلة الموت.
وإن كان غير مسترسل، ويمكنه إمساك نفسه فيه، فإن كان ذلك يوما أو يومين وليس معه دم.. فليس بمخوف؛ لأنه لا يخاف منه التلف إذ قد يكون من غير علة، وقد يكون من امتلاء فيدفع الطبيعة، فتحل محل الدواء.
وإذا كان محتملا.. لم يجعل مخوفا. وإن جاوز يومين.. صار مخوفا؛ لأنه ينشف الرطوبة الغريزية، فتغلب اليبوسة عليه، فيؤدي إلى التلف.(8/188)
فإن انضاف إلى القيام زحير أو تقطيع.. كان مخوفا بكل حال. فالزحير: أن يخرج منه الشيء بشدة ومشقة وذلك يهده. والتقطيع: أن يخرج منه الشيء بعد الشيء متقطعا بشدة.
وأما إذا كان في إسهال يوم أو يومين دم.. فقد نقل المزني: (أنه لا يكون مخوفا) ، ونقل الربيع: (أنه يكون مخوفا) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن الدم يخرج من الأعضاء الشريفة، كالكبد والطحال ونحو ذلك، وذلك مخوف.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فالذي نقله الربيع: أراد: إذا كان خروج الدم من الكبد والطحال ونحوهما؛ لأن ذلك عن قروح بها.
والذي نقله المزني: أراد: إذا كان خروج الدم من المقعدة - وهو: البواسير - فلا يكون مخوفا ما لم يتطاول؛ لأنه لا يخاف منه التلف.
[فرع غلبة خروج الدم والبلغم ونحوهما]
) : قال الشافعي: (ومن ساوره الدم حتى تغير عقله أو المرار، أو البلغم.. كان مخوفا) وهذا كما قال: إذا ساوره الدم، أي غلبه وهاج عليه: وهو أن ينصب الدم إلى طرف من بدنه من يد أو رجل أو فخذ أو غيره، فينتفخ ويرم ويحمر.. فهو مخوف.
قال الشافعي: (تغير عقله أو لم يتغير؛ لأنه لا يكون من فرط الحمى؛ لأنه يذهب بالرطوبة الغريزية، فيهلك) .(8/189)
وكذلك إذا ساوره المرار - أي: وأتته، وهي الصفراء إذا انصبت إلى موضع من بدنه؛ لأنه يكون من فضل الحمى - فيخاف عليه.
وإن غلب عليه البلغم - وهو من الرطوبة وابتداء الفالج - فهو مخوف أيضا؛ لأنه أول ما يثور يستمسك لسانه وتسقط قوته، فربما أطفأ الحرارة الغريزية، فيهلك. فإذا استقر وانطلق لسانه.. صار فالجا، ولم يكن مخوفا؛ لأنه لا يخشى منه معاجلة الموت.
وكذلك السل: لا يخاف منه معاجلة الموت وإن كان يتحقق أنه لا يبرأ منه، كما أن الإنسان إذا كبر وهرم يتحقق أنه لا يعود شابا، وأنه يموت عن كبره، وليس بمخوف.
[فرع الطاعون مرض مخوف]
) : قال الشافعي: (الطاعون مخوف حتى يذهب) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا كان بالمرء طاعون.. فإنه مخوف حتى يذهب عنه؛ لأنه من غلبة الدم والحمى على جميع بدنه.
وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : إذا حصل ببلد طاعون، فمن كان بذلك البلد.. فأمره مخوف، وإن لم يطعن بعد.
وإن أشكل شيء من الأمراض: هل هو مخوف أو غير مخوف؟ رجع فيه إلى أهل الصنعة من أهل الطب، كما يرجع فيما أشكل من الشرع إلى أهل الفقه، ولا يقبل فيه أقل من طبيبين؛ لأن ذلك يحل محل الشهادة. ولا يقبل فيه إلا قول مسلمين عدلين، كما قلنا في الشهادة.
قال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : ولا يقبل فيه قول رجل وامرأتين؛ لأن(8/190)
المقصود إثبات المرض لا إثبات المال، وإنما يثبت المال بشهادة رجل وامرأتين.
وأما المجروح: فينظر فيه:
فإن كان الجرح نافذا إلى الدماغ أو البطن.. فهو مخوف؛ لما روى: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن، سقاه الطبيب لبنا، فخرج من جوفه، فقال له: اعهد إلى الناس) ولأن الهواء يدخله، وتهب فيه الريح فتنشف رطوبته.
وإن لم يكن نافذا.. فحكمه وحكم من ضرب بعصا أو خشبة أو حجر واحد، فينظر فيه، فإن آلمه وحصل منه ورم وجمع مدة.. فهو مخوف؛ لأنه قد يسري. وإن لم يجمع مدة، وليس فيه ورم ولا ألم.. فليس بمخوف. فإن أخذت الجراحة في البرء.. قال الشيخ أبو حامد: فقد خرج عن أن يكون مخوفا.
[فرع حمل المرأة ليس بمخوف]
) : وأما الحمل في المرأة: فليس بمخوف قبل الطلق.
وقال مالك: (إذا بلغت المرأة ستة أشهر.. صارت مخوفا عليها، فيكون تصرفها في ثلث تركتها) .
وقال ابن المسيب: الحمل مخوف من ابتدائه.
دليلنا: أن الحمل ليس بحال خوف، وإنما هو يقرب إلى حال الخوف، فهو كالصحة.
فأما إذا ضرب الحامل الطلق - وهو وجع الولادة - فهو مخوف على المنصوص عليه. وفيه قول آخر: (أنه غير مخوف) ؛ لأن السلامة منه أكثر، والأول أصح؛ لأن وجع الولادة أشد من المرض المخوف؛ لأن الولد يخرج من الرحم الذي ضيق رأسه كالإحليل، وربما كان سببا لتلفها.(8/191)
قال الشافعي: (وكذلك طلق الإسقاط) .
قال أصحابنا: إن أسقطته لستة أشهر فأكثر.. كان مخوفا؛ لأن ولادته أشق من ولادة الحي؛ لأن الحي يسهل خروجه للحرارة التي فيه، وهي الحياة. وإذا كان ميتا.. برد وثقل، فعسر خروجه. وإن ولدته لدون ستة أشهر.. فليس بمخوف؛ لأنه مضغة أو شيء لم يتخلق، فهو كقطعة لحم، فلا يشق خروجه.
قال الشافعي: (فإن انفصل الولد وخرج.. فليس ما بعده بمخوف إلا أن يكون هناك جرح وألم وضربان.. فيكون مخوفا) .
[فرع صفة الحرب المخوفة]
) : وإن وقع القتال بين طائفتين مسلمتين، أو مسلمة وكافرة، أو كافرتين: فإن كانوا يترامون من بعد.. قال الشيخ أبو حامد: فليس بمخوف؛ لأنه قد يصيب الرمي وقد يخطئ، وليست إصابته بأولى من خطئه.
وإن التحم القتال، واختلط الفريقان: فإن كانت إحدى الطائفتين أكثر عددا من الأخرى بزيادة كثيرة.. فالقليلة مخوف عليها. وإن كانتا متساويتين.. فنقل المزني: (أنه مخوف عليهما) .
وقال في " الإملاء ": (تعتبر العطايا من رأس المال) . فالمسألة على قولين:
أحدهما: أنه مخوف عليهما؛ لأنه سبب يخاف منه التلف، فهو كالمرض المخوف.
والثاني: أنه ليس بمخوف عليهما؛ لأنه لم يحدث في الجسم شيء، فهو كالصحيح.(8/192)
وإن وقع رجل في أسر الكفار: فإن كانوا قوما لا يرون قتل الأسرى - كالروم - فالأسر معهم ليس بمخوف؛ لأن عادتهم أنهم يحبسون الأسرى ولا يقتلونهم.
وإن كانوا قوما يرون قتل الأسرى.. فنقل المزني: (أنه مخوف) .
وقال في " الإملاء ": (ليس بمخوف) . فالمسألة على قولين وتعليلهما ما مضى.
وإن ركب في البحر، فهبت الرياح وارتفعت الأمواج والتطمت - وإن لم تنكسر السفينة - ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه.
وإن كان لمسلم على مسلم قتل قصاص وقدم لقتل القصاص. فنقل المزني: (أنه غير مخوف ما لم يجرح) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: هي على قولين كالمسائل الثلاث.
ومنهم من قال: ليس بمخوف قولا واحدا؛ لأن الله خلق الرحمة والرأفة في قلب المؤمن، وقد يرق لأخيه المسلم إذا قدر عليه، ويعفو عن القصاص، ولا رحمة في قلب الكافر على المسلم فيرجى منه ترك القتل. وكذلك في حال التحام القتال وارتفاع الأمواج لا يوجد هذا المعني.
[مسألة تبرعات الثلث المنجزة والمؤخرة]
وإن عجز الثلث عن التبرعات.. فلا تخلو التبرعات: إما أن تكون منجزة أو مؤخرة، أو بعضها منجزا وبعضها مؤخرا.
فإن كانت منجزة، مثل: أن باع وحابى أو وهب وأقبض أو أعتق عتقا نافذا.. نظرت: فإن كانت تبرعاته وقعت في جنس واحد من التصرفات، مثل: المحاباة أو(8/193)
الهبة أو العتق، فإن فعل ذلك متفرقا، مثل: أن أعتق عبدا ثم أعتق عبدا، أو حابى ثم حابى.. فإنه يبدأ بالأول فالأول. فإن استوفى الثلث بالأول.. لزم، وكان ما بعده موقوفا على إجازة الورثة. وإن بقي من الثلث شيء بعد الأول.. لزم من الثاني بقدر ما بقي من الثلث، وما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة؛ لأن المريض لا ينفذ تبرعه إلا في ثلث التركة، وقد سبق الأول، فقد لسبقه، فلزم في حق الورثة.
وإن وقعت تبرعاته في حالة واحدة.. نظرت: فإن كانت عتقا، بأن قال لجماعة عبيد: أعتقتكم.. أقرع بينهم، ويعتق منهم قدر ثلث التركة؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرض موته ستة مملوكين له، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم بعد موته، فأعتق اثنين وأرق أربعة» .
وإن كانت تبرعاته محاباة أو هبة، بأن باع جماعة بكلمة واحدة وحاباهم، أو وهبهم وأقبضهم في حالة واحدة، أو وكل من فعل ذلك عنه، ووقع ذلك في حالة واحدة.. قسط الثلث بينهم على قدر محاباتهم.
والفرق بين العتق وغيره من التبرعات: أن القصد من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك إلا بعتق جميع الرقبة، والقصد من غير العتق الملك للموصى له، وذلك يحصل وإن ملك الموصى له بعض ما وصي له به.
وإن كانت تبرعاته في أجناس من التصرفات، مثل أن أعتق وباع وحابى ووهب وأقبض: فإن وقع ذلك في حالة واحدة، مثل أن وكل من يبيع من رجل بيعا فيه محاباة، ووكل آخر يهب من رجل عينا ويقبضه، وأعتق هو أو وكيله عبدا، أو وقعت هذه التصرفات في حالة واحدة، ولم يحتمل الثلث جميعها.. قسط الثلث بين الجميع على التساوي إن تساوت عطاياهم، وعلى التفاضل إن تفاضلت؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض في السبق. وإن وقعت هذه التصرفات متفرقة.. قدم الأول فالأول على ما ذكرناه في الجنس الواحد.
وقال أبو حنيفة: (إن حابى أولا ثم أعتق.. قدمت المحاباة. وإن أعتق أولا ثم حابى.. سوى بينهما؛ لأن العتق حق لله تعالى، والمحاباة حق للآدمي، فلم يقدم حق الله، كما لو أعتق المريض عبدا ثم أقر بدين لآدمي، فإن الدين مقدم) .(8/194)
ودليلنا أنهما عطيتان منجزتان، لو انفردت كل واحدة.. للزمت. فإذا اجتمعتا ولم يحتملهما الثلث.. قدمت الأولى منهما، كما لو حابى أولا، ثم أعتق.
فقولنا: (منجزتان) احتراز مما لو كانتا مؤخرتين، أو إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة.
وقولنا: (لو انفردت كل واحدة للزمت) احتراز من البيع الفاسد. وما ذكروه من الإقرار بالدين بعد العتق، فإن الدين لم يجب بالإقرار، وإنما وجوبه متقدم على العتق، فلذلك قدم على العتق.
وإن كانت التبرعات مؤخرة - وهو: ما يوصي أن يفعله عنه بعد موته، من عتق وكتابة ومحاباة وهبة وصدقة وما أشبه ذلك - نظرت:
فإن كانت وصاياه بجنس واحد، ولم يحتملها الثلث، فإن كانت عتقا.. أقرع بين الجميع؛ لأن القصد تكميل الأحكام بالعتق، وذلك لا يحصل إلا بعتق جميع الرقبة. وإن كانت محاباة أو هبة أو صدقة.. قسم الثلث بين الجميع، سواء وقعت متفرقة أو في وقت واحد؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم، وهو عند الموت.
وإن كانت وصاياه بأجناس، فإن لم يكن معها عتق.. قسم الثلث بين الجميع؛ لما ذكرناه. وإن كان معها عتق، بأن أوصى بمحاباة وهبة وعتق.. ففيه قولان:
أحدهما: يقسط الثلث بين الجميع بالحصص؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم.
والثاني: يقدم العتق على غيره؛ لأن له مزية في السراية.
وإن أوصى بمحاباة وهبة وتفرقة شيء من ماله على المساكين، وعجز الثلث عن جميع ذلك:
فقال البغداديون من أصحابنا: يقسط الثلث بين الجميع على الحصص قولا واحدا؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.(8/195)
وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\406) : وهل تقدم الوصية للمساكين على غيرهما؟ فيه قولان، كالعتق مع غيره، والأول أصح؛ لأن العتق له مزية بالسراية، وهذا لا يوجد في الوصية للمساكين.
وإن كانت الوصية بمحاباة وهبة وكتابة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل تقدم الكتابة على غيرها؟ فيه قولان؛ لما في الكتابة من العتق.
ومنهم من قال: لا تقدم الكتابة قولا واحدا؛ لأنه لا سراية للكتابة.
وإن كان بعض التبرعات منجزة وبعضها مؤخرة.. قدمت المنجزة، سواء تقدمت أو تأخرت، عتقا كانت أو غيره؛ لأنها أقوى، بدليل أن الكل يلزم في حق المتصرف ولو لم يمت في مرضه ذلك، والمؤخرة لا تلزم في حياته بحال.
وقال أبو حنيفة: (إذا أعتق عبدا في مرضه، ثم أوصى بعتق آخر، ولم يحتملهما الثلث.. سوى بينهما) .
دليلنا: أنهما عطيتان، إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة، فقدمت المنجزة، كما لو باع وحابى، ثم أوصى بعتق عبد.
[فرع ينفذ تعليق عتق مشروط إن احتمله الثلث]
إذا كان له عبدان - سالم وغانم - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر، فأعتق سالما، فإن احتملهما الثلث.. عتق سالم بالمباشرة، وعتق غانم بالصفة. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم؛ لأنه سابق، ولم يعتق غانم؛ لأن عتقه متأخر.
وإن قال: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر حال عتق سالم، فأعتق سالما واحتملهما الثلث.. فاختلف أصحابنا فيها:
فقال القاضي أبو الطيب: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن إعتاق سالم شرط لإعتاق غانم، والمشروط لا يصح وقوعه مع الشرط ولا قبله.(8/196)
وقال أكثر أصحابنا: يعتقان معا؛ لأنه جعل حال عتق سالم صفة لعتق غانم وتأخر حرف من لفظ عتق سالم يعلم بوجود الشرط، فوقع المشروط.
فإذا قلنا بهذا: ولم يحتملهما الثلث.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو العباس ابن سريج، والشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا يمكن الإقراع بينهما؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم يؤمن أن تخرج قرعة العتق على غانم فيرق سالم. وإذا رق سالم.. لم يعتق غانم، فيؤدي إثبات عتق غانم إلى نفيه. وما أدى إثباته إلى نفيه.. سقط إثباته.
(والثاني) : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يعتق واحد منهما؛ لأن الإقراع بينهما لا يمكن؛ لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق سالم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فسقط عتقهما.
قال الشيخ أبو حامد: وإن قال لغانم: إذا أعتقت سالما.. فأنت حر قبله، ثم أعتق سالما في مرض موته، فإن خرجا من الثلث.. عتقا، وتبينا أن عتق غانم قبل سالم. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم دون غانم؛ لما ذكرناه.
قلت: وعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق هاهنا واحد منهما؛ لأن عتق سالم شرط لعتق غانم، فإذا لم يعتق عبده في الأولى - وعتقه وعتق غانم يقع في حالة واحدة - فلأن لا يعتق عبده هاهنا - وعتق غانم قبله - أولى. وكذلك على قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: لا يعتق غانم وإن احتملهما الثلث؛ لأن المشروط لا يتقدم على الشرط. والأول هو المشهور.
فإن كان له ثلاثة أعبد - سالم وغانم وفائق - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم وفائق حران، ثم أعتق سالما، فإن احتمل الثلث عتق جميعهم.. عتقوا. وإن احتمل الثلث عتق أحدهم لا غير.. عتق سالم؛ لأنه عتقه سابق. وإن احتمل الثلث عتق سالم وعتق أحد الآخرين.. عتق سالم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة.(8/197)
وإن قال لغانم وفائق في مرض موته: أنتما حران حال عتق سالم، ثم أعتق سالما، واحتمل الثلث عتق جميعهم.. فعلى قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق جميعهم.
فإذا قلنا بهذا: ولم يحتمل الثلث إلا عتق واحد.. فعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق واحد من الثلاثة. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق.
فإذا قلنا بهذا: واحتمل الثلث عتق اثنين.. عتق سالم؛ لأن عتقه متقدم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما في حالة واحدة.
[فرع تعلق العتق بمرض الموت على صفة]
قال أبو العباس: إذا قال الرجل لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر، فتزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر المهر من رأس المال، وعتق العبد من الثلث لوجود الصفة. وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها.. كان قدر مهر مثلها من رأس المال.
وأما الزيادة على مهر مثلها، فإن كانت وارثة له.. لم تستحقها؛ لأن المحاباة وصية، والوصية لا تصح للوارث. ويعتق العبد من الثلث.
وإن كانت غير وارثة، بأن كانت ذمية وهو مسلم، أو أبانها قبل موته، وقلنا: لا ترثه.. صحت لها المحاباة من الثلث. فإن احتمل الثلث المحاباة وعتق العبد.. نفذا. وإن لم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأنها سابقة؛ لأنها تثبت بنفس العقد، والعتق يقع بعد العقد.
وإن قال لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر حال تزويجي، ثم تزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر مهر المثل من رأس المال وعتق العبد من الثلث.
وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها، فإن كانت وارثة.. لم تستحق الزيادة، وعتق العبد من الثلث. وإن كانت غير وارثة.. استحقت المحاباة، فإن احتمل الثلث المحاباة والعتق.. نفذ الجميع. وإن لم يحتملهما.. قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأنهما وقعا في حالة واحدة.(8/198)
والفرق بين هذه وبين العتق: أن الصفة هاهنا هو التزويج، والتزويج لا يبطل بانتقاض المحاباة.
[فرع علق في مرض موته عتق عبده على شراء]
) : قال أبو العباس: إذا قال في مرض موته لعبده غانم: إذا اشتريت سالما.. فأنت حر في حال شرائي له، ثم اشتراه وحابى فيه، ولم يحتمل الثلث المحاباة والعتق قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأن الشراء يتم في جميع سالم وإن لم يتم لبائعه جميع المحاباة، فصفة العتق توجد.
وإن قال لغانم في مرض موته: إذا بعت سالما.. فأنت حر في حال بيعي له، فباع سالما وحابى فيه، ولم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأن البيع لا يتم في جميع سالم إلا بأن تحصل جميع المحاباة للمشتري. وإذا لم يتم البيع في جميع سالم.. لم توجد صفة عتق غانم، وهذا ظاهر كلام الشافعي، وبه قال ابن الحداد.
وقال ابن القاص وابن اللبان: تقدم المحاباة فيهما؛ لأن الثمن يقابل جميع العبد، فإذا سقط بعض الثمن.. بطل البيع فيما يقابله من العبد، فلا توجد صفة العتق، وقد مضى ذلك في البيوع.
[فرع وصى بقضاء دينه أو أن يحج عنه من الثلث]
) : إذا أوصى أن يقضى دينه أو يحج عنه حجة الإسلام من الثلث، وأوصى بتبرعات ولم يحتملها الثلث.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الدين أو الحج في الثلث، فإن فضل من الثلث شيء بعد ذلك.. صرف إلى وصايا التبرعات. وإن لم يفضل شيء.. سقطت الوصايا بالتبرعات؛ لأن الدين أو الوصية بحجة الإسلام فرض، والتبرعات تطوع، والفرض آكد، فقدم.
والوجه الثاني: يقسط الثلث على قدر الدين وقدر الوصية بالتبرع، أو على قدر أجرة المثل وقدر الوصية بالتبرع، ثم يتمم الدين أو أجرة المثل من رأس المال؛ لأن(8/199)
الدين وأجرة المثل على حجة الإسلام من رأس المال، فإذا جعلهما من الثلث. فقد قصد الرفق بالورثة، فقسط الثلث على الجميع، وتمم الواجب من رأس المال؛ لأنه لا بد من تمامه.
فعلى هذا: إذا كان عليه أربعون درهما دينا، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى لآخر بثلث ماله، ومات، وخلف مائة وعشرين درهما، ولم يجز الورثة.. فالعمل فيه: أنك تعزل أربعين درهما لصاحب الدين، فله منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال، ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث ثمانون درهما، للموصى له منها سهم وصية، وللورثة أربعة أسهم مثلا السهمين الموصى بهما. فإذا قسمت الثمانين على الخمسة الأسهم.. أصاب كل سهم ستة عشر، فيعلم أن سهم الوصية من الأربعين ستة عشر، فتضم إلى الثمانين، فيكون الجميع ستة وتسعين، ثلث ذلك اثنان وثلاثون: لصاحب الدين ستة عشر، وللموصى له ستة عشر، وما زاد على ستة وتسعين - وهو: أربعة وعشرون ـ تمام الدين.
فإذا كانت المسألة بحالها، وأوصى لرجل بثلث ماله، وعليه دين أربعون درهما، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى أن يحج عنه حجة الإسلام من ثلثه، ولم يوجد من يحج عنه من الميقات إلا بأربعين، ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث.. فإنك تعزل لصاحب الدين أربعين: له منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال. وتعزل للحج أربعين: يخرج منها سهم وصية، والباقي منها تمام أجرة المثل من راس المال. ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث أربعون: للموصى له منها سهم وصية، وللورثة ستة أسهم مثلا أسهم الوصية. فإذا قسمت الأربعين على سبعة أسهم.. أصاب كل سهم خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم، فيعلم أن السهم الموصى به من الأربعين التي للدين مثل ذلك، ومن الأربعين التي للحج مثل ذلك، وما زاد على السهمين تمام للدين والأجرة. فإذا أضفت السهمين إلى الأربعين التي للموصى له وللورثة.. كان جميع ذلك أحدا وخمسين درهما وثلاثة أسباع درهم، الثلث من ذلك سبعة عشر(8/200)
درهما وسبع درهم بينهم أثلاثا؛ لتساوي وصاياهم، فيحصل لكل واحد خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم. والثلثان أربعة وثلاثون درهما وسبعا درهم، وما زاد على أحد وخمسين وثلاثة أسباع درهم تمام الدين، والأجرة بينهما نصفان؛ لتساوي حقيهما. وإن تفاضلت الحقوق.. كانت القسمة على التفاضل على هذا العمل.
[مسألة الوصية بثلث عين من المال]
إذا أوصى لرجل بثلث عين من ماله من دار أو أرض أو عبد، ثم مات الموصي، فاستحق ثلثا العين الموصى بها، أو هلك ثلثاها وبقي ثلثها، وللموصي مال آخر يخرج ذلك الثلث منه.. استحق الموصى له الثلث الباقي من العين الموصى بها. وبه قال كافة العلماء.
وقال أبو ثور، وزفر، وأبو العباس ابن سريج: لا يستحق الموصى له إلا ثلث ما بقي من العين الموصى بها، كما لو أوصى له بثلث ماله فاستحق ثلثاه، ولأنه لم يوص له بثلث معين، وإنما أوصى له بثلث مشاع، فإذا استحق ثلثاه، أو هلك.. فقد هلك ثلثا الوصية.
والمذهب الأول؛ لأنه أوصى له بملكه الذي يخرج من ثلثه، فصح، كما لو أوصى له بعبد كامل، فاستحق ثلثاه، وله مال يخرج الثلث الباقي منه. ولأن الوصية إنما تنصرف إلى ما يملكه من العبد، كما لو كان عبد بين شريكين نصفين، فقال أحدهما للآخر: بعتك نصف هذا العبد.. فإنه ينصرف إلى ما يملكه منه.
قال ابن اللبان: وعلى هذين الوجهين الوصية بالنوع الواحد، مما يقسم كيلا أو وزنا، كالحبوب والدراهم والدنانير. أو مما يجمع في القسم من النوع الواحد، كالإبل والبقر والغنم والعبيد والثياب، قال: فإن أوصى لرجل بسدس ماله، ثم مات وخلف مائة شاة، أو مائة ثوب مروية، فاستحق نصفها أو تلف.. كان للموصى له سدس ما بقي في أحد الوجهين معا.(8/201)
وإن وصى له بسدس الغنم، أو بسدس الثياب، ثم مات فاستحق نصفها، أو تلف.. كان له سدس ما بقي في أحد الوجهين، وله سدس جميع الغنم أو الثياب، وهو: ثلث الباقي في الثاني.
[مسألة وصى بثلث ماله وهو حاضر وغائب]
إذا أوصى لرجل بثلث ماله، فمات وخلف مالا حاضرا ومالا غائبا، وخلف عينا ودينا.. استحق الموصى له ثلث الحاضر، وثلث الغائب، وثلث العين، وثلث الدين. واستحق الوارث الثلثين من ذلك. ويدفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين. وكلما حضر من الغائب شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إليه ثلثه، وإلى الوارث ثلثاه؛ لأنه شريك للوارث في جميع ذلك.
وإن وصى له بعبد يساوي مائة درهم، وخلف مائتين غائبتين، أو دينا، ولا يملك غير ذلك.. لم يجب دفع العبد إلى الموصى له؛ لأنه لا يجوز أن يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للوارث مثلاه.
فإن وصل من المائتين شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إلى الموصى له مثل نصف ما حصل منهما أو نض. فإن حصل جميع المائتين.. دفع جميع العبد إلى الموصى له فإن طلب الموصى له أن يدفع إليه ثلث العبد ليتصرف فيه قبل أن يحصل شيء من المائتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب دفعه إليه؛ لأنه يستحق ذلك بكل حال.
والثاني: لا يجب دفعه إليه، وهو المذهب؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويتنجز للوارث مثلاه، وهذا مذهبنا.
وقال مالك: (الوارث بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الموصى له قبل حضور المائتين، وبين أن يبطل الوصية في ثلثي العبد وتجعل وصيته في ثلث جميع المال مشاعا) .(8/202)
دليلنا: أن الموصي قصد تخصيص الموصى له بملك عين معينة من ماله، فلم يجز للوارث نقل ذلك إلى غيره، كما لو كان المال كله حاضرا.
وإذا ثبت هذا: فإن كسب هذا العبد مالا بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له الوصية، وقبل حضور المال الغائب.. كان للموصى له ثلث كسبه، وللوارث الثلثان.
فإن لم يحضر المال الغائب.. فلا كلام. وإن حضر المال الغائب.. فهل يجب على الوارث رد ما أخذه من كسبه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه أخذه في وقت يجوز له أخذه، فهو كالمستأجر.
والثاني: يجب عليه رده وهو الأصح؛ لأنه بان أنه لا ملك له في العبد ذلك الوقت.
[فرع له ستون درهما وأوصى بثلث العين منها]
إذا كان لرجل ثلاثون درهما عينا، وثلاثون درهما دينا على معسر، فأوصى بثلث العين لرجل، وأوصى بالدين لمن عليه ومات، ولم يجز الورثة.. فإن الثلث يقسم بين الموصى لهما على أربعة أسهم، لمن عليه الدين ثلاثة، وللآخر سهم. ويسقط ممن عليه الدين خمسة عشر درهما، ويضم سهم الموصى له بثلث العين إلى سهام الورثة ـ وهي: ثمانية، مثلا سهام الوصية ـ فتقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على تسعة، للموصى له سهم ـ وهو: ثلاثة دراهم وثلث درهم ـ وللورثة ستة وعشرون درهما وثلثا درهم. وكلما نض من الخمسة عشر التي بقيت على الغريم شيء.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعه يأخذه من الثلاثين التي كانت عينا ـ إن كانت باقية ـ أو من بدلها ـ إن كانت تالفة ـ وللورثة ثمانية أتساعه. فإذا نضت الخمسة عشر كلها.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعها ـ وهو درهم وثلثا درهم ـ يأخذه من العين، أو من بدلها.
فإن أوصى لرجل بثلث الدين، ولمن عليه الدين بجميع ما عليه، ولم يجز(8/203)
الورثة.. كانت الثلاثون ـ التي هي عين ـ للورثة، ويقسم الثلث على أربعة أسهم: لمن عليه الدين ثلاثة أسهم ـ وهو: خمسة عشر درهما ـ تسقط عن ذمته، ويبقى عليه خمسة عشر، وكلما نض منها شيء.. اقتسمه الورثة والموصى له بالثلث على ثلاثة أسهم: للورثة سهمان، وللموصى له سهم.
فإن أوصى لرجل بثلث ماله، وللغريم بما عليه، ومات، ولم يجز الورثة.. قسم الثلث على خمسة، للغريم ثلاثة أخماسه ـ وهو: اثنا عشر درهما ـ فيسقط عنه، وللموصى له بالثلث سهمان يضمهما إلى سهام الورثة ـ وهي: عشرة ـ فيقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على اثني عشر: للورثة عشرة، وللموصى له سهمان، وكلما نض من الثمانية عشر الباقية على الغريم شيء.. قسم بين الورثة والموصى له بالثلث على اثني عشر.
[فرع وصى بالثلث وترك عشرة عينا وعشرة دينا وابنا]
] : وإذا كان لرجل عشرة دراهم عينا، وعشرة دراهم دينا على ابنه، ولا وارث له غيره، ولا يملك غير ذلك، وأوصى بثلث ماله لرجل، ومات والابن معسر.. فللموصى له ثلثا العشرة العين: ثلثها بالوصية وثلثها قضاء ما له على الابن.
فإن كان الابن قد حجر عليه لغرمائه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن اللبان:
أحدهما: أن الموصى له أحق بثلثي العشرة، كالأولى.
والثاني: أنه يأخذ ثلث العشرة بالوصية، ويقسم ثلثاها بينه وبين غرماء الابن على قدر ديونهم. فإن كان الوصية بثلثي العين.. كان للموصى له ثلثا العشرة العين، وللابن ثلثها ويبرأ مما عليه؛ لأنه كالقابض لثلثي المال.
فإن كان محجورا عليه لغرمائه.. لم يحاصوا الموصى له في ثلثي العشرة وجها واحدا؛ لأنه يأخذ ذلك بحق الوصية.
وإن ترك ابنين، وعشرة عينا وعشرة دينا على أحدهما، وهو معسر.. أخذ الابن الآخر العشرة العين، نصفها ميراثا له ونصفها اقتضاء عن ما له على أخيه.(8/204)
وإن كان من عليه الدين محجورا عليه لدين عليه.. فهل يختص الأخ بهذه العشرة، أو يقاسم غرماء أخيه في نصفها؟ على الوجهين.
وإن كان الأب قد وصى بثلث ماله لرجل.. قسمت العشرة العين بين الابن الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين؛ لأن الابن الذي لا دين عليه يملك ثلثها بالإرث، والموصى له يملك ثلثها بالوصية، ومن عليه الدين يملك ثلثها بالإرث، ثم الابن الذي لا دين عليه والموصى له يملك كل واحد منهما في ذمة الابن الذي عليه الدين ثلث العشرة في ذمته، وقد وجدا له ثلث هذه العشرة وحقاهما متساويان، فاقتسما ذلك بينهما.
[مسألة اعتبار الثلث فيمن أوصى بمنفعة عبده أو داره]
] : إذا أوصى له بمنفعة عبده أو داره على التأبيد.. اعتبر خروج ذلك من الثلث. وفي كيفية اعتبار خروجها من الثلث ثلاثة أوجه:
أحدها: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الورثة؛ لأن الموصى به هو المنفعة، فاعتبرت قيمتها في حق الموصى له، والرقبة ملك الورثة.. فاعتبرت قيمتها في ثلثي التركة.
وكيفية ذلك أن يقال: كم قيمة هذه الرقبة بمنافعها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمة الرقبة مسلوبة المنفعة على التأبيد؟ فإن قيل: عشرة.. علمنا أن قيمة المنفعة تسعون، فتعتبر من الثلث، وعلمنا أن قيمة الرقبة عشرة، فتضاف إلى ثلثي التركة.
والوجه الثاني: أن المنفعة تقوم على الموصى له، ولا تحتسب قيمة الرقبة على الموصى له؛ لأنه لا يملكها، ولا على الوارث؛ لأنه لا منفعة له بها.
والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرقبة تقوم بمنافعها في حق الموصى له؛ لأن المقصود بالعبيد والدور هو منفعتها دون أعيانها) .
وإن وصى له بمنفعة عبده أو داره أو أرضه مدة معلومة.. فإن الرقبة تقوم في حق(8/205)
الورثة لا في حق الموصى له، وجها واحدا؛ لأن لهم فيها منفعة، وهو أنهم يملكون منفعتها بعد انقضاء المدة. وتقوم المنفعة في حق الموصى له، وفي كيفية تقويمها في حقه وجهان:
أحدهما: تقوم الرقبة كاملة المنفعة، ثم تقوم مسلوبة المنفعة مدة الوصية، ويكون ما بينهما قيمة المنفعة.
والثاني: تقوم المنفعة مدة الوصية، فتعتبر من الثلث، ولا تقوم الرقبة على الموصى له؛ لأنها غير موصى بها.
وإن وصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لآخر.. فإن المنفعة تقوم في حق الموصى له بها، والرقبة تقوم في حق الموصى له بها، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن كل واحد منهما يستفيد بالوصية ملك ما وصى له به.
قال الشيخ أبو حامد: واتفاقهم في هذه يدل على صحة تقويم الرقبة بمنفعتها في حق الموصى له بالمنفعة لا غير.
[فرع الوصية بثمرة البستان]
وإن وصى له بثمرة بستانه: فإن كانت موجودة.. قومت الثمرة يوم موت الموصي، واعتبر خروجها من الثلث.
وإن كانت غير موجودة:
أحدهما: يقوم البستان بكماله في حق الموصى له؛ لأن المقصود به منفعته.
والثاني: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة في حق الورثة، وهو أن يقال: كم قيمته كامل المنفعة؟ فإن قيل مائة.. قيل: كم قيمته مسلوب المنفعة؟ فإن قيل: عشرة.. علم أن التسعين قيمة المنفعة فتحتسب من الثلث، وعلم أن العشرة قيمة الرقبة، فتحتسب بها في ثلثي التركة على الورثة.
ويسقط الوجه الثالث في العبد هاهنا، وهو أن الرقبة لا تقوم في حق أحدهما؛ لأن(8/206)
البستان قد يجف فتبطل الوصية بالمنفعة بثمره، ويمكن الوارث الانتفاع بأخشابه، بخلاف الرقبة.
وإن كانت الوصية بمنفعته مدة معلومة.. قومت الرقبة في حق الوارث، والمنفعة في حق الموصى له وجها واحدا. وكل موضع احتمل خروج منفعة جميع البستان من الثلث.. فإن الثمرة تكون للموصى له، ما دام البستان باقيا، ورقبة النخيل والشجر للوارث، ولا يلزم أحدهما سقي النخل والشجر؛ لأن السقي تنتفع به الثمرة والشجرة، فلا يلزم أحدهما سقي ملك صاحبه، بخلاف ما لو باع ثمرة بعد بدو صلاحها، فإن عليه سقيها؛ لأن عليه تسليمها، وذلك من تمام تسلميها.
وإن لم يخرج من الثلث إلا بعض المنفعة.. كان للموصى له من ثمرة كل عام قدر ما احتمله المنفعة، والباقي للورثة اعتبارا بما خرج من الثلث.
[فرع أوصى له بلبن شاة وصوفها]
إذا أوصى له بلبن شاة وصوفها.. جاز، كما تجوز الوصية بثمرة الشجرة. وإن وصى له بلبنها لا غير.. جاز.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يقوم هاهنا الموصى به دون العين؛ لأنه لم يوص له بجميع منافعها.
[مسألة اعتق في مرضه أمة حاملا]
إذا اعتق في مرض موته أمة حاملا بمملوك له.. فإنها تعتق بالمباشرة ويعتق الحمل بالسراية، ومتى تقوم الأمة؟ قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: تقوم حاملا، ولا يفرد الحمل بالتقويم؛ لأنه كأعضائها.
فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقت وعتق ولدها، وإن خرج نصفها.. عتق نصفها.(8/207)
والثاني: أن الولد يقوم عند الانفصال؛ لأنه يمكن تقويمه، وتقوم الأم حاملا دون حملها؛ لأن قيمتها حاملا أقل من قيمتها حائلا، وأصلها القولان: هل للحمل حكم، أم لا؟
فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقا، وإن لم يخرجا، ولم يجز الورثة، فإن كانت قيمتهما سواء، بأن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد مائة والثلث مائة.. عتق من كل واحد منهما نصفه. وإن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد خمسين.. عتق من كل واحد منهما ثلثاه؛ لأن الولد تابع للأم فوجب أن يعتق منه بقدر ما يعتق منها.
فإن قال في مرض موته: حملك حر وأنت حرة، فإن خرجا من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرجا من الثلث.. قدم عتق الحمل؛ لأنه سابق. فإن كان الحمل جماعة، ولم يخرجوا من الثلث.. أقرع بينهم. وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق الحمل.. عتق من الأم بقدره.
فإن قال في مرض موته: إذا أعتقت نصف حملك.. فأنت حرة؛ ثم قال في مرض موته: نصف حملك حر.. عتق نصف حملها بالمباشرة، واقتضى ذلك سراية إلى عتق نصف حملها، وعتق الأم بالصفة.
فإن خرجت قيمة جميع الحمل وقيمة الأم من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرج من الثلث غير نصف الحمل.. عتق نصف الولد، ورق باقيه، ورقت الأم.
وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق نصف الولد، بأن كانت قيمة الولد مائة، وقيمة الأم خمسين، والثلث مائة، فقد بقي من الثلث خمسون. فيقرع بين نصف الولد والأم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة. فإن خرجت قرعة العتق على نصف الولد.. عتق جميعه. ورقت الأم؛ لأن عتق الولد لا يسري إليها. وإن خرجت قرعة العتق على الأم.. لم يمكن أن يصرف ما بقي من الثلث في عتق الأم وحدها، ولكن يسوى بينها وبين باقي حملها في العتق لتساوي قيمتهما.. فيعتق من الأم نصفها بخمسة وعشرين، ويعتق من الولد ربعه بخمسة وعشرين.(8/208)
وإنما جعل ربعه تابعا لنصف الأم وإن كان القياس يقتضي التسوية بين الجزأين؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما.
وإن كانت قيمة الولد مائة وقيمة الأم مائة والثلث مائة فقد بقي بعد عتق نصف الولد من الثلث خمسون.. فيقرع بين نصف الولد والأم، فإن خرجت القرعة على نصف الولد.. عتق جميعه، ورقت الأم. وإن خرجت على الأم.. عتق ثلثها وثلث نصف الحمل لتساويهما في القيمة.
[فرع أوصى بجارية حبلى]
) : قال ابن اللبان: فإن أوصى لرجل بجارية حبلى، قيمتها يوم مات سيدها مائة، فقبل الموصى له، وولدت بعد موت سيدها ولدا قيمته ستون درهما، وخلف الموصي مائتي درهم، فإن قلنا: لا يفرد بالتقويم.. كانت الجارية وولدها للموصى له، ولا تزيد التركة بقيمة الولد.
وإن قلنا: يفرد الولد بعد الانفصال بالتقويم.. زادت التركة بقيمة الولد، فتصير التركة ثلاثمائة وستين، الثلث: مائة وعشرون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث: ثلاثة أرباع قيمتها، فيكون للموصى له ثلاثة أرباع الجارية، وثلاثة أرباع ولدها. وربعهما مع المائتين للورثة.
وإن ترك الميت مائتين وستين درهما.. كانت التركة أربعمائة وعشرين، الثلث منها مائة وأربعون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث من قيمتهما سبعة أثمانهما، فيكون للموصى له سبعة أثمانهما.
[فرع أوصى بحمل جارية]
) : وإن وصى رجل لرجل بحمل جارية مملوك له، وأوصى لآخر بالجارية، ومات الموصي، وقبلا الوصية، ثم إن الموصى له بالجارية أعتقها، ثم ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر من وقت إعتاق الجارية. عتقت الجارية دون ولدها، موسرا كان المعتق أو(8/209)
معسرا؛ لأن الولد إنما يتبع الأم في العتق إذا كانا في ملك المعتق، فأما إذا كانت في غير ملكه.. لم يتبعها، كما إذا باع داره وفي حائطه ساجة مغصوبة أو مستعارة.. فإنها لا تدخل في البيع، وهذه حرة حامل بمملوك ولا نظير لها.
[فرع قال إذا مت فأنت حرة أو ما في بطنك]
قال القاضي أبو الطيب: إذا قال رجل لأمة له حامل بمملوك له: إذا مت.. فأنت حرة أو ما في بطنك حر، ومات، ثم ولدت ولدا يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأم والولد، فإن خرجت قرعة العتق على الأم وخرجت من الثلث.. عتقت وعتق ولدها تبعا لها، ولا تحتسب قيمة الولد من الثلث؛ لأنه يعتق بالشرع، فهو بمنزلة التالف. وإن خرج بعض الأم من الثلث.. عتق ما خرج منها من الثلث، وتبعها من الولد مثل الذي عتق منها.
وإن خرجت قرعة العتق على الولد، وخرج من الثلث.. عتق الولد ورقت الأم. وإن خرج بعضه.. عتق منه ما خرج من الثلث، ورق باقيه ورقت الأم؛ لأن الأم لا تتبع الولد في العتق.
ويقوم الولد وقت الانفصال؛ لأنه أول وقت يمكن تقويمه فيه، وتقوم الجارية وقت موت الموصي؛ لأنه يمكن تقويمها وهي حالة استحقاقها للعتق.
قال القاضي أبو الطيب: وإن كان له أمتان حاملان بمملوكين له، فقال لهما: إذا مت.. فأنتما حرتان، أو ما في بطنيكما حران، ومات، ثم ولدت كل واحدة منهما ولدا لوقت يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأمتين والولدين، فإن خرجت قرعة العتق على الأمتين، وخرجتا من الثلث.. عتقا من الثلث، وعتق ولداهما تبعا لهما من غير الثلث؛ لأنهما تالفان من طريق الشرع. وإن لم تخرج الأمتان من الثلث.. أعيدت القرعة بينهما، فأيتهما خرجت عليها قرعة العتق.. عتقت وعتق ولدها، ورقت الأخرى وولدها. وإن خرجت إحداهما من الثلث، وبعض الأخرى.. عتقت من خرجت عليها قرعة العتق، وعتق ولدها، وعتق من الأخرى تمام الثلث، وعتق من ولدها قدر ما عتق منها، ورق باقيها.(8/210)
وإن خرجت قرعة العتق على الولدين، فإن خرجا من الثلث.. عتقا ورقت الأمتان. وإن لم يحتملهما الثلث.. أعيدت القرعة بين الولدين، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه ورق الآخر والأمتان. وإن احتمل الثلث أحدهما وبعض الآخر.. أقرع بينهما، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه، وعتق من الآخر تمام الثلث، ورق باقيه والأمتان.
[فرع أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبتان]
) : قال ابن اللبان: إذا أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة درهم، وله مائتا درهم غائبتان أو دين، ولا مال له غير ذلك.. عتق ثلثه في الحال، وسلم ثلثاه إلى الورثة؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه.
ولا يملك الورثة بيعه؛ لأن تنجز عتق باقيه موقوف على قضاء الدين أو حصول المال الغائب، والبيع لا يجوز وقفه.
فإن كسب العبد مالا قبل اقتضاء الدين.. كان للعبد ثلث كسبه، وللورثة ثلثاه. فإذا نض جميع الدين. نفذ عتق جميعه؛ لأنه حصل للورثة مثلا قيمته.
وهل يرجع العبد على الورثة بما أخذوا من كسبه وأجرة ما خدمهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليهم؛ لأنهم أخذوه في حالة أباح لهم الشرع أخذه.
والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يرجع عليهم) ؛ لأنه بان أنه كان حرا ذلك الوقت.
ولا يرجع الورثة عليه بما أنفقوه على ثلثيه وجها واحدا؛ لأنهم أنفقوه عليه لحظهم واختيارهم، إذ لو شاؤوا.. لأجازوا عتقه.
وإن مات للعبد من يرثه قبل أن ينض الدين.. فهل يوقف ميراثه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يوقف ميراثه منه؛ لأنه لا يؤمن أن يكون حرا، والظاهر من الدين أنه يقضى، وإن أعسر الغريم أو تلف المال الغائب.. رد الموقوف على ورثة مناسب العبد المعتق.(8/211)
والثاني: أنه لا يوقف، بل يدفع ذلك إلى ورثة مناسب العبد؛ لأنا لا نتيقنه وارثا فلا نمنع الورثة ميراثهم لجواز أن ينض الدين، كما لم يمنع ورثة المعتق من استخدام ثلثي العبد المعتق.
فإن مات العبد المعتق قبل أن ينض الدين أو يحصل المال الغائب.. كان لورثة العبد ثلث كسبه ولورثة سيده ثلثاه على القول الجديد، وعلى القديم: يكون جميع كسبه لورثة سيده.
وإن نض الدين أو حضر الغائب بعد موت العبد.. رد ورثة السيد على ورثة العبد المعتق ما أخذوه من كسبه في أصح الوجهين.
وإن مات بعد موت العبد ابن للعبد من حرة معتقة لقوم، وترك مولى أمه ومولى أبيه.. أعطي مولى الأب من ماله قدر ما حكم بعتقه من العبد بجزء الولاء، وباقي مال ابن العبد لمولى أمه.
فإن نض الدين أو حضر الغائب بعد ذلك.. تبينا أن الأب قد كان مات حرا، وأنه حر ولاء ولده من مولى أمه إلى مولى أبيه، فيرد ورثة السيد ما أخذوا من كسب العبد على ورثة العبد المعتق في أصح الوجهين، ويرد مولى أم ابن العبد ما أخذ من مال الابن على مولى العبد.
ولو سلم لورثة المعتق من المائتين مائة، وثوى الباقي أو تلف.. تبينا أنه كان عتق ثلثا العبد، ورق ثلثه وحر ثلثي ولاء ولده فيرد ورثة السيد على الابن ما أخذوا من كسب أبيه تمام الثلثين في أصح الوجهين، فيضاف إلى ما خلفه الابن، ويجعل ثلثاه لمولى أبيه، وثلثه لمولى أمه، ويحتسب على مولى الأم بما أخذه من ميراث الابن. وإن أنكر الغريم الدين، ولا بينة، ونكل عن اليمين، ولم يحلف ورثة السيد.. فهل يحلف العبد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لا يستحق ما يحلف عليه.(8/212)
والثاني: يحلف؛ لأنه يستحق العتق بثبوت المال الذي يحلف عليه.
وإن دفع الغريم الدين إلى الوارث، فقال الوارث: لا دين لمورثي عليك، فإن كان المعتق قد ادعى الدين.. عتق العبد ولم يقبل إقرار الوارث أنه لا دين للمعتق؛ لأن المعتق قد ادعاه وصدقه الغريم، وفي تكذيب الورثة إبطال لحق العبد من العتق، فلم يقبل.
وهكذا: لو صدق العبد الورثة أنه لا دين للمعتق.. لم يحكم ببطلان العتق؛ لأن العتق حق لله تعالى، فلا يقبل قوله فيما يسقطه.
وإن كان المعتق لم يدع الدين.. لم يقبل إقرار الغريم - سواء ادعاه العبد أو لم يدعه - إذا لم يدعه الوارث؛ لأن في ذلك إثبات المال لمن يدعيه وإبطالا لحق الورثة من رق العبد.
وإن ادعى الورثة دينا للميت على رجل، فأنكر وحلف، ثم أقر المدعى عليه بعد ذلك بالدين، وكذبه الورثة بإقراره.. لم يقبل تكذيبهم، سواء صدقهم العبد على التكذيب أو كذبهم؛ لأن إقرارهم قد سبق بأنه مال للميت، ولزمهم بذلك حق العتق، فلم يقبل إقرارهم بعد ذلك بما يسقطه.
[فرع أعتق عبدا لا مال له غيره]
) : إذا أعتق في مرض موته عبدا لا مال له غيره، وعليه دين يستغرق قيمته، وطالبه الغرماء به.. بطل العتق، وقيل للورثة: إن شئتم أن تقضوا الدين من مالكم وتملكوا العبد.. كنتم أحق به. وإن لم يختاروا ذلك، وطلب الغرماء أن يأخذوا العبد بقيمته عن دينهم.. قال ابن اللبان: كانوا أحق بشرائه من الأجنبي؛ لأنه أحظ للميت؛ لأنه يبرأ من الدين يقينا، ويأمن عهدة الثمن.
فلو كسب العبد مالا بعد موت سيده.. كان ملكا لورثة السيد على قول الشافعي، وعلى قول الإصطخري: يقضى من كسبه الدين. ولو أبرأ الغرماء الميت من الدين.. عتق ثلث العبد، ورق ثلثاه.(8/213)
[مسألة نكاح الرجل في مرض الموت]
إذا نكح الرجل في مرض موته.. صح النكاح وورثته.
وأما الصداق: فإن أصدقها مهر مثلها.. استحقت ذلك من رأس المال.
وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها: فإن ورثته.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى. وإن لم ترثه، بأن كانت ذمية أو مملوكة، أو قتلته، أو ماتت قبله، أو أبانها، وقلنا: لا ترثه.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية تعتبر من الثلث. وبه قال الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (لا يصح نكاحه) .
وقال الزهري: يصح نكاحه ولا ترثه الزوجة.
وقال ربيعة: يصح، ولكن تستحق المهر في الثلث وإن لم يزد على مهر مثلها.
دليلنا على مالك: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: 3)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي: النكاح» .(8/214)
ولم يفرق بين الصحيح والمريض.
وروي عن معاذ: أنه مرض، فقال: (زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزبا) .
وقال ابن مسعود: (لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لا أحب أن أكون بغير زوجة) .
وروي: (أن الزبير دخل على قدامة بن مظعون يعوده وهو مريض، فبشر الزبير ببنت وهو عنده، فقال له قدامة: زوجنيها، فقال له الزبير: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة؟! فقال قدامة: إن عشت.. فابنة الزبير، وإن مت.. فهي أحق من ورثني) ولا يعرف لهم مخالف.
ودليلنا على الزهري: أنه معنى يورث به، فامستوى فيه الصحيح والمريض، كالإقرار بالنسب.
ودليلنا على ربيعة: أنه عقد معاوضة، فاعتبر عوض المثل فيه من رأس المال، كالابتياع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج مسلم ذمية في مرض موته بأكثر من مهر مثلها، فأسلمت قبل موته.. صارت وارثة له، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث؛ لأن الاعتبار عند الموت لا عند العقد.
وإن تزوج حر أمة لغير وارثه بأكثر من مهر مثلها في مرض موته، فأعتقت قبل(8/215)
موته.. ورثته، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية تلزم من الثلث لمولاها، ولا يجتمع الميراث والوصية لشخص.
[فرع أعتق في مرضه المخوف أمة]
إذا أعتق في مرض موته المخوف أمة له، وله مال تخرج من ثلثه.. فهل يصح لوليها الحر أن يزوجها بإذنها قبل موت السيد من مرضه ذلك، أو برئه منه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج، وأكثر أصحابنا: يصح نكاحها؛ لأن في ملك المريض مالا تخرج الجارية من ثلثه والظاهر بقاؤه، فنفذ عتقها في الحال، وصح تصرفها في بضعها، كما لو مات السيد وهي تخرج من ثلثه ولم يظهر عليه دين.. فإن لها أن تتصرف في بضعها.
و [الثاني] : قال ابن الحداد، وابن اللبان، والقاضي أبو الطيب: لا يصح نكاحها؛ لأن عتقها موقوف على ما تبين في ثاني الحال.
فإن برئ المريض من مرضه، أو مات، وخرجت من ثلثه.. نفذ عتقها. وإن لم تخرج من ثلثه ولم يجز الورثة.. لم ينفذ العتق في جميعها. وربما ظهر عليه دين يستغرق جميع التركة، فلا ينفذ العتق في شيء منها.
وإذا كان كذلك.. لم يصح عقد النكاح على امرأة مشكوك في حريتها، كما لو أسلم وثني وتخلفت امرأته في الشرك.. لم يجز له أن يعقد النكاح على أختها قبل انقضاء عدتها.
قال القاضي أبو الطيب وابن اللبان: وعلى هذا لو شهدت.. لم تقبل شهادتها، ولو جنت أو جني عليها.. لوقف ذلك، وإن قذفت غيرها.. لم تحد حد حرة، وإن قذفها قاذف.. لم يحد حد القذف، وأن مات لها من ترثه.. وقف ميراثها منه على ما نتبين من أمر المعتق. قالا: وكذلك لو وهب في مرضه المخوف لغيره جارية تخرج من ثلثه، وقبضها الموهوب له.. لم يجز له وطؤها قبل موت الواهب أو برئه من مرضه؛ لأن هبتها موقوفة على ما تبين من حاله، فلا يباح له وطء امرأة يشك في ملكها.(8/216)
[فرع أعتق أمته في مرضه المخوف وتزوجها قبل برئه]
) : وإن أعتق في مرضه المخوف أمة له تخرج من ثلثه، فتزوجها قبل برئه من مرضه:
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد في المسألة قبلها لا يصح نكاحه لها. وبه قال ابن اللبان؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
وقال أبو العباس بن سريج، والشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يصح النكاح. وقد حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " في موضع آخر عن ابن الحداد: أنه يصح.
فإذا قلنا بهذا - وهو المشهور - ومات.. فإنها لا ترثه؛ لأن إثبات ميراثها يؤدي إلى نفيه؛ لأن عتقها في مرض الموت وصية لها، والوصية لا تصح للوارث، فلو ورثناها منه.. لبطل عتقها، وإذا بطل عتقها.. بطل ميراثها، وما أدى إثباته إلى نفيه.. بطل إثباته.
قال الشيخ أبو حامد: وليس على مذهب الشافعي حرة مسلمة لا ترث زوجها إلا هذه.
فعلى هذا: إذا تزوجها بمهر مثلها ولا ينقص مهرها ثلثه.. استحقت ذلك. وإن تزوجها على أكثر من مهر مثلها، والزيادة تخرج من ثلثه.. استحقت ذلك كله؛ لأنها ليست بوارثة له.
وإن كان مهرها ينقص ثلثه، بأن كانت قيمتها مائة درهم، وله مائتا درهم عين، فتزوجها على مائتين أو بعضهما.. لم تستحق مهرا؛ لأنها لو استحقت ذلك.. لم يحصل للورثة مثلا قيمتها، فيرق بعضها، وإذا رق بعضها.. بطل نكاحها، وإذا بطل النكاح.. بطل المهر، وما أدى إثباته إلى نفيه بطل إثباته. وهذه حرة سليمة لا تستحق مهرها ولا نظير لها.(8/217)
فإن أعتق المريض أمة قيمتها مائة لا مال له غيرها، وتزوجها في مرضه، ومات فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وابن اللبان.. فالنكاح باطل.
وإن قلنا بقول أبي العباس، وعامة أصحابنا: فإن أجاز الورثة العتق بعد الموت، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ لما فعله الموصي.. حكم بصحة النكاح، وعليها عدة الوفاة، ولا مهر لها سواء دخل بها أو لم يدخل؛ لأن إثباته يؤدي إلى إسقاطه على ما مضى. وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عتق من الورثة، أو لم يجيزوا.. كان النكاح باطلا. فإن كان السيد لم يطأها قبل موته.. فلا كلام. وإن كان قد وطئها بعد العتق، ومهر مثلها خمسون.. كان لها من مهر مثلها بقدر ما فيها من الحرية. فإن أبرأت منه. عتق ثلثها، ورق ثلثاها. وإن لم تبرئ منه.. دخلها الدور، فنقول:
يعتق من الأمة شيء من الثلث، ولها من مهر مثلها نصف شيء من رأس المال، فبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل مثلي الشيء الخارج بالوصية، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بالشيء والنصف، وزدت ذلك على الشيئين المعادلين.. عدلت المحنة إلى ثلاثة أشياء ونصف، فالشيء الواحد سبعا الجارية، فيعتق منها سبعاها، وتستحق سبعي مهرها، وهو مثل سبع رقبتها، فيقال للورثة:
إن اخترتم أن تبيعوا سبع رقبتها، وتسلموا ثمنه إليها.. بقي معكم أربعة أسباع رقبتها، وذلك مثلا ما عتق منها.
وإن اخترتم أن تعطوها سبعي مهرها من خاص أموالكم.. ملكتم خمسة أسباعها. وإن اختارت الأمة أن تأخذ سبع رقبتها بمهرها:
قال ابن اللبان: كانت أحق به من الأجنبي. هذا هو المذهب.
وفيها وجهان آخران، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: أن الذي غرمه السيد من مهرها يكون من الثلث؛ لأن ذلك خرج منه بسبب عتقه، ولا يخرج منه بالعتق وسببه أكثر من الثلث.
وعلى هذا نقول: عتق منها شيء، ولها من مهرها نصف شيء، وبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل ثلاثة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت(8/218)
المائة أربعة أشياء ونصف، فالشيء تسعا الجارية فيعتق تسعاها، ولها تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، فيباع في المهر ويسلم إليها، ويبقى مع الورثة ثلثاها.
والوجه الثاني: يجعل مهرها هدرا، كما لو وطئها السيد ثم أعتقها.
فعلى هذا: يعتق ثلثها ويرق ثلثاها، فإن أحبلها السيد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تعتق بموته بالإحبال لا بالإعتاق؛ لأن الميت لا ثلث له.
والثاني: تعتق من حين أعتقها؛ لأنها لم تبق على ملك الميت حتى تجري فيها المواريث والوصية، وصار عتق الميت غير مانع للورثة من أن يرثوها.. فتكون كعتق الصحيح، ويجب لها المهر في ذمته.
قال ابن اللبان: والأول أشبه بمذهب الشافعي.
فإن ترك السيد معها مائة درهم.. فإنك تقول: عتق منها شيء بالوصية، ولها نصف شيء بالمهر تأخذه من المائة، ويعتق باقيها بالإحبال من رأس المال، فبقي في يد الورثة مائة إلا نصف شيء يعدل مثلي ما عتق منها، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بما نقص منها وزدته على الشيئين.. عدلت المائة شيئين، ونصفا الشيء خمسا المائة وهو أربعون، فيعلم أن الذي عتق منها خمساها وقيمته أربعون، فتستحق خمسي مهرها وهو عشرون من المائة، ويبقى في يد الورثة ثمانون وهو مثلا ما عتق من الجارية.
وعلى الوجه الذي يجعل ما غرمه السيد من المهر من ثلث يعدل المائة إلا نصف شيء ثلاثة أشياء فإذا جبرتها عدلت ثلاثة أشياء، ونصف الشيء سبعاها، فإذا استحقت سبعي مهرها - وهو سبع المائة - بقي في يد الورثة ستة أسباع المائة، وهو: مثلا ما عتق منها وأخذته بالمهر.
وعلى الوجه الذي يجعل المهر هدرا: يعتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال، ويبقى في يد الورثة مائة، مثلا ما عتق منها بالإعتاق.
وهكذا: إن أبرأت من مهرها، وقلنا: يجب عتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال.(8/219)
[فرع أعتق أم ولده في مرض موته ثم تزوجها بمهر مثلها]
وإن أعتق أم ولده في مرض موته، ثم تزوجها قبل موته بمهر مثلها.. صح النكاح وجها واحدا، وورثته؛ لأن عتقها لا يعتبر من ثلث التركة؛ لأنها مستحقة للعتق بموته.
فإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى؛ لأنها ترثه، فيثبت الميراث ولا تثبت الوصية؛ لأنهما لا يجتمعان.. وإنما أثبتنا الميراث؛ لأنه أقوى من الوصية؛ لأنه يثبت بغير اختياره، والوصية لا تثبت له إلا باختياره.
[فرع أعتق في مرض موته جارية على أن تتزوج به]
وإن أعتق في مرض موته جارية له على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، ورضيت به، فتزوجها قبل موته.. فإن عتقها يصح، ولا يلزمها أن تتزوج به؛ لأنه سلف في عقد، ويلزمها قيمتها لسيدها؛ لأنه ما رضي بزوال ملكه عنها إلا بعوض ولم تسلمه له، فيثبت له قيمتها، كما لو كاتبها على محرم وسلمته إليه.
فإذا نكحها: صح نكاحه لها وجها واحدا؛ لأنها لا تعتق من ثلثه؛ لأنها تعتق عليه بعوض وترثه؛ لأن توريثها لا يؤدي إلى إبطال عتقها، فإن أصدقها مهر المثل.. استحقته. وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. لم تستحق الزيادة من غير إجازة الورثة لأنها وارثة له.
[فرع أعتقت في مرض موتها عبدها ثم تزوجته]
] : وإن أعتقت امرأة عبدا لها في مرضها المخوف، ثم تزوجت به ولها مال يخرج العبد من ثلثه:(8/220)
فعلى قول القاضي أبي الطيب، وابن الحداد، وابن اللبان: النكاح باطل؛ لأن عتقه موقوف على ما يتبين من أمرها، ولا يجوز أن يقع عقد النكاح موقوفا.
وعلى قول أبي العباس، وعامة أصحابنا: يصح النكاح، وإذا ماتت.. لم يرثها؛ لأن توريته منها يؤدي إلى إبطاله، على ما مضى في الأمة.
[فرع تزوج في مرض موته بأكثر من مهر المثل]
وإن تزوج امرأة في مرض موته بمائة درهم، ومهر مثلها خمسون، فماتت قبله، وورثها، ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء وصية؛ لأنها لم ترثه، فلما ماتت قبله.. ورث عنها النصف - وهو: خمسة وعشرون - ونصف شيء، فصار في يد ورثة الزوج خمسة وسبعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثلاثون، وهو الذي صح لها بالمحاباة مع مهر مثلها - فذلك ثمانون، وبقي في يد الزوج عشرون، فلما ماتت قبله.. ورث عنها نصف ما بيدها أربعين - وهو: نصف مهر مثلها - ونصف شيء، فصار معه ستون، مثلا المحاباة.
فلو ترك الزوج سوى الصداق خمسين، أو تركت الزوجة مائة: تمت المحاباة للزوجة. فإن ترك الزوج سوى الصداق عشرين، وتركت الزوجة أيضا ثلاثين.. فحسابه أن يقول:
لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء محاباة مع الثلاثين التي لها.. فتكون تركتها ثمانين وشيئا، ويرث الزوج نصفها، يضمه إلى باقي المائة في يد الزوج، وإلى العشرين، فيصير في يده مائة وعشرة إلا نصف شيء يعدل شيئين. فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: أربعة وأربعون - فتأخذ الزوجة ذلك مع مهر مثلها، وتضمه إلى الثلاثين.. فيكون جميع تركتها مائة وأربعة وعشرين، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو: اثنان وستون - وقد بقي في يده من المائة ستة والعشرون الأخرى، فذلك كله ثمانية وثمانون مثلا المحاباة.(8/221)
وإن كان على كل واحد عشرون دينا، ولا مال لهما غير المائة.. فحسابه أن تقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها شيء محاباة، يخرج منها عشرون دينها، بقي لها ثلاثون وشيء يرث الزوج نصف ذلك - وهو: خمسة عشر - ونصف شيء يضمه إلى ما بقي معه، فيصير خمسة وستين إلا نصف شيء، يخرج دينه عشرون، فيبقى لورثته خمسة وأربعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثمانية عشر - فيصح لها ذلك مع مهر مثلها، فيصير ثمانية وستين، فإذا خرج لدينها عشرون، بقي ثمانية وأربعون.. فيرث الزوج أربعة وعشرين مع اثنين وثلاثين يبقى معه من المائة، فذلك ستة وخمسون، فإذا خرج لدينه عشرون.. بقي لورثته ستة وثلاثون، وهو مثلا ما صح لها بالمحاباة.
[مسألة شراء وبيع من في مرض الموت]
] : وإذا اشترى شيئا في مرض موته، أو باعه بثمن المثل.. صح ذلك ولم يعتبر من الثلث؛ لأن ما رجع إليه مثل ما خرج منه.
وإن اشترى شيئا في مرض موته أو باعه، وحابى في ذلك.. اعتبرت المحاباة من ثلث التركة.
وقال ابن اللبان: القياس يقتضي أن يبطل بيع المريض وشراؤه إذا كان فيهما محاباة؛ لأنه لا يجوز أن يقع العقد موقوفا، على ما تبين في باقي الحال.
والمشهور هو الأول، وعليه التفريع، وقد مضى ذلك في البيوع.
[فرع شراء من يعتق عليه في مرض موته]
وإن اشترى ابنه أو أباه في مرض موته.. عتق من ثلثه ولا يرثه؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.(8/222)
وإن اشتراه بمحاباة، واحتمل الثلث عتقه والمحاباة.. عتق، ولزمت المحاباة للبائع. وإن لم يحتملهما الثلث.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما - وهو المشهور - أن المحاباة تقدم في الثلث؛ لأن البائع ملك الثمن في حال ما ملك المشتري المبيع، ثم يعتق عليه بعد ذلك من الثلث. فإذا استغرقت المحاباة الثلث.. لم يعتق عليه، وورث عنه.
والثاني - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أن البيع لا يصح؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك الإنسان أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، وذلك يخالف مقتضى العقد، فلم يصح.
والثالث: وهو قول ابن اللبان: أن الثلث يقسم بين العتق والمحاباة على قدرهما؛ لأن في تقديم أحدهما إبطالا للآخر، وليس أحدهما بأولى من الآخر.
وإن اشتراه في مرض موته بثمن مثله، وعليه دين يستغرق ماله. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس ابن سريج: لا يصح الشراء؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، فلم يصح، كما لا يصح شراء الكافر للعبد المسلم.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، ويباع في الدين، وهو الأصح؛ لأن موجب الشراء الملك، والدين لا يمنع منه، فلم يمنع صحة الشراء.. وعتقه معتبر من الثلث، والدين يمنع منه كما يمنع الدين العتق بالإعتاق. ويخالف شراء الكافر للمسلم، فإن الكفر يمنع الملك للعبد المسلم.
وإن كان ماله مائتي درهم وأمة تساوي مائة درهم ولا يملك غير ذلك، فأعتق الأمة في مرض موته، ثم اشترى أباه أو ابنه.. قدم عتق الأمة.
وعلى قول أبي العباس: لا يصح الشراء؛ لأنه لا يملكه، وهو لا يعتق عليه. وعلى قول سائر أصحابنا: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، بل يورث عنه، فإن كان في ورثته من يعتق عليه إذا ملكه.. عتق عليه نصيبه دون الباقي. وإن كانوا ممن لا يعتق عليه.. استقر ملكهم عليه.(8/223)
وهكذا: لو أبرأ البائع المشتري من الثمن، أو برئ من مرضه.. عتق عليه.
[فرع ورث من يعتق عليه]
بالملك في مرض موته بالملك في مرض موته] : وإن ورث من يعتق عليه بالملك في مرض موته، ولا دين على الوارث.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه ملكه في مرض موته وعتق عليه، فهو كما لو اشتراه.
والثاني - وهو الأصح -: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره، وعتق عليه بغير اختياره، فهو كما لو تلف شيء من ماله في مرض موته، بخلاف ما لو اشتراه.
وإن وهب له فقبله وقبضه في مرض موته، أو وصى له به فقبله في مرض موته، ولا دين عليه.
فإن قلنا: إنه إذا ورثه في مرض موته يعتق عليه من ثلثه.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا في الميراث: يعتق عليه من رأس ماله.. ففي الهبة والوصية وجهان:
أحدهما: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير عوض.
والثاني - وهو الأصح: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه دخل في ملكه باختياره للقبول، فعتق من ثلثه، كما لو اشتراه.
فكل موضع قلنا: إنه يعتق من رأس المال.. فإنه يرث من معتقه؛ لأن عتقه ليس بوصية.
وكل موضع قلنا: إنه يعتق من الثلث.. فإنه لا يرث من المعتق؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.(8/224)
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يرث بحال، وليس بشيء؛ لأنه إذا لم يكن عتقه وصية.. لم يناف الميراث.
وأما إذا ورثه، أو قبل وصيته، أو قبضه في هبة في مرض موته، وعليه دين يستغرق تركته:
فإن قلنا: إنه يعتق إذا لم يكن عليه دين من رأس المال.. عتق هاهنا، ولا يباع في الدين.
وإن قلنا هناك: إنه يعتق من الثلث.. فهاهنا وجهان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنه يملكه ويباع في الدين؛ لأن العتق من الثلث لا يكون إلا بعد الدين.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه لا يصح قبوله في الهبة أو الوصية، بل يكون على ملك الواهب، أو ورثة الموصى؛ لئلا يملكه ولا يعتق عليه.
[فرع وهب له من يعتق عليه في مرض موته]
إذا وهب له من يعتق عليه في مرض موته، أو وصى له به فقبله، ثم أعتق الموهوب عبدا له آخر، فإن احتملهما الثلث.. عتقا. وإن احتمل الثلث أحدهما لا غير:
فإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا.
وإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الموهوب أو الموصى به في الثلث، ووقف عتق الآخر على إجازة الورثة.
وإن بدأ فأعتق عبدا له قيمته جميع ثلثه في مرض موته، ثم وهبه له من يعتق عليه أو وصى له به فقبل:
فإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا.(8/225)
وإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الأول في الثلث، وفي الموهوب أو الموصى به وجهان:
أحدهما: لا يعتق ويرثه ورثة الموهوب.
والثاني: لا تصح هبته ولا الوصية له به.
والله أعلم.(8/226)
[باب جامع الوصايا]
إذا أوصى لجيرانه.. فإنه يصرف إلى أربعين دارا من كل جانب
وقال أبو حنيفة: (يكون ذلك للجار الذي يلاصقه)
وقال أبو يوسف: (هو لأهل الدرب) .
قال أحمد: (هو لأهل المسجد والجماعة ممن يسمع النداء والإقامة) .
دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن حد الجوار؟ فقال: " أربعون دارا، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا ". وبعضهم يرويه: أربعون ذراعا» .(8/227)
[مسألة أوصى لقراء القرآن]
وإن وصى لقراء القرآن.. كان ذلك لمن يحفظ جميع القرآن. وهل يدخل فيه من يحفظ بعضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لعموم قوله.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظ جميعه.
وإن وصى للفقهاء.. صرف إلى الفقهاء دون الأصوليين والنحاة، وأهل اللغة والطب. ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه؛ لأنه لا يطلق اسم الفقيه إلا على الفقهاء.
وإن وصى إلى العلماء.. صرف إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها دون غيرهم.
[فرع أوصى لأعقل الناس]
وإن وصى لأعقل الناس.. قال الشافعي: (صرف ذلك إلى أورع الناس وأزهدهم؛ لأن العقل: المنع، وأعقل الناس: أمنعهم عن المحارم) .
قال أصحابنا: وعلى هذا القياس إذا وصى لأجهل الناس وأسفلهم.. صرف ذلك إلى من يسب الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإلى أهل الذمة؛ لأنهم أجهل الناس لمخالفتهم الدلائل الواضحة.
[فرع أوصى لمسجد أو سقاية]
وإن وصى بثلثه لمسجد أو لسقاية، أو لبناء مسجد أو بناء سقاية، أو أوصى بأن يوقف ذلك عليه.. قال الشيخ أبو حامد: صح ذلك؛ لأنه وصية في طاعة.(8/228)
وإن وصى بثلثه لمفاداة أسارى المشركين من أيدي المسلمين:
قال ابن الصباغ: صحت الوصية؛ لأن المفاداة جائزة فصحت الوصية له.
قال الشافعي: (وإن وصى بمصحف لذمي.. فالوصية باطلة) .
قال أصحابنا: هذا على أحد القولين، إذا قلنا: لا يصح شراؤه له.
[مسألة أوصى للأيتام]
وإن أوصى للأيتام.. صرف إلى الصغار الفقراء ممن لا أب له؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» .
ولأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وفي البهائم: فقد الأم.
وهل يدخل فيه من كان صغيرا غنيا لا أب له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لأنه يتيم بفقد الأب.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن هذا الاسم لا يطلق في العادة إلا على الفقير الصغير الذي لا أب له.
[فرع أوصى للأرامل]
وإن وصى للأرامل.. دخل فيه كل امرأة فقيرة لا زوج لها.
وهل يدخل فيه من لا زوج لها إذا كانت غنية؟ على الوجهين في الصغير الغني.
وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال؟ فيه وجهان:(8/229)
أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال.
والثاني: يدخل فيه؛ لأنه قد يسمى من لا زوجة له من الرجال أرمل.
[مسألة أوصى للشيوخ]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن وصى للشيوخ.. أعطي من جاوز الأربعين سنة. وإن وصى للفتيان والشباب.. أعطي من جاوز البلوغ إلى الثلاثين. وإن وصى للغلمان والصبيان.. أعطي من لم يبلغ؛ لأن هذه الأسماء لا تطلق إلا على من ذكرناه.
[مسألة أوصى للفقراء والمساكين]
الفقراء والمساكين صنفان: فالفقير أمس حاجة من المسكين.
و (الفقير) هو الذي: الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل أن كان يحتاج في كل يوم إلى عشرة دراهم، ولا يجد إلا درهما أو درهمين.
و (المسكين) هو: الذي لا يجد ما يكفيه ويجد ما يقع موقعا من كفايته، بأن كان يجد في كل يوم ثمانية دراهم، وهو يحتاج إلى عشرة.
فإذا أوصى بثلثه للمساكين.. جاز أن يصرف إلى المساكين والفقراء. وإن وصى. للفقراء.. جاز أن يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن معناه أنه للمحتاجين، والفقراء والمساكين محتاجون.
وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال: (إذا أوصى للفقراء.. لم يجز أن(8/230)
يدفع منه شيء على المساكين؛ لأن الفقراء أمس حاجة من المساكين) . والمشهور هو الأول.
وإن وصى للفقراء والمساكين.. وجب أن يصرف النصف إلى الفقراء، والنصف إلى المساكين؛ لأن الجمع بينهما في الوصية يقتضي الجمع بينهما في العطية.
ويصرف ذلك إلى فقراء بلد الموصي ومساكينه؛ لأن كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع، فلما كانت صدقة المال تختص بفقراء البلد ومساكينه، فكذلك الوصية لهم. فإن نقل عنهم إلى بلد آخر.. كان على الخلاف في نقل الصدقة.
قال الشافعي: (وإن فضل شيء من الثلث عن فقراء بلده.. نقل إلى أقرب البلدان إليه) .
وأقل ما يجزئ: أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، غير أن المستحب أن يعم من في البلد من الصنف الموصى له إن أمكنه، كما قلنا في الزكاة.
[فرع أوصى لغير الفقراء والمساكين ممن يستحق الزكاة]
وإن وصى للمؤلفة قلوبهم أو للرقاب أو للغارمين أو لسبيل الله أو لابن السبيل.. صرف إلى من يصرف إليه الزكاة منهم على ما بيناه في قسم الزكاة؛ لأنه قد ثبت لهذه الأسماء عرف في الشرع، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.
[فرع أوصى لمعين من الفقراء]
وإن أوصى بثلثه لزيد وللفقراء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كأحدهم) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهره، وأن المستحب أن يعم فقراء البلد، ويعطي زيدا كأحدهم. وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء. وأفاد ما ذكره هاهنا: أنه لا يجوز الإخلال به.(8/231)
وهل يشترط على هذا أن يكون زيد فقيرا؟ فيه وجهان.
فمنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد نصف الثلث، وإلى الفقراء النصف؛ لأنه أضاف الثلث إلى زيد وإلى الفقراء، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وللفقراء.
ومنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد ربع الثلث، وإلى الفقراء ثلاثة أرباعه؛ لأن أقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء، فكأنه أوصى لأربعة فقراء.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قال: أعطوا زيدا الفقير والفقراء، أو زيدا المسكين والمساكين.. كان على الأوجه الثلاثة.
وإن قال: أعطوا زيدا والفقراء.. كان في قدر ما يعطى زيد وجهان:
أحدهما: النصف.
والثاني: الربع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تبطل الوصية لزيد؛ لأنه جعله كأحدهم، فإذا لم يعلم عددهم وتعذر حصرهم.. صار ما يخصه مجهولا، فبطل.
[فرع وصى لزيد بدينار]
وإن وصى لزيد بدينار وبثلاثة للفقراء، وزيد فقير.. لم يعط غير الدينار؛ لأنه قطع اجتهاد الوصي فيه بتقدير حقه بالدينار.
وإن وصى بثلاثة لزيد وعمرو، فرد عمرو وصيته، وقبل زيد وصيته.. لم يتوفر الثلاثة على زيد، بل يكون لزيد نصف الثلاثة؛ لأنه وصى لكل واحد منهما بنصف الثلاثة، فإذا رد أحدهما وصيته.. كان ذلك للورثة.(8/232)
[مسألة الوصية لقبيلة]
وإن وصى لقبيلة لا ينحصر عددهم، كبني بكر وبني تميم.. ففيه قولان:
أحدهما: تصح الوصية، ويجوز أن يصرف إلى ثلاثة منهم فما زاد، كما قلنا في الوصية للفقراء.
والثاني: لا تصح الوصية لهم؛ لأنه لا يمكن حصرهم ولا عرف لما يعطى منهم في الشرع، بخلاف الفقراء.
وإن وصى لزيد ولبني تميم، فإن قلنا: إن الوصية لبني تميم تصح.. ففي قدر ما يستحقه زيد معهم الأوجه التي ذكرناها في الوصية لزيد وللفقراء.
ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه كأحدهم.. بطلت الوصية له هاهنا؛ لأنه لا يعرف عددهم الذين يضم إليهم، فلا يعرف قدر نصيبه، وليس بشيء؛ لأنه يعلم أنه أوصى له بشيء في الجملة. وإن لم يعرف.. فهو كما لو أوصى له بشيء من ماله.
وإن قلنا: لا تصح الوصية لبني تميم.. ففي قدر ما يستحقه زيد الأوجه في الوصية له وللفقراء، وما زاد على ذلك يرجع إلى الورثة.
[فرع الوصية بالثلث دون تعيين]
وإن قال: أوصيت بثلث مالي، وأطلق.. صح ذلك، وصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن المعهود في الشرع أن الصدقات لهم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.
[مسألة ضع ثلثي فيما أراك الله]
قال الشافعي في " الأم ": (إذا قال للوصي: ضع ثلثي فيمن يريك الله، أو حيث ترى، أو فيما يقربني إلى الله، أو في جهة البر وجهة الثواب.. صرف ذلك إلى الفقراء والمساكين؛ لأن ذلك جهة البر والثواب) . ويستحب أن يقدم في ذلك من لا يرث(8/233)
الموصي من أقاربه، وذوي رحمه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على ذي رحمك: صدقة وصلة» .
فإن لم يكن له ذو رحم من النسب.. فمن الرضاع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
فإن لم يكن له ذلك.. فإلى جيران الموصي؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» .
ولو دفعه الوصي إلى من يرث الموصي.. لم يصح؛ لأن الوصية للوارث لا تصح.
ولا يجوز للوصي أن يضعه في نفسه، كما لو وكله في البيع.. لم يجز أن يبيع من نفسه.
[مسألة وصى لزيد وملك]
وإن وصى لزيد ولجبريل بثلث ماله.. كان لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية لجبريل.
وإن وصى لزيد وللرياح بثلث ماله.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية في النصف، كما قلنا في التي قبلها.(8/234)
والثاني: أن جميع الثلث لزيد، وذكر الرياح لغو. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أوصى بثلثه لزيد وللملائكة، أو للرياح.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل في النصف الآخر، كما لو أوصى بثلثه لوارثه ولأجنبي.
والثاني: أن جميع الثلث لزيد.
والثالث: أن لزيد منه ما يقع عليه اسم شيء تخريجا من نص الشافعي: إذا أوصى لزيد ولمن لا يحصى.
وإن وصى بثلثه لحي ولميت.. فللحي نصف الثلث، وتبطل الوصية للميت. وقال أبو حنيفة: (الثلث كله للحي) .
وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر لنا، وليس بمشهور.
وإن قال: ثلثي لله ولزيد.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن جميع الثلث لزيد، واسم الله للتبرك.
والثاني: أن لزيد نصف الثلث، ونصفه للفقراء والمساكين؛ لأن عامة ما يجب لله يصرف إلى الفقراء والمساكين، فصار كما لو قال: ثلثي لزيد وللفقراء.
[فرع أوصى لعقب زيد]
إذا أوصى لعقب زيد، فمات الموصي وزيد حي، ثم مات زيد.. كانت الوصية لولده.
وإن وصى لأولاد زيد.. صرف إلى أولاده الموجودين يوم عقد الوصية، دون من يولد بعده.
وقال أبو حنيفة: (يصرف إلى الموجودين يوم موت الموصي) .
وقبل: إنه قول لنا.(8/235)
[فرع الوصية لدابة فلان]
قال في " العدة ": إذا قال: أوصيت لدابة فلان.. سئل:
فإن قال: أردت أن الدابة تملك ذلك.. لم يكن شيئا؛ لاستحالة أنها تملك.
وإن قال: أردت به أنها تعلف به.. فهل يشترط قبول مالكها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط قبوله؛ لأن نفقتها على مالكها، فهو في الحقيقة وصية له كما لو وصى لعمارة دار فلان.. فالقبول إليه.
والثاني: أنه لا يشترط قبوله، كما لو وصى بعمارة مسجد أو قنطرة.
فإذا قلنا بالأول: كان الموصى به لمالك الدابة، إن شاء أنفقه على الدابة، وإن شاء أمسكه على نفسه وأنفق عليها من حيث شاء.
ومن قال بالثاني، قال: ينفق الوصي ذلك على الدابة، فإن لم يكن وصي.. أنفقه رب الدابة عليها؛ لأن الوصي قصد ذلك، ولعله علم أن رب الدابة لا ينفق عليها وأراد إحياء نفسها، وفي ذلك قربة وطاعة.
وإن مات الموصي قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته:
فإن قالوا: أرد أن تعلف به الدابة.. صحت الوصية.
وإن قالوا: أراد تمليكها.. حلفوا على ذلك، وبطلت الوصية؛ لأن الدابة لا تملك.
وإن قالوا: لا ندري ما أراد.. كان كما لو قال: أوصيت لها، ولا نية له.. فتبطل الوصية؛ لأن الدابة لا تملك.
قال أبو علي السنجي: فعلى هذا: إذا قال: وقفت أرضي هذه على المسجد أو على الكعبة، سئل، فإذا قال: أردت على عمارتها.. صح وإن قال: أردت أن تكون المنافع ملكا للمسجد أو للكعبة، أو قال: لا نية لي.. لم يصح؛ لأن المسجد والكعبة لا يملكان.
وإن مات قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته، وإذا صحت الوصية للكعبة.. صرف إلى عمارتها.(8/236)
وقال أبو حنيفة: (تصرف إلى مساكين مكة) وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين.
[مسألة أوصى لرجل بقسط من ماله]
إذا أوصى رجل لرجل بنصيب من ماله، أو بحظ أو بقسط أو بجزء أو بقليل أو كثير.. فإن شيئا من هذه الألفاظ لا يقدر بشيء مملوك، بل أي شيء أعطاه الوارث جاز؛ لأنه ليس له حد معلوم في اللغة ولا في الشرع، وهذا لا خلاف فيه.
وأما إذا أوصى له بسهم من ماله: فعندنا لا يتقدر ذلك بشيء معلوم، بل أي شيء أعطاه الوارث قبل منه.
وقال أبو يوسف ومحمد: يدفع إليه مثل نصيب أقل ورثته نصيبا، ما لم يكن نصيب أقل ورثته أقل من الثلث، فإن كان أقل من الثلث.. أعطي الثلث.
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يكن أقل من السدس، فإن كان أقل من السدس.. أعطي السدس) .
والثانية: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يزد على السدس، فإن زاد على السدس.. كان له السدس) .
دليلنا: أن السهم لا يتقدر في اللغة ولا في الشرع بشيء معلوم.
ولهذا يقال: له في هذه الدار سهم، وقد يكون قليلا، وقد يكون كثيرا، فهو كما لو أوصى له بحظ أو نصيب من ماله.
[مسألة أوصى لرجل بمثل نصيب وريثه الوحيد]
إذا كان لرجل ابن لا غير فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه.. كانت الوصية بنصف المال، فتلزم الوصية بالثلث، وتوقف الوصية بالسدس على إجازة الوارث. وبه قال أبو حنيفة.(8/237)
وقال مالك: (تكون الوصية بجميع المال، فيلزم في الثلث ويوقف في الثلثين على إجازة الوارث) .
دليلنا: أن قوله: أوصيت بمثل نصيب ابني، يحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو لم أوص، فتكون الوصية بجميع المال.
ويحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو كان معه وارثا، فتكون الوصية بالنصف، فإذا احتمل هذين.. كانت الوصية بالنصف؛ لأنه يقين، ولأنه قد جعل لابنه نصيبا، وهذا يقتضي اشتراكهما.
وإن كان له ابنان، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني، أو أحد ابني.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن معناه مع دخول الموصى له مع ولديه ووجوب حقه في تركته فصار المال بينهم أثلاثا.
[فرع أوصى بمثل نصيب ابنته الوحيدة]
وإن كان له ابنة واحدة، فقال أوصيت لفلان بمثل نصيب ابنتي.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن تقدير هذا: أنه يجعل الموصى له كأنه ابنة له أخرى، ولو كان هناك ابنة أخرى.. لكان لهما ثلثا المال ولبيت المال الثلث، فكذلك هاهنا مثله.
فإن كان له ولد خنثى لا غير، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ولدي.. أعطي الموصى له الثلث، والخنثى الثلث، ووقف الباقي:
فإن بان الخنثى امرأة.. فقد استوفى الخنثى حقه والموصى له حقه.
وإن بان الخنثى رجلا.. علمنا أن الوصية وقعت في النصف، فتعتبر إجازة الابن في السدس.(8/238)
[فرع وصى بنصيب ابنين]
وإن قال: أوصيت له بنصيب ابني.. فقد قال أبو حنيفة: (الوصية باطلة) .
وقال مالك: (هو كما لو قال: أوصيت له بمثل نصيب ابني) فتكون الوصية عنده بجميع المال.
وليس للشافعي فيها نص.
واختلف أصحابنا فيها:
فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: هو كما قال أبو حنيفة؛ لأنه أوصى له بنصيب ابنه، ونصيبه ما استحقه بوفاة أبيه، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بمال لابنه من غير الميراث. ويفارق إذا أوصى له بمثل نصيب ابنه؛ لأنه أوصى له بقدر نصيب ابنه.
ومنهم من قال: هو كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه، فيكون موصيا له بالنصف؛ لأن معناه يؤول إلى معنى مثل نصيب ابنه، كما يقال للزوجة: لها مهر مثلها، ولا يكون ذلك لها، وإنما يكون لها مثل مهر مثلها.
وإن أوصى له بمثل نصيب ابنه وليس له إلا ابن قاتل له، أو مملوك.. فالوصية باطلة؛ لأنه أوصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فهو كما لو أوصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
[فرع أوصى بمثل نصيب أحد أبنائه]
وإن كان له أولاد ذكور ونساء، فأوصى لآخر بمثل نصيب أحد أولاده.. فإنه يدفع إليه مثل نصيب بنت؛ لأنها أحد أولاده.
فإن كان له ابنان وبنت.. كان فريضتهم من خمسة، ويزاد للموصى له سهم سادس.
وهكذا لو قال: أوصيت له بمثل نصيب أحد ورثتي.. أعطي الموصى له مثل نصيب أقل الورثة نصيبا، من زوجة أو غيره؛ لأنه اليقين.(8/239)
[مسألة أوصى له بضعف نصيب أحد الورثة]
وإن أوصى له بضعف نصيب أحد ورثته.. أعطي الموصى له مثلي نصيب أقل الورثة نصيبا.
فإن خلف بنتا وبنت ابن وأختا لأب وأم.. كان لابنة الابن السدس، سهم من ستة، فيزاد للموصى له مثلا نصيبها - وهو سهمان - فتقسم التركة على ثمانية: للابنة ثلاثة، وللأخت سهمان، ولابنة الابن سهم، وللموصى له سهمان.
وهذا قول كافة العلماء إلا أبا عبيد القاسم بن سلام فإنه قال: الضعف عبارة عن مثل الشيء مرة؛ لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] [الأحزاب: 30] :
فلما ثبت بالإجماع أنه أراد بذلك حدين.. علم أن الضعفين عبارة عن مثلي الشيء، وأن الضعف عبارة عن مثل الشيء.
ودليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب - أي أخذ منهم مثلي ما يأخذ من المسلمين) فعلم أن الضعف عبارة عن الشيء ومثله.
وأما الآية: فظاهرها أنه كان يجب عليهن ثلاثة حدود، وإنما ترك ذلك بدليل وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب: 31] :
فلما جعل ثوابهن مثلي ثواب غيرهن.. لم يجز أن يكون عذابهن أكثر من مثلي عذاب غيرهن؛ لأن جزاء السيئة لا يجوز أن يكون أكثر من جزاء الحسنة؛ لأن الله أخبر أنه يجازي بالحسنة عشر أمثالها، ويجازي بالسيئة مثلها.(8/240)
وإن قال: وصيت له بضعفي نصيب أحد ورثتي.. كان له ثلاثة أمثال نصيب أقل ورثته نصيبا.
وقال أبو ثور: (الضعفان عبارة عن أربعة أمثال نصيب أقلهم) وهذا غلط؛ لأن الضعف لما كان عبارة عن الشيء ومثله.. كان الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه.
[فرع الوصية لجماعة بوصايا مختلفة]
إذا أوصى لجماعة بوصايا مختلفة، ثم قال: أوصيت لفلان بمثل ما أوصيت به لأحد الناس.. أعطي مثل أقلهم وصية؛ لأنه يقين، وما زاد فهو مشكوك فيه.
[مسألة وصى لرجل بنصف ماله ولأخر بثلثه]
إذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، فإن أجاز الورثة.. قسمت التركة على ستة أسهم، للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان، وللورثة سهم.
وإن لم يجيزوا.. قسموا المال على خمسة عشر سهما، للورثة عشرة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان. وبه قال الحسن، والنخعي، ومالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (من أوصى له بزيادة على الثلث.. سقطت الزيادة على الثلث، وصارت بالثلث؛ لا غير) . وعلى هذا يكون الثلث بينهما نصفين.
دليلنا: أنها وصايا لو كانت بالثلث فما دون وقسمت.. لقسمت على التفضيل. فإذا كانت أكثر من الثلث.. قسمت على التفضيل، كالوصايا المرسلة، وهو إذا وصى لرجل بألف درهم، ولآخر بألف، ولآخر بخمسمائة، وكان ماله ألفين.. فإن أبا حنيفة وافقنا إذا لم يجز الورثة أن الثلث يقسم بينهم على التفضيل.(8/241)
[فرع وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخربربع]
فرع: [وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخر بربع] :
وإذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، ولآخر بربع ماله: فإن أجاز الورثة الوصايا.. قسمت التركة على ثلاثة عشر سهما، للموصى له بالنصف: ستة أسهم، ولصاحب الثلث: أربعة، ولصاحب الربع: ثلاثة؛ لأن الوصايا ليست بآكد من المواريث ثم التركة إذا ضاقت أعيلت بالسهم الزائد، فالوصايا بذلك أولى.
وإن لم يجيزوا.. قسم الثلث على ثلاثة عشر سهما على ما مضى. وعند أبي حنيفة: (لا يضارب الموصى له بالنصف إلا بالثلث) فتقسم التركة على أحد عشر سهما، للموصى له بالنصف: أربعة، وللموصى له بالثلث: أربعة، وللموصى له بالربع: ثلاثة. وقد مض الدليل عليه.
وإن وصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله: فإن أجاز الوارث.. قسم المال على أربعة أسهم، للموصى له بجميع المال: ثلاثة، وللموصى له بالثلث: سهم وإن لم يجز الورثة.. قسم الثلث على أربعة.
وعند أبي حنيفة روايتان عند الإجازة: إحداهما: كقولنا، رواها عنه محمد وأبو يوسف.
والأخرى - رواها عنه الحسن بن زياد -: (أن المال بينهما عند الإجازة على ستة أسهم، للموصى له بالجميع: خمسة، وللموصى له بالثلث: سهم) .
دليلنا: أن أقل مال له: ثلث ثلاثة، وثلثه: سهم فقسم على أربعة.
[فرع أوصى بمثل نصيب ابنه ثم لآخر بمثل نصيبه]
فإن كان لرجل ابن واحد لا غير، فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه، ثم أوصى لآخر بمثل نصيبه أيضا:(8/242)
فإن أجاز الابن لهما.. قسم المال بينهما أثلاثا.
وإن لم يجز لواحد منهم.. قسم الثلث بين الموصى لهما نصفين.
وإن أجاز لأحدهما لا غير.. أعطي من لم يجز له سدس المال، وقسم الباقي بين الابن والموصى له نصفين. ويصح من اثني عشر سهما، للذي لم يجز له: سهمان، وللابن: خمسة، وللذي أجاز له: خمسة.
فإن أجاز الابن للثاني بعد ذلك: ضم السهمان اللذان في يد الموصى له إلى الخمسة التي بيد الابن فتصير سبعة، وتقسم بين الابن والذي أجاز له ثانيا نصفين. وتصح المسألة من أربعة وعشرين، للذي أجاز له أولا: عشرة، وللابن: سبعة، وللذي أجاز له آخرا: سبعة.
[فرع أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث]
إذا أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث له: فإن أجاز باقي الورثة وصية الوارث. قسم الثلث بينهما نصفين. وإن ردوا وصية الوارث.. كان للأجنبي نصف الثلث؛ لأن الورثة لما أبطلوا وصية الوارث.. صار كأنه لم يوص إلا بالسدس للأجنبي.
فإن كان له ابنان، فأوصى لأحدهما بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله: فإن أجاز الابن الآخر الوصيتين.. كان للأجنبي الثلث، وللابن الموصى له الثلث بالوصية، وفي الثلث الباقي وجهان:
الصحيح: أنه بين الابن الموصى له وبين الثاني نصفين.
والثاني: أنه للابن الذي لم يوص له.
وإن رد الابن الوصية في أحد الثلثين، وأجاز الآخر.. كان الثلث الباقي بين الأجنبي والابن الموصى له نصفين؛ لأنه إذا أوصى لكل واحد منهما بثلث ماله.. لم تقل: إن كل واحد من الثلثين موصى به لأحدهما، بل كل ثلث من الثلثين موصى به لهما. فإذا لم تصح الوصية في غير ذلك الثلث كان بينهما نصفين؛ لأنه موصى به لهما.(8/243)
فإن رد الابن أحد الثلثين ونصف الآخر في حق الابن الآخر.. بطلت الوصية فيه، وبقي للأجنبي السدس لا غير.
هكذا ذكرها الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع ".
وإن رد الابن الوصية في الثلث الذي للابن.. فكم يستحق الأجنبي؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ أنه لا يستحق إلا السدس فقط؛ لأن الابن الموصى له يزاحمه عند الإجازة، فيكون له السدس، وللأجنبي السدس، فإذا رد الابن وصية أخيه.. بقي للأجنبي السدس.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، ولم يذكر في " الإبانة " و " العدة " غيره -: أن له الثلث.
قال الشيخ أبو حامد: كنت أجد أن له السدس، ثم رأيت ظاهر كلام الشافعي أن له الثلث؛ لأن الموصي لم يرض بإخراج دون الثلث، فلا يملك الوارث إسقاط حقه من الثلث، ولأن المزاحمة بالباطل لا تمكن، وما للأجنبي وحده لم يجاوز الثلث، فتم له ذلك.
فإن أوصى لأجنبي بثلث ماله، ولكل واحد من ابنيه بثلث ماله، وأجاز كل واحد منهما لصاحبه، ولم يجيزا للأجنبي.. فالصحيح أن للأجنبي ثلث ماله، ولا معنى لقولهما: لا نجيز.
وفيه وجه آخر: أن الأجنبي ليس له إلا ثلث الثلث؛ لأن الثلث كان بينهم أثلاثا. وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولأحد ابنيه بالنصف، فأجاز الابنان الوصية للأجنبي، وأجاز الابن الذي لم يوص له لأخيه.. ففيه وجهان، حكاهما القفال:
أحدهما: أن للأجنبي النصف، وللابن الموصى له الثلث ونصف السدس ـ وهما: خمسة من اثني عشر ـ ويبقى للابن الذي لم يوص له نصف السدس، وهو:(8/244)
سهم من اثني عشر ـ لأنه لم يوص إلا للأجنبي.. لاستحق الثلث بغير إجازة منهما، واستحق كل واحد من الاثنين الثلث، فلما وصى للأجنبي بالنصف، وللابن بالنصف.. علمنا أنه وصى للأجنبي بسدس لا يستحقه إلا بالإجازة من حق الابنين الموصى له وغير الموصى له، فاستحقه الأجنبي بإجازتهما له ذلك. وعلمنا أنه وصى لابنه بسدس زائد على ثلثه المستحق له بالإرث من حق أخيه، وقد أجازه، فإذا أجاز للأجنبي نصف السدس.. ولأخيه السدس.. بقي له نصف السدس.
والوجه الثاني: ـ ولم يذكر ابن اللبان غيره ـ: أن النصف للأجنبي، وللابن الموصى له النصف، ولا شيء للابن المجيز، كما لو لم يكن له إلا ابن واحد وأوصى لأجنبيين، لكل واحد منهما بنصف ماله، وأجاز الابن الوصيتين.
قال القفال: وأصل هذين الوجهين إنما هما إذا قلنا: تجوز الوصية للوارث. فلأي معنى جازت؟ فيه وجهان:
أحدهما: لأنه ألحقها بالأجنبي.
والثاني: لأنه قصد تفضيله على سائر الورثة.
فإذا قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الابن الموصى له هاهنا النصف، والأجنبي النصف.
وإذا قلنا: لأنه قصد تفضيله.. استحق هاهنا ثلثا ونصف سدس، واستحق الذي لم يوص له نصف سدس، وقد حصل له التفضيل بالثلث.
قال القفال: وهكذا لو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأجاز له أخوه:
فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. كان النصف له بالوصية، والنصف الآخر بينه وبين أخيه.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. فلا فائدة له في هذه الوصية.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : بل يجب أن يقاسمه بالنصف الباقي هاهنا على المعنيين؛ لأنه لا يحصل التفضيل إلا بذلك.(8/245)
وإن أوصى لأحد ابنيه بثلثي ماله، وأجاز له الآخر:
فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الثلثين بالوصية، وقاسم أخاه بالثلث الباقي.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. لم يقاسم أخاه في الثلث الباقي؛ لأن التفضيل قد حصل.
وإن كان له ابن وابنة، فأوصى لابنته بنصف ماله، وأجاز الابن الوصية لها:
فإن قلنا: لأنه ألحقها بالأجنبي.. استحقت النصف بالوصية، وقاسمت أخاها في النصف الثاني، فيحصل لها ثلثا المال.
وإن قلنا: لأنه قصد تفضيلها.. لم تقاسم أخاها في النصف الثاني.
قال ابن اللبان: فإن أوصى لأحد ابنيه بالنصف، ولأجنبي بالنصف، فأجاز الابن الذي لم يوص له الوصيتين، ولم يجز الابن الموصى له للأجنبي.. كان للأجنبي ثلث المال بغير إجازة، وله نصف السدس بإجازة الابن المجيز له، وللابن الموصى له بالنصف النصف بالوصية، ونصف سدس من النصف الموصى به للأجنبي من حقه، فيصير له سبعة من أثنى عشر. وهذا بناء على أصله.
قال ابن اللبان: ولو أوصى للأجنبي بثلث ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث كاملا؛ لأنه أحق به، ولوارث الموصى له الثلثان.
وإن لم يجز الورثة ما جاوز الثلث.. فالثلث كله للأجنبي، ولا شيء للوارث الموصى له.
قال: وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث؛ لأنه أحق به من الوارث، ويبقى من وصيته السدس يضرب به في الثلثين، ويضرب الموصى له في الثلثين بنصيبه - وهو: ستة أسهم - فيقتسمان الثلثين على سبعة أسهم، للوارث: ستة أسباع الثلثين، وللأجنبي سبع الثلثين. وتصح الفريضة من أحد وعشرين.(8/246)
قال: فإن أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، ولأجنبي بنصف ماله، ولأجنبي آخر بثلث ماله، وأجاز الابنان.. فإن ثلث التركة للأجنبيين لا يضاربهما فيه الوارث، ويبقى من وصيتهما النصف، وللابن الموصى له مثل ما بقي لهما، فيضاربهما الابن الموصى له في ثلثي التركة نصفين، فيحصل للابن الموصى له ثلث، وللأجنبيين ثلث، فيضمانه إلى الثلث الأول، فيحصل لهما الثلثان، ويقتسمان ذلك على قدر وصيتهما - وهي: خمسة أسهم - للموصى له بالنصف: ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث: سهمان. وتصح المسألة من خمسة عشر، للابن الموصى له: خمسة، وللموصى له بالنصف: ستة، وللموصى له بالثلث: أربعة.
[مسألة أوصى لفلان برقيق]
إذا قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، أو قال: أعطوه رأسا من رقيقي - وله رقيق - أعطاه الوارث ما شاء منهم صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، سليما أو معيبا؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه.
وهل يجوز أن يدفع إليه خنثى مشكلا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إليه.
فإن أراد الوارث أن يشتري له رأسا من الرقيق، ويدفعه إليه، ويتملك ما خلفه الموصي.. لم يكن له ذلك؛ لأن الوصية تعينت في رقيق الموصي.
فإن مات رقيق الموصي إلا واحدا منهم.. لزم الوارث دفعه إلى الموصى له وإن كان أنفس الرقيق؛ لأنه تعين للوصية.
وإن ماتوا كلهم قبل موت الموصي أو بعد موته من غير تفريط من الوارث.. بطلت الوصية؛ لأنهم إذا ماتوا قبل موت الموصي.. فقد جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له، وإذا ماتوا بعد موته.. فقد تلفوا على الوارث وعلى الموصى له بغير تفريط من أحد، فهو كالمال بين الشريكين.(8/247)
وإن قتلوا كلهم: فإن كان قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له. وإن كان بعد موت الموصي.. لم تبطل الوصية، وكان للوارث أن يعين له قيمة أيهم شاء وإن كان أقلهم قيمة؛ لأن القيمة تقوم مقامهم.
وإن قتلوا إلا واحدا منهم قبل موت الموصي.. قال أبو إسحاق: لزم الوارث تسليمه إلى الموصى له وإن كان أفضلهم؛ لأنه تعين للوصية، فهو كما لو ماتوا إلا واحدا منهم.
فإن قتلوا بعد موت الموصي إلا واحدا منهم، فقال الوارث: أنا أعطيه قيمة واحد منهم ولا أسلم الباقي منهم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الموصي إنما أوصى له برأس من رقيقة، فما دام هناك واحد منهم.. فاسم الرقيق موجود فيه، فلا يجوز العدول عنه إلى القيمة.
وإن قال: أعطوه رأسا من رقيقي، فمات ولا رقيق له، أو قال: أعطوه عبدي الحبشي، وليس له عبد حبشي.. لم تصح الوصية؛ لأنه أوصى له بما لا يملكه.
وإن قال: أعطوه رأسا من الرقيق، أو من مالي، فمات ولا رقيق له.. اشتري له رأس من الرقيق؛ لأنه لم يضف ذلك إلى رقيقه، وإنما أضافه إلى ماله، وما اشترى من ثلثه.. فهو من ماله.
[مسألة وصى بعتق أحد رقيقه]
إذا قال: أعتقوا عني أحد رقيقي، وله رقيق. أعتق عنه الوارث ما شاء منهم، وإن كان أقلهم قيمة.
وإن قال: أعتقوا عني عبدا.. اشترى له من ثلثه عبد وأعتق عنه، صغيرا كان أو كبيرا، مسلما أو كافرا. ولا يجوز عتق أمة ولا خنثى مشكل؛ لأنه لا يقع عليهما اسم العبد.(8/248)
وإن كان هناك خنثى مشكل زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل يجزئ عتقه عن الوصية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبد.
والثاني: لا يجزئ؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم العبيد.
وهل يجزئ إطلاق عبد معيب لا يجزئ في الكفارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئ؛ لأن العتق في الشرع له عرف، وهو: السليم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه.
والثاني: يجزئ، وهو المشهور؛ لأنه يقع عليه اسم العبد، فهو كالوصية بالعبد لرجل.
[فرع أوصى بعبد قيمته مائة ولا مال له غيره]
) : وإن كان له عبد قيمته مائة، لا مال له غيره، فأعتقه في مرض موته، أو أوصى أن يعتق عنه.. لزم العتق في ثلثه، فإن أجاز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق جميعه.
فإن قلنا: إن إجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. كان ولاء جميع العبد للموروث.
وإن قلنا: إن إجازتهم ابتداء عطية منهم.. كان ولاء ثلث العبد للموروث، وولاء ثلثيه للورثة. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال ابن اللبان: يحتمل أن يكون ولاء جميع العبد للموروث على القولين؛ لأنا وإن قلنا: إنه ابتداء عطية من الورثة، فإنهم أعتقوه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عبدا عن غيره بإذنه.. كان ولاؤه للمعتق عنه. فإن ظهر بعد ذلك على الميت مائة دين عليه.. قال الشيخ أبو حامد: بطل العتق في جميع العبد؛ لأن الوصية إنما تنفذ في ثلث ما يفضل بعد الدين، فيرق العبد ويباع في الدين.(8/249)
وإن ظهر على الميت خمسون دين.. بطل العتق في نصف العبد لأجل الدين ولزم العتق في نصفه؛ لأن الوارث قد أجازه.
وإن لم يجز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق ثلثه، ورق ثلثاه للورثة. فإن ظهر على الميت من الدين مائة.. بطل العتق في ثلثه، وبيع في الدين. وإن ظهر عليه من الدين خمسون.. بيع نصفه في الدين، وعتق سدسه، ورق للورثة ثلثه.
[فرع أوصى بشراء عبد وعتقه بماله ثم وجد دين مستغرق]
وإن كان له مائة درهم لا يملك غيرها، فأوصى أن يشترى له عبد بمائة ويعتق، وأجاز الورثة الوصية، فأشترى الوصي له عبدا بمائة وأعتقه عنه، ثم ظهر على الميت مائة دين، فإن كان الوصي قد اشترى العبد بعين الدراهم.. بطل الشراء؛ لأنه اشترى لغيره ما لا يقع له فوقع لنفسه؛ لأنه اشتراه بمال تعلق به حق الغرماء، ولم يصح العتق؛ لأنه على ملك البائع.
وإن اشتراه الوصي بمائة في ذمته، ونقد المائة التي خلفها الموصي في ثمن العبد.. صح الشراء؛ لأنه اشتراه في ذمته، ووقع العتق عن الميت؛ لأنه أعتقه عنه بإذنه ويضمن الوصي المائة التي نقدها من مال الميت؛ لأنه نقدها، وحق الغرماء متعلق بها فضمنها للغرماء.
[فرع أوصى بعتق رقاب]
إذا أوصى أن يعتق عنه رقاب.. أعتق عنه ثلاث؛ لأن الرقاب اسم جمع، وأقل الجمع ثلاثة. فإن لم يحتمل الثلث عتق ثلاث رقاب، واحتمل عتق رقبتين لا غير، أو أقل.. أعتق عنه ما احتمله الثلث. وإن بقي من الثلث شيء بعد الرقبتين: فإن لم يمكن أن يشتري بما بقي بعض الثالثة.. زيد في ثمن الرقبتين. وإن أمكن أن يشترى بما بقي بعض الثالثة.. ففيه وجهان.
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يشتري به جزءا من رقبة ثالثة؛ لأنه أقرب إلى العدد الموصى به.(8/250)
(والثاني) : قال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل يزاد ذلك في ثمن الرقبتين، وهو المذهب؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الرقاب؟ فقال: " أكثرها ثمنا، وأنفسها عند أهلها» .
فإذا قلنا بهذا: فأشترى أنفس رقبتين بثمن، وبقي من الثلث بقية لا تبلغ ثمن الثالثة:
قال المسعودي (في " الإبانة ") : بطلت الوصية في البقية، وردت إلى الورثة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (قال لي قائل: الاسترخاص مع الاستكثار أحب إليك، أم الاستغلاء مع الاستقلال؟ قلت: الاسترخاص مع الاستكثار) .
ومعناه: أنه إذا أمكنه أن يشتري خمسة أوساط بثمن ثلاثة جياد.. كان الخمس أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق رقبة مؤمنة.. أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه» ومعلوم أنه إذا أعتق خمس مرات من النار.. كان خيرا مما دونها.(8/251)
[مسألة كاتب أو أوصى بالمكاتبة عند موته]
وإن كاتب عبدا له في مرض موته، أو أوصى أن يكاتب.. اعتبرت قيمة العبد من الثلث؛ لأن ما يأخذه منه من العوض من كسب عبده، فهو كما لو اعتقه، أو أوصى بعتقه بغير عوض.
إذا ثبت هذا: فإن وصى أن يكاتب عبد.. لم تكاتب أمة، ولا خنثى مشكل. وإن وصى أن تكاتب أمة.. لم يكاتب عبد، ولا خنثى مشكل. وإن أوصى أن يكاتب أحد رقيقه.. جاز أن يكاتب عبدا أو أمة من رقيقه.. وهل يجوز أن يكاتب خنثى مشكلا؟ قال المزني: يجوز
وقال الربيع: لا يجوز
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله المزني؛ لأن الخنثى يقع عليه اسم الرقيق. ومنهم من قال: الصحيح ما قاله الربيع؛ لأن الخنثى لا تدخل في إطلاق اسم الرقيق.
فإن أوصى أن يكاتب عبد من عبيده وفيهم خنثى قد زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل تجوز كتابته؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
[مسألة أوصى بشاة لرجل]
إذا قال: أوصيت لفلان بشاة من مالي، أو قال: أعطوا فلانا شاة من مالي.. أعطاه الوارث شاة، صغيرة كانت أو كبيرة، ضائنة كانت أو ماعزة، سليمة أو معيبة لأن اسم الشاة يقع عليها.
قال الشافعي: (ولا يعطي كبشا ولا تيسا؛ لأن اسم الشاة إنما يعرف للإناث دون الذكور) .
ومن أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن هذا الاسم للجنس يقع على الذكر(8/252)
والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة.
قال الشافعي: (ولا يعطى ظبيا؛ لأنه وإن وقع عليه اسم الشاة إلا أن الإطلاق لا ينصرف إليه) .
إذا ثبت هذا: فإن كان للموصي غنم.. فإن الوصية لا تنصرف إلى غنمه، بل الوارث بالخيار: بين أن يعطي من غنمه، وبين أن يشتري له شاة؛ لأنه اعتبر خروجها من ماله، وإذا اشتري له من ثلثه.. فقد أخرجها من ماله.
وإن قال: أعطوه شاة من غنمي، وله غنم.. أعطي واحدة منها، وليس للوارث أن يمتنع عن دفع واحدة منها ويشتري له؛ لأنه أضاف ذلك إلى غنمه. فإن كانت غنمه كلها إناثا، أو كلها ذكورا.. أعطاه واحدة منها. وإن كانت ذكورا وإناثا.. فعلى قول الشافعي لا يعطي إلا أنثى، وعلى قول من خالفه من أصحابنا يجوز أن يعطى ذكرا منها.
وإن لم يكن له غنم، أو كانت فماتت قبل موت الموصي، أو بعد موته، من غير تفريط من الورثة.. بطلت الوصية، كما قلنا في الرقيق.
وإن قال: أوصيت له بشاة من شياهي وله ظباء مملوكة.. أعطاه الوارث واحدا منها؛ لأنه لا شياه له إلا الظباء، وهي مما يقع عليها اسم الشاة.
[فرع أوصى بذكر فلا يعطى أنثى ولا عكسه]
وإن وصى له بجمل.. لم يعط ناقة. وإن وصى له بثور.. لم يعط بقرة. وإن وصى له بناقة أو بقرة.. لم يعط جملا ولا ثورا. وإن وصى له ببعير.. فالمنصوص: (أنه يعطى جملا ولا يعطى ناقة؛ لأن البعير إنما ينصرف إلى الذكر دون الأنثى) .
ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يدفع إليه ناقة؛ لأن البعير يقه على الذكر(8/253)
والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة. ولهذا يقول الإنسان: حلبت بعيري، وشربت لبن بعيري.
وإن قال: أوصيت له بعشرة من الإبل، أو بعشر من الإبل.. فللورثة أن يعطوه ما شاؤوا من نوق أو جمال؛ لأن المزني نقل: (بعشرة) بثبوت الهاء، ونقل الربيع: (بعشر من الإبل) بغير هاء؛ لأن للوارث أن يعطيه ما شاء وإن كان ثبوت الهاء في عدد العشر وما دونها يدل على التذكير، وسقوطها يدل على التأنيث. إلا أن الشافعي لم يعتبر فرق العربية مع ذكر الجنس - وهو: الإبل - لأن اسم الجنس يقع على الذكور والإناث، وكذلك اسم البقر يقع على الذكور والإناث، وإنما يتخصص البقر إذا كانت فيها هاء بواحدة أنثى.
وإن قال: أعطوه عشر أينق، أو عشر بقرات.. لم يعط ذكرا. وإن قال أعطوه رأسا من الغنم، أو رأسا من الإبل، أو رأسا من البقر.. جاز أن يدفع إليه الوارث ما شاء من ذكر أو أنثى؛ لأن ذلك يعم الجنس.
[مسألة أوصى بدابة]
قال الشافعي: (وإن قال: أعطوه دابة من مالي.. فمن الخيل أو البغال أو الحمير) .
واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو العباس: إنما قال الشافعي هذا على عادة أهل مصر؛ لأنهم يطلقون اسم الدابة على الأجناس الثلاثة. فأما أهل العراق وغيرهم: فلا يطلقون اسم الدابة إلا على الخيل.
فعلى هذا: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطي الموصى له واحدا من الأجناس الثلاثة. وإن كان بغيرها من البلاد.. لم يعط إلا من الخيل.
وقال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: بل يعطى الموصى له واحدا من الثلاثة في جميع البلاد؛ لأن اسم الدابة ينصرف إطلاقه إلى جميع هذه الأجناس، ولأن(8/254)
ما ثبت له عرف في بلد. ثبت له ذلك العرف في جميع البلاد، ولا خلاف أنه لا يحمل على غير هذه الأجناس الثلاثة من الغنم والإبل والبقر وإن كان الدابة اسما لكل ما دب على الأرض حقيقة، بل يصرف إلى ما يتعارفه الناس فقط.
وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وله الأجناس الثلاثة، أو كان عنده جنسان وأحدهما من الخيل:
فعلى قول أبي إسحاق: يعطيه الوارث ما شاء، وعلى قول أبي العباس: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطاه الوارث مما شاء من الثلاثة، وإن كان بغيرها.. لم يعط إلا من الخيل.
وإن لم يكن عنده إلا واحد من الأجناس الثلاثة.. أعطاه الوارث مما عنده واحدا؛ لأنه أضافه إلى دوابه، وليس عنده إلا ذلك.
قال أبو إسحاق: وإنما نخير الوارث بين الثلاثة الأجناس إذا لم يكن في كلام الموصي ما يدل أنه أراد أحد الأجناس. فأما إذا قال: دابة ليقاتل عليها، أو لينتفع بدرها وظهرها.. لم يعط إلا الخيل. وإن قال لينتفع بظهرها ونسلها.. لم يعط إلا الخيل والحمير، دون البغال.
قال في " المهذب ": وإن قال: ليحمل عليها.. أعطي بغلا أو حمارا، ولا يعطي فرسا.
[فرع أوصى له بدابة وعنده غنم وبقر]
وإبل] :
وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وليس عنده أحد الأجناس الثلاثة - الخيل والبغال والحمير - وإنما عنده الغنم والإبل والبقر.. فلا أعلم نصا فيها، والذي يقتضيه القياس: أن الوارث يعطيه واحدا منها؛ لأنه يقع عليها اسم الدابة، وقد أضاف الوصية إلى دوابه، وليس دوابه إلا ذلك، كما قال أصحابنا إذا قال: أعطوه شاة من شياهي، وليس عنده إلا الظباء.. أعطاه الوارث واحدا، منها، فكذلك هذا مثله.(8/255)
[مسألة أوصى له بكلب]
إذا قال: أعطوه كلبا من مالي، أو وصى له بكلب، ولا كلاب له.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يصح أن يشتري له كلبا.
وإن قال أعطوه كلبا من كلابي، وله كلاب.. نظرت: فإن كانت كلابا لا ينتفع بها بصيد ولا حرث ولا ماشية، بل هي كلاب الهراش.. فالوصية باطلة؛ لأنه لا ينتفع بها، ولا تقر اليد عليها. وإن كانت كلابا ينتفع بها بشيء مما ذكرناه.. صحت الوصية، وأعطاه الوارث ما شاء منها إلا أن يقرن الموصي به بصيد، أو حرث، أو ماشية، وهو عنده.. أعطي ذلك دون غيره.
قال الشيخ أبو حامد: وإن قال: أوصيت له بكلب من مالي، وله كلاب ينتفع بها.. صحت الوصية؛ لأن الكلاب وإن لم تكن مالا فإن قوله من مالي يحمل على المجاز، ومعناه: مما لي، وفي يدي.
[فرع أوصى له بأحد كلابه]
وإن كان له ثلاثة أكلب ينتفع بها، فوصى بها لرجل، ولا مال له، ولم يجز الورثة.. ففيه أربعة أوجه:
أحدهما: يأخذ الموصى له من كل كلب ثلثه، كسائر الأعيان.
والثاني: يعطيه الوارث واحدا منها بالقرعة؛ لأنه ليس بعضها بأولى من البعض
والثالث: يعطيه الوارث واحدا منها باختياره.
والرابع: تقدر لو كانت متقومة كم كانت قيمة كل واحد منها؛ لأنه لما لم يمكن تقويمها بأنفسها.. اعتبرت بما يتقوم.(8/256)
وإن كان له مال- وإن قل - فوصى بالأكلب الثلاثة لرجل، أو كان له كلب واحد ومال، فوصى بالكلب لرجل.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للموصى له إلا ثلث ما أوصى له به من الكلاب أو الكلب؛ لأنه لا يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه، والكلاب لا يمكن اعتبارها من المال؛ لأنه لا قيمة لها، فاعتبرت بأنفسها.
والثاني: أن الكلاب أو الكلب للموصى له؛ لأن أقل جزء من المال خير من كلب.
وإن وصى لرجل بكلب له، ولا مال للموصي، ولم يجز الورثة.. أعطي الموصى له ثلث الكلب، وللورثة ثلثاه، كغيره من الأعيان.
[مسألة أوصى بطبل]
وإن قال: أعطوه طبلاً من طبولي: فإن كان له طبل الحرب.. صحت الوصية؛ لأن استعماله مباح، وهو آلة للحرب فهو كالسلاح.
قال الشافعي: (فإن كان لا يسمى طبلاً إلا بجلد.. ألزم الوارث أن يسلمه بجلده، وإن كان يسمى طبلاً بلا جلد.. كان للوارث أن يعطيه إياه بلا جلد) .
وإن لم يكن له إلا طبل اللهو- قال الشيخ أبو حامد - مثل طبول المخنثين- فإن كان يصلح لمنفعة مباحة وهي على تلك الهيئة من غير نقص.. صحت الوصية بها؛ لأنه يمكن الانتفاع بها. وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة إلا بعد تفصيلها وخروجها عن كونها طبولاً.. لم تصح الوصية بها؛ لأنها حال ما تسمى طبولاً.. لا تصلح لمنفعة مباحة، وحال ما تصلح لمنفعة مباحة.. لا يقع عليها اسم الطبول.
وإن كان له طبل الحرب، وطبل اللهو: فإن كان طبل اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة.. أعطاه الوارث طبل الحرب، وإن كان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\414] : الطبول ثلاثة، طبل الحرب، وطبل(8/257)
اللهو وطبل العطر: وهو سفط من خيرزان يضع فيه العطار العطر.
فإن كان في ملكه طبل الحرب وطبل العطر.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. وإن كان عنده الطبول الثلاثة، وكان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث أي الطبول الثلاثة شاء.
وإن قال: أعطوه طبلاً من مالي.. اشتروا له طبلاً تصح الوصية به على ما ذكرناه.
[فرع الوصية بدف]
وإن قال: أوصيت له بدف من دفوفي وله دفوف، أو بدف من مالي.. صحت الوصية؛ لأن ضرب الدف في النكاح والختان جائز، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف» .
[مسألة أوصى له بعود]
وإن وصى له بعود من عيدانه: " فاسم العود يقع على عود اللهو الذي يضرب به، وعلى العود الذي يصلح للقوس وعلى العود الذي يصلح للبناء- وهي: الأخشاب- فإن كانت عنده هذه العيدان الثلاثة.. نظرت: فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة وهو على هيئته يقع عليه اسم العود.. انصرفت الوصية إلى عود اللهو؛ لأن إطلاق اسم العود إليه أسبق. وللوارث أن يعطيه عود اللهو بلا مضراب، ولا وتر، ولا ملاو؛ لأن هذه الأشياء لا تصلح على العود إلا للهو، ولأنه يسمى عوداً وإن أمسكت عنه. هذا نقل البغداديين.(8/258)
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\415] : يعطيه الوارث أي العيدان شاء.
فإن كان عود اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى عوداً.. لم تصح الوصية به؛ لأنه لا يصلح لمنفعة مباحة.
قال الشيخ أبو حامد: ويعطيه الوارث ما شاء من عود القوس، أو عود البناء وجها واحداً؛ لأن الوصية تمليك، فإذا لم تصح بما يطلق الاسم عليه.. انصرف الإطلاق إلى ما يصح أن يملك، كما قلنا في الطبل.
وذكر في " المهذب " فيها وجهين:
أحدهما: هذا، والثاني: أن الوصية باطلة، وهو المذهب؛ لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو فإذا كان لا يصلح لمنفعة مباحة.. كان وصية بمحرم، بخلاف الطبل فإنه يقع على طبل الحرب وطبل اللهو.
قال في " المهذب ": وإن وصى له بعود من عيدانه وليس عنده إلا عود القوس، وعود البناء.. أعطي منها؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس عنده سواه.
قال: وهذا يدل على صحة ما ذكره الشيخ أبو حامد في التي قبلها.
[فرع الوصية بمزمار]
] : وإن قال: أوصيت لفلان بمزمار من مزاميري: فإن كان المزمار يصلح لمنفعة مباحة على هيئته.. صحت الوصية به.
قال الشافعي: (ويدفع إليه الوارث المزمار دون المجمع) الذي يترك في الفم عند الزمر؛ لأن المجمع لا يصلح إلا للهو، ولأنه يسمى مزماراً وإن لم يكن فيه مجمع.
وإن كان المزمار لا يصلح لمنفعة مباحة على هيئته، وإذا صلح لمنفعة مباحة لم يقع عليه اسم المزمار.. لم تصح الوصية؛ لأنها وصية بمحرم.(8/259)
[مسألة أوصى بقوس من قسيه]
وإن وصى له بقوس من قسيه: فالقسي خمسة أجناس:
القسي العربية: التي يرمي عنها بالنبل.
والقسي العجمية: التي يرمي عنها النشاب.
وقسي الحسبان: قال الشيخ أبو حامد: وهي خشبة فيها حفيرة طولاً، أو قصبة يوضع فيها سهم، ثم يرمى بالسهم عنها.
وقوس الجلاهق: وهي قسي يرمى عنها الطير ببنادق الطين.
وقوس الندف.
فإذا أوصى له بقوس من قسيه وعنده هذه الأجناس الخمسة.. أعطاه الوارث ما شاء من الأجناس الثلاثة الأولى دون قوس الجلاهق والندف؛ لأن اسم القوس إليها أسبق، ولا يعطيه إلا قوساً قد نحتت؛ لأنها لا تصلح للرمي إلا بعد النحت.
وهل يلزم الوارث أن يعطيه معها الوتر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن اسم القوس يقع عليها من غير وتر، وإنما الوتر للتمكن من الانتفاع، فلم يجب دفعه، كسرج الدابة.
والثاني: يلزمه؛ لأن القوس يراد للرمي، ولا يمكن الرمي عنه إلا بالوتر.
وإن قال: أعطوه قوساً ليندف بها القطن، أو الصوف.. لم يعط إلا قوس الندف. وإن قال: ليرمي بها الطير.. لم يعط إلا قوس الجلاهق؛ لأن القرينة تدل عليه.
وإن قال: أعطوه قوساً من قسيي، وليس عنده إلا قوس الندف والجلاهق.. فاختلف الشيخان فيه:(8/260)
فقال الشيخ أبو إسحاق: يعطى قوس الجلاهق؛ لأن الاسم إليه أسبق.
وقال الشيخ أبو حامد: يعطيه الوارث ما شاء منهما؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس إحداهما بأولى من الأخرى.
[مسألة إبراء المكاتب في مرض مخوف]
وإذا أبرأ مكاتبه من مال الكتابة، أو أعتقه في مرض مخوف: فإن برئ من مرضه.. عتق المكاتب. وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبر من الثلث.
فإن كان مال الكتابة وقيمة العبد يخرج كل واحد منهما من الثلث.. عتق. وإن خرج أحدهما دون الآخر.. اعتبر الأقل من قيمته أو من مال الكتابة، فأيهما خرج من الثلث.. عتق، مثل أن يكون قيمة العبد مائة ومال الكتابة مائة وخمسين والثلث مائة، فتعتبر القيمة هاهنا.
وإن كانت قيمته مائة وخمسين، ومال الكتابة مائة، والثلث مائة.. اعتبر مال الكتابة هاهنا.
وإنما اعتبرنا الأقل منهما؛ لأن القيمة إن كانت هي الأقل.. اعتبرت؛ لأنها قيمة من أعتقه؛ لأن مال الكتابة ما استقر ملكه عليه؛ لأن للمكاتب أن يسقطه بتعجيز نفسه.
وإن كان مال الكتابة هو الأقل.. اعتبر؛ لأن الكتابة لازمة من جهة السيد ولا يستحق على العبد غيره.
وإن لم يخرج من الثلث أقلهما، وإنما احتمل الثلث النصف من أقلهما، مثل أن يكون الثلث خمسين وقيمة العبد أو مال الكتابة مائة.. عتق نصفه، وكان نصفه باقياً على الكتابة، فإن أدى نصف مال الكتابة.. عتق باقيه.. وإن عجز.. رق نصفه للورثة.
فإن قيل: أليس لو أبرأه السيد في صحته عن نصف مال الكتابة، أو أدى نصف مال كتابته.. لم يعتق شيء منه، فلم أعتقتم نصفه هاهنا، وقد بقي عليه شيء من الكتابة؟(8/261)
قلنا: الفرق بينهما أن هناك لم تحصل الصفة التي علق عليها العتق- وهو: أداء المال- وهاهنا قد حكمنا ببراءته من الذي خرج من الثلث. وإنما رددنا العتق في بعضه لحق الورثة.
وإن لم يخرج شيء منهما من الثلث، بأن كان على السيد دين يستغرق ماله.. لم يعتق شيء منه، وأخذ المكاتب بأداء ما عليه، فإن أداه.. عتق، وتعلق حق الغرماء بما أداه. وإن عجز.. رق وبيع بحق الغرماء.
وإن لم يكن له مال غير العبد، ولا دين عليه، ولم يجز الورثة:
فإن كان قد حل عليه مال الكتابة.. عتق ثلثه في الحال، فإن أدى ما بقي عليه من مال الكتابة.. عتق ثلثاه، وإن عجز رق ثلثاه للورثة.
وإن لم يحل عليه مال الكتابة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يتعجل عتق شيء منه؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه.
والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يعتق ثلثه في الحال) لأن حق الورثة في مثلي ثلثه متيقن، إما بالأداء أو بالعجز.
وإن أوصى بعتقه، أو بالإبراء مما عليه.. فحكمه حكم ما لو أعتقه في مرض موته، أو أبرأه مما عليه إلا أن في هذه يوقف العتق على إعتاق الوصي أو إبرائه، وفي التي قبلها لا يحتاج إلى عتق، ولا إلى إبراء من الوصي.
[مسألة الوصية بحط أكثر مال الكتابة]
إذا قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه من مال الكتابة.. وضع عنه نصف ما عليه وزيادة على النصف. وتقدير الزيادة إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أكثر ما عليه.(8/262)
وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ونصفه.. وضع عنه ثلاثة أرباع ما عليه وزيادة، وتقدير الزيادة إليهم.
وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله.. فقد وصى له بأكثر مما عليه؛ لأن قوله: (أكثر ما عليه) يقتضي النصف وزيادة.
وقوله: (مثله) يقتضي نصفا آخر وزيادة، فيوضع عنه جميع مال الكتابة، وتسقط الوصية بالزيادة؛ لأنه لم يبق لها محل.
[فرع أوصى بأن يوضع عنه شيء ما]
] : روى المزني: (لو قال: ضعوا عنه ما شاء، فشاءها كلها.. لم يكن له إلا أن يبقي شيئا) .
وروى الربيع: (إذا قال: ضعوا عنه ما شاء من الكتابة.. لم يجز أن يوضع عنه الكل حتى يبقى شيء منه) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن قوله: (من مال الكتابة) يقتضي البعض، فلا بد أن يبقى شيء. والذي نقله المزني غلط، بل يجوز أن يوضع عنه جميع مال الكتابة إذا شاء ذلك؛ لأن قوله: (ما شاء) الكل داخل فيه.
وقال أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: ما نقله الربيع صحيح، وما نقله المزني أيضا صحيح، ولا بد أن يبقى شيء فيهما؛ لأن قوله: (ما شاء) يقتضي البعض؛ لأنه لو أراد الجميع.. لقال: ضعوا عنه مال الكتابة.
وإن قال: ضعوا عنه بعض كتابته، أو بعض ما عليه، أو ضعوا عنه ما قل أو ما كثر، أو ضعوا عنه ما يثقل أو ما يخف.. وضع عنه الوارث ما شاء من قليل أو كثير؛ لأن شيئا من ذلك لا يقتضي شيئا مقدراً.
وإن قال: ضعوا عنه نجماً من نجومه.. وضع عنه الوارث أي نجم شاء وإن كان أقلها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أي نجم شاء.. وضع عنه أي نجم شاء المكاتب وإن(8/263)
كان أكثرها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أوسط نجومه.. فقد يكون الأوسط من ثلاث جهات:
أوسط من جهة العدد: بأن كان يكاتبه على ثلاثة نجوم، فالأوسط هو الثاني.
وإن كاتبه على أربعة نجوم.. فالأوسط هو الثاني والثالث. وإن كاتبه على خمسة.. فالأوسط هو الثالث.
وأوسط من جهة الأجل: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم إلى شهر، ونجم إلى شهرين، ونجم إلى ثلاثة أشهر، فالأوسط من جهة الأجل هو النجم إلى شهرين.
وأوسط من جهة القدر: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم بعشرة، ونجم بعشرين، ونجم بثلاثين، فالأوسط من جهة القدر هو النجم بعشرين.
فإن اجتمعت هذه الجهات.. وضع عنه الوارث ما شاء منها. وإن لم تجتمع إلا جهتان.. وضع عنه الوارث أيهما شاء.
وإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه أو أكبر نجومه.. قال ابن الصباغ: انصرف ذلك إلى الأكثر من جهة القدر لا من جهة العدد والأجل.
[مسألة كاتبه ثم أوصى بعتقه]
وإن كاتب عبده كتابة صحيحة، ثم أوصى برقبته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يملك بيعه، فلا يملك الوصية به. فإن عجز ورق.. لم تصح الوصية به؛ لأنها وقعت فاسدة.
وإن أوصى لرجل بمال الكتابة.. صحت الوصية، فإن أدى المال.. كان للموصى له به، وعتق، وكان الولاء للورثة. وإن عجز.. بطلت الوصية بمال الكتابة، واسترقه الورثة.
فإن حل نجم الكتابة، وعجز عنه، فأراد الورثة تعجيزه ليملكوه، وأراد الموصى له بالمال إنظاره به.. كان للورثة تعجيزه؛ لأن حق الورثة متعلق بعينه، وحق الموصى له متعلق بما في ذمته، فكان حق الورثة آكد.(8/264)
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الحق للموصى له، بدليل: أنه إذا أبرأه.. عتق ولا حق لصاحب الرقبة.
[فرع أوصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته إن عجز لآخر]
وإن أوصى بمال الكتابة لرجل، وبرقبة المكاتب إن عجز لآخر.. صح.
فإن أدى المال.. أخذه الموصى له بالمال، وعتق، وبطلت الوصية بالرقبة. وإن عجز.. رق، وكان للموصى له بالرقبة، وبطلت الوصية بالمال.
وإن قال: أوصيت لفلان بما يعجله المكاتب، فإن عجل المكاتب شيئاً قبل حلول النجم.. استحقه الموصى له. وإن لم يعجل حتى حل النجم فأداه.. لم يستحقه الموصى له؛ لأن الوصية معلقة بشرط، فلا يستحقه الموصى له مع فقد الشرط.
[فرع كاتبه كتابة فاسدة]
وإن كاتب عبده كتابة فاسدة، فأوصى لآخر بما في ذمته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا شيء له في ذمته.
وإن قال: إذا قبضت من المكاتب مالاً فقد أوصيت به لفلان.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تصح الوصية؛ لأنه وإن كان لا يملك في الحال شيئاً في ذمته لكنه إذا قبضه ملكه، فلما أضاف الوصية إلى حال تملك الموصى به.. صح، كما لو أوصى برقبته إذا عجز.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي هذا عندي نظر؛ لأنه لا يملكه بالقبض، وإنما يعتق بحكم الصفة، كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه، ثم لا يملكه.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يملكه إذا لم يزد على قدر قيمة العبد؛ لأنهما يتراجعان فيها.
وإن وصى برقبته لرجل، فإن لم يعلم بفساد الكتابة.. فهل تصح الوصية؟ فيه قولان:(8/265)
أحدهما: تصح. وهو اختيار المزني؛ لأن ملكه لم يزل عن رقبته، فصحت الوصية بها.
والثاني: لا تصح، قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأنه إذا لم يعتقد أنه ملكه كان متلاعباً بالوصية.
وهكذا القولان فيمن باع مال مورثه وهو يعتقد أنه حي فبان أنه كان ميتاً حال البيع.
وإن كان يعلم بفساد الكتابة حال الوصية.. صحت الوصية، قولا واحداً، كما لو باعه من رجل بيعاً فاسداً، ثم باعه من آخر وهو يعلم فساد الأول.
ومن أصحابنا من قال: فيها قولان. وليس بشيء.
[مسألة يحرم بالحج الواجب الوصية من الميقات]
إذا مات وعليه حجة واجبة - إما حجة الإسلام، أو القضاء، أو النذر - فإن لم يوص بها أو أوصى بها من رأسماله.. وجب أن يستأجر عليها من رأس المال من يحرم عنه من الميقات؛ لأنه كان لا يجب عليه أن يحرم بالحج في حياته إلا من الميقات، فكذلك بعد موته.
ويجوز أن يكون الأجير من الورثة؛ لأنه معاوضة لا محاباة فيها.
وإن أوصى بحجة الإسلام من ثلثه، أو أوصى بها مطلقاً، ولم يقل: من رأس المال، ولا من الثلث، وقلنا: إن الوصية بها يجب إخراجها من الثلث.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب أن يستأجر على أدائها من يحرم بها من بلده، وتكون جميع الأجرة من الثلث؛ لأن ميقات الإحرام في أصل الوجوب من دويرة أهله، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فقال عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك) ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قطع(8/266)
المسافة إلى الميقات بغير إحرام بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يستمتع الرجل بأهله من بنيانه حتى يأتي الميقات» .
فإن أوصى الرجل بالحج.. عاد إلى الأصل دون الرخصة.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام إلا من الميقات؛ لأن الموصي كان لا يجب عليه الإحرام إلا من الميقات بالشرع، فكذلك الأجير.
وإن قال: حجوا عني حجة الإسلام وأطلق، وقلنا: إن الوصية به لا توجب كون جميع الأجرة من الثلث، فمن أين يجب الإحرام هاهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب الإحرام من دويرة أهله إلا أن القدر الذي يحتاج إليه من الأجرة من بلده إلى الميقات يكون من الثلث، وما بعد ذلك إلى آخر النسك يكون من رأس المال؛ لأن قوله: (حجوا عني) لا يفيد إلا وجوب الإحرام عنه من بلده، فكانت أجرته من الثلث، إذ لو لم يوص به.. لكان يجب الإحرام عنه من الميقات.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام عنه به إلا من الميقات، وتكون جميع الأجرة من رأس المال؛ لأن الحج لا يجب بالشرع إلا من الميقات، فكانت الوصية به تأكيداً.
وإن وصى أن يجعل جميع الثلث في حجة الإسلام.. حج به عنه من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. تمم من رأس المال؛ لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال، فإن كان الثلث قدر أجرة المثل من البلد،(8/267)
أو ما دونه إلى الميقات.. جاز أن يستأجر به الوارث والأجنبي؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها. وإن كان الثلث يزيد على أجرة المثل من البلد، أو ما دونه إلى الميقات.. لم يستأجر به الوارث؛ لأن الزيادة محاباة ووصية، فلا تصح للوارث هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إذا قال أحجوا عني رجلاً بألف، وأجرة المثل أقل، ولم يعين الأجير.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحج عنه إلا بقدر أجرة المثل، والزيادة للوارث.
والثاني: أن الزيادة وصية لشخص موصوف بصفة، وهو حج ذلك الشخص. قال: وحدثت حادثة بـ (مرو) اختلفت فيها فتوى مشايخنا وهي:
أن رجلاً أوصى أن يشترى له عشرة أقفزة حنطة بمائة درهم فيتصدق بها عنه، فأخذ من أجود الحنطة عشرة أقفزة بثمانين درهماً، فماذا يصنع بالعشرين الباقية من المائة؟ فمنهم من أفتى بأنها ترد إلى الوارث، ومنهم من قال: إنها وصية لبائع لحنطة، ومنهم من قال: يشترى بها حنطة بهذا السعر ويتصدق بها عنه.. وهذا الوجه لا يتصور في الحج
[فرع أوصى بحجة ولم يعين الأجرة والأجير]
إذا أوصى بحجة الإسلام ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. فإنه يستأجر بأقل ما يوجد، سواء كان الأجير أجنبياً أو وارثاً؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها.
وإن عين الأجرة ولم يعين الأجير. فإن كان ما عينه من الأجرة قدر أجرة المثل.. جاز أن يستأجر بها الوارث والأجنبي.(8/268)
وإن كان أكثر من أجرة المثل.. لم يجز أن يستأجر بها الوارث إلا بإجازة الورثة معه.
وهل يستأجر بها الأجنبي؟ إن كانت الزيادة على أجرة المثل لا تخرج من الثلث لم تلزم الزيادة إلا بإجازة الورثة.. وإن كانت تخرج من الثلث.. لزم الاستئجار بها على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة القفال.. على وجهين.
وإن عين الأجير، ولم يقدر له الأجرة.. وجب استئجاره، وهل يجب استئجاره بأقل ما يؤخذ أو بأجرة مثله من نظرائه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم استئجاره إلا بأقل ما يؤخذ ممن يحج؛ لأنه لا فائدة في أن يستأجر بأكثر من ذلك.
والثاني: أنه يلزم أن يستأجر بأجرة مثله من نظرائه؛ لأن الموصي لما عينه فكأنه إنما قصده لعلمه بورعه وعلمه، فاعتبرت أجرة مثله بنفسه. ولا فرق على الوجهين بين أن يكون الأجير المعين وارثاً أو أجنبياً. فإن امتنع هذا الأجير المعين من الحج، أو مات قبل أن يحج.. لم تسقط الوصية بالحج، واستؤجر غيره بأقل ما يؤخذ؛ لأن الحج واجب، فلزمه أداؤه.
وإن عين الأجير، وقدر الأجرة، بأن قال: استأجروا فلانا يحج عني بمائة:
فإن كانت الأجرة المقدرة قدر أجرة مثله.. وجب استئجاره بها، وارثاً كان أو أجنبياً.
وإن كانت أكثر من أجرة مثله.. كان قدر أجرة مثله من رأس المال. وأما الزيادة: فمعتبرة من الثلث: فإن خرجت من الثلث وكان الأجير أجنبياً فهي وصية له تلزم إذا حج. وإن لم يحتملها الثلث، أو كان الأجير المعين وارثاً.. وقف ذلك على إجازة الورثة.(8/269)
وإن قال الأجير المعين: أحجوا غيري بأجرة المثل، وأعطوني ما زاد عليها؛ لأنه وصية لي وهي تخرج من الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأنه إنما وصى له بذلك بشرط- وهو أن يحج عنه- فإذا لم يحج.. لم يستحق.
[فرع وجب الحج عليه فأوصى لمن يحج عنه بمائة دينار]
إذا كانت عليه حجة واجبة، فقال من حج عني بعد موتي أولاً.. فله مائة دينار: فحج عنه أولاً أجنبي: فإن كانت المائة أجرة المثل.. فلا كلام. وإن كانت أكثر من أجرة المثل.. كان ما زاد معتبرا من الثلث.
وإن حج عنه أولاً وارث.. قال الشافعي: (فله من المائة أقل ما يؤخذ به أحد يحج عنه) .
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد به أجرة المثل.
ومنهم من قال: أراد أقل ما يؤخذ به من يحج عنه، ويكون ما زاد موقوفاً على إجازة الورثة، خرج من الثلث أو لم يخرج.
[مسألة أوصى بحج تطوع]
إذا أوصى بحج تطوع، فإن قلنا: لا تدخله النيابة.. لم تصح الوصية به.
وإن قلنا: تدخله النيابة.. فإن جميع الأجرة معتبرة من الثلث.
فإن قال: أحجوا عني، ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي إسحاق: يستأجر من يحج عنه من بلده بأقل ما يؤخذ، فإن لم يحتمله الثلث.. حج عنه بالثلث من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. وعلى قول(8/270)
سائر أصحابنا: يستأجر من يحج عنه بأقل ما يؤخذ من الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. بطلت الوصية فيه، ورجع ملكاً للورثة، كما لو قال: اشتروا عبيدا وأعتقوهم، فاشتري عبدان، وفضل من الثلث مال يمكن أن يشترى به بعض الثالث.. فإنه يكون للورثة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\419] : وفيه قول آخر في الموضعين: أنه يتصدق بالبقية، وهذا ليس بمشهور.
وإن قال: أحجوا عني بمائة من ثلثي في حج التطوع.. حج عنه بها من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن لم يوجد من يحج بها عنه من الميقات.. بطلت الوصية، وكانت للورثة.
وإن قال: أحجوا عني بثلثي.. صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج، وهل يكون من البلد أو من الميقات؟ على وجهين:
[أحدهما] : على قول أبي إسحاق: يكون من بلده.
و [الثاني] : على قول سائر أصحابنا: يكون من الميقات.
فإن اتسع الثلث لحجة أو حجتين، وبقي منه بقية لا يمكن أن يستأجر به من يحج من الميقات.. بطلت الوصية بها وردت إلى الورثة، ولا تصرف إلى العمرة؛ لأن الموصى به الحج دون العمرة.
وإن قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يقدر له أجرة.. فهل يجب استئجاره بأجرة مثله، أو بأقل ما يؤخذ؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
وإن قال: أحجوا عني فلانا بمائة.. اعتبر جميعها من الثلث؛ لأنها تطوع، فإن امتنع الأجير المعين عن الحج.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الوصية بالحج تبطل، ولا يستأجر غيره؛ لأنه قصد إرفاق هذا الأجير. وإذا رد الوصية.. بطلت، كما لو وصى له بشيء فرده.
والثاني: لا تبطل بل يستأجر غيره بأقل ما يؤخذ، وهو الأصح؛ لأنها وصية تتضمن قربة، فإذا ردها الموصى له.. لم تبطل القربة، كما لو وصى أن يباع له ثوب(8/271)
من رجل بمحاباة، ويتصدق بثمنه، فامتنع الموصى له بالشراء عن الشراء.. فإن الثوب يباع من غيره ويتصدق بثمنه.
[فرع وصى بثلثه للحجيج]
وإن أوصى بثلثه للحجيج.. قال الشافعي: (أحببت أن يدفع إلى فقراء الحجيج؛ لأنهم أحوج إليه، فإن دفع إلى أغنيائهم.. جاز) ؛ لأن اسم الحجيج يجمعهم.
[مسألة وصى بمائة لحج تطوع]
وإن أوصى بأن يحج عنه رجل بمائة حجة تطوع، وأوصى بما بقي من ثلثه بعد المائة لآخر، وأوصى بثلث ماله لثالث، فإن كان ثلثه مائة فما دونها.. فلا وصية للموصى له بالبقية بعد المائة, فإن أجاز الورثة الوصيتين: أعطي كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما نصفين.
وإن كان ثلثه أكثر من مائة، بأن كان ماله أربعمائة وخمسين، وأجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالمائة مائة، وإلى الموصى له بالبقية خمسون، وإلى الموصى له بالثلث مائة وخمسون. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. رد الوصيتان إلى الثلث- وهو: مائة وخمسون- فيعاد الموصى له بالمائة الموصى له بالثلث بالموصى له بالبقية معه، فيقسم الثلث بينهما نصفين، فيأخذ الموصى له بالثلث نصفه- وهو: خمسة وسبعون - وفي النصف الآخر وجهان:
أحدهما: أنه يأخذه الموصى له بالمائة؛ لأن الموصى له بالبقية إنما حقه فيما زاد على المائة، ولم يزد على المائة شيء.
والثاني: أن الموصى له بالمائة، والموصى له بالبقية يقتسمان هذا النصف بينهما،(8/272)
كما كانا يقتسمان جميع الثلث عند الإجازة، فيقتسمان هاهنا الخمسة والسبعين على ثلاثة، للموصى له بالمائة: سهمان، وللموصى له بالبقية: سهم. وإن كان الثلث مائتين.. فإنهما يقتسمان المائة عند الرد بينهما نصفين؛ لأن الوصية بالثلث زاحمتهما معاً في حقيهما فأدخلت الضرر عليهما، كأصحاب الفروض في المواريث، والأول هو المذهب؛ لأن الموصى له بالبقية إنما وقعت وصيته بشرط، ولم يوجد الشرط بخلاف أصحاب الفروض، فإن أولئك تساوت حقوقهم.
فأما إذا أوصى لرجل بثلث ماله، وأوصى أن يحج عنه رجل بمائة من ثلثه حجة التطوع، وأوصى لثالث بما بقي من ثلثه بعد المائة.. ففد اختلف أصحابنا فيها:
فذهب أكثرهم إلى: أن الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنها وصية بثلثي ماله. ومنهم من قال: لا تصح الوصية للموصى له بالبقية بعد المائة؛ لأنه لما أوصى للأول بثلث ماله.. علم أنه لا يبقى بعد المائة شيء.
فعلى هذا: إن أجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالثلث الثلث، وإلى الموصى له بالمائة مائة. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما على قدر حقيهما عند الإجازة، فإن كان الثلث مائة.. اقتسماها نصفين. وإن كان الثلث مائتين.. اقتسماها على ثلاثة: للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له بالمائة سهم، وإن كان الثلث ألفا.. اقتسماه على أحد عشر سهما، للموصى له بالثلث عشرة أسهم، وللموصى له بالمائة سهم، والأول أصح؛ لأنه لما أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه أراد منه الثلث الثاني، فكانت كالأولى.
[مسألة أوصى بعبد ولآخر بما بقي من الثلث]
وإن أوصى لرجل بعبد، ولآخر بما بقي من ثلثه.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يموت الموصي والعبد باق بحالة سليمة: فإن العبد يقوم مع باقي التركة، وينظر: كم قدر ثلثها؟ فيدفع العبد إلى الموصى له به، فإن بقي من الثلث(8/273)
شيء.. دفع إلى الموصى له بالبقية تمام الثلث. وإن استغرقت قيمة العبد الثلث.. فلا شيء للموصى له بالبقية؛ لأنه لم يبق له شيء.
الثانية: أن يصيب العبد عيب بعد موت الموصي: فإن العبد يقوم يوم مات سيده سليماً، وتحسب قيمته سليماً في التركة، وينظر: ما بقي من ثلث التركة بعد قيمته سليماً، فيدفع ذلك إلى الموصى له بالبقية، ويدفع العبد معيباً إلى الموصى له به؛ لأنه كان سليماً وقت استحقاق الوصية. وإنما نقص بعد ذلك بغير تفريط من أحد.
الثالثة: إذا مات العبد بعد موت سيده، وقبل قبول الوصية فيه.. فقد بطلت الوصية به لفواته، إلا أنه محسوب في التركة، فينظر: كم قدر ثلث التركة؟ وتسقط قيمته من الثلث. فإن بقي شيء بعد قيمته.. دفع ذلك إلى الموصى له بالبقية. الرابعة: إذا مات العبد قبل موت سيده.. فإن العبد غير محسوب في التركة؛ لأنه لم يخلفه السيد، فتقوم التركة، وينظر: كم قدر الثلث؟ ويقوم العبد يوم مات، ويسقط ذلك من الثلث، ويدفع إلى الموصى له بالبقية ما بقي بعد ذلك، ولا تبطل الوصية لصاحب البقية بموت العبد؛ لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما وقبل الآخر.
[مسألة أوصى بمنفعة عبد]
] : إذا أوصى له بمنفعة عبد، فمات الموصي، وقبل الموصى له، وخرج العبد من الثلث.. ملك الموصى له منافعه وأكسابه وله أن ينتفع به بنفسه، ويؤاجره، ويعيره، ويوصي به، وهل له أن يسافر به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] : المشهور: أن له ذلك كعبده الذي يملكه.
وإن التقط هذا العبد لقطة، أو وهب له مال.. قال في " الإفصاح ": احتمل وجهين بناء على القولين أن ذلك يدخل في المهايأة:
فإن قلنا: إنه يدخل في المهايأة في العبد بين الشريكين.. كان ذلك للموصى له. وإن قلنا: لا يدخل في المهايأة.. كان ذلك ملكاً لمالك الرقبة.(8/274)
وإن مات الموصى له والعبد باق.. فهل يرث ورثته المنفعة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح "، و " الإبانة ": أحدهما: لا تورث عنه، بل تكون لمالك الرقبة. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الميراث لا يجري في المنافع.
والثاني - وهو الأصح -: أنها تورث عنه كسائر أمواله، ولا يسلم: أن الميراث لا يجري في المنافع؛ لأنه لو استأجر عينا ومات قبل استيفاء المنفعة.. ورثها ورثته، وعلى من تجب نفقة هذا العبد؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: تجب على مالك الرقبة؛ لأن النفقة للرقبة، فكانت على مالكها.
والثاني: أنها في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مالك المنفعة؛ لأنه لا يملك الرقبة، ولا يمكن إيجابها على مالك الرقبة؛ لأنه لا يملك المنفعة، فكانت في كسبه، فإن لم يكن في كسبة وفاء أو لا كسب له.. كانت في بيت المال.
وحكى الشيخ أبو إسحاق فيها وجها ثالثاً: أنها تجب على الموصى له بالمنفعة؛ لأن الكسب له.
وإن قتل هذا العبد حر أو قتله عبد خطأ.. وجبت قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكون ملكاً لمالك الرقبة؛ لأنها بدلها، فكانت لمالكها.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يشترى بها عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي؛ لأن لكل واحد منهما حقا فيما قام مقام الأصل، فلم يجز إبطاله.
وإن قتله عبد عمداً.. فمن يستوفي القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] :
أحدهما: يستوفيه مالك الرقبة. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الاستيفاء للموصى له) .(8/275)
فإن قطع رجل طرفه.. وجب عليه الأرش، ولمن يكون؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لمالك الرقبة؛ لأنه بدلها.
والثاني: أن ما قابل من الأرش ما نقص من قيمة الرقبة يكون لمالك الرقبة، وما قابل منه ما نقص من المنفعة يكون للموصى له.
ومن أصحابنا من قال: إن كان المتلف مما ينقص منفعة العبد كاليد والرجل.. أخذ أرشه واشتري به عبد أو جزء من عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لوارث الموصي. وإن كان المتلف مما لا ينقص المنفعة كالذكر ونحوه.. كان أرشه لمالك الرقبة وحده.
وإن جنى هذا العبد على غيره، فإن اتفقا على فديته.. فدياه، وكان باقيا ما كان عليه. وإن فداه أحدهما دون الآخر.. كان متطوعاً. وإن امتنعا من الفدية.. بيع عليهما.
[فرع وصى بمنفعة جارية]
وإن كان الموصى بمنفعته جارية، فأتت بولد من زواج أو زنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الولد للموصى له بالمنفعة، كما قلنا في كسبها.
والثاني: أنه يكون كأمه، منفعته للموصى له، ورقبته للوارث؛ لأنه كجزء منها.
ويجوز تزويجها، وفيمن يملك عقد النكاح عليها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن ذلك إلى الموصى له بالمنفعة؛ لأن مهرها له.
والثاني: أنه لمالك الرقبة؛ لأن ملك الرقبة له.
والثالث: لا يصح إلا باجتماعهما لأن لكل واحد منهما فيها حقا، فلم ينفرد أحدهما بالعقد عليها، كالجارية بين الشريكين.
وإن أراد أحدهما وطأها.. لم يكن له؛ لأن كل واحد منهما لا يملكها ملكا تاماً،(8/276)
والوطء لا يجوز إلا في ملك تام، كالجارية بين الشريكين، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 407] : يجوز وطؤها لمالك الرقبة. والأول أصح، وعليه التفريع.
إذا ثبت هذا: فإن وطئها الموصى له بالمنفعة.. فلا حد عليه؛ لأن له فيها شبهة، ولا مهر عليه؛ لأن المهر له.
وإن أتت منه بولد.. فالولد حر للشبهة:
فإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون مملوكا للموصى له.. لم يجب عليه هاهنا قيمته.
وإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون كأمه.. أخذت منه قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان، كما لو قتلت الأم:
أحدهما: يكون الملك لمالك الرقبة.
والثاني: يشترى بها عبد تقوم مقامه منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي.
وإن وطئها وارث الموصي.. فلا حد عليه للشبهة، ويجب عليه المهر للموصى له. وإن أتت منه بولد.. كان حرا؛ لأن له فيها شبهة ملك.
وأما قيمة الولد، فإن قلنا: لو كان مملوكاً كان للموصى له.. لزم وارث الموصي دفع قيمته إلى الموصى له، وإن قلنا: يكون موقوفا كأمه.. فقد أتلف الوارث رقه.
فإن قلنا: لو قتل تكون قيمته لمالك الرقبة.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها لو وجبت عليه.. لكانت له.
وإن قلنا: يشترى بها ما يقوم مقامه.. أخذت منه القيمة، واشتري بها ولد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي.(8/277)
[فرع بيع مالك الرقبة مع أنه قد بذل المنفعة لغيره]
] : إذا أراد مالك الرقبة بيع الرقبة.. فهل يصح بيعه لها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكاً له، فهو كما لو لم يكن موصى بمنفعتها.
والثاني: لا يصح بيعه؛ لأنه بيع ما لا منفعة فيه، فهو كبيع الجعلان والخنافس.
والثالث: إن باعها من الموصى له بالمنفعة.. صح بيعه؛ لأنه يحصل له الرقبة والمنفعة، فتكون بيع ما فيه منفعة. وإن باعها من غيره.. لم يصح؛ لأنه لا ينتفع بالرقبة من غير منفعة.
فإن أعتقها مالك الرقبة.. صح عتقه؛ لأن العتق صادف ملكه، وللموصى له أن يستوفي منفعته؛ لأنه ملكها قبل العتق، فهو كما لو استأجر رجل عبداً ثم أعتقه مالكه.
ولا يرجع المعتق على الذي أعتقه بشيء، بخلاف العبد إذا أجره سيده ثم أعتقه قبل انقضاء الإجارة. فإنه يرجع عليه بأجرته بعد العتق في أضعف القولين.
والفرق بينهما: أن السيد هناك ملك عوض منفعته، وهاهنا: الوارث لم يملك عوض منفعته، فلذلك لم يرجع عليه بشيء.
[فرع طلب مضاربة المال بعد الموت والربح نصفين]
إذا دفع رجل إلى رجل مالاً، وقال: إذا مت.. فتصرف فيه بالبيع والشراء، وما حصل فيه من الربح فلك نصفه، فمات.. فلا يجوز له أن يتصرف فيه.
واختلف أصحابنا في علته:
فقال ابن الحداد: لأن المال قد انتقل إلى ملك وارث الموصي.
ومنهم من قال: هذه العلة غير صحيحة؛ لأنه لو أوصى لرجل بمنفعة داره أو عبده.. صح وإن كان قد انتقل إلى ملك وارثة، وإنما العلة: أنه لم يوص له بعين ولا(8/278)
منفعة عين مع بقائها، فلم يصح، كما لو أوصى أن يقرض فلان كذا وكذا من ماله.
وقال القاضي أبو الطيب: إنما لم يصح لأنه عقد مضاربة على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو قال: قارضتك على هذا المال إذا قدم الحاج.
[فرع أوصى بعطاء لجماعة]
إذا قال: أعطوا زيداً عشرة من ثلثي، وعبد الله عشرة من ثلثي، وخالدا خمسة من ثلثي، وقدموا خالداًً على عبد الله، وكان ثلثه عشرين.. أعطي زيد ثمانية، وخالد خمسة، وعبد الله سبعة؛ لأن الوصية تزيد على الثلث بالخمس. فلو لم يقل: قدموا خالداً على عبد الله.. لوجب أن ينقص كل واحد منهم خمس ما وصى له به، فلما قال: قدموا خالداً على عبد الله.. اقتضى ذلك توفير حصة عبد الله على خالد، ويجعل نقصان حقه من حق عبد الله.
ولو قال: قدموا خالداً على زيد.. لأعطي زيد سبعة، وعبد الله ثمانية، وخالد خمسة.
مسائل من الدور في الهبة: لو أن مريضاً وهب لرجل عبداً يساوي مائة، فقبضه الموهوب له بإذنه، ثم إن الموهوب له مرض، فوهب ذلك العبد من الذي وهبه منه وأقبضه إياه، ولا مال لهما غيره، وماتا من مرضهما ذلك، ولم يجز ورثتهما، فإن قلنا: إن الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور في هذه المسألة وأشباهها، بل تصح هبة الأول في ثلث العبد، ثم يرجع إليه من ذلك الثلث ثلثه- وهو: التسع-.
وإن قلنا بالمذهب، وأن الاعتبار بالتركة حال موت الموصي.. وقع الدور؛ لأن الموهوب لما وهب للواهب.. ازدادت تركته، فتصح هبته في أكثر من ثلث العبد، ثم(8/279)
تصح هبة الثاني في ثلث ما صح له من العبد، فاحتيج إلى قطع الدور فنقول: صحت هبه الأول في شيء من العبد، فلما وهبه الموهوب من الواهب.. رجع إلى الواهب ثلث ذلك الشيء، فمات الواهب الأول وفي يد ورثته عبد يساوي مائة إلا ثلثي شيء تعدل شيئين، فاجبر المائة بثلثي الشيء الذي نقصت به المائة، ورد ذلك على الشيئين المعادلين لها، فتصير مائة تعدل شيئين وثلثي شيء، فأقسط الشيئين أثلاثاً، وضم إليه ثلثي الشيء فيصير ثمانية أجزاء، فالشيء الكامل ثلاثة أجزاء من ثمانية- وهو الذي صحت به هبة الأول- ثم يرجع إلى الأول من هبة الثاني جزء من الثلاثة، فيصير مع ورثته ستة أثمان العبد- وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه- ويبقى مع ورثة الثاني جزءان من ثمانية - وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه.
فلو أن الواهب الأول أعتق هذا العبد بعد أن اتهبه من الثاني.. فإن أبا العباس بن سريج قال: يدخل عتقه في تمام الثلث- وهو سهمان من أربعة وعشرين - فيكون لورثة الموهوب له الأول أربعة أسهم، ويعتق منه سهمان، ويبقى لورثة الواهب الأول ستة عشر سهما مثلا ما خرج منه بالهبة والعتق.
وقال ابن اللبان: هذا خطأ، بل لا يعتق منه شيء؛ لأنه بدأ بالهبة قبل العتق ولم يحتمل الثلث للهبة أكثر من ثلاثة أثمانه، فكيف يصح العتق بعده؟ ولأن هبة الأول قد صحت في تسعة أسهم من أربعة وعشرين، ثم يصح عتقه في سهمين، فيؤدي إلى أن تصح وصيته في أحد عشر من أربعة وعشرين، ويبقى مع ورثته ثلاثة عشر وذلك أقل من مثلي ما خرج منه بالوصية.. وذلك لا يجوز.(8/280)
فإن لم يعتقه الأول ولكن خلف الواهب الثاني ستين درهماً.. فإنك تقول: تصح هبة الأول في شيء من العبد، وتصح هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء وفي قدر ثلث الدراهم التي تركها، فيكون مع ورثة الأول مائة وعشرون درهماً إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الواحد ثلاثة أثمان مائة وعشرين- وهو خمسة وأربعون- وهو الذي صحت فيه هبة الأول- وهو ربع العبد وخمسه-فإذا انضم ذلك إلى تركة الواهب الثاني.. كانت تركته مائة وخمسة، فتصح هبته في قدر ثلث ذلك- وهو خمسة وثلاثون- وهو ثلث شيء وعشرون درهماً، فإذا ضممت ذلك إلى خمسة وخمسين من قيمة العبد بعد الهبة الأولى.. صار ذلك تسعين-وهو مثلا ما صحت فيه هبة الأول- ويبقى لورثة الواهب الثاني عشر العبد، وقيمته عشرة وستون درهما- وهو مثلا ما صحت فيه هبته-
[فرع وهب أخاه في مرض موته فمات قبله]
وإن وهب رجل مريض لأخيه مائة درهم، وأقبضه إياها، فمات الأخ الموهوب له أولاً، وخلف بنتاً وأخاه الواهب له، ثم مات الواهب من مرضه ذلك، ولا مال لهما غير هذه المائة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب نصف ذلك الشيء، فبقي في يد ورثته مائة إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة- وهو أربعون درهماً - وهو الذي صحت فيه الهبة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب منه عشرين، فيصير مع ورثته ثمانون، وهو مثلا هبته.
فإن ترك الموهوب له مائة غير المائة الموهوبة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة الموهوبة، ثم يرث الواهب نصف ذلك الشيء ونصف المائة التي تركها الموهوب له، فيبقى في يد ورثة الواهب مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين،(8/281)
فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء، والشيء الكامل خمسا ذلك - وهو ستون درهماً - فتصح الهبة في ستين درهماً من المائة، ويبقى منها أربعون، فيصير مع الموهوب له مائة وستون، فيرث الواهب نصف ذلك - وهو ثمانون - مع الأربعين التي بقيت من المائة فيصير مع ورثته مائة وعشرون، وهو مثلا هبته.
وهكذا: الحكم فيمن وهب زوجته في مرض موته مائة، وماتت الزوجة قبله ولم تخلف ولداً، وورثها الزوج.
فإن ماتت الزوجة ولا مال لهما غير المائة التي وهبها الزوج، وعليها دين عشرة.. فحسابه أن نقول: تصح الهبة للزوجة في شيء من المائة، يخرج من ذلك الشيء عشرة دينها، ثم يرث الزوج نصف ما بقي بعد الدين، وهو نصف شيء إلا خمسة، فيحصل لورثة الزوج خمسة وتسعون درهما إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصفاً، فالشيء خمسا خمسة وتسعين - وهو ثمانية وثلاثون- وهو الذي صحت فيه الهبة، فيخرج منه دين المرأة- عشرة - فيبقى ثمانية وعشرون، فيرث الزوج نصف ذلك- وهو أربعة عشر- وهو نصف شيء إلا خمسة دراهم، فإذا أضيفت الأربعة عشر إلى اثنين وستين - الذي بقي من المائة - صار ذلك ستة وسبعين، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإن كان الزوجان مريضين، ولكل واحد منهما مائة لا مال له غيرها، فوهب كل واحد منهما مائته لصاحبه وأقبضه، ثم ماتا من مرضهما ذلك، ولا ولد لواحد منهما:
فإن ماتت الزوجة أولا.. بطلت هبتها للزوج؛ لأنه وارثها فتصح الهبة من الزوج لها في شيء، ويرث الزوج نصفه ونصف المائة التي خلفتها، فيصح مع ورثة الزوج مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء،(8/282)
والشيء خمسا ذلك - وهو ستون درهماً- فيضم ذلك إلى مائة الزوجة، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو ثمانون- مع الأربعين التي بقيت من مائة الزوج، فذلك مائة وعشرون، وهو مثلا هبته لها.
وإن مات الزوج أولاً.. بطلت هبته لها؛ لأنها وارثته، ويصح للزوج من هبتها شيء، ثم ترث الزوجة ربعه وربع المائة التي خلفها الزوج، فيجتمع لورثتها مائة وخمسة وعشرون درهماً إلا ثلاثة أرباع شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلاثة أرباع شيء، فإذا قسطت الشيئين أرباعا مع ثلاثة أرباع شيء.. كان ذلك أحد عشر جزءاً، الشيء الكامل: أربعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من مائة وخمسة وعشرين، وذلك خمسة أجزاء من أحد عشر جزءا ًمن مائة الزوجة فتضم هذه الأجزاء إلى مائة الزوج -وهي أحد عشر جزءا- فيكون له ستة عشر جزءاً، ترث الزوجة منه أربعة أجزاء، فتضمه إلى ستة أجزاء بقيت من مائة الزوجة.. فذلك عشرة أجزاء، وهو مثلا ما صحت فيه هبتها:
فإن غرقا ولم يعلم أيهما مات أولاً.. لم يرث أحدهما صاحبه، وصحت الوصية لكل واحد منهما من صاحبه، فنقول:
يكون للمرأة بهبة الزوج شيء تضمه إلى المائة التي لها، فيجوز للزوج من ذلك وصية فيبقى لورثتها مائة درهم وشيء إلا وصية تعدل وصيتين، فإذا جبرت.. صارت المائة والشيء يعدلان ثلاث وصايا، الوصية الواحدة ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم وثلث شيء، فإذا ضممت ذلك إلى تركة الزوج.. صارت تركته مائة وثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الكامل ثلاثة أثمان مائة وثلاثة وثلاثين وثلث درهم وهو خمسون(8/283)
درهماً. وهو الجائز بهبة الزوج فيخرج منه للزوج وصية وقد كانت قيمة الوصية ثلث شيء وثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، فإذا ضممت ذلك.. كان خمسين درهماً، فيصح مع ورثة الزوج مائة مثلا ما صحت فيه هبته، وتصح مع ورثة الزوجة مائة مثلا ما صحت هبتها فيه. وإنما يفيد ذلك في قدر انتقال الملك لك واحد منهما من مائة صاحبه.
[مسألة وهب جارية فأتت بزيادة من مهر أو كسب أو ولد]
إذا وهب في مرض موته لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، فوطئها رجل بشبهة قبل موت سيدها، ومهر مثلها خمسون درهماً، أو كسبت هذه الجارية بعد الهبة والقبض وقبل موت سيدها خمسين درهماً:
فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. فإن جميع المهر والكسب للموهوب له؛ لأنه حدث في ملكه، وإنما يرجع إلى الورثة ثلثاها إذا لم يجيزوا. ولا دور في هذا.
وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لفعله ابتداء عطية منهم.. فقد زادت تركة الميت هاهنا قبل موته:
فإن قلنا: الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور هاهنا أيضاً، فتصح الهبة في ثلث الجارية، وتبطل في ثلثيها، فيكون لورثة الواهب ثلثا الجارية، وثلثا المهر والكسب، وللموهوب له ثلثها، وثلث مهرها، وثلث كسبها.
وإن قلنا بالمذهب: إن الاعتبار بالتركة عند موت الموصي وعليه التفريع.. كان هاهنا دور، فنقول: تصح الهبة في شيء من الجارية، فللموهوب له من المهر والكسب نصف شيء، وللواهب خمسون إلا نصف شيء، فيكون مع ورثته مائة وخمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء الكامل سبعاً مائة وخمسين درهماً , وهو ثلاثة أسباع الجارية , فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها , وتبطل في أربعة أسباعها , فيكون للواهب أربعة أسباع مهرها وهو مهر ما بطلت فيه الهبة - وذلك قدر سبعي رقبتها - فيجتمع لورثة الواهب(8/284)
أربعة أسباع رقبتها ومثل سبعي رقبتها من المهر وذلك مثلاً ما صحت فيه الهبة ويكون للموهوب له على الواطئ ثلاثة أسباع مهرها بقدر ما صحت فيه الهبة يأخذه بغير وصية.
فإن حبلت من هذا الوطء وولدت قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً يوم ولد ... ازدادت تركة الموصى به أيضاً كالمهر، وحسابه: أن الهبة تصح في شيء من الجارية، ويلزم الواطئ المهر خمسون، للموهوب له منه نصف شيء بغير وصية، ويلزم الواطئ قيمة الولد خمسون، للموهوب له منها نصف شيء أيضاً بغير وصية، والباقي من المهر والقيمة للواهب.. فيجتمع لورثة الواهب مائتا درهم إلا شيئين، تعدل شيئين مثلي الوصية، فإذا جبرت.. عدلت المائتان أربعة أشياء الشيء الواحد ربع ذلك - وهو خمسون - وهو نصف الجارية، وتصح الهبة في نصف الجارية وقيمته خمسون، وتبطل في نصفها وقيمته خمسون، فيلزم الواهب نصف المهر خمسة وعشرون، ونصف قيمة الولد خمسة وعشرون، فذلك كله مائة مثلاً ما صحت فيه هبته، وللموهوب له نصف المهر وقيمة نصف الولد بغير وصية.
فإن ولدت الجارية من هذا الوطء بعد موت سيدها.. فهل يكون الولد زائداً في التركة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان.
أحدهما: لا يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد حدث بعد موته فيكون حادثاً في ملك الورثة والموهوب له فيكون الحساب كما لو لم يكن هناك وارث.
والثاني: أنه يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد قد كان موجوداً في ملك السيد، وإنما تأخر التقويم إلى الوضع، فيكون الحساب كما لو ولدت قبل موت سيدها.(8/285)
[فرع وهب جارية عند موته لا مال له غيرها ثم وطئها]
وإن وهب رجل في مرضه المخوف لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، ثم وطئها الواهب، ثم مات من مرضه، ومهر مثلها خمسون، ولم يجز ورثته الهبة:
فإن قلنا: تصح هبته فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله.. لزم الواهب جميع مهرها للموهوب له، فإن طالب بالمهر.. بيع له نصفها بالمهر، وكان له ثلث ما بقي، وهو سدسها بالهبة. وإن اختار الموهوب له أن يملك نصفها بالمهر.. كان أحق به من الأجنبي، فيكون له بمهره وهبته ثلثاها.
وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لذلك ابتداء هبة منهم.. وجب على الواهب مهر ما صحت فيه الهبة من رأس المال، فإن أبرأه الموهوب له مما وجب له من المهر.. صحت له الهبة في ثلث الجارية، وبطلت في ثلثيها. وإن طالب بما وجب له من المهر.. فحسابه أن يقول:
تصح الهبة في شيء من الجارية، وعلى الواهب مهر ما صحت فيه الهبة، وهو نصف شيء بغير وصية، فيبقى في يد ورثة الواهب جارية قيمتها مائة إلا شيئاً ونصف شيء تعدل مثلي الوصية- وهو شيئان - فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، والشيء الكامل سهمان من سبعة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، وتبطل في خمسة أسباعها، فيلزم الواهب سبعا المهر، وهو قدر سبع رقبتها يباع في المهر، ويبقى في يد ورثة الواهب أربعة أسباع الجارية، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. هذا هو المذهب.
وحكى ابن سريج في المهر وجهين آخرين:
أحدهما: أن ما لزم الواهب من المهر يكون من الثلث.
فعلى هذا: تصح الهبة في تسعي الجارية، ويلزمه تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، ويبقى في يد ورثته ستة أتساعها.(8/286)
والثاني: أن المهر هدر. وقد مضى ذكرهما.
وإن ولدت من وطء السيد ولدا قيمته خمسون درهماً.
فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الميت.. لزم الواهب جميع المهر وجميع قيمة الولد، وبيعت الجارية بهما للموهوب له.
وإن قلنا: لا تصح هبته فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. بطلت الهبة، وعتقت بالإحبال من رأس المال؛ لأنه لا ثلث له فتصح الوصية.
فإن ترك الواهب مائتي درهم: صحت الهبة في شيء من الجارية، وعليه نصف شيء من مهرها، وعليه نصف شيء من قيمة ولدها، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة من الجارية؛ لأنه كالمعسر في هذه الحال؛ لأن الهبة قد استغرقت الثلث، فصار كمن أعتق بعد أن وهب ثلث ماله، فلا يصح عتقه، ولا يعتق باقي الأمة بالإحبال من رأس المال، ويبقى في يد الورثة مائتاً درهم إلا شيئاً تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، فإذا قسمت المائتان على الأشياء الثلاثة.. أصاب كل شيء ثلثاً مائة - وهو ثلثا الجارية - وهو ما صحت فيه الهبة، ويلزم الواهب ثلثا مهرها وثلثاً قيمة ولدها من المائتين - وهو ثلثاً مائة - فيبقى مائة وثلاثة وثلاثون وثلث درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
فإن لم يطأها الواهب ولكن وطئها الموهوب له بعد أن قبضها وقبل موت الواهب.. وجب عليه مهر ما بطلت فيه الهبة، وازدادت التركة والهبة، وحسابه: تصح الهبة في شيء من الجارية، ويجب على الموهوب له من المهر خمسون درهما إلا نصف شيء، فيحصل للورثة مائة وخمسون إلا شيئا ونصف شيء تعدل شيئين، فإذا(8/287)
جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء ـ والشيء سبعا ذلك ـ وهو ثلاثة أسباع الجارية، فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها، وتبطل في أربعة أسباعها، ويلزم الموهوب له أربعة أسباع مهرها ـ وهو مثل سبعي رقبتها ـ فإذا ضممت ذلك إلى ما بطلت فيه الهبة.. كان ستة أسباعها، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإن حبلت من هذا الوطء، وولدت منه قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً.. ففيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد له، ولا يلزم الموهوب له من قيمة الولد شيء؛ لأنها تضعه في ملكه.
فعلى هذا: يلزمه قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو أربعة أسباعها ـ ويلزمه أربعة أسباع مهرها.
والثاني: يلزمه من قيمة الولد قدر ما بطلت فيه الهبة؛ لأنها علقت به وهو لا يملك جميعها.
فعلى هذا: تزداد التركة.. فتصح الهبة في شيء، ويلزم الموهوب له من المهر خمسون إلا نصف شيء، ومن قيمة الولد خمسون إلا نصف شيء، فيبقى في يد الورثة مائتان إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرتا.. عدلتا أربعة أشياء، الشيء ربع المائتين، وذلك نصف الجارية، فتصح الهبة في نصفها، ويلزمه قيمة نصفها ونصف مهرها ونصف قيمة ولدها، وذلك كله مثلا ما صحت فيه الهبة.
وعلى القول الذي يقول: تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة إنما هي تنفيذ لما فعله الميت.. لا يلزمه المهر ولا قيمة الولد، وتصح الهبة في ثلثها، وعليه ثلثا قيمتها للورثة، وهو ما لهم أن يردوا الهبة فيه.
وإن ولدت بعد موت سيدها:
فإن قلنا: لا يلزمه شيء من قيمته.. فلا كلام.(8/288)
وإن قلنا: يلزمه من قيمته بقدر ما بطلت فيه الهبة.. فهل تزداد التركة به هاهنا؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن وطئها الواهب والموهوب له في طهر واحد، وأتت بولد.. عرض على القافة، فإن ألحقوه بالواهب ولا مال له غير الجارية.. جازت الهبة في شيء منها، وعلى الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعليه من قيمة الولد بقدر ما صحت فيه الهبة من الجارية ـ وهو نصف شيء ـ ويعتق باقي الأمة بالإحبال، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة؛ لأنه كالمعسر به، وعلى الموهوب له مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فيسقط من ذلك عنه ما وجب له على الواهب من المهر وقيمة الولد ـ وذلك شيء ـ فيبقى عليه خمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرته.. عدل ثلاثة أشياء ونصفاً، فإذا قسمت الخمسين على ذلك؛ لأنه لا مال للواهب إلا ذلك.. كان الشيء الكامل سبعي الخمسين، وذلك الذي صحت فيه الهبة ـ وهو سبع رقبة الجارية ـ ويعتق باقيها بالإحبال، فيلزم الموهوب له ستة أسباع مهرها ـ وهو اثنان وأربعون درهماً وستة أسباع درهم ـ فيسقط من ذلك ما وجب له على الواهب، وهو سبع مهرها وسبع قيمة الولد ـ وهو أربعة عشر درهماً وسبعا درهم ـ فيبقى على الموهوب له ثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة من رقبتها، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له. هذا إذا قلنا: إن هبته لا تصح فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية.
وأما إذا قلنا: تصح الهبة فيما زاد على الثلث وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الموصي.. فلا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها وهي في ملكه.
قال ابن اللبان: وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له وجميع قيمة ولدها، فتفسخ الهبة في الجارية وتباع ويسلم إلى الموهوب له مهرها وقيمة ولدها مائة.
وإن ألحقت القافة الولد بالموهوب له:
فإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، فإن كان وطء الواهب لها قبل وطء الموهوب له.. فحسابه: أن تصح الهبة في شيء من الجارية، وتبطل في(8/289)
باقيها، فيلزم الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعلى الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة من الجارية ـ وهو مائة درهم إلا شيئاً ـ وعليه مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ وقيمة الولد ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فجميع ما يجب عليه مائتان إلا شيئين، فيسقط عنه من ذلك ما وجب له على الواهب ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائتان إلا شيئين ونصفاً تعدل شيئين، فإذا جبرتهما.. عدلتا أربعة أشياء ونصف شيء، الشيء تسعا المائتين ـ وهو أربعة أتساع الجارية، وهو الذي صحت فيه الهبة ـ وقيمته أربعة وأربعون درهماً وأربعة أتساع درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أتساع الجارية وخمسة أتساع مهرها وخمسة أتساع قيمة ولدها؛ وذلك مائة درهم وأحد عشر درهماً وتسع درهم. فإذا سقط عنه ما وجب له على الواهب ـ وهو أربعة أتساع مهرها ـ ومبلغه اثنان وعشرون درهماً وتسعا درهم.. بقي عليه ثمانية وثمانون درهما وثمانية أتساع درهم، وذلك مثلا ما صحت فيه الهبة.
وإذا قلنا: لا يلزم الموهوب له قيمة الولد.. فإنه يؤدي مائة وخمسين درهماً إلاً شيئاً ونصفا، ويسقط عنه ما على الواهب له ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائة وخمسون درهماً إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء، الشيء ربع مائة وخمسين وهو ثلاثة أثمان الجارية، فتصح فيه الهبة، وقيمته سبعة وثلاثون درهماً ونصف درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أثمانها وخمسة أثمان مهرها، ويسقط عنه ثلاثة أثمان مهرها الذي على الواهب، فيبقى عليه خمسة وسبعون درهماً، وهو مثلا الهبة.
وأما إذا قلنا: إن المريض تصح هبته فيما زاد على ثلث التركة وإجازة الوارث تنفيذ لما فعله الميت.. فلا مهر على الموهوب له، ولا قيمة ولد؛ لأنها ملكه يوم الوطء، وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له ـ وهو خمسون درهماً ـ وذلك نصف قيمة الجارية، وتصح الهبة في ثلث باقيها ـ وهو سدسها ـ وعلى الموهوب له قيمة خمسة أسداسها، فيقاص بقيمة نصفها من المهر له ويبقى عليه ثلاثة وثلاثون درهماً وثلث(8/290)
درهم مثلا الهبة، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له على هذا القول.
وإن وطئها الواهب بعد وطء الموهوب له، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم، فإن قلنا: لا تعتق حصة الشريك إلا بعد أداء القيمة.. كان الجواب فيها كما لو وطئها الواهب قبل الموهوب.
وإن قلنا: تعتق حصة الشريك قبل أداء القيمة.. كان جميعها أم ولد للموهوب له، ويكون على الواهب جميع مهرها وهو خمسون درهماً؛ لأنه وطئها بعد أن صارت أم ولد للموهوب له، فيلزم الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو مائة إلا شيئاً ـ ومهر ذلك ـ وهو خمسون درهما إلا نصف شيء ـ يسقط منها ما وجب له على الواهب ـ وهو خمسون درهماً ـ يبقى على الموهوب له مائة درهم إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء سبعا المائة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أسباعها وخمسة أسباع مهرها، فإذا سقط منه خمسون درهماً.. بقي عليه سبعة وخمسون درهماً وسبع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة.
[مسألة وهب جارية في مرض موته]
ولو وهب زيد في مرض موته جارية له عمراً، وأقبضه إياها، فوطئها عمرو، ثم وهبها عمرو في مرض موته زيداً، وأقبضه إياها، وماتا من مرضهما، وقيمة الجارية مائة، ومهر مثلها خمسون، ولا مال لهما غير الجارية، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث من تركته، واعتبار التركة يوم الموت.. فحسابه:
تجوز الهبة لعمرو في شيء من الجارية، وتبطل في جارية إلا شيئاً، فيؤدي عمرو من الشيء مهر ما بطلت فيه الهبة، وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء.
وكيفية ذلك: أن تجبر الخمسين الدرهم بنصف الشيء الذي نقص منها، ويرتد ذلك على الشيء المستثنى منه، ثم نستثني من الشيء ومما زيد عليه خمسين فنقول(8/291)
بقي مع عمرو شيء ونصف شيء إلا خمسين درهماً، فتصح هبته لزيد في ثلث ذلك ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ ويبقى مع ورثة عمرو شيء إلا ثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئا يعدل شيئين، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئاً يعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء الواحد ثلث ذلك ـ وهو أربعة أتساع الجارية ـ فتصح الهبة في أربعة أتساع الجارية، وتبطل في خمسة أتساعها، فيلزم عمراً خمسة أتساع مهرها، وهو قدر تسعي رقبتها ونصف تسعها. فإذا خرج ذلك من أربعة أتساعها.. بقي معه تسعها ونصف تسعها، فتصح هبته لزيد في نصف تسعها ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ فيجتمع لزيد ثمانية أتساعها، وهو مثلا ما صحت فيه هبته لعمرو.
فإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، ثم وهبها عمرو من زيد.. صحت هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء، فتصح هبته لزيد في ثلث ما بيده ـ وهو نصف شيء ـ فيكون مع زيد جارية قيمتها مائة إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء ثلثها، فتصح هبة زيد لعمرو في ثلث الجارية، ويجب على زيد لعمرو ثلث مهرها وهو مثل سدسها، فلما وهبها عمرو من زيد ... صحت هبته في سدسها، فاجتمع لورثة زيد ثلثا الجارية ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ وبقي لورثة عمرو ثلث الجارية ـ مثلا هبته لزيد ـ.
وإن وطئها زيد بعد أن وهبها منه عمرو وأقبضه إياها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وهبها عمرو من زيد.. صحت هبته له وصية، وبقي مع عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بقي في يد عمرو، وقدر ذلك المهر نصف شيء إلا نصف وصية، فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار شيء ونصف شيء يعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهي ثلاثة أسباع شيء، فتصح(8/292)
هبة عمرو لزيد في ثلاثة أسباع شيء، وتبطل في أربعة أسباع شيء، ويجب على زيد مهر أربعة أسباع شيء وذلك قدر سبعي شيء، فيجتمع لورثة عمرو ستة أسباع شيء ـ وهو مثلا ما صحت فيه هبته ـ ويجتمع لورثة زيد جارية قيمتها مائة درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت شيئين وستة أسباع شيء فإذا قسطت الشيئين أسباعاً وضممت إليها الستة الأسباع.. كان ذلك عشرين، فالشيء الكامل سبعة أسهم من عشرين، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو، ثم يرجع إلى زيد بهبة عمرو ثلاثة أجزاء من هذه السبعة، فيبقى مع عمرو أربعة أجزاء، ثم يغرم له زيد بالمهر جزأين، فيكون معه ستة أجزاء ـ وهو مثلا هبته ـ ويبقى مع زيد أربعة عشر جزءاً، وذلك مثلا هبته لعمرو.
وإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو.. فإنه يصح لعمرو بهبة زيد شيء من الجارية، وتصح لزيد من عمرو من الشيء وصية، فيبقى مع عمرو شيء إلا وصية، ومع زيد مائة درهم ووصية إلا شيئاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه مهر ما في ملك زيد فيها، وقدر ما عليه من المهر نصف وصية وخمسون درهماً إلا نصف شيء، يخرج ذلك مما في يده فيبقى معه شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية، وإلا خمسين درهماً تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار ذلك شيئاً ونصف شيء إلا خمسين درهماً تعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهو ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم. فإذا جمعت ما بيد زيد من الذي لم تصح فيه الهبة منه ومن هبة عمرو له ومن المهر على عمرو.. كان معه مائة وخمسون درهماً ووصية ونصف وصية إلا شيئاًَ ونصف شيء، فاجعل مكان الوصية ونصف الوصية قيمتها ـ وذلك أربعة أسباع شيء ونصف سبع شيء إلا أحداً وعشرين درهماً وثلاثة أسباع درهم ـ فيصير معه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت..(8/293)
عدلت شيئين وستة أسباع شيء فابسط الشيئين أسباعاً، وضم إليها الستة الأسباع، فتصير عشرين سهماً. والدراهم الزائدة على المائة، سبعا المائة فابسط المائة أسباعاً، وضم إليها سبعي المائة، فذلك تسعة أسهم، فالشيء تسعة أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، وهو ربعها وخمسها، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو: فلما وهب عمرو لزيد.. صح له من هبته وصية، والوصية ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم، وذلك سهم من التسعة، فيبقى مع عمرو ثمانية أجزاء ومع زيد اثنا عشر جزءاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد بالمهر نصف ما بيد زيد من الجارية؛ لأن المهر نصف قيمتها، وذلك ستة أجزاء.. فيصير مع زيد ثمانية عشر جزءاً ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ ويبقى مع ورثة عمرو جزآن ـ وهو مثلا هبته لزيد ـ.
فأما إذا وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، وقيمتها ثلاثمائة ومهر مثلها مائة ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد مهر ما لم تصح فيه الهبة وقدر ذلك المهر مائة درهم إلا ثلث شيء، ثم لما وهبها عمرو من زيد.. صح من هبته له وصية، وبقي في يد عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بيد عمرو منها، وقدر المهر على زيد ثلث شيء إلا ثلث الوصية. فإذا جمعت ما بيد زيد مما لم تصح فيه هبته، والمهر الذي على عمرو، وهبة عمرو له.. كان جميع ذلك وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاًَ وثلث شيء، فأسقط من ذلك ما وجب عليه لعمرو بالمهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية ـ فأكمل ثلث الشيء بثلث الوصية الناقصة، ثم رد ثلث الوصية إلى الوصية مع الدراهم الأربعمائة، ثم استثن ثلث الشيء مما في يد زيد، فيبقى معه وصية وثلث وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاً وثلثي شيء، ثم اجمع ما بيد عمرو من هبة زيد له ومما غرم له زيد بالمهر، وذلك شيء وثلث شيء، إلا ثلث وصية وقد غرم من ذلك مائة درهم إلا ثلث شيء ووهب وصية لزيد، فإذا أردت إخراج ذلك مما بيده.. أكملت المائة بثلث الشيء(8/294)
الناقص منها، وزدت ذلك الثلث على الشيء وثلث الشيء إلا ثلث وصية، ثم استثن من ذلك مائة درهم ووصية، فنقول: بقي مع عمرو شيء وثلثا شيء إلا وصية وثلث وصية وإلا مائة درهم ـ وهذا الذي بيد عمرو ـ يعدل وصيتين، فاجبر شيئاًَ وثلثي شيء إلا مائة درهم وإلا وصية وثلث وصية بالوصية وثلث الوصية الناقص، ورد ذلك على الوصيتين، فتصير شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم تعدل ثلاث وصايا وثلث وصية، فاضرب الثلاث الوصايا في ثلاثة، وضم إليها ثلث الوصية، فتصير عشرة، فاقسم شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم على عشرة، واجمع ما يخص ثلاثة أجزاء ـ لأنها أجزاء الوصية ـ فيخص الوصية الكاملة ثلاثة أعشار شيء وثلثي شيء إلا ثلاثين درهماً ـ وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهماً ـ فنعلم أن هذه قيمة الوصية، ثم ارجع إلى ما بيد زيد، وهو أربعمائة درهم ووصية وثلث وصية إلا شيئاً وثلثي شيء، فانظر قيمة وصية وثلث وصية.. تجد ذلك ثلثي شيء إلا أربعين درهماً، فاجعلها مكان الوصية وثلث الوصية، فيحصل في يد زيد ثلاثمائة درهم وستون درهماً إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. صارت ثلاثمائة وستين تعدل ثلاثة أشياء، الشيء ثلث ذلك ـ وهو مائة وعشرون درهماً ـ فهذا الذي صحت فيه هبة زيد لعمرو، وذلك خمسا الجارية، وتبطل الهبة في ثلاثة أخماسها، فيجب له على عمرو ثلاثة أخماس مهرها ـ وهو ستون درهماً ـ وذلك مائة درهم إلا ثلث شيء، ويخرج منه وصية، وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهما ـ وهو ثلاثون درهماً ـ فبقي معه ثلاثون درهماً، ثم يرجع إلى عمرو ما وجب له على زيد من المهر، وهو ثلاثون درهماً ـ ثلاثة أعشار المهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية، فيجتمع لعمرو ستون درهماً مثلا الوصية التي خرجت منه، ويجتمع لورثة زيد مائتان وأربعون مثلا هبته لعمرو.
والله أعلم(8/295)
باب الرجوع في الوصية يجوز للموصي أن يرجع فيما أوصى به؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد موته، فجاز له الرجوع فيها، كما لو وهب لغيره شيئاً، ثم رجع الواهب قبل قبول الموهوب له.
و (الرجوع) : هو أن يقول: رجعت في الوصية لفلان، أو أبطلتها أو رددتها أو فسختها أو ما أشبه ذلك: فإن قال: حرام على فلان ما أوصيت له به.. كان رجوعاً؛ لأنه لا يجوز أن يكون له وهو حرام عليه.
وإن قال: هو لورثتي.. كان رجوعاً؛ لأن ذلك ينافي الوصية.
وإن قال: هو تركتي.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأن التركة للورثة.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن الموصى به من التركة.
[مسألة أوصى لرجل بثلث ونحوه ثم لآخر مثله]
وإن أوصى لرجل بثلث ماله، أو بعين من ماله، ثم أوصى بثلث ماله، أو بتلك العين لرجل آخر ولم يتعرض للوصية الأولى.. فليس برجوع في الأولى، فإن أجاز الورثة وصيته في الثلثين.. استحق كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا وصيته في الثلثين، أو كانت وصيته في العين.. قسم ذلك بينهما إذا احتمل الثلث العين الموصى بها. وبه قال ربيعة، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الحسن، وعطاء، وطاووس، وداود: (يكون هذا رجوعاً في الوصية الأولى) .(8/296)
ودليلنا: أن كل واحد من الموصى لهما قد ساوى صاحبه وقت الوجوب، فقسم بينهما، كما لو أوصى لهما بثلث ماله أو بعين من ماله في حالة واحدة.
وإن أوصى لأحدهما بثلث ماله، ثم أوصى لآخر بثلث ماله، فرد أحدهما وصيته.. توفر جميع الثلث على الذي لم يرد؛ لأنه قد أوصى له بثلث ماله، وليس هاهنا من يزاحمه فهو كما لو لم يوص إلا له.
[فرع وصى لرجل بشيء ثم قال هو لآخر]
وإن وصى لرجل بشيء، ثم قال: ما أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان.. فهو رجوع عن وصيته الأولى؛ لأنه قد نقل الوصية من الأول إلى الثاني، وصرح بذلك.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه يكون بينهما، والأول أصح.
[مسألة أوصى بعبد ثم باعه]
وإن وصى لرجل بعبد، ثم باعه، أو وهبه وأقبضه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو أوصى للعبد بشيء من ذلك.. كان رجوعاً في الوصية الأولى؛ لأن هذه الأشياء تنافي مقتضى الوصية؛ لأن الوصية تمليك بعد الوفاة، فينبغي أن يكون الموصى به على ملكه حتى يقع تملكه بعده.
وإن عرضه للبيع، أو وهبه لآخر فلم يقبل، أو رهنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك رجوع في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن ملكه لم يزل عنه، والأول أصح.
وإن وصى بثلث ماله، ثم باع ماله.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ماله معتبر عند الموت.(8/297)
[فرع أوصى بعبد ثم دبره]
] : وإن أوصى لرجل بعبد، ثم دبره، فإن قلنا: إن التدبير تعليق عتق بصفة.. كان رجوعاً في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك.
وإن قلنا: إن التدبير وصية، فإن قلنا: العتق يقدم على سائر الوصايا.. كان ذلك رجوعاً في الوصية. وإن قلنا: لا يقدم العتق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنه ليس برجوع في الوصية.. فيكون نصفه موصى به، ونصفه مدبراً، كما لو أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه رجوع؛ لأن التدبير أقوى؛ لأنه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول.
[مسألة زيادة الموصى به]
وإن أجر الموصى به، أو علمه صنعة أو زوجه، أو ختنه، أو استخدمه، أو أنفق عليه.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ذلك لا ينافيها.
وإن وصى لرجل بجارية فوطئها الموصي: فإن عزل عنها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن ذلك استيفاء منفعة، فهو كالاستخدام. وإن لم يعزل عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس برجوع، كما لو عزل عنها.
والثاني: وهو قول ابن الحداد، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] ، والقاضي أبي الطيب ـ: أنه رجوع، كما قال الشافعي: (إذا حلف لا يتسرى بجارية فوطئها ولم يعزل عنها.. كان حانثاً في يمينه) ولأنه عرضها للإحبال وزوال الملك، فهو كما لو عرضها للبيع.(8/298)
[مسألة خلط الموصي الطعام]
] : وإن وصى له بطعام متميز فخلطه بغيره.. كان رجوعاً سواء خلطه بمثله أو بأجود منه، أو بأردأ منه؛ لأنه لا يمكن تسليم الطعام الموصى به.
وإن أوصى له بصاع من صبرة، ثم خلط الصبرة بمثلها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الموصى به مختلط بغيره، فلا يضر خلط الصبرة بمثلها.
وإن خلط الصبرة بأجود منها.. كان رجوعاً؛ لأنه أحدث بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها.
وإن خلط الصبرة بأردأ منها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه ليس برجوع، كما لو خلطها بمثلها. وما حدث من النقص لا يقتضي الرجوع، كما لو أتلف بعضها.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : لا يكون رجوعاً، سواء زادت أو نقصت؛ لأن الاسم باق عليها.
وإن نقل الطعام إلى بلد أبعد من بلد الموصى له.. ففي ذلك وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه لو لم يرد الرجوع.. لما نقله عنه.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه باق على صفته.
[فرع تصنيع الموصى به]
وإن وصى له بطعام فطحنه أو جعله سويقاً، أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم.(8/299)
وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه يقال: خبز مدقوق.
وإن وصى له برطب فجعله تمراً، أو بلحم فطبخه أو شواه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم.
والثاني: ليس برجوع؛ لأنه أبقى له.
وإن وصى له بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم. وإن وصى له بقطن فحشا به فراشاً.. ففيه وجهان.
أحدهما: أنه ليس برجوع؛ لأن اسم القطن باق عليه.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنه جعله للاستهلاك.
وإن وصى له بشاة فذبحها.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنها الاسم.
وإن وصى له بثوب فغسله.. لم يكن رجوعاً؛ لأنه باق. وإن قطعه قميصاً، أو وصى له بخشبة فشقها باباًَ.. ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنهما اسم الثوب والخشبة.
والثاني: ليس برجوع؛ لأن الاسم باق عليهما.
[فرع إزالة اسم العين الموصى بها]
وإن وصى له بدار فهدمها الموصي.. بطلت الوصية فيها؛ لأنه تصرف أزال به الاسم، فكان رجوعاً، كما لو أوصى له بحنطة فطحنها.
وإن انهدمت في حياة الموصي، فإن لم يزل عنها اسم الدار.. لم تبطل الوصية فيما لم ينفصل عنها. وأما ما انفصل عنها من أحجار وآجر وأخشاب.. فالمنصوص: [أنه لورثة الموصي] ؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهو منفصل.
ومن أصحابنا من قال: إنه للموصى له؛ لأن الوصية تناولته. وليس بشيء.(8/300)
وإن زال عنها اسم الدار، بأن صارت براحاً، فإن قلنا: إن الآلة التي انفصلت عنها في الأولى للموصى له.. لم تبطل الوصية هاهنا في الآلة والعرصة.
وإن قلنا بالمنصوص.. فإن الآلة لورثة الموصي، وفي العرصة وجهان:
أحدهما: أنها للموصى له؛ لأنها ثبوت الدار.
والثاني ـ وهو المذهب: - أن الوصية تبطل بها أيضاً؛ لأنه لا يقع عليها اسم الدار.
وإن انهدمت بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له، ثم قبل.. فإن الدار وما انفصل عنها للموصى له؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهي متصلة بالدار.
ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الموصى له ملك بالموت.. كان الجميع له. وإن قلنا: إنه ملك بنفس القبول.. كان ما انفصل عنها لورثة الموصي.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه يلزم على هذا: إذا خربت الدار كلها بعد الموت وقبل القبول، وقلنا: إن ملكه بالقبول.. أن الوصية تبطل وتكون لورثة الموصي! وما قال هذا أحد من أصحابنا.
وإن وصى له بدار، ثم بنى عليها بيتاًَ آخر، فإن قلنا: إن المنفصل عنها في حياة الموصي لورثة الموصي.. كان البيت الملحق بالدار لهم. وإن قلنا: إن المنفصل للموصى له.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] : كان البيت الملحق للموصى له أيضاًَ.
[فرع استعمال الموصى به]
وإن وصى له بأرض فزرعها.. لم يكن رجوعاً، كما لو وصى له بدار فسكنها. وإن غرسها أو بنى فيها.. ففيه وجهان:(8/301)
أحدهما: أنه ليس برجوع، كزراعتها.
والثاني: أنه رجوع؛ لأنهما يرادان للبقاء.
فإذا قلنا بالأول.. ففي موضع الغراس وقرار البناء وجهان:
أحدهما: أن ذلك ليس برجوع فيه، كالبياض الذي بين ذلك.
والثاني: أنه رجوع فيه؛ لأنه تابع لما عليها.
[فرع وصى بمنفعة دار سنة ثم أجرها]
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن أوصى له بمنفعة داره سنة، ثم أجرها دون السنة.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الإجارة قد تنقضي قبل موت الموصي، فإن مات قبل انقضاء الإجارة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل الوصية فيما بقي من مدة الإجارة.
والثاني: لا تبطل، بل يسكن الموصى له سنة بعد انقضاء مدة الإجارة.
والله أعلم(8/302)
باب الأوصياء لا تصح الوصية إلا إلى بالغ عاقل مسلم عدل، حر؛ لأن الوصية تقتضي ولاية وأمانة، وذلك لا يصح إلا ممن جمع هذه الشرائط.
أما (الولاية) : فلأن الوصي يلي أموال الأطفال وتفرقة ثلث الميت.
وأما (الأمانة) : فلأن المال يكون عنده.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط.. لم يكن من أهل الولاية والأمانة. فإن أوصى إلى صبي أو مجنون.. لم تصح الوصية؛ لأنه مولى عليهما، فلا يملكان الولاية على غيرهما وهذا إجماع.
وإن أوصى إلى مسلم فاسق.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الوصية تقتضي ولاية وأمانة كما ذكرناه، والفاسق ليس من أهل الولاية والأمانة.
وإن وصى مسلم إلى كافر.. لم تصح الوصية؛ لأن الفسق ينافي الوصية، فالكفر أولى، وهو إجماع أيضاً.
وإن وصى كافر إلى كافر: فإن كان الكافر غير رشيد في دينه.. لم تصح الوصية إليه، كالوصية إلى المسلم الفاسق. وإن كان الوصي رشيداً في دينه.. ففيه وجهان:(8/303)
أحدهما: يصح؛ لأنه يجوز أن يكون ولياً له، فجاز أن يكون وصياً له.
والثاني: لا يصح، كما لا يكون شاهداً له.
أما الوصية إلى العبد: فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي إلى: أن الوصية لا تصح إليه بحال، سواء أوصى إلى عبد نفسه أو إلى عبد غيره، بإذن سيده أو بغير إذنه، وسواء كان ورثته كباراً أو صغاراً، أو بعضهم كباراً وبعضهم صغاراً. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور.
و [الثاني] : ذهب مالك: إلى أن الوصية تصح إلى عبده وإلى عبد غيره إذا أذن له سيده.
و [الثالث] : ذهب الأوزاعي، وابن شبرمة إلى أنه: إن أوصى إلى عبد نفسه.. صح. وإن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح بحال.
و [الرابع] : قال أبو حنيفة: (إن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح. وإن أوصى إلى عبد نفسه.. نظرت: فإن كان في ورثته كبير يلي.. لم يصح. وإن كانوا كلهم صغاراً.. صح) .
دليلنا: أنه مولى عليه فلم تصح الوصية إليه، كالمجنون.
قال الشافعي: (ولا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى المكاتب، وأم الولد، والمعتق بصفة، ولا إلى المعتق بعضه؛ لأن بعض الرق حاصل فيهم، فهم بمنزلة العبد) .
[فرع: وصاية المرأة]
وإذا جمعت المرأة الشرائط الخمس.. جازت الوصية إليها، وهو قول كافة العلماء إلا عطاء، فإنه قال: لا يجوز.(8/304)
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
فجوز لها أن تنفق على أولادها الصغار.
وروي: (أن عمر أوصى إلى ابنته حفصة) ، ولا مخالف له.
وإن جمع الأعمى الشرائط الخمس.. فهل تصح الوصية له؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لأنه من أهل الشهادة.
والثاني: لا تصح؛ لأن الوصي يراد للنظر، والأعمى لا يصلح للنظر.
[مسألة شرائط الوصي تعتبر عند الموت]
ومتى يعتبر وجود الشرائط الخمس في الوصي؟ فيه ثلاثة أوجه:
[أحدها] : من أصحابنا من قال: يعتبر وجودها عند موت الموصي دون ما قبله؛ لأن الوصي إنما يستحق النظر في تلك الحال دون ما قبله، فاعتبر حاله فيه كما يعتبر كون الشخص وارثاً عند موت المورث دون ما قبله.(8/305)
و [الثاني] : منهم من قال: يعتبر وجود الشرائط في الوصي عند عقد الوصية، وعند موت الموصي دون ما بينهما؛ لأن وقت الوصية حال الإيجاب، ووقت الموت حال القبول.
و [الثالث] : منهم من قال: تعتبر وجود الشرائط في الوصي من حين الوصية إلى أن يموت الموصي؛ لأن كل وقت من ذلك يجوز أن يموت فيه الموصي فيستحق الوصي فيه النظر.
قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح. قيل له: فكيف يكون الأول أصح وقد قال الشافعي: (لا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى أم الولد) ، وكل واحد منهما يعتق بوفاته فتكمل فيه الشرائط؟ فقال: يحمل قوله هذا على أنه أراد: مدبر غيره، وأم ولد غيره.
فإن أوصى إلى من جمع الشرائط، ثم تغيرت حال الوصي بعد موت الموصي، فإن تغير لضعف عن الحساب أو الحفظ.. لم ينعزل بذلك، بل يضم إليه الحاكم أميناً يعاونه؛ لأن الضعف لا ينافي الولاية، بدليل: أن الأب والجد يليان مال ولدهما وإن كان فيهما ضعف.
ولو كان الحاكم هو الذي نصب الأمين فضعف. فله عزله؛ لأنه نصبه.
وإن فسق الوصي أو جن.. انعزل عن الوصية؛ لأن الفسق والجنون ينافيان الولاية، بدليل: أن الأب والجد والحاكم إذا فسق واحد منهم أو جن.. بطلت ولايته.
[مسألة الوصية إلى اثنين]
فإذا أوصى إلى اثنين.. صح، كالوكالة. فإن وصى إليهما، وإلى كل واحد منهما، مثل أن يقول: أوصيت إليكما، وإلى كل واحد منكما، أو لكل واحد منكما أن يتصرف على الانفراد.. صح. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. صح أيضا؛ لأن كل واحد منهما كالوصي المنفرد.(8/306)
وإن مات أحدهما أو فسق أو جن.. لم يضم الحاكم إلى الآخر غيره؛ لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما.
وإن قال: أوصيت إليكما على أن لا ينفرد أحدكما بالنظر والتصرف.. لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. نظرت: فإن كان في رد وديعة أو مغصوب.. وقع موقعه؛ لأن للمودع والمغصوب أن يأخذ ماله بغير واسطة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : وهكذا لو كان ما انفرد به قضاء دين من جنسه، أو وصية بشيء معين.. فلا ضمان على المنفرد بذلك منهما. وإن كان ما انفرد به مما يفتقر إلى الاجتهاد، كتفرقة الثلث على الفقراء وما أشبهه.. لم يصح، وكان على المنفرد بذلك الضمان؛ لأن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد، ولم يرض الموصي باجتهاده وحده.
فإن قال: أوصيت إليكما في كذا وأطلق، ولم يأذن لكل واحد منهما في التصرف على الانفراد ولا منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد.. فحكمه عندنا حكم ما لو منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد.
وقال أبو يوسف: لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف.(8/307)
وقال أبو حنيفة ومحمد: (إن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما في التصرف.. لم يصح إلا في ستة أشياء: [الأول] : في شراء كفن الموصي، و [الثاني] : تفرقة ثلثه، و [الثالث] : قضاء ديونه، و [الرابع] : رد الودائع، و [الخامس] : الغصوب، و [السادس] : إطعام اليتيم وكسوته.. فأما ما عدا ذلك من شراء العقار لليتيم وسائر العقود.. فلا يصح) .
دليلنا: أنه مشترك بينهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كما لو وكل وكيلين في شراء شيء أو بيعه، ولأن الجهة التي ملك بها الوصي النظر في الستة الأشياء هي الجهة التي ملك بها النظر في غيرها، فإذا لم يملك النظر فيما عدا الستة الأشياء.. لم يملك النظر في الأشياء الستة.
إذا ثبت هذا: فإن اجتمع الوصيان معا على التصرف.. جاز. وإن تشاحا، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر أو أفعل، أو قال: لا أفعل أنا.. قال الشيخ أبو حامد: وقف الأمر ليتفقا ما لم يطل تشاحهما فإن طال.. أقام الحاكم عدلين لينظرا؛ لأن هذا موضع ضرورة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 440] : فإذا استناب أحدهما آخر عن نفسه ليتصرف مع الآخر.. جاز؛ لأن رأي الاثنين حاصل.
فإن مات أحدهما، أو فسق، أو جن.. لم يكن للآخر أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقيم آخر مع الباقي منهما.
فإن أراد الحاكم أن يفوض النظر إلى الباقي منهما، أو ماتا، أو فسقا فأراد الحاكم تفويض النظر إلى عدل واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن النظر قد صار إلى الحاكم، فجاز أن يكون الباقي أميناً من قبل الحاكم ووصياً من الموصي.
والثاني: لا يصح؛ لأن الموصي لم يرض إلا بنظر اثنين.(8/308)
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إذا اختلفا.. قسم بينهما ما كان ينقسم، وجعل في أيديهما نصفين، وأمرا بالاحتفاظ بما لم ينقسم) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو إسحاق: إنما عطف الشافعي بهذا على الأولى، وهي: إذا أوصى إليهما وإلى كل واحد منهما، فاختلفا في النظر والتصرف، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر وحدي، فإن كان الشيء مما ينقسم.. قسم بينهما ودفع إلى كل واحد منهما نصفه لينظر فيه ويتصرف به؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
قال: ولا يقسم بينهما كقسمة الأملاك ولكن على جهة التقريب والتعديل، بأن يقوم ويدفع إلى كل واحد منهما شيء بقيمته؛ لأنه ليس بإقرار ملك وإنما هو للنظر. فأما إذا أوصى إليهما معاً أو أوصى إليهما وأطلق.. فلا يقسم بينهما؛ لأن الموصي لم يرض أحدهما، ولكنهما يجتمعان على النظر.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة معطوفة على ما إذا أوصى إليهما معاً ومنع أحدهما عن الانفراد في التصرف، أو وصى إليهما وأطلق، وتشاحا في الحفظ لا في النظر، فقال كل واحد منهما: أنا أحفظه إلى وقت النظر، فإن كان بحيث لا ينقسم.. كان تحت أيديهما معاً. وإن كان مما ينقسم.. قسم بينهما نصفين؛ لأنه يتعذر اجتماعهما على حفظه. وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق والمسعودي [في " الإبانة " ق\440] .
[فرع توقيت مدة الوصاية]
] : إذا أوصى إليه في شيء مدة.. لم يصر وصياً بعد انقضاء المدة.
وإن وصى إليه في جهة من التصرف.. لم يصر بها وصياً له في غيرها من الجهات. وبه قال أبو يوسف ومحمد.(8/309)
وقال أبو حنيفة: (إذا أوصى إليه في جهة.. كان وصياً فيها وفي غيرها من الجهات، مثل أن يوصي إليه في تفرقة ثلثه، فإنه يكون وصياً في ذلك وفي قضاء ديونه ورد ودائعه، وكذلك إذا أوصى إليه في نفقة أولاده الصغار.. صار وصياً بالنفقة عليهم، وبحفظ أموالهم، والعقد عليها وغير ذلك) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يجاوز نظره إلى غير ما ولي فيه، كالوكيل، وعكسه الأب والجد.
[مسألة توكيل الوصي]
إذا أوصى إليه بشيء.. فللوصي أن يوكل غيره في كل ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، كما قلنا في الوكيل.
وإن وصى إليه بشيء يقدر عليه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره فيه؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: لا يجوز، كما قلنا في الوكيل.
والثاني: يجوز، وهو المذهب؛ لأن تصرف الوصي بولاية؛ لأنه يتصرف فيما لم ينص له عليه، فجاز له التوكيل فيما يقدر عليه، كالأب والجد والحاكم، بخلاف الوكيل.
[فرع عدم الإذن للوصي بأن يوصي]
إن أوصى إلى رجل ولم يأذن الموصي للوصي أن يوصي.. فللوصي أن يتصرف ما عاش، وليس له أن يوصي إلى غيره به. وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وقال الثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه) للوصي أن يوصي) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يملك الإيصاء، كالوكيل، وفيه احتراز من الأب والجد.
وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث من فسق، أو جنون، أو موت(8/310)
فقد أوصيت إلى فلان.. صح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث جيشاً وقال: " أميركم فلان، فإن أصيب.. ففلان، فإن أصيب.. ففلان» .
وإذا ثبت ذلك في الولاية.. ثبت في الوصية.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى إلى ابنته حفصة، فإذا ماتت.. فإلى ذوي الرأي من أهلها) .
و: (أوصت فاطمة إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإذا مات.. فإلى ابنيهما - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) .
وإن أوصى إلى رجل وأذن للوصي أن يوصي عن الموصي.. قال ابن الصباغ: صح ذلك قولا واحداً.
وإن وصى إليه أن يوصي عن نفسه.. ففيه قولان.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنه إذا قال: أوصيت إليك، أو أذنت لك إن حدث بك موت أن توصي إلى من شئت، أو قال: إن حدث بك موت فمن أوصيت إليه فهو وصيي، أو قال: من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه.. فالحكم في الجميع واحد.
قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع آخر: (لا يجوز) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجوز ذلك قولا واحداً، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأن الموصي يملك التصرف بنفسه، ويملك أن يملك غيره التصرف بعد موته وهو الوصي، فلما كان للموصي أن يملك غيره التصرف.. ملك أن يملك غيره التولية؛ لأن الوصية آكد من الوكالة، فلما كان للوكيل أن يوكل بإذن(8/311)
الموكل.. كان للوصي أن يوصي إلى غيره بإذن الموصي.
ومنهم من قال: فيه قولان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: يجوز. وبه قال أبو حنيفة والثوري؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجوز. واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن الوصي يعقد الوصية عن الميت بإذنه ولا إذن للميت في حال لا ولاية للميت - لأنه ليس من أهل الولاية، فلم يصح.
وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث، فأوص إلى فلان، فإن قلنا في التي قبلها: يصح قولاً واحداً.. فهاهنا أولى أن يصح.
وإن قلنا في التي قبلها: إنها على قولين.. ففي هذه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين؛ لأنا إنما منعنا الوصية؛ لأن الوصي يعقد الوصية لآخر عن إذن من لا إذن له في حال العقد، وهذا المعنى موجود هاهنا.
ومنهم من قال: يصح هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الموصي قطع اجتهاده بالتعيين. قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح.
[فرع يشترط قبول الوصي]
] : وإذا أوصى إليه.. لم يملك الوصي التصرف إلا بالقبول، كما لو وصى له. فإن قبل بعد موت الموصي.. صح، كالوصية له. وإن قبل قبل موت الموصي. فهل يصح قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كالوصية له.
والثاني: يصح؛ لأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بعد الإيجاب، كالوكالة.
فإذا قلنا بهذا: فللوصي أن يعزل نفسه في حياة الموصي. فإذا عزل نفسه.. انعزل ولم تعد الوصية إليه إلا بوصية أخرى، وسواء عزل نفسه بحضرة الموصي أو بغيبته.(8/312)
وقال أبو حنيفة: (إذا عزل نفسه في حياه الموصي.. لم ينعزل حتى يرده في وجهه) يعني: بحضرته.
دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى حضوره، كالوكالة والطلاق.
وإن قلنا: لا يصح قبوله إلا بعد موت الموصي.. فلا حكم بعزله نفسه في حياة الموصي.. فإن قبل الوصية بعد موت الموصي ثم عزل نفسه.. انعزل ورفع الأمر إلى الحاكم، ليقيم غيره مقامه.
وقال أبو حنيفة: (إذا مات الموصي وقبل الوصي الوصية.. لزمت الوصية إليه، فلا يملك عزل نفسه، ولا يملك الحاكم عزله إلا بأن يعجز أو يقر بالعجز، فيقيم الحاكم مقامه) .
دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فملك عزل نفسه كالوكيل. وللموصي أن يعزل الوصي؛ لأنه أذن له في التصرف، فجاز له عزله، كالموكل.
[مسألة ما يقوم به الوصي]
] : قال الشافعي: (ويخرج الوصي من مال اليتيم كل ما لزمه من زكاة ماله، وجنايته وما لا غنى به عنه) .
وجملة ذلك: أن الوصي يخرج من مال الصغير زكاة ماله، وزكاة فطره، ومماليكه، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان في يده مال ليتيم، فلما بلغ.. رده إليه، فوجده ناقصاً، فسأله عن ذلك، فقال: احسبوا قدر الزكاة، فحسبوا، فإذا هو قدر النقصان، فقال علي: (أفتراني ألي مالاً لا أخرج الزكاة منه) . ولأن ذلك حق واجب، فكان على الولي إخراجه.(8/313)
وإن قتل الصغير آدمياً عمداً أو خطأ.. وجب عليه الكفارة، وأخرجها الولي من ماله، ويخرج عنه ما وجب عليه بأرش الجناية وإتلاف المال؛ لأن ذلك واجب عليه، فهو كالزكاة. وإنما يخرج الولي الأرش وبدل المتلف من ماله إذا قامت البينة على إتلافه.. فأما بإقراره.. فلا يتصور ذلك؛ لأنه غير مكلف، فلا حكم لإقراره.
وإن أقر الوصي عليه.. لم يلتفت إلى إقراره؛ لأنه أقر عليه بما فيه ضرر عليه، فلم يقبل، وينفق عليه الوصي ويكسوه بالمعروف؛ لأن ماله مرصد لمصالحه، ونفقته وكسوته منها. فإن أنفق عليه أو كساه أكثر من المعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة؛ لأنه مفرط فيها.
فإن بلغ الصبي رشيداً.. سلم إليه ماله.
وإن اختلف هو والوصي في قدر ما أنفق عليه الوصي، فإن كان ما يدعيه الوصي أكثر من النفقة بالمعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة. وإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول الوصي مع يمينه؛ لأنه أمين فقبل قوله فيه.
وإن اختلفا في قدر مدة الإنفاق عليه، بأن قال الوصي: مات أبوك من عشر سنين وأنفقت عليك فيها، وقال: بل مات أبي من ثماني سنين.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما- وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أن القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قدر النفقة.
والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن القول قول الموصى عليه؛ لأن الأصل حياة الأب، ويمكن الوصي إقامة البينة على ذلك بخلاف قدر النفقة.
وإن ادعى الوصي أنه دفع إليه ماله بعد البلوغ وأنكر الموصى عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن القول قول الموصى عليه؛ لأنه لم يأتمنه على المال، فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها) .(8/314)
والثاني: أن القول قول الوصي، كما قلنا في النفقة.
وإن بلغ الصبي غير رشيد.. استديم عليه الحجر ولم يسلم إليه ماله، بل ينفق عليه ويكسوه ويخرج ما وجب عليه من ماله كما كان قبل البلوغ.
قال الشافعي: (فإن كان متلفاً يبذر ما يعطى من نفقة أسبوع.. أعطاه نفقة يوم فيوم. وإن كان يتلف ما يعطيه من نفقة يوم.. فإن الوصي يجلسه عنده ويحضر الطعام ويأكله وهو بين يديه) .
فإن كان يخرق الثياب، أو كان مجنوناً كثير الخرق.. قال الشافعي: (قرعه الولي وهدده فإن تهيب وارتدع وإلا.. فإن الولي يجلسه في البيت عرياناً بمئزر يستر عورته ويصلي فيه، فإذا أخرجه إلى الناس.. كساه، فإذا رده.. نزع عنه ذلك) .
وإن احتاج إلى خادم، ومثله يخدم.. قال الشافعي: (اشترى له خادماً) .
وأما إنكاحه: فإن لم يكن محتاجاً إليه.. لم يزوجه؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأنه يلزمه المهر، والنفقة، والكسوة. وإن احتاج إلى النكاح.. زوجه الوصي؛ لئلا يقدم على الزنا، فيكون فيه رجمه أو حده. وصيانة نفسه أولى من صيانة ماله.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يزيد على واحدة؛ لأن الكفاية تقع بها، بخلاف الأب والجد، فإنه يجوز أن يزوج الصغير بأربع؛ لأنه غير متهم في ذلك.
[مسألة ما يلحق الميت بعد الوفاة]
] : قال الشافعي في " الإملاء ": (يلحق الميت من فعل غيره وعمله حج يؤدى عنه، أو مال يتصدق به، أو دين يقضى، أو دعاء) .
وجملة ذلك: أنه إذا مات وعليه حج فرض إما حجة الإسلام، أو القضاء أو(8/315)
النذر، فإن كان له مال.. وجب قضاؤه من ماله. وإن لم يكن له مال ففعله الوارث أو الأجنبي عنه.. صح؛ لما روي: «أن امرأة من خثعم استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج عن أبيها فأذن لها، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم كما لو كان على أبيك دين.. فقضيته، نفعه» .
وإن لم يكن عليه حج فرض، فأراد إنسان أن يتطوع بالحج عنه بغير إذنه.. لم يجز، ولم يلحقه ثوابه؛ لأن تطوعه لا يلحق غيره. وإن أوصى به.. فيه قولان، وقد مضى ذلك في الحج.
وأما الصدقة: فيجوز للوارث وللأجنبي أن يتصدق عن الميت، ويلحق الميت ثوابها؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولولا ذلك لوهبت وتصدقت، أأتصدق عنها؟ قال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وواسع في فضل الله أن يثيب المتصدق أيضاً) .
وأما الدين: فيجوز للوارث والأجنبي أن يقضيه عن الميت؛ لما ذكرناه في حديث الخثعمية.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم، ديناران. فتحملهما أبو قتادة، فصلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قضاهما أبو قتادة.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده» .
وأما الدعاء: فيلحق الميت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] .(8/316)
فلولا أن الدعاء يلحقهم.. لما أثنى عليهم بالدعاء لإخوانهم.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» .
فمعنى (الصدقة الجارية) : الوقف.
ومعنى (العلم المنتفع به) : إما كتب علم وقفها، أو علم غيره.
فأما ما سوى ذلك من القرب، كالصلاة والقراءة والذكر.. فلا يلحق الميت ثوابها بفعل الغير لها عنه، قال أصحابنا: إلا أنه إذا قرئ القرآن عند القبر أو الميت.. فإن ثواب القراءة للقارئ، ولكن الرحمة تنزل حيث يقرأ القرآن، فيرجى أن تعم الرحمة الميت؛ لأنه كالجالس بينهم. هذا مذهبنا.
وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (يلحق الميت ثواب ما يفعل عنه من الصلاة، والقراءة، والذكر) .
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] [النجم: 39] وهذا عموم إلا فيما خصه الدليل.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» وهذا ليس بواحد منها.
وإن أعتق عن الميت رقبة، فإن لم يكن في ذمته رقبة من كفارة متحتمة بالعتق أو بالنذر، ولا أوصى بها.. لم يقع ذلك العتق عن الميت؛ لما ذكرناه. وإن كان في ذمته عتق رقبة متحتمة من نذر أو كفارة قتل أو ظهار، فأعتق عنه الوارث أو الوصي.. صح ذلك عن الميت وإن كان بغير إذنه؛ لأنه واجب عليه وهم يقومان مقامه في أداء الواجب عليه.(8/317)
وإن كان عليه كفارة يمين فأعتق عنه رقبة بعد موته بغير إذنه.. فهل تقع عنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: تقع عن الميت: لأنه لو كفر بها في حياته.. لصح، فإذا أعتقها عنه غيره بعد موته.. وقعت عنه، ككفارة الظهار.
والثاني: لا تقع عنه، بل تقع عن المعتق؛ لأن العتق كان غير محتم عليه، بل كان مخيراً: بين الإطعام والكسوة والعتق، فصار كما لو تطوع عنه بالعتق.
[فرع اختلاف الورثة والموصى له]
) : إذا قال: إن مت من مرضي هذا.. فلزيد كذا، فمات، فادعى الموصى له أنه مات من ذلك المرض، وقال الورثة: بل برئ منه، ثم مات.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم؛ لأن الأصل انتقال الملك إليهم إلا أن يثبت ما يصرفه عنهم، ولم يثبت.
والله أعلم وهو ولي التوفيق(8/318)
[كتاب العتق](8/319)
كتاب العتق الأصل في العتق: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] [الأحزاب: 37] .
قال أهل التفسير: أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق.
وقَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] في مواضع القرآن.
«وروى واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا أوجب النار بالقتل، فقال: " أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار» .(8/321)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» .
وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به.
ولا يصح العتق إلا ممن يصح تصرفه في المال، كما قلنا في الهبة.
فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف.. لم يصح عتقه؛ لأنه لا يملكه ملكاً تاماً.
وإن أعتق في مرض موته عبداً له وعليه دين يستغرق تركته.. لم يصح؛ لأن عتقه وصية، والدين مقدم على الوصية.
وإن أعتق عبدا جانياً.. فهو كما لو أعتق عبداً مرهوناً، وقد مضى بيانه.
إذا ثبت هذا: فإن العتق يقع بالصريح من غير نية، وبالكناية مع النية.
و (الصريح) : العتق والحرية؛ لأنه ثبت لهما عرف الشرع واللغة.
و (الكناية) : مثل قوله: خليتك، وسيبتك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك، وأنت لله، وأنت طالق؛ لأنه يحتمل العتق وغيره، فوقع به العتق مع النية.
فإن قال لأمته: أنت علي كظهر أمي ونوى به العتق.. ففيه وجهان:
أحدهما: تعتق؛ لأنه يوجب تحريم الزوجة، فأشبه الطلاق.
والثاني: لا تعتق؛ لأنه لا يزيل الملك عن الزوجة، فهو كالإيلاء.
وإن قال: فككت رقبتك.. ففيه وجهان:(8/322)
أحدهما: أنه صريح في العتق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] [البلد: 13] .
والثاني: يحتمل أنه كناية في العتق؛ لأنه يستعمل في العتق وغيره.
[مسألة عتق أحد الشريكين نصيبه]
وإن كان عبد بين نفسين، فأعتق أحدهما نصيبه فيه، فإن كان معسراً بقيمة باقيه..عتق نصيبه ورق نصيب شريكه.
وإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه، بحيث يملك قيمة نصيب شريكه فاضلاً عن قوت يومه.. سرى عتقه إلى نصيب شريكه، وعتق عليه، وقوم عليه نصيب شريكه.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يسري، وإنما يستحق إعتاق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسراً.. كان المالك للنصيب مخيرا بين شيئين: بين أن يعتق نصيب نفسه ويكون الولاء بينه وبين شريكه، وبين أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه، فإذا أداه..عتق عليه، وكان الولاء بينه وبين شريكه.
وإن كان المعتق موسراً.. كان شريكه مخيراً بين ثلاثة أشياء: بين أن يعتق نصيبه، وبين أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه ويكون الولاء بينهما في هذين، وبين أن يضمن شريكه المعتق قيمة نصيبه ويكون جميع الولاء للشريك المعتق، ثم يرجع المعتق في سعاية العبد بما غرمه من قيمته) .
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: يسري العتق في الحال بكل حال. وإن كان المعتق موسراً.. غرم قيمة نصيب شريكه. وإن كان معسراً.. استسعى العبد في قيمة نصيبه.
وقال ربيعة: لا يعتق نصيب الشريك بحال إلا أن يرضى الشريك.
وقال عثمان البتي: لا يعتق نصيب الشريك بحال.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له(8/323)
في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد.. قوم عليه قيمة عدل، وأعطى شركاءه حصصهم وإلا.. فقد عتق منه ما عتق، ورق منه ما رق» .
[فرع العبد المسلم بين مسلم وكافر]
) : وإن كان العبد المسلم مشتركاً بين كافرين، أو بين مسلم وكافر: فأعتق الكافر نصيبه فيه.. عتق نصيبه. فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. فهل يقوم عليه؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان بناء على أن شراء الكافر للمسلم هل يصح؟
فإن قلنا: لا يصح.. لم يقوم عليه؛ لأن التقويم يوجب الملك.
وإن قلنا: يصح شراؤه.. قوم عليه نصيب شريكه.
ومنهم من قال: يقوم عليه هاهنا قولاً واحداً، وهو المنصوص؛ لأنه تقويم متلف فامستوى فيه المسلم والكافر في الإتلاف. ولأن المقصود هاهنا تكميل الأحكام لا الملك، بخلاف الشراء.
[فرع وقت عتق نصيب الشريك]
) : ومتى يعتق نصيب الشريك؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتق بنفس اللفظ، وهو الصحيح، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(8/324)
قال: «من أعتق شركاً له في عبد وله مال يبلغ ثمنه.. فهو عتيق» .
ولأن قدر القيمة معتبر بحال العتق، فثبت أن العتق قد نفذ في تلك الحال.
والثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسراً.. قوم عليه ولا وكس ولا شطط، ثم يعتق» .
و (الوكس) : النقصان. و (الشطط) : الزيادة.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له في عبد.. فعليه خلاصه إن كان له مال» فثبت أنه باق على الرق.
والثالث: أنه مراعى، فإن دفع القيمة.. حكمنا بأنه عتق باللفظ. وإن لم يدفع القيمة.. حكمنا بأنه لم يعتق؛ لأنا لو أعتقناه باللفظ قبل دفع القيمة.. أضررنا بالشريك، ولو قلنا: إنه باق على الرق.. أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه، فثبت أنه موقوف ليزول الضرر عنهما.
فإذا قلنا: إنه يعتق بنفس اللفظ.. صارت أحكامه أحكام الأحرار من حين الإعتاق، فإن مات للعبد من يرثه.. ورثه.
فإن أعسر المعتق بعد ذلك، أو هرب، أو مات، ولم يخلف وفاء.. فقيمة نصيب شريكه في ذمته.(8/325)
وهل عتق جميعه باللفظ في حالة واحدة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري.
أحدهما: أن عتق جميعه وقع في حالة واحدة، لأن الجميع صار كأنه له، فعتق جميعه باللفظ.
والثاني - وهو الأصح -: أن العتق وقع في نصيب المعتق أولا، ثم يسري إلى نصيب شريكه؛ لأنه لا يملك نصيب شريكه، فلم يقع عتقه فيه مباشرة.
وإذا طالب الشريك بقيمة نصيبه.. أجبر المعتق على الدفع. وإن بذل المعتق القيمة، فامتنع الشريك من أخذها.. قبضها الحاكم له، وليس للعبد المعتق المطالبة بالدفع ولا بالقبض؛ لأن عتقه غير موقوف على ذلك.
وأما إذا قلنا: إن العتق لا يقع إلا بدفع القيمة، فإن طلب الشريك القيمة.. وجب على المعتق دفعها، فإن بذلها المعتق.. وجب على الشريك قبضها، فإن امتنع من قبضها.. قبضها الحاكم له وعتق العبد. وإن امتنع المعتق والشريك.. فللعبد أن يطالبهما بذلك ليصل إلى حقه من العتق، فإذا لم يطالب العبد.. فللحاكم أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض، فإن امتنعا.. أخذ الحاكم القيمة من المعتق للشريك، وعتق العبد، لما في العتق من حق الله تعالى.
فإن باع الشريك نصيبه من العبد أو وهبه قبل أن يدفع المعتق القيمة إليه.. لم يصح بيعه ولا هبته؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت للعبد من الحرية.
وإن أعتق نصيبه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي حنيفة وأبي علي بن أبي هريرة -: (أنه يعتق؛ لأن العتق صادف ملكه ويحصل العتق للعبد) .
والثاني: لا يعتق، وهو الأصح؛ لأن ذلك يبطل ما ثبت للمعتق من الولاء.
وإن مات للعبد من يرثه قبل دفع القيمة، أو شهد، أو جنى، أو جني عليه.. فحكمه في ذلك حكم العبيد؛ لأنه باق على الرق.
وإن مات العبد قبل دفع القيمة.. فهل للشريك أن يطالب المعتق بالقيمة؟ على هذا القول فيه وجهان:(8/326)
أحدهما: له ذلك؛ لأن القيمة وجبت على المعتق بالعتق، فلا تسقط بموت العبد.
والثاني: لا يجب عليه ذلك؛ لأن القيمة إنما وجبت عليه لتكميل أحكام العبد، وليحصل للمعتق الولاء عليه، وهذا لا يوجد في حقه بعد موته.
وعلى القول الأول: له مطالبته بعد موت العبد قولاً واحداً؛ لأنه مات حراً.
[فرع استيلاد الجارية من أحد الشريكين]
وإن كانت جارية بين اثنين فاستولدها أحدهما.. ثبت لها حرمة الاستيلاد في نصيبه. فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه. ومتى يثبت لها حرمة الاستيلاد؟ فيه طريقان حكاهما الطبري في " العدة ".
ومن أصحابنا من قال: هي على الأقوال الثلاثة في العتق.
ومنهم من قال: إن قلنا في العتق: يسري بنفس اللفظ.. فهاهنا تثبت لها حرمة الاستيلاد بالإحبال. وإن قلنا في العتق: لا يسري إلا بدفع القيمة.. ففي الإحبال وجهان:
أحدهما: لا تثبت لها حرمة الاستيلاد في نصيب شريكه إلا بدفع القيمة كالإعتاق.
والثاني: تثبت بالإحبال؛ لأنه أقوى من العتق، بدليل: أن العتق لا يصح من السفيه والمجنون، والإحبال يصح منهما.
وأما إذا استولدها الشريكان معاً، مثل: أن كانا معسرين فاستولدها أحدهما، ثم استولدها الثاني.. فإنها تصير أم ولد لهما. فلو أعتق أحدهما نصيبه منها بعد ما أيسر.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ فيه وجهان:(8/327)
أحدهما: يقوم عليه؛ لأنها تعتق بالإعتاق
والثاني: لا يقوم عليه؛ لأن أم الولد لا تملك.
[فرع يدخل نصيب الشريك بالملك في التقويم]
] : كل موضع قوم على المعتق نصيب شريكه.. فإنه يحكم بدخول ملك نصيب الشريك في ملك المعتق. ومتى يملكه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يملكه ويعتق عليه في حالة واحدة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يملكه ثم يعتق عليه، وهكذا إذا اشترى من يعتق عليه.. فإنه يملكه، وفي وقت ملكه الوجهان.
[مسألة اختلاف الشريكين في قيمة العبد المعتق]
إذا اختلف الشريكان في قيمة العبد المعتق، فادعى الشريك أن قيمته ألفان، وقال المعتق: بل قيمته ألف.. فلا خلاف أن قيمته تعتبر حال الإعتاق؛ لأنه وقت الإتلاف.
فإن كان الاختلاف عقيب الإعتاق أو بعده بزمان ولم تختلف قيمته من حين الإعتاق إلى حين التقويم.. رجع فيه إلى مقومين.
وإن كان العبد قد مات، أو غاب، أو تأخر تقويمه زماناً تختلف فيه قيمته، ولا بينة على قيمته وقت الإعتاق.. فمن القول قوله مع يمينه؟ فيه قولان، واختلف أصحابنا في مأخذ القولين.
فمنهم من قال: أصلهما القولان في وقت السراية.
فإن قلنا: إن السراية وقعت بنفس اللفظ.. فالقول قول المعتق مع يمينه؛ لأنه غارم، فكان القول قوله في قيمة ما أتلفه، كالمتلف.
وإن قلنا: إن السراية لا تقع إلا بدفع القيمة.. فالقول قول الشريك مع يمينه؛ لأن(8/328)
ملكه ثابت على نصيبه، فلا ينتزع منه إلا بما يقر به، كما لو اختلف الشفيع والمشتري في الثمن.
ومنهم من قال: أصلهما: القولان فيمن اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيباً، وقلنا: له رده، فاختلفا في قيمة التالف، وفيه قولان:
أحدهما: القول قول المشتري؛ لأنه كالغارم. فعلى هذا: القول قول المعتق.
والثاني: القول قول البائع؛ لأن ملكه ثابت على الثمن، فلا ينتزع منه إلا بما يقر به. فعلى هذا: القول قول الشريك.
قال الطبري: وحكى الشيخ أبو حامد عن الربيع: أنه قال: فيها قول آخر: أنهما يتحالفان. قال: وهذا من تخريج الربيع؛ لأنه ليس بينهما عقد ينفسخ بالتحالف، ولأنا لو حلفناهما.. لاحتجنا إلى الرجوع إلى القيمة، فلا يفيد التحالف شيئاً.
والطريق الأول هو المشهور.
وأن ادعى الشريك زيادة صنعة في العبد تزيد بها قيمته، فإن كان العبد غائباً، أو ميتاً، ولا بينة للشريك، فأنكرها المعتق.. ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان.
أحدهما: القول قول المعتق.
والثاني: القول قول الشريك.
ومنهم من قال: القول قول المعتق قولاً واحداً؛ لأن الأصل عدم الصنعة.
وإن كان العبد حاضراً، فإن كان يحسن الصنعة التي ادعاها الشريك، فإن لم يمض من حين العتق زمان يمكن تعلم تلك الصنعة.. فالقول قول الشريك؛ لأنا علمنا صدقه. وإن كان قد مضى زمان يمكن فيه تعلم الصنعة.. فعلى الطريقتين.
وإن قال المعتق: كان سارقاً، أو آبقاً، وأنكر الشريك، ولا بينة للمعتق.. فعلى طريقين:(8/329)
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: القول قول الشريك قولاً واحداً؛ لأن الأصل عدم ذلك.
[فرع وجود دين مستغرق على المعتق]
إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو يملك من المال قدر قيمة شريكه إلا أن عليه دينا يستغرق ذلك.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ فيه قولان بناءً على أن الدين: هل يمنع وجوب الزكاة؟
[فرع تعليق الشريكين على شرط واحد]
إذا قال أحد الشريكين في العبد: إذا دخلت الدار الفلانية فأنت حر، ثم قال له الآخر: إذا دخلتها فأنت حر، فدخلها..عتق عليهما، ولم يقوم نصيب أحدهما على الآخر؛ لأنه عتق عليهما في حالة واحدة.
وإن قال أحد الشريكين للآخر: إذا أعتقت نصيبك من العبد فنصيبي منه حر، فأعتق الآخر نصيبه.. عتق نصيبه عليه، وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً؛ لأن عتق نصيب المباشر سبق، فاستحقت به السراية، فمنعت وقوع عتق الشريك المعلق عتق نصيبه بصفة.
وإن قال: إذا أعتقت نصيبك. فنصيبي حر في حال عتق نصيبك، فأعتق الآخر نصيبه.. عتق عليه نصيبه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه الذي علق عتقه؟ فيه وجهان.
أحدهما: يقوم عليه؛ لأن إعتاقه لنصيبه شرط في عتق نصيب شريكه، والشرط يتقدم على المشروط، فكان كالأولى.
والثاني: لا يقوم عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن العتق وقع على النصيبين في وقت واحد.(8/330)
[فرع علق أحدهما عتقه بمدة قبل الموت وجعله الآخرحالاً]
فرع: [علق أحدهما عتقه بمدة قبل الموت وجعله الآخر حالاً] :
وإن قال أحد الشريكين في العبد: نصيبي منك حر قبل موتي بشهر، ثم قال الثاني بعده: نصيبي منك حر الآن، ثم مات الأول، فإن كان بين موت القائل الأول وبين قوله أقل من شهر.. لم يعتق عليه نصيبه؛ لأن العتق لا يقع قبل الإعتاق، ويعتق على الثاني نصيبه حين أعتقه، فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وإن كان معسراً.. لم يقوم عليه.
وإن كان بين قول الثاني وبين موت الأول أكثر من شهر.. لم يعتق على الأول أيضاً نصيبه إن كان الثاني موسراً بقيمة نصيب الأول؛ لأن عتق الثاني مقدم عليه، فيعتق على الثاني نصيبه، ويقوم عليه نصيب الأول. وإن كان معسراً به.. لم يقوم عليه، وعتق على الأول نصيبه قبل موته بشهر، فيكون الولاء بينهما.
وإن كان بين قول الأول وبين موته شهر من غير زيادة ولا نقصان.. عتق عليه نصيبه لوجود الصفة قبل عتق الثاني، فإن كان موسراً بقيمة نصيب الثاني.. قوم عليه، وكان جميع ولائه له، وإن كان معسراً.. عتق عليه نصيبه قبل موته بشهر، وعتق على الثاني نصيبه بعده حين أعتقه، وكان ولاؤه بينهما.
[فرع توكيل أحد الشريكين في عتق نصيبه]
وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فوكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه، فقال الوكيل: نصفك حر ... رجع إليه، فإن قال: أردت به نصيبي.. عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً به. وإن قال: أردت به نصيب شريكي.. عتق نصيب شريكه، وقوم نصيب الوكيل على الموكل إن كان الموكل موسراً به.
وإن أطلق، ولم ينو شيئاً.. ففيه وجهان: حكاهما ابن الصباغ:(8/331)
أحدهما: يعتق نصيب الموكل، ويقوم عليه نصيب الوكيل؛ لأنه أمره بالإعتاق.
والثاني: يعتق نصيب الوكيل، ويقوم عليه نصيب الموكل؛ لأن نصيب نفسه لا يحتاج إلى نية، ونصيب الموكل يحتاج إلى النية، ولم ينو.
[فرع له شقصان في عبدين فأعتق أحدهما ثم الآخر ولا مال له]
قال ابن الحداد: إذا كان لرجل شقصان من عبدين، وقيمتهما سواء، ولا مال له غيرهما، فأعتق أحد الشقصين في صحته.. عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه؛ لأنه موسر بقدر قيمته - وهو: الشقص في العبد الآخر - فإن أعتق الشقص الآخر بعد ذلك في صحته.. عتق نصيبه فيه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه فيه؛ لأنه لا مال له. ولا يمنع عتقه في الثاني ثبوت الدين في ذمته؛ لأن قيمة الأول لم تتعلق في رقبة الثاني، وإنما هي في ذمة المعتق.
وإن كان بين اثنين عبد يساوي عشرين ديناراً، فقال رجل لأحدهما: أعتق نصيبك عني على عشرة دنانير، فأعتقه عنه - والسائل لا يملك غير عشرة دنانير - عتق نصيب المعتق عن السائل.
قال ابن الحداد: ويعتق نصيب شريك المعتق عن السائل أيضاً؛ لأنه واجد لقيمة نصيبه - وهي العشرة - ثم يتضارب المعتق وشريكه في العشرة التي للسائل على قدر حقيهما لكل واحد منهما نصفها.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا على القول المشهور: أن نصيب الشريك يعتق بنفس اللفظ. فأما إذا قلنا: إنه لا يعتق بدفع القيمة.. فإنه يعتق منه بقدر ما يؤدي إليه.
فأما إذا قال السائل: أعتق عني نصيبك من هذا العبد على هذه العشرة، وعينها وأشار إليها، فأعتقه.. عتق عن السائل، ولم يعتق نصيب الشريك؛ لأن العشرة قد ملكها المعتق ولا مال للسائل غيرها.(8/332)
[مسألة عتق بعض العبد عتق لكله]
وإن ملك عبداً، فأعتق بعضه.. سرى العتق إلى باقيه؛ لأنه موسر به.
وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فقال أحدهما له: إن كان هذا الطائر غراباً، فنصيبي منك حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فنصيبي منك حر، فطار ولم يعرف.. قال ابن الحداد:
فإن كانا معسرين.. فالعبد باق على ملكهما؛ لأن عتق نصيب أحدهما لم يتعين.
فإن باع أحدهما نصيبه من رجل، وباع الآخر نصيبه من آخر.. فلكل واحد من المشتريين أن يتصرف فيما اشتراه؛ لأن كل واحد منهما قائم مقام من اشترى منه.
وإن باعا نصيبيهما من واحد.. قال ابن الحداد:
عتق على المشتري نصفه؛ لأنه قد تيقن أن نصفه حر، فلا يكون له أن يتصرف في جميعه.
وعلى قياس قول ابن الحداد: إذا اشترى أحدهما نصيب الآخر.. عتق على المشتري نصفه؛ لأنا نتيقن أن أحد النصفين حر بيقين.
وإن كانا موسرين، فإن قلنا: إن العتق يسري باللفظ.. عتق جميعه؛ لأن كل واحد منهما يعترف أن عتق شريكه يسري إلى نصيبه. ولا يجب لأحدهما على الآخر شيء؛ لأنه لا يقبل قوله على صاحبه في استحقاق حق له عليه.
وإن قلنا: لا يسري إلا بأداء القيمة.. لم يعتق العبد، ولا يجوز لأحدهما بيع نصيبه ولا هبته؛ لأنه قد استحق عتقه، وهل يجوز له عتقه، فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً.. عتق نصيب المعسر؛ لأن قوله يتضمن أن صاحبه حانث في يمينه وأن نصيبه حر، فإن كان موسراً.. سرى العتق في نصيبه، وهذا إذا قلنا: إن السراية تقع باللفظ.(8/333)
وإن قلنا: لا تقع إلا بدفع القيمة.. لم يعتق نصيب المعسر أيضاً ولكن لا يصح بيعه ولا هبته، وهل يصح عتقه؟ على الوجهين.
[فرع علق أحد الشريكين عتق نصيبه على بيع شريكه شقصه]
) . وإن كان عبد بين اثنين، فقال أحدهما: إن بعت نصيبك من العبد فنصيبي حر، وقال الآخر: إن اشتريت نصيب شريكي فنصيبي حر، ثم اشتري نصيب شريكه.. فقد حنثا جميعاً، وعتق كل واحد منهما نصيبه، ولا يقوم على أحدهما نصيب شريكه؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة.
وإن كان لرجل عبد، فقال: إن بعته فهو حر، وقال الآخر: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه منه.. عتق على البائع دون المشتري؛ لأن المشتري عقد الصفة وهو لا يملكه، فلم يصح، والبائع عقد الصفة وهو يملكه. فإذا وجد الإيجاب والقبول.. فقد وجدت الصفة، وهو يملك عتقه لثبوت الخيار بينهما، فوقع عليه العتق بالصفة.
وإن قال لعبده: إذا بعتك بيعاً فاسداً فأنت حر، فباعه بيعاً فاسداً.. قال الطبري: لم يعتق.
وقال المزني: يعتق.
[مسألة شركاء في عبد أعتق اثنان نصيبهما]
إذا كان عبد بين ثلاثة أنفس لأحدهم النصف، ولآخر الثلث، ولآخر السدس، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس نصيبهما في حالة واحدة بأن أعتقا واتفق لفظهما، أو وكلا وكيلاً فأعتق عنهما بكلمة وهما موسران.. قوم عليهما نصيب شريكهما، وكيف يقوم عليهما؟ فيه طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يقوم بينهما نصفين.(8/334)
والثاني يقوم على قدر الملكين، كالقولين في الشفعاء. وهو قول مالك؛ لأن له فيه روايتين.
ومنهم من قال: يقوم عليهما نصفين قولا واحداً. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد وأكثر أصحابنا؛ لأن إعتاق النصيب إتلاف لرق الباقي، فإذا اشتركا في الإتلاف.. استويا في الضمان وإن اختلفا في سبب الإتلاف، كما لو جرح رجل رجلاً جراحة، وجرحه آخر جراحات ومات.
وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسرا.. قوم نصيب صاحب الثلث على الموسر منهما؛ لأن عتق المعسر لا يسري.
[مسألة ادعى أحد الشريكين بعتقهما وأنكره الآخر]
إذا قال أحد الشريكين في العبد: أعتقت أنا وأنت العبد في حالة واحدة، وقال الآخر: أما أنا فما أعتقت نصيبي.. كان القول قول المنكر مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإعتاق، فإذا حلف.. ثبت أنه لم يعتق، ويعتق نصيب المقر بإقراره.
وإن كان معسراً ... بقي نصيب الحالف رقيقاً.
وإن كان المقر موسراً.. قوم عليه نصيب شريكه، وعتق عليه ويكون ولاء نصيب المقر له، وأما ولاء نصيب المنكر.. فإنه يكون موقوفاً بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يدعيه ويقر به لصاحبه.
فإن مات العبد المعتق قبل موت المنكر وخلف مالاً.. فللمقر أن يأخذ من تركته قدر ما دفع إلى شريكه من القيمة؛ لأنه يستحقه بكل حال، ويوقف الباقي بينهما إلى أن يصطلحا عليه، أو يدعيه أحدهما فيأخذه.
وإن مات العبد بعد موت المنكر.. فليس للمقرر أن يأخذ من تركته قدر ما دفعه من(8/335)
الثمن ما دام مقيماً على إقراره الأول؛ لأنه يقر بمال المعتق لعصبة المنكر، ويقر أنهم لم يظلموه وإنما ظلمه المنكر.
وإن قال كل واحد منهما: أعتق شريكي نصيبه، وأنكر كل واحد منهما، وهما موسران.. حلف كل واحد منهما أنه لم يعتق نصيبه؛ لأن الأصل عدم الإعتاق، وعتق جميع العبد إذا قلنا: تقع السراية باللفظ؛ لأن كل واحد منهما يقر بعتق نصيبه على شريكه، ويكون الولاء موقوفاً بينهما.
وإن كانا معسرين.. لم يعتق شيء من العبد فإن اشترى أحدهما نصيب شريكه.. عتق عليه ما اشتراه؛ لأنه مقر بحريته.
وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً.. عتق نصيب المعسر إذا قلنا: تقع السراية باللفظ؛ لأنه مقر بعتق نصيبه على صاحبه، ولا يعتق نصيب الموسر؛ لأن عتق المعسر لا يسري. فأما إذا قلنا: لا يسري العتق إلا بدفع القيمة.. لم يعتق من العبد شيء.
[فرع عبد بين ثلاثة فشهد اثنان على الثالث بعتق نصيبه]
وإن كان عبد بين ثلاثة رجال، فشهد رجلان منهم على الثالث أنه أعتق نصيبه وأنكر ذلك المشهود عليه، فإن كان المشهود عليه معسراً: قبلت شهادتهما عليه وعتق نصيبه لا غير؛ لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنهما بها ضرراَ. وإن كان موسراً.. لم تقبل شهادتهما عليه؛ لأنهما يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً وهو التقويم عليه.
فإن قلنا: تقع السراية باللفظ.. عتق نصيبهما؛ لأن شهادتهما تضمنت الإقرار به.
وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بدفع القيمة.. لم يعتق نصيبهما، ولا يجوز لهما بيعه، وهل يجوز لهما عتقه؟ على وجهين.(8/336)
وللشاهدين أن يحلفا المنكر أنه لم يعتق نصيبه، لجواز أن يقر. فإن نكل عن اليمين.. حلفا ووجبت عليه قيمة نصيبهما.
[فرع رجوع الشاهدين عن قولهما أعتق شقصاً]
وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق شقصاً له من عبد وهو موسر، فقوم عليه نصيب شريكه، ثم رجع الشاهدان.. قال ابن الحداد: رجع المشهود عليه على الشاهدين بقيمة نصيبه، ولا يرجع عليهما بما غرم لشريكه من القيمة.
قال القاضي أبو الطيب: أما نصيب المشهود عليه: فيرجع عليهما بقيمته؛ لأنهما أتلفاه عليه.
وأما ما غرمه من قيمة نصيب شريكه.. فهل يرجع عليهما به؟ فيه قولان، كما لو شهدا عليه بمال في يده؟ أو في ذمته، ثم رجعا.. المشهور: أنه لا يرجع عليهما فأجاب ابن الحداد على المشهور: قال القاضي أبو الطيب: إلا أن الصحيح عندي أنه يرجع عليهما به أيضاً.
[مسألة أعتق شقصين أحدهما بعد الآخر في مرض موته]
إذا أعتق في مرض موته شقصين له من عبدين له شريك فيهما أحدهما بعد الآخر:
فإن احتمل الثلث عتق الشقصين وتقويم باقيهما.. عتق عليه الشقصان بالمباشرة، وباقي العبدين بالسراية والتقويم.
وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق الأول وتقويم باقيه.. قدم تقويم باقي الأول على عتق الثاني.
فإن احتمل الثلث عتق الشقص الأول وتقويم باقيه، والشقص الثاني دون تقويم باقيه.. عتق جميع العبد الأول عليه بالمباشرة والسراية، والشقص الثاني، ولا يقوم باقي الثاني عليه.
وإنما قدمنا تقويم باقي الأول على الشقص الثاني؛ لأنا إن قلنا: إن السراية تقع(8/337)
باللفظ.. فقد سبق عتق باقي الأول. وإن قلنا: لا تقع إلا بدفع القيمة.. فقد استحق إعتاق بقيته في الثلث قبل الثاني.
وإن أعتق الشقصين في حالة واحدة.. عتق الشقصان وقوم باقي العبدين عليه إن احتملهما الثلث. وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق الشقصين.. عتق الشقصان لا غير ورق باقي العبدين.
وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق أحد الشقصين.. أقرع بينهما.
وإن خرج الشقصان من الثلث وباقي أحد العبدين لا غير.. ففيه وجهان:
قال ابن الحداد: عتق الشقصان، وقسم الباقي بينهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
ومن أصحابنا من قال: يعتق الشقصان، ثم يقرع بينهما فيما بقي من الثلث بعد الشقصين، كما إذا أعتق عبدين.. فخرج أحدهما من الثلث. والأول أصح.
[مسألة يعتبر الثلث في عتق عبد بمرض موته]
إذا أعتق عبداً له في مرض موته.. فقد ذكرنا أن قيمته تعتبر من ثلث ماله.
وقال مسروق: تعتبر من رأسماله، كما لو أتلف شيئاً من ماله.
دليلنا: حديث عمران بن الحصين في: «الرجل الذي أعتق ستة أعبد له في مرض موته، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» .
وإن أعتق شركاً له في عبد في مرض موته.. عتق نصيبه من ثلث تركته، وقوم عليه نصيب شريكه أن احتمله الثلث.
وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (لا يقوم عليه نصيب شريكه) .(8/338)
دليلنا: أنه موسر بقيمة نصيب شريكه ولا يتعلق به حق أحد فقوم عليه، كعتق الصحيح.
وإن أوصى بعتق شرك له في عبد، أو بعتق بعض عبد له.. أعتق عليه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه، ولا يسري إلى عتق باقي العبد سواء احتمله الثلث أو لم يحتمله؛ لأن ملكه يزول عن ماله إلا عن القدر الذي أوصى به، فصار كالمعسر إذا أعتق شركاً له في عبد.
وإن أوصى بعتق شقص له من عبد وأوصى أن يعتق عليه نصيب شريكه فإن احتمله الثلث أعتق عليه نصيب شريكه ودفعت قيمته إلى شريكه؛ لأن له التصرف في الثلث بما فيه قربة.
قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنه إنما تقوم حصة الشريك إذا رضي الشريك بذلك، ولا تقوم إذا لم يرض؛ لأن التقويم لم يجب على الموصي وإنما وجب بالوصية، فجرى ذلك مجرى المعسر إذا أعتق شقصاً له في عبد ثم أيسر، فإنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا برضاه.
قال ابن الصباغ: وأصحابنا أطلقوا ذلك، وما قالوه له وجه صحيح؛ لأن التقويم لا يجب؛ لأن العتق وقع حال زوال ملك الميت عن المال، فجرى ذلك مجرى المعسر إذا أعتق شقصاً له من عبد.
فأما إذا أوصى بتكميله.. كانت قيمته باقية كالباقية على حكم ملكه، فصار كالموسر إذا أعتق، وهكذا لو قال: إذا مت فنصيبي حر.. عتق نصيبه إن خرج من الثلث ولم يسر إلى نصيب شريكه.
[فرع أوصى بعتق شقصين من عبدين]
إذا كان له شقصان من عبدين فأوصى بعتقهما بعد موته، وبأن يكمل باقي عتق العبدين من الثلث، فإن احتملهما الثلث.. أعتقا عنه، وإن لم يحتمل الثلث إلا قيمة(8/339)
باقي أحدهما.. قال ابن الحداد: أقرع بينهما ولا يقسم بينهما؛ لأن الموصي قصد تكميل العتق فيهما، فإذا لم يكن ذلك فيهما.. كان في أحدهما.
وإن كان له ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، وقيمتهم سواء، فقال: نصف كل واحد منكم حر بعد موتى، ولم تجز الورثة:
قال ابن الحداد: أقرع بينهم، وهو بأن يكتب في رقعة عتق، وفي رقعة رق، ويخرج إحدى الرقعتين على واحد منهم، فإن خرجت عليه رقعة الرق.. رق جميعه وعتق من كل واحد من الآخرين نصفه. وإن خرجت على الأول رقعة العتق.. عتق نصفه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين، فمن خرجت عليه رقعة العتق.. عتق نصفه ورق نصفه وجميع الآخر، فيعتق نصفا عبدين.
قال القاضي أبو الطيب: وهذه لا يختلف فيها أصحابنا، ودل هذا على أن المعتق إذا فرق العتق في شخصين.. لم يجمع في شخص واحد.
فإن كان له عبدان سالم وغانم، وقيمتهما سواء، فقال: إذا مت فنصف سالم حر، وثلث غانم حر، فمات ولا مال له غيرهما، ولم تجز الورثة.. فقد زاد على الثلث سدس أحدهما.
قال ابن الحداد: فيقرع بينهما، فيكتب رقعة عتق وفي رقعة رق، ويخرج إحداهما على أحدهما، فإن خرجت رقعة العتق على أحدهما.. عتق منه ما أعتق لا غير وتمم الثلث من الثاني. فإن خرجت رقعة العتق على سالم عتق نصفه وعتق من غانم سدسه. وإن خرجت رقعة العتق على غانم.. عتق ثلثه وعتق من سالم ثلثه؛ لأن ذلك قدر الثلث.
وإن كان له ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، فقال في مرض موته: أثلاثكم أحرار.. عتق ثلث كل واحد منهم - اتفقت قيمتهم أو اختلفت - ولا يقرع بينهم؛ لأنه عين العتق ولم يزد على الثلث.(8/340)
وإن قال: ثلثكم حر، أو ثلث هؤلاء حر.. قال القاضي أبو الطيب: فإن الظاهر من هذا الكلام أنه أعتق واحداً منهم لا بعينه فيقرع بينهم، ويعتق واحد منهم ويرق اثنان.
[فرع عتق نصيبه عند موته وأوصى بالباقي من ثلثه وكذا شريكه]
إذا كان عبد بين شريكين فقال أحدهما: نصيبي من هذا العبد حر بعد موتي، ويستتم عتق باقيه من ثلثي، وقال شريكه: إذا مات شريكي فنصيبي حر من هذا العبد، فمات الأول.. قال ابن الحداد: عتق العبد عليهما، ولم يقوم نصيب أحدهما على الآخر؛ لأن عتق نصيبيهما وقع في حالة واحدة.
وإن قال أحدهما: نصيبي حر بعد موتي، ويستتم عتق نصيب شريكي من ثلثي، وقال الثاني: إذا عتق نصيب شريكي فنصيبي حر، فمات الأول.. قال ابن الحداد: فإن الوصية بالتقويم صحيحة؛ لأن عتق الموصي يتقدم وعتق شريكه يتعقبه، فوجب التقويم عليه.
[فرع أعتق أحدهما نصيبه من حمل جاريتهما]
وإن كان بين نفسين جارية حامل من نكاح أو زنى، فأعتق أحدهما نصيبه من الحمل: فإن أسقطته حياً.. عتق عليه وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً به. وتجب قيمته يوم الإسقاط؛ لأنه أول حالة يمكن تقويمه فيها.
وإن أسقطته ميتاً من غير ضرب.. لم يجب على المعتق لشريكه شيء؛ لأنه لا يعلم أن العتق صادفه وهو حي.
وإن ضربها ضارب فأسقطته ميتاً.. وجب على الضارب غرة عبد أو أمة؛ لأن الظاهر أنه تلف بالضرب.
قال ابن الحداد: ويجب على المعتق لشريكه نصف عشر قيمة الأم؛ لأنه ضمن نصيب شريكه بالإعتاق، وقيمة نصيبه لو كان مملوكاً نصف عشر قيمة أمه.(8/341)
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أقل الأمرين من نصف عشر قيمة أمه أو الغرة والأول أصح.
[مسألة قال لعبده وهبتك أو ملكتك نفسك]
] : قال الطبري في (العدة) : لو قال لعبده: وهبتك نفسك، أو ملكتك نفسك.. افتقر إلى القبول ليعتق.
وإن قال لأمته: إذا ولدت ولداً فهو حر، فولدت ولداً حياً.. عتق. وإن ولدت بعده ولداً آخر.. لم يعتق؛ لأن لفظه لا يقتضي التكرار. وإن ولدت ولداً ميتاً، ثم ولدت ولداً حياً.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب: أن الثاني لا يعتق. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يعتق؛ لأن العتق يستحيل في الميت فيعلق بالحي) .
ودليلنا: أن شرط العتق وجد بالأول، بدليل: أنه لو علق به عتقها.. لعتقت لولادة الميت فانحلت اليمين به، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم دخل.
[فرع حلف بعتقه فحنث]
وإن كان عبده مقيداً، فحلف سيده بعتقه أن في قيده عشرة أرطال، وحلف بعتقه لا أحله ولا أحد من الناس، فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال، فحكم الحاكم بعتقه لحنثه في يمينه أن في قيده عشرة أرطال، فوزن القيد بعد حله، فوجد فيه عشرة أرطال.. فإن العبد يعتق، وهل يجب على الشاهدين شيء؟
قال أبو حنيفة: (يجب على الشاهدين قيمة العبد) .
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب عليهما شيء، قال ابن الصباغ: وهو الصحيح.
فبنى أبو حنيفة ذلك على أصله، بأن حكم الحاكم ينفذ في الباطن وإن كان بشهادة الزور، ووجه الآخر: أنه عتق بحل القيد دون ما شهدا به؛ لأنا تحققنا كذبهما.(8/342)
[فرع شهدا بعتق عبد ورجعا ثم شهد آخران بعتق غيره]
وإن شهد شاهدان أن رجلاً أوصى بعتق عبد عيناه، وقيمته ثلث تركته، فحكم الحاكم بشهادتهما بعد موت الموصي، ثم رجعا عن الشهادة، وشهد آخران أن الموصي أوصى بعتق عبد آخر عيناه، وقيمته قدر ثلث تركته، وحكم بشهادتهما.. أقرع بين العبدين؛ لأنه قد ثبت أن الميت أوصى بعتقهما، ورجوع الشاهدين لا يقبل في نقض الحكم.
فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ورق الثاني، ووجب على الشاهدين الراجعين قيمة العبد لورثة المعتق؛ لأنه تلف بشهادتهما، وقد أقرا ببطلانها. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ورق الأول، ولم يجب على الشاهدين الراجعين للورثة شيء؛ لأنهما لم يتلفا بشهادتهما شيئاً.
[مسألة أعتق عبداً بعينه ثم أشكل عليه أمر]
إذا كان له أعبد فأعتق واحداً منهم بعينه، ثم أشكل عليه.. أمر بأن يتذكر وينفق عليهم إلى أن يتبين، فإن قال: الذي كنت قد أعتقته هو هذا.. حكم بعتقه من حين العتق.
فإن قال آخر من عبيده: بل أنا الذي كنت أعتقت، فإن صادقه.. حكم بعتقهما، وإن كذبه.. حلف له، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على الآخر، فإن حلف.. حكم بعتقه أيضاً.
وإن قال: أعتقت هذا، لا، بل هذا.. حكم بعتقهما؛ لأنه لما أقر للأول.. حكم بعتقه، فإذا رجع عن الأول وأقر للثاني.. لم يقبل رجوعه عن الأول وقبل إقراره للثاني.
فإن مات قبل أن يبين، فإن ذكر الوارث أنه يعرف المعتق منهما.. رجع إليه، فإذا أخبر بعتق واحد.. قبل وحكم بعتقه؛ لأنه قائم مقام مورثه. وإن اتهمه غيره.. حلف له.(8/343)
وإن قال الوارث: لا أعرف المعتق منهم.. ففيه قولان:
أحدهما: يقرع بينهم؛ لأن أحدهم ليس بأولى من الآخر.
والثاني: لا يقرع، ولكن يوقف إلى أن يتبين؛ لأن القرعة ربما أعتقت الرقيق وأرقت العتيق. والصحيح هو الأول.
[فرع أعتق واحداً من جماعة ولم يعينه]
وإن أعتق واحداً منهم لا بعينه.. أمر بأن يعين العتق فيمن شاء منهم، فإن قال: أعتقت هذا، لا، بل هذا.. أعتق الأول دون الثاني؛ لأن ذلك اختيار لا إخبار. فإن اتهمه الآخر.. لم يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني لم يحكم بعتقه، فلا معنى لتحليفه.
وإن مات قبل أن يبين.. فهل يرجع إلى الوارث؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع إليه، بل يقرع بينهما، كما لا يرجع إليه إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها.
والثاني: يرجع إليه، وهو الأصح؛ لأنه خيار يتعلق بالمال فقام الوارث مقام المورث، كخيار الرد بالعيب والشفعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : هل يرجع إلى الوارث؟ فيه قولان، واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان فيه إذا كان المعتق قد عينه بقلبه، فيجوز أن يكون قد أخبر به الوارث. فأما إذا لم يعينه المعتق بقلبه.. فلا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً.
ومنهم من قال: القولان إذا لم يعنيه المعتق بقلبه. فأما إذا كان قد عينه بقلبه.. فلا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً، بل يقرع بينهم.
ومنهم من قال: القولان في الجميع.(8/344)
[فرع اختلاف قول الابن فيمن أعتق الأب في مرض موته]
وإن مات رجل وخلف ابناً وثلاثة أعبد قيمتهم سواء، لا مال له غيرهم، فقال الابن: أعتق أبي هذا العبد في مرض موته، وأشار إلى واحد منهم، ثم قال: لا، بل أعتق هذا وهذا بكلمة واحدة، وأشار إلى الأول وإلى آخر معه، ثم قال: لا بل أعتق الثلاثة كلهم بكلمة واحدة.. قال ابن الحداد:
عتق العبد الأول بإقراره الأول من غير قرعة، ثم يقرع بين الأول وبين الثاني الذي أشار إليه معه في الإقرار الثاني لإعتاق الثاني لا لإرقاق الأول، فإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتقاً، وإن خرجت قرعة العتق على الأول.. لم يعتق الثاني بالإقرار الثاني. ثم تعاد القرعة بين الثلاثة، فإن خرجت قرعة العتق على الثالث.. عتق أيضاً. وإن خرجت على الأول.. رق الثالث والثاني إن لم يعتق الثاني بالقرعة الأولى. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ورق الثالث.
[فرع ترك ثلاثة بنين وثلاثة أعبد واختلفوا في معتق]
وإن مات رجل وخلف ثلاثة بنين وثلاثة أعبد قيمتهم سواء، ولا مال له غيرهم، فقال أحد البنين: أعتق أبي هذا العبد في مرض موته، وقال آخر: بل أعتق أبي هذا وهذا في مرض موته بكلمة واحدة وأشار إلى الذي أشار إليه الأول وإلى آخر معه، وقال الثالث: بل أعتق أبي جميع الثلاثة في مرض موته بكلمة واحدة.
قال ابن الحداد: فإن الأول يعتق ثلثه بإقرار الابن الأول؛ لأنه أقر بعتقه عليه وعلى إخوته.. فقبل إقراره في نصيب نفسه دون نصيب إخوته، ثم يقرع بين العبدين اللذين أشار إليهما الابن الثاني، فأيهما خرجت عليه قرعة العتق.. عتق ثلثه؛ لأنه قدر نصيبه، ثم يقرع بين الأعبد الثلاثة لإقرار الثالث، فأيهم خرجت عليه قرعة العتق.. عتق عليه ثلثه؛ لأنه قدر نصيبه، ولا يقوم على المقر باقي العبد؛ لأن العتق لم يقع بقوله، وإنما هو مخبر عن إعتاق أبيه، والإخبار واجب عليه، فلم يجب عليه التقويم.(8/345)
وإن كانت قيمة العبد الذي أشار إليه الأول مائة، وقيمة الثاني الذي أشار إليه الثاني مع الأول مائتين، وقيمة العبد الثالث ثلاثمائة.. فإن الأول يعتق ثلثه بإقرار الابن الأول؛ لأنه لم يقر أن أباه أعتق إلا ما يساوي مائة، فلزمه ثلثها.
فإذا أقرعنا بين الأول والثاني لإقرار الثاني، فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ثلثه وعتق من الثاني سدسه، وقيمة ذلك ثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأنه أقر أن أباه أعتق ما يساوي مائتين، فلزمه ثلثهما. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ثلثه.
فإذا أقرعنا بين الثلاثة لإقرار الثالث، فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ثلثه ثم تعاد القرعة بين الثاني والثالث، فإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق سدسه وهو تمام حصته من الثلث. وإن خرجت على الثالث بعد خروجها على الأول.. عتق تسعه تمام حصته من الثلث. وإن خرجت قرعة العتق في الابتداء على الثالث.. عتق منه تسعاه. ولا يجب التقويم على ما مضى في الأول.
[فرع اختلاف قول الوارث والشهود في عين المعتق]
قال القاضي أبو الطيب: وإن شهد شاهدان أن رجلاً أعتق قبل موته عبداً له عيناه، وقيمته قدر ثلث تركته، وقال الوارث: لا، بل أعتق هذا، وقيمته قدر ثلث تركته، أو كانت الشهادة والإقرار في الوصية.. عتق العبد المشهود له بالشهادة، ثم يقرع بين المشهود له وبين الذي أقر له الوارث لبيان حكم المقر له لإرقاق المشهود له، فإن خرجت قرعة العتق على المشهود له.. رق المقر له؛ لأنه لا يجوز الزيادة على الثلث. وإن خرجت قرعة العتق على المقر له.. عتق بإقراره وعتق الأول بالشهادة.
[فرع اختلاف قول الشهود في عين المعتق]
قال في " الأم ": [وإن شهد شاهدان على ميت أنه أعتق هذا العبد عتقاً بتاتاً وهو يخرج من الثلث، وشهد آخران أنه أعتق عبدا آخر عتقاً بتاتاً.. سئل عن الوقت،(8/346)
فأيهما سبق بالعتق.. عتق ورق الثاني، ولا قرعة. وإن كانا في وقت واحد ولم يعلم.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر) .
قال في " الأم ": (وإن شهد شاهدان أنه نجز عتق هذا العبد وهو الثلث، وشهد آخران أنه أعتق هذا العبد في الوصية وهو الثلث.. عتق المنجز ورق المعتق في الوصية؛ لأن المنجز سابق، فقدم) .
قال في " الأم ": (وإن شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد في الوصية أو التدبير وشهد آخران أنه أعتق عبدا آخر في الوصية أو التدبير، وكل واحد منهما قدر الثلث.. أعتق واحد منهما بالقرعة) .
إذا ثبت هذا: فإن المزني روى في " المختصر ": لو شهد أجنبيان أنه أعتق عبده وصية وهو الثلث، وشهد وارثان أنه أعتق عبداً غيره وصية وهو الثلث.. عتق من كل واحد منهما نصفه. واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال القاضي أبو الطيب: أخطأ المزني في النقل، وقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المسألة قبلها أنه يقرع بينهما.
وقال بعض أصحابنا: المسألة مفروضة في الوصية بالعتق دون العتق المنجز؛ لأنه قال: (أعتق عبده وصية) وقوله: (عتق من كل واحد منهما نصفه) أراد: أن القياس كان يقتضي ذلك؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر إلا أن السنة وردت بالقرعة، وإنما قصد أن يبين له أنه لا مزية لشهادة الورثة على غيرهم.
ومنهم من قال: بل صورتها أن الشهادتين وقعتا في العتق المنجز؛ لأنه قال: (فإن شهدا أنه أعتق عبده) وقوله: (وصية) أراد: في مرض الموت؛ لأنه حالة الوصية. والحكم في ذلك أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه، ولا يمكن الإقراع بينهما لأنه ربما يكون قد تقدم عتق أحدهما، فخرج عليه سهم الرق، فيكون قد أرق الحر.
وقال ابن القاص: بل تأويل ذلك أنه إذا كان في لفظ الموصي ما يدل على تفريق العتق فيهما.. فيجعل بينهما.(8/347)
[فرع إن ولدت غلاماً فهو حر أو جارية فأنت حرة]
إذا قال لأمته الحامل: إن كان أول ولد تلدينه غلاماً فهو حر، وإن كانت جارية فأنت حرة، فولدت غلاماً وجارية:
فإن ولدت الغلام أولاً: عتق ورقت الأم والجارية.
وإن ولدت الجارية أولاً.. عتقت الأم بوجود صفة العتق فيها، وعتق الغلام تبعاً لها؛ لأن العتق وقع عليها وهي حامل به فتبعها في العتق.
وإن ولدتهما معاً.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتق أحد منهم؛ لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر.
وإن ولدت أحدهما بعد الآخر ولم يعلم أيهما نزل أول.. قال ابن الحداد: عتق الغلام؛ لأنه حر بكل حال، ورقت الجارية؛ لأنها رقيقة بكل حال.
وأما الأم: فإنه يقرع عليها بسهم عتق وسهم رق، فإن خرج عليها سهم العتق.. عتقت. وإن خرج عليها سهم الرق.. رقت. فاعترض عليه بعض أصحابنا، وقال: أخطأ؛ لأن الإقراع لا يكون إلا بين شخصين، فأما شخص واحد يشك في عتقه.. فلا تدخله القرعة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي قاله هذا القائل ليس بصحيح؛ لأن الإقراع ها هنا بين شخصين وهو الابن والأم؛ لأن سبب العتق وجد في أحدهما؛ لأن ولادة البنت سبب عتقهما، وولادة الابن سبب عتقه، وعلم أنه وجد في أحدهما، ولم يعلم بعينه، فوجب الإقراع بينهما.
[فرع علق العتق على الوطء]
وإن كان له أربع إماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن.. فواحدة حرة، فوطئ ثلاثاً منهن ولم يطأ الرابعة:
قال ابن الحداد: أقرع بين الموطوءة أولاً وبين الرابعة التي لم توطأ، فإن خرجت(8/348)
قرعة العتق على الرابعة.. عتقت، ثم تعاد القرعة بين الثانية والأولى، فإن خرجت قرعة العتق على الأولى.. عتقت، ثم تعاد القرعة بين الثانية والثالثة.
قال القاضي أبو الطيب: وبيان صحة ما قاله أنه بناه على أصلين:
أحدهما: أن الموطوءة تدخل في لفظ العتق كما يدخل غيرها.
والثاني: أن الوطء اختيار لملك الموطوءة ويعتبر العتق في غيرها.
إذا ثبت هذا الأصلان: فإنه إذا وطئ إحداهن.. فقد وقع العتق على واحدة من الأربع بغير عينها، فلما وطئ الثانية والثالثة.. كان اختياراً لملكهما، وتعين العتق بين الأولى والرابعة، فوجب الإقراع بينهما لتعيين العتق في إحداهما.
فإن قيل: أليس قد وطئ الأولى كما وطئ الثانية والثالثة، فهلا قلتم: إن العتق ينصرف عنها ويتعين في الرابعة بغير قرعة؟
فالجواب: أن الثانية والثالثة وطئهما بعد وقوع العتق على إحداهن والتعيين إليه، فكان وطؤهما اختياراً لملكهما، ووطئ الأولى قبل وقوع العتق، وإنما وقع العتق بعد هذا الوطء.
وأما العتق الواقع بوطء الثانية: فهو شائع بينهما وبين التي لم تعتق بوطء الأولى، وهي إما الأولى وإما الرابعة.
وأما الثالثة: فقد وطئها بعد وقوع العتق بوطء الثانية فكان اختياراً لملكها، وصرف العتق عنها، فتردد العتق الواقع بوطء الثانية بين الثانية والأولى والرابعة.
وأما العتق الواقع بوطء الثالثة: فهو شائع بينها وبين التي لم تعتق بالقرعة الأولى أو الثانية، وهي الأولى أو الثانية أو الرابعة، فيقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة على إحداهما.. عتقت، فنكون قد عينا العتق في ثلاث منهن وأرققنا واحدة منهن.
ومن أصحابنا من خالفه في ذلك وقال: الوطء لا يكون اختياراً لملك الموطوءة كما لا يكون رجعة في المطلقة. ووافقه أن الموطوءة تدخل في لفظ الإعتاق كغيرها.(8/349)
فعلى هذا: قد عتق بوطء الثلاث ثلاث منهن بغير أعيانهن، فيكتب في ثلاث رقاع عتق، وفي رقعة رابعة رق، ثم يخرج رقعة على إحدى الأربع، فإن خرجت عليها رقعة الرق.. رقت وعتق البواقي. وإن خرجت عليها رقعة العتق.. عتقت، ثم تخرج رقعة أخرى على أخرى، فإن خرجت رقعة الرق.. رقت وعتق الأخريان إلى أن يستوفى عتق ثلاث.
ومن أصحابنا من قال: الموطوءة لا تدخل في لفظ العتق، والوطء اختيار منه لملك الموطوءة.
فعلى هذا: إذا وطئ الأولى.. لم تدخل هي في العتق، وتعتق واحدة إما الثانية أو الثالثة أو الرابعة، لكنه وطئ الثانية والثالثة، فكان ذلك اختياراً لملكهما فتعتق الرابعة. وتعتق الأولى بوطء الثانية؛ لأن الرابعة قد عتقت، والثالثة قد اختار تملكها بوطئها، فلم يبق إلا الأولى.
ويعتق بوطء الثالثة الثانية؛ لأن الرابعة قد عتقت بوطء الأولى، والأولى قد عتقت بوطء الثانية، والثالثة هي الموطوءة لا تدخل في العتق، فلم يبق إلا الثانية.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح؛ لأن قوله: (كلما وطئت واحدة منكن) عام في جميعهن، والوطء اختيار للملك، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البائع إذا وطئ الأمة المعيبة في مدة الخيار.. كان اختياراً للفسخ.
[فرع تعليق العتق بدخول دار أولاً وآخراً]
قال أبو العباس: لو قال: أول عبد يدخل الدار فهو حر، فدخل عبد الدار.. احتمل أن يعتق في الحال، وهو الأصح؛ لأنه أول، واحتمل أن لا يعتق حتى يدخل آخر؛ لأنه لا يقال له أول حتى يكون له آخر.
وإن قال: آخر عبد يدخل الدار فهو حر.. لم يحكم عليه بعتق عبد حتى يموت(8/350)
فيحكم بعتق آخر من دخل من عبيده الدار؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا بموته.
وإن قال: أول عبد يدخل الدار فهو حر، فدخل اثنان معاً، ثم دخل الثالث بعدهما.. لم يعتق أحدهم؛ لأن الاثنين لما دخلا معاً لم يكن أحدهما أولاً، واللفظ اقتضى واحداً، والثالث ليس بأول إلا إن قال: أول عبد يدخل الدار وحده فهو حر.. فيعتق الثالث.
وإن قال: أي أمة ابتعتها وتسريتها فهي حرة، فاشترى أمة وتسراها.. لم تعتق لأنه عقد الصفة قبل الملك.
[مسألة ملك الأصول أو الفروع]
إذا ملك الإنسان أباه، أو أمه، أو جده، أو جدته من قبل الأب أو الأم وإن علوا، أو ملك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا، من البنين أو البنات.. عتق عليه بالملك. وبه قال مالك وأبو حنيفة وعامة أهل العلم. وقال داود: [لا يعتق عليه بالملك أحد من والد ولا ولد ولا غيرهم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] [الأنبياء: 26] ، وهذا يدل على أن الولد لا يكون مملوكاً.
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] [مريم: 90 - 93] . فدل على أن الولادة والعبودية لا يجتمعان له.
وإن ملك من سوى الوالدين له، أو المولودين من سائر القرابة.. لم يعتق عليه.
وقال مالك: (يعتق عليه الإخوة والأخوات) .
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يعتق عليه بالملك كل ذي رحم محرم) .(8/351)
دليلنا: أن من جاز للمكاتب بيعه إذا ملكه.. لم يعتق على الحر إذا ملكه، كالعصبات.
[فرع ولد الزنا لا يعتق]
وإن ولدت المرأة ولداً من الزنى وملكه الزاني بها.. لم يعتق عليه.
وقال أبو حنيفة: (يعتق عليه) .
دليلنا: أنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب، فلا يتعلق بها وجوب الإعتاق، كما لو ولدته لأكثر من أربع سنين من حين الزنى.
[فرع يعتق شقص من ذكر بالملك]
وإن ملك شقصاً ممن يعتق عليه بالملك.. عتق عليه ذلك الشقص كما لو ملك جميعه، وهل يقوم الباقي عليه ويعتق؟ ينظر فيه:
فإن كان معسراً.. لم يقوم عليه ولم يعتق عليه؛ لأن التقويم والسراية لإزالة الضرر عن الشريك، وفي التقويم على المعسر إضرار بالمعسر.
وإن كان موسراً.. نظرت:
فإن ملك ذلك الشقص باختياره، بأن اتباعه أو اتهبه أو أوصي به له فقبله.. قوم عليه الباقي وعتق عليه. وإن ملكه بغير اختياره، بأن ورثه.. لم يقوم عليه الباقي ولم يعتق عليه؛ لأن اختياره لملك الشقص اختيار للتقويم عليه والعتق.
[فرع الوصية والهبة بمن يعتق عليه]
وإذا وصى له بمن يعتق عليه، أو وهب له، أو قدر على شرائه.. فالمستحب له أن يقبل الوصية والهبة ويشتريه ليعتق عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده(8/352)
مملوكاً فيشتريه فيعتقه» . ومعناه: فيعتقه بالشراء كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس غاديان: فبائع نفسه فموبقها، ومشتريها فمعتقها» .
ولا يجب عليه ذلك، وهو قول كافة العلماء. وقال بعض الناس إذا أوصي له بأبيه أو وهب له.. وجب عليه القبول، ليخلصه من ذل الرق.
دليلنا: أنه اجتلاب ملك فلم يجب عليه قبوله، كما لو وصى له بغير أبيه، ولأنه لا يجب عليه شراء أبيه، فلم يجب عليه قبول الوصية والهبة فيه.
[فرع قبول الولي الوصية والهبة]
وإن وصى للمولى عليه بمن يعتق عليه بالملك أو وهب له، فإن كان المولى عليه معسراً.. وجب على الولي أن يقبل له الوصية والهبة؛ لأنه يحصل للمولى عليه بذلك الثواب والولاء من غير ضرر عليه.(8/353)
وإن كان المولى عليه موسراً، فإن كان الموصى به له يلزم المولى عليه نفقته.. لم يجز للولي قبوله؛ لأن النفقة تلزم المولى عليه. وإن كان المولى عليه لا تلزمه نفقته.. وجب على الولي أن يقبل له الوصية والهبة؛ لأنه لا ضرر على المولى عليه.
وإن وصى له ببعضه: فإن كان المولى عليه معسراً.. لزم الولي قبوله؛ لأنه لا يقوم على المولى عليه ولا تلزمه نفقته.
وإن كان موسراً: فإن كان الموصى به زمناً يلزمه نفقته.. لم يجز للولي قبوله؛ لأنه يدخل الضرر على المولى عليه بوجوب النفقة عليه. وإن كان الموصى به صحيحاً مكتسباً.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز للولي قبوله؛ لأنه يلزم المولى عليه الضرر بالتقويم.
والثاني: يلزم الولي قبوله، ولا يقوم على المولى عليه ولا يسري؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، فهو كما لو ملك بعضه بالإرث.
[فرع وصى بجارية لزوجها فماتا وله ابن]
إذا وصى رجل بجارية لزوجها، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبول الوصية، وللموصى له ابن من هذه الجارية يرثه.. فالابن بالخيار: بين أن يقبل الوصية وبين أن يردها.
فإن ردها.. بقيت الأمة على ملك ورثة الموصي.
إن قبل الابن الوصية واحتملها الثلث.. صح ذلك ودخلت في ملك الزوج أولاً، ثم انتقلت إلى ابنه ميراثاً وعتقت عليه.
وإن لم يحتمل الثلث إلا بعضها ولم تجز الورثة باقيها.. صحت الوصية فيما احتمل الثلث منها، ودخل في ملك الزوج بقبول الابن، ثم ينتقل بعد ذلك إلى ملك ابنها بالإرث عن أبيه، ويعتق عليه ذلك.
فإن كان الابن معسراً.. لم يسر العتق إلى باقيها.
وإن كان موسراً.. فهل يقوم عليه باقيها ويسري العتق إليه؟ فيه وجهان:(8/354)
(أحدهما) : قال ابن الحداد: يقوم عليه ويعتق؛ لأنه اجتلب ملك بعضها بقبول الوصية فيقوم عليه باقيها، كما لو أوصى له ببعض أمة فقبلها.
والثاني: من أصحابنا من قال: لا تقوم عليه؛ لأنه ملك بعضها بالإرث عن أبيه، فهو كما لو ورث بعض أمة من غير الوصية.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح؛ لأن له صنعاً في ملك بعضها، وهو قبوله. قال: ونظيرها: إذا باع بعض أمة له بثوب وقبض الثوب ومات بائع بعض الأمة وورثه رجل هو ابن الأمة فوجد الابن بالثوب عيباً فرده.. رجع إليه بعض أمه.
وهل يقوم عليه باقيها إن كان موسراً؟ على الوجهين، الصحيح: أنه يقوم عليه.
[فرع استولد أمة ثم ملكها عتق ابنه منها]
إذا تزوج رجل أمة لغيره فأولد منها ابناً، ثم ملكها.. عتق عليه ابنه وانفسخ النكاح.
فإن ملك الأمة، ثم أوصى بهذه الجارية زوجها لابن لها من غيره، فإن رد الموصى له الوصية.. ملكها ابنها منه إرثاً عن أبيه، وعتقت عليه. وإن قبلها الموصى له وخرجت من الثلث.. عتقت عليه؛ لأنها أمه.
وإن لم يكن له مال غيرها ولم يجز ابنها الوصية فيها.. عتق ثلثها على ابنها الموصى له، وعتق ثلثاها على ابنها الوارث.
وإن أجاز ابنها الوصية فيما زاد على الثلث، فإن قلنا، إن الإجازة ابتداء عطية من الوارث.. لم تصح الإجازة؛ لأنه ليس له أن يهب أمه.
وإن قلنا: الإجازة تنفيذ لما فعله الموصي.. صحت الإجازة، وعتق جميعها على الابن الموصى له.
[فرع أوصى بأمته لابنها من غيره وله ابن منها]
وإن كان لرجل أمة وله ابن من غيرها، ولها ابن من غيره، فأوصى بها لابنها ولا مال له غيرها، فمات الموصي، فأعتق ابنه ثلثيها، ثم قبل ابنها الوصية فيها، فإن(8/355)
قلنا: إن الموصى له يملك الوصية بالقبول.. سرى إعتاق الوارث إلى ثلثها الموصى به.
وإن قلنا: تبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي.. فقد قال ابن الحداد: لا يقوم نصيب الابن الوارث على ابن الأمة الموصى له وإن كان عتقه سابقاً لعتق الوارث.
ومن أصحابنا من خالفه وقال: يقوم ما زاد على الثلث على الابن الموصى له إن كان موسراً؛ لأن عتق نصيب الموصى له سابق لعتق نصيب الوارث، فيقوم عليه، ولأن ابن الحداد قال: إذا أوصى بها لابنها الذي ليس منه ولأجنبي، فقبل الأجنبي الوصية في نصفها وأعتقه، ثم قبل ابنها الوصية.. تبينا أنه عتق على ابنها نصفها حين موت الموصي، ووجب تقويم نصف الأجنبي عليه؛ لأن عتق نصيب ابنها سابق لعتق نصيب الأجنبي، فكذا هذا مثله.
ومنهم من صوب قول ابن الحداد، وقال: لا يقوم على ابنها نصيب الوارث الذي أعتقه؛ لأن ملك الوارث آكد من ملك الموصى له؛ لأنه ينتقل إلى الوارث من غير قبول. فإذا أعتق ذلك.. صح واستقر، والموصى له لا يملك إلا بالقبول.
وإذا قلنا: إنه تبين بالقبول أنه ملك بالموت.. ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، فلم يجز إبطال الأقوى بالأضعف. وليس كذلك إذا كانت الوصية للأجنبي ولابنها؛ لأن سبب ملكهما واحد، وهو الوصية والقبول، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فجعلنا الحكم للسابق.
[فرع أوصى له بما يعتق عليه]
وإن وصى لرجل بمن يعتق عليه، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول وله وارثان، فقبل أحدهما ورد الآخر.. فإن نصيب القابل يدخل في ملك الموصى له ويعتق عليه، وهل يقوم الباقي على القابل؟(8/356)
قال ابن الحداد: إن كان القابل قد ورث عن الموصى له قدر قيمة الباقي.. قوم عليه الباقي. وإن ورث عنه أقل من قيمة الباقي.. قوم عليه من باقي العبد بقدر ما ورث عن الموصى له. وإن لم يرث عن الموصى له شيئاً.. لم يقوم عليه وإن كان موسراً من غير ميراثه عنه؛ لأن التقويم لزم على المتوفى لعتقه عنه في نصيب أحد الوارثين، فتعلق بما ورث عنه وقدم على الميراث، ولم يتعلق بنصيب الوارث الآخر؛ لأن العتق لم يثبت على الموصى له في نصيبه.
قال القاضي أبو الطيب: ويجيء في مثل هذا ما قال بعض أصحابنا: أنه لا يقوم عليه؛ لأنه دخل في ملك القابل بالإرث. والأول أصح.
[فرع اشترى الأمة الحامل زوجها وابنها الحر]
إذا كان لرجل أمة ولها ابن حر من غيره، فزوجها مالكها من رجل وحملت من الزوج، فاشتراها زوجها وابنها الحر من مولاها وهي حامل صفقة واحدة.. فإن نصيب الابن من الجارية يعتق عليه؛ لأنه ملك بعض أمه، ويتبعه نصف حملها، فإن كان الابن معسراً.. لم يقوم عليه نصيب الزوج. وإن كان موسراً.. قوم عليه نصيب الزوج من الجارية.
وأما نصيب الزوج من الحمل: فإنه يعتق عليه؛ لأنه ملك بعض ولده، ولا يقوم نصيب أحدهما بالحمل على صاحبه بحال؛ لأن عتق نصيبهما وقع عليهما في حالة واحدة.
فإن لم يشترياها ولكن أوصى بها مولاها لهما، فإن قبلا الوصية في حالة واحدة، بأن اتفق لفظهما في القبول أو وكلا وكيلا فقبل لهما بكلمة واحدة.. فهو كما لو اشترياها صفقة واحدة.
وإن قبل الوصية أحدهما بعد الآخر.. بنى على وقت ملك الموصى له، فإن قلنا: يتبين بالقبول أنه ملك بالموت.. فهو كما لو قبلا الوصية في حالة واحدة. وإن قلنا: يملك الموصى له بالقبول.. نظرت:(8/357)
إن قبل الزوج أولاً.. عتق عليه نصف الحمل؛ لأنه ملك بعض ولده، وقوم عليه النصف الآخر للموصى له إن كان موسراً، ثم إذا قبل الابن بعده.. عتق عليه نصف الأمة؛ لأنها أمه، ويقوم عليه نصفها للزوج إن كان الابن موسراً فيتقاصان فيما استويا فيه من القيمة ويترادان بالفضل.
وإن قبل الابن أولاً.. عتق عليه نصف الأمة، وتبعها نصف الحمل، وقوم عليه نصف الأمة ونصف الحمل للزوج.
[فرع أسر المسلم أباه الحربي]
وإذا أسر المسلم أباه الحربي وانفرد بأسره.. قال ابن الحداد: لم يعتق عليه؛ لأن الإمام فيه بالخيار: بين قتله ومفاداته والمن عليه، فلو أعتقناه.. لأبطلنا خيار الإمام فيه، ولأن الغانم لا يملك شيئا إلا أن يختار تملكه، ولم يوجد من الابن الاختيار لتملكه.
فإن اختار الإمام استرقاقه، واختار الابن تملكه.. عتق على الابن أربعة أخماسه، ويكون خمسه لأهل الخمس.
فإذا كان الابن معسراً.. رق خمسه. وإن كان موسراً.. قوم عليه الخمس وعتق عليه.
وإن لم يختر الابن تملكه.. كانت أربعة أخماسه مرصدة لمصالح المسلمين، وخمسه لأهل الخمس.
وإن سبى أمه وابنه الصغير واختار تملكهما.. عتق عليه أربعة أخماسهما، وقوم عليه خمسهما لأهل الخمس إن كان موسراً؛ لأنه لا خيار للإمام فيهما.
وإن لم يختر تملكهما.. كانت أربعة أخماسهما لمصالح المسلمين، وخمسهما لأهل الخمس.(8/358)
[فرع قال لأحد عبديه أحدكم حر على ألف]
إذا قال رجل لعبدين له: أحدكما حر على ألف، فقال كل واحد منهما: قد قبلت.. عتق أحدهما لا بعينه. وله أن يعين أيهما شاء، ولا يقرع بينهما ما دام حياً. فإن مات قبل البيان ولا وارث له.. أقرع بينهما.. وإن كان له وارث.. فهل يقوم مقامه في البيان؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب.
أحدهما: يقوم مقامه في البيان كسائر حقوقه.
والثاني: يقرع بينهما كما أقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتعيين العتق في العبيد الستة.
فإذا أقرع بينهما وخرجت القرعة لأحدهما.. عتق. قال ابن الحداد: ولزم العبد قيمته لمولاه، ولا تلزمه الألف؛ لأنه زال ملكه عنه بعوض مجهول ولا يمكنه الرجوع إلى العبد، فيرجع عليه بقيمته.
ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه يرجع عليه بالألف.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو القول القديم في الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل القبض، أو تلف عوض الخلع في يد الزوجة قبل القبض. والأول أصح.
[فرع اختلف إخوة في ملك جارية وولدها]
ولو كانت جارية وولدها في يد ثلاثة رجال إخوة، فقال أحدهم: هذه أم ولدي وهذا ولدها مني. وقال آخر: هذه أم ولد أبينا وولدها أخونا. وقال الثالث: هذه أمتي وولدها عبدي، ولا بينة لوحد منهم.. قال ابن الحداد: فإنه يعتق ثلث الجارية وثلث ولدها بإقرار من قال: هي أم ولد أبينا. ويعتق ثلث ثان من الولد بإقرار من قال: الجارية أم ولدي وولدها مني، ويصير ثلث الجارية أم ولد له، ويسري إلى ثلث الجارية وثلث ولدها، فيلزم الذي أقر بكونها أم ولد له ثلث قيمتها وثلث قيمة ولدها إن(8/359)
كان موسراً بقيمتها للذي ادعى أنهما مملوكان له. ويثبت نسب الولد من الذي ادعى أنه ابنه؛ لأنه أقر بثبوت نسبه منه ولا منازع له في ذلك. ولا يثبت النسب من الأب؛ لأنه إقرار من بعض الورثة.
[فرع علق عتق عبده على حجه العام]
إذا قال: إن لم أحج العام فعبدي حر، فادعى أنه حج، فأقام العبد بينة أنه كان يوم النحر بالكوفة.. قال في " الفروع ": عتق العبد؛ لأن الحال إذا كان كذلك استحال أن يكون حج تلك السنة.
[فرع مسائل من الدور في العتق]
مسائل من الدور في العتق: إذا أوصى رجل بعتق عبد، فاكتسب العبد مالا بعد الوصية وقبل موت سيده.. فإن جميع كسبه يكون ملكاً لسيدة ولورثته بعده؛ لأن عتقه قبل موت سيده غير لازم؛ لأن للموصي أن يرجع في وصيته بعتقه.
وإن مات الموصي فاكتسب هذا العبد مالاً بعد موت سيده وقبل الإعتاق، فإذا كان العبد يخرج من الثلث.. فإن جميع الكسب له؛ لأن العبد قد استحق العتق بموت سيده، وإنما تأخر إعتاقه بتفريط الوصي أو الوارث. وإن لم يخرج من الثلث ولم تجز الورثة.. كان للعبد من الكسب بقدر ما عتق منه. فإن عتق منه ثلثه.. كان له ثلث كسبه، وإن عتق منه نصفه.. كان له نصف كسبه، وباقي كسبه للورثة؛ لأن الكسب حصل منه بعد أن دخل ما لم يستحق إعتاقه في ملكهم.
وإن أعتق في مرض موته عبداً له، ومات السيد، ثم كسب العبد مالاً بعد موت سيده وعلى السيد دين يحيط بتركته.. فإن العبد لا يعتق، ويباع في الدين، والكسب للورثة ولا يقضى الدين من الكسب.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يقضى الدين من الكسب. والمنصوص هو الأول. وإن لم يكن على الميت دين. فإن جميع الكسب للعبد إن كان يخرج من الثلث. وإن كان لا يخرج من الثلث.. فله من الكسب بقدر ما عتق منه، وللورثة بقدر ما رق(8/360)
منه، ولا تزداد التركة هاهنا بالكسب؛ لأنه حدث في ملكهم. ولا دور في شيء من هذه المسائل.
وإن أعتق عبداً في مرض موته فاكتسب العبد مالاً بعد العتق وقبل موت سيده، فإن خرج العبد من الثلث.. كان جميع الكسب للعبد. وإن لم يخرج من الثلث. دخله الدور؛ لأن الكسب يتقسط على ما فيه من الحرية والرق، فما قابل ما فيه من الحرية.. كان للعبد بغير وصية. وما قابل فيه من الرق.. فهو للسيد فتزداد تركته بذلك. فإذا ازدادت التركة.. ازداد العتق، وإذا ازداد العتق.. ازداد استحقاق العبد من الكسب فدارت المسألة.
فإن كانت قيمة العبد مائة وكسبه مائة ولا مال للسيد غير ذلك.. فحسابه أن تقول:
يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء من غير وصية فيبقى في يد الورثة مائتان إلا شيئين تعدل مثلي ما عتق منه - وهو شيئان - فإذا جبرت المائتين بالشيئين الناقصين وزدتهما على الشيئين المعادلين. صار مع الورثة مائتان يعدلان أربعة أشياء، فإذا قسمت المائتين على أربعة أشياء.. أصاب كل شيء خمسون، فيعلم أن الشيء المطلوب خمسون - وهو نصف العبد - فيعتق منه نصفه ويتبعه شيء - وهو نصف كسبه - فيبقى مع الورثة من العبد شيء - وهو خمسون - ومن كسبه شيء - وهو خمسون - فذلك مائة، وهو مثلاً ما عتق منه.
وإنما قلت: يتبعه شيء؛ لأن الكسب مثل قيمته، ولو كسب مثلي قيمته.. لقلت: يتبعه شيئان، وإن كسب ثلاثة أمثال قيمته.. لقلت: يتبعه ثلاثة أشياء. وإن كسب مثلي نصف قيمته.. لقلت: يتبعه من كسبه نصف شيء.
وإن ترك السيد مائة، وكسب العبد مائة، وقيمة العبد مائة.. فحسابه أن يقول: يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية، فيبقى في يد الورثة ثلاثمائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الثلاثمائة أربعة أشياء، الشيء خمسة وسبعون - وهو ثلاثة أرباع العبد - فيعتق ذلك منه، وله من كسبه مثل ذلك، فيبقى في(8/361)
يد الورثة المائة التي تركها مورثهم، ومن العبد ما قيمته خمسة وعشرون ومن كسبه خمسة وعشرون، فذلك مائة وخمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد.
وإن كسب العبد مائة، وقيمته مائة، وعلى السيد دين مائة دينار ولا مال له غير ذلك.. فحسابه أن نقول:
يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية، فبقي في يد الورثة مائتان إلا شيئين، يخرج من ذلك مائة للدين، يبقى مائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة أربعة أشياء، الشيء خمسة وعشرون، فيعتق قدر ذلك من العبد - وهو ربعه - وله ربع كسبه، فبقي في يد الورثة خمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد.
ولو استقرض السيد في حياته المائة التي كسبها العبد وأتلفها، ومات؟ ولا مال له غير العبد.. قيل للعبد: إن أبرأت مما تستحقه من الكسب.. عتق ثلثك ورق ثلثاك، وإن طالبت بما تستحقه من الكسب.. فحسابه أن يقال:
يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية دين على السيد، فبقي في يد الورثة مائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة أربعة أشياء، الشيء ربع العبد، فيعتق ربعه - وقيمته خمسة وعشرون - ويرق ثلاثة أرباعه - وقيمته خمسة وسبعون - ويقال للورثة: إن اخترتم أن تعطوا العبد من خاص أموالكم خمسة وعشرين - وهو ما يستحقه من كسبه - ملكتم ثلاثة أرباعه. وإن اخترتم بيعه.. بعتم ربعه بدينه، وملكتم بالإرث نصفه، وهو مثلاً ما عتق منه.
فإن اختار العبد أن يأخذ ربع رقبته بدينه.. قال ابن اللبان: كان أحق به من الأجنبي. فإذا أخذه.. عتق نصفه.
وإن كان بدل الكسب في هذه المسائل مالاً وهب للعبد، أو أرش جناية عليه، أو كانت جارية فوطئها رجل بشبهة، أو حبلت بعد أن أعتقت وولدت، أو داراً فاستغلت.. فحكمه حكم الكسب على ما ذكرناه.(8/362)
[فرع أعتق في مرض موته عبداً فزادت قيمته قبل موته]
] : وإن أعتق في مرض موته عبداً قيمته مائة، أو وهبه لغيره وأقبضه، فزادت قيمة العبد قبل موت سيده، فبلغت ستمائة، ومات السيد ولا مال له غير العبد.. فهو كالكسب، وحسابه أن نقول: يعتق منه شيء ويتبعه بالزيادة خمسة أشياء بغير وصية، فيبقى في يد الورثة ستمائة إلا ستة أشياء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الستمائة ثمانية أشياء، فإذا قسمت الستمائة على ثمانية أشياء.. خص كل شيء خمسة وسبعون درهماً، وهو قيمة ثلاثة أرباعه يوم عتق، فيعتق ثلاثة أرباعه، ولا يحتسب على العبد بزيادة قيمة ثلاثة أرباعه، ويبقى للورثة ربعه، وقيمته يوم مات سيده مائة وخمسون، وهو مثلاً قيمة ما عتق من العبد يوم العتق.
ولو لم تزد قيمة العبد ولكن نقصت قيمته بعد ما أعتق وقبل أن يقبضه الورثة فبلغت قيمته خمسين. فحسابه أن نقول: يعتق منه شيء ويبقى مائة إلا شيئاً حصل ذلك في يد الورثة، وهو خمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الخمسون شيئين ونصف شيء، فإذا قسمتها.. كان الشيء عشرين، فيعتق ذلك منه - وذلك خمس العبد يوم أعتق - ويبقى للورثة أربعة أخماسه وقيمته يوم قبضه الورثة أربعون، وذلك مثلاً ما عتق من العبد.. وهكذا الحكم في الهبة.
وفيه وجه آخر: أنه لا يحتسب على العبد ولا على الموهوب بما نقص من القيمة في يده، فيصح العتق والهبة في ثلثه ويرق ثلثاه؛ لأن المعتق والموهوب له لم يستقر ملكهم على ما قبضوا من وصاياهم. ألا ترى أنهم ممنوعون من التصرف فيه حتى تقسم التركة؟ فكانت أيديهم كيد المودع الحافظ على الميت تركته حتى تقسم التركة فلم يضمنوا، ألا ترى أن التركة لو كانت في يد الورثة وهم ممنوعون من التصرف فيها لحق الغرماء وأهل الوصايا فنقصت في أيديهم، لما احتسب عليهم بما نقص في أيديهم من حقوقهم؟ فكذلك المعتق والموهوب.
قال ابن اللبان: وظاهر كلام الشافعي بخلاف هذا.(8/363)
[فرع وهب في مرض موته وأقبضه فمات العبد]
] : فإن وهب في مرض موته لغيره عبداً قيمته مائة، وأقبضه الموهوب له، فمات العبد في يد الموهوب له، ثم مات الواهب ولا مال له غير العبد.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الهبة صحيحة؛ لأن العبد لم يبق، فتقع فيه المواريث ولا تركة هناك فيدخل العبد في التركة ليجري فيها ما توجبه الوصية.
والثاني: أن الهبة باطلة؛ لأن هبته في مرض موته وصية ولا تصح حتى يبقى للورثة مثلاه.
فعلى هذا: لا يلزم الموهوب له ضمان العبد؛ لأن العقد الفاسد يجري مجرى الصحيح، في الضمان.
فإن كسب العبد في يد الموهوب له ألفاً، ثم مات العبد، ثم مات سيده.. صحت الهبة في شيء منه، وللموهوب له من كسبه عشرة أشياء، فبقي في يد الورثة ألف إلا عشرة أشياء، تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت اثني عشر شيئاً، فإذا قسمت الألف على اثني عشر شيئاً.. أصاب الشيء ثلاثة وثمانون وثلث درهم، وذلك خمسة أسداس العبد، وهو الذي صحت فيه الهبة. فللموهوب له خمسة أسداس الألف بغير وصية، ولورثة الواهب سدس الألف وهو مثلاً ما صحت فيه الهبة ولا يحتسب ذلك على الورثة بما تلف من العبد؛ لأنه لم يحصل في أيديهم. ولا يضمن الموهوب له حصة الورثة منه؛ لأن يده أمانة.
[فرع أعتق عبداً في مرض موته فماتا]
] : فإن أعتق في مرض موته عبداً قيمته مائة، فمات العبد، ثم مات السيد ولا مال له.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن العبد مات رقيقاً؛ لأن عتقه في مرض الموت وصية، ولم يبق للورثة مثلاً قيمته.(8/364)
والثاني: أنه مات حراً؛ لأن عتق المريض لم يمنع ورثته من إرثه، فصار كأنه لم يتلف عليهم شيئاً، فصار كعتق الصحيح.
فإن كسب العبد مالاً بعد عتقه وقبل موت سيده، ومات العبد وخلفه، ثم مات سيده.. قال ابن اللبان: تغير هذا المعنى؛ لأن السيد ليس له أن يدخل على ورثته ما يمنعهم مما يلحق بحكم هذا العبد من كسبه، ولا يتهيأ لهم أن يأخذوا مال حر إلا من جهة الميراث.
فإن ترك العبد مائتي درهم فما زاد ولا وارث له إلا مولاه.. مات العبد حراً، وورثه السيد بالولاء، وحصل لورثة السيد.
وإن ترك العبد مائة درهم.. مات العبد ونصفه حر ونصفه رقيق، وورث السيد نصف المائة، ونصفها في حق الملك في أحد الوجهين. وفي الثاني: مات حراً كله، نصفه بالوصية؛ لأن مع ورثة السيد مثليه، ونصفه بغير وصية؛ لأنه لم يبق حتى يجري فيه الميراث.
وإن ترك العبد مائتي درهم وبنتاً وارثة ومولاه.. فإن قلنا بالقول الجديد، وأن من مات وبعضه حر وبعضه مملوك ورث عنه ورثته ما ملكه ببعضه الحر ... دخلها الدور، فنقول: عتق منه شيء وله من كسبه شيئان، ترث البنت شيئاً، ويرث المولى شيئاً بحق الولاء، وباقي كسبه للمولى بحق الملك، فيبقى في يد المولى مائتان إلا شيئاً، تعدل شيئين فإذا جبرت
عدلت المائتان ثلاثة أشياء، الشيء ثلثا المائة، فيعتق ثلثا العبد، فيكون له ثلثاً كسبه وهو مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، فترث البنت نصف ذلك، ويرث المولى نصف ذلك بحق الولاء، ويأخذ باقي كسبه بحق الملك فيكون للمولى مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهو مثلاً ما عتق من العبد.
وإن قلنا بالقول القديم، وأن وارثه لا يرث عنه ما ملكه ببعضه الحر، وقلنا: يكون لسيده.. مات العبد حراً كله، وجميع كسبه لمولاه، ولا ترثه البنت؛ لأن في(8/365)
توريثها ما ينقص تركة السيد فلا يخرج العبد من ثلثه، فيؤدي إلى رق بعضه، وإذا رق بعضه.. لم ترثه البنت، فكان توريثها يؤدي إلى أن لا ترث، فمنعت الإرث.
وإن ترك العبد أربعمائة درهم فصاعداً.. مات العبد حراً كله في أحد القولين وورثت البنت مائتين والسيد مائتين.
وإن ترك العبد ابناً ومائتي درهم، وقلنا بالقول الجديد.. عتق من العبد شيء، وله من كسبه شيئان يرثهما ابنه، والباقي من الكسب للسيد، وهو مائتان إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء، الشيء خمسون - وهو نصف قيمة العبد - فيعتق نصفه، فيكون له نصف كسبه، وهو مائة منه يرثها ابنه، ويكون لسيده نصف كسبه، وهو مائة، وذلك مثلاً ما عتق من العبد.
وإن قلنا بالقديم.. مات العبد حراً كله، وكان الكسب كله للسيد، ولا يرث الابن شيئاً؛ لأن توريثه يؤدي إلى أن لا يرث على ما تقدم.
فإن مات ابن العبد بعد العبد، ثم مات السيد ولا وارث للابن غير مولى أبيه.. عتق جميع العبد، وورث ابنه جميع المائتين، ثم ورث السيد ابن العبد، فيحصل لورثته مثلاً قيمة العبد. فلو لم يخلف العبد شيئاً ولكن خلف ابن العبد مائتي درهم، وترك مولى أبيه ومولى أمه.. مات الأب حراً، وورث مولى العبد الابن، فيحصل مع ورثته مثلاً قيمة العبد.
وإن ترك ابن العبد أقل من مثلي قيمة أبيه، فإن قلنا: إن العبد مات رقيقاً.. لم يرث مولى العبد من ابن العبد شيئاً. وإن قلنا: إنه مات حراً.. ورثه.
قال ابن اللبان: فإن لم يمت العبد ولكن مات ابنه وخلف ألف درهم، ثم مات السيد.. عتق العبد، ولم يرث من ابنه شيئاً، وورثه السيد بالولاء.
فإن قيل: فهلا ورث العبد ابنه وقد تم عتقه؟
قيل: لو ورثه لما خرج من الثلث فيرق بعضه فلا يرث، فكان توريثه يؤدي إلى قطعه فلم يرث، فكان السيد أحق بميراثه.(8/366)
فإن ترك ابن العبد مائة.. عتق من العبد شيء وجر من ولاء ولده بقدر ما عتق منه، فورث السيد من المائة التي تركها الابن شيئاً، فيحصل ذلك مع باقي العبد لورثة السيد، وذلك مائة تعدل شيئين، فالشيء خمسون - وهو نصف العبد - فيعتق نصف العبد فيجر إلى سيده نصف ولاء ولده، فيرث نصف المائة التي تركها الابن مع نصف العبد، وذلك مائة مثلاً ما عتق من العبد.
وإن ترك ابن العبد خمسين.. قلت: يعتق من العبد شيء، وورث السيد مما ترك ابن العبد نصف شيء، فبقي في يده مائة إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين، ونصفا، الشيء خمسا المائة، فيعتق خمسا العبد وقيمته أربعون، فيرث السيد خمسي الخمسين، وهو عشرون مع ما بقي من العبد -فذلك ثمانون- وهو مثلا ما عتق من العبد.
[فرع أعتق جارية فوطئها قبل موته]
وإن أعتق في مرض موته جارية له قيمتها مائة، فوطئها قبل موته، ومهر مثلها خمسون، ولا مال له غيرها، ثم مات.. فحسابه أن يقال.
يعتق منها شيء بوصية، ولها على سيدها نصف شيء بغير وصية، فبقي في يده جارية قيمتها مائة إلا شيئاً ونصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، ونصفا، الشيء سبعاها، فيعتق سبعاً الجارية، وتستحق الجارية سبعي مهرها، وذلك قدر سبع رقبتها، فتباع بمهرها، فيبقى في يد الورثة أربعة أسباعها، وهو مثلاً ما عتق منها. فإن حبلت من هذا الوطء وولدت.. ففيه وجهان:
أحدهما: تعتق من جهة أنها أم ولد لا من جهة الوصية؛ لأن الميت لا ثلث له.
والثاني: تعتق من حين أعتقها سيدها؛ لأنها لم تبق على ملك الميت فتجري في الميراث والوصية، فصار عتق الميت مانعاً للورثة من أن يرثوها، فيكون كعتق الصحيح، ويجب لها المهر في ذمة السيد.(8/367)
قال ابن اللبان: والأول أشبه بمذهب الشافعي.
فإن ترك السيد مائة درهم.. عتق منها شيء بالوصية يوم أعتقت، ولها نصف شيء بالمهر تأخذه من المائة، ويعتق باقيها بالإحبال من رأس المال، فبقي في يد الورثة مائة درهم إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرتها.. عدلت شيئين ونصفاً، الشيء خمسا المائة - وهو أربعون - فيعتق منها بالوصية خمساها، ولها خمسا مهرها - وهو عشرون من المائة - فيبقى في يد الورثة ثمانون، وهو مثلاً ما عتق منها بالوصية.
[مسألة أعتق في مرض موته عبدين]
ولو أعتق في مرض موته عبدين، قيمة كل واحد منهما مائة، أحدهما قبل الآخر، فاكتسب كل واحد منهما مائة بعد العتق وقبل موت السيد، ومات السيد ولا مال له غير ذلك.. عتق الأول بالوصية وله جميع كسبه بغير وصية، وللورثة العبد الثاني وكسبه وذلك مثلاً قيمة الأول.
فإن كسب كل واحد منهما مائتين.. عتق الأول وله كسب، وعتق من الثاني تمام الثلث، فيقال: عتق منه شيء، وله من كسبه شيئان، فبقي في يد الورثة ثلاثمائة إلا ثلاثة أشياء، تعدل مثلي قيمة الأول ومثلي ما عتق من الثاني - وهو مائتان وشيئان - فإذا جبرت الثلاثمائة الأشياء الناقصة، وزدتها على الشيئين المقابلين لها.. كانت الثلاثمائة تعدل مائتي درهم وخمسة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فتبقى مائة تعدل خمسة أشياء، الشيء خمس المائة، فيعتق خمس العبد الثاني، وقيمة ما عتق منه عشرون، فيأخذ خمس كسبه -وهو أربعون - فيبقى في يد الورثة من قيمة الثاني ثمانون، ومن كسبه مائة وستون فذلك مائتان وأربعون وهو مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني.
فإن كسب كل واحد منهما ثلاثمائة.. عتق الأول وله كسبه، وعتق من الثاني شيء وله من كسبه ثلاثة أشياء، فبقي في يد الورثة الثاني وكسبه، وهو أربعمائة إلا أربعة أشياء تعدل مثلي قيمة الأول ومثلي ما عتق من الثاني، وذلك مائتان وشيئان.(8/368)
فإذا جبرت الأربعمائة بالأربعة الأشياء الناقصة وزدتها على الشيئين المقابلين.. صارت أربعمائة تعدل ستة أشياء ومائتين، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فتبقى مائتان تعدلان ستة أشياء، فالشيء الواحد سدس المائتين، وذلك قدر ثلث قيمة الثاني، فيعتق ثلث الثاني، ويتبعه ثلث كسبه - وهو مائة- فيبقى مع الورثة ثلثا رقبة الثاني وثلثا كسبه، وذلك مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني.
ولو لم يعتق أحدهما بعد الآخر ولكن أعتقهما بكلمة واحدة.. أقرع بينهما، فمن خرجت عليه قرعة العتق منهما.. كان كما لو بدأ بعتقه.
[فرع أعتق ثلاثة أعبد في مرض موته]
وإن أعتق في مرض موته ثلاثة أعبد له، قيمة كل واحد منهم مائة، أحدهم بعد الآخر، فاكتسب الأول بعد عتقه وقبل موت سيده مائة، ومات السيد ولا مال له غيرهم.. عتق الأول وله كسبه، ورق الآخران وقيمتهما مثلاً قيمة الأول.
وإن كسب كل واحد منهم مائة.. عتق الأول وتبعه كسبه، وعتق من الثاني شيء وله من كسبه شيء، فبقي في يد الورثة أربعمائة إلا شيئين تعدل مائتين، وهو مثلاً قيمة الأول وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت الأربعمائة مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائتان يعدلان أربعة أشياء - الشيء خمسون - فيعتق نصف الثاني ويتبعه نصف كسبه، فيبقى مع الورثة نصف الثاني ونصف كسبه، والثالث وكسبه - وذلك ثلاثمائة - وهو مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني.
فإن كسب كل واحد منهم ثلاثمائة.. عتق الأول والثاني، ولهما كسبهما، وكان للورثة الثالث وكسبه، وذلك مثلاً قيمة الأول والثاني.
وإن كسب كل واحد منهم خمسمائة.. عتق الأول والثاني، ولهما كسبهما، وعتق من الثالث شيء وله من كسبه خمسة أشياء، فيبقى في يد الورثة ستمائة إلا ستة أشياء تعدل مثلي قيمة الأول والثاني وما عتق من الثالث، وذلك أربعمائة وشيئان، فإذا جبرت.. عدلت الستمائة أربعمائة وثمانية أشياء، فأسقط أربعمائة بإزاء أربعمائة،(8/369)
فيبقى مائتان تعدلان ثمانية أشياء، الشيء خمسة وعشرون - وهو ربع قيمة الثالث - فيعتق ربعه ويتبعه ربع كسبه، فيبقى من الثالث ومن كسبه أربعمائة وخمسون وذلك مثلاً قيمة الأول والثاني ومثلاً ما عتق من الثالث.
وإن أعتقهم بكلمة واحدة وكسب أحدهم مائة لا غير.. أقرع بينهم، فإذا خرجت قرعة العتق على المكتسب ... عتق جميعه وتبعه كسبه، ورق الآخران وقيمتهما مثلاً قيمة الأول.
وإن خرجت قرعة العتق على أحد الآخرين.. عتق جميعه وبقي من الثلث شيء، فيقرع بين المكتسب وبين الباقي من العبدين اللذين لم يكتسبا، فإن خرجت قرعة العتق على الذي لم يكتسب.. عتق ثلثه ورق ثلثاه والمكتسب وكسبه، فيبقى مع الورثة مائتان وستة وستون وثلثان، وذلك مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني.
وإن خرجت قرعة العتق على المكتسب.. عتق منه شيء وله من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة باقي رقبته وباقي كسبه وجميع العبد الآخر، وذلك ثلاثمائة إلا شيئين تعدل مثلي قيمة الأول وما عتق من الثاني - وذلك مائتان وشيئان - فإذا جبرت الثلاثمائة بالشيئين الناقصين وزدتهما على الشيئين المقابلين لها.. صارت الثلاثمائة تعدل مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائة تعدل أربعة أشياء، الشيء ربعها، فيعتق ربع العبد ويتبعه ربع كسبه، فيبقى مع الورثة ثلاثة أرباعه وثلاثة أرباع كسبه والعبد الآخر، ومبلغ ذلك مائتان وخمسون، وذلك مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني.
وإن أعتق الثلاثة بكلمة واحدة، وكسب كل واحدة منهم مائة.. أقرع بينهم، فمن خرج له سهم العتق.. عتق جميعه وتبعه كسبه، وقد بقي من الثلث شيء فيقرع بين الآخرين، فمن خرج له سهم العتق.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة أربعمائة إلا شيئين تعدل مائتين وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائتان تعدل أربعة أشياء - الشيء خمسون -(8/370)
فيعتق نصف الثاني ويتبعه نصف كسبه، ويبقى مع الورثة نصفه ونصف كسبه وجميع الثالث وكسبه، وذلك ثلاثمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني.
وإن كانت قيمة أحدهم ثلاثمائة وكسبه ثلاثمائة، وقيمة آخر مائتين وكسبه مائتين، وقيمة الثالث مائة وكسبه مائة، وأعتقهم بكلمة واحدة ومات، ولا مال للسيد غير ذلك.. أقرع بينهم.
فإن خرج سهم العتق على من قيمته ثلاثمائة.. عتق جميعه وله كسبه، وكان للورثة الآخران وكسبهما، ومبلغ ذلك ستمائة، وهو مثلاً قيمة المعتق.
وإن خرج سهم العتق على من قيمته مائتان.. عتق جميعه وتبعه كسبه وبقي من الثلث بعضه، فتعاد القرعة بين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على من قيمته مائة.. عتق جميعه وتبعه كسبه، وبقي للورثة الذي قيمته ثلاثمائة وكسبه، وذلك مثلا قيمة العبدين المعتقين. وإن خرج سهم العتق على من قيمته ثلاثمائة.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة ثمانمائة إلا شيئين تعدل أربعمائة وشيئين، فاجبر الثماني مائة بالشيئين الناقصين وزدهما على الشيئين المقابلين لهما مع أربعمائة، فتكون ثماني مائة تعدل أربعمائة وأربعة أشياء، فتسقط أربعمائة بإزاء أربعمائة، فيبقى أربعمائة تعدل أربعة أشياء الشيء مائة وهو ثلث العبد المقوم بثلاثمائة فيعتق ثلثه ويتبعه ثلث كسبه، ويبقى مع الورثة ثلثاه وثلثا كسبه والمقوم بمائة وكسبه، وذلك ستمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني.
وإن خرج سهم العتق أولاً على المقوم بمائة.. عتق كله وتبعه كسبه، وبقي بعض الثلث، فتعاد القرعة بين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على المقوم بمائتين.. عتق جميعه وتبعه كسبه، ورق الثالث وقيمته ثلاثمائة وكسبه ثلاثمائة، وذلك مثلاً قيمة العبدين المعتقين.(8/371)
وإن خرج سهم العتق على المقوم بثلاثمائة.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة ألف إلا شيئين تعدل مائتين وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى ثمانمائة تعدل أربعة أشياء - الشيء مائتان - وذلك ثلثا العبد المقوم بثلاثمائة، فيعتق ثلثاه ويتبعه ثلثا كسبه، فيبقى مع الورثة ثلثه وثلث كسبه وجميع العبد المقوم بمائتين وجميع كسبه، وذلك كله ستمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني.
والله أعلم وبالله التوفيق(8/372)
[باب القرعة]
إذا أعتق عبيداً له في مرض موته في حالة واحدة، ومات ولم يحتملهم الثلث، ولم يجز الورثة.. أقرع بينهم.. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يعتق من كل واحد منهم ثلثه ويستسعى في قيمة باقيه) .
دليلنا: ما روى عمران بن الحصين: «أن رجلاً أعتق في مرض موته ستة أعبد ولا مال له غيرهم، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، فأعتق اثنين منهم، وأرق أربعة» .
إذا ثبت هذا: فإن كان القصد عتق الثلث. ففيه ست مسائل:
الأولى: أن يكون لهم ثلث صحيح وتكون قيمتهم متساوية، بأن كانوا ثلاثة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة، أو ستة أعبد قيمة كل واحد مائة، فإن كانوا ستة ... جعل كل اثنين جزءاً، ثم يؤخذ ثلاث رقاع متساوية فيكتب في كل رقعة ما يريد، وتترك في ثلاث بنادق من طين أو شمع متساوية الصفة والوزن، وتجفف وتغطى بثوب، ويقال لرجل لم يحضر الكتابة والبندقة: أخرج بندقة، فيعمل بما فيها.
ثم هو بالخيار: بين أن يكتب الأسماء وبين أن يكتب الحرية والرق، فإن اختار أن يكتب الأسماء.. كتب في كل رقعة اسم اثنين.
ثم إن شاء أخرج على الرق، وإن شاء أخرج على الحرية. فإن أخرج على الرق.. أخرج رقعة، ويقول: من فيها رقيق، فيفتح وينظر من فيها، فيرق، ثم يخرج رقعة(8/373)
أخرى فيقول: من فيها رقيق، فينظر من فيها، فيرق، وتتعين الحرية لمن في الثالثة ولا يحتاج إلى إخراجها؛ لأنه لا فائدة في إخراجها.
وإن شاء أخرج أولاً على الحرية، فيخرج رقعة فيقول: من فيها حر، فينظر من فيها، فيعتق، ويرق من في الرقعتين الباقيتين، ولا يحتاج إلى إخراجها. والإخراج على الحرية أولى؛ لأنه أقرب.
وإن اختار كتب الحرية والرق.. كتب في رقعة حر وفي رقعتين رق، ثم يخرج الرجل رقعة ويضعها على جزء من الثلاثة الأجزاء، وينظر ما فيها، فإن كان فيها الحرية.. عتق ذلك الجزء ورق الجزآن الآخران، ولا يحتاج إلى إخراج الرقعتين الباقيتين؛ لأنه لا فائدة في ذلك.
وإن خرج في الرقعة الأولى الرق.. حكم برق ذلك الجزء الذي خرجت عليه، ثم يخرج رقعة ثانية على جزء ثان، فإن خرج فيها رق.. حكم برق ذلك الجزء وتعين العتق للجزء الثالث. وإن خرج في الثانية الحرية.. عتق الجزء الثاني ورق الثالث، ولا يفتقر إلى إخراج الرقعة الثالثة.
المسألة الثانية: أن يكون لعددهم ثلث صحيح وقيمتهم مختلفة إلا أنه يمكن تعديل قيمتهم، مثل: أن يكونوا ستة قيمة اثنين ألفان، وقيمة اثنين أربعة آلاف، وقيمة اثنين ستة آلاف، فيجعل العبدان اللذان قيمتهما أربعة آلاف جزءاً، ويجعل أحد العبدين المقومين بألفين مع أحد العبدين المقومين بستة آلاف جزءاً، وكذلك يفعل بالآخرين، فيصيرون ثلاثة أجزاء كل جزء قيمته أربعة آلاف، ثم يقرع بينهم، على ما ذكرناه في التي قبلها.
المسألة الثالثة: أن يكون لعددهم ثلث صحيح، وقيمتهم مختلفة، ولا يمكن تعديلهم بالعدد والقيمة، فإن عدلوا بالعدد.. اختلفت قيمتهم. وإن عدلوا بالقيمة.. اختلف عددهم، وإنما يمكن بأحدهما. فإن كانوا ستة، قيمة واحد ألف، وقيمة اثنين ألف، وقيمة ثلاثة ألف.. ففيه وجهان:(8/374)
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنهم يعدلون بالقيمة، فيجعل العبد الذي قيمته ألف جزءاً، والعبدان اللذان قيمتهما ألف جزءاً، والثلاثة الذين قيمتهم ألف جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما تقدم) .
والثاني: من أصحابنا من قال: يعدلون بالعدد، فيجعل كل اثنين جزءاً، فيجعل العبدان المقومان بألف جزءاً - وهو قدر الثلث - ويجعل العبد المقوم بألف مع أحد الثلاثة المقومين بألف جزءاً وقيمتهما أكثر من الثلث، ويجعل العبدان الآخران من الثلاثة جزءاً وقيمتهما أقل من الثلث، ثم يقرع بينهم على ما مضى.
فإن خرجت الحرية على المقومين بألف.. عتقاً وقيمتهما الثلث، ورق باقي العبيد.
وإن خرجت الحرية على المقومين بألف وثلث الألف.. فلا يمكن عتقهما، فيقرع بينهما، فإن خرجت الحرية على المقوم بألف ... عتق ورق الآخر مع باقي العبيد. وإن خرجت الحرية على المقوم بثلث الألف.. عتق وعتق ثلثاً المقوم بألف ورق ثلثه وباقي العبيد.
وإن خرجت الحرية على المقومين بثلثي الألف ... عتقاً وقد بقي بعض الثلث، ثم يقرع بين الجزأين الآخرين لتمام الثلث. فإن خرج سهم العتق على العبدين المقومين بألف.. أعيدت القرعة بين هذين العبدين، فأيهما خرج عليه سهم العتق.. عتق ثلثاه ورق ثلثه مع باقي العبيد. وإن خرج سهم العتق في المرة الثانية على المقومين بألف وثلث ألف.. أعيدت القرعة بينهما، فإن خرج سهم العتق على المقوم بثلث الألف.. عتق جميعه ورق الآخر مع العبدين المقومين بألف. وإن خرج سهم العتق على المقوم بألف.. عتق ثلثه ورق ثلثاه مع الثلاثة الباقين.
وأصل هذين الوجهين الاختلاف في تأويل حديث عمران بن الحصين، فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما جزأهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء؛ لأن قيمتهم تساوت) . وهذا القائل يقول: إنما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلكم لأن عددهم كان مستوياً.(8/375)
والصحيح هو الأول؛ لأنه أقرب. وفيما قال هذا القائل.. يحتاج إلى إعادة القرعة.
المسألة الرابعة: إذا كان لعددهم ثلث صحيح والقيم مختلفة ولا يمكن تعديل السهام بالقيمة، مثل أن كانوا ستة قيمة واحد ألفان، وقيمة اثنين ألف، وقيمة ثلاثة ألف:
قال المحاملي: فعلى منصوص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يعتبر تفاوت القيمة، فيجعل العبد الذي قيمته ألفان جزءاً، والعبدان اللذان قيمتهما ألف جزءاً، والثلاثة الذين قيمتهم ألف جزءاً، فإن خرج سهم العتق على العبد المقوم بألفين.. عتق منه قدر ثلث التركة ورق باقيه وباقي العبيد. وإن خرج سهم العتق على العبدين المقومين بألف.. عتقاً وأقرع بين الباقين، فيعتق منهم تمام الثلث بالقرعة، وكذلك إن خرج سهم العتق على الثلاثة المقومين بألف.. عتقوا، ثم يقرع بين الباقين، فيعتق منهم تمام الثلث.
وعلى قول ذلك القائل من أصحابنا: يسوى بينهم في العدد، فيجعل كل اثنين جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما ذكرناه.
وإن كانوا خمسة قيمة واحد ألف، وقيمة اثنين ألف، واثنين ألف.. قال ابن الصباغ: فإن هاهنا يعدلون بالقيمة وجهاً واحداً.
المسألة الخامسة: إذا اختلف عددهم وقيمتهم، ولا يمكن تعديلهم بواحد منهما، بأن كانوا خمسة قيمة واحد ألف وقيمة اثنين ألف وقيمة اثنين ثلاثة آلاف.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجزءون، بل تخرج قرعة العتق على واحد واحد حتى يستوفى الثلث.
والثاني: أنهم يجزءون ثلاثة أجزاء بالقيمة، فيجعل العبد المقوم بألف جزءاً،(8/376)
وكل اثنين من الأربعة جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما ذكرناه؛ لأن ذلك أقرب إلى ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب ": إذا اختلف العدد والقيمة، ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة، بأن كانوا خمسة قيمة واحد مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة وقيمة الرابع أربعمائة وقيمة الخامس خمسمائة.. ففيه قولان.
فقال شيخنا الإمام الفقيه زيد بن عبيد الله: ليست هذه المسألة مسألة القولين؛ لأنه يمكن تعديلهم هاهنا بالقيمة، وإنما مسألة القولين إذا لم يمكن تعديلهم بالقيمة.
المسألة السادسة: أن يكون أعتق اثنين: فإنه يقرع بينهما، فإن خرجت قرعة العتق على أحدهما.. نظرت: فإن كانت قيمته قدر ثلث التركة.. عتق ورق الآخر، وإن كانت قيمته أكثر.. عتق منه قدر ثلث التركة ورق باقيه والعبد الآخر.
وإن كانت قيمته أقل من قدر ثلث التركة.. عتق جميعه وعتق من الآخر تمام الثلث ورق باقيه.
[مسألة أعتق ثلاثة قيمتهم سواء فمات أحدهم]
وإن أعتق ثلاثة أعبد له قيمتهم سواء، في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له غيرهم، فمات واحد منهم قبل القرعة.. أقرع بين الميت والحيين. فإن خرج سهم العتق على الميت.. عتق جميعه ورق الآخران، سواء مات السيد أولا أو العبد.
وإن خرج سهم العتق على أحد الحيين.. نظرت: فإن مات العبد قبل سيده.. لم يعتق ممن خرجت عليه القرعة إلا ثلثاه؛ لأن الميت قبل سيده غير داخل في التركة.
وإن مات السيد قبل العبد.. نظرت: فإن مات العبد قبل أن يقبضه الورثة.. كان كما لو مات قبل سيده؛ لأنه لا يجوز أن يحتسب على الورثة بما لم يحصل في أيديهم من التركة. وإن مات بعد أن قبضه الورثة.. عتق جميع العبد الذي خرجت عليه القرعة؛ لأن العبد الذي مات قد كان في أيديهم، فاحتسب به عليهم من التركة.(8/377)
[فرع أعتق ثلاث إماء ولا مال أقرع بينهن]
] : وإن أعتق ثلاث إماء في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له غيرهن.. أقرع بينهن، فإن خرجت القرعة بالعتق لإحداهن فولدت.. كان الولد حراً؛ لأنه ولد حرة. فإن كان حادثاً بعد العتق.. فلا ولاء عليه. وإن كان موجوداً قبل العتق.. كان عليه الولاء.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يعتبر في ثبوت الولاء عليه أن تلده لدون أقل مدة الحمل من حين العتق.
[فرع ظهر ماله بعد إعتاقه ستة في مرض موته]
وإن أعتق ستة أعبد له في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له في الظاهر غيرهم، فأقرع بينهم وحكم بعتق اثنين منهم ورق أربعة، ثم ظهر له مال.. نظرت: فإن كان مثلي قيمتهم.. حكم بعتق جميعهم. وإن كان مثل قيمتهم.. تبينا أن العتق قد كان لازماً في ثلثهم، وقد خرجت القرعة بعتق ثلثيهم، فيجب أن تعاد القرعة بين الأربعة ويعتق منهم نصفهم، ومن خرجت عليه قرعة العتق.. كان له جميع ما اكتسبه من حين العتق؛ لأن الحرية حصلت له بذلك.
[مسألة ظهر دين مستغرق وكان أعتق عبيداً في مرض موته]
] : وإن أعتق عبيداً له في مرض موته لا مال له غيرهم، ثم ظهر عليه دين يستغرق جميع ماله.. لم يصح العتق في شيء من العبيد؛ لأن عتقهم وصية والدين مقدم على الوصية، فيباع العبيد ويقضي الدين بثمنهم.
فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين من أموالنا ليصح العتق، فقضوه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينفذ العتق في شيء من العبيد إلا بإعتاق الوارث؛ لأنا حكمنا ببطلان عتق الميت لأجل الدين، فلم يحكم بصحته بقضاء الدين، كما لو اعتنق الراهن العبد المرهون وقلنا: لا يصح، فقضى الراهن الدين له.(8/378)
والثاني: ينفذ العتق؛ لأن المانع هو الدين وقد قضي، فصار كأن لم يكن.
قال أصحابنا: وأصل هذين الوجهين: إذا مات وله تركة وعليه دين، فتصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين، ثم قضى الدين.. هل يصح تصرفه؟ على وجهين.
وإن كان الدين الذي ظهر على الميت لا يستغرق جميع قيمتهم، وإنما يستغرق نصف قيمتهم.. جعل العبيد جزأين، وكتب في رقعة دين وفي رقعة تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء: جزءا للعتق، وجزأين للورثة؛ لأنه اجتمع حق أصحاب الدين وحق العبيد وحق الورثة وليس بعض العبيد - بأن يجعل للدين أو للعتق أو للورثة - بأولى من البعض فأقرع بينهم؛ لأن القرعة لها مدخل في العتق وإن لم يكن لها مدخل في الدين والتركة لو انفردا.
وإن استغرق الدين ثلث قيمتهم.. جعلوا ثلاثة أجزاء، وكتب ثلاث رقاع: رقعة للدين، ورقعتين تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء وكتب ثلاث رقاع: رقعة للعتق ورقعتين تركة.
وإن استغرق الدين ربع قيمتهم.. جعلوا أربعة أجزاء، وكتب أربع رقاع: رقعة للدين وثلاث رقاع تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء، وكتب ثلاث رقاع، رقعة للعتق، ورقعتين تركة.
فإن قيل: فهلا كتب في الأربع: رقعة للدين ورقعة للعتق ورقعتان للرق؛ لأن ذلك أسهل؟
قال أصحابنا: لا يفعل ذلك لقوة الدين على الوصية فلا يشرك بينهما في الإقراع، ولأنه ربما خرجت رقعة العتق قبل رقعة الدين، فيؤدي إلى حصول العتق قبل الدين، وذلك لا يجوز.(8/379)
[فرع أعتق ثلاثة قيمتهم ثلاثمائة ولا مال غيرهم واكتسب أحدهم مائة]
] : وإن أعتق في مرض موته ثلاثة عبيد له، قيمة كل واحد منهم مائة بكلمة واحدة، ولا مال غيرهم، فاكتسب أحدهم بعد العتق وقبل موت السيد مائة، ثم مات السيد وعليه دين مائة ديناً.. كتب رقاع: رقعة دين ورقعتان تركة، ثم يقرع بينهم، فإن خرجت رقعة الدين على أحد العبدين اللذين لم يكتسبا.. بيع في الدين، ثم أعيدت القرعة للعبدين المكتسب وغير المكتسب الثاني. فإن خرجت رقعة العتق على الذي لم يكتسب.. عتق جميعه، وبقي مع الورثة المكتسب وكسبه، وذلك مثلاً قيمة المعتق بعد قضاء الدين. وإن خرجت رقعة العتق على المكتسب.. دخله الدور، فنقول: عتق من العبد شيء بوصية، وله من كسبه شيء بغير وصية، فبقي في يد الورثة ثلاثمائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء - الشيء خمسة وسبعون - وذلك ثلاثة أرباع العبد، فيعتق ثلاثة أرباعه، وله ثلاثة أرباع كسبه، ويبقى للورثة ربعه وربع كسبه والعبد الآخر، وذلك مائة وخمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد.
وإن خرجت رقعة الدين على المكتسب.. قال ابن الحداد: بيع نصفه للدين لا غير؛ لأنه لا حاجة بنا إلى بيع جميعه وتفويت العتق في جميعه؛ لأن ما رق منه يتبعه بقدره من الكسب، فيقضى الدين بنصفه ونصف كسبه، ثم يقرع بين نصفه وبين العبدين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على نصف المكتسب.. عتق نصفه الثاني وتبعه نصف كسبه الباقي، وقد بقي بعض الثلث، فتعاد القرعة بين العبدين الآخرين، فمن خرج عليه سهم العتق منهما.. عتق ثلثه، وهو تمام ثلث مائتين وخمسين بعد قضاء الدين. وإن خرج سهم العتق على أحد العبدين اللذين لم يكتسبا.. عتق جميعه وبقي للورثة العبد الآخر ونصف المكتسب ونصفه كسبه، وهو مثلاً قيمة المعتق بعد الدين.
[فرع أعتق ستة أعبد ولا مال غيرهم فأقرع بينهم]
وإن أعتق ستة أعبد له في مرض موته لا مال له غيرهم، فمات ولا دين عليه في الظاهر، فأقرع بينهم، وأعتق اثنان، ثم ظهر دين عليه يستغرق جميع قيمتهم.. لم ينفذ العتق. فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين ليصح العتق وتمضي القرعة، فقضوا(8/380)
الدين.. فهل يصح العتق؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن كان الدين يستغرق نصف قيمتهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل عتق العبدين اللذين خرجت القرعة عليهما؛ لأنا تبيناً أن الدين كان شريكاً للورثة والعتق, فبطل العتق, كما لو اقتسم شريكان في المال ثم ظهر لهما شريك ثالث.
والثاني: أن العتق لا يبطل فيهما إلا في قدر ما يخصهما من الدين؛ لأنه يمكن إمضاء القرعة وإفراز حصة الدين من كل واحد من النصيبين؛ لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين, فيقال للورثة: اقضوا ثلثي الدين, وهو قدر نصف قيمة العبيد الأربعة المحكوم برقهم, إما من خاص أموالكم وإلا بيع نصفهم.
ويجب رد نصف العتق في العبدين المحكوم بعتقهما لما يخصهما من الدين, فيقرع بينهما, فإن خرجت قرعة الدين على أحدهما وكانت قيمتهما سواء.. بيع في الدين وعتق العبد الآخر.
وإن كانت قيمتهما مختلفة, فخرجت قرعة الدين على أكثرهما قيمة.. بيع منه بقدر نصف قيمتهما, وعتق باقيه والعبد الآخر. وإن خرجت قرعة الدين على أقلهما قيمة.. رق وبيع في الدين, ورق من الآخر تمام نصف قيمتهما وبيع ذلك في الدين وعتق باقيه.
والله أعلم(8/381)
[باب المدبر]
التدبير: مأخوذ من الدبر, وهو: أن يعلق عتق عبده بموته. وهو مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لأن المقصود به العتق, فهو كالعتق المنجز.
فإذا قال لعبده: أنت حر, أو محرر, أو عتيق, أو معتق بعد موتي.. كان ذلك صريحاً في التدبير لا يفتقر إلى النية؛ لأنه لا يحتمل غير العتق بالموت.
وإن قال: دبرتك, أو أنت مدبر ونوى عتقه بموته.. صار مدبراً.
وإن أطلق ذلك من غير نية.. فالمنصوص في (التدبير) : (أنه صريح فيه, ويعتق بموت سيده) .
وقال في (الكتابة) : (إذا قال لعبده: كاتبتك, أو أنت مكاتب على مائة دينار تؤديها في نجمين.. لم يعتق حتى يقول: فإذا أديتها فأنت حر, أو ينوي ذلك) .
فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين:
أحدهما: أن ذلك صريح فيهما؛ لأن قوله: [دبرتك) موضوع التدبير, وقوله: (كاتبتك) موضوع للكتابة في عرف الشرع.
والثاني: أن ذلك كناية فيهما, فلا يكونان صريحين إلا بنية أو قرينة؛ لأنه لم يكثر استعمالهما لذلك.
ومنهم من حملهما على ظاهر النص فقال: قوله: دبرتك, أو أنت مدبر صريح في التدبير, وقوله: كاتبتك, أو أنت مكاتب كناية في الكتابة. وفرق بينهما بفرقين:(8/382)
أحدهما: أن التدبير معقول المعنى, وأنه موضوع للعتق بعد الموت, يشترك في معرفة معناه الخاصة والعامة. والكتابة لا يعرفها إلا خواص الناس.
والثاني: أن التدبير لا يحتمل إلا العتق بعد الموت, والكتابة تحتمل المخارجة بأن يقول: كاتبتك كل شهر بكذا, فافتقر إلى النية أو القرينة.
إذا ثبت هذا: فإن المدبر يعتبر عتقه من ثلث التركة. وروي ذلك عن: علي وابن عمر , وابن المسيب , والزهري, والثوري, ومالك, وأبي حنيفة.
وقال ابن مسعود , وسعيد بن جبير, ومسروق, والنخعي وداود: (يعتبر عتقه من رأس المال) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدبر من الثلث» ولأنه تبرع يلزم بالموت, فكان من الثلث كالوصية.(8/383)
فإن دبر عبدا وأوصى بأن يعتق عنه عبد آخر بعد موته وعجز الثلث عنهما ... أقرع بينهما.
ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه يقدم عتق المدبر؛ لأنه أقوى؛ لأنه يتنجز بالموت.
والأول أصح؛ لأنهما يستويان في وقت اللزوم.
[مسألة تدبير المجنون والصبي والسفيه]
] : ويصح التدبير من كل بالغ عاقل جائز التصرف في ماله، كما قلنا في العتق المنجز.
فأما المجنون والصبي الذي ليس بمميز ... فلا يصح تدبيرهما؛ لأنه لا حكم لكلامهما. وهل يصح تدبير الصبي المميز ووصيته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح. وهو قول أبي حنيفة واختيار المزني والشيخ أبي إسحاق؛ لأنه لا يصح عتقه، فلم يصح تدبيره، كالمجنون.
والثاني: يصح. وهو اختيار القاضي أبي حامد؛ لما روي: (أن قوما سألوا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن غلام - من غسان - يافع لم يبلغ الحلم، وصى لبنت عمه، فأجاز وصيته) . وأما تدبير السفيه: فاختلف أصحابنا فيه:(8/384)
فمنهم من قال: فيه قولان، كالصبي. قال المحاملي: وهذا أشبه بكلام الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ومنهم من قال: يصح تدبيره قولا واحدا؛ لأن الصبي ليس من أهل العقود، والسفيه من أهل العقود، ولهذا يصح طلاقه ويصح نكاحه بإذن الولي. ولم يذكر في " المهذب " غير هذا.
[مسألة التدبير المطلق والمقيد]
] : ويصح التدبير مطلقا ومقيدا بشرط.
(فالمطلق) هو: أن يقول: أنت حر بعد موتي، أو إذا أنا مت ... فأنت حر.
و (المقيد) : مثل أنا يقول: إن مت من هذا المرض، أو في هذا الشهر، أو في هذه السنة ... فأنت حر.
ويجوز تعليق التدبير إلى الشرط في حال الحياة، مثل أن يقول: إذا دخلت الدار ... فأنت حر بعد موتي، فإن دخل الدار قبل موت سيده.. صار مدبرا؛ لأنه علق التدبير بدخول الدار، فإن دخل الدار.. صار مدبرا.
فإن لم يدخل الدار حتى مات السيد، ثم دخلها.. لم يعتق؛ لأنه علق التدبير على شرط، فإذا مات السيد قبل وجود الشرط.. بطل الشرط، كما لو وكل وكيلا في بيع سلعة، فمات الموكل قبل البيع.. فإن البيع لا يصح.
ويجوز تعليق العتق على شرط بعد الموت، مثل أن يقول: إن دخلت الدار بعد موتي.. فأنت حر. فإذا مات السيد، ثم دخل العبد الدار..عتق؛ لأنه صرح بذلك، فحمل عليه، كما إذا قال لوكيله: إذا مت، فبع هذه السلعة.. فإنه يصير وصيا بذلك، وجاز بيعه بعد موته.(8/385)
ويعتق العبد هاهنا من الثلث بالصفة لا بالتدبير؛ لأن التدبير هو أن يعلق عتقه بموته وحده، وهاهنا علقه بموته ودخول الدار بعده.
فإن دخل العبد الدار في حال حياة السيد ولم يدخلها بعد موته.. لم يعتق؛ لأنه شرط الدخول بعد الموت، ولم يوجد.
[فرع ألفاظ لا يقطع بالعتق فيها]
: قال في (الأم) : (إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، أو لست بحر، أو أنت مدبر، أو لست بمدبر، أو أنت حر أو لا.. لم يكن ذلك شيئًا؛ لأنه لم يقطع بالعتق) .
وإن قال: لعبده إذا قرأت القرآن ومت.. فأنت حر، فإن قرأ جميع القرآن قبل موت السيد.. عتق بموته. وإن قرأ بعضه.. لم يعتق؛ لأنه علق حريته بقراءة جميع القرآن.
وإن قال له: إذا قرأت قرآنًا ومت.. فأنت حر، فقرأ بعض القرآن قبل موت السيد.. عتق بموته.
والفرق بينهما: أن في الأولى عرف القرآن بالألف واللام، فاقتضى جميعه، وفي الثانية نكره، فاقتضى بعضه.
فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] {النحل:98} ولم يرد جميعه وإنما أراد أي شيء قرأ منه؟
قلنا: ظاهر اللفظ يقتضي جميعه، وإنما حملناه على بعضه بدليل.
[فرع تعليق العتق على مشيئة العبد]
: إذا قال لعبده: إن شئت فأنت حر بعد موتي، أو إذا شئت فأنت حر بعد موتي، أو أنت حر إن شئت بعد موتي، أو أنت حر إن شئت متى مت، أو أنت حر إن شئت إذا(8/386)
مت.. فلا يصير مدبرًا في شيء من هذه المسائل حتى توجد المشيئة من العبد؛ لأنه علق التدبير على مشيئته. فإن وجدت المشيئة من العبد على الفور بحيث تكون جوابًا لكلام سيده.. صار العبد مدبرًا. وإن أخر العبد المشيئة حتى قام من المجلس.. لم يصر مدبرًا.
وإن وجدت منه المشيئة بعد أن سكت سكوتًا طويلًا، أو اشتغل بأمر وقبل أن يقوم من مجلسه.. فعلى وجهين، كالوجهين فيمن علق طلاق امرأته بمشيئتها.
وإن لم توجد منه المشيئة حتى مات السيد.. بطل التدبير؛ لأن الصفة المطلقة تقتضي وجودها قبل موت السيد.
وإن قال: متى شئت، أو أي وقت شئت فأنت حر بعد موتي.. فهذا تعليق تدبير بمشيئة العبد كالأولى، إلا أن هاهنا متى وجدت المشيئة من العبد في حياة السيد على الفور أو على التراخي في المجلس أو بعده.. صار مدبرًا؛ لأن قوله: متى، وأي وقت، يقتضي العموم.
وإن مات السيد قبل وجود المشيئة.. بطلت الصفة؛ لأن الصفة المطلقة تبطل بموت السيد.
[فرع تعليق التدبير بمشيئة العبد بعد موت السيد]
: وإن قال لعبده: إذا مت، فشئت، فأنت حر.. فقد علق عتقه بوجود المشيئة منه بعد موت سيده، فإن مات السيد فشاء العبد عقيب موته.. عتق؛ لأن الفاء توجب الترتيب والتعقيب. وإن لم يشأ العبد بعد الموت إلا بعد قيامه من مجلسه.. لم يعتق. وإن شاء في مجلسه بعد موت السيد وقد اشتغل بعد الموت بسكوت طويل أو أمر غيره.. فهل يعتق؟ على الوجهين في التي قبلها. وإن شاء العبد في حياة السيد لا غير.. لم يتعلق بهذه المشيئة عتق؛ لأن السيد شرط أن تكون المشيئة بعد موته.(8/387)
وإن قال لعبده: إذا مت فمتى شئت، أو أي وقت شئت فأنت حر، أو قال: إذا مت فأنت حر متى شئت، أو أي وقت شئت.. فهي كالأولى، وأنه لا يعتق إلا إذا شاء بعد موت سيده، إلا أن في هذه يجوز أن تتراخى المشيئة عن الموت، سواء وجدت في المجلس أو بعده؛ لأن قوله: (متى شئت، أو أي وقت شئت) عام في الزمان.
فإن اكتسب العبد مالًا في هذه المسألة بعد موت سيده وقبل وجود المشيئة منه، أو كسب مالًا بعد موت سيده في المجلس قبل وجود المشيئة إذا علق العتق بمشيئته بعد الموت بقوله: فشئت، وقلنا: إن المشيئة في المجلس هي مشيئة على الفور.. فلمن يكون ذلك المال الذي اكتسبه إذا وجدت منه المشيئة؟
قال القاضي أبو الطيب: تكون نفقة العبد منه، وما بقي من نفقته فيه قولان، كما لو كسب العبد الموصى به لرجل مالًا بعد موت سيده وقبل قبول الموصى له، فإنه على قولين:
أحدهما: يكون الكسب للموصى له.
والثاني: يكون لورثة الموصي.
وقال ابن الصباغ: يكون الكسب هاهنا لورثة المعتق قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أن العبد هاهنا مملوك قبل وجود المشيئة منه.. فكان كسبه للورثة، بخلاف الموصى به، فإن الموصى له إذا قبل الوصية فيه.. تبينًا أنه ملكه بالموت في أحد القولين، فكذلك حكمنا له بملك الكسب في هذا القول.
فأما إذا قال لعبده: أنت حر إذا مت إن شئت، أو إذا شئت، أو إذا مت فأنت حر إن شئت، أو إذا شئت.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: حكمها حكم ما لو قال: إذا مت فشئت فأنت حر.. فإنه لا يعتق إلا بوجود المشيئة بعد موت السيد.
وقال المسعودي في (الإبانة) : يحتمل أن يكون المراد به المشيئة في حياته، ويحتمل بعد الموت، فيرجع إليه، فإن لم يكن له نية.. فلا بد من المشيئة مرة في المجلس في حياة السيد ومرة بعد الموت، فإن شاء مرة واحدة.. قال: فالمشهور: أنه لا يعتق. وقيل: يحمل على المشيئة بعد الموت؛ لأنه الظاهر.(8/388)
ويعتق العبد في جميع ذلك من الثلث؛ لأنه علق عتقه على موته، وأضاف إليه المشيئة، فهو كما لو علق عتقه على الموت وحده.
[مسألة علق عتقه ثم دبره أو العكس]
: إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم دبره، أو دبره ثم قال له: إذا دخلت الدار فأنت حر.. صح، فإن دخل الدار قبل موت سيده.. عتق بالصفة. وإن مات السيد قبل أن يدخل الدار.. عتق بالتدبير؛ لأن كل واحد منهما صفة للعتق، فتعلق العتق بالسابق منهما.
وإن كاتب عبده ثم دبره.. صح ذلك فإن أدى قبل موت سيده.. عتق بالكتابة.
وإن مات السيد قبل الأداء، فإن خرج من الثلث.. عتق بالتدبير وبطلت الكتابة، وإن لم يخرج من الثلث.. عتق منه ما احتمله، وبقي الباقي منه مكاتبًا بحصته من المال؛ لأن كل واحد منهما سبب للعتق، فتعلق العتق بالسابق منهما، كما لو قال له: إن دخلت الدار.. فأنت حر، ثم قال له: إن كلمت زيدًا.. فأنت حر.
وإن كانت جارية فاستولدها، ثم دبرها.. لم يفد التدبير شيئًا؛ لأنها تعتق بموته من رأس المال، ويعتق المدبر من الثلث، فكان الاستيلاد أقوى.
[مسألة دبر أحد الشريكين نصيبه]
: وإن كان بين اثنين عبد فدبر أحدهما نصيبه منه وهو موسر.. صار نصيبه مدبرًا.
وهل يسري إلى نصيب شريكه؟ فيه قولان:
أحدهما: يسري إلى نصيب شريكه، ويلزمه دفع قيمة نصيب شريكه، ويصير الجميع مدبرًا، يعتق بموته. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه استحق العتق بموت سيده، فسرى إلى نصيب شريكه، كما لو استولد جارية بينه وبين شريكه.
والثاني: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه، ولا يسري إليه التدبير. وهو اختيار(8/389)
المزني وابن الصباغ، وهو المشهور من المذهب؛ لأن التدبير لا يقطع التصرف في رقبته بالبيع فلم يسر إلى نصيب الشريك، كما لو علق عتق عبد مشترك بينه وبين غيره على صفة. ويخالف الاستيلاد فإنه يمنع من البيع.
فعلى هذا: يصير نصفه مدبرًا ونصفه قنا.
فإن مات السيد الذي دبر نصيبه.. عتق نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه؛ لأنه لا مال له حال العتق.
فإن أعتق الذي لم يدبر نصيبه قبل موت السيد الذي دبر نصيبه.. فهل يقوم نصيب المدبر على المعتق إن كان موسرًا؟ الحكم فيه حكم ما لو كان عبد بين شريكين فدبراه، فأعتق أحدهما نصيبه قبل موت شريكه.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه إذا كان موسرًا؟ فيه قولان:
أحدهما: يقوم عليه؛ لأن المدبر كالقن في التصرف فيه بالبيع والهبة، فكان كالقن في العتق والسراية.
والثاني: لا يقوم عليه. وهو قول أبي حنيفة.
قال المحاملي: وهو الأصح؛ لأن الشريك قد استحق الولاء على نصيبه بموته، فلم يجز إبطال ذلك عليه بالتقويم.
فعلى هذا: لو رجع الشريك في تدبير نصيبه.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يقوم على المعتق ويسري عتقه إلى جميعه؛ لأن المنع من التقويم إنما كان لما استحقه السيد من الولاء، وقد بطل ذلك برجوعه.
[فرع تدبير بعض العبد]
: وإن كان لرجل عبد فدبر بعضه.. صح ذلك كما يصح عتقه في بعض عبده، وهل يسري التدبير إلى جميعه؟
المنصوص للشافعي: (أنه لا يسري التدبير إلى باقيه) ؛ لأن التدبير ليس بإتلاف ولا سبب يوجب الإتلاف؛ لأنه يجوز بيعه، فلم يقتض السراية.(8/390)
قال المحاملي: ويجيء فيه قول آخر: أن التدبير يسري إلى باقيه، مأخوذ من القول المحكي: إذا دبر أحد الشريكين نصيبه.. سرى إلى نصيب شريكه وقوم عليه إذا كان موسرًا.
[فرع دبرا عبدهما معًا]
: وإن كان عبد بين اثنين، فقال كل واحد منهما: إذا متنا فأنت حر.. فقد علق كل واحد منهما عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يصير العبد مدبرًا في الحال؛ لأن المدبر هو العبد الذي علق سيده عتقه بموته وحده، وهاهنا قد علق عتقه بموته وموت شريكه، فكان عتقًا معلقًا بصفة.
فإن ماتا معًا.. عتق نصيب كل واحد منهما من ثلث تركته بالصفة لا بالتدبير. وإن مات أحدهما قبل الآخر.. لم يعتق نصيب الميت أولًا قبل موت شريكه، وأما نصيب الثاني.. فإنه يصير مدبرًا؛ لأن عتق نصيبه الآن متعلق بموته وحده.
وهل لورثة الأول أن يتصرفوا في نصيبهم قبل موت الثاني بما يزيل الملك، كالبيع والهبة؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :
{أحدهما} : قال صاحب (التقريب) : لهم ذلك، كما لو علق عتق عبده على صفتين فوجدت إحداهما، فله أن يزيل ملكه عنه قبل وجود الأخرى.
و {الثاني} : قال غيره من أصحابنا: ليس لهم ذلك، وهو الأصح، كما لو قال لعبده: إذا مت فدخلت الدار.. فأنت حر، فأراد العبد دخول الدار، لم يكن للوارث منعه من الدخول، ولا بيعه، وكما لو قال: إذا مت ومضى يوم.. فأنت حر، فليس لهم بيعه قبل مضي اليوم، ولهم استخدامه قبل موت الثاني.
فإن كسب مالًا بعد موت الأول وقبل موت الثاني. ثم مات الثاني.. فلمن يكون ما يخص نصيب الأول من ذلك الكسب؟ فيه وجهان:(8/391)
أحدهما: أنه لورثة الأول لا يقضى منه دينه، ولا تنفذ منه وصاياه.
والثاني: أنه من جملة تركة الأول، يقضى منه دينه وتنفذ منه وصاياه، بناء على الوجهين في جواز تصرف الورثة في رقبته.
فأما إذا قال كل واحد من الشريكين: أنت حبيس على آخرنا موتًا، فإذا مات عتقت.. فإنه لا يعتق نصيب أحدهما إلا بموته وموت شريكه كالأولى، إلا أن هاهنا إذا مات أحدهما.. كانت منفعة نصيبه موصى بها لشريكه إلى أن يموت الآخر منهما، فإذا مات.. عتق عليهما من ثلث تركتهما.
[مسألة جواز بيع المدبر]
: ويجوز للمولى بيع المدبر وهبته ووقفه، سواء كان التدبير مطلقًا أو مقيدًا. وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وعمر بن عبد العزيز، وطاووس، ومجاهد، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. والأخرى عنه: (يجوز بيعه لأجل الدين) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان التدبير مقيدًا، بأن قال: إذا مت في هذا الشهر أو من هذا المرض فأنت حر.. جاز بيعه وهبته. وإن كان مطلقًا؛ بأن يقول: إذا مت فأنت حر.. لم يجز بيعه ولا هبته) .
وقال مالك: (لا يجوز بيعه ولا هبته بحال) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن رجلًا - يقال له: أبو مذكور - كان له عبد قبطي- يقال(8/392)
له: يعقوب - فأعتقه عن دبر منه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه منه نعيم بن النحام بسبعمائة أو بتسعمائة، قال جابر: مات وهو عبد في أول عام من إمارة ابن الزبير» .
ولأن عتق نصفه ثبت بقول السيد وحده، فلم يكن لازمًا، كما لو قال له: إن دخلت الدار.. فأنت حر، أو كما لو كان مقيدًا.
[فرع للسيد اكتساب المدبر واستخدامه]
: ويملك السيد اكتسابه واستخدامه. وإن كانت جارية.. ملك وطأها؛ لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دبر أمتين له، وكان يطؤهما بعد التدبير) . ولأن المدبر كالقن في البيع، فكان كالقن فيما ذكرناه.
وإن جني على المدبر، فإن كانت على الطرف.. فللسيد استيفاء القصاص فيها والأرش، ويكون المدبر باقيًا على تدبيره.
وإن جنى على نفسه عمدًا.. فللسيد استيفاء القصاص فيها، وإن كانت خطأ أو عمدًا لا قصاص فيها.. فللسيد أخذ الأرش فيها، وإذا أخذه.. ملكه.
فإن قيل: فهلا قلتم: تكون قيمته قائمة مقامه كقيمة الرهن؟
قلنا: الفرق بينهما: أن القيمة لا تكون مدبرة، ويمكن أن تكون القيمة رهنًا.(8/393)
فإن قيل: هلا أخذتم بالقيمة عبدًا مدبرًا، كما جعلتم قيمة المرهون رهنًا؟
قلنا: الفرق بينهما: أن العبد المأخوذ بقيمته لا يكون بدله، وإنما يكون بدل قيمته، ولأن الرهن لازم، فتعلق ببدله، والتدبير ليس بلازم؛ لأنه يجوز إبطاله بالبيع.
[فرع جناية المدبر]
: وإن جنى المدبر على غيره، فإن كانت الجناية عمدًا، فاختار المجني عليه القصاص، فاقتص، فإن كان في النفس.. بطل التدبير، وإن كان في الطرف.. كان باقيًا على تدبيره. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدًا فعفى المجني عليه على مال.. تعلق الأرش برقبة المدبر كالعبد القن.
وإن اختار السيد أن يفديه.. فبكم يلزمه أن يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغًا ما بلغ، كالقولين في العبد القن.
فإن فداه.. سقط حكم الجناية وكان باقيًا على التدبير. وإن اختار أن يسلمه للبيع، فإن كان الأرش يستغرق قيمته.. بيع جميعه في الأرش. وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية إن أمكن بيع ذلك، وكان الباقي على التدبير، إلا أن يختار السيد بيع جميعه، فيباع؛ لأن للسيد بيع المدبر بكل حال.
فإن مات السيد قبل أن يفديه وقبل بيعه.. فهل يعتق؟
إن قلنا: لا يصح عتق العبد الجاني.. لم يعتق، وكان الورثة بالخيار بين أن يفدوه أو يسلموه للبيع.
وإن قلنا: يصح عتق العبد الجاني.. عتق بالتدبير وأخذت القيمة من أصل التركة؛ لأنه عتق بسبب من جهته، فتعلق الأرش بتركته.
ولا يجب في التركة إلا أقل الأمرين من القيمة أو الأرش قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن بيعه.(8/394)
[مسألة دبر أمته فأتت بولد]
وإذا دبر أمته فأتت بولد من زواج أو زنًا لستة أشهر، فما زاد من وقت التدبير.. فإنه يحكم بأن الولد حدث بعد التدبير، وهل يتبع أمه في التدبير؟ فيه قولان:
أحدهما: يتبعها في التدبير. وبه قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنها أمة تعتق بموت سيدها، فتبعها ولدها في حكمها، كولد أم الولد.
والثاني: لا يتبعها. وبه قال جابر بن زيد أبو الشعثاء.
قال المحاملي: وهو الأصح؛ لأن التدبير عقد يلحقه الفسخ، فلم يسر إلى الولد، كالرهن والوصية.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: إنما بناهما الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على القولين في التدبير. فإن قلنا: إنه وصية.. لم يتبعها ولدها، كما لو وصى بأمة ثم أتت بولد، فإنه لا يتبعها. وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. تبعها ولدها.
ومنهم من قال: القولان إنما هما على القول الذي يقول: التدبير عتق بصفة، فأما إذا قلنا:
إنه وصية.. فلا يتبعها قولًا واحدًا.(8/395)
ومنهم من قال: إن القولين في الحالين، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قد نص على أنه: (إذا علق عتق أمة على صفة، ثم أتت بولد من نكاح أو زنًا.. فهل يتبعها؟ فيه قولان) . فلو كان ولد المدبرة إنما يتبعها إذا قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لكان يتبعها هاهنا قولًا واحدًا.
فإن قلنا: إن الولد لا يتبع الأم في التدبير.. كان مملوكًا للسيد يتصرف فيه كيف شاء.
وإن قلنا: إنه يتبعها، فإن ماتت الأم في حياة المولى، أو رجع في تدبيرها.. لم يبطل التدبير في ولدها؛ لأنهما مدبران، فلا يبطل تدبير أحدهما ببطلان تدبير الآخر.
[فرع دبر الأمة وهي حامل]
] وإن دبر الأم وهي حامل، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: يتبعها في التدبير قولًا واحدًا؛ لأنه يجري مجرى أعضائها.
ومنهم من قال: إن قلنا: إن الحمل له حكم.. تبعها في التدبير قولًا واحدا ً. وإن قلنا: لا حكم له.. فهو كما لو حدث بعد التدبير، وهل يتبعها؟ على قولين. وهذه على طريقة المسعودي [في الإبانة] ، واختيار المحاملي.
ولو دبر جارية فمات المولى وهي حامل.. عتقت وتبعها ولدها في العتق قولًا واحدًا، سواء كان موجودًا وقت التدبير أو حدث بعده، كما لو أعتق جارية حاملًا.
[فرع وطء المدبر الجارية الموهوب له]
] : وإن دبر عبده، ثم وهب له جارية، فأذن له في وطئها، فوطئها فأتت منه بولد.. فإنه لا حد على العبد ويلحقه نسب الولد للشبهة.
فإن قلنا بالقول الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملكه سيده.. فالولد باق على ملك السيد.(8/396)
وإن قلنا بالقول القديم، وأن العبد يملك إذا ملكه سيده.. فالولد ابن العبد ومملوكه، ولا يعتق عليه؛ لأن ملكه غير تام عليه. وهل يتبعه في التدبير؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتبعه؛ لأن الولد إنما يتبع أمه في الرق والحرية دون أبيه.
والثاني: يتبعه الولد في التدبير؛ لأن وطأه صادف ملكه، فتبعه ولده في حكمه، كالحر إذا وطئ أمة له.
[مسألة جواز رجوع السيد بالتدبير]
) : التدبير غير لازم قبل موت السيد، فيجوز للسيد الرجوع فيه بما يزيل الملك، كالبيع والهبة والوقف، لحديث جابر في بيع المدبر. وإذا ثبت الخبر في البيع.. قسنا عليه كل تصرف يزيل الملك.
وهل يصح الرجوع فيه بقوله: نقضت التدبير، وأبطلته، ورجعت فيه، وفسخته؟ فيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم وبعض كتبه الجديدة: (هو كالوصية فيصح الرجوع فيه بما يزيل الملك وبالفسخ) . وهو اختيار المزني؛ لأنه جعل للعبد نفسه، فهو كالوصية.
(والثاني) : قال في أكثر كتبه الجديدة: (هو كالعتق المعلق على الصفة، فلا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك) وهو الأصح؛ لأنه عتق معلق بصفة، فهو كما لو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر.
وإن دبر عبده ثم وهبه لغيره ولم يقبضه.. فالمنصوص: (أنه رجوع) .
فمن أصحابنا من قال: هذا على القول الذي يقول: إنه وصية، فأما إذا قلنا: إنه عتق بصفة.. فلا يكون رجوعًا؛ لأن ملكه لم يزل عنه بذلك.(8/397)
ومنهم من قال: هو رجوع على القولين؛ لأن الهبة سبب لإزالة الملك.
وإن دبر عبده، ثم كاتبه، فإن قلنا: إن التدبير وصية.. كانت الكتابة رجوعًا فيه. وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. لم يكن رجوعًا، وكان كما لو كاتبه، ثم دبره.
وإن دبر عبده، ثم قال له: إن أديت إلى وارثي ألفا فأنت حر.. فالمنصوص: (أنه رجوع في التدبير) . فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن التدبير وصية؛ لأنه عدل عن العتق بالتدبير إلى العتق بالمال، فكان رجوعًا فيه.. فأما إذا قلنا: إنه عتق بصفة.. فليس برجوع، بل إن خرج من الثلث.. عتق بالتدبير وبطل العتق بالمال.
ومنهم من قال: بل هو رجوع على القولين؛ لأن ذلك معاوضة مع العبد، فجرى مجرى البيع.
وإن دبر جارية ثم استولدها.. بطل التدبير؛ لأن العتق بالاستيلاد أقوى.
وإن دبر عبدًا ثم رجع في تدبير بعضه.. صح الرجوع فيما رجع فيه، كما يصح التدبير في بعضه، ولا يسري الرجوع إلى باقيه؛ لأن ذلك لا سراية له.
[فرع تدبير الحمل دون الجارية]
) : ويجوز تدبير حمل الجارية دون الجارية كما يجوز عتقه، ولا يسري ذلك إلى الجارية، كما لا يسري عتق الحمل إلى الأم.
فإذا أراد الرجوع في تدبير الحمل، فإن قلنا: يصح الرجوع فيه بلفظ الفسخ والإبطال وما أشبه.. رجع في تدبيره بذلك. وإن قلنا: لا يصح الرجوع في التدبير إلا بتصرف يزيل الملك كالبيع والهبة.. فلا يمكن ذلك في الحمل وحده.
فإن باع الأم: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " (7/358) : (فإن قصد بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. صح البيع. وإن لم يقصد الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع) .(8/398)
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال المسعودي (في " الإبانة ") وبعض أصحابنا البغداديين: إن نوى بالبيع الرجوع في تدبير الحمل، صح البيع في الأم والحمل. وإن لم ينو بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع فيهما، كما لو باع الجارية واستثنى حملها.
وذهب الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا إلى: أنه يصح البيع فيهما، ويكون رجوعًا في تدبير الحمل سواء نوى الرجوع أو لم ينو؛ لأن البيع لا يفتقر إلى النية؛ ألا ترى أنه لو دبر عبدًا فباعه.. صح البيع، وكان رجوعًا في التدبير وإن لم ينو الرجوع.
وتأولوا قوله: (إن قصد بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. صح البيع) أراد: إذا باع الجارية مطلقًا ولم يستثن الحمل.. فإن البيع يصح فيهما.
وقوله: (وإن لم يقصد الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع) أراد: إذا باع الجارية واستثنى حملها.. لم يصح البيع فيهما، كما لا يصح استثناء بعض أعضائها.
[فرع يتبع الولد الحادث الأم في التدبير]
) : إذا قلنا: إن الولد الحادث بعد التدبير، يتبع الجارية في التدبير فولدت أولادًا بعد التدبير.. تبعها الجميع في التدبير. فإن قال السيد قبل الولادة: كلما ولدت ولدًا فقد رجعت في تدبيره.. لم يصح هذا الرجوع؛ لأن الرجوع إنما يصح فيمن ثبت له حكم التدبير، وقبل أن تلد ما ثبت للولد حكم التدبير، فلم يصح الرجوع فيه، كما لو قال لعبده: إن دبرتك فقد رجعت في تدبيرك.. فلا يصح هذا الرجوع.
[فرع تدبير الصبي]
والسفيه والسفيه) : وإن دبر الصبي أو السفيه، وقلنا: يصح تدبيرهما، فإن قلنا: يصح هذا الرجوع بلفظ الفسخ.. صح رجوعهما بالفسخ.
وإن قلنا: لا يصح الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك.. فلا يصح ذلك منهما؛ لأنه لا يصح بيعهما.(8/399)
وإن باع وليهما العبد.. كان ذلك رجوعًا في تدبيرهما.
وإن دبر عبده، ثم خرس السيد، فأشار إلى الرجوع أو كتب ذلك، فإن قلنا: يصح الرجوع بالقول.. صح الرجوع، وإن قلنا: لا يصح الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك.. لم يصح رجوعه بذلك، ولا ينصب له ولي؛ لأنه رشيد.
فإن أشار إلى البيع وفهم ذلك منه.. صح بيعه وكان ذلك رجوعًا في التدبير.
[مسألة الردة لا تبطل]
التدبير التدبير) وإن دبر عبده، ثم ارتد السيد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن التدبير لا يبطل) واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يبطل التدبير قولًا واحدًا؛ لأن الردة إنما تؤثر في العقود المستقبلية دون الماضية.
ومنهم من قال: هذه المسألة مبينة على الأقوال في ملك المرتد، فإن قلنا: إن ملكه قد زال بالردة.. بطل التدبير. وإن قلنا: إن ملكه موقوف.. كان تدبيره موقوفًا. وإن قلنا: إن ملكه باق. لم يبطل التدبير، وحمل نص الشافعي هاهنا على القول الذي يقول: إن ملكه باق لم يبطل التدبير. وإلى هذا أومأ صاحب " المهذب ".
ومنهم من قال: يبطل التدبير قولًا واحدًا؛ لأن المدبر يعتق من ثلث التركة، فلا يعتق حتى يحصل للورثة مثلاه.
قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إذا دبر المرتد عبده.. فهل يصح تدبيره؟ فيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال في ملكه فإن قلنا: إن ملكه لا يزول بالردة.. صح تدبيره. وإن قلنا: إن ملكه يزول بالردة.. لم يصح(8/400)
تدبيره. وإن قلنا: إن ملكه موقوف.. كان تدبيره موقوفًا) .
وقول من قال: لا يصح حتى يحصل للورثة مثلاه.. غير صحيح؛ لأن ماله للمسلمين، وقد حصل لهم مثلاه.
[فرع ردة العبد لا تبطل التدبير]
] : وإن دبر المسلم عبده فارتد العبد.. لم يبطل التدبير؛ لأن الملك باق عليه لا يبطل بالردة.
فإن كان العبد ذميًا فلحق العبد بدار الحرب فأسر.. وجب رده إلى سيده؛ لأن ملكه باق عليه. وإن أسر بعد أن مات سيده.. لم يجز استرقاقه؛ لأنه قد ثبت عليه لمولاه الولاء، فلا يجوز إبطال ذلك عليه.
[مسألة تدبير الكافر]
] : وإن دبر الكافر عبده الكافر.. صح تدبيره، سواء كان يهوديًا، أو نصرانيًا، أو مجوسيًا، أو وثنيًا. ولا فرق بين أن يكون ذميًا أو حربيًا، كما يصح عتقه.
فإن دخل الحربي دار الإسلام بأمان ومعه عبد مدبر، ثم أراد الرجوع به إلى دار الحرب.. لم يمنع منه؛ لأن ملكه باق عليه، فإن رجع في تدبيره.. فحكمه حكم المسلم إذا رجع في تدبيره على ما مضى.
وإن أسلم العبد قبل رجوع السيد، فإن رجع السيد في التدبير بالفسخ، وقلنا: يصح الرجوع به.. رجع المدبر قنا له، وأمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن الكافر لا يقر على ملك المسلم.
وإن لم يرجع، أو رجع وقلنا: لا يصح.. ففيه قولان.
أحدهما: يباع عليه العبد. وهو اختيار المزني؛ لأن الكافر لا يقر على ملك المسلم، فبيع عليه كغير المدبر.
والثاني: لا يباع عليه. وهو قول أبي حنيفة.(8/401)
قال المحاملي وهو الأشبه؛ لأنه إنما يباع لطلب الحظ للعبد لأن لا يجري عليه صغار في ملك الكافر، وهاهنا الحظ له أن لا يباع؛ لأنه قد ثبت له سبب العتق، فلا يجوز إبطال ذلك عليه بالبيع.
فعلى هذا: لا يترك في يد سيده؛ لأن في ذلك صغارًا على المسلم، بل يكون السيد بالخيار: بين أن يخارجه على شيء، وبين أن يتركه على يد مسلم ثقة، وينفق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويكون الباقي من الكسب للسيد. وإن لم يكن له كسب.. أنفق عليه من ماله.
فإن مات السيد وخرج من الثلث.. عتق عليه. وإن لم يخرج من الثلث.. بيع ما رق منه على الورثة قولًا واحدًا؛ لأنه لم تبق له حرية منتظرة، فوجب بيعه.
[مسألة يرد جحود التدبير بعدلين]
] : قال الشافعي: (ولا يجوز على التدبير إذا جحد السيد إلا عدلان) .
وجملة ذلك: أن العبد إذا ادعى على سيده أنه دبره وأنكر السيد، فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. سمعت دعوى العبد؛ لأن السيد لا يملك إبطال الصفة بالرجوع. فإن كان مع العبد بينة.. ثبت التدبير، ولا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران؛ لأنه شهادة على ما ليس بمال، ويطلع عليه الرجال. وإن لم يكن مع العبد بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التدبير، فيحلف على القطع أنه ما دبره؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على العبد، فيحلف لقد دبره، ويثبت التدبير. فإن ادعى السيد أنه قد باعه ثم اشتراه، وأقام على ذلك بينة.. قبل، ويقبل فيه شاهد وامرأتان؛ لأنه دعوى ملك.
وإن قلنا: إن التدبير وصية.. فهل تسمع دعوى العبد؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا تسمع دعواه؛ لأن السيد يملك الرجوع فيه بالقول، فكان إنكاره رجوعًا.
و [الثاني] : منهم من قال: تسمع دعواه، وهو ظاهر النص هاهنا؛ لأن الشافعي(8/402)
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في (الدعاوى والبينات) : (لو ادعى العبد على السيد التدبير، وأنكر السيد.. قلنا للسيد: لا تحتاج إلى اليمين، بل قل: قد رجعت في التدبير) فدل على أن الجحود ليس برجوع، ولأن الرجوع أن يقول: قد رجعت. فأما قوله: ما دبرتك.. فليس ذلك برجوع. ولأن المرأة لو ادعت على الرجل النكاح فأنكر.. لم يكن إنكاره طلاقًا، فكذلك هاهنا لا يكون إنكاره رجوعًا.
فعلى هذا: الحكم فيه حكم التدبير إذا قلنا: إنه عتق بصفة في سماع دعواه.
وإن مات السيد، وادعى العبد على الورثة أن السيد كان دبره، وأنكر الورثة.. سمعت دعوى العبد على القولين؛ لأنه لا يصح رجوعهم في التدبير.
فإن كان مع العبد شاهدان ذكران على التدبير.. عتق من الثلث. وإن لم يكن معه شاهدان.. حلف الورثة أنهم لا يعلمون أن مورثهم دبره؛ لأنهم يحلفون على نفي فعل غيرهم. فإن ادعى الورثة أن مورثهم رجع في التدبير، وأقاموا على ذلك شاهدين ذكرين.. حكم بصحة الرجوع. وإن أقاموا على الرجوع شاهدًا وامرأتين.. فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".
أحدهما: يقبل منهم ذلك؛ لأن القصد من ذلك إثبات المال، فقبل منهم، كما لو أقام ذلك مورثهم.
والثاني: لا يقبل منهم؛ لأنهم ينفون حرية حاصلة بموت السيد.
[فرع دبر أمة ومات ولها ولد فاختلفوا]
] : وإن دبر أمة ومات، ومع الجارية ولد، فاختلفت هي والورثة، فقالت: ولدته بعد التدبير، فيتبعني في التدبير - وقلنا: إن ولدها يتبعها - وقال الورثة: بل ولدته قبل التدبير.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم؛ لأن الأصل في الولد الرق.
وإن مات السيد وفي يدها مال، فقالت: كسبته بعد موت السيد فهو لي، وقال الورثة: بل كسبته قبل موته فهو لنا، ولا بينة.. فالقول قول المدبرة مع يمينها؛ لأن الأصل عدم ملك الورثة على المال.(8/403)
فإن أقام الورثة بينة على المال أنها كسبته قبل موت السيد، وأقامت الجارية بينة أنها كسبته بعد موته.. قدمت بينة الجارية؛ لأن يدها عليه.
وإن أقام الورثة البينة أن المال كان في يدها في حياة السيد، فقالت الجارية: لم يكن لي وإنما أفدته بعد موت السيد.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن البينة إنما شهدت لها باليد وقد يكون في يدها لغيرها.
[مسألة تعليق العتق على صفة كالتدبير]
] : ويجوز تعليق العتق على صفة، مثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حر، أو إن كلمت فلانًا فأنت حر؛ لأنه تعليق عتق على صفة، فهو كالتدبير.
فإن علق العتق على صفة في مرض موته فوجدت الصفة قبل موته أو قال في صحته: أنت حر في مرض موتي.. عتق من الثلث؛ لأنه قصد إلى الإضرار بالورثة، فكان من الثلث كالمدبر.
وإن علق العتق على صفة في الصحة فوجدت الصفة في الصحة.. عتق من رأس المال؛ لأنه لم يقصد الإضرار بالورثة.
وإن علق العتق على صفة في الصحة يجوز أن توجد في الصحة، ويجوز أن توجد في المرض، فوجدت في مرض الموت.. فنقل البغداديون من أصحابنا أنه يعتق من رأس المال؛ لأنه لم يقصد إلى إعتاقه في مرض الموت، فلم توجد منه تهمة في حق الورثة.
ونقل المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: أنه يعتق من ثلث التركة. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بمشهور. وإن قال لعبده: أنت حر في آخر جزء من أجزاء صحتي المتصل بمرض موتي..(8/404)
فقد قال بعض أصحابنا المتأخرين: إنه يعتق من رأس المال؛ لأن العتق تقدم على مرض الموت.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يعتق من ثلث التركة؛ لأن هذه صفة لا توجد إلا بمرض الموت، فهو كما لو قال: إذا مرضت فأنت حر.
[فرع علق عتقها على صفة ثم حملت وولدت]
] : وإن علق عتق أمة على صفة، مثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حرة، ثم حملت بولد وولدته قبل وجود الصفة.. فهل يتبعها الولد إذا وجدت الصفة في العتق؟
فيه قولان، كما قلنا في المدبرة. ولسنا نريد: أنه تنعقد للولد تلك الصفة حتى إذا دخل الدار عتق، وإنما نريد به: أنه يتبعها في حكم الصفة، وهو أن الأم إذا دخلت الدار.. عتقت وعتق الولد معها.
فإن مات السيد أو ماتت قبل وجود الصفة.. بطلت الصفة في الأم، وبطل حكمها في الولد؛ لأن الصفة إذا بطلت.. بطل حكمها، بخلاف ولد المدبرة، فإن الأمة إذا ماتت في حياة السيد.. لم يبطل ذلك في الولد؛ لأنه يتبعها في التدبير.
[فرع علق العتق إلى ما بعد موته بعشرة سنين]
] : فإن قال لأمته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين، فأتت بولد بعد موت السيد وقبل انقضاء العشر.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يتبعها الولد) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالذي يأتي به بعد عقد الصفة وقبل موت السيد.
ومنهم من قال: يتبعها هاهنا قولا واحدًا؛ لأن سبب عتقها قبل موت السيد غير مستقر؛ لأن للسيد إبطاله بإزالة ملكه عنها، وبعد موت السيد سبب عتقها مستقر؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى إبطاله، فهي بمنزلة أم الولد، فيتبعها ولدها قولًا واحدًا.
قال المحاملي: ويجيء على قول هذا القائل أن الولد هاهنا يعتق من رأس المال، كما يعتق ولد أم الولد من رأس المال.(8/405)
[فرع تعليق العتق يمنع الفسخ]
] : إذا علق عتق عبده على صفة.. لم يملك فسخه بالقول؛ لأن ذلك ليس بوصية فلا يملك رفعه بالفسخ.
فإن باعه أو وهبه.. صح؛ لأنه ملكه. فإن رجع إليه ملكه.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق امرأته على صفة، فبانت منه، ثم تزوجها.
وإن دبر عبده فباعه، ثم رجع إليه، فإن قلنا: إن التدبير وصية.. لم يعد التدبير، وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. فهل تعود الصفة؟ على القولين.
[فرع دبر عبدين يزيدان عن الثلث فيقرع بينهما]
] : وإن قال لعبدين له أنتما حران بعد موتي ولم يحتمل الثلث إلا أحدهما.. أقرع بينهما.
وإن دبر أحدهما بعد الآخر.. ففيه وجهان، حكاهما ابن اللبان:
أحدهما: يقرع بينهما؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة.
والثاني: يقسم الثلث بينهما؛ لأنه علم أنه أراد أن يوقع لكل واحد منهما حرية لا محالة.
ولو قال لجارية له في صحته لا مال له غيرها: هذه أم ولدي أو مدبرتي أو حرة، ومات قبل أن يبين.. عقت ثلثها؛ لأنه اليقين.
وإن قال لعبدين له: أنتما حران أو مدبران، ثم مات قبل أن يبين.. كانا مدبرين.
وبالله التوفيق(8/406)
[كتاب المكاتب](8/407)
كتاب المكاتب الكتابة هي: العتق على مال يؤديه المكاتب في نجمين أو نجوم.
قال ابن الصباغ: وأصلها مشتق من الكَتْبِ، و (الكَتْبُ) هو: الضم والجمع، يقال: كتبت القربة: إذا ضممت رأسها.
وسميت الكتيبة بذلك لانضمام بعض الجيش إلى بعض. وسمي الخط كتابة؛ لضم بعض الحروف إلى بعض.
وسمي هذا العقد كتابة؛ لضم بعض النجوم إلى بعض. و (النجوم) هي: الأوقات التي يحل بها مال الكتابة. وإنما سميت نجوما؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم، فسميت الأوقات نجومًا.
والأصل في جواز الكتابة: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: 33) .
ومن السنة ما روى سهل بن حنيف: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان غارمًا أو(8/409)
غازيًا أو مكاتبًا في كتابته.. أظله الله يوم لا ظل إلا ظله» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من الكتابة» .
وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي.. فلتحتجب عنه» .
قال الشافعي - رحمة الله -: (إنما أمرهن بالاحتجاب عنه قبل الأداء تعظيمًا لشأنهن، كما أمرهن الله أن يحتجبن ممن جعلهن أمهات لهم وحرمهن عليهم، وهم جماعة المسلمين. ويحتمل أن يكون أمرهن بذلك لقرب عتقهم بالأداء، كما استحب الاحتجاب من المراهق لقرب بلوغه) .
وأجمعت الأمة على جواز الكتابة.(8/410)
إذا ثبت هذا: فإن الكتابة لا تصح إلا من جائز التصرف في المال. فإن كاتب صبي أو مجنون عبده.. لم تصح الكتابة.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (تصح كتابة الصبي المميز لعبده) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأنه غير مكلف، فلم تصح كتابته، كالمجنون.
وإن كاتب رجل عبده الصغير أو المجنون.. لم تصح الكتابة؛ لأنها معاوضة، فلم تصح مع الصبي والمجنون، كالبيع.
[مسألة يشترط في المكاتب الاكتساب والأمانة]
) : قال الشافعي: (وأظهر معاني الخير في العبد بدلالة الكتاب: الاكتساب والأمانة) .
وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في الخير المراد بقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور:33) .
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن المراد بالخير هاهنا هو: الاكتساب والأمانة، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وعمرو بن دينار.
وحكي عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، ومجاهد: (أن الخير هاهنا هو الاكتساب لا غير) .
وحكي عن الحسن البصري، والثوري: أنهما قالا: هو الأمانة والدين خاصة.(8/411)
دليلنا: أن الله تعالى ذكر الخير في مواضع من كتابه وأراد به المال، وهو قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) وأراد به: إن ترك مالًا.
وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] (العاديات: 8) وأراد به: المال.
وذكر في مواضع أخر الخير وأراد به الدين، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] (الزلزلة: 7) يعني: عملًا صالحًا.
فإذا كان الخير يقع عليهما.. حملناه هاهنا عليهما؛ لأن المقصود بالكتابة لا يحصل إلا باجتماعهما.
فإذا اجتمع في العبد الكسب والأمانة، وسأل سيده أن يكاتبه.. استحب له أن يكاتبه؛ للآية، ولا يجب عليه ذلك. وبه قال كافة العلماء.
وحكي عن عمرو بن دينار، وعطاء، والضحاك، وداود: أنهم قالوا: (يجب عليه ذلك) .
دليلنا: أنه عتق لم يتقدم وجوبه، فلا يجب بطلب العبد، كالعتق في غير الكتابة.
وإن طلب السيد أن يكاتب العبد فكره العبد.. لم يجبر العبد على الكتابة؛ لأنه عتق على مال، فلم يجبر العبد عليه، كما لو قال له: إن أديت إلي ألفًا فأنت حر.. فإنه لا يجبر على أدائه.
وإن عدم الكسب والأمانة في العبد.. لم تستحب كتابته؛ لأنه لا يحصل المقصود بالكتابة مع فقدهما، ولا تكره كتابته.
وقال أحمد وإسحاق: (تكره كتابته إذا لم يكن له كسب، كما تكره مخارجة الأمة التي لا كسب لها) .
دليلنا: أنه تعليق عتق بصفة، فلا يكره، كما لو كان له كسب. ويخالف الأمة، فإن ذلك ربما دعاها إلى الزنا، ولأن المخارجة ليس فيها تحصيل العتق، وهاهنا ربما(8/412)
حصل له مال الكتابة مما يخصه من الزكاة، فافترقا.
وإن كانت له أمانة بلا كسب.. فهل تستحب كتابته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تستحب؛ لأنه ربما حصل مال الكتابة من الصدقات.
والثاني: لا تستحب، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) (النور:33) وقد دللنا على أن الخير هاهنا: هو الكسب والأمانة، وقد فقد أحدهما.
فعلى هذا أيضًا: لا تكره كتابته.
[فرع لا يكاتب من لا يكتسب]
) : ولا يجوز أن يكاتب عبدًا أجيرًا؛ لأنه لا يمكنه الاكتساب. ولا تصح كتابة العبد الموقوف؛ لأنه لا يعتق بالمباشرة، فلا يعتق بالمكاتبة. ولا تصح كتابة العبد المرهون؛ لأنه معرض للبيع في الرهن. وتصح كتابة العبد المعار؛ لأنه في ملك المعير.
وتصح كتابة المدبر كما يجوز عتقه، فإن أدى المال قبل موت السيد.. عتق بالكتابة. وإن مات السيد قبل الأداء وخرج من الثلث.. عتق بالتدبير، وإن لم يخرج من الثلث.. عتق منه ما احتمله الثلث وبقي الباقي على الكتابة.
وتصح كتابة أم الولد كما يصح عتقها، فإن أدت المال قبل موت السيد.. عتقت بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء.. عتقت بالاستيلاد.
[مسألة اشتراط قول السيد إن أديت فأنت حر]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعتق حتى يقول في الكتابة: فإذا أديت فأنت حر، أو يقول بعد ذلك: إن قولي: كاتبتك كان معقودًا على أنك إذا أديت، فأنت حر) .(8/413)
وجملة ذلك: أن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، (فالمعاوضة) قوله: كاتبتك على كذا. و (الصفة) قوله: فإذا أديت فأنت حر.
فإذا قال ذلك، أو قال: كاتبتك على كذا، ونوى به العتق.. كان صريحًا.
وإن قال: كاتبتك على كذا، ولم يقل: فإذا أديت فأنت حر، ولا نوى ذلك.. فقد نص هاهنا: (أنه لا يعتق) ، ونص في المدبر: أنه إذا قال: دبرتك، ولم يقل: إذا مت فأنت حر ولا نواه.. أنه يصير مدبرًا) .
واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، مضى ذكرهما في التدبير.
[مسألة مكاتبة أحد الشريكين]
) : إذا كان عبد بين شريكين، فكاتبه أحدهما في نصيبه منه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة.
وقال الحكم، وابن أبي ليلى، والعنبري، والحسن بن صالح، وأحمد: (يصح)
دليلنا: أن الكتابة تقتضي إطلاقه في الكسب والسفر لأجل الكسب، وملك نصفه يمنع عن ذلك، ويمنع عن أن يأخذ شيئًا من الزكاة؛ لأن جميع ما يكتسبه يكون لسيده نصفه فلا يدفع إلى سيده الزكاة، ولأنه يضر شريكه بذلك؛ لأن قيمة نصيبه تنقص، فلم يصح.
وإن كاتبه بإذن شريكه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح. وهو اختيار المزني؛ لما ذكرناه فيه إذا كاتبه بغير إذن شريكه.
والثاني: يصح. وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: (إذنه في ذلك يقتضي أن يؤدي العبد مال الكتابة من جميع كسبه، ولا يرجع الآذن بشيء) ، وعندنا يؤدي مال الكتابة مما يخص نصيب سيده الذي كاتبه من كسبه؛ لأن المنع من كتابته لحق شريكه، وقد زال ذلك بإذنه.(8/414)
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا أذن له.. صار جميعه مكاتبًا.
دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة، فلا تسري، كسائر العقود.
[فرع مكاتبة من بعضه حر]
) : وإن كان يملك بعض عبد، وباقيه حر، فكاتبه على ما فيه من الرق.. صح؛ لأنه عقد الكتابة على جميع ما فيه من الرق، فهو كما لو كاتبه على جميعه وهو رقيق، ولأن حرية باقية لا تمنع شيئًا من مقصود الكتابة، فلم تمنع صحتها.
وإن كان العبد له فكاتبه على بعضه.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح) .
فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك بإذن شريكه.. صح هاهنا أيضًا؛ لأن اتفاقهما على كتابة بعضه كاتفاق الشريكين.
وقال أكثر أصحابنا: لا يصح هاهنا قولًا واحدًا؛ لأنه إذا كاتبه على نصفه.. لم يعتق حتى يؤدي ضعف مال الكتابة؛ لأنه يحتاج أن يؤدي إليه النصف بحكم النصف الرقيق، ولأنه إذا أدى مال الكتابة.. عتق جميعه؛ لأن العتق يسري في الملك ولا يتبعض، فيؤدي كتابة نصفه ويعتق جميعه، وذلك خلاف مقتضى العقد، فلم يصح العقد.
[فرع وصى بمكاتبة عبده]
) : وإن أوصى بكتابه عبده.. صحت الوصية؛ لأن الكتابة عقد يتعلق بها حق الله - تعالى - وحق الآدمي. وتعتبر قيمة العبد من الثلث. فإن كان قد قدر المال الذي يكاتب عليه.. كوتب عليه، سواء كان أقل من قيمته أو أكثر. وإن لم يقدر ذلك.. كوتب على ما جرى العرف بكتابة مثله؛ لأن العرف أن العبد يكاتب على أكثر من قيمته. فإن لم يختر العبد ذلك.. لم يجبر عليه، كما أنه لا يجبر على قبول الوصية، فإن طلب بعد ذلك.. لم يجب إليها؛ لأن الموصى له إذا رد الوصية.. سقطت في حقه ويوفر الثلث على باقي أهل الوصايا.(8/415)
وإن لم يحتمل الثلث جميع قيمة العبد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يكاتب منه القدر الذي يحتمله الثلث) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في هذا قولان، كما لو كاتب نصيبه من العبد المشترك بإذن شريكه. فنص هاهنا على أحدهما.
وقال أكثرهم: يصح هاهنا قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أنا إنما منعنا المكاتبة في بعض المشترك لما يلحق الشريك من الضرر، وهاهنا لا ضرر على الورثة؛ لأنهم ملكوه وقد لزمتهم مكاتبته، ولأن الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة، والوصية في الكتابة استحقت، فإذا تعذرت في جميعه.. بقي الاستحقاق في ببعضه.
فإذا قلنا بهذا: وأوصى أن يكاتب عبده على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره، أو كاتبه في مرض موته على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره.. صحت الكتابة في ثلثه بحصته من مال الكتابة.
وهل تزداد التركة إذا أدى المكاتب مال الكتابة؟ حكى المحاملي في " التجريد " فيه قولان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أن التركة لا تزداد بذلك؛ لأن التركة ما يخلفها الميت، ومال الكتابة حصل للورثة بعد موت السيد من ملكهم، فهو كثمرة البستان وولد الجارية بعد الموت.
والثاني ـ وهو اختيار المحاملي ـ أن التركة تزداد بذلك؛ لأن هذا المال إنما استفيد بعقد الكتابة، وعقد الكتابة وجب تنفيذه بوصية الميت، فكان كالمال الذي استفيد بسبب من جهة الميت.
فإذا قلنا بهذا: دخله الدور، وهو: أنه إذا كاتبه على مائة في مرض موته وقيمته مائة.. قيل للمكاتب: إن عجلت مال الكتابة.. جازت الكتابة في نصفك بنجمين، فحصل للورثة نصف الرقبة ونصف مال الكتابة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة.
وحسابه: تجوز الكتابة في شيء من الرقبة، وتبطل في رقبة إلا شيئًا، ويؤدي(8/416)
المكاتب عما صحت فيه الكتابة شيئًا؛ لأن مال الكتابة مثل قيمته، فيحصل للورثة من الرقبة ومال الكتابة مائة درهم وذلك يعدل شيئين ـ الشيء نصف المائة ـ وذلك الجائز بالكتابة.
وإن لم يعجل مال الكتابة.. صحت الكتابة في الحال في ثلثه بثلث مال الكتابة، ويسلم إلى الورثة ثلثاه، فكلما أدى شيئًا زاد في الكتابة بقدر نصف ما أدى حتى يؤدي نصف الكتابة فيستوفي وصيته.
وهل يرد الورثة ما أخذوا من كسب سدسه؟ فيه وجهان:
الصحيح: أنهم يردونه.
وإن كاتبه على مائة وخمسين، فإن قلنا: لا تزداد التركة بأداء مال الكتابة.. صحت الكتابة في ثلثه بخمسين.
وإن قلنا: تزداد التركة بأداء مال الكتابة، فإن عجل المكاتب ما عليه.. جازت الكتابة في شيء منه بشيء ونصف شيء، فيحصل للورثة من الرقبة والكتابة مائة درهم ونصف شيء ـ وذلك يعدل شيئين ـ فأسقط نصف الشيء الزائد على المائة، وأسقط بإزائه نصف شيء من الشيئين المقابلين له.. فيبقى مائة تعدل شيئًا ونصف شيء، الشيء ثلثا المائة ـ وذلك ثلثا العبد ـ وهو الجائز في الكتابة بثلثي مال الكتابة ـ وهو مائة ـ فيبقى للورثة ثلث الرقبة، وقيمته ثلاثة وثلاثون وثلث، ومن مال الكتابة مائة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة.
والصحيح: أن التركة لا تزداد بأداء مال الكتابة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في آخر المسألة: (فإذا أدى.. عتق ثلثه ورق ثلثاه) فلو ازدادت التركة بذلك.. لكان العتق أكثر من ثلثه.
[مسألة الكتابة على مال مؤجل بنجمين أو أكثر]
) : ولا تصح الكتابة إلا بعوض مؤجل، وأقل تأجيله نجمان. وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: (تصح الكتابة بعوض حال) .
دليلنا: ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه غضب على عبد له، فقال:(8/417)
لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين) فقصد التضييق عليه بذلك، ولو كانت الكتابة تصح على أقل من ذلك.. لكاتبه عليه.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني) وهذا يقتضي أقل ما يجوز عليه الكتابة؛ لأن الكتابة على أكثر من نجمين معلوم بالإجماع.
وروي: أن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عقدوا الكتابة، وما روي عن أحد منهم أنه عقدها حالة، فدل على أن ذلك إجماع منهم.
ولأنه إذا كاتبه على عوض حال، توجهت المطالبة للسيد عليه به وهو معسر به؛ لأنه لا يملك شيئًا، فيفسخ السيد الكتابة، فيبطل المقصود بالكتابة.
قال أبو العباس: ولأن الكتابة مشتقة من ضم نجم إلى نجم، وأقل ذلك نجمان.
ألا ترى أن الكتابة بالخط لا تكون الكلمة فيها أقل من حرفين.
إذا ثبت هذا: فمن شرط مال الكتابة أن يكون معلومًا. ومن شرط النجوم أن تكون معلومة، وما يؤدي من المال في كل نجم معلومًا، كما نقول في المسلم فيه.
[فرع المكاتبة على عمل]
) : ويجوز أن يكاتبه على العمل في ذمته، كما يجوز أن يستأجره على عمل في ذمته. فإن كاتبه على عملين في ذمته.. صح، كما يجوز أن يستأجره على ذلك.(8/418)
[فرع المكاتبة على خدمة شهر ومال بعده]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر) .
وهذا ينظر فيه: فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر بيوم أو يومين.. صح، ومن شرط الشهر أن يكون متصلًا بالعقد، كما قلنا في الإجارة.
فإن قيل: فالعوض في الكتابة لا يكون حالًا.. فكيف جاز هاهنا أن يكون الشهر متصلًا بالعقد؟
قلنا: إنما لم يجز في العوض أن يكون حالًا؛ لأنه يتحقق عجزه عنه، وأما الخدمة: فهو قادر عليها، فلهذا جازت الكتابة عليها حالة.
وإن كتابه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر من غير فصل بينهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأنه يكون كتابة على نجم واحد، فلم تصح.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو المذهب؛ لأن الكتابة إنما لم تصح على نجم واحد؛ لأنه لا يقدر على تحصيله، وهاهنا يقدر على خدمة شهر ودينار بعده، فصحت الكتابة.
وهكذا: لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر.. صح ذلك؛ لأن الشافعي قال في " الأم " (7/374) : (إذ شرط الدينار بعد الشهر أو معه.. كان جائزًا، وإن كاتبه على دينار وخدمة شهر بعد الدينار.. لم يصح) .
وقال أصحاب أحمد: يصح.
دليلنا: أن من شرط الشهر أن يكون متصلا بالعقد، ومن شرط العوض أن يكون متراخيًا عن العقد بالأجل، فإذا شرط حلول الدينار وتأجيل الشهر.. لم يصح.
قال ابن الصباغ: وإطلاق الخدمة يكفي؛ لأنها معلومة بالعرف، ويلزمه خدمة مثله.(8/419)
ولو قال: على منفعة شهر.. لم يصح؛ لأنها تختلف.
وإن كاتبه على خدمة شهرين.. لم يصح؛ لأنه نجم واحد.
[فرع كاتبه على دينار بعد شهر ودينارين بعد شهرين]
) : وإن كاتبه على دينار إلى شهر، ودينارين إلى شهرين، على أنه إذا أدى الدينار الأول، عتق، وإذا أدى الدينارين، فهو حر.. فحكى أبو العباس فيها قولين:
فـ (أحدهما) : من أصحابنا من قال: هذا عقد جمع بين شيئين مختلفي الأحكام؛ لأنها صفقة جمعت كتابة وعتقًا بصفة، فكان فيها قولان، كما لو جمع بين الكتابة والبيع.
و (الثاني) : منهم من قال: فيها قولان مختصان بها:
أحدهما: لا تصح الكتابة؛ لأنه شرط فيها ما ينافيها؛ لأن مقتضى الكتابة أن يعتق بعد أداء جميع مالها، فإذا شرط أن يعتق بأداء بعضه.. لم يصح.
والثاني: يصح؛ لأنه لو كاتبه كتابة مطلقة فأدى بعض مال الكتابة، فأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عتقه.. صح. فإذا شرط ذلك في الابتداء.. وجب أن يصح.
[مسألة كاتب عبدين أو ثلاثة على مائة درهم]
) : وإن كاتب رجل عبدين أو ثلاثة أعبد له بمائة درهم، في نجمين أو أكثر، بعقد واحد.. فنص الشافعي: (أن الكتابة صحيحة، وتقسم المائة بينهم على قدر قيمتهم) .
ونص: (أنه لو تزوج أربع نسوة بعقد واحد على عوض واحد.. صح النكاح، وفي المهر قولان. وإن خالع أربع نسوة بعوض واحد.. صح الخلع، وفي العوض قولان) .(8/420)
قال أصحابنا: وهكذا القولان في الكتابة:
أحدهما: تصح الكتابة ويقسم العوض المسمى عليهم على قدر قيمتهم. وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن جملة العوض معلوم، وإنما يجهل ما يقابل كل واحد منهم، فلم يؤثر، كما لو باع رجل ثلاثة أعبد له من رجل بعوض.
والثاني: لا تصح الكتابة.
قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، وعقد الواحد مع الثلاثة بمنزلة ثلاثة عقود.
ولو كاتب كل واحد منهم بعقد منفرد مع الجهل بالعوض.. لكان باطلًا، فكذلك هذا مثله. ويخالف البيع، فإنه إذا باع رجل من رجل ثلاثة أعبد له بعوض واحد.. صح؛ لأنه عقد واحد وصفقة واحدة.
وهكذا: إذا باع ثلاثة أنفس ثلاثة أعبد لهم مشاعة بينهم، من رجل بعقد واحد بثمن واحد.. صح البيع قولًا واحدًا؛ لأن نصيب كل واحد منهم يقع بثلث الثمن مشاعًا.
وهكذا إن باع رجل ثلاثة عبيد له من ثلاثة أنفس بعقد واحد.. صح قولا واحدًا، ويملك كل واحد منهم ثلث العبيد مشاعًا.
وإن باع رجل ثلاثة عبيد له، من ثلاثة أنفس بعقد واحد، من كل واحد عبدًا، بثمن واحد، بأن يقول: بعتك يا زيد هذا العبد، وبعتك يا عمرو هذا الآخر، وبعتك يا خالد هذا الآخر بألف.. ففيه طريقان:
(أحدهما) : قال أبو العباس: في البيع قولان كالكتابة.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق وأبو سعيد الإصطخري: يبطل البيع قولًا واحدً، وقد مضى ذكرها في (البيع) .
فإذا قلنا: تصح الكتابة.. قسم المال المسمى على قيمتهم وقت عقد الكتابة.(8/421)
[مسألة الشريكان في العبد يكاتبانه على قدر نصيبهما]
) : وإن كان عبد بين شريكين.. لم يجز لهما أن يكاتباه إلا على قدر ملكهما، ولا يجوز لهما التفاضل في المال مع تساوي الملكين، ولا التساوي في المال مع تفاضل الملكين.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
ودليلنا: أن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر؛ لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه، ثم عجز.. رجع الآخر عليه بذلك.
وإن فعل أحدهما ذلك بإذن شريكه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو كاتبه أحدهما دون الآخر بإذن شريكه، وهو ظاهر النص.
ومنهم من قال: لا يصح هذا قولًا واحدًا؛ لأن هاهنا يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، وإذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه.. لم يؤد إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، فافترقا.
[فرع الكتابة على شرط فاسد أو مستقبل]
) : ولا تصح الكتابة إلى شرط فاسد، ولا تعليقها على شرط مستقبل؛ لأنها معاوضة، فلا تصح على شرط فاسد ولا تعليقها على شرط، كالبيع.
[مسألة لزوم الكتابة من جهة السيد]
) : وإذا صحت الكتابة.. لزمت من جهة السيد، فلا يجوز له فسخها قبل عجز المكاتب؛ لأنه أسقط حقه منه بالعوض، فهو كما لو باعه.
ولا تلزم الكتابة من جهة العبد، بل يجوز له أن يمتنع من أداء الكتابة، ولا يجبر على أدائها وإن كان موسرًا بها؛ لأن كل ما لا يجبر على فعله إذا لم يجعل شرطًا في(8/422)
عتقه، لم يجبر على فعله وإن جعل شرطًُا في عتقه، كالسنن في الصلاة وسائر التطوعات.
وللسيد أن يفسخ الكتابة بنفسه إذا عجز العبد أو امتنع من الأداء، إلا أنه إنما أسقط حقه منه بالعوض، فإذا تعذر العوض.. كان له أن يرجع إلى عين ماله، كما لو باع من رجل عينًا وأفلس المشتري بالثمن.
وهل يجوز للعبد أن يفسخ الكتابة؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يفسخ؛ لأنه عقد لحظه، فملك فسخه، كالمرتهن.
والثاني: ليس له أن يفسخ، ولم يذكر المحاملي غيره؛ لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد، ولا فائدة له في الفسخ.
والأول أقيس؛ لأنه يستفيد بالفسخ وجوب نفقته على المولى.
فإن تراضيا على الفسخ وفسخا.. صح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ بحال فجاز لهما فسخه بالتراضي، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع.
[فرع موت السيد لا يبطل الكتابة]
) : وإذا مات المولى قبل الأداء ... لم تبطل الكتابة؛ لأنه لازم من جهته، فلم تبطل بموته، كسائر العقود اللازمة.
فإن مات العبد وقد بقي عليه شيء من مال الكتابة ... مات رقيقًا، وكان جميع ما خلفه للمولى، سواء خلف وفاء بما عليه أو لم يخلف.
وقال أبو حنيفة ومالك: (إن خلف وفاء عليه.. لم تنفسخ الكتابة) .
إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا خلف وفاء.. أدى عنه مال الكتابة، وعتق في آخر جزء من أجزاء حياته. وإن لم يخلف وفاء.. حكم الحاكم بعجزه، وانفسخت الكتابة) .(8/423)
ومالك يقول: (إن كان له ولد حر.. انفسخت الكتابة. وإن كان مملوكًا للمكاتب.. أجبر على دفع المال إن كان له مال، وإن لم يكن له مال.. أجبر على الاكتساب والأداء) .
دليلنا: أنه مات قبل أداء مال الكتابة، فانفسخت الكتابة، كما لو لم يخلف وفاء.
فإن قيل: إذا لم يبق على المكاتب من مال الكتابة إلا قدر يسير بقدر الإيتاء الذي يجب على السيد.. فهلا قلتم إنه يعتق؛ لأنه يجب على السيد الإيتاء؟
قلنا: إنما لم يعتق؛ لأن على السيد أن يفعله، فلا يقع بنفسه، كما لو وصى بأن يعتق عنه عبد، فمات السيد، ثم مات العبد قبل أن يعتق.
[مسألة مكاتبة الذمي عبده الكافر]
) : وإذا كاتب الذمي عبده الكافر.. صحت الكتابة؛ لأن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، وهما يصحان من الذمي كالمسلم. فإن ترافعا إلى الحاكم.. نظر في الكتابة:
فإن كانت صحيحة في شرعنا.. حكم الحاكم بصحتها، سواء ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده.
وإن كانت فاسدة في شرعنا، بأن كاتبه على خمر أو خنزير وما أشبهه، فإن تقابضا في حال الشرك، ثم ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده.. لم يتعرض الحاكم لنقضها ولا لصحتها، بل يحكم بعتق العبد بأداء ما وقعت عليه الكتابة؛ لأن ما فعلاه في حال الشرك قد لزم بالقبض.
وإن أقبضه ذلك بعد الإسلام، ثم ترافعا إلى الحاكم.. حكم بعتق العبد بحكم الصفة، وثبت التراجع بينهما، كالكتابة الفاسدة بين المسلمين.
وإن أقبضه بعض العوض في حال الشرك، ثم ترافعا بعد الإسلام.. فإن الحاكم يحكم بفساد هذه الكتابة؛ لأن الكتابة الفاسدة لا يعتق العبد فيها بقبض بعض العوض.(8/424)
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يسلما، أو يسلم أحدهما فيما ذكرناه؛ لأن التغلب لحكم الإسلام.
وقال أبو حنيفة: (إذا كاتبه على خمر ثم أسلم.. لم يبطل العقد، ويؤدي إليه قيمة الخمر) .
دليلنا: أن هذا العقد لو عقداه بخمر أو خنزير.. كان فاسدًا، فإذا أسلم أحدهما قبل التقابض.. حكم بفساده، كالبيع.
[مسألة مكاتبة الحربي عبده]
) : إذا كاتب الحربي عبده.. صحت الكتابة؛ لأن له ملكًا تامًا. وقال مالك: (لا يملك) . وقال أبو حنيفة: (ملكه ناقص؛ لأنه يجوز للمسلم تملكه عليه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] (الأحزاب: 27) وهذه إضافة إليهم تقتضي ملكهم.
إذا ثبت هذا: فإن دخلا دار الإسلام مستأمنين.. لم يتعرض الحاكم لهما. فإن ترافعا إليه، فإن كانت كتابة صحيحة.. ألزمهما الحاكم حكمها. وإن كانت فاسدة.. بين لهما فسادها.
فإن جاءا وقد قهر أحدهما الآخر في دار الشرك.. فقد بطلت الكتابة؛ لأن العبد إن قهر سيده.. فقد ملك نفسه، وبطلت الكتابة. وإن قهر السيد العبد على إبطال الكتابة.. فقد عاد رقيقًا؛ لأن دار الكفر دار القهر والإباحة.
ولهذا: لو قهر حر حرًا على نفسه.. ملكه. وإن قهر أحدهما الآخر في دار الإسلام ... لم يصح قهره، وكانا على ما كانا عليه قبل القهر؛ لأن دار الإسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر إلا بالحق.(8/425)
[فرع مكاتبة المسلم عبده الكافر]
) : وإن كاتب المسلم عبده الكافر.. صح؛ لأن ملكه صحيح عليه، فإذا أدى إليه مال الكتابة.. عتق، وقيل له: إن أسلمت.. فلا كلام، وإن اخترت المقام على الكفر، فإن أردت المقام في دار الإسلام.. فاعقد الذمة والتزم بالجزية إن كنت ممن يجوز له عقد الذمة، وإلا.. فالحق بدار الحرب. فإن اختار الرجوع إلى دار الحرب.. صار حربًا لنا، فإن وقع في الأسر.. كان الإمام مخيرًا فيه بين القتل والمن والفداء.
ولا يجوز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ولاء سيده الذي ثبت له عليه بالعتق.
[مسألة مكاتبة المرتد عبده]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لو كاتب المرتد عبده قبل أن يقف الحاكم ماله.. كان جائزًا) .
وقال في (المدبر) : (إذا دبر عبده.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. والثالث: أنه موقوف) .
واختلف أصحابنا في الكتابة:
فمنهم من قال: فيها ثلاثة أقوال كالتدبير؛ لأنه عتق بصفة كالتدبير.
ومنهم من قال: في الكتابة قولان:
أحدهما: يصح.
والثاني: لا يصح.
ولا يجيء القول بالوقف؛ لأن الكتابة عقد معارضة، وعقود المعارضات لا تقع موقوفة عندنا.
والأول أصح.(8/426)
إذا ثبت هذا: فإن أدى المكاتب مال الكتابة إلى سيده المرتد، فإن كان قبل أن يقف الحاكم ماله ويحجر عليه.. ففي صحة الأداء ثلاثة أقوال بناء على الكتابة:
فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. صح الأداء وعتق العبد.
وإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد؛ لأن عدم الصحة لعدم الملك، وذلك مانع من صحة العتق، فهو كما لو كاتب الصبي عبده.
وإن قلنا: إنها موقوفة.. وقف الأداء. فإن عاد إلى الإسلام صح الأداء وعتق العبد. وإن مات أو قتل على الردة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد.
وإنٍ كان الأداء بعد أن وقف الحاكم ماله وحجر عليه، فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. فالأداء غير صحيح لأجل الحجر، فإن كان المال باقيا في يد السيد ... استرجعه منه ورفعه إلى الحاكم وعتق. وإن كان تالفًا.. لم يرجع المكاتب على سيده بشيء؛ لأنه فرط بالدفع إليه، وطالب الحاكم المكاتب بمال الكتابة، فإن أداه.. عتق. وإن عجز.. عاد رقيقًا. فإن أسلم السيد قبل أن يعتق العبد.. احتسب للعبد بما كان دفعه إليه في حال الردة.
فإن قيل: أليس لو دفع إلى المحجور عليه لسفه مالًا فأتلفه، لم يضمن، وإذا زال الحجر، لم يحتسب عليه به؟
قلنا: الفرق بينهما: أن السفيه حجر عليه لحفظ ماله، فلو احتسب عليه بما قبضه في حال الحجر.. سقطت فائدة الحجر، والمرتد حجر عليه لحق المسلمين في ماله، فإذا عاد إلى الإسلام.. سقط حقهم من ماله.
وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة.. لم يعتق العبد بالأداء.
وإن قلنا: إن الكتابة موقوفة.. فإن الأداء لا يصح، كما إذا قلنا: إنها صحيحة.
ويسترجعه الحاكم إن كان صحيحًا باقيًا.(8/427)
[فرع ارتداد العبد وقت مكاتبته]
) : وإن ارتد العبد بمكاتبة سيده.. صحت كتابته؛ لأنه يصح بيعه له وعتقه، ثم ينظر فيه، فإن أسلم.. كان حكمه حكم المكاتب المسلم. وإن لم يسلم.. نظرت:
فإن أدى مال الكتابة.. عتق وطولب بالإسلام، فإن لم يسلم.. قتل، وكان ما بقي في يده فيئًا، كالحر المرتد.
وإن لم يؤد مال الكتابة وقتل أو مات على الردة.. كان ما بيده لسيده؛ لأن بقتله أو بموته انفسخت الكتابة، فكان ما بيده لسيده.
وبالله التوفيق(8/428)
[باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه]
والمكاتب في البيع والشراء والأخذ بالشفعة وسائر جهات التجارة كالحر؛ لأنه عقد الكتابة ليحصل له العتق، ولا يحصل له إلا بالأداء، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب بالبيع والشراء وسائر جهات التجارة.
ويجوز له أن يشتري من سيده، ويبيع منه، ويأخذ منه بالشفعة، كما يجوز ذلك من الأجنبي؛ لأنه صار بعقد الكتابة كالخارج من ملكه، وإنما له مال في ذمته، فهو كرجل له دين عليه.
ويصح إقراره بالبيع والشراء؛ لأنه يصح ذلك منه، فصح إقراره به كالحر.
[مسألة مال المكاتب محجور عليه]
) : والمكاتب محجور عليه في ماله فليس له استهلاكه ولا هبته ولا المحاباة به بغير إذن السيد؛ لأن حق السيد لم ينقطع عنه؛ لأنه قد يعجز فيعود إليه؛ لأن القصد بالكتابة تحصيل العتق بالأداء، فإذا وهب ماله.. أدى إلى فوات المقصود.
وإن وهب المكاتب شيئًا من ماله بإذن سيده.. فنص الشافعي في " الأم " (7/34) و" المختصر ": (أنه يصح) .
وقال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) . وقال في " الجامع ": (إذا اختلعت المكاتبة نفسها بعوض بإذن سيدها ... لم يصح الخلع) .
والمكاتبة في بذل العوض كالواهبة؛ لأنها تبذل العوض فيما لا فائدة لها فيه.
واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:(8/429)
أحدهما: لا تصح الهبة والخلع. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن المكاتب ناقص الملك، والسيد لا يملك ما بيده، فلم يصح ذلك باجتماعهما، كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها.
والثاني: تصح؛ لأن المال لا يخرج من بين المكاتب والسيد، فإذا اتفقا على هبته.. صح كالراهن والمرتهن في الرهن.
ومنهم من قال: تصح الهبة قولًا واحدًا على ما نص عليه في " الأم " و " المختصر "، وما ذكره الربيع تخريج منه، وما ذكره في الخلع على ظاهره.
والفرق بينهما: أن المكاتب إذا وهب، حصل له الثواب عاجلا في الدنيا أو آجلًا في الآخرة، وليس كذلك بذل العوض في الخلع، فإنه لا يحصل لها فيه ثواب عاجل ولا آجل، بل عليها ضرر في سقوط نفقتها.
والطريق الأول أصح.
[فرع ليس للمكاتب أن يكفر بالمال]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يكفر المكاتب في شيء من الكفارات إلا بالصوم) .
وجملة ذلك: أن المكاتب إذا لزمته كفارة في قتل أو جماع أو ظهار أو يمين.. فلا يجوز له أن يكفر بالمال من غير إذن سيده؛ لأن ملكه غير تام.
وإن أذن له أن يكفر بالمال، فإن إذن له أن يكفر بالعتق.. لم يصح؛ لأنه يتضمن الولاء، ولا يثبت له الولاء. وإن أذن له أن يكفر بالإطعام، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال، لم يصح تكفيره به؛ لأنه لا يملك ذلك المال، فلم يصح التكفير به.
وإن قلنا: إنه يملك المال.. صح تكفيره به؛ لأنه قد ملك ذلك وأذن له السيد بالتكفير به.(8/430)
[فرع المكاتب لا يبيع نسيئة]
) : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يبيع بدين) .
وجملة ذلك: أنه ممنوع من البيع بالدين المؤجل؛ لأن فيه غررًا وهو ممنوع من التغرير بالمال، وسواء باع بما يساوي أو بأكثر مما يساوي؛ لأن الغرر حاصل بالأجل إلا أن يبيعه بأكثر مما يساوي، فتكون الزيادة على ثمنه مؤجلة؛ لأنه لا تغرير في ذلك.
فإن ابتاع المكاتب بثمن مؤجل.. صح؛ لأن الغرر على البائع دون المكاتب، فإن دفع به رهنًا.. لم يصح الرهن؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال المرهون؛ لأنه أمانة وقد يتلف في يد المرتهن، فيكون من ضمان الراهن.
ويجوز أن يستسلف في ذمته إلى أجل؛ لأن الحظ له في ذلك؛ لأنه يأخذ الثمن فينتفع به إلى أن يحل عليه المسلم فيه.
ولا يجوز أن يرهن بما في ذمته؛ لما ذكرناه.
[فرع المكاتب يأخذ للقراض والقرض ولا عكس]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يدفع شيئًا من المال الذي في يده قراضًا؛ لأن فيه غررًا؛ لأنه يخرج المال من يده، فربما يعود إليه وربما لا يعود، ويجوز أن يأخذ المال قراضًا؛ لأنه من أنواع الكسب.
وليس له أن يقرض؛ لأن ذلك تبرع، وله أن يقترض؛ لأنه ينتفع بذلك) .
[فرع لا تصح هبة المكاتب ولو بزيادة منفعة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يهب بشرط الثواب) .
وجملة ذلك: أنه إذا وهب لغيره شيئًا بشرط الثواب، فإن قلنا: لا يصح ذلك من غيره.. لم يصح من المكاتب.(8/431)
وإن قلنا: إنه يصح من غير المكاتب، فإن كان ذلك بغير إذن السيد.. لم يصح؛ لأن عوضها متأخر، ولأن المقصود بالهبة الوصلة والمحبة دون الثواب، فيصير كالهبة بغير ثواب. فإن كان ذلك بإذن السيد.. كان على الطريقين في الهبة بغير ثواب.
[فرع شراء المكاتب من يعتق عليه]
) : وليس للمكاتب أن يشتري من يعتق عليه ـ كوالده أو ولده ـ بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز له شراؤهما ولا يجوز له بيعهما) .
وقال فيمن عداهما ممن يعتق عليه برحم: (يجوز له بيعهم) .
دليلنا: أنه تصرف بما يؤدي إلى إتلاف ماله، فلم يصح منه بغير إذن سيده، كالهبة.
وإن اشترى ذلك بإذن سيده، فإن قلنا: لو وهب لغيره بإذن سيده، صح قولًا واحدًا.. صح هاهنا أيضًا قولًا واحدًا.
وإن قلنا: في الهبة قولان.. فاختلف أصحابنا في هذا:
فمنهم من قال: فيه قولان كالهبة.
وقال أبو إسحاق: يصح قولًا واحدًا؛ لأن الهبة لا منفعة للمكاتب فيها، وهاهنا يحصل له به جمال، ويحصل كسب العبد له وأرش الجناية عليه له.
فإذا قلنا: يصح الشراء.. لم يكن له بيعه، وكان موقوفًا على كتابته، وينفق عليه بحكم الملك دون النسب.
وإن وصى له بوالده أو ولده، فإن كان غير مكتسب.. لم يجز له قبول الوصية فيه بغير إذن سيده؛ لأنه يستضر بوجوب نفقته عليه.
وإن كان مكتسبًا يمكن الإنفاق عليه من كسبه.. جاز له قبول الوصية؛ لأنه يحصل له بذلك جمال ومنفعة من غير ضرر.(8/432)
فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام. وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للمكاتب. وإن كان أقل من نفقته.. وجب على المكاتب تمام نفقته بحكم الملك، ويكون عتقه موقوفًا على أداء المكاتب.
فإن جنى والد المكاتب أو ولده.. لم يكن له أن يفديه من غير إذن سيده؛ لأن في ذلك إتلافًا لماله. فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة.
[فرع المكاتب لا يعتق ولا يكاتب]
) : ولا يجوز للمكاتب أن يعتق ولا يكاتب بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يكاتب ولا يعتق) .
دليلنا: أنه لا يجوز له العتق، فلا يجوز له الكتابة، كالعبد المأذون له في التجارة، فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة.
فإن قلنا: لا تصح كتابته ولا عتقه.. لم يعتق العبد بالأداء.
وإن قلنا: يصح عتقه وكتابته، فأعتق أو كاتب عبدًا، فأدى إليه ما كاتبه عليه قبل أن يؤدي هو كتابته.. ففي ولاء معتقه قولان:
أحدهما: (أنه للسيد) وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، والمكاتب ليس من أهل الولاء.
والثاني: أنه يكون موقوفًا على أداء المكاتب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ، والسيد لم يعتق.
فعلى هذا إن أدى المكاتب المال.. كان ولاء هذا المعتق له. وإن عجز ورق.. كان ولاؤه لسيده. وإن مات هذا المعتق قبل أداء المكاتب.. ففي ماله قولان:
أحدهما: أنه يكون موقوفًا كالولاء.
والثاني: أنه يكون للسيد؛ لأن الولاء يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه، والميراث لا يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه.
والصحيح: أن الميراث موقوف على هذا القول أيضًا.(8/433)
[فرع بة المكاتب أو محاباته لسيده]
فرع: (هبة المكاتب أو محاباته لسيده) : وإن وهب المكاتب لسيده أو حاباه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما لو فعل ذلك مع غير السيد بإذن السيد؛ لأن قبوله لذلك كالإذن له في ذلك.
فإن قلنا: يصح.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يصح.. فله أن يسترجع ذلك منه قبل أن يعتق.
فإن لم يسترجع ذلك منه حتى عتق.. فهل يجوز له استرجاعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه وقع فاسدًا، فلا يملكه السيد إلا بعقد آخر.
والثاني: ليس له أن يسترجعه؛ لأنه إنما لم يصح لنقصانه، وقد زال ذلك.
[فرع لا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده]
] : ولا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و (العاهر) : الزاني.
والمكاتب هو عبد قبل الأداء، فإن إذن له سيده في النكاح.. صح قولًا واحدًا؛ للخبر، ولأن الحاجة تدعو إليه.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالهبة. والأول أصح.
ولا يجوز له أن يطأ جاريته بغير إذن سيده؛ لأنه ربما أحبلها فتتلف.
فإن أذن له سيده في ذلك، فإن قلنا: إن العبد لا يملك.. لم يجز له وطؤها.
وإن قلنا: إنه يملك إذا ملك.. فاختلف أصحابنا فيه:(8/434)
فمنهم من قال: هو كالهبة، وفيه قولان.
ومنهم من قال: يصح قولًا واحدًا، كالنكاح.
وإن أولد منها ولدًا.. كان ابنا له ومملوكًا له، ولا يعتق عليه، بل يكون موقوفًا على عتقه، ويلزمه أن ينفق عليه بحكم الملك لا بحكم النسب.
[فرع سفر المكاتب بالمال]
) : وإن أراد المكاتب أن يسافر بالمال بغير إذن المولى فقد قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع: (لا يجوز) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال.
والثاني: يجوز؛ لأن فيه تنمية المال.
ومنهم من قال: إن كان السفر طويلًا.. لم يجز، وإن كان قصيرًا.. جاز. والأول أصح.
[مسألة حرمة وطء المكاتبة]
) : إذا كاتب الرجل أمة له.. حرم عليه وطؤها؛ لأن ملكه على رقبتها قد ضعف وزال ملكه عن منفعتها. ولهذا لو وطئها غيره بشبهة.. وجب عليه المهر لها.
فإن خالف السيد ووطئها.. فلا حد عليه، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم. وبه قال جماعة الفقهاء إلا الحسن البصري، فإنه قال: يجب عليه الحد إذا علم تحريم وطئها.(8/435)
دليلنا: أن له فيها ملكًا بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» .
ومن وطئ ملكه.. لم يحد.
إذا ثبت هذا: فإن كانا عالمين بالتحريم ... عزرا. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا ونهيا عن العود. وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم، ولم يعزر الجاهل ونهي عن العود.
وأما المهر، فنقل المزني: (أنه إذا أكرهها.. وجب المهر) .
فمن أصحابنا من حمله على ظاهره، وقال: إذا طاوعته على ذلك.. لم يجب لها المهر؛ لأنها بذلت نفسها بغير عوض، فهي كالزانية.
ومنهم من قال: يجب لها المهر، سواء طاوعته أو أكرهها. وهو الصحيح، وقد نص الشافعي على هذا في " الأم " (7/388) لأن الحد يسقط عنها بشبهة الملك، وهذه الشبهة توجب لها المهر؛ لأنها ثابتة في حقها.
وقال مالك: (لا يجب لها المهر؛ لأن بضعها ملكه، ولهذا لا تتزوج إلا بإذنه) .
ودليلنا: أن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها، ولهذا لو وطئها أجنبي بشبهة.. وجب لها عليه المهر.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب لها إلا مهر واحد، سواء وطئها مرة واحدة أو وطئها مرارًا، كما قلنا في النكاح الفاسد، إلا أن يطأها ويدفع إليها المهر، ثم يطأها، فيلزمه المهر ثانيًا؛ لأن الوطء الأول قد استقر حكمه.
ويجب لها المهر من غالب نقد البلد، فإن لم يحل عليها نجم.. كان لها المطالبة بما وجب لها عليه من المهر.
وإن حل عليها نجم، فإن كان مال الكتابة من غير جنس نقد البلد.. كان لها المطالبة بالمهر. وإن كان من نقد البلد.. فهل يتقاصان فيما استويا فيه؟ فيه أربعة أقوال يأتي ذكرها.(8/436)
وإن أذهب بكارتها.. لزمه أرشها، كما لو قطع عضوًا منها.
وإن أحبلها ... صارت مكاتبة له وأم ولد، وقد مضى بيانها.
[فرع كاتب أمة وشرط وطئها]
) : وإن كاتب أمة وشرط في عقد الكتابة أن يطأها.. كان الشرط والعقد فاسدين.
وقال مالك: (يصح العقد، ويبطل الشرط) .
وقال أحمد: (يصح العقد والشرط) .
دليلنا: أنه لا يملك وطئها مع إطلاق العقد، فلا يملكه بالشرط، كما لو زوجها واشترط لنفسه الوطء.
[مسألة لا يطأ الشريكان مكاتبتهما]
) : وإذا كانت أمة بين رجلين نصفين فكاتباها.. لم يحل لواحد منهما وطؤها؛ لأنه لا يحل لواحد منهما وطؤها قبل الكتابة، فلأن لا يحل بعد الكتابة ـ وقد ضعف ملكهما ـ أولى.
فإن خالف أحدهما ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك.
فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا، وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا، وإن كان أحدهما جاهلًا والآخر عالمًا.. عزر العالم دون الجاهل.
ويلزم الواطئ جميع مهرها للمكاتبة؛ لأنه بمنزلة كسبها، فإن لم يحل عليها نجم من الكتابة.. أخذت منه المهر وتصرفت فيه. وإن كان قد حل عليها نجم وكان مال الكتابة من نقد البلد، فإن كان في يدها ما تدفع إلى سيدها الذي لم يطأها بقدر مهرها.. دفعت إليه مما في يدها، واحتسب على الواطئ بالمهر الذي عليه من النجم الذي حل له عليها. وإن لم يكن بيدها ما تدفعه إلى الذي لم يطأها.. أخذت من الواطئ نصف مهرها، وسلمته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بنصفه من النجم الذي حل له.(8/437)
فإذا أدت ما بقي من مال الكتابة.. عتقت، وإن عجزت.. عادت رقيقة لهما.
فإن كانت قد قبضت من الواطئ مهرها.. فقد برئت ذمته منه؛ لأنها قبضته في وقت تستحق قبضه.
فإذا كان باقيًا في يدها.. أخذ كل واحد منهما نصفه، وإن كان تالفًا.. سقط حكمه فيه؛ لأنها تصرفت في ملكها في حال نفوذ تصرفها.
وإن لم تكن قبضت المهر، فإن كان في يدها شيء من كسبها بقدر مهرها.. دفعته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بمهرها عليه من كسبها.
وإن لم يكن في يدها شيء.. رجع سيدها الذي لم يطأها على الواطئ بنصف مهرها، وبرئت ذمته من نصفه.
وإن أحبلها الواطئ.. فالحكم في الحد والتعزير والمهر على ما مضى.
وأما الولد، فإن ادعى الواطئ أنه استبرأها وحلف على أنه استبرأها، وأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر.. لم يلحقه ولدها، وكان كولدها من زوج أو زنًا على ما يأتي بيانه.
وإن لم يدع الواطئ أنه استبرأها.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له.
فإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية، كما لو أعتق شركًا له من عبد وهو معسر، وفي الولد وجهان:
(أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الواطئ نصف قيمته لشريكه؛ لأنه يستحيل أن ينعقد نصفه حرًا ونصفه مملوكًا.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكا، كولدها الذي تأتى به من زوج أو زنا على ما يأتي بيانه، وهو الأصح؛ لأنه إذا لم يسر الاستيلاد لإعساره، فكذلك حرية الولد لا تسري لإعساره. وقول الأول يبطل بالمرأة إذا كان نصفها حرًا ونصفها مملوكًا فأتت بولد من زوج أو زنا، فإن نصفه حر ونصفه مملوكًا.
وإن كان الواطئ موسرا.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فيصير جميعها أم ولد له ونصفها مكاتبًا له؛ لأن الإحبال كالعتق.(8/438)
ولو أعتق نصيبه منها وهو موسر.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فكذلك إذا أحبلها، فإذا قومت عليه.. انفسخت الكتابة في نصيب الشريك وبقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإن أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق نصفها بالكتابة ويسري العتق إلى باقيها. وإن مات الواطئ قبل الأداء.. عتق جميعها عليه بالاستيلاد. ومتى تقوم عليه؟ فيه طريقان:
(الأول) : قال أبو إسحاق: فيها قولان، كما لو أعتقه:
أحدهما: تقوم في الحال ولا ينتظر العجز، كما لو أحبل جارية بينه وبين شريكه وهي غير مكاتبة، أو أعتقها.
والثاني: لا تقوم عليه إلا بعد العجز؛ لأنه قد ثبت لشريكه فيها حق الولاء بعقد الكتابة، فلا يجوز إبطال ذلك عليه بالتقويم.
و (الطريق الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا تقوم إلا بعد عجزها قولًا واحدًا، وإنما القولان إذا أعتقها؛ لأن الحظ يحصل لها بالتقويم بالعتق؛ لأن عتقها يتنجز، والحظ لها هاهنا في أن لا تقوم؛ لأنها ربما أدت مال الكتابة، فتعجل عتقها بالكتابة.
والصحيح هو الأول؛ لأن الإحبال أقوى من العتق، بدليل أنه يصح من المجنون والسفيه، والعتق لا يصح منهما، ولأن الحظ لها بالتقويم بالإحبال أكثر من انتظار عجزها؛ لأنها إذا قومت على الواطئ.. بقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإذا أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق جميعها، وذلك أخف من أن يبقى جميعها مكاتبًا فلا تعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة.
وإذا قومت على الواطئ.... سرى الإحبال إلى باقيها. ومتى وقعت السراية؟ فيه ثلاثة أقوال، كالعتق:
أحدهما: في الحال.
والثاني: بدفع القيمة.(8/439)
والثالث: أنه موقوف، فإن أدى القيمة ... بان أن السراية وقعت بالإحبال. وإن لم يدفع القيمة.. تبينا أن السرية لم تقع.
وأما قيمة نصف الولد، فإن قلنا: إنها تقوم في الحال، وقلنا: إن الإحبال يسري إلى نصيب الشريك في الحال.. لم يلزمه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن قلنا: إنها لا تقوم إلا بعد العجز، وقلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة، فوضعت الولد قبل العجز أو قبل دفع القيمة.. لزمه نصف قيمة الولد لشريكه؛ لأنه كان من سبيله أن يكون نصفه مملوكًا لشريكه، وقد أتلف رقه عليه.
[فرع كاتبا جارية ثم جامعاها]
) : وإن كاتبا جارية بينهما نصفين، ثم وطئها كل واحد منهما.. فالكلام في التحريم والحد والتعزير على ما مضى، ويجب على كل واحد منهما مهر مثلها.
فإن لم يحل عليها نجم ... كان لها مطالبة كل واحد منهما بالمهر الذي وجب عليه لتتصرف فيه. وإن كان قد حل عليها نجم، وكان مال الكتابة من جنس المهر.. فهل يسقط عن كل واحد منهما قدر ما وجب له عليها مما عليه لها من المهر؟ على الأقوال في المقاصة.
وإن فضل لها فضل عليهما أو على أحدهما من المهر.. طالبته به، وإن عجزت نفسها ... رقت لهما.
فإن كانت قد قبضت المهرين.. فقد برئت ذمتهما، ويقتسمان ما كان في يدها.
وإن كانت لم تقبض المهرين.. برئت ذمة كل واحد منهما من نصف المهر الذي وجب عليه؛ لأن نصفها عاد رقيقًا له فيسقط عنه ما يقابل ملكه منها، ويبقى عليه نصف المهر لأجل حق شريكه.
فإن كان المهران متساويين.. فهل يسقط ذلك عنهما؟ على الأقوال في المقاصة.
وإن كان أحد المهرين أكثر من الآخر: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بأن يطأها أحدهما وهي بكر، ويطأها الآخر وهي ثيب، أو يطأها أحدهما وهي صحيحة،(8/440)
ويطأها الآخر وهي مريضة أو معيبة.. تقاصا فيما استويا فيه، ومن بقي له فضل طالب شريكه به، وإن أفضاها أحدهما.. وجب عليه للآخر نصف قيمتها مع المهر. وكذلك إن افتضها أحدهما.. لزمه لشريكه نصف أرش الافتضاض مع المهر.
فإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه أفضاها أو افتضها.. حلف كل واحد منهما لشريكه، وسقط حكم الإفضاء والافتضاض) .
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فحلف عليه شريكه.. لزم الناكل نصف قيمتها للإفضاء، ونصف الأرش للافتضاض.
فإن أتت بولد.. نظرت:
فإن ادعيا أنهما استبرآها وحلفا وأتت بولد لستة أشهر بعد الاستبراء.. انتفى الولد عنهما، وكان كالولد الذي تأتي به من زوج أو زنا.
وإن لم يدعيا الاستبراء.. فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما، أو يمكن أن يكون من الواطئ الأول ولا يمكن أن يكون من الثاني، أو يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الأول، أو يمكن أن يكون من كل واحد منهما.
فإن لم يمكن أن يكون من كل واحد منهما، مثل: أن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء كل واحد منهما، أو لدون ستة أشهر من وطء كل واحد منهما.. انتفى عنهما، فكان كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا.
وإن أمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لدون أربع سنين من وطء الأول، أو لستة أشهر فما زاد من وطئه، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني.. لحق الولد بالأول. فإن كان معسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ولا يسري الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية. وفي الولد وجهان:
(أحدهما) : على قول أبي علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته لشريكه.
و (الثاني) : على قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه الآخر كولدها من زوج(8/441)
أو زنا، وتستحق الجارية على كل واحد منهما جميع مهرها.
وإن كان المحبل موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويقوم عليه نصيب شريكه فيها. وهل يقوم عليه في الحال أو بعد العجز؟ على الطريقين في المسألة قبلها.
وهل يلزمه نصف قيمة الولد؟
إن قلنا: يقوم في الحال ويسري الإحبال قبل دفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز، أو قلنا: لا يسري الإحبال إلا بعد دفع القيمة، فإن وضعت بعد العجز والتقويم ودفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه. وإن وضعته قبل ذلك.. لزمه نصف قيمته.
ويجب على الواطئ المحبل جميع مهرها؛ لأنه وطئها وجميعها مكاتب، فيكون للجارية نصف المهر لأجل النصف الذي بقي على الكاتبة، ونصف المهر لسيدها الذي لم يحبل؛ لأن نصيبه قد انفسخت الكتابة فيه إما بالتقويم أو بالعجز، وكان ما يخص نصيبه من كسبها له.
وأما ما يجب على الثاني من المهر، فإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال فقد وطئها الثاني ولا ملك له فيها.. فيلزمه جميع المهر، ويكون للأول نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه، وصارت أم ولد له. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن كتابة نصيب الذي استولدها.. كان له أيضًا.
وإن كانت لم تعجز نفسها.. كان للجارية؛ لأنه كسب لنصفها الذي بقي على الكتابة.(8/442)
وإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة، فإن وطئها قبل دفع القيمة.. سقط عن الثاني نصف مهرها لأجل نصفها الذي له؛ لأنه عاد رقيقا له بالتقويم، وهل يجب عليه نصف مهرها لأجل نصفها الذي هو للمحبل؟
فإن كانت قد عجزت نفسها عن الكتابة.. استحق المحبل نصف مهرها على الثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك النصف للجارية؛ لأن نصفها باق على الكتابة.
وإن وطئها الثاني بعد أن أخذ نصف قيمتها.. وجب عليه كمال مهرها، فيكون للمحبل نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الباقي.. كان للمحبل أيضًا. وإن لم تعجز نفسها.. كان لها.
وإن أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولدون أربع سنين ولستة أشهر فما زاد من وطء الثاني.. لحق الولد بالثاني، وانتفى عن الأول، فصار نصيب الثاني من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له.
وإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب الأول منهما.
وأما الولد: فعلى قول أبي علي: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الثاني نصف قيمته للأول.
وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه ليس بحر، بل يكون كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا، ويلزم كل واحد منهما جميع المهر لها فتقبضه منهما إن لم يحل عليها نجم، وإن حل عليها نجم.. كان كما لو لم تلد.
وإن كان الثاني موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه منها، ويقوم عليه. ومتى يقوم؟ على الطريقين.(8/443)
والكلام في قيمة الولد كما ذكرناه في التي قبلها.
ويلزم الثاني جميع مهرها: نصفه للمكاتبة لأجل نصفها الذي بقي على الكتابة، ونصفه للواطئ الأول الذي لم يحبلها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة بالتقويم.
وأما الأول: فإنه يسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة، وعاد رقيقًا له بالتقويم، ويجب عليه نصف المهر لأجل نصفها الذي للمحبل.
فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الذي للثاني.. كان ذلك النصف من مهرها للثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك للمكاتبة.
وإن أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر ولدون أربع سنين من وطء كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به وانتفى عن الثاني، وكان الحكم كما لو أمكن أن يكون من الأول دون الثاني على ما مضى. وإن ألحقته بالثاني.. كان الحكم فيه كما لو أمكن أن يكون من الثاني دون الأول على ما مضى. وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو أشكل عليها أمرهما، أو لم توجد قافة.. يترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما، وينفقان عليه، فإذا بلغ، وانتسب إلى أحدهما.. لحق به، وكان الحكم فيه كما لو لحقه بالإمكان، ويلزمه أن يغرم للآخر ما أنفقه على ولده؛ لأنه بان أنه ولده.
[فرع كاتبا أمة ثم وطئاها وأتت بولدين]
) : وإن كانت أمة بينهما نصفين فكاتباها، ثم وطئها كل واحد منهما، وأتت من كل واحد منهما بولد اعترف به واعترفا بالسابق منهما، وأظهرت العجز، وفسخ السيدان الكتابة.. فلا يخلو حالهما: إما أن يكونا موسرين، أو يكون الأول موسرا والثاني معسرا، أو يكون الأول معسرا والثاني موسرا، أو يكونا معسرين.(8/444)
فإن كانا موسرين.. فإن الأول يجب عليه نصف المهر لشريكه؛ لأنها بانفساخ الكتابة عادت بمعناها قبل الكتابة، فوجب عليه نصف المهر لأجل نصف شريكه، ويسقط عنه نصف المهر لأجل نصفه الذي عاد رقيقًا له، ويكون الولد حرًا، ونصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه، ومتى يسري الإحبال؟ على الأقوال الثلاثة في وقت سراية العتق.
وأما قيمة نصف الولد: فمبني على القولين في وقت السراية، فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال.. لم يجب عليه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، فإن ولدت قبل دفع القيمة.. فإنه يلزمه نصف قيمة الولد لشريكه. وإن دفع القيمة، ثم ولدت.. لم يلزمه نصف قيمة الولد.
وأما ما يجب على الثاني: فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال، فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيلزم الثاني للأول جميع مهرها، ويكون ولده حرًا للشبهة، ويلزمه جميع قيمته للأول.
وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، وكان وطؤه قبل دفع القيمة.. وجب على الثاني نصف مهرها للأول لأجل نصفه منها، ويسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفه الذي انفسخت الكتابة فيه له، ويصير الولد حرًا للشبهة، ويلزمه للأول نصف قيمته، ويسقط عنه النصف، ولا تصير الجارية أم ولد للثاني؛ لأنه قد استحق تقويمها على الأول بحكم الاستيلاد ولا ينفذ استيلاد الثاني فيها، فيتقاصان فيما استويا فيه، ويرجع من له فضل شيء على صاحبه بما بقي له، والحكم في الحد والتعذير على ما مضى.
وإن كان الأول موسرًا والثاني معسرًُا.. فالحكم في الأول على ما مضى.
وأما الثاني: فإن قلنا: إن إحبال الأول يسري في الحال فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيجب عليه للأول جميع مهرها. قال أبو إسحاق: ويكون الولد مملوكًا للأول.
وقال ابن أبي هريرة: يكون حرًا وتثبت قيمته في ذمة الثاني.
وإن قلنا: إن إحبال الأول لا يسري إلا بعد دفع القيمة فوطئها الثاني قبل دفع(8/445)
القيمة.. لزم الثاني للأول نصف المهر ويسقط عنه النصف.
وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد الثاني حرًا ونصفه مملوكًا للأول.
وعلى قول أبي علي: يكون جميعه حرًا ويكون في ذمة الثاني نصف قيمته للأول، ولا يصير نصيب الثاني من الجارية أم ولد له؛ لأنه قد استحق تقويمه على الأول.
وإن كان الأول معسرًا والثاني موسرًا.. فإن نصيب الأول من الجارية صار أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الثاني من الجارية. وفي ولد الأول وجهان:
(أحدهما) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكًا للثاني.
و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يكون جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته للثاني، ويجب على الأول نصف المهر في ذمته للثاني.
وأما الثاني: فيجب عليه للأول نصف مهرها، ويسقط عنه النصف، ويصير نصيبه من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الأول من الجارية؛ لأنه قد صار أم ولد للأول.
وأما ولد الثاني: فيكون حرًا وجهًا واحدًا، ويلزمه نصف قيمته للأول.
وإن كانا معسرين.. فعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر، ويصير نصيب كل واحد منهما من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب شريكه.
وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد كل واحد منهما حرًا، ونصفه مملوكًا لصاحبه.
وعلى قول أبي علي: يكونان حرين، ويثبت في ذمة كل واحد منهما نصف قيمة ولده لصاحبه. وإن اختلفا في السابق منهما، وكل واحد منهما يقول: أنا الأول.. فلا يخلو: إما أن يكونا موسرين، أو معسرين، أو أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.
فإن كانا موسرين، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأنه يقول: أن أحبلتها أولا، ويسري الإحبال إلى نصيبك، ويقر له بنصف المهر؛ لأنه(8/446)
يقر أنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره، ويقر له بنصف قيمة الولد على القول الذي يقول: إن السراية لا تقع إلا بدفع القيمة.
وعلى القول الذي يقول: إن السراية تقع في الحال.. يقول: لا شيء علي من قيمة الولد، ويدعي كل واحد منهما على صاحبه بجميع المهر وجميع قيمة الولد في أحد القولين ـ وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال ـ وبنصف المهر ونصف قيمة الولد في القول الآخر ـ وهو إذا قلنا: إن السراية لا تقع إلا بعد دفع القيمة ـ فيسقط إقرار كل واحد منهما لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأن كل واحد منهما يكذب إقرار صاحبه له بذلك.
وأما المهر: فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصفه والمقر له يدعي جميعه في أحد القولين، وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال، فيجب على كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر الذي اتفقا عليه، ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي يدعيه وينكره صاحبه.
وأما على القول الذي يقول: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة.. فإن كل واحد منهما لا يدعي على صاحبه إلا نصف المهر، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر، فلا يمين على أحدهما للآخر؛ لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه بما يدعيه عليه.
وأما قيمة الولدين: فإن كل واحد منهما يحلف لصاحبه بما يدعيه عليه من ذلك؛ لأنا إذا قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإن كل واحد منهما يقول: أنا أحبلتها أولًا ويسري إحبالي، ووضعته في ملكي، فلا يلزمني قيمة ولدي، وأنت أحبلتها بعدى وقد صارت أم لولدي، فيلزمك جميع قيمة ولدك، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه ـ على هذا ـ أنه لا يستحق جميع قيمة الولد التي يدعيها ولا بعضها.(8/447)
وعلى هذا القول الذي يقول: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة.. فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة ولده ويدعي على صاحبه بنصف قيمة ولده، فإن كانت قيمة الولدين متساوية، وقلنا: يسقط ما على أحدهما بمثل ما له على الآخر.. فلا يمين على أحدهما. وإن كانت قيمة أحدهما أكثر.. حلف من كثرت قيمة ولده؛ لأن الأصل براءة ذمة كل واحد منهما مما يدعيه الآخر.
إذا ثبت هذا: فإن هذه الجارية توقف ولا تصير أم ولد لواحد منهما؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر. ويؤخذان بنفقتهما، فِإن مات أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يعتق شيء من الجارية لاحتمال ِأن تكون أم ولد للثاني منهما خاصة، ولا يقع العتق بالشك.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، واختاره القاضي أبو الطيب ـ: أنه يعتق نصفها؛ لأن الميت كان قد أقر بأن نصفها أم ولد له وهي في يده، فلزم ذلك في حق ورثته. ويكون ولاء هذا النصف موقوفًا، بخلاف العتق؛ لأنه يبنى على التغليب والسراية.
وإن ماتا جميعًا.. حكم بعتقها بلا خلاف؛ لأن موت سيدها الذي صارت أم ولد له منهما متيقن، ويكون ولاؤها موقوفًا إلى أن يتبين الحال.
فإن ماتت الجارية بعد ذلك، فإن كان لها وارث من جهة النسب يحوز ميراثها.. ورثها ولا كلام. وإن كان وارثها هو مولاها.. وقف ميراثها إلى أن يصطلح عليه ورثة السيدين.
وإن كانا معسرين.. فكل واحد منهما يقر أن نصيبه من الجارية أم ولد له والآخر يصدقه؛ لأن الاستيلاد مع الإعسار لا يسري، وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف(8/448)
المهر ويصدقه المقر له على ذلك، فإن كانا سواء.. تقاصًا، ولا يمين بينهما، وإن كان على أحدهما فضل.. دفع الفضل لصاحبه.
وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: نصف ولد كل واحد منهما حر، ونصفه الآخر مملوك لصاحبه.
وعلى قول أبي علي: الولدان حران، وعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف قيمة ولده، فيتقاصان فيما استويا، ويتراجعان في الفضل، ولا يمين هاهنا.
فإن مات أحدهما.. عتق نصف الجارية، ويكون ولاؤه لورثته.
ونقل الربيع في " الأم " (انظر: 7/412) : أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا، سواء كانا موسرين أو معسرين) .
فمن أصحابنا من قال: هذا خطأ في النقل؛ لأن الولاء إنما يوقف إذا كانا موسرين، فأما إذا كانا معسرين.. فلا يوقف، كما بيناه.
ومنهم من اعتذر له، وقال: أراد به إذا كانا معسرين حال الموت، وقد كانا موسرين حال الإحبال.
وأما إذا كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.. فإن الموسر يقر للمعسر بنصف قيمة الجارية ونصف مهرها. ويقر له بنصف قيمة الولد إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. ولا يقر بشيء من قيمة الولد إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويدعي على المقر بجميع المهر إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويملك الولد على قول أبي إسحاق، وبقيمته على قول أبي علي بن أبي هريرة وعلى هذا القول. ولا يدعي إلا بنصف المهر إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. وفي الولد على هذا القول وجهان. فالمعسر يقول: أنا وطئت أولًا، فعلي نصف المهر، ونصيبي من الجارية أم ولد لي، وفي ولدي وجهان. وأنت أيها الموسر وطئتها بعدي، فعليك لي نصف المهر ونصيبك أم ولدك وولدك حر وعليك لي نصف قيمته، فيسقط إقرار الموسر بنصف قيمة الجارية للمعسر؛ لأنه يكذبه في ذلك، وكل واحد منهما مقر لصاحبه بنصف المهر، ويصادقه المقر له به فيتقاصان فيما استويا فيه من ذلك، ويحلف(8/449)
المعسر للموسر عن النصف الباقي من المهر؛ لأنه قد يدعي عليه جميع المهر ـ في أحد القولين ـ والمعسر لا يقر له إلا بالنصف.
وأما ولد المعسر: فقد تصادقا على ملك نصفه للموسر في أحد الوجهين ونصف قيمته في الآخر، فلا يمين على المعسر في ذلك، إلا أن الموسر يدعي ملك جميعه أو جميع قيمته في أحد القولين، فيحلف المعسر له على ذلك.
وأما ولد الموسر: فإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة.. لزمه أن يدفع نصف قيمة ولده إلى المعسر؛ لأنه يقر له بذلك وهو يدعيه.
وإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإنه لا يقر له بشيء من قيمة الولد، والمعسر يدعي عليه بقيمة نصفه، فيحلف الموسر له على ذلك.
وأما الجارية: فإن نصيب الموسر فيها أم ولد له بلا منازعة، فيكون كسبه له ونفقته عليه. وأما نصيب المعسر منها: فإنهما يتنازعان فيه، فيكون نفقته عليهما وكسبه لهما.
فإن مات الموسر.. عتق نصيبه وولاؤه لورثته. فإن مات المعسر أولًا.. لم يعتق نصيبه قبل موت الموسر؛ لأنهما يتنازعان فيه. وإن ماتا.. عتقت الجارية، وكان ولاء نصيب الموسر لورثته؛ لأنهم لا ينازعهم غيرهم فيه.
وأما ولاء نصيب المعسر: فإنه يكون موقوفًا بين ورثة الموسر وورثة المعسر. ونقل المزني في هذه المسألة: (أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا) .
قال أصحابنا: أراد بذلك ولاء نصيب المعسر دون نصيب الموسر لما بيناه.
[مسألة لا يتبع ولد المكاتبة أمه]
) : إذا كاتب أمة ثم حملت بعد الكتابة بولد من زوج أو زنا.. فإن الولد يكون مملوكًا ولا يتبع الأم في الكتابة.
وقال أبو حنيفة: (يتبع الأم في الكتابة) .
دليلنا: أن الكتابة عقد يفتقر إلى القبول، فلم يتبع الولد فيه الأم، كالبيع. وفيه احتراز من التدبير.(8/450)
إذا ثبت هذا: فما حكم الولد؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه مملوك للمولى، وهو الأصح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ، فلم يسر حكمه إلى الولد، كالرهن.
فعلى هذا: يكون كسبه للمولى، وله أن يتصرف فيه بسائر التصرفات التي يتصرف بها في سائر عبيده من البيع والاستخدام والوطء.
والثاني: أنه موقوف على حكم الأم، فإن رقت الأم.. رق معها. وإن عتقت.. عتق؛ لأن الكتابة سبب يستحق به العتق، فتبع الولد الأم في ذلك، كالاستيلاد.
فإذا قلنا بهذا: فالكلام في قيمته إذا قتل، وفي كسبه، وفي نفقته، وفي عتقه.
فأما قيمته: فإنه إذا قتل.. وجبت قيمته على القاتل؛ لأنه مملوك يضمن بالقيمة، ولمن تكون هذه القيمة؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها للمولى؛ لأنه تابع لأمه، ولو قتلت أمه.. لكانت قيمتها لمولاها، فكذلك قيمة ولدها.
والثاني: أنها تصرف إلى المكاتبة لتستعين بها على كتابتها؛ لأن السيد كان لا يستحق التصرف في رقبته مع كونه قنًا، فلا يستحق قيمته، فإذا لم يستحقها السيد.. كانت للأم؛ لأنه لا فائدة في إيقاف القيمة.
وأما كسبه: فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه على قولين:
(أحدهما: أنه للمكاتبة، تستعين به على كتابتها؛ لأن الولد تابع لها وجزء منها.
والثاني: أنه يكون موقوفًا كالولد، فإن رقت الأم.. رق الولد، وكان الكسب للسيد. وإن عتقت الأم.. عتق الولد وكان كسبه له؛ لأنه لما كانت ذاته موقوفة.. وجب أن يكون كسبه موقوفًا) .
ومن أصحابنا من خرج في الكسب قولًا ثالثًا: أنه يكون للسيد؛ لأن كسب ولد أم الولد للسيد، فكذلك كسب ولد المكاتبة.(8/451)
ومنهم من قال: هي على القولين الأولين المنصوص عليهما.
والفرق بين ولد أم الولد المكاتبة أن كسب أم الولد للسيد، فكان كسب ولدها له، وكسب المكاتبة لا يملكه السيد، فلم يكن له كسب ولدها.
قال ابن الصباغ: وإن جني على أعضاء هذا الولد.. وجب الأرش على الجاني، وكان ككسب الولد على ما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الكسب موقوف فمات الولد قبل عتق الأم أو عجزها.. كان كسبه كقيمته إذا قتل، على ما مضى من القولين.
وإن أشرفت الأم على العجز، وقلنا: إن كسب الولد موقوف.. فهل للأم أن تأخذه لتؤديه للمولى فتعتق به؟ فيه قولان:
أحدهما: لها ذلك؛ لأن في ذلك حظًا للولد؛ لأنها إذا عتقت.. عتق الولد.
والثاني: ليس لها أن تأخذه؛ لأن الكسب ليس بمملوك لها، وإنما هو موقوف على السيد أو الولد.
وأما نفقه الولد: فإن قلنا: إن كسبه للسيد.. كانت نفقته عليه.
وإن قلنا: إن كسبه موقوف.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يف كسبه بنفقته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب تمامها على السيد؛ لأن المغلب في ذلك حظه؛ لأنه موقوف عليه ليتملكه.
والثاني: يجب تمامها في بيت المال؛ لأن السيد لا يملكه، فلا يلزمه الإنفاق عليه، فيكون محتاجًا ليس له من ينفق عليه، فوجبت نفقته في ببيت المال.
وأما عتقه: فإن السيد إذا أعتق هذا الولد قبل عجز الأم أو عتقها، فإن قلنا: إن كسبه وقيمته للسيد، أو قلنا: إنه موقوف وليس لها أن تستعين به إذا عجزت.. نفذ(8/452)
عتقه؛ لأنه ليس في ذلك إضرار بغيره. وإن قلنا: إن كسبه وقيمته للأم.. لم ينفذ عتقه؛ لأن في ذلك إسقاط حقها من الكسب والقيمة.
[فرع ولد المكاتبة جارية]
) : وإن كان ولد المكاتبة جارية، قلنا: إن ولد المكاتبة موقوف.. فلا يجوز للسيد وطؤها، كما لا يجوز له وطء أمها، فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه، كما لو وطئ أمها.
فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا. وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا.
وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم منهما دون الجاهل. وأما المهر: فإن قلنا: إن الكسب للسيد.. فلا مهر عليه.
وإن قلنا: إن الكسب للأم.. وجب عليه المهر للمكاتبة.
وإن قلنا: إنه موقوف.. أخذ منه المهر ووقف.
وإن افتضها أو أفضاها.. كان أرش الافتضاض وقيمتها للإفضاء ككسبها على ما مضى.
وإن أحبلها.. كان ولده منها حرًا، ويلحقه نسبه، وتصير أم ولد له؛ لأنها حملت منه بحر في ملكه.
وأما قيمتها: فقال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه قيمتها؛ لأن القيمة تجب لمن يملكها، والأم لا تملكها.
وقال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون في قيمتها قولان هاهنا، كما لو أتلفت. ولا يجب عليه قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه.
وإن كان للمكاتبة أمة.. لم يجز للسيد وطؤها؛ لأنها ملك للمكاتبة.
فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك؛ لأنه يملك مالكها، ويجب عليه المهر، ويدفعه إلى المكاتبة؛ لأن كسب جاريتها لها.(8/453)
وإن أحبلها.. صار ولده منها حرًا، ولحقه نسبه، وصارت أم ولد له، ويجب عليه قيمتها للمكاتبة، ولا يجب عليه لها قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه.
[فرع ولد ولد المكاتبة]
) : وأما ولد ولد المكاتبة: فإن الشافعي قال: (وولد البنات كالبنات، وولد البنين كالأمهات) يريد: أن ولد بنت المكاتبة حكمه حكم أمه، وولد ابن المكاتبة حكمه حكم أمه دون أبيه.
وقال أبو يوسف ومحمد: ولد البنت يكون داخلًا في كتابة جدته.
وقال أبو حنيفة: (يدخل في كتابة أمه دون جدته) .
ودليلنا: أن الولد من كسب أمه، والأم تابعة للمكاتبة، فكذلك ولدها، كسائر أكسابها. ونحن نريد بذلك في حكم الكتابة لا في الكتابة.
[مسألة حبس المكاتب ومنعه عن التصرف]
) : وإذا كاتب الرجل عبدا له على مال معلوم إلى أجل، ثم إن السيد حبس المكاتب ومنعه عن التصرف مدة.. ففيه قولان منصوصان في " الأم ":
(أحدهما: يلزمه أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه فيها ليكتسب فيها؛ لأنه دخل معه في عقد على أن يمكنه من التصرف تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك) .
والثاني: يلزمه أجرة مثله في مثل تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك.
وهو الأصح؛ لأن المنافع تضمن بالأجرة ولا تضمن بالمثل، فهو كما لو غصب من رجل مالًا: دارًا أو عبدًا.
[فرع أخذ الأعداء المكاتب لا يمنع الملك]
) : وإن كاتب مسلم عبدًا له، ثم ظهر المشركون على الدار وأخذوا المكاتب..فإنهم لا يملكونه بالأخذ.(8/454)
فإن حبسوه مدة، ثم خلص من أيديهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزم السيد أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه المشركون فيها.
والثاني: لا يلزمه تخليته؛ لما ذكرناه في التي قبلها. فأما الأجرة: فإنها لا تجب على السيد؛ لأنه لم يحبسه بنفسه.
ومنهم من قال: لا يلزمه تخليته للاكتساب هاهنا قولًا واحدًا.
والفرق بين هذه والتي قبلها: أن السيد هناك حبس المكاتب وهاهنا لم يحبسه، ولا له في حبسه فعل.
فإن قلنا: لا يلزمه تخليته، فإن لم يحل عليه نجم.. فليس له مطالبته. وإن كان قد حل عليه نجم، فإن كان معه مال وأداه.. عتق. وإن لم يكن معه مال.. فللسيد أن يعجزه ويفسخ الكتابة.
وإن قلنا: يلزمه تخليته، ففعل، واكتسب مالًا وأداه.. عتق.
وإن انقضت المدة ولا مال معه.. فللسيد أن يفسخ الكتابة.
[مسألة إيتاء السيد شيئًا للمكاتب]
) : قال الشافعي: (ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئًا) . وجملة ذلك: أن الإيتاء في الكتابة واجب عندنا، وهو: أن يحط عنه السيد شيئًا من مال الكتابة، أو يدفع إليه ما يستعين به في أداء مال الكتابة. وبه قال أحمد.(8/455)
وقال مالك وأبو حنيفة: (الإيتاء مستحب غير واجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في هذه الآية: (ضعوا عنه ربع مال الكتابة) .
وعن ابن عباس في هذه الآية: أنه قال: (ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئًا) .
وعن ابن عمر: (أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفًا، فأخذ منه ثلاثين ألفًا، وترك خمسة آلاف) .
إذا ثبت هذا: فالكلام في الإيتاء في أربعة مواضع:(8/456)
أحدها: في وقت جوازه.
والثاني: في وقت وجوبه.
والثالث: في قدره.
والرابع في جنسه.
فأما وقت جوازه: فمن بعد عقد الكتابة إلى حين أداء مال الكتابة؛ لعموم الآية، ولأن القصد إعانته على الأداء، وذلك يحصل كل وقت من هذه الأوقات.
وأما وقت وجوبه: ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب إلا بعد؛ لأنه مشبه بالمتعة في الطلاق، والمتعة لا تجب إلا بعد الطلاق.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يتعين وجوبه إذا أدى أكثر مال الكتبابة وبقي عليه قدر الإيتاء؛ لأنه إذا آتاه وقد بقي عليه أكثر من قدر الإيتاء ربما عجز نفسه بعد ذلك، فلا يحصل المقصود بالإيتاء. وأما قدره: ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الإيتاء يختلف باختلاف مال الكتابة، فإن كثر مال الكتابة.. كثر الإيتاء. وإن قل مال الكتابة.. قل الإيتاء.
هكذا حكاه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق عن أبي إسحاق، وحكاه ابن الصباغ عنه: أن الإيتاء يختلف بيسار المكاتب وإعساره.
فإن تراضيا على قدر الإيتاء.. فلا كلام، وإلا.. رفعاه إلى الحاكم؛ ليقدره باجتهاده، كما قلنا في المتعة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجزئ السيد من ذلك ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا عموم يقع على القليل والكثير.(8/457)
وأما جنسه: فإن حط عنه بعض مال الكتابة.. أجزأه. وإن أخذ منه مال الكتابة ثم دفع إليه بعض ما أخذ منه.. جاز؛ لأن الله أمر بالإيتاء، وحقيقة الإيتاء تقع على الدفع، والحط أولى من الدفع؛ لأن فيه معنى الإيتاء وزيادة، ولأنه أنفع له من الدفع؛ لأنه لم يتكلف المشقة في تحصيله، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فسروا الإيتاء بالحط على ما تقدم.
فإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دنانير، أو كاتبه على دنانير فأعطاه السيد دراهم.. لم يجبر العبد على قبوله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وهذا آتاه من غير المال الذي آتاه.
وإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دراهم من غير المال الذي أعطاه المكتاب.. فهل يلزم العبد المكاتب قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبولها، كما لو أخرج الزكاة من غير المال الذي وجبت فيه الزكاة، إلا أنه من جنسه.
والثاني: لا يلزم قبوله، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وفسرته الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: بحط بعض مال الكتابة، فدل على أن الإيتاء يختص بنفس مال الكتابة.
[فرع أداء مال الكتابة قبل حلول الأجل]
) : وإن أدى المكاتب جميع مال الكتابة قبل الإيتاء.. عتق ولزم المولى إن يدفع إليه؛ لأن لكل واحد منهما على صاحبه حقًا، فلا يسقط حقه بأداء ما عليه، كما لو كان لكل واحد منهما على الآخر دين فقضى أحدهما صاحبه دينه.
وإن مات المولى قبل الإيتاء.. لم يسقط الإيتاء؛ لأنه حق واجب لآدمي، فلم يسقط بموته، كالدين.
فإن كان ماله يفي يدين ـ إن كان عليه ـ وبالإيتاء.. استوفي ذلك من تركته.
وإن كان عليه دين وأوصى بوصايا، فإن كان ماله يفي بالدين والوصايا والإيتاء.(8/458)
استوفي ذلك كله من تركته. وإن كان ماله لا يفي بذلك كله.. فنقل المزني: (أن المكاتب يحاص أهل الدين والوصايا) واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من ذهب إلى ظاهر ما نقله المزني، وأن المكاتب يحاص أصحاب الوصايا؛ لأن الإيتاء غير مقدر وضعف أمره وإن كان واجبًا، فساوى أصحاب الوصايا.
ومنهم من قال: يقال الإيتاء على الوصايا، وهو الصحيح؛ لأنه دين، والدين مقدم على الوصايا. تأولوا ما نقله المزني ثلاث تأويلات:
أحدهما: أنه أراد أن الإيتاء مقدم على الميراث، كما يقدم الدين والوصايا عليه؛ لأنه أراد أن الإيتاء يسوي بينه وبين الوصايا.
والثاني: أنه أراد بذلك إذا كان قد ثبت عليه دين بالبينة ودين بالوصية، فإن المكاتب يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالوصية، كما يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالبينة.
والثالث: أنه أراد بذلك: إذا كان قد أوصى للمكاتب بزيادة على قدر الواجب له من الإيتاء.. فإنه يحاص بالقدر الواجب من غير الوصية أهل الدين، ويحاص بما زاد عليه أهل الوصايا؛ لأنه وجب له بالوصية.
[فرع قول السيد رقيقي أحرار]
) : إذا قال: مماليكي، أو رقيقي أحرار.. عتق كل عبد له ومدبر وأم ولد.
وإن كان له مكاتب.. فنقل المزني: (أنه لا يعتق) .
وقال الربيع: سماعي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يعتق) .
فمن أصحابنا من قال: لا يعتق قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه.
ومنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه أخبر أنه سماعه: أحدهما: أنه يعتق عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ، ولأنه مملوك، فكان مملوكا لسيده.(8/459)
والثاني: لا يعتق؛ لأنه كالخارج عن ملك سيده، فلا يتصرف في رقبته ولا في منفعته، ولا يستحق كل واحد منهما حقا على صاحبه، فلم يدخل في اسم ممالكيه ولا رقيقه، كالحر. ومن قال بهذا.. قال: المكاتب مملوك لا مالك له، كستارة الكعبة.
ومن أصحابنا من يقول: هو مملوك لنفسه ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يكمل ملكه، كما إذا اشترى عبدا.. فإنه يملكه ولا ينفذ عتقه فيه.
وبالله التوفيق(8/460)
[باب الأداء والعجز]
ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه بالكتابة حتى يؤدي جميع مال الكتابة، وبه قال عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وابن المسيب، والحسن البصري، والزهري، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال ابن مسعود: (إذا أدى قدر قيمته.. عتق، وكان زعيما بالباقي بعد عتقه) .
وروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان:
إحداهما: (أنه إذا أدى نصف ما عليه.. عتق كله، وطولب بالباقي) .
والثانية: (أنه يعتق منه بقدر ما يؤدي)
وقال ابن سريج: إذا أدى ثلث ما عليه.. عتق كله وأدى الباقي في حال حريته.
ودليلنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته» .(8/461)
ولأنه علق عتقه على دفع مال، فلم يعتق قبل أداء جميعه، كما لو قال لعبده: إن أديت إلي ألفا.. فأنت حر.
[مسألة إبراء أحد المكاتبين]
) : وإن كاتب رجلان عبدا بينهما كتابة صحيحة، ثم أبرأه أحدهما مما عليه، أو أعتق نصيبه منه.. عتق عليه، كما لو كاتب عبدا فأبرأه من مال الكتابة أو أعتقه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟
قال الشيخ أبو حامد: يقوم عليه قولا واحدا، كغير المكاتب.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب أن يكون التقويم على قولين، كما قلنا في الشريكين إذا دبرا عبدا بينهما، ثم أعتق أحدهما نصيبه.
فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: يقوم عليه في الحال؛ لأن التقويم لحظ العبد، والحظ له التقويم في الحال لتتعجل له الحرية، فتقوم في الحال، كغير المكاتب.
والثاني: يؤخر التقويم إلى أن يعجز العبد؛ لأن التقويم في الحال يسقط ما ثبت للآخر من ولاء نصفه، فتأخر التقويم.
فعلى هذا: إن أدى ما بقي عليه من المال الكتابة.. عتق نصيب السيد الذي لم يعتق عليه، وكان الولاء بينهما. وإن عجز.. قوم نصيب الشريك الذي لم يعتق على المعتق، وعتق عليه، وكان له ولاء جميعه.
[فرع لا تنفسخ الكتابة بموت السيد]
) : وإن كاتب رجل عبدا، ومات السيد قبل الأداء وخلف ابنين فإن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد؛ لأنها لازمة من جهته. فإن أدى مال الكتابة إليهما.. عتق؛ لأنهما قائمان مقام الأب فيعتق بالأداء إليهما، كما يعتق بالأداء إلى الأب. ويكون الولاء لأبيهما؛ لأنه عتق بسبب منه وينتقل إليهما، فإن عجز فسخا الكتابة وعاد(8/462)
رقيقا لهما. وإن أراد أن يؤدي مال الكتابة إلى أحدهما دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الحق لهما، فلا يجوز أن يفرد أحدهما بالأداء.
فإن خالف وأدى مال الكتابة إلى أحدهما.. فهل يعتق نصيبه؟
قال ابن الصباغ: فيه قولان.
وإن أعتق أحدهما نصيبه منه، أو أبرأه مما له عليه.. برئ مما له عليه، وعتق نصيبه منه. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة) .
دليلنا: أنه أبرأه من جميع ما له عليه، فعتق نصيبه منه، كما لو كاتب عبدا له وأبرأه من مال الكتابة.
وهل يقوم عليه نصيب أخيه إن كان موسرا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه إذا أبرأه.. عتق بحكم الكتابة، والكتابة إنما كانت من الميت، بدليل أن الولاء له فيه، فلا يجوز أن يقوم على الابن.
والثاني: يقوم عليه نصيب أخيه، وهو الأصح؛ لأن الحرية تعجلت له بإعتاق الابن أو إبرائه، فقوم عليه، كما لو كان عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فيه وهو موسر.
وما ذكره الأول لا يدل على عدم التقويم؛ لأنه قد يقع العتق والولاء لشخص ويكون التقويم على غيره، ألا ترى أن رجلا لو قال لأحد الشريكين في العبد: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه عنه.. فإنه يعتق عن السائل نصيب المعتق، ويكون الولاء له به، ويسري فيه العتق إلى نصيب الشريك، ويجب تقويمه على الشريك المباشر للعتق؟
فإذا قلنا: لا يقوم عليه.. عتق نصيب المعتق وبقي نصيب أخيه على الكتابة، فإن أدى إليه ما يخصه من مال الكتابة.. عتق، وكان ولاء جميعه للميت، وينتقل إلى عصباته. وإن عجز.. كان للأخ الذي لم يعتق فسخ الكتابة في نصفه، فيعود رقيقا له ويكون نصفه حرا، ولمن يكون ولاء ذلك النصف؟ فيه وجهان:(8/463)
أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بالكتابة على الأب، فانتقل إليهما.
والثاني: يكون للابن الذي أعتقه أو أبرأه؛ لأنه الذي يجر العتق له.
وإذا قلنا: إنه يقوم عليه نصيب أخيه.. فمتى يقوم عليه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان:
أحدهما: يقوم في الحال.
والثاني: لا يقوم إلا بعد العجز، كالتي قبلها.
وقال أبو إسحاق المروزي: يؤخر التقويم إلى أن يعجز قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن في هذه قد ثبت الولاء للميت بحق الكتابة، فإذا قوم على الابن عاجلا.. انتقل الولاء عن الميت إليه، والملك لا ينتقل فيه، فلم يجز نقل الولاء عنه بغير ضرورة. وفي التي قبلها إذا قوم العبد على أحد الشريكين.. انتقل الملك إليه في نصيب شريكه، فانتقل إليه الولاء.
فإذا قلنا: يقوم في الحال.. دفع إلى أخيه قيمة نصف العبد، وعتق هذا النصف على الذي يقوم عليه، وكان ولاء هذا النصف له، وفي ولاء النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان الأولان:
أحدهما: أنه بين الابنين.
والثاني: أنه للذي أعتقه منهما أو أبرأه.
وإذا قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت:
فإن أدى المال الذي بقي عليه من مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: عتق ويكون الولاء بينهما.
وقال المحاملي: يكون ولاء هذا النصف الذي عتق بالأداء للميت، وينتقل إلى عصباته.
وفي ولاء هذا النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان:(8/464)
أحدهما: أنه بين الابنين.
والثاني: ينفرد به الابن الذي أعتقه.
وإن عجز عن أداء ما بقي عليه.. فسخت الكتابة في النصف الذي للأخ الذي لم يعتق، وقوم ذلك على أخيه، وعتق عليه، وكان ولاء هذا النصف للمقوم عليه. وفي ولاء النصف الذي عتق بالإبراء الوجهان.
[فرع يدفع المكاتب للسيدين معا]
فرع: (يدفع المكاتب للسيدين) : وان كاتب رجلان عبدًا بينهما نصفين كتابة صحيحة.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة حتى يدفع إلى الآخر مثله. فإن دفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة، ولم يدفع إلى الآخر مثله، فإن كان ذلك بغير إذن المولى الذي لم يدفع إليه.. لم يصح قبض الذي قبض، وكان للآخر أن يأخذ من القابض نصف ما قبض. وإن كان ذلك بإذن الذي لم يقبض.. فهل صح القبض؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن حق الإذن إنما هو في ذمة المكاتب، وما في يد المكاتب ملك للمكاتب، فلا ينفذ فيه إذن السيد، فيكون كما لو دفع إليه من غير إذن، ولأنه لو كان مع المكاتب ألف فوزن لأحدهما خمسمائة برضا الآخر، ثم هلكت الخمسمائة التي بقيت في يد المكاتب قبل أن يقبضها الآذان.. لكان للآذن أن يرجع على القابض بنصف الخمسمائة التي قبض، ولو صح الإذن.. لم يرجع عليه بشيء.
والثاني: يصح القبض. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن للسيد على المكاتب حقين؛ حقا في ذمته وحقا في ماله وهو حق الحجر؛ لأن له منعه أن يخص شريكه بشيء منه فإذا أذن له في دفعه، فقد أسقط حقه من الحجر وبقي حقه الذي في ذمته، فصار كرجل له في ذمة رجل دين وله رهن فأسقط حقه من الرهن، فإنه يبقى حقه من الدين.
فإذا قلنا: لا يصح القبض.. قيل للمكاتب: إن كان معك من المال مثل الذي(8/465)
دفعت إلى القابض.. فادفعه إلى الآخر، فإذا دفعه وكان تمام المال الكتابة.. عتق عليهما. وإن لم يكن معه مال غير ما قد قبضه السيد الأول.. كان للسيد الآذن أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه.
فإن أدى إليهما تمام مال الكتابة.. عتق عليهما. وإن عجز.. فسخا الكتابة ورق لهما.
وإن قلنا: يصح القبض. عتق نصيب القابض؛ لأنه استوفى جميع ما له عليه.
وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لتقدم سببه الذي اشتركا فيه.
والثاني: يقوم عليه؛ لأنه عتق نصيبه بسبب منه.
وقال أكثر أصحابنا: يقوم عليه قولا واحدا.
فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: يقوم عليه في الحال.
والثاني: لا يقوم في الحال، بل يؤخر إلى أن يعجز فيرق، أو ما يؤدي ما عليه للأخر، وقد مضى توجيههما.
فإذا قلنا: يقوم في الحال.. فإن الكتابة تنفسخ في النصف المتقوم، فيعتق جميعه على القابض، ويكون ولاء جميعه للقابض.
فإن كان في يده ما كسبه قبل العتق.. قال ابن الصباغ: كان للذي لم يقبض أن يأخذ منه بقدر ما قبضه شريكه؛ لأن كسبه قبل عتقه كان بينهما.
فإن فضل من الكسب شيء بعد ذلك.. كان بين السيد الذي لم يقبض وبين المكاتب نصفين؛ لأن الكسب كان في ملكهما، فما خص ملك القابض، انتقل إلى العبد بعتق نصفه، وما خص ملك الذي لم يقبض.. كان له أخذه؛ لأن حصته منه قد عاد رقيقا بالتقويم.(8/466)
وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت: فإن أدى ما عليه للذي لم يقبض.. عتق عليه نصفه وعلى القابض نصفه، وكان ولاؤه بينهما، وما فضل في يد المكاتب من الكسب للمكاتب.
وإن عجز.. قوم نصفه على القابض، وعتق عليه جميعه، وكان ولاؤه له، وكان للذي لم يقبض نصف ما كسبه العبد من حين عتق نصفه الأول إلى حين أن يعتق نصفه الثاني.
فإن مات المكاتب قبل الأداء والتقويم.. مات ونصفه حر ونصفه مكاتب، فيكون لسيده الذي لم يقبض نصف ما خلفه، وفي النصف الآخر قولان:
قال في القديم: (يكون لورثته) .
وقال في الجديد: (يكون لمالك نصفه) ويأتي بيانهما في الفرائض إن شاء الله.
[مسألة قبض السيد مال المكاتبة قبل الحلول]
) : إذا جاء المكاتب بمال الكتابة إلى السيد قبل حلول النجم، فإن قبله السيد منه.. صح القبض وبرئ منه المكاتب.
وإن امتنع السيد من قبضه.. نظر فيه:
فإن كان مما يخاف عليه التلف أو التغير إلى وقت حلول النجم، كالأشياء الرطبة وما أشبه.. ذلك لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف قبل المحل ففاته المقصود.
وإن كان مما لا يتلف بنفسه ولكن عليه مؤونة في حفظه إلى وقت حلول النجم، كالطعام الكثير والثياب والأخشاب وما أشبهها.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا في مؤونة حفظه إلى وقت حلول النجم.
وإن كان حيوانا لم يجبر على قبوله أيضا؛ لأنه يخاف عليه التلف ويلزمه مؤونة في حفظه.
وإن كان مما لا يخاف التلف بنفسه، ولا عليه مؤونة في حفظه، كالدراهم والدنانير والرصاص والصفر والنحاس، فإن كان البلد خائفا ويخاف عليه الأخذ،(8/467)
وكان البلد وقت عقد الكتابة آمنا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف إلى وقت حلول النجم.
وإن كان البلد عند وقت عقد الكتابة خائفا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأن حالة العقد وحالة القبض سواء فأشبه إذا كانا آمنين.
والثاني: لا يلزمه قبوله، وهو الأصح؛ لأن الاعتبار بحال حلول النجم وربما زال الخوف ذلك الوقت.
وكل موضع قلنا: يلزمه قبوله، فإن قبله.. فلا كلام، وإن لم يقبله.. وإلا دفعه المكاتب إلى الحاكم وبرئ؛ لما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه: (أن امرأة اشترته وكاتبته على أربعين ألفا، فأدى عامة المال، ثم أتاها ببقيته، فقالتِ: لا والله حتى يأتي به سنة بعد سنة وشهرا بعد شهر، فأتى بالمال إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره بذلك، فقال: ضعه في بيت المال، ثم أرسل إليها عمر: أنه أخذ المال وجعله في بيت المال، وقال لها: قد عتق أبو سعيد، فإن اخترت أخذه شهرا بعد شهر أو سنة بعد سنة.. فافعلي. فأرسلت، فأخذت المال) .
ولأن الأجل حق لمن عليه الدين، فإذا عجل الدين.. فقد رضي بإسقاط حقه من الأجل، فأجبر من له الدين على أخذه.
[فرع كاتبه على مال في بلد]
) : قال في " الأم ": (وإن كاتب رجل عبدا له على مال ببلد، ثم لقيه ببلد آخر، فأعطاه العبد إياه: فإن كان مما لحمله مؤونة، كالحبوب والحديد والرصاص والثياب.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا بمؤونة حمله. وإن كان مما ليس بحمله مؤونة كالدراهم والدنانير، فإن كان الطريق مخوفا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف. وإن كان الطريق آمنا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا غرض له في تأخيره) .(8/468)
[فرع كاتبه على ألف في نجمين فعجل أحدهما]
) : وإن كاتبه على ألف في نجمين إلى أجلين، فجاءه بخمسمائة قبل المحل، ثم قال له: خذ هذه على أن تبرئني من الخمسمائة الأخرى، ففعل، أو قال له السيد: عجل لي خمسمائة حتى أبرئك من الباقي، أو صالحني على خمسمائة معجلة.. لم يصح القبض ولا الصلح ولا الإبراء ولا يعتق العبد بذلك. وبه قال أبو يوسف وزفر.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز استحسانا) وبه قال أحمد.
دليلنا: أن هذا يضارع ربا الجاهلية، فإن الرجل منهم كان إذا حل دينه يقول لمن عليه الدين: تقضي أو نزيد؟ فإن قضاه، وإلا.. زاده في الدين، وزاده في الأجل. وهذا مشبه بذلك؛ لأنه ينقصه من الحق لينقصه من الأجل، فلم يصح.
وإن لم يشترط عليه الإبراء ولكن عجل له خمسمائة وسأله إبراءه من الباقي؟ فأبرأه.. صح؛ لأن الإبراء لم يكن عوضا عن التعجيل.
إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وضع وتعجيل لا يجوز) ، وقال في موضع آخر: (وضع وتعجيل يجوز) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا كان بشرط البراءة.
والموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا عجل بغير شرط البراءة.
[مسألة لا يطالب المكاتب قبل الأجل]
) : وليس للسيد مطالبة المكاتب بمال الكتابة قبل حلول النجم؛ لأن الأجل جعل رفقا بالمكاتب، فلو جوزنا له مطالبته به قبل حلول النجم.. سقطت فائدة الأجل.
فإذا حل أجل نجم.. كان للسيد مطالبته بالنجم الذي حل، فإن دفعه إليه.. فلا كلام. وإن كان عاجزا عن أداء النجم الذي حل عليه.. كان المولى بالخيار بين أن يصبر عليه ويتركه على الكتابة، وبين أن يفسخ الكتابة ويرده إلى الرق. وبه قال أبو حنيفة.(8/469)
وقال أبو يوسف: لا يرده إلى الرق حتى يتوالى عليه نجمان.
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كاتب عبدا له على ثلاثين ألفا، فقال له: أنا عاجز. فقال له: امح كتابك. فقال: امح أنت كتابك) . ولأنه عجز عن أداء ما حل عليه، فكان للسيد أن يعجزه، كما لو توالى عليه نجمان.
فإن كان مع المكاتب ما يؤديه فامتنع من أدائه.. جاز للمولى تعجيزه ورده إلى الرق.
وقال أبو حنيفة: (ليس له تعجيزه، بل يجبره الحاكم على الأداء) .
دليلنا: أنه تعذر الأداء بالامتناع من الأداء، فجاز له تعجيزه ورده إلى الرق، كما لو لم يكن قادرا على الأداء.
وإن عجز عن أداء بعض النجم، أو امتنع من دفع بعضه.. جاز للمولى تعجيزه؛ لأن العتق لا يتبعض، فكان تعذر البعض كتعذر الجميع.
وللمولى أن يعجزه بنفسه ويرده إلى الرق من غير حاكم إذا كان المكاتب حاضرا.
وقال ابن أبي ليلى: لا يكون عجزه إلا عند السلطان.
دليلنا: أنه فسخ مجمع عليه، فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع للعيب.
[فرع إنظار السيد للمكاتب]
) : وإذا حل على المكاتب نجم فعجز عن أدائه، فقال السيد: قد أنظرته.. جاز؛ لأن الحق في الفسخ للسيد، فجاز له تركه.
فإن بدا للسيد أن ينظره وطالبه به.. جاز، وله أن يعجزه؛ لأن الدين الحال لا يتأجل عندنا بالتأجيل.(8/470)
فإن كان مع المكاتب مال من غير جنس مال الكتابة فاستنظر لبيعه بجنس مال الكتابة.. وجب على السيد إنظاره؛ لأنه قادر على أداء مال الكتابة، ولا يلزمه أن ينظره أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير.
وإن طلب أن ينظره إلى أن يصل إليه ماله، فإن كان ماله منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. وجب إنظاره؛ لأن ذلك قريب ولا ضرر على المولى فيه. وإن كان منه على مسافة تقتصر فيها الصلاة.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن طلب الإنظار إلى أن يقتضي دينا له على غيره، فإن كان حالا على مليء.. وجب إنظاره؛ لأنه كالمال الذي أودعه. وإن كان مؤجلا، أو على معسر.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك.
[فرع حلول أجل المال والمكاتب غائب]
) : وإن حل عليه نجم الكتابة وهو غائب.. قال ابن الصباغ: فإن كان يسافر بغير إذن سيده.. كان له أن يفسخ الكتابة. وإن سافر بإذنه.. لم يكن له أن يفسخ، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، ويثبت عنده حلول مال الكتابة، ويحلف أنه ما قبض؛ ليكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب فيعلمه بما ثبت عنده، فإذا وصل الكتاب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب.. استدعى المكاتب وأخبره بما كتب إليه، فإن كان المكاتب عاجزا.. كتب الحاكم المكتوب إليه إلى الحاكم الكاتب إليه بعجز المكاتب ليخبر السيد بذلك، فيكون السيد بالخيار: بين أن يصبر وبين أن يفسخ الكتابة.
وإن كان المكاتب قادرا على الأداء.. قال له الحاكم: إما أن تخرج إلى البلد الذي فيه السيد فتؤدي إليه مال الكتابة، أو توكل من يحمل إليه المال، فإن فعل ذلك في أول حال الإمكان عند خروج القافلة ـ إن كان لا يخرج إلا معها ـ فلا كلام. وإن أخر ذلك عن حالة الإمكان ومضى زمان المسير.. ثبت للسيد الخيار في الفسخ.
وإن وكل السيد في بلد المكاتب من يقبض منه المال. لزم المكاتب الدافع إليه، فإن امتنع المكاتب من الدفع إليه.. ثبت للسيد الخيار في فسخ الكتابة. وإن أمر(8/471)
الوكيل بالفسخ عند تعذر القبض.. جاز للوكيل الفسخ.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (أن السيد ليس له أن يفسخ حتى تمضي مدة السير، وسواء كان وكل أو لم يوكل) .
ونقل الربيع: (أنه إذا كان للسيد وكيل.. لم تعتبر مدة المسير) .
قال أصحابنا: المذهب ما نقله الربيع، وما نقله المزني في هذا خطأ. هكذا ذكر أكثر أصحابنا.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أن نجم الكتابة إذا حل والكاتب غائب.. كان للسيد أن يفسخ الكتابة من غير أن يكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب؛ لأنه تعذر عليه المال فجاز له الفسخ.
[فرع أسر المكاتب]
) : وإن كاتب عبده ثم أسر المشركون العبد وحبسوه مدة وتخلص من أيديهم وحل عليه نجم الكتابة، فإن قلنا: لا يجب على السيد تخليته في مثل تلك المدة التي حبسه فيها المشركون.. فله مطالبته بما حل عليه، فإن كان عاجزا عن أدائه.. كان له تعجيزه.
وإن قلنا: يجب عليه تخليته مثل تلك المدة.. فليس له مطالبته حتى تمضي عليه مثل تلك المدة التي حبس فيها بعد حلول النجم، ثم له مطالبته بعد ذلك بما حل عليه، فإن كان عاجزا.. كان له تعجيزه.
وإن كان العبد حل عليه النجم وهو في أيدي المشركين، فإن قلنا: يلزمه تخليته بعد أن يتخلص منهم مثل المدة التي حبس فيها.. فليس للسيد هاهنا تعجيزه؛ لأنه يلزمه تخليته مثل المدة بعد أن يتخلص منهم.
وإن قلنا: لا يلزمه تخليته بعد التخلص.. فله أن يعجزه ويفسخ الكتابة؛ لأنه قد تعذر الأداء من جهته , وهل له أن يفسخ؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يفسخ الكتابة بنفسه. كما لو كان في دار الإسلام وتعذر الأداء من جهته.(8/472)
والثاني: لا يجوز له ذلك بنفسه حتى يرفع الأمر إلى الحاكم؛ لينظر الحاكم هل له مال أم لا؛ لأن العبد إذا كان في دار الإسلام وعجز.. فقد عرف العجز من جهته. فكان للسيد أن يفسخ.
وإذا كان في دار الشرك.. لم يعلم العجز من جهته، وإنما يعلم من طريق الظاهر وقد يجوز أن يكون له مال في الباطن، فلم يجز له الفسخ قبل البحث عنه.
فإن قلنا: يجوز له الفسخ بنفسه، ففسخ، أو قلنا: لا يجوز له إلا عند الحاكم، فبحث الحاكم عن ماله فلم يجد له مالا، فأذن له ففسخ، ثم تخلص العبد وأظهر له مالا.. حكم ببطلان الفسخ؛ لأنا إنما جوزنا له الفسخ ظنا منا أنه لا مال له، فإذا بان أن له مالا.. لم يصح الفسخ.
[فرع جنون المكاتب]
) : وإن كاتب عبدا ثم جن العبد.. لم تنفسخ الكتابة بجنونه؛ لأنها لازمة من أحد الطرفين، فلم تنفسخ بالجنون كالرهن، وإنما ينفسخ بالجنون ما كان جائزا من أحد الطرفين، كالوكالة والشركة وما أشبههما، ولأنه عتق معلق بصفة، فلم يبطل بالجنون، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر.
إذا ثبت هذا: فإن حل عليه النجم قبل الإفاقة.. كان للسيد أن يثبت عند الحاكم الكتابة بالبينة، ويحلف مع بينته أنه لم يقبض مال الكتابة، فإذا أقام البينة وحلف معها، بحث الحاكم عن مال المكاتب، فإن وجد له مالا.. سلمه إلى المولى وعتق عليه.
وإن سلم المجنون المال إلى السيد.. عتق؛ لأنه قبض ما يستحقه. فبرئت به ذمته.
وإن لم يجد الحاكم للمكاتب مالا.. مكن المولى من فسخ الكتابة، فإذا فسخ الكتابة.. عاد رقيقا له ولزمه الإنفاق عليه؛ لأنه عاد قنا له.
فإن بان للمكاتب بعد ذلك مال يفي بمال الكتابة.. بطل فسخ السيد؛ لأنه بان أن(8/473)
الباطن بخلاف ما حكم به، فهو كما لو حكم الحاكم بالاجتهاد ثم بان أن النص بخلافه. ويجب عليه أن يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه بان أنه لم يكن مستحقا للنفقة عليه.
وإن أفاق المكاتب ثم أقام البينة أنه كان قد أدى إلى السيد مال الكتابة.. بطل الفسخ، ولا يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته، فالظاهر أنه متطوع به.
[فرع كاتبه على دنانير فلا يكفي دراهم]
) : قال في " الأم ": (وإن كاتبه على دنانير فأعطاه دراهم، أو كاتبه على دراهم فأعطاه دنانير.. لم يجبر على أخذها.
وإن كاتبه على دراهم فأعطاه دراهم خيرا منها.. لزمه قبولها إلا أن يكون الذي كاتبه عليه ينفق في بلده ولا ينفق فيه الذي أعطاه إياها، فلا يلزمه قبولها وإن كانت خيرا مما سمى) .
[فرع قبول قول السيد في رفضه مال النجم بالبينة]
) : وإن حمل المكاتب إلى السيد شيئا من مال الكتابة فقال السيد: لا آخذه؛ لأنه حرام أو غصبته، أو سرقته من فلان وأنكر المكاتب ذلك، فإن أقام السيد بينة بما قال.. سمعت البينة، ولم يلزمه الأخذ؛ لأن للسيد حقا في ذلك في أن لا يقبض دينه من الحرام، فلذلك سمعت البينة منه.
قال المحاملي: فإن أقام شاهدا واحدا بأن المال حرام.. لم تقبل شهادته؛ لأن التهمة تلحق السيد في أنه أراد تعجيزه ورده إلى ملكه.(8/474)
وإن لم يكن مع السيد بينة.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه، ولأن السيد متهم في ذلك، فإن لم يحلف المكاتب.. حلف المولى، ولم يلزمه قبضه.
وإن حلف المكاتب.. حكم بأن المال ملك للمكاتب، فيقال للسيد: إما أن تقبضه أو تبرئه من قدره من مال الكتابة. فإن قبضه المولى.. برئ المكاتب من قدره، فإن كان تمام الكتابة.. عتق.
فإن كان المولى قد أقر أنه غصب أو سرق من رجل معين.. لزمه رده إليه؛ لأنه قد تقدم منه الإقرار له بذلك، فقبل: كما لو أقر رجل بحرية عبد غيره ثم اشتراه.
وإذا كان المولى لم يقر به لرجل معين، بل قال: هو حرام أو مغصوب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: لا يمنع منه، بل يمسكه لنفسه؛ لأنه لم يقر به لأحد.
وقال المحاملي: لا يمسكه لنفسه، وإنما يقال له: امسكه حتى تعلم مالكه فتدفعه إليه.
وإن اختار المولى أن يبرئه من قدره من مال الكتابة فأبرأه.. صح وأقر ذلك في يد المكاتب.
وإن امتنع المولى من قبضه أو الإبراء عن قدره.. رفع المكاتب ذلك الأمر إلى الحاكم، فيحلفه الحاكم أنه ملكه إن لم يكن قد حلفه المولى، ويقبضه الحاكم للمولى ويعتق المكاتب، كما قلنا في المكاتب إذا عجل مال الكتابة.
فإن كان المولى قد أقر به لرجل معين.. فالذي يقتضي المذهب: أن الحاكم يسلمه إلى المقر له به وإن ادعاه؛ لأن قبضه له كقبض المولى في براءة المكاتب منه، فكان كقبضه في ذلك أيضا.(8/475)
[مسألة ظهور عيب بالمال بعد الحكم بالعتق]
) : وإن دفع المكاتب إلى المولى المال وحكم بعتقه، ثم بان أن المال معيب.. نظرت: فإن بان أن المال الذي دفعه من غير جنس مال الكتابة، بأن كاتبه على دراهم فدفع إليه دراهم وبان أنها رصاص أو نحاس.. حكمنا ببطلان القبض وأن العبد باق على الكتابة. وإن بان أنها مضطربة السكة، أو كان مال الكتابة عرضا فبان أنه معيب.. ثبت للمولى الخيار: بين الإمساك والرد، فإن اختار إمساكه.. استقر العتق، ومتى وقع العتق؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: حين القبض.
والثاني: حين الرضا بالعيب.
فإن قيل: إذا أعطاه معيبا.. فلم يعطه جميع ما وقع عليه العقد، فكان ينبغي أن لا يعتق، كما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة؟
قلنا: إذا أمسك المعيب فقد رضي بإسقاط حقه منه، فجرى مجرى ما لو أبرأه مما بقي من مال الكتابة.
وإن اختار رده، فرده.. كان له ذلك، وبطل ما كنا حكمنا به من العتق.
وقال أحمد: (لا يبطل العتق) .
دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ، فوجب أن يفسخ بوجود العيب، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع؛ لأنه لا يلحقه الفسخ.
وإن وجد العيب وقد تلف العوض عنده، أو حدث عنده عيب آخر.. ثبت له الأرش؛ لأنه قد تعذر رد العوض الذي قبضه. فإن دفع المكاتب الأرش.. استقر العتق. وإن لم يدفعه.. ارتفع العتق، وثبت للمولى الخيار في فسخ الكتابة.(8/476)
وإذا أراد الرجوع بالأرش وكان العوض ثوبا فوجد به عيبا ينقص عشر قيمته وقد تلف الثوب عنده.. قال الطبري: اختلف أصحابنا في كيفية الرجوع بالأرش:
فقال أبو حامد: يرجع بعشر قيمة الثوب.
وقال القفال: هذا غلط، بل يرجع بما يقابله من عوضه، وعوضه رقبته وهي فائته بالعتق، فيرجع بعشر قيمة الرقبة، كما لو اطلع على عيب في المسلم فيه بعد فواته وكان ينقص عشر قيمته.. فإنه يرجع بعشر رأس مال السلم.
[فرع المكاتبة على خدمة مدة ومال]
) : وإن كاتب عبده على خدمة شهر ودينار، فمرض العبد في الشهر أو في بعضه.. فنص الشافعي في " الأم ": (أن الكتابة تبطل) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على طريقين، كما لو اشترى.. فتلف أحدهما قبل القبض.
أحد الطريقين: أنها على قولين:
أحدهما: تبطل.
والثاني: لا تبطل.
والطريق الثاني: لا تبطل قولا واحدا.
وقال القاضي أبو الطيب: تبطل الكتابة هاهنا قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد، فإذا انفسخ العقد في بعضه.. انفسخ في جميعه.
[فرع كاتبه على عوض موصوف]
) : وإن كاتب عبده على عوض موصوف، فدفع المكاتب للسيد العوض بصفته وحكم بعتقه، ثم خرج العوض الذي دفعه إليه مستحقا.. حكمنا ببطلان العتق وعاد مكاتبا؛ لأن العتق وقع بالأداء، وقد بان أنه لم يؤد.(8/477)
فإن كان السيد قال له بعد الأداء: أنت حر، أو هذا حر.. لم يلزم المولى حريته؛ لأن الظاهر أن المولى لم يرد استئناف الحرية، وإنما أراد الإخبار عن الحرية بذلك، وهي التي وقعت بالأداء.
فإن ادعى المكاتب أنه أراد إيقاع الحرية بذلك وأنكر السيد.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.
فإن قال له السيد قبل الأداء أو بعد أن علم استحقاق العوض: أنت حر.. حكم عليه بالحرية؛ لأن الظاهر أنه أراد إيقاع الحرية بهذا القول.
فإن استحق العوض بعد موت المكاتب.. بان أن المكاتب مات رقيقا، فيكون ما في يده لسيده.
[فرع بيع النجوم مفسوخ]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبيع نجومه مفسوخ. فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق، كما يؤدي إلى وكيله فيعتق) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا باع مال الكتابة في ذمة المكاتب.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان مضى ذكرهما في البيوع.
فإذا قلنا: لا يصح البيع.. فليس للمشتري أن يطالبه بالأداء، ولا للمكاتب أن يؤدي إليه؛ لأنه لا يملك ذلك المال.
فإن خالف ودفع المال للمشتري فهل يعتق؟
نص الشافعي في موضع: (أنه يعتق) ، ونص في موضع آخر: (أنه لا يعتق) واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يعتق) أراد: إذا كان السيد قد أذن للمشتري بقبض المال بصريح الإذن.. إلا ترى أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق؛ لأنه يصير وكيلا له في القبض) ؟(8/478)
وحيث قال: (لا يعتق) أراد: إذا لم يصرح له بالإذن، وإنما قبضه بمقتضى العقد، والعقد فاسد.. ففسد مقتضاه.
قال المحاملي: وهذه طريقة صالحة.
وقال أبو العباس وغيره: هي على قولين، وهو اختيار ابن الصباغ:
أحدهما: يعتق؛ لأن بيعها منه يتضمن الإذن له في القبض، فأشبه وكيله.
والثاني: لا يعتق، وهو الأصح؛ لأن المشتري قبض المال لنفسه لا للسيد، وإنما قبضه بمقتضى البيع، والبيع فاسد، فكان القبض فاسدا.
فإن قلنا: إنه يعتق.. فقد برئ المكاتب من المال وليس للسيد مطالبته بالمال، وإنما يطالب السيد المشتري؛ لأنه كالوكيل له، وللمشتري أن يطالبه بالثمن إن كان قد دفعه إليه.
فإن قلنا: إن المكاتب لا يعتق وهو باق على الكتابة.. فللمولى أن يرجع على المكاتب بمال الكتابة، وللمكاتب أن يرجع على المشتري بما قبض منه، وللمشتري أن يرجع على المولى بما دفع إليه من الثمن.
[مسألة جناية المكاتب على طرف سيده]
) : وإن جنى المكاتب على طرف سيده، فإن كانت عمدا.. فله أن يقتص منه، كما يقتص من عبده القن. فإذا اقتص منه.. بقي مكاتبا كما كان، وإن عفا عنه على مال أو كانت الجناية خطأ.. وجب له عليه الأرش في ذمته؛ لأن السيد يثبت له المال في ذمة مكاتبه بالبيع، فكذلك في الجناية.
وإن جنى على نفسه، فإن كانت عمدا.. جاز للوارث أن يقتص منه، وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. ثبت له المال عليه، فإن كان في يد المكاتب مال(8/479)
يفي بمال الكتابة وبالأرش.. كان له أن يفدي نفسه بدفع الأرش مما في يده؛ لأن له صرف ماله في مصلحته، وهذا من أعظم المصالح.
وبكم يفدي نفسه في الجناية على سيده؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغت، كالقولين في العبد القن إذا جنى على الأجنبي واختار السيد أن يفديه؛ لأنه يمكن تعجيزه وبيعه في الجناية، كما يمكن بيع العبد القن.
فإذا قلنا: ليس له أن يفدي نفسه إلا بأقل الأمرين.. دفع أقل الأمرين من الأرش أو قيمته، وكان باقيا على كتابته.
فإن قلنا: له أن يفدي نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. دفعه ولا كلام. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. قال الشيخ أبو حامد: فدى نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا قلنا بهذا: فهل له أن يدفع ما زاد على قيمته إلى سيده؟ يبنى على هبته لسيده:
فإن قلنا: تصح.. كان له ذلك.
وإن قلنا: لا تصح.. لم يكن له ذلك.
قال ابن الصباغ: وقول القاضي يقتضي أن للسيد أن يمتنع من قبول ذلك؛ لأنه لا يلزمه قبول الهبة منه. قال: وعندي أنه يلزمه قبول ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يفدي نفسه إلا بذلك. فإذا أمكنه أن يؤدي ذلك ويؤدي ما عليه من مال الكتابة.. لم يكن للسيد أن يمتنع؛ لأنه يخلص نفسه وإن كان بأكثر من قيمته. فإن كان ما في يده لا يفي بمال الكتابة وأرش الجناية.. فللسيد تعجيزه ورده إلى الرق؛ لأنه إذا كان له تعجيزه عند عجزه عن أداء مال الكتابة، فلأن يكون له تعجيزه عند عجزه عن مال الكتابة وأرش الجناية أولى. فإذا عجز.. عاد رقيقا وسقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية؛ لأن المولى لا يثبت له على عبده مال.(8/480)
فإن أعتقه سيده قبل التعجيز، فإن لم يكن في يد المكاتب مال.. سقط أرش الجناية؛ لأن أرش الجناية تلف باختيار سيده.
وإن كان معه مال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط الأرش؛ لأن الأرش متعلق بالرقبة وقد أتلفها، فسقط الأرش، كما لو لم يكن في يده مال.
والثاني: يستوفيه مما في يده؛ لأن حقه كان متعلقا برقبته وبما في يده، فإذا تلفت الرقبة.. بقي متعلقا بالمال الذي في يده فاستوفى منه.
ويخالف إذا لم يكن في يده شيء؛ لأن محله فات.
فإن قطع يد سيده خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. وحب له الأرش عليه، وفي قدر ما يفدي به نفسه القولان.
وهل للسيد أن يستوفيه منه قبل الاندمال؟ فيه قولان، كالحر إذا قطع يد الحر، ويأتي بيانهما في (الجنايات) .
فإن قلنا: له أن يستوفي ذلك قبل الاندمال.. استوفاه. فإن بقي معه ما يؤدي في الكتابة.. استوفى منه مال الكتابة. وإن لم يبق معه ما يؤدي في الكتابة.. كان للسيد تعجيزه.
وإن قلنا: ليس له أن يستوفيه قبل الاندمال، فإن اندمل قبل أن يؤدي مال الكتابة.. فالحكم فيه كما لو قلنا: له استيفاؤه قبل الاندمال.
وإن أدى مال الكتابة، وعتق قبل الاندمال.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لزمه أرش الطرف، وهو نصف الدية) .
قال ابن الصباغ: ويجيء فيه قول آخر: أنه يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش(8/481)
الجناية بالغا ما بلغ؛ لأن ذلك قد لزمه قبل العتق، فلا يسقط العتق بما تقدم وجوبه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : له أن يطالبه بجميع الأرش بالغا ما بلغ قولا واحدا؛ لأنه وجب له في ذمته دون رقبته، فأشبه مال الكتابة.
وإن أعتقه سيده قبل الاندمال أو قبل الأداء، فإن لم يكن معه مال.. سقط عنه الأرش. وإن كان معه مال.. ففيه وجهان مضى ذكرهما.
[مسألة جناية المكاتب على أجنبي]
) : وإن جنى المكاتب على أجنبي، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص منه. وإن كانت توجب المال أو كانت عمدا فعفا عنه على مال.. ثبت له المال في رقبته، فإن كان في يده مال.. فله أن يفدي نفسه؛ لأن ذلك من مصلحته. وبكم يفدي نفسه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: ليس له أن يفدي نفسه من الأجنبي إلا بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية قولا واحدا؛ لأنه إن كان الأرش أقل.. لم يستحق المجني عليه أكثر منه. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. فما زاد عليها يجري مجرى الهبة، والمكاتب لا يملك الهبة من الأجنبي بغير إذن سيده.
ويخالف سيده حيث قلنا: يفدي نفسه منه بأرش الجناية بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأنه يملك الهبة منه.
وقال ابن الصباغ: فيما يفدي به نفسه من الأجنبي قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
فإذا قلنا: يفدي نفسه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد.
وإن قلنا: يفدي به بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. كان له ذلك بغير إذن سيده، وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن(8/482)
السيد؛ لأنه باع نفسه بأكثر من قيمتها، فإذا أذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو وهب لأجنبي مالا بإذن سيده على ما مضى.
فإن فدى نفسه.. بقي على الكتابة، وإن لم يكن معه مال يفدي به نفسه، أو كان معه مال وامتنع من فدية نفسه.. كان للأجنبي المجني عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليعجزه ويرده إلى الرق، ويباع في أرش جنايته.
وإن اختار السيد أن يفديه من ماله ليبقى على الكتابة.. جاز، وفيما يلزمه أن يفديه به قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
قال الطبري: فإن قال السيد: ضمنت فداءه.. ففيما يلزمه قولان:
أحدهما: أقل الأمرين.
والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ.
وإن قال: ضمنت أرش الجناية.. لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ قولا واحدا.
وإن اختار السيد الفداء، ثم رجع.. نظر فيه:
فإن كان العبد باقيا.. فله الرجوع، ويباع في الجناية. وإن مات العبد بعد اختيار الفداء.. لم يصح رجوع السيد. وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لزمه أن يفدي العبد؛ لأنه أتلف رقه بالإعتاق، فلزمه ضمانه، كما لو قتله. ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه بيعه.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه أقل الأمرين.
والثاني: يلزمه الأرش بالغا ما بلغ. وليس بشيء.
وإن أدى إلى السيد مال الكتابة قبل الأرش.. عتق العبد بالأداء ولا شيء على المولى؛ لأنه مجبور على القبض، وعلى المكاتب بعد الإعتاق ضمان أرش الجناية(8/483)
غير أنه لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأن محل أرش الجناية على الأجنبي رقبته لا ذمته، فلم يستحق المجني عليه أكثر من هذا، بخلاف جنايته على سيده، فإنه إذا عتق لزمه الأرش بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأن محل أرشه ذمته لا رقبتة.
إذا ثبت هذا: فإن جنى المكاتب جنايات كثيرة فأدى مال الكتابة قبل أرو ش الجنايات.. عتق بالأداء، ولزمه أن يفدي نفسه من المجني عليهم. وفي قدر ما يلزمه لهم قولان:
أحدهما: يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم؛ لأن كل واحدة من الجنايات اقتضت أن يفديها بأقل الأمرين من قيمته أو أرشها، وقد منع نفسه منها بأدائه وعتقه، فضمن ذلك، كما لو انفردت.
فعلى هذا: قد يلزمه عشرون قيمة، بأن يجني على عشرين نفسا.
والقول الثاني: لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمته أو جميع الأروش، وهو اختيار المزني. وهو الأصح؛ لأن أرو ش الجنايات كلها تعلقت برقبته، وقد أتلفها بالعتق في الأداء، فلم يلزمه أكثر من قدر قيمة، كما لو منع مانع من بيعه بقتله.
فعلى هذا: لا يلزمه إلا قيمة واحدة، فإن كانت الأروش أكثر منها.. تحاصوا فيها على قدر حقوقهم.
وإن جنى جنايات كثيرة فبادر سيده وأعتقه قبل الأداء.. عتق، ولزم السيد أن يفديه؛ لأنه أتلف محل الأرش. وفي قدر ما يلزمه القولان في المكاتب إذا عتق بالأداء:
أحدهما: أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم.
والثاني: أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجنايات كلها.(8/484)
وإن عجزه أصحاب الجنايات أو عجزه السيد بمال الكتابة وفسخ الكتابة.. عاد قنا، ووجب تسليمه للبيع. فإن أراد السيد أن يفديه.. ففيه قولان:
أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أروش الجنايات كلها.
والثاني: بأروش الجنايات بالغة ما بلغت.
وإن جنى المكاتب جنايات، وأقام على الكتابة، ولم يعجز نفسه، وأراد أن يفدي نفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يفدي نفسه بالأقل من قيمته أو أرش كل جناية) .
فقال أبو إسحاق: الأشبه عندي أن تكون هذه على قولين:
أحدهما: يفدي بالأقل من أرش كل جناية أو القيمة.
والثاني: أنه يفدي بالأقل من أروش الجنايات كلها أو القيمة،، كما لو أدى وعتق؛ لأنه منع نفسه من البيع بعدم العجز، كما منع منه بالعتق بالأداء. ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحد القولين.
ومنهم من قال: يفدي نفسه بالأقل من أرش كل جناية أو قيمته قولا واحدا.
والفرق بينهما: أنه إذا أدى وعتق.. فهو متلف لرقبته، فلا يضمن إلا قيمتها. وإذا كان مكاتبا.. فالرقبة قائمة يمكن تسليمها للبيع، فإذا منع ذلك.. ضمن لكل واحد منهم أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل به إذا عجز وفسخت الكتابة واختار السيد الفداء، فإنه مانع من بيعه مع بقاء الرقبة ولا يضمن لكل واحد منهم إلا أقل الأمرين.
[فرع إقرار المكاتب بجناية]
) : وإن أقر المكاتب بجناية موجبة للقصاص.. قبل إقراره؛ لأنه لا يتهم في ذلك.
وإن أقر بجناية موجبة للمال.. ففيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين:(8/485)
أحدهما: يقبل، وهو الأصح؛ لأنه لا يهتم، ولأنه إقرار بمال فقبل إقراره، كما لو أقره بدين معاملة.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه مملوك فلا يقبل إقراره بجناية موجبة للمال، كالعبد القن.
فإذا قلنا: يقبل، فأقر بجناية أرشها ألف، ثم عجز ورق، فادعى السيد أن الأرش خمسمائة.. فهل يقبل من السيد؟ فيه قولان حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يقبل؛ لأنا قبلنا إقرار المكاتب بالألف.
والثاني: يقبل؛ لأنه قد عاد قنا.
[فرع جناية عبد المكاتب]
) : إذا كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على مولى المكاتب أو على أجنبي، فإن كانت الجناية عمدا.. فللمجني عليه أن يقتص منه. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفي عنه على مال.. تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وللمكاتب أن يفديه؛ لأن ذلك من مصلحة ماله. فإن اختار أن يفديه.. ففيه قولان:
أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمة الجاني أو أرش جنايته.
والثاني: يفديه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد.
وإن قلنا: يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش بقدر القيمة أو أقل.. كان له ذلك بغير إذن سيده. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن سيده، فإن إذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو أذن له في الهبة لغيره.
إذا ثبت هذا: فإن قيمة العبد الجاني تعتبر يوم جنايته، نص عليه الشافعي.(8/486)
وقال القفال: بل يجب أن تعتبر قيمته يوم الفداء؛ لأن استدامة ملكه إنما تقع في هذا اليوم، والنص محمول عليه إذا تقدم من السيد منع من البيع.
فإن كان للمكاتب عبد لا يملك بيعه ـ كوالده أو ولده ـ فجنى جناية توجب المال.. لم يكن له أن يفديه بشيء من ماله من غير إذن سيده؛ لأنه لا يملك بيعه فلم يكن له أن يخرج مالا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه. فإن كان لهذا العبد كسب.. دفع الأرش من كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فالمنصوص: (أنه يباع في الأرش) . فإن استغرق الأرش قيمته.. بيع جميعه. وإن لم يستغرق الأرش قيمته.. بيع منه بقدر الأرش، وبقي الباقي على ملك المكاتب. وإن لم يمكن أن يباع منه بقدر الأرش إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه، وما بقي من ثمنه يكون للمكاتب.
وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: لا يتعلق الأرش برقبته، ولا يباع في الأرش؛ لأن الشرع منع من بيع الوالدين والمولودين.
[مسألة اجتماع حقوق على المكاتب]
) : إذا اجتمع على المكاتب دين الكتابة، وأرش الجناية، ودين المعاملة، وعوض القرض، فإن كان في يده مال يفي بها.. فليس للحاكم أن يحجز عليه؛ لأن ماله يفي بدينه.
فإن كانت الديون كلها حالة.. فللمكاتب أن يقضي من شاء منهم أولا، كالحر. وإن كان بعضها حالا وبعضها مؤجلا، فإن قضى الحال منها.. صح، وإن أراد أن يعجل المؤجل، فإن كان المؤجل لغير السيد.. لم يصح قضاؤه قبل حلوله بغير إذن سيده؛ لأن ذلك تبرع، فإن أذن له سيده في تعجيله.. فهو كما لو وهب بإذنه. وإن كان المؤجل لسيده وأراد تعجيله له.. فهو كما لو وهب لسيده مالا، على ما مضى.
فإذا قضى دين المعاملة وعوض القرض.. بقي مال الكتابة وأرش الجناية، وإن قضى دين الكتابة أولا.. عتق بالأداء، وبقي دين المعاملة وأرش الجناية في ذمته.(8/487)
فإن قيل: هلا قلتم: إنه لا يعتق بالأداء قبل أن يؤدي أرش الجناية، كما قلتم في عتق الجاني في أحد القولين؟
قلنا: فالجواب: أن العتق هاهنا وقع بالصفة السابقة للجناية، فلم تكن الجناية مانعة منه، ألا ترى أنه لو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم جنى، ثم دخل الدار.. فإنه يعتق بالصفة السابقة ولا يمنع منه أرش الجناية المتعلق برقبته؟ فكذلك هذا مثله.
وإن كان ماله لا يفي بديونه، وسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه.. نظرت:
فإن سأله المولى أن يحجر عليه لأجل مال الكتابة.. لم يحجر عليه بسؤاله؛ لأن دينه غير مستقر؛ لأن للعبد أن يسقطه بالعجز.
وإن سأله من له دين معاملة أو عوض قرض أو أرش جناية أن يحجر عليه لأجل ديونهم.. حجر عليه؛ لأنه ليس بأولى من الحر، فإذا جاز الحجر على الحر لما عليه من الدين.. فالمكاتب أولى. فإذا حجر عليه وكانت ديونهم كلها حالة أو بعضها مؤجلا، وقلنا يحل المؤجل بالحجر.. فنقل المزني: (أن الحاكم إذا أوقف ماله.. أدى إلى سيده وإلى الناس ديونهم شرعا) . يريد: سواء.
واختلف أصحابنا في ذلك: فحمل أبو إسحاق المروزي كلام الشافعي على ظاهره. وقال: يساوى بين السيد وبين سائر الغرماء ويقسط ماله بينهم على قدر ديونهم؛ لأن الحر إذا حجر عليه.. قسم ماله بين غرمائه على قدر ديونهم، فكذلك المكاتب.
وقال سائر أصحابنا: لا يساوى بينهم، وهو الصحيح، بل يقدم دين المعاملة وبدل القرض على أرش الجناية ومال الكتابة؛ لأن دينهما يختص بما في يده، والمجني عليه والسيد يرجعان إلى الرقبة. فإن لم يف ماله بدين المعاملة وبدل القرض.. قسم بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدهما.. قدم أرش الجناية على مال(8/488)
الكتابة؛ لأنه مستقر ودين الكتابة غير مستقر. وتأولوا كلام الشافعي تأويلين:
أحدهما: أنه أراد: إذا كان ماله يفي بدينه، وإنما حجر عليه الحاكم؛ لأنه خاف إفلاسه، فيسوي بينهم حينئذ في القسمة.
والثاني: أنه أراد: إذا وصى غرماؤه بأن يسوى بينهم في القسمة، فإن مات المكاتب قبل قسمة ماله؛ سقط عنه مال الكتابة؛ لأنها انفسخت بموته، وسقط أرش الجناية؛ لأنه تعلق برقبته وقد فاتت، ولأنه تعلق بماله بحكم الكتابة وقد انفسخت الكتابة، فلم يبق لها محل، ويبقى دين المعاملة وبدل القرض فيتقاصان ما كان في يده، فإن وفى ماله بهما.. فلا كلام، وإن لم يف ماله بهما.. قسط ماله بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدها.. كان لسيده بحكم الملك لا بحكم الكتابة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي (في " الإبانة ") : فيه وجهان:
أحدهما: يقدم دين المعاملة والقرض على أرش الجناية بعد موته؛ لما ذكرناه.
والثاني: يسوى بين الجميع؛ لأنه لا محل للجناية بعد موته إلا بماله.
وأما إذا لم يكن في يد المكاتب مال، فإن اختار أصحاب الديون إنظاره إلى أن يكتسب.. جاز، وإن لم يختاروا إنظاره وأرادوا تعجيزه.. نظرت:
فإن طلب من له دين المعاملة وبدل القرض تعجيزه ورده إلى الرق.. لم يكن لهما ذلك؛ لأنه لا فائدة لهما في ذلك؛ لأن حقهما متعلق بما في يده لا في رقبته، بل الحظ لهما في تركه على الكتابة؛ لجواز أن يكتسب مالا، فيقضي دينهما منه.
وإن أراد المولى تعجيزه ورده إلى الرق لما عليه له من مال الكتابة.. كان له ذلك، فإن عجزه.. انفسخت الكتابة وسقط دين المعاملة وبدل القرض، وتعلق برقبته أرش(8/489)
الجناية. فإن اختار السيد تسليمه للبيع.. بيع في الجناية، وإن اختار أن يفديه.. كان له ذلك. وبكم يفديه؟ على قولين:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ.
وإن أراد المجني عليه تعجيزه.. كان له ذلك، ولكن ليس له أن يفسخ الكتابة بنفسه، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليفسخ الكتابة ويبيعه بأرش الجناية، إلا أن يختار السيد أن يبقيه على الكتابة ويفديه، فله ذلك. وبكم يفديه؟ على القولين.
قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا عجزه المجني عليه، فإن كان الأرش يحيط بالثمن.. بيع جميعه وقضي حق المجني عليه، وإن كان الأرش دون الثمن.. بيع منه بقدر ما يقضي به الأرش، وبقي الباقي على الكتابة، فإذا أدى كتابة باقيه.. عتق. وهل يقوم الباقي على المولى إن كان موسرا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم؛ لأنه وجد بسبب العتق قبل التبعيض.
والثاني: يقوم عليه؛ لأن اختياره للإنظار كابتداء العتق.
[مسألة الجناية على المكاتب]
) : وإذا جني على المكاتب، فإن كانت على نفسه.. انفسخت الكتابة.
فإن كان الذي جنى عليه أجنبيا.. وجبت عليه قيمته لسيده، وإن كان الذي جنى عليه سيده.. لم يجب عليه شيء وكان له أخذ كسبه.
فإن قيل: أليس القاتل لا يستحق تركة المقتول؟
قلنا: إنما لا يستحقه بالإرث، وهذا ليس بإرث، وإنما هو لحق الملك.
وإن كانت الجناية على طرفه، فإن كانت الجناية عمدا، وكان الجاني ممن يستحق عليه المكاتب القصاص.. فله أن يستوفي القصاص.
وحكى الربيع قولا آخر: أن للسيد منعه من القصاص.(8/490)
قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي، بل هو من تخريج الربيع؛ لأن القصاص للتشفي ودرك الغيظ، والمكاتب كغيره في ذلك.
وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا على من لا يستحق عليه المكاتب القصاص، أو عفا عن القصاص على مال.. كان الأرش للمكاتب؛ لأنه ككسبه.
وإن كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على المكاتب.. كان للمكاتب أن يقتص منه إن كانت الجناية يجب فيها القصاص، وإن كانت خطأ.. لم يثبت له عليه أرش؛ لأن المولى لا يثبت له المال على عبده.
وإن ملك المكاتب والده أو ولده فجنى على المكاتب جناية توجب المال.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنه يبيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية، ويخالف غيرهما؛ لأنه لا يستفيد بالبيع شيئا؛ لأنه يملك بيعه من غير جناية.
والثاني: لا يجوز له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يجب له عليه مال.
وما ذكره الأول.. يبطل بالعبد المرهون، إذا جنى على الراهن.
وإن جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص من الجاني؛ لأنه من مصلحة ماله؛ لأنه إذا لم يستوف القصاص.. كان ذلك ذريعة إلى إقدام بعضهم على بعض. وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. لم يثبت له المال؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده.
وبالله التوفيق(8/491)
[باب الكتابة الفاسدة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى: (ولو كاتب عبده كتابة فاسدة فأدى.. عتق، ورجع عليه السيد بقيمته يوم عتق) .
وجملة ذلك: أن العتق المعلق بالصفات على ثلاثة أضرب:
عتق معلق بصفة محضة لا مدخل للعوض فيها.
وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم المعاوضة.
وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم الصفة.
فأما (الضرب الأول: وهو) العتق المعلق بصفة لا عوض فيها، فمثل قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإن كلمت فلانا فأنت حر، فهذه صفة لازمة من جهة السيد والعبد، فمتى وجدت الصفة.. عتق العبد.
وفي معنى هذا: إذا قال: إن أعطيتني ألفا فأنت حر، فهذا وإن تضمن عطية الألف.. فليس هو على وجه العوض، وإنما العطية صفة في وقوع العتق، فليس للسيد ولا للعبد فسخ هذه الصفة.
وإن أبرأ السيد العبد من الألف.. لم يعتق؛ لأن العتق يقع بوجود الصفة، وهي العطية، والإبراء ليس بعطية. وإن مات السيد.. بطلت الصفة. وإن كسب العبد مالا قبل وجود العطية.. كان لسيده. وإن دفع الألف إلى السيد.. ملكه السيد، وكان للسيد ما بقي في يد العبد، ولا تراجع بين السيد والعبد، هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: حكمه حكم الكتابة الفاسدة؛ لأنه في الحقيقة كتابة على نجم واحد.
وأما الضرب الثاني: وهو العتق المعلق بصفة والمغلب فيه حكم العوض: فهو العتق في الكتابة الصحيحة، وقد مضى بيانه.(8/492)
وأما الضرب الثالث: وهو العتق المعلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيه حكم الصفة: فهو الكتابة الفاسدة، بأن يكاتب عبده على خمر أو خنزير أو شرط فاسد، فإن المعاوضة فيها يبطل حكمها؛ لفساد العقد، وتبقى الصفة وهذه صفة جائزة من الطرفين.
فإن امتنع العبد من الأداء.. لم يجبر عليه؛ لأنه إذا لم يجبر على الأداء في الكتابة الصحيحة.. فلأن لا يجبر على الأداء في الكتابة الفاسدة أولى. وللسيد أيضا أن يبطل الصفة؛ لأن السيد إنما دخل في العقد ورضي بالصفة.. ليسلم له العوض الذي شرطه، ولم يسلم له، فكان له الرجوع فيها.
وكيفية الرجوع: هو أن يقول: قد رجعت في الصفة وأبطلتها.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويُشهد على ذلك) .
قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أن الإشهاد شرط في صحة الرجوع، وإنما هو ليثبت أنه قد رجع فيها وأبطلها. وللسيد أن يبطل الصفة بنفسه من غير حاكم؛ لأنه مجمع عليه، فهو كفسخ البيع للعيب.
فإن جن المولى، أو أغمي عليه، أو حجر عليه لسفه قبل الأداء.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بأداء العوض بعد ذلك؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالوكالة والشركة.
ولو علق عتق عبده على دخول الدار، فجن المولى أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن المولى لا يملك إبطال الصفة المجردة، بل هي لازمة مع بقاء الملك. هذا هو المنصوص.
وحكى المحاملي: أن الشيخ أبا حامد قال: عندي أن الصفة في الكتابة الفاسدة لا تبطل بجنون المولى، كما لا يبطل العتق المعلق بدخول الدار، وحمل النص على أن السيد إذا قبض في حال جنونه.. لم يعتق العبد؛ لأنه قبض غير صحيح، فلا يقع به العتق.(8/493)
وإن مات المولى قبل أداء المال إليه.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بالأداء إلى ورثته.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يبطل، وإذا أدى إلى ورثته.. عتق) .
دليلنا: أنه عقد جائز من الطرفين لا يؤول إلى اللزوم فبطل بالموت، كالوكالة والشركة.
وإن جن العبد أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن العبد محجور عليه بالرق قبل الجنون، فلا يتجدد له بالجنون الحجر، ولأن العبد لا يملك إبطال الصفة، وإنما له أن يعجز نفسه، فلا ينفسخ بجنونه.
وإن مات العبد قبل الأداء.. بطلت الصفة؛ لأن العتق لا يلحقه بعد الموت.
وإن أدى العبد إلى سيده العوض الذي كاتبه عليه قبل بطلان الصفة بشيء مما ذكرناه.. عتق العبد؛ لأن العقد اشتمل على معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة.. بقيت الصفة، فعتق بها.
وإن أبرأه السيد من المال الذي كاتبه عليه.. لم يعتق؛ لأنه إنما يعتق هاهنا بالصفة، وهي قوله: فإذا أديته فأنت حر، والصفة لا توجد في البراءة، بخلاف الكتابة الصحيحة، فإنه إذا أبرأه من مال الكتابة.. عتق؛ لأن المغلب فيه حكم المعاوضة. فإذا أبرأه من المال.. صار كأنه أداه وعتق، وإذا عتق العبد في الكتابة الفاسدة بالأداء.. كان له ما كسبه بعد الكتابة.
وإن كاتب جارية، وأتت بولد بعد الكتابة، وقلنا: يتبعها في الكتابة الصحيحة.. تبعها في الكتابة الفاسدة أيضا؛ لأن الفاسدة لما كانت كالصحيحة في العتق بالأداء.. كانت كالصحيحة أيضا في ملك الكسب وفي الولد.
وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لم يتبعه كسبه، ولا يتبع الجارية ولدها؛ لأن الكتابة الفاسدة للسيد فسخها، فجعل عتقه فسخا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن السيد لو أعتقه عن الكفارة.. أجزأه، ولو وقع عتقه بحكم الكتابة.. لمَا أجزأه في الكفارة) .(8/494)
ويرجع العبد على مولاه بالعوض الذي دفعه إليه؛ لأنه دفعه إليه عما عليه له فإذا لم يكن له عليه شيء.. رجع عليه به.
ويرجع المولى على العبد بقيمته من غالب نقد البلد؛ لأنه إنما أزال ملكه عنه بشرط أن يسلم له العوض الذي شرطه، فإذا لم يسلم له وتعذر الرجوع إلى رقبته.. رجع عليه بقيمته، كما لو باع سلعة بشرط فاسد وتلفت السلعة في يد المشتري.
وتعتبر قيمة العبد حال العتق؛ لأنها حالة الإتلاف، فإن كان أحد العوضين من غير جنس الآخر.. طالب كل واحد منهما بحقه الذي له عند صاحبه. وإن كان العوض الذي له دفعه العبد إلى السيد من جنس نقد البلد وعلى صفته.. فالحكم فيه ـ وفي كل دينين من الأثمان أحدهما من جنس الآخر وعلى صفته ـ واحد، وهو: أنه هل يصير أحدهما قصاصا عن الآخر؟ فيه أربعة أقوال:
أحدهما: يسقط أحدهما بالآخر وإن لم يتراضيا ولا رضي أحدهما؛ لأنه لا فائدة في قبض كل واحد منهما لحقه، ولأنه يجب عليه دفعه أو مثله.
والثاني: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا بأن يرضى أحدهما بذلك؛ لأنه إذا رضي أحدهما.. فقد رضي أن يقضي الدين الذي عليه من الدين الذي له، وله أن يقضي ما عليه من أي ماله شاء، ولم يكن للآخر الامتناع.
والثالث: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا برضاهما جميعا؛ لأنه إبدال ذمة بذمة، فلم تصح إلا برضاهما، كالحوالة.
والرابع: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر وإن تراضيا؛ لأنه بيع دين بدين، فلم يصح.
وكل موضع قلنا: يسقط أحدهما بالآخر، فإن كانا متماثلين.. سقط أحدهما بالآخر، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر.. سقط الأقل، وسقط من الأكثر بقدر الأقل، ودفع ما بقي عليه.
قال ابن الصباغ: وإن كان الحقان من غير جنس الأثمان.. فلا يسقط أحدهما بالآخر.(8/495)
والفرق بينهما: أن ما عدا الأثمان تطلب فيه المغابنة؛ لوجود الاختلاف فيها، وقلما يتساويان، والأثمان به متساوية لا تطلب فيها المغابنة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحقين إذا كانا من ذوات الأمثال.. فهي كالأثمان على الأربعة أقوال.
وإن أخذ المكاتب كتابة فاسدة من سهم الرقاب من الزكاة شيئا، فإن لم يكن فيه وفاء بما كوتب عليه.. استرجع منه. وإن كان فيه وفاء.. فالمنصوص: (أنه يسترجع منه) ؛ لأن بفساد الكتابة خرج عن أن يكون من الرقاب.
ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع منه؛ لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب، فكان كالصحيحة في الأخذ من سهم الرقاب.
[مسألة يعتق المخبول ونحوه بأداء الكتابة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو كان العبد مخبولا.. عتق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) وفي هذا ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كاتب عبده وهو عاقل كتابة صحيحة، ثم جن العبد وأدى مال الكتابة في حال جنونه.. فإنه يعتق بالأداء؛ لأن السيد إذا قبض منه.. فقد استوفى منه حقه الذي كاتبه عليه، ولو أخذ حقه من يده.. يعتق العبد بحكم العقد.
الثانية: إذا كاتبه ـ وهو عاقل ـ كتابة فاسدة، ثم جن العبد فأدى المال في حال جنونه.. فيعتق العبد بحكم الصفة، ويثبت بينهما التراجع إلا أن الحاكم هاهنا ينصب وكيلا على العبد يراجع عنه؛ لأن المجنون لا تصح مراجعته.
الثالثة: إذا كاتب عبده المجنون كتابة فاسدة، فأدى العبد المال في حال جنونه.. فنقل المزني: (أنه يعتق بأداء مال الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) .(8/496)
ونقل الربيع في " الأم " (7/379) : (أنه يعتق، ويتراجعان) .
واختلف أصحابنا في المسألة على أربع طرق:
فقال أبو العباس: الصحيح: ما نقله الربيع في " الأم " وأنهما يتراجعان؛ لأن السيد لم يسلم له ما شرط من المسمى، وقد وقع العتق، فيتراجعان، ككتابة الصحيح، وما نقله المزني فيه زيادة: (لا) .
وقال أبو إسحاق: الصحيح: ما نقله المزني وأنه لا يرجع بشيء؛ لأن العبد إذا كان مجنونا.. فليس هو من أهل العقود ولا من أهل الضمان، فإذا عقد معه العقد.. فلم يلتزم ضمانا بالعقد، وإنما يعتق بوجود الصفة، فلم يثبت بينهما التراجع. وما نقله الربيع أسقط منه: (لا) .
وقال القاضي أبو الطيب: في المسألة قولان، ووجههما: ما ذكرناه لأبي العباس وأبي إسحاق.
وقال الشيخ أبو حامد: يحتمل أن تكون المسألة على اختلاف حالين:
فالذي نقله المزني: (أنه لا يرجع أحدهما بشيء) أراد به: إذا كاتبه وهو مجنون.. فلا يثبت بينهما تراجع؛ لأن المجنون ليس من أهل العقود والضمان.
والذي نقل الربيع: (أنهما يتراجعان) أراد به: إذا كاتبه كتابة فاسدة وهو عاقل، ثم جن وأدى المال في حال جنونه.. فإنه يعتق ويتراجعان؛ لأنه حال العقد من أهل العقد والضمان.
وإن كاتب عبدا صغيرا فأدى إليه ما كاتبه عليه.. عتق، وهل يثبت بينهما التراجع؟ على الطرق الأولى الثلاث في المجنون.
[مسألة إبطال السيد المكاتبة إذا جزأها]
) : وإن كاتب نصف عبده وقلنا: لا يصح.. فللسيد إبطال هذه الصفة والرجوع فيها. فإن لم يبطلها حتى أدى العبد ما كاتبه عليه.. عتق النصف الذي كاتبه منه بالصفة،(8/497)
وسرى العتق إلى باقيه؛ لأن النصف الأول عتق برضا السيد واختياره، فسرى العتق إلى باقيه، كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فنصفك حر، فدخل الدار، فإن نصفه يعتق بالصفة والثاني بالسراية.
إذا ثبت هذا: فإن للعبد أن يرجع على السيد بما دفع إليه من العوض، وللسيد أن يرجع على العبد بقيمة نصفه الذي كاتبه عليه؛ لأن السيد لم يرض بزوال ملكه عنه إلا بعوض، ولم يسلم له ذلك، ولا يرجع عليه بقيمة نصفه الذي عتق بالسراية؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده بعتق ذلك النصف عوضا.
[فرع: مكاتبة الشريك دون إذن شريكه]
) : وإن كاتب شركا له في عبده من غير إذن شريكه، فالكتابة فاسدة، وللسيد أن يبطل الصفة ويرجع فيها، فإن لم يبطل الصفة حتى أدى إليه العبد ما كاتبه عليه.. نظرت:
فإن أدى إليه ذلك من حصة نصيبه من كسبه، وأدى إلى شريكه حصة نصيبه من كسبه.. عتق نصيب السيد الذي كاتبه بالصفة، ورجع العبد على سيده الذي كاتبه بما دفع إليه من العوض، ورجع المولى عليه بقيمة نصيبه منه.
فإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة حصة شريكه منه.. عتق عليه بالسراية، وغرم لشريكه قيمة نصيبه، ولا يرجع السيد على العبد بقيمة ما غرمه لشريكه؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده الذي كاتبه عوضا عن عتق نصيب شريكه.
وإن دفع العبد المكاتب جميع كتابته إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتق؛ لأن العتق في الكتابة الفاسدة يقع بالصفة، وقد وجدت الصفة، فعتق، كما لو قال لامرأته: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فغصبته وأعطته إياه.(8/498)
والثاني: لا يعتق، وهو الصحيح؛ لأن قوله: فإذا أديت إلي كذا فأنت حر يقتضي أن يؤدي إليه مما يملك، وما أداه إليه لا يملكه، فهو كما لو لم يؤد إليه، ويخالف العبد في الطلاق؛ لأنه قد عينه، فوزانه من الطلاق أن يقول: إذا أعطيتني عبدا فأنت طالق، فغصبت عبدا وأعطته إياه.. فإنها لا تطلق.
فإذا قلنا: إنه يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بحصة نصيبه مما قبضه من العبد؛ لأنه ملكه، ويرجع المولى على العبد بقيمة نصيبه، ويرجع العبد عليه بما بقي من كسبه.
وإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق عليه، ولا يرجع على العبد بما غرمه لشريكه من الكسب والقيمة.
وإن قلنا: إنه لا يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بنصف ما قبضه من كسب العبد، فإن أدى إليه العبد تمام ما كاتبه عليه من نصف كسبه.. عتق وحكم التراجع بينهما والتقويم على ما مضى.
وإن كاتبه بإذن شريكه، فإن قلنا: لا يصح.. فهو كما لو كاتبه بغير إذنه، على ما مضى. وإن قلنا: إنه يصح، فإن دفع نصف كسبه إلى الذي كاتبه ونصفه إلى الذي لم يكاتبه.. عتق بالأداء ولم يثبت بين السيد والعبد تراجع؛ لأن الكتابة صحيحة.
فإن كان الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق ولا شيء على المكاتب مما دفعه السيد بالتقويم. فإن كان معسرا.. لم يقوم عليه.
وإن دفع جميع كسبع إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق نصيب الذي كاتبه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالوجهين في الكتابة الفاسدة.
وقال أكثرهم: لا يعتق وجها واحدا، وهو المذهب؛ لأن الكتابة الصحيحة: المغلب فيها حكم العوض ـ ولم يحصل له دفع العوض ـ والكتابة الفاسدة: المغلب فيها الصفة.(8/499)
[مسألة مكاتبة عبيد بعقد واحد]
) : إذا كاتب عبيدا له على مال بعقد واحد، فإن قلنا: يصح العقد، بأن أدى كل واحد منهم ما يخصه من مال الكتابة.. عتقوا، وإن أدى واحد منهم ما يخصه.. عتق.
فإن قيل: هلا قلتم: لا يعتق المؤدي قبل أداء أصحابه؛ لأن السيد قال: فإذا أديتم.. فأنتم أحرار، فلا يعتق واحد منهم حتى يؤدوا كلهم، كما لو قال لعبيده: إذا أديتم إلي كذا.. فأنتم أحرار، فإنه لا يعتق واحد منهم إلا بأداء الجميع؟ فالجواب: أن الكتابة إذا كانت صحيحة.. فالمغلب فيها حكم المعاوضة دون الصفة، بدليل: أنه لو أبرأ السيد واحدا منهم.. عتق.
وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة فللسيد إبطال الصفة، فإن لم يبطلها حتى أدوا المال الذي كوتبوا عليه.. عتقوا بالصفة، ورجع السيد على كل واحد منهم بقيمته، ورجعوا عليه بالمال الذي دفعوه إليه.
وإن أدى أحدهم ما يخصه من مال الكتابة.. فهل يعتق بالصفة، ويثبت التراجع بينه وبين السيد؟
قال الشافعي في " الإملاء ": (يعتق ويتراجع هو والسيد؛ لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الصحيحة في العتق، وفي الصحيحة: إذا أدى بعض العبيد.. عتق ـ فكذلك في الكتابة الفاسدة) .
ومن أصحابنا من قال: لا يعتق.
قال أصحابنا: وهو الأقيس؛ لأن العتق بالكتابة الفاسدة يقع بالصفة، والصفة لا توجد بأداء بعضهم.(8/500)
[فرع يؤدي من عتق عن جماعة المكاتبين]
) . وإن كاتب جماعة عبيد.. فإنه لا يجب أن يؤدي بعضهم عن بعض مال كتابته.
فإن أدى واحد منهم عن صاحبه مال كتابته، فإن كان بعد أن أدى المؤدي كتابة نفسه وعتق.. صح. فإن كان بغير إذن المؤدي عنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع عنه، وإن كان بإذنه.. رجع عليه وكان دينا على المؤدى عنه. وإن أدى عن غيره قبل أن يؤدي هو عن نفسه كتابة نفسه، فإن لم يعلم المولى أنه يؤدي ذلك عن غيره، كأن اعتقد أنه يؤدي ذلك من كسب المؤدى عنه.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه؛ لأنه إن كان بغير إذن المؤدى عنه.. فهو هبة منه له. وإن كان بإذنه.. فهو قرض له، والقرض والهبة لا يصحان من مال المكاتب بغير إذن سيده.
وإن كان ذلك بعلم السيد، بأن قال لسيده: هذا من كسبي أؤديه عن صاحبي، فقبضه المولى..فهل يصح ذلك عن المؤدى عنه؟
إن قلنا: تصح هبته بإذن المولى.. صح هاهنا، وإن قلنا: لا تصح هبته بإذن المولى.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه.
فعلى هذا: إن كان قد حل على المؤدى عنه نجم.. قاصه به، وإن لم يحل عليه نجم.. قال ابن الصباغ: فإن شاء قاصه به، وإن شاء طالبه به وأخذه.
وقال غيره من أصحابنا: لا تصح المقاصة إلا باتفاق الدينين بالحلول أو التأجيل.
فعلى هذا: فإنه يأخذه منه ليتصرف فيه إلى أن يحل عليه نجم.
فإن لم يأخذه من السيد حتى أدى المؤدي عن نفسه وعتق.. فهل يقع ذلك عن المؤدى عنه؟
ظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يقع عن المؤدى عنه؛ لأنه إنما منع من الأداء لرقه، وقد زال رقه.. فوقع عن المؤدى عنه.(8/501)
ومن أصحابنا من قال: لا يقع عنه؛ لأنه وقع الأداء فاسدا.. فلا يصح حتى يبتدئ إذنا صحيحا.
وكل موضع وقع الأداء عن صاحبه: فإن كان بإذن المؤدى عنه.. كان دينا عليه له، وحكمه حكم دين القرض إذا اجتمع مع دين الكتابة، وقد مضى.
قال الطبري في " العدة ": ولو كاتب جماعة عبيد له وشرطوا عليه أن يكون كل واحد منهم ضامنا عن صاحبه.. كانت الكتابة فاسدة قولا واحدا.
وبالله التوفيق(8/502)
[باب اختلاف المولى والمكاتب]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن اختلف السيد والمكاتب.. تحالفا وترادا) . وجملة ذلك: أن السيد والمكاتب إذا اختلفا.. نظرت:
فإن اختلفا في أصل الكتابة، وادعى العبد على مولاه أنه كاتبه وأنكر السيد، فإن أقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة، ولا يقبل فيه شاهد وامرأتان، ولا شاهد ويمين؛ لأن المقصود إثبات العتق، وذلك لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين.
وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولأن الأصل عدم الكتابة، فكان القول قول من ينفيها.
وإن اتفقا على الكتابة ولكن اختلفا في قدر المال، بأن قال السيد: كاتبتك على ألفين إلى نجمين، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف إلى نجمين، أو اختلفا في مقدار الأجل، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى سنة، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في نجمين كل نجم إلى سنتين، أو اختلفا في قدر النجوم، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى كذا، وقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في أربعة نجوم، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات، كتحالف المتبايعين في قدر الثمن. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (القول قول المكاتب) .
وعن أحمد ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا.
والثانية: كقول أبي حنيفة.(8/503)
والثالثة: (القول قول السيد) . دليلنا: أنهما اختلفا في عوض العتق القائم بينهما أو في صفته وليس مع أحدهما بينة، فوجب أن يتحالفا كالمتبايعين. فإذا تحالفا ... نظرت:
فإن تحالفا قبل العتق، فإن قلنا: إن المتبايعين إذا تحالفا انفسخ البيع بنفس التحالف.. انفسخت الكتابة بنفس التحالف، ولا يعتق بعد ذلك بالأداء.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع بنفس التحالف، فإن تراضى السيد والمكاتب على أحد العوضين.. لم تنفسخ الكتابة، وإن لم يتراضيا على شيء.. فسخت الكتابة، ومن يتولى فسخها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تنفسخ إلا بالحكم.
والثاني: لكل واحد منهما أن يفسخها، كما قلنا في المتبايعين.
وإن كان التحالف بعد العتق، بأن دفع المكاتب إلى السيد ألفين، فقال العبد: مال الكتابة من ذلك ألف، وألف أودعتكه، وقال السيد: بل الألفان مال الكتابة.. فإنهما يتحالفان ويعتق العبد لاتفاقهما على العتق ولا يرتفع العتق؛ لأنه إذا وقع.. لم يرتفع ولكن يثبت للسيد الرجوع على العبد بقيمته، ويثبت للعبد على السيد الرجوع بما دفع إليه. والكلام في المقاصة إذا أدى الجميع من نقد البلد على الأقوال الأربعة.
[مسألة قبول قول السيد بيمينه على عدم أهليته عند المكاتبة]
) : وإن قال السيد: كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور علي، وأنكر العبد، فإن كان قد عرف للسيد جنون أو حجر.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه على الجنون والحجر. وإن لم يعرف له ذلك.. فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون والحجر.(8/504)
[فرع ثبوت المكاتبة بشاهدين]
) : وإن مات رجل وخلف عبدا وابنين فادعى العبد أن سيده قد كان كاتبه، فإن صادقه الاثنان أو كذباه أو أحدهما، وأقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة.
وإن أنكراه ولا بينة للعبد.. فالقول قول الابنين مع أيمانهما؛ لأن الأصل عدم الكتابة، ويحلف كل واحد منهما يمينا بالله: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه؛ لأنهما يمين على نفي فعل الغير.
وإن صدقه أحدهما أن أباه كاتبه وأنكر الآخر، فإن شهد المصدق له على الكتابة وكان عدلا وشهد معه شاهد ذكر.. حكم للعبد بالكتابة في جميعه. وإن لم يكن المصدق عدلا أو لم يشهد معه غيره.. فالقول قول المنكر مع يمينه: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه، فإذا حلف له.. صار نصفه مملوكا للمنكر، ونصفه مكاتبا للمصدق، فإن قيل: أليس لو كاتب أحد الشريكين العبد في نصيبه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة، وبإذنه على قولين، فكيف صحت الكتابة هاهنا في نصفه؟
فالجواب: أنه إذا كاتبه في نصيبه ابتداء.. فقد قصد الإضرار بشريكه، فلذلك لم يصح، وهاهنا لم يقصد الإضرار بشريكه، وإنما أخبر أن أباه كاتبه، فقبل خبره.
إذا ثبت هذا: فإن الكسب يكون بين المكاتب وبين المكذب نصفين، فإن اتفقا على المهايأة ويكون لكل واحد منهما كسب يوم، أو على ترك المهايأة ثم يقتسمان ما حصل من كسب.. جاز. وإن دعا أحدهما إلى المهايأة وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع منهما.
وقال أبو حنيفة: (يجبر) . دليلنا: أن المهايأة تؤدي إلى تأخير الحق عن حالة استحقاقه.. فلم يجبر الممتنع منهما، كما لو كان له دين حال على رجل ... فإنه لا يجبر على تأخيره.(8/505)
فإذا قسم الكسب بينهما: إما مهايأة أو مناصفة، فإن عجز المكاتب عن حق المصدق من مال الكتابة.. كان للمصدق تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه المكاتب رقيقا له، وأخذ ما بقي في يده من كسبه بعد الكتابة؛ لأن المكذب قد أخذ حقه من الكسب.
فأما ما اكتسبه قبل الكتابة.. فإنه بين الابنين نصفان؛ لأنه كان مملوكا لأبيهما، وانتقل إليهما بالإرث.
فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وانتقل إليهما بالإرث.
فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وقال المصدق: بل كسبه بعد الكتابة وقد أخذت حقك منه وباقيه لي.. فالقول قول المصدق مع يمينه؛ لأن المكذب يدعي أنه كان موجودا قبل الكتابة، والأصل عدم وجوده في ذلك الوقت، ولأن السيد لو اختلف هو والمكاتب في ذلك.. لكان القول قول المكاتب مع يمينه؛ والمصدق هاهنا قائم مقام المكاتب.
وإن أدى إلى المصدق نصف مال الكتابة.. عتق نصفه، وكان نصفه مملوكا للمنكر، ولا يقوم نصيب المنكر على المصدق وإن كان موسرا؛ لأن التقويم إنما يكون على من باشر العتق أو وجد منه سبب العتق، والمصدق لم يباشر العتق ولا وجد منه سببه وإنما أخبر بكتابة أبيه، ولمن يكون ولاء هذا النصف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بسبب كان من أبيهما، ويثبت له عليه الولاء، فانتقل إليهما.
والثاني: يكون للابن المصدق وحده؛ لأن المنكر أسقط حقه من الولاء بإنكاره فهو كما لو شهد شاهد لأبيهما بدين على رجل فحلف أحدهما معه دون الثاني فإن للحالف نصف الدين.(8/506)
[مسألة ادعاء المكاتب دفع مال الكتابة أو الإبراء]
) : وإن ادعى المكاتب أنه دفع مال الكتابة إلى السيد، أو ادعى أن سيده أبرأه من مال الكتابة، فأنكر السيد القبض، أو البراءة، أو قال المكاتب: وضعت عني النجم الأول، فقال السيد: بل وضعت النجم الأخير، فإن كان مع المكاتب بينة بما ادعاه.. حكم له بما ادعاه؛ لأن البينة أقوى من اليمين ويقبل في ذلك شاهدان، وشاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال.
وإن لم يكن مع المكاتب بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه المكاتب واشتغال ذمته بمال الكتابة.
[فرع كاتبه على دنانير وأبرأه من دراهم]
) : وإن كاتبه على ألف دينار، فأبرأه عن ألف درهم.. لم تصح البراءة؛ لأنه أبرأه عما لا يستحقه عليه، فصار وجود هذا الإبراء كعدمه.
فإن قال السيد: أردت عن قيمة ألف درهم من الدنانير التي عليه.. صح وبرئت ذمته عن قيمة ألف درهم من الدنانير؛ لأنه فسر إبراءه بما يحتمله، فقبل منه.
فإن اختلفا، فقال المكاتب: أبرأتني من ألف درهم وأردت عن قيمتها من الدنانير، وقال السيد: لم أرد ذلك.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن نكل عن اليمين.. حلف المكاتب أنه أراد ذلك.
وإن اختلف المكاتب وورثة السيد فيما أراد السيد من ذلك.. حلف الورثة أنهم لا يعلمون أن مورثهم أراد ذلك.
[مسألة علق إقراره بالقبض بالمشيئة]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: قد استوفيت آخر كتابتك إن شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يجز؛ لأنه استثناء) .
وجملة ذلك: أن السيد إذا قال: فقد استوفيت آخر نجومك أو جميع مال الكتابة إن(8/507)
شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يكن إقرارا؛ لأن الاستثناء يمنع الإقرار كما يمنع الطلاق والعتاق؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك: سأستوفي إن شاء الله؛ لأن الاستثناء يدخل في الأفعال المستقبلة دون الماضية.
وإن قال: قبضت مال الكتابة إن شاء زيد.. لم يصح الإقرار؛ لأنه علقه بشرط، والقبض لا يصح تعليقه بشرط، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن شاء الله أو إن شاء فلان) .. لم يجز؛ لأنه استثناء يرجع إلى مشيئة الله تعالى، وأما مشيئة فلان فهي صفة.
وإن قال السيد: استوفيت، أو قال المكاتب: أليس قد استوفيت أو وفيتك، فقال السيد: بلى، ثم اختلفا فادعى المكاتب أنه استوفى جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل استوفيت البعض.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع.
وإن قال السيد: استوفيت آخر كتابتك.. فليس هذا إقرارا باستيفاء جميع مال الكتابة؛ لأنه يحتمل ذلك، ويحتمل أنه يريد: استوفيت آخر ما حل عليك دون ما قبله، فيرجع في تفسير ذلك إلى السيد، فإن ادعى المكاتب أنه أراد بذلك جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل أردت النجم الأخير دون ما قبله.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.
[مسألة يوقف ولد المكاتبة حتى يعرف وقت ولادته]
) : وإن كان مع المكاتبة ولد، فقالت: ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي ـ إذا قلنا: ولدها موقوف معها ـ وقال السيد: بل ولدته قبل الكتابة فهو ملك لي.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في وقت الكتابة، فالسيد يقول: كان العقد بعد الولادة، والمكاتبة تقول: بل كان العقد قبل الولادة، ولو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول السيد فكذلك إذا اختلفا في وقته.(8/508)
[فرع شراء المكاتب زوجته الأمة]
) : وإن كاتب رجل عبدا له ثم زوجه بأمته، ثم باع السيد الأمة من المكاتب.. فإن النكاح ينفسخ.
وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ؛ لأنه لا يملكها، بدليل: أنه إذا اشترى أمة.. لم يملك وطأها) .
دليلنا: أن المكاتب يملك ما اشتراه، بدليل: أنه إذا اشترى شقصًا من دار، ثم اشترى السيد شقصًا فيه.. ثبت للمكاتب الشفعة فيما اشتراه مولاه، فانفسخ نكاحه، كالحر إذا ملك زوجته.
وأما منع المكاتب من وطئها: فلا يدل على أنه لا يملكها، بدليل: أن الراهن يمنع من وطء أمته المرهونة وإن كان مالكها.
إذا ثبت هذا: فإن أتت هذه الجارية بولد، فاختلف السيد والمكاتب فيه، فقال السيد: أتت به قبل أن أبيعها منك فهو ملك لي، وقال المكاتب: بل أتت به بعد ما اشتريتها فهو ملك لي.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في ملكه، ويد المكاتب عليه، فكان القول قوله، كسائر الأملاك. ويفارق المكاتبة، فإنها لا تدعي ملك ولدها.
[مسألة إقرار السيد استيفاء ما على أحد مكاتبته]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال السيد: قد استوفيت ما على أحد مكاتبي.. أقرع بينهما) .
وجملة ذلك: أنه إذا كاتب عبدين له بعقدين أو بعقد ـ وقلنا: إنه يصح ـ ثم أقر السيد أن أحدهما قد أدى إليه جميع مال الكتابة، أو أنه قد أبرأه من جميع مال الكتابة،(8/509)
وقال: لا أعلم عينه منهما.. فما دام حيا لا يقرع بينهما، ولكن يقال له: تذكر الذي أدى منهما أو الذي أبرأته منهما؛ لأن ذلك أقوى من القرعة، فإن تذكر وقال: هذا الذي أدى إلي مال الكتابة، أو هذا الذي أبرأته.. حكم بعتقه.
فإن صدق الآخر السيد أنه لم يؤد أو أنه لم يبرئه.. كان باقيا على كتابته.
وإن قال الآخر: أنا الذي أدى مال كتابته، أو أنا الذي أبرأته، فإن صدقه السيد.. حكم بعتقه أيضا مع الأول، وإن كذبه ولا بينة للثاني.. فالقول قول السيد مع يمينه: أنه لم يؤد إليه أو أنه لم يبرئه؛ لأن الأصل بقاء المال في ذمته. فإذا حلف له السيد.. بقي على كتابته، وإن نكل السيد.. حلف المكاتب وعتق أيضا.
وإن مات المولى قبل أن يبين.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (يقرع بينهما) وقال في موضع آخر: (لا يقرع بينهما) فحصل فيها قولان:
أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرج له سهم الحرية.. عتق؛ لأن الحرية تعينت لأحدهما وأشكل عينه ولا يمكن التمييز إلا بالقرعة. قال المحاملي: فعلى هذا: إن ادعى الآخر على الورثة أنه هو الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الورثة: أنهم لا يعلمون أنه قد أدى مال كتابته، أو أن مورثهم أبرأه.
والقول الثاني: أنه لا يقرع بينهما؛ لأنه لا يؤمن أن يخرج سهم الحرية للذي لم يؤد فيرق المعتق، ولكن يرجع إلى بيان الوارث، فيقال للوارث: أتعلم الذي أدى أو أبرئ؟ فإن قال: نعم.. قيل له: عينه، فإذا عين أحدهما.. حكم بعتقه.
فإن قال الآخر: بل أنا الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الوارث أنه لا يعلم أنه الذي أدى أو أبرئ.. وبقي على الكتابة. وإن قال الوارث: لا أعلم عين المؤدي أو المبرأ، فإن صدقه المكاتبان أنه لا يعلم.. بقيا على الكتابة، وإن كذباه وادعيا علمه بالمؤدي منهما أو بالمبرأ.. حلف لكل واحد منهما يمينا وبقيا على الكتابة.(8/510)
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويؤدي كل واحد منهما جميع مال كتابته؛ لأنه لم يثبت أداء أحدهما. قال: وعندي: أنهما إذا قالا: نؤدي ما على أحدنا إن كانت كتابتهما سواء، أو كانت كتابة أحدهما أكثر من الآخر فقالا: نؤدي كتابة أكثرنا كتابة لنعتق.. كان لهما ذلك؛ لأنهما إذا أديا ذلك.. فقد أديا جميع ما عليهما بيقين.
[مسألة مكاتبة ثلاثة بعقد على مائة]
) : وإن كاتب رجل ثلاثة أعبد له على مائة درهم بعقد واحد، وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون، فإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها صحيحة.. قسمت المائة المسماة عليهم على قدر قيمتهم، فيكون على من قيمته مائة: خمسون، وعلى كل واحد من الآخرين: خمسة وعشرون.
فعلى هذا: إن أدى العبيد الثلاثة مائة من أيديهم إلى السيد، ثم اختلفوا، فقال كل واحد من العبدين اللذين قيمتهما مائة: أديناها أثلاثا بيننا، فأديت أنت ثلاثة وثلاثين وثلثا وبقي عليك باقي كتابتك فلم تعتق، وأدى كل واحد منا ثلاثة وثلاثين وثلثا، وعلى كل واحد منا خمسة وعشرون.. فقد عتقنا نحن، وبقي ما زاد لكل واحد منا وديعة عند السيد، أو أدينا ذلك عنك بإذنك فهو دين عليك لنا. وقال من كثرت قيمته: بل أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة، فأديت أنا خمسين وعتقت، وأدى كل واحد منكما خمسة وعشرين وعتق:
فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول من قلت قيمته) .
وقال في موضع من " الأم ": (إذا أدوا ستين دينارا، ثم اختلفوا، فقال من قلت قيمته: أديناها على العدد أثلاثا، وقال من كثرت قيمته: أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة.. فالقول قول من كثرت قيمته) .(8/511)
واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: القول قول قلت قيمته، وهو الأصح؛ لأن أيديهم على المال، فالظاهر أن أملاكهم متساوية فيه.
والثاني: أن القول قول من كثرت قيمته؛ لأن الظاهر من حال من عليه دين أنه لا يؤدي أكثر مما عليه، ومن قلت قيمته يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، وهذا مخالف للظاهر.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (القول قول من قلت قيمته) أراد به: إذا أدوا أقل مما عليهم من مال الكتابة، مثل: أن يؤدوا ستين وعليهم مائة؛ لأن من قلت قيمته.. لم يؤد أكثر مما عليه، فلا تخالف دعواه الظاهر، ويد كل واحد منهم على ثلث المال، فكان القول قوله.
والموضع الذي قال: (القول قول من كثرت قيمته) أراد به: أدوا جميع مال الكتابة؛ لأن من قلت قيمته هاهنا.. يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، فكانت دعواه تخالف الظاهر، فلم تقبل.
[مسألة ادعاء المكاتب تأدية الكتابة لسيديه]
) : وإن كان عبد بين رجلين نصفين فكاتباه كتابة صحيحة، ثم ادعى المكاتب أنه أدى إليهما مال الكتابة.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كاتباه على ألف، فادعى المكاتب أنه أدى إلى كل واحد منهما خمسمائة، فإن صدقاه.. عتق، وإن كذباه ولا بينة للمكاتب.. حلف له كل واحد منهما يمينا وبقي على الكتابة، وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر.. عتق نصيب المصدق.
ولا تقبل شهادة المصدق على المنكر؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، فإن لم يكن مع المكاتب بينة.. حلف له المنكر: أنه لم يقبض منه نصيبه من الكتابة،(8/512)
وبقي نصيبه على الكتابة، ويكون المنكر بالخيار: بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأنه قد ثبت أنه ما قبض شيئا منها، وبين أن يرجع على شريكه المصدق بمائتين وخمسين ـ وهو نصف ما قبض ـ لأن كسب المكاتب مشترك بين سيديه، فلا يجوز أن يخص أحدهما بشيء منه، ويرجع على المكاتب بمائتين وخمسين؛ لأنه لم يثبت أنه قبض منه شيئا من الكتابة.
فإذا حصل للمنكر الخمسمائة، إما من المكاتب وإما من المكاتب ومن المصدق.. عتق نصيبه، ولا يرجع المكاتب على المصدق بما أخذه منه المنكر، وكذلك لا يرجع المصدق على المكاتب بما أخذه منه المنكر؛ لأن كل واحد منهما يقر أن الذي ظلمه هو المنكر، فلا يرجع على غير من ظلمه.
فإن قيل: فالمكذب منكر لقبض المصدق نصيبه.. فكيف يرجع عليه؟
قلنا: إقرار المصدق يوجب له الرجوع عليه، وإنكاره لا يمنعه من الرجوع؛ لجواز أن يكون المصدق قبض بغير علم المنكر.
فإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق بإقرار المصدق، ويكون ما بقي في يد المكاتب من الكسب بينه وبين المنكر نصفين.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نصيب المنكر هاهنا على المصدق؛ لأن التقويم لحظ العبد لتكميل أحكامه، والعبد يزعم أنه حر، وإنما استرق المنكر نصفه ظلما) .
المسألة الثانية: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: دفعت إليك جميع الألف لتأخذ نصفها لك وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال الذي ادعى عليه المكاتب: لم تدفع إلي جميع الألف، وإنما دفعت إلي نصف الألف وإلى شريكي نصف الألف، فقال الشريك: ما دفع إلي شيئا.. فيعتق نصيب الذي أقر أنه قبض نصف الألف، ويحلف للمكاتب: أنه ما قبض منه إلا خمسمائة، ولا تقبل شهادته على شريكه؛ لأن المكاتب لا يدعي عليه أنه قبض، ولأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، ولا يمين(8/513)
على الشريك الذي لم يدع عليه المكاتب، للمكاتب؛ لأنه لا يدعي أنه أقبضه شيئا، فبقي نصيبه على الكتابة: ويكون بالخيار: بين أن يرجع على المكاتب بخمسمائة، وبين أن يرجع عليه بمائتين وخمسين وعلى شريكه المقر بمائتين وخمسين؛ لأن الخمس المائة التي أقر بقبضها من كسب العبد وكسبه بينهما.
قال ابن الصباغ: وللمصدق أن يحلف المنكر: أنه لم يقبض من المكاتب خمسمائة؛ لجواز أن يخاف، فيقر، فيسقط رجوعه عليه.
فإذا رجع المنكر على المكاتب أو على المصدق.. لم يرجع أحدهما على الآخر بذلك؛ لأن المصدق يعترف: أن المنكر ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه، والمكاتب ما ثبت أنه دفع إلى المصدق شيئا، فيرجع عليه.
فإذا حصل للمنكر خمسمائة من المكاتب أو منهما.. عتق نصيبه.
وإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق على المصدق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقوم على المقر نصيب المنكر؛ لأن المكاتب يقول: أنا أستحق التقويم؛ لأن نصفي مملوك) .
ومن أصحابنا من نقل جواب الأولى إلى هذه وجواب هذه إلى الأولى، وجعل فيهما قولين، وليس بشيء.
المسألة الثالثة: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: قد دفعت إليك الألف كلها لتأخذ نصفها وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال هذا الذي ادعى عليه المكاتب: نعم، قد قبضت الألف ودفعت إلى شريكي نصفها، فقال الشريك: ما دفعت إلي شيئا.. عتق نصيب المقر؛ لأنه أقر أنه استوفى مال كتابته، فإن لم تكن بينة على المنكر.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. بقي حقه مكاتبا، ويكون بالخيار.. بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأن حقه في الأصل عليه، وبين أن يطالب المقر بخمسمائة؛ لأنه أقر بقبضها. فإذا أخذ حقه من أيهما كان.. عتق نصيبه، ثم ينظر:(8/514)
فإن رجع المنكر على المكاتب بخمسمائة.. كان للمكاتب الرجوع على المقر بخمسمائة، سواء صدقه على الدفع إلى شريكه أو كذبه؛ لأنه يقول: كان من الواجب عليك أن تدفع إليه وتشهد ليكون دفعا مبرئا، فإذا لم تشهد.. فقد فرطت.
وإن رجع المنكر على المقر.. لم يرجع المقر على المكاتب؛ لأنه يقر أن شريكه ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن عجز المكاتب عن الأداء.. قال أصحابنا: وهذا بعيد؛ لأن له أن يأخذ من المقر خمسمائة ويؤديها في مال الكتابة، ولكنه إن لم يختر ذلك.. لم يجبره المنكر على مطالبة المقر، وللمنكر أن يعجزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ويرجع المنكر على المقر بخمسمائة، وهو نصف ما أقر بقبضه؛ لأنه من كسب المكاتب.
قال عامة أصحابنا: ويقوم نصيب المنكر على المقر.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كان المكاتب لم يصدق المقر في دفع خمسمائة إلى المنكر.. قوم عليه؛ لأنه يقر أن نصفه مملوك، وإن صدقه أنه دفع إليه خمسمائة.. لم يقوم عليه؛ لأنه يعترف أنه حر وأن أحكامه كملت، وأن المنكر مسترق لنصفه ظلما.
[فرع تزويج السيد ابنته من مكاتبه]
) : إذا زوج الرجل ابنته من مكاتبه برضاها.. صح النكاح، وإنما اعتبر رضاها؛ لأنه ليس بكفء لها.
فإن مات السيد قبل أن يعتق المكاتب، فإن كانت غير وارثة لأبيها، بأن كانت قاتلة أو ذمية.. فإن النكاح بحاله، وإن ورثت أباها.. انفسخ نكاحها. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ النكاح) .
دليلنا: أن المكاتب عبد قبل الأداء وقد ملكت شيئا منه.. فانفسخ نكاحها، كما لو كان زوجها غير مكاتب، فملكته أو ملكت شيئا منه.(8/515)
[فرع تدفع الكتابة لورثة السيد أو للوصي]
) : وإن كاتب الرجل عبدا له ومات السيد قبل أن يؤدي المكاتب، فإن كان وارث السيد واحدا رشيدا.. دفع المكاتب المال إليه، وإن كان وارثه اثنين رشيدين.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع إلى كل واحد منهما نصيبه.
وإن ورث السيد من ليس برشيد.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع مال الكتابة إلى الناظر في أمر الوارث، من جد أو وصي أو حاكم أو أمين الحاكم.
وإن أوصى السيد بمال الكتابة لرجل معين أو لقوم معينين.. قال المحاملي: جاز للمكاتب أن يدفع مال الكتابة للموصى له المعين، ويجوز أن يدفعه إلى وصي الميت أو إلى وارثه؛ لأن للوارث والوصي أن يتوليا إيصال الوصايا إلى مستحقيها.
وإن وصى به المولى لقوم موصوفين غير معينين، كالفقراء والمساكين.. لم يبرأ المكاتب بدفعه إليهم، بل يدفعه إلى الوصي ليتولى تفرقته.
وإن أوصى المولى أن يقضى دينه من مال الكتابة، فإن كان الدين لرجل معين.. فالأولى أن يدفعه إليه. وإن دفعه إلى الوصي أو إلى الوارث.. جاز. وإن لم يوص به، بل كان عليه دين يحيط بماله.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إليه المال إلا بحضرة الوارث والوصي. فإن دفعه إلى أحدهما.. لم يبرأ؛ لأن لكل واحد منهما فيه حقا، فحق الوارث: أن يأخذه ويقضي الدين من عنده، وللوصي حق، وهو: منع الورثة من التصرف في التركة حتى يقضي الدين.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق(8/516)
[كتاب عتق أمهات الأولاد](8/517)
كتاب عتق أمهات الأولاد إذا علقت الأمة من سيدها بحر في ملكه.. ثبت لها حكم الاستيلاد.
وقال المزني: قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في خمسة عشر كتابا بعتق أمهات الأولاد، ووقف في غيرها.
فقال البغداديون من أصحابنا: لا يختلف مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز بيع أم الولد ولا هبتها، ولا تورث عنه، بل تعتق بموته من رأس المال) . وبه قال عمر وعثمان وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو قول عامة الفقهاء.
وأما توقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن بيعها.. فإنما ذلك لينبه على أن في بيعها خلافا.
وروي عن على، وابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يجوز بيعها) . وبه قال داود والشيعة.(8/519)
وحكى الخراسانيون من أصحابنا: أن ذلك قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وليس بمشهور.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما أمة ولدت من سيدها.. فهي حرة عن دبر منه» .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أم الولد: "لا تباع، ولا توهب، ولا تورث يستمتع بها مدة حياته، فإذا مات عتقت» .
إذا ثبت هذا: فلا يصح هبتها ولا رهنها، وهل تصح كتابتها؟ فيه وجهان:
قال ابن القاص: لا يصح؛ لأنه عقد على رقبتها، فأشبه البيع والرهن والهبة.
وقال أكثر أصحابنا: يصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه إذا استولد المكاتبة.. صارت أم ولد، والكتابة بحالها) ، ولأنه يملك كسبها، فإذا اعتقها على بعضه.. جاز.
إذا تقرر ما ذكرناه ... ففي الاستيلاد ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا علقت الأمة بحر من سيدها في ملكه.. فإنها تصير أم ولد له في الحال إلا في مسألة واحدة وهي: إذا أحبل الراهن الجارية المرهونة بغير إذن المرتهن.. فإنها في أحد القولين تباع لحق المرتهن وإن كانت قد علقت بحر من سيدها في ملكه.(8/520)
الثانية: إذا علقت بولد ممولك. فإنها لا تصير أم ولد إلا في مسألة واحدة وهي:
إذا وطئ المكاتب أمته، فحبلت منه، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد ولا يجوز له بيعها، بل تكون موقوفة على عتقه، فإن عتق بالأداء.. عتقت بموته، وإن رق.. رقت؛ لأنها أتت منه بولد في ملكه وهذا الولد موقوف على حريته، فكذلك الأم.
والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها أتت منه بولد مملوك.
وإن تزوج أمة فأحبلها واشتراها وهي حامل منه فوضعت عنده.. عتق الولد، ولا تصير أم ولد له. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (تصير أم ولد له) .
وقال مالك: (إن اشتراها حاملًا ووضعت عنده.. صارت أم ولد له، وإن اشتراها بعدما ولدت.. لم تصر أم ولد له) .
دليلنا: أنها علقت منه بمملوك، فلا يثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو زنى بها.
المسألة الثالثة: إذا علقت منه بحر في غير ملك، مثل: أن يطأها بشبهة.. فإنها لا تصير أم ولد له في الحال؛ لأنها ليست بمملوكة له، فإن ملكها بعد ذلك، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت بحر منه فهو كما لو علقت منه في ملكه.
والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو علقت منه في زوجية أو زنى بها.
[مسألة ما يصيرالأمة أم ولد]
مسألة: (ما يصير الأمة أم ولد) : وأما الكلام في بيان ما تصير به أم ولد: فإنها إن ولدت ولدًا مصورًا حيًا أو ميتًا.. فإنها تصير أم ولد، ويحب به الغرة على الضارب إذا أسقطته من ضربه، وتجب به الكفارة، وتنقضي به العدة. وإن وضعته وهو غير مصور تام إلا أنه بان فيه صورة الآدمي، كظفر أو شعر.. كان حكمه حكم الولد التام الخلقة، فتتعلق به الأحكام الأربعة.(8/521)
وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولكن عرض على أربع نساء ثقات من القوابل فشهدن أن فيه تخطيطًا باطنًا لا يشاهده إلا أهل الصنعة.. فحكمه حكم الولد، فتتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأنهن من أهل المعرفة بذلك، فهو كما لو كان فيه تخطيط ظاهر.
وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولا شهدت القوابل أن فيه تخطيطًا باطنا، لكن شهدن أن هذا لو بقي لتخطط وأنه مبتدأ خلق آدمي.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر " ما يدل على أنها لا تصير به أم ولد؛ لأنه قال:
(إذا ولدت ما يتبين أنه من خلق الآدمي عينًا أو ظفرًا أو إصبعًا.. فهي أم ولد) .
وقال في كتاب (العدد) : (تنقضي به العدة) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم الولد، فيتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأن القوابل قد شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فأشبه إذا شهدن أنه تخطط.
والثاني: لا يتعلق به شيء من أحكام الولد؛ لأنه لم يتبين فيه صورة الآدمي، فأشبه الدم والماء.
ومنهم من قال: لا تصير به أم ولد، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، ولكن تنقضي به العدة؛ لأن القصد معرفة براءة رحم المعتدة، وذلك يحصل به. وسائر الأحكام إنما تثبت لحرمة الولد ولا حرمة لابتدائه.
وتعتق أم الولد بموت سيدها من رأس المال، سواء استولدها في صحته أو في مرض موته؛ لأن الإحبال إتلاف فيما طريقه الالتذاذ.. فاعتبر ذلك من رأس المال، كما لو أتلف شيئًا من ماله في مأكوله وملبوسه.(8/522)
[مسألة حكم أم الولد كالقنة]
) : ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنها لا تخالف الأمة، غير أنها لا تخرج من ملكه) .
وجملة ذلك: أن حكم أم الولد حكم الأمة القنة.. فيجوز للسيد وطؤها واستخدامها وإجارتها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له إجارتها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر، ولأنه يملك استخدمها، فملك إجارتها، كالمدبرة.
وهل يجوز تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأنها أمة يملك الاستمتاع بها، فملك تزويجها، كالمدبرة، فعلى هذا: له إجبارها على النكاح.
والثاني: يصح تزويجها برضاها، ولا يصح بغير رضاها؛ لأنها أمة ثبتت لها الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله فهي كالمكاتبة وفيه احتراز من المدبرة.
والثالث: لا يصح تزويجها بحال؛ لأنها ملك السيد قد ضعف في حقها وهي لم تكمل، فلم يكن له تزويجها، كالأخ لا يزوج أخته الصغيرة لضعف ولايته؛ لأنها لم تكمل.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجوز للحاكم تزويجها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي إسحاق، وأبي سعيد الإصطخري؛ لأن تزويجها من طريق الحكم، والحاكم يملك بالحكم ما لا يملكه الولي، بدليل: أن الحاكم يجوز له تزويج الذمية، ولا يجوز للمسلم تزويد الذمية بولاية القرابة.
فعلى هذا: لا يصح إلا برضا المكاتب؛ لأنه يملك الاستمتاع بها، وبتزويجها(8/523)
يحرم عليه استمتاعها، ويجب لها المهر ورضاها؛ لأن الاستمتاع لها.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يصح؛ لأن الحاكم ينوب عنهما وهما لا يملكان النكاح بأنفسهما، فلم يجز أن ينوب الحاكم عنهما. والأول أصح.
[مسألة منزلة ولد أم الولد بمنزلتها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولد أم الولد بمنزلتها، يعتقون بعتقها) .
وجملة ذلك: أن أم الولد إذا أتت بولد من نكاح أو زنى.. ثبت له ما لها من حرمه الاستيلاد، فإن مات السيد.. عتقت وعتق ولدها؛ لأن الولد يتبع أمه في رقها وحريتها حال ولادتها، فيتبعها أيضا في حكم الاستيلاد؛ لأنه سبب مستقر للحرية، فجرى مجرى الحرية.
فإن ماتت الأم قبل موت سيدها.. ماتت رقيقة؛ لأنها إنما تعتق بموت سيدها، فإذا ماتت قبله.. ماتت رقيقة، كالمدبرة، ولا يبطل ما ثبت للولد من حرمة الاستيلاد، بل يعتق بموت سيده؛ لأنه ثبت له حق مستقر بحياة الأم، فلا يسقط بموتها، كالحرية.
[فرع ملك الرحم المحرمة لا يحل وطأها]
) : وإذا ملك الرجل أخته من النسب أو الرضاع، أو عمته أو خالته، أو ملك المسلم أمة مجوسية.. فلا يحل له وطؤها.
فإن خالف ووطئها وأحبلها.. فلا خلاف أن الولد ينعقد حرًا ويلحقه نسبه، وتصير الجارية أم ولد له وتعتق بموته؛ لأنها مملوكته. وإنما حرم عليه وطؤها، للقرابة أو لكونها مجوسية، فهو كما لو وطئ أمته الحائض. فإن كان جاهلًا بالتحريم.. فلا حد عليه ولا تعزير، وإن كان عالمًا بالتحريم.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان:(8/524)
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، فهو كما لو وطئ أمته وهي حائض. فعلى هذا: يعزر.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنه وطئ امرأة لا يحل له وطؤها بحال مع العلم بتحريمها، فهو كما لو وطئ أجنبية منه، وإن ملك الكافر أمة كافرة فأسلمت، فوطئها قبل أن يزال ملكه عنها وأحبلها.. فحكمه حكم المسلم إذا وطئ أخته وهي في ملكه، على ما مضى.
فإذا صارت أم ولد له.. فرق بينه وبينها، وتركت على يد امرأة ثقة، وأمر بالإنفاق عليها إلى أن يموت فتعتق.
وإن كان لليهودي أو النصراني أمة يحل له وطؤها، فاستولدها.. ثبت لها حرمة الاستيلاد وهي مقرة تحت يده، كأم ولد المسلم. فإن أسلمت قبل موته.. لم تقر تحت يده؛ لأنه لا يحل له وطؤها، ولا يؤمر بإزالة ملكه عنها؛ لأنه قد ثبت لها حكم الحرية بالاستيلاد، فلا يجوز إبطال ذلك عليها.
فعلى هذا: تترك على يد امرأة ثقة، فإن كان لها صنعة.. أمرت بها، وما كسبت.. أنفق عليها منه، وما بقي من كسبها.. يكون لسيدها. وإن لم يف كسبها بنفقتها أو لم يكن لها كسب.. وجب على المولى نفقتها؛ لأنها في ملكه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (تستسعي في قيمتها) . وعن مالك روايتان:
إحداهما: (تعتق ولا شيء عليها) .
والثانية: (تباع) .
فأما الدليل على إبطال الاستسعاء: فقد مضى في العتق.
وأما الدليل على مالك: فلأنه إسلام من الأمة، فلا يوجب عتقها، كأمة الكافر إذا دبرها.(8/525)
[مسألة جناية أم الولد قبل موت السيد]
) : إذا جنت أم الولد على غيرها قبل موت سيدها، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يقتص وبين أن يعفو، كما قلنا في غيرها.
وإن كانت الجناية خطأ أو عمدًا وعفا على مال.. لزم المولى أن يفديها؛ لأنه منع من بيعها، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها، فلزمه الضمان، كما لو جنى العبد على غيره ثم قتله قاتل، ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمتها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن بيعها، بخلاف العبد القن في أحد القولين.
فإن جنت، ففداها السيد، ثم جنت ثانيًا.. ففيه قولان:
أحدهما: يلزم المولى أن يفدي الجناية الثانية بأقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجارية، وهو اختيار المزني؛ لأنه مانع بالإحبال من بيعها عند الجناية الثانية، كما أنه مانع من بيعها عند الأولى، فلزمه الفداء للثانية، كالأولى.
فعلى هذا: يلزمه الفداء لكل جناية جنتها.
والثاني لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمتها أو أروش الجنايات كلها؛ لأنه منع من بيعها بالإحبال، والإحبال إنما وجد منه دفعة واحدة، فلم يلزمه إلا فديه واحدة للجنايات كلها، كما لو جنى العبد جنايات، ثم قتله آخر.
فعلى هذا: إن كان المولى قد دفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول.. فإن المجني عليه الثاني والثالث يشاركان المجني عليه الأول فيما أخذ منه من القيمة على قدر جناياتهم؛ لأنه لا يلزم المولى أكثر من القيمة، وقد دفعها.
فإن كان المولى لم يدفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول، فإن كان أرش الثاني مثل البقية التي بقيت على المولى من قيمة الجارية.. دفع المولى ما بقي عليه من القيمة إلى الثاني. وإن كان أرش الجناية الثانية أكثر من بقية القيمة على المولى.. ضمت بقية(8/526)
القيمة على المولى إلى ما أخذه المجني عليه الأول من القيمة، وقسمت القيمة على المجني عليهما على قدر أرشهما.
[مسألة ملك الولد الأمة يحرم على الأب وطأها]
) : إذا ملك الرجل أمة.. لم يحل لأبيه وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] (المعارج: 29 ـ 30) .
وأمة الابن ليست بزوجة للأب ولا ملكًا له، فإن خالف الأب ووطئها.. فقد فعل فعلًا محرمًا، فإن لم يحبلها.. فالكلام في ثلاثة مواضع، في الحد، والمهر، والقيمة:
فأما (الحد) : فإن كان الابن لم يطأها.. لم يجب على الأب الحد؛ لأن له في مال الابن شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» .(8/527)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أولادكم من كسبكم، فكلوا من أطيب كسبكم» .
وإذا كان له شبهة في مال الابن.. لم يجب عليه الحد بوطء جاريته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» .
فإن كان الابن قد وطئها قبل ذلك.. فهل يجب الحد على الأب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنها صارت محرمة على الأب بوطء الابن على التأبيد، فوجب عليه الحد بوطئها، كما لو وطئ امرأة ابنه.
قال الشيخ أبو حامد: ويشبه أن يكون هذان الوجهان مبنيين على القولين فيمن ملك أخته فوطئها.(8/528)
وأما (المهر) : فكل موضع قلنا: لا يجب على الأب الحد، فإن كان الابن لم يطأها أو كان قد وطئها وقلنا: لا حد على الأب بوطئها.. وجب على الأب المهر بوطئها؛ لأنه وطء يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب فيه المهر، كالوطء في النكاح الفاسد.
وكل موضع قلنا: يجب الحد على الأب.. نظرت: فإن كان أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب المهر على الأب؟
حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين:
المنصوص: (أنه لا يجب) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» (والبغي) : الزانية. قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] (مريم: 28) .
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه المهر؛ لأن المهر للسيد، فلم يسقط ببذل الأمة.
وأصحابنا الخراسانيون: يحكونهما قولين:
وأما (قيمة الجارية) : فإنها لا تجب على الأب؛ لأنه لم يتلفها.
فإن قيل: فقد صارت محرمة بالوطء على الابن.. قلنا: إذا لم يحصل نقص في عينها ولا في قيمتها.. لم يجب ضمانها: لأنها تحل لغيره.
وأما إذا أحبلها الأب.. فالكلام في الحد والمهر على ما مضى، والولد حر ثابت النسب من الأب.
وهل تصير الجارية أم ولد له؟(8/529)
قال القفال: لا تصير أم ولد له قولًا واحدًا.
وقال الشيخ أبو حامد: هل تصير الجارية أم ولد له؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصير أم لد له، وهو اختيار المزني؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو وطئ أمة بالنكاح فولدت منه.
والثاني: أنها تصير أم ولد له.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأنها علقت منه بحر بحق الملك، فثبت لها حرمة الاستيلاد، كما لو كانت في ملكه.
فإذا قلنا: لا تصير أم ولد له.. فلا يجوز للابن بيعها ولا هبتها ما دامت حاملًا؛ لأنها حامل بحر.
وللابن أن يطالب الأب بقيمة الجارية؛ لأنه حال بينه وبين جاريته، فهو كما لو غصب منه جارية وأبقت منه، فإذا وضعت.. رد الابن القيمة التي أخذ من الأب إليه؛ لأن الحيلولة قد زالت.
وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: ليس له مطالبته بالقيمة، لأن الابن يقدر على الانتفاع بها بالاستخدام والإجارة.
والأول هو المشهور.
فإذا وضعت الجارية الولد.. وجب على الأب للابن قيمة الولد يوم الوضع؛ لأنه كان في سبيله أن يكون مملوكًا، وقد حال الأب بين الابن وبين رقه.
فإن ملك الأب الجارية بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة فحملت منه، ثم ملكها.
وإذا قلنا بالقول الآخر: وأنها تصير أم ولد للأب.. لزمه أن يغرم للابن قيمة الجارية في الحال، سواء كان الأب موسرًا أو معسرًا. بخلاف الشريك في الجارية إذا استولدها، فإنه لا يلزمه قيمة نصيب شريكه فيها إذا كان معسرًا؛ لأنا نجعل الجارية أم(8/530)
ولد للشريك نظرًا للشريك، ولا نظر له عند إعسار الشريك، وهاهنا نجعلها أم ولد له نظرًا للأبوة، والأبوة موجود في الحالين، ولا يلزم الأب قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه.
[فرع ملك الأب الأمة يحرمها على ولده]
) : إذا ملك الرجل جارية.. لم يحل لولده وطؤها؛ لأنها ليست بزوجة له ولا ملك.
فإن خالف الابن ووطئها، فإن كان عالمًا بالتحريم.. فعليه الحد بوطئها. فإن أكرهها على الوطء، فعليه المهر للأب. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان:
المنصوص: (أنه لا يجب) فإن أتت منه بولد.. لم يلحقه نسبه؛ لأنه زان، والزاني لا يلحقه النسب، ويكون الولد مملوكًا للأب.
وإن كان الابن جاهلًا بالتحريم، بأن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية.. لم يجب عليه الحد؛ لأن ذلك شبهة توجب سقوط الحد، ويجب عليه المهر.
قال الشيخ أبو حامد: ويكون الولد مملوكًا للجد؛ لأنها علقت به في غير ملك ولا شبهة ملك، ويعتق على الجد؛ لأنه ابن ابنه، ولا يجب على الابن قيمته؛ لأنه إنما عتق على الأب بملكه له لا بفعل الابن، فلم يلزمه قيمته، ولا تصير الجارية أم ولد للابن بلا خلاف؛ لأنه لا ملك له فيها ولا شبهة ملك.
وبالله التوفيق(8/531)
[باب الولاء]
الأصل في ثبوت الولاء: قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] (الأحزاب: 5) .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب» .
فإذا أعتق الرجل عبدا أو أمة عتقًا منجزًا، أو علق عتقه بصفة فوجدت الصفة، أو دبره، أو كاتبه فعتق عليه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» .(8/532)
وكذلك إذا استولد الرجل جارية فمات قبلها.. عتقت عليه وثبت له عليها الولاء؛ لأنها عتقت عليه بالاستيلاد، فهو كما لو باشر عتقها.
[مسألة الولاء لسائل العتق عنه]
) : إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك عني على مائة درهم، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وكانت عليه المائة، وثبت الولاء للسائل؛ لأنه عتق عنه بعوض، فهو كما لو اشتراه وأعتقه.
وإن قال: أعتق عبدك عني، فأعتقه المولى عنه.. عتق عن السائل، وكان الولاء للسائل، كما لو اتهبه وأعتقه.
وإن قال: أعتق عبدك على مائة ولم يقل: عني، فقال المولى: هو حر.. عتق العبد، واستحق مولاه المائة على السائل. وفي ولاء العبد وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: أنه للسائل؛ لأنه أعتقه بعوض بذله عن العبد المعتق، فوجب أن يكون العتق عمن عليه العوض والولاء له، كما لو قال: أعتق عبدك عني.
والثاني: يكون الولاء للمعتق دون السائل؛ لأنه لم يطلب العتق عن نفسه، فهو كما لو قال له: أعتق عبدك ولم يبذل له عوضًا، ويكون بذل العوض هاهنا لافتداء العبد دون استحقاق الولاء، كما لو قال: طلق امرأتك على مائة.
وإن قال: أعتق أم ولدك هذه على مائة درهم، فقال المولى: هي حرة.. عتقت، واستحق مولاها المائة على الباذل لها، وكان ولاؤها للمعتق، ولا يختلف أصحابنا في ذلك؛ لأن نقل الملك فيها لا يصح، وإعتاقها تعجيل للعتق المستحق بالإحبال، وبذل المائة لافتدائها.
وإن قال: أعتق أم ولدك عني على مائة درهم، أو لك مائة، فقال: هي حرة.. عتقت، ولم يستحق المولى المائة على الباذل؛ لأنه بذلها ليكون العتق عنه، والعتق هاهنا عن المعتوق والولاء له، فلا يستحق عليه عوضًِا.(8/533)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال رجل لعبده: أنت حر عن فلان، ولم يأمره بالحرية، وقبل المعتق عنه ذلك بعد العتق أو لو لم يقبله.. فسواء، وهو حر عن نفسه لا عن الذي أعتقه عنه، وولاؤه له؛ لأنه أعتقه) .
[فرع لمن الولاء لو كان المشتري العبد نفسه]
) : وإن باع الرجل عبده من نفسه، وقلنا: يصح.. فإنه يعتق عليه، وفي ولائه وجهان:
أحدهما: أن الولاء يكون لسيده الذي باعه؛ لأنه لم يثبت عليه رق غيره.
والثاني: لا ولاء عليه لأحد؛ لأنه لم يعتق عليه في ملكه، والعبد لا يملك الولاء على نفسه، فلم يكن له عليه ولاء.
وإذا ملك الحر أحد والديه أو مولوديه.. عتق عليه، وثبت له عليه الولاء؛ لأنه عتق عليه فثبت له الولاء عليه، كما لو باشر عتقه.
[مسألة الولاء للمسلم في عتقه الكافر]
) : وإن أعتق مسلم عبدًا كافرًا.. ثبت له الولاء عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . فشبه الولاء بالنسب، والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء، ولكن لا يرثه المولى. وقال الثوري: يرثه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتوارث أهل ملتين» .(8/534)
وإن أعتق كافر عبدًا مسلمًا.. ثبت له عليه الولاء ولا يرثه.
وقال مالك: (لا يثبت له عليه الولاء) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء.
[فرع يبقى ولاء العتق ولو صار حربيًا]
) : وإن أعتق المسلم عبدا نصرانيًا، فلحق النصراني بدار الحرب، فسبي.. لم يجز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت للمسلم من الولاء عليه.
فإن أعتق ذمي عبدًا ذميًا، فلحق العبد المعتق بدار الحرب ثم سبي.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت لمولاه من الولاء، وقد أمرنا بحفظ أموالهم كأموالنا.
والثاني: يجوز استرقاقه؛ لأن السيد لحق بدار الحرب.. لجاز استرقاقه، فكذلك عبده.
[فرع عتق حربي لحربي يثبت له الولاء]
وإن أعتق حربي عبدًا حربيًا.. صح عتقه، وثبت له عليه الولاء.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح عتقه، ولا ولاية له عليه، وله أن يوالي من شاء) .
دليلنا: أن كل من صح عتقه في عبده المسلم.. صح عتقه في عبده الكافر، كالمسلم. وإذا صح عتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وهذا معتق.(8/535)
[مسألة الولاء للمعتق]
ولا يثبت الولاء لغير المعتق، فإن أسلم رجل على يد رجل.. لم يثبت له عليه الولاء.
وقال إسحاق بن راهويه: يثبت له عليه الولاء.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فدل على أنه لا ولاء لغير المعتق.
وإن التقط رجل لقيطًا.. لم يثبت له عليه الولاء.
وحكى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للذي التقط لقيطًا: (لك ولاؤه، وعلينا رضاعه) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، وما روي عن عمر.. فيحتمل أنه أراد بذلك ولاء حضانته.
[فرع أعتق سائبة فله ولاؤه]
) : وإن أعتق عبدًا سائبة.. عتق، وكان ولاؤه له. وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يعتق، ولا يكون له ولا عليه ولاؤه، وإنما نكون ولاؤه للمسلمين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ} [المائدة: 103] (المائدة: 103) .
وقيل: إن المراد به: ما كانوا يعتقونه من السوائب.
ولأن عتقه صادف ملكه، فكان الولاء له، كما لو أطلق.(8/536)
إذا ثبت هذا: فإذا قال لعبده: أنت سائبة.. كان ذلك كناية في العتق، فإن نوى به العتق.. عتق، وإن لم ينو به العتق.. لم يعتق.
[فرع لا يباع الولاء يوهب]
ولا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب» .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الولاء وعن هبته» .
ولأن الولاء كالنسب، والنسب لا يصح بيعه ولا هبته، فكذلك الولاء.
[مسألة ثبوت الميراث للمولى المعتق]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لم يكن له عصبة برحم ترث.. فالمولى المعتق) .
وجملة ذلك: أن الولاء يورث به؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به، فكذلك الولاء.
وروى واثلة بن الأسقع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» .(8/537)
فنص: على أن المرأة عتيقها لينبه بها على الرجل؛ لأن الرجل قد يرث بجهة ولا ترث بها المرأة؛ فإذا كانت المرأة ترث عتيقها.. فالرجل بذلك أولى.
وأما قوله: (ولقيطها) فيحتمل أنه أراد أنها تحوز ميراثها منه إذا ادعت نسبه.
إذا ثبت هذا: فإن الولاء مؤخر عن النسب.
فإذا أعتق الرجل عبدًا ثم مات العبد، فإن كان له عصبة من النسب.. كان أحق بميراثه. وإن لم يكن له عصبة.. ورثه المولى المعتق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والمشبه بالشيء أضعف من المشبه به، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وتحريم النسب المشبه به أقوى وآكد.
قال القاضي أبو الطيب: ولأن المسلمين أجمعوا على تقديم الإرث بالنسب، لا نعلم بينهم خلافًا في ذلك.
وإن خلف المعتق من له فرض يستغرق جميع تركته.. قدموا على المولى؛ لأنهم إذا قدموا على العصبة الذين يقدمون على المولى.. فلأن يقدموا على المولى أولى.
وإن خلف من له فرض لا يستغرق جميع التركة، بأن مات وخلف ابنة أو أختًا.. فإن صاحب الفرض يأخذ فرضه والباقي للمولى؛ لما روي: «أن ابنة حمزة أعتقت(8/538)
مملوكًا لها فمات وخلف ابنته وابنة حمزة، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنته النصف، ولابنة حمزة النصف» .
[فرع انتقال الولاء لعصبات المولى]
) : فإن مات العبد المعتق وقد مات مولاه الذي أعتقه.. فإن ولاءه ينتقل إلى عصبة مولاه، فيكون الميراث لهم؛ لأن المولى عصبة، فجاز أن ترث عصباته، كالأخ لما كان عصبة.. ورث عصباته، وهو ابن الأخ، كذلك المولى.
إذا ثبت هذا: فإن الولاء يكون لعصبة المولى دون سائر ورثته؛ لأن الولاء يورث به ولا يورث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث» .
فإذا مات العبد المعتق وخلف ابن مولاه وابنة مولاه، أو أخا مولاه وأخت مولاه.. فإن الميراث يكون لابن المولى دون ابنة المولى، أو لأخ المولى دون أخت المولى. وبه قال كافة أهل العلم إلا شريحًا وطاووسًا فإنهما قالا: لا ميراث بين ابن المولى وابنة المولى، أو بين أخ المولى وأخت المولى.
دليلنا: أن الإرث بالولاء إرث بالتعصيب المجرد دون الرحم، والتعصيب لابن المولى وأخيه دون ابنته وأخته، فإذا اجتمع مع أخته.. لم يعصبها؛ لأن الذكر ـ الابن والأخ ـ إنما يعصب أخته ما دام النسب على قرب، فإذا بعد.. لم يعصبها، ولأن(8/539)
الابن والأخ يعصب أخته في النسب لقربه، وابن الأخ والعم وابن العم لا يعصب أخته لبعده، وابنة المولى وأخته أبعد من ابنة الأخ وابنة العم، فلذلك لم ترث.
وإن اجتمع ابن مولى وابن مولى.. فإن الميراث لابن المولى دون ابن ابن المولى. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال شريح وطاووس: يكون المال بينهما نصفين.
دليلنا: ما روى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (الولاء للكبر) . و (الكبر) الأقرب.
ولأن الولاء يستحق بالتعصيب ويستفاد به، ثم الابن يقدم على ابن الابن في الميراث بالنسب، فكذلك في الميراث بالولاء.
فإن لم يكن له ابن مولى.. فابن ابن المولى وإن سفل.
وإن اجتمع ابن مولى وأبو مولى.. فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ (الأول) : مذهبنا: أن الميراث كله لابن المولى دون أبي المولى. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
و (الثاني) : ذهب النخعي والشعبي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق إلى: (أن لأبي المولى السدس، والباقي لابن المولى) .
و (الثالث) : ذهب الثوري إلى: أن المال بينهما نصفين.(8/540)
دليلنا: ما روي: (أن عليًا والزبير اختصما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في مثل هذه القضية، فحكم عمر أن الميراث لابن المولى دون أبي المولى) . وروي ذلك عن زيد بن ثابت.
ولأن الولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، بدليل: أن ابنة المولى وأخته لا يرثان بالولاء، ومعلوم أن الابن والأب إذا اجتمعا.. سقط تعصيب الأب بتعصيب الابن، وإنما يبقى له حق الرحم، والولاء لا يورث به بالرحم.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا بقي أحد من البنين وإن سفل.. فإنه مقدم على الأب، كما قلنا في الميراث بالنسب.
وإن لم يكن هناك أحد من بني المولى وهناك أبو المولى.. كان الولاء له؛ لأنه ليس هناك أحد من العصبات أقرب منه؛ لأن باقي العصبات ـ غير البنين ـ يدلون بالأب، فكان مقدمًا عليهم.
فإن لم يكن أبو المولى.. نظرت:
فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من بينهم، وهناك جد مولى.. قدم على عم المولى؛ لأنه أقرب منه؛ لأن العم يدلي بالجد والمدلى به أقرب ممن يدلي به، ثم أبو جد المولى، ثم جد جد المولى. ويقدم الجد على أعمام المولى وبنيهم.
وإن لم يكن هناك جد المولى ولا أحد من آبائه، وهناك أخو المولى لأبيه وأمه، أو لأبيه.. فإن الولاء له دون عم المولى؛ لأن الأخ أقرب من العم؛ لأنه يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد.
فإن اجتمع أخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب.. فالمشهور من المذهب: أن أخا المولى لأبيه وأمه مقدم على أخي المولى لأبيه، كما قلنا في الميراث في النسب.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:(8/541)
أحدهما: هذا.
والثاني: أنهما سواء؛ لأن الأم لا ترث بالولاء، فلا يرجح بها.
وإن اجتمع أخو مولى لأب وابن أخي مولى لأب وأم ... فأخو المولى للأب أولى؛ لأنه أقرب.
وإن اجتمع ابن أخي مولى لأب وأم وابن أخي مولى لأب، فإن قلنا: إن أخا المولى للأب والأم مقدم على أخي المولى للأب.. قدم ابن أخي المولى للأب والأم على ابن أخي المولى للأب.
وإن قلنا: إن الأخوين سواء.. كان ابناهما سواء أيضاً. وأما أخو المولى لأمه: فلا ولاء له: لأن الولاء يستحق بالتعصيب، ولا تعصيب له.
وإن اجتمع جد مولى وأخو مولى.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما سواء. وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق؛ لأن هذا كميراث المال، ثم ثبت أنهما في ميراث المال سواء، فكذلك في الميراث بالولاء.
والثاني: أن الأخ يقدم على الجد.
قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور من المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (القياس يقتضي: أن الأخ أولى بالميراث من الجد وتعصيبه أقوى؛ لأنه ابن أبي الميت والجد أبو أبي الميت، وتعصيب البنوة أقوى من تعصيب الأبوة) غير أن الصحابة أجمعت في الميراث بالنسب على أن الأخ لا يقدم، بل منهم، بل منهم من قال: الجد أولى. ومنهم من جعلهما سواء، فتركنا القياس لهذا الإجماع.
وأما الولاء: فلا إجماع فيه عن الصحابة، فاستعملنا القياس فيه، فإذا قلنا: إنهما سواء فاجتمع جد وإخوة.. قاسموه على عدد رءوسهم.(8/542)
وإن اجتمع جد مولى، وأخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب، وقلنا: إن الأخ للأب والأم، يقدم على الأخ للأب إذا اجتمعا.. فإن المال يكون بين جد المولى وأخي المولى لأبيه وأمه، ولا يعاد الجد بالأخ للأب.
وقال أبو العباس ابن سريج: فيه نظر.
وإن اجتمع جد مولى وابن أخي مولى، فإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى يقتسمان المال.. قدم جد المولى على ابن أخي المولى؛ لأنه أقرب منه. وإن قلنا: إن أخا المولى يقدم على جد المولى. قدم ابن أخي المولى على جد المولى.
وإن اجتمع جد مولى وعم مولى.. قدم الجد قولاً واحداً؛ لأن العم يدلي بالجد، فكان أقرب منه.
فإن اجتمع جد أبي مولى وعم مولى.. فعلى القولين في الجد والأخ، فإن قلنا: إن أخا المولى أولى من جد المولى.. قدم عم المولى وبنوه على جد أبي المولى. وإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى سواء.. كان جد أبي المولى وعم المولى سواء.
فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من أجداد المولى، وهناك أحد من أعمام المولى.. كان الولاء له، ثم ينتقل إلى بنى أعمام المولى، الأقرب فالأقرب.
فإن لم يكن هناك مولى ولا عصبة مولى، وهناك مولى مولى.. كان الولاء له، ذكرا كان أو أنثى؛ لأن النعمة متصلة به؛ لأنه: لولا النعمة على الأول بالعتق.. لم يحصل منه النعمة على غيره.
فإن كان مولى المولى قد مات.. كان الولاء لعصبة مولى المولى، يقدم الأقرب فالأقرب منهم، كما قلنا في عصبة المولى.
فإن لم يكن للميت مولى مولى ولا عصبة مولى مولى، ولكن كان هناك مولى لمولى المولى.. كان الولاء له؛ لما ذكرناه في مولى المولى، ثم ينتقل الولاء بعد موت مولى مولى المولى إلى عصبته، الأقرب فالأقرب.
وإن لم يكن للميت عصبة ولا له مولى باشر عتقه، ولكن هناك مولى لعصبة هذا الميت.. نظرت:(8/543)
فإن كان مولى لمن هو في درجته من عصبته كمولى أخيه، أو مولى من هو أسفل منه كمولى ابنه أو ابن ابنه.. لم يرث المولى هذا الميت.
وإن كان مولى أبيه أو مولى جده.. ورثه؛ لأن المنعم على أبيه وجده منعم عليه، وليس من أنعم على أخيه أو ابنه منعما عليه.
وهكذا: إن لم يكن للميت عصبة، ولا مولى عصبة، ولا مولى مولى، ولكن خلف مولى لعصبة مولى، أو مولى عصبة مولى مولى، فإن كان ذلك العصبة الذي له المولى أبا أو جداً لمولاه.. ورث ذلك المولى، وإن كان ذلك العصبة ابنه أو ابن ابنه أو أخاه.. لم يرث ذلك المولى؛ لما ذكرناه من الفرق.
فإن أعتق رجل عبداً، أو أعتق آخر أباه وأعتق آخر جده، ثم مات المعتق الأسفل.. ورثه عصبته من مناسبيه، فإن لم يكن له عصبة.. فميراثه لمولاه الذي أعتقه، ثم لعصبة مولاه، ثم لمولى مولاه، ثم لعصبة مولى مولاه، فإن انقرضوا.. قال القاضي أبو الطيب: فإن ماله ينتقل إلي بيت المال، ولا ينتقل إلى مولى أبيه ولا إلى مولى جده؛ لأنه إذا كان عليه ولاء لمعتق باشر عتقه.. لم يثبت عليه ولاء لموالي أبيه ولا لموالي جده، وإنما يثبت عليه الولاء لموالي أبيه.. إذا لم يكن عليه ولاء في نفسه لمن باشر عتقه.
[فرع الولاء ينقسم على العصبات]
) : قد ذكرنا أن الولاء للكبر من العصبة، وهو الأقرب.
قال أبو العباس: فإن أعتق رجل عبداً، ثم مات السيد وخلف ثلاثة بنين، ثم مات أحد البنين الثلاثة وخلف ابناً، ثم مات الثاني وخلف أربعة بنين، ومات الثالث وخلف خمسة بنين، ثم مات العبد المعتق ولا مناسب له.. كان ماله بين العشرة، لكل واحد العشر منه.(8/544)
ولو ظهر لجدهم مال لم يقتسمه أولاده الثلاثة.. كان للذي هو ابن وحده: الثلث، وللأربعة: الثلث، وللخمسة: الثلث.
والفرق بينهما: أنهم يتلقون الإرث بالولاء عن جدهم وهم متساوون في الإدلاء إليه، ويتلقون الإرث بالنسب عن آبائهم، وقد كان كل واحد من الثلاثة الأولاد ملك ثلث مال المعتق، فانتقل ما ملكه كل واحد منهم إلى أولاده.
[فرع يمنع الأسفل الأعلى]
المولى من أسفل لا يرث المولى من أعلى. وبه قال كافة أهل العلم.
وروي عن طاووس وشريح: أنهما قالا: إذا لم يكن للميت عصبة ولا مولى من أعلى ولا عصبة مولى.. ورثه المولى من أسفل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فجعل الولاء للمنعم لا للمنعم عليه.
[مسألة الولاء لمولى الأم المعتقة]
) : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولد منها ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً تبعاً لحرية أمه، ويكون ولاء هذا الولد لمولى أمه ما دام الأب مملوكاً؛ لأنه إنما صار حراً لحرية أمه وقد عتقت بإعتاق سيدها لها، فكان إنعامه عليها إنعاماً منه على ولدها.
فإن أعتق الأب والولد حي.. فإن ولاء الولد ينجر عن مولى أمه إلى مولى أبيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقول السلف في هذا: (ينجر الولاء) مجاز؛ لأن الولاء لا ينجر، وإنما يبطل الولاء الذي عليه لمولى الأم، ويثبت عليه الولاء لمولى الأب بإعتاقه الأب. وبهذا قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن الزبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق.
وذهب عكرمة ومجاهد والزهري: إلى أن الولاء لا ينجر عن مولى الأم بحال.
والدليل على ما قلناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -(8/545)
فروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يجر الأب ولاء ولده إلى مولى نفسه) .
وروى عبد الرحمن بن حاطب: (أن الزبير قدم خيبر فرأى فتية لعساً، فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم، فقيل له: إنهم موال لرافع بن خديج، وأبوهم مملوك لفلان، فمضى واشترى أباهم وأعتقه، ثم قال لهم: انتسبوا إلي فإني مولاكم، فقال رافع بن خديج: هم موالي؛ لأنهم بعتق أمهم عتقوا، فاختصما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بولائهم للزبير، ولم يخالفه أحد) .
والظاهر: أن هذا انتشر في الصحابة ولم ينكره أحد، ولا أظهر رافع بن خديج الخلاف في ذلك، بل سكت، فدل على أنه رجع، وأنه إجماع.
ولأن الولد إنما يتبع الأم في الولاء ما دام الأب مملوكاًً؛ لأنه ليس من أهل الولاية والولاء لكونه رقيقاً، فصار كالولد الذي يأتي به من الزنا.
فإذا أعتق الأب.. تبع الولد الأب؛ لأن الولد يتبع الوالد في النسب دون الأم، بدليل: أن ولد الهاشمي من العامية هاشمي، وولد العامي من الهاشمية عامي.
فإن مات الولد قبل أن يعتق الأب، فإن كان له ورثة من جهة النسب.. ورثوه، وإن لم يكن له ورثة من جهة النسب.. ورثه مولى أمه. فإن أعتق الأب بعد ذلك.. لم(8/546)
يجر ولاء الولد الميت؛ لأن مولى الأم قد ملك ذلك المال، فلا ينتقل عنه؛ لأن الأب إنما يتبعه الأحياء من ولده دون الأموات.
[فرع تزوج معتق معتقة لآخر]
) : فإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لرجل آخر فأولده ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً وولاءه لمولى أبيه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
فإن نفى الأب نسب هذا الولد باللعان.. صار ولاؤه لمولى أمه؛ لأنه إنما يتبع الأب إذا كان مخلوقاً من مائه، وباللعان أثبت أنه ليس بمخلوق من مائه، فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. تبعه الولد، وكان ولاؤه لمولى أبيه؛ لأنه إذا أكذب نفسه.. تبعه الولد، فصار كما لو لم يلاعن.
وإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لآخر، فأولدها ولدين، فنفاهما الأب باللعان، ثم قتل أحد الابنين أخاه الآخر ولا عصبة للمقتول.. كان لأمه الثلث، وما بقي من ماله لمولى أمه. فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. قبل قوله، ولحقه النسب، واسترجع ما أخذه مولى الأم من تركة المقتول؛ لأن نسب المقتول لحقه بإكذابه نفسه. فإن قيل: لا يقبل رجوعه في استحقاقه للمال؛ لأنه متهم.. قلنا: لما قبل قوله في ثبوت النسب منه.. استحق المال، كما لو أكذب نفسه وكان فقيراً محتاجاً، فإنه يلحقه نسب الولد، ويجب على الابن نفقته، ولا يقال: لا يقبل قوله في استحقاقه النفقة لأنه متهم.
[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ففقد ثم عتق]
) : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقه لآخر فأولدها ولداً، ثم فقد الأب، ثم أعتقه السيد.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان:(8/547)
أحدهما: أنه لا يجر ولاء ولده إلى مولى نفسه؛ لأنا لا نعلم أن العتق لحقه.
والثاني: أن ولاء الولد يكون موقوفاً، فإن بان أن الأب كان حياً يوم أعتق.. جر ولاء ولده. وإن بان أنه كان ميتاً، أو مضت مدة لا يعيش مثله إليها قبل العتق.. ثبت ولاء الولد المولى أمه؛ لأنا قد حكمنا بموت الأب قبل العتق.
[فرع تزوج عتيقة لآخر وأبوه مملوك]
] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً، ولهذا الزوج أب مملوك.. فإن الولد حر تبعاً لأمه، وولاؤه لمولى أمه، فإن أعتق أبو الزوج - وهو جد هذا الولد ـ فهل يجر ولاء ولد ولده؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو اختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: أنه يجر ولاء ولد ولده ما دام الأب مملوكاً، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه ينسب إليه كما ينسب إلى الأب، فجر ولاءه كالأب.
فإذا قلنا بهذا: فأعتق الأب بعد ذلك.. جر ولاء الولد عن مولى الجد إلى مولى الأب؛ لأنه أقوى من الجد في نسب الولد وأحكامه.
والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري ـ: أن الجد لا يجر ولاء ولد ولده، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه يدلي إليه بواسطة، فلا يجر ولاءه، كالأخ والعم.
والثالث ـ وهو اختيار ابن اللبان ـ: إن كان الأب حياً.. لم يجر الجد ولاء ولد ولده. وإن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده؛ لأنه إذا كان الأب ميتاً.. استقر جر الجد، وإذا كان حياً.. لم يستقر جر الجد، ولا يجوز أن ينجر الولاء إلى من لا يستقر له عليه.
وقال الشيخ أبو حامد: إن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب حياً مملوكاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان:(8/548)
أحدهما ـ وهو قول مالك ـ: (أنه يجر) .
والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة، وهو الأشبه ـ: (أنه لا يجر) ووجههما ما ذكرناه.
وقال القفال: إن كان الأب حياً.. فإن الجد لا يجر ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب ميتاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان.
[مسألة تزوج بأمة لآخر فأولدها]
] : إذا تزوج عبد لرجل بأمة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد يكون مملوكاً لمالك الأم، فإن أعتق مولى الأمة هذه الأمة وولدها.. ثبت له عليهما الولاء.
فإن أعتق مولى العبد عبده بعد ذلك.. لم يجر ولاء ولده إلى مولاه؛ لأن الأب إنما يجر ولاء ولده إلى سيد نفسه إذا لم يكن قد مس الولدَ الرقُّ بل خلق حراً، وهاهنا قد مسه الرق وأنعم عليه بالعتق مولاه الذي باشر عتقه، فكان مولاه الذي أنعم عليه أحق بولائه ممن أنعم على أبيه.
[فرع تزوج عبد بأمة آخر فعتقت]
وإن تزوج عبد الرجل بأمة لآخر، فأعتق مولى الأمة أمته ولم تختر فراق الزوج، ثم أعتق مولى العبد عبده، ثم أتت الجارية بولد.. فإنه يكون حراً؛ لأنه إن كان موجوداً وقت العتق.. فقد ناله العتق، وإن حدث بعد العتق.. فهو ولد حرة، فكان حراً.
ولمن يكون ولاؤه؟ ينظر فيه:
فإن ولدته لدون ستة أشهر من يوم أعتقت الأم.. كان ولاؤه لمولى أمه؛ لأنا نعلم أنه كان موجودا وقت العتق، وقد ناله العتق من مولى أمه، فهو كما لو أعتقه مولى الأم بعد الانفصال.
فإن ولدته لستة أشهر فصاعداً من يوم عتق الأم وكان الزوج غير ممنوع من وطئها.. فولاؤه لمولى أبيه؛ لأنا لا نعلم أنه كان موجوداً يوم أعتقت الأمة، ويجوز أن يكون العبد حدث بعد ذلك.(8/549)
وإن اختارت فراقه ساعة أعتقت، أو أبانها زوجها، ثم أعتقها سيدها، ثم أعتق الأب، ثم أتت بولد.. فإن الولد يكون حراً؛ لأنه إما أن يكون موجوداً وقت العتق فعتق بالمباشرة، أو حدث بعد العتق من حرة فكان حراً.
إذا ثبت هذا: فإن ولاءه يكون لمولى أمه دون موالي أبيه؛ لأنها إن أتت به لأربع سنين فما دونها من وقت البينونة.. فإنا نلحقه بالزوج ويحكم بوجوده وقت العتق، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت البينونة.. فإنا لا نلحقه بالزوج، وإذا لم يكن ابنا له.. لم يجر ولاؤه إلى مواليه.
[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ثم عتق]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً ثم أعتق الأب.. فقد ذكرنا أن ولاء الولد يكون لمولى أبيه، ثم لعصبة المولى. فإن عدم مولى الأب ومن يرث بسببه من العصبات والموالي.. فإن مال الميت ينتقل إلى بيت المال ولا ينتقل إلى مولى أمه.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (يكون ذلك لمولى أمه) .
دليلنا: هو أنه لا خلاف إذا كان هناك عصبة للميت مناسبين أو عصبة لموالي أبيه.. لم يرث مولى الأم شيئاً. فإذا لم يكن له عصبة مناسبون ولا مولى ولا عصبة مولى.. فالمسلمون عصبته وعصبة مواليه، فكانوا أحق بميراثه من مولى الأم.
[مسألة تزوج من لا ولاء له بمعتقة]
] : وإذا تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة لقوم وأولدها ولداً.. فإن الولد حر لا ولاء عليه لأحد، سواء كان الأب عربي الأصل. أو أعجمي الأصل وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب عربي الأصل.. فلا ولاء على الولد، وإن كان أعجمي الأصل.. ثبت الولاء على الولد لمولى أمه) .
دليلنا: أن استدامة الشيء آكد من ابتدائه، بدليل: أن الردة والعدة ينافيان ابتداء النكاح لضعفه، ولا ينافيان استدامته لقوته، ثم ثبت أن ابتداء حرية الأب تسقط الولاء(8/550)
الثابت لمولى الأم.. فكانت استدامة حريته أولى بأن تمنع الولاء لمولى الأم.
وإن تزوج رجل مجهول النسب، إلا أنه محكوم بحريته في الظاهر بمعتقة لرجل فأولدها ولداً، فهل يكون على هذا الولد ولاء لمولى أمه؟ فيه وجهان:
قال أبو العباس ابن سريج: لا ولاء عليه كالعربي المعروف النسب.
وقال ابن اللبان: ثبت عليه الولاء لمولى أمه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أرأيتم المولاة المعتقة تلد من مملوك أو ممن لا يعرف، أليس يكون ولاء ولدها تبعاً لولائها؟) .
ولو أن حراً حربياً معروف النسب كان تحته حرة معتقه فأولدها ولداً.. فلا ولاء على هذا الولد لمولى أمه؛ لأن أباه حر لا ولاء عليه في الحال، وإن كان يجوز أن يسترق ويعتق.. فيثبت عليه الولاء، إلا أنه في الحال معروف النسب لا ولاء عليه، وكما يجوز أن يسترق.. يجوز أن يموت على كفره قبل الاسترقاق، ويجوز أن يسلم فتستقر حريته.
[فرع تزوج بحرة فأتت بولد فلا ولاء عليه]
] : وإن تزوج عبد لرجل بحرة الأصل فأتت منه بولد. فالولد حر لا ولاء عليه.
فإن عتق الأب بعد ذلك: قال البندنيجي: فإن معتق الأب يكون لهذا الولد مولى عصبة، فيرثه عند عدم ورثته من النسب.
وإن تزوج مولى قوم بحرة الأصل فأتت منه بولد.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت على الولد الولاء لمولى أبيه؛ لأن أحد أبويه حر الأصل، فلم يثبت عليه الولاء، كما لو كان الأب حر الأصل والأم معتقة.
والثاني: أن عليه الولاء لمولى أبيه وهو المنصوص في (البويطي) ؛ لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، كما لو تزوج العامي بهاشمية ... فإن الولد عامي تبعاً لأبيه، فكذلك هذا مثله.
فإن تزوج عبد بحرة معتقة وحرة أصلية، فأولد من الحرة المعتقة ولداً، ثم مات(8/551)
هذا الولد ولا وارث له غير أمه ومولاها.. كان لأمه الثلث ولمولى أمه الثلثان.
فإن ولدت الحرة الأصلية ولداً بعد ذلك، فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين موت الولد الأول.. كان هذا الولد أحق بالثلثين اللذين أخذهما مولى الأم فيسترجع من مولى الأم؛ لأنه عصبة مناسب. وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من حين موت الأول.. لم يسترجع ذلك من مولى الأم؛ لأنه يحتمل أن يكون الثاني موجوداً وقت موت الأول، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك، والأصل عدمه.
[فرع ثبوت الولاء لموالي الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: فإن كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه وجده حرين لم يعتقا، وأمه معتقة، وأم أبيه معتقة، وأم جده معتقة، وأبو جده مملوكاً.. فإن الولاء لمولى أم جده؛ لأن الجد إذا كان أبوه مملوكاً وأمه معتقة.. ثبت عليه الولاء لمولى أمه، وإذا ثبت الولاء على الجد لمولى أمه.. ثبت على أولاده.
فلا يثبت لمولى أم أبيه على أبيه ولاء؛ لأنه تابع لأبيه وهو الجد فيما عليه من الولاء وعلى أولاده.
ولو كان أبو الجد حراً عربياً.. لم يثبت عليه الولاء لمولى أمه، ولا على أولاده وإن سفلوا.
وإن كان حراً مجهول النسب.. كان في ثبوت الولاء عليه لمولى أمه وجهان، مضى توجيههما.
[فرع ثبوت الولاء لمولى الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: وإذا كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأبوا الأم حران معتقان.. كان الولاء عليه لمولى أبي الأم؛ لأن الأم إذا كان(8/552)
على أحد طرفيها ولاء.. يجب أن يكون عليها ولاء مولى أبيها دون ولاء مولى أمها، وإذا ثبت عليها ولاء مولى أبيها.. ثبت ذلك على أولادها وإن سفلوا ما لم يقع فيه حر بإعتاق الأب.
وإن مات رجل حر لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأم الأم حرة معتقة، وأبو الأم حر لم يعتق، وأم أبي الأم حرة معتقة، وأبو أبي الأم مملوك.. ثبت الولاء على الميت لمولى أم أبي أمه؛ لأن أبا الأم إذا ثبت عليه الولاء لمولى أمه.. ثبت ذلك له على أولاده وإن سفلوا. فإذا مات هذا الرجل.. كان ميراثه لمولى أبي أمه دون مولى أم أمه.
ولو كان أبو أبي أمه عربياً.. لم يثبت الولاء عليه لموالي أم أبي أمه.
ولو كان حراً مجهول النسب.. فهل يثبت الولاء على ولده؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
[فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها فولده حر]
] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، ويكون عليه الولاء لمولى أمه.
فإن بلغ هذا الابن ثم اشترى أباه.. عتق عليه، ومن حكم الأب إذا عتق أن يجر ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، واختلف أصحابنا في هذه [على قولين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: إن الأب لا يجر ولاء ولده هاهنا إلى مولاه عن مولى أمه، بل يبقى ولاء مولى أمه عليه، وهو المنصوص؛ لأن الأب لو جر ولاء ولده إلى مولاه.. لجره إلى ولده؛ لأنه مولاه، والإنسان لا يملك الولاء على نفسه، فبقي ولاء مولى الأم كما كان.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الأب يجر ولاء الولد عن مولى أمه ويسقط؛ لأن عتق الأب يسقط الولاء عن مولى الأم.(8/553)
فعلى قول أبي العباس: يكون هذا الولد حراً لا ولاء عليه، وأبواه عليهما الولاء. ويتصور مثل هذا في موضعين:
أحدهما: إذا كان الإنسان كافراً فأسلم بعد بلوغه وله أبوان كافران، فسبيا واسترقا، ثم أعتقا.
والثاني: إذا تزوج عبد بأمة لآخر، وغره وكيل سيدها بحريتها، فأتت منه بولد قبل أن يعلم برقها.. فإنه يكون حراً، ثم أعتق العبد والأمة، فإن هذا الولد يكون حراً لا ولاء عليه، وأبواه موليين.
قال القاضي أبو الفتوح: وهذه المسائل الثلاث لا توجد رابعة في معناهن.
فإن قيل لك: رجلان كل واحد منهما مولى لصاحبه من فوق.. قال أصحابنا: فيتصور ذلك: بأن يعتق الذمي عبداً ثم يلحق السيد بدار الحرب فيسبى، فيملكه عتيقه ويعتقه فيثبت لكل واحد منهما على صاحبه الولاء وأيهما مات.. ورثه الآخر.
ويتصور أيضاً: إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد حر، وولاؤه لمولى أمه.
فإن اشترى هذا الولد عبداً فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لأنه أعتقه. فإن اشترى هذا العبد المعتق أبا سيده فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء، وجر الأب ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، ومولى الأب هو عتيق ولده، فيكون كل واحد منهما مولى لصاحبه من أعلى، فإن مات العبد المعتق.. فماله للابن. وإن مات الأب ثم مات الابن.. فماله لمعتق أبيه وهو مولاه.
فإن مات معتق الأب بعد ذلك، فإن قلنا بقول أبي العباس: إن الولد الذي إذا اشترى أباه أسقط ولاء مولى أمه عن نفسه.. فمال معتق الأب لبيت المال ولا يرثه مولى أم الابن؛ لأن ولاءه قد انتقل عنه.
وإن قلنا بالمنصوص، وأن الولد إذا اشترى أباه لا يسقط ولاء مولى أمه عن(8/554)
نفسه.. فإن مال معتق الأب هاهنا لمولى أم الابن؛ لأن الأب يجر ولاء ابنه إلى معتقه ثم إلى عصبته بعده، فإذا لم تكن عصبة.. كان الابن هو وارثه لو كان حياً؛ لأنه معتقه. فإذا كان ميتاً.. ورثه مولى أمه.
[فرع تزوج بمعتقة فأتت ببنت ثم تزوجها آخر]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه ببنت، ثم تزوج هذه البنت عبد لآخر فأولدها ولداً، ثم مات هذا الولد.. ورثت منه الأم ميراثها، والباقي لمولاه، ومولاه هو مولى أمه، وهو مولى جدته أم أمه؛ لأن من أعتق جارية.. فله ولاؤها وولاء ولدها وولد ولدها وإن سفلوا ما لم يعتق الأب، وأبو هذا الولد مملوك لم يعتق.
فإن لم يمت هذا الولد حتى أعتق جده أبو أمه، ثم مات الولد قبل أن يعتق أبوه.. انتقل ولاء أمه إلى مولى أبيها عن مولى أمها.
قال ابن الحداد: وانتقل ولاء الولد إلى مولى أمه تبعاً لأمه؛ لأنه إذا كان تابعاً لها.. وجب أن ينتقل بانتقاله.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يختلف أصحابنا أن أبا الأم إذا أعتق أنه ينتقل ولاء ولد ابنته إلى مواليه تبعاً لأمه، وهذا يدلي في الجد أبي الأب.. أن الصحيح: أنه يجر ولاء ولد ابنه إلى مواليه.
[فرع كان مملوكاً لرجل وابنه لآخر فتزوج الأب معتقة الآخر]
] : إذا كان الرجل مملوكاً لرجل وله ابن مملوك لآخر وابن ابن مملوك لآخر، فتزوج ابن الابن معتقة لآخر وأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، وولاؤه لمولى أمه.
فإن أعتق بعد ذلك أبو هذا الولد وجده وجد أبيه.. انجر ولاء الولد عن مولى أمه إلى مولى أبيه دون مولى جده وجد أبيه.(8/555)
فإن مات الولد ولا مناسب له.. كان ماله لمولى أبيه أو لعصبة مولى أبيه، فإن عدم مولى أبيه ومن يدلي به من عصبة أو مولى.. فماله لبيت المال، ولا يرثه مولى جده ولا مولى جد أبيه.
وقال الحسن البصري: يرثه مولى جده، وهذا غلط؛ لأنه لو كان عصباته أو عصبة مولى أبيه موجودين.. لم يرث مولى جده، فإذا عدموا.. كان المسلمون عصباته وعصبة مولى أبيه، فكانوا أحق بميراثه من مولى جده.
[فرع اشترتا أباهما فعتق]
] : ابنتان اشترتا أباهما فعتق عليهما: فإن مات الأب.. كان لابنتيه الثلثان بالنسب، والباقي لهما بالولاء.
فإن ماتت إحداهما بعد ذلك.. كان لأختها نصف مالها بالنسب، والنصف الباقي لمولى أبيها، ومولى أبيها هي هذه الابنة الباقية، فتأخذ نصفه، فيكون لها ثلاثة أرباع مالها.
وأما الرابع الباقي، فإن لم يكن عليهما ولاء لمولى أمهما.. كان لبيت المال، وإن كان عليهما ولاء لمولى أمهما.. فعلى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يكون لمولى أمهما.
وعلى قول أبي العباس: يكون لبيت المال.
فإن ماتت إحداهما قبل أبيها.. كان مالها لأبيها، وإن مات الأب بعد ذلك.. كان لابنته الباقية سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال؛ لأن لها النصف بحق النسب- وهو كونها بنتاً- ولها نصف الباقي بحق ولائها على الأب.
والربع الباقي: كان يكون للميتة بحق ولائها على الأب، وقد جر الأب إلى ابنته الحية بنصف الولاء الذي لها عليه نصف ولاء الميتة، فاستحقت به نصف ما كان لها- وهو: الثمن- فيحصل لها سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال.
وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ابنتين، ثم اشتريا أباهما.. فإنه يعتق(8/556)
عليهما. فإن مات الأب.. كان ماله لابنتيه: الثلثان بالنسب والباقي بالولاء. فإن ماتت إحدى الابنتين بعد ذلك.. فنقل المزني أنه: (يكون للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها) .
ونقل الربيع والبويطي: (أن لها سبعة أثمان المال) ، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: الصحيح ما نقله المزني: أن لها ثلاثة أرباع المال، والربع لمولى الأم. وما نقله الربيع فغلط في صورة المسألة وتابعه البويطي على ذلك.
والمسألة التي يستحق فيها سبعة أثمان المال هي: إذا ماتت إحدى الابنتين أولاً، ثم مات الأب بعد ذلك.. فإن للبنت الباقية سبعة أثمان المال، وأما إذا مات الأب أولاً، ثم ماتت إحدى الابنتين بعده.. فإن للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها؛ لأن لها نصف مالها بكونها أختاً، ولها الربع بما جره إليها الأب من ولاء الميتة؛ لأن ولاء مولى الأم كان ثابتا عليهما، فلما عتق الأب عليهما.. جر إلى كل واحد منهما نصف ولاء أختها، ويبقى لمولى الأم الربع بما لم يجره الأب عن ولاء الميتة.
ومنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: ترث الابنة الباقية ثلاثة أرباع مال الميتة، والربع لمولى الأم؛ لما ذكرناه.
والثاني: ترث الباقية سبعة أثمان مال الميتة؛ لأنها ترث نصف مالها بكونها أختاً، وترث نصف الباقي- وهو: الربع- بما جر الأب إليها من ولاء أختها، وترث نصف الباقي- وهو: الثمن- لأنها مولاة العصبة الميتة، وهو الأب.
فيحصل الخلاف بين هذا القول والقول الذي قبله، في أنها هل ترث لكونها مولى العصبة، أم لا؟ فعلى الأول: لا ترث. وعلى الثاني: ترث به.
وعلى قول أبي العباس: أن الأب يجرعن مولى الأم جميع ولاء الابنتين، فالقدر الذي جعلناه على القولين الأولين لمولى الأم يكون لبيت المال.(8/557)
[فرع شقيقتان اشترت إحداهما الأب والأخرى الأم]
] : قال القاضي أبو الطيب: ولو أن أختين لأب وأم لا ولاء عليهما، اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما.. يعتق على كل واحدة منهما ما اشترت.
فإن مات الأب وورثت ابنتاه بالنسب الثلثين، والباقي للتي أعتقته منهما. فإن كانت أمهما زوجة له.. ورثت معهما الثمن، وإن لم تكن زوجة له.. فلا ميراث لها معهما.
وإن ماتت الأم بعد ذلك.. كان لابنتيها الثلثان بالنسب، والباقي للتي أعتقتها.
فإن ماتت بعد ذلك البنت التي أعتقت الأم.. كان للباقية النصف بالنسب، والباقي لها ميراثاً بالولاء على أبيها؛ لأن ثبوت الولاء الذي لها على أبيها، يثبت على ولده.
وإن كانت الميتة معتقة الأب.. كان لمعتقة الأم النصف لكونها أختاً، والباقي لها أيضاً؛ لأنها معتقة أمها، ومولاة أمها مولاتها إذا لم يكن عليها ولاء من جهة معتقها.
وعلى قول أبي العباس: أن ولاء مولى الأم يبطل، فيكون الباقي لبيت المال.
[فرع تزوج معتقة لآخر فأتت بولد فهو حر]
] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حراً وولاءه لمولى أمه.
فإن كاتب السيد عبده، ثم اختلف مولى المكاتب ومولى الولد، فقال مولى المكاتب: قد أدى إلى كتابته فعتق وجر إلى ولاء ولده، وقال مولى الأم: لم يؤد إليك، ولم يعتق فولاء الولد باق لي، فإن كان هذا الاختلاف في حياة المكاتب وقبل موت الولد.. حكم بحرية المكاتب بإقرار سيده، ولا يفتقر إلى بينة ولا يمين.(8/558)
وإن كان هذا الاختلاف بعد موت المكاتب أو بعد موت الولد، فإن كان مع مولى المكاتب بينة على الأداء قبل الموت.. حكم له بولاء الولد، ويقبل في ذلك شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال.
وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول مولى الولد مع يمينه؛ لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء على الولد لمولى أمه.. فلا ينتقل عنه إلا بيقين.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن مولى الأم يحلف أنه لا يعلم أن المكاتب قد أدى جميع مال الكتابة؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير، فكانت على نفي العلم.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق(8/559)
[كتاب الفرائض]
الأصل في الحث على تعلم الفرائض: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وهي أول ما ينسى، وأول شيء ينزع من أمتي» .
وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وسيقبض العلم، وتظهر الفتنة حتى يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان أحدا يفصل بينهما» .(9/7)
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا لهوتم.. فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم.. فتحدثوا بالفرائض) .
وقال علقمة: إذا أردت أن تتعلم الفرائض.. فأمت جيرانك.
إذا ثبت هذا: فإن التوارث كان في الجاهلية بالحلف والنصرة، فكان الرجل يقول للرجل: تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، وربما تحالفوا على ذلك. فإذا كان لأحدهما ولد.. كان الحليف كأحد أولاد حليفه، وإن لم يكن له ولد.. كان جميع المال للحليف، فجاء الإسلام والناس على هذا، فأقرهم الله تعالى على ذلك في صدر الإسلام بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] [النساء: 33] وروي: " أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حالف رجلاً، فمات، فورثه أبو بكر) . ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بالإسلام والهجرة، فكان الرجل إذا أسلم وهاجر.. ورثه من أسلم وهاجر معه من مناسبيه دون من لم يهاجر معه من مناسبيه، مثل: أن يكون له أخ وابن مسلمان، فهاجر معه الأخ دون الابن فيرثه أخوه دون ابنه.(9/8)
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] [الأنفال: 72] . ثم نسخ الله ذلك بالميراث بالرحم بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وفسر المعروف بالوصية.
وقال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] فذكر: أن لهم نصيباً في هذه الآية ولم يبين قدره، ثم بين قدر ما يستحقه كل وارث في ثلاثة مواضع من كتابه، على ما نذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
إذا تقرر هذا: فإن الميت إذا مات.. أخرج من ماله كفنه وحنوطه ومؤنة تجهيزه من رأس ماله مقدما على دينه ووصيته، موسراً كان أو معسراً. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.
وقال الزهري: إن كان موسراً.. احتسب ذلك من رأس ماله، وإن كان معسراً احتسب من ثلثه.
وقال خلاس بن عمرو: يحتسب من ثلثه بكل حال.
دليلنا: ما روى خباب بن الأرت قال: «قتل مصعب بن عمير يوم أحد وليس له إلا نمرة، إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر» ، ولم يسأل عن ثلث ماله.
وروي: أن الرجل الذي وقص وهو محرم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» ، ولم يعتبر الثلث.(9/9)
ولأن الميراث إنما نقل إلى الورثة لاستغناء الميت عنه، وهذا غير مستغن عن كفنه ومؤنة تجهيزه، فقدم على الإرث.
ثم يقضى دينه إن كان عليه دين، ثم تخرج وصاياه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] [النساء: 11] . وأجمعت الأمة: على أن الدين مقدم على الوصية.
وهل انتقل ماله إلى ورثته قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه.
فذهب أكثرهم إلى: أنه ينتقل إليهم قبل قضاء الدين.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا ينتقل إليهم حتى يقضى الدين. هكذا ذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - عن أبي سعيد من غير تفصيل.
وأما ابن الصباغ: فحكي عنه: أنه إن كان الدين لا يحيط بالتركة.. فإن عند أبي سعيد الإصطخري: لا يمنع الدين من انتقال المال إلى الورثة إلا بقدره، واحتج بأنه لو بيع شيء من مال الميت بعد موته.. لكانت العهدة على الميت دون الورثة، فدل على بقاء ملكه.
فعلى هذا: إذا حدث من المال فوائد قبل قضاء الدين.. كان ذلك ملكا للميت، فيقضى منه دينه وينفذ منه وصاياه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الدين يحيط بالتركة.. منع انتقال الملك إلى الورثة، وإن كان الدين لا يحيط بالتركة.. لم يمنع انتقال الملك إلى الورثة) .
والمذهب: أن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة بحال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] الآية: [النساء: 12] ، ولم يفرق.
ولأنه لا خلاف: في أن رجلاً لو مات وخلف ابنين وعليه دين، فمات أحدهما قبل قضاء الدين وخلف ابنا، ثم أبرأ من له الدين الميت عن الدين.. فإن تركة من كان عليه الدين تقسم بين الابن وبين ابن الابن، فلو كان الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة.. لكانت التركة للابن وحده.(9/10)
فعلى هذا: إن حصل من التركة فوائد قبل قضاء الدين.. فإنها للورثة لا يتعلق بها حق الغرماء ولا الوصية.
وإن كان الدين أكثر من التركة، فقال الوارث: أنا أدفع قيمة التركة من مالي ولا تباع التركة، وطلب الغرماء بيعها.. فهل يجب بيعها؟ فيه وجهان بناء على العبد الجاني، إذا بذل سيده قيمته، وطلب المجني عليه بيعه، وكان الأرش أكثر من قيمته.. فهل يجب بيعه؟ فيه قولان.
[مسألة: أصناف الإرث والوارثين والتعريف بأولي الأرحام]
] : ثم يصرف مال الميت بعد قضاء الدين وإخراج وصيته إلى ورثته.
والإرث ضربان: عام وخاص.
فأما (العام) : فهو أن يموت رجل من المسلمين ولا وارث له خاص.. فإن ماله ينتقل إلى المسلمين إرثا بالتعصيب، يستوي فيه الذكر والأنثى، وهل يدخل فيه القاتل؟ فيه وجهان.
وأما (الإرث الخاص) : فيكون بأحد أمرين: بسبب أو نسب.
فأما (السبب) : فينقسم قسمين: ولاء ونكاحاً.
فأما (الولاء) : فقد مضى بيانه.
وأما (النكاح) : فهو إرث أحد الزوجين من الآخر على ما يأتي بيانه.
وأما (النسب) : فهم الوارثون من القرابة من الرجال والنساء.
فالرجال المجمع على توريثهم: خمسة عشر، منهم أحد عشر لا يرثون إلا بالتعصيب، وهم: الابن، وابن الابن وإن سفل، والأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن الأخ(9/11)
للأب والأم، وابن الأخ للأب، والعم للأب والأم، والعم للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب، والمولى المعتق.
فكل هؤلاء لا يرث واحد منهم فرضاً، وإنما يرث تعصيباً إلا الأخ للأب والأم.. فإنه قد يرث بالفرض في المشتركة لا غير، على ما نذكره في موضعه.
واثنان من الرجال الوارثين يرثان تارة بالفرض، وتارة بالتعصيب، وتارة بالفرض والتعصيب معا، وهما: الأب، والجد أبو الأب وإن علا.
واثنان لا يرثان إلا بالفرض لا غير، وهما: الأخ للأم، والزوج.
وأما النساء المجمع على توريثهن: فعشر، وهن: الابنة، وابنة الابن وإن سفلت، والأم، والجد أم الأم، والجدة أم الأب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب، والأخت للأم، والزوجة، والمولاة المعتقة.
فأربع منهن يرثن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، وهن: الابنة، وابنة الابن، والأخت للأب والأم، والأخت للأب.
وخمس منهن لا يرثن إلا بالفرض، وهن: الأم، وأم الأم، وأم الأب، والأخت للأم، والزوجة.
وواحدة منهن لا ترث إلا بالتعصيب، وهي: المولاة المنعمة.
والورثة من الرجال والنساء ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم يدلي بنفسه، وقسم يدلي بغيره، وقسم قد يدلي بنفسه وقد يدلي بغيره.
فأما (القسم الذي يدلي بنفسه) : فهم ستة: الأب، والأم، والابن، والابنة، والزوج، والزوجة. وهؤلاء لا يحجبون بحال.(9/12)
وأما (القسم الذي يدلي بغيره) : فهو من عدا من ذكرنا من القرابات، وقد يحجبون.
وأما (القسم الثالث الذي قد يدلي بنفسه مرة وبغيره أخرى) : فهو من يرث بالولاء، وقد يحجب أيضاَ.
وقد ورد الشرع بتوريث جميع من ذكرنا، على ما يأتي بيانه.
وأما (ذوو الأرحام) وهم: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وولد الإخوة للأم، والخال، والخالة، والعم للأم، والعمة، وبنات الأعمام، وكل جد بينه وبين الميت أم، ومن يدلي بهؤلاء. فاختلف أهل العلم في توريثهم على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أنهم لا يرثون بحال. وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت وابن عمر. وهي إحدى الروايتين عن عمر، ومن الفقهاء: الزهري ومالك والأوزاعي وأهل الشام وأبو ثور.
و [الثاني] : ذهبت طائفة إلى: أنهم يرثون ويقدمون على المولى والرد. وذهب إليه من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء، وهو الصحيح عن عمر.
[والثالث] : ذهب الثوري وأبو حنيفة إلى: (أن ذوي الأرحام يرثون ولكن يقدم عليهم المولى والرد، فإن كان له مولى منعم.. ورث، وإن لم يكن له مولى منعم، وهناك من له فرض كالابنة والأخت.. كان الباقي لصاحب الفرض بالرد، وإن لم يكن هناك أحد من أهل الفروض.. ورث ذوو الأرحام) ، وبه قال بعض أصحابنا إن لم(9/13)
يكن هناك إمام عادل، وهي إحدى الروايتين عن علي إلا أنها رواية شاذة، ولا سلف لأبي حنيفة في مذهبه غير هذه الرواية الشاذة.
دليلنا: ما روى أبو أمامة الباهلي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . فظاهر الخبر يقتضي: أنه لا حق في الميراث لمن لم يعطه الله شيئا، وجميع ذوي الأرحام لم يعطهم الله في كتابه شيئاً، فثبت: أنه لا ميراث لهم.
وروى أبو سلمة، عن أبي هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: " لا أدري حتى يأتي جبريل "، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين السائل عن ميراث العمة والخالة؟ أتاني جبريل فسارني: أن لا ميراث لهما» .
وروى عطاء بن يسار، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي قباء على حمار أو(9/14)
حمارة، يستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عز وجل: أن لا ميراث لهما» .
ولأن كل من لم يرث مع من هو أبعد منه.. لم يرث إذا انفرد، كابنة المولى، لأن ابنة المولى لما لم ترث مع ابن ابن المولى - وهو أبعد منها - لم ترث أيضاً إذا انفردت. وكذلك العمة لما لم ترث مع ابن العم - وهو أبعد منها - لم ترث أيضا إذا انفردت. ولأن ابنة الأخ لما لم ترث مع أخيها.. لم ترث إذا انفردت، كابنة المولى، وعكسه الابنة والأخت، لأنهما لما ورثتا مع أخيهما.. ورثتا إذا انفردتا.
[فرع: لا توارث بالموالاة عندنا]
] : مولى الموالاة لا يرث عندنا بحال، وهو أن يقول رجل لآخر: واليتك على أن ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك. ولا يتعلق بهذه الموالاة عندنا حكم إرث ولا عقل ولا غيره. وبه قال زيد بن ثابت. ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي. ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك.
وذهب النخعي إلى: أن هذا العقد يلزم بكل حال، ويتعلق به التوارث والعقل، ولا يكون لأحدهما فسخه بحال.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (مولى الموالاة يرث، ولكنه يؤخر عن المناسبين والمولى، وهو عقد جائز، لكل واحد منهما فسخه ما لم يعقل أحدهما عن الآخر، فإذا عقل.. لزمه ذلك ولم يكن له سبيل إلى فسخه) .
دليلنا: ما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أرادت أن تشتري بريرة، فامتنع أهلها من بيعها إلا على أن يكون الولاء لهم، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشتري واشترطي لهم الولاء "، فاشترتها واشترطت لهم الولاء، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر، فقال: " ما بال(9/15)
أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق» ، فجعل جنس الولاء للمعتق فلم يبق، ولا يثبت لغيره.
ولأن كل سبب لم يورث به مع وجود السبب.. لم يورث به مع فقده، كما لو أسلم رجل على يد رجل. ولأن عقد الموالاة لو كان سبباً يورث به.. لم يجز فسخه وإبطاله، كالنسب والولاء.
[مسألة: الكافر والمسلم لا يتوارثان]
] : لا يرث الكافر من المسلم بلا خلاف، وأما المسلم: فلا يرث الكافر عندنا. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وزيد بن ثابت. وهو مذهب الفقهاء كافة. وقال معاذ ومعاوية: (يرث المسلم من الكافر) .
دليلنا: ما روى أسامة بن زيد الليثي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ، الإسلام والكفر ملتان شتى، فوجب أن لا يتوارثا. ِِ(9/16)
[فرع: يتوارث أهل الملة وحكم من دخل إلينا من أهل الحرب]
] : ويرث الكافر من الكافر إذا اجتمعا في الذمة أو في الحرب.
فيرث اليهودي من النصراني، ويرث النصراني من اليهودي، وكذا المجوسي إذا جمعتهم الذمة أو كانوا حربا لنا.
فأما أهل الحرب وأهل الذمة: فإنهم لا يتوارثون وإن كانوا من اليهود أو النصارى. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي وزيد بن ثابت. ومن الفقهاء: مالك والثوري وأبو حنيفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] : الذمي هل يرث الحربي؟ فيه قولان: أحدهما: يرثه؛ لأن ملتهما واحدة.
والثاني: لا يرثه، لأن حكمنا لا يجري على الحربي.
هذا مذهبنا، وذهب الزهري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى: (أن اليهودي لا يرث من النصراني، ولا النصراني من اليهودي وإن جمعتهما الملة، وإنما يرث النصراني من النصراني، واليهودي من اليهودي) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر» . دليله: أن غير المسلم يرث الكافر. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا الكافر المسلم» . دليله: أنه يرث غير المسلم.
ويرث أهل الحرب بعضهم بعضاً إذا تحاكموا إلينا وإن اختلفت دارهم وكان بعضهم يرى قتل بعض. وحكم من دخل إلينا بأمان أو رسالة أو تجارة.. حكم أهل الذمة، ويرث بعضهم من بعض.(9/17)
ومتى كانت امرأة الكافر ذات رحم منه من نسب أو رضاع.. لم يتوارثا بالنكاح، وإن كانت غير ذات رحم محرم منه ممن لو أسلما أقرا على ابتداء النكاح.. أقرا على نكاحهما، وتوارثا بالنكاح وإن عقدا بغير ولي ولا شهود.
[فرع: ميراث المرتد لبيت المال عندنا]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وميراث المرتد لبيت المال) .
وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في إرث مال المرتد بعد موته على أربعة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أن ماله لا يورث، بل يكون فيئا لبيت المال، سواء في ذلك ما اكتسبه في حال إسلامه أو في حال ردته، وسواء قلنا: إن ملكه يزول، أو لا يزول، أو موقوف. وبهذا قال ابن عباس، وهي إحدى الروايتين عن علي. وبه قال ربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأحمد.
[والثاني] : ذهب ابن مسعود إلى: (أن جميع ما يخلفه لورثته، سواء كسبه قبل الردة أو بعدها) . وهي إحدى الروايتين عن علي، وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد.
و [الثالث] : ذهب قتادة وعمر بن عبد العزيز إلى: أن ماله يكون لأهل الملة التي انتقل إليها، فإن انتقل إلى اليهود..كان ماله لهم، وإن انتقل إلى النصارى.. كان ماله لهم.
و [الرابع] : قال أبو حنيفة والثوري: (ما اكتسبه قبل الردة.. ورث عنه، وما اكتسبه بعد الردة.. يكون فيئاً) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» ، والمرتد كافر. ولأنه لا يرث بحال، فلم يورث كالكافر.(9/18)
والجواب على أبي حنيفة هو: أن كل من لم يرث المسلم ما اكتسبه في حال إباحة دمه.. لم يرث ما اكتسبه في حال حقن ٍدمه، كالذمي إذا لحق بدار الحرب.
إذا ثبت هذا: فهل يخمس مال المرتد؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما إن شاء الله تعالى.
[مسألة: لا يرث العبد أقاربه الأحرار ولا يرثهم عندنا]
] : إذا مات العبد وفي يده مال.. لم ترثه قراباته الأحرار، لأن من الناس من يقول: إنه لا يملك المال، ومنهم من يقول: إنه يملك المال، ومنهم من يقول: إنه يملكه إذا ملكه السيد ولكنه ملك ضعيف يزول بزوال ملك سيده عن رقبته. ولهذا: إذا باعه.. زال ملك العبد عنه. وإذا مات العبد.. فقد زال ملك العبد عن المال، فيصير كمن مات ولا مال له.
وأما إذا مات للعبد مناسب يملك المال.. فإن العبد لا يرثه عندنا. وبه قال كافة أهل العلم.
وقال ابن مسعود: (يشتري نفسه ببعض التركة فيعتق، ثم يدفع إليه الباقي) .
وقال طاووس: يرث العبد ويدفعه إلى مولاه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] [النحل: 75] ، فنفى أن يقدر العبد على شيء، والإرث شيء.
وقَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] [الروم: 28] ، فثبت بهذا: أن العبد لا يرث، لأن الميراث مما رزقه الله للأحرار، وهو يشارك الحر فيما رزقه الله.
ولأن العبد لا يملك المال، فلم يرث، كالبهيمة.
وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة. حكم العبد في الميراث، لأنهم ناقصون بالرق.(9/19)
[فرع: إرث المبعض]
] : وأما من نصفه حر ونصفه مملوك: فإنه لا يرث بنصفه الحر.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن أبي ليلى، وعثمان البتي، والمزني: أنهم قالوا: (يرث بنصفه الحر) .
وهذا غلط، لأنه ناقص بالرق، ولهذا لا تقبل شهادته ولا يتزوج أربعا ولا يطلق ثلاثاً، هو كما لو لم يعتق شيء منه.
وهل يرث عنه ورثته الأحرار ما جمعه بنصفه الحر؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد، (يرثه ورثته المناسبون، فإن لم يكن له مناسب. كان كمن أعتق نصفه) ، لأنه مال ملكه بما فيه من الحرية، فورثه ورثته المناسبون، كالحر.
و [الثاني] : قال في القديم: (لا يرثه ورثته المناسبون) ، لأنه ناقص بالرق، فلم يرثه المناسبون له، كالعبد. ولأنه لا يرث بحال، فلم يورث كالمرتد.
فإذا قلنا بهذا: فلمن يكون ما جمعه بما فيه من الحرية؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يكون لمالك نصفه) ، لأنه لا يجوز أن يكون لمناسبه، لأن المناسب يأخذ المال إرثا وهذا لا يورث، ولا يجوز أن يكون لمولاه الذي اعتق نصفه بالولاء، لأن الولاء أضعف من النسب، فإذا يستحقه المناسب.. فالمعتق أولى، فلم يبق إلا أن يكون لمن يملك نصفه.
والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يكون لبيت المال، لأنه لا يجوز أن يكون لمناسبه ولا لمن أعتق نصفه، لما ذكرناه في الأول، ولا يجوز أن يكون لمالك نصفه، لأنه ملكه بنصفه الحر، ولا ملك لمالك نصفه في ذلك النصف ولا(9/20)
ولاء، فلم يبق إلا أنه يكون لبيت المال. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] : إذا قلنا بقوله الجديد فمات، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. كان لمالك نصفه النصف من الذي في يده، والنصف للوارث. وإن كان بينهما مهايأة، وقد أعطى السيد حقه وبقي حقه في يده.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لورثته، لأن السيد قد أخذ حقه.
والثاني: أنه بين السيد وبين الورثة نصفان؛ لأنه شخص لا يورث إلا بعض ماله، فلم يكن للورثة إلا بعض ما في يده.
وإن قلنا بقوله القديم ومات وفي يده مال، فإن كان قد أعطى السيد حقه.. كان فيمن يستحق ما بقي بيده وجهان:
أحدهما: أنه لمالك نصفه.
والثاني: أنه لبيت المال.
وإن كان لم يعط السيد حقه من الكسب، بل الجميع في يده.. كان لمالك نصفه نصف ما بيده، وفي النصف الباقي وجهان:
أحدهما: أن جميع ذلك النصف لبيت المال.
والثاني: أن لبيت المال نصف ذلك النصف، والنصف لمالك نصفه.
وإن كان بينه وبين مالك نصفه مهايأة، وكان ما بقي في يده خالص ملكه.. ففيه وجهان:(9/21)
أحدهما: أنه لبيت المال.
والثاني: أن نصفه لمالك نصفه. ونصفه لبيت المال.
[فرع: خلف أولاداً مسلمين أحراراً ومملوكين وكافرين]
] : إذا مات مسلم حر وخلف أولادا أحراراً مسلمين، وأولاداً مملوكين مسلمين، وأولاداً كفاراً.. ورثه الأولاد المسلمون الأحرار.
فإن أسلم الكفار أو أعتق العبيد بعد قسمة الميراث.. لم يشاركوا في الإرث بلا خلاف.
وإن أسلموا أو أعتقوا بعد موت أبيهم وقبل قسمة تركته.. لم يشاركوا في الميراث عندنا، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إذا أسلموا أو أعتقوا قبل القسمة. شاركوا في الإرث) .
دليلنا: أن كل من لم يرث حال الموت.. لم يرث بعد ذلك، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة.
[فرع: دبر أخاه فمات أو علق عتقه على موته]
أو آخر جزء من حياته] : وإن دبر رجل أخاه فمات.. عتق، ولم يرث من أخيه شيئاَ، لأنه صار حرا بعد الموت.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أنت حر في آخر جزء من حياتي المتصل بالموت، ثم مات.. عتق من ثلثه، وهل يرثه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرثه، لأن العتق في المرض وصية، والإرث والوصية لا يجتمعان.(9/22)
والثاني: يرثه، ولا يكون عتقه وصية؛ لأن الوصية ما يملك بموت الموصي، وهذا لم يملك نفسه بموته.
وإن قال له في مرض موته: إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر، فمات بعد شهر.. عتق يوم تلفظ، وهل يرثه؟ على الوجهين.
[مسألة: القاتل لا يرث عندنا]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والقاتلون عمداً أو خطأ لا يرثون) . وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في ميراث القاتل من المقتول.
فذهب الشافعي إلى: أن القاتل لا يرث المقتول، لا من ماله ولا من ديته، سواء قتله عمداً أو خطأ، أو مباشرة أو بسبب، لمصلحة - كسقي الدواء أو بط الجرح- أو لغير مصلحة، متهما كان أو غير متهم، وسواء كان القاتل صغيراً أو كبيراً، عاقلاً كان أو مجنوناً. وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل.
وقال أبو إسحاق: من أصحابنا من قال: إذا كان القاتل غير متهم، بأن كان حاكماًً، فجاء مورثه فأقر عنده بقتل رجل عمداً، فطلب وليه القود، فمكنه الحاكم من قتله، أو اعترف عنده بالزنا وهو محصن فرجمه، أو اعترف بقتل المحاربة فقتل.. فإنه يرثه، لأنه غير متهم في قتله. ومن أصحابنا من قال: إن كان القتل مضموناً..لم يرث القاتل، لأنه قتل بغير حق. وإن كان غير مضمون، بأن قتله قصاصاً، أو في الزنا، أو كان باغياً فقتله العادل، وما أشبه ذلك.. ورث؛ لأنه قتله بحق، فلم يمنع الإرث.
وقال عطاء وابن المسيب ومالك والأوزاعي: (إن كان القتل عمداً.. لم يرث(9/23)
القاتل لا من ماله ولا من ديته، وإن كان القتل خطأ.. ورث ماله ولم يرث من ديته) .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إن قتله مباشرة.. فلا يرثه، سواء قتله عمداً أو خطأ، إلا إن كان القاتل صبياً أو مجنوناً أو عادلا فقتل الباغي.. فإنهم يرثون. وإن قتله بسبب، مثل: أن حفر بئرا أو نصب سكينا فوقع عليها مورثه، أو كان يقود دابة أو يسوقها فرفسته.. فإنه يرثه) . وإن كان راكبا للدابة فرفست مورثه أو وطئته فمات.. فقال أبو حنيفة: (لا يرثه) .
وقال أبو يوسف ومحمد: يرثه.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يرث القاتل شيئاً» . وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده، وليس للقاتل شيء» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث القاتل» .
وهذه نصوص في أن القاتل لا يرث، ولم تفرق بين العمد والخطأ، والبالغ(9/24)
والصغير، وعن المضمون وغير المضمون. ولأنه معني أسقط إرثه من الدية، فأسقط إرثه من المال، كالرق والردة، وعكسه الجنون والصغر.
فإن قيل: إنما لم يرث الدية؛ لأن العاقلة تعقل عنه، فلا يجوز أن تعقل عنه له!
فالجواب: أن العاقلة قد تعقل عنه له، وهو: أن رجلا لو كان له ابنان، فقتل أحدهما أباه خطأ.. ورثه ابنه الذي لم يقتل، فلو مات الأخ الوارث للأب.. ورثه الأخ القاتل وورث الدية التي على العاقلة، وكانت العاقلة تعقل عنه له.
[فرع: الشهادة على القتل هل تمنع من الإرث]
فرع: [الشهادة على القتل تمنع الإرث] وإن شهد شاهدان على رجل بقتل العمد فقتل بشهادتهما.. لم يرثه الشاهدان؛ لأنه قتل بشهادتهما، فهو كما لو باشرا قتله.
وكذلك إن شهد أربعة على رجل بالزنا وهو محصن فقتل، أو شهد عليه شاهدان بالإحصان وزنا ثم قتل.. لم ترثه الشهود، لما ذكرناه.
[مسألة: إرث المطلقة في مرض الموت]
] وإذا طلق الرجل امرأته في مرض موته.. وقع الطلاق، وهو إجماع لا خلاف فيه؛ لأن المرض لا يزيل التكليف، فهو كالصحيح.
فإن كان الطلاق رجعيا، فمات وهي في العدة، أو ماتت قبله في العدة.. ورث أحدهما صاحبه بلا خلاف أيضاً، لأن الرجعية حكمها حكم الزوجة إلا في إباحة وطئها، فهي كالحائض.
وإن كان الطلاق بائناً، فإن ماتت قبل الزوج.. لم يرثها الزوج، وهو إجماع أيضا لا خلاف فيه. وإن مات الزوج قبلها.. فهل ترثه؟ فيه قولان: قال في القديم: (ترثه) . وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء ربيعة، ومالك، والأوزاعي، والليث، وسفيان بن عيينة،(9/25)
وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد.
ووجه هذا: ما روي: أن عمر قال: (المبتوتة في حال المرض ترث من زوجها) . وروي: (أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت أصبغ الكلبية في مرض موته، فورثها منه عثمان بن عفان) . وروي: (أن عثمان لما حوصر طلق امرأته، فورثها منه علي بن أبي طالب، وقال: كان قد أشرف على الموت) . ولأنه متهم في قطع ميراثها، فغلظ عليه وورثت منه، كالقاتل لما كان متهما في القتل لاستعجال الميراث.. غلظ عليه، فلم يرث.
وقال في الجديد: (لا ترثه) . وبه قال عبد الرحمن بن عوف، وابن الزبير، وأبو ثور، وهو الصحيح، لأنها فرقة تقطع ميراثه عنها فقطعت ميراثها منه، كما لو أبانها في حال الصحة، وعكسه الرجعية. ولأنها فرقة لو وقعت في الصحة.. لقطعت ميراثها عنه، فإذا وقعت في المرض.. قطعت ميراثها عنه، كاللعان. ولأنها ليست بزوجة له، بدليل: أنها لا يلحقها طلاقه ولا إيلاؤه ولا ظهاره ولا عدة وفاته، فلم ترثه، كالأجنبية. وأما ما روي عن عمر وعثمان وعلي: فإن ابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف خالفاهم في ذلك، فإن ابن الزبير قال: (أما أنا: فلا أرى أن ترث مبتوتة) ، وعبد الرحمن بن عوف إنما طلق امرأته في مرض موته ليقطع ميراثها عنه.
فإذا قلنا بقوله الجديد.. فلا تفريع عليه.(9/26)
وإذا قلنا بقوله القديم.. فإلى متى ترثه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ترثه ما دامت في عدتها منه، فإذا انقضت عدتها منه.. لم ترثه - وبه قال أبو حنيفة وسفيان والليث والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن أحمد - لأن الميراث للزوجة إنما يكون لزوجة أو لمن هي في حكم الزوجات، فما دامت في عدتها منه.. فهي في حكم الزوجات، وإذا انقضت عدتها.. فليست بزوجة ولا في حكم الزوجات.
والثاني: أنها ترثه ما لم تتزوج بغيره، فإذا تزوجت بغيره لم ترثه - وبه قال ابن أبي ليلى، وهي الرواية الصحيحة عن أحمد - لأن حقها قد ثبت في ماله، فإذا لم يسقط ببينونتها.. لم يسقط بانقضاء عدتها، وإنما يسقط برضاها، فإذا تزوجت.. فقد رضيت بفراقه، وقطع حقها عنه.
والثالث: أنها ترثه أبدا، سواء تزوجت أو لم تتزوج - وبه قال مالك - لأنها قد ثبت لها حق في ماله، فإذا لم يسقط ببينونتها.. لم يسقط بانقضاء عدتها ولا بتزويجها، كمهرها.
[فرع: الإقرار في مرض الموت بطلاق الزوجة في حال الصحة]
فرع: [أقر في مرض موته بطلاق زوجته في صحته ثلاثاً] : إذا أقر في مرض موته: [أنه قد كان طلق امرأته في صحته ثلاثاً.. بانت منه.
قال الشيخ أبو حامد: ولا ترثه قولاً واحداً، لأن ما أقر به في مرض موته وأضافه إلى حال الصحة.. كالذي يفعله في الصحة، كما لو أقر في مرض موته: أنه كان وهب ماله في صحته وأقبضه.. فإن ذلك لا يعتبر من الثلث.
وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا في ذلك قولين، كما لو طلقها ثلاثا في مرض موته، لأنه متهم في إسقاط حقها فلم يسقط، بدليل: أنه لا يسقط بهذا الإقرار نفقتها ولا سكناها في حال النكاح وإن أضاف ذلك إلى وقت ماض.
[فرع: طلقها بطلبها ثلاثاً في مرض الموت]
] : إذا كان الرجل مريضاً فسألته امرأته أن يطلقها ثلاثاً فطلقها ثلاثاً ومات في مرضه ذلك، أو قال لها في مرض موته: أنت طالق ثلاثاً إن شئت، فقالت: شئت.. طلقت، وهل ترثه؟ اختلف أصحابنا فيه:(9/27)
فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي على قولين، لأن الأصل في هذا قصة عثمان في توريثه تماضر من زوجها عبد الرحمن بن عوف في مرض موته، وقد كانت سألته الطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد: لا ترثه قولا واحدا، وهو المذهب، لأنها إذا سألته الطلاق.. فلا تهمة عليه في طلاقها، وأما قصة تماضر: فلا حجة فيها، لأن عبد الرحمن قال لنسائه: (من اختارت منكن أن أطلقها.. طلقتها، فقالت تماضر: طلقني، فقال لها: إذا حضت فأعلميني، فأعلمته، ثم قال لها: إذا طهرت فأعلميني، فأعلمته فطلقها) . وليس طلاقه لها في هذا الوقت جوابا لكلامها، لأن قولها: طلقني.. يقتضي الجواب في الحال، فإذا تأخر، ثم طلقها.. كان ذلك ابتداء الطلاق.
[فرع: سألته في مرض موته طلاقاً واحدا فطلقها ثلاثاً]
ً] : وإن سألته في مرض موته: أن يطلقها واحدة، فطلقها ثلاثاً، ثم مات من مرضه ذلك.. فهل ترثه؟ فيه قولان، لأنها سألته تطليقة، فإذا طلقها ثلاثاً.. صار متهما بذلك، لأنه قصد قطع ميراثها، فصار كما لو طلقها ثلاثاً ابتداء من غير سؤال منها.
[فرع: تعليق الطلاق بصفة ثم وجدت في مرض الموت]
فرع: [تعليق المريض أو الصحيح طلاقه بصفة ثم وجدت في مرض موته] : إذا علق المريض طلاق امرأته ثلاثاً بصفة، ثم وجدت تلك الصفة في مرضه ومات منه.. فهل ترثه؟ نظرت:
فإن كانت صفة لها منها بد، مثل أن قال لها: إن دخلت الدار، أو خرجت منها. أو كلمت فلانا، أو صليت النافلة، أو صمت النافلة، فأنت طالق ثلاثاً، ففعلت ذلك في مرض موته.. لم ترثه قولاً واحداً، لأنها إذا فعلت ذلك مع علمها بالطلاق.. فقد اختارت وقوع الطلاق عليها بما لها بد منه، فصارت كما لو سألته الطلاق.(9/28)
وإن كانت صفة لا بد لها منها، بأن قال: إن تنفست، أو صليت الفرض، أو صمت الفرض، أو كلمت أباك أو أمك، فأنت طالق ثلاثاً، ففعلت ذلك في مرض موته ومات منه.. فهل ترثه؟ على القولين، لأنها لا بد لها من فعل هذه الأشياء، فصار كما لو طلقها ثلاثا طلاقاً منجزاً.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا إن قال لها: إن قمت أو قعدت فأنت طالق ثلاثاً، فقامت أو قعدت في مرض موته.. فهل ترثه؟ على القولين، لأنها لا تجد بدا من القيام أو القعود.
وإن قال لها: إذا مرضت فأنت طالق ثلاثاً، فمرض.. طلقت ثلاثاً، فإن مات منه.. فهل ترثه؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، لأنه لما جعل مرض موته صفة في وقوع الطلاق عليها.. كان متهما في ذلك، فهو كما لو طلقها في المرض.
فإن قال لها وهو صحيح: إذا جاء رأس الشهر، أو جاء الحاج، أو طلعت الشمس، وما أشبه ذلك فأنت طالق ثلاثاً، فوجدت هذه الصفات في مرض موته.. فهل ترثه؟
قال البغداديون من أصحابنا: لا ترثه قولا واحدا، لأنه غير متهم في ذلك، لأن اتفاق ذلك في مرضه مع هذه الصفات لم يكن من قصده.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : من أصحابنا من قال: في ميراثها منه قولان، كما لو قال فيمن قال لعبده: إذا قدم زيد فأنت حر، فقدم زيد في مرض موت السيد.. فهل يعتق العبد من الثلث أو من رأس المال؟ على قولين.
وأصحابنا البغداديون قالوا: يعتق من رأس المال قولا واحدا أيضاً.
[فرع: علق طلاقها قبل موته بشهر أو بآخر حياته أو صحته]
] : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً قبل موتي بشهر، فإن عاش هذا الزوج بعد هذا القول أقل من شهر، ثم مات.. لم يحكم بوقوع الطلاق، لأنا لو حكمنا بوقوعه.. لأوقعناه(9/29)
قبل إيقاعه وهذا لا يجوز. وإن عاش بعد ذلك شهرا أو مات مع الشهر.. لم يقع الطلاق، لأن الطلاق إنما يقع عقيب الإيقاع لا معه. وإن عاش شهرا وجزءا، ثم مات.. طلقت قبل موته بشهر.
قال الشيخ أبو حامد: وهل ترثه؟ فيه قولان؛ لأنه متهم في ذلك، ثم إنه إنما قصد بذلك منعها من الميراث.
قال الصيمري: وإن قال لامرأته: إن مت من مرضي فأنت طالق ثلاثاً، فمات.. فلا طلاق، ولها الميراث. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً في آخر أجزاء حياتي..فهل ترثه؟ فيه قولان. ولو قال هذا القول وهو صحيح.. فهو بمنزلة من طلق في المرض، لأن أحدا لا يموت إلا من سبب قبل وفاته.
قال: ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً في آخر أجزاء صحتي المتصلة بسبب وفاتي.. فلا ميراث لها، والطلاق واقع. قال: والأجود أن يقول: المتصل بمرض موتي: لأنه قد يموت فجأة أو بهدم أو بغرق.
قلت: والذي يتبين لي: أنها على قولين، لأنه متهم في ذلك، كما قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي بشهر، فعاش شهراً وجزءا ثم مات.. فإنه لا فرق بين أن يقول ذلك في الصحة أو في المرض.
[فرع: طلقها ثلاثاً في مرضه ثم تخلل بين مرضه وموته حالة لا ترث فيها]
] : إذا طلقها ثلاثاً في مرضه، ثم صح من مرضه، ثم مرض، ثم مات.. فإنها لا ترثه قولاً واحداً؛ لأنه قد تخلل بين المرض والموت حالة لو طلقها ثلاثاً فيها.. لم ترث شيئاً، فكذلك لو طلقها قبل تلك الحالة.. وجب أن لا ترث.
وهكذا: إذا طلقها في مرض موته ثلاثاً، ثم ارتد الزوج أو الزوجة، ثم رجعا، ثم مات الزوج.. لم ترثه قولا واحداً، لأنه قد تخلل بينهما حالة لا ترث فيها.(9/30)
[فرع: قذف امرأته في صحته أو مرضه ثم لاعنها في مرض موته]
فرع: [قذف امرأته في صحته أو مرض موته ثم لاعنها أو فسخ نكاحها بعيب في مرض موته] : إذا قذف امرأته في صحته، ثم لاعنها في مرض موته.. لم ترثه قولًا واحدا؛ لأنه مضطر إلى اللعان لدرء الحد عنه، فلا تلحقه التهمة.
فإن قذفها في مرض موته ثم لاعنها.. قال ابن الصباغ: فإنها لا ترثه قولاً واحداً، لأن به حاجة إلى اللعان لإسقاط الحد عن نفسه.
قال ابن اللبان: وهو ظاهر تعليل الشافعي.
قال ابن اللبان: ويحتمل أن يقال: إذا قذفها في حال مرضه.. فقد تلحقه التهمة، لأنه قصد تعييرها لتطالب بما يدفع العار عنها، فتلاعن، فتقع الفرقة، فلا ترث.
وقال: يحتمل أن يقال: إن كان قد نفى الحمل.. فإنها لا ترث، لأنه مضطر إلى قذفها. وإن لم ينف الولد.. ورثته - يعني: في أحد القولين - لأنه لم يكن مضطرا إلى قذفها.
وإن فسخ نكاحها في مرض موته بأحد العيوب.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنه كالطلاق في المرض، فيكون في ميراثها منه قولان.
والثاني: لا ترثه قولا واحدا؛ لأنه يستند إلى معنى من جهتها، ولأن به حاجة إلى الفسخ، لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب.
[فرع: طلق أمة ثلاثاً أو طلاقا رجعياً في مرض موته]
] : إذا كانت تحته أمة فطلقها ثلاثاً في مرض موته، ثم أعتقت، ثم مات الزوج.. فإنها لا ترثه قولاً واحداً؛ لأنها وقت طلاقها لم تكن وارثة، فكان غير متهم في قطع ميراثها منه.(9/31)
وإن قال لها في مرض موته: أنت طالق غداَ ثلاثا، فأعتقها سيدها قبل مجيء الغد، ثم جاء الغد، ثم مات الزوج.. فإنها لا ترث قولاً واحداً، لأن الزوج وقت عقد الطلاق لم تكن الزوجة ممن يرث أيضاً.
فإن أعتقت الأمة في مرض موته، ثم طلقها ثلاثاً.. فهل ترثه؟ فيه قولان.
وإن طلقها في مرض موته وأعتقت، ثم مات الزوج، فقالت الزوجة: أعتقت، ثم طلقت فلي الميراث، وقال الورثة: بل طلقت، ثم أعتقت، فلا ميراث لك.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم، لأن الأصل أن لا عتق.
وإن طلقها في مرضه طلاقاً رجعيا، ثم أعتقت، ثم مات الزوج من مرضه، فإن مات وهي في العدة.. فلها الميراث قولا واحداً، لأنها في حكم الزوجات. وإن مات بعد انقضاء عدتها. فلا ميراث لها قولاً واحداً، لأنها ليست بزوجة ولا في معنى الزوجات.
[فرع: طلق نساءه الأربع في مرض موته طلاقاً بائناً ثم تزوج أربعاً]
ً] : إذا كان تحته أربع نسوة فطلقهن في مرض موته طلاقاً بائناً، ثم تزوج بعدهن أربعا سواهن، ثم مات من مرضه ذلك، فإن قلنا بقوله الجديد: وأن المبتوتة في مرض الموت لا ترث.. كان ميراثه للأربع الزوجات دون المطلقات. وإن قلنا بقوله القديم: وأن المبتوتة في مرض الموت ترث.. ففي ميراث هذه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أنه للزوجات الجديدات دون المطلقات؛ لأنه لا يجوز أن يرث الرجل أكثر من أربع زوجات، ولا بد من تقديم بعضهن على بعض، فكان تقديم الزوجات أولى، لأن ميراثهن ثابت بنص القرآن، وميراث المطلقات ثبت بالاجتهاد.
والثاني: أنه للزوجات المطلقات دون الزوجات الجديدات، لأنه لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع، فكان تقديم المطلقات أولى، لأن حقهن أسبق.
والثالث: أنه يكون بين الزوجات والمطلقات بالسوية، لأن إرث الزوجات ثابت بنص القرآن، وإرث المطلقات ثابت بالاجتهاد، فشرك بينهن.(9/32)
وقول من قال: لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع زوجات.. ليس بصحيح، لأن الشرع إنما منع من نكاح ما زاد على أربع: وأما توريث ما زاد على أربع: فلم يمنع الشرع منه.
[مسألة: مات متوارثان معا]
] وإذا مات متوارثان- كالرجل وابنه، أو كالزوجين - بالغرق أو الهدم، فإن علم أن أحدهما مات أولا وعرف عينه.. ورث الثاني من الأول. وإن علم أن أحدهما مات أولاً وعرف عينه، ثم نسي.. وقف الأمر إلى أن يتذكر من الأول منهما، فيرث منه الثاني، لأن الظاهر ممن علم ثم نسي أنه يتذكر، وهذا لا خلاف فيه.
وإن علم أنهما ماتا معا، أو علم أن أحدهما مات أولا ولم تعرف عينه - قال الشيخ أبو حامد: مثل أن غرقا في ماء فرئي أحدهما يصعد من الماء وينزل ولم يعرف بعينه، والآخر قد نزل ولا يصعد.. فإنه يعلم لا محالة أن الذي يصعد وينزل لم يمت، وأن الذي نزل ولم يصعد قد مات - أو لم يعلم: هل ماتا في حالة واحدة، أو مات أحدهما قبل الآخر.. فمذهبنا في هذه الثلاث المسائل: أنه لا يرث أحدهما من الآخر، ولكن يرث كل واحد منهما ورثته غير الميت معه، وبه قال أبو بكر، وعمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.(9/33)
وذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: (أنه يرث كل واحد منهما الآخر ثم يرثهما ورثتهما) . وبه قال داود.
دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت: أنه قال: (ولاني أبو بكر مواريث قتلى اليمامة، فكنت أورث الأحياء من الأموات، ولا أورث الموتى من الموتى) .
ولأن كل من لم تعلم حياته عند موت مورثه.. لم يرثه، وأصله الحمل، وهو: أن الرجل إذا مات وخلف امرأة حاملاً، فإنه إن خرج حياً.. ورث، لأنا تيقنا حياته عند موت مورثه.. وإن خرج ميتاً.. لم يرث، لأنا لا نعلم حياته عند موت مورثه.
ولأن توريث كل واحد منهما من الآخر خطأ بيقين، لأنهما إن ماتا معاً في حالة واحدة.. لم يرث أحدهما من الآخر. وإن مات أحدهما قبل الآخر.. فتوريث السابق منهما موتاً من الآخر خطأ، فإذا كان كذلك.. لم يرث أحدهما من الآخر، لأنه ليس أحدهما أن يكون مات أولا بأولى من الآخر.
[مسألة: يرث الأسير ما دام حيا]
] : وإن مات رجل وخلف ولداً أسيراً في أيدي الكفار.. فإنه يرث ما دام تعلم حياته. وبه قال كافة أهل العلم.
وقال النخعي: لا يرث الأسير.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] . ولم يفرق بين الأسير وغيره.
فأما إذا لم تعلم حياته.. فحكمه حكم المفقود.
وإذا فقد رجل وانقطع خبره.. لم يقسم ماله حتى يعلم موته أو يمضي عليه من(9/34)
الزمان من حين ولد زمان لا يعيش في مثله، فحينئذ يحكم الحاكم بموته، ويقسم ماله بين ورثته الأحياء يومئذ دون من مات من ورثته قبل ذلك.
وقال مالك: (إذا مضى له من العمر ثمانون سنة.. قسم ماله) .
وقال عبد الملك بن الماجشون: إذا مضى له تسعون سنة.. حكم الحاكم بموته.
وقال أبو حنيفة: (إذا مضى له مائة وعشرون سنة.. حكم بموته) .
وحكى بعضهم: أن ذلك مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وإن مات للمفقود من يرثه قبل أن يحكم بموته.. أعطي كل وارث من ورثته ما يتيقن أنه له، ووقف المشكوك فيه إلى أن يتبين أمر المفقود، مثل: أن تموت امرأة وتخلف زوجاً، وأختين لأب وأم، وأخا لأب وأم مفقوداً.. فإن الزوج لا يستحق النصف كاملاً إلا إذا تيقنا حياة الأخ عند موت المرأة، ولا تستحق الأختان أربعة أسباع المال إلا إذا تيقنا موت الأخ عند موت المرأة.
والعمل في هذه وما أشبهها أن يقال: لو كان الأخ ميتا وقت موت أخته.. لكانت الفريضة من سبعة: للزوج ثلاثة، وللأختين للأب والأم أربعة.
ولو كان الأخ حيا وقت موت أخته.. لكانت الفريضة من ثمانية: للزوج أربعة، ولكل أخت سهم، وللأخ سهمان. والثمانية لا توافق السبعة بشيء، فتضرب الثمانية في سبعة - فذلك ستة وخمسون - فيعطى الزوج أقل نصيبيه وهو عند موت الأخ، فله حينئذ ثلاثة من سبعة مضروبة في ثمانية - فذلك أربعة وعشرون - وتعطى كل(9/35)
أخت أقل نصيبيها وهو عند وجود الأخ حيا وعند موت أخته، وذلك سهم من ثمانية مضروب في سبعة - فذلك سبعة - ويبقى من المال ثمانية عشر سهما فيوقف ذلك إلى أن يتبين أمر الأخ.
فإن بان أنه كان حيا وقت موت أخته.. كان له سهمان من ثمانية في سبعة، فذلك أربعة عشر نأخذه من الموقوف، وللزوج أربعة من ثمانية في سبعة - فذلك ثمانية وعشرون - فمعه أربعة وعشرون، ويبقى له أربعة، فيأخذها من الموقوف وقد استوفى الأختان نصيبهما.
وإن بان أن الأخ كان ميتاً وقت موت أخته.. كان للأختين أربعة من سبعة في ثمانية - فذلك اثنان وثلاثون - فمعهما أربعة عشر، ويبقى لهما ثمانية عشر وهو الموقوف، فيأخذانه وقد استوفى الزوج نصيبه. هذا هو المشهور من المذهب.
وخرج ابن اللبان في ذلك وما أشبهه وجهين آخرين:
أحدهما: أن يجعل حكم الأخ المفقود حكم الحي، لأن الأصل بقاء حياته، فلا ينقص الزوج عن النصف كاملاً لجواز موته، فيدفع إلى الزوج النصف كاملاً، وإلى كل أخت الثمن، ويوقف ربع المال.
فإن بان أن الأخ كان حيا وقت موت أخته.. دفع الربع الموقوف إليه أو إلى ورثته إن كان قد مات.
وإن بان أنه ميت وقت موت أخته.. أخذ من الزوج نصف السبع ودفع ذلك مع الربع الموقوف إلى الأختين.
وهل يؤخذ من الزوج ضمين في نصف السبع؟ فيه قولان:
أحدهما: يؤخذ منه ضمين، لجواز أن يكون الأخ ميتاً.(9/36)
والثاني: لا يؤخذ منه ضمين، كما يقسم مال الغرقى على الأحياء من ورثتهم ولا يؤخذ منهم ضمين.
قال: وهذان القولان مأخوذان مما لو مات رجل فادعى رجل: أنه ابنه وأقام بينة أنه ابنه ولم تقل البينة: لا نعلم له وارثا سواه.. فإنه يبحث عن حال الميت: هل له وارث غيره أم لا؟ ثم يدفع إليه المال، وهل يؤخذ منه ضمين؟ فيه قولان.
والوجه الثاني: أن يجعل حكم المفقود مع الورثة الموجودين حكم الميت، لأنا لا نعلم للميت وارثا غير الموجودين في الظاهر، فحكم لهم بجميع الميراث، وإمكان أن يكون المفقود حيا لا يمنع من القضاء في الظاهر في هذا الوقت، كما لم يمنع إمكان أن يتبين في الغرقى من مات أولا في أن يورث الأحياء من ورثهم.
فعلى هذا: يدفع إلى الزوج النصف عائلاً وهو ثلاثة أسهم من سبعة، ويدفع إلى الأختين الثلثان عائلا وهو أربعة من سبعة.
وهل يؤخذ من الأختين ضمين مما جاوز الربع؟ على قولين.
والله أعلم بالصواب(9/37)
[باب ميراث أهل الفرض]
والفروض المذكورة في كتاب الله تعالى ستة:
النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
وإن شئت، قلت: النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما.
وأهل الفروض عشرة: الزوج، والزوجة، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، وولد الأم، والأب مع الابن أو ابن الابن، والجد مع الابن أو ابن الابن.
فأما (الزوج) : فله فرضان، النصف مع عدم الولد أو ولد الابن، والربع مع وجود الولد أو ولد الابن وإن سفل ذكرا كان الولد أو أنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وأما (الزوجة) : فلها الربع من زوجها إذا لم يكن له ولد ولا ولد ابن وإن سفل، ولها منه الثمن إذا كان له ولد أو ولد ابن وإن سفل، ذكرا كان الولد أو أنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] [النساء: 12] .
وللزوجتين والثلاث والأربع ما للزوجة الواحدة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ} [النساء: 12] [النساء: 12] وهذا لفظ جمع. وإنما كان للزوجة نصف ما كان للزوج عند عدم الولد وعند وجوده، لأن الأنثى ترث نصف ميراث الذكر.
[مسألة: ميراث الأم]
] : فأما (الأم) : فلها ثلاثة فروض: الثلث، أو السدس، أو ثلث ما يبقى، ولها سبع أحوال.(9/38)
أحدها: أن يكون معها ولد ذكر أو أنثى، أو ولد ابن ذكر أو أنثى وإن سفل.. فلها السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] [النساء: 11] .
الحالة الثانية: أن لا يكون مع الأم ولد، ولا ولد ابن، ولا أحد من الإخوة والأخوات.. فللأم الثلث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] [النساء: 11] .
الحالة الثالثة: أن يكون مع الأم ثلاثة إخوة أو ثلاث أخوات أو منهما.. فلها السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، وقَوْله تَعَالَى: {لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] لفظ جمع، وأقل الجمع ثلاثة.
الحالة الرابعة: أن يكون مع الأم أخ أو أخت.. فلها الثلث أيضاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] . فحجبها عن الثلث إلى السدس بالإخوة وذلك جمع، ولا خلاف: أن الواحد ليس بجمع.
الحالة الخامسة: أن يكون مع الأم اثنان من الإخوة أو الأخوات، أو منهما.. فللأم السدس. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء أجمع، إلا ابن عباس، فإنه قال: (لها الثلث) ، وله خمس مسائل في الفرائض انفرد بها، هذه إحداهن.
دليلنا: أنه حجب لا يقع بواحد وينحصر بعدد، فوجب أن يوقف على اثنين. أصله حجب بنات الابن بالبنات.
فقولنا: (حجب لا يقع بواحد) احتراز من حجب الزوج والزوجة، فإنه يقع بالواحد من الأولاد.
وقولنا: (ينحصر بعدد) احتراز من حجب البنين للبنات، والإخوة للأخوات، لأن الابنة فرضها النصف والأخت فرضها النصف، وإذا حصل مع أحدهما أخوها.. حجبها من النصف، ولكن لا ينحصر هذا الحجب بعدد، بل كلما كثر الإخوة حجبوها(9/39)
أكثر. ولأنا وجدنا الاثنين من الأخوات كالثلاث في استحقاق الثلثين.. فوجب أن يكون حجب الاثنين من الإخوة للأم حجب الثلاثة.
وروي: (أن ابن عباس دخل على عثمان، فقال له: قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وليس الأخوان إخوة بلسان قومك، فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي، وانتشر في الأمصار وتوارث به الناس) ، فدل بهذا: أنهم قد أجمعوا على ذلك.
الحالة السادسة: إذا كان هناك زوج وأبوان.. قال أصحابنا: فللزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الباقي. وأصلها من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم ثلث ما بقي- وهو سهم - وللأب سهمان.
وقال القاضي أبو الفتوح بن أبي عقامة: للأم هاهنا السدس ولا يقال: لها ثلث ما بقي. قلت: ومعنى العبارتين واحد، لأن العبارة الأولى هي المشهورة.
وبه قال عامة الصحابة والفقهاء. وقال ابن عباس: (للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وأصلها من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم سهمان، وللأب سهم) . وتابعه على هذا شريح.(9/40)
الحالة السابعة: إذا كان زوجة وأبوان.. فللزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وللأب ما بقي. وأصلها من أربعة: للزوجة سهم، وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب ما بقي وهو سهمان. وبه قال عامة الصحابة وأكثر الفقهاء.
وقال ابن عباس: (للزوجة الربع، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وأصلها من اثني عشر: للزوجة الربع ثلاثة، وللأم أربعة، وللأب خمسة) .
وهاتان المسألتان من المسائل التي انفرد بها ابن عباس عن الصحابة وتابعه على هذه من التابعين شريح وابن سيرين.
ودليلنا: أن في الأولى يؤدي إلى تفضيل الأم على الأب، وهذا لا يجوز. ولأنهما أبوان معهما ذو سهم، فوجب أن يكون للأم ثلث ما بقي بعد ذلك السهم، كما لو كان مع الأبوين بنت. ولأن كل ذكر وأنثى لو انفرد.. لكان للذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فوجب إذا كان معهما زوج أو زوجة أن يكون ما بقي بعد فرض الزوج أو الزوجة بينهما كما كان بينهما إذا انفردا، كالابن والابنة والأخ والأخت.
[مسألة: ميراث الجدات]
وأما الجدة أم الأم وأم الأب: فإنها وارثة، لما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعم الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم» .
وروى بلال بن الحارث: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الجدة أم الأم السدس» .(9/41)