رهن البقول والفواكه. قال: وأصحابنا أطلقوا جواز ذلك. وإن رهنها مطلقا.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع.
والثاني: يصح؛ لأن البيع إنما لم يصح؛ لما فيه من الغرر، وليس في الرهن غرر، ولأنه يتلف ـ إن تلف ـ من مال صاحبه.
والثالث ـ نقله المزني ـ: إن شرط القطع حال المحل.. صح، وإن أطلق.. لم يصح؛ لأن إطلاقه يقتضي بقاءه إلى وقت الجذاذ، وذلك تأخير الدين عن محله. هذا ترتيب ابن الصباغ.
وأما الشيخ أبو حامد: فذكر أنها على القولين الأولين، سواء شرط القطع أو لم يشرط.
[مسألة: رهن شجرة ذات حملين بحملها الأول]
إذا كانت له شجرة تحمل في السنة حملين، كالتين والباذنجان والقثاء والخيار، فرهن الشجرة والحمل الأول، أو رهن الحمل الأول مفردا.. نظرت:
فإن كان بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل حدوث الثمرة الثانية.. صح الرهن، وكذلك: إن رهنه بحق مؤجل لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، إلا أنهما اشترطا: أنه إذا خيف اختلاط الثانية بالأولى.. قطعت الأولى، أو كانت الثانية إذا اختلطت بالأولى تميزت عنها ... فإن الرهن صحيح؛ لأن الرهن لا يختلط بغيره.
وإن رهنه بحق مؤجل، لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن الرهن لا يصح؛ لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الرهن؛ لأنه يختلط الرهن بغيره، ولا يتميز، فيصير مجهولا. وذكر في " المهذب ": أنها على قولين:
أحدهما: لا يصح الرهن؛ لما ذكرناه.
والثاني: يصح؛ لأنه يمكن الفصل عند الاختلاط، بأن يسمح الراهن بترك ثمرته(6/42)
للمرتهن، أو ينظر: كم كان المرهون؟ فيحلف عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: فإذا رهنه بحق حال، فتوانى في قطع الثمرة الأولى حتى حدثت الثانية، واختلطت، ولم تتميز.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل الرهن؛ لأن الرهن قد صار مجهولا؛ لاختلاطه بما ليس برهن.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه كان معلوما عند العقد، وعند حلول الحق، فلا يبطل بالجهالة الحادثة.
فإذا قلنا: يبطل.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يبطل.. قيل للراهن: أتسمح بترك الثمرة الثانية لتكون رهنا؟ فإن سمح.. فلا كلام، وإن لم يسمح، فإن اتفقا على قدر الأولى.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدر الأولى.. فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الأولى، سواء كانت الثمرة في يده أو في يد المرتهن.
وقال المزني: إن كانت الثمرة في يد المرتهن.. فالقول قوله مع يمينه. وهذا غلط؛ لأنهما اتفقا على أن الحادثة ملك الراهن، وإنما يختلفان في قدر المرهون منهما، فكان القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه.
[فرع: سقي الشجر المرهون]
وإذا رهنه ثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فعلى الراهن سقيها وصلاحها وجذاذها وتشميسها، كما تكون عليه نفقة العبد) . وقال في موضع آخر: (ليس عليه تشميسها) .
قال أصحابنا: ليس التشميس على قولين، وإنما هو على اختلاف حالين: فالموضوع الذي قال: (عليه التشميس) إذا بلغت الثمرة أوان الجذاذ قبل حلول الحق، والذي قال: (ليس عليه التشميس) إذا كان الحق قد حل مع تكامل صلاح الثمرة؛ لأنها تباع في الحق، وليس لأحدهما أن يطالب بقطعها قبل أوان قطعها، إلا(6/43)
برضا الآخر؛ لأن على كل واحد منهما ضررا بقطعها قبل أوان قطعها، فلم يجز ذلك من غير رضاهما.
[مسألة: رهن جارية لها ولد]
وإذا رهن الجارية ولها ولد صغير من زوج أو زنا، ولم يرهن الولد معها.. صح الرهن؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يكون فيه تفرقة بينهما، فإذا حل الحق، فإن قضى الراهن الدين من غير الرهن.. انفسخ الرهن، وإن لم يقضه، وكان الولد صغيرا يومئذ.. بيعت الجارية والولد؛ لأنه لا يجوز التفرقة بينهما، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، فما قابل الأم.. تعلق به حق المرتهن، وما قابل الولد.. تعلق به حق الراهن.
قال الشيخ أبو حامد: وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية ولها ولد دون ولدها؛ لأنها إذا كانت ذات ولد كانت قيمتها أنقص؟ فإن قيل: قيمتها ـ مثلا ـ مائة.. قيل: فكم قيمة ولدها؟ فإن قيل: خمسون.. تعلق حق المرتهن بثلثي ثمنهما، وللراهن ثلث ثمنهما، وهذا إذا علم المرتهن بولدها حال الرهن أو بعده ورضي به، وإن لم يعلم بالولد، ثم علم.. ثبت له الخيار في فسخ البيع المشروط به الرهن.
وأما إذا رهنه جارية حائلا، ثم حملت في يد المرتهن من زوج أو زنا.. فإن الولد خارج من الرهن، فإذا أراد البيع.. بيعت الجارية وولدها الصغير، ويكون للمرتهن حصتها من الثمن، وللراهن حصة الولد، وكيفية التقسيط: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية خالية من الولد؟ ثم يقوم الولد، ويقسم الثمن على قدر قيمتها. والفرق بينهما: أن المرتهن رضي في الأولى أن تكون الجارية التي لها ولد صغير رهنا، وهاهنا لم يرض بكونها لها ولد صغير رهنا، وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا(6/44)
رهن أرضا، فحدث فيها نخل وشجر، إذا بيعت الأرض والشجر برضاهما.. فإن الأرض تقوم بيضاء لا شجر فيها) .
[مسألة: رهن المصحف ونحوه لكافر]
] : وهل يجوز رهن المصحف وكتب الحديث والفقه والعبد المسلم من الكافر؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح.
والثاني: يصح، ويوضع ذلك على يد مسلم، كما قلنا في بيع ذلك منه.
و [الطريق الثاني] : قال أبو علي في " الإفصاح ": يصح الرهن، قولا واحدا، ويوضع على يد مسلم؛ لأن الكافر لا يملك الرهن، بخلاف البيع.
[مسألة: شرطا شيئا في الرهن]
وإذا شرط المتراهنان في الرهن شرطا.. نظرت:
فإن كان شرطا يقتضيه الرهن، مثل: أن يشترطا أن يباع في الدين عند حلول الأجل، أو على أن يباع بثمن المثل، أو على أن منفعته للراهن.. صح الشرط والرهن؛ لأن العقد يقتضي ذلك، فكان هذا الشرط تأكيدا.
وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد.. فلا يخلو: إما أن يكون نقصانا في حق المرتهن، أو زيادة في حقه:
فإن كان نقصانا في حقه، مثل: أن يكون رهنه رهنا على أن لا يباع في الدين، أو على أن لا يباع إلا بأكثر من ثمن مثله، أو على أن لا يباع إلا بما يرضى به الراهن.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى عقد الرهن، ويبطل الرهن بذلك؛ لأنه يمنع مقصود الرهن.
وإن كان الشرط زيادة في حق المرتهن، مثل: أن يرهنه شيئا بشرط أن يباع قبل(6/45)
محل الحق، أو على أن يباع بأي ثمن كان وإن كان أقل من ثمن مثله.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل الرهن، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد الرهن، فأبطله، كما لو كان نقصانا في حق المرتهن.
والثاني: لا يبطل؛ لأن المقصود من الرهن الوثيقة، وهذه الشروط لا تقدح في الوثيقة، لأنها زيادة في حق المرتهن، بخلاف الشروط التي تقتضي نقصانا في حق المرتهن.
فإذا قلنا: إن الرهن باطل بهذه الشروط، أو شرطا نقصانا في حق المرتهن.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في البيع.. بقي الدين بغير رهن.
وإن شرطا ذلك في البيع، بأن قال: بعتك عبدي هذا بألف على أن ترهنني دارك هذه بالألف، على أن لا تباع الدار في الدين.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يبطل البيع؛ لأن البيع ينعقد منفردا عن الرهن، فلم يبطل البيع ببطلان الرهن، كالصداق في النكاح؛ لأنه قد يتزوجها بغير صداق، ثم يفرض لها صداقا بعد ذلك، ثم لا يفسد النكاح لفساد الصداق وإن قارنه، فكذلك الرهن مع البيع.
والثاني: يبطل البيع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأفسده، كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يسلمه.
[فرع: البيع بنقد ومنفعة مجهولة]
إذا قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن أرهنك به داري هذه، وتكون منفعة الدار لك، فإن كانت منفعة الدار مجهولة.. كان الرهن والبيع باطلين، قولا(6/46)
واحدا؛ لأنه باعه العبد بألف وبمنفعة الدار مدة غير معلومة، والبيع بثمن مجهول باطل. وإن كانت منفعة الدار معلومة.. قال القاضي أبو الطيب: هذه صفقة جمعت بيعا وإجارة، فهل يصحان؟ فيه قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: شرط منفعة الدار للمرتهن باطل؛ لأنه ينافي مقتضاه، وهل يبطل به الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن.
فإذا قلنا: إنه باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إن الرهن صحيح، أو قلنا: إنه باطل، ولا يبطل البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ لا بيع؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، وهذا ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وإن قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن تكون داري رهنا به، ومنفعتها أيضا رهنا به.. فإن المنفعة لا تكون رهنا؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها. فإذا بطل رهن المنفعة.. فهل يبطل الرهن في أصل الدار؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: إن الرهن لا يفسد في أصل الدار.. لم يفسد البيع، ولكن يثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن.
وإن قلنا: يفسد في أصل الدار.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان.
[فرع: البيع بثمن ومنفعة]
وإن كان لرجل على آخر ألف بغير رهن، فقال من عليه الألف لمن له الألف: بعني عبدك هذا بألف، على أن أعطيك داري رهنا بها وبالألف الذي لك علي بغير رهن، فقال: بعتك.. كان البيع باطلا؛ لأن ثمن العبد مجهول؛ لأنه باعه بألف ومنفعة أخرى، وهو أن يعطيه رهنا بالألف التي لا رهن بها، ولأنه بيعتان في بيعة.(6/47)
[فرع: القرض بشرط رهن ومنفعته]
إذا قال لغيره: أقرضني ألف درهم، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا، وتكون منفعته لك، فأقرضه.. فالقرض باطل؛ لأنه قرض جر منفعة، وهكذا: لو كان عليه ألف بغير رهن، فقال له: أقرضني ألفا، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا بها وبالألف التي لا رهن بها، فأقرضه.. فالقرض فاسد؛ لأنه قرض جر منفعة، والرهن باطل فيهما؛ لأن الرهن إنما يصح بالدين، ولا دين له في ذمته. وإن قال: أقرضني ألفا، على أن أرهنك داري به، وتكون منفعتها رهنا بها أيضا.. لم يصح شرط رهن المنفعة؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها.
فإذا ثبت: أنه لا يصح هذا الشرط.. فإنه زيادة في حق المرتهن، وهل يبطل بها الرهن؟ فيه قولان.
[فرع: التطوع بالرهن للدين المستقر]
إذا كان له دين مستقر في ذمته، فتطوع بالرهن به، فقال: رهنتك هذه النخلة، على أن ما تثمر يكون داخلا في الرهن، أو هذه الماشية، على أن ما تنتج داخل في الرهن.. فهل يصح الرهن في الثمرة والنتاج؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن فيهما؛ لأنهما متولدان من الرهن، فجاز أن يكونا رهنا معا.
والثاني: لا يصح الرهن فيهما، وهو الصحيح؛ لأنه رهن معدوم ومجهول.
فعلى هذا: هل يبطل الرهن في النخلة والماشية؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن قال: بعتك عبدي هذا بألف، على أن ترهنني نخلتك هذه، على أن ما تثمر داخل في الرهن، فإن قلنا: يصح الرهن في الثمرة.. صح البيع. وإن قلنا: لا يصح(6/48)
الرهن في الثمرة، فإن قلنا: لا يبطل الرهن في النخلة.. لم يبطل البيع في العبد، ولكن يثبت لبائعه الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط. وإن قلنا: يبطل الرهن في النخلة.. فهل يبطل البيع في العبد؟ فيه قولان، فإن قلنا: لا يبطل.. ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط، فتحصل في هذه المسألة أربعة أقوال:
أحدها: يصح الرهن في الكل، ويصح البيع.
والثاني: يبطل الرهن والبيع.
والثالث: يصح الرهن في النخلة لا غير، ويصح البيع، وللبائع الخيار.
والرابع: أن الرهن باطل، والبيع صحيح، وللبائع الخيار.
[فرع: الإقراض بشرط الرهن ونمائه]
قال ابن الصباغ: إذا أقرضه ألفا برهن، وشرط أن يكون نماء الرهن داخلا فيه.. فالشرط باطل في أشهر القولين، وهل يفسد الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وأما القرض: فهو صحيح؛ لأنه لم يجر منفعة، وإنما الشرط زيادة في الاستيثاق، ولم يثبت.
[فرع: اشترط ضمان الرهن]
على المرتهن] :
ولو رهنه شيئا، وشرط على المرتهن ضمان الرهن.. فإن الرهن غير مضمون عليه، على ما يأتي بيانه، ويكون هذا شرطا فاسدا؛ لأنه يخالف مقتضاه، وهل يفسد الرهن بهذا الشرط؟
من أصحابنا من قال: يفسد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نقصان في حق المرتهن.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان، لأن شرط الضمان يجري مجرى الحقوق الزائدة في الرهن؛ لأنه لم ينقص حق المرتهن.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.(6/49)
[فرع: شراء سلعة بشرط جعلها رهنا بالثمن عند البائع]
إذا اشترى سلعة بشرط أن يجعلها رهنا بالثمن.. فالرهن باطل؛ لأنه رهن ما لا يملك، والبيع باطل؛ لأنه في معنى من باع عينا، واستثنى منفعتها، فكان باطلا، ولأن هذا شرط يمنع كمال تصرف المشتري، ولأن من اشترى شيئا.. فله أن يبيعه ويهبه، والرهن يمنع ذلك، فأبطل البيع، سواء شرطا أن يسلمها البائع إلى المشتري، ثم يرهنها منه، أو لم يشرط تسليمها إليه، فالحكم واحد؛ لما ذكرناه.
وإن كان لرجل على آخر دين إلى أجل، فقال من عليه الدين: رهنتك عبدي هذا بدينك؛ لتزيدني في الأجل.. لم يثبت الأجل المزيد؛ لأن التأجيل لا يلحق بالدين، والرهن باطل؛ لأنه جعله في مقابلة الأجل، وإذا لم يسلم له الأجل.. لم يصح الرهن.
[مسألة: باعه بشرط رهن مشاهد]
إذا باعه شيئا بثمن في ذمته، على أن يرهنه بالثمن رهنا معلوما بالمشاهدة، أو بالصفة.. صح البيع والرهن؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن شرط رهنا بعينه، ثم أراد الراهن أن يرهنه غير ذلك المعين.. لم يلزم البائع قبوله، سواء كانت قيمته مثل قيمة المعين أو أكثر؛ لأنه قد تعين بالشرط.
وإن قال: بعتك عبدي بمائة درهم، على أن ترهنني بها رهنا غير معين، ولا موصوف.. لم يصح هذا الشرط.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح، ويرجع فيه إلى العادة فيما يرهن بمثل ذلك الثمن) .
دليلنا: أنه رهن مجهول، فلم يصح، كما لو قال: رهنتك ما في كمي.
[فرع: شرط وضع الرهن عند عدل أو المرتهن]
] : وإذا شرطا في البيع رهن عبد معلوم، أو موصوف.. نظرت:
فإن شرطا أن يكون الرهن على يد عدل.. جاز.(6/50)
وإن شرطا أن يكون على يد المرتهن.. صح؛ لأن الحق لهما، فجاز ما اتفقا عليه من ذلك.
وإن أطلقا ذلك.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أن الرهن باطل؛ لأن كون الرهن في يد أحدهما ليس بأولى من الآخر، فإذا لم يذكر ذلك.. بطل الرهن.
والثاني: يصح الرهن، ويدفع إلى الحاكم؛ ليجعله على يد عدل إن اختلفا فيمن يكون عنده.
وإن كان الرهن جارية، ولم يشرطا كونها عند أحد.. قال الشيخ أبو حامد: صح الرهن، وجها واحدا، وجعلت على يد امرأة ثقة؛ لأنه ليس لها جهة توضع فيه غير هذا، بخلاف غير الجارية، فإن شرطا أن تكون هذه الجارية عند المرتهن، أو عند عدل.. نظرت:
فإن كان محرما لها.. جاز ذلك. قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك: إن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها.. جاز تسليمها إلى المرتهن، أو العدل؛ لأنه لا يخشى عليها منه.
وإن كانت كبيرة، واشترطا وضعها على يد المرتهن أو العدل، وليس بذي محرم لها، فإن كانت له زوجة أو جارية، قال الشيخ أبو حامد: أو في داره نساء تكون هذه المرهونة معهن.. جاز تركها معه؛ لأنه لا يخشى عليها أن يخلو بها. فإن لم تكن له زوجة ولا جارية.. لم يجز وضعها على يده، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» ، فإذا شرطا ذلك.. بطل الشرط، ولم يبطل الرهن؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في الرهن.(6/51)
[فرع: رهن الخنثى]
] : وإن كان الرهن خنثى مشكلا.. قال القاضي: فإن كان صغيرا.. جاز أن يكون على يد المرتهن، وعلى يد العدل، وعلى يد امرأة ثقة. وإن كان كبيرا.. وضع على يد ذي رحم محرم له، رجلا كان أو امرأة، ولا يوضع على يد أجنبي ولا أجنبية، فإن كان المرتهن محرما له، أو كان عنده محرم له.. جاز أن يجعل على يده، فإن أطلقا من يكون عنده.. صح؛ لأنه لا جهة لوضعه إلا واحدة، وهو المحرم، رجلا كان أو امرأة.
[فرع: وضعا الرهن عند عدل، ثم أنكر العدل]
وإذا اتفق المرتهنان على وضع الرهن على يد عدل، ثم أقرا أن العدل قد قبض الرهن، وأنكر العدل ذلك.. لزم الرهن؛ لأن الحق لهما دون العدل، فإن رجع أحدهما وصدق العدل أنه لم يقبضه.. لم يقبل رجوعه عنه؛ لأن إقراره السابق يكذبه. وإن أقر الراهن والعدل بالقبض، وأنكر المرتهن.. فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل عدم القبض، ولا يقبل قول العدل عليه؛ لأنه يشهد على فعل نفسه. هذا مذهبنا.
وإن قبض العدل الرهن بإذن المرتهن.. صح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ابن أبي ليلى: لا يصح توكيل العدل في القبض.
دليلنا: أن من اشترى شيئا.. صح أن يوكل في قبضه، فكذلك في الرهن.
[فرع: يجوز نقل الرهن من يد عدل إلى مثله برضاهما]
وإذا حصل الرهن عند العدل باتفاق المتراهنين، فإن نقلاه إلى عدل غيره.. جاز.(6/52)
وإن أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره.. لم يجز من غير رضا الآخر؛ لأنه حصل في يده برضاهما، فلا يخرج عن يده إلا برضاهما.
وإن دعا أحدهما إلى نقله، وامتنع الآخر.. رفع إلى الحاكم، فإن كان العدل ثقة لم ينقل عنه. وإن تغير حاله.. نقله الحاكم إلى عدل آخر.
وهكذا: إن كان الرهن عند المرتهن، فمات، أو اختل بجناية، أو أفلس، أو حجر عليه ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد ـ واختلف ورثته والراهن فيمن يكون الرهن عنده، أو مات العدل، أو اختل، واختلف المتراهنان فيمن يكون الرهن عنده.. رفع الأمر إلى الحاكم ليجعله عند عدل؛ لأن ذلك أقطع للخصومة.
[فرع: وضعا الرهن بيد عبد وأذنا له بالتصرف]
إذا وضعا الرهن على يد عبد، ووكلاه في بيعه.. قال أبو العباس: لا يجوز للعبد حفظه ولا بيعه، سواء جعلا له جعلا أو لم يجعلا له على ذلك؛ لأن منفعة العبد ملك لمولاه، فلا يجوز له بذلها بغير إذن سيده.
وإن جعلا الرهن على يد مكاتب، ووكلاه في بيعه، فإن كان بجعل.. جاز، وإن كان بغير جعل.. لم يجز؛ لأن المكاتب لا يملك بذل منافعه بغير عوض. وإن جعلا الرهن على يد صبي مراهق، وقبضه.. لم يصح قبضه؛ لأنه لا حكم لقبضه.
قال الشيخ أبو حامد: فصرح أبو العباس: أن قبض الصبي لا يصح، ولم يتعرض لصحة قبض العبد والمكاتب، وإنما ذكر حفظهما، ولكن يصح قبضهما؛ لأنهما مكلفان، وإنما لا يجوز لهما الحفظ والبيع؛ لأنه بذل منفعة بغير إذن السيد.
[فرع: رد العدل الرهن على المتراهنين]
فإذا أراد العدل رد الرهن على المتراهنين، فإن كانا حاضرين.. رده عليهما، ويجب عليهما قبوله؛ لأنه أمين متطوع، ولا يلزمه المقام على ذلك. فإن امتنعا من(6/53)
أخذه.. رفع الأمر إلى الحاكم، ليجبرهما على تسلمه، فإن رده العدل على الحاكم قبل أن يرده عليهما.. ضمن العدل، وضمن الحاكم؛ لأنه لا ولاية للحاكم على غير ممتنع. وكذلك: إن أودعه العدل عند ثقة.. ضمنا جميعا. فإن امتنعا، ولم يكن حاكم، فتركه العدل عند ثقة.. قال ابن الصباغ: جاز. وإن امتنع أحدهما، فدفعه إلى الآخر.. ضمن.
وإن كانا غائبين، فإن كان للعدل عذر، مثل: أن يريد سفرا، أو به مرض يخاف منه، أو عجز عن حفظه.. دفعه إلى الحاكم، وقبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليكون عنده. وإن لم يكن هناك حاكم.. جاز أن يدفعه إلى ثقة. وإن دفعه إلى ثقة مع وجود الحاكم.. ففيه وجهان، نذكرهما في (الوديعة) إن شاء الله تعالى.
وإن لم يكن له عذر في الرد، فإن كانت غيبتهما إلى مسافة تقصر فيها الصلاة.. قبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليقبضه؛ لأن للحاكم أن يقضي عليهما فيما لزمهما من الحقوق.
قال ابن الصباغ: وإن لم يجد حاكما.. أودعه عند ثقة. وإن كانت غيبتهما إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كما لو كانا حاضرين، فإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا.. لم يجز تسليمه إلى الحاضر، وكان كما لو كانا غائبين. فإن رد على أحدهما في موضع لا يجوز له الرد إليه.. قال الشيخ أبو حامد: ضمن للآخر قيمته. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\ 268] : إن رده على الراهن.. ضمن للمرتهن الأقل من قيمة الرهن، أو قدر الدين الذي رهن به. وإن رده على المرتهن ضمن للراهن قيمته. وهذا التفصيل حسن.
قال ابن الصباغ: فإن غصب المرتهن الرهن من العدل.. وجب عليه رده إليه، فإذا رده إليه.. زال الضمان عنه. ولو كان الرهن في يد المرتهن، فتعدى فيه، ثم زال التعدي.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن الاستئمان قد بطل، فلم يعد بفعله.(6/54)
[فرع: رهنا عند عدلين وأراد أحدهما تفويض حفظه للآخر]
إذا تركا الرهن على يد عدلين.. فهل لأحدهما أن يفوض حفظ جميعه إلى الآخر؟
فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المتراهنين.. لم يرضيا إلا بأمانتهما جميعا، فهو كما لو أوصى إلى رجلين، فليس لأحدهما أن ينفرد بالتصرف.
فعلى هذا: عليهما أن يحفظا الرهن في حرز يدهما عليه، إما بملك، أو عارية، أو إجارة.
وإن سلم أحدهما جميعه إلى الآخر.. ضمن نصفه.
والثاني: يجوز؛ لأن عليهما مشقة في الاجتماع على حفظه، فإن كان مما لا ينقسم، كالعبد.. جاز لأحدهما أن يسلمه إلى الآخر.
وإن كان مما ينقسم، فاقتسما.. فهل لأحدهما أن يسلم إلى الآخر ما حصل بيده بعد القسمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لو سلم إليه ذلك قبل القسمة.. صح، فكذلك بعد القسمة.
والثاني: لا يجوز لأنهما لما اقتسما.. صار كما لو قسمه المتراهنان بينهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان مما لا ينقسم.. جاز لكل واحد منهما إمساك جميعه، وإن كان مما ينقسم.. لم يجز، ويقتسمانه) .
دليلنا: أن المالك لم يرضَ إلا بأمانتهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد بحفظ جميعه، كالوصيين.
[فرع: توكيل العدل ببيع الرهن وقت محله]
إذا وضعا الرهن على يد عدل، ووكلاه في بيعه عند محل الحق.. صح التوكيل، ولا يكون هذا تعليق وكالة على شرط، وإنما هو تعليق التصرف.(6/55)
قال ابن الصباغ: فإذا حل الحق.. لم يجز للعدل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن؛ لأن البيع لحقه، فإذا لم يطالب به.. لم يجز بيعه فإذا أذن المرتهن بذلك فهل يحتاج إلى استئذان الراهن ليجدد له الإذن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا بد من استئذانه كما يفتقر إلى تجديد إذن المرتهن، ولأنه قد يكون له غرض في أن يقضي الحق من غيره.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يفتقر إلى استئذانه؛ لأن إذنه الأول كافٍ، ويفارق المرتهن؛ لأن البيع يفتقر إلى مطالبته بالحق، وأما غرض الراهن: فلا اعتبار به؛ لأنه ما لم يغير الإذن الأول، فهو راضٍٍ به.
وإن عزل الراهن العدل.. انعزل، ولم يجز له البيع، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا ينعزل) .
دليلنا: أن الوكالة عقد جائز، فانعزل بعزله، كسائر الوكالات. وإن عزله المرتهن.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينعزل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولكل واحد منهما منعه من البيع) ، ولأنه أحد المتراهنين، فملك عزل العدل، كالراهن.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا ينعزل؛ لأن العدل وكيل الراهن، فلم ينفسخ بعزل غيره، وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أراد: أن لكل واحد منهما منعه من البيع؛ لأن للمرتهن أن يمنعه من البيع؛ لأن البيع إنما يستحق بمطالبته، فإذا لم يطالب به، ومنع منه ... لم يجز، فأما أن يكون فسخا: فلا.
[فرع: وكالة العدل في بيع الرهن إذا حل الأجل]
إذا رهن شيئا، وشرط أن يكون في يد عدل، ووكل العدل في بيعه، فحل الحق قبل أن يقبض الرهن.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه لا يجوز للعدل بيع الرهن؛ لأنه وكله ببيعه رهنا، وهذا رهن لم يلزم؛ لأنه لم يقبض، اللهم إلا أن يقبضه الآن، فيكون له بيعه.(6/56)
وذكر الطبري في " العدة ": إن وكله في بيعه رهنا.. لم يكن له بيعه؛ لأنه لا يصير رهنا إلا بالقبض. وإن كان الإذن في بيعه مطلقا.. كان له أن يبيعه؛ لأن للوكيل بيع الشيء وهو في يد الموكل.
[فرع: وضع اثنان رهنا عند مسلم أو غيره]
إذا تراهن الذميان رهنا، وجعلاه على يد مسلم.. جاز. وإن تراهن المسلمان، أو المسلم والذمي، أو الذميان، وجعلاه على يد ذمي.. جاز؛ لأن الذمي يصح أن يكون وكيلا في البيع. فإن اقترض مسلم من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح بيعه؛ لأنه بيع خمر على مسلم.
وإن اقترض ذمي من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد مسلم، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح؛ لأنه بيع الخمر من مسلم. وإن اقترض ذمي من مسلم دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. فهل يجبر المسلم على قبض حقه منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأنه ثمن الخمر، وثمن الخمر محرم على المسلم.
والثاني: يجبر، فيقال له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ من قدره من الدين؛ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في ثمن الخمر، وما أشبهه من العقود الفاسدة.. أقروا عليها، وصار ذلك مالا من أموالهم.
[فرع: يضمن العدل ثمن الرهن للراهن]
إذا وكل العدل في بيع الرهن، فباعه، وقبض الثمن.. فإن الثمن يكون في يده من ضمان الراهن إلى أن يسلمه إلى المرتهن، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (هو من ضمان المرتهن) .(6/57)
دليلنا: أن العدل وكيل للراهن في البيع، والثمن ملكه، فكان من ضمانه، كالموكل في غير الرهن.
فإن تلف الثمن في يده، وخرج المبيع مستحقا، فعلى من يرجع المشتري؟ ينظر في العدل:
فإن أطلق البيع، ولم يذكر: أنه يبيع على الراهن.. رجع المشتري على العدل؛ لأن الظاهر أنه باع مال نفسه، فلزمه الضمان بحكم الظاهر.
وإن ذكر حال البيع: أنه يبيع على الراهن، أو صدقه المشتري على ذلك فإن المشتري يرجع بالعهدة على الراهن دون العدل؛ لأن العقد له.
وإن قبض العدل الثمن، وسلمه إلى المرتهن، ثم وجد المشتري بالرهن عيبا، فإن أقام البينة على العيب، بأن لم يذكر العدل: أنه يبيع للراهن.. فإن المشتري يرجع بالثمن على العدل، ويرجع العدل على الراهن؛ لأنه وكيله، ولا يسترجع الثمن من المرتهن؛ لأن الرهن لما بيع.. حصل ثمنه للراهن وملكه، فإذا دفع إلى المرتهن.. فقد قضى دينه بملكه، فزال ملك الراهن عنه. فإن لم يكن للعدل ولا للراهن مال غير الرهن.. بيع، وقضي حق المشتري من ثمنه، وما بقي.. كان للمشتري دينا على العدل، وللعدل على الراهن.
فإن لم يكن مع المشتري بينة بالعيب، فإن كان العيب مما لا يمكن حدوثه عند المشتري.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا به وقت البيع. وإن كان مما يمكن حدوثه عند المشتري، فإن صدقه العدل والراهن أنه كان موجودا به وقت البيع.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا وقت البيع، فالحكم فيه كما ذكرناه. وإن كذباه.. حلف له العدل: لقد باعه إياه بريئا من هذا العيب، فإن لم يحلف، ونكل، فحلف المشتري.. رجع على العدل بالثمن، ولا يرجع العدل بالثمن على الراهن؛ لأنه كان يمكنه أن يحلف. وإن كان العدل قد قال وقت البيع: إنه يبيع للراهن.. رجع المشتري على الراهن دون العدل.(6/58)
[مسألة: لا يبيع المرتهن الرهن إلا بحضور الراهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو شرط المرتهن إذا حل الحق: أن يبيعه لنفسه.. لم يجز أن يبيع إلا أن يحضر رب الرهن، فإن امتنع.. أمر الحاكم ببيعه) .
وجملة ذلك: أنه إذا رهنه رهنا، وشرطا في عقد الرهن: أن المرتهن يبيع الراهن.. فهذا شرط فاسد، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وقد مضى ذكر مثل ذلك.
فأما إذا رهنه رهنا صحيحا، وأقبضه إياه، فلما حل الحق.. وكل الراهن المرتهن ببيع الرهن.. لم تصح الوكالة. وإذا باع المرتهن.. كان البيع باطلا، وبه قال أحمد رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (يصح التوكيل، والبيع) .
دليلنا: أنه توكيل يجتمع فيه غرضان متضادان، وذلك: أن الراهن يريد التأني في البيع للاستقصاء في الثمن، والمرتهن يريد الاستعجال في البيع ليستوفي دينه، فلم يجز، كما لو وكله ببيع الشيء من نفسه. فإن كان الراهن حاضرا.. فهل يصح بيع المرتهن بإذنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إلا أن يحضر رب الرهن) ، ولأنه إذا كان حاضرا، فسمع تقدير الثمن.. انتفت التهمة من المرتهن، فصح بيعه.(6/59)
الثاني ـ وهو اختيار الطبري في " العدة " ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأنه توكيل فيما يتعلق به حقه فلم يصح، كما لو كان غائبا، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحضر رب الرهن) معناه: فيبيعه بنفسه، ألا ترى أنه قال: (فإن امتنع.. أمره الحاكم ببيعه) ؟
فإن قيل: هلا قلتم: يصح البيع وإن كانت الوكالة فاسدة، كما قلتم في سائر الوكالات الفاسدة؟
فالجواب: أن الوكالة الفاسدة إنما يصح البيع فيها؛ لأن الفساد غير راجع إلى الإذن، وإنما هو راجع إلى معنى في العوض، وهاهنا الفساد راجع إلى الإذن نفسه، فهو كما لو وكله أن يبيع من نفسه.. فباع.
وبالله التوفيق(6/60)
[باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه]
باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل
وما يملكه الراهن وما لا يملكه إذا رهنه أرضا وفيها بناء أو شجر، فإن شرط دخول ذلك في الرهن، أو قال: رهنتكها بحقوقها.. دخل البناء والشجر في الرهن مع الأرض، وهكذا: إن قال: رهنتك هذا البستان أو هذه الدار.. دخل الشجر والبناء في الرهن. فإن قال: رهنتك هذه الأرض، وأطلق.. فهل يدخل البناء والشجر في الرهن؟ فيه ثلاث طرق، ذكرناها في البيع.
وإن باعه شجرة، أو رهنها منه.. صح البيع والرهن في الشجرة، وهل يدخل قرارها في البيع والرهن؟ ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن قرارها لا يدخل في الرهن، وجها واحدا، وهل يدخل في البيع؟ فيه وجهان.
وذكر الطبري في " العدة ": أن البيع والرهن على وجهين:
أحدهما: لا يدخل؛ لأن المسمى في العقد هو الشجر، وهذا ليس بشجر.
فعلى هذا: إذا انقطعت الشجرة.. لم يكن للمشتري أن يغرس مكانها غيرها.
والثاني: يدخل قرار الشجرة؛ لأن قوام الشجرة به، فهو كعروق الشجرة تحت الأرض.
فعلى هذا: إذا انقطعت هذه الشجرة.. كان للمشتري أن يغرس مكانها.
وأما البياض الذي بين الشجر: فلا يدخل في البيع والرهن، وجها واحدا؛ لأن العقد إنما يتناول الشجر.
[مسألة: زيادة الرهن]
وأما نماء الرهن: فضربان: موجود حال الرهن، وحادث بعد الرهن.
فأما الموجود حال الرهن: فإن كان ثمرة.. فقد مضى ذكرها. واختلف أصحابنا(6/61)
في ورق التوت وأغصان الخلاف والآس:
فمنهم من قال: هو كالورق والأغصان من سائر الأشجار، فيدخل في الرهن.
ومنهم من قال: هو كالثمار من سائر الأشجار. وقد مضى ذكرها.
وإن رهنه ماشية، وفيها لبن أو صوف.. فالمنصوص: (أنه لا يدخل في الرهن) .
وقال الربيع: في الصوف قول آخر: (أنه يدخل) . فمن أصحابنا من قال: في الصوف قولان. ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا. وما ذكره الربيع: من تخريجه.
وأما النماء الحادث بعد الرهن: كالولد، والثمرة، واللبن، وسائر منافعه.. فاختلف أهل العلم فيه:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه ملك للراهن، وأنه لا يدخل في الرهن، وللراهن أن ينتفع بالرهن) .
وقال قوم من أصحاب الحديث: نماء الرهن ومنافعه ملك لمن ينفق عليه، فإن كان الراهن هو الذي ينفق عليه.. ملكه. وإن كان المرتهن هو الذي ينفق عليه.. فالنماء ملك له.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لبن الرهن ملك للمرتهن، فله حلبه وشربه) .
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الثمرة والولد واللبن الحادث بعد الرهن ملك للراهن، إلا أنه يدخل في الرهن) . وقال أيضا: (ليس للراهن ولا للمرتهن أن ينتفع بالرهن، بل تترك المنافع تتلف) .(6/62)
وقال مالك رحمة الله عليه: (الولد الحادث يكون رهنا ـ كقول أبي حنيفة ـ وأما الثمرة: فلا تكون رهنا) . كقولنا.
دليلنا على أصحاب الحديث، وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فمن قال: إنه ملك للمرتهن.. فقد خالف نص الخبر.
وروى الشعبي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها ونتاجها» . وهذا نص، ولأن الرهن ملك للراهن، فكان نماؤه ملكا له، كما لو لم يكن مرهونا.
وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما روى الأعمش، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» . وبالإجماع بيننا وبين أبي حنيفة: أنه لم يرد: أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فثبت: أنه محلوب ومركوب للراهن.
وأيضا: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . و (الغنم) : هو النماء، فمن قال: إنه رهن.. فقد خالف الخبر، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة، فلم يسر إلى الولد، كالإجارة، ولأن الرهن حق تعلق بالرقبة ليستوفي من ثمنها، فلم يسر إلى الولد، كالأرش في الجناية، وذلك: أن الجارية إذا جنت.. تعلق حق الجناية برقبتها، وإذا أتت بولد.. لم يسر أرش الجناية إلى ولدها.
إذا ثبت: أن منافع الرهن ملك للراهن.. فله أن يستوفيها على وجه لا ضرر فيه على المرتهن، فإن كان الرهن عبدا أو دابة.. فله أن يعيره ثقة، وله أن يؤاجره من ثقة(6/63)
إلى مدة تنقضي قبل حلول الحق، وهل له أن يستخدمه بنفسه، أو يركب البهيمة بنفسه؟
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له ذلك) . وقال في موضع: (ليس له ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، لأنه لا يؤمن أن يجحده.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه لما جاز أن يستوفيه بغيره.. جاز أن يستوفيه بنفسه، كغير الرهن.
ومنهم من قال: إن كان الراهن ثقة.. جاز له أن يستوفيه بنفسه وإن كان غير ثقة لم يجز أن يستوفي بنفسه لأن الثقة يؤمن منه أن يجحد، وغير الثقة لا يؤمن منه أن يجحد. وحمل القولين على هذين الحالين. والصحيح الطريق الأول.
إذا ثبت هذا: فإنما له أن يعير الرهن، ويؤاجره، ويستوفي ذلك بنفسه، بحيث لا يخرجه عن سلطان المرتهن، وهو أن يفعل ذلك كله في بلدة المرتهن، بحيث يرده إلى المرتهن أو إلى العدل بالليل، فأما أن يؤاجره للمسافرة به، أو يسافر هو به.. فلا يجوز؛ لأن ذلك يخرج الرهن عن سلطان المرتهن.
وإن كان الرهن دارا.. فله أن يؤاجرها، ويعيرها، وهل له أن يسكنها بنفسه؟ على الطريقين، إلا أن لساكنها أن يسكنها ليلا ونهارا.
والفرق بين الدار والعبد والدابة: أن سكنى الدار تتصل ليلا ونهارا، وخدمة العبد، وركوب الدابة وتحميلها لا يتصل، وإنما يكون بالنهار.
وإن كان الرهن ثوبا.. لم يجز للراهن لبسه بنفسه، ولا له أن يؤاجره، ولا يعيره؛ لأن ذلك يؤدي إلى إتلافه.
وإن كان الرهن جارية.. لم يكن للراهن تزويجها، وكذلك لا يجوز له تزويج العبد المرهون.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز تزويجهما) .(6/64)
دليلنا: أن التزويج ينقص قيمتهما.
وهل يجوز له وطء الجارية المرهونة؟ ينظر فيه:
فإن كانت ممن يحبل مثلها.. لم يجز له ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بالمرتهن بأن تحبل، فتتلف. وله أن يؤاجرها ويعيرها للخدمة، وهل له أن يستخدمها بنفسه؟
إن قلنا: لا يجوز له استخدام العبد بنفسه.. فهذه الجارية أولى.
وإن قلنا: له أن يستخدم العبد بنفسه.. قال أصحابنا: فليس له أن يستخدم هذه الجارية، قولا واحدا؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو فيها فيطأها.
والذي يبين لي: أنها إذا كانت ممن لا يحل له وطؤها، كامرأة من ذوات محارمه.. أنه يجوز له أن يستخدمها؛ لأن ذلك مأمون في حقه.
وإن كانت الجارية صغيرة.. فهل له أن يطأها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له أن يطأها؛ لأنه يؤمن أن يحبلها.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز له؛ لأن الإحبال والحيض قد يختلف بالنساء، فقد يسرع إلى بعضهن لقوتها وسمنها، ويتأخر عن البعض، فحسمنا الباب.
فإن قلنا بهذا: لم يجز له استخدامها بنفسه؛ لأنه لا يؤمن أن يطأها.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق.. فهي كالعبد إذا أراد أن يستخدمه بنفسه.
وإن كان الرهن أرضا، فأراد الراهن أن يزرع فيها.. نظرت:
فإن كان زرعا يضر بها.. لم يكن له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار»(6/65)
وإن كان لا يضر بالأرض.. نظرت:
فإن كان يحصد قبل حلول الدين.. لم يمنع منه.
وإن كان لا يحصد إلا بعد حلول الدين.. فالمنصوص: (أنه ليس له ذلك) .
وقال الربيع فيه قول آخر: (أن له ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ينقص قيمة الأرض عند حلول الدين.
والثاني: له ذلك؛ لأن الزرع قد يمكن نقله من غير ضرر.
قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يزرع ذلك، قولا واحدا، وما حكاه الربيع من كيسه.(6/66)
وإن أراد الراهن أن يغرس في الأرض المرهونة، أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ينقص قيمتها، فإن خالف، وغرس، وبنى.. لم يقلع؛ لأنه قد يقضى الدين من غير الأرض، وربما وفت قيمة الأرض بالدين، فلا يجوز الإضرار به لضرر متوهم في الثاني.
فإذا حل الدين وفي الأرض ما غرسه الراهن، أو حمل إليها السيل غراسا له، فنبت له، فإن قضى الراهن الدين من غير الأرض.. فلا كلام. وإن لم يقضه من غير الأرض.. نظرت:
فإن كانت قيمة الأرض وحدها تفي بالدين.. بيعت الأرض في الدين، ويبقى الغراس والبناء على ملك الراهن.
وإن كانت قيمة الأرض وحدها لا تفي بالدين.. نظرت:
فإن لم تنقص قيمتها لأجل الغراس والبناء.. بيعت الأرض وحدها، وقضي الدين من ثمنها.
وإن كانت قيمة الأرض قد نقصت لأجل الغراس والبناء، بأن كانت قيمتها وهي بيضاء مائة، فصارت قيمة الأرض وحدها بعد الغراس ثمانين، نظرت: فإن كان الراهن غير محجور عليه.. فهو بالخيار: بين أن يقلع غراسه وبناءه، ويسوي الأرض كما كانت، وتباع في حق المرتهن، وبين أن يبيع الأرض والغراس والبناء، ويسلم إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة؛ لأن قيمتها نقصت بفعله.
وإن كان الراهن محجورا عليه.. نظرت:
فإن لم تزد قيمة الأرض والغراس، بأن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس خمسين، فصارت قيمتهما جميعا مائة وخمسين.. بيعا جميعا، ودفع إلى المرتهن قيمة الأرض، وإلى سائر الغرماء قيمة الغراس.(6/67)
وإن نقصت قيمة الأرض بالغراس، بأن صارت قيمتها جميعا مائة وثلاثين.. لم يجز للراهن قلع الغراس؛ لأنه تعلق به حق الغرماء، ولكن تباع الأرض والغراس، ويدفع إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة، وإلى سائر الغرماء ثلاثون.
وإن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس منفردا خمسين، فإذا جمع بينهما، صارت قيمتهما مائتين.. فقد حدثت الزيادة فيهما، فيتعلق حق المرتهن بثلثي الخمسين الزائدة، وللراهن ثلثها.
وإن ترك في أرضه نوى، ثم رهنها، ثم نبتت نخلا، فإن علم المرتهن بذلك.. فلا خيار له؛ لأنه رضي بارتهان أرض ذات نخل، ولا يكون النخل داخلا في الرهن، فإذا حل الحق، وبيعت الأرض.. كان للمرتهن قيمة الأرض بيضاء ذات نخل. وإن لم يعلم بها، ثم علم.. كان له الخيار، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. كان الحكم ما ذكرناه.
[فرع: الانتفاع بالرهن]
وإن أراد الراهن أن يؤجر الرهن إلى مدة لا تنقضي إلا بعد محل الدين:
فإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك يمنع من بيعه.
وإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز له ذلك؛ لأن ذلك ينقص من قيمته عند البيع.
و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: فيه قولان، كالقولين في زراعة ما لا يحصد، إلا بعد محل الدين.(6/68)
[فرع: رهن فحل الضراب]
وإن كان الرهن فحلا، فأراد الراهن أن ينزيه على بهائمه، أو بهائم غيره.. قال الشافعي: (جاز؛ لأن هذا منفعة، ولا ينقص به كثيرا) . وإن كان أتانا، وأراد أن ينزي عليها الفحل، فإن كانت تلد قبل حلول الدين، أو مع حلول الدين.. جاز؛ لأنه استيفاء منفعة لا ضرر على المرتهن بها. وإن كانت لا تضع إلا بعد حلول الدين.. فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان له ذلك؛ لأن الحق إذا حل وهي حامل.. صح بيعها، وحملها يدخل في البيع. وإن قلنا: للحمل حكم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحمل لا يدخل في الرهن، ولا يمكن بيعها دون الحمل. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وابن الصباغ: أن القولين إذا كان الحمل يظهر بها قبل حلول الدين، فأما إذا كان الحمل لا يظهر بها قبل محل الدين.. جاز؛ لأنه يمكن بيعها في الدين. ولعل الشيخ أبا حامد أراد بإطلاقه هذا.
[مسألة: تصرف المرتهن بما فيه منفعة]
ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن، كحجامة العبد وفصده؛ لأنه إصلاح لماله، ولا ضرر فيه على المرتهن. وإن مرض، فأراد مداواته بدواء لا ضرر فيه، وإنما يرجى نفعه.. لم يكن للمرتهن منعه، ولا يجبر على ذلك؛ لأن الشفاء قد يأتي من غير دواء.
وإن أراد الراهن أن يقطع شيئا من بدنه، فإن كان في قطعه منفعة، وفي ترك قطعه خوف عليه، مثل: الآكلة إذا كانت في يده.. فإن للراهن أن يقطع ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن في قطع ذلك مصلحة من غير خوف؛ لأنه لحم ميت، [و] لا يحس(6/69)
بلحم ميت. وإن كان يخاف من قطعه، ويخاف من تركه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ ولم يذكر الشيخان غيره ـ: أنه لا يجوز إلا بإذن الراهن والمرتهن؛ لأنه يخاف عليه من قطعه، فلم يجز، كما لو لم يخف عليه من تركه.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي الطبري ـ: أن له أن يفعله، إلا أن يخاف منه التلف غالبا، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المنفعة بذلك إذا كانت هي الغالبة.. كان فيه صلاح، كالمتيقن. وإن كانت به سلعة أو أصبع زائدة أو ضرس زائد، وأراد قطعه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يكن له قطعه وإن تراضيا؛ لأنه لا يخاف من تركه، ويخاف من قطعه، ولهذا: لو أراد الحر قطع ذلك من نفسه.. لم يكن له ذلك. وقال ابن الصباغ: هذا مما لا يخاف من قطعه غالبا، فيكون على الوجهين.
وإن كان العبد صغيرا، وأراد الراهن أن يختنه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له ذلك؛ لأنه سنة، وزيادة) . وأطلق هذا.
قال أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان الحق حالا أو مؤجلا بحيث يحل قبل أن يبرأ.. لم يكن له أن يختنه؛ لأنه بالختان يتغير لونه وسجيته. وإن كان الختان يبرأ قبل حلول الحق.. كان له ذلك؛ لأنه سنة، ويزيد في قيمة العبد.
وإن كان الرهن دابة، فاحتاجت إلى التوديج، وهو: فتح عرقين عريضين عن يمين ثغرة النحر ويسارها يسميان: الوريدين، أو إلى التبزيغ وهو: فتح(6/70)
الرهصة، و (التبزيغ) : الشق. ولهذا يقال: بزغت الشمس: إذا طلعت.. فللراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه مصلحة من غير ضرر.
وإن أراد المرتهن أن يفعل شيئا من هذا بغير إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكل ما كان فيه مصلحة، ولا يتضمن المضرة أصلا.. جاز أن يفعله، مثل: تدهين الماشية الجرباء بالقطران، وغير ذلك مما فيه منفعة من غير مضرة. وأما ما كان فيه منفعة، وقد يضر أيضا؛ كالفصد والحجامة وشرب الدواء وغير ذلك فكل هذا قد ينفع وقد يضر أيضا؛ لأنه قد لا يوافق.. فليس له ذلك.
وللراهن أن يفعل ما يتضمن المنفعة والضرر من هذه الأشياء بغير إذن المرتهن، بخلاف المرتهن، فإنه لا يفعل شيئا من ذلك إلا بإذن الراهن) .
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذه المسألة غريبة.
[فرع: رهن الماشية]
إذا كان الرهن ماشية.. فللراهن أن يرعى ماشيته، وليس للمرتهن منعه من ذلك؛ لأنها تأوي بالليل إلى يد الموضوعة على يده. وإن أراد الراهن أن ينتجع بها، وهو: أن يحملها إلى غير ذلك الموضع ليطلب الكلأ، فإن اتفقا عليه.. جاز. وإن امتنع أحدهما.. نظرت:(6/71)
فإن كان الموضع مخصبا كما كان.. لم يجبر الممتنع؛ لأن المرتهن يقول: إنما ارتهنتها في هذه البلد، فليس لك أن تنقلها منه إلى بلد آخر بغير ضرورة.
وإن كان الموضع مجدبا، فإن اتفقا على النجعة والمكان.. جاز؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا. وإن اتفقا على النجعة، واختلفا في المكان، قال الشيخ أبو حامد: وكان المكانان متساويين في الخصب والأمن.. قدم قول الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة. وإن اختلفا في النجعة.. أجبر الممتنع منهما من النجعة عليها؛ لأن المرتهن إن كان هو الممتنع.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالماشية، فإما أن تخرج معها، أو ترضى بعدل من قبلك تأوي إليه، وإلا نصب الحاكم عدلا من قبله عليها. وإن كان الممتنع هو الراهن.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالمرتهن، فإما أن تخرج معها، أو توكل من يأخذ رسلها، وهو: لبنها، ويرعاها، ويحفظها.
[فرع: رتهن نخلا فله تأبيرها]
فرع: [ارتهن نخلا فله تأبيرها] :
وإن كان الرهن نخلا، فأطلعت.. كان للراهن تأبيرها من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مصلحة لماله من غير ضرر، وما يحصل من السعف الذي يقطع كل سنة، أو الليف.. فهو للراهن، لا يدخل في الرهن؛ لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالثمرة. فإن قيل: هذا قد تناوله عقد الرهن، وليس بحادث؟(6/72)
فالجواب: أن ما يحدث من السعف يقوم مقامه، فصار هذا بمنزلة المنفعة خارجا عن الأصول.
فإن خرجت الفسلان في أصل النخل.. قال ابن الصباغ: فعندي: أن ذلك يكون للراهن، لا حق للمرتهن فيه؛ لأنه يخرج عن الأصول، فهو كالولد.
فإن ازدحمت النخل أو الشجر، فأراد الراهن أن يحول بعضها إلى بعض أرض الرهن، وكان في تحويلها مصلحة للباقي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان له ذلك) ؛ لأن النخل إذا ازدحمت قتل بعضها بعضا، فإن حولها، فنبتت.. كانت رهنا. وإن جف منها شيء.. كانت أخشابها رهنا، وإن لم يكن في أرض الرهن ما يمكن تحويلها إليه، وأراد الراهن قطع بعضها، وفي ذلك زيادة للباقي.. كان للراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن، كما قلنا في التحويل، فإذا قطعت.. كانت أخشابها رهنا. وإن أراد الراهن تحويل بعضها إلى أرض غير الأرض المرهونة، أو أراد تحويل جميعها إلى الأرض المرهونة، أو قطع جميعها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ضرر من غير منفعة.
[فرع: المرتهن يحول المساقي]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أراد الراهن تحويل المساقي، فإن كان يضر بالرهن.. لم يكن له ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: والمساقي، جمع: مسقى، وهو: الإجانة التي تكون حول النخل، يقف الماء فيها ليشربه النخل، فإذا أراد أن يحولها الراهن من جانب إلى جانب، فإن لم يكن فيه ضرر على النخل.. جاز له ذلك. وإن كان فيه ضرر على النخل.. لم يجز له ذلك.(6/73)
قال الشيخ أبو حامد: فأما المرتهن إذا أراد أن يفعل ذلك.. لم يكن له؛ لأنه يتصرف في ملك الراهن، ولا يجوز له التصرف في ملك غيره، وليس هذا كتدهين الجرباء من الماشية بالدهن والقطران؛ لأن في التدهين بذلك منفعة من غير مضرة، فوزانه من النخل: إن احتاج إلى سقي.. فللمرتهن أن يسقي النخل بغير إذن الراهن؛ لأن فيه منفعة من غير مضرة.
[مسألة: أزال مالك الرهن ملكه عنه]
وإن أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن.. نظرت:
فإن كان ببيع، أو هبة، وما أشبههما من التصرفات.. لم يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» . وفي هذه التصرفات إضرار على المرتهن، ولأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بغير إذن المرتهن، كالفسخ.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.
وقولنا: (يبطل به حق المرتهن من الوثيقة) احتراز من إجارته وإعارته للانتفاع به.
وقولنا: (بغير إذن المرتهن) احتراز منه إذا أذن.
وإن كان الرهن رقيقا، فأعتقه الراهن بغير إذن المرتهن.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إن كان موسرا.. نفذ عتقه، وإن كان معسرا.. فعلى قولين) .
وقال في القديم: (قال عطاء: لا ينفذ عتقه، موسرا كان أو معسرا) . ولهذا وجه. ثم قال: (قال بعض أصحابنا: ينفذ إن كان موسرا، ولا ينفذ إن كان(6/74)
معسرا) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فقال أبو علي الطبري، وابن القطان: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثاني: لا ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا.
والثالث: إن كان موسرا.. نفذ، وإن كان معسرا.. لم ينفذ. وهذه الطريقة اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
وقال أبو إسحاق المروزي: القولان في الموسر، وأما المعسر: فمرتب على الموسر، فإن قلنا: إن عتق الموسر لا ينفذ.. فالمعسر أولى أن لا ينفذ عتقه. وإن قلنا: عتق الموسر ينفذ.. ففي عتق المعسر قولان.
وقال الشيخ أبو حامد: في عتق الموسر والمعسر قولان، وما حكاه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفرق بين الموسر والمعسر.. فإنما حكى قول غيره، ولم يختره لنفسه. قال: وترتيب أبي إسحاق ليس بشيء. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح من القولين في الموسر: أن عتقه ينفذ، والصحيح من القولين في المعسر: أنه لا ينفذ عتقه.
فإذا قلنا: إن عتقه يصح موسرا كان أو معسرا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما.. فوجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق إلا في نكاح، ولا عتق إلا فيما يملكه ابن آدم» وهذا يملكه، ولأن الرهن محبوس على استيفاء حق، فجاز أن(6/75)
يلحقه عتق المالك، كالمشتري إذا أعتق العبد المبيع في يد البائع قبل أن ينقد الثمن، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك، فلم يمنع صحة العتق، كالإجارة والنكاح، وفيه احتراز من البيع والهبة.
فعلى هذا: إن كان موسرا.. أخذت من الراهن قيمة الرهن عند الحكم بعتقه، وجعلت رهنا مكانه، ولا يفتقر إلى تجديد عقد الرهن على القيمة؛ لأنها قائمة مقام الرهن. وإن كان معسرا.. وجبت القيمة في ذمته، فإن أيسر قبل محل الدين.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، إلا أن يختار تعجيل الدين، فله ذلك. وإن لم يؤسر إلا بعد محل الدين.. طولب بقضاء الدين. ومتى يحكم بالعتق؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتق بلفظ الإعتاق.
والثاني: لا يعتق إلى بدفع القيمة.
والثالث: أنه موقوف، فإن دفع القيمة.. علمنا أنه قد كان عتق بلفظ الإعتاق، وإن لم يدفع القيمة.. علمنا أنه لم يعتق، كما لو أعتق الموسر شقصا له من عبد.. فإن نصيب شريكه يعتق عليه، ومتى يعتق؟ على هذه الأقوال.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعتق بلفظ العتق، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان كعتق الشقص.. لم ينفذ عتق المعسر، كما لا يعتق نصيب الشريك من المعسر.
وإذا قلنا: لا ينفذ إعتاقه موسرا كان أو معسرا.. فوجهه: أن العتق معنى تبطل به الوثيقة من غير الرهن، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، ولأن حق المرتهن متعلق بمحلين: ذمة الراهن، وعين الرهن. ولو أراد الراهن أن يحول الحق من ذمته إلى ذمة غيره.. لم يصح بغير رضا المرتهن، وكذلك إذا أراد تحويل حقه من عين الرهن إلى غيره.
فعلى هذا: يكون الرهن بحاله. وإذا حل الحق، وبيع العبد في الدين.. صح البيع.(6/76)
وإن قضى الراهن الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن، أو بيع في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل ينفذ عتقه الأول؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينفذ، وبه قال مالك رحمة الله عليه، لأنا إنما لم نحكم بصحته؛ لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فوجب أن يحكم بصحته، كالإحبال.
والثاني وهو المذهب: أنه لا ينفذ؛ لأنه عتق لم يصح حال الإعتاق، فلم يصح فيما بعد، كالمحجور عليه إذا أعتق عبده، ثم فك عنه الحجر، ويخالف الإحبال فإنه أقوى، ولهذا نفذ إحبال المجنون، ولم ينفذ عتقه.
وإذا قلنا: ينفذ إعتاق الموسر، ولا ينفذ إعتاق المعسر.. فوجهه: أنه عتق في ملكه يبطل به حق الغير، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك، ولأنه لا ضرر على المرتهن في إعتاق الموسر، فصح، وعليه ضرر في إعتاق المعسر، فلم يصح، كما قلنا في العبد المأذون له في التجارة، إذا كان في يده عبد، فأعتقه سيد المأذون، فإن كان لا يدن على المأذون له.. نفذ عتق السيد في العبد، وإن كان عليه دين.. لم ينفذ.
فعلى هذا: إن كان الراهن موسرا.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، وتعتبر القيمة وقت العتق. ومتى يعتق؟ الذي يقتضي المذهب: أنه على الأقوال الثلاثة في عتق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسرا.. فالرهن بحاله، فإن أيسر قبل محل الدين، أو قضى الدين عنه أجنبي، أو أبرأه المرتهن، أو بيع العبد في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل يعتق عليه بإعتاقه الأول؟ ينبغي أن يكون على الوجهين إذ قلنا: لا ينفذ عتقه بحال.
[مسألة: جواز رهن الجارية الموطوءة]
وإن كان له جارية، فوطئها، ثم رهنها.. صح الرهن؛ لأن الأصل عدم الحمل، فلم يمنع صحة الرهن. وهكذا: لو رهنها، ثم وطئها، ثم أقبضها عن الرهن.. صح الإقباض؛ لأن الرهن قبل القبض غير لازم، فهو كما لو وطئها، ثم رهنها. فإن ولدت بعد الإقباض.. نظرت:(6/77)
فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. لم يلحق الولد بالراهن، ولم يبطل الرهن في الأم؛ لأنها لم تصر أم ولد له، وكان الولد مملوكا.
وإن وضعت الولد لستة أشهر من وقت الوطء.. نظرت:
فإن اعترف الراهن عند تسليمها: أنه كان قد وطئها، ولم يستبرئها.. صارت أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ويبطل الرهن فيها؛ لأنه بان أنه رهنها بعد أن صارت أم ولد. وهل يثبت للمرتهن الخيار في البيع إن كان رهنها مشروطا في البيع؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا خيار له. وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد؛ لأنه قبضها مع الرضا بالوطء، فصار بمنزلة رضاه بالعيب.
والثاني ـ ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وهو قول ابن الصباغ ـ: أن له الخيار؛ لأنه باع بشرط أن يتسلم رهنا صحيحا، ولم يسلم له ذلك، ولأنا إذا جعلنا الأصل عدم الحمل، وصححنا عقد الرهن.. لم يكن رضا المرتهن بقبض الموطوءة رضا بالحمل، فثبت له الخيار.
وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر، ولأربع سنين فما دونها من وقت الوطء.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\263-264] :
أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنها كالأولى؛ لأنا نتبين أن الولد كان موجودا وقت الإقباض، فيلحق النسب بالراهن، وتصير أم ولد له، ويبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، ولا يبطل الرهن بالاحتمال.
وإن وضعت الولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء.. لم يلحق نسبه بالراهن، ولم تصر الجارية أم ولد له، ولا يبطل الرهن، لأنا نعلم أن هذا الولد حدث من وطء بعد الرهن.
وإن ولدت لستة أشهر من وقت الإقباض، فقال الراهن عند ذلك: كنت وطئتها قبل الإقباض.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان، كما لو رهن عبدا، وأقبضه، ثم أقر(6/78)
الراهن: أن العبد كان جنى خطأ على غيره قبل الرهن، وصدقه المقر له، وأنكر المرتهن، ويأتي توجيههما إن شاء الله تعالى.
[فرع: لا يحل وطء الراهن الجارية إلا بإذن المرتهن]
] . فأما إذا رهن جارية، فأقبضها.. فلا يحل له وطؤها بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه ضررا على المرتهن؛ لأنها ربما حبلت، فتموت منه، أو تنقص قيمتها. فإن خالف، ووطئ.. فلا حد عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، ولا مهر عليه؛ لأن غير الراهن لو وطئها بشبهة، أو أكرهها.. لكان المهر للراهن، فإن وطئها الراهن.. لم يجب عليه مهر لنفسه. فإن أفضاها، أو كانت بكرا، فافتضها.. وجبت عليه قيمتها بالإفضاء، وأرش ما نقصها الافتضاض؛ لأن ذلك بدل عن جزء منها، ويكون الراهن بالخيار: إن شاء.. جعل ذلك قصاصا من الحق إن كان لم يحل، وإن شاء.. جعله رهنا معها إلى أن يحل الحق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أظن أن عاقلا يجعل ذلك رهنا) ، فيكون أمانة؛ لأنه يمكنه أن يجعله قصاصا من الحق. وإن حبلت من هذا الوطء.. انعقد الولد حرا، وثبت نسبه من الراهن. وهل تصير الجارية أم ولد، ويبطل الرهن؟
قال عامة أصحابنا: هو كما لو أعتقها الراهن بعد الإقباض بغير إذن المرتهن على الأقوال المذكورة في العتق.
وقال أبو إسحاق المروزي: إن قلنا: ينفذ عتقه.. نفذ إحباله. وإن قلنا: لا ينفذ عتقه.. فهل ينفذ إحباله؟ فيه وجهان؛ لأن الإحبال أقوى؛ لأنه ينفذ من المجنون، ولا ينفذ عتقه. والأول أصح.
فإن قلنا: ينفذ إحباله، وتصير أم ولد.. فالحكم فيه، كالحكم إذا قلنا: يصح عتقه على ما مضى.(6/79)
وإن قلنا: لا ينفذ إحباله، ولا تصير أم ولد.. فإنما نريد بذلك: أنها لا تصير أم ولد للراهن في حق المرتهن، ولا يبطل به الرهن.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أراد الراهن أن يهبها من المرتهن.. لم تصح الهبة.
فعلى هذا: يكون الولد حرا ثابت النسب من الراهن، فما دامت حاملا لا يجوز بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز بيعها واستثناء الولد عن البيع، كما لا يجوز استثناء بعض أعضائها، ولا يجوز بيعها مع الولد؛ لأن الحر لا يصح بيعه.
فإن ماتت من الولادة.. وجب على الراهن قيمتها؛ لأنها هلكت بسبب من جهته تعدى به، فلزمه ضمانها، كما لو جرحها، فماتت منها، ومتى تعتبر قيمتها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تعتبر قيمتها حين وطئها؛ لأنه حين الجناية، كما لو جرحها، وماتت.. فإن قيمتها تعتبر يوم جرحها.
والثاني: تعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين وطئها إلى أن ماتت، كما لو غصب جارية، وأقامت في يده، ثم ماتت.
والثالث ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أن قيمتها تعتبر حين ماتت؛ لأن التلف حصل به. وحكي: أن أبا علي ألزم إذا جرحها، فسرى إلى نفسها، فالتزم ذلك، وقال: يجب قيمتها يوم موتها.
قال أصحابنا: وهذا خطأ، بل تعتبر قيمتها يوم الجراحة، وإن لم تمت، ولكن نقصت قيمتها بالولادة.. لزم الراهن أرش النقص، فإن شاء.. جعل ذلك رهنا، وإن شاء.. جعله قصاصا من الحق.
وإن ولدت.. فلا يجوز بيعها قبل أن تسقي الولد اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت:
فإن لم توجد له مرضعة.. لم يجز بيعها حتى تفطمه؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه.
وإن وجد من ترضعه غيرها.. جاز بيعها بحق المرتهن.
فإن قيل: كيف جاز التفريق بينها وبين الولد؟ قيل: إنما لا يجوز التفريق بينهما إذا كان يمكن الجمع بينهما في البيع، وهاهنا لا يجوز بيع الولد، فلذلك فرق بينهما.(6/80)
فإن كان الدين يستغرق قيمتها.. جاز بيع جميعها. وإن كان الدين أقل من قيمتها.. بيع منها بقدر الدين، إلا إن لم يوجد من يشتري بعضها، فتباع جميعها للضرورة، فيدفع إلى المرتهن حقه، والباقي من ثمنها للراهن. وإن بيع بعضها بدين المرتهن. انفك الباقي منها من الرهن، وكان ما بيع منها مملوكا للمشتري، وما انفك أم ولد للراهن. فإن مات الراهن.. عتق عليه ما انفك فيه الرهن، ولم يقوم عليه الباقي وإن كانت له تركة؛ لأنه عتق على الميت، والميت لا مال له؛ لأن بالموت صار ماله لورثته. وإن رجع هذا المبيع إلى الراهن بهبة، أو بيع، أو إرث، أو بيع جميعها، ثم رجعت إليه، أو أبرأه المرتهن عن دينه.. ثبت لها حكم الاستيلاد، وعتقت على الراهن بموته على هذا القول.
وقال المزني: لا يثبت لها حكم الاستيلاد على هذا، كما قلنا فيه: إذا أعتقها، وقلنا: لا ينفذ عتقه، ثم رجعت إليه. وهذا ليس بشيء؛ لأنا إنما حكمنا بأن إحباله لم ينفذ في حق المرتهن لا غير، بدليل: أنه لو وهبها من المرتهن.. لم تصح هبته. فإذا زال حق المرتهن.. ثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو قال رجل: العبد الذي في يد فلان حر.. فإنه لا يعتق على من هو بيده، ثم ملكه الشاهد له بذلك.. لعتق عليه.. ويفارق الإحبال العتق؛ لأن الإحبال فعل له تأثير لا يمكن رفعه إذا وقع، والعتق قول، فإذا بطل في الحال.. لم يصح فيما بعد؛ لأن الإحبال يصح من المجنون والسفيه، ولا يصح عتقهما.
[مسألة: وقف الرهن بغير إذن المرتهن]
] : وإن وقف الراهن الرهن بعد القبض بغير إذن المرتهن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: انه كالعتق، فيكون على الأقوال؛ لأنه حق لله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته، فصار كالعتق.(6/81)
فقولنا: (لأنه حق لله) احتراز من البيع والهبة.
وقولنا: (لا يصح إسقاطه بعد ثبوته) احتراز من التدبير، فإنه إذا رهن عبدا، وأقبضه، ثم دبره.. لم يحكم ببطلان التدبير.
والوجه الثاني: أن الوقف لا يصح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، والهبة.
فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق.
[مسألة: إحبال الراهن الجارية بإذن المرتهن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. خرجت من الرهن) . وهذا كما قال: إذا رهنه جارية، وأقبضه إياها، ثم إن المرتهن أذن للراهن بعتقها فأعتقها.. صح ذلك، قولا واحدا، وكذلك: إذا أذن له بوطئها.. جاز له وطؤها؛ لأن المنع من ذلك لحق المرتهن، فإذا أذن له فيه.. زال المنع.
فإن حبلت من الوطء المأذون فيه.. صارت أم ولد للراهن، وخرجت من الرهن، قولا واحدا؛ لأن ذلك ينافي الرهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. صار كما لو أذن له في فسخ الرهن، ولو أذن له في الفسخ، ففسخ.. انفسخ الرهن.
فإن قيل: إنما أذن في الوطء دون الإحبال؟
فالجواب: أنه وإن لم يأذن في الإحبال، إلا أن الإحبال من مقتضى إذنه، مع أن الواطئ لا يقدر على الإحبال، وإنما الإحبال من الله سبحانه وتعالى، ولم يفعل الواطئ أكثر مما أذن له فيه، فإذا أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. لم يجب عليه قيمتها؛ لأن الإتلاف حصل بإذن المرتهن، فصار كما لو أذن له في قتلها، فقتلها.. فإنه لا قيمة للمرتهن على الراهن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإن أذن المرتهن للراهن في ضرب الجارية المرهونة، فضربها الراهن، فماتت من الضرب.. انفسخ الرهن، ولم يجب على الراهن قيمتها) ؛ لأنه أذن له في الضرب إذنا طلقا، فأي ضرب ضربها.. فإنه مأذون(6/82)
فيه، وما تولد من المأذون فيه.. فلا شيء عليه لأجله.
فإن قيل: أليس قد أذن للإمام في الضرب في التعزير، وللزوج أن يضرب زوجته، وللمعلم أن يضرب الصبي، ثم إذا أدى ضرب واحد منهم إلى التلف.. كان عليه الضمان؟
قلنا: الفرق بين هؤلاء والراهن: أن هؤلاء إنما أبيح لهم الضرب على وجه التأديب بشرط السلامة، فإن أدى ضربهم إلى التلف.. كان عليهم الضمان؛ لأنه غير مأذون فيه، وليس كذلك الراهن، فإن الإذن له وقع مطلقا، فأي ضرب ضربه.. فهو مأذون له فيه.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الإذن في تأديبه، أو تضمنه إذنه، فيشترط فيه حينئذ السلامة عندي، كما قلنا في الضرب الشرعي.
[فرع: اختلاف المتراهنين في إلحاق الولد]
وإذا أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة، فأتت بولد، ثم اختلفا فيه، فقال الراهن: هذا الولد مني، وقال المرتهن: هذا الولد من زوج أو زنا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الراهن) .
قال أصحابنا: وأراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول الراهن إذا أقر المرتهن بأربعة أشياء:
أحدها: أن يقر أنه قد أذن له بالوطء.
الثاني: أن يقر أن الراهن قد وطئها.
الثالث: أن يقر أن هذا الولد ولدته هذه الجارية.(6/83)
الرابع: أن يقر بأنه قد مضى من حين الوطء أقل مدة الوضع.
فإذا أقر المرتهن بهذه الأربعة الأشياء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فالقول قول الراهن بلا يمين؛ لأنه إذا اعترف بوطء جاريته.. صارت فراشا له، فإذا أتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحقه نسبه. ولو ادعى أنه ليس منه.. لم يقبل قوله، فلا معنى لاستحلافه) .
وأما إذا قال المرتهن: لم آذن بالوطء. أو قال: أذنت لك به، ولم تُطأ.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ذلك، وبقاء الوثيقة.
وهكذا: لو أنكر مضي مدة الحمل.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها.
وكذلك: إذا قال: هذا الولد لم تلده الجارية.. فعلى الراهن البينة أنها ولدته، فإذا لم تقم بينة على ذلك.. حلف المرتهن؛ لأن الأصل عدم ولادتها له.
[مسألة: وطء المرتهن الجارية المرهونة]
وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة، فإن كان بغير إذن الراهن، فإن كان عالما بالتحريم.. وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيها؛ لأن عقد الرهن عقد استيثاق بالعين، ولا مدخل لذلك في إباحة الوطء، ولأن الحد لا يسقط بالوطء المحرم إلا لأحد ثلاثة أشياء:
[أولها] : إما لشبهة عقد، بأن يتزوجها بغير ولي أو لا شهود؛ لاختلاف العلماء في صحته.
[ثانيها] : أو لشبهة في الموطوءة، بأن يطأ جارية ابنه، أو الجارية المشتركة بينه وبين غيره.(6/84)
[ثالثها] : أو لشبهة في الفعل، بأن يطأ امرأة يظنها جاريته أو امرأته.
وليس هاهنا واحد من ذلك. فإن أولدها.. فالولد مملوك للراهن، ولا يثبت نسبه من المرتهن.
وأما المهر: فإن أكرهها على الوطء، أو كانت نائمة، فوطئها.. فعليه المهر؛ لأنه وطء يسقط به الحد عن الموطوءة، فلم يعر من وطئها في نكاح فاسد. وإن طاوعته على الوطء.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) .
ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج: أنه يجب عليه المهر؛ لأن المهر حق للسيد، فلا يصح بذل الجارية له، كأجرة منافعها. والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» .
و (البغي) : الزانية. وهذه زانية.
وإن ادعى الجهالة بتحريمه، فإن لم يحتمل صدقه، بأن يكون ناشئا في أمصار المسلمين.. لم يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر ممن نشأ بين المسلمين أنه لا يخفى عليه ذلك، فيكون حكمه حكم الأولى. وإن احتمل صدقه، بأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو كان مسلما ناشئا في بادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .(6/85)
وروي: أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه زوج جارية له من راع، فزنت، فأتى بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال لها عمر: (يا لكعاء زنيت؟ فقال: من مرغوش بدرهمين، فقال أمير المؤمنين عمر لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: ما تقول في هذا؟ فقال: قد اعترفت، عليها الحد. ثم قال لعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أقول: كما قال أخي علي، فقال(6/86)
لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أراها تستهل به، كأنها لا تعلم، وإنما الحد على من علم. فدرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه عنها الحد) .
قال الشيخ أبو حامد: بعض أهل الحديث قالوا: هو مرغوش بالشين. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو بالسين. قال: فسألت عنه جماعة من أهل اللغة، فلم يعرفوه، إلا فلانا قال: هو اسم طير.
وأما المهر: فإن أكرهها المرتهن.. فعليه المهر. وإن طاوعته، فإن كانت جاهلة أيضا.. فعليه المهر. وإن كانت عالمة بالتحريم.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) .
وعلى القول المخرج.. عليه المهر. وإن أولدها.. فالولد حر ثابت النسب من المرتهن، وعليه قيمته يوم يسقط.
وأما إذا وطئها المرتهن بإذن الراهن.. فإن عامة العلماء قالوا: لا يحل له الوطء، إلا عطاء، فإنه قال: يحل له الوطء.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\264 و 265] : وهل يكون قول عطاء شبهة يسقط به عنه الحد مع العلم بالتحريم؟ فيه وجهان.(6/87)
وذكر القاضي أبو الطيب: أن الإذن شبهة في حق العامة يحتمل صدقهم معه في دعوى الجهالة؛ لأن إذن المالك قد يعتقد به قوم جواز الوطء.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان المرتهن عالما بأن إذن الراهن لا يبيح له الوطء.. فالحكم فيه كالحكم فيه إذا وطئها بغير إذن، إلا في شيء واحد، وهو أنه إذا وطئها بغير إذنه، وكانت مكرهة على الوطء، أو نائمة.. وجب هناك المهر، قولا واحدا، وهاهنا على قولين.
وإن كان المرتهن جاهلا لا يعلم أن ذلك لا يجوز.. فلا حد عليه، والولد حر ثابت النسب منه.
وأما المهر: فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنها إذا طاوعته.. فلا مهر عليه، قولا واحدا؛ لأن إذن المالك للمنفعة وجد، فهي كالحرة المطاوعة. وإن كانت مكرهة، أو نائمة.. فهل يجب المهر؟ فيه قولان.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فأطلق القولين:
أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط به الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر وإن حصل به الرضا، كالوطء في النكاح الفاسد بغير مهر.
والثاني: لا يجب، لأن هذا الوطء يتعلق به حق الله تعالى، وحق الآدمي، سقط حق الآدمي بإذنه، كما لو أذن له في قتل عبده، أو أذن له في قتل صيده، وهو محرم. فإنه لا يجب عليه قيمة العبد والصيد وإن وجبت الكفارة والجزاء.
وأما قيمة الولد.. فقد قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: (تجب قيمته يوم خرج حيا) .
فمن أصحابنا من قال: في قيمة الولد قولان، كالمهر، وإنما نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحدهما.
ومنهم من قال: تجب قيمة الولد، قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: والفرق بينهما: أن المهر بدل عن الوطء، وقد وقع الإذن في الوطء صريحا، فسقط بدله، وليس كذلك الولد؛ لأنه وإن كان من متضمن(6/88)
الوطء، فليس ببدل عنه؛ لأن الوطء قد يكون ولا ولد منه، ولم يقع الإذن فيه. فلم يسقط بدله.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا الفرق ليس بصحيح؛ لأنه لو أذن له في قطع أصبع منه، فقطعها، فسرت إلى أخرى.. لم يضمن واحدة منهما.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يقال: لأن إذنه لم يفسد حرية الولد، وإنما شبهة الوطء أتلفت رق الولد، فضمنه بقيمته؛ لأن ذلك ليس بمتولد من المأذون فيه.
[مسألة: توكيل الراهن للمرتهن ثم رجوعه]
وإن أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق، أو في الهبة والإقباض، فوهب وأقبض، ثم رجع عن الإذن بعد العتق والهبة.. لم يبطل العتق والهبة؛ لأنهما قد صحا. وإن رجع المرتهن عن الإذن قبل العتق والهبة، ثم أعتق الراهن، أو وهب بعد علمه بالرجوع عن الإذن.. لم يصح العتق والهبة؛ لأن بالرجوع يسقط الإذن، فصار كما لو لم يأذن، وإن أعتق أو وهب بعد الرجوع، وقبل علمه به.. فهل يصح العتق والهبة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل، وقبل علمه به.
وإن اختلفا: فقال المرتهن: أعتقت بعد رجوعي. وقال الراهن: بل أعتقت قبل رجوعك.. قال ابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل بقاء الرهن.
[فرع: إذن المرتهن للراهن في بيع الرهن]
وإن أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن، فباعه.. نظرت:
فإن كان بعد حلول الدين، فباع.. صح البيع، وتعلق حق المرتهن بالثمن؛ لأن مقتضى الرهن أن يستوفي الحق من ثمنه بعد حلوله، ولأن بيع الرهن بعد حلول الدين حق للمرتهن يستحقه على الراهن، بدليل: أن الراهن لو امتنع عن ذلك.. أجبر عليه، فإذا كان مستحقا.. فقد أذن فيما استحق.(6/89)
وإن كان الدين مؤجلا، فإن كان الإذن من المرتهن مطلقا، فباع الراهن.. صح البيع، وانفسخ الرهن، ولم يتعلق حق المرتهن بالثمن، وبه قال أبو يوسف.
قال أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله: (يكون الثمن رهنا إلى أن يحل الحق) .
دليلنا: أنه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. سقط حقه من الوثيقة، كالعتق.
فقولنا: (في عين الرهن) احتراز من العقد على منافع الرهن.
وقولنا: (لا يستحقه المرتهن) احتراز من البيع بعد حلول الحق.
قال في " الأم " [3/128] : (فإن قال المرتهن: إني أردت بإطلاق الإذن أن يكون الثمن رهنا مكانه.. لم يلتفت إلى قوله، وحمل إذنه على الإطلاق، ولا تؤثر الإرادة فيه) .. وإن أذن له في البيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا، فباعه. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون ثمنه رهنا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم؛ لأنه لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا أخرى مكان هذا الرهن.. لصح ذلك، فكذلك إذا اشترط كون الثمن رهنا، ولأنه لو أذن له بعد المحل بالبيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا إلى أن يوفيه الحق.. جاز، فكذلك إذا شرط ذلك قبل المحل.
والقول الثاني: أن البيع لا يصح؛ لأنه بيع بشرط مجهول؛ لأن الذي يباع به الرهن من الثمن مجهول، فلم يصح، كما لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا مجهولة.
وإن أذن له في البيع، بشرط أن يعجل له حقه، فباعه.. فالمنصوص: (أن البيع باطل) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم: (يصح، ويكون ثمنه رهنا، ولا يجب التعجيل) .(6/90)
وقال أبو إسحاق: إذا قلنا في المسألة قبلها إذا أذن له بشرط أن يكون الثمن رهنا: إن ذلك يصح.. كان هاهنا مثله.
دليلنا: أنه أذن له بشرط، فإذا لم يثبت له الشرط.. لم يصح الإذن، كما لو شرط في البيع شرطا لم يثبت.. فإن البيع لا يصح.
وإن اختلف الراهن والمرتهن: فقال المرتهن: أذنت لك بشرط أن تعطيني حقي. وقال الراهن: بل أذنت لي مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول المرتهن، فكذلك إذا اختلفا في صفته، ولأن الأصل صحة الرهن، والراهن يدعي ما يزيله ويبطله، فلم يقبل قوله.
[مسألة: مؤنة الرهن على الراهن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وعليه مؤنة رهونه، ومن مات من رقيقه.. فعليه كفنه) . وهذا كما قال: يجب على الراهن ما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف. وإن كان عبدا فمات.. فإن عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه ولما روى الشعبي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها وحملها» ، ولأنه ملكه، فوجب أن تكون نفقته عليه، كما لو لم يكن مرهونا، وإن كان الرهن مما يحتاج إلى موضع يكون فيه، مثل: أن يكون حيوانا يحتاج إلى إصطبل، أو متاعا يحتاج إلى بيت يكون فيه عند العدل.. فإن ذلك يكون على الراهن، وكذلك أجرة حافظه على الراهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب ذلك على المرتهن) .(6/91)
دليلنا: أن ذلك من مؤنة الرهن، فكان على الراهن، كالنفقة.
فإن كان الراهن حاضرا.. كلف أن يكتري موضعا لذلك. وإن امتنع من ذلك.. أخذ الحاكم لذلك من ماله. وإن كان معسرا، فإن أنفق المرتهن بغير إذنه.. كان متطوعا. وإن أنفق بإذن الراهن ليرجع به عليه.. رجع به عليه إذا أيسر. وإن أنفق بإذنه ليكون دينا عليه، ويكون الرهن رهنا به وبالدين.. ففيه طريقان، كالعبد إذا جنى وفداه المرتهن بإذن الراهن ليكون دينا عليه، ويكون العبد مرهونا به وبالدين.
وإن كان الراهن غائبا.. رفع الأمر إلى الحاكم، فإن كان للراهن مال.. أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، فإن أنفق المرتهن بإذن الحاكم.. رجع به على الراهن، وإن أنفق عليه بغير إذن الحاكم مع القدرة عليه.. كان متطوعا، ولم يرجع. وإن لم يقدر على إذن الحاكم، فأنفق.. فهل يرجع بما أنفق؟ فيه وجهان، كما نقول في الجمال إذا هرب وأنفق المكتري. فإن جني على الرهن، واحتاج إلى مداواة.. كانت المداواة على الراهن، وكذلك إن أبق.. فأجرة من يرده على الراهن.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت قيمة الرهن كقدر الدين.. فالمداواة على المرتهن، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين.. فأجرة المداواة على الراهن والمرتهن بالقسط على المرتهن بقدر حقه، والزيادة على الراهن) . وكذا قال في أجرة من يرده: (تكون بقدر الأمانة على الراهن، وبقدر الضمان على المرتهن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه، ولأنه من مؤنة الرهن، فكان على المالك، كالنفقة، والكسوة.
وإن مرض الرهن واحتاج إلى دواء.. فإن الراهن لا يجبر عليه؛ لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه، وقد يبرأ بغير علاج، بخلاف النفقة عليه؛ لأنه لا يبقى من غير نفقة.
[مسألة: جناية العبد المرهون]
وإن جنى العبد المرهون.. لم يخل: إما أن يجني على أجنبي، أو على سيده، أو على من يرثه سيده، أو على عبد سيده.(6/92)
فإن جنى على أجنبي أو أتلف له مالا.. تعلق حق الجناية وغرم المال في رقبته، وكان مقدما على حق المرتهن؛ لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك، فلأن يقدم على حق المرتهن أولى، ولأن أرش الجناية تعلق برقبة العبد بغير اختيار المجني عليه، وحق المرتهن تعلق برقبة العبد باختيار المرتهن، والحق المتعلق بغير اختيار من له الحق آكد من الحق الذي يثبت له اختياره، كالميراث، والبيع، ألا ترى أن ما ملكه بالميراث.. ملكه بغير اختياره؟ فلذلك لم يلحقه الفسخ، وما ملكه بالبيع.. ملكه باختياره؟ فلذلك يلحقه الفسخ.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية عمدا على النفس، فاقتص منه الولي.. بطل الرهن. وإن كانت عمدا فيما دون النفس، واقتص منه المجني عليه.. بقي الرهن في الباقي. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدا، وعفا المجني عليه على مال، فإن لم يختر السيد أن يفديه.. بيع العبد في الجناية إن كان الأرش يستغرق قيمته، وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية، وكان الباقي منه رهنا. إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع جميعه، ويكون ما بقي من الثمن عن قدر الأرش رهنا، وإن فداه السيد أو أجنبي، أو أبرأه المجني عليه من حقه.. كان العبد رهنا؛ لأن الجناية لم تبطل الرهن، وإنما قدم الأرش على حق المرتهن، فإذا سقط حق المجني عليه.. بقي الرهن كما كان، كما قلنا في حق المرتهن والمالك. وإن فداه المرتهن بغير إذن الراهن.. لم يرجع عليه بما فداه به. وإن فداه بإذنه ليرجع به عليه.. رجع به عليه. وإن فداه بإذنه، ولم يشترط الرجوع.. فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الجراح. وإن فداه على أن يرجع بما فداه به، ويكون العبد رهنا به وبالدين الأول، ورضي السيد بذلك.. رجع على السيد بما فداه به، وهل يكون العبد رهنا بما فداه به؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جنى العبد المرهون.. كان ضمان الجناية على المرتهن، فإن فداه..كان العبد مرهونا كما لو كان، ولا يرجع بالفداء. وإن بيع في الجناية، أو فداه السيد.. سقط دين المرتهن إن كان قدر الفداء أو دونه) . وبنى هذا على أصله: أن الرهن مضمون على المرتهن، فتكون جنايته مضمونة عليه،(6/93)
كالغصب. والكلام معه في ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإن جنى العبد المرهون على سيده: فإن كانت على ما دون النفس.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه بها إن كانت مما يثبت بها القصاص؛ لأن القصاص جعل للزجر، والعبد أحق بالزجر عن سيده. ولا يلزم قطع العبد بسرقة مال سيده؛ لأن القطع إنما يجب بسرقة مال لا شبهة له فيه، وللعبد شبهة في مال سيده. فإن أراد السيد أن يعفو عنه على مال.. فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه لا يثبت له المال) . وقال أبو العباس: يثبت له المال، ويستفيد به ببيعه في أرش الجناية وإخراجه من الرهن؛ لأن كل من ثبت له القصاص على شخص.. ثبت له العفو عنه على مال، كغير السيد.
ووجه المذهب: أن السيد لا يثبت له على عبده مال ابتداء. ولهذا لو أتلف له مالا.. لم يثبت له في ذمته بدله. ودليل أبي العباس يبطل بعبده الذي ليس بمرهون.
وإن جنى على سيده خطأ فيما دون النفس.. كانت هدرا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعلى قول أبي العباس يتعلق الأرش برقبته.
وإن جنى العبد المرهون على من يرثه سيده: إما على أبيه، أو ابنه، أو مكاتبه.. نظرت:
فإن كانت الجناية عمدا فيما دون النفس.. فللمجني عليه أن يقتص منه.
وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا المجني عليه على مال.. ثبت المال للمجني عليه؛ لأنه أجنبي منه.
وإن مات المجني عليه قبل القصاص، والجناية عمدا، وكانت الجناية على النفس، وكان وارثه هو السيد، أو عجز المكاتب.. فللسيد أن يقتص منه أيضا. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يثبت له المال على عبده، كما كان يثبت لموروثه؛ لأن الاستدامة أقوى من(6/94)
الابتداء، فجاز أن يثبت له على ملكه المال في الاستدامة دون الابتداء. وقال القفال: يبنى على وقت وجوب الدية، وفيها قولان:
أحدهما: تجب بعد موت المقتول في ملك الورثة؛ لأنها بدل نفسه، فلا تجب في حياته.
فعلى هذا: لا يثبت للسيد المال، كما لو أتلف له مالا.
والثاني: تجب في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول، ثم تنتقل إلى ورثته؛ لأنه يقضى منها دينه، وينفذ منها وصاياه.
فعلى هذا: هل يثبت للسيد المال؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيمن جنى عليه عبد غيره، ثم ملكه المجني عليه.. فهل يستدام عليه وجوب الأرش؟ فيه وجهان.
وإن قتل العبد المرهون سيده عمدا.. فلوارثه أن يقتص منه، كما كان للسيد أن يقتص منه. فإن أراد الوارث أن يعفو عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فهل يثبت لهم المال؟ ذكر الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق: أنها على قولين:
أحدهما: لا يثبت للوارث المال؛ لأن الوارث قائم مقام السيد، فلما لم يثبت للسيد المال في هذه الجناية.. لم يثبت لمن يقوم مقامه.
والثاني: يثبت للوارث المال؛ لأنه يأخذ المال عن جناية حصلت في غير ملكه، فصار كما لو جنى على من يرثه السيد.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: هذان القولان مبنيان على وقت وجوب الدية:
فإن قلنا: إنها وجبت في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. لم تثبت الدية للوارث؛ لأنها وجبت لسيده.
وإن قلنا: إنها وجبت بعد موته في ملك الورثة.. ثبتت الدية للوارث؛ لأنها تثبت لغير مولاه بالجناية. وهذه طريقة القفال.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا وجبت بعد موت السيد، فقد وجبت لهم على ملكهم، بل القولان أصل بأنفسهما غير مبنيين على غيرهما.(6/95)
أصحهما: أنه لا يثبت المال للوارث.
وإن جنى العبد المرهون على عبد لسيده: فإن كان العبد المجني عليه غير مرهون.. فهو كما لو جنى على سيده، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا يقتص منه بابنه. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. لم يثبت له المال على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويثبت له على قول أبي العباس.
وإن كان العبد المقتول مرهونا.. نظرت:
فإن كان مرهونا عند مرتهن آخر، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص من القاتل، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا قصاص له، إذا اقتص السيد.. بطل الرهنان. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وعفا السيد على مال.. ثبت المال لأجل المرتهن الذي عبده المقتول، لا لأجل السيد؛ لأن السيد لو قتل هذا العبد.. لثبت عليه المال، فإذا قتله عبده.. كان أولى أن يثبت عليه المال. وإن عفا السيد عنه عن جناية العمد على غير مال، أو مطلقا.. فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. لم يثبت له المال. وإن قلنا: إن موجبه القود، أو الدية.. ثبتت قيمة العبد المقتول في رقبة القاتل؛ لأن العفو عنها إبراء، ولا يصح إبراء السيد منها؛ لأجل حق المرتهن للمقتول.
فإذا تعلقت قيمة المقتول في رقبة القاتل، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول.. بيع من القاتل بقدر قيمة المقتول، وجعل ذلك رهنا عند مرتهن المقتول، وكان الباقي من رقبة القاتل رهنا عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه.. بيع جميعه، وكان قدر قيمة المقتول من ثمن القاتل رهنا عند مرتهن المقتول، وما زاد على ذلك مرهونا عند مرتهن القاتل. وإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول، أو أقل.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل القاتل إلى يد مرتهن المقتول رهنا، وينفك من رهن مرتهنه؛ لأنه لا فائدة في بيعه.(6/96)
والثاني: يباع؛ لأنه ربما رغب فيه راغب، فاشتراه بأكثر من قدر قيمة المقتول، فتكون الزيادة على قدر قيمة المقتول رهنا عند مرتهن القاتل.
وإن كان العبدان القاتل والمقتول مرهونين عند رجل واحد، فإن كانت الجناية عمدا. فللمولى أن يقتص منه، فإن اقتص.. بطل الرهنان. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا عنه على مال.. نظرت:
فإن رهنا بحق واحد.. كانت الجناية هدرا؛ لأن جميع الدين متعلق برقبة كل واحد منهما، فإذا قتل أحدهما.. بقي الحق متعلقا بالآخر.
وإن كان كل واحد منهما مرهونا بحق منفرد.. نظرت:
فإن كان أحدهما مرهونا بحق معجل، والآخر مرهونا بحق مؤجل.. بيع القاتل بكل حال؛ لأنه إن كان دين المقتول معجلا.. بيع القاتل ليستوفي دينه المعجل، وما بقي منه.. كان رهنا بدينه المؤجل.
وإن كان دين القاتل معجلا.. يبع ليستوفي منه المعجل، وما بقي.. كان مرهونا بدين المقتول.
وإن اتفق الدينان بالحلول والتأجيل.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن تكون قيمتهما سواء، والحقان سواء، مثل: أن يكون قيمة كل واحد منهما مائة، وكل واحد منهما مرهونا بمثل ما رهن به الآخر، أو من جنس قيمته، مثل قيمة ما رهن به الآخر، فإن الجناية هاهنا هدر؛ لأنه لا فائدة في بيعه ولا في نقله.
قال أبو إسحاق: إلا أن يكون الدين الذي رهن به المقتول أصح وأثبت من دين القاتل، مثل: أن يكون دين المقتول مستقرا، ودين القاتل عوض شيء يرد بعيب، أو صداقا قبل الدخول.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينقل إليه؛ لأن في نقله غرضا للمرتهن.
والثاني: لا ينقل؛ لأنهما سواء في الحال.(6/97)
فإذا قلنا: ينقل.. فهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل العبد من غير بيع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
المسألة الثانية: أن يختلف الحقان، وتتفق القيمتان، بأن كانت قيمة كل واحد منهما مائة، وأحدهما مرهون بمائتين، والآخر مرهون بمائة، فإن كان ما رهن به القاتل أكثر.. لم ينقل؛ لأنه لا فائدة في نقله، وإن كان ما رهن به المقتول أكثر.. نقل؛ لأن في نقله فائدة، وهو: أن يصير مرهونا بأكثر مما هو مرهون به، وهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل من غير بيع؟ على الوجهين.
المسألة الثالثة: أن يتفق الحقان، وتختلف القيمتان، بأن يكون كل واحد منهما مرهونا بمائة، وقيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم ينقل القاتل؛ لأنه مرهون بمائة، وإذا نقل كان مرهونا بمائة، فلا فائدة في ذلك.
وإن كانت قيمة القاتل أكثر.. بيع منه بقدر قيمة المقتول؛ ليكون رهنا بدين المقتول، ويبقى نصفه رهنا بدينه.
قال ابن الصباغ: وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه.. صار مرهونا بالدينين معا.
[فرع: إقرار العبد المرهون جائز]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإقرار العبد المرهون فيما فيه قصاص جائز، كالبينة، وما ليس فيه قصاص.. فباطل) . وهذا كما قال: إذا أقر العبد على نفسه بجناية عمد توجب القصاص.. قبل إقراره مرهونا كان أو غير مرهون؛ لأنه لا يتهم في ذلك، ويكون المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو على مال، فيكون كما لو قامت عليه البينة على ما مضى. وإن أقر المولى عليه بذلك.. لم يصح إقراره؛ لأنه يقبل فيه إقرار العبد، فلم يقبل فيه إقرار السيد، كإقراره عليه بالزنا.
وإن أقر العبد بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. لم يقبل في حق السيد؛ لأنه متهم(6/98)
في ذلك، وليكون الغرم متعلقا بذمته، فإن أعتق وأيسر.. طولب به؛ لأنا إنما منعنا من قبول إقراره في حق السيد، وقد زال حق السيد، فثبت إقراره، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما ليس فيه قصاص.. فباطل) ، يعني: في حق سيده. وإن أقر المولى عليه بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. صح إقراراه؛ لأنه لما لم يصح إقرار العبد به.. صح إقرار المولى به، كجناية العمد، لما لم يقبل فيه إقرار السيد.. صح فيه إقرار العبد، ولأنه لا تهمة على السيد في ذلك.
[مسألة: أمر السيد عبده المرهون بجناية]
وإن أمر السيد عبده بالجناية على غيره، فجنى عليه، فإن كان العبد بالغا عاقلا، أو مراهقا مميزا يعلم أن طاعة المولى لا تجوز في المحرمات.. نظرت:
فإن لم يكرهه السيد على القتل.. فحكمه حكم ما لو جنى بغير أمره، إلا القصاص، فإنه لا يجب على من لم يبلغ، ولا يلحق السيد بذلك إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله» .
وإن أكرهه المولى على القتل.. وجب على السيد القود إن كانت الجناية عمدا، والمجني عليه ممن يستحق القود على المولى، أو الدية إن عفا عنه، كما لو جنى(6/99)
السيد عليه بيده، وهل يجب القود على العبد إن كان بالغا عاقلا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: يجب عليه القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتلهما، وبين أن يقتل السيد، ويستحق نصف الدية في رقبة العبد، أو يقتل العبد، ويستحق في ذمة السيد نصف الدية، وبين أن يعفو عنهما على مال، فيستحق في ذمة السيد نصف الدية، وفي رقبة العبد نصفها.
وإن قلنا: لا يجب القود على العبد.. تعلق برقبته نصف دية المقتول، ثم الولي بالخيار: بين أن يقتل السيد، وبين أن يعفو عنه على مال، ويستحق في ذمته نصف الدية.
وإن كان العبد صغيرا غير مميز، أو أعجميا غير عارف بأحكام المسلمين، يعتقد أن طاقة المولى تجوز في المحرمات.. فإن الجاني هو السيد؛ لأن العبد كالآلة له، فإن كان السيد موسرا.. أخذ منه الأرش، وإن كان معسرا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان العبد صبيا، أو أعجميا، فبيع في الجناية.. كلف السيد أن يأتي بمثل قيمته تكون رهنا مكانه) . واختلف أصحابنا في هذا:
فمنهم من قال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك: إن كانت الجناية توجب المال، وكان السيد معسرا.. فإن العبد يباع في الجناية، ثم إذا أيسر السيد.. أخذت منه قيمة العبد، وجعلت رهنا مكانه؛ لأن السيد وإن كان هو الجاني، إلا أن العبد هو الذي باشر الجناية، فبيع فيها عند تعذر أخذ الأرش من السيد.
ومنهم من قال: لا يباع العبد، وهو المذهب؛ لأن الجاني هو السيد، والعبد آلة له، فلم يبع فيها، كما لو رهن سيفا، فقتل به إنسانا.. [لما] وجب بيعه؛ لأنه باشر الجناية ليبع فيها وإن كان السيد موسرا.
وأما ما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فله تأويلان:
أحدهما: أن تكون البينة قد شهدت على العبد أنه جنى، فقال السيد: أنا أمرته(6/100)
بذلك، فأنكر المجني عليه الأمر، فإن قول السيد لا يقبل في حق المجني عليه، ويباع العبد في الجناية، ويقبل إقرار السيد في حق المرتهن، فيجب عليه القيمة.
والثاني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فبيع في الجناية) . وليس هذا أمرا منه بالبيع له، وإنما أراد: إذا باعه الحاكم باجتهاده؛ لأن ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.
[مسألة: الجناية على القن المرهون]
وإن جني على العبد المرهون.. فالخصم في ذلك الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة، وإنما للمرتهن حق الوثيقة، فإن أراد المرتهن حضور الخصومة.. كان له ذلك؛ لأنه حقه، يتعلق فيما يقضى به على الجاني.
إذا ثبت هذا: فادعى الراهن على رجل أنه قتل عبده المرهون، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل عن اليمين.. حلف الراهن؛ لأنه هو المالك، فإن نكل الراهن.. فهل ترد اليمين على المرتهن؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا نكل عن اليمين، فهل ترد على الغرماء؟ وفيه قولان:
أحدهما: لا ترد اليمين على المرتهن؛ لأنه غير المدعي.
والثاني: ترد؛ لأن حقه يتعلق فيما يقضى به على الجاني.
وسواء كانت الجناية عمدا أو خطأ.. فإن المرتهن يحلف على أحد القولين؛ لأن العمد قد سقط إلى المال. وإن أقر الجاني، أو قامت عليه البينة، أو حلف الراهن، أو المرتهن في أحد القولين.. نظرت:
فإن كانت الجناية توجب القود.. فللمولى أن يقتص، وله أن يعفو على المال، فإن اقتص.. بطل الرهن، وليس للمرتهن مطالبة المولى بالعفو على المال؛ لأن(6/101)
القصاص حق له. فإن عفا على مال تعلق حق المرتهن به؛ لأنه بدل عن الرقبة. وإن عفا مطلقا، أو عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير، وإنما يثبت المال بالشرط في العفو.. صح عفوه، والثمن للمرتهن. وإن قلنا: إن موجب العمد أحد الأمرين.. ثبت المال على الجاني، وتعلق به حق المرتهن.
وإن قال الراهن: لا أقتص ولا أعفو.. فهل للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في المال.
و [الثاني] : قال أبو القاسم الداركي: فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد القود لا غير.. لم يكن للمرتهن مطالبته بإجباره؛ لأنه إذا ملك إسقاطه.. فلأن يملك تأخيره أولى.
و [الثاني] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد الأمرين.. كان له المطالبة بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في أحدهما، فأجبر على تعيينهما.
فإن عفا الراهن على مال، أو كانت الجناية خطأ، أو كان الجاني عليه ممن لا يقتص منه له، كالحر.. ثبت المال. وإن أسقط المرتهن حقه من الوثيقة.. سقط، كما يسقط حقه بإسقاطه مع بقاء الرهن. وإن أبرأ المرتهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يملك ما أبرأه عنه، وهل يبطل حقه من الوثيقة لهذا الإبراء؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: يبطل؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه من الوثيقة.
والثاني: لا يبطل؛ لأن إبراءه لم يصح، فلم يصح ما تضمنه الإبراء.
وإن أبرأ الراهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه لتعلق حق المرتهن به.
فإن قضى الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن من الدين، أو أسقط حقه من(6/102)
الوثيقة.. فهل يحكم بصحة إبراء الراهن من الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم بصحته؛ لأنه وقع باطلا، فلا تتعقبه الصحة.
والثاني: يحكم بصحته؛ لأن المنع من صحته لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فحكم بصحته. وليس بشيء.
فإن أراد الراهن أن يصالح الجاني عن الأرش بعوض بغير رضا المرتهن.. لم يصح الصلح؛ لتعلق حق المرتهن بالأرش، فإن أذن المرتهن بالصلح على حيوان.. صح الصلح، ويكون الحيوان رهنا، فإن كان له ظهر أو لبن أو نماء.. كان ذلك للراهن، كأصل الرهن.
[فرع: رهن جارية حاملة]
وإن كان الرهن جارية حاملا، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب على الضارب عشر قيمة الأم، ويكون خارجا من الرهن؛ لأنه بدل عن الولد، والولد خارج من الرهن. وإن نقصت قيمة الجارية بالولادة.. لم يجب لأجل النقص شيء؛ لأنه يدخل في بدل الجنين. وإن حصل بها أثر من الضرب نقصت به قيمتها.. وجب على الضارب أرش ذلك، ويكون رهنا.
وإن كان الرهن بهيمة، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب عليه ما نقص من قيمة الأم بذلك؛ لأن الجنين إنما يضمن ببدل مقدر من الآدميات، ويكون ذلك رهنا؛ لأنه بدل عن جزء من الأم.
وإن أسقطت البهيمة بالضرب جنينا حيا، ثم مات.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب قيمة الولد حيا؛ لأنه يمكن تقويمه، ولا يكون رهنا؛ لأن الولد غير داخل في الرهن، فكذلك بدله.
والثاني: يجب أكثر الأمرين من قيمة الولد، أو ما نقص من قيمة الأم بالإسقاط؛ لأنه وجد سبب ضمان كل واحد منهما، ولم يجتمعا؛ لأن النقصان كان سببه انفصال(6/103)
الولد الذي تعلق به ضمانه، فسقط أحدهما عند ثبوت الآخر؛ لأنه لا يتميز كل واحد منهما عن الآخر، ويتعذر معرفته، فإن كانت قيمة الولد أكثر.. كان خارجا من الرهن، وإن كان ما نقص من قيمة الأم أكثر.. كان رهنا.
[مسألة: الجناية على الرهن]
فإن جنى على الرهن، ولم يعرف الجاني، فجاء رجل، فقال: أنا قتلته، فإن كذبه الراهن والمرتهن.. لم يكن لهما مطالبته بشيء؛ لأنه يعترف لمن كذبه. وإن صدقاه.. كان كما لو قامت عليه البينة في جميع ما ذكرناه، إلا إذا كانت الجناية خطأ.. فإن العاقلة لا تحملها، قولا واحدا؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت باعتراف الجاني. وإن صدقه الراهن، وكذبه المرتهن.. سقط حق المرتهن مما يجب على المقر، فيأخذ الراهن القيمة من المقر، ولا يكون رهنا؛ لأن المرتهن أسقط حقه عنها بتكذيبه. وإن صدقه المرتهن دون الراهن.. تعلق حق المرتهن بالأرش، فإذا حل الحق، ولم يقضه الراهن. استوفى حقه من القيمة. وإن قضاه الراهن، أو أبرأ المرتهن الراهن من الدين أو الوثيقة.. ردت القيمة إلى المقر؛ لأن الراهن أسقط حقه منها بتكذيبه.
[مسألة: جواز رهن العصير]
إذا رهنه عصيرا.. صح رهنه؛ لأنه يتمول في العادة، فجاز رهنه، كالثياب، ولأن أكثر ما فيه أنه يخشى تلفه، بأن يصير خمرا، وينفسخ الرهن فيه، وذلك لا يمنع صحة الرهن به، كالحيوان يجوز رهنه وإن جاز أن يموت. فإذا رهنه عصيرا، فاستحال خلا، أو ما لا يسكر كثيره.. فالرهن فيه بحاله؛ لأنه تغير إلى حالة لا تخرجه عن كونه مالا، فلم تخرجه من الرهن، كما لو رهنه عبدا شابا، فصار شيخا. وإن استحال خمرا.. زال ملك الراهن عنه، وبطل الرهن فيه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يزول ملك الراهن عنه، ولا يبطل الرهن به) ؛ لأنه يجوز أن يصير له قيمة.(6/104)
دليلنا: أن كونه خمرا يمنع صحة التصرف فيه، والضمان على متلفه، فبطل به الملك والرهن، كموت الشاة.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب إراقته، فإن أتلف.. فلا كلام، ولا خيار للمرتهن في البيع إن كان شرط رهنه فيه إذا كان انقلابه بيده؛ لأن التلف حصل بيده. وإن استحال الخمر خلا بنفسه من غير معالجة.. عاد الملك فيه للراهن بلا خلاف، وعاد الرهن فيه للمرتهن؛ لأنا إنما حكمنا بزوال ملك الراهن عنه، وبطلان الرهن بحدوث الشدة المطربة، وقد زالت تلك الشدة من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن يعود إلى الملك السابق كما كان.
فإن قيل: أليس العقد إذا بطل.. لم يصح حتى يبتدأ، والرهن قد بطل، فكيف عاد من غير تجديد عقد؟
فالجواب: أنا إنما نقول ذلك، إذا وقع العقد فاسدا، فأما إذا وقع العقد صحيحا، ثم طرأ عليه أمر أخرجه عن حكم العقد، فإنه إذا زال ذلك المعنى.. عاد العقد صحيحا، كما نقول في زوجة الكافر إذا أسلمت، فإن وطأها يحرم عليه، فإذا أسلم الزوج قبل انقضاء العدة.. عاد العقد كما كان، وكذلك إذا ارتد الزوجان أو أحدهما.
فإن استحال الخمر خلا بصنعة آدمي.. لم يطهر بذلك، بل تزول الخمرية عنه، ويكون خلا نجسا لا يحل شربه، ولا يعود ملك الراهن فيه، ولا الرهن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكون طاهرا يحل شربه، والرهن فيه بحاله) .
دليلنا: ما «روى أبو طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر.. قلت: يا رسول الله، إن عندي خمرا لأيتام ورثوه، فقال: "أرقه"، قلت: أفلا أخلله؟ قال: "لا» . فنهاه عن التخليل. وظاهر هذا يقتضي التحريم.
فإن كان مع رجل خمر فأراقه، فأخذه آخر، فصار في يده خلا، أو وهبه لغيره، فصار في يد الموهوب له خلا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يكون لمن أراقه؛ لأنه يعود إلى الملك(6/105)
السابق، والملك للمريق، فهو كما لو غصب من رجل خمرا، فصار في يده خلا.
والثاني: يكون ملكا لمن هو بيده؛ لأنه إذا أراقه صاحبه، فقد رفع يده عنه، فإذا جمعه الآخر.. صارت له يد عليه. والأول أصح.
[فرع: رهنه عصيرا فاستحال قبل قبضه خمرا]
قال ابن الصباغ: إذا رهنه عصيرا، فصار في يد الراهن قبل القبض خمرا.. بطل الرهن فإن عاد خلا.. لم يعد الرهن، ويخالف إذا كان بعد القبض؛ لأن الرهن قد لزم، وقد صار مانعا للملك. وكذلك: إذا اشترى عصيرا، فصار خمرا في يد البائع، وعاد خلا.. فسد العقد، ولم يعد لملك المشتري بعوده خلا. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وهاهنا يعود ملك البائع لعدم العقد.
[فرع: رهن الشاة فماتت]
وإن رهن عند رجل شاة، وأقبضه إياها، فماتت.. زال ملك الراهن، وبطل الرهن فيها؛ لأنها خرجت عن أن تكون مالا، فإن أخذ الراهن جلدها، فدبغه.. عاد ملكه على الجلد بلا خلاف، وهل يعود رهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن خيران: يعود رهنا، كالخمر إذا تخللت.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعود رهنا؛ لأن الملك إنما عاد بمعالجة ومعنى أحدثه، بخلاف الخمر. وسئل أبو إسحاق عن رجل ماتت له شاة، فجاء آخر، فأخذ جلدها، فدبغه؟ فقال: إن لم يطرحها مالكها.. فالجلد لمالك الشاة دون الدابغ؛ لأن الملك وإن عاد بمعنى أحدثه الدابغ، إلا أن يد المالك كانت مقرة على الجلد، وجوز له استصلاحه، فإذا غصبه غاصب، ودبغه.. لم تنقل يد المالك، كما لو كان(6/106)
له جرو كلب يريد تعليمه الصيد، فغصبه إنسان، وعلمه.. فإن المغصوب منه أحق به؛ لأن يده كانت مقرة عليه. قال: فأما إذا طرح صاحب الشاة شاته على المزبلة، فأخذ رجل جلدها ودبغه.. ملكه؛ لأن المالك قد أزال يده عنها.
قيل له: أليس من تحجر مواتا كان أحق بإحيائها من غيره، ثم جاء آخر، فأحياها..ملكها؟
فقال: الفرق بينهما: أن من تحجر على شيء من الموات.. فقد صار أولى به، بمعنى أثره فيه، وهو التحجر، ويده ضعيفة لا تستند إلى ملك، فإذا وجد سبب الملك، وهو الإحياء. بطلت يده. وليس كذلك من ماتت له شاة؛ لأن يده مقرة عليها بالملك.
[مسألة: تلف الرهن بيد المرتهن]
إذا قبض المرتهن الرهن، فهلك في يده من غير تفريط.. لم يلزمه ضمانه، ولا يسقط من دينه شيء، وبه قال الأوزاعي، وعطاء، وأحمد، وأبو عبيد رحمة الله عليهم، وهم أحد الروايتين عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلى: (أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الأمرين من قيمته، أو قدر الدين، فإذا هلك، فإن كان الدين مائة، وقيمة الرهن تسعين.. ضمنه بتسعين، وبقي له من دينه عشرة. وإن كان الدين تسعين، وقيمة الرهن مائة، فهلك الرهن.. سقط جميع دينه، ولا يرجع الراهن عليه بشيء، وإن تساويا.. سقط الدين) . وروي ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(6/107)
وذهب إسحاق بن راهويه إلى: أن الرهن مضمون على المرتهن بكمال قيمته، ثم يتردان. وهي الرواية الثانية عن أمير المؤمنين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وذهب الشعبي والحسن البصري رحمة الله عليهما إلى: أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن.. سقط جميع دينه، سواء كانت قيمته أكثر من قدر الدين، أو أقل، أو كانا متساويين.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن هلك الرهن هلاكا ظاهرا، مثل: أن كان عبدا فمات، أو دارا فانهدمت. فهو غير مضمون على المرتهن. وإن هلك هلاكا خفيا، مثل: أن يدعي المرتهن أنه هلك.. فهو مضمون عليه) . كما قال إسحاق بن راهويه.
دليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فلنا من الخبر ثلاثة أدلة:(6/108)
أحدها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وله ثلاث تأويلات:
أحدها: لا يكون للمرتهن بحقه إذا حل الحق، بل إذا قضاه من غيره.. انفك.
التأويل الثاني: أن لا يسقط الحق بتلفه.
التأويل الثالث: أي لا ينغلق حتى لا يكون للراهن فكه عن الرهن، بل له فكه، بأن يقضي الدين.
فإن قيل: فهذا حجة عليكم؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» ، أي: لا يهلك بغير عوض، قال الشاعر، وهو زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
يعني: ارتهن قلبه الحب يوم الوداع، فأمسى وقد غلق الرهن، أي: قد هلك بغير عوض.
قلنا: هذا غلط؛ لأن القلب لا يهلك، وإنما معناه: أن القلب صار رهنا بحبها، وقد انغلق انغلاقا لا ينفك.(6/109)
الدلالة الثانية من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه» ، يعني: من ضمانه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهذه أبلغ كلمة للعرب في أنهم إذا قالوا: هذا الشيء من فلان.. يريدون من ضمانه) .
الدلالة الثالثة من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وغرمه: هلاكا وعطبه) ، ولأنه مقبوض عن عقد لو كان فاسدا.. لم يضمن، فوجب إذا كان صحيحا، ألا يضمن.
أصله الوديعة، ومال المضاربة، والوكالة، والشركة، وعكسه المقبوض عن البيع، والقرض.
[فرع: الرهن أمانة عند المرتهن]
إذا سقط حق المرتهن بإبراء أو قضاء.. كان الرهن عنده أمانة؛ لأنه كان عنده أمانة ووثيقة، فإذا سقطت الوثيقة.. بقيت الأمانة.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ولا يلزمه رده عليه حتى يطالبه به؛ لأنه بمنزلة الوديعة، ويفارق: إذا أطارت الريح ثوبا لغيره إلى داره، أو دخلت شاة لغيره إلى داره.. فإنه يلزمه إعلامه؛ لأنه لم يرض بكونه في يده.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا أبرأه المرتهن، ولم يعلم الراهن بذلك أن يعلمه بالبراءة، أو يرده عليه؛ لأنه لم يرض بتركه عنده، إلا على سبيل الوثيقة، ويفارق: إذا علم به؛ لأنه قد رضي بتركه في يده.
[فرع: رهن مغصوبا فتلف عند المرتهن]
وإذا غصب رجل من رجل عينا، فرهنها عند آخر، وأقبضها للمرتهن، فأتلفها المرتهن، أو تلفت عنده بغير تفريط، فإن كان عالما بأنها مغصوبة.. فللمغصوب منه(6/110)
أن يرجع بقيمتها على الغاصب أو المرتهن؛ لأن كل واحد منهما يجب عليه الضمان، فإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على المرتهن؛ لأنه أتلفها، أو لأنه كان عالما بغضبها، فيستقر عليه الضمان؛ لحصول التلف في يده. وإن رجع المغصوب منه على المرتهن.. لم يرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الضمان استقر عليه.
وإن كان المرتهن غير عالم بكونها مغصوبة، وتلفت عنده من غير تفريط.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب؛ لأنه أخذها من مالكها متعديا، وهل للمالك أن يرجع على المرتهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه أخذها على وجه الأمانة.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أخذها من يد ضامنة.
فإذا قلنا: يرجع على المرتهن.. فهل للمرتهن أن يرجع بما ضمنه على الراهن؟
قال أبو العباس: لا يرجع؛ لأنه تلف في يده، فاستقر الضمان عليه، وفيه وجه آخر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يرجع عليه؛ لأن المرتهن أمين، فلا يضمن بغير تعد، فيكون تلف الرهن من ضمان الراهن، ويرجع بالقيمة عليه؛ لأنه غره. فإن بدا المغصوب منه، فضمن الراهن.. فهل يرجع الراهن على المرتهن؟
إن قلنا بقول أبي العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ضمن المغصوب منه المرتهن أنه لا يرجع على الراهن.. رجع الراهن هاهنا على المرتهن.
وإن قلنا بما ذكره الشيخ أبو حامد رحمة الله عليه، وأن المرتهن يرجع على الراهن.. لم يرجع الراهن هاهنا.
[فرع: اشتراط أخذ الرهن عند الدفع وتركه عند عدمه]
قال في " الأم ": (وإن رهنه على أنه إذا دفع الحق وقضاه، أخذ الرهن، وإن لم يقضه، كان له بدينه.. فالرهن والبيع فاسدان) . وهذا صحيح، أما الرهن: فبطل؛ لأنه مؤقت بمحل الدين، ومن شأنه أن يكون مطلقا. وأما البيع: فبطل؛ لأنه(6/111)
متعلق بزمان مستقبل. فيكون هذا الرهن في يد المرتهن إلى أن يحل الحق غير مضمون عليه؛ لأنه مقبوض عن رهن فاسد، وحكم المقبوض في الضمان عن العقد الفاسد كالمقبوض عن العقد الصحيح، فإن تلف الرهن.. لم يضمن، وإذا حل الحق..كان مضمونا على المرتهن؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسد، فضمنه، كالمقبوض عن بيع صحيح.
فعلى هذا: إذا تلف في يده.. لزمه ضمانه، سواء فرط فيه، أو لم يفرط.
فإن كان الرهن أرضا، فغرس فيها المرتهن، فإن كان غرسه قبل حلول الحق.. قلع غرسه؛ لأنه متعد بغرسه. وإن غرسه بعد حلول الحق.. فقد غرس بإذن الراهن؛ لأن البيع وإن كان فاسدا، فقد تضمن الإذن في التصرف.
قال ابن الصباغ: فيكون الراهن مخيرا بين أن يقر غرسه، أو يدفع إليه قيمته، أو يجبره على قلعه ويضمن ما نقص.
وبالله التوفيق(6/112)
[باب اختلاف المتراهنين]
إذا ادعى رجل على رجل أنه رهنه عينا بدين له عليه، فقال: ما رهنتكها. ولا بينة.. فالقول قول من عليه الدين مع يمينه أنه ما رهنه؛ لأن الأصل عدم الرهن. وإن اختلفا في عين الرهن، فادعى المرتهن أنه ارتهن منه هذا العبد، وقال الراهن: ما رهنتك هذا العبد، وإنما رهنتك الجارية.. حلف الراهن أنه ما رهنه العبد. وخرج العبد عن أن يكون رهنا بيمين الراهن، وخرجت الجارية عن أن تكون رهنا بإنكار المرتهن لها.
وإن اختلفا في قدر الرهن، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذين العبدين بمائة، وقال الراهن: بل رهنتك أحدهما بمائة، أو اختلفا في قدر الدين المرهون به، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذا العبد بمائة لي عليك، وقال الراهن: بل رهنتكه بخمسين منها. فالقول قول الراهن مع يمينه في المسألتين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القول قول من الظاهر معه، فإن كان العبد الذي أقر الراهن برهنه في المسألة الأولى يساوي مائة أو دونها، ويرهن مثله بمائة فالقول قول الراهن. وإن كان لا يساوي مائة، ولا يرهن مثله بمائة في العادة.. فالقول قول المرتهن، وكذلك في الثانية القول قول المرتهن في قدر الدين إن كانت قيمة العبد مائة. وإن كانت قيمته أكثر من المائة.. فالقول قول الراهن مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . وهذا الراهن منكر فيهما، ولأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول الراهن، فكذلك إذا اختلفا في قدر المعقود عليه.(6/113)
وإن كان له عليه ألف مؤجلة، وألف معجلة، فرهنه عبدا بألف، ثم اختلفا: فقال المرتهن: رهنتنيه بالألف الحال. وقال الراهن: بل رهنتكه بالألف المؤجل.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
[مسألة: رهن أرضا واختلفا على وجود نخل فيها]
وإن رهنه أرضا، ووجد فيها نخلا أو شجرا، فقال المرتهن: كان هذا موجودا وقت الرهن، فهو داخل في الرهن، وقال الراهن: بل حدث بعد الرهن، فهو خارج من الرهن، فإن كان ما قاله المرتهن غير ممكن، مثل: أن يكون النخل صغارا، وقد عقد الرهن من مدة بعيدة لا يجوز أن يكون هذا النخل موجودا وقت العقد.. فالقول قول الراهن من غير يمين؛ لأنه لا يمكن صدق المرتهن. وإن كان ما قاله الراهن غير ممكن، وما قاله المرتهن ممكنا، مثل: أن يكون لعقد الرهن مدة لا يجوز أن يحدث هذا النخل بعدها، مثل: أن يكون النخيل كبارا، ومدة الرهن شهر، أو ما أشبهه.. فالقول قول المرتهن بلا يمين؛ لأن ما يقوله الراهن مستحيل غير ممكن، فلم يقبل قوله. وإن كان يمكن صدق كل واحد منهما، مثل: أن يكون هذا النخيل يمكن أن يكون موجودا حال العقد، ويمكن أن يحدث بعده.. قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فالقول قول الراهن مع يمينه) . وقال المزني: القول قول المرتهن؛ لأنه في يده.
والمذهب الأول؛ لأن المرتهن قد اعترف للراهن بملك النخل، وصار يدعي عليه عقد الرهن، والراهن منكر ذلك، فكان القول قول الراهن، كما لو ادعى عليه عقد الرهن في النخل منفردا عن الأرض. وأما اليد: فلا يرجح بها في دعوى العقد، وإنما يرجح بها في دعوى الملك.
فإذا حلف الراهن.. نظرت:
فإن كان الرهن في القرض، أو كان متطوعا به في الثمن غير مشروط في البيع..(6/114)
بقي الرهن في الأرض ولا كلام. وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. فإن هذا الاختلاف يوجب التحالف، وقد حلف الراهن، وخرج النخل عن الرهن، فإن رضي المرتهن بذلك.. فلا كلام، وإن لم يرض.. حلف المرتهن: أن النخل كان داخلا في عقد الرهن، وهل ينفسخ البيع والرهن بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على الوجهين في التحالف.
فإن قلنا: لا ينفسخ، فتطوع الراهن بتسليم النخل رهنا.. لم يكن للمرتهن فسخ البيع.
[مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن]
وإن رهنه عبدا، فاختلفا، فقال الراهن: رهنته بمائة بعقد، ثم زادني مائة أخرى، فعقدت له الرهن بها على العبد قبل فسخ العقد الأول، وقلنا: لا يجوز ذلك، وقال المرتهن: بل ارتهنته مائة بالمائتين بعقد واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفته.
والثاني: القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على عقد الرهن، والراهن يدعي معنى يقتضي بطلانه، والأصل عدم ما يبطله.
[فرع: إقرار الراهن بعبد للمرتهن بألف]
إذا قال رجل لغيره: هذا العبد الذي في يدي هو لك، رهنتنيه بألف لي عليك، فقال المقر له: هذا العبد وديعة عندك لي، وإنما رهنتك بألف عليّ لك عبدا آخر، فقتلته، وأنا أستحق عليك قيمته.. فالقول المقر له مع يمينه: أنه ما رهنه هذا العبد. أو القول قول المقر مع يمينه: أنه ما قتل له عبدا، ولا شيء له عليه من القيمة؛ لأن الأصل براءة ذمته. وأما المقر له بالعبد.. فعليه الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.(6/115)
[فرع: اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا قال الرجل لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: بل رهنتنيه وزيدا بألفي درهم، ألف درهم لي، وألف درهم لزيد، وادعى زيد ذلك.. فالقول قول الراهن: أنه ما رهن زيدا شيئا، فإذا حلف.. كان العبد رهنا عند الذي أقر له به) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المالك أقر للمرتهن برهن جميع العبد، وهو لا يدعي إلا رهن نصفه، وإنما ادعى زيد نصفه، وقد حلف له المالك، فوجب أن لا يبقى عند المقر له إلا نصف العبد مرهونا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأما إذا قال لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: هذا الألف الذي أقررت أنه لي رهنتني به هذا العبد هو لي ولزيد.. قبل ذلك؛ لأنه إقرار في حق نفسه، فقبل، فيكون الألف بينه وبين زيد) .
وقال الشيخ أبو حامد: ولم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الرهن هاهنا، ولكن يكون العبد رهنا بالألف؛ لأن المرتهن اعترف بالألف الذي ارتهن به أنه له ولغيره، فقبل إقراره في ذلك، كما لو كان له ألف برهن، فقال: هذا الألف لزيد.. كان له الألف بالرهن، كذلك هذا مثله.
[مسألة: إرسال شخص برهن]
ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب (الرسالة) من " الأم " [3/155] أربع مسائل:
الأولى: إذا دفع رجل ثوبا، وأرسله ليرهنه له عند رجل، فرهنه له، ثم اختلف الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أذنت له ليرهنه عندي بعشرين، وقد أعطيته العشرين، ورهنني الثوب بها. فقال المرسل: ما أمرته أن يأخذ إلا عشرة ويرهن بها، فإن صدق الرسول الراهن المرسل.. فالقول قول الرسول، فيحلف: إنه(6/116)
ما رهنه إلا بعشرة، ولا يمين على المرسل؛ لأن الرسول هو الذي باشر العقد.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا ادعى على المرسل: أنه أذن له في ذلك، وقبض منه عشرين بإذنه.. أن له أن يحلفه؛ لأن المرسل لو أقر بذلك.. لزمه ما قاله، فإذا أنكره.. حلف.
المسألة الثانية: إذا صدق الرسول المرتهن.. فالقول قول المرسل: أنه لم يأذن له في رهنه بعشرين، ولم يلزم المرسل إلا عشرة لا غير، ويلزم الرسول عشرة؛ لأنه أقر بقبض العشرين.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا صدق الرسول أن الراهن أذن له في ذلك.. لم يكن له الرجوع على الرسول؛ لأنه يقر أن الذي ظلمه هو المرسل.
المسألة الثالثة: إذا دفع إليه ثوبا وعبدا، وأمره أن يرهن أحدهما عند رجل بشيء يأخذه له منه، فرهن الرسول العبد، ثم قال المرسل: إنما أذنت لك برهن الثوب، وأما العبد: فوديعة، وقال الرسول أو المرتهن: إنما أذنت في رهن العبد.. حلف المرسل: إنه ما أذن له برهن البعد، وخرج العبد عن الرهن بيمينه، وخرج الثوب عن الرهن؛ لأنه لم يرهن.
المسألة الرابعة: إذا قال المرسل: أمرتك برهن الثوب، ونهيتك عن رهن العبد. وأقام على ذلك بينة، وأقام الرسول بينة أنه أذن له في رهن العبد. فبينة الرسول أولى؛ لأنه يحتمل أن يكون قد أذن له في رهن العبد، ثم نهاه عن رهنه، فلا يصح رهنه، ويحتمل أن يكون قد أذن له في رهن الثوب، ونهاه عن رهن العبد، ثم أذن له في رهن العبد، فيصح، وإذا احتمل هذا وهذا، فقد وجد من الرسول عقد الرهن على العبد، والظاهر أنه عقد صحيح.. فلا يحكم ببطلانه لأمر محتمل) .
[مسألة: اختلفا في كون الرهن قرضا أو بيعا]
إذا كان في يد رجل عبد لغيره، فقال من بيده العبد للمالك: رهنتني هذا العبد بألف هي لي عليك قرضا، وقال المالك: بل بعتكه بألف هي لي عليك ثمنا.. حلف(6/117)
السيد: أنه ما رهنه العبد؛ لأن الأصل عدم الرهن، ويحلف من بيده العبد: أنه ما اشتراه؛ لأن الأصل عدم الشراء، ويبطل العقدان، ويسقط المالان، ويرد العبد إلى سيده.
وإن قال من بيده العبد: رهنتني هذا العبد بألف أقبضتكها. وقال السيد: بل رهنتكه بألف لم أقبضها.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف. بطل الرهن؛ لأن الرهن إنما يكون على حق في الذمة. وإن قال من بيده العبد: بعتنيه بألف، وقال السيد: بل رهنتكه بألف.. حلف السيد: إنه ما باعه العبد، فإذا حلف.. خرج العبد من يد من هو بيده؛ لأن البيع زال بيمين السيد، وبطل الرهن؛ لأن المالك يقر له به، والمرتهن ينكره، ومتى أنكر المرتهن الرهن.. زال الرهن.
قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والمحاملي في " المجموع ": فإن قال السيد: رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا، وقال الذي بيده العبد: بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمنا.. حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعي عليه؛ لأن الأصل عدم العقد. وعلى السيد الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.
قلت: والذي يقتضي القياس عندي: أنه لا يمين على الذي بيده العبد؛ لأنه ما ارتهن العبد؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
[مسألة: اختلفا على عين أنها رهن أو إجارة]
وإن رهنه عينا فوجدت في يد المرتهن، فقال المرتهن للراهن: قبضتها بإذنك رهنا. وقال الراهن: لم آذن لك في قبضها، وإنما غصبتنيها، أو أجرتها منك، فقبضتها عن الإجارة. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
وإن اتفقا على الرهن والإذن والقبض، ولكن قال الراهن: رجعت في الإذن قبل أن تقبض، وقال المرتهن: لم ترجع، ولم تقم بينة على الرجوع.. فالقول قول المرتهن مع يمينه: أنه ما يعلم أنه رجع؛ لأن الأصل عدم الرجوع.
وإن اتفقا على الرهن والإذن، واختلفا في القبض: فقال الراهن: لم تقبض،(6/118)
وقال المرتهن: بل قبضت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول الراهن) . وقال في موضع: (القول قول المرتهن) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فإن كانت العين في يد الراهن.. فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم القبض.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يحلف أنه ما يعلم أنه قبض؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن كانت العين في يد المرتهن.. حلف: إنه قبض؛ لأن الظاهر أنه قبض بحق.
[فرع: رجوع الراهن عن إقباض العين للمرتهن]
وإن أقر أنه رهن عند غيره عينا، وأقبضه إياها، ثم قال الراهن للمرتهن: لم تكن قبضتها، وأراد منعه من القبض.. لم يقبل رجوعه عن إقراره بالقبض؛ لأن إقراره لازم. فإن قال الراهن للمرتهن: احلف: أنك قبضتها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحلفته) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن كان المرهون غائبا، فقال: أقررت بالقبض؛ لأن وكيلي أخبرني: أنه أقبضه، ثم بان لي أنه لم يقبضه.. أحلف المرتهن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وإنما يدعي أمرا محتملا. فأما إذا كان الرهن حاضرا، وأقر أنه أقبضه بنفسه، ثم رجع، وقال: لم يقبض.. لم تسمع منه دعواه، ولم يحلف المرتهن؛ لأنه يكذب نفسه.
وقال أبو علي بن خيران، وعامة أصحابنا: يحلف المرتهن بكل حال، وهو ظاهر النص. أما مع غيبة الرهن: فلما ذكر الشيخ أبو إسحاق. وأما مع حضوره: فلأنه قد يستنيب غيره بالإقباض، فيخبره: بأن المرتهن قد قبض، ثم تبين له أنه قد خان في إخباره، وأيضا فإنه قد يعده بالإقباض، فيقر له به قبل فعله، فكانت دعواه محتملة.
قالوا: وهكذا: لو أن رجلا أقر: بأنه اقترض من رجل ألفا، ثم قال بعد ذلك: لم(6/119)
أقبضها، وإنما وعدني أن يقرضني، فأقررت به، ثم لم يفعل.. لم يحلف، واستحلف المقرض؛ لأنه لا يكذب نفسه. فأما إذا شهد شاهدان: بأنه رهنه عبده وأقبضه، ثم ادعى أنه لم يقبضه، وطلب يمين المرتهن.. لم تسمع دعواه، ولم يحلف المقر له؛ لأن في ذلك قدحا في البينة.
[مسألة: البيع بشرط أن يرهن عصيرا]
إذا باعه شيئا بشرط أن يرهنه عصيرا، فرهنه العصير، وقبضه المرتهن، فوجده خمرا، فقال المرتهن: أقبضتنيه خمرا، فلي الخيار في فسخ البيع. وقال الراهن: بل صار خمرا بعد أن صار في يدك، فلا خيار لك.. ففيه قولان:
أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه، وهو قول أبي حنيفة، والمزني؛ لأن الراهن يدعي قبضا صحيحا، والأصل عدمه.
والثاني: أن القول قول الراهن، وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتفقا على العقد والتسليم، واختلفا في تغيير صفته، والأصل عدم التغيير وبقاء صفته، كما لو باعه شيئا وقبضه، فوجد به عيبا في يد المشتري يمكن حدوثه بيده.. فإن القول قول البائع. وإن قال المرتهن: رهنتنيه وهو خمر. وقال الراهن: رهنتكه، وهو عصير، وقبضته عصيرا، وإنما صار خمرا في يدك.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: القول قول المرتهن، قولا واحدا؛ لأنه لا ينكر أصل العقد.
وقال سائر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. وهو المنصوص في " مختصر المزني ".
[فرع: رهن عبدا ملفوفا]
وإن رهنه عبدا، وأقبضه إياه ملفوفا في ثوب، فوجد ميتا، فقال المرتهن: أقبضتنيه ميتا. وقال الراهن: أقبضتكه حيا، ثم مات عندك.. ففيه طريقان:(6/120)
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين، كالعصير.
و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: القول قول المرتهن، قولا واحدا. والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
[مسألة: رهنا عبدا على مائتي دينار]
إذا كان لرجلين على رجل مائتا دينار، لكل واحد منهما مائة، وله عبد، فادعى عليه كل واحد منهما أنه رهن عنده العبد، وأقبضه إياه، ولا بينة لهما، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا؛ لأن الأصل عدم الرهن، سواء كان العبد في أيديهما، أو في يده؛ لأن اليد لا يرجح بها في العقد. وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر.. حكم بالرهن للمصدق، وسواء كان العبد في يد المصدق أو المكذب، وهل يحلف الراهن للمكذب؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لعمرو قيمته؟ فيه قولان:
فإن قلنا: يغرم.. حلف هاهنا؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيقر للمكذب، فتثبت له القيمة.
وإن قلنا: لا يغرم.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بعد الإقرار الأول.. لم يحكم له بشيء، فلا فائدة في تحليفه.
وإن أقر لهما بالرهن والتسليم، فادعى كل واحد منهما أنه هو السابق بالرهن والتسليم.. رجع إلى الراهن، فإن قال: لا أعلم السابق منكما بذلك، فإن صدقاه أنه لا يعلم، ولا بينة لهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرهن ينفسخ) ؛ لأنهما قد استويا في ذلك، والبيان من جهته قد تعذر، فحكم بانفساخ العقدين، كما نقول في المرأة إذا زوجها وليان لها من رجلين، وتعذر معرفة السابق منهما، وكذلك الجمعتان.
والثاني: يقسم بينهما؛ لأنه يمكن قسمته بينهما، ويمكن أن يكون رهن عند كل واحد منهما نصفه.(6/121)
وإن كذباه، وقالا: بل هو يعلم السابق من العقدين والتسليم فيه.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم.
قال الشيخ أبو حامد: فيحلف لكل واحد منهما يمينا: أنه لا يعلم أنه السابق، فإذا حلف لهما.. كانت على وجهين، مضى ذكرهما:
المنصوص: (أنه ينفسخ العقدان) .
والثاني: يقسم بينهما.
وإن نكل عن اليمين.. عرضنا اليمين عليهما، فإن حلف كل واحد منهما: أن الراهن يعلم أنه هو السابق.. قال ابن الصباغ: كانت على الوجهين الأولين:
المنصوص: (أن الرهنين ينفسخان) .
والثاني: يقسم بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. حكم بالرهن للحالف دون الآخر. وإن اعترف الراهن أنه يعلم السابق منهما، وقال: هذا هو السابق، لم يخل: إما أن يكون الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد أحد المرتهنين، أو في يدهما، فإن كان الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد المقر له بالسبق.. حكم بالرهن للمقر له؛ لأنه اجتمع له اليد والإقرار، وهل يحلف الراهن للآخر؟ فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
المنصوص: (أنه لا يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني.. لم ينزع الرهن من يد المقر له، فلا معنى لاستحلافه) .
والثاني: يحلف له؛ لأنه ربما خاف من اليمين، فأقر للثاني، فتؤخذ منه القيمة، فتكون رهنا مكانه.
فإذا قلنا: لا يمين عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: عليه اليمين.. نظرت:
فإن حلف للثاني.. انصرف.
وإن خاف من اليمين، فأقر للثاني أنه رهنه أولا، وأقبضه.. لم يقبل هذا الإقرار في حق المقر له أولا بانتزاع الرهن منه، ولكن تؤخذ من المقر قيمة الرهن، وتجعل(6/122)
رهنا عند الثاني المقر له؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره المتقدم.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على الثاني، فإن لم يحلف.. قلنا له: اذهب فلا حق لك. وإن حلف، فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. انتزع الرهن من يد الأول، وسلم إلى الثاني. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إلا أن أصحابنا لم يفرعوا على هذا القول، وهذا يدل على ضعفه. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار.. فذكر في " المهذب " هاهنا ثلاثة أوجه:
أحدها ـ ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره ـ: أن الرهن لا ينزع من يد الأول، ويلزم المقر أن يدفع قيمته إلى الثاني المقر له ليكون رهنا عنده؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره الأول.
والثاني: يجعل بينهما؛ لأنهما استويا في الإقرار، ويجوز أن يكون مرهونا عندهما، فجعل بينهما.
والثالث: ينفسخ الرهن؛ لأنه أقر لهما، وجهل السابق منهما.
وإن كان الرهن في يد الذي لم يقر له.. فقد حصل لأحدهما الإقرار، وللآخر اليد، وفيه قولان:
أحدهما: أن صاحب اليد أولى، فيكون القول قوله مع يمينه: أنه السابق، كما لو قال: بعت هذا العبد من أحدهما، وكان في يد أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه.
والثاني: أن القول قول الراهن: أن الآخر هو السابق؛ لأنه إذا اعترف أن السابق هو الآخر.. فهو يقر أنه لم يرهن ممن بيده شيئا، ومن بيده يدعي ذلك، فيكون كما لو ادعى عليه أنه رهنه.
فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف الراهن لمن هو بيده؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، على ما مضى من التفريع.
وإن كان الرهن في يد المرتهنين.. فقد اجتمع لأحدهما اليد والإقرار في النصف،(6/123)
فيكون أحق به، وهل يحلف للآخر عليه؟ على القولين.
وأما النصف الذي في يد الآخر: فهل اليد أقوى، أو الإقرار؟ على القولين الأولين.
فإن قلنا: إن اليد أقوى.. حلف من هو في يده عليه، وكان رهنا بينهما، وهل يحلف المقر لمن لم يقر له على النصف الذي بيد المقر له؟ على القولين.
وإن قلنا: الإقرار أولى.. انتزع العبد، فجعل رهنا للمقر له، وهل يحلف للآخر على جميعه؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو والمنصوص هاهنا: (أنه لا يحلف) .
[مسألة: رهن عبدا أو أقبضه]
إذا رهن عند رجل عبدا، وأقبضه إياه، ثم أقر الراهن أنه جنى قبل الرهن على غيره جناية توجب المال، أو أتلف عليه مالا، فإن لم يصدقه المقر له.. لم يحكم بصحة الإقرار؛ لأنه أقر لمن لا يدعيه. وإن صدقه المقر له، فإن صدقهما المرتهن.. حكم بصحة الإقرار، وكان للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان مشروطا فيه، وإن كذبهما المرتهن.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن القول قول الراهن؛ لأنه غير متهم في هذا الإقرار؛ لأن المجني عليه يأخذ الأرش، ويبقى حق المرتهن في ذمة الراهن، فلا تهمة عليه فيه، وكل من أقر بما لا تهمة عليه فيه.. قبل، كالزوجة إذا أقرت بقتل العمد.. فإنه يقبل إقرارها، ولأنه لو أجر عبده، ثم أقر أنه جنى قبل الإجارة.. قبل إقراره، فكذلك في الرهن مثله.
والقول الثاني: أن القول قول المرتهن، وهو قول أبي حنيفة، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من عين الرهن، فلم يملكه الراهن، كما لو باعه، ولأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليبطل الوثيقة، ويأخذ العبد، ويخالف(6/124)
الإجارة، فإن الإجارة عقد على المنفعة، ويمكن استيفاء المنفعة منه، ثم يباع في الجناية.
فإن لم يقر بأنه جنى، ولكن أقر بعد الرهن والإقباض أنه كان غصب هذا العبد، أو باعه، أو أعتقه قبل الرهن، وأنكر المرتهن ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان، كما لو أقر أنه كان جنى. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون في الإقرار بالعتق قول ثالث: إن كان موسرا.. نفذ إقراره، وإن كان معسرا.. لم ينفذ إقراره، ويجري الإقرار به مجرى الإعتاق.
فأما إذا باع عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل البيع، أو كان أعتقه، أو غصبه، أو باعه من غيره.. لم يقبل في حق المشتري، قولا واحدا؛ لأن البيع يزيل ملكه.
وإن كاتب عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل ذلك.. لم يقبل أيضا إقراره، قولا واحدا؛ لأن المكاتب بمنزلة من زال ملكه عنه؛ لأن أرش الجناية عليه لا يرجع إليه
وإن كاتبه، ثم أقر أنه كان أعتقه، أو باعه قبل ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: عتق في الحال، وسقط المال عنه؛ لأن إقراره بذلك إبراء منه له من مال المكاتبة.
إذا ثبت هذا: رجعنا إلى الرهن، فإن قلنا: القول قول الراهن.. فهل يحتاج أن يحلف؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: هما وجهان:
أحدهما: أن عليه اليمين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وهو المنصوص؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، فلم يكن بد من اليمين، كما لو ادعى دارا في يد غيره، فأنكر.. فلا بد من يمين المنكر؛ لأنه يمكن صدقه وكذبه.
فعلى هذا: إذا حلف.. فإنه يحلف على البت والقطع؛ لأنها يمين إثبات.
والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه لو رجع عن هذا الإقرار.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه.
فإذا قلنا: عليه اليمين، فحلف، أو قلنا: لا يمين عليه، فإن كانت قيمة العبد بقدر أرش الجناية أو أقل.. بيع العبد لأجل الأرش، ولا كلام. وإن كان أرش الجناية أقل من قيمة العبد، فإن قلنا: إن رهن العبد الجاني صحيح.. بيع منه بقدر أرش(6/125)
الجناية، وكان الباقي منه رهنا. وإن لم يمكن بيع بعضه إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، وكان ما فضل من ثمنه عن أرش الجناية رهنا. وإن قلنا: إن رهن الجاني باطل.. بطل في قدر أرش الجناية، وهل يبطل فيما زاد على الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه باطل، فيكون للراهن مطلقا؛ لأن تعلق الأرش بالرقبة وإن قل يبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن فيما يفضل عن أرش الجناية؛ لأن ما زاد على أرش الجناية لا يدعيه المجني عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن فيه، كما لو لم يدع المجني عليه الجناية.. فإنه لا يحكم ببطلان الرهن.
فإن اختار السيد أن يفديه، إذا قلنا: القول قوله.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبائع، كما لو ثبتت جنايته بالبينة، أو كان غير مرهون.
وإذا قلنا: إن القول قول المرتهن.. فإن عليه اليمين، قولا واحدا؛ لأنه لو اعترف بالجناية.. لصح اعترافه.
فعلى هذا: يحلف: أنه ما يعلم أنه جنى؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
فإن حلف المرتهن.. بقي الرهن في العبد بحاله، وهل يلزم الراهن أن يغرم للمجني عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه قد فعل ما يلزمه في الشرع، وهو الإقرار، فإذا منع الشرع من قبول إقراره.. لم يلزمه ضمان.
فعلى هذا: إذا رجع العبد إليه، بأن فكه من الرهن، أو أبرئ من الدين، أو بيع في الدين، فرجع إليه ببيع، أو هبة، أو إرث.. تعلق الأرش برقبته؛ لأنا إنما منعنا من نفوذ إقراره بحق المرتهن، وقد زال.(6/126)
والقول الثاني: يلزمه أن يغرم؛ لأنه منع من بيعه لأرش الجناية بعقد الرهن، فصار كما لو قتل عبده، ثم أقر أنه كان جنى.. فإنه يلزمه الغرم للمجني عليه.. ولا فرق بين أن يعلم بالجناية عند عقد الرهن، أو لا يعلم؛ لأن حقوق الآدميين تضمن بالعمد والخطأ.
فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يغرم؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: أقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: أرش الجناية بالغا ما بلغ، كالمسألة قبلها.
و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه أقل الأمرين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه لا يمكن البيع هاهنا، فهو كأم الولد.
قال ابن الصباغ: ويمكن من قال بالطريق الأول أن يجيب عن هذا: بأن هذا منع من بيعه بالرهن بعد أن كان يمكن بيعه بالجناية، وأم الولد منع من بيعها قبل الجناية.
فإن نكل المرتهن عن اليمين.. فعلى من ترد اليمين؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنها ترد على المجني عليه) ؛ لأن الأرش له، فحلف لإثباته.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: ترد على الراهن؛ لأنه هو المالك للرهن، والخصومة بينه وبينه فيه.
فإذا قلنا: ترد اليمين على المجني عليه، فنكل.. فهل ترد على الراهن؟ فيه قولان.
وإن قلنا: ترد على الراهن، فنكل.. فهل ترد على المجني عليه؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا أقام شاهدا على حق له على غيره، ولم يلحف معه.. فهل يحلف الغرماء معه؟ فيه قولان.(6/127)
[فرع: عتق الجارية المرهونة]
ولو أعتق الراهن الجارية المرهونة بعد الرهن والإقباض، أو أحبلها، وادعى أن المرتهن أذن له في ذلك، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. فإن نكل عن اليمين.. ردت على الراهن، فإن نكل.. فهل ترد على الجارية؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في غرماء المفلس.
و [الثاني] : منهم من قال: ترد عليها اليمين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنها تثبت لنفسها حقا، وهو العتق والاستيلاد، بخلاف غرماء المفلس، فإنهم يثبتون الحق لغيرهم.
فإن حلف الراهن أو الجارية، فإذا قلنا: يحلفا.. ثبت العتق والاستيلاد، وبطل الرهن، قولا واحدا. وإن لم يحلف واحد منهما.. فهو كما لو أعتقها، أو أحبلها بغير إذن المرتهن، وقد مضى.
[مسألة: قضاه أحد الدينين أحدهما رهن]
وإن كان لرجل على رجل مائتا درهم، مائة برهن، ومائة بغير رهن، فقضاه مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: قضيتكها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أقبضتنيها عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في اللفظ، بأن قال الراهن: أنا قلت: هي عن المائة المرهون بها، وقال المرتهن: بل قلت: هي عن المائة التي لا رهن بها.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله.
وهكذا: إذا اتفقا أنه لم يتلفظ، وإنما اختلفا في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما نوى. وإن اتفقا أنه لم يتلفظ ولم ينو، ولكن قال الراهن: أريد أن أجعلها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل تكون عن التي لا رهن بها، وكان هذا بعد القضاء.. ففيه وجهان:(6/128)
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: للراهن أن يجعلها عما شاء، كما إذا طلق إحدى نسائه بغير عينها.. فله أن يصرفه إلى أيتهن شاء.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصرف إليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الوجوب، فصرفت إليهما.
[فرع: إبراء المرتهن الراهن عن بعض الرهن]
فإن كانت المسألة بحالها، وأبرأه المرتهن عن مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: أبرأتني عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أبرأتك عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في لفظ المرتهن أو في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
وإن اتفقا على أنه لم يتلفظ ولم ينو.. فعلى الوجهين في الأولى:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: للمرتهن أن يصرفه إلى التي لا رهن بها.
و [الثاني] : قال أبو علي: ينصرف إليهما نصفين.
[مسألة: هلاك الرهن بيد المرتهن]
وإن كان الرهن على يد المرتهن، وادعى هلاكه من غير تفريط.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله في الهلاك، كالمودع.
وإن ادعى رده، فأنكره الراهن فقد قال البغداديون من أصحابنا: لا يقبل قوله من غير بينة، بل القول قول الراهن.. مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستأجر. وحكى أبو علي السنجي: أن الخراسانيين من أصحابنا قالوا: يقبل قوله مع يمينه، كما يقبل قوله في الهلاك، كالمودع.
[مسألة: أذنا في بيع الرهن عند المحل بدراهم أو دنانير]
] : وإن جعلا الرهن على يد عدل، وأذنا له في بيعه عند المحل، ثم اختلفا فيما يباع به. فقال أحدهما: بع بالدنانير، وقال الآخر: بع بالدراهم.. فإن الشيخ أبا حامد(6/129)
وابن الصباغ قالا: لا يبيع بقول كل واحد منهما؛ لأن لكل واحد منهما حقا تعلق به، فلم يكن قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، وهو المنصوص في " المختصر "، فيأمره الحاكم بالبيع بنقد البلد، وسواء كان نقد البلد مما طلب أحدهما أو مما لم يطلبه أحدهما فإن كان الدين من نقد البلد.. صرف الثمن إليه، وإن كان من غير نقد البلد.. اشتري له بما بيع به الرهن جنس حقه.
وإن كان ما قال كل واحد منهما من نقد البلد، أو كان في البلد نقدان غير ما قالا، فإن كان أحدهما أغلب في الاستعمال من الآخر.. أمره الحاكم أن يبيع بالغالب. وإن كانا متساويين، فإن كان البيع بأحدهما أحظ لهما. باع بالأحظ لهما. وإن كانا متساويين في الحظ، فإن كان أحدهما من جنس حق المرتهن.. باع به؛ لأن ذلك أسهل، وإن كان الدين من غيرهما.. باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الدين، وأقرب إليه. فإن استويا في ذلك.. عين له الحاكم أحدهما، فباع به.
وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه إذا قال الراهن: بعه بالدراهم، وقال المرتهن: بعه بالدنانير، وكانت الدراهم قدر حق المرتهن.. باعه بالدراهم؛ لأنه لا غرض للمرتهن في الدنانير.
ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه يرفع إلى الحاكم، ولعله أراد ذلك بإطلاقه.
والله أعلم(6/130)
[باب التفليس]
الفلس - في اللغة -: مأخوذ من الفلوس وهو أخس مال الرجل الذي يتبايع به، كأنه إذا أفلس.. منع من التصرف في ماله إلا من الشيء التافه.
وهو - في الشرع - اسم لمن عليه ديون لا يفي ماله بها.
[مسألة: مطالبة المدين عند حلول الأجل]
] : إذا كان على الرجل دين، فلا يخلو: إما أن يكون مؤجلا، أو حالا.
فإن كان مؤجلا.. لم تجز مطالبته به قبل حلول الأجل؛ لأن ذلك يسقط فائدة التأجيل، فإن أراد أن يسافر قبل محل الدين سفرا يزيد على الأجل..نظرت: فإن كان لغير الجهاد.. لم يكن للغريم منعه، ولا مطالبته بأن يقيم له كفيلا بدينه، ولا أن يعطيه رهنا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقال له: حقك حيث وضعته) ، يعني: أنك رضيت حال العقد أن يكون مالُكَ عليه بلا رهن ولا ضمين.
وحكى أصحابنا، عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (له مطالبته بالكفيل، أو الرهن) .(6/131)
دليلنا: أنه ليس له مطالبته بالحق، فلم يكن له مطالبته بالكفيل أو الرهن، كما لو لم يرد السفر.
وإن كان السفر للجهاد.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له منعه من السفر إلى أن يقيم له كفيلا أو يعطيه رهنا بدينه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين) . ولم يفرق بين الحال والمؤجل، ولأن المجاهد يعرض نفسه للقتل طلبا للشهادة، فلم يكن بد من إقامة الكفيل؛ ليستوفي صاحب الدين دينه منه.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يلزمه ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإذا أراد الذي عليه الدين إلى أجل السفر، وأراد غريمه منعه؛ لبعد سفره وقرب أجله.. لم يكن له منعه) . ولم يفرق بين سفر الجهاد وغيره، لأنه لم يحل الدين، فلم يملك المطالبة بذلك، كما لو كان السفر لغير الجهاد.
وإن كان الدين حالا، فإن كان معسرا.. لم يجز مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . ولا يجوز لغريمه ملازمته، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (ليس للغريم مطالبته، ولكن له ملازمته، فيسير معه حيث سار، ويجلس معه حيث جلس، إلا أنه لا يمنعه من الاكتساب، وإذا رجع إلى داره، فإن أذن لغريمه بالدخول معه.. دخل معه؛ وإن لم يأذن له بالدخول.. كان للغريم منعه من الدخول) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فأمر بإنظار المعسر، فمن قال: إنه يلازمه.. فقد خالف ظاهر الآية.
وروي: «أن رجلا ابتاع ثمرة، فأصيب بها، فكثر دينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فتصدقوا عليه، فلم يف بما عليه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرمائه:(6/132)
خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» وهذا نص. ولأن كل من لا مطالبة له عليه.. لم تجز ملازمته، كما لو كان الدين مؤجلا.
وإن كان من عليه الدين يحسن صنعة.. لم يجبر على الاكتساب بها ليحصل ما يقضي به الدين، بل إن اكتسب، وحصل معه مال يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.. قضى به الدين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال أحمد، وإسحاق: (يجبر على الاكتساب لقضاء الدين) . وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وسوار القاضي. دليلنا: الخبر في الرجل الذي ابتاع الثمرة، فأمر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه أن يأخذوا ما معه، وقال: «خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» . ولم يأمره بالاكتساب لهم، ولأن هذا إجبار على الاكتساب، فلم يجب ذلك، كما لا يجبر على قبول الهبة والوصية، وكذلك: لو تزوج امرأة بمهر كثير.. لم يجبر على طلاقها قبل الدخول ليرجع إليه نصفه.
فإن كان موسرا.. جازت مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . فأوجب إنظار المعسر، فدل على: أن الموسر لا يجب إنظاره، فإن لم يقضه.. أمره الحاكم بالقضاء، فإن لم يفعل، فإن كان له مال ظاهر.. باع الحاكم عليه ماله، وقضى الغريم، وإن قضى الحاكم الغريم شيئا من مال من عليه الدين.. جاز، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.(6/133)
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للحاكم أن يبيع عليه ماله، ولكن يحبسه حتى يقضي الدين بنفسه) .
دليلنا: ما روي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر، وقال: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج - وروي: سبق الحاج - فادان معرضا، فأصبح وقد رين به، فمن كان له ذلك عليه دين.. فليحضر غدا، فإنا بائعوا ماله، وقاسموه بين غرمائه) . وروي: (فمن كان له عليه دين.. فليغد بالغداة، فلينقسم ماله بينهم بالحصص) . وهذا بمجمع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولم ينكر عليه أحد، فدل على: أنه إجماع.
وقوله: (فادان معرضا) أي: أنه يتعرض الناس، فيستدين ممن أمكنه، ويشترى به الإبل الجياد، ويروح في الحج، ويسبق الحاج.
وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (فأصبح وقد رين به) يقال: رين بالرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به، ويقال لما عليك وعلاك: وقد ران بك، وران عليك، قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .(6/134)
قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب.
وإن امتنع من عليه الدين من القضاء، وكتم ماله.. عزره الحاكم، وحبسه إلى أن يظهر ماله.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» . و (اللي) : المطل، يقال: لواه غريمه بدينه يلويه ليا وليانا. قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت ملية ... وأحسن يا ذات الوشاح التقضايا
وقوله: (الواجد) يعني: الغني. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وقوله: (يحل عرضه) لم يرد به: أنه يقذفه، ويطعن في نسبه، وإنما يقول: يا ظالم، يا متعد. وقوله: (عقوبته) يعني: حبسه وتعزيره، وهو كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لصاحب الحق اليد واللسان» . وأراد باليد: الملازمة، وباللسان: أن يقول: يا ظالم، يا مطال.(6/135)
وروي: «أن رجلا كان له على رجل دين، فترافعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بملازمته، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به، فقال: أحسن إلى أسيرك» فسماه: أسيرا.
وروي: «أن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان له على رجل دين، فلازمه في مسجد بني حدرد، قال: فارتفعت أصواتنا، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصواتنا، فقال لي: يا كعب، أحسن إلى أسيرك، خذ الشطر، ودع الشطر» فأقره على ملازمته، وهذا محمول على أن من عليه الدين كان له مال، فكتمه، وأما إذا لم يكن لمن عليه الدين مال ظاهر، وقال: أنا معسر، وكذبه الغريم.. نظرت:
فإن حصل عليه الدين بمعاوضة، مثل بيع، أو سلم، أو قرض، أو ثبت عليه الدين عن جناية، أو مهر، لكن قد عرف له قبل ذلك مال.. لم تقبل دعواه أنه معسر؛ لأنه قد ثبت ملكه للمال، والأصل بقاؤه، فلا يقبل قوله في الإعسار، بل يحبسه الحاكم. فإن قال: غريمي يعلم أني معسر، أو أن مالي هلك، فإن صدقه الغريم على ذلك.. خلي من الحبس، وإن كذبه.. حلف الغريم: أنه ما يعلم أنه معسر، أو أنه ما يعلم أن ماله هلك، وحبس من عليه الدين، فإن أراد أن يقيم البينة على تلف ماله.. قبلت شهادة عدلين، سواء كانا من أهل الخبرة بباطنه أو لم يكونا؛(6/136)
لأن كل أحد يدرك التلف، فإن طلب الغريم يمينه مع ذلك.. لم يحلف؛ لأن في ذلك تكذيبا للشهود. وإن أراد أن يقيم البينة على الإعسار.. لم يقبل إذا لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحاله؛ لأن ملكه على المال قد ثبت، فلا يقبل على الإعسار شهادة من لم يكن من أهل الخبرة الباطنة بحاله، وإن كانت البينة من أهل الخبرة الباطنة بأمره.. سمعت.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تسمع؛ لأنها شهادة على النفي، فلم تقبل) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن به حاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما» .
وما ذكروه من أنها شهادة على النفي، غير صحيح؛ لأنها وإن كانت تتضمن النفي، فهي تثبت حالا يظهر، ويقف عليها الشاهد، كما لو شهد أن لا وارث له غير هذا.
إذا ثبت هذا: فإن البينة تسمع في الحال، ويخلى.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا تسمع في الحال، ويحبس من عليه الدين شهرين) في رواية (الأصول) .
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحبس شهرا، وروي: ثلاثة أشهر، وروي: أربعة أشهر، حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة.. جاز سماعها في الحال، كسائر البينات، وكم(6/137)
عدد البينة التي يقبل سماعها في الإعسار؟
قال البغداديون من أصحابنا: تقبل فيه شهادة ذكرين عدلين، كشهادة التلف.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : لا يقبل أقل من ثلاثة رجال، ويحلف معهم. ولعله يحتج بخبر قبيصة بن المخارق في عددهم.
فإن أقام البينة على الإعسار، فقال الغريم: له مال باطن لا تعلم به البينة، فطلب يمينه على ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه أن يحلف، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن فيه تكذيبا للشهود.
والثاني: يجب عليه أن يحلف، فإن لم يحلف.. حبس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه يجوز أن يكون له مال باطن خفي على البينة، وقد يكون للأب مال لا يعلم به ابنه، وقد يكون لأحد الزوجين مال لا يعلم به الآخر.
وإن ثبت عليه الدين في غير معاوضة، مثل: أن جنى على غيره، أو أتلف عليه مالا، ولم يعلم له قبل ذلك مال، وادعى أنه معسر.. فالقول قوله مع يمينه أنه معسر؛ لأن الأصل الفقر حتى يعلم اليسار.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابني خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا تيأسا من رزق الله ما اهتزت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق أحمر ليس عليه قشر إلا قشرتاه، ثم يرزقه الله عز وجل»(6/138)
فإذا حلف، ثم ظهر له غريم آخر.. قال الصيمري: لم يحلف له ثانيا؛ لأنه قد ثبت إعساره باليمين الأولى.
وإن كان في يده مال، فقال: هو لزيد وديعة، أو مضاربة، فإن كان المقر له غائبا.. حلف من عليه الدين، وسقطت عنه المطالبة؛ لأن الأصل العسرة، وما ذكره ممكن. وإن كان المقر له حاضرا.. رجع إليه، فإن كذبه.. قسم المال بين الغرماء، وإن صدقه.. حكم به للمقر له، فإن طلب الغريم يمين المقر له أنه صادق في إقراره.. فهل يجب إحلافه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب إحلافه؛ لأنه لو رجع عن إقراره.. لم يقبل، فلا معنى لإحلافه.
والثاني: أنه يجب إحلافه، فإن لم يحلف.. حبس؛ لجواز أن يكون قد واطأ المقر له على ذلك.
فإن طلب الغريم يمين المقر له أن المال له. قال ابن الصباغ: فعندي: أنه يحلف؛ لأنه لو أكذب المقر. ثبت المال للغرماء، فإذا صدقه.. حلف.
إذا ثبت هذا: فكل موضع حكمنا بإعساره بالبينة أو بيمينه.. فإنه لا يحبس، وكل موضع لم نحكم بإعساره.. وجب حبسه، ولا غاية للحبس عندنا، بل يحبس حتى يكشف عنه ثلاثا أو أربعا، فمتى ثبت إعساره.. خلي، ولا تغفل المسألة عنه.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية (الأصول) : (يحبس أربعة أشهر) . وقال في موضع: (ثلاثة أشهر) . وقال في موضع: (أربعين يوما) . وقال في موضع: (يحبس شهرا) .
قال أصحابه: ليس هذا على سبيل التحديد، وإنما هو على قدر حال المفلس، فإن كان ممن لا يعلم بحاله إلا بحبس أربعة أشهر.. حبس قدر ذلك، وكذلك إذا كان لا يعلم بحاله إلا بحبس ثلاثة أشهر.. حبس قدر ذلك.
دليلنا: أنه لا سبيل إلى العلم بحاله من طريق القطع، وإنما يعلم بحاله من طريق الظاهر، وذلك يعلم بحبس ثلاثة أيام أو أربعة وما أشبه ذلك.(6/139)
وإذا حبسه الغريم. فليس له منعه في الحبس من النوم والأكل، وفي نفقته في الحبس وجهان، حكاهما الصيمري في " الإيضاح ":
[أحدهما]- وهو المذهب -: أنها في مال نفسه.
والثاني: أنها على الغريم، فإن كان المحبوس ذا صنعة.. فقد قال الصيمري: قد قيل: يمكن منها؛ لأنه يقضي بما يحصل منها دينه. وقيل: يمنع منها إذا علم أن ذلك يراخي أمره، ولا معصية عليه بترك الجمعة والجماعة إن كان معسرا.
قال الصيمري: وقيل: يلزمه استئذان الغريم عند ذلك حتى يمنعه، فيسقط عنه الحضور.
[فرع: حاجة السجين إلى من يخدمه]
فإن مرض في الحبس، ولم يجد من يخدمه في الحبس.. أخرج. وإن وجد من يخدمه في الحبس.. فهل يجب إخراجه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني. وإن جن في الحبس.. أخرج. وإذا حبس بقول جماعة من الغرماء.. لم يكن لواحد منهم أن يخرجه حتى يجتمعوا على إخراجه. وإن حبس بطلب غريم، ثم حضر غريم آخر، فطلب أن يخرج ليدعي عليه.. أحضر، فإذا ثبت له عليه حق، وطلب أن يحبس له.. حبس، ولا يجوز إخراجه إلا باجتماعهما. وإن ثبت إعساره.. أخرجه الحاكم من غير إذن الغريم.
قال الصيدلاني: وإذا لم يكن للمفلس مال.. فهل له أن يحلف: أنه لا حق عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يحلف، وينوي أن ليس عليه اليوم حق يلزمه الخروج إليه منه.
والثاني: ليس له أن يحلف؛ لأن الحاكم إذا كان عادلا.. لا يحبسه إلا بعد الكشف عن حاله.(6/140)
[مسألة: ثبوت الديون مجلبة للحجر]
] : وإذا ثبتت الديون على رجل إما بالبينة، أو باعترافه، أو بأيمان المدعين عند نكوله، وسأل الغرماء الحاكم أن يحجر عليه.. نظر الحاكم في ماله:
فإن كان يفي بما عليه من الدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، فإن امتنع.. باع عليه الحاكم ماله، وقضى أصحاب الديون، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد مضت هذه المسألة، وهل تقوم الأعيان التي عليه أثمانها؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يقومها؛ لأن لأربابها الرجوع فيها، فلا تحتسب أثمانها عليه، فلم يقومها عليه مع ماله.
والثاني: يقومها؛ لأن أصحابها بالخيار: بين أن يرجعوا فيها، وبين أن لا يرجعوا فيها، ويطالبوه بالثمن.
وإن قوم ماله، فوجدوه لا يفي بديونه.. لم يحجر الحاكم عليه قبل سؤال الغرماء ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه في ذلك. وإن سأل الغرماء أو بعضهم الحاكم الحجر عليه بعد ذلك.. حجر عليه، وباع عليه ماله، وبه قال مالك رحمة الله عليه، ومحمد، وأبو يوسف رحمهما الله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يحجر عليه، ولا يبيع عليه ماله، بل يحبسه حتى يقضي ما عليه) .
دليلنا: ما وري: «أن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ركبه الدين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم غرماؤه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغير شيء) .(6/141)
وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع ماله لهم» يعني: لغرمائه، وهذا يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن ماله لم يف بالدين، فحجر عليه، فيكون معنى قوله: (خلع) أي: حجر عليه.
والثاني: أن معنى قوله: (خلع ماله لهم) أي: باع ماله لهم.
وروى أبو سعيد الخدري: «أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فلم يف بما عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» ولم يرد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذوا ماله " أي: انتهبوا ماله، وإنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوه بالحصص.
وأبو حنيفة يقول: (ليس لهم أن يأخذوه إلا أن يعطيهم إياه) . وهذا يخالف الخبر.
وإن كان له مال يفي بدينه، إلا أن أمارات الفلس ظهرت به، بأن كان ماله بإزاء دينه، ولا وجه لنفقته إلا مما بيده، أو كان له وجه كسب إلا أن قدر النفقة أكثر مما يحصل له بالكسب.. فهل للحاكم أن يحجر عليه إذا سأله الغرماء ذلك؟ حكى الشيخ أبو إسحاق في ذلك قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: لا يجوز الحجر عليه، بل يأمره الحاكم بقضاء الدين على ما بيناه؛ لأن الحجر إنما يكون على المفلس، وهذا ليس بمفلس.(6/142)
والثاني: يحجر عليه؛ لأن الظاهر من حاله أن ماله يعجز عن ديونه، والحجر يجوز بالظاهر، ألا ترى أن السفيه يجوز الحجر عليه؛ لأن الظاهر منه التبذير وإن كان يجوز ألا يبذر؟
[مسألة: الإشهاد على الحجر]
وإذا حجر الحاكم عليه.. فالمستحب: أن يشهد على الحجر، ويأمر مناديا فينادي في البلد: ألا إن الحاكم قد حجر على فلان بن فلان؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. اغتر الناس به، فيعاملونه، فيؤدي إلى الإضرار بهم، فإذا عاملوه بعد علمهم بالحجر.. فقد دخلوا على بصيرة، ولأن هذا الحاكم ربما مات أو عزل، فولي غيره، فإذا أشهد الأول على الحجر.. أمضاه الثاني، ولا يحتاج إلى ابتداء حجر عليه.
[فرع: الحجر للإفلاس يعلق الديون بماله]
وإذا حجر الحاكم على المفلس.. تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله.
وقال أبو حنيفة: (لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من التصرف بماله، بل يحبسه الحاكم حتى يقضي ما عليه من الدين) .
دليلنا: ما روي: «أن معاذ بن جبل ركبته الديون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماؤه، فلم يزد على أن خلع ماله لهم» وأقل ما يقتضي الخلع: أنه منعه من التصرف بماله.
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا أصيب بثمار ابتاعها، فلم يف ماله بدينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» وفي إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بأخذ ماله.. منع من التصرف فيه.
وإذا تصرف المفلس بعد الحجر.. نظرت:
فإن تصرف في ذمته، بأن اقترض، أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في(6/143)
شيء.. صح ذلك؛ لأن الحجر عليه في أعيان ماله، فأما ذمته.. فلا حجر عليه بها لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت عليه بذمته.. ومن باعه شيئا أو أقرضه بعد الحجر.. لم يشارك الغرماء بماله؛ لأنه إن علم بالحجر.. فقد دخل على بصيرة. وإن لم يعلم به.. فقد فرط في ترك السؤال عنه، وهل تقسم الأعيان التي اشتراها بثمن في ذمته بعد الحجر بين الغرماء الأولين، أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في موضعهما.
وإن تصرف المفلس بشيء من أعيان ماله بأن باع، أو وهب، أو أقرض، أو أعتق.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان:
أحدهما: أن تصرفه موقوف، فإن كان فيما بقي من ماله وفاء بدينه.. نفذ تصرفه، وإن لم يكن فيه وفاء بدينه.. لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين؛ لأن من صح ابتياعه في ذمته.. صح بيعه لأعيان ماله، كغير المفلس؛ ولأنه حجر عليه لحق الغير، فكان تصرفه صحيحا موقوفا، كالحجر على المريض، وفيه احتراز من تصرف المحجور عليه للسفه.
والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبي ليلي، والثوري، ومالك رحمة الله عليهم، واختيار المزني، وهو الصحيح؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يصح تصرفه فيه، كالسفيه، ولأن كل ما تعلق بماله حق الغير.. وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه، كالرهن لا يصح تصرف الراهن به.
فإذا قلنا: إن تصرفه باطل في أعيان ماله.. رد جميع ما باع أو وهب أو أعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فإن وفي ماله بدينه، بأن زادت قيمته، أو أبرئ من بعض دينه، وفضل ما كان تصرف فيه عن الدين.. لم يحكم بصحة تصرفه الأول؛ لأنه وقع باطلا.
فعلى هذا القول: إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذي له عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":(6/144)
[أحدهما] : قال صاحب " التلخيص ": يصح؛ لأن الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه.
والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي زيد؛ لأن الحجر على المفلس ليس مقصورا على هذا الغريم؛ لأنه ربما ظهر له غريم آخر.
وإن قلنا: إن تصرفه صحيح موقوف.. قسم ماله بين غرمائه، فإن وفى ماله بدينه غير الذي تصرف فيه.. نفذ تصرفه. وإن لم يف ماله إلا بنقض جميع ما تصرف فيه.. نقض جميع ما تصرف فيه. وإن لم يف ماله بدينه، إلا ببعض الأعيان التي تصرف فيها.. نقض منها شيء بعد شيء. وما الذي ينقض أولا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ينقض الأضعف، فالأضعف وإن كان متقدما في التصرف.
فعلي هذا: تنقض الهبة أولا؛ لأنها أضعف؛ لأنه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها؛ لأنه يلحقه الفسخ.
قال ابن الصباغ: ثم العتق، ثم الوقف.
والذي يقتضي القياس عندي على هذا: أن الوقف ينقض أولا قبل العتق؛ لأن العتق من الوقف، بدليل: أنه يسري إلى ملك الغير، والوقف لا يسري إلى ملك الغير.
والوجه الثاني: وهو قول صاحب " المهذب ": أنه ينقض من تصرفه الآخر، فالآخر، عتقا كان أو غيره، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث.. فإنه ينقض الآخر فالآخر.
[مسألة: إفلاس أحد المتبايعين بالخيار]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما.. فلكل واحد منهما إجازة البيع، ورده دون الغرماء؛ لأنه ليس بمستحدث) . وهذا كما(6/145)
قال: إذا تبايع رجلان، وبينهما خيار الثلاث، أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما، أو على أحدهما بالإفلاس قبل انقضاء الخيار.
ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ففلسا) أي: حجر عليهما، وحكم عليهما بالإفلاس. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق:
فمنهم من حملها على ظاهرها، وقال: لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، وله أن يجيز، سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك، أو في غيره؛ لأن الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولأن المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ.. لألزمناه الاكتساب.
وقال أبو إسحاق: إن كان الحظ في الفسخ.. لزمه أن يفسخ، وإن أجاز.. لم تصح إجازته، وإن كان الحظ في الإجازة.. لزمه أن يجيز، وإن فسخ.. لم يصح الفسخ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ، فلم يفعل إلا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار، ثم جن، فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ. وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا.
ومنهم من قال: يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشتري، وتصورها في البائع إذا باع بشرط الخيار، وأفلس البائع، فإن قلنا: إن الملك انتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فللبائع أن يجيز البيع وإن كان الحظ في الفسخ، وله أن يفسخ وإن كان الحظ في الإجازة.
وإن قلنا: إن البيع لا ينتقل إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. فليس له أن يفعل إلا ما فيه الحظ على القولين.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أسد عند أصحابنا؛ لأن التصرف من المحجور عليه لا تنفذ، سواء كان فيه الحظ، أو لم يكن.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " طريقة رابعة، وقال: الصحيح عندي: أنه لا يملك فسخ العقد، ولا إجازته بعد الحجر عليه بكل حال؛ لأن عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه، بدلالة أنه إذا باع شيئا، ثم حجر عليه قبل قبض الثمن.. لم يكن له(6/146)
قبضه، اللهم إلا أن يكون الإمام أمر من يقوم بأمره، وينظر في مصالحه، فرأى الحظ له في الفسخ، فإنه يفعل.
[مسألة: هبة المحجور عليه بثواب]
وإن وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب، وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب.. فله أن يرضى بالقليل والكثير؛ لأنا لو ألزمناه طلب الفضل.. لألزمناه الاكتساب، وذلك لا يلزمه.
[مسألة: تعلق الدين المقر به في ذمة المحجور عليه]
وإذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه المقر له، وكذبه الغرماء.. تعلق الدين بذمته، قولا واحدا، وهل يقبل إقراراه في حق الغرماء ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم، ولا يشاركهم؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال، كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولأنه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشارك الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس.
والقول الثاني: أن إقراره مقبول في حق الغرماء، فيشاركهم المقر له، وهو الصحيح؛ لأنه حق يثبت بسبب منسوب إلى ما قبل الحجر، فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولأن المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة. لشارك من أقر له في حال المرض، فكذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر ليشارك الغرماء. وكذلك: إذا أقر بدين بعد الحجر، وإضافة إلى ما قبل الحجر، يكون كما لو أقر به قبل الحجر.
وإن كان في يد المفلس عين، وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه، أو أودعنيها.. فهل يقبل إقراراه في حق الغرماء؟ على القولين:(6/147)
أحدهما: لا يقبل، فإن لم يف مال المفلس بدينه إلا ببيع تلك العين.. بيعت، وفرق ثمنها على الغرماء، وكان دينا على المفلس.
والقول الثاني - وهو الصحيح -: أنه يقبل إقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له.
قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القول الأول، وقال: (من قال بهذا، أدى إلى أن القصار إذا أفلس، وعنده ثياب لقوم، فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان.. فلا يقبل منه، وكذلك الصباغ والصائغ إذا أفلس، فأقر بمتاع لأقوام بأعيانهم.. أن لا يقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال: عندي عبد آبق، ولم يقبل قوله، فبيع العبد.. رجع بعهدته على المفلس، فيكون قد رجع عليه بعهدة عبد أقر أنه آبق، وباعه بهذا الشرط، وهذا لا سبيل إليه؛ لأنه إبطال لأصول الشرع، فلذلك قلنا: يقبل إقراره) .
[فرع: جحود المفلس دينا في ذمته]
وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته، أو عين في يده، فجحده، فإن أقام المدعي بينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين، وإن لم يقم البينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه، فإن حلف له.. انصرف المدعي، وإن نكل المفلس عن اليمين، فحلف المدعي.. فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. كان على القولين الأولين في إقرار المفلس.
[الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك الغرماء، قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة.(6/148)
[مسألة: جناية المحجور عليه]
وإن جنى المحجور عليه على غيره، أو أتلف عليه مالا.. شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء؛ لأن ذلك ثبت بغير رضا من له الحق. وإن كان له عبد، فجنى على غيره.. قدم حق المجني عليه في رقبة العبد على سائر الغرماء؛ لأن حقه يختص بعين هذا العبد، فقدم على غيره، كما قلنا في الرهن.
وإن جني على المفلس جناية خطأ.. تعلق حق الغرماء بالأرش؛ لأن الأرش مال له، فتعلق به حق الغرماء، كسائر أمواله. وإن جني عليه جناية عمد توجب القصاص.. فالمفلس بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو، وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال؛ لأن ذلك اكتساب للمال، وذلك لا يلزمه، ولأنا لو ألزمناه ذلك.. لصار ذلك ذريعة إلى الجناية عليه ثانيا وثالثا، فلم يلزمه. فإن عفا على مال.. تعلق به حق الغرماء، وإن عفا مطلقا فإن قلنا إن موجب العمد القود لا غير.. لم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. ثبت المال، وتعلق به حق الغرماء، وإن عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير.. صح عفوه ولم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فذكر في " التعليق " و " الشامل ": أن المال يثبت، وتتعلق به حقوق الغرماء، ولا يصح عفوه عنه.
[مسألة: ادعاء المفلس دينا]
وإن ادعى المفلس على غيره بدين، أو عين، وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا، فإن حلف معه.. استحق ما ادعاه، وقسم على الغرماء لأنه ملك له وإن لم يحلف فهل يحلف الغرماء.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (لا يحلف الغرماء) . وقال: (إذا مات، وخلف ورثة وعليه دين، وله دين على آخر له به شاهد، ولم يحلف الورثة.. هل يحلف الغرماء؟ على قولين) .
فمن أصحابنا من قال: المسألتان على قولين.(6/149)
ومنهم من قال: لا يحلف غرماء المفلس، قولا واحدا، وفي غرماء الميت قولان، والفرق بينهما: أن المفلس يرجى أن يحلف، فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف، فحلف غرماؤه. والصحيح: أنهما على قولين:
أحدهما: يحلفون؛ لأن حقوقهم تتعلق بما يثبت للمفلس، فكان لهم أن يحلفوا، كالورثة، ولأن الإنسان قد يحلف لإثبات المال لغيره، كما تقول في الوكيل إذا خالفه العاقد له.. فإن الوكيل يحلف، ويثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله.
والثاني: لا يحلفون، وهو الصحيح؛ لأنهم يثبتون بأيمانه ملكا لغيرهم، لتتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز، كما لا تحلف الزوجة لإثبات مال لزوجها وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، ولا يشبه الورثة؛ لأنهم يثبتون الملك لأنفسهم بأيمانهم، وأما الوكيل: فإنما حلف؛ لأن اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه.
فإن ادعى المفلس على غيره بدين أو عين، ولا بينة له.. فالقول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على المفلس، فإن حلف.. ثبت له المال، وقسم على الغرماء، وإن لم يحلف المفلس.. فهل يحلف غرماؤه؟ قال ابن الصباغ: هي على قولين، كاليمين مع الشاهد، وإذا حلفوا.. فإن المال الثابت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم.
[فرع: الديون المؤجلة لا توجب الحجر]
وإن كان على رجل ديون مؤجلة.. فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه؛ لأجل ديونهم وإن كان ماله أقل من ديونهم؛ لأنهم لا حق لهم قبل محل الأجل. وإن كان عليه ديون حاله وديون مؤجله، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون الحالة وإلى ما معه من المال، فوجد ماله لا يفي بالديون الحالة، فحجر عليه لمسألتهم.. فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان:(6/150)
أحدهما: تحل، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الديون تتعلق بالمال بالحجر، فأسقط الحجر الأجل، كالموت.
والثاني: لا تحل، وهو اختيار المزني، وهو الأصح؛ لأنه دين مؤجل على حي، فلم يحل قبل أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت؛ لأن ذمته خربت، وهذا له ذمة صحيحة.
[مسألة: نفقة المحجور عليه]
وإذا حجر الحاكم على المفلس، ومنعه من التصرف في ماله.. فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء؟ ينظر فيه: فإن كان له كسب.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي جاءه بالدينار: أبدأ بنفسك، ثم بمن تعول»
فأمره أن يبدأ بنفسه على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهي الزوجة، فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته، ويدفع إليه نفقة يوم بيوم، وآخرها اليوم الذي يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقة ذلك اليوم؛ لأن النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة؛ لأنه لا بد له أن يتصرف، فلو قلنا: إنه لا يكتسب.. لامتنع الناس من معاملته، ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكفيه قميص وسراويل، ورداء إن كان ممن يتردى، وحذاء لرجله، هذا إذا كان في الصيف، وإن كان في الشتاء.. زيد على القميص جبة(6/151)
محشوة، وخف بدل النعل. وإن كان ممن عادته أن يتطيلس.. دفع إليه الطيلسان، وأما جنس ثيابه: فمعتبر بحاله، فإن كان ممن عادته لبس السرب والدبيقي.. ترك له ذلك. وإن كانت عادته أن يلبس من غليظ القطن أو الكتان.. لم يزد على ذلك، وإن كان ممن يلبس المتوسط من الثياب.. ترك له ذلك) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا كان له ثياب غوال.. بيعت) .
قال أصحابنا: أراد: إذا كان من عوام الناس، وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الأقدار، ونبل التجار.. بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله في العادة، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء.
[فرع: يترك للمحجور عليه نفقة عياله]
وإن كان للمفلس من تلزمه نفقته، كالزوجة والوالدين والمولودين.. ترك لهم ما يحتاجون إليه من نفقة وكسوة، كما قلنا في المفلس؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه؛ لأن الأقارب يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكد من نفقة الأقارب؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة.(6/152)
[فرع: مؤنة تجهيز المحجور عليه]
] : وإن مات المفلس.. كانت مؤنة تجهيزة وكفنه من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدمت إليه جنازة ليصلي عليها، فقال: (هل على صاحبكم من دين؟ "، فقالوا: نعم. فقال: صلوا على صاحبكم»
ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الكفن مقدم على حقوق الغرماء؛ لأنه لم يتعرض له. وإن مات له من تلزمه نفقته، فإن كانت له زوجة.. فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الجنائز) .
وإن كان من الوالدين أو المولودين.. وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء، كما قلنا في المفلس نفسه. وكم القدر الذي يجب في الكفن في حق المفلس وقرابته؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: ثوب واحد.
والثاني: ما جرت به العادة في الكفن، من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة.
و [الثالث] : قال أبو إسحاق: ما يستر العورة لا غير.
[فرع: يباع دار وخادم المحجور عليه]
وإن كان للمفلس دار يسكنها، أو خادم يخدمه.. بيعا عليه، وصرف ثمنهما إلى غرمائه؛ لأنه يمكنه أن يكتري دارا يسكنها، وخادما يخدمه، وقد جرت العادة أن الناس يكترون الدور والخدم، بخلاف الثياب، فإن العادة لم تجر باكترائها، ولأن أكثر ما فيه إذا بيع داره أو خادمه، أنه بيع من ماله ما هو من تمام كفايته، وهذا لا يمتنع، ألا ترى أنه لو كان له عقار يأتيه منها كفايته.. فإنها تباع بالدين وإن كانت من تمام كفايته؟(6/153)
[مسألة: حضور الخصمين عند إرادة الحاكم بيع مال المفلس]
وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس أو الرهن.. فالمستحب: أن يحضر المفلس والراهن؛ لأنه أعرف بقيمة أمواله وأثمانها التي اشتراها بها، ولأنه إذا حضر.. احتاط أكثر مما يحتاط غيره، ويستحب أن يحضر الغرماء؛ لأنه ربما كان فيهم من يبتاع شيئا من مال المفلس، فيكثر المبتاعون، فيكون أوفر للثمن، ولأنه ربما وقع غبن في بيع شيء يسهو الحاكم عنه، فاستدركه. فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس والغرماء.. صح البيع؛ لأن المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم.
[فرع: يطلب الدلال لعرض السلع]
وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس.. فلا بد من دلال، وهو: من ينادي على المتاع فيمن يزيد. ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادي على بيع المتاع؛ لأنهم أعرف بمن يصلح لذلك الأمر، ولأن في ذلك تطييبا لأنفسهم. فإن لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله.. جاز؛ لأن المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل إلا ثقة) . وفي بعض نسخ المزني: (ولا يقبل إلا من ثقة) . فمن نقل: (ولا يقبل إلا ثقة) فمعناه: إذا نصب المفلس والغرماء من ينادي على ثمن المتاع.. لم يقبله الحاكم إلا أن يكون ثقة. والفرق بين هذا وبين الرهن: إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة.. لم يعترض الحاكم عليهما؛ لأن الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما، وهاهنا النظر للحاكم؛ لأنه ربما ظهر غريم آخر.
وأما من نقل: (ولا يقبل إلا من ثقة) فمعناه: إذا نودي على مال المفلس فزاد(6/154)
في ثمنه إنسان، فإنه لا تقبل الزيادة إلا من ثقة؛ مخافة أن يزيد، فيتركها، فيفسدها، فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجره.. لم يستأجر الحاكم من ينادي؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك، فإن لم يوجد من يتطوع بذلك.. استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطي الأجير الأجرة منه؛ لأن في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق. وإن لم يكن في بيت المال فضل.. استؤجر من مال المفلس لذلك؛ لأن العمل له.
قال أبو علي في " الإفصاح ": وأما أجرة النقاد: فعلى الغريم، لا على المفلس، فإن اختار المفلس رجلا ينادي على المتاع، واختار الغرماء غيره.. نظر الحاكم فيهما: فإن كان أحدهما ثقة دون الآخر.. أقر الثقة منهما، وإن كانا ثقتين، فإن كان أحدهما متطوعا دون الآخر.. أقر المتطوع دون الآخر؛ لأنه أوفر عليهم، فإن كانا متطوعين.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك أحوط، وإن كانا غير متطوعين.. اختار أوثقهما وأعرفهما.
[فرع: تباع كل سلعة في محالها]
ويباع كل شيء من الأمتعة في سوقه، فتباع الكتب في سوق الوراقين، ويباع البز في سوق البزازين، والطعام في سوق الطعام، وما أشبه ذلك؛ لأن الشيء إنما يطلب في سوقه، فإن باع شيئا بثمن مثله الذي يباع به في سوقه، في غير سوقه.. صح البيع؛ لأن الغرض حصول ثمن مثله، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد من مال المفلس، كاللحم الطري، والبطيخ، والهريس، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا لم يبع.. تلف بالفساد، أو نقصت قيمته، ثم بيع بعده الحيوان؛ لأنه معرض للتلف، ويحتاج إلى المؤنة في بقائه، ثم يبيع بعده سائر الأمتعة التي تحول وتنقل، كالثياب وغيرها؛ لأن اليد تنالها ويخاف عليها، ثم يبيع بعد ذلك العقار، لأنه لا يخاف عليه الهلاك.(6/155)
وجميع أمواله تباع في حال النداء، وفيمن يزيد في سوقها في وقت قيام ذلك السوق، إلا العقار، فإنه لا ينادى عليه، وإنما يؤمر الدلال بعرضه؛ لأن العادة قد جرت إذا بيع العقار على أيدي الدلالين.. كان أعز له، وأكثر لثمنه، ويخالف السلع، فإن النداء عليها يجلب الزبون، ولأن من يشتري ذلك لا ينحصر، وأما العقار: فإن الدلالين يعرفون من يشتريه، فيعرضونه عليه، والنداء يخلفه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان بقرب ذلك البلد قوم يشترون العقار في بلد المفلس.. أنفذ إليهم، وأعلمهم بذلك ليحضروا، فيشتروا، فيتوفر الثمن على المفلس) .
[فرع: يباع متاع المفلس بنقد البلد]
] : ويباع مال المفلس بنقد البلد وإن كان من غير جنس حق الغرماء؛ لأنه أوفر، فإن كان حق الغرماء من نقد البلد.. دفعه إليهم، وإن كان حقهم من غير نقد البلد، فإن كان حقهم ثبت من غير جهة السلم.. دفع إليهم عوضه إن رضوا بذلك، وإن لم يرضوا.. اشترى لهم جنس حقوقهم. وإن كان حقهم ثبت من جهة السلم.. لم يجز أخذ العوض عن ذلك، وإنما يشتري لهم حقهم.
[فرع: بيع ما رهنه المفلس]
وإن كان في مال المفلس رهن.. بدئ ببيعه؛ لأن حق المرتهن يختص بالعين، وحقوق الغرماء لا تختص بالعين، ولأنه ربما زاد ثمن الرهن على حق المرتهن، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، وربما نقص ثمنه عن حق المرتهن، فيضرب مع الغرماء بما بقي له، فاحتيج إلى تقديم بيعه لذلك.(6/156)
وإن كان هناك عبد جنى على غيره.. قدم بيعه أيضا؛ لأن حقه يختص بعين العبد، ولأنه ربما زاد ثمنه على قدر الأرش، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، ولا يجيء في هذا أن يقال: إن نقص ثمنه.. ضرب المجني عليه بما نقص مع الغرماء؛ لأنه ليس للمجني عليه أكثر من العبد الجاني.
[فرع: يدفع ثمن متاع المفلس لغريمه]
وإذا بيع شيء من مال المفلس، فإن كان دينه لواحد.. فإنه يدفع كلما باع شيئا وقبض ثمنه إلى الغريم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير. وإن كان الدين لجماعة.. نظرت:
فإن بيع جميع ماله دفعة واحدة.. قبض ثمنه وفرقه على الغرماء بالحصص على قدر ديونهم.
وإن لم يمكن بيع ماله إلا شيئا بعد شيء.. نظرت فيما باع به أولا:
فإن كان ثمنه كثيرا يمكن قسمته على الغرماء.. قسم بينهم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير.
وإن كان قليلا تتعذر قسمته، أو يكون القسم منه نزرا.. أخرت قسمته، فإن وجد الحاكم ثقة مليئا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أقرضه إياه حالا) . فإذا تكامل بيع المال.. أخذه من الذي أقرضه إياه، وقسمه بين الغرماء، ويكون ذلك أولى من إيداعه؛ لأن القرض مضمون على المقترض، والوديعة أمانة يخاف تلفها. فإن لم يجد ثقة مليئا يقرضه إياه. أودعه عند ثقة.
فإن قيل: فلم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقرضه حالا) ، والقرض عنده لا يكون إلا حالا؟
فقال أكثر أصحابنا: وصف القرض بذلك؛ لأنه شرط، وقصد بذلك الرد على مالك رحمة الله عليه، حيث قال: (يصح القرض مؤجلا) .(6/157)
وقال بعض أصحابنا: أراد حالا - بغير تشديد - يعني: يقرضه في الحال. وهذا ليس بشيء.
فإن قيل: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنه لا يجوز إقراض مال اليتيم إلا في حال الضرورة، وهو أن يكون في بحر، ومعه مال اليتيم، ويخاف عليه الغرق، أو يخاف عليه النهب أو الحريق، ولا يقرضه في غير ذلك، وإنما يودعه) ، فما الفرق بينه وبين المفلس؟
قلنا: الفرق بينهما: أن مال الصبي معد لمصلحة تظهر له من شراء عقار أو تجارة، وقرضه قد يتعذر معه المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس معد للغرماء خاصة، فافترقا.
[فرع: طلب الحاكم إقالة البيع لمصلحة المفلس]
وإذا باع الحاكم مال المفلس، وانصرم البيع بالتفرق، وانقضى الخيار، ثم جاء رجل إلى الحاكم، وزاده في الثمن.. استحب للحاكم أن يسأل المشتري الإقالة لطلب الفضل، فإن أقاله المشتري.. باع الحاكم من المطالب بالزيادة، وإن لم يفعل المشتري.. لم يجبر على ذلك؛ لأن البيع قد لزم.
[فرع: توكيل الحاكم أمينا يبيع متاع المفلس]
وإذا نصب الحاكم أمينا لبيع مال المفلس وقبض ثمنه، فباع شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه، ثم تلف في يده من غير تفريط.. تلف من ضمان المفلس؛ لأن العدل أمين له، وإن باع العدل شيئا من مال المفلس، وقبض ثمنه، ثم إن رجلا ادعى على(6/158)
المشتري أن العين التي اشتراها ملكه، وأقام على ذلك بينة.. أخذها من يد المشتري، فإن كان الثمن باقيا في يد العدل.. رجع به المشتري، وإن كان المال قد تلف في يد العدل بغير تفريط.. رجع المشتري بالعهدة في مال المفلس، ووافقنا أبو حنيفة في هذا، وخالفنا في العدل - إذا تلف الرهن في يده، وفي الوكيل والوصي إذا تلف المال في أيديهم بغير تفريط -: (أن الضمان يجب عليهم) . فنقيس تلك المسائل على هذه، ونقول: لأنه باع مال الغير، فإذا تلف في يده من غير تفريط.. لم يضمن، قياسا على أمين الحاكم في مال المفلس. وهل يقدم المشتري على سائر الغرماء، أو يكون أسوتهم؟
نقل المزني: (أنه يقدم عليهم) . ونقل الربيع: (أنه يكون أسوة لهم) .
واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدها: أنه يقدم عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة لمال المفلس؛ لأن المشترين إذا علموا أنهم يقدمون في الثمن إذا كان استحق ما اشتروه.. رغبوا في الشراء، فكثر المشترون، وزادت الأثمان، وإذا علموا أنهم لا يقدمون.. تجنبوا الشراء خوفا من الاستحقاق، فتقل الأثمان.
والثاني: لا يقدم، بل يكون أسوة الغرماء؛ لأنه حق تعلق بذمة المفلس بغير اختيار من له الحق، فكان أسوة الغرماء، كما لو جنى على رجل.
ومنهم من قال: هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (يقدم على الغرماء) أراد به: إذا لم يكن الغرماء اقتسموا المال.
والموضع الذي قال: (يكون أسوتهم) أراد به: إذا كان بعد القسمة في حجر ثان، مثل: أن قسم المال بين الغرماء، ثم استحق شيء من أعيان ماله، ثم حجر عليه ثانيا.. فإن المشتري يكون أسوة الغرماء؛ لأن حقه ثبت في ذمته قبل الحجر، كسائر الغرماء. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد هذا التفصيل على هذا الطريق.(6/159)
وأما صاحب " المهذب ": فقال: إن لم ينفك عنه الحجر.. قدم؛ لأن فيه مصلحة له، وإن فك عنه الحجر.. كان كسائر الغرماء. ولم يذكر الحجر الثاني.
[مسألة: وجد ماله عند المفلس على صفته]
مسألة: [من وجد ماله عند المفلس على صفته] :
وإن كان في الغرماء من باع شيئا من المفلس قبل الإفلاس، ولم يقبض الثمن، ووجد عين ماله على صفته خاليا عن حق غيره.. فالبائع بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يرجع في عين ماله.. وبه قال في الصحابة: عثمان، وعلي وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، ومن الفقهاء: أحمد، وإسحاق، ومالك رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للبائع أن يرجع في عين ماله) . وبه قال الحسن، والنخعي، وابن شبرمة.
دليلنا: ما «ورى عمر بن خلدة الزرقي - قاضي المدينة - قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى به محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه»(6/160)
وفي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، ثم وجد البائع متاعه بعينه.. فصاحب المتاع أحق به دون الغرماء» . وهذا نص في موضع الخلاف.
ولأنه نوع معاوضة يلحقه الفسخ ينتقل به حق المعاوض من عين إلى ذمة، فجاز له الرجوع إلى العين عند خراب الذمة، كالمكاتب إذا عجز عن المال.
[فرع: شراء سلعة وهو لا يجد ثمنها يكون مفلسا]
وإن اشترى رجل سلعة بثمن في ذمته، وكانت قيمة السلعة مثل الثمن أو أكثر، ولا يملك المشتري غير هذه السلعة، ولا دين عليه غير هذا الثمن.. فهل يجعل هذا المشتري مفلسا، فيكون للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ":
أحدهما: يكون مفلسا، فيكون البائع بالخيار: بين أن يرجع في عين ماله، وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن.
والثاني: لا يكون مفلسا، ولكن تباع السلعة، ويعطى منها حقه، والباقي للمشتري.(6/161)
[فرع: ظهور علامة الإفلاس بعد البيع]
وإن كان ماله يفي بدينه، ولكن ظهرت فيه أمارات الفلس، وقلنا: يجوز الحجر عليه، فحجر عليه.. فهل يجوز لمن باع منه شيئا، ولم يقبض ثمنه، ووجد عين ماله أن يرجع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: له أن يرجع إلى عين ماله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، فوجد البائع ماله بعينه.. فهو أحق به من سائر الغرماء» .
وهذا قد أفلس، ولأنه محجر عليه لحق الغرماء، فجاز لمن وجد عين ماله الرجوع إليه، كما لو كان ماله أقل من دينه.
والثاني: ليس له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه إنما جعل للبائع الرجوع إلى عين ماله في المواضع التي لا يتمكنون من الوصول إلى كمال حقوقهم، وهذا يتمكن من أخذ جميع ماله، فلم يكن له الرجوع إلى عين ماله.
[فرع: يفسخ البيع للمفلس من غير إذن الحاكم]
وهل يصح فسخ البائع من غير إذن الحاكم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يصح إلا بإذن الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فلم يصح إلا بالحاكم، كفسخ النكاح بالإعسار بالنفقة.
والثاني: يصح بغير إذن الحاكم؛ لأنه فسخ ثبت بنص السنة، فهو كفسخ نكاح المعتقة تحت عبد. فإن حكم حاكم بالمنع من الفسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح حكمه؛ لأنه مختلف فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه حكم مخالف لنص السنة.
وهل يشترط أن يكون الفسخ على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأنه خيار لا يسقط إلى بدل، فجاز على التراخي، كرجوع الأب فيما وهب لابنه، وفيه احتراز من الرد بالعيب؛ لأنه قد سقط إلى بدل، وهو الأرش.(6/162)
والثاني: يشترط أن يكون على الفور؛ لأنه خيار لنقص في العوض، فكان على الفور، كالرد بالعيب، وفيه احتراز من رجوع الأب في هبته لابنه.
[فرع: رهن المبيع بيد المفلس]
وإذا رهن البائع المبيع في يد المفلس عند ثبوت الرجوع له.. فهل يجعل رهنه فسخا للبيع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ في الرهن.
وإن وطئ البائع الجارية المبيعة.. فهل يجعل وطؤه فسخا للبيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون فسخا، كما لو باع جارية، ثم وطئها في مدة الخيار.
والثاني: لا يكون فسخا؛ لأن الملك مستقر للمشتري، فلا يجوز رفعه إلا بالقول.
[فرع: لا يجبر البائع على ترك العين]
] : وإذا بذل الغرماء للبائع جميع ثمنه على أن لا يرجع بالعين المبيعة.. لم يجبر على ذلك، وجاز له الرجوع إلى عين ماله.
وقال مالك: (لا يجوز له الرجوع إلى عين ماله) .
دليلنا: الخبر، ولم يفرق، ولأنه تبرع بالحق غير من عليه الحق، فلم يلزم من ثبت له الفسخ إسقاط حقه من الفسخ، كالزوج إذا أعسر بالنفقة، فجاء أجنبي، فبذل لها النفقة لتترك الفسخ.. فإنه لا يلزمها ذلك.
[مسألة: شراء المفلس وقت الحجر]
وإن باعه بعد الإفلاس، وهو إذا اشترى عينا بعد أن حجر عليه بثمن في ذمته، فقد ذكرنا أن شراءه صحيح، وهل يثبت للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه باعه مع العلم بخراب ذمته، فلم يثبت له الفسخ، كما لو اشترى سلعة معيبة مع العلم بعيبها.(6/163)
والثاني: يثبت له الفسخ، كما لو تزوجت امرأة بفقير مع العلم بحاله.. فإن لها أن تفسخ النكاح إذا أعسر بالنفقة.
[مسألة: باع عينا لمفلس وأخذ جزء ثمنها]
وإن باع من رجل عينا بمائة، أو عينين بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، والعين المبيعة باقية، أو العينان باقيتان، سواء كانت قيمتهما مختلفة أو متساوية.. فهل للبائع أن يرجع من المبيع بقدر ما بقي من الثمن؟ حكى ابن الصباغ فيه قولين:
قال في القديم: (يسقط حق البائع من الرجوع إلى العين، ويضرب مع الغرماء بالثمن) .
وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا مذهب مالك رحمة الله عليه، ولم يحكه عن القديم.
وقال ابن الصباغ: مذهب مالك: أن البائع إذا قبض شيئا من الثمن، والعين باقية.. كان بالخيار: بين أن يرد ما قبض من الثمن، ويرجع في العين المبيعة، وبين أن لا يرجع في العين، ويضارب مع الغرماء فيما بقي.
ووجه القول القديم: ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع بيعا، فأفلس المشتري، فإن كان البائع لم يقبض من ثمنه شيئا.. فهو أحق به، وإن قبض من ثمنه شيئا.. فهو أسوة الغرماء» .
ولأن في رجوعه في بعض العين تبعيضا للصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يكن ذلك للبائع.
وقال في الجديد: (يثبت له الرجوع بحصة ما بقي من الثمن) . وهو الصحيح؛ لأنه سبب يرجع به العاقد إلى جميع العين، فجاز أن يرجع به إلى بعضها، كالفرقة قبل الدخول، وذلك: أن الزوج يرجع تارة بجميع الصداق، وهو إذا ارتدت الزوجة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، وتارة بالنصف، وهو إذا طلقها قبل الدخول.(6/164)
وأما الخبر: فهو مرسل؛ لأن أبا بكر بن عبد الرحمن ليس بصحابي، وإن صح.. فمعنى قوله: «فهو أسوة الغرماء» : إذا رضي بذلك.
وإن باعه عبدين متساويي القيمة بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، وتلف أحد العبدين، وأفلس المشتري، فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن الذي بقي له.. فلا كلام، وإن اختار الرجوع إلى عين ماله على القول الجديد.. فبكم يرجع؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (يرجع في العبد الباقي بما بقي من الثمن) . وقال في (الصداق) : (إذا أصدقها عبدين، فتلف أحدهما، وطلقها قبل الدخول.. أنها على قولين:
أحدهما: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يأخذ نصف الموجود، ونصف قيمة التالف، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) .
وقال في (الزكاة) : (إذا أصدقها خمسا من الإبل، فحال عليها الحول، فباعت منها بقدر شاة، وأخرجتها، ثم طلقها قبل الدخول.. كان له أن يأخذ بعيرين ونصفا، فحصل في الصداق ثلاثة أقوال:
أحدها: يأخذ نصف الصداق من الباقي - وهذا موافق لما قاله في المفلس -.
والثاني: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.
والثالث: أنه بالخيار: بين أن يأخذ الموجود بنصف الصداق، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) .
واختلف أصحابنا في مسألة المفلس:
فمنهم من قال: في المفلس أيضا قولان:
أحدهما: يأخذ الباقي من العبدين بما بقي له من الثمن، ويكون النصف الذي أخذ حصة التالف؛ لأنه لما جاز للبائع أخذ جميع المبيع إذا وجده كله.. جاز له أخذ بعضه إذا تعذر الكل، كما قلنا في الشفيع.(6/165)
والثاني: يأخذ نصف الموجود بنصف ما بقي له، ويضرب مع الغرماء بنصفه؛ لأنه إذا باع عبدين متساويي القيمة بمائة.. فقد باع كل واحد منهما بخمسين، فإذا قبض خمسين من مائة.. فقد قبضها من ثمنها، بدليل: أنهما لو كانا قائمين. لرجع في نصفهما، فإذا تلف أحدهما.. رجع في نصف الباقي بنصف ما بقي، وضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من الذي لم يقبضه.
قال هذا القائل: ولا يجيء هاهنا القول الثالث في الصداق، وهو أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وذمة المفلس خربة، فلا يمكن ترك الشيء كله، والرجوع إلى القيمة؛ لأنه لا يصل إليها.
ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال: في الصداق ثلاثة أقوال، وفي المفلس يأخذ البائع العبد الباقي بما بقي له من الثمن، قولا واحدا، والفرق بينهما: أنا إذا قلنا في الصداق: يأخذ الزوج نصف الموجود ونصف قيمة التالف.. فلا ضرر عليه؛ لأنه يصل إلى حقه؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وفي المفلس لو قلنا: يأخذ البائع نصف الباقي بنصف ما بقي، ويضرب مع الغرماء بنصف ما بقي له.. لم يأمن أن لا يصل إلى كمال حقه؛ لأن ذمة المفلس خربة.
[مسألة: وجود ماله مرهونا]
وإن وجد البائع عين ماله مرهونة عند آخر.. لم يكن له أن يرجع فيها؛ لأن المشتري قد عقد على ما اشتراه عقدا منع نفسه من التصرف فيه، فلم يكن لبائعه الرجوع فيه، كما لو باعها المشتري أو وهبها.
إذا ثبت هذا: فإن حق المرتهن مقدم على حق البائع؛ لأنه أسبق، فإن كان الدين المرهون به مثل قيمة الرهن أو أكثر.. بيعت العين في حق المرتهن، ولا كلام. وإن كان الدين المرهون به أقل من قيمة الرهن بيع من الرهن بقدر دين المرتهن، وكان للبائع أن يرجع في الباقي منها؛ لأنه لا حق لأحد فيما بقي منها، وإن لم يمكن بيع بعض الرهن بحق المرتهن إلا ببيع جميع الرهن، فبيع جميع الرهن وقضي حق المرتهن من ثمن الرهن، وبقي من الثمن بعضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن البائع لا يكون(6/166)
أحق بالباقي من الثمن، بل يصرف ذلك إلى جميع الغرماء؛ لأن حقه يختص بالعين دون ثمنها.
[مسألة: إفلاس مشتري الشفعة]
وإذا اشترى رجل من رجل شقصا من دار أو أرض، فثبتت فيه الشفعة، فأفلس المشتري، وحجر عليه قبل أن يأخذ الشفيع.. فهل البائع أحق بالشقص، أم الشفيع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الشفيع أحق، ويكون الثمن بين الغرماء؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ لأن حقه ثبت بالبيع، وحق البائع ثبت بالحجر، فقدم السابق.
والثاني: أن البائع أحق بالشقص؛ لأنه إذا رجع في الشقص.. زال الضرر عنه وعن الشفيع؛ لأنه عاد كما كان قبل البيع، ولم تتجدد شركة غيره.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا مدخول؛ لأن من باع شقصا، فثبتت له فيه الشفعة، ثم استقاله البائع، فأقاله قبل أن يأخذ الشفيع.. فإن البائع عاد للشفيع شريكا كما كان، ومع ذلك له الأخذ بالشفعة.
والوجه الثالث: أن الشفيع أولى بالشقص، ويؤخذ منه الثمن، ثم يسلم إلى البائع دون سائر الغرماء؛ لأن في ذلك جمعا بين الحقين، وإزالة الضرر عنهما.
[فرع: بيع الصيد من المحرم]
وإن باعه صيدا، فأحرم البائع، وأفلس المشتري.. لم يكن للبائع أن يرجع في الصيد، كما لا يجوز أن يبتاعه.
[مسألة: الدين المؤجل لا يحل بالحجر]
] : وإن اشترى رجل أعيانا بأثمان مؤجلة، فحجر على المشتري لديون حالة عليه، وكانت الأعيان التي اشتراها بالمؤجل باقية في يده لم يتعلق بها حق غيره، فإن قلنا:(6/167)
إن الدين المؤجل لا يحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان التي اشتراها بالأثمان المؤجلة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أنها تباع، وتفرق أثمانها على أصحاب الديون الحالة) ؛ لأنها حقوق حالة، فقدمت على الديون المؤجلة، وتبقى الديون المؤجلة في ذمته إلى الأجل، فإذا أيسر.. طالبوه بها، وإلا كانت في ذمته إلى أن يوسر.
والوجه الثاني - حكاه في " المهذب " -: أنها لا تباع، بل توقف إلى أن تحل الديون المؤجلة، فيخير بائعوها بين فسخ البيع فيها، أو الترك.
قال: وإليه أشار في " الإملاء "؛ لأن بالحجر تعلقت الديون بماله، فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل، فلم يبع في الديون الحالة.
وأما إذا قلنا: إن الديون المؤجلة تحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان المشتراة بها؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " التعليق ":
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: إن تلك الأعيان لا تباع في حق أصحاب الديون المعجلة، ولا تسلم إلى بائعها أيضا، بل توقف، فإذا قسم ماله.. فك عنه الحجر إلا في تلك الأعيان، فإن الحجر باق عليه فيها إلى أن يحل الأجل، فإن قضى أصحاب الديون المؤجلة حقوقهم، وإلا أخذوها.
والوجه الثاني: أن أصحاب الديون المعجلة يضربون بديونهم مع أصحاب الديون المؤجلة، فما يخص أصحاب الديون المؤجلة من المال يعزل لهم، ويفك الحجر عن المفلس، ويتصرف فيه، وفي الأعيان المبيعة بالأثمان المؤجلة.. يتصرف فيها أيضا إلى أن يحل الأجل، فإن قضاهم ديونهم، وإلا أعيد عليه الحجر.
والثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: إن أصحاب الديون المؤجلة يساوون أصحاب الديون المعجلة، فمن كان له عين مال.. رجع في عين ماله، وأخذها،(6/168)
ومن لم يكن له عين مال باقية.. ضارب الغرماء بحصته، فما خصه من المال.. أخذه، وتصرف فيه، كما لو مات وعليه ديون مؤجلة.
[مسألة: اشترى بدين وباع ثم أفلس]
وإن اشترى عينا بثمن في ذمته، فباعها من غيره، أو وهبها منه، وأقبضها، ثم أفلس المشتري.. لم يكن للبائع إلا الضرب مع الغرماء؛ لأنها خارجة عن ملك المشتري، فهو كما لو تلف. وإن رجعت إلى ملك المشتري بإرث، أو هبة، أو وصية، ثم أفلس.. فهل يرجع البائع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأن هذا الملك انتقل إليه من غير البائع.
والثاني: للبائع أن يرجع فيها؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فهو كما لو لم يخرج عن ملك المشتري.
فإذا قلنا بهذا الوجه، وكان المشتري قد اشتراها ممن هي في يده بثمن في ذمته، فأفلس الثمنين، وحجر عليه.. فأي البائعين أحق بالعين؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق \ 271] :
أحدها: البائع الأول أحق بها؛ لأن حقه أسبق.
والثاني: أن البائع الثاني أحق بها؛ لأنه أقرب.
والثالث: أنهما سواء؛ لأنهما متساويان في سبب الاستحقاق.
[مسألة: وجود المبيع أو بعضه عند المفلس]
] : هذا الذي ذكرناه إذا وجد البائع العين المبيعة بحالها لم تنقص ولم تزد، فأما إذا وجدها ناقصة: فلا يخلو: إما أن يكون نقصان جزء ينقسم عليه الثمن ويصح إفراده بالبيع، أو نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن ولا يصح إفراده بالبيع.(6/169)
فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن، بأن باعه عبدين بثمن، فقبضهما المشتري، فتلف أحدهما، وأفلس قبل أن يقبض البائع الثمن.. أو كان ثوبا فتلف بعضه أو نخلة مثمرة مؤبرة فتلفت الثمرة قبل أن يقبض البائع الثمن فالبائع بالخيار: بين أن يترك ما بقي من المبيع، ويضرب بجميع الثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع فيما بقي من المبيع بحصته من الثمن، ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيع من الثمن، سواء تلف بآفة سماوية، أو بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، فالحكم واحد في رجوع البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن، كما يستحق المشتري المبيع في يد البائع بالثمن، ثم المشتري إذا وجد بعض المبيع في يد البائع.. كان له أن يأخذه بحصته من الثمن، فكذلك هذا مثله. فإن كان المبيع عبدين أو ثوبين، وتلف أحدهما، وأراد تقسيط الثمن عليهما.. قوم كل واحد منهما بانفراده، وقسم الثمن المسمى على قيمتهما، فما قابل التالف.. ضرب به مع الغرماء، وما قابل الباقي.. رجع في الباقي منهما بما قابله. وإن باعه نخلة عليها ثمرة مؤبرة، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، ثم أتلف المشتري الثمرة، أو تلفت، وأفلس، واختار البائع الرجوع في النخلة.. فإنه يرجع فيها بحصتها من الثمن، ويضرب مع الغرماء بما يقابل الثمرة من الثمن.
وحكى المحاملي عن بعض أصحابنا: أنه يرجع في النخلة بجميع الثمن. وليس بشيء. فإذا أراد أن يرجع في النخلة بحصتها من الثمن.. قال صاحب " المهذب ": فكيفية ذلك: أن يقوم النخلة مع الثمرة، ثم يقوم النخلة من غير ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن.
وأما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ فقالا: تقوم النخلة منفردة. فإن قيل: قيمتها تسعون.. قومت الثمرة منفردة، فإن قيل: قيمتها عشرة.. علمنا أن قيمة الثمرة العشر، فيعلم أن الذي يقابل الثمرة عشر الثمن المسمى، فيضرب به مع الغرماء، ويأخذ النخلة بتسعة أعشار الثمن.(6/170)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتقوم يوم قبضها) .
قال أصحابنا: وليس هذا على إطلاقه، وإنما تقوم بأقل الأمرين من يوم العقد، أو يوم القبض؛ لأن القيمة إن كانت يوم العقد أقل.. قومت وقت العقد؛ لأن الزيادة حدثت في ملك المفلس، فلا يكون للبائع فيها حق. وإن كانت القيمة يوم القبض أقل.. قومت يوم القبض؛ لأن ما نقص في يد البائع كان مضمونا عليه، فلا يرجع البائع على المفلس بما نقص في يده.
وإن اشتري منه نخلة عليها طلع غير مؤبر.. فإن الطلع يدخل في البيع، فإن أتلف المشتري الثمرة أو تلفت في يده، وأفلس، فأختار البائع الرجوع في النخلة.. فهل يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن، أو يرجع في النخلة بجميع الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن؛ لأنها ثمرة يجوز إفرادها بالعقد، فرجع بحصتها من الثمن، كما لو كانت مؤبرة.
فعلى هذا: كيفية التقسيط على ما مضى في المؤبرة.
والثاني: لا يضرب بحصة الثمرة، مع الغرماء، بل يأخذ النخلة بجميع الثمن، أو يضرب به مع الغرماء؛ لأن الطلع غير المؤبر يجري مجرى جزء من أجزاء النخلة، بدليل: أنها تدخل في العقد بالإطلاق، فصارت كالسعف. ولو أفلس، وقد تلف شيء من السعف.. لم يضرب بحصتها من الثمن، فكذلك هذا مثله.
وأصل هذا: هل للطلع قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز؟ فيه وجهان. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
وإن كان النقصان مما لا ينقسم عليه الثمن، بأن كان المبيع عبدا صحيحا، فصار أعور العين أو مقطوع اليد، أو ثوبا صحيحا، فوجده البائع مخروقا، أو دارا ذهب تأليفها في يد المشتري فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن ... فلا كلام، وإن اختار أن يرجع بعين ماله..نظرت:(6/171)
فإن لم يجب في مقابلة ما ذهب أرش، بأن ذهب ذلك بآفة سماوية، أو بفعل المشتري.. فإن البائع يرجع في المبيع ناقصا بجميع الثمن، كما قلنا فيمن أشترى عبدا، فذهبت عينه أو يده بآفة سماوية في يد البائع، فإن المشتري إذا اختار إجازة البيع.. أخذه بجميع الثمن.
وإن وجب للنقصان أرش، بأن ذهب ذلك بفعل أجنبي.. فإن البائع يرجع في العين بحصتها من الثمن، فيضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من العين المبيعة من الثمن ويرجع المشتري على الأجنبي بالأرش، وإنما كان كذلك؛ لأن الأرش الذي يأخذه المشتري من الأجنبي بدل عن الجزء الفائت من المبيع، ولو كان ذلك الجزء موجودا.. لرجع به البائع، فإذا كان معدوما.. رجع بما قابله من الثمن.
فإن قيل: هلا قلتم: إن البائع يأخذ ذلك الأرش؟ قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن البائع لا يستحق الأرش، وإنما يستحق ما قابل ذلك الجزء من الثمن، كما أن الأجنبي لو أتلف جميع المبيع.. لم يرجع البائع بما وجب على الجاني من القيمة، وإنما يرجع بالثمن. وبيان ما يرجع به، أن يقال: كم قيمة هذه العين قبل الجناية عليها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمتها بعد الجناية عليها؟ فإن قيل: تسعون.. علمنا أن النقص عشر القيمة، فيضرب البائع مع الغرماء بعشر الثمن. فأما المفلس: فيرجع على الجاني بالأرش، فإن كان المبيع من غير الرقيق.. رجع بما نقص من قيمته بالجناية، وإن كان من الرقيق.. نظر إلى ما أتلفه منه، فإن كان مضمونا من الحر بالدية.. كان مضمونا من العبد بالقيمة، وإن كان مضمونا من الحر بالحكومة.. كان مضمونا من العبد بما نقص من القيمة، ويكون ذلك للغرماء، سواء كان أكثر مما رجع به البائع أو أقل منه.
[فرع: وجد البائع المفلس قد أجر المباع]
) وإن وجد البائع المبيع وقد أجره المشتري، ولم تنقض مدة الإجارة، واختار البائع الرجوع في العين.. كان له ذلك، واستوفى المستأجر مدة إجارته، ولا يأخذ البائع الأجرة ولا شيئا منها؛ لأن المبتاع ملك ذلك بالعقد، فصار ذلك كالعيب، وهكذا:(6/172)
إذا كان المبيع عبدا أو جارية، فزوجها المبتاع، واختار الرجوع في عين ماله.. كان له ذلك، والنكاح بحاله، ولا شيء له من مهر الأمة. وإن دبره المبتاع، أو أوصى بعتقه، أو علق عتقه بصفة.. كان للبائع الرجوع، وانفسخت هذه التصرفات. وإن كاتبه المبتاع.. لم يكن للبائع الرجوع فيه؛ لأنه عقد لازم من جهة المشتري، فإن عجز العبد نفسه.. كان للبائع أن يرجع فيه، كما إذا رهن المبتاع العين المبيعة، ثم زال حق المرتهن عنها.
[مسألة: وجد البائع عين ماله ناميا]
) وإن وجد البائع عين ماله زائدة.. نظرت: فإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن والكبر وما أشبههما، فاختار البائع الرجوع في العين.. رجع فيها مع زيادتها؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل في الرجوع بها، كالرد بالعيب.
[فرع: بيع النخل مؤبرة وغير مؤبرة]
) : فإن باعه نخلا عليها طلع مؤبر، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، فأدركت الثمرة في يد المشتري وجدها وجففها، ثم أفلس، والجميع في ملكه، لم يتعلق به حق غيره.. فإن للبائع أن يرجع في النخل والثمرة وإن كان مجففا؛ لأن هذه الزيادة غير متميزة، فهي كسمن الجارية.
وإن باعة نخلا عليها طلع غير مؤبر، فأبرها المشتري، ثم أفلس.. فهل للبائع الرجوع فيها؟ قال المسعودي (في (الإبانة) ق \ 272) : فعلى قولين، بناء على أن الثمرة هل تعلم قبل التأبير؟ وفيه قولان.
قلت: ويشبه أن تكون على طريقة أصحابنا البغداديين على وجهين، بناء على أن الثمرة قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز، وقد مضى ذكرهما.
وإن باعه أرضا، وفيها بذر مودع فيها، واشترط دخول البذر في البيع.. فهل(6/173)
يصح بيع البذر؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان. وغيره من أصحابنا قال: هما وجهان، وقد مضى ذلك في البيوع.
فإذا قلنا: يصح البيع في البذر، فأفلس المشتري، فإن كان قبل أن يخرج البذر عن الأرض.. رجع البائع في الأرض وفي البذر، ولا كلام، وإن أفلس بعد أن صار البذر زرعا.. فإنه يرجع في الأرض، وهل يرجع في الزرع، أو يضرب بحصة البذر من الثمن مع الغرماء؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع في الأرض وحدها، ويضرب مع الغرماء بثمن البذر؛ لأن البائع إنما يرجع بعين ماله إذا كانت باقية بحالها، وهذا الزرع خلقه الله تعالى، ولم يكن موجودا حال البيع.
والثاني: يرجع في الزرع مع الأرض، وهو المنصوص؛ لأن هذا الزرع عين البذر، وإنما حوله الله تعالى من حالة إلى حالة، فرجع به، كالودي إذا صار نخلا.
وإن اشترى منه أرضا فيها زرع أخضر، واشترط دخول الزرع في البيع.. صح البيع، قولا واحدا، فإن أفلس المشتري بعد ما استحصد الزرع، واشتد حبه، أو كان قد حصده وذراه ونقاه.. فهل للبائع أن يرجع في الأرض مع هذا الزرع؟
قال عامة أصحابنا: فيه وجهان، كالتي قبلها.
وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا بالمنصوص في التي قبلها.. فللبائع أن يرجع هاهنا فيهما، وإن قلنا بالوجه الثاني لبعض أصحابنا فيها.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لما مضى.(6/174)
والثاني: يرجع؛ لأنه عين ماله، وإنما تغيرت صفتها، فزادت.
قال: وهكذا لو تغير الزرع من خضرة إلى صفرة.
وإن باعة أرضا فيها نوى مدفونة، واشترط دخول النوى في البيع.. ففيه وجهان، المذهب: أنه يدخل. فإن أفلس المشتري، وقد صار النوى نخلا.. فهل يرجع البائع فيها مع النخل؟ فيه وجهان، كالبذر إذا صار زرعا.
وإن اشترى منه بيضا، فحضنه تحت دجاجة حتى صار فرخا، ثم أفلس المشتري.. فهل يرجع البائع في الفراخ؟ فيه وجهان، كالبذر إذ صار زرعا، وتعليلهما ما ذكرناه.
[فرع: الزيادة المتميزة في يد المفلس]
) : وإن كانت الزيادة متميزة، كاللبن، وولد البهيمة. رجع البائع في العين المبيعة دون الزيادة؛ لأنها زيادة متميزة، فلم تتبع الأصل في الرد، كما قلنا في الرد بالعيب. وإن كان المبيع أرضا فارغة، فزرعها المشتري، أو نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد المشتري وأبرت، ثم أفلس المشتري، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. فإنه يرجع في الأرض دون الزرع، وفي النخل دون الثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المشتري، فلم يكن للبائع فيها حق.
إذا ثبت هذا: فليس للبائع أن يطالب المشتري والغرماء بحصاد الزرع، ولا بجذاذ الثمرة قبل وقتها؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فليس بظالم، والثمرة أطلعت في ملكه، فهو كما لو باع أرضا وفيها زرع، أو نخلا وعليها طلع.. فإنه لا يجبر على قطع ذلك قبل أوانه، ولا تجب للبائع أجرة الأرض ولا النخل إلى أوان الحصاد والجذاذ، كما لا يجب ذلك للمشتري على البائع إذا اشترى أرضا وفيها زرع، أو نخلا عليها طلع، ثم ينظر في المفلس والغرماء: فإن اتفقوا على قطع الثمرة والزرع قبل أوان(6/175)
قطعهما.. جاز؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه إلى وقت الحصاد والجذاذ.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى القطع قبل أوانه، ودعا بعضهم إلى تركه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وبه قال عامة أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجاب قول من دعا إلى القطع؛ لأن الغرماء إن كانوا هم الطالبين للقطع.. أجيبوا؛ لأنهم يقولون: حقوقنا معجلة، فلا يجب علينا التأخير. وإن كان المفلس هو الطالب للقطع.. أجيب؛ لأنه يستفيد بذلك إبراء ذمته، ولأن في التبقية غررا؛ لأنه قد يتلف، فأجيب من دعا إلى القطع.
والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يفعل ما فيه الحظ من القطع، أو التبقية.
قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به؛ لأنه قد يكون من الثمرة والزرع ماله قيمة تافهة، أو ما لا قيمة له، والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع للصغير المولى عليه.
[فرع: باعه نخلا لم يطلع وأفلس]
) : وإن باعه نخلا لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل التأبير.. فهل للبائع أن يرجع في الثمرة مع النخل؟ فيه قولان:
أحدهما - رواه المزني -: (أنه يرجع في الثمرة مع النخل) ؛ لأنه لو باعه نخلة؛ عليها طلع غير مؤبرة.. تبعت الثمرة النخلة في البيع، فتبعتها أيضا في الفسخ، كالسمن في الجارية.
والثاني - رواه الربيع - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يرجع في الثمرة) ؛ لأنه يصح إفرادها بالبيع، فلم يتبع النخلة في الفسخ، كالطلع المؤبر، ويفارق البيع؛ لأنه زال ملكه عن النخلة باختياره، وهاهنا زال بغير اختياره.(6/176)
قال أصحابنا: فكل موضع زال ملك المالك عن أصل النخلة، وعليها طلع غير مؤبر باختيار المالك، وكان زوال ملكه عنها بعوض.. فإن الثمرة تتبع الأصل، وذلك كالبيع، والصلح، والأجرة في الإجارة، والصداق، والخلع، وما أشبه ذلك. وكل موضع زال ملكه عن أصل النخلة بغير اختياره، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان، وذلك مثل مسألتنا هذه في المفلس، ومثل: أن يشتري نخلة لا ثمرة عليها بثمن معين، فتطلع النخلة في يد المشتري، ثم يجد البائع في الثمن عيبا، فيرده قبل التأبير، فهل يرجع البائع في الثمرة مع النخلة؟ على قولين.
وكذلك: إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل، وأطلعت النخل في يد المشتري، ثم علم الشفيع قبل التأبير، فشفع.. فهل يأخذ الثمرة مع النخل؟ على هذين القولين.
وكذلك: كل موضوع زال ملكه عن الأصل إلى غيره باختياره بغير عوض، فهل يتبع الطلع الذي ليس بمؤبر الأصل؟ فيه قولان أيضا، وذلك مثل: أن يهب الرجل لغيره نخلة عليها طلع غير مؤبر.
وكذلك: إذا زال ملكه عن الأصل بغير عوض بغير اختياره أيضا، مثل: أن يهب الأب لابنه نخلة، فأطلعت في يد الابن، ورجع الأب فيها قبل التأبير، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فإن باعه نخلة لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل أن تؤبر الثمرة، فرجع البائع في عين ماله:
فإن قلنا: إن الثمرة لا تتبع النخلة في الفسخ.. كانت الثمرة للمفلس، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيتها إلى أوان جذاذها.. كان لهم ذلك، وليس لبائع النخلة أن يطالبهم بقطعها قبل ذلك، ولا بأجرة نخلته؛ لأنها حدثت في ملك مالكها، وإن اتفقوا على قطعها.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى قطعها، وبعضهم إلى تبقيتها؟ ففيه وجهان:(6/177)
(أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يجاب من دعا إلى قطعها.
و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحوط، وقد مضى دليل الوجهين.
وإن قلنا: إن الثمرة تكون لبائع النخل، فلم يرجع البائع حتى أبرت النخل.. كانت الثمرة للمفلس والغرماء، قولا واحدا؛ لأنها قد صارت بمنزلة نماء متميز، والحكم في قطعها وتبقيتها على ما مضى.
فإن قال بائع النخل: قد كنت رجعت فيها قبل التأبير، فإن صدقه المفلس والغرماء على ذلك، أو كذبوه وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالثمرة، وإن كذبه المفلس والغرماء ولا بينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرجوع، فإذا حلف المفلس.. كانت الثمرة ملكا له، وقسمت على الغرماء، وإن نكل عن اليمين.. فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: يحلفون، فحلفوا.. قسمت الثمرة بينهم، وإن نكلوا، أو قلنا: لا يحلفون.. عرضت اليمين على البائع، فإن حلف.. ثبت ملك الطلع له، وإن نكل ... قال ابن الصباغ: سقط حقه، وكانت الثمرة للمفلس، وقسمت بين الغرماء.
وإن صدق الغرماء البائع، وكذبوا المفلس.. نظرت في الغرماء:
فإن كان فيهم عدلان، فشهدا للبائع: أنه رجع قبل التأبير.. قبلت شهادتهما له، وحكم بالثمرة للبائع؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بهذه الشهادة نفعا، ولا يدفعان بها ضررا، وكذلك إن كان فيهم عدل واحد، وحلف معه البائع.. حكم له بالثمرة.
وإن كانوا فساقا، أو لم تقبل شهادتهم للبائع لسبب من الأسباب المانعة.. فالقول قول المفلس مع يمينه.
قلت: والذي يقتضيه المذهب: أنه يحلف ما يعلم أن البائع رجع فيها قبل التأبير، وكذلك الغرماء إذا حلفوا؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن حلف المفلس.. ملك الثمرة، فإن لم يختر دفع الثمرة إلى الغرماء، ولا بيعها لهم.. لم يجبر على(6/178)
ذلك، ولا لهم أن يطالبوه بذلك، لأنهم يقرون أنها ملك للبائع دون المفلس، ولكن يصرف إليهم سائر أمواله، ويفك عنه الحجر، ويتصرف في الثمرة كيف شاء، وإن اختار المفلس دفع الثمرة إلى الغرماء.. فهل يجبر الغرماء على قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنهم يجبرون، فيقال لهم: إما أن تقبلوها، أو تبرئوه من قدرها من دينكم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (المكاتب) إذا حمل إلى سيده مالا عن كتابته، فقال للسيد: هو حرام: (إنه يلزمه أن يأخذه، أو يبرئه من قدره مما له عليه) .
والثاني: لا يلزمهم ذلك، وذلك لأنهم يقرون أن المفلس لا يملك ذلك، ويفارق سيد المكاتب؛ لأنه يريد الإضرار بالعبد، ورده إلى الرق، فلم يقبل منه، ولا ضرر على المفلس في ذلك.
فإذا قلنا بالأول، وقال الغرماء: نحن لا نأخذ الثمرة، ولكنا نفك الحجر عنه، وتؤخر حقوقنا.. فهل للمفلس الامتناع؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 272] .
فإن اختار الغرماء أن يبرئوا المفلس من قدر الثمرة من الدين، فأبرؤوه من ذلك.. فلا كلام. وإن لم يختاروا أن يبرئوه، فإن كان دينهم من جنس الثمرة.. وجب عليهم أخذها، وكذلك إذا لم يكن دينهم من جنس الثمرة، واختاروا أخذ الثمرة عن دينهم، فإن كان دينهم من غير السلم.. جاز، وبرئت ذمة المفلس من ذلك، فإذا أخذوا ذلك.. لم يملكوه، ولكن يلزمهم رد ذلك إلى البائع؛ لأنهم قد أقروا أنها ملكه، وإنما لم يقبل إقرارهم لحق المفلس، فإذا زال حقه.. لزمهم حكم إقرارهم الأول، كما لو شهد رجلان على رجل: أنه أعتق عبده، فلم تقبل شهادتهما عليه، ثم انتقل العبد إليهما، أو إلى أحدهما بإرث أو بيع.. فإنه يعتق عليهما بالإقرار السابق. وإن كانت حقوقهم من غير جنس الثمرة.. فإنه لا يلزمهم قبول الثمرة بعينها، ولكن تباع الثمرة، ويدفع إليهم الثمن.
قال ابن الصباغ: ولا حق للبائع في الثمن.(6/179)
وإن صدق بعض الغرماء البائع، وكذبه بعضهم مع المفلس، فإن كان فيمن صدق البائع عدلان، فشهدا له، أو عدل، وحلف مع شهادته له.. حكم للبائع بالثمرة، ولا كلام، وإن لم يكن فيهم من تقبل شهادته له.. فإن القول قول المفلس مع يمينه؛ لما ذكرناه، فإذا حلف.. ملك الثمرة، فإن أراد قسمة الثمرة على من صدقة دون من كذبه.. جاز، وإن اختار قسمتها على الجميع.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يدفعها إلى الذين صدقوه، دون الذين كذبوه) . واختلف أصحابنا فيها على وجهين:
فـ (الوجه الأول) : قال أبو إسحاق: هي كالأولى، وإن للمفلس أن يفرق ذلك على الجميع، أو يبرئه من كذبه على ما يخصه من الثمرة من الدين؛ لما ذكرناه في التي قبلها، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فمعناه: إذا رضي المفلس أن يفرقه فيمن صدقة، دون من كذبه.
و (الوجه الثاني) : منهم من قال: لا يجبر من كذبه على قبض شيء من الثمرة، ولا الإبراء عن شيء من دينه، وجها واحدا، بخلاف الأولى؛ لأن مع تكذيب جماعتهم له به حاجة إلى قضاء دينه، فأجبروا على أخذه، وفي مسألتنا يمكنه دفعه إلى المصدقين له دون المكذبين له.
فإذا قلنا بالأول: لزم المصدقين للبائع أن يدفعوا ما خصهم من الثمرة إليه، ولا يلزم المكذبين له، والذي يقتضي المذهب: أن البائع لو سأل من كذبه من الغرماء أن يحلف له: أنه ما يعلم أنه رجع قبل التأبير.. لزم المكذب أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين، فأقر.. لزمه إقراره، هذا إذا كان المفلس مكذبا للبائع،.. فأما إذا كان المفلس مصدقا للبائع أنه رجع قبل التأبير.. وقال الغرماء: بل رجع بعد التأبير.. فهل يقبل إقرار المفلس؟ فيه قولان، كالقولين فيه إذا قال: هذه العين غصبتها من فلان، أو ابتعتها منه بثمن في ذمتي.. فهل يقبل في العين؟ قولان.
فإذا قلنا: يقبل.. كانت الثمرة للبائع، ولا كلام.
وإذا قلنا: لا يقبل فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يحلف الغرماء للبائع: أنه ما رجع قبل التأبير) .(6/180)
فمن أصحابنا من قال: فيها قولان، كما إذا ادعى المفلس مالا، وأقام شاهدا، ولم يحلف معه.. فهل يحلف غرماؤه؟ فيه قولان، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا.. فهو أحدهما. و [الثاني] : منهم من قال: يحلفون هاهنا، قولا واحدا، وهناك على قولين؛ لأن هناك توجهت اليمين على غيرهم، ثم نقلت إليهم، وهاهنا توجهت عليهم ابتداء.
[مسألة: باع جارية حائلا فحبلت فردها]
وإن باع من رجل جارية حائلا، فحبلت في يد المشتري من زوج أو زنا، فأفلس المشتري بعد أن وضعت الجارية.. فللبائع أن يرجع في الجارية؛ لأنها عين ماله، ولا حق له في الولد؛ لأنه نماء متميز، ولكن لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها إذا كان صغيرا، فإن قال بائع الجارية: أنا أدفع قيمة الولد وأتملكه مع الأم. كان له ذلك، وإن قال: لا أدفع قيمة الولد.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن عليهما، فما قابل الجارية من الثمن.. كان لبائعها، وما قابل الولد من الثمن.. كان لسائر الغرماء.
قال الشيخ أبو حامد: وكيفية التقسيط: أن تقوم الجارية ذات ولد، ثم يقوم الولد، ويضم قيمة أحدهما إلى الآخر، ويقسم الثمن عليهما، فإن قيل مثلا: قيمة الجارية تسعون، وقيمة الولد عشرة.. كان لبائع الجارية تسعة أعشار الثمن، وللغرماء عشر الثمن، وإنما قومت الجارية ذات ولد؛ لأنها ناقصة لأجل الولد، وقد استحق الرجوع فيها في حال نقصها. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: يقال للبائع: إما أن تدفع قيمة الولد.. فتتملكه مع الأم، وإلا فلا رجوع لك في الأم، بل تضرب مع الغرماء في الثمن.. وليس بشيء؛ لأنه قد وجد عين ماله خاليا عن حق غيره.
وإن أفلس المشتري قبل أن تضع الجارية:
فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان لبائع الجارية أن يرجع فيها وفي حملها؛ لأنه زيادة متصلة.
وإن قلنا: للحمل حكم.. قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: له أن يرجع(6/181)
في الجارية دون الحمل، فإذا وضعت الجارية.. فالحكم في البيع والتقسيط على ما مضى. وقال ابن الصباغ: ليس له أن يرجع في الأم؛ لأن الحمل كالزيادة المنفصلة، ولا يمكن الرجوع في الأم دون الحمل.
وأما إذا باعها حاملا، فأفلس المشتري وهي حامل.. فللبائع أن يرجع فيها وفي حملها.
وإن أفلس بعد الوضع، فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية وفي الولد. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد، ولا يفرق بينهما، فإن دفع قيمة الولد ليتملكه.. جاز، وإن لم يدفع قيمته.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، والتقسيط على ما مضى.
والحكم في الحيوان الحائل والحامل حكم الجارية إلا في شيء واحد، وهو أن البهيمة يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.
[فرع: باع حاملا فأسقطت وأفلس المشتري]
وإن باع من رجل جارية حاملا، فقبضها المشتري، وأسقطت جنينا في يده، ثم أفلس.. فللبائع أن يرجع في الجارية.
فإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الجارية، ولا شيء له لأجل السقط.
وإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية، وضرب مع الغرماء بما يقابل السقط من الثمن، كما لو باع شيئين بثمن، ثم تلف أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس، فللبائع الرجوع في الموجود، والضرب مع الغرماء بثمن المفقود.
[مسألة: التصرف بالمشتري كاستعماله]
إذا اشترى منه حنطة فطحنها، أو ثوبا خاما فقصره، أو خاطه بخيوط من الثوب، أو غزلا فنسجه، فأفلس المشتري.. فللبائع أن يرجع في الدقيق، والثوب المقصور، والمخيط، والغزل المنسوج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن(6/182)
حق غيره، فإن لم تزد قيمة الحنطة والثوب بذلك.. فلا شيء للمفلس؛ لأن العمل قد استهلك، فإن كان المفلس قد عمل ذلك بنفسه.. سقط عمله، وإن استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع الأجرة.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع الثوب بشيء، وإنما يضرب مع باقي الغرماء فيما عدا الثوب من مال المفلس؛ لأن عمله لم يظهر له قيمة، وهكذا الحكم إذا نقصت قيمة الحنطة والثوب بذلك، واختار البائع الرجوع فيه.. فلا شيء له لأجل النقصان؛ لأن المفلس نقص ماله بيده، فإذا اختار البائع الرجوع.. لم يكن له شيء لأجل النقصان، كما لو وجد العبد مريضا.. فلا شيء للمفلس، ولا يشارك الأجير بائع الثوب بشيء؛ لأن عمله قد استهلك، ولكن يضرب مع الغرماء بأجرته.
فأما إذا زادت قيمة الحنطة والثوب بذلك: ففيه قولان:
أحدهما: يرجع البائع بالثوب والدقيق، ولا يشاركه المفلس بشيء، وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المشتري لم يضف إلى المبيع عينا، وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة، وأزال بالقصارة وسخ الثوب، فلم يشارك البائع بذلك، كما لو اشترى حيوانا مهزولا، فسمن في يده.
والثاني: أن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فيشارك المفلس البائع بقدر الزيادة، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وبه أقول؛ لأنها زيادة من فعل المشتري حصلت في المبيع، فكان له أن يشاركه، كما لو صبغ الثوب) ، ولأن الطحن والقصارة أجريت مجرى الأعيان، بدليل: أن للطحان والقصار والخياط والنساج أن يمسك هذه الأعيان المعمول فيها، إلى أن يستوفي الأجرة، فأجريت مجرى الأعيان فيما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول الأول، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. رجع فيها بزيادتها، فإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يستوف الأجير أجرته.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع العين بشيء، بل يضرب مع الغرماء بقدر أجرته.
وإن قلنا بما اختاره الشافعي، وأن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فإن كان المفلس تولى العمل بنفسه، أو استعان من عمل ذلك بغير أجرة، أو استأجر من عمل(6/183)
ذلك بأجرة، وقد وفى الأجير أجرته.. فإنه يشارك البائع بقدر ما زادت العين بالعمل، مثل: أن كان الثوب يساوي قبل القصارة عشرة، فصار مقصورا يساوي خمسة عشر، فللمفلس في الثوب خمسة.
قال ابن الصباغ: فإن اختار بائع الثوب أن يدفع الخمسة.. أجبر المفلس والغرماء على قبولها، كما إذا غرس المشتري في الأرض المبيعة، أو بنى.. فلبائع الأرض أن يدفع قيمة الغراس أو البناء، ويتملكه مع الأرض، وإن لم يختر بائع الثوب أن يدفع ذلك.. بيع الثوب وكان ثلثا الثمن للبائع، والثلث للمفلس، وإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع إليه شيئا من الأجرة.. تعلق حق الأجير بالزيادة؛ لأنا قد جعلناها كالعين، فإن كانت الزيادة قدر أجرته، بأن كان قد استأجره بخمسة دراهم.. اختص الأجير بالزيادة، ويشارك البائع بها، وإن كانت الزيادة أكثر من أجرته، بأن كانت أجرته خمسة، والزيادة عشرة.. كانت الزيادة على قدر الأجرة للمفلس، تصرف إلى باقي الغرماء، وإن كانت الزيادة أقل من الأجرة، بأن كانت قيمة الثوب قبل القصارة عشرة، فصارت قيمته مقصورا اثني عشر، وأجرة القصار خمسة.. فإن الأجير يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم.
[فرع: باعه غلاما فتعلم علما أو صنعة]
وإن اشترى غلاما، فعلمه صنعة مباحة، أو علمه القرآن، ثم أفلس المشتري، وقد زادت قيمة العبد بذلك.. فاختلف أصحابنا في ذلك:
فقال صاحب " التلخيص ": هي على قولين، كالقصارة؛ لأنه يجوز الاستئجار على ذلك، فهو كالقصارة، والنساجة.
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ليس كالقصارة، ولا يشارك المفلس البائع للزيادة قولا واحدا؛ لأنه لا يحصل بفعله، وإنما إليه التلقين، وليس إليه الحفظ، وإنما هو إلى الله تعالى؛ لأنه قد يلقنه، فلا يتلقن، فهو كالسمن في(6/184)
البهيمة؛ لأنه قد يعلفها لتسمن، فلا تسمن، بخلاف القصارة والنساجة والطحن؛ لأنها حدثت بفعل مضاف إلى المبتاع؛ لأنه لا يوجد منه هذه الأفعال، إلا وتحدث هذه الآثار، ولا تنفك منها.
[مسألة: باع ثوبا فصبغه المشتري]
وإن اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم في ذمته، ومن آخر صبغا بخمسة دراهم في ذمته، وصبغ به الثوب، وأفلس المشتري قبل أن يدفع الثمنين، واختار البائعان الرجوع في عين مالهما، فإن لم تزد قيمتهما، ولم تنقص، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. صارا شريكين على قدر مالهما.
قال أبو علي السنجي: واختلف أصحابنا في تنزيله:
فمنهم من قال: يكون ثلثا الثوب وثلثا الصبغ لبائع الثوب، وثلثهما لبائع الصبغ؛ لأن مال كل واحد منهما لا يتميز عن مال صاحبه، فيصيران شريكين، كما لو اشترى زيتا، فخلطه بمثله، فلو تلف نصف الثوب.. كان النصف الباقي بينهما.
منهم من قال: جميع الثوب لبائعه، وجميع الصبغ لبائعه، كما لو اشترى أرضا من رجل، وغرسا من آخر، وغرسه فيها، وكره بائع الغرس القلع.
فإن نقصت قيمتها، فصارت قيمة الثوب مصبوغا اثني عشر.. فإن النقص يضاف إلى جنبه الصبغ؛ لأن أجزاءه تتفرق وتنقص، والثوب بحاله، ولأن الصبغ هو الوارد على الثوب، فالظاهر أنه نقص بالورود.
فعلي هذا: لصاحب الثوب أن يرجع في ثوبه، فإذا بيع.. دفع إليه من ثمنه عشرة، وأما صاحب الصبغ - إذا اختار الرجوع إليه - ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ -: أنه يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم؛ لأنه نقص بفعل المفلس
والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وصاحب " الفروع "، والصيدلاني -: إنه(6/185)
يقال له: قد وجدت عين مالك ناقصة، فأنت بالخيار: بين أن ترجع فيها ناقصة القيمة، ولا شيء لك.. فيكون له سدس قيمة الثوب لا غير، وبين أن تضرب مع الغرماء بثمن صبغك، وهو خمسة، كما قلنا فيمن باع ثوبا، فلبسه المشتري، فوجده البائع ناقصا بالاستعمال.. فإنه يرجع فيه، ولا شيء له.
فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالصنعة كالآثار، ولا حكم لها.. لم يكن المفلس شريكا لبائع الثوب وبائع الصبغ بشيء، بل الزيادة لهما، لصاحب الثوب ثلثاها، ولصاحب الصبغ ثلثها.
وإن قلنا: الزيادة بالصنعة كالزيادة بالعين، وهو الصحيح.. كانت الزيادة للمفلس، فيكون المفلس شريكا لهما في الربع، فإذا بيع الثوب بعشرين.. كان لبائع الثوب عشرة، ولبائع الصبغ خمسة، وللمفلس خمسة تصرف إلى باقي الغرماء.
فإن زادت قيمة الثوب بعد ذلك فصار يساوي مصبوغا أربعين، بعد أن كان يساوي مصبوغا عشرين.. قال ابن الحداد: أضعف لكل واحد منهما ماله، فيكون لبائع الثوب عشرون، ولبائع الصبغ عشرة، وللمفلس عشرة.
وإن بلغت قيمة الثوب لما صبغ أربعين.. فإن لصاحب الثوب ربع الثمن، عشرة، ولصاحب الصبغ ثمن الثمن، خمسة، وللمفلس خمسة أثمانه، وهو خمسة وعشرون.
وإن اشترى الثوب من رجل بعشرة، واشترى منه صبغا بخمسة، وصبغ به الثوب، فأفلس المشتري، فإن لم تنقص قيمتهما بعد الصبغ ولم تزد، بأن صار الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر، واختار البائع الرجوع فيهما.. رجع فيهما ولا كلام، وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب بعد الصبغ يساوي اثني عشر، واختار الرجوع فيهما.. فهل يضرب مع الغرماء بثلثه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يضرب معهم بشيء، بل يأخذ الثوب ناقصا، إن اختاره بغير شيء.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يضرب مع الغرماء بثلثه. وهو قياس قول صاحب " المهذب " في الأولى.(6/186)
فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. رجع البائع في الثوب بزيادته، ولا شيء للمفلس، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. كان للبائع خمسة عشر، وللمفلس خمسة.
وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة، وصبغه بصبغ من عنده يساوي خمسة، فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. فإن المشتري يصير شريكا للبائع بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان في المسألة الأولى عن أبي علي السنجي.
وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي اثني عشر.. فإن النقصان ينصرف إلى الصبغ؛ لأن الظاهر أنه حصل بوروده، فيشاركه المفلس بسدس الثمن، ولبائع الثوب خمسة أسداسه.
وإن زادت قيمتهما، فصار يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. فإن الزيادة بينهما على قدر مالهما، لبائع الثوب ثلثاها، وللمفلس ثلثها، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. فإن الزيادة كلها للمفلس، فيكون لبائع الثوب نصف الثمن، وللمفلس النصف.
وإن اشترى من رجل صبغا بخمسة، وصبغ به ثوبا لنفسه يساوي عشرة.. فلبائع الصبغ أن يرجع في صبغه، فإن رجع.. نظرت:
فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن كان الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر.. فإن البائع يكون شريكا للمفلس بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان عن السنجي.
وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب يساوي اثني عشر بعد الصبغ.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يشارك البائع المفلس بدرهمين، وهو سدس ثمن الثوب، ولا شيء له غير ذلك.(6/187)
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك البائع المفلس بسدس ثمن الثوب، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم.
وإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. كانت الزيادة بينهما على قدر مالهما، للبائع ثلثها، وللمفلس ثلثاها، وإن قلنا: إنها كالعين.. كانت الزيادة جميعها للمفلس، فيكون الثمن بينهما، للبائع، وللمفلس خمسة عشر.
[مسألة: اشترى أرضا بثمن مؤجل وغرسها ثم أفلس]
إذا اشترى رجل من رجل أرضا بثمن في ذمته، فغرسها بغراس من عنده، أو بنى فيها بناء بآلة من عنده، ثم أفلس قبل دفع الثمن، وأراد البائع الرجوع في أرضه، فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس، أو البناء من الأرض.. جاز لهم ذلك؛ لأن الحق لهم، ولبائع الأرض أن يرجع فيها؛ لأنها عين ماله لم يتعلق بها حق غيره، فإذا رجع البائع فيها، ثم قلعوا البناء والغراس.. لزمهم تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها لأجل القلع؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكهم، فهو كما لو دخل فصيل إلى دار رجل، ولم يخرج إلا بنقض الباب.. فلرب الفصيل نقض الباب، وإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب، ويكون ذلك مقدما على حق سائر الغرماء.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إن البائع إذا وجد عين ماله ناقصة، فرجع فيها.. فإنه لا شيء له؟
قلنا: الفرق بينهما: أن النقص هناك حصل في ملك المشتري، فلم يضمنه إلا(6/188)
فيما يتقسط عليه الثمن، وهاهنا حدث النقص بعد رجوع البائع في أرضه، والنقص حصل لتخليص ملكهم، فضمنوه.
وإن لم يرض المفلس والغرماء بقلع الغراس والبناء.. لم يكن لبائع الأرض إجبارهم على ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم؛ لأنه غرسه في ملكه.
وإذا ثبت: أنهم لا يجبرون.. فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليتملكه مع الأرض، أو قال: أنا أقلع ذلك، وأضمن أرش ما دخل بالقلع من النقص.. أجبر المفلس والغرماء على قبول ذلك، وكان لبائع الأرض الرجوع فيها؛ لأن الضرر يزول عن الجميع بذلك.
وإن قال بائع الأرض: أرجع فيها، وأقر الغراس والبناء، وآخذ أجرة الأرض.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 272] : كان له ذلك.
وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع، وامتنع بائع الأرض من بذل قيمة الغراس والبناء وأرش ما حصل بالقلع.. فهل له أن يرجع في أرضه؟(6/189)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له أن يرجع فيها) . وقال في موضع: (يسقط حقه من الرجوع فيها) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيها قولان:
أحدهما: للبائع أن يرجع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» . ولم يفرق، ولأن أكثر ما فيه أنه وجد ملكه مشغولا بملك غيره، وذلك لا يسقط حقه من الرجوع، كما لو باع ثوبا، فصبغه المشتري بصبغ من عنده.
والثاني: ليس له الرجوع في أرضه؛ لأن الأرض قد صارت مشغولة بملك غيره، فسقط حقه من الرجوع فيها، كما لو اشترى من رجل مسامير، وسمر فيها بابا، ثم أفلس.. فإنه ليس لبائع المسامير أن يرجع فيها، ولأن رجوع البائع في عين ماله إنما جعل له لإزالة الضرر عنه، فلو جوزنا له الرجوع هاهنا.. لأزلنا عنه الضرر، وألحقناه بالمفلس والغرماء؛ لأنه لا يبقى لهم طريق إلى غراسهم وبنائهم.
ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (يرجع في أرضه، ولا يدفع قيمة الغراس والبناء) إذا كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء؛ لأن الغراس والبناء تابع للأرض.
والموضع الذي قال فيه: (لا يرجع في الأرض) إذا كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض؛ لأن الأرض تكون تابعة للغراس والبناء.
والصحيح: أنها على قولين؛ لأن بائع الأرض لو بذل قيمة الغراس والبناء.. لكان له الرجوع في أرضه، سواء كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء أو أقل.
فإذا قلنا: ليس له الرجوع في أرضه.. فلا كلام، وإن قلنا: له الرجوع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء، فرجع فيها.. نظرت:(6/190)
فإن اتفق الغرماء والمفلس والبائع على بيع الأرض والغراس والبناء.. بيعا، وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة الأرض مفردة ذات غراس وبناء؟ فإن قيل: خمسون.. قيل: وكم قيمة الغراس والبناء مفردا؟ فإن قيل: خمسون.. كان الثمن نصفين، لبائع الأرض النصف، وللغرماء وللمفلس النصف، وإنما قومت الأرض ذات بناء وغراس، لأن قيمتها أنقص، وقد استحق الرجوع فيها ناقصة.
وإن امتنع البائع من بيع الأرض.. ففيه قولان:
أحدهما: يجبر على بيعها مع الغراس والبناء، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، على ما ذكرناه من التقسيط؛ لأن الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين، فبيع الجميع، كما لو كان المبيع ثوبا، فصبغه المفلس بصبغ من عنده، فرجع بائع الثوب فيه، وامتنع من دفع قيمة الصبغ.. فإن الثوب يباع مع الصبغ، وكذلك إذا كان المبيع جارية، فولدت في يد المشتري، ورجع بائع الجارية فيها.. فإنها تباع مع الولد.
والثاني: لا يجبر البائع على بيع أرضه، وهو المشهور؛ لأنه يمكن إفراد الغراس والبناء بالبيع، فلم يجبر البائع على بيع أرضه، بخلاف الصبغ، فإنه لا يمكن إفراده بالبيع، وكذلك ولد الجارية إنما وجب بيعه؛ لأنه لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: تؤجر الأرض والغراس، ثم يكون ما قابل الأرض من الأجرة لبائعها، وما قابل الشجر من الأجرة للمفلس والغرماء.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ؛ لأن إجارة الشجر لا تجوز، ولهذا لو غصب شجرة، وأقامت في يده.. لم يجب عليه أجرتها.(6/191)
[فرع: اشترى أرضا ثم غراسا في ذمته فأفلس]
] : وإن اشترى من رجل أرضا بثمن في ذمته، ومن آخر غراسا في ذمته، فغرسه في الأرض، ثم أفلس قبل تسليم الثمنين.. فلكل واحد من البائعين الرجوع في عين ماله، فإذا رجعا.. نظرت: فإن أراد صاحب الغراس قلع غراسه.. كان له ذلك، ولم يكن لبائع الأرض، منعه منه، فإذا قلعه.. كان عليه تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس، ويضمن أرش النقص، أو بذل قيمة الغراس ليتملكه مع الأرض.. كان له ذلك؛ لأنه متصل بملكه، فكان له إسقاط حقه منه بدفع قيمته. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان.. فهل يجبر بائع الغراس على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس بعرق ظالم، ولأنه لو كان باقيا على ملك المفلس.. لم يكن لصاحب الأرض أن يطالبه بقلعه من غير ضمان، فكذلك من انتقل إليه منه.
والثاني: له ذلك؛ لأنه إنما ابتاع منه الغراس مقلوعا، فكان عليه أن يأخذه مقلوعا، ويفارق المفلس؛ لأنه غرسه في ملكه، فثبت حقه في ذلك.
[فرع: استلف حبا فزرعه، ثم ماء فسقاه فأفلس]
قال ابن الصباغ: إذا اشترى من رجل حبا، فزرعه في أرضه، ومن آخر ماء، فسقاه به، فنبت، وأفلس.. فإنهما يضربان بثمن الماء والحب مع الغرماء، ولا يرجعان بالزرع؛ لأن عين مالهما غير موجودة فيه، فهو كما لو اشترى طعاما، فأطعمه عبده حتى كبر.. فإنه لا حق له في العبد، ولأن نصيب الماء غير معلوم لأحد من الخلق.
قلت: وقد مضى في البذر وجه آخر: أنه يرجع فيه، فيحتمل أن يكون ابن الصباغ اختار أحدهما.(6/192)
[مسألة: استدان زيتا وخلطه بزيته وأفلس]
وإذا ابتاع شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه، ولم يتميز.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخلطه بمثله، مثل: أن يشتري صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم، وأفلس المشتري قبل دفع الثمن.. فللبائع أن يرجع في عين ماله؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، فإن طلب البائع قسمة الزيت.. أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم قسمته.. فإنه يقسم، ويجبر الممتنع منهم. وإن طلب البائع بيع الزيت، وقسمة ثمنه.. فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على البيع؛ لأن البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة، فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم البيع، فإن شركاءه لا يجبرون على البيع.
والثاني: يجبر المفلس على البيع؛ لأن بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشتري.
المسألة الثانية: إذا خلطه بزيت أجود من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يرجع، وهو اختيار المزني؛ لأنه ليس له فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطة بمال المفلس، وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا، فصبغه بصبغ من عنده.. فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه.
والثاني: ليس له أن يرجع في عين ماله.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أصح، وبه أقول) ؛ لأنه لا يجوز له الرجوع بمثل(6/193)
مكيلته؛ لأن ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه؛ لأن ذلك أنقص من حقه.
فإذا قلنا بهذا: ضرب مع الغرماء بالثمن.
وإذا قلنا بالأول: فكيف يرجع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ. وأما الشيخ أبو حامد: فحكاهما وجهين:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار ابن الصباغ -: أنه يباع الزيتان، ويأخذ قيمة ثلثي صاع، وهو درهمان؛ لأنا لو قلنا: له الرجوع في ثلثي صاع.. لكان ذلك ربا.
والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، قال: وهو المنصوص -: (أنه يرجع في ثلثي صاع) ؛ لأنه ليس ببيع، وإنما وضع ذلك عن مكيله زيتا.
المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي درهمين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله، قولا واحدا؛ لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم، فإن رضي البائع بأخذ صاع منه.. أجبر المفلس على ذلك؛ لأنه أنقص من حقه، وإن لم يرض البائع بذلك.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: ليس له إلا صاع منه؛ لأنه وجد عين ماله ناقصة، فإذا اختار الرجوع فيه.. لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا، فلبسه المشتري ونقص.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أن الصاعين يباعان، وتدفع إلى البائع قيمة صاعه، وهو أربعة دراهم، كما قال في المسألة قبلها؛ لأنه إن أخذ مثل كيل زيته.. كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من مكيلة زيته.. كان ربا.
والثالث - حكاه ابن المرزبان -: أن له أن يأخذ منه صاعا وثلث صاع بقيمة صاع من زيته، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة قبلها: (أنه يأخذ ثلثي صاع) . والأول أصح.(6/194)
[فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس]
] : وإن اشترى عنبا، فخلطه بعنب له، أو رطبا، فخلطه برطب له، ثم أفلس.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن إفراده إلا بالقسمة، وقسمة ذلك بيع، وبيع بعضه ببعض لا يجوز.
والثاني: يجوز؛ لأنه يمكنه إفراز حق ذلك بالوزن والكيل.
قال الشيخ أبو حامد: وعندي: أن هذين القولين مأخوذان من القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟
فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز له الرجوع.
فعلى هذا: يضرب مع الغرماء بالثمن.
وإن قلنا: إنها إفراز حق.. فله الرجوع، وكيفية الرجوع على ما مضى في المسائل الثلاث: إذا خلطه بمثله، أو بأجود منه، أو بأردأ منه.
[مسألة: إفلاس المسلِم قبل قبض المسلَم]
إذا أسلم رجل إلى غيره في شيء على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلَم فيه بدون الصفة التي أسلَمَ فيها.. لم يجز من غير رضا الغرماء؛ لأن حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضي المفلس والغرماء بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهم، ولا يخرج عنهم إلا برضاهم.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرأ عن الدين.. أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟
قلنا: الفرق بينهما على هذا القول: أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من(6/195)
التصرف في ماله لتعلق حق الغير في ماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله.. صح تصرفه، كالمرتهن إذا أذن للراهن، وليس كذلك المكاتب، فإن المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده.. لم يتكامل ملكه بذلك.
وإن كان المفلس هو المسلم إليه، فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فإن كان رأس المال باقيا.. كان للمسلم أن يفسخ عقد السلم، ويرجع في رأس ماله، كما قلنا فيمن باع عينا من رجل، فأفلس المشتري. وإن كان رأس المال تالفا.. فللمسلم أن يضرب مع الغرماء بالمسلم فيه، فإن كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه.. أخذ ما يخصه من ماله منه، وإن كان معدوما.. اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز.
وقال أبو إسحاق: المسلم بالخيار: بين أن يقيم على العقد، ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، ويضرب مع الغرماء برأس مال السلم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن أسلم في شيء، فانقطع -: (فله أن يفسخ العقد، ويرجع إلى رأس مال السلم) . والمنصوص: (أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا.. ليس له أن يفسخ البيع، ويضرب مع الغرماء بقيمة العين المبيعة) . ويفارق إذا انقطع المسلم فيه؛ لأن له غرضا في الفسخ، وهو: أنه يرجع برأس ماله في الحال، وعليه مشقة في التأخير إلى وجود المسلم فيه.
إذا ثبت هذا: فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه، وعزل له ما يخصه ليشتري له المسلم فيه، بأن أسلم في مائة ذهب ذرة، وكانت قيمة ذلك عند القسمة عشرين دينارا، فعزل له ذلك، فرخص السعر، حتى صارت المائة قبل الابتياع له تساوي عشرة.. اشترى له مائة ذهب بعشرة، وقسمت العشرة الباقية على باقي الغرماء إن بقي لهم من دينهم شيء، أو ردت على المفلس إن استوفى أصحاب الديون ديونهم. وإن غلا الطعام عند الابتياع، فصارت المائة تساوي أربعين دينارا.. اشترى له بالعشرين المعزولة خمسين ذهبا.(6/196)
قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه.
وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك؛ لأنه قد بان أن حقه ضعف ما حاص به؛ لأن حقه في المسلم فيه دون القيمة.
[مسألة: اكترى بذمته أرضا فأفلس]
وإن اكترى من رجل أرضا بأجرة في ذمته، فأفلس المتكري بالأجرة قبل دفعها، فإن كان بعد استيفاء مدة الإجارة.. ضرب المكري بالأجرة مع الغرماء. وإن كان قبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالأجرة، ويقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الإجارة، ويرجع إلى منفعة أرضه، لأن المنفعة كالعين المبيعة، فجاز له الرجوع إليها. وإن كان بعد مضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يقر العقد، ويضرب مع الغرماء بالأجرة، وبين أن يفسخ عقد الإجارة فيما بقي من المدة، ويضرب مع الغرماء بأجرة ما مضى، كما نقول فيمن باع عبدين بثمن، فتلف أحدهما في يد المشتري، وبقي الآخر.
إذا ثبت هذا: فإن اختار فسخ عقد الإجارة، وفي الأرض زرع، فإن كان قد استحصد.. فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده، وتفريغ الأرض. وإن كان الزرع لم يستحصد، فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعه.. جاز، سواء كانت له قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه، وبذلوا للمكري أجرة مثل الأرض إلى الحصاد.. لزمه قبول ذلك، ولم تكن له مطالبتهم بقلعه، لأنه ليس بعرق ظالم.
وإن امتنع المفلس والغرماء من بذل الأجرة.. كان للمكري مطالبتهم بقلعه؛ لأنا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة، فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشتري، وأفلس، ثم رجع بائع الأرض(6/197)
فيها.. فإنه يلزمه تبقية الزرع فيها إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة لا يقابلها عوض، وإنما دخل المشتري في العقد على أن تكون له بغير عوض، وفي الإجارة: المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض.
وإن اختلف المفلس والغرماء: فقال بعضهم: يقلع. وقال بعضهم: بل يبقى إلى الحصاد، فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول ما يخرج.. قدم قول من دعا إلى التبقية؛ لأن من دعا إلى القلع.. دعا إلى الإتلاف، فلم يجب إلى ذلك، وإن كان للزرع قيمة، كالقصيل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحظ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: إنه يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلهما.
فإن قيل: فما الفرق بين هذا، وبين من ابتاع أرضا وغرسها، ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله، وهو الأرض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم: يبقى، فإنه يقدم قول من قال: يبقى؟.
قلنا: الفرق بينهما على هذا الوجه: أن من دعا إلى قلع الغراس.. يريد الإضرار بغيره؛ لأن بيع الغراس في الأرض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع.. فيه منفعة من غير ضرر؛ لأن الزرع إذا بقي قد يسلم، وقد لا يسلم.
إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد، واحتاج إلى سقي ومؤنة، فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذي لم يقسم.. ففيه وجهان:(6/198)
أحدهما: لا ينفق منه؛ لأن حصول هذا الزرع مظنون، فلا يتلف عليه مال موجود.
والثاني - وهو المذهب -: أنه ينفق عليه منه؛ لأن ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة.
وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه، وأبى المفلس ذلك.. لم يجبر عليه؛ لأنه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء. فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالإنفاق عليه من غير إذن المفلس والحاكم.. لم يرجعوا بما أنفقوا عليه، لأنهم متطوعون به. وإن أنفق بعضهم بإذن المفلس والحاكم على أن يرجع على المفلس بما أنفق.. جاز ذلك، وكان له ذلك دينا في ذمة المفلس لا يشارك به الغرماء؛ لأنه وجب عليه بعد الحجر.
وإن أنفق عليه بعض الغرماء، بإذن باقي الغرماء، على أن يرجع عليهم.. رجع عليهم بما أنفق من مالهم.
[فرع: اكترى مركبا لينقل بضاعة فأفلس]
قال في " الأم " [3/183] : (ولو اكترى ظهرا ليحمل له طعاما إلى بلد من البلدان، فحمله، وأفلس المكتري قبل دفع الأجرة.. ضرب المكري مع الغرماء بالأجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد.. نظرت: فإن كان الموضع الذي بلغ إليه آمنا.. كان له فسخ الإجارة فيما بقي من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم) .
قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم.. ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر، فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم.. فهل يضمن؟ فيه وجهان.
وإن كان الموضع مخوفا.. لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذي أكراه لحمله إليه، أو إلى موضع دونه يأمن عليه فيه.
قال في " الأم ": (وإن اكترى من رجل ظهرا بعينه ليركبه إلى بلد، فأفلس المكري.. كان المكتري أحق بالظهر؛ لأنه استحق منفعته بعقد الإجارة قبل الحجر) .(6/199)
وإن اكترى منه ظهرا في ذمته، فأفلس المكري.. فإن المكتري يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها، أو بقيمة ما بقي منها إن استوفى بعضها؛ لأن حقه متعلق بذمته، فهو كما لو باعه عينا بثمن في ذمته.
فإن كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الأجرة باقية.. فللمكتري أن يفسخ الإجارة، ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة، أو إلى بعضها إن كان قد استوفى شيئا من المنفعة؛ لأن الأجرة كالعين المبيعة.
[مسألة: بعد قسم مال المفلس يحجر عليه]
إذا قسم مال المفلس بين غرمائه.. ففي حجره وجهان:
أحدهما: يزول عنه من غير حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه كان لأجل المال، وقد زال المال، فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإن زال الجنون.. زال الحجر.
والثاني: لا يزول الحجر إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بحكمه، كالحجر على السفيه.
[مسألة: مات وعليه ديون]
] : ومن مات وعليه ديون.. تعلقت ديون الغرماء بماله، وبه قال عثمان، وعلي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تتعلق بماله) .
دليلنا عليهما: ما ذكرناه في المفلس.
فإن مات وله على غيره دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فإن الدين الذي له إلى أجل لا يحل بموته، وأما الدين الذي عليه إلى أجل.. فإنه يحل عليه بموته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.(6/200)
وذهب الحسن البصري، وعمرو بن دينار إلى: أنه لا يحل ما عليه بموته.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فالذي عليه حال، والذي له إلى أجله» .
ولأنه لا وجه لبقاء تأجيله؛ لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو في ذمة الورثة، أو متعلقا بأعيان المال، فبطل أن يبقى مؤجلا في ذمة الميت؛ لأن ذمته خربة، وبطل أن يقال: يبقى في ذمة الورثة؛ لأن صاحب الدين لم يرض بذممهم.
ولأنه لو تعلق بذممهم إذا كان للميت مال.. لتعلق بذممهم وإن لم يكن للميت مال، وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله؛ لأن ذلك إضرار بصاحب الدين؛ لأن أعيان المال ربما تلفت، وإضرار بالميت؛ لأن ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» . فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا القول بحلوله.
[فرع: تصرف الوارث قبل قضاء الدين]
فإن تصرف الوارث في التركة أو بعضها قبل قضاء الدين.. فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، سواء بقي من التركة ما يفي بالدين أو لا يفي؛ لأن مال الميت تعلق به ما عليه من الدين، فلم يصح تصرف الوارث فيه، كالراهن إذا تصرف في عين الرهن قبل قضاء الدين.
والثاني: يصح تصرفه؛ لأنه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك، فلم يمنع صحة التصرف، كتصرف المريض في ماله.(6/201)
فإذا قلنا بهذا: فإن قضى الدين.. نفذ تصرفه، وإن لم يقض الدين.. لم ينفذ تصرفه؛ لأنا إنما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين، كما صححنا تصرف المريض بماله تصرفا موقوفا.
فإن باع عبدا، ثم مات البائع، ووجد المشتري بالعبد الذي اشتراه عيبا، فرده، فإن كان الثمن باقيا بعينه. استرجعه، وإن كان تالفا.. رجع المشتري بالثمن في تركة الميت، فإن كان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك، أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات، وتصرف وارثه بتركته، ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو رجل.. وجب ضمان ذلك في تركة الميت، وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟
إن قلنا في المسألة قبلها: إنه يصح تصرفه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يصح.. ففي هذه وجهان:
أحدهما: يصح تصرفه؛ لأنه تصرف في مال له، لم يتعلق به حق أحد.
والثاني: لا يصح؛ لأنا تبينا أنه تصرف والدين متعلق بالتركة.
[فرع: وجد أحد غرماء الميت ماله بعينه]
] : وإن كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفي بالدين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرجع فيها، بل يضرب مع الغرماء بدينه) .
دليلنا: ما «روى عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة، قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» وهذا نص في موضع الخلاف.
وإن كان ماله يفي بالدين.. ففيه وجهان:(6/202)
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: للبائع أن يرجع بعين ماله؛ لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يفرق.
والثاني: ليس له أن يرجع بعين ماله، وهو المذهب؛ لأن ماله يفي بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله، كما لو كان حيا، وأما الخبر: فمحمول عليه إذا مات مفلسا، مع أنه قد روى فيه أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإن خلف وفاء.. فهو أسوة الغرماء» . فيكون حجة لنا.
[مسألة: وجد غريم بعد قسم مال الميت أو المفلس]
] : إذا قسم مال الميت، أو مال المفلس بين غرمائه، ثم ظهر له غريم آخر له دين كان مستحقا دينه قبل الحجر.. رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه.
وقال مالك: (يرجع غريم الميت، ولا يرجع غريم المفلس) .
دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر غيرهم.. نقض الحكم، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
ولأنه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين.. كان لغريم المفلس مثله.
[فرع: فك الحجر عنه وادعى آخرون كسبه مالا بعد الحجر]
] : وإن فك الحجر عن المفلس، وبقي عليه دين، فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر.. سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر، ولا بينة لهم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العسرة. فإن ثبت له مال إما بالبينة أو بإقراره وطلب الغرماء الحجر عليه.. نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فإن كان يفي بالدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل.. حجر عليه، وقسم ماله بين الغرماء.(6/203)
وإن تجدد عليه دين بعد الحجر الأول، ثم ظهر له مال، فإن بان أن المال كان موجودا قبل فك الحجر الأول عنه.. قال الجويني: اختص به الغرماء الأولون دون الآخرين؛ لأن المال كان موجودا تحت الحجر الأول، وإن اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الأول.. اشترك به الغرماء الأولون والآخرون على قدر ديونهم.
وقال مالك: (يختص به الغرماء الآخرون) .
دليلنا: أن حقوقهم مستوية في الثبوت في الذمة حال الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأول
[مسألة: المكتري أحق الغرماء بالمنفعة]
وإن أكرى داره أو عبده من رجل مدة، ثم أفلس المكري قبل انقضاء المدة.. فإن المكتري أحق بالمنفعة من الغرماء؛ لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة قبل الحجر، فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله، ثم أفلس، فإن أراد المكتري فسخ الإجارة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الموضع الذي يدخل عليه الضرر ولا يصل إلى كمال حقه، وهاهنا يصل إلى كمال حقه، فلم يكن له الفسخ.
فإن انهدمت الدار، أو مات العبد قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، فإن كانت الأجرة لم تقبض.. سقط منها بقسط ما بقي من المدة، وإن كانت قد قبضت، فإن كانت باقية.. رجع منها بما يخص ما بقي من المدة، وإن كانت تالفة.. تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه:
فإن كان ذلك قبل قسمة مال المفلس.. شاركهم المكتري، وضرب معهم بأجرة ما بقي.
وإن كان ذلك بعد القسمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشاركهم؛ لأن حق المكتري كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكراة.. عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة، فلم يشارك الغرماء، كما لو استدان بعد الحجر.(6/204)
والثاني: يشاركهم، وهو الصحيح؛ لأن سبب وجوبه كان قبل الحجر، فشاركهم، كما لو انهدمت الدار، ومات العبد قبل القسمة، ويخالف إذا استدان بعد الحجر، فإن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر، فلذلك لم يشاركهم.
والله أعلم(6/205)
[باب الحجر]
الحجر - في اللغة -: المنع والحظر والتضييق.
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] [الفرقان: 22] ، أي: حراما محرما. وقَوْله تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] [الفجر: 5] ، أي: لذي عقل، وسمى العقل: حجرا؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل القبيح، وسمي حجر البيت: حجرا؛ لأنه يمنع من الطواف فيه.
وكذلك هو في الشرع، وإنما سمي: المحجور عليه؛ لأنه ممنوع من التصرف بماله، والمحجور عليهم ثمانية: خمسة حجر عليهم لحق غيرهم، وثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم:
فأما الخمسة المحجور عليهم لحق غيرهم: فالمفلس حجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن، والمكاتب لحق السيد، والمرتد لحق المسلمين.
وأما الثلاثة المحجور عليهم لحق أنفسهم: فالصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا موضع ذكرهم.
والأصل في ثبوت الحجر على الصبي: قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . و (الابتلاء) : الاختبار.
قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] [الملك: 2] ، أي:(6/206)
ليختبركم. و (اليتيم) : من مات أبوه، وهو دون البلوغ.
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» .
وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] [النساء: 6] ، أراد به: البلوغ، فعبر عنه به؛ لأنه يشتهي عند البلوغ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . أي: علمتم منهم رشدا، فوضع الإيناس موضع العلم، كما وضع الإيناس موضع الرؤية في قَوْله تَعَالَى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] ، أي: رأى.
قال الشافعي: (فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ وإيناس الرشد.. علمنا أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله، محجور عليه فيه) .
والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبي والمجنون أيضا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . والسفيه يجمع المبذر بماله، والمحجور عليه لصغر. والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني، والصغير والمجنون، فأخبر الله تعالى: أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم.
[مسألة: الولاية للأب إن كان عدلا]
إذا ملك الصبي مالا.. فإن الذي ينظر في ماله أبوه إذا كان عدلا، فإن عدم الأب، أو كان ممن لا يصلح للنظر.. كان النظر إلى الجد أب الأب إذا كان عدلا؛ لأنها ولاية في حق الصغير، فقدم الأب والجد فيها على غيرهما، كولاية النكاح، فإن مات الأب وأوصى إلى رجل بالنظر في مال الابن، وهناك جد يصلح للنظر.. ففيه وجهان:
المذهب: أنه لا تصح الوصية إليه، بل النظر إلى الجد.
والثاني - حكاه في " الإبانة " [ق \ 275] ، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن النظر(6/207)
إلى الوصي؛ لأنه قائم مقام الأب) . وليس بشيء؛ لأن الجد يستحق الولاية بالشرع، فكان أحق من الوصي.
فإن لم يكن أب ولا جد. نظر الوصي من قبلهما، فإن لم يكونا ولا وصيهما.. فهل تستحق الأم النظر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تستحق النظر في مال ولدها؛ لأنها أحد الأبوين، فاستحقت النظر في مال الولد، كالأب.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا ولاية لها، بل النظر إلى السلطان؛ لأنها ولاية بالشرع، فلم تستحقها الأم، كولاية النكاح، ولأن قرابة الأم لا تتضمن تعصيبا، فلم تتضمن ولاية، كقرابة الخال.
فإذا قلنا بقول الإصطخري.. فهل يستحق أبوها وأمها الولاية عند عدمها؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.
[مسألة: لا يحق للناظرالتصرف بمال القاصر]
مسألة: [لا يحق للناظر التصرف بمال القاصر] : ولا يجوز للناظر في مال الصبي أن يعتق منه عليه، ولا أن يكاتب، ولا أن يهب، ولا أن يحابي في البيع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] . وليس في شيء من هذه الأشياء أحسن.
[فرع: الاتجار بمال اليتيم ونحوه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلي عليه، ولا ضمان عليه) .
وجملة ذلك: أنه يجوز للناظر في مال الصبي أن يتجر في ماله، سواء كان الناظر له أبا، أو جدا، أو وصيا، أو أمينا من قبل الحاكم؛ لما روى عبد الله بن عمرو(6/208)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي يتيما، وله مال.. فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» ، ولأن ذلك أحظ للمولى عليه؛ لتكون نفقته من الربح، كما يفعل البالغون؛ هكذا قال عامة أصحابنا، إلا الصيمري، فإنه قال: لا يتجر له في هذا الزمان؛ لفساده وجور السلطان على التجار، بل يشتري له الأرض، أو ما فيه منفعة، فإن اتجر له.. لم يتجر له إلا في طريق مأمون، ولا يتجر له في البحر؛ لأنه مخوف.
فإن قيل: فقد روي: (أن عائشة أم المؤمنين أبضعت أموال بني محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في البحر) .
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في موضع مأمون قريب من الساحل، أو يحتمل أنها فعلت ذلك وجعلت ضمانه على نفسها إن هلك.
قال الصيمري: ولا يبيع له إلا بالحال، أو بالدين على ملي ثقة.
[مسألة: جواز شراء العقار للقاصر]
ويجوز أن يبتاع له العقار؛ لأنه أقل غررا من التجارة، ولأنه ينتفع بغلته مع بقاء أصله.
قال أبو علي في " الإفصاح ": ولا يشتريه إلا من ثقة أمين يؤمن جحوده في(6/209)
التالي، وحيلته في إفساد البيع، ولا يبتاعه في موضع قد أشرف على الهلاك بزيادة ماء، أو فتنة بين طائفتين؛ لأن في ذلك تغريرا بماله، ويجوز له أن يبنى له العقار إن احتاج إليه، إلا أن يكون الشراء أحظ له، فيشتري له ذلك.
وإذا احتاج إلى البناء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بنى له بالآجر والطين، ولا يبني له باللبن والجص؛ لأن اللبن يهلك، والآجر يبقى، والجص يلتزق بالآجر، فربما احتيج إلى نقض شيء من الآجر فلا يتخلص من الجص، ولأن الجص يجحف به، والطين لا يجحف به) .
قلت: وهذا في البلاد التي يعز فيها وجود الحجارة، فإن كان في بلد يوجد فيها الأحجار.. كانت أولى من الآجر؛ لأنها أكثر بقاء، وأقل مونة.
[فرع: ما يباع فيه عقار الصبي]
وإن ملك الصبي عقارا.. لم يبع عليه إلا في موضعين:
أحدهما: أن يكون به حاجة إليه، للنفقة والكسوة، وليس له غيره، ولا تفي غلته بذلك، ولا يجد من يقرضه، فيجوز بيعه.
والثاني: أن يكون له في بيعه غبطة، وهو أن تكون له شركة مع غيره، أو بجوار غيره، فيبذل له الغير بذلك أكثر من قيمته، ويؤخذ له مثل ذلك بأقل مما باع به،(6/210)
فيجوز له بيع العقار عليه لذلك، إذا كان له عقار قد أشرف على الهلاك بالغرق، أو بالخراب، أو بالفتنة.. فيجوز له بيعه عليه؛ لأن النظر له في ذلك البيع.
فإذا باع الأب أو الجد عليه عقارا، فرفع ذلك إلى الحاكم، وسأله إمضاءه، والإسجال له عليه.. أمضاه وأسجل له عليه؛ لأن الظاهر من حالهما أنهما لا يبيعان له إلا فيما له فيه حظ، وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالتهما عنده؟
قال ابن الصباغ: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: فيه وجهان:
أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفى بالعدالة الظاهرة، كما قلنا في شهود النكاح.
والثاني: يحتاج إلى ذلك لثبوت ولايتهما عنده، كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود عنده.
وأما إذا رفع الوصي، أو أمين الحاكم البيع إليه، وسأل الإسجال على بيعه وإمضاءه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يمضى ذلك حتى تقوم عنده البينة على الحظ أن الغبطة له؛ لأن غير الأب والجد تلحقه التهمة، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد.
والثاني - ذكره القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أنه يقبل قولهما من غير بينة، كالأب والجد.
قال ابن الصباغ: وهذا له عندي وجه؛ لأنه إذا جاز لهما التجارة في ماله، فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما.. جاز أيضا في العقار.
فإن بلغ الصبي وادعى أن الأب أو الجد باع عليه عقاره من غير غبطة ولا حاجة، فإن أقام بينة على ما ادعاه.. حكم له به، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول الأب أو الجد مع يمينه.(6/211)
وإن باع غير الأب أو الجد عليه، كالوصي وأمين الحاكم، فلما بلغ الصبي، ادعى أنه باع عليه من غير غبطة ولا ضرورة، فإن أقام بينة.. حكم له، وإن لم يقم بينة.. لم يقبل قول الوصي والأمين من غير بينة؛ لأن التهمة تلحقه، ولهذا لا يجوز له أن يشتري مال المولى عليه من نفسه، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد.
[فرع: يع شقص الصبي]
فرع: [بيع شقص الصبي] :
وإن بيع شقص في شركة الصبي، فإن كان للصبي حظ في الأخذ، بأن كان له مال يريد أن يشتري له به عقارا.. أخذ له بالشفعة، وإن كان الحظ له بالترك، بأن كان لا مال له يريد أن يشتري له به، أو كان ذلك في موضع قد أشرف على الهلاك، أو بيع بأكثر من قيمته.. لم يأخذه له بالشفعة. فإن أخذ له الولي في موضع يرى له الحظ في الأخذ، فبلغ الصبي، وأراد أن يرد ما أخذ له الولي.. لم يملك ذلك؛ لأن ما فعله الولي مما فيه الحظ.. لا يملك الصبي بعد بلوغه رده.
وإن ترك الولي الأخذ له في موضع رأى الحظ له في الترك، فأراد الصبي بعد بلوغه أن يأخذه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: له ذلك؛ لأنه بعد بلوغه يملك التصرف فيما له فيه حظ، وفيما لا حظ له فيه.
و [الثاني]- المنصوص -: (أنه ليس له ذلك) ؛ لأن الولي قد اختار الترك بحسن نظره، فلم يكن له نقض ذلك، كما لو أخذ له، والحظ في الأخذ.. فإنه لا يملك الصبي بعد البلوغ الرد.
فإن ادعى بعد البلوغ أن الولي أخذ، والحظ في الترك، أو ترك، والحظ في الأخذ، فإن أقام بينة على ذلك.. حكم له به، وإن لم يقم بينة، فإن كان الولي أبا أو جدا.. فالقول قولهما مع يمينهما، وإن كان غيرهما من الأولياء.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لما ذكرناه من الفرق قبل هذا.(6/212)
[مسألة: يبع مال المحجور نسيئة]
مسألة: [لا يبع مال المحجور نسيئة] :
ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة، فإن كانت له سلعة يريد بيعها، وهي تساوي مائة نقدا، ومائة وعشرين نسيئة، فإن باعها بمائة نسيئة.. لم يصح بيعها، سواء أخذ بها رهنا أو لم يأخذ؛ لأن ذلك دون ثمن المثل، وإن باعها بمائة نقدا، وبعشرين نسيئة، وأخذ بالعشرين رهنا.. جاز؛ لأنه قد زاده خيرا، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، ولم يأخذ بها رهنا.. لم يجز له؛ لأنه غرر بماله، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، وأخذ بالجميع رهنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد يتلف الرهن.
والثاني: يصح، وهو قول أبي إسحاق، وأكثر أصحابنا؛ لأنه مأمور بالتجارة، وطلب الربح، ولا يمكنه إلا بذلك.
فعلى هذا: يشترط أن يكون المشتري ثقة مليئا؛ لأنه إذا لم يكن ثقة.. ربما رهنه ما لا يملكه، وإذا لم يكن مليئا.. فربما تلف الرهن، فلا يمكن استيفاء الحق منه، ويشترط أن يكون الرهن يفي بالدين، أو أكثر منه؛ لأنه ربما أفلس، أو تلف ما في يده، فإذا لم يمكن استيفاء الحق من الرهن.. كان وجود الرهن كعدمه. وهل يشترط الإشهاد مع ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.
[فرع: لا يرهن مال الصبي]
قال الصيمري: ولا يجوز أن يشتري له متاعا بالدين، ويرهن من ماله؛ لأن الدين مضمون، والرهن أمانة، فإن فعل.. كان ضامنا.
[مسألة: يسافر بمال الصغير]
مسألة: [لا يسافر بمال الصغير] :
ولا يجوز أن يسافر بماله من غير ضرورة؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد روي: (أن المسافر ومتاعه وماله على قلة) . قلت: أي: على هلاك، فإن دعت(6/213)
إليه ضرورة، بأن خاف من نهب، أو غرق، أو حريق.. جاز أن يسافر به إلى حيث يأمن عليه؛ لأن ذلك موضع ضرورة.
[مسألة: إيداع مال الصغير عند الضرورة]
مسألة: [جواز إيداع مال الصغير عند الضرورة] . فإن خاف على ماله من نهب، أو غرق، أو حريق، ولم يقدر الولي على المسافرة به، أو أراد الولي السفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤنة مجحفة.. جاز أن يودعه، أو يقرضه في هذه الأحوال، فإن قدر على الإيداع دون الإقراض.. أودعه ثقة، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع.. أقرضه ثقة مليئا، وأشهد عليه؛ لأن غير الثقة يجحد، وغير المليء لا يمكن أخذ الحق منه، فإن رأى الحظ في أخذ الرهن.. أخذه، وإن رأى الحظ في ترك الرهن.. لم يأخذه، بأن يكون الموضع مخوفا، أو كان الولي ممن يرى سقوط الحق بتلف الرهن؛ لأنه لا حظ له في أخذ الرهن مع ذلك، وإن قدر على الإقراض والإيداع.. فالإقراض أولى؛ لأنه مضمون ببدل، والوديعة غير مضمونة، فإن أودع مع القدرة على الإقراض.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل واحد منهما يجوز، فخير بينهما.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الإقراض أحظ له، فإذا ترك الأحظ.. ضمن.
[فرع: الاقتراض لليتيم عند الحاجة]
فأما الاقتراض له.. فيجوز إذا دعت إلى ذلك حاجة للنفقة عليه، أو الكسوة، أو النفقة على عقاره المستهدم، إذا كان له مال غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها تفي بذلك، وإن لم يكن له شيء ينتظر.. فلا حظ له في الاقتراض، بل يبيع عليه شيئا من أصوله ويصرفه في نفقته.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه شيئا بنسيئة،(6/214)
وكان أحظ له من بيع أصوله.. أن يجوز له أن يشتريه له، ويرهن شيئا من ماله، وكذلك إذا اقترض له، ورهن شيئا من ماله.. جاز، ولكن لا يرهن إلا عند ثقة.
[مسألة: الإنفاق على القاصر]
] : وينفق عليه ويكسوه من غير إسراف، ولا إقتار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] [الفرقان: 67] .
وإن كان الصبي مكتسبا.. قال أبو إسحاق المروزي: أجبره الولي على الاكتساب لنفقته، وحفظ عليه ماله؛ لأن ذلك أحظ له.
[فرع: خلط نفقة الوصي والموصى له]
فإن رأى الولي أن الحظ للمولى عليه بخلط نفقته مع نفقته، بأن كان إذا خلط دقيقه بدقيقه.. كان أرفق به في المؤنة، وأكثر له في الخبز.. جاز له الخلط؛ لما روي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] .. تجنب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليتامى، وأفردوهم عنهم، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] [البقرة: 220] ، أي لضيق عليكم؛ لأن (العنت) : الضيق.(6/215)
وإن كان الحظ له في إفراده.. لم تجز الخلطة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] .
[فرع: اختلاف الوصي والموصى له عند الرشد]
فإن بلغ الصبي، واختلف هو والولي في قدر نفقته، فإن كان الولي أبا أو جدا، فإن ادعى أنه أنفق زيادة على النفقة بالمعروف.. لزمهما ضمان تلك الزيادة؛ لأنه مفرط، وإن ادعيا النفقة بالمعروف.. فالقول قولهما مع أيمانهما؛ لأنهما غير متهمين. وأما إذا كان الولي غيرهما، كالوصي، وأمين الحاكم، وادعيا النفقة بالمعروف.. فهل يقبل قولهما من غير بينة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قولهما من غير بينة، كما لا يقبل ذلك منهما في دعوى بيع العقار.
والثاني: يقبل قولهما مع أيمانهما.
قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن إقامة البينة على ذلك تتعذر، بخلاف البيع، فإنه لا يتعذر عليه إقامة البينة.
[مسألة: بيع الوصي متاعا للموصى له]
ويجوز للأب والجد أن يبيعا مالهما من الصبي، ويشتريا ماله بأنفسهما إذا رأيا الحظ له في ذلك؛ لأنهما لا يتهمان في ذلك.
قال الصيمري: فيحتاج أن يقول: قد اشتريت هذا لنفسي من ابني بكذا، وبعت ذلك عليه، فيجمع بين لفظ البيع والشراء. قال: وغلط بعض أصحابنا، فقال: تكفيه النية في ذلك من غير قول؛ لأنه لا يخاطب نفسه. وليس بشيء؛ لأنا قد أقمناه مقام المشتري في لفظ الشراء، ومقام البائع في لفظ البيع.
ولو احتاج إلى قرض، فأقرضه أبوه أو جده، وأخذ من ماله رهنا.. قال الصيمري: ففيه وجهان:(6/216)
الأصح: أنه يجوز، إلا أن يكون أقرضه متطوعا، ثم أحب أن يأخذ بعد ذلك منه رهنا، فلا يكون له.
وأما غير الأب والجد من الأولياء، كالوصي، وأمين الحاكم.. فلا يجوز أن يبيع ماله من الصبي ويتولى طرفي العقد، ولا يجوز أن يشتري ماله بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يشتر الوصي من مال اليتيم» ، ولأن غير الأب والجد يتهم في ذلك، فلم يجز.
[مسألة: أكل الولي من مال اليتيم]
وإن أراد الولي أن يأكل من مال المولى عليه، فإن كان الولي غنيا.. لم يجز له أن يأكل منه، وإن كان فقيرا ويقطعه العمل على مال المولى عليه من الكسب لنفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فله أن يأخذ من ماله أقل الأمرين من كفايته، أو أجرة عمله) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فمعني قَوْله تَعَالَى: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] ، أي: لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا، فيأخذوها، ولأنه يستحق ذلك بالعمل والحاجة. هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر في " المهذب ": أنه إذا كان فقيرا.. جاز له الأكل من غير تفصيل. ولعله أراد بإطلاقه ما ذكر غيره. وهل يضمن الولي ما أكله بالبدل؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه ضمانه في ذمته؛ لأنه استباحه للحاجة من مال غيره، فوجب عليه قضاؤه، كمن اضطر إلى طعام غيره.(6/217)
والثاني: لا يجب عليه ضمانه؛ لأن الله تعالى أباح له الأكل، ولم يوجب الضمان، ولأن ذلك استحقه بعمله في ماله، فلم يلزمه رد بدله، كالمستأجر.
[مسألة: متى يفك الحجر عن الصبي]
ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ، ويؤنس منه الرشد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع أموالهم إليهم بشرطين:
أحدهما: البلوغ، وعبر عنه ببلوغهم النكاح؛ لأنه يشتهي بالبلوغ.
والثاني: إيناس الرشد، والمراد بالإيناس: العلم بالرشد، كما قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] وأراد به: الرؤية
إذا ثبت هذا: فإن البلوغ يحصل بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي الإنزال، والسن، والإنبات، واثنتان تختص بهما النساء دون الرجال، وهما: الحيض والحمل.
فأما الإنزال: فمتى خرج منه المني، وهو الماء الأبيض الدافق الذي يخلق منه الولد في الجماع، أو في النوم، أو اليقظة.. فهو بلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فلما أمر الأطفال بالاستئذان إذا احتلموا.. دل على أنهم قد بلغوا؛ لأن قبل ذلك لم يكونوا يستأذنون.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» .
وروي «عن عطية القرظي: أنه قال: عرضنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن كان محتلما، أو نبتت عانته.. قتل» فلو لم يكن بالغا.. لما قتل.(6/218)
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] : وهل يكون الاحتلام من الصبية بلوغا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون بلوغا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعن الصبي حتى يحتلم» . فخص الصبي بالاحتلام.
والثاني - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أنه بلوغ؛ لما «روت أم سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقالت أم المؤمنين عائشة: فضحت النساء، أويكون ذلك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فيم الشبه؟ إذا رأت ذلك.. فلتغتسل» فأمرها بالاغتسال، فثبت أنها مكلفة.
وأما السن: فهو أن يستكمل الرجل أو المرأة خمس عشرة سنة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] وجها لبعض أصحابنا: أن البلوغ يحصل بالطعن في أول سنه الخمس عشرة سنة.
والأول أصح، وبه قال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يبلغ الغلام إلا لتسع عشرة سنة) . وهي رواية محمد عنه، وهو الصحيح. وفي رواية الحسن اللؤلؤي عنه: (إذا بلغ ثماني عشرة سنة، وأما الجارية: فتبلغ إذا بلغت سبع عشرة سنة) .(6/219)
وقال مالك، وداود: (ليس للسن حد في البلوغ) .
دليلنا: ما «روى ابن عمر قال: (عرضت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام بدر، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعرضت عليه عام أحد، وأنا ابن أربع عشر سنة، فردني، وعرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشر سنة، فأجازني في المقاتلة» ولا يجاز في المقاتلة إلا بالغ، فدل على ما قلناه.
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استكمل الغلام خمس عشرة سنة.. كتب ما له وما عليه، وأخذت منه الحدود» .
وأما الإنبات: فهو نبات الشعر القوي الذي يحتاج إلى الموسى، لا الزغب الأصفر حول الذكر، وحول الفرج، ولا يختلف المذهب: أنه إذا نبت ذلك للكافر..(6/220)
حكم ببلوغه، وهل هو بلوغ فيه، أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه بلوغ في نفسه؛ لأن ما حكم به بالبلوغ.. كان بلوغا في نفسه، كالاحتلام.
والثاني: أنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ؛ لأن العادة جرت أنه لا يظهر إلا في وقت البلوغ.
فإذا قلنا: إنه بلوغ في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم؛ لأن ما كان بلوغا في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم، كالاحتلام.
وإذا قلنا: إنه ليس ببلوغ في حق الكافر، وإنما هو دلالة على البلوغ.. فهل يجعل ذلك دلالة في حق المسلم؟
منهم من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه دلالة على بلوغه؛ لأن ما كان دلالة على البلوغ في حق الكافر.. كان دلالة وعلما على البلوغ في حق المسلم، كالحمل.
والثاني: أنه لا يكون دلالة على بلوغ المسلم؛ لأنه يمكن الرجوع إلى معرفة سن المسلم؛ لأنه مولود بين المسلمين، ولا يمكن ذلك في سن الكافر، فلذلك جعل الإنبات علما على بلوغه، ولأن الإنبات قد يستدعى بالدواء قبل أوانه، فالمسلم قد يتهم بأنه قد يعالج نفسه للإنبات؛ لأنه يستفيد بذلك زوال الحجر عنه، وكمال تصرفه، وقبول شهادته، والكافر لا يتهم بذلك؛ لأنه لا يستفيد بذلك إلا وجوب القتل، وضرب الجزية. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الإنبات لا يكون بلوغا، ولا دلالة على البلوغ في حق المسلم والكافر) .
دليلنا: ما «روى عطية القرظي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بني قريظة، فحكم بسبي ذراريهم، ونسائهم، وقسم أموالهم، وقتل من جرت عليه الموسى، فأمر أن يكشف عن مؤتزريهم، فمن أنبت منهم.. فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت.. فهو من الذراري، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمت(6/221)
فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ، يعني سبع سماوات، الواحدة منها: رقيع.
قال الصيمري: وكيف يعرف الإنبات؟ قيل: يدفع إليهم شمع أو طين رطب يلزقونه على الموضع. وقيل: يلمس ذلك من فوق ثوب ناعم. وقيل: يكشف حالا بعد حال، وهو الصحيح؛ لأن سعدا أمر بكشف بني قريظة.
وأما خضرة الشارب، ونزول العارضين، ونبات اللحية، وخشونة الحلق، وقوة الكلام، وانفراج مقدم الأنف، ونهود الثديين.. فليس شيء من ذلك بلوغا؛ لأنه قد يتقدم على البلوغ، وقد يتأخر عنه.
وأما الحيض: فهو بلوغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرأة تحيض إلا بخمار» . فجعلها مكلفة بوجود الحيض، فدل على أنه بلوغ.
وأما الحمل: فإنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ، فإذا حملت المرأة.. علمنا أنها قد خرج منها المني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] [الطارق: 6-7] . قيل في التفسير: يخرج ماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من صدرها، ولقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] [الإنسان: 2] ، يعني: أخلاطا، فإذا وضعت المرأة الحمل.. حكمنا بأنها قد بلغت قبل الوضع بستة(6/222)
أشهر إن كانت ذات زوج، أو سيد؛ لأن ذلك أقل مدة الحمل، وإن كانت مطلقة فأتت بولد، يلحق الزوج.. حكمنا أنها كانت بالغة قبل الطلاق.
[فرع: بلوغ الخنثى]
وأما الخنثى المشكل: فإذا استكمل خمس عشرة سنة، أو نبت له الشعر الخشن على عانته.. حكم ببلوغه؛ لأنه يستوي في ذلك الرجل والمرأة، وإن حمل زال إشكاله وبان أنه امرأة، وحكم بأنه بالغ قبل الوضع بستة أشهر، وإن خرج المني منه من أحد الفرجين.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون خرج من الفرج الزائد، وإن خرج منه الدم من فرج النساء.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون رجلا، وهذا عضو زائد، وإن خرج منه المني من الفرجين.. حكم ببلوغه؛ لأن خروج المني من فروج الرجال والنساء بلوغ.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن حاض وأمنى.. لم يبلغ) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال الصيمري: إذا حاض من فرج النساء، وأمنى من فرج الرجال.. لم يحكم ببلوغه.
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يحكم ببلوغه؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد احتلم، وإن كانت امرأة.. فقد حاضت، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد: إذا أمنى وحاض من فرج واحد.
والثاني: أنه أراد: حاض أو أمنى.
فإن قيل: هلا جعلتم خروج المني منه من أحد الفرجين دليلا على بلوغه، كما جعلتم خروج البول دليلا على ذكوريته، أو أنوثيته؟(6/223)
فالجواب: أن البول لا يخرج إلا من الفرج المعتاد، والمني قد يخرج من المعتاد وغيره.
[مسألة: الإيناس بالرشد]
وأما إيناس الرشد: فهو إصلاح الدين والمال. (فإصلاح الدين) : أن لا يرتكب من المعاصي ما ترد به شهادته. وأما (إصلاح المال) : أن لا يكون مبذرا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا بلغ الرجل مصلحا لماله.. دفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الرشد: العقل، والحلم، والوقار) . والحلم والوقار لا يكون إلا لمن كان مصلحا لماله ودينه، وكذا روي عن الحسن في تفسيرها: أنه قال: وإصلاح في ماله، إصلاح في دينه، ولأن إفساده لدينه يمنع رشده، والثقة في حفظ ماله، كما أن الفسق في الدين يمنع من قبول قوله وإن عرف منه الصدق في القول.
إذا ثبت هذا: فبلغ غير مصلح لماله ولدينه.. فإنه يستدام عليه الحجر وإن صار شيخا. وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بلغ غير مصلح لماله.. لم يدفع إليه ماله، لكن إن تصرف فيه ببيع أو عتق أو غيره.. نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة.. انفك عنه الحجر، ودفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه وماله؛ لأنه قد آن له أن يصير جَدا؛ لأنه قد يبلغ باثنتي عشرة سنة، فيتزوج، ويولد له، ويبلغ ولده باثنتي عشرة سنة، ويولد له. قال: وأنا أستحيي أن أمنع الجد ماله) .(6/224)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع المال إليهم بالبلوغ، وبإيناس الرشد، وقد بينا الرشد ما هو. وهذا لم يؤنس منه الرشد، فلم يفك عنه الحجر، ولم يدفع إليه ماله، كما لو كان ابن أربع وعشرين سنة.
وأما قوله: (إنه قد آن له أن يصير جدا) فلا اعتبار لكونه جدا، ألا ترى أن المجنون يستدام عليه الحجر ما دام مجنونا وإن كان جدا؟
إذا ثبت هذا: فإنه ينظر بماله من كان ينظر فيه قبل البلوغ؛ لأنه حجر ثبت عليه من غير حاكم، فكان إلى الناظر فيه قبل البلوغ، كالنظر في مال الصغير.
[فرع: اختبار البائع]
وأما إصلاح المال: فلا يعلم إلا بالاختبار، وفي وقت الاختبار وجهان:
أحدهما: لا يصح إلا بعد البلوغ؛ لأن الاختبار: أن يدفع إليه المال ليبيع ويشتري فيه وينفقه، وهذا لا يصح إلا بعد البلوغ، وأما قبل ذلك: فهو محجور عليه للصغر.
والثاني: يصح قبل البلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . وهذا يقتضي أن يكون الاختبار قبل بلوغ الاختبار، ولأن تأخير النكاح إلى البلوغ يؤدي إلى الحجر على رشيد؛ لأنه قد يبلغ مصلحا لماله ودينه، فلو قلنا: إن الاختبار لا يجوز إلا بعد البلوغ.. لاستديم الحجر على رشيد، ومنع من ماله؛ لأنه لا يدفع إليه، إلا بعد الاختبار.
فإذا قلنا بهذا: فكيف يختبر بالبيع والشراء؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يأمره الولي أن يساوم في السلع، ويقرر الثمن، ولا يتولى العقد؛ لأن عقد الصبي لا يصح، ولكن يعقد الولي.
و [الثاني] : منهم من قال: يشتري الولي سلعة، ويدعها بيد البائع، ويواطئه على بيعها من الصبي، فإن اشتراها منه بثمنها.. عرف رشده.(6/225)
و [الثالث] : منهم من قال: يجوز عقد الصبي؛ لأنه موضع ضرورة، وأما كيفية الاختبار:
فإن كان من أولاد التجار والسوقة الذين يخرجون إلى السوق.. فاختباره: أن يدفع إليه شيء من ماله ليبيع ويشتري في السوق، فإن كان ضابطا حازما في البيع والشراء.. علم رشده، وإن كان يغبن بما لا يتغابن الناس بمثله.. فهو غير رشيد.
وإن كان من أولاد الملوك والكبار والنبلاء والتناء الذين يصانون عن الأسواق.. قال الشيخ أبو حامد: واختبارهم أصعب من الأول، واختبار الواحد منهم: أن يدفع إليه شيء من المال، ويجعل إليه نفقة الدار مدة شهر، وما أشبهه، للخبز والماء والملح واللحم، فإن كان ضابطا حافظا يحسن إنفاق ذلك.. علم رشده، وإن كان غير ضابط.. لم يعلم رشده.
قال الصيدلاني: وولد التناء يختبر بالزراعة، هذا إذا كان المختبر غلاما، فإن كان امرأة.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا تختبر بالبيع ولا الشراء؛ لأن العادة جرت أنها لا تباشر ذلك، وإنما تختبر البنت بأن يدفع إليها شيئا من المال، ويجعل نساء ثقات يشرفن على فعلها، وتؤمر بإنفاق ذلك في الخبز والماء والملح واللحم، كما يختبر من يصان عن الأسواق من الرجال، ويضاف إلى هذا شراء القطن والغزل؛ لأن هذا من عمل النساء.
وقال الصيمري: إن كانت متبذلة تعامل التجار والصناع.. اختبرت بالبيع والشراء أيضا. قال الصيمري: ولا يعلم رشده حتى يتكرر ذلك منه التكرر الذي يؤمن أن يكون ذلك اتفاقا.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : ولا يضمن الولي المال الذي يدفعه إليه للاختبار؛ لأن ذلك موضع حاجة إليه.(6/226)
[فرع: بلغت راشدة]
إذا بلغت المرأة مصلحة لمالها ودينها.. فك عنها الحجر، ودفع إليها مالها، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وكان لها التصرف بجميع مالها بغير إذن زوجها، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك: (لا ينفك عنها الحجر حتى تتزوج، ويدخل بها، وإذا تزوجت.. لم يجز لها أن تتصرف بأكثر من ثلث مالها بغير معاوضة إلا بإذن زوجها) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في العيد، فلما فرغ من خطبته.. أتى النساء، فوعظهن، وقال: تصدقن ولو من حليكن» ، فتصدقن بحليهن. فلو كان لا ينفذ تصرفهن بغير إذن أزواجهن.. لما أمرهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة، ولا محالة أنه كان فيهن من لها زوج، ومن لا زوج لها.
ولأنها حرة بالغة رشيدة، فلم تمنع من مالها، كما لو تزوجت.
[مسألة: الرشد يفك الحجر]
وإذا بلغ مصلحا لماله ودينه.. فك عنه الحجر، وهل يفتقر فكه إلى الحاكم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه حجر لم يفتقر ثبوته إلى الحاكم، فلم يفتقر فكه إلى الحاكم، كالحجر على المجنون، وفيه احتراز من الحجر على السفيه.
والثاني: لا ينفك إلا بحكم الحاكم؛ لأنه يفتقر إلى نظر واجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كالحجر على السفيه. هذا هو المشهور.(6/227)
وقال الصيمري: إن كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد.. لم يفتقر إلى الحاكم، وإن كان الناظر فيه أمين الحاكم.. لم ينفك إلا بالحاكم، وإن كان الناظر فيه هو الحاكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر فكه إلى الحاكم، كما لو كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد.
والثاني: يفتقر إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه أمين الحاكم.
[مسألة: رشد فرفع الحجر ثم فسد]
] : إذا بلغ الصبي مصلحا لماله ودينه، ففك عنه الحجر، ودفع إليه ماله، ثم صار مفسدا لدينه وماله، أو لماله.. فإنه يعاد عليه الحجر بلا خلاف على المذهب.
أما إفساد الدين: فمعروف، وأما إفساد المال: قال الشيخ أبو حامد: فيكون بأحد أمرين:
[أحدهما] : إما بأن ينفقه في المعاصي، مثل: الزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك.
والثاني: أن ينفقه في ما لا مصلحة له فيه، ولا غرض، مثل: أن يشتري ما يساوي درهما بمائة درهم، فأما إذا أكل الطيبات، أو لبس الناعم من الثياب، أو أنفق على الفقهاء والفقراء والصوفية.. فهذا ليس فيه إفساد المال.
وأما إذا عاد مفسدا لدينه، وهو مصلح لماله.. فهل يعاد عليه الحجر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . فأثبت(6/228)
الولاية على السفيه، وهذا سفيه، ولأنه معنى لو قارن البلوغ.. لمنع من فك الحجر عنه، فإذا طرأ بعد فك الحجر عنه.. اقتضى إعادة الحجر عليه، كالتبذير.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر؛ لأن الحجر يراد لحفظ ماله، فإن كان مصلحا لماله.. لم يعد عليه الحجر، ويخالف إذا قارن إفساد الدين البلوغ؛ لأن الحجر إذا ثبت.. لم يزل عنه إلا بأمر قوي، فكذلك إذا فك عنه الحجر.. لم يعد عليه إلا بأمر قوي. هذا مذهبنا.
وأما إذا عاد مفسدا لماله ودينه: أعيد عليه الحجر، وبه قال عثمان، وعلي، والزبير، وابن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعائشة أم المؤمنين رضي الله(6/229)
عنهم، وفي التابعين: شريح، وعطاء، وفي الفقهاء: مالك، وأهل المدينة، وأهل الشام، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يعاد عليه الحجر إذا سلم إليه ماله بعد خمس وعشرين سنة، سواء وجد منه إفساد المال والدين أو أحدهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والسفيه: هو المفسد لماله ودينه، والضعيف: هو الصبي والشيخ الفاني، والذي لا يستطيع أن يمل: هو المجنون، والسفيه: اسم ذم يتناول المبذر. فأما قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] [البقرة: 142] .. فأراد: اليهود والنصارى، وقيل أراد المنافقين. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] [النساء: 5] . قيل: أراد به النساء، وقيل: أراد به المبذرين. وقوله جل وعز: {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، أي: أموالهم، كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] ، أي: أموال بعضكم) . ويدل على ما ذكرناه: ما روي: «أن حبان بن منقذ أصابه في عقدته ضعف، فأتي أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له(6/230)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تبع"، فقال: إني لا أصبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من بايعته.. فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثا»
فلو كان الحجر لا يجوز على البالغ، لأنكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم سؤالهم، وإنما لم يجبهم إلى الحجر عليه؛ لأنه يحتمل أن الذي كان يغبن به مما يتغابن الناس بمثله.
ويدل على ما ذكرناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وهو ما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر: (أنه اشترى أرضا سبخة بستين ألف درهم، وغبن فيها، فلقي عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقال له: لم لا تحجر على ابن أخيك - وفي بعض الأخبار: أن عثمان قال: ما يسرني أن تكون لي بنعلي - ففزع عبد الله بن جعفر من ذلك، ومضى إلى الزبير، فأعلمه بذلك، فقال الزبير: أنا شريكك فيها، فأتى علي عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال له: احجر على عبد الله بن جعفر، فقال: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ !) . وإنما قال هذا في الزبير؛ لأنه كان معروفا بجودة التجارة والتبصر فيها، فدل على: أن الحجر جائز عندهم.
وروي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير: لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها، فبلغها ذلك، فحلفت أن لا تكلمه، فأتاها ابن الزبير، فاعتذر إليها، فكفرت عن يمينها وكلمته) . فلم ينكر عليه أحد. ونقول:(6/231)
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالغة رشيدة، فكيف يحجر عليها؟!
ولأن كل معنى لو قارن البلوغ.. منع من تسليم المال إليه، فإذا طرأ بعد البلوغ اقتضى إعادة الحجر عليه، كالمجنون.
[فرع: لا حجر على شحيح]
وأما الشحيح على نفسه جدا مع يساره: فهل يحجر عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح: أنه لا يحجر عليه.
[فرع: يعاد الحجر على السفيه بأمر الحاكم]
وإذا صار مبذرا بعد فك الحجر عنه.. فإنه لا يعيد الحجر عليه إلا الحاكم، وبه قال أبو يوسف. وقال محمد: يصير بذلك محجورا عليه. وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين.
دليلنا: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه سأل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن يحجر على عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، فدل على: أنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحاكم.
ولأن الحجر بالتبذير مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كمدة العنة لا تثبت إلا بالحاكم؛ لموضع الاختلاف فيه.
وإذا حجر عليه.. لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فكان هو الناظر، كالحجر على المفلس، ويستحب أن يشهد الحاكم على ذلك، ويأمر مناديا: ألا إن الحاكم حجر على فلان؛ لئلا يغتر الناس بمعاملته.(6/232)
[فرع: بطلان البيع والشراء وقت الحجر]
] : وإذا باع أو اشترى بعد الحجر.. كان ذلك باطلا، فإن حصل له في يد غيره مال.. استرجعه الحاكم إن كان باقيا، أو استرجع بدله إن كان تالفا، وإن حصل في يده مال لغيره ببيع أو غيره.. استرده الحاكم منه، ورده على مالكه، وإن باعه غيره شيئا، أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده، أو أتلفه.. فإنه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره أو لم يعلم؛ لأنه إن علم بحجره.. فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم فيه.. فقد فرط حيث بايع من لا يعلم حاله. ولا يلزمه ذلك إذا فك عنه الحجر؛ لأن الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر.. لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم. وهل يلزمه ضمانه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ":
أحدهما: يلزمه ذلك، وبه قال الصيدلاني، والعثماني؛ لأن الحجر لا يبيح له مال غيره.
والثاني: لا يلزمه. قال في " الإفصاح ": وهو الأصح.
وإن غصب من غيره عينا، فتلفت في يده، أو أتلفها في يده أو في يد مالكها.. وجب عليه ضمانها؛ لأن السفيه أحسن حالا من الصبي والمجنون؛ لأنه مكلف، ثم ثبت أن الصبي والمجنون إذا أتلفا على غيرهما مالا.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.
وإن أودعه رجل عينا، فأتلفها.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأن صاحبها عرضها للإتلاف بتسليمها إليه.
والثاني: يجب عليه الضمان؛ لأن مالكها لم يرض بإتلافها؛ فأشبه إذا غصبه إياها، أو أتلفها.
وإن تلفت في يده بغير تفريط.. لم يلزمه ضمانها؛ لأن غير المحجور عليه لا يلزمه ذلك، فالمحجور عليه أولى.(6/233)
وإن أقر لغيره بعين في يده أو دين في ذمته.. لم يلزمه ذلك في الحال، ولا بعد فك الحجر؛ لأنا لو قبلنا إقراره.. لبطلت فائدة الحجر، والحجر يقتضي حفظ ماله.
[فرع: صحة طلاق ومخالعة السفيه]
وإن طلق السفيه، أو خالع.. صح طلاقه، وخلعه، إلا أن المرأة لا تسلم المال إليه، بل تسلمه إلى وليه، فإن سلمته إليه، فتلف في يده، أو أتلفه.. وجب عليها ضمانه، كما قلنا في البيع. ولو أذن ولي السفيه للمرأة بتسليم المال إلى السفيه، فسلمته إليه.. فهل تبرأ؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبرأ، كما لو سلمت المرأة المال إلى العبد بإذن سيده.
والثاني: لا تبرأ؛ لأنه ليس من أهل القبض. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى، والنخعي، وأبو يوسف: لا يصح طلاقه وخلعه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .
ولم يفرق بين السفيه وغيره، ولأنه يستفيد بالطلاق، فإنه إن كان قبل الدخول.. رجع إليه نصف المهر، وإن كان بعد الدخول.. سقطت عنه النفقة والكسوة والمصالح، ويحصل ذلك له بالخلع وما بذلت له.
[فرع: نكاح المحجور عليه]
ولا يصح نكاحه بغير إذن الولي؛ لأن النكاح يتضمن وجوب المال، فلم يصح بغير إذن الولي. وإن احتاج إلى النكاح.. فالولي بالخيار: إن شاء.. زوجه بنفسه، وتولى العقد، وإن شاء.. أذن له ليعقد بنفسه؛ لأنه عاقل مكلف، وإنما حجرنا عليه لحفظ ماله، بخلاف الصبي. وهل له أن يأذن له في النكاح مطلقا، أو يفتقر إلى تعيين المرأة، أو تقدير المهر؟ فيه وجهان:(6/234)
أحدهما: يجوز له أن يأذن له مطلقا، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن لعبده في ذلك.
والثاني: لا يجوز حتى يعين له الولي المرأة، أو القبيلة والمهر؛ لأنه ربما تزوج بامرأة شريفة يستغرق مهرها ماله، بخلاف العبد، فإنه لا يزوج الشريفة، وأيضا فإن المهر في كسبه، فلا يؤدي إلى إخراج شيء من مال السيد.
وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي، ودخل بها.. فما الذي يلزمه؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يلزمه شيء، كما لو اشترى شيئا بغير إذن وليه وأتلفه.
والثاني: يلزمه مهر المثل، كما لو جنى على غيره.
والثالث: يلزمه أقل شيء يستباح به البضع؛ لأنه لا يستباح بالإباحة.
وأما البغداديون من أصحابنا: فقالوا: هي على وجهين:
أحدهما: لا يلزمه شيء.
والثاني: يلزمه مهر المثل.
[فرع: إذن الولي للسفيه]
وإن أذن له الولي في البيع والشراء، فباع أو اشترى.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح النكاح إذا أذن له فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأن البيع والشراء يختلف حكمه ساعة، فساعة؛ لأنه قد يزيد سعر الأسواق وينقص، فافتقر إلى عقد الولي، ولأن البيع والشراء يتضمن المال لا غير، وهو محجور عليه في المال، بخلاف النكاح.(6/235)
[فرع: حلف وحج المحجور عليه]
وإن حلف.. انعقدت يمينه، فإن حنث كفر بالصوم، ولا يكفر بالمال؛ لأنه محجور عليه في المال. وإن أحرم بالحج.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل التكليف، فإن كان فرضا.. لم يمنع من إتمامه، وأنفق عليه من ماله ما يحتاج إليه، وإن كان تطوعا، فإن كانت نفقته على إتمامه لا تزيد على نفقة الحضر.. لم يجز تحليله، وإن كانت تزيد على نفقة الحضر، فإن كان له كسب، وقال: أنا أتمم النفقة بالكسب.. لم يحلل، وإن لم يكن له كسب.. حلله الولي، ويصير كالمحصر، فيتحلل بالصوم دون الهدي؛ لأنه محجور عليه في المال.
[فرع: قبول استلحاق المحجور عليه]
وإن أقر بنسب يلحقه في الظاهر.. ثبت النسب؛ لأن ذلك لا يتضمن إتلاف مال، وإن أقر بنسب من تلزمه نفقته.. لم ينفق عليه من ماله، بل ينفق عليه من بيت المال.
وإن وجب له القصاص.. فله أن يقتص؛ لأن القصد منه التشفي، وإن عفا عنه على مال.. كان له، وإن عفا عنه مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: إن الواجب القصاص لا غير.. صح عفوه. وإن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين.. لم يصح عفوه عن المال.
وإن أقر بجانية العمد.. صح إقراره؛ لأنه غير متهم في ذلك، فإن أراد المقر له العفو على المال.. قال الطبري: فإن قلنا: إن موجب العمد القود.. ثبت المال؛ لأن الذي ثبت بإقراره هو القتل أو القطع دون المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فهل يثبت المال؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد إذا أقر بالسرقة.. فإنه يقبل في القطع، وهل يقبل في المال؟ فيه قولان.
ومنهم من قال: له أخذ المال، قولا واحدا؛ لأن الواجب أحدهما لا بعينه،
وكل واحد منهما بدل عن الآخر، وتعلقهما بسبب واحد، وأما السرقة: ففيها حكمان:(6/236)
أحدهما: القطع لله تعالى. والآخر: للآدمي، فجاز ثبوت أحدهما دون الآخر، ولهذا: لو شهد رجل وامرأتان على السرقة.. ثبت المال دون القطع، ولو شهدا على القتل لم يثبت.
وإن دبر السفيه، أو أوصى.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالصبي.
ومنهم من قال: يصح، قولا واحدا.
قال الطبري: وهو الصحيح؛ لأن الصغير لا حكم لقوله، ولا يصح شيء من إقراره، بخلاف السفيه، فإنه يصح إقراره بالنسب.
[فرع: الحجر على المرتد]
المرتد إذا قلنا: إن ملكه باق على حاله.. فإنه محجور عليه فيه.. وهل يفتقر إلى حجر الحاكم؟ فيه قولان.
فإذا زالت الردة.. فإنه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل من غير حكمه.
والله أعلم(6/237)
[كتاب الصلح](6/239)
كتاب الصلح الأصل في جواز الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 128] .(6/241)
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] [النساء: 128] .
فدلت هذه الآيات على جواز الصلح.
وأما السنة: فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا» .
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جوازه.
إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام:
[أحدها] : قسم هو فرع على البيع، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، فيقر له بها، فيصالحه من ذلك على عين أو دين.. فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى، أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا، ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر، ويثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار؛ لأن ذلك بيع بلفظ الصلح.
وإن ادعى عليه دينا في ذمته، فأقر له به، ثم صالحه منه على دين في ذمته، وتفرقا قبل القبض.. لم يصح الصلح فيه، كما لا يصح في بيع الدين بالدين. وإن صالحه من دين على عين، وقبض العين قبل التفرق.. صح الصلح، إذا كان الدين مما يصح(6/242)
أخذ العوض عنه، وإن افترقا عن المجلس قبل قبض العين.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنهما افترقا، والعوض والمعوض في ضمان واحد، فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين، وتفرقا قبل القبض.
والثاني: يصح، كما يصح في بيع العين بالدين.
القسم الثاني: صلح هو فرع على الإجارة، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو خدمة عبده مدة معلومة، فيصح ذلك، ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار أو العبد، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الإجارة على ما يأتي بيانها في موضعها إن شاء الله تعالى.
القسم الثالث: صلح هو فرع على الإبراء والحطيطة، وهو: أن يدعي عليه ألفا في ذمته، فيقر له بها، فيصالحه على بعضها.
قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يقول الذي عليه الحق لمن له الحق: أدفع إليك خمسمائة، بشرط أن تسقط عني الخمسمائة الأخرى. أو يقول صاحب الحق: ادفع إلي خمسمائة، على أن أسقط عنك الخمسمائة الأخرى.. فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك.. كان باطلا، وكان لصاحب الألف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الأخرى، لأنه دفع إليه بعض حقه، وشرط شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الألف بالإقرار.
القسم الثاني: أن يقول: أدفع إليك خمسمائة، وتبرئني من خمسمائة. أو يقول الذي له الحق: ادفع إلي خمسمائة، وقد أبرأتك من الخمسمائة الأخرى.. فإن(6/243)
هذا يجوز إذا لم يدخل فيه حرف الشرط، وهو قوله: على أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني؛ لأنه كان له حق، فأخذ بعضه، وأبرأ من البعض.
وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": وإن صالحه من ألف على خمسمائة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو باع ألفا بخمسمائة.
والثاني: يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كأنه قال: أبرأتك من خمسمائة، وأعطني خمسمائة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : إذا ادعى عليه ألف درهم حالة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها، على خمسمائة مؤجلة.. صح الصلح، ولا يلزم الأجل. وإن ادعى عليه ألف درهم مؤجلة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة حالة.. لم يصح الصلح؛ لأنه جعل الخمسمائة التي تركها عوضا للحلول، وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا، فأقر له بها، ثم صالحه على خمسمائة مكسرة.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح؛ لأن الصحة صفة، فلا يصح الإبراء منها.
ولو ادعى عليه ألف درهم مكسرة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة صحاح.. لم يصح الصلح؛ لأنه أبرأ من خمسمائة، بشرط حصول الصحة في الباقي، ولا تجوز المعاوضة على الصفة.
القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو: أن يدعي عليه دارا، فيقر له بها، فقال المقر: أدفع إليك نصفها، على أن تهبني نصفها، أو قال المقر له: ادفع إلي نصفها على أن أهبك النصف الآخر.. فهذا الصلح باطل؛ لما ذكرناه في الإبراء. وإن(6/244)
قال المقر له: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الآخر.. صحت الهبة؛ لأنها هبة مجردة غير معلقة على شرط، وإن كان بلفظ الصلح، بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها.. فذكر في " المهذب ": أنها على وجهين:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه باع ماله بماله.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كما لو قال: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الثاني.
القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية، بأن يدعي عليه دارا في يده، فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر: صالحتك.. صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 278] : وللمقر له أن يرجع في عاريته. وذكر في " المهذب ": أنها على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ابتاع داره بمنفعتها.
[مسألة: الصلح عن الموروث]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صالح رجل أخاه عن موروثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشيء يجوز في البيع.. جاز) . وهذا كما قال: إذا ورث الرجلان من أبيهما، أو أخيهما مالا، فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهدا التركة، وعرفا العوض.. صح الصلح، كما لو اشتراه بلفظ الشراء.
[فرع: المصالحة على غير جنس]
وإن صالحه عن الدراهم على دنانير، أو عن الدنانير على دراهم.. فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس، كما قلنا في (الصرف) .(6/245)
[فرع: المصالحة عما أتلفه]
] : إذا أتلف عليه ثوبا، أو حيوانا قيمته دينار، فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح الصلح) .
دليلنا: أن الواجب في ذمته قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا، ثم صالحه على أكثر منه.
وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض، وجعله مؤجلا.. لم يتأجل العوض، ولم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا.. كان بيع الدين بالدين، وذلك لا يجوز.
وإن ادعى عليه مالا مجهولا، فأقر له به، وصالحه عليه بعوض.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) .
دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا يثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول، كالبيع.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإذا ادعى رجل على رجل شيئا مجملا، فأقر له به، ثم صالحه عنه على شيء.. صح الصلح) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين.. صح وإن لم يسمياه، كما إذا قال: بعت منك الشيء الذي أعرفه أنا وأنت بكذا وكذا، فقال: أبتعت.. فإنه يصح.
[مسألة: الصلح على ما كان أنكره]
] : وإن ادعى عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه على عين، أو دين في ذمته.. لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ابتاع ملكه.(6/246)
وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها، وقلنا: يصح صلح الحطيطة. فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 278] :
أحدهما: لا يصح الصلح؛ لأنه صلح على الإنكار، فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا في يده، فأنكره
والثاني: يصح، والفرق بينهما: أن في صلح المعاوضة نحتاج إلى ثبوت العوضين برضا المتعاقدين، وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعي حتى يأخذ عليها عوضا، وهاهنا هو إبراء، فلا يحتاج إلى رضا صاحبه. هذا مذهبنا. وإن الصلح على الإنكار لا يصح.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح الصلح على الإنكار) .
وقال ابن أبي ليلى: إن أنكره.. لم يصح الصلح، وإن سكت.. صح الصلح.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] . والصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل؛ لأن من ادعى على غيره دارا في يده، وأنكر ذلك المدعى عليه، ثم صالحه عنها بعوض.. فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال بن الحارث: يا بلال، اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» وهذا المدعي لا يخلو: إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا.. فهذا الصلح الذي يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا.. فإنه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح.. فالصلح يحرم عليه الباقي الذي كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد؛ لأن البيع لا يجوز مع الإنكار، وهو أن يدعي عينا في يد غيره، فينكره، فيبيعها من غيره.. فإن البيع لا يصح، فكذلك الصلح(6/247)
إذا ثبت هذا: فادعي على رجل ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم إن المدعى أبرأه منها.. صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما صحت البراءة على الإنكار؛ لأنها ليست بمعاوضة.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم صالحه على بعضها، وقبض ذلك، وأبرأه عن الحق الذي عليه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالصلح باطل، والإبراء لا يلزم) . فأما الصلح: فيبطل؛ لأنه صلح على إنكار، وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة: فلا تلزمه؛ لأنه إنما أبرأه براءة قبض واستيفاء، وهو أن يسلم له ما أخذه، فإذا لم يسلم له ذلك.. لم تلزمه البراءة، هذا إذا لم يعلم المدعي بفساد الصلح، فأما إذا علم بفساد الصلح، فأبرأ.. صحت براءته) . وهذا كما نقول في رجل: اشترى عبدا شراء فاسدا، فقال البائع للمشتري: أعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع، فأعتقه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق؛ لأن البائع لم يأمره بإعتاقه عن نفسه، وإنما أمره أن يعتقه بظن أنه قد ملكه بالشراء، وإن علم البائع بفساد البيع، فأمر المشتري بإعتاقه، فأعقته.. صح العتق.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأقر له بها، فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه على خمسمائة، فإن قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي، ثم خرجت الخمسمائة التي قبضها مستحقة.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يرجع عليه بالخمسمائة التي أخذها، والإبراء صحيح؛ لأنه لم يبرئه ليسلم له ما قبض، بل أبرأه عن حق هو مقر له به، والإبراء صادق حقه المقر به، فنفذ ذلك، ولم يتعلق بسلامة ما قبضه، وعدم سلامته.
[فرع: صالحه على عوض بدلا عن عين ثم اختلفا]
إذا ادعى عليه عينا، فصالحه منها على عوض، ثم اختلفا، فقال المدعي: إنما صالحت منها على الإنكار، فالصلح باطل، ولي الرجوع إلى أصل الخصومة، وقال(6/248)
المدعى عليه: لا، بل كنت أقررت لك بها أولا، ثم أنكرت، ثم صالحت منها.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعي؛ لأن الأصل هو الصلح على الإنكار الذي قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره بها قبل ذلك.
[فرع: صحة التوكيل في الصلح]
وإن ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر، فجاء أجنبي إلى المدعي، وقال: أنت صادق في دعواك، فصالحني عليه.. فلا يخلو: إما أن يكون المدعى دينا، أو عينا: فإن كان المدعى دينا.. نظرت:
فإن صالحه عن المدعى عليه.. صح الصلح؛ لأنه إن كان أذن له في ذلك، فهو وكيله، والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يوكله.. فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للإنسان أن يقضي عن الغير دينه بغير إذنه، فإذا أخذ المدعي المال.. ملكه، وانقطعت دعواه. وهل للأجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه:
فإن صالح عنه بإذنه، ودفع بإذنه.. رجع عليه.
وإن صالح بغير إذنه، ودفع بغير إذنه، أو صالح بإذنه، ودفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالدفع.
وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: هل يصح الصلح؟ فيه وجهان، بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه. وقال ابن الصباغ: لا يصح، وجها واحدا. وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن الوجهين في بيع الدين مع الإقرار، فأما مع الإنكار: فلا يصح، وجها واحدا، كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها.
وإن كان المدعى عينا، فإن صالح عن المدعى عليه، بأن يقول للمدعي: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلني في مصالحتك، فصالحه عنه.. صح(6/249)
الصلح؛ لأن الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه، فإذا صالحه.. ملك المدعي ما يأخذه، وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وكل الأجنبي.. ملك العين، وإن كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه بإذن المدعى عليه.. رجع عليه، وإن دفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه؛ لأنه متطوع؛ لأنه إنما أذن له في العقد دون الدفع.
وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح.. فهل يملك العين؟ فيه وجهان:
[أحدهما]- المنصوص -: (أنه لا يملكها) .
و [الثاني] : حكى أبو علي في " الإفصاح ": أنه يملكها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل، فادعاها، فإن صدقه.. لزمه قيمتها، وإن كذبه، فجاء رجل من جيران المسجد، فصالحه.. صح الصلح؛ لأنه بذل مالا على وجه البر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية، ولا وكالة.
فعلى هذا: يكون الصلح باطلا في الباطن، صحيحا في الظاهر.
وأما المسألة المذكورة في المسجد: فلا تشبه هذه؛ لأن الواجب على المدعى عليه القيمة؛ لأنه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه.
وإن قال الأجنبي للمدعي: المدعى عليه منكر ذلك، ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.. فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي ["في الإبانة " ق \ 278] : فيه وجهان.(6/250)
وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين لي، فإني قادر على انتزاعها منه.. فيصح الصلح، كما يصح أن يبتاع شيئا في يد غاصب، فإن قدر الأجنبي على انتزاعها منه.. استقر الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعها.. كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها.
إذا ثبت هذا: فإن كان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه.. فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: لا يجوز له الإنكار؛ لأنه كاذب، إلا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز له ذلك، بل يلزمه الإقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة للمصالحة عنه إذا غصب العين، أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك.
فأما إذا مات أبواه، أو من يرثه، وخلف هذه العين له، فجاء رجل، فادعاها، وأنكره، ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، وخاف إن أقر بها للمدعي أن يأخذها.. فيجوز له أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه؛ لتزول عنه الشبهة.
[فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة]
إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعي بالعوض الذي قبضه من الأجنبي عيبا.. كان له رده بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه، ولكن ينفسخ عقد الصلح، ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا، فوجد فيها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فإنه لا يطالبه ببدلها.. وإن صالحه على دراهم، أو دنانير في ذمته، ثم سلم إليه دراهم، أو دنانير، فوجد بها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فله أن يطالبه ببدلها، كما قلنا في البيع.(6/251)
[فرع: إقرار المدعى عليه ليس صلحا]
] : وإن ادعى عينا في يد رجل، فأنكرها المدعى عليه، فقال المدعي: أعطيك ألف درهم، وأقر لي بها، ففعل.. لم يكن صلحا، ولم تلزم الألف، وبذله حرام، وأخذه حرام، وهل يكون إقرارا؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".
[مسألة: احتمال الصلح المعاوضة وقطع الخصومة يكون إقرارا]
] : إذا ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، أو عينا في يده، فأنكره المدعى عليه، ثم قال: صالحني عن ذلك بعوض. لم يكن ذلك إقرارا من المدعى عليه؛ لأن الصلح قد يراد به المعاوضة، وقد يراد قطع الخصومة والدعوى، فإذا احتملهما.. لم نجعله إقرارا. وإن قال المدعى عليه للمدعي: بعني هذه العين، أو ملكني إياها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في ذلك وجهين:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون إقرارا؛ لأن الصلح والبيع بمعنى واحد، فإذا لم يكن قوله: صالحني، إقرارا.. فكذلك قوله: بعني.
والثاني: يكون إقرارا. وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن قوله: بعني وملكني، يتضمن الإقرار له بالملك.
[مسألة: جواز اتخاذ الروشن]
] : إذا أخرج جناحا أو روشنا إلى شارع نافذ.. نظرت: فإن كان لا يضر بالمسلمين.. جاز، ولا يمنع من ذلك، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.(6/252)
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إخراجه إلا أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه رجل من المسلمين.. لم يجز له إخراجه، فإن أخرجه.. قلع) .
دليلنا: ما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بميزاب للعباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقطر عليه، فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: قلعت ميزابا ركبه رسول الله بيده، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه إلا على ظهري، فصعد العباس على ظهره ونصبه» .
فإذا ثبت هذا في الميزاب.. ثبت في الروشن مثله؛ لأن الميزاب خشبة واحدة، والروشن خشب، ولا فرق بين الجميع، ولأن الناس يخرجون الرواشن من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير إنكار، فدل على أنه إجماع، ولأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار، فجاز كما لو مشى في الطريق.
إذا ثبت هذا: وأخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ.. فإنه لا يملك ذلك المكان، وإنما يكون أحق به؛ لسبقه إليه، فإن انهدم روشنه أو هدمه، فبادره من يجاذبه، فمد خشبة تمنعه من إعادة الأول.. لم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأن الأول(6/253)
كان أحق به؛ لسبقه إليه، فإذا زال روشنه.. سقط حقه، وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور في الطريق، وإن أخرج من يجاذبه روشنا تحت روشن الأول.. جاز، ولم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الأول.. قال ابن الصباغ: فإن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الأول.. جاز، وإن كان يضر بالمار فوق روشن الأول.. منع من ذلك، كما لو أخرج روشنا يضر بالمارة في الشارع، فإنه يمنع من ذلك.
[فرع: حرمة الصلح على إشراع الروشن]
] : فإن صالحه الإمام، أو أحد من المسلمين على هذا الجناح الذي لا يضر بعوض. لم يصح الصلح؛ لأن الهواء تابع للقرار، فلا يجوز أن يفرد بالعقد، ولأن ذلك حق لمن سبق إليه، فلم يجز أن يؤخذ منه عليه عوض، كما لا يجوز أن يؤخذ منه عوض على المرور في الطريق.
[فرع: لا يجوز إشراع جناح يضر بالمارة]
وإن أراد إخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ يضر بالمارة فيه.. لم يجز، فإن فعل. قلع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» ، ولأنه ليس له الانتفاع بالعرصة بما فيه ضرر على المسلمين، بأن يبني فيها دكة، فكذلك ليس له الانتفاع بالهواء بما يضر به عليهم، فإن صالحه الإمام، أو بعض الرعية على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لأنه إفراد للهواء بالعقد، ولأن في ذلك إضرارا بالمسلمين، وليس للإمام أن يفعل ما فيه ضرر عليهم.(6/254)
[فرع: تعتبر حاجة المارين]
وأما كيفية الضرر: فإن ذلك معتبر بالعادة في ذلك الشارع، فإن كان شارعا لا تمر فيه القوافل والجيوش والركبان.. فيشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا فإن كان الشارع تمر فيه الجيوش والقوافل والركبان.. اشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر فيه الراكب على الدابة، وفي الكنيسة منتصبا.
وقال أبو عبيد بن حربوية: يشترط أن يمر الفارس تحته ورمحه منصوب بيده؛ لأن الفرسان قد يزدحمون، فيحتاجون إلى نصب الرماح. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يمكنه أن يحط رمحه على كتفه، ولأن الرمح لا غاية لطوله. وإن أظلم الطريق بهذا الجناح أو الروشن.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الصباغ: يجوز ذلك؛ لأن ظلمة الطريق لا تمنع من المرور فيه، ولأنه لا يذهب الضوء جملة.
و [الثاني] : قال الصيدلاني: لا يجوز؛ لأن ذلك يضر بالمار فيه، فهو كما لو لم يمكنه المشي منتصبا.
[مسألة: لا يرتفق بهواء الجار إلا بإذنه]
وإن أراد أن يخرج جناحا أو روشنا فوق دار غيره، أو شارع جاره بغير إذنه.. لم يجز؛ لأنه لا يملك الارتفاق بقرار أرض جاره إلا بإذنه، فكذلك الارتفاق بهواء أرض جاره، فإن صالحه صاحب الدار أو الشارع على ذلك بعوض.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز إفراد الهواء بالعقد.(6/255)
[مسألة: إذن المعنيين بالروشن جائز]
] : وإن أراد أن يخرج جناحا، أو روشنا إلى درب غير نافذ، وله طريق في هذا الدرب، فإن كان يضر بالمارة.. لم يجز من غير إذن أهل الدرب، كما لا يجوز إخراج جناح يضر إلى شارع نافذ، فإن أذن أهل الدرب له بإخراج جناح يضر بهم.. جاز؛ لأن الحق لقوم معينين، فإذا أذنوا بذلك.. صح. وإن أراد أن يخرج إليه جناحا أو روشنا لا يضر بهم بغير إذنهم.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز؛ لأنه يجوز له الارتفاق في الأرض بالعبور فيها، فجاز له إخراج الجناح إليها، كما نقول في الشارع النافذ، فإن أراد أهل الدرب أن يصالحوه على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في الشارع النافذ.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز له ذلك بغير إذنهم؛ لأنه مملوك لقوم معينين، فلم يجز له إخراج الجناح إليه بغير إذنهم، كدرب الجار، فإن صالحه أهل الدرب على شيء.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في درب الجار.
[مسألة: إشراع الساباط]
] : وإن أراد أن يعمل ساباطا على جدار جاره، وصفته: أن يكون له جدار، وبحذائه جدار لجاره، وبينهما شارع، فيمد جذوعا من جداره إلى جدار جاره.. فلا يجوز له ذلك إلا بإذن جاره؛ لأنه حمل على ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة، فلم يجز، كما لو أراد أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.
وقولنا: (من غير ضرورة) احتراز من التسقيف على الحائط الرابع لجاره على ما يأتي بيانه.(6/256)
فإن صالحه على ذلك على عوض.. صح الصلح، ولا بد أن تكون الأخشاب معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، فيقول: صالحني على أن أضع هذه الأخشاب بكذا.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن قال: خذ مني مالا وأقر أن لي حقا في أن أضع على جدارك جذوعي هذه، أو يصفها، فإن أقر له بذلك، وأخذ العوض.. جاز. فإن أراد أن يبني عليها.. ذكر طول البناء وعرضه، وما يبني به؛ لأن الغرض يختلف بذلك.
فإن أطلقا ذلك ولم يقدراه بمدة.. كان ذلك بيعا لمغارز الأجذاع، وإن قدرا ذلك بمدة.. كان ذلك إجارة تنقضي بانقضاء المدة. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب.
وقال ابن الصباغ: لا يكون ذلك بيعا بحال؛ لأن البيع ما يتناول الأعيان، وهذا الصلح على وضع الخشب لا يملك به الواضع شيئا من الحائط الذي يضع عليه؛ لأنه لو كان بيعا.. لملك جميع الحائط، ولكان إذا استهدم.. ملك أخذ آلته، وهذا لا يقوله أحد.
قال: فإن قيل: إنما يكون بيعا لموضع الوضع خاصة.. قيل: لا يصح ذلك؛ لأن موضع الوضع مجمل في بقية الحائط الذي لغيره، وتلك منفعة استحقها، وإذا بطل أن يكون بيعا.. كان ذلك إجارة بكل حال.
قال: فإن قيل: فكيف تجوز الإجارة إلى مدة غير معلومة؟
فالجواب: أن المنفعة يجوز أن يقع العقد عليها في موضع الحاجة غير مقدرة،(6/257)
كما يقع عقد النكاح على منفعة غير مقدرة، والحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن الخشب وما أشبهه ربما يراد للتأييد ويضر به التقدير، بخلاف سائر الإجارات، ولأن سائر الأعيان لو جوزنا فيها عقد الإجارة على التأبيد.. بطل فيها معنى الملك، وهاهنا وضع الخشب على الحائط لا يمنع مالكه أن ينتفع به منفعة مقصودة. والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " المختصر ": (ولو اشترى علو بيت على أن يبني على جدارنه، ويسكن على سطحه.. أجزت ذلك إذا سميا منتهى البنيان؛ لأنه ليس كالأرض في احتمال ما يبنى عليها) .
إذا ثبت هذا: فإن أقر صاحب الحائط لصاحب الخشب: أن له حق الوضع على جداره.. لزم ذلك في الحكم، فإن تقدمه صلح.. لزم ظاهرا وباطنا، وإن لم يتقدمه صلح.. لزم في الظاهر دون الباطن.
[مسألة: لا يجوزاستعمال حائط الجار]
مسألة: [لا يجوز استعمال حائط الجار] : ولا يجوز أن يفتح كوة، ولا يتد وتدا في حائط الجار، ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره من غير إذن؛ لأن ذلك يضعف الحائط. ولا يجوز أن يبني عليه من غير إذن، كما لا يجوز أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.
[فرع: إحداث مجرى أو مسيل في أرض أو سطح الجار]
] : (ولا يجوز أن يجري الماء في أرض غيره، ولا على سطحه بغير إذنه) . هذا قوله الجديد.
وقال في القديم: (إذا ساق رجل عينا أو بئرا، فلزمته مؤنة، ودعته الضرورة إلى إجرائه في ملك غيره، ولم يكن على المجرى في ملكه ضرر بين.. فقد قال بعض(6/258)
أصحابنا: يجبر عليه) . فأومأ إلى أنه يجبر؛ لما روي: (أن الضحاك، ومحمد بن مسلمة اختلفا في خليج، أراد الضحاك أن يجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع منه، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: والله لأمرّنه ولو على بطنك) .
والأول هو المشهور من المذهب؛ لأنه حمل على ملك غيره، فلم يجز من غير إذنه، كالحمل على بهيمته. وأما الخبر: فيحتمل أنه كان له رسم وأجرى الماء في أرضه، فامتنع منه، فلذلك أجبره أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك.
فإن ادعى على رجل مالا، فأقر به، ثم قال: صالحني منه، على أن أعطيك مسيل ماء في ملكي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن بينا الموضع وقدر الطول والعرض.. صح؛ لأن ذلك بيع لموضع من أرضه، ولا يحتاجان أن يبينا عمقه؛ لأنه إذا ملك الموضع.. كان له النزول إلى تخومه) .
وهل يملك المدعي هواء الساقية؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدهما: يملكه تبعا للأرض.
والثاني: لا يملكه.
فعلى هذا: لا يمنع مالك الأرض من البناء فوق المسيل.
قال ابن الصباغ: وإن صالحه على أن يجري الماء في ساقية في أرض المصالح..(6/259)
قال في " الأم " [3/202] : (فإن هذا إجارة تفتقر إلى تقدير المدة) . قال أصحابنا: وإنما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فأما إذا لم تكن محفورة.. لم يجز؛ لأنه لا يمكن للمستأجر إجراء الماء إلا بالحفر، وليس له الحفر في ملك غيره، ولأن ذلك إجارة لساقية غير موجودة، فإن حفر الساقية وصالحه.. جاز. وإن كانت الأرض في يد المقر بإجارة.. جاز له أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة معلومة؛ لأنها لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة.. لم يجز أن يصالحه على ذلك؛ لأنه لا يجوز له إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة، وكذلك إذا كانت الأرض وقفا عليه.. جاز أن يصالح على إجراء الماء في ساقية محفورة مدة معلومة، وإن أراد أن يحفر ساقية.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يملكها، وإنما له أن يستوفي منفعتها، كالأرض المستأجرة. وإن صالحه على إجراء الماء على سطحه.. جاز إذا كان السطح الذي يجري ماؤه عليه معلوما؛ لأن الماء يختلف بكبر السطح وصغره.
قال ابن الصباغ: ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للإجارة؛ لأن ذلك لا يستوفي به منافع السطح، بخلاف الساقية، فإنه يستوفي منفعتها، فكانت مدتها مقدرة، ولأنهما يختلفان أيضا، فإن الماء الذي يجري في الساقية لا يحتاج إلى تقدير؛ لأنه لا يجري فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذي يجري فيه؛ لأنه يجري فيه القليل والكثير.
وإن صالحه على أن يسقي زرعه، أو ماشيته من مائه سقية، أو سقيتين.. لم يصح؛ لأن القدر من الماء الذي يسقي به الزرع والماشية مجهول، فإن صالحه على ربع العين، أو ثلثها.. صح، كما قلنا في البيع.
[مسألة: إمكان الانتفاع بجدار الجار]
] : وإذا أراد الرجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره، أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كانت به إلى ذلك حاجة، مثل: أن يكون له براح من الأرض ويحيط(6/260)
بالبراح له ثلاثة جدر، ولجاره أو لشريكه جدار رابع، وأراد صاحب الثلاثة الجدر التسقيف.. فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا) . وبه قال أحمد.
ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره» ، وروي: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره» .
فنكس القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينها بين أظهركم. يعني: معرضين عن هذه السنة.(6/261)
فإذا قلنا بهذا: فلم يبذل الجار له.. أجبره الإمام.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الجار على ذلك) . وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "، ولأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة، فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه، والبناء في أرضه. وأما الخبر: فله تأويلان.(6/262)
الأول: أنه محمول على الاستحباب.
والثاني: أن معناه: إذا أراد الرجل أن يضع خشبه على جدار نفسه لإخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ، فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه قال: " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره ". فالكناية ترجع إلى أقرب مذكور، وهو الجار.
فإذا قلنا بالأول، وأراد الجار أن يصالحه بمال يأخذه.. لم يكن له ذلك؛ لأن ما وجب عليه بذله.. لم يجز له أن يأخذ عنه عوضا.
وإن قلنا بالثاني، وأراد الصلح على ذلك بعوض.. جاز، كما قلنا في الساباط.
فأما إذا أراد أن يبني على الحائط، أو يضع عليه خشبا تضر به ضررا بينا، أو له جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه.. لم يجبر الجار، قولا واحدا.
فإذا قلنا بقوله الجديد، فأعاره صاحب الحائط الحائط، فوضع الخشب عليه.. لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه؛ لأن إذنه يقتضي البقاء على التأبيد، فإن قلع المستعير خشبه، أو سقطت.. فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد استحق دوام بقائها.
والثاني: ليس له أن يعيد مثلها بغير إذن مالك الحائط، وهو الصحيح؛ لأن السقف إذا سقط.. فلا ضرر على المستعير في الرجوع.
وإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما.. لم يكن له ذلك؛ لأن المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وإن كان مستهدما.. فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقلها، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه، فإن بناه بآلة أخرى.. لم يكن لصاحب الخشب إعادة خشبه بغير إذن؛ لأن هذا الحائط غير الأول، وإن بناه بآلته الأولى.. فهل له أن يعيد خشبه بغير إذن؟ على الوجهين الأولين.
فإن صالحه بمال ليضع أخشابه على جدار جاره - في قوله الجديد - أو قلنا: يجبر الجار على تمكينه من وضعها - على القديم - فصالح صاحب الجدار مالك الخشب ليضع على جداره الخشب.. صح الصلح؛ لأن ما صح بيعه.. صح انتفاعه، كسائر الأموال.(6/263)
[مسألة: الهواء تابع للقرار]
] : وإن كانت له شجرة في ملكه، فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره.. فللجار أن يطالب مالك الشجرة بإزالة ما انتشر فوق ملكه؛ لأن الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير إذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فإن لم يزل مالك الشجرة ذلك.. فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير إذن الحاكم، كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه، فله أن يخرجها بنفسه، ثم ينظر فيه:
فإن كان ما انتشر في ملكه لينا يمكنه أن يزيل ذلك عن ملكه من غير قطع.. لواه عن ملكه، فإن قطعه.. لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك؛ لأنه متعد بالقطع.
وإن كان يابسا لا يمكنه إزالة ذلك عن ملكه إلا بقطعه.. فله أن يقطع ذلك، ولا ضمان عليه.
وإن أراد الجار أن يصالح مالك الشجرة بعوض ليقر ذلك في هواء أرضه، فإن كان غير معتمد على حائط.. لم يجز؛ لأنه أفرد الهواء بالعقد إن كان يابسا، وإن كان رطبا.. لم يجز أيضا لهذه العلة، ولأنه يزيد في كل وقت. وإن كان الغصن معتمدا على حائط الجار، فإن كان رطبا.. لم يجز؛ لأنه يزيد في كل وقت، وإن كان يابسا.. صح الصلح، كما لو صالحه على وضع خشبه على حائطه.
[فرع: لا يجبر من ارتفعت داره على وضع سترة]
] : إذا كان سطح داره أعلى من سطح دار جاره.. لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة.
وقال أحمد: (يجبر من علا سطحه على بناء سترة؛ لأنه إذا صعد سطحه.. أشرف على دار جاره، والإنسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره) .(6/264)
دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما، فلا يجبر أحدهما على سترة، كالأسفل.
وما ذكره، فغير صحيح؛ لأن الأعلى ليس له أن يشرف على الأسفل، وإنما يستضر الأسفل بالإشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق؛ لأنه يضر بملك جاره.
[فرع: حرية التصرف في الملك]
ونحوه] : ويجوز للإنسان أن يبني حماما بين الدور، ويتخذ دكان خبز بين العطارين.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له ذلك) في إحدى الروايتين عنه، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
دليلنا: أنه تصرف في ملكه الذي يختص به، ولم يتعلق به حق غيره، فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز.. فإنه لا يمنع من ذلك لئلا يلحق جاره الدخان.
[فرع: جواز فتح نافذة مشرفة]
] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز للإنسان أن يفتح في داره كوة مشرفة على جاره، وعلى حريمه، ولا يكون للجار منعه؛ لأنه لو أراد رفع جميع الحائط.. لم يمنع منه، فإذا رفع بعضه.. لم يمنع.
[مسألة: وضع باب على الشارع النافذ]
] : إذا كان لرجل دار لها طريق في درب غير نافذ، وظهرها إلى شارع نافذ.. جاز له أن يفتح بابا إلى الشارع النافذ؛ لأنه يملك الاستطراق في الشارع النافذ. فإن قيل: في ذلك إضرار بأهل الدرب؛ لأنه يجعله نافذا.. فالجواب: أن النافذ هو داره، وليس لأحد أن يستطرق داره بغير إذنه.(6/265)
وإن كان باب داره إلى الشارع النافذ، وظهرها إلى درب ليس بنافذ، فإن أراد أن يفتح إلى الدرب كوة، أو شباكا.. لم يمنع منه، وكذلك إن أراد أن يرفع جداره إلى الدرب غير النافذ.. جاز؛ لأنه يتصرف في ملكه بما لا ضرر فيه على غيره. وإن أراد أن يفتح إلى الدرب بابا ليستطرق فيه.. لم يكن له الاستطراق؛ لأنه لا حق له في الاستطراق فيه. وإن أراد أن يفتح إليه بابا، وينصب عليه بابا، ويسمره، أو لا يسمره، وقال: لا أدخل فيه، ولا أخرج.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن ذلك دلالة على الاستطراق، فكان لأهل الدرب منعه من ذلك.
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه لو رفع جميع حائطه.. لم يكن لأهل الدرب منعه، فكذلك إذا رفع بعضه، وإذا أراد الاستطراق على دربهم.. منعوه.
[فرع: جواز التصرف في الملك]
] : وإن كان لرجل داران، وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ، وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما، وجعلهما دارا واحدة.. جاز. وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الأخرى، ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الأخرى، ويدخل من كل واحد من الدربين إلى كل واحدة من الدارين.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا إلى كل واحد من الدربين، ويجعل الدربين كالدرب الواحد، ولأنه يثبت الشفعة في دور كل واحد من الدربين لأهل الدرب الآخر، في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن له أن يرفع الحائط كله، فكان له أن يفتح فيه بابا.(6/266)
[فرع: غيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك]
فرع: [تغيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك] : إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ، وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فإن أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب.. جاز؛ لأنه يترك بعض ما كان له من الاستطراق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذي فناء داره هناك.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن فناء داره يمتد، فكان له تأخير بابه إلى هنالك، ولأن له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما.
والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له، بدليل: أنه لو أراد أن يتخطى إلى داخل الدرب.. منع منه.
وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لا فناء لصاحبه فيه.. كان له ذلك، وجها واحدا، وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لصحابه هناك فناء.. فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الأولين:
فإن قلنا: ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه.. فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه، وهو الصحيح.
وإن قلنا: لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب.. فليس لمن باب داره في وسطه، أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره.
وقال ابن الصباغ: ينبغي له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه، وجها واحدا؛ لأنه إنما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك.(6/267)
[مسألة: انهدام جدار بين جارين]
] : إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، أو هدماه، فدعا أحدهما صاحبه إلى بنائه، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان، وهكذا لو كان بينهما نهر، فطم، أو بئر، فاجتمع فيها الطين.. فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: (لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر) .
وعندنا: الجميع على قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجبر الممتنع منهما) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، واختاره ابن الصباغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر، ولا إضرار» ، وإذا لم نجبر الممتنع.. أضررنا بشريكه، ولأنه إنفاق على ملك مشترك؛ لإزالة الضرر، فأجبر الممتنع منهما، كالإنفاق على العبد المشترك.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الممتنع) ؛ لأنه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه.. لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره.. لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الأرض لا بناء عليه، فدعا أحدهما الآخر إلى البناء، فامتنع الآخر.. فإنه لا يجبر، وكما لو كان بينهما أرض مشتركة، فدعا أحدهما الآخر إلى زراعتها، فامتنع.. فإنه لا يجبر، وعكس ذلك العبد، لما لزم صاحبه الإنفاق عليه عند الانفراد بملكه.. أجبر على الإنفاق عليه إذا شارك غيره.
وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأنا لو أجبرنا الشريك.. لأضررنا به، و: (الضرر لا يزال بالضرر) .
فإذا قلنا بقوله القديم، وطالب الشريك شريكه بالبناء.. لزمه الإنفاق معه بقسط(6/268)
ما يملك من الحائط، فإن امتنع.. أجبره الحاكم، فإن كان له مال.. أخذ الحاكم منه، وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا.. اقترض له الحاكم من الشريك، أو من غيره. وإن بناه الشريك بإذن الممتنع، أو بإذن الحاكم.. كان الحائط ملكا بينهما كما كان، ويرجع الذي بناه على شريكه بحصته من النفقة، وإن بناه بغير إذن شريكه، ولا إذن الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع بالإنفاق، ثم ينظر: فإن بنى الحائط بآلته الأولى.. كان ملكا بينهما كما كان؛ لأن المنفق إنما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها، وإن أراد الذي بناه نقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملك لهما، وإن بناه بآلة أخرى.. كان الحائط للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه نقضه.. كان له ذلك؛ لأنه منفرد بملكه. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع ما يخصني من النفقة.. أجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما أجبر الشريك على البناء.. أجبر الذي بنى على التبقية ببذل النفقة. وإن كان بينهما نهر أو بئر، وأنفق أحدهما بغير إذن شريكه، وغير إذن الحاكم.. فإنه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء؛ لأن الماء ينبع في ملكيهما، وليس له إلا نقل الطين، وذلك أثر لا عين، بخلاف الحائط.
وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يجبر الممتنع منهما، فإن أراد أحدهما بناءه.. لم يكن للآخر منعه من ذلك؛ لأنه يزول به الضرر عن الثاني. فإن بناه بآلته.. كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذي بناه أن ينقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه، وإن بناه بآلة له.. فهو ملك للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه أن ينقضه.. كان له ذلك؛ لأنه ملك له ينفرد به. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع إليك ما يخصني من النفقة.. لم يجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما لم يجبر على البناء في الابتداء.. لم يجبر على التبقية في الانتهاء.. فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه.. لم يكن له ذلك، إلا أن(6/269)
يكون له رسم خشب، فيقول له: إما أن تأخذ مني ما يخصني من النفقة، وتمكنني من وضع خشبي، أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا، فيكون له ذلك؛ لأنه ليس للذي بنى إبطال رسوم شريكه هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء، فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هما، أو هدمه أحدهما متعديا.. قال الشافعي: (أجبرته على البناء) . واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط، والذي نص عليه الشافعي إنما هو على القول القديم، وهو اختيار المحاملي؛ لأن الحائط لا يضمن بالمثل.
ومنهم من قال: يجبر عليه، قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشافعي نص على ذلك في الجديد، ولأنه هدمه بهذا الشرط، فلزمه الوفاء به.
[فرع: في الصلح لا يصح ترك الحق بغير عوض]
] : وإن كان هذا الحائط بينهما نصفين، فهدماه، أو انهدم، ثم اصطلحا على أن يبنياه، وينفقا عليه بالسوية، ويكون لأحدهما ثلث الحائط، وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء.. فلا يصح هذا الصلح؛ لأن الصلح هو: أن يترك بعض حقه بعوض، وهاهنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض، فلم يصح، كما لو ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه المدعي منها على سكناها.. فلا يصح؛ لأنه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض، كذلك هاهنا مثله، ولأن هذا شرط فاسد؛ لأن كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء، والحائط لا يحمل ما شاء، فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبني على حائطه ما يشاء.. فإنه لا يصح؛ لأن ذلك مجهول(6/270)
وإن اصطلحا على أن يبنياه، وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثي النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة.. فقد قال الشيخ أبو حامد في درسه أولا: يصح الصلح؛ لأنه لما زاد في الإنفاق.. ترك الآخر بعض حقه بعوض. وقال في درسه ثانية: لا يصح هذا الصلح؛ لأن النفقة التي تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولأنه صلح على ما ليس بموجود؛ لأن الحائط وقت العقد معدوم.
[فرع: الجدران المشتركة علوا وسفلا]
] : وإن كان حيطان العلو لرجل، وحيطان السفل لآخر والسقف بينهما، فانهدم الجميع.. فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء، قولا واحدا؛ لأن حيطان السفل لصاحب السفل، فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في الحائط.
فإن قلنا بقوله القديم.. أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وإن لم يكن له مال.. اقترض عليه من صاحب العلو، أو من غيره، وبنى له سفله، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر، وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل بإذن صاحب السفل، أو بإذن الحاكم، جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان، وإن أراد صاحب العلو أن يبني السفل من غير إذن الحاكم، وغير إذن صاحب السفل.. لم يمنع من ذلك؛ لأنه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما أنفق عليها؛ لأنه متطوع.
فإن بنى صاحب العلو السفل بآلته.. كان ملكا لصاحب السفل كما كان، وليس لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها.
وإن بناه بآلة أخرى.. كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل؛ لأن ذلك قرار ملكه، فإن أراد صاحب العلو نقض ذلك.. كان له ذلك؛ لأنه ملكه. وإن بذل(6/271)
له صاحب السفل ما أنفق، ولا ينقص.. لم يجبر صاحب العلو على التبقية؛ لأنه لا يجبر على البناء في الابتداء، فلم يجبر على التبقية في الانتهاء.
[مسألة: اصطلحا على بناء معلوم فوق البيت]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى على رجل بيتا في يده، فاصطلحا بعد الإقرار على أن يكون لأحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما.. جاز) .
واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فقال أبو العباس ابن سريج: صورتها: أن يدعي رجل على رجل دارا، في يده علوها وسفلها، فيقر له بها، ثم اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له، ويبني المقر على العلو بناء معلوما.. فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية، وليس ذلك بصلح معاوضة؛ لأن صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض؛ لأنه ملك العلو والسفل بالإقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض، فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي: (إذا ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه منها على سكناها.. فلا يكون صلحا، وإنما يكون عارية) .
ومنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على رجل سفل بيت عليه علو، ويقر: أن العلو للمدعى عليه، فيقر المدعى عليه للمدعي بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعي يبني على العلو غرفة معلومة البناء.. فيصح.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح التأويلين.
وقال ابن الصباغ: الأول أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[مسألة: صالح أحد رجلين على دار ملكاها بجهتين]
] : إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين، فأقر له أحدهما بنصفها، وأنكر الآخر، وحلف له، فصالح المقر المدعي عن نصف الدار على عوض، وصار ذلك النصف(6/272)
للمقر.. فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كانا ملكا بجهتين مختلفتين، مثل: أن كان أحدهما ورث ما بيده، والآخر ابتاع ما بيده.. فللشريك المنكر الشفعة؛ لأن الجهتين إذا اختلفتا.. أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه، فيعطيه، ثم يملكه بالصلح، فتثبت فيه الشفعة، وإن اتفقت جهة تمليكهما، كالإرث، أو الابتياع.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للمنكر الأخذ بالشفعة؛ لأنه يقر بأن أخاه أقر بنصف الدار بغير حق، ولم يملكه بالصلح، وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة.
والثاني: له المطالبة بالشفعة، وهو الصحيح؛ لأنه قد حكم بنصفها للمقر له، وحكم بأنه انتقل ذلك إلى المقر بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر.
وأما ترتيب ابن الصباغ فيها: فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه.. فله الأخذ بالشفعة، وإن قال: هذه الدار لنا، ورثناها عن أبينا.. فهل له الأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان.
[مسألة: إقرار بعض الورثة بحق لآخر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل، ثم صالحه منه على شيء بعينه.. فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع، ولا يرجع على إخوته بشيء) . واختلف أصحابنا في صورتها:
فمنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم، كان أبوهم غصبه إياها، فأقر له أحدهم بذلك، وقال: صدقت في دعواك، وقد وكلني شركائي على مصالحتك بشيء معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه على عين مع الإنكار على ما مضى.
وقال أبو علي الطبري: تأويلها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة دينا على(6/273)
مورثهم، وأن هذه الدار رهنها عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه، ويصالحه عن ذلك بشيء، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره. قال: لأن الشافعي قال: (وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق) ، ولو أقر بالدار.. لقال: أقر بالدار. وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان.. فقد مضى حكمه.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح، وقد بين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك في " الأم " [3/198 - 199] .
[مسألة: المصالحة على دراهم بدل الزرع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الأرض، فصالحه من ذلك على دراهم.. فجائز) . وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض، فأقر له به، فصالحه عنه بعوض:
فإن كان بشرط القطع.. صح الصلح، فإن كانت الأرض للمقر.. كان له تبقية الزرع؛ لأن الزرع له، والأرض له.
فإن قيل: هلا كان للمدعي إجباره على القطع؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة، فرفعه إلى حاكم يرى إيجاب وضع الجوائح، فيضمنه ذلك؟
قال ابن الصباغ: فالجواب: أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع، فأما مع شرط القطع، فلا يضمن البائع الجوائح.
وإن صالحه من غير شرط القطع، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، وإن كانت الأرض للمقر.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في البيع.
وإن كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به، فأقر له أحدهما بنصفه،(6/274)
وصالحه منه على عوض، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع؛ لأنه إن كان مطلقا.. فلا يصح؛ لأنه زرع أخضر، فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وإن كان بشرط القطع.. لم يصح أيضا؛ لأن نصيبه لا يتميز عن نصيب شريكه، فلا يجبر شريكه على قلع زرعه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وقد مضى ذكرها في البيوع.
وذكر القاضي أبو الطيب: أن ذلك ينبني على القولين في القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟ وإن كانت الأرض للمقر، فإن قلنا: إن من اشترى زرعا في أرضه، يصح من غير شرط القطع.. صح الصلح هاهنا، وإن قلنا: لا يصح أن يشتري زرعا في أرضه إلا بشرط القطع.. لم يصح الصلح هاهنا.
[فرع: المصالحة على نصف الأرض بنصف الزرع]
] : قال ابن الصباغ: وإن ادعى على رجل زرعا في أرضه، فأقر له بنصفه، ثم صالحه منه على نصفه على نصف الأرض.. لم يجز؛ لأن من شرط بيع الزرع قطعه، وذلك لا يمكن في المشاع، وإن صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلم إليه الأرض فارغة.. صح؛ لأن قطع جميع الزرع واجب، نصفه بحكم الصلح، والباقي لتفريغ الأرض، فأمكن القطع، وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع، وشرط تفريغ الأرض.. فإنه يجوز، كذلك هاهنا.
وإن أقر له بجميع الزرع، وصالحه من نصفه على نصف الأرض؛ ليكون الزرع والأرض بينهما نصفين، وشرطا القطع في الجميع، فإن كان الزرع زرع في الأرض بغير حق.. جاز الصلح؛ لأن الزرع يجب قطع جميعه، وإن كان الزرع زرع بحق.. لم يصح الصلح؛ لأنه لا يمكن قطع الجميع.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع في أرض غيره، فصالح صاحب الزرع صاحب الأرض من نصف الزرع على نصف الأرض بشرط القطع.. جاز؛ لأن نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الآخر قد استحق أيضا قطعه؛ لأنه يحتاج إلى تفريغ الأرض لتسليمها، فوجب أن(6/275)
يفرغها. قال: وهذا ضعيف، أما النصف: فقد استحق قطعه، وأما النصف الآخر: فلا يحتاج إلى قطعه؛ لأنه يمكن تسليم الأرض وفيها زرع.
قال ابن الصباغ: ولأن باقي الزرع ليس بمبيع.. فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع، وصالحه على جميع الأرض؛ لأنه شرط تفريغ جميع المبيع.
وبالله التوفيق(6/276)
[كتاب الحوالة](6/277)
كتاب الحوالة الحوالة: نقل حق من ذمة إلى ذمة، مشتقة من قولهم: حولت الشيء من موضع إلى موضع: إذا نقلته إليه.
والأصل في جوازها: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» ، وروي: «وإذا اتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» . والمراد به الحوالة.(6/279)
وأجمع المسلمون على جوازها، ولا تتم إلا بثلاثة أنفس: محيل، وهو: من يحيل بما عليه، ومحتال، وهو: من يحتال بما له من الحق، ومحال عليه، وهو: من ينتقل حق المحتال إليه.
[مسألة: الحوالة ثابتة للحق المستقر في الذمة]
) : وتجوز الحوالة بعوض القرض، وبدل المتلف؛ لأنه حق ثابت مستقر في الذمة، فجازت الحوالة به كبيعه.
قال الشيخ أبو حامد: وتجوز الحوالة بثمن المبيع؛ لأنه دين مستقر.
وهل تجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه لا تصح الحوالة به؛ لأنه ليس بثابت.
والثاني: تصح؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولا تجوز الحوالة بالمبيع قبل القبض؛ لأنه غير مستقر؛ لأنه قد يتلف فيبطل البيع فيه.(6/280)
[فرع: عدم صحة الحوالة بمال غير مستقر]
] : ولا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه، لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» .
وأما المكاتب إذا حصلت عليه ديون لغير سيده من المعاملة، وله ديون.. جاز له أن يحيل بعض غرمائه على بعض، وجاز لغرمائه أن يحيلوا عليه بما لهم في ذمته؛ لأن الحق ثابت في ذمته، وأما ما في ذمته من مال الكتابة: فلا يجوز لسيده أن يحيل به عليه؛ لأنه غير مستقر؛ لأن له أن يعجز نفسه متى شاء، فلا معنى للحوالة به، وإن أراد المكاتب أن يحيل سيده بمال الكتابة الذي عليه على غريم المكاتب.. قال ابن الصباغ: صحت الحوالة. واشترط صاحب " المجموع " أن يكون النجم قد حل؛ لأنه بمنزلة أن يقضيه ذلك من يده.
وإن كان لسيده عليه مال من جهة المعاملة.. فهل يجوز للسيد أن يحيل غريما له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يصح، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه دين لازم.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده من دين المعاملة وغيرها؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده.
قال الصيمري: وإن أحاله رجل على عبده، فإن كان مأذونا له في التجارة جاز، وإن كان غير مأذون له ... ففيه وجهان، الأصح: لا تصح الحوالة.
[مسألة: صحة الحوالة بالنقد المعلوم]
] : تجوز الحوالة بالدراهم، والدنانير، وبما له مثل، كالطعام والأدهان؛ لأن القصد من الحوالة إيفاء الغريم حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه.(6/281)
وهل تصح الحوالة بما لا مثل مما يضبط بالصفة، كالثياب، والحيوان، والعروض التي يصح السلم عليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مال ثابت في الذمة مستقر، فصحت الحوالة به، كالدراهم والدنانير.
والثاني: لا يصح؛ لأن المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف.
فإذا قلنا بهذا: لم تجز الحوالة بإبل الدية، وإذا قلنا بالأول.. فهل تصح الحوالة بإبل الدية؟ فيه وجهان، مخرَّجان من القولين للشافعي: (إذا جنت امرأة على رجل موضحة، فتزوجها على خمس من الإبل في ذمتها له أرش جنايتها عليه) ، وكذلك قال في (الصلح) : (إذا كان له في ذمته أرش جناية، خمس من الإبل، فصالح عنها) .. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: (يصح) ؛ لأنه دين مستقر في الذمة معلوم العدد والسن.
والثاني: (لا يصح) ، وهو الصحيح؛ لأنها مجهولة الصفة؛ لأنه لا يتعين على من وجبت عليه أن يسلمها من لون مخصوص.
[مسألة: كون الحقين متجانسين]
) : ولا تصح الحوالة إلا إذا كان الحقان من جنس واحد، فإن كان عليه لرجل دنانير، فأحاله بها على رجل له عليه دراهم، أو أحال من له عليه حنطة على من له عليه شعير، أو ذرة.. لم تصح الحوالة؛ لأن موضوع الحوالة: أنها لا تفتقر إلى رضا المحال عليه، فلو صححناها بغير جنس الحق.. لاشترط فيها رضاه؛ لأنه لا يجيز على تسليم غير الجنس الذي عليه، ولأن الحوالة تجري مجرى المقاصة؛ لأن المحيل يسقط(6/282)
ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، ثم المقاصة لا تصح في جنس بجنس آخر، فكذلك الحوالة.
ولا تصح الحوالة إلا إن كان الحقان من نوع لجنس واحد؛ لما ذكرناه في الجنس، فإن كان له على رجل ألف درهم صحاح، فأحاله بها على من له عليه ألف درهم مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك.. لم تصح الحوالة؛ لأن الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس، إلا أنه جوز تأخير القبض في الحوالة؛ لأنه عقد إرفاق ومعروف، فإذا دخل فيه الفضل.. صار بيعا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز، ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف؛ لأنه يعطي درهما بدرهم، ولكن جوزنا تأخير القبض فيه؛ لأنه إرفاق؟
ولو قال: أقرضتك هذه الدراهم المكسرة لترد علي صحاحا.. لم يصح. فكذلك هذا مثله.
[فرع: يحال الدين الحال على الحال، والمؤجل على المؤجل]
] : وإن أحاله بدين حال على رجل له عليه دين حال، أو بدين مؤجل على دين مؤجل، وهما متساويان في الأجل.. صح، وإن أحاله بدين حال عليه على دين مؤجل له.. لم يصح؛ لأن الحال لا يتأجل عندنا، ولأن المحتال قد نقص من حقه، وهو أن دينه كان معجلا، فجعله مؤجلا، لينقل حقه من ذمة إلى ذمة، فلم يصح، كما لو كان له دين مؤجل، فقال: من عليه الدين لمن له الدين: انقص من دينك، لأقدم لك دينك قبل حلوله.. فإن هذا لا يصح.
وإن كان عليه لرجل دين مؤجل، فأحاله به على دين له حال.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 282] :
أحدهما: تصح؛ لأنه يمكنه تعجيل المؤجل.
والثاني: لا تصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأن المحيل قد زاد المحتال في حقه، لينقل حقه من ذمته إلى ذمة غيره، فلم يصح، كما لو كان له عليه ألف حال، فزاده فيه ليجعله مؤجلا.(6/283)
[فرع: الإحالة على مدين وضامن]
] : وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على الآخر بألف؛ برئت ذمتهما مما له عليهما، وإن أحال عليهما رجلا له عليه ألف ليأخذ من كل واحد منهما خمسمائة.. صح، وإن أحاله عليهما، على أن يطالب من شاء منهما بالألف.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما أبو العباس:
أحدهما: تصح الحوالة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن المحتال لا يأخذ إلا قدر حقه؛ لأن الزيادة إنما تكون في القدر، أو الصفة، ألا ترى أنه يجوز أن يحيل على من هو أملى منه؟
والثاني: لا تصح الحوالة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه يستفيد بهذه الحوالة زيادة في المطالبة؛ لأنه كان يطالب واحدا، فصار يطالب اثنين، ولأن الحوالة بيع، فإذا كان الحق على اثنين.. كان المقبوض منه منهما مجهولا، فلم تصح.
قال الشيخ أبو حامد:
فعلى هذا الوجه: لا تصح الحوالة بدين فيه ضمان، أو رهن.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا تصح الحوالة بدين لا رهن به على دين به رهن، وجها واحدا؛ لأن الرهن عقد وقع له، فلا يقبل النقل إلى غيره، بخلاف الذي له على الضامن؛ لأنه يقبل النقل. ولهذا لو أحاله عليه وحده.. جاز.
[مسألة: الإحالة على من لا حق له عنده]
] : إذا كان لرجل على رجل حق، فأحاله على من لا حق له عليه، فإن لم يقبل المحال عليه الحوالة.. لم تصح الحوالة، ولم تبرأ ذمة المحيل؛ لأنه لا يستحق شيئا على المحال عليه، وإن قبل المحال عليه الحوالة.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان:(6/284)
أحدهما: لا تصح، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر كلام المزني: لأن الحوالة معاوضة، فإذا كان لا يملك شيئا في ذمة المحال عليه.. لم تصح، كما لو اشترى شاة حية بشاة ميتة، ولأنه لو أحاله على من له عليه دين غير لازم، أو غير مستقر، أو مخالف لصفة دينه.. لم تصح الحوالة، فلأن لا تصح الحوالة على من لا دين له عليه أولى.
والثاني: تصح الحوالة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن المحال عليه إذا قبل الحوالة.. صار كأنه قال لصاحب الحق: أسقط عنه حقك، أو أبرئه، وعلي عوضه، ولو قال ذلك.. للزمه؛ لأنه استدعاء إتلاف ملك بعوض، فكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا بهذا: فللمحال عليه أن يطالب المحيل بتخليصه. كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه، فإن وزن المحال عليه الحق، فإن كان يغير إذن المحيل.. لم يرجع على المحيل بشيء؛ لأنه متطوع، وإن وزن بإذنه.. رجع عليه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه.. برئ، ولا يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا، والذي يقتضي المذهب: أن المحتال لا يرجع على المحيل بشيء؛ لأن ذمته قد برئت بالحوالة على هذا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه بإذن المحيل، ثم وهبه المحتال للمحال عليه.. فهل يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا؛ لأن ما دفع.. رجع إليه.
والثاني: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه قد غرم، وإنما عاد إليه بسبب آخر.
وإن كان عليه دين مؤجل، فأحاله على رجل لا شيء له عليه، وقبل المحال عليه الحوالة، وقلنا: تصح، فإن قضاه المحال عليه الحق في محله بإذن المحيل..(6/285)
رجع عليه، وإن قضاه قبل حلول الحق.. لم يرجع على المحيل قبل محل الدين؛ لأنه متطوع بالتقديم. فإن اختلف المحيل والمحال عليه، فقال المحال عليه: أحلت علي، ولا حق لك علي، وأنا أستحق الرجوع عليك؛ لأني قضيت بإذنك. وقال المحيل: بل أحلت بحق لي عليك.. فالقول قول المحال عليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدين.
[مسألة: صحة الحوالة برضا المحتال]
] : ولا تصح الحوالة إلا برضا المحتال، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يعتبر رضاه، إذا كان المحال عليه مليئا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب) .
دليلنا: أن الحق قد تعلق بذمة المحيل، فلا يملك نقله إلى غير ذمته بغير رضا من له الحق، كما لو تعلق الحق بعين.. فليس له أن ينقله إلى عين أخرى بغير رضا من له الحق. وأما الخبر: فمحمول على الاستحباب.
وأما المحيل: فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: يعتبر رضاه؛ لأن الحق عليه، فلا تتعين عليه جهة قضائه، كما لو كان له دراهم في كيسه.. فليس لصاحب الحق أن يطالب بإجباره على أن يقضيه حقه من كيس معين.
وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان، وصورتها: أن يقول المحال عليه لرجل: أحلتك على نفسي بالحق الذي لك على فلان. فإذا قال: قبلت.. فهل يصح؟ على الوجهين، بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن يبرئه.
وعندي: أن هذين الوجهين إنما يتصوران في المحال عليه إذا لم يكن عليه حق للمحيل، وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق عليه برضاه، فأما إذا كان للمحيل على المحال عليه حق.. فلا يصح بغير رضا المحيل، وجها واحدا.(6/286)
وأما رضا المحال عليه إذا كان عليه حق للمحيل.. فهل يعتبر في صحة الحوالة رضاه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن القاص، وأبي سعيد الإصطخري -: أن الحوالة لا تصح إلا برضاه، وهو قول الزهري؛ لأنه أحد من تتم به الحوالة، فاعتبر رضاه، كالمحيل والمحتال.
والثاني - وهو المذهب -: أن الحوالة تصح من غير رضاه؛ لأن المحيل أقام المحتال مقامه في القبض، فلم يعتبر رضا من عليه الحق، كما لو وكل من له الحق وكيلا في القبض.. فإنه لا يعتبر رضا من عليه الحق.
[مسألة: الحوالة بيع أو رفق]
] : قال الشيخ أبو حامد: واختلف أصحابنا في الحوالة، هل هي بيع، أو رفق؟ على وجهين:
فـ[الأول] : منهم من قال: إنها رفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . فندب إلى الحوالة، والبيع مباح لا مندوب إليه، وإنما المندوب إليه الرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرض: «قرض درهم خير من صدقته» ، ولأن الحوالة لو كانت بيعا لدخل فيها الفضل، ولما صحت بالدين.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن الحوالة بيع، إلا أن البيع ضربان: ضرب بلفظ البيع، فيدخله الربح والفضل والمغابنة، وضرب منه بغير لفظه، فيكون القصد(6/287)
منه الرفق، فلا يدخله الفضل والمغابنة، ولأنها تقتضي التمليك، كالبيع؛ لأن المحيل يملك المحتال ما له في ذمة المحال عليه، إلا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما.
فإذا قلنا: إنها رفق.. لم يدخلها خيار المجلس، كالقرض، وإذا قلنا: إنها بيع.. دخلها خيار المجلس، كالصرف، وأما خيار الثلاث: فلا يدخلها بالإجماع، وعندي: أن الوجهين في الحوالة على من لا حق له عليه برضا المحال عليه مأخوذان من هذا، فإذا قلنا: إن الحوالة رفق. صحت، وإذا قلنا: إنها بيع.. لم تصح.
[مسألة: انتقال الدين بالحوالة]
] : إذا أحال بالحق.. انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل، وهو قول كافة العلماء.
وقال زفر: لا ينتقل الحق من ذمة المحيل، وإنما يكون له مطالبة أيهما شاء، كالضمان.
دليلنا: أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، والضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة، فيجب أن يعطى كل لفظ ما يقتضيه.
إذا ثبت: أن الحق انتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.. فإن الحق لا يعود إلى ذمة المحيل بإفلاس المحال عليه، ولا بموته، ولا بجحوده ويمينه، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقال أبو حنيفة: (يرجع إليه في حالين: إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا جحد الحق وحلف) .(6/288)
وقال محمد، وأبو يوسف: يرجع إليه في هذين الحالين، وفي حالة ثالثة: إذا أفلس المحال عليه وحجر عليه.
وقال الحكم: يرجع إليه في حالة واحدة: إذا مات المحال عليه مفلسا. وأيس من الوصول إلى حقه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» .
قال الشافعي: (فلما ندب المحتال إلى اتباع المحال عليه، بشرط أن يكون المحال عليه مليئا.. علم أن الحق يتحول عن المحيل إلى ذمة المحال عليه تحولا يمنع المحتال من الرجوع إلى المحيل، إذ لو كان له الرجوع إليه.. لم يكن بفقد هذا الشرط عليه ضرر) .
قال أصحابنا: ولأن عموم الخبر يدل على: أنه يتبع أبدا وإن مات مفلسا. أو جحده فحلف.
وروي: أن أبا سعيد بن المسيب كان له على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حق، فسأله أن يحيله به على رجل، فأحاله به عليه، فمات المحال عليه. فعاد أبو سعيد يسأل عليا حقه، فقال له علي: (اخترت علينا غيرنا، أبعدك الله) . فثبت أنه إجماع؛ لأنه لم ينكر على علي أحد من الصحابة، ولأنه لا يخلو: إما أن يكون بالحوالة سقط حقه من ذمة المحيل، أو لم يسقط، فإن لم يسقط حقه عنه.. كان له الرجوع عليه، سواء مات المحال عليه، أو لم يمت، وسواء أفلس أو لم يفلس، وإن كان قد سقط حقه عنه، فكيف يرجع بالإعسار والجحود؟! لأن الحوالة كالقبض للحق، فلم يرجع على المحيل، كما لو قبض عن حقه عوضا، فتلف في يده.(6/289)
[فرع: تصح الإحالة بعد القبض]
] : إذا كان عليه دين لرجل، فأحاله على من له عليه دين، ثم إن المحيل قضى المحتال.. صح القضاء، ولا يرجع المحيل على المحال عليه بشيء إذا قضى بغير إذنه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يكون له الرجوع عليه) .
دليلنا: أن الحوالة قد صحت، وإنما تبرع بالقضاء عنه، فلم يرجع عليه بشيء، ولأنه لا يملك إبطال الحوالة، فكان بدفعه متبرعا، كما لو قضى عنه أجنبي.
[فرع: الإحالة على مجهول الحال]
] : وإن أحال على رجل، ولم يشترط أنه مليء، أو معسر، فبان أنه معسر.. لم يرجع المحتال على المحيل، سواء علم بإعساره أو لم يعلم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا لم يعلم بإعساره.. كان له الرجوع على المحيل) .
دليلنا: أن الإعسار لو حدث بعد الحوالة، وقبل القبض.. لم يثبت للمحتال الخيار، فكذلك إذا ثبت أنه معسر حال العقد.
وأما إذا أحاله على رجل بشرط أنه مليء.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: أحلتك على فلان الموسر، أو فلان، وهو موسر، فقبل الحوالة، ثم بان أنه معسر.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أن المحتال لا يرجع على المحيل أبدا، سواء كان المحال عليه غنيا أو فقيرا، أفلس أو مات معدما، غره أو لم يغره) .
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: له أن يرجع على المحيل، كما لو باعه سلعة بشرط أنها سليمة من العيب، فبانت بخلافها. قال: وما نقله المزني.. فلا أعرفه للشافعي في شيء من كتبه.(6/290)
وقال أكثر أصحابنا: ليس له أن يرجع عليه، كما نقله المزني؛ لأن الإعسار لو كان عيبا في الحوالة.. لثبت له فيه الخيار من غير شرط، كالعيب في المبيع، ولأن التفريط في البيع من جهة البائع، حيث لم يبين العيب في سلعته، فإذا لم يبين.. ثبت للمشتري الخيار، والتفريط هاهنا من جهة المحتال، حيث لم يختبر حال المحال عليه، ولأن نفس السلعة حق للمشتري، فإذا وجدها ناقصة.. كان له الرجوع إلى الثمن، وليس كذلك ذمة المحال عليه؛ لأنها ليست نفس حق المحتال، وإنما هي محل لحقه، فوجود الإعسار بذمة المحال عليه ليس بنقصان في حقه، وإنما يتأخر حقه، ألا ترى أنه قد يتوصل إلى حقه من هذه الذمة الخربة بأن يوسر، أو يستدين، فيقضيه حقه، بخلاف المبيع إذا وجده معيبا؟
[مسألة: لا تبطل الحوالة بعد قبضها إن وجد عيبا]
] : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال المشتري البائع بالألف على رجل عليه للمشتري ألف، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، فإن رده بعد أن قبض البائع مال الحوالة.. انفسخ البيع، ولم تبطل الحوالة بلا خلاف على المذهب، بل قد برئت ذمة المحال عليه، ويرجع المشتري على البائع بالثمن، وإن رده قبل قبض البائع مال الحوالة.. فقد ذكر المزني في " المختصر ": (أن الحوالة باطلة) . وقال في " الجامع الكبير ": (الحوالة ثابتة) .
واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق: فـ[الطريق الأولى] : قال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: تبطل الحوالة، كما ذكر في " المختصر "؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن، فإذا رد العبد بالعيب.. انفسخ البيع، وسقط الثمن، فبطلت الحوالة.
و [الطريق الثانية] : قال أبو علي في " الإفصاح ": لا تبطل الحوالة، كما ذكر في " الجامع "؛ لأن الحوالة كالقبض، فلم تبطل برد المبيع، كما لو قبض المحتال مال الحوالة، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، ولأن المبتاع دفع إلى البائع بدل ما له في ذمته، وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الأول.. لم ينفسخ(6/291)
الثاني، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا، وسلمه إليه، ثم وجد بالعبد عيبا، فرده.. فإن العقد لا ينفسخ في الثوب.
و [الطريق الثالثة] : منهم من قال: هي على حالين:
فـ[الأول] : حيث قال: (الحوالة باطلة) أراد: إذا رد العبد قبل أن يقبض البائع مال الحوالة.
و [الثاني] : حيث قال: (الحوالة لا تبطل) أراد: إذا رد العبد بعد أن يقبض البائع مال الحوالة.
و [الطريق الرابعة] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:
فـ[الأول] : حيث قال: (تبطل الحوالة) أراد: إذا ادعى المشتري وجود العيب، وعزاه إلى حال العقد، فصدقه البائع؛ لأن الحوالة تمت بهما جميعا، فانحلت بهما.
و [الثاني] : حيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا ادعى المشتري أن العيب كان موجودا حال العقد، وقال البائع: بل حدث في يدك. وكان مما يمكن حدوثه، فلم يحلف البائع، وحلف المشتري.. فإن الحوالة لا تنفسخ؛ لأن الحوالة تمت بهما، فلا تنفسخ بأحدهما.
هذا إذا كان الرد بعد مدة الخيار، فأما إذا كان الرد في مدة الخيار: فإن البيع ينفسخ، والحوالة تبطل، وجها واحدا، سواء كان قبل القبض، أو بعده؛ لأن البيع لا يلزم قبل انقضاء الخيار، وإذا لم يلزم البيع.. لم تلزم الحوالة؛ لأنها متعلقة بالثمن. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وهذا يدل من قوله: إن الحوالة بالثمن في مدة الخيار تصح. وقد مضى فيه وجهان.
[فرع: تصح الحوالة مهرا]
] : وإن أحال الزوج زوجته بالمهر، ثم ارتدت قبل الدخول، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، ففسخ النكاح، فإن كان ذلك بعد أن قبضت المرأة مال الحوالة.. لم تبطل الحوالة، وإن كان ذلك قبل القبض.. فعلى الخلاف المذكور في البيع.(6/292)
[فرع: لا يضر العيب بالمشترى حوالة]
] : وإن أحال البائع رجلا بالثمن على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده.. لم تنفسخ الحوالة، وجها واحدا؛ لأنه تعلق بالحوالة، حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي، فلم يبطل حقه بغير رضاه، وهكذا لو أحالت الزوجة بمهرها على الزوج رجلا، ثم ارتدت قبل الدخول.. لم تبطل الحوالة؛ لأنه تعلق بالحوالة حق أجنبي، وهو المحتال، فلا تبطل من غير رضاه.
[مسألة: الحوالة لا تصحح العقد الفاسد]
] : ولو اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال البائع رجلا له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري: أن العبد كان حرا وقت البيع، فإن صدقهما المحتال على حرية العبد وقت البيع، وأن الحوالة وقعت بالثمن.. حكم ببطلان الحوالة، وكان للمحتال أن يطالب البائع بما له عليه؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن وقد صدقهما أنه لا ثمن للبائع على المشتري. وإن كذبهما المحتال، ولم يكن هناك بينة.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأن الحوالة تمت بالمحيل والمحتال، فلا تنحل إلا بهما، كما أن البيع لما تم بالبائع والمشتري.. لا ينفسخ البيع إلا بهما، ولأنه قد تعلق بالثمن حق غير المتبايعين، فلا يبطل حقه بقول المتبايعين، كما لو اشترى عبدا، فقبضه، وباعه من آخر، ثم اتفق المتبايعان الأولان أن العبد كان حرا.. فإنهما لا يقبلان على المبتاع الثاني، فإذا حلف المحتال.. قبض المال من المشتري، وهل يرجع المشتري على البائع بذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال صاحب " الفروع ": يرجع عليه؛ لأن المشتري قضى عن البائع دينه بإذنه، فرجع عليه.
و [الثاني] : قال الطبري في " العدة ": لا يرجع عليه؛ لأن المشتري يقر أن(6/293)
المحتال ظلمه بأخذ ذلك منه، فلا يرجع به على غير من ظلمه.
وإن أقام البائع أو المشتري بينة.. فهل تسمع؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا تسمع؛ لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع.
[والثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وصاحب " الفروع ": إن شهدت البينة بأن العبد حر الأصل، وأن الحوالة وقعت بالثمن، أو شهدت بأنه حر الأصل، وأقر المحتال بأن الحوالة وقعت بالثمن. بطلت الحوالة؛ لأنه إذا ثبت أنه حر.. تبينا أنه لم يتعلق بذمة المشتري شيء، فحكم ببطلان الحوالة.
وإن أقام العبد بينة بحريته.. قال ابن الصباغ: ثبتت حريته وبطلت الحوالة، ولم يذكر له وجها، والذي يقتضي المذهب: أن الحوالة لا تبطل بذلك؛ لأن العبد يحكم بحريته بتصادق البائع والمشتري، ولا تبطل الحوالة بذلك، فكذلك إذا أقام العبد بينة، ولأن المتبايعين إذا كانا مقرين بحريته، فلا حاجة لنا إلى إقامة البينة، فلا تبطل الحوالة بإقامته للبينة.
وإن صدقهما المحتال أنه كان حرا، وادعى أن الحوالة وقعت بغير الثمن، وقالا: بل وقعت بالثمن، أو أقاما البينة أن العبد كان حرا، ولم تذكر البينة أن الحوالة وقعت بالثمن.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأنهما يدعيان ما يفسدها، والأصل صحتها.
قال الشيخ أبو حامد: ويحلف على العلم.
[مسألة: الحوالة في القبض توكيل]
] : قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف.. فهذا توكيل منه في القبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه هاهنا، فثبت أن ذلك توكيل.
وإن كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولعمرو على خالد ألف درهم، واختلف(6/294)
زيد وعمرو، فقال زيد لعمرو: أحلني بالألف التي عليك لي بالألف التي لك على خالد - بلفظ الحوالة - وقال عمرو: بل وكلتك أن تقبضها لي منه - بلفظ الوكالة - فالقول قول عمرو؛ لأنهما اختلفا في لفظه، وهو أعلم بلفظه، ولأنه قد ثبت استحقاق عمرو للألف في ذمة خالد، وزيد يدعي أن ملكها قد انتقل إليه بالحوالة، والأصل بقاء ملك عمرو عليها، وعدم ملك زيد.
وإن قال عمرو لزيد: أحلتك على خالد بالألف التي لي عليه، فقبل زيد، ثم اختلفا: فقال عمرو: وكلتك لتقبضها لي منه، ومعنى قولي: أحلتك، أي: سلطتك عليه. وقال زيد: بل أحلتني عليه بديني الذي لي عليك.. فاختلف أصحابنا [على وجهين] :
فـ[الوجه الأول] : قال المزني: القول قول المحيل، وهو عمرو، وبه قال الشيخ أبو حامد، والطبري، وأبو إسحاق، وأبو العباس، وأكثر أصحابنا، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على ملك عمرو للألف التي في ذمة خالد، واختلفا في انتقالها إلى زيد؛ وهو المحتال، فكان القول قول عمرو؛ لأن الأصل بقاء ملكه عليها وإن كان الظاهر مع زيد، كما لو كان لرجل عبد في يد آخر، فادعى من هو في يده أن مالكه وهبه منه، وقال المالك، بل أعرتكه.. فالقول قول المالك، وكما لو كانت دار في يد رجل، فادعى رجل أنه ورثها من أبيه، أو ابتاعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى من هي بيده أنها ملكه.. فإنه يحكم بها لصاحب البينة؛ لأنه قد عرف له أصل ملك، وإن كان الظاهر مع صاحب اليد.
والوجه الثاني - حكاه الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، عن أبي العباس -: أن القول قول زيد، وهو المحتال؛ لأن اسم الحوالة موضوع لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فكان اللفظ يشهد له، كما لو تنازعا دارا وهي في يد أحدهما.. فالقول قوله. والأول أظهر.
فإذا قلنا: إن القول قول المحيل، فحلف.. ثبتت الوكالة له، فإن كان زيد قد قبض الحق من خالد.. فقد برئت ذمة خالد؛ لأنه دفع دفعا مأذونا فيه، إما من جهة الحوالة أو الوكالة. فإن كان الحق باقيا في يد القابض.. لزمه دفعه إلى المحيل(6/295)
بظاهر الحكم؛ لأنه قد أثبت بيمينه: أنه وكيله، فإذا رده عليه.. فهل للمحتال أن يرجع بحقه على المحيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنه إن كان وكيلا.. فحقه باق في ذمة المحيل، وإن كان محتالا.. فقد أخذ منه المحيل ما كان أخذه، وذلك ظلم منه، فرجع عليه به؛ لأنه واجب عليه بقولهما.
والثاني: لا يرجع عليه في ظاهر الحكم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه يقر أنه قبض حقه من المحال عليه، ولكن يرجع عليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان قادرا على أخذ حقه من المحيل من غير هذا المقبوض.. لم يحل له إمساك هذا المقبوض؛ لأن من عليه حق لغيره.. فله أن يقبضه من أي جهة شاء، وإن كان لا يقدر على أخذ حقه منه.. حل له إمساك هذا المقبوض فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان المقبوض قد تلف في يد القابض، فإن تلف في يده بتفريط منه، أو أتلفه.. فقد وجب عليه مثل حقه في ظاهر الحكم، ويتقاصان، وإن تلف في يده بغير تفريط.. فلا تراجع بينهما؛ لأن المحيل يقول: تلف مالي في يد وكيلي على وجه الأمانة، فلا شيء عليه لي، ولكن عندي له ألف لا يدعيها، والقابض يقول: تلف مالي في يدي، فلم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، كما لو تزوج امرأة بألف، وسلمها إليها، ثم طلقها، فقال: طلقتك بعد الدخول، فلي الرجعة، وعليك العدة، ولا رجوع لي عليك بشيء من المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الدخول، فلا عدة علي، ولا رجعة لك، ولك الرجوع علي بنصف المهر.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. فلا رجعة له، ولا عدة عليها، ولا رجوع له عليها.
وأما إذا كان المحتال لم يقبض الحق.. فللمحيل مطالبة المحال عليه بحقه؛ لأنه قد أثبت بيمينه وكالة المحتال.
قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وقد انعزل عن الوكالة بإنكاره لها.
وقال الشيخ أبو حامد: للموكل أن يعزله. وهذا يدل من قوله: على أنه لم ينعزل بالإنكار.(6/296)
فإذا قبض المحيل الحق من المحال عليه.. فهل للمحتال أن يرجع على المحيل بحقه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يرجع؛ لأنا قد حكمنا بأنه وكيل.
والثاني: لا يرجع على المحيل؛ لأنه يقول: حقي في ذمة المحال عليه. والمحيل قد أخذه ظلما. فلا يستحق الرجوع عليه بشيء.
وعندي: أنه لا يرجع عليه هاهنا، وجها واحدا؛ لأنه يقر أن حقه في ذمة المحال عليه لم يتعين فيما قبضه المحيل من المحال عليه، بخلاف ما لو قبض المحتال. ثم أخذه منه المحيل.. فإنه يقر أن حقه قد تعين فيما قبضه، مع أنه قد قيل للشيخ أبي حامد: فإن وجد المُحيل للمحال عليه مالا.. هل يحل له أخذه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فقال: يحل له؛ لأنه يقول: حقي في ذمته. وهذا يدل على ما ذكرته.
وإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف فحكمه حكم الحوالة الصحيحة. أن يقبض حقه من المحال عليه؛ وإن كان قد قبضه.. فقد برئت ذمة المحال عليه. وإذ اتفقا أن المحيل قال: أحلتك بالحق الذي علي لك على فلان، ثم قال للمحيل: أردت بذلك: الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني.. فالقول قول المحتال، وجها واحدا؛ لأن ذلك لا يحتمل إلا تحويل الحق، وإن قال: أحلتك على فلان بما لي عليه، ثم قال المحيل: أردت بذلك: أحلتك بدينك الذي لك علي عليه، وقال المحتال: بل وكلتني بذلك لأقبضه لك، وحقي باق في ذمتك.. فعلى قول المحيل ومن تابعه: القول قول المحتال؛ لأن المحيل قد أقر بثبوت الحق له في ذمته، ويدعي انتقال ذلك عن ذمته، والأصل بقاؤه في ذمته. وعلى قول من خالف المزني فيها من أصحابنا: القول قول المحيل؛ لأن اللفظ يشهد له.
فإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف.. ثبت أنه وكيل، فإن كان قد قبض الحق من المحال عليه.. فقد برئت ذمته؛ لأنه دفع مأذون فيه، فإن كان ما قبضه باقيا.. قال له الحاكم: أنت تدعي على المحيل ألفا، وفي يدك ألف، فخذه بحقك، وإن(6/297)
كان تالفا، فإن كان تلفه بتفريط منه.. ثبت ذلك في ذمته للمحيل، وله مثل ذلك، فيتقاصان، وإن تلف بغير تفريط منه.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه وكيل تلف المال في يده بغير تفريط، وللمحتال أن يرجع بحقه على المحيل، فإذا رجع عليه.. قال الشيخ أبو حامد: حل للمحيل أن يأخذ من مال المحتال مثل ما أخذه منه فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يقول: قد أحلته بحقه، وما أخذه مني بعد ذلك أخذه ظلما.. وإن كان المحتال لم يقبض الحق من المحال عليه.. فله أن يرجع بحقه على المحيل؛ لأنه قد أثبت بيمنه أنه وكيل للمحيل، وله أن يعزل نفسه عن الوكالة، فإذا أخذ حقه من المحيل.. فهل للمحيل أن يرجع على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أقر: أنه لا شيء له في ذمته، بل ذلك للمحتال.
والثاني: له أن يرجع عليه؛ لأن المحتال إن كان صادقا.. فإن الذي في ذمة المحال عليه للمحيل، وإن كان المحتال كاذبا.. فقد استحق المحيل على المحتال ما أخذه منه ظلما، وللمحتال حق على المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه.
فإذا قلنا: يرجع عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يرجع عليه بأقل الأمرين مما أخذه منه المحتال، أو الدين الذي على المحال عليه؛ لأنه إن أعطى المحتال أكثر من حقه.. لم يستحق الرجوع على المحال عليه بأكثر مما عنده، وإن كان أعطى المحتال أقل من حقه.. فهو يقر أن جميع ما على المحال عليه للمحتال، وإنما يرجع من ماله بالقدر الذي أخذ منه، وما زاد عليه يقر به للمحتال.
وإن قلنا: القول قول المحيل، فحلف.. برئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه، إما بحكم الحوالة، أو الوكالة، فإذا أخذ منه المال.. أمسكه بحقه؛ لأن المحيل يقول: هو له بحق الحوالة. والمحتال يقول: هو للمحيل، ولي عليه مثله. وهو غير قادر على حقه من جهة المحيل، فكان له أخذه.(6/298)
[مسألة: تصديق المحال يوجب دفع المال]
] : إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم، فجاء خالد إلى عمرو، وقال: قد أحالني زيد بالألف التي عليك له، فإن صدقه.. وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد: فإن صدقه.. فلا كلام، وإن كذبه.. كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. رجع زيد بالألف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشيء؛ لأنه إن كان قد قبض حقه من عمرو.. فقد استوفاه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه بحقه؛ لأنهما متصادقان على الحوالة.
وإن كذب عمرو خالدا، ولا بينة.. فالقول قول عمرو مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشيء؛ لأنه يقر أن ذمته قد برئت من حقه، ثم ينظر في زيد: فإن كان كذب خالدا.. كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يبرأ عمرو من دين زيد؛ لأنه قد أقر بذلك.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه.. فإن الحوالة تثبت بتصادق المحيل والمحتال.
[فرع: الحوالة على غائب]
] : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فطالبه بها، فقال من عليه الدين: قد أحلت بها علي فلانا الغائب، وأنكر المحيل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإن أقام من عليه الدين بينة بالحوالة.. قال ابن الصباغ: سمعت البينة لإسقاط حق المحيل عنه، ولا يثبت بها الحق للغائب؛ لأن الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب، وادعى فإنما يدعي على المحال عليه دون المحيل، وهو مقر له بذلك، فلا يحتاج إلى إقامة البينة.
ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه..(6/299)
فالقول قوله مع يمينه، وإن أقام المدعي بينة.. ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، فإن شهد للمحتال ابناه.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، وإن شهد له ابنا المحال عليه، أو أبناء المحيل.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما ... وبالله التوفيق(6/300)
[كتاب الضمان](6/301)
كتاب الضمان الأصل في جواز الضمان: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] .
قال ابن عباس: (الزعيم: الكفيل) .
وأما السنة: فروى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم فتح مكة، فقال: " ألا إن(6/303)
الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» و (الزعيم) : الضمين، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن.. لم يجعله غارما.
وروى قبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة إلا لثلاثة " فذكر: " رجلا تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك» . فأباح له الصدقة حتى يؤدي، فدل على: أن الحمالة قد لزمته.
وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وإن اختلفوا في فروع منه.
إذا ثبت هذا: فإنه يقال: زعيم، وضمين، وحميل، وكفيل، وقبيل بمعنى واحد.
[مسألة: ضمان دين الميت]
] : يصح ضمان الدين عن الميت، سواء خلف وفاء لدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.(6/304)
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء لماله، أو بضمان ضامن) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالمتوفى وعليه دين، فيقول " هل خلف لدينه قضاء؟ " - وروي: " وفاء " - فإن قيل له: لم يخلف وفاء.. قال للمسلمين: " صلوا عليه "، فلما فتح الله عليه الفتوح.. قال: " من خلف مالا.. فلورثته، ومن خلف دينا.. فعلي قضاؤه» . فضمن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء.
«وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مات منا رجل، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا له: صل عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ "، فقلنا: نعم، ديناران.. فقال: صلوا على صاحبكم "، وانصرف، فتحملها أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وقال: هما علي يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم، فصلى عليه» .(6/305)
وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحضرت جنازة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ " فقالوا: درهمان، فقال " صلوا على صاحبكم " فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا لهما ضامن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك "، فصلى عليه» .
فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز الضمان عن الميت، ولم يسأل: هل خلف وفاء، أم لا؟ ولأنه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين، ولم يخلف وفاء، بدليل حديث أبي هريرة، وإنما كان امتناعه في أول الإسلام؛ لأن صلاته رحمة، والدين يحجب عن ذلك، بدليل ما روي «عن أنس: أنه قال: من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين.. فليفعل، فإني شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: " أليس عليه دين؟ "، فقالوا: بلى، فقال: " ما تنفعكم صلاتي عليه، وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم.. قمت، فصليت عليه، وكانت صلاتي تنفعه» ، ولأن كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإذا لم يكن له وفاء كالحي.(6/306)
[فرع: ألفاظ الضمان]
] : قال الطبري: لو قال: تكفلت لك بما لك على فلان.. صح، وإن قال: أنا به قبيل.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن القبيل بمعنى: قابل، كالسميع بمعنى: سامع، وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله، فلم يصح، وإن قال: إلي دين فلان.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه يحتمل قوله: إلي، بمعنى: أزن عنه، ويحتمل: مرجعه إلي لحق استحقه.
ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي عليه لك عندي.. لم يكن صريحا في الضمان، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كلمة (عندي) تستعمل في غير مضمون، كقولهم: الوزير عند الأمير.
[مسألة: أهلية الضمان]
] : ويصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبي، والمجنون، والسفيه: فلا يصح ضمان واحد منهم؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منهم، كالبيع.
فقولنا: (بعقد) احتراز من إيجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة قريبه، ومن الزكاة.
وأما المحجور عليه للإفلاس: فيصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال في الذمة في العقد، فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته.
ويصح الضمان من المرأة الجائزة التصرف.
وقال مالك: (لا يصح، إلا أن يكون بإذن زوجها) .
دليلنا: أن كل من لزمه الثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.. صح ضمانه، كالرجل.(6/307)
[فرع: الضمان بغير الكلام]
] : ولا يصح الضمان من المبرسم الذي لا يعقل؛ لأنه لا حكم لكلامه، فأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة أو كتابة معقولة.. لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة، وكتابة معقولة ... صح ضمانه؛ لأنه حصل مع الكتابة إشارة مفهومة أنه قصد بها الضمان، وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان.. صح، وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان.. قال ابن الصباغ: لم يصح الضمان؛ لأن الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة القلم، أو حكاية الخط، فلم يلزمه الضمان بمجردها.
[مسألة: ضمان العبد]
] : وإن ضمن العبد دينا لغير سيده، فإن كان غير مأذون له في التجارة.. نظرت: فإن كان بغير إذن سيده.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه مكلف، له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد، ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال.
فعلى هذا: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالمهر.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (بعقد) احتراز من الإقرار؛ لأنه إخبار، ومن الجناية على غير سيده.
وإن ضمن بإذن السيد.. صح؛ لأن المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه، فإن أذن له أن يؤديه من كسبه.. قضاه منه، وإن أطلق الإذن.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقضيه من كسبه، كما لو أذن له سيده في النكاح.. فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.(6/308)
والثاني: لا يقضيان من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق؛ لأن السيد إنما أذن في الضمان دون القضاء.. فتعلق ذلك بذمة العبد؛ لأنها محل الضمان، ويفارق المهر النفقة، فإنهما يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، فكان ما في مقابلتهما معجلا.
وحكى أبو علي السنجي وجها آخر: أنه يتعلق برقبته، وليس بشيء.
وإن كان العبد مأذونا له في التجارة، فلا يخلو: إما أن يضمن بإذن السيد أو بغير إذنه.
فإن كان ضمن بغير إذنه.. نظرت:
فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدي من هذا المال.. لم يصح الضمان؛ لأن السيد إنما أذن له في التجارة فيما ينمي المال، لا فيما يتلفه.
وإن ضمن له مطلقا.. فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون.
فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. فإنه لا يجوز له أن يقضي مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق - وإن ضمن بإذن السيد.. صح الضمان، فإن كان إذن السيد بالضمان مطلقا، فمن أين يقضي العبد دين الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: من كسبه، أو مما في يده للتجارة.
والثاني: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وإن أذن له السيد بالضمان في المال الذي في يده فقال: ضمنت لك حقك الذي لك على فلان حتى أؤدي من المال في يدي.. صح الضمان، ولزمه أن يؤدي من المال الذي في يده للتجارة؛ لأن المنع منه لأجل السيد، وقد أذن، فجاز.
فأما إذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال.. لم يصح الضمان، والفرق بينهما: أن العبد ضمن الحق في ذمته. وإنما علق الأداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وإنما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر: ضمنت لك دينك على فلان، وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فإن كان على المأذون له دين يستغرق ما بيده، ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في(6/309)
يده من مال التجارة، أو قلنا: يلزمه القضاء منه على أحد الوجهين.. فهل يشارك المضمون له الغرماء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشاركهم؛ لأن المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، إما بصريح القول، أو من جهة الحكم.
والثاني: لا يشاركهم؛ لأن حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده، فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، ألا ترى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء.. لم يكن له ذلك؟
[فرع: الضمان عن العبد]
] : وإن كان في ذمة العبد دين، فضمن عنه ضامن.. صح الضمان؛ لأن الدين الذي في ذمته لازم، وإنما لا يطالب به لعجزه في حال رقه، فصح الضمان عنه، كالدين على المعسر.
قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة، فضمنه عنه سيده.. صح ضمانه، كالأجنبي.
[فرع: ضمان المكاتب]
] : وأما إذا ضمن المكاتب دينا على غيره، فإن كان بغير إذن السيد.. فهل يصح؟ فيه وجهان، كما قلنا في العبد القن.
فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق.
وإن ضمن بإذن سيده، فإن قلنا: يجوز للمكاتب أن يهب شيئا من ماله بإذن سيده.. صار كالعبد المأذون له إذا ضمن بإذن سيده على ما مضى، وإن قلنا: لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده.. فالذي يقتضي المذهب: أن يصح الضمان، ويتبع به إذا عتق، ولا يقضي من المال الذي بيده قبل أداء الكتابة.(6/310)
[مسألة: لا يشترط رضا المضمون عنه]
] : يصح الضمان من غير رضا المضمون عنه؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والميت لا يمكن رضاه، ولأنه لما جاز له أن يقضي الدين بغير إذنه.. جاز أن يضمن عنه الدين بغير إذنه.
وأما المضمون له: فهل يعتبر رضاه، فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يعتبر رضاه. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته: اضمن عني دينا لفلان الغائب، فضمن عنه بغير إذن المضمون له، وإن لم يسم الدين استحسانا؛ لأنه إثبات مال لآدمي، فلم يصح إلا برضاه، أو من ينوب عنه، كالبيع له، والشراء.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح من غير رضاه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا الدين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يعتبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا المضمون له، ولأن الضمان وثيقة بالحق، فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه.. صحت الشهادة، وإن لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن لعين المضمون له والمضمون عنه، فهل يفتقر إلى ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يفتقر إلى معرفة عين واحد منهما، وإنما يضمن بالاسم والنسب، ووجهه: أن عليا وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ضمنا، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لبيَّنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الواجب أداء الحق، فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك.
والثاني: أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما؛ لأن معاملته مع المضمون له،(6/311)
فلا بد له من معرفته؛ ليعلم هل هو سهل الاقتضاء، أم شديد الاقتضاء؟ وقد تبرع عن المضمون عنه، فلا بد من معرفته بعينه؛ ليعلم هل هو أهل أن يسدى إليه الجميل، أم لا؟
والثالث: أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له؛ لأن معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه.
قال المحاملي: فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فإن قبل.. لزم الضمان، وإن رد.. بطل، وإن رجع الضامن قبل قبول المضمون له.. صح رجوعه.
[مسألة: البيع بشرط الضمين]
] : وإن باع رجل من غيره عبدا بثمن في ذمته، بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين.. صح البيع والشرط؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فإن لم يضمن له الضمين المعين.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشتري بالشرط.. ثبت للبائع الخيار. وإن أتاه المشتري بضمين غير الضمين المعين.. لم يلزم البائع قبوله، بل يثبت له الخيار وإن كان الذي جاءه به أملأ من المعين؛ لأنه قد يكون له غرض في ضمان المعين.
وإن شرط في البيع أن يضمن له بالثمن ثقة.. لم يصح الشرط، وبطل البيع؛ لأن الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا.. بطل البيع.(6/312)
[فرع: البيع بشرط الشهود]
] : وإن باعه سلعة بثمن، بشرط أن يُشهد له شاهدين.. جاز من غير تعيين، وكان عليه أن يُشهد له شاهدين عدلين؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له.. ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وإن باعه بشرط أن يُشهد له شاهدين معينين، فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين.. فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم الآخر قبول ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، كما قلنا في الضمين المعين.
والثاني: يلزم قبول ذلك، ولا خيار له؛ لأنه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة.
ولهذا قلنا: لا بد في شرط الضمين من تعيينه، وفي الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وإن كانا غير معينين، والذي يقتضي المذهب: أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين، ويثبت لكل واحد منهما الخيار إذا شرط ذلك على الآخر، ولم يف الآخر له بذلك؛ لأن للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه الثمن، فيرجع به، وللمشتري غرض في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع، فيرجع بالثمن على البائع.
[مسألة: فيما له مصير إلى اللزوم]
] : قال المزني: وكذلك كل ضامن في دين، وكفالة بدين، وأجرة ... إلى آخر الفصل.
قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب:
أحدها: حق لازم مستقر، كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والأجرة في الذمة بعد انقضاء الإجارة، ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول، وعوض(6/313)
القرض، وقيم المتلفات، فهذا يصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر.
الضرب الثاني: دين لازم غير مستقر، كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع، والأجرة قبل انقضاء الإجارة، ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (لا يصح ضمان المسلم فيه؛ لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه، فهو كالحوالة) .
ودليلنا: أنه دين لازم، فصح ضمانه، كالمهر بعد الدخول.
الضرب الثالث: دين ليس بلازم، ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة، فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه، بأن يعجز نفسه، فلا معنى لضمانه، ولأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، فإذا لم يلزم الأصل.. لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما.
وإن كان على المكاتب دين لأجنبي.. صح ضمانه؛ لأنه دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من جهة غير جهة الكتابة.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه يجبر على أدائه.
والثاني: لا يصح ضمانه؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده. وأصلهما الوجهان، هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته.. صح ضمانه. وإن قلنا: لا يستدام ثبوته.. لم يصح ضمانه.
الضرب الرابع: دين غير لازم، إلا أنه يئول إلى اللزوم، وهو مال الجعالة قبل العمل، بأن يقول: من رد عبدي.. فله دينار، فإذا ضمن عنه غيره ذلك قبل رد العبد.. هل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] . فضمن المنادي مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.
والثاني: لا يصح؛ لأنه دين غير لازم، فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة.(6/314)
ومن قال بهذا.. قال: لم يضمن المنادي، وإنما أخبر عن الملك: أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: (وأنا به زعيم) .
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل.
ومنهم من قال: يصح ضمانه، وجها واحدا؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولأن الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ، بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.
[فرع: ضمان مال السبق والرمي]
] : وأما مال السبق والرمي بعد العمل: فيصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر، فهو كالمهر بعد الدخول، وأما قبل العمل: فإن كان المخرج للسبق أحدهما، أو أجنبيا.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان، كمال الجعالة، وإن كان مال السبق منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إن ذلك كالإجارة.. صح ضمانه كضمان الأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة.. كان في ضمان المال عنهما، أو عن أحدهما وجهان كمال الجعالة.
[فرع: ضمان أرش الجناية]
] : وأما أرش الجناية والدية: فإن كان دراهم، أو دنانير، مثل: أن جنى على عبد، أو كانت الإبل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا: يجب ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم.. صح ضمانها، فإن كان الواجب الإبل.. فهل يصح ضمانها، فيه وجهان بناء على القولين في جواز بيعها.(6/315)
[فرع: ضمان نفقة الزوجة]
] : وأما ضمان نفقة الزوجة: فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت.. صح ضمانها؛ لأنه دين لازم مستقر، فهي كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذي هو فيه.. صح أيضا؛ لأنه دين لازم، فصح ضمانه وإن كان غير مستقر، كضمان المهر قبل الدخول.
وإن ضمن عنه نفقة مدة مستقبلة معلومة.. فهل يصح؟ فيه قولان؛ بناء على أن النفقة تجب بالعقد، أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع:
فقال في القديم: (تجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم) .
فعلى هذا: يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر، وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا؛ لأن نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: (لا تجب النفقة إلا بالعقد، والتمكين من الاستمتاع) .
فعلى هذا: لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.
[مسألة: لا يضمن مجهول]
] : ولا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمن لك ما تداين فلانا. وبه قال الليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (تصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب) .
قال أبو العباس - وهو قول الشافعي في القديم -: (يصح ضمان نفقة الزوجة(6/316)
مدة مستقبلة) .
وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول. وهذه طريقة الخراسانيين: أنها على قولين.
قال الشيخ أبو حامد: وأبى سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح ضمانهما. قولا واحدا. وما قاله الشافعي في القديم: (يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة) .. فإنما أجازه؛ لأن النفقة تجب على هذا بالعقد. فقد ضمن ما وجب.
ولا يصح منها إلا ضمان شيء مقدر، وليس بمجهول.
ودليلنا - على أنه لا يصح ضمانهما -: أنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم. فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته، كالثمن في البيع، والمهر في النكاح.
فقولنا: (في الذمة) احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا.
وقولنا: (بعقد) احتراز ممن أتلف على غيره مالا، أو وطئ امرأة بعقد فاسد. فإن ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره.
[فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا]
قال في " الإبانة " [ق \ 283] : فلو جهل مقدار الدين، إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة، وقلنا: لا يصح ضمان المجهول.. فهل يصح هذا؟ فيه قولان:
أحدهما - قال، وهو الأشهر -: يصح؛ لأن جملة ما ضمن معلومة.
والثاني - وهو الأقيس -: أنه لا يصح؛ لأن مقدار الحق مجهول.
[فرع: ضمان ما يعطي الوكيل]
] : وأما إذا قال الرجل لغيره: ضمنت لك ما تعطي وكيلي، وما يأخذ منك. فإنه يلزمه ذلك؛ لأن ذلك لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.(6/317)
[مسألة: تعليق الضمان]
] : ولا يصح تعليق الضمان على شرط، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد ضمنت لك دينك على فلان.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283] : أن أبا حنيفة قال: (يصح) .
دليلنا: أنه إيجاب مال لآدمي بعقد، فلم يصح تعليقه على شرط، كالبيع.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (يعقد) احتراز من وجوب نفقة القريب والزوجة، فإنه متعلق بشروط.
[فرع: ضمان متاع غير موصوف]
] : إذا قال رجل لغيره في البحر عند تموجه، وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، فألقاه.. وجب على المستدعي ضمانه.
وقال أبو ثور: (لا يجب) ؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
دليلنا: أنه استدعاء إتلاف ملك بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم علي.
وإن قال رجل لغيره: بع عبدك من زيد بألف، وعلي لك خمسمائة. فباعه، قال الصيدلاني: وقاله في العقد.. فهل يصلح البيع؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: يصح البيع، ويستحق البائع على المشتري خمسمائة، وعلى المستدعي للبيع خمسمائة؛ لأنه مال بذله في مقابله إزالة ملكه، فصح، كما لو قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه. أو طلق امرأتك، وعلي لك ألف.
والثاني: لا يصح البيع، ولا يستحق على الباذل شيء؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط أن يكون بعضه على غيره.. لم يصح.(6/318)
قال صاحب " الفروع " فأما إذا قال: بع عبدك من فلان بألف، على أن أزن منه خمسمائة.. جاز، وينظر: فإن ضمن قبل البيع.. لم يلزمه؛ لأنه ضمان قبل الوجوب، فإن ضمنه بعده.. لزمه.
[مسألة: صحة ضمان الدين المعجل بمؤجل]
وإن كان لرجل على غيره دين حال، فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم.. صح الضمان، وكان الدين معجلا على المضمون عنه، مؤجلا على الضامن؛ لأن الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين.. كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر، وعلى الضامن إلى شهرين.
فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل، فكيف يتأجل هذا على الضامن؟
فالجواب: أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وإنما يثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته.
وإن كان الدين على رجل مؤجلا، فضمنه عنه ضامن حالا كان، أو مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين، فضمنه عنه ضامن إلى شهر.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المحاملي، وابن الصباغ:
أحدها: يصح الضمان، ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه؛ لأنه ضمن له دينا بعقد، فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.
والثاني: لا يصح الضمان؛ لأن الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه.
والثالث: يصح الضمان، ولا يلزمه التعجيل، كأصله.
إذا ثبت هذا: فضمن الحال مؤجلا، فمات الضامن.. حل عليه الدين، ووجب دفع ذلك من تركته، ولم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الأجل.(6/319)
وقال زفر: يرجعون عليه في الحال.
دليلنا: أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه، وكان الدين مؤجلا عليهما.. حل الدين في تركة المضمون عنه، فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن.. لم يطالبه قبل حلول الأجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه.. كان له ذلك في الحال.
[مسألة: لا خيار في الضمان]
لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه.. أبطله.
وقال أبو حنيفة: (يصح الضمان، ويبطل الشرط) .
دليلنا: أن الخيار يراد لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون من جهة المال، لا من جهة الثواب، ولهذا يقال: الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
وإذا ثبت: أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.. قلنا: عقد لا يدخله خيار الشرط، فأبطله، كالصرف والسلم.
[مسألة: الضمان بشرط فاسد]
ويبطل الضمان بالشروط الفاسدة؛ لأنه عقد يبطل بجهالة المال، فبطل بالشروط الفاسدة، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية.
فإن قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، على أن يضمن لي فلان بها عليك، على أنه بالخيار.. فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في العبد بذلك؟ فيه قولان، كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد مضى توجيههما في الرهن.(6/320)
[مسألة: براءة ذمة المضمون عنه بالضمان]
وإذا ضمن عن غيره دينا.. تعلق الدين بذمة الضامن، ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود، وأبو ثور: (يبرأ المضمون عنه بالضمان، ويتحول الحق إلى ذمة الضامن) . واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم» . وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» .
ودليلنا: ما «روى جابر في الرجل الذي ضمن عنه أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي أبا قتادة بعد ذلك بيوم، فقال له: " ما فعل الديناران؟ "، فقال: إنما مات بالأمس. ثم جاءه أبو قتادة من الغد، وقال: قد قضيتهما يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الآن بردت عليه جلده» فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان.. لكان قد برد جلده بالضمان، ولأن الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة. ويسقط عن الذمة، كالرهن والشهادة.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «والميت منه بريء» يريد به: من الرجوع في تركته، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» أراد به: لامتناعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه لأجل ما عليه من الدين. فلما ضمنهما عنه.. فك رهانه بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن صلاته رحمة.
إذا ثبت هذا: فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون منه.. قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يطالب الضامن، إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه) .
دليلنا: أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.(6/321)
[فرع: يصح ضمان الضامن]
فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي.. صح الضمان؛ لأنه دين لازم عليه، فصح كالضمان الأول، وإن ضمن عن الضامن المضمون عنه.. لم يصح ضمانه؛ لأن الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان؛ لأن الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولأن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، فلا يجوز أن ينقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا.
[مسألة: الضمان من غير إذن]
] : إذا ضمن عن غيره دينا بغير إذنه.. لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته؛ لأنه لم يدخل فيه بإذنه، فلم يلزمه تخليصه. وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق.. كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن.. فهل للضامن أن يطالب المضمون عنه؟ قال الشيخ أبو حامد: نظرت:
فإن قال: أعطني المال الذي ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك.. لم يكن له ذلك لأنه لم يغرم.
وإن قال: خلصني من حق المضمون له، وفك ذمتي من حقه كما أوقعتني فيه، فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره، فكان له مطالبته بتخليصه، كما لو استعار عبدا ليرهنه، فرهنه.. فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين، وفك العبد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه إذا لم يطالبه المضمون له.. فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق العبد المرهون؛ لأن على المولى ضررا في كون العبد مرهونا.(6/322)
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان؟ على قولين، ولهذا خمس فوائد:
إحداهن: هذه المسألة المتقدمة.
الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمانة عوضا عما سيغرم.. فهل يملكه الضامن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يملكه؛ لأن الرجوع يتعلق بسببي الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول.
فعلى هذا: إن قضى الحق.. استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرئ من الدين قبل القضاء.. وجب رد ما أخذ.
والوجه الثاني: أنه لا يملك ما قبض؛ لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني، فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيء عن بيع لم يعقد.
فعلى هذا: يجب رده، وإن تلف.. ضمنه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فضمنه، كالمقبوض بسوم البيع.
المسألة الثالثة: لو أبرأ الضامن المضمون عما سيغرم.. هل يصح؟ على الوجهين.
الرابعة: لو ضمن الضامن من ضامن عن المضمون عنه.. هل يصح؟ فيه وجهان.
وعلى قياس هذا: إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه.. هل يصح؟ على الوجهين.(6/323)
الخامسة: لو ضمن في الابتداء، بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن.. هل يصح؟ على الوجهين.
وعلى قياس هذا: إذا ضمن عنه بإذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما.. هل يصح؟ على الوجهين.
[مسألة: براءة الضامن إذا قبض المضمون]
] : إذا قبض المضمون له الحق من المضمون عنه.. برئ الضامن؛ لأن الضمان وثيقة بالحق. فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن. وإن قبض الحق من الضامن.. برئ المضمون عنه؛ لأنه قبض الحق من الوثيقة، فبرئ من عليه الحق، كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن.
وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه.. برئ المضمون عنه، وبرئ الضامن؛ لأن المضمون عنه أصل، والضامن فرع، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع، وإن أبرأ الضامن.. برئ الضامن، ولم يبرأ المضمون عنه، كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن.. فإن الراهن لا يبرأ.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وإن قال المضمون له للضامن: وهبت الحق منك، أو تصدقت به عليك.. كان ذلك إبراء منه للضامن.
وقال أبو حنيفة: (يكون كما لو استوفى منه الحق) .
دليلنا: أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن، ولم يغرم شيئا.
[فرع: ضمان الضامن جائز وإن تسلسل]
] : وإن ضمن عن الضامن ضامن، ثم ضمن عن الضامن الثاني ثالث، ثم رابع عن الثالث.. صح ذلك، فإذا قبض المضمون له حقه من أحدهم.. برئ الجميع منهم؛ لأنه قد استوفى حقه، وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه أولا.. برئوا جميعا، وإن(6/324)
أبرأ أحد الضمناء.. برئ، وبرئ فرعه، وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
[مسألة: قضاء الضامن الحق]
] : وإذا قضى الضامن الحق.. فهل يرجع على المضمون عنه؟ فيه أربع مسائل:
إحداهن: إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.. فإنه يرجع عليه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن قال: اضمن عني هذا الدين، أو انقد عني.. رجع عليه وإن قال: اضمن هذا الدين، أو انقده ولم يقل عني: لم يرجع عليه، إلا أن يكون بينهما خلطة، مثل: أن يكون يودع أحدهما الآخر. أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة منه، أو زوجية، فالاستحسان: أن يرجع عليه) .
دليلنا: أنه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال: اضمن عني، أو كان بينهما قرابة.
الثانية: أن يضمن عنه بغير أمره، ويقضي عنه بغير إذنه، فإنه لا يرجع عليه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (له أن يرجع) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي على من عليه دين) . وقد ضمن علي وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إذنهما، فصلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا ضمن بغير إذنه.. لما صلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي قتادة: «الآن بردت عليه جلده» . فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع.. لم يبرد عليه جلده.(6/325)
ولأنه ضمن عنه بغير إذنه، وقضى عنه بغير أمره، فلم يرجع عليه، كما لو علف دوابه، أو أطعم عبيده.
الثالثة: إذا ضمن بغير إذنه، وقضى بإذنه.. فهل يرجع عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه لزمه بغير إذنه، وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أدى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو ضمن عنه بإذنه. وأصل هذين الوجهين: من قال لغيره: اقض عني ديني، وقضى عنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه وجهان.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والصيمري: إلا أن الأصح هاهنا: أن يرجع، والأصح في الأولى: أن لا يرجع، والفرق بينهما: أن في الضمان وجب في ذمته بغير إذنه، وفي القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء بإذنه.
وإن قال: اقض الدين، ولم يقل عني، فإن قلنا في التي قبلها: لا يرجع عليه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليه. وإن قلنا هناك: يرجع.. فهاهنا فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يرجع.
وإن قال: اقض عني ديني لترجع علي، فقضى عنه.. رجع عليه، وجها واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» .
وإن قال: اقض عن فلان دينه، فقضى عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : لم يرجع عليه، وجها واحدا؛ لأنه لا غرض له في ذلك.
المسألة الرابعة: إذا ضمن عنه بأمره، وقضى بغير إذنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه دين لزمه بإذنه، فرجع عليه، كما لو ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه أسقط الدين عنه بغير إذنه، فلم يرجع عليه، كما لو ضمن بغير إذنه، وقضى بغير إذنه.(6/326)
والثالث - وهو قول أبي إسحاق -: إن كان الضامن مضطرا إلى القضاء، مثل: أن يطالبه المضمون له، والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر. فقضى المضمون له.. رجع الضامن؛ لأنه مضطر إلى القضاء، وإن كان غير مضطر إلى القضاء، مثل: أن كان المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى.. لم يرجع؛ لأنه متطوع بالأداء.
وكل موضع يثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين، فإنه يرجع على المضمون عنه في المحال؛ لأن الحوالة كالقبض، وإن أحاله على من لا حق له عليه، وقبل المحال عليه، وقلنا: يصح.. برئ الضامن والمضمون عنه، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشيء في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئا، فإن قبض المحتال من المحال عليه، ورجع الحال عليه على الضامن.. رجع الضامن على المضمون عنه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة.. لم يرجع المحال عليه على المحيل، وهو الضامن بشيء، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم واحد منهما شيئا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه، ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن، ثم وهبه منه.. فهل لهما الرجوع؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول.
[فرع: القبض من أحد المدينين المتضامنين]
وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه.. فلمن له الدين أن يطالب بالألف من شاء منهما جميعا، فإن قبض من أحدهما ألفا.. برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.
وإن قبض من أحدهما خمسمائة، فإن قال الدافع: خذها عن التي لك علي أصلا.. لم يرجع الدافع على صاحبه بشيء، وإن قال: خذها عن التي ضمنت.. برئا عنها، وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى، وإن دفعها إليه وأطلق، فاختلف(6/327)
الدافع والقابض، فقال الدافع: دفعتها وعينتها عن التي ضمنتها، أو نويتها عنها، وقال المضمون له: بل عينتها، أو نويتها عن التي هي أصل عليك.. فالقول قول الدافع مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله ونيته، وإن اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما، ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصرف إليهما نصفين.
والثاني: للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء، وقد مضى دليل الوجهين في الرهن.
وإن أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.. ففي هذه المسائل: القول قول المضمون له، فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه، أو نيته.
وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينصرف إليهما.
والثاني: يعينه المضمون له فيما شاء.
[فرع: دفع الضامن الصحاح بدل المكسرة]
إذا ضمن عن غيره ألف درهم مكسرة، فدفع إليه ألف درهم صحاحا في موضع ثبت له الرجوع على المضمون عنه.. فإنه لا يرجع عليه بالصحاح؛ لأنه تطوع بتسليمها، وإنما يرجع بالمكسرة.
وإن ضمن عنه ألف درهم صحاحا، فدفع ألفا مكسرة.. لم يرجع إلا بالمكسرة؛ لأنه لم يغرم غيرها.
وإن صالح الضامن عن الألف على ثوب.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمة الثوب، أو الألف؛ لأنه إن كان قيمة الثوب أقل.. لم يرجع بما زاد عليه؛ لأنه لم يغرم غير ذلك. وإن كانت قيمة الثوب أكثر من الألف.. لم يرجع بما زاد على الألف؛ لأنه متطوع بالزيادة عليه.
والوجه الثاني - حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والشيخ أبو نصرـ: أنه(6/328)
يرجع بالألف بكل حال، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو اشترى شقصا بألف، ثم أعطاه عن الألف ثوبا يساوي خمسمائة.. فإن المشتري يرجع على الشفيع بألف، وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الألف على خمسمائة، وقلنا يصح.. فإن الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الألف، كما لو أخذ بالألف ثوبا يساوي خمسمائة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : ولا يرجع الضامن على المضمون عنه إلا بخمسمائة، وجها واحدا؛ لأنه لم يغرم غيرها.
[فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم]
] : وإن كان على مسلم لذمي ألف درهم، فضمن عنه ذمي، ثم إن الضامن صالح المضمون له عن الدين الذي ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، ولا يبرأ واحد منهما عن حق المضمون له؛ لأنه متصل بحق المسلم.
والثاني: يصح؛ لأن المعاملة بين ذميين.
فإذا قلنا بهذا: فبماذا يرجع الضامن على المسلم؟
إن قلنا: إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الأمرين.. لم يرجع هاهنا بشيء، وإن قلنا: يرجع عليه بالألف.. رجع هاهنا بها أيضا.
[فرع: تعجيل الضامن الدفع]
] : وإن ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه، ثم إن الضامن عجل الدين للمضمون له قبل أجله.. لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الأجل؛ لأنه تطوع بالتعجيل.
وإن ضمن رجل صداق امرأة، فأداه إليها الضامن، فارتدت قبل الدخول.. سقط مهرها.(6/329)
قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 286] : وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج، ثم ترده إلى الضامن.
[فرع: إنكار المضمون له القبض يقبل مع يمينه]
] : إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له، وأنكر المضمون له ذلك، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. كان له أن يطالب أيهما شاء؛ لأن حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الألف من المضمون عنه.. برئت ذمته، وذمة الضامن، وهل للضامن أن يرجع بالألف الأولى على المضمون عنه؟ لا يخلو: إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون عنه، أو بمحضره:
فإن دفع بغير محضره، فلا يخلو: إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد، فإن لم يشهد على الدفع، نظرت في المضمون عنه:
فإن صدق الضامن أنه دفع.. فهل له الرجوع عليه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول علي بن أبي هريرة -: أنه يرجع عليه؛ لأنه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الألف، فكان له الرجوع عليه، كما لو كان دفع بحضرته.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يقول: وإن دفعت، فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه؛ لأنك لم تسقط بذلك عني المطالبة، فلم تستحق علي بذلك رجوعا، ويخالف إذا كان بحضرته، فإن المفرط هو المضمون عنه.
وإن كذبه المضمون عنه.. فهل عليه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه كان له الرجوع.. كان على المضمون عنه أن يحلف: أنه ما يعلم أنه دفع.(6/330)
وإن قلنا: لو صدقه لا رجوع له عليه.. فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن، فرجع عليه.. برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا صدقه في دفع الأولى؟
إن قولنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن للضامن أن يرجع بالأولى على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه.. رجع الضامن هاهنا بالألف الأولى على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية؛ لأنه يعترف أنه وزنها ظلما. فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن قلنا بالمشهور: إنه لا يرجع عليه بشيء في الأولى.. فهل يرجع هاهنا بشيء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء، أما الأولى: فقد مضى الدليل عليها، وأما الثانية: فلا يرجع بها؛ لأنه يعترف أن المضمون له ظلمه بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
والثاني: يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا، فكان له الرجوع عليه، كما لو دفع بالبينة.
فإذا قلنا بهذا: فبأيتهما يرجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه يرجع عليه بالثانية؛ لأن المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر.
والثاني: يرجع بالأولى؛ لأن براءة الذمة حصلت بها في الباطن.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يرجع بأقلهما؛ لأنه إن كان قد ادعى أنه دفع في المرة الأولى ثوبا قيمته دون الألف، وفي الثانية دفع الألف.. فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له، فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وإن كان يدعي أنه دفع في المرة الأولى ألف درهم، وفي المرة الثانية ثوبا قيمته دون الألف.. لم يرجع إلا بقيمة الثوب؛ لأنه لو لم يدفعه.. لم يستحق الرجوع بالأولى، فلم يستحق إلا قيمة الثوب.
فإن كان الضامن حين دفع الأولى بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. حكم بها على المضمون له، ولم تقبل يمينه، ويكون(6/331)
للضامن أن يرجع على المضمون عنه، وإن كانت البينة غير قائمة، فصدقه المضمون عنه أنه قد دفع، وأشهد.. نظرت:
فإن كان قد أشهد شاهدين عدلين، إلا أنهما غابا، أو ماتا، أو فسقا.. فإن المضمون له إذا حلف.. كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه.. كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالألف التي قد دفع عنه؛ لأنه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه، ولا صنع له في تعذر الشهادة، وإن رجع المضمون له على الضامن.. لم يرجع بالثانية؛ لأنه ظلمه بها، وإنما يرجع بالأولى؛ لما ذكرناه.
وإن أشهد شاهدين عبدين، أو كافرين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه؟ على الوجهين إذا صدقه على الدفع، ولم يشهد على ما مضى في الأولى من التفريع.
وإن أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان أنهما كانا فاسقين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يفرط في الإشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن.
فعلى هذا: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين، ثم ماتا.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه أشهد من لا تثبت الحقوق بشهادته، فأشبه العبدين.
وإن أشهد شاهدا واحدا عدلا، فإن كان موجودا.. حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين، وحكم بشهادتهما، وإن كان ميتا، أو غائبا، أو طرأ عليه الفسق.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا؛ لأنه دفع بحجة، وإنما عدمت، كالشاهدين.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها، فهو كما لو لم يُشهد.
وأما إذا دفع الضامن الألف الأولى بمحضر من المضمون عنه، فإن أشهد على(6/332)
الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. أقامها وحكم بها، وإن كانت غير قائمة.. فعلى ما مضى، وإن لم يشهد، فحلف المضمون له.. رجع على من شاء منهما، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم يشهد، وكان الدفع بغيبة المضمون عنه على ما مضى؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، فصار كما لو دفع في غيبة المضمون عنه.
والثاني - وهو المنصوص - (أنه يرجع عليه) ؛ لأن المفرط في ترك الإشهاد هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له، فأنكر ذلك المضمون له والمضمون عنه، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له، فإن لم يحلف.. ردت اليمين على الضامن، فإن حلف.. بنينا على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه:
فإن قلنا: إنه كالبينة.. برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له، وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه.
وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه.. فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع فإنه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما؛ لأنه قد أقر باستيفاء حقه، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشيء؛ لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع، فلم يقبل لأن الأصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه، فلم يقبل.
والثاني: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأن قبض المضمون له يثبت مرة بالبينة، ومرة بالإقرار، ولو ثبت القبض بالبينة.. لرجع عليه، فكذلك إذا ثبت بالإقرار.(6/333)
[مسألة: الضمان في مرض الموت]
] : إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا.. فإن ذلك معتبر من ثلث ماله؛ لأنه تبرع، فهو كما لو وهب لغيره مالا.
إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه، ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير، ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فإن طالب المضمون له بحقه في تركة الضامن، وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن نقول: يذهب بالضمان من التسعين شيء، ولكنه يرجع إليهم نصف شيء؛ لأن ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شيء، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شيء الباقية معهم تعدل شيئا كاملا، مثلي ما ذهب عنهم بالضمان، فاجبر التسعين بنصف الشيء الناقص عنها، ثم رده على الشيء الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شيء، الشيء ثلثاها، وهو ستون، فيأخذ المضمون له ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها؛ لأن الضمان بإذنه، ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة المضمون عنه، وتركته أقل من ذلك، فيقتسم المضمون له وورثة الضامن الخمسة والأربعين على قدر حقيهما، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، وقد بقي معهم مثلا ما خرج منهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل.. فهو بالخيار: إن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. رجع على ورثة المضمون عنه بجميع تركته، وهو خمسة وأربعون، ورجع من تركة الضامن بثلثها، وهو ثلاثون، وإن(6/334)
شاء.. أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه.
فإن كانت بحالها، إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير.. فالعمل فيه: أن يخرج من التسعين شيء بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شيء؛ لأن تركة المضمون عنه ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثي شيء، تعدل شيئا وثلث شيء، فإذا جبرت التسعين.. عدلت شيئين، الشيء: نصفها، وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن، ويرجع المضمون له، وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين؛ لاستواء حقيهما، فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر، فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون، ويسقط من دينه ثلاثون، فإن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. أخذ الستين كلها من تركة الضامن، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له.. أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، ويبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم.
فإذا خلف المضمون عنه ستين. فإن المضمون له لا ينقص من دينه شيء هاهنا، والعمل فيه على قياس ما مضى.
[مسألة: ادعى بيع عبد لحاضر وغائب وكلاهما ضامن]
إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب عبدا بألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وقبضاه، وكل واحد منهما ضامن ما على صاحبه، فإن أقر الحاضر بذلك.. لزمه أن يدفع إلى المدعي ألفا، فإذا قدم الغائب، فإن صدق الحاضر.. رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. سقط حق الحاضر. وإن أنكر الحاضر المدعي، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول الحاضر مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب، فادعى عليه البائع، فإن أنكره.. حلف له أيضا، ولا كلام،(6/335)
وإن أقر له بما ادعاه عليه.. لزم القادم الخمسمائة التي أقر أنه اشترى هو بها، وهل تلزمه الخمسمائة التي أقر أن شريكه اشترى بها، وضمن هو عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا تلزمه؛ لأنا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تلزم القادم؛ لأن اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما تسقط عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن.. لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه.. لزمه الثمن، ولزم الضامن، فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
وإن أقام المدعي بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه العبد بألف، وقبضاه، وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة.. فللمدعي أن يطالب الحاضر بجميع الألف؛ لأن البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟
نقل المزني: (أنه يرجع بالنصف على الغائب) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشيء. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه منكر لما شهدت عليه البينة، مقر أن المدعي ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه. ومن قال بهذا.. تأول ما نقله المزني تأويلات:
أحدها: يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعي فيما ادعاه، غير أن المدعي قال: وأنا أقيم البينة أيضا، فأقامها، فيرجع هاهنا؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة.
الثاني: أن يكون الحاضر لم يقر، ولم ينكر، بل سكت، فأقام عليه المدعي البيئة، فليس فيه تكذيب.
الثالث: أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يتعرض لشراء شريكه، فقامت عليه البينة.(6/336)
الرابع: أن يكون الحاضر أنكر شراءه، وشراء شريكه، وضمانهما، إلا أن الحاضر لما قامت عليه البينة، وأخذ منه المدعي الألف ظلما.. ثبت له على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعي من الحاضر خمسمائة ظلما، فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعي على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني، وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان؛ لأنه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الإشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا، وادعى عليه آخر بأنه له، وأنكر المشتري ذلك، وأقام المدعي بينة، وانتزعه من يده.. فإن له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: إن بإقراره أن المدعي ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": ينظر في الحاضر:
فإن تقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال لمن ادعى عليه. لم نبتع منك شيئا، ولا تستحق علينا شيئا، ثم قامت البينة بذلك.. فإنه لا يرجع على صاحبه بشيء؛ لأنه قد كذب البينة بما شهدت، وأن هذا المدعي ظالم.
قيل له: فإن قدم الغائب، واعترف بصدق المدعي.. فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه يقر له بما لا يدعيه.
وإن لم يتقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال: ما لك عندي شيء.. فإنه يرجع على صاحبه بخمسمائة؛ لأنه ضمن عنه بإذنه، ودفع عنه.
قلت: ولعل صاحب الوجه الأول لا يخالف تفصيل الشيخ أبي حامد في جواب الحاضر، وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه، كما ذكره.(6/337)
[مسألة: ضمان العهدة]
] : ويصح ضمان العهدة على المنصوص، وهو أن يشتري رجل عينا بثمن في ذمته، فيضمن رجل عن البائع الثمن إن خرج مستحقا.
وخرج أبو العباس ابن سريج قولا آخر: أنه لا يصح، وبه قال ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، ولأنه ضمان مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يستحق المبيع، أو بعضه؟ والصحيح أنه يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاث: الرهن، والشهادة، والضمان:
فالرهن لا يمكن؛ لأن البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد؛ لأن البائع قد يفلس، فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشتري به غير الضمان.
وأما قوله: (إنه ضمان ما لم يجب ضمان، وضمان مجهول) فغير صحيح؛ لأنه إن لم يكن المبيع مستحقا.. فلا ضمان أصلا، وإن كان مستحقا.. فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وإنما صح الضمان هاهنا مع جهالة ما يستحقه المشتري؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهدة.. كان ضامنا لكتاب الابتياع.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العرف قد صار في ضمان العهدة عبارة عن الدرك وضمان الثمن، فانصرف الإطلاق إليه.
فإذا قلنا: يصح ضمان العهدة.. صح بعد قبض الثمن، وجها واحدا؛ لأنه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع الثمن؟ فيه وجهان:(6/338)
أحدهما: يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان الحق قبل وجوبه، فلم يصح.
قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا.. فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال: ضمنت لك خلاص المبيع.. لم يصح؛ لأنه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقا.
قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في (الإقرار) : (ولو ضمن له عهدة دار اشتراها، أو خلاصها، فاستحقت.. رجع بالثمن على الضامن إن شاء، والخلاص: المال يسلم إليه) . فتأول أصحابنا ذلك تأولين:
أحدهما: أنه أراد: خلاصك منها؛ لأن خلاصه إذا كان متعلقا بها.. جاز إضافته إليها، كما يضاف المصدر إلى الفاعل، والمفعول به.
والثاني: أنه أراد: وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى: الواو. قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] [الصافات: 147] ، وقال: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] [الإنسان: 24] .
فأما ما يكتب في الوثائق: ضمن فلان بن فلان البائع لفلان بن فلان المشتري قيمة ما أحدث في المبيع من بناء أو غراس، وغير ذلك إذا خرج مستحقا.. قال أصحابنا: فإن هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول.
فإن قيد ذلك، بأن قال: من درهم إلى ألف.. لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح ضمان هذا مع العهدة) . بناء على أصله في ضمان ما لم يجب، وقد مضى ذكره.(6/339)
فإن ضمن خلاص المبيع، أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع.. نظرت:
فإن أفرد ذلك عن ضمان العهدة.. لم يبطل البيع، ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع، وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس.
وإن قرنه مع ضمان العهدة.. بطل ضمان خلاص المبيع، وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن شرط ذلك في البيع، بأن قال: يعني هذه الأرض بمائة دينار، بشرط أن يضمن لي فلان وخلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إن استحقت، فقال: بعتك، أو كان هذا الشرط في زمان الخيار.. فسد البيع؛ لأنه بيع بشرط فاسد.
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء فيه قول آخر: أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الأرض كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع. والأول أصح.
[فرع: استحقاق البيع يوجب ضمان العهدة]
] : إذا ضمن رجل لرجل العهدة، فاستحق جميع المبيع على المضمون له، وقد دفع الثمن إلى البائع.. فالمشتري بالخيار: إن شاء طالب البائع بالثمن، وإن شاء طالب به الضامن.
وإن خرج بعضه مستحقا.. بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشتري أن يطالب الضامن بثمن القدر الذي خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا يبطل البيع فيه، أو قلنا: لا يبطل، إلا أن المشتري اختار فسخ البيع فيه.. فهل للمشتري أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان:(6/340)
أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه ثبت له بسبب الاستحقاق.
والثاني: لا يرجع به عليه؛ لأن لم يضمن إلا ثمن ما استحق، وهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه؛ لئلا تفرق الصفقة، أو لفسخ المشتري.
وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، فرده.. فهل له أن يطالب الضامن بالثمن؟
قال أصحابنا: إن قال الضامن: ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع، وكل عيب تجده فيه.. فله أن يرجع بالثمن على الضامن، وجها واحدا، وكذلك: إن حدث عند المشتري عيب، وقد وجد به عيبا.. فله أن يرجع بالأرش على الضامن؛ لأن ضمانه يقتضي ذلك.
وإن ضمن درك البيع، أو عهدته لا غير.. فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا، أو بالأرش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه بالثمن؛ لأن الثمن؛ رجع إليه لمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع، فرجع به على الضامن، كما لو استحق المبيع.
والثاني: لا يرجع به عليه، بل يرجع به على البائع، وهو قول المزني، وأبي العباس؛ لأنه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق، فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا، فأخذه الشفيع.
[فرع: ضمان العهدة في المبيع الباطل]
] : وإن ضمن العهدة، فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق.. فهل للمشتري أن يرجع بالثمن على الضامن؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 283] :
أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع، فصار كما لو استحق.
والثاني: لا يرجع عليه به؛ لأنه يمكنه إن يمسك العين المبيعة إلى أن يسترجع ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن، بخلاف ما لو استحق المبيع.
وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض، أو فسخ البيع، أو كان شقصا، فأخذه(6/341)
الشفيع بالشفعة.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على الضامن؛ لأن الثمن رجع إليه لمعنى حادث بعد العقد، ولم يضمن الضامن إلا الثمن عند استحقاق المبيع.
[فرع: ضمان نقصان الثمن]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283 و284] : لو اشترى رجل شيئا بثمن، وسلمه، وضمن رجل للبائع نقصان الوزن، أو رداءة الثمن، فخرج الثمن نقصا، أو رديئا، أو معيبا.. فله أن يطالب الضامن بما نقص من الثمن، وله أن يرد الرديء والمعيب على المشتري، ويطالب الضامن بالثمن، هكذا ذكر.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يطالبه ببدل الثمن إلا إذا كان الثمن في الذمة، ثم عينه، فضمن ضامن له رداءة المعين، فأما إذا كان الثمن معينا، فوجده رديئا أو معيبا، فرده.. لم يطالب ببدله، بل يطالب بالمبيع.
[مسألة: كفالة الأبدان]
] : وهل تصح الكفالة بالبدن؟
المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أكثر كتبه: (أنها صحيحة) . وقال في (الدعوى والبينات) : (كفالة الوجه عندي ضعيفة) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تصح الكفالة بالبدن، قولا واحدا، وقوله في (الدعوى(6/342)
والبينات) : (ضعيفة) يريد في القياس، وهو قوي في الأثر.
وذهب المزني، وأبو إسحاق إلى: أن المسألة على قولين:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه كفالة بعين، فلم تصح، كالكفالة بالزوجة، وبدن الشاهد، ولأنه ضمان عين في الذمة بعقد، فلم تصح، كما لو أسلم في ثمرة نخلة بعينها.
فقولنا: (ضمان عين) احتراز من ضمان الدين، فإنه يصح.
وقولنا: (في الذمة) احتراز من البائع، فإنه يضمن العين المبيعة في يده، لا في ذمته، ولو تلفت قبل القبض.. لم يضمنها في ذمته.
وقولنا: (بعقد) احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده، وفي ذمته.
والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة، والليث بن سعد، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد رحمة الله عليهم، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] [يوسف: 78] .
ولما روي: أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إني مررت بباب عبد الله بن النواحة، فسمعته يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أصحابه في المسجد يضجون بذلك، فأرسل إليه عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فحضر، واعترف بذلك، فقال له عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أليس كنت تقرأ القرآن؟ فقال: كنت أتقيكم به. فأمر به، فقتل، ثم شاور أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقية أصحابه، فأشار بعضهم بقتلهم، وأشار بعضهم بأن يستتابوا، ويتكفل بعضهم عشائرهم، فاستتابهم، فتابوا، وكفلهم عشائرهم. فدل على: أن الكفالة بالبدن كانت شائعة عند الصحابة(6/343)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إذ لم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذلك وإن لم يكن هذا الموضع موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن؛ لأنه لم يتوجه عليهم حق، إلا أنه فعله استظهارا عليهم.
فإذا قلنا: لا تصح الكفالة بالبدن.. فلا تفريع عليه.
وإذ قلنا: تصح.. فإنما تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين؛ لأنه دين لازم، فصحت الكفالة ببدن من عليه الحق. كالدين.
[فرع: كفالة من عليه حد]
] : وأما الكفالة ببدن من عليه حد: فإن كان لله تعالى، كحد الزنا، وحد شرب الخمر، وما أشبههما.. لم تصح لمعنيين:
أحدهما: أنه لما لم تصح الكفالة بما عليه من الحق.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه.
والثاني: لا؛ لأن الكفالة وثيقة، وحدود الله لا يستوثق لها؛ لأنها تسقط بالشبهات.
وإن كان الحد للآدمي، كحد القذف، والقصاص.. فهل تصح الكفالة ببدن من عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح الكفالة ببدنه، كمن عليه حد الزنا.
والثاني: تصح الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حقا لآدمي، فصحت الكفالة ببدنه، كما لو كان له عليه دين.(6/344)
[فرع: كفالة المكاتب]
] : وإن تكفل ببدن مكاتب لسيده لأجل مال الكتابة.. لم تصح؛ لأن الحق الذي عليه غير لازم له، فلم تصح الكفالة ببدنه.
قال ابن الصباغ: وإن تكفل ببدن صبي أو مجنون.. صحت الكفالة؛ لأن الحق يجب عليهما، وقد يحتاج عليهما، وقد يحتاج إلى إحضارهما للشهادة عليهما للإتلاف.
وإن رهن رجل شيئا، ولم يسلمه، فتكفل رجل عيه بتسليمه.. لم يصح؛ لأن تسليمه غير لازم له، فلم تصح الكفالة به.
وإن ادعى على رجل حقا، فأنكره.. جازت الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حق الحضور، والكفالة واقعة على إحضاره.
[فرع: طلب الكفالة لآخر]
] : إذ قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان، ففعل.. كانت الكفالة لازمة على الذي باشر الكفالة، دون الآمر؛ لأن المتكفل فعل ذلك باختباره، والآمر بذلك حث على المعروف، وهكذا في الضمان مثله.
[مسألة: كفالة من عليه دين]
] : إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين، فمات المكفول به.. بطلت الكفالة.. ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو العباس ابن سريج: (يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين للمكفول له؛ لأن الكفالة وثيقة بالحق، فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين.. استوفى من الوثيقة، كالرهن) .
دليلنا: أنه تكفل ببدنه لا بدينه، فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب، ويفارق الرهن؛ لأنه علق به الدين، فاستوفى منه، وهاهنا لم يتكفل إلا بإحضاره، وقد تعذر إحضاره بموته.(6/345)
فإذا قلنا بالمذهب: صحت الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل.
وإذا قلنا بقول أبي العباس.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل.
[فرع: تكفل بدن رجل وإلا دفع الحق]
] : فإن تكفل ببدن رجل، وشرط أنه متى لم يحضره، فعليه الحق الذي عليه، أو قال: علي كذا وكذا.. لم تصح الكفالة، ولم يجب عليه المال المضمون به، وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن لم يحضره.. وجب عليه المال) .
دليلنا: أن هذا حضر، فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر.. فأنا ضامن ببدنه.
وإن قال: تكفلت لك ببدن زيد، على أني إن جئت به، وإلا فأنا كفيل لك ببدن عمرو.. لم يصح؛ لأنه لم يلتزم إحضار أحدهما، فصار كما لو تكفل بأحدهما لا بعينه.
وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار.. لم تصح الكفالة.
وقال أبو حنيفة: (يفسد الشرط، وتصح الكفالة) .
دليلنا: أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار.. أبطله، كالصرف.
ولو أقر رجل، فقال: إنما تكفلت لك ببدن فلان على أن لي الخيار.. ففيه قولان:
أحدهما: يقبل إقراره في الجميع، فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسمائة.
والثاني: يقبل إقراره في الكفالة، ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه، فلم يصح، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم.(6/346)
[مسألة: كفالة البدن حالا ومؤجلا]
] : وإن تكفل ببدن رجل.. نظرت:
فإن شرط إحضاره حالا.. لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل بدين حال، وإن تكفل ببدنه، وأطلق.. اقتضى ذلك إحضاره في الحال، كما قلنا فيمن باع بثمن، وأطلق.. فإن ذلك يقتضي الحلول، وإن تكفل ببدنه إلى أجل معلوم.. صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين إلى أجل معلوم.
وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول.. فهل تصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول.
والثاني: لا تصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي، فلم تصح إلى أجل مجهول، كضمان المال، وتخالف العارية، فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره إلى مدة.. كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له بدينه إلى أجل معلوم.. لم يكن له المطالبة به قبل حلول الأجل، ولأن العارية تجوز من غير تعيين، ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الثوبين.. جاز، ولو قال: تكفلت لك ببدن أحد هذين الرجلين.. لم يجز.(6/347)
[مسألة: الكفالة بشرط التسليم بموضع]
] : تجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في موضع معين، كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن رجل وإن لم يذكر موضع التسليم.
فعلى هذا: يسلمه في موضع العقد، كما تصح الكفالة بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق.. اقتضى الحلول.
فإذا تكفل له ببدن رجل ليسلمه إليه في بلد معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد.. لم يلزم المكفول له قبوله؛ لأن عليه مشقة في تسليمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض في تسلمه في عين ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول: في مجلس القاضي أو في مسجده، فسلمه إليه في ذلك البلد، في غير ذلك الموضع المعين.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: لا يلزمه قبوله، كما لو تسلمه في غير ذلك البلد.
والثاني: يلزمه قبوله؛ لأن العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في البلد إلى موضع فيه.
[مسألة: الكفالة بإذن المكفول به]
] : إذا تكفل رجل ببدن رجل بإذن المكفول به.. صحت الكفالة، فإذا سأل المكفول له الكفيل إحضار المكفول به.. وجب على الكفيل أن يحضره، ووجب على المكفول به أن يحضر؛ لأنه تكفل به بإذنه، وإن لم يطالبه المكفول له، فقال الكفيل للمكفول به: أحضر معي لأردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من الكفالة.. كان عليه أن يحضر معه؛ لأنه قد تعلق عليه إحضاره بأمره، فلزمه تخليصه منه، كما لو أعاره عبده ليرهنه، فرهنه.. فلصاحبه أن يطالبه بفكه.
وإن تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير إذن المكفول به.. فهل تصح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا تصح؛ لأن المقصود بالكفالة بالبدن إحضار(6/348)
المكفول به عند المطالبة، فإذا كان ذلك بغير إذنه.. لم يلزمه الحضور معه، فلا تفيد الكفالة شيئا.
فعلى هذا: إذا تكفل ببدن صبي، أو مجنون.. لم يصح ذلك إلا بإذن وليه؛ لأن الصبي والمجنون لا إذن لهما.
و [الثاني] قال أبو العباس: تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به. كما يصح الضمان عليه بالدين من غير إذنه.
قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا قال المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به.. وجب على الكفيل أن يطالب المكفول به بالحضور. فإذا طالبه.. وجب على المكفول به الحضور من غير جهة الكفالة، ولكن لأن صاحب الحق قد وكل الكفيل بإحضاره.
وإن قال المكفول له للكفيل: اخرج إلي من كفالتك، أو رد علي كفالتي.. فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك يتضمن الإذن في إحضاره، فهو كما لو وكله بإحضاره.
والثاني: لا يلزمه الحضور؛ لأنه إنما طالبه بما عليه من الإحضار.
قال أبو العباس: فعلى هذا: للمكفول له حبس الكفيل.
قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله؛ لأنه يحبس على ما لا يقدر عليه.
[مسألة: كفالة بعض البدن ككله]
] : إذا تكفل بعضو رجل، كيده، أو رجله، أو رأسه، أو بجزء مشاع منه، كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه.. ففيه ثلاثة أوجه:(6/349)
أحدها: تصح؛ لأنه لا يمكن تسليم نصفه، أو ثلثه إلا بتسليم جميع البدن، ولا تسلم إليه اليد والرجل، إلا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن إلا بتسليم جميعه.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا تصح؛ لأن ما لا يسري إذا خص به عضو، أو جزء مشاع.. لم يصح، كالبيع منه، والإجارة، والوصية، وفيه احتراز من العتق، والطلاق.
والثالث: إن تكفل بما لا يبقى البدن إلا به، كالرأس، والقلب، والكبد، والنصف، والثلث.. صح؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم جميع البدن، وإن تكفل بما يبقى البدن دونه، كاليد، والرجل.. لم يصح؛ لأنه قد تقطع منه، ويبقى البدن، ولا فائدة في تسليمه وحده.
[مسألة: الإحضار قبل الأجل]
] : إذا تكفل ببدن رجل ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل قبل الأجل، فإن قبل المكفول له.. برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له من القبول.. نظرت:
فإن كان عليه في قبوله ضرر بأن يكونه حقه مؤجلا، أو كان حقه حالا إلا أن له به بينة غائبة.. فإنه لا يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررا في قبوله.
وإن لم يكن عليه في قبوله ضرر، مثل: أن يكون حقه حالا، وبينته حاضرة.. لزمه قبوله.
لأنه لا ضرر عليه في قبوله، فإن امتنع من تسلمه.. قال الشيخ أبو حامد: رفعه الكفيل إلى الحاكم، وسلمه إليه ليبرأ، وإن لم يجد حاكما.. أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه، أو امتناع المكفول له.
وذكر القاضي أبو الطيب: أنه يشهد على امتناعه رجلين.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه، من حاكم، أو غيره.
وإن أحضره الكفيل، وهناك يد سلطان لا يقدر عليه، يمنع منه.. لم يبرأ الكفيل(6/350)
بذلك؛ لأن المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه، وهو في حبس الحاكم.. لزمه أن يتسلمه؛ لأن حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن كان حقه قد ثبت عليه بالبينة، أو بالإقرار.. حبسه الحاكم به، وبالحق الذي كان محبوسا به، وإن لم يكن حقه قد ثبت عليه، فطلب إحضاره.. فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما، فإن ثبت له عليه حق، وطلب حبسه.. فإن الحاكم يحبسه به وبالحق الأول، فإذا سقط حق أحدهم.. لم يجز تخليته إلا بعد سقوط حق الآخر.
وإن جاء المكفول به إلى المكفول له، وسلم نفسه إليه.. برئ الكفيل، كما يبرأ الضامن إذا دفع المضمون عنه مال الضمانة.
[فرع: يلزم إحضار المكفول من دار الحرب أو الحبس]
] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم ارتد المكفول به، ولحق بدار الحرب، أو حبس بحق.. لزم الكفيل إحضاره، فيخرج إلى دار الحرب لإحضاره، والمحبوس يمكنه أن يقضي عنه الحق، ويطلق من الحبس.
[فرع: يحبس الكفيل إذا غاب المكفول به]
] : وإن غاب المكفول به.. نظرت:
فإن كان غيبته إلى موضع معلوم.. فعلى الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه، والمجيء به، ولم يأت به.. حبسه الحاكم. هذا قولنا.
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال؛ لأن حقه قد توجه عليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحق، وإن كان قد حل، فإنه يعتبر فيه إمكان التسليم، وإنما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك.
وإن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه.. لم يطالب الكفيل بإحضاره، ولم يحبس؛ لأنه لا يمكن المطالبة برده. فلم يطالب به، كمن عليه دين هو معسر به.. فإنه لا يطالب به.(6/351)
وإن أبرأ المكفول له المكفول به من الحق.. برئ المكفول به، وبرئ الكفيل؛ لأنه فرع له، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع. وإن أبرأ الكفيل.. برئ الكفيل، ولم يبرأ المكفول به، كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن.
[فرع: كفالة المكفول له وتبرئة الكفيل]
] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم جاء رجل إلى المكفول له، وقال: تكفلت لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: تصح كفالة الثاني، ويبرأ الأول؛ لأن الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه، فبرئ الأول، كما لو كان له حق فاحتال به على آخر.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ الأول؛ لأن الكفالة والضمان لا تحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الأول من كفالته، وإذا لم يبرأ الأول.. فلم يتكفل له الثاني إلا بهذا الشرط، وإذا لم يصح الشرط.. لم تصح الكفالة.
[فرع: تكفل لرجلين فرده على أحدهما لم يبرأ الآخر]
] : وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجلين بعقد، فرده على أحدهما.. برئ من حقه، ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرده عليه؛ لأن العقد مع اثنين بمنزلة العقدين، فهو كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد.
وإن تكفل رجلان لرجل ببدن رجل، فأحضره أحدهما إلى المكفول له.. برئ الذي أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول المزني، والشيخ أبي إسحاق -: أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان لرجل دينا على رجل، فأداه أحدهما.. فإن الآخر يبرأ.
والثاني - وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه لا يبرأ الآخر؛ لأن الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان، فلا تنفك(6/352)
إحدى الوثيقتين بانفكاك الأخرى، كما لو كان الحق مرهونا، فانفك أحدهما مع بقاء الحق.. فإنه لا ينفك الباقي منهما، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين المال المضمون به.. فإن الحق هناك قد سقط، فانفكت الوثيقة، وهاهنا الحق لم يسقط.
[فرع: إبراء المكفول له الكفيل]
] : إذا تكفل رجل لرجل ببدن رجل، فقال المكفول له: ما لي قبل المكفول به حق.. قال أبو العباس: ففيه وجهان:
أحدهما: يبرأ المكفول به مما عليه، وتبطل الكفالة؛ لأن قوله: (لا حق لي قبله) نفي في نكرة، فاقتضى العموم.
والثاني: يرجع إليه، فإن قال: أردت به: لا شيء لي عليه.. بطلت الكفالة، وبرئ المكفول به، وإن قال: أردت به: لا حق لي عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل والمكفول به.. قبل قوله، وإن كذباه أو أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته. وإن قال: لا حق لي في ذمته، ولا في يده.. برئا جميعا.
قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لي قبله.. فقال: هو على هذين الوجهين.
[فرع: تعاد الكفالة بعد الإبراء]
وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجل، فأبرأ المكفول له الكفيل، ثم رآه ملازما له، فقال له: خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة. أو على مثل ما كنت عليه.. قال أبو العباس: صحت كفالته؛ لأنه إما أن يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأيها كانت.. وجب أن تصح.(6/353)
[فرع: كفالة بدن الكفيل]
] : وإن تكفل رجل ببدن رجل، ثم تكفل آخر ببدن الكفيل.. صح؛ لأنه تكفل بمن عليه حق لازم، فكذلك لو تكفل ثالث بالثاني، ورابع بالثالث.. فيصح الجميع، فإن حضر المكفول به الأول بعينه، أو أحضره الكفيل.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات المكفول به الذي عليه الدين.. برئ الكفلاء على المذهب، فإن مات الكفيل الأول.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات الكفيل الثاني.. برئ الثالث والرابع، وإن مات الثالث.. برئ الرابع، ولم يبرأ الأولان، وإن مات الرابع.. بطلت كفالته وحده، وحكم البراءة حكم الموت.
[مسألة: الاختلاف في تكليف الضامن]
] : وإذا ضمن عن رجل دينا، ثم اختلفا، فقال الضامن: ضمنت وأنا صبي، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت بالغ، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن وهو بالغ.. حكم بصحة الضمان، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم البلوغ.
وإن قال الضامن: ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت عاقل، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل.. حكم له بصحة الضمان، وإن لم تكن له بينة، فإن لم يعرف للضامن حال جنون.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل صحة الضامن، وإن عرف له حال جنون.. فالقول قول الضامن مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه ضمن في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الإفاقة، والأصل براءة ذمته.(6/354)
[فرع: اختلفا في إبراء الضمان]
] : وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن ضمانه، وأنكر المضمون له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه.. قال الصيمري: فإن لم يأمره بالضمان عنه.. قبلت شهادته، وإن أمره بالضمان عنه.. لم تقبل شهادته.
[فرع: إنكار الضامن وبينة المضمون]
] : وإن ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين، وأنكر الضامن، وأحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فإن بين قدر المال المضمون به، وشهدت معه البينة بذلك.. حكم بها. وإن ادعى الضمان بمال معلوم، والمضمون عنه مجهول، وشهدت له بذلك بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تسمع هذه البينة، ولا يحكم له على الضامن بشيء؛ لأن الذي عليه الحق إذا كان مجهولا.. لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الأصل.. لم يثبت على الضامن.
والثاني: يحكم له على الضامن؛ لأن البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى أنها لو شهدت بأن له عليه ألفا من جهة الضمان.. سمعت، فكذلك هذا مثله.
[فرع: إيفاء الضامن بغير إذن]
] : إذا ضمن الرجل لغيره دينا، وقضاه، وادعى الضامن على المضمون عنه: أنه ضمن بإذنه وقضى بإذنه ليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الإذن، فإن أقام الضامن بذلك بينة.. حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المضمون عنه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
[فرع: تعارض القولين ولا بينة بين الكفيل وبين المكفول له]
فرع: [تعارض القولين ولا بينة] : فإن قال: تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، فقال المكفول له: بل تكفلت به(6/355)
معجلا، وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال.. ففيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدهما: لا يلزمه إلا مؤجلا؛ لأنه لم يقر بغيره.
والثاني: يحلف كل واحد منهما مع شاهده، ويتعارضان، ويسقطان، ويبقى الضمان معجلا.
[فرع: لا يبرأ الكفيل إلا ببينة أو يمين]
] : إذا ادعى الكفيل: أن المكفول له برئ من الحق، وأن الكفالة قد سقطت، وأنكر ذلك المكفول له، ولم تكن بينة.. فالقول قول المكفول له مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الحق له، فإذا حلف.. ثبتت الكفالة له، وإن نكل، فحلف الكفيل.. برئ الكفيل، ولا يبرأ المكفول به من الحق؛ لأنه لا يبرأ بيمين غيره.
وإن قال الكفيل: تكفلت به، ولا حق لك عليه.. فالقول قول المكفول له؛ لأن الظاهر صحة الكفالة، وهل يحلف؟ قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأن دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.
والثاني: يحلف؛ لأن ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين على الكفيل؛ لأنه يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقراره.
وبالله التوفيق(6/356)
[كتاب الشركة](6/357)
كتاب الشركة الأصل في جواز الشركة: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية [الأنفال: 41] . فجعل الخمس مشتركا بين أهل الخمس، وجعل أربعة أخماس الغنيمة مشتركة بين الغانمين.
وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، فجعل الميراث مشتركا بين الأولاد.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الأصناف.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] [ص: 24] . (والخلطاء) : هم الشركاء.
وأما السنة: فما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له شريك في ربع، أو(6/359)
حائط.. فلا يبعه حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك» .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يد الله مع الشريكين ما لم يتخاونا» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول الله عز وجل: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه.. خرجت من بينهما» .
قال الشيخ أبو حامد: يعني: خرجت البركة.(6/360)
وروي: «أن السائب قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شريكي، فلما كان بعد المبعث.. أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، كنت شريكي، فكنت خير شريك، كنت لا تداري ولا تماري» يعنى: لا تخالف ولا تنازع، من قَوْله تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] [البقرة: 72] ، يعنى: اختلفتم وتنازعتم.
وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها.
إذا ثبت هذا: فإن الشركة تنقسم على ستة أقسام:
شركة في الأعيان والمنافع، وشركة في الأعيان دون المنافع، وشركة في المنافع دون الأعيان، وشركة في المنافع المباحة، وشركة في حقوق الأبدان، وشركة في حقوق الأموال.(6/361)
فأما [الأولى]- شركة المنافع والأعيان -: فهو: أن يكون بين الرجلين، أو بين الجماعة أرض أو عبيد أو بهائم ملكوها بالإرث، أو بالبيع، أو بالهبة مشاعا.
وأما [الثانية]- شركة الأعيان دون المنافع -: فمثل: أن يوصي رجل لرجل بمنفعة عبده، أو داره، فيموت، ويخلف جماعة ورثة.. فإن رقبة العبد والدار تكون موروثة للورثة دون المنفعة.
وأما [الثالثة]- الشركة في المنافع دون الأعيان -: فمثل: أن يوصي بمنفعة عبده لجماعة، أو يستأجر جماعة عبدا.
وأما الوقف على جماعة: فإن قلنا: إن ملك الرقبة إلى الله.. كانت الشركة بينهم في المنافع دون الأعيان، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إليهم.. كانت الشركة بينهم في المنافع والأعيان.
وأما [الرابعة]- الشركة في المنافع المباحة - فمثل: أن يموت رجل وله ورثة جماعة، ويخلف كلب صيد، أو كلب، ماشية أو زرع.. فإن المنفعة مشتركة بينهم.
وأما [الخامسة]- الشركة في حقوق الأبدان -: فهو: أن يرث جماعة قصاصا، أو حد قذف.
وأما [السادسة]- الشركة في حقوق الأموال -: فهو: أن يرث جماعة الشفعة، أو الرد بالعيب، أو خيار الشرط، أو حقوق الرهن، ومرافق الطرق.
[مسألة: مشاركة غير المسلم]
] : تجوز الشركة في التجارة؛ لما روي: «أن البراء بن عازب، وزيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرهما، وقال: " ما كان بنقد.. فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» .(6/362)
ويكره للمسلم أن يشارك الكافر، سواء كان المسلم هو المتصرف، أو الكافر، أو هما.
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان المسلم هو المتصرف.. لم يكره، وإن كان الكافر هو المتصرف، أو هما.. كره.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني) . ولا مخالف له.
ولأنهم لا يمتنعون من الربا، ومن بيع الخمور، ولا يؤمن أن يكون ماله الذي عقد عليه الشركة من ذلك، فكره. فإن عقد الشركة معه.. صح؛ لأن الظاهر مما هو بأيديهم أنه ملكهم، و (قد «اقترض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهودي شعيرا، ورهنه درعه» .
[مسألة: الشركة في العروض]
قال المزني: والذي يشبه قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا تجوز الشركة في العروض، ولا فيما يرجع في حال المفاصلة إلى القيم؛ لتغير القيم.
وجملة ذلك: أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير؛ لأنهما قيم المتلفات، وثمن الأشياء غالبا، وبهما تعرف قيم الأموال، وما يزيد فيها من الأرباح، وأما غير النقود: فضربان:
ضرب لا مثل له، وضرب له مثل.
فأما ما لا مثل له، كالثياب، والحيوان، وما أشبههما: فلا يصح عقد الشركة عليهما، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يصح عقد الشركة عليها، ويكون رأس المال فيها قيمتها) .(6/363)
دليلنا: أن موضوع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما، وهذه الشركة تفضي إلى ذلك؛ لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد من قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم تزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه، فإن كان لكل واحد منهما عبد يساوي مائة، وأرادا الشركة.. باع أحدهما نصف عبده بنصف عبد صاحبه، ثم يتقاصان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، وإن كانت قيمة أحدهما مائتين، وقيمة الآخر مائة.. باع من قيمة عبده مائتان ثلث عبده بثلثي عبد الآخر، وإن شاءا.. باع كل واحد منهما من صاحبه بعض عرضه بثمن في ذمته، ثم تقاصا، وإن شاءا.. اشتريا عرضا من رجل بثمن في ذمتهما، ثم دفعا عرضيهما عما في ذمتهما.
وأما ما له مثل، كالحبوب، والأدهان: فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه قال: ولا فيما يرجع حال المفاصلة إلى القيم. وما له مثل.. لا يرجع إلى قيمته، ولأنهما مالان إذا خلطا.. لم يتميز أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما، كالدراهم، والدنانير.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " البويطي ": (ولا تجوز الشركة في العروض) . وما له مثل من العروض، ولأنها شركة على عروض، فلم تصح، كالثياب، والحيوان.
قال أبو إسحاق في " الشرح ": فإذا قلنا: تصح الشركة فيها، فإن كانت قيمتهما سواء.. أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة، واقتسما ما بقي من الربح، وإن كانت قيمتهما مختلفة، مثل: أن كانت حنطة أحدهما جيدة، وحنطة الآخر مسوسة.. كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم عقد الشركة، واقتسما ما بقي من الربح.(6/364)
[فرع: اشتركا في سبيكتي فضة]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن أخرج كل واحد منهما نقرة فضة، واشتركا فيها، فإن كانتا على صفة لا تتميزان بعد الخلط.. لم يصح عقد الشركة؛ لمعنى واحد، وهو أن كل واحد منهما يرجع عند المفاصلة إلى القيمة، فأشبه العروض، وإن كانتا متميزتين بعد الخلط.. لم يصح؛ لما ذكرناه، ولأنهما مالان لا يختلطان، فشابه العبيد والثياب.
[مسألة: أنواع الشركة]
] : والشركة أربعة:
شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا، إلا شركة العنان، وهو: أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس مال الآخر، وعلى صفته، ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة، واختلف الناس لم سميت شركة العنان:
فقيل: سميت شركة العنان؛ لظهورها، وهو أنهما ظاهرا بإخراج المالين، يقال عن الشيء إذا ظهر، ومنه قول امرئ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل
وقيل: سميت: عنانا؛ لاشتراكهما فيما يعن من الربح، أي: فيما يفضل من الربح، يقال عن الشيء إذا عرض.(6/365)
وقيل: سميت: عنانا، من المعاننة، وهي المعارضة، فكل واحد من الشريكين عارض شريكه بمثل ماله.
وقيل: سميت بذلك، مأخوذا من عنان دابتي الرهان؛ لأن الفارسين إذا استبقا.. تساوى عنانا فرسيهما، كذلك هذه الشركة من شأنها أن يتساوى الشريكان فيها في المال والربح.
وقيل: سميت: شركة العنان، مأخوذا من عنان فرسي الرهان، لجهة أخرى؛ لأن الإنسان يحبس نفسه في الشركة من التصرف بالمال في سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يتفق عليها الشريكان، كما أن الإنسان يحبس الدابة إذا ركبها بالعنان عن السير إلى سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يريدها.
وقال أبو بكر الرازي: سميت بذلك، مأخوذا من العنان؛ لأن الإنسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده الأخرى مرسلة، يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله يتصرف فيه كيف شاء.
[مسألة: في صحة الشركة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والشركة الصحيحة: أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير، مثل دنانير صاحبه، ويخلطاها، فيكونا شريكين) .
وجملة ذلك: أن من شرط صحة شركة العنان، أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد، وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما دراهم، ومال الآخر دنانير، أو كان مال أحدهما ملكية، ومال الآخر مشرقية أو مغربية، أو كان مال أحدهما(6/366)
صحاحا، ومال الآخر مكسرا.. لم تصح شركة العنان. وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أنهما مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان مال أحدهما حنطة، ومال الآخر شعيرا.
فإن خالفا، وأخرج أحدهما عشرة دنانير، والآخر عشرة دراهم، وخلطا ذلك، وابتاعا به متاعا.. فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما، فإن كان نقد البلد دنانير.. قومت الدراهم، فإن كانت قيمتها خمسة دنانير.. كان لصاحب الدنانير ثلثا المتاع، ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك يقسم الربح والخسران بينهما، وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه.. قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد البلد، فإن تساويا.. كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا.. كان الحكم في ملك المتاع لهما كذلك.
ولا تصح الشركة حتى يخلطا المالين، ثم يقولا: تشاركنا، أو اشتركنا، فإن عقدا الشركة قبل خلط المالين.. لم تصح.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تصح الشركة وإن لم يخلطا المالين، بل مال كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء، ويشتركان في الربح) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (من شرط صحة عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين أو يد وكيلهما وإن لم يكونا مخلوطين) .
دليلنا: أنهما مالان يتميز أحدهما عن الآخر، فلم تصح الشركة عليهما، كما لو كانا حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن أيديهما على المالين، ولأنا لو صححنا عقد الشركة قبل الخلط ... لأدى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الآخر؛ لأنه قد يربح بمال أحدهما دون الآخر.
وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فيه وجهان:(6/367)
[أحدهما] : قال أبو القاسم الأنماطي: لا تصح حتى يتساويا في قدر ماليهما، فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير، ومال الآخر خمسة.. لم تصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط أن يخرج أحدهما مثل ما يخرج الآخر، ولأنهما إذا تفاضلا في المال.. فلا بد أن يتفاضلا في الربح؛ لأن الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال، ويتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، فكذلك هاهنا.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: تصح الشركة وإن كانا متفاضلين في المالين؛ لأن المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن تساويهما، وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فأراد به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة القدر، وأما اعتبار الربح بالعمل: فغير صحيح؛ لأن عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له؛ لأنه تابع، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الآخر مع استوائهما في المال، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة، وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله، ولا يؤثر في الربح.
[فرع: التصرف بمال الشركة]
] : وإذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين.. فإن كل واحد منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه؛ لأنه ملكه، وهل له أن يتصرف في النصف الآخر من غير إذن شريكه؟ فيه وجهان؛ حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 288] :
أحدهما: يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج إلى إذن الآخر، كما لو عقد القراض على مال له.
والثاني - وهو طريقة البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يملك ذلك من غير إذن شريكه؛ لأن المقصود من الشركة هو أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يقتضي التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.(6/368)
إذا ثبت هذا: فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه.. تصرف كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وإن أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر.. صح تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له إلا في نصفه مشاعا، ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الأمتعة، سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده؛ لأن ذلك توكيل، وللإنسان أن يوكل غيره يشتري له نوعا من الأمتعة وإن لم يكن عام الوجود، بخلاف القراض، فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الإذن بالتجارة فيما يعم وجوده.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات.. جاز ذلك أيضا، ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل، كما نقول في الوكيل.
[فرع: قسمة الربح والخسران على قدر المالين]
] : وإذا اشترك الرجلان، وتصرفا، فإن ربحا.. قسم الربح بينهما أو الخسران على قدر المالين، سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا؛ لأن هذا مقتضى الشركة، وإن شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوي المالين، أو شرطا التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين.. لم يصح هذا الشرط. وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم يصح كما لو شرطا الربح لأحدهما فإن تصرفا مع هذا الشرط.. صح تصرفهما؛ لأن الشرط لا يسقط الإذن، فإن ربحا أو خسرا.. قسم الربح والخسران على قدر ماليهما؛ لأنه مستفاد بمالهما، فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل، فأثمرت، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله؛ لأنه إنما عمل بشرط، ولم يسلم له الشرط.
[فرع: طلب العامل في الشركة أجرة عمله]
] : إذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم، لأحدهما ألف، وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فإن شرط صاحب الألفين على نفسه شيئا من العمل.. كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا.. قسم الربح والخسران بينهما على قدر(6/369)
ماليهما، ويرجع كل واحد على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشركة فاسدة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بأجرة عمله في ماله) .
دليلنا: أنه عقد يُبتغى به الربح في ثاني الحال، فإذا كان فاسدا.. استحق أجرة عمله فيه، كالقراض.
فإن عمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن كل واحد منهما يستحق على شريكه مائة، فيتقاصان.
وإن عمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائتين، ويستحق عليه صاحب الألفين خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين مائة وخمسون.
وإن عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائة، ويستحق صاحب الألفين عليه خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين خمسون.
وإن شرط صاحب الألفين جميع العلم على صاحب الألف، وشرط له نصف(6/370)
الربح.. فإن هذه الشركة صحيحة، وقراض صحيح؛ لأن صاحب الألف يستحق ثلث الربح بالشركة؛ لأن له ثلاث المال، ولصاحب الألفين ثلثا الربح، فلما شرط جميع العمل على صاحب الألف، وشرط له نصف الربح.. فقد شرط لعمله سدس الربح، فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح.
فإن قيل: كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا: إنما صح؛ لأن الإشاعة مع العامل، فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا يصح إذا كانت الإشاعة في رأس المال مع غيره؛ لأنه لا يتمكن من التصرف.
[فرع: عمل الشريك من غير اشتراط عوض تبرع]
] : وإن كان بين رجلين ألفا درهم، لكل منهما ألف، فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك، ويكون الربح بينهما نصفين.. فإن هذا ليس بشركة ولا قراض؛ لأن مقتضى الشركة: أن يشتركا في العمل والربح، ومقتضى القراض: أن للعامل نصيبا من الربح، ولم يشترط له هاهنا شيئا.
إذا ثبت هذا: فعمل، وربح.. كان الربح بينهما نصفين؛ لأنه نماء مالهما.
قال ابن الصباغ: ولا يستحق العامل بعمله في مال شريكه أجرة؛ لأنه لم يشترط لنفسه عوضا، فكان عمله تبرعا.
[مسألة: شركة الأبدان]
] : وأما شركة الأبدان: فهي أن يعقد خياطان أو صباغان على أن ما كسب كل واحد منهما يكون بينهما.. في شركة باطلة، سواء اتفقت صنعتاهما، أو اختلفتا.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر: (أن هذه الشركة جائزة) ؛ لأنه قال: (لو أقر أحد الشريكين على صاحبه بمال.. لم يقبل، سواء كانا شريكين في المال أو العمل) .(6/371)
وقال أكثرهم: ليس بقول له؛ لأن ذلك لا يتضمن صحة الشركة.
وقال أبو حنيفة: (تصح الشركة فيما يضمن بالعقد، كالصنائع كلها، مثل: الخياطة، والصباغة، سواء اتفقتا أو اختلفتا، فأما ما لا يضمن بالعقد، كالاصطياد، والاحتطاب، والاحتشاش، والاغتنام؛ فلا يصح عقد الشركة عليه) .
وقال مالك: (تصح الشركة إذا اتفقت صنعتاهما، ولا تصح إذا اختلفتا) .
وقال أحمد: (تصح شركة الأبدان في الصنع كلها، وفي جميع الأشياء المباحة، كالاصطياد والاحتشاش، والاغتنام) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وفي الشركة غرر؛ لأنه لا يدرى كم يكسب كل واحد منهما، ولأنهما عقدا الشركة على أن يدخل كل واحد منهما في كسب صاحبه، فلم يصح، كما لو اشتركا فيما يكتسبان بالاصطياد، والاحتشاش، ولأنهما عقدا الشركة على منافع أعيان متميزة، فلم يصح، كما لو اشتركا في الغنم على أن يكون الدر والنسل بينهما، فإن عملا، وكسبا.. اختص كل واحد منهما بأجرة عمله؛ لأنه بدل عمله، فاختص به.
[مسألة: شركة المفاوضة]
] : وأما شركة المفاوضة: فهي باطلة عندنا، وصفتها: أن يشترطا أن يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بغصب، أو بيع، أو ضمان.
قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا، أو قُل منه) .(6/372)
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (شركة المفاوضة صحيحة) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (من شرط صحتها: أن يخرج كل واحد منهما جميع ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما.. لم تصح الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونا حرين بالغين مسلمين، ولا تصح بين مسلم وذمي، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه الشركة.. تضمنت الوكالة والكفالة.
فأما الوكالة: فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب، وفيما يوهب له، وفي الكنز الذي يجده، وفي جميع ما يكسبه، إلا الاصطياد والاحتشاش، فإنهما ينفردان به، وأما الميراث: فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما.. نظر فيه:
فإن كان عرضا.. لم يصر للشركة.
وإن كان ذهبا أو فضة، فما لم يقبضه.. فالشركة بحالها، وإن قبضه.. بطلت الشركة؛ لأنه قد صار ماله أكثر من مال الآخر.
وأما الكفالة: فإن كل ما يلزم أحدهما بإقرار، أو غصب، أو ضمان، أو عهدة.. فإن صاحبه يشاركه فيه، إلا أرش الجناية) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وهذا غرر، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ولأنها شركة لا تصح مع المفاضلة، فلم تصح مع المساواة، كالشركة في العروض، وعكسه شركة العنان.
ولأنهما عقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما الآخر فيما يختص بسببه. فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث، أو نقول: شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بعدوانه، فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما بالجناية.(6/373)
إذا ثبت هذا: فإن كسبا.. اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه، ووجب عليه ضمان ما أتلفه أو غصبه؛ لأن وجود هذا العقد بمنزلة عدمه.
[مسألة: شركة الوجوه]
] : وأما شركة الوجوه: فهي باطلة عندنا، وهي: أن يتفقا على أن يشتري كل واحد منهما بوجهه، ويكون ذلك شركة بينهما وإن لم يذكر شريكه عند الشراء، ولا نواه.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشاركه غيره فيه، فإن أذن أحدهما لصاحبه أن يشتري له عينا معينة، أو موصوفة، وبين له الثمن، فاشترى له، ونواه عند الشراء.. كان ذلك للآمر.
[فرع: شركة الأزواد في السفر]
] : حكى الصيمري: أن الشافعي قال: (شركة الأزواد في السفر سنة، فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وليس من باب الربا بسبيل، فيخلط هذا طعامه(6/374)
بطعام غيره جنسا، وجنسين، وأقل، وأكثر، ويأكلان، ولا ربا في ذلك، ونحو هذا اشتراك الجيش في الطعام في دار الحرب) .
[مسألة: صورة شركة غير صحيحة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (إذا اشترك أربعة أنفس في الزراعة، فأخرج أحدهم البذر، ومن الثاني الأرض، ومن الثالث الفدان، يعني: البقر الذي يعمل عليه، والرابع يعمل، على أن يكون الزرع بينهم.. فإن هذا عقد فاسد؛ لأنه ليس بشركة، ولا قراض، ولا إجارة لأن الشركة لا تصح حتى يخلط الشركاء أموالهم، وهاهنا أموالهم متميزة، وفي القراض يرجع رب المال إلى رأس ماله عند المفاصلة، وهاهنا لا يمكن، والإجارة تفتقر إلى أجرة معلومة، وعمل معلوم) .
فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر؛ لأنها عين ماله زادت، وعليه لصاحب الأرض ولصاحب الفدان أجرة مثل ما لهم، وللعامل أجرة مثل ما عمل عليه؛ لأن كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شيء من الغلة، ولم يسلم لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم، فكان لهم بدلها.
[فرع: اشترك في عمل وأعيان غير متكافئة]
] : قال في " البويطي ": (فإن اشترك أربعة، فأخرج أحدهم بغلا، والآخر حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من الأجرة بينهم، على ما شرطوه.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه في المسألة قبلها) .
قال الشافعي: (فإذا أصابوا شيئا.. جعل لكل واحد منهم أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره) .(6/375)
فقال أبو العباس: في هذا مسألتان:
إحداهما: إذا جاء رجل، فاستأجر من كل واحد منهم ما له ليطحنوا له؛ طعاما معلوما، بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا البيت، ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه؛ لتطحنوا لي كذا وكذا من الحنطة، بكذا وكذا درهما، فقالوا: قبلنا الإجارة.. فهل يصح هذا العقد؟ فيه قولان، كالقولين في أربعة أنفس لهم أربعة أعبد باعوهم بثمن واحد، وكالقولين فيمن تزوج أربعة نسوة بمهر واحد، أو خالعته بعوض واحد.
فإذا قلنا: لا يصح.. استحق كل واحد منهم إذا طحنوا أجرة مثل ما له على صاحب الطعام.
وإن قلنا: يصح.. نظر كم أجرة مثل كل واحد منهم، وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم.
ولو استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم، أو مدة معلومة بعقد منفرد.. صح ذلك، قولا واحدا، واستحق كل واحد منهم ما يسمى له.
المسألة الثانية: إذا استأجرهم في الذمة، مثل أن يقول: أستأجركم لتحصلوا لي طحن هذا الطعام بمائة.. صحت الإجارة، قولا واحدا، ووجب على كل واحد منهم ربع العمل، واستحق ربع المسمى من غير تقسيط، فإذا طحنوا.. استحقوا المسمى أرباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله، فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله، وكذلك صاحب البيت، والرحى، والعامل؛ لأن كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل، وقد عمل الجميع، فسقط الربع لأجل ما استحق عليه، ويرجع على شركائه بما لم يستحق عليه.
فإن قال: استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بمائة، فقالوا: قبلنا.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنها على قولين، كالمسألة الأولى. وذكر المحاملي،(6/376)
وابن الصباغ: أنها تصح، قولا واحدا، كالمسألة الثانية.
فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لي طحن هذا الطعام بمائة، فقال: قبلت: الإجارة لي ولأصحابي، أو نوى ذلك، وكانوا قد أذنوا له في ذلك.. فالإجارة صحيحة، والمسمى بينهم أرباع، فإذا طحنوا.. رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع أجرة ما له على شركائه، وإن لم ينو أنه يقبل له ولأصحابه.. لزمه العمل بنفسه، فإذا طحن الطعام بالآلة التي بينه وبين شركائه.. استحق المسمى، وكان عليه أجرة مثل آلاتهم.
[فرع: في المعاملات الفاسدة]
] : قال في " البويطي " (وإذا اشترك ثلاثة: من أحدهم البغل، ومن الآخر الراوية، ومن الثالث العمل على أن يستقي الماء ويكون ما رزق الله بينهم.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه) .
فإذا استقى الماء، وباعه، وحصل منه ثمن.. فقد قال الشافعي في موضع: (يكون ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) .
وقال في موضع: (يكون ثمن الماء بينهم مقسطا عليهم على قدر أجور أمثالهم) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) إذ كان الماء ملكا له، مثل: أن يأخذ الماء من بركة له، أو من ماء ينبع في ملكه؛ لأن الماء ملكه، فكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لأنه استوفى منفعتهما على عوض، ولم يسلم لهما العوض.
والموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء بينهم) إذا كان الماء مباحا؛ لأن الثمن حصل بالعمل، والبغل، والراوية.
ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء.. فالثمن كله له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا.. ففيه قولان:(6/377)
أحدهما: أن الثمن كله للسقاء؛ لأن الماء يملك بالحيازة، ولم توجد الحيازة إلا منه، وعليه أجرة مثل البغل والراوية؛ لأنهم دخلوا على أن يكون لهم قسط من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم.. استحقوا أجرة المثل.
والقول الثاني: أن ثمن الماء بينهم؛ لأنه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله ليكون بينهم، فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم.
قال ابن الصباغ: وهكذا: لو اصطاد له، ولغيره، فهل لغيره منه شيء؟ فيه وجهان، بناء على هذه المسألة.
فإذا قلنا: يكون الماء بينهم: ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد في " التعليق " -: أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر أجور أمثالهم، وحكي: أن الشافعي نص على ذلك.
والثاني - حكاه ابن الصباغ عن الشافعي -: (أنه يكون بينهم أثلاثا، ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع السقاء على صاحبيه بثلثي أجرته) .
وأما صاحب " المهذب ": فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا، وأطلق.
فإن استأجرهم غيرهم ليستقوا له ماء.. قال أبو العباس: ففيه مسألتان، كما ذكر في الطحن إن استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة.. ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم.. صح، قولا واحدا.
[مسألة: اشتركا في عبد فوجداه معيبا]
] : وإن اشترى الشريكان عبدا، فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده أو إمساكه.. فلا كلام، وإن أراد أحدهما الرد، وأراد الآخر الإمساك، فإن كانا قد عقدا جميعا عقد البيع.. فلأحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه.(6/378)
وقال أبو حنيفة: (ليس لأحدهما أن يرد دون شريكه) . وقد مضى ذكرها في البيوع.
وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه، فإن كان لم يذكر: أنه يشتري له ولشريكه، ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لي ولشريكي.. لم يقبل قوله على البائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء: أنه لنفسه ولشريكه.. فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: له ذلك؛ لأن البائع قد علم أن الصفقة لنفسين، فصار كما لو اشتريا شيئا بأنفسهما.
والثاني: ليس له الرد؛ لأنه وإن ذكر أنه يشتري له ولشريكه.. فحكم العقد له، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا، فقال: اشتريته لزيد، فقال زيد: ما أذنت له.. كان الشراء لازما للمشتري؟
فأما إذا باع الرجل عبدا، ثم قال: كان بيني وبين فلان، فإن باعه مطلقا، ثم قال بعد ذلك: إنه بينه وبين غيره.. لم يقبل قوله على المشتري؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه.
قال الشيخ أبو حامد: فيحلف المشتري: أنه لا يعلم ذلك. فإن أقام الشريك بينة: أنه بينه وبينه.. حكم له بذلك، فإن كان قد أذن له بالبيع.. صح، وإن لم يأذن له.. كان القول قوله: أنه ما أذن له؛ لأن الأصل عدم الإذن.
فإن ذكر البائع حين البيع: أنه بينه وبين شريكه.. قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه في ملكه، فإن أقر الشريك: أنه أذن له في البيع.. نفذ البيع، وإن لم يقر بالإذن، ولا بينة عليه.. حلف أنه ما أذن له، وبطل البيع؛ لأن الأصل عدم الإذن.
[مسألة: الشريك أمين]
] : والشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف في يده شيء منه من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ، فكان الهالك في(6/379)
يده كالهالك في يد المالك. وإن ادعى الهلاك بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بالسبب، وبهلاك المال فيه.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب، ولم تذكر هلاك المال.. فالقول قول الشريك مع يمينه: أنه هلك بذلك.
وإن ادعى الهلاك بسبب غير ظاهر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على الهلاك.
[فرع: لا تسمع دعوى خيانة الشريك]
] : وإن ادعى أحد الشريكين على الآخر خيانة.. لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الخيانة، فإذا بينها، فأنكرها الآخر ولا بينة على منكر الخيانة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخيانة.
وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه: اشتريته شركة بيننا، وقال المشتري: بل اشتريته لنفسي، أو اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشتري: اشتريته شركة بيننا، وقال الآخر: بل اشتريته لنفسك.. فالقول قول المشتري مع يمينه في المسألتين؛ لأنه أعرف بفعله.
[فرع: شراء الشريك بما لا يتغابن بمثله]
] : وإن أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فإن اشترى ذلك بثمن في ذمته.. لزم المشتري جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك؛ لأن الإذن يقتضي الشراء بثمن المثل، فإن نقد الثمن من مال الشركة.. ضمن نصيب شريكه بذلك؛ لأنه تعدى بذلك.
وإن اشتراه بعين مال الشركة.. لم يصح الشراء في نصيب الشريك؛ لأن العقد تعلق بعين المال، وهل يبطل في نصيب المشتري؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.(6/380)
فإذا قلنا.. يبطل فهما على شركتهما كما كانا.
وإن قلنا: يصح الشراء في نصيبه.. انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن؛ لأن حقه من الثمن قد صار للبائع؛ فيكون البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة.
وإن باع أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله.. بطل البيع في نصيب شريكه؛ لأن مطلق الإذن يقتضي البيع بثمن المثل، وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: يبطل البيع في نصيب البائع.. فهما على الشركة كما كانا.
وإن قلنا: لا يبطل.. بطلت الشركة بينهما في المبيع؛ لأن حصته منه صارت للمشتري بالابتياع، فيكون المشتري شريك شريكه.
قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه؛ لأن ذلك موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه.
ولو أودع رجل عند رجل عينا، فباعها المودع.. فإنه يضمن ذلك بنفس البيع وإن لم يسلم؛ لأن المودع لا يجوز له البيع بالإجماع، واستضعف الشيخ أبو حامد هذا، وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون مختلفا فيه، أو مجمعا عليه، ألا ترى أنه إذا سلم.. ضمن وإن كان مختلفا فيه؟
[فرع: رفع يد أحد الشريكين غصب]
] : وإن كان عبد بين اثنين، فجاء رجل أجنبي، وأزال يد أحد الشريكين عن العبد.. صار غاصبا لحصته من العبد وإن كان مشاعا؛ لأن الغصب هو إزالة اليد، وذلك يوجد في المشاع، كما يوجد في المقسوم، ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما دار، فجاء(6/381)
رجل، وأخرج أحدهما من الدار، وقعد فيه مكانه.. كان غاصبا لحصته من الدار؟ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
فإن باع الغاصب والشريك الذي لم يغصب منه العبد من رجل صفقة واحدة.. فإن الشافعي قال: (يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل فيما باعه الغاصب) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على قولين، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك، قولا واحدا؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد الآخر.
وإن وكل الشريك الذي لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة، فإن باع وأطلق، ولم يذكر الشريك الموكل: لم يصح البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان. وإن ذكر الغاصب في البيع: أنه وكيل في بيع نصفه.. لم يصح بيع نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها؛ لأنه بمنزلة العقدين.
وإن غصب الشريك نصيب شريكه، فباع العبد صفقة واحدة.. بطل البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان.
[مسألة: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه]
] : وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فأذن أحدهما لصاحبه ببيع نصيبه منه، وقبض ثمنه، أو قلنا: إنه يملك القبض بمقتضى الوكالة في البيع، فباع العبد من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذي لم يبع.. أن البائع قبض الألف من المشتري، وادعى ذلك المشتري، وأنكر البائع.. فإن المشتري يبرأ من نصب الشريك الذي لم يبع؛ لأنه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين، وبين البائع والمشتري.
فإن تحاكم البائع والمشتري، فإن أقام المشتري بينة شاهدين، أو شاهدا(6/382)
وامرأتين: بأنه قد سلم إليه الألف.. حكم على البائع أنه قد قبض الألف، وبرئ المشتري منها، ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذي لم يبع، وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له غير الشريك الذي لم يبع.. فإن شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع، وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان.
فإن قلنا: إنها تقبل حلف معه المشتري، وبرئ من حصة البائع.
وإن قلنا: لا تقبل، أو كان فاسقا.. فالقول قول البائع مع يمينه: أنه ما قبض الألف ولا شيئا منها؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. أخذ منه خمسمائة، ولا يشاركه الذي لم يبع فيها؛ لأنه لما أقر أن البائع قد قبض الألف.. اعترف ببراءة ذمة المشتري من الثمن، وأن ما يأخذه الآن ظلم، فلا يشاركه فيه، وإن نكل البائع عن اليمين.. حلف المشتري أنه قد سلم إليه الألف، وبرئ من الألف، ولا يستحق الشريك الذي لم يبع على البائع بيمين المشتري شيئا، سواء قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأنا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما.
وهكذا: لو أقام المشتري شاهدا واحدا، وحلف معه.. فإنه يبرأ من الألف، ولا يرجع الذي لم يبع على البائع بشيء إلا إن حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام المشتري بينة.. فإنه يحكم بها للمشتري، وللذي لم يبع.
وإن بدأ الشريكان، فتحاكما، فإن كان للشريك الذي لم يبع بينة: أن البائع قبض الألف، فأقامها.. حكم بها على البائع للمشتري، وللذي لم يبع، وإن لم تكن له بينة غير المشتري.. لم تقبل شهادة المشتري، قولا واحدا؛ لأنه يشهد على فعل نفسه، فيحلف البائع: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منها، ويسقط حق الذي لم يبع من كل جهة.
وإن نكل البائع عن اليمين، فرد اليمين على الذي لم يبع، فحلف.. استحق الرجوع على البائع بخمسمائة، ولا يثبت به حق المشتري على البائع، سواء قلنا: إن يمين الذي لم يبع بمنزلة إقرار البائع، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأن ذلك إنما يحكم به في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما، ولأن اليمين حجة في حق الحالف(6/383)
لا تدخلها النيابة، فلم يثبت بيمينه حق غيره، بخلاف البينة. هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر أبو علي السنجي وجها واحدا لبعض أصحابنا: أنه يثبت باليمين والنكول جميع الثمن على البائع في هذه، وفي التي قبلها، وهو إذا حلف المشتري مع نكول البائع، كما قلنا في البينة. وليس بشيء.
وإن ادعى البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف من المشتري، وادعى المشتري ذلك، وأنكر ذلك الذي لم يبع.. فلا يخلو من أربعة أقسام:
إما أن يكون كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذي لم يبع مأذونا له في القبض وحده، أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في القبض وحده.
فإن كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن للذي لم يبع بقبض نصيبه وحده.. فإن المشتري يبرأ من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله، فيكون الفقه في هذه المسألة كالفقه في التي قبله، إلا أن البائع هاهنا يكون كالذي لم يبع في التي قبلها، والذي لم يبع هاهنا كالبائع في التي قبلها على ما ذكرنا حرفا بحرف.
وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض.. فإن بإقرار البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف، لا تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن؛ لأن البائع أقر بتسليم حصته من الألف إلى غير وكليه، والذي لم يبع أنكر القبض، فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع، وبين المشتري، فإن طالب الذي لم يبع المشتري بحقه من الثمن، فإن كان مع المشتري بينة.. حكم له بها على الذي لم يبع، وإن لم تكن معه بينة غير البائع، وهو عدل.. حلف معه، وحكم ببراءة ذمة المشتري من نصيب الذي لم يبع، قولا واحدا، والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة: أن هناك ردت شهادته في البعض للتهمة، وهاهنا لم ترد شهادته في شيء أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان ممن لا تقبل شهادته للمشتري بأن يكون والده، أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته على الذي لم يبع، بأن كان عدوا له..(6/384)
فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإن حلف.. أخذ حقه من الثمن، وإن نكل.. حلف المشتري، وبرئ من حق الذي لم يبع.
وأما إذا كان البائع قد أذن له الذي لم يبع بقبض حقه، أو قلنا: إن الإذن في البيع يقتضي قبض الثمن، ولم يأذن البائع للذي لم يقبض حقه من الثمن.. فإن بإقرار البائع لا تبرأ ذمة المشتري من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه يقر: أنه دفع ذلك إلى غير وكيله، وأما نصيب الذي لم يبع.. فإن المزني نقل: (أن المشتري يبرأ من نصف الثمن بإقرار البائع: أن شريكه قد قبض؛ لأنه في ذلك أمين) .
فمن أصحابنا من خطأه في النقل، وقالوا: هذا مذهب أهل العراق، وإن إقرار الوكيل يقبل على الموكل، فيحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ذلك. قال: (وبه قال محمد) . فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي به إلا محمد بن الحسن.
ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: معنى قوله: (يبرأ المشتري من نصف الثمن) يريد به في حق البائع، فإن البائع كان له المطالبة بجميع الألف، فلما أقر أن شريكه قبض الألف.. سقطت مطالبته بالنصف.
إذا ثبت هذا: وأن المشتري لا يبرأ من شيء من الثمن..فإن البائع يأخذ منه خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك.. فهل للذي لم يبع أن يشارك البائع بما قبضه؟ نقل المزني: (أن له أن يشاركه فيما قبضه) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن الذي لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشتري بحق مشاع بيني وبينه. وقول البائع: إنه أخذه لنفسه، لا يقبل على الذي لم يبع؛ لأن المال إذا كان مشاعا بين اثنين، فقبض أحدهما منه شيئا، ثم قال: قبضته لنفسي.. لم يقبل.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا: لا يشاركه فيما قبض؛ لأن البائع لما أقر: أن الذي لم يبع قد قبض الثمن.. تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة؛ لأنه لم يبق ما يتوكل فيه.
فإن قلنا يقول المزني.. كان الذي لم يبع بالخيار: بين أن يطالب المشتري بخمس(6/385)
مائة، وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين، ومن المشتري مائتين وخمسين، فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين.. لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشتري؛ لأنه يقول: إن الذي لم يبع ظلمه بها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
وإن قلنا بقول أبي العباس، ومن تابعه.. لم يكن للذي لم يبع أن يشارك البائع بشيء مما أخذ، بل له أن يطالب المشتري بحقه من الثمن، وهو خمسمائة، فإذا طالب الذي لم يبع المشتري، فإن كان مع المشتري بينة على الذي لم يبع: أنه قبض منه الألف.. برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه قبض منه ألفا، ولا يستحق عليه إلا خمسمائة وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له بقبض الذي لم يبع الألف غير البائع، وكان عدلا.. فهل تقبل شهادته؟
إن قلنا بقول أبي العباس: إن الذي لم يبع لا يشارك البائع فيما قبض.. قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشتري، وتبرأ ذمته من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا، ولا يجر بها إلى نفسه نفعا.
وإن قلنا بقول المزني، ومن تابعه: إن الذي لم يبع لم يشارك البائع فيما قبض.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا، وهو حق الرجوع عليه بنصف ما قبض؛ لأنه إذا ثبت: أنه قد استوفى الخمسمائة من المشتري.. لم يشارك البائع في شيء مما قبض.
فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا..فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإذا حلف.. استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى، وإن نكل عن اليمين، فحلف المشتري: أنه قد قبض منه الألف.. برئ من حصته من الثمن ورجع عليه بما زاد على حقه.(6/386)
[فرع: قبول أحد الشريكين بالبيع والتلف]
] : وإن أقر أحد الشريكين: أنه باع، وقبض الثمن، وتلف في يده وهو مأذون له، فأنكر شريكه البيع، أو القبض.. فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان، نذكرهما في (الوكالة) إن شاء الله تعالى.
[مسألة: عزل الشريك نفسه عن التصرف لا يمنعه من التصرف بنصيبه مشاعا]
] : إذا اشتركا، وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف، ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه، أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف في نصيب شريكه.. كانت الشركة باقية، إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه مشاعا، ولا ينعزل الآخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو يعزل نفسه؛ لأن تصرف كل واحد منهما في نصيب شريكه بالإذن، فإذا عزله المالك، أو عزل نفسه.. انعزل.
وإن عزل كل واحد منهما صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي، وعزلته عن التصرف في نصيبي.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، ولا تبطل الشركة بذلك.
فإن قال أحدهما: فسخت الشركة.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن ذلك يقتضي العزل من الجانبين، ولا يبطل الاشتراك، فإن اتفقا على القسمة.. قسما، وإن اتفقا على البيع، أو التبقية.. كان لهما ذلك، وإن دعا أحدهما إلى البيع، والآخر إلى القسمة.. أجيب من دعا إلى القسمة، كالمال الموروث بين الورثة.
وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه.. انفسخت الشركة، وانعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالجنون، والإغماء، كالوكالة.(6/387)
[فرع: موت أحد الشريكين]
] : وإن مات أحدهما.. انفسخت الشركة، وانعزل الباقي منهما عن التصرف في نصيب الآخر؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن على الميت دين، ولا أوصى بشيء، فإن كان الوارث بالغا رشيدا.. فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن للآخر في التصرف، ويأذن الشريك له، وله أن يقاسم؛ لأن الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا.
قال أبو إسحاق: غير أن الأولى أن يقاسم؛ لأنه ربما كان هناك دين، أو وصية لم يعلم بها الوارث.
وللوارث إذا كان بالغا رشيدا أن يقاسم وإن كان الحظ في الشركة، وله أن يقيم على الشركة وإن كان الحظ في القسمة؛ لأن الحق له، وهو رشيد.
وإن كان الوارث مولى عليه.. كان النظر في مال المولى عليه إلى وليه فإن كان الحظ في الشركة.. لم يجز له أن يقاسم، وإن كان الحظ في القسمة.. لم يجز له أن يقيم على الشركة؛ لأن الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه، إلا فيما له فيه حظ، وسواء كان المال نقدا أو عرضا.. فإن الشركة تجوز؛ لأن الشركة إنما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة، وليس بابتداء عقد.
وإن مات وعليه دين.. لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة؛ لأن الدين يتعلق بجميع المال، فهو كالمرهون، فإن قضى الدين من غير مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إن قضى الدين ببعض مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين، وللوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقي.
وإن وصى بثلث ماله، أو بشيء من مال الشركة، فإن كانت الوصية لمعين.. كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن يفعل ما يفعل الوارث، وإن كانت الوصية لغير معين.. لم يجز للوصي الإذن للشريك في التصرف؛ لأنه قد وجب دفعه إليهم، بل(6/388)
يعزل نصيبهم، ويفرقه عليهم، فإن كان قد أوصى بثلث ماله، فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله.. لم يجز ذلك؛ لأن الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوه من غيره.
والله أعلم، وبالله التوفيق(6/389)
[كتاب الوكالة](6/391)
كتاب الوكالة الأصل في جواز الوكالة: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19] الآية [الكهف: 19] .
وقَوْله تَعَالَى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] [يوسف: 93] . وهذا وكالة.
وأما السنة: «فروى جابر، قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمت عليه، وقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا لقيت وكيلي بخيبر.. فخذ منه خمسة عشر وسقا من تمر، فإن ابتغى منك آية.. فضع يدك على ترقوته» يعني: إن طلب منك أمارة: فأخبر أن له وكيلا.(6/393)
وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب» ، و: «وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة» ، و: «وكل(6/394)
عروة البارقي في شراء شاة» ، و: «وكل حكيم بن حزام في شراء شاة» .
وأجمعت الأمة على جواز التوكيل، ولأن بالناس حاجة إلى التوكيل؛ لأن من الناس من لا يتمكن من فعل ما يحتاج، إما لقلة معرفته بذلك، أو لكثرته، أو تنزهه عن ذلك، فجاز التوكيل فيه.
إذا ثبت هذا: فإن العبادات التي لا مدخل للمال فيها لا يجوز التوكيل فيها، فمنها: الطهارة لا تجوز الوكالة فيها بأن يتطهر أحد عن أحد؛ لأنها عبادة محضة(6/395)
لا تتعلق بالمال، ولكن له أن يوكل من يقرب إليه الماء، ويصبه عليه، ويوكل من يطهر ثوبه وبدنه من النجاسة.
وأما الصلاة: فلا تصح النيابة فيها إلا في ركعتي الطواف على سبيل التبع للحج.
وأما الزكاة والكفارات كلها: فتجوز الوكالة في أدائها من مال الآمر والمأمور، وقد مضى ذلك في الزكاة.
وأما الصوم: فلا تدخله النيابة في حال الحياة، وفيما بعد الموت قولان، مضى ذكرهما في الصوم.
وأما الاعتكاف: فلا تدخله النيابة بحال.
وأما الحج: فتدخله النيابة، وقد مضى ذكره.
قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في النذور.
ويجوز التوكيل في البيع والشراء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى حكيم بن حزام دينارا ليبتاع له شاة للأضحية، فابتاع به شاة، وأعطي بها ربحا، فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه شاة ودينار، فأمره أن يتصدق بالدينار، ويضحي بالشاة» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عروة البارقي دينارا ليشتري به أضحية، فابتاع شاتين بدينار، ثم باع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بارك الله لك في صفقة يمينك» ، يعني: في الربح. فكان لو اشترى ترابا لربح فيه.
وتجوز الوكالة في عقد الرهن، وقبضه، وإقباضه، ولا تتصور الوكالة في التفليس، ويجوز للحاكم أن يوكل من يتولى الحجر، ويصح التوكيل في الصلح، والحوالة، والضمان، والشركة، والوكالة، والعارية، ولا يصح التوكيل في الغصب، فإن فعل.. كان الغاصب هو الوكيل؛ لأنه فعل محرم، فلا تدخله النيابة، وتصح الوكالة في طلب الشفعة، وأخذها، وفي القراض، والمساقاة، والإجارة، والهبة، والوقف.
قال ابن الصباغ: وأما الالتقاط، والاغتنام.. فلا يصح التوكيل فيه، فإذا أمره،(6/396)
فالتقطه.. كان أحق به من الآمر.. وينبغي أن يكون كالاصطياد على قولين.
وأما الميراث: فلا نيابة فيه إلا في قسمته وقبضه.
وتصح الوكالة في الوصايا، والودائع، وقسم الفيء والغنيمة، ويصح التوكيل في النكاح من الزوج؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية ليقبل له نكاح أم حبيبة» ، و «وكل أبا رافع ليقبل له نكاح ميمونة» .
ويصح التوكيل في الطلاق والخلع، ولا يصح في القسم؛ لأنه متعلق بيد الزوج، ولا يصح في الظهار، والإيلاء، والأيمان، وفي الرجعة وجهان:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز في الإيلاء، والظهار.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، كما قلنا في عقد النكاح.
وهل يصح التوكيل في تملك المباحات، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات، واستقاء الماء؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز في البيع والهبة.
والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز في الاغتنام.
ويصح التوكيل في العتق، والتدبير، والكتابة، كما قلنا في البيع والهبة، ولا يصح التوكيل في العدد، والرضاع، والاستيلاد، لأن ذلك متعلق بالبدن.
[مسألة: التوكيل في الخصومة]
] : وتجوز الوكالة في إثبات الأموال، والخصومة فيها؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل عقيل بن أبي طالب، وقال: ما قضي له.. فلي، وما قضي عليه.. فعلي) .(6/397)
قال الشافعي: (ولا أحسبه كان يوكله إلا عند عمر بن الخطاب، ولعله عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووكل علي عبد الله بن جعفر عند عثمان، فقبل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك) .
ولأن الإنسان قد يدعي حقا، أو يدعى عليه بحق، ولا يحسن الخصومة في ذلك، أو يكره أن يتولى ذلك بنفسه، فجاز أن يوكل فيه.
وتجوز الوكالة من غير رضا الخصم، سواء كان الموكل حاضرا، أو غائبا، صحيحا كان أو مريضا، رجلا كان أو امرأة.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح التوكيل في الخصومة من غير رضا الخصم إلا في ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكون الموكل غائبا.
الثانية: أن يكون مريضا.
الثالثة: أن يكون امرأة مخدرة.
ولا يلزم الخصم إجابة الوكيل إلا في هذه الثلاثة المواضع) .
ودليلنا: ما روي: (أن طلحة بن عبيد الله نازع علي بن أبي طالب في قفيز أخذه في أرضه في زمان عثمان، فوكل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عبد الله بن جعفر، وقال علي: إن الخصومات يتقحمها الشيطان، وإني أكره أن أحضرها) ، وروي: أنه قال: (إن للخصومات قحما) ، يعني: مهالك، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك. ولأنه(6/398)
توكيل في حقه، فلم يكن من شرط لزومه رضا الموكل عليه، كما لو وكله في استيفاء حق له على غيره، ولأنه توكيل، فصح من غير رضا الخصم، كما لو كان الموكل غائبا، أو مريضا، أو امرأة غير برزة.
[فرع: الوكالة في إثبات الحدود]
ويجوز التوكيل في تثبيت القصاص، وحد القذف، وبه قال عامة العلماء.
وقال أبو يوسف: لا يصح.
دليلنا: أنه حق لأدمي، فجاز التوكيل في تثبيته، كالدين.
ولا يصح التوكيل في تثبيت حدود الله، كحد الزنا، والشرب، والسرقة؛ لأن الحق فيها لله، وقد أمر بسترها، ودرئها.
ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث العمال لقبض الصدقات والجزية» .
ويصح التوكيل لاستيفاء حدود الله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا لاستيفاء حد(6/399)
الزنا» ، و: (وكل عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بإقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة) .
ويجوز للوكيل أن يستوفي القصاص لموكله، وحد القذف بحضور الموكل؛ لأن الإنسان قد يكون له قصاص، أو حد قذف، ولا يحسن استيفاءه، فجاز له التوكيل في استيفائه، وهل يجوز استيفاؤه من غير حضور الموكل؟
قال الشافعي في (الوكالة) : (لا يستوفي) . وقال في (الجنايات) : (لو وكله في استيفاء القصاص، فتنحى به الوكيل، ثم عفا عنه الموكل، وضرب الوكيل عنقه.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه قولان) . وهذا يدل على جواز التوكيل في الاستيفاء مع غيبة الموكل.
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب الطبري ـ أنه يجوز، قولا واحدا؛ لأن كل ما جاز استيفاؤه بحضرة الموكل.. جاز بغيبته، كسائر الحقوق، وما قال في (الوكالة) .. محمول على الاستحباب.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز، قولا واحدا. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إذا غاب الموكل احتمل أن يكون عنده شبهة في سقوط القصاص، بأن يكون قد عفا، وما قال في (الجنايات) .. فمحمول على أنه يتنحى به عن مجلسه؛ لئلا يترشش عليه الدم، ولم يغب عن عينه.
و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان:(6/400)
أحدهما: يجوز.
والثاني: لا يجوز. ووجههما ما ذكرناه.
[مسألة: التوكيل في الإبرام والحل للعقود]
مسألة: [التوكيل في الإبرام والحل] : ويصح التوكيل في فسخ العقود، كما يصح في عقدها، ويصح التوكيل في الإبراء من الحقوق والديون، كما يصح في إثباتها.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يبرأ إلا من القدر الذي يأذن له فيه الموكل؛ لأنه إنما يستفاد ذلك من قبله، فلا يجوز إلا ما أذن له فيه.
[فرع: الوكالة في الإقرار]
] : وإن وكله بالإقرار.. فهل يصح التوكيل؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه إخبار عن حق، فلم يصح التوكيل فيه، كالشهادة.
والثاني: يصح، كما لو قال: أخبره عني: أن له علي ألفا.
والوجه الثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن وكله بالإقرار بحق معين.. صح التوكيل، وإن وكله بالإقرار بحق مجهول.. لم يصح.
فإذا قلنا: لا يصح التوكيل فيه.. فهل يكون التوكيل إقرارا من الموكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا منه؛ لأنه لم يوكله بذلك إلا وهو واجب عليه.
والثاني: لا يكون إقرارا منه، كما لا يكون التوكيل في الإبراء إبراء، ولا في البيع بيعا.
فإذا قلنا: يصح التوكيل فيه.. لم يلزم على الموكل شيء حتى يقر عنه الوكيل.
فإذا قلنا بهذا، أو قلنا: يكون التوكيل إقرارا من الموكل.. نظرت:
فإن وكله بأن يقر عنه بحق معلوم.. أقر عنه بذلك.(6/401)
وإن وكله أن يقر عنه بمال، أو بشيء.. أقر عنه بذلك، ورجع إلى الموكل في بيان ذلك.
فأما إذا قال الموكل: أقر له عني، وسكت، فقال الوكيل: أقررت لك عن موكلي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يكون كما لو قال: أقر له عني بشيء.. فيرجع إلى بيان الموكل فيه؛ لأن قوله: أقر له عني، لا يحتمل إلا ذلك.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا يلزم الموكل بذلك حق؛ لأنه لم يأمره أن يقر له بشيء معلوم، ولا مجهول، فلم يلزمه شيء، كما لو قال الرجل لغيره: أنا أقر لك، أو أنا مقر لك.. فإنه لا يلزمه بذلك مال، بل يحتمل: أقر له عني بالعلم، أو بالفضل، أو بالشجاعة، والأصل براءة ذمته من المال، فلم يلزمه بالشك. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا قلنا: يصح التوكيل بالإقرار.. لم يجز حتى يتبين جنس ما يقر به، وقدر ما يقر به. وهذا موافق للوجه الذي حكاه السنجي.
[مسألة: صحة التصرف تصحح الوكالة نيابة]
] : قال الشافعي: (والتوكيل من كل موكل، من رجل، أو امرأة) الفصل إلى آخره. وجملة ذلك: أن من صح تصرفه في شيء تدخله النيابة.. جاز أن يوكل فيه غيره، كالحُرّ الرشيد، والحرة الرشيدة، والحر الفاسق، والحرة الفاسقة، والمسلم، والكافر فيما يملكون من التصرف، وكذلك المكاتب يجوز له أن يوكل غيره في البيع والشراء.
وأما من لا يملك التصرف في شيء بنفسه: فلا يجوز له أن يوكل غيره فيه، فلا يصح للصبي، والمجنون، والمحجور عليه لسفه أن يوكل غيره في بيع ماله؛ لأنه إذا لم يملك ذلك بنفسه.. فلأن لا يملك غيره ذلك من جهته أولى، إلا أن المحجور عليه يملك أن يوكل غيره في طلاق امرأته، وفي خلعها.(6/402)
وأما المحجور عليه للفلس: فلا يصح أن يوكل غيره في بيع أعيان ماله، ويجوز أن يوكل من يشتري له بثمن في ذمته؛ لأنه يملك ذلك بنفسه، فملك التوكيل فيه.
وأما الرجل الفاسق: فلا يصح أن يوكل من يزوج ابنته، أو أخته إذا قلنا: ليس بولي لها؛ لأنه لا يملك ذلك بنفسه، وكذلك إذا وكلت المرأة غيرها أن يزوجها.. لم يصح ذلك؛ لأنها لا تملك أن تعقد النكاح على نفسها، فلا يصح توكيلها فيه.
وأما العبد المأذون له في التجارة والوكيل لغيره: فلا يجوز لهما التوكيل فيما أذن لهما فيه إلا بالإذن؛ لأنهما لا يملكان تصرفهما إلا بإذن، فكذلك توكيلهما لغيرهما.
وأما الأب والجد: فيجوز لهما أن يوكلا من يزوج ابنتهما البكر بغير إذنها؛ لأنهما يملكان ذلك بأنفسهما، وهل لغيرهما من الأولياء، كالأخ، والعم، إذا أذن لهما في النكاح أن يوكلا فيه غيرهما من غير إذن المرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ولي في النكاح، فجاز له التوكيل فيه، كالأب، والجد.
والثاني: لا يجوز؛ لأنهما لا يملكان العقد إلا بإذنها، فكذلك الوكالة.
[فرع: من فقد التصرف لا يصح أن يتوكل]
] : ومن لا يملك التصرف في شيء في حق نفسه لنقص فيه.. لا يصح أن يتوكل فيه لغيره، كالمرأة لا تتوكل لغيرها في إيجاب النكاح، ولا في قبوله، وكالصبي، والمجنون في جميع العقود؛ لأنه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه.. فلأن لا يملك ذلك في حق غيره أولى.
وأما المحجور عليه لسفه: فلا يصح أن يوكل في البيع والشراء، ويصح أن يوكل في الطلاق، والخلع، والقصاص اعتبارا بتصرفه في ذلك في حق نفسه.
وأما المحجور عليه للفلس: فالذي يقتضي المذهب: أنه يصح لغيره أن يوكله في التصرف في أعيان المال، وفي الذمة؛ لأن المنع من تصرفه في أعيان ماله لأجل حقوق غرمائه، وهذا لا يوجد في تصرفه في أعيان مال غيره.
وأما من يملك التصرف في شيء تدخله النيابة في حق نفسه: فيجوز أن يتوكل فيه(6/403)
لغيره، إلا في أربع مسائل، اختلف أصحابنا فيها:
منها: الفاسق يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي غيره - أنه لا يصح، ولم يذكرا له وجها.
الثانية: هل يصح للفاسق أن يتوكل في إيجاب النكاح إذا قلنا: إنه ليس بولي؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه موجب للنكاح، فلم يصح أن يكون فاسقا، كالولي.
والثاني: يصح؛ لأنه ليس بولي، وإنما الولي الموكل، وهو عدل.
الثالثة: يجوز للعبد أن يقبل النكاح لنفسه بغير إذن سيده، ولا يجوز أن يقبل النكاح لغيره بغير إذن سيده، وجها واحدا.
وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح بإذن سيده؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما جاز قبوله لنفسه لحاجته إلى ذلك، ولا حاجة به إلى قبول النكاح لغيره.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا يصح أن يتوكل في إيجاب النكاح وإن كان بإذن السيد، وجها واحدا، لأنه ليس من أهل إيجاب النكاح بحال من الأحوال، ولو قيل: إنه كتوكيل الفاسق في الإيجاب.. كان محتملا.
الرابعة: يجوز للرجل أن يوكل زوجته في طلاقها، وهل يصح توكيلها في طلاق غيرها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح في طلاق نفسها.(6/404)
والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما صح توكيلها في طلاق نفسها للحاجة، ولا حاجة بنا إلى توكيلها في طلاق غيرها.
[فرع: وكالة ذمي في شراء خمر لمسلم]
] : وإن وكل المسلم ذميا في شراء خمر.. لم يصح، وإذا اشترى له الذمي.. لم يصح الشراء للمسلم.
وقال أبو حنيفة: (يصح ذلك للمسلم) .
دليلنا: أن كل ما لا يجوز أن يعقد عليه المسلم لنفسه.. لا يجوز أن يوكل فيه الذمي، كالعقد على المجوسية.
وإن وكل المسلم ذميا ليقبل له النكاح على ذمية.. صح؛ لأن الذمي يملك قبول نكاحها لنفسه، فصح توكيله فيها.
وإن وكله المسلم ليقبل له نكاح مسلمة.. لم يصح؛ لأنه لا يملك قبول نكاحها لنفسه، فلم يصح أن يتوكل فيه لغيره.
[مسألة: شرط الوكالة إيجاب وقبول]
ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد يتعلق به حق كل واحد منهما. فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، والهبة، والإجارة، وفيه احتراز من الطلاق، والعتاق، ويصح القبول على الفور بلا خلاف، وهل يصح القبول على التراخي؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: لا يصح؛ لأنه عقد في حال الحياة يفتقر إلى القبول، فاشترط أن يكون القبول فيه على الفور، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية، والعتق.
والثاني ـ وهو المشهورـ: أنه يصح.
قال الشيخ أبو حامد: ووجهه: أن الوكالة تصح بالمعلوم، والمجهول،(6/405)
والمعدوم، والموجود، وذلك: أنه وكله في إثبات حق بعينه، أو خصومة شخص بعينه.. جاز، ولو وكله باستيفاء جميع حقوقه، وإثباتها، وخصوماته، وما وجب له، وما يستجد فيما بعد.. جاز، وكل ما يصح في المعلوم، والمجهول..
كان القبول فيه على التراخي، كالوصية.
قال الصيمري: فإذا كتب إلى رجل: أنه وكله في شيء، فوصل إليه الكتاب فقرأه، وقبله.. صح، وإن فارق المجلس ولم يقبل.. لم يجز أن يقبل فيما بعد.
[فرع: صفة القبول في الوكالة]
فرع: [صفة القبول] : ويصح القبول، وهو أن يقول: قبلت الوكالة. ويصح القبول بالفعل، وهو أن يتصرف فيما وكل فيه؛ لأنه إذن في التصرف، فصح القبول فيه بالقول، والفعل، كما لو أذن في أكل طعامه.
[مسألة: الوكالة في التصرف المعلوم]
] : ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم، فإن قال: وكلتك في كل قليل وكثير.. لم يصح، وبه قال عامة العلماء.
وقال ابن أبي ليلى: يصح، ويملك بذلك كل شيء؛ لعموم لفظ الموكل.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن في ذلك غررا عظيما وضررا كثيرا؛ لأنه يطلق نساءه، ويتزوج له أربع نسوة بالمهور الكثيرة، ويعتق عبيده، ويتصدق بأمواله، أو يهبها لغيره، ويقر عليه بما ليس عنده، وفي ذلك غرر، وربما أقر عليه بجناية العمد، وفي ذلك غرر، وقد: «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر» .
وإن قال: بع جميع أملاكي، أو أعتق جميع عبيدي، أو اقبض جميع ديوني، أو جميع ودائعي.. صح؛ لأن ذلك غير مجهول. هذا هو المشهور.
وذكر أبو المحاسن: إذا وكله في قبض ديونه.. لم يصح حتى يبين به؛ لأنه مبهم، فلم يصح التوكيل فيه، كما لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير.(6/406)
قال الشيخ أبو حامد: ولو قال: وكلتك ببياعاتي.. كانت الوكالة فاسدة؛ لأن هذا مجهول؛ لأنه قد يبتاع له القليل والكثير.
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قال: بع ما شئت من أموالي، أو اقبض ما شئت من ديوني.. جاز؛ لأنه إذا عرف ماله ودينه.. عرف أقصى ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر.
وذكر ابن الصباغ: إذا قال: بع ما تراه من مالي.. لم يجز، ولو قال: بع ما تراه من عبيدي.. جاز. ولم يذكر له وجها.
قال أبو المحاسن: ولو قال: أنت وكيلي لتقبض ديني، ولا دين له، ثم ثبت له دين.. فهل له قبضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه وكله فيما ليس له، فلم يصح أن يكون وكيلا فيما يكون بعده، كما لو وكله بالصلح، ولا شيء له ولا عليه، ثم وجب.
والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: يصح؛ لأن الوكالة تجوز في المعدوم.
[فرع: لا تصح الوكالة بمجهول]
] : وإن قال: وكلتك على أن تشتري لي حيوانا بمائة.. لم يصح؛ لأن ذلك وكالة بمجهول؛ لأن الحيوان يقع على أشياء كثيرة.
وهكذا: إن قال: وكلتك أن تشتري لي ثوبا.. لم يصح، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا بمائة.. لم يصح؛ لأن العبيد أجناس، ولم يبين واحد منها.
وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا بمائة.. جاز؛ لأنه قد ذكر النوع، والثمن، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا، أو حبشيا، أو ثوبا هرويا، أو مرويا، ولم يقدر الثمن.. ففيه وجهان:(6/407)
أحدهما: لا يصح حتى يصف العبد بصفاته المقصودة، ويذكر طول الثوب وعرضه، وصفاته، أو رقته ليصير معلوما.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ـ: يصح؛ لأن مع ذكر النوع يقل الغرر، ويحمل ذلك على أغلاها ثمنا.
[فرع: توكيل شخص غير معين]
وإن قال لرجلين: أيكما باع عبدي، فجائز.. لم يجز لأحدهما أن يبعيه.
وقال أبو حنيفة: (إذا باعه أحدهما.. صح) .
دليلنا: أن التوكيل يبطل بإبهام الوكيل، فلم يصح، كما لو قال: وكلت أحد أولاد فلان.
وإن قال لرجل: بع هذا الرجل، أو هذا العبد.. لم يجز له أن يبيع أحدهما، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه شك في المبيع، فلم يصح، كما لو قال: بعتك هذا، أو هذا.
وإن قال: وكلتك أن تشترى لي أمة تركية بمائة أطؤها، فاشترى له من يحرم عليه وطؤها، كذوات محارمه، أو أخت امرأته.. لم يلزم الموكل؛ لأنه اشترى له غير مأذون له فيه، وإن اشترى له أخت أمة، ليس له وطؤها.. قال أبو المحاسن: فلا يلزم الموكل. وقال أبو حنيفة: (يلزمه) .
دليلنا: أنه لا يحل له وطؤها، فلم تلزمه، كأخت امرأته.(6/408)
[فرع: وكله أن يتزوج له]
] : وإن وكله أن يتزوج له امرأة عينها.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من شاء.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: يجوز لعموم إذنه.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجوز؛ لأن الأغراض تختلف، فلا يجوز حتى توصف.
قال الصيمري فلو وكله أن يتزوج له امرأة من العرب، فتزوج له امرأة من قريش.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من قريش، فتزوج له من العرب.. لم يصح، وإن وكله أن يتزوج له من الأنصار، فتزوج له من الأوس، أو الخزرج،.. جاز، وإن قال: امرأة من الأوس، فتزوجها من الخزرج.. لم يصح.
وإن وكله في خصومة كل من يخاصمه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد، وقد مضى ذكره؛ لأن الخصومة معلومة.
والثاني: لا يصح؛ لأنها تقل وتكثر، فيكثر الغرر.
[مسألة: تعليق الوكالة]
] : لا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل، مثل: أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك ببيع عبدي.
وقال أبو حنيفة: (يصح) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وقال: "الأمير عليكم زيد، فإن قتل.. فجعفر، فإن قتل.. فعبد الله بن رواحة، فإن مات.. ففلان» . فعلق تصرفهم على شرط، فدل على(6/409)
جوازه، ولأنه إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد أبحت لك طعامي، أو أمرتك أن تأكل من طعامي.
ودليلنا: أنه عقد يملك به التصرف في حال الحياة لم يبن على التغليب، والسراية، فلم يجز تعليقه على شرط، كالبيع ويخالف التأمير، والإباحة، فإنهما لا تؤثر فيهما الجهالة، بخلاف الوكالة، ولأن الملك من الله تعالى ومن الرسول يجوز أن يتعلق على شرط، ولا يدل على أن الأمر فيما بينا كذلك، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة.. فهي له» ، ولو(6/410)
قال رجل منا: إذا جاء رأس الشهر، فقد وهبتك هذا.. لم يصح؟
إذا ثبت هذا: فإن قولنا: يجوز تعليق الوكالة بشرط، فإن وكله بتصرف يجعل على شرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. صح تصرفه، واستحق المسمى.
وإن قلنا بالمذهب، وإن الوكالة لا يجوز تعليقها بشرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يتصرف، فإن تصرف.. صح تصرفه ولا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأن التصرف مأذون فيه، وإنما الفساد وقع في الوكالة.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لو لم يستبح التصرف.. لم يصح منه. فلما صح منه التصرف، ثبت أنه استباحه بالإذن.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن عقد الوكالة في الحال، وعلق التصرف على شرط، بأن قال: وكلتك أن تبيع عبدي بعد شهر.. صح؛ لأنه لم يعلق الوكالة على شرط. وإنما علق التصرف على شرط.، فلم يمنع صحة التوكيل.
[مسألة: الوكيل لا يوكل إلا بإذن]
] : قال الشافعي: (وليس للوكيل أن يوكل إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل) .
وجملة ذلك: أنه إذا وكله في تصرف، فإن أذن له أن يوكل.. جاز له أن يوكل؛ لأنه قد أذن له في ذلك، ثم ينظر فيه:(6/411)
فإن قال الموكل: توكل عني.. فهما وكيلان للموكل لا تبطل وكالة أحدهما ببطلان وكالة الآخر.
وإن قال: توكل عني فلانا.. وكله، أمينا كان أو غير أمين؛ لأنه قد قطع اجتهاده بالتعيين، وإن لم يعين له من يوكله.. لم يوكل عنه إلا أمينا؛ لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين.
وإن قال: توكل عن نفسك.. فإن الثاني وكيل الوكيل، فإن عزل الوكيل الأول، أو مات الأول.. انعزل الثاني؛ لأنه فرع له، فإذا بطلت وكالة الأصل.. بطلت وكالة الفرع، فإن عين له من يوكله.. وكله، خائنا كان أو أمينا، وإن أطلق.. لم يوكل إلا أمينا، فإن صار الثاني بعد ذلك خائنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: للوكيل أن يعزله؛ لأنه لا نظر للموكل في استعمال من ليس بأمين.
والثاني: ليس له أن يعزله؛ لأنه إنما جعل إليه التوكيل، ولم يجعل إليه العزل.
وإن وكله، ولم يأذن له في التوكيل.. نظرت:
فإن كان ما وكل فيه مما يتولاه الوكيل بنفسه في العادة، ويقدر عليه.. لم يصح توكيله فيه؛ لأن الموكل إنما رضي باجتهاده ونظره، دون اجتهاد غيره ونظره.
فإن قيل: أليس الوصي يجوز له أن يوكل وإن لم يأذن له الموصي في التوكيل؟
قلنا: إنما جاز ذلك للوصي؛ لأنه يتصرف بولاية، بدليل: أنه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه، والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه.
وإن وكله في تصرف يتولاه بنفسه، ويقدر عليه، وقال له الموكل: اصنع فيه ما شئت.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه يصح توكيله فيه؛ لعموم قوله: أصنع فيه ما شئت.(6/412)
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح توكيله فيه) ؛ لأن قوله: اصنع فيه ما شئت، يحتمل على ما شئت من التوكيل، ويحتمل ما شئت من التصرف في المال الذي يقتضيه إذن الموكل، فلا يجوز له التوكيل بأمر محتمل، بدليل: أنه لا يملك أن يهبه لغيره.
وإن كان ما وكل فيه مما لا يتولاه بنفسه، كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه..فله أن يوكل فيه غيره؛ لأن توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن له في التوكيل فيه من طريق العرف. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا وكله فيما لا يتولاه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان.
وإن وكله في تصرف لا يقدر على جميعه بنفسه.. فله أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه؛ لأن ذلك مأذون له في التوكيل فيه من طريق العرف، وهل له أن يوكل في جميعه، أو في شيء مما يقدر عليه بنفسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه، فجازت في جميعه. كما لو أذن له في التوكيل بلفظه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن التوكيل إنما جاز له فيما تدعوه الحاجة إليه، ولا حاجة إلى التوكيل فيما يقدر عليه.
[فرع: توكيل اثنين والإذن لهما]
] : وإن وكل وكيلين في تصرف، كالبيع، والإجارة، وما أشبههما.. نظرت:
فإن صرح بأن لكل واحد منهما التصرف على الانفراد.. كان لهما التصرف بالاجتماع والانفراد؛ لأنه قد أذن لهما بذلك.
وإن قال: وكلتكما على الاجتماع، أو وكلتكما في كذا، أو أطلق.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأنه لم يرض بنظر واحد منهما، فإن غاب، أحدهما أو مات.. لم يكن للحاكم أن يقيم آخر مقام الآخر؛ لأن الموكل لم يرض بنظر غيره،(6/413)
وإن حضر أحد الوكيلين عند الحاكم، والآخر غائب، وادعى الحاضر الوكالة له وللغائب، وأقام على ذلك بينة.. قال ابن الصباغ: سمعها الحاكم، وحكم بثبوت الوكالة لهما، ولم يكن للحاضر أن يتصرف حتى يحضر الغائب، فإذا حضر الغائب.. لم يحتج إلى إعادة البينة؛ لأن الحاكم قد سمعها، فإن قيل: هذا حكم للغائب؟ قلنا: إنما جاز ذلك تبعا لحق الحاضر، كما يجوز أن يحكم في الوقف لأهل البطن الثاني تبعا لأهل البطن الأول.
وإن وكلهما في حفظ ماله، فإن كان مما لا ينقسم.. جعلاه في حرز لهما، وإن كان مما ينقسم.. فهل لهما أن يقسماه؟ فيه وجهان، وقد مضى ذلك في الرهن.
وإن وكل اثنين في طلاق امرأته على الاجتماع.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد به.
وقال أبو حنيفة: (لأحدهما أن ينفرد به) .
دليلنا: أنه تصرف فوضه إلى اثنين، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كالبيع.
[مسألة: وكله بأن يخاصم ويثبت حقه]
] : إذا قال: وكلتك أن تخاصم عني وتثبت حقوقي، ولا تقر عني، ولا تصالح ولا تبرئ.. فله أن يخاصم، ويثبت الحقوق، ولا يملك الإقرار عنه، ولا الصلح، ولا الإبراء بلا خلاف؛ لأنه قد نهاه عن ذلك.
وإن قال: وكلتك في الخصومة، وتثبيت الحقوق..فلا يملك الإبراء، ولا الصلح، ولا الإقرار عن موكله عندنا، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وزفر.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إذا أقر الوكيل أن الموكل قد قبض الحق الذي وكله فيه في مجلس الحكم.. قبل إقراره عليه، وإن أقر عليه في غير مجلس الحكم.. لم يقبل إقراره عليه) . وقال أبو يوسف: يقبل إقراره عليه في مجلس الحكم وفي غيره.
دليلنا: أن التوكيل في الخصومة يقتضي إثبات الحق، والإقرار بقبضه يقتضي إسقاطه، وهو ضد الإثبات، ومن وكل في شيء.. لم يصر وكيلا في ضده، ألا ترى(6/414)
أنه لو وكله في النكاح.. لم يملك الطلاق؟ ولأنه إقرار على موكله، فلم يقبل، كما لو أقر عليه في غير مجلس الحكم، أو نقول: معنى يقطع الخصومة، فلم يملكه الوكيل بمطلق الوكالة بالخصومة، كالإقرار، والصلح.
[فرع: الموكل بإثبات الحق لا ينقبض]
وإن وكل رجلا في تثبيت حقه على غيره، فثبته.. لم يكن له قبض الحق؛ لأن الوكالة بالتثبيت لا تقتضي القبض، وإن وكله في قبض حق له من غيره، فجحده من عليه الحق.. فهل للوكيل أن يثبته، ويقيم عليه البينة، ويستحلف المدعى عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تثبيت الحق طريق إلى القبض ومن أسبابه، فاستفاده بالإذن بالقبض.
والثاني: ليس له ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وروي أيضا عن أبي حنيفة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن الخصومة؛ لأنه قد يكون أمينا في القبض، ولا يحسن الخصومة.
وإن وكله في قبض عين له من رجل، فجحدها من هي في يده.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أن الوكيل هل يملك الخصومة فيها؟ على الوجهين.
وقال أبو حنيفة: (لا يملك؛ لأنه وكيل في النقل لا في الإثبات، كنقل الزوجة) .
ووجه ما قلناه: أن القبض في العين كالقبض في الدين، فإذا جاز له الخصومة في الدين بالوكالة بالقبض، فكذلك بالعين، ويخالف نقل الزوجة، فإن ذلك ليس بقبض، وإن وكله ببيع داره، أو بقسمة نصيب منه، أو طلب الشفعة، فجحد من هو في يده.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يملك تثبيتها. قال ابن الصباغ: وعندي أنها على الوجهين في الدين.(6/415)
[فرع: الموكل في البيع يسلم المباع]
] : وإن وكل رجلا في بيع سلعة.. كان للوكيل تسليمها؛ لأن التوكيل في البيع يقتضي التسليم، ولا يملك الوكيل الإبراء من الثمن؛ لأن ذلك لا تقتضيه الوكالة، فإن أبرأ الوكيل المشتري من الثمن.. لم يصح إبراؤه.
وقال أبو حنيفة: (يصح إبراؤه، ويضمنه للموكل) .
دليلنا: أن الوكالة بالبيع توكيل في إثبات الثمن، والبراءة إسقاط له، فلم تصح، كما لو وكله في قبض دينه.. فإنه لا يصح إبراؤه منه، وهل يملك الوكيل في البيع قبض الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له قبض الثمن؛ لأنه قد يرضاه للبيع، ولا يرضاه للقبض.
والثاني: له ذلك؛ لأن موجب البيع قبض الثمن وتسليم المبيع.
فإذا قلنا بهذا: لم يكن له أن يسلم المبيع إلا بعد أن يقبض الثمن فإن سلمه، ولم يقبض الثمن.. ضمنه إذا كان الثمن حالا، فإن قلنا: ليس له قبض الثمن.. كان له تسليم المبيع من غير أن يقبض الثمن، ولا يضمن الثمن بإعسار المشتري.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا وكله بالشراء.. فإنه يسلم الثمن، وهل يتسلم المبيع؟ على الوجهين.
قال: إلا أن أصح الوجهين: أنه إذا اقتضت الوكالة التسليم.. اقتضت التسلم.
وإن وكله بالبيع وقبض الثمن، أو قلنا: له أن يقبض الثمن بمقتضى الوكالة في البيع.. فللوكيل والموكل أن يطالبا المشتري بالثمن، وأيهما قبض الثمن.. صح قبضه وبرئ منه المشتري.
وقال أبو حنيفة: (ليس للموكل المطالبة بالثمن) .
دليلنا: أن الموكل يصح قبضه للثمن، فجازت مطالبته به كسائر ديونه التي لم يوكل غيره بها.(6/416)
[فرع: وكله في شراء فيمتلك الخصومة]
] : وإن وكله في شراء عبد بثمن، فاشتراه، وسلم الثمن، ثم استحق العبد.. فهل يملك الوكيل الخصومة في درك الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأنه قد يرضاه للشراء، ولا يرضاه للخصومة.
والثاني: له ذلك لأنه؛ من أحكام العقد.
[مسألة: وكله في شيء معين]
] : وإن وكله في بيع عبده يوم الجمعة.. لم يملك الوكيل بيعه يوم الخميس، ولا يوم السبت؛ لأن إذنه في البيع يوم الجمعة لا يتناول ما قبله ولا ما بعده، وهكذا إذا وكله في إعتاق عبده بيوم مخصوص.. لم يجز له إعتاقه قبل ذلك اليوم ولا بعده.
وقال أبو حنيفة: (يصح إعتاقه بعده) .
ودليلنا: أن التوكيل مؤقت في إعتاقه، فلم يجز تغييره، كما لو أعتقه قبل الوقت المعين له، وحكى ابن الصباغ: أن الداركي قال: إذا وكله في طلاق امرأته يوم الجمعة، فطلقها يوم الخميس.. لم يقع طلاقه، ولو طلقها يوم السبت.. وقع طلاقه؛ لأنه إذا طلقها يوم الجمعة تكون مطلقة يوم السبت، بخلاف الخميس، وإن وكله في بيع سلعة بسوق معين، فباعها الوكيل في غيره، فإن كان الثمن في السوق المعين أكثر، أو النقد فيه أجود.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك غير مأذون فيهن وإن كان الثمن فيهما واحدا، والنقد واحدا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه لما نص له عليه دل على غرض قصده من يمين وغيرها، فلم يجز مخالفته.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه يصح؛ لأن المقصود فيهما واحد.(6/417)
وإن وكله في البيع من زيد، فباع من عمرو.. لم يصح؛ لأنه قصد تخصيصه بالملك بخلاف السوق، فإن المقصود منه الثمن، وذلك يحصل من المعين وغيره.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق 290] : ولو وكله أن يزوج ابنته من زيد فزوجها من وكيل زيد.. صح النكاح، ولو وكله أن يبيع عبده من زيد فباعه من وكيل زيد.. لم يصح البيع، والفرق بينهما: أن النكاح لا يقبل نقل الملك، والشراء يقبل نقل الملك، ولهذا يقول وكيل النكاح: زوج موكلي، ولا يقول زوجني لموكلي، وفي البيع يصح أن يقول: بعني لموكلي.
[فرع: وكل من يقبض الدين]
] : وإن وكل رجلا ليقبض له دينه، فمات من عليه الدين.. فهل للوكيل أن يقبض من وارثه؟ نظرت:
فإن قال الموكل: وكلتك تقبض حقي من فلان، أو خذ مالي من فلان.. لم يكن له أن يقبض من وارثه؛ لأنه قد لا يرضى أن يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند وارثه، فلا يكون التوكيل في القبض منه إذنا في التوكيل بالقبض من وارثه.
وإن قال: وكلتك في قبض حقي على فلان.. كان له القبض من وارثه؛ لأنه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الأخذ منه ومن وارثه.
وإن وكل رجلا في قبض دينه من فلان، فوكل من عليه الدين رجلا بتسليم ما عليه.. كان للوكيل القبض منه؛ لأن دفعه بإذنه بمنزلة دفعه.
[مسألة: الوكالة بالبيع إلى أجل معين]
] : إذا قال: وكلتك ببيع عبدي بثمن إلى العطاء، أو إلى الحصاد.. فهذه وكالة فاسدة فإن باعه الوكيل كما أمر.. لم يصح؛ لأن الشرع لم يأذن فيه، وإن باعه بيعا صحيحا.. لم يصح البيع، وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة (يصح) .(6/418)
دليلنا: أنه توكيل في عقد فاسد، فلم يملك به العقد الصحيح، كما لو وكله بالبيع بخمر أو خنزير، فباعه بدراهم.. فإنه لا يصح، وقد وافق أبو حنيفة على هذا.
[مسألة: شراء المتصرف في أموال الغير لنفسه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز للوكيل والوصي أن يشتري من نفسه) وجملة ذلك: أن المتصرفين في أموال غيرهم ستة: الأب، والجد، ووصيهما، والحاكم، وأمينه، والوكيل وقد اختلف الناس هل يجوز لهم أن يشتروا من أنفسهم، ويبيعوا؟ على أربعة مذاهب:
ف [الأول] : ذهب الشافعي إلى: (أنه يجوز للأب والجد أن يبيعا من نفسه مال ابنه الصغير ويشتري له من نفسه، وقد مضى ذكر ذلك، ولا يجوز لغيرهما) .
و [الثاني] : قال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للأب والجد، ووصيهما) .
و [الثالث] : قال الأوزاعي: (يجوز ذلك للجميع) . وحكى أصحاب مالك ذلك عنه.
و [الرابع] قال زفر: لا يجوز ذلك لواحد منهم.
دليلنا: أن غير الأب والجد تلحقهم التهمة، ويتنافى الغرضان في بيعهم من أنفسهم، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجوز للوكيل أن يشتري مال موكله لابنه الصغير، ولا لمن يلي عليه بوصية، أو وكالة؛ لأنه بيع من نفسه، وهل يصح بيعه من ابنه الكبير، أو أبيه، أو أمه، أو مكاتبه؟ فيه وجهان:
أحدهما يصح؛ لأن القابل غيره.
والثاني: لا يصح: لأنه تلحقه التهمة في ذلك، ولهذا لا تقبل شهادته لواحد منهم.
وإن باع من عبده المأذون له.. لم يصح؛ لأن ذلك بيع من نفسه، وإن من(6/419)
زوجته، أو أحد قرابته غير الوالدين والمولودين.. صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه لا تلحقه في ذلك تهمة.
وإن وكله أن يبيع من نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس: يصح البيع، كما يصح أن يوكل المرأة في طلاقها.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا لا يصح؛ لأنه يجتمع فيه غرضان متضادان، الاستقصاء للموكل في الثمن والاسترخاص لنفسه، ويخالف الطلاق، فإنه يصح بالزوج وحده.
وقال الطبري: وكذلك إذا وكله أن يهب لنفسه أو يبرئ نفسه.. فعلى الوجهين.
قال المحاملي: وكذلك إذا زوج نفسه من ابنة عمه بإذنها، أو كاتب العبد نفسه على نجمين بإذن سيده.. فعلى الوجهين.
وإن وكله في إبراء غرمائه من دينه، وكان الوكيل من غرمائه.. لم يكن له أن يبرئ نفسه، وجها واحدا.
وإن وكله في تفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين.. لم يكن له أن يصرف على نفسه من ذلك شيئا وإن كان فقيرا؛ لأنه مخاطب في أن يخاطب غيره، فلا يدخل في خطاب غيره، كما قلنا فيه إذا وكله في البيع وأطلق.. فليس له أن يبيع من نفسه.
وإن وكله بالبيع من ابنه الكبير أو أحد والديه أو مكاتبه.. صح ذلك، وجها واحدا، لأن التهمة انتفت عنه، وإن وكله أن يبيع من عبده المأذون له.. احتمل أن يكون على الوجهين إذا وكله أن يبيع من نفسه؛ لأن البيع له.
وإن وكله عمرو أن يشتري له عبدا من زيد، ووكله زيد في بيعه من عمرو.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما لو وكله أن يبيع من نفسه.(6/420)
وقال الشيخان، أبو حامد وأبو إسحاق: لا يصح ذلك، وجها واحدا لتضاد الغرضين؛ لأن عليه الاستقصاء للبائع بالثمن، والاسترخاص للمشتري.
وإن وكل رجلا في خصومة رجل، ووكله الآخر في خصومته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الحكمان لا يتضادان؛ لأن الخصومة هو أن يذكر حجة كل واحد منهما، ويعرضها على الحاكم، وذلك ممكن من الواحد.
والثاني: لا يصح؛ لأن على الوكيل أن يحتال في إبطال حجة من وكل في إبطال خصومته والقدح فيها، وتصحيح حجة موكله، وهذا مما يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح.
[فرع: توكيل عبد غيره في شراء]
] : وإن وكل رجل عبدا لغيره، ليشتري له نفسه، أو عبدا غيره من سيده.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو وكله أن يشتري له من غير سيده.
والثاني: لا يصح؛ لأن يده كيد سيده، فلم يصح، كما لو وكل السيد نفسه.
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا يصح، فإن ذكر العبد في الشراء: أنه يشتري لغيره في العقد.. كان للذي سماه، وإن أطلق وادعى أنه اشترى لغيره، فإن صدقه السيد.. كان له مطالبة الموكل بالثمن، وإن كذبه، وقال: بل اشتريت لنفسك.. حلف السيد: أنه لا يعلم أنه اشتراه لغيره؛ لأن الظاهر أنه اشتراه لنفسه، ويعتق، ويطالبه بالثمن. والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتق إذا صدق الموكل العبد أنه وكله في الشراء، أو أنه اشترى له.(6/421)
[مسألة: توكيل العبد في شراء سلعة موصوفة]
وإن وكله أن يشتري له سلعة موصوفة، مثل: أن يقول: ابتع لي عبدا حبشيا أو زنجيا أو ثوبا هرويا أو مرويا.. لم يجز له أن يبتاع معيبا من ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يجوز؛ لعموم أمره، كما يجوز ذلك للعامل في القراض) .
دليلنا: أن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيب، كما إذا باع سلعة، فوجدها المشتري معيبة.. فله ردها، ويخالف العامل في القراض؛ لأن المقصود هناك شراء ما يربح فيه، وقد يكون الربح في شراء المعيب، بخلاف ما يشتريه لغير القراض، فإن المقصود به القنية، والمعيب لا يقتنى.
إذا ثبت هذا فإن اشترى الوكيل معيبا مع علمه أنه معيب.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف مقصود إذنه.
وإن اشتراه ولم يعلم أنه معيب، ثم علم أنه معيب.. صح الشراء للموكل، فإن علم الموكل به ورضي به معيبا.. لم يجز للوكيل رده؛ لأن الملك للموكل، وقد رضيه معيبا، وإن لم يعلم به الموكل.. فللوكيل أن يرده بالعيب؛ لأن حكم العقد يتعلق به، بدليل: أن حق القبول له، فكان له رد المعيب كما لو اشتراه لنفسه، ولأن كون المبيع معيبا أدخل على موكله ظلامة، فكان له رفعها، فإذا أراد الوكيل الرد، فقال له البائع: لا ترد حتى تستأذن الموكل فلعله يرضى بالعيب، فإن لم يرضه قبلته منك.. لم يلزم الوكيل تأخير الرد؛ لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، فإن أخر الوكيل الرد بهذا الشرط فهل يسقط حقه في الرد؟ ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط لأنه ترك الرد مع إمكانه.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه إنما أخر الرد بشرط.
فإن قال البائع للوكيل: لا ترد فلعل موكلك قد بلغه الشراء والعيب ورضي به.. فالقول قول الوكيل من غير يمين لأن البائع لم يضع عليه شيئا، وإن قال البائع: قد علم الموكل ورضي به فإن أقام البينة بذلك.. لم يكن للوكيل الرد؛ لأن الملك(6/422)
للموكل، وقد رضي به، وإن لم يكن مع البائع بينة وادعى أن الوكيل يعلم ذلك.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رضى البائع، ويحلف الوكيل: أنه لا يعلم أن الموكل قد علم ذلك ورضيه، ولا يحلف على القطع؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
فإذا رد الوكيل، ثم حضر الموكل، وقال: قد كنت علمت بالشراء والعيب، ورضيت به، فإن صدقه البائع على ذلك أو كذبه، وأقام الموكل على ذلك بينة.. لم يقع رد الوكيل موقعه، وكان للموكل استرجاع المبيع؛ لأن رد الوكيل إنما يصح إذا لم يرض به الموكل، وقد ثبت رضاه.
وإن رضي به الوكيل معيبا، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن رد المبيع إذا كان معيبا.. إنما يكون على الفور، فإن حضر الموكل ورضي به معيبا، أو أقر: أنه كان قد علم به ورضيه، أو قامت به بينة عليه.. استقر البيع وإن لم يرض به الموكل.. نظرت في الوكيل:
فإن ذكر في الشراء: أنه يشتري لموكله، أو نوى: أنه يشتري له، وصدقه البائع على ذلك.. ثبت للموكل الرد؛ لأن الملك له.
وإن لم يذكره الوكيل في الشراء، ولا صدقه البائع أنه نواه.. فالقول قول البائع مع يمينه أنه لا يعلم أن الوكيل ذكر الموكل في الشراء ولا نوى الشراء له؛ لأن الظاهر أن الوكيل اشتراه لنفسه، فإذا حلف البائع.. انقطعت الخصومة بينه، وبين الوكيل، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، وهل تلزم السلعة الوكيل، أو الموكل؟ ذكر الشيخ أبو حامد أن السلعة تلزم الموكل. وذكر في المهذب: أنها على وجهين:
أحدهما: وهو المنصوص: (أنها تلزم الوكيل) .
والثاني: تلزم الموكل.
والذي تبين لي: أن الشيخ أبا حامد أراد بذلك: إذا تصادق الوكيل والموكل: أن الشراء وقع بعين مال الموكل، وأن الشيخ أبا إسحاق أراد: إذا تصادقا أن الشراء(6/423)
وقع بثمن في ذمة الوكيل؛ لأنه قال: المنصوص: (أن السلعة تلزم الوكيل) لأنه ابتاع في الذمة ما لم يأذن له فيه، ومن أصحابنا من قال: تلزم الموكل؛ لأن العقد وقع له، وقد تعذر الرد بتفريط الوكيل.
فإذا قلنا: إن السلعة تلزم الوكيل.. لزمه أن يغرم للموكل ما سلم إليه من الثمن بالغا ما بلغ.
وإن قلنا: إن السلعة تلزم الموكل.. لزم الوكيل أن يغرم له: الأرش؛ لأنه دخل النقص على الموكل بتفريط الوكيل، وفي قدره وجهان:
أحدهما: تقوم السلعة صحيحة، ثم تقوم معيبة، فإن نقصها العيب العشر من قيمتها.. رجع عليه بعشر الثمن، كما قلنا في الرد بالعيب.
و [الثاني] : قال أبو يحيى البلخي: ينظر كم قيمة السلعة وكم الثمن الذي دفعه الموكل؟ فإن كانا سواء، أو قيمة السلعة أكثر.. لم يرجع عليه بشيء، وإن كانت قيمة السلعة تسعين، والثمن مائة.. رجع عليه بعشرة؛ كما قلنا في شاهدين شهدا على رجل: أنه اشترى عبدا بمائة، فحكم عليه الحاكم، وألزمه الثمن، ثم رجعا عن الشهادة، فإن المشتري يرجع عليهما بما نقص من قيمة العبد عن الثمن وهو المائة.
والأول أصح؛ لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه، فرجع عليه بما ذكرناه، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا بعد أن حدث بها عيب بيده، ويخالف الشاهدين؛ لأنهما لم يفوتا على المشتري الرد بالعيب، وإنما غرماه الثمن.
وإن وكل رجل رجلا ليشتري له سلعة بعينها من رجل، فاشتراها، ووجد بها الوكيل عيبا لم يعلم به الموكل.. فهل للوكيل أن يردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن حكم العقد به يتعلق، فكان له الرد، كما لو وكله في ابتياع سلعة موصوفة.
فعلى هذا: حكمها حكم السلعة الموصوفة، وقد مضى.
والثاني: ليس له الرد؛ لأنه قطع اجتهاده بتعيينها. والأول هو المنصوص.(6/424)
[مسألة: وكل ببيع عبد فباع بعضه]
] : وإن وكله ببيع عبد، فباع الوكيل بعضه.. نظرت:
فإن لم يقدر الموكل الثمن، أو قدر له الثمن، فباع بعضه بأقل من الثمن المقدر.. لم يصح البيع.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع) .
دليلنا: أنه بيع غير مأذون فيه؛ لأن على الموكل ضررا في الشركة في العبد.
وإن قال له: بع جميع العبد بمائة، فباع بعضه بالمائة.. صح البيع؛ لأنه بيع مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى ببيع العبد بمائة يرضى ببيع بعضه بمائة، إلا أن يكون قال: بعه من فلان بمائة، فباع بعضه منه بمائة.. لم يصح؛ لأن الموكل قصد تخصيص المشتري المعين بجميع العبد بالثمن المقدر، فلا تجوز مخالفته.
[فرع: وكل بشراء عبد فباع بعضه]
] : وإن قال: اشتر لي عبدا موصوفا، أو معينا، فاشترى له بعضه.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأن عليه ضررا في الشركة في العبد.
وإن وكله أن يشتري له عبدا بثوب، فاشترى له العبد بنصف الثوب، صح البيع؛ لأنه زاده خيرا؛ لأن من يرضى العبد بثوب يرضاه بنصف الثوب.
وإن وكله في بيع أعبد، أو شراء أعبد.. نظرت:
فإن أطلق الإذن.. جاز أن يبيع الأعبد ويشتريهم صفقة واحدة، وجاز في صفقات؛ لأن الإذن مطلق، ولا ضرر عليه في ذلك.
وإن وكله: أن يشتري له عبدين صفقة واحدة، فإن اشتراهما من رجل واحد.. صح الشراء للموكل؛ لأنه لم يخالف إذنه، وإن اشتراهما من رجل أو رجلين في صفقتين.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه قد يكون له غرض في أن يبتاعا له صفقة، وإن اشترى عبدين مشتركين بين رجلين في صفقة واحدة.. فقد(6/425)
قال أبو العباس: يصح الشراء للموكل؛ لأنه ابتاعهما صفقة واحدة، فهو كما لو كانا لرجل واحد. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح الشراء للموكل؛ لأن عقد الواحد مع اثنين في حكم العقدين، فلم يصح، كما لو اشتراهما من رجلين في صفقتين.
وإن ابتاع الوكيل العبدين من رجلين، لكل واحد عبد في صفقة واحدة منهما.. فقد قال أبو العباس: لا يصح الابتياع للموكل في قول من يجيز هذا البيع وفي قول من لا يجيزه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وقال ابن الصباغ: إن قلنا: إن الرجل إذا ابتاع ذلك لنفسه، لا يصح الشراء له.. لم يصح الشراء هاهنا للموكل، ولا للوكيل، وإن قلنا هناك: يصح.. فهل يصح الشراء هاهنا للموكل؟ على الوجهين في الوكيل إذا اشترى عبدين من رجلين شركة بينهما صفقة واحدة.
[مسألة: يلزم الوكيل البيع بنقد البلد]
] : وإذا وكله في بيع سلعة، أو شرائها، وأطلق.. لم يجز له أن يبيع ويشتري بغير نقد البلد، وبه قال مالك، ومحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع بغير نقد البلد) . فخالفنا أبو حنيفة في البيع ووافقنا في الشراء.
دليلنا: أنه عاوض بما ليس من غالب نقد البلد، فلم يصح مع الإطلاق، كما لو باع المنافع، ولأن إطلاق البيع والشراء يرجع إلى نقد البلد، كما نقول فيمن باع بثمن مطلق.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن في البلد إلا نقد واحد.. باع الوكيل به واشترى، وإن كان في البلد نقدان، فإن كان أحدهما أغلب في المعاملة.. باع الوكيل به واشترى، وإن كانا غالبين.. عقد بالأنفع للموكل؛ لأنه مأمور بالنصح له، فإن استويا في النفع.. عقد بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.(6/426)
وإن وكله أن يبيع ويشتري بنقد معين.. لم يجز له أن يعقد بغيره، كما لو وكله في شراء عبد.. لا يجوز له أن يشتري جارية.
[مسألة: وكله بالشراء من مال بعينه]
] : إذا دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتري له بعينه عبدا، فاشترى له عبدا بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه إنما وكله في التصرف في ذلك المال المعين لا في غيره، ولأن للموكل غرضا في أن لا يشتري له إلا بعين ذلك المال؛ لأنه إن سلم ذلك المال.. سلم له المبيع، وإن تلف قبل القبض.. بطل البيع، ولم يلزمه شيء في ذمته، وإذا اشترى له الوكيل بثمن في الذمة.. لزمه الثمن، تلف المال أو لم يتلف، وفي ذلك ضرر عليه لم يرض به.
وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن في الذمة، وبنقد من المال الذي دفعه إليه. فإن فعل الوكيل ما أمره فيه من ذلك.. صح الشراء للموكل، وإن خالف فاشترى له العبد بعين المال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشراء للموكل؛ لأنه أقل غررا من أن يبتاع له بثمن في الذمة لأنه يلزمه الثمن مع بقاء المال المعين، ولا يلزمه إذا تلف قبل القبض.
والثاني: لا يصح الشراء، وهو الصحيح؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه أمره بعقد يلزم مع بقاء المال المدفوع، ومع تلفه، فعقد عقدا يلزم مع بقائه، ولا يلزم مع تلفه، فلم يصح.
وإن دفع إليه مالا، وأمره أن يشتري له به عبدا، ولم يقل: بعينه، ولا في الذمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:(6/427)
أحدهما: أن مقتضى ذلك الشراء بعين المال؛ لأنه لما دفع إليه المال، وأمره بالشراء.. كان الظاهر أنه أمره بالشراء بعينه.
فعلى هذا: إذا اشترى له بثمن في الذمة.. لم يلزم الموكل.
والثاني: أنه لا يقتضي الشراء بعين المال، ولا في الذمة، فيجوز له أن يشتري بعين المال، ويجوز له أن يشتري بثمن في الذمة، وينقد الثمن من المال؛ لأن الأمر مطلق.
[مسألة: شراء الوكيل بثمن في الذمة]
] : إذا وكله أن يشتري له سلعة، ولم يدفع إليه الثمن، فاشترى له بثمن في الذمة.. ففي أي ذمة يتعلق الثمن؟ فيه ثلاثة أوجه لأبي العباس:
أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الموكل، ويكون الوكيل ضامنا على الموكل بالثمن؛ لأن الموكل ينتقل إليه ملك المثمن، فكان عليه الثمن، كما لو قبل العقد لنفسه، والوكيل لما تولى العقد.. فقد دخل على أن المطالبة عليه، فصار ضامنا للثمن.
فعلى هذا: للبائع أن يطالب أيهما شاء بالثمن، فإذا قبضه من أحدهما.. برئا من حقه، وإن أبرأ الموكل.. برئ الوكيل، وإن أبرأ الوكيل.. برئ وحده، ولم يبرأ الموكل، وإن أخذ الحق من الوكيل.. رجع الوكيل على الموكل؛ لأنه لزمه بإذنه، وإن أخذ الحق من الموكل.. لم يرجع الموكل به على الوكيل.
والوجه الثاني: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل؛ لأنه هو الذي قبل العقد، ولا يكون للبائع مطالبة الموكل بشيء؛ لأنه ما قبل منه العقد، إلا أن الوكيل ثبت له في ذمة الموكل مثل ما ثبت في ذمته للبائع؛ لأنه التزم ذلك بإذنه.
فعلى هذا: للوكيل أن يطالب الموكل وإن لم يطالبه البائع، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يبرأ الموكل، وإن أبرأ الوكيل الموكل.. برئ.
والوجه الثالث: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل، ولا يثبت في ذمة الموكل(6/428)
للبائع ولا للوكيل شيء؛ لأن الذي باشر العقد هو الوكيل، فكان الثمن عليه، كما لو عقد لنفسه.
فعلى هذا: للبائع مطالبة الوكيل بالثمن دون الموكل، فإذا دفع الوكيل الثمن إلى البائع.. رجع به على الموكل؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يرجع على الموكل بشيء، كما قلنا فيمن أحال غيره بحق على من لا حق له عليه.
وفرع أبو العباس على هذا الوجه: إذا قال الرجل لغيره: بع عبدك هذا من زيد بألف في ذمتي، فباعه.. صح البيع، ولزم الثمن الآمر دون المشتري.
والأول أصح؛ لأنه لا يجوز أن يملك المثمن ولا يملك عليه الثمن، ولا أن يثبت الثمن لغير من ملك من جهته المثمن.
[فرع: للموكل الخيار ما لم ينقد الوكيل الثمن]
] : فإن دفع إليه ألف درهم، وأمره أن يشتري له عبدا بألف درهم في الذمة. وينقد الألف فيه، فابتاع الوكيل العبد بألف في الذمة، فجاء لينقد الألف، فوجده البائع معيبا.. فالبائع بالخيار: بين أن يقبضه معيبا، وبين أن لا يقبضه، فإن قبضه.. فلا كلام، وإن لم يقبضه.. كان له المطالبة بألف سليمة.
وإن تلفت هذه الألف في يد الوكيل قبل أن يقبضها البائع.. تلفت من مال الموكل، ولا شيء على الوكيل؛ لأنه أمانة في يده قبل أن يدفعها، وإن قبضها البائع، ثم وجدها معيبة.. كان له ردها، والمطالبة بألف سليمة، فإذا رده البائع على الوكيل.. قال المحاملي: فإن اختار الوكيل إمساكه معيبا، ويعطي البائع من عنده ألفا سليمة.. فعل، وإن اختار رده للموكل، ليرده له سليما، ليدفعه إلى البائع..(6/429)
فعل، فإن قبضه الوكيل من البائع، ليرده على الموكل، فتلف في يده من غير تفريط.. فهل يجب على الوكيل ضمانه؟
إن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الموكل دون ذمة الوكيل، وإنما الوكيل واسطة.. كان تلف هذا الألف من ضمان الموكل؛ لأنه أمانة في يد الوكيل.
وإن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الوكيل دون ذمة الموكل، وللوكيل مثل ذلك الثمن في ذمة الموكل.. كان تلف الألف من ضمان الوكيل؛ لأن الموكل لما دفع إليه الألف ليدفعه إلى البائع.. فقد دفع إليه مالا ليسقط به الثمن الذي في ذمة نفسه عما لزمه من جهته، فلما لم يدفعه.. فهو أمانة في يده، فإذا دفعه.. ضمنه حينئذ؛ لأنه صرفه بدين في ذمته، فهو كما لو أودعه وديعة، وقال له: إن احتجت إليها، فأنفقها، فما لم ينفقها.. فهي أمانة في يده، فإذا أنفقها.. ضمنها، كذلك هذا إذا دفعها.. ضمنها، فإذا ردها البائع عليه.. عادت إلى ضمانه الأول.
فعلى هذا: إذا دفع الوكيل إلى البائع ألفا سليما.. كان للوكيل على الموكل ألف سليم؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وللموكل عليه ألف معيب، فإن وجد الوكيل مثل المعيبة.. ردها على الموكل، وأخذ منه ألفا سليما، وإن لم يجد مثلها.. دفع إليه قيمتها، ولا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه ربا.
فإن دفع إليه درهم ليشتري له بعينها عبدا، فاشترى له عبدا بعينها، ثم وجد بها البائع عيبا، فإن كان العيب من غير جنسها، بأن خرجت رصاصا أو نحاسا.. فالبيع باطل، لأن العقد وقع على الدراهم، وليست هذه بدراهم، وإن كان العيب من جنسها، بأن خرجت الدراهم مضطربة السكة، أو ناقصة الوزن.. فالبيع صحيح، ولكن يثبت للبائع الخيار: بين أن يمسكها، وبين أن يردها، فإن أمسكها.. فلا كلام، وإن ردها.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا رد.. بطل البيع؛ لأنه لا يملك المطالبة ببدله، فإن تلفت الدراهم في يد الوكيل قبل أن يردها إلى الموكل من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنها أمانة في يده بكل حال.(6/430)
[مسألة: وكله بالبيع عاجلا فباعه مؤجلا]
] : وإن وكله أن يبيع له سلعة بثمن حال.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل؛ لأنه خلاف إذنه.
وإن وكله ببيعها، وأطلق.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل، فإن باعها بذلك.. بطل البيع، وبه قال مالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (يجوز أن يبيعها مؤجلا ولو إلى ثلاثمائة سنة) .
دليلنا: أن الإطلاق يقتضي الحلول، كما لو قال: بعتك هذه السلعة بدينار. فإن الثمن يكون حالا.
وإن وكله أن يبيع بثمن إلى أجل مقدر.. لم يجز له أن يبيع إلى أجل أكثر منه؛ لأنه خلاف إذنه، وإن أذن له في البيع إلى أجل، ولم يقدر الأجل.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها ـ وهو الأصح ـ: أنه لا يصح التوكيل؛ لأن الآجال تختلف، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح كما لو قال: بعتك بألف إلى أجل.
والثاني: يصح التوكيل، ويبيع إلى ما جرت به العادة في التأجيل بالثمن في مثل تلك السلعة، فإن لم يكن فيه عرف.. باع بأنفع ما يقدر عليه؛ لأنه مأمور بالنصح لموكله.
والثالث: يصح البيع إلى أي أجل شاء الوكيل؛ لعموم إذن الموكل.
والرابع: يبيع إلى سنة، ولا يبيع إلى أكثر منها؛ لأن الآجال المقدرة بالشرع إلى سنة، وهو مثل الجزية والدية.(6/431)
[فرع: باع الوكيل السلعة المؤجلة القيمة بثمن حال]
] : وإن وكله في بيع سلعة إلى أجل معلوم، فباعها بثمن حال، فإن باعها بأقل من الثمن الذي يباع به إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ أنه باع بدون الثمن المأذون فيه، وإن باعها حالا بالثمن الذي يباع به الأجل، فإن كانت في وقت لا يؤمن أن يسرق الثمن، أو ينهب إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ لأن في ذلك ضررا عليه لم يرض به، وإن كان الوقت مأمونا..ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه باعه بالثمن المأذون فيه، وزاده بالحلول خيرا، فصح.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة مليء إلى وقت الأجل؛ لأنه قد يحتاج إليه في ذلك الوقت، وإذا حصل في يده ربما أنفقه.
[فرع: وكله بالشراء بثمن حال]
] : وإن وكله أن يشتري له شيئا بثمن حال، فاشتراه له بثمن إلى أجل، فإن لم يقدر له الموكل الثمن.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه ما من ثمن يمكنه أن يشتري تلك السلعة به نقدا إلا ويشتريها إلى أجل بأكثر منه، وإذا كان كذلك.. فقد اشتراها بأكثر من الثمن المأذون فيه، فلم يصح. وإن قدر له الثمن، فإن ابتاعها بأكثر من المقدر.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه اشتراها له بأكثر مما أذن له فيه، وإن ابتاعها بالثمن المقدر، أو بأقل منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه قد اشتراها له بالثمن المأذون له فيه، وزاده التأجيل خيرا.
والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه قد فوت عليه غرضه؛ لأنه قد لا يقدر على الثمن عند الأجل، ويقدر عليه في الحال.
قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور في الأشياء التي لا يجبر صاحبها إذا كانت(6/432)
مؤجلة أن يأخذها في الحال، وأما إذا كانت مما يجبر على قبضها، بأن لا يحتاج في حفظها إلى مؤنة، ولا تكون مخوفا.. فإنه يجوز؛ لأنه يمكنه أن يعجل الثمن وإن كان مؤجلا، فيحصل الغرض.
[مسألة: لا يعطي الوكيل الخيار]
] : وإذا وكله في البيع.. لم يجز له أن يشترط الخيار للمشتري، وإن وكله في الشراء.. لم يجز له أن يشرط الخيار للبائع؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار، وإن شرط الوكيل فيهما الخيار للموكل، أو لنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار.
والثاني: يصح؛ لأن فيه احتياطا.
[مسألة: لا يبيع الوكيل بأقل من ثمن المثل]
] : ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل مما لا يتغابن الناس في مثله من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بأكثر من ثمن المثل مما لا يتغابن الناس بمثله من غير إذن، وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد، ووافقنا أبو حنيفة في الشراء وخالفنا في البيع، فقال: (للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل) . دليلنا: أنه توكيل في معاوضة مطلقة، فوجب أن يقتضي ثمن المثل، كالشراء. قال صاحب " الفروع ": وإن قال: بع هذه السلعة بثمن مثلها وأقل منه وأكثر، عاجلا وآجلا، بنقد البلد وغير نقد البلد.. جاز للوكيل أن يبيع كيف شاء؛ لعموم الإذن، فإن باع الوكيل بثمن المثل، أو بنقصان يتغابن الناس بمثله، فجاء إنسان،(6/433)
فزاده في الثمن، فإن كان بعد انقضاء الخيار.. لم يكن لهذه الزيادة حكم، فإن فسخ.. فلا يصح فسخه؛ لأن البيع قد لزم، وإن كان قبل انقضاء الخيار.. قال الشافعي: (فعليه أن يفسخ البيع مع الأول، ويقبل الزيادة، فإن لم يفعل.. كان البيع مردودا) .
ومن أصحابنا من قال: لا يفسخ البيع الأول؛ لأنه قد صح، ويجوز أن لا يثبت الزائد على الزيادة وهذا خلاف النص؛ لأن حال الخيار كحال العقد، بدليل: أنه يجوز للمتبايعين الزيادة في الثمن والنقصان منه في حال الخيار، كما يجوز في حال العقد، ولو حضر من يطلب الزيادة حال العقد.. لم يجز البيع بأقل منها فكذلك في حال الخيار، وقول من قال: إنه قد لا يثبت الزائد على الزيادة، غير صحيح؛ لأن الظاهر أنه يثبت عليها.
وإن باع الوكيل بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله، أو اشترى بأكثر من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله.. صح؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه لأهل البصر في التجارة.
قال الشافعي: (والغبن قد يقل ويكثر على حسب المبيع، فما كان من الجواهر، والمواشي، والرقيق.. فقد يغبن فيه أكثر ما يغبن في الطعام وما أشبهه؛ لأن الجواهر والمواشي، والرقيق ليس له ثمن معلوم، بل يتفاوت ثمنه، فيقع فيه الغبن أكثر من الطعام) .
فعلى هذا: إذا اشترى الوكيل شيئا، أو باعه، عرض على أهل البصر بذلك الشيء، فإن قالوا: هذا مما يغبن الناس فيه بمثله في العادة.. كان عقده صحيحا، وإن قالوا: غبن بما لا يغبن الناس بمثله في العادة.. كان العقد باطلا، فإن كان ذلك في الشراء.. نظرت:
فإن كان العقد بعين مال الموكل، فإن ذكر حين الشراء: أنه يشتري لموكله، أو(6/434)
نواه، وصدقه البائع.. فالعقد باطل؛ لأنه عقد على مال الموكل ما لم يأذن فيه، وإن لم يذكر حين الشراء: أنه يشتري للموكل، ولا صدقه البائع أنه نواه.. قال الشيخ أبو حامد: كان الشراء للوكيل، وكان عليه غرم الثمن الذي دفعه للموكل.
وإن كان بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه يشتري له بثمن غير مأذون له فيه نطقا، ولا عرفا.
وإن كان في البيع، بأن وكل في بيع عين، ثمن مثلها عشرة، ويتغابن الناس في مثلها بدرهم، فباعها بثمانية.. لم يصح البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، وإن كانت في يد المشتري.. فللمالك أن يطالب بردها من شاء منهما.
وإن قبضها المشتري، وتلفت في يده.. فللموكل أن يضمن المشتري؛ لأنه قبض ما لم يكن له قبضه، وله أن يضمن الوكيل؛ لأنه أقبض ما لم يكن له إقباضه، فإن اختار تضمين المشتري.. ضمنه عشرة؛ لأن التلف حصل بيده، فاستقر الضمان عليه، وإن اختار تضمين الوكيل.. فكم يضمنه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يضمنه العشرة؛ لأنه تعدى بإقباضها، فضمنها بكمال قيمتها، كالغاصب.
والثاني: يضمنه تسعة؛ لأنه لو باعها بذلك.. لصح بيعه، ويضمن المشتري تمام القيمة، وهو درهم.
والثالث ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يضمنه درهما لا غير؛ لأنه لم يفرط إلا فيه، ويضمن المشتري تسعة.
ولم يحك الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غير القولين الأولين، والقول الأول أصح؛ لأن المشتري لو اشتراه بتسعة.. لصح شراؤه، ومع هذا يضمن جميع القيمة، وما يضمنه الوكيل.. يرجع به على المشتري؛ لأن التلف حصل بيده، وما يضمنه المشتري.. لا يرجع به على الوكيل.(6/435)
[فرع: لا يخالف الوكيل القيمة المحددة]
] : وإن قال له: بع هذا العبد بألف درهم.. لم يجز أن يبيع بأقل منه وإن كان ثمن المثل؛ لأن بيع الوكيل مستفاد من قبل الموكل، فلا يجوز له مخالفته.
وإن باعه بألفي درهم، فإن كان الموكل قد عين له من يبيع منه.. لم يصح؛ لأنه قصد تمليكه إياه بألف درهم، فلا يجوز له مخالفته، وإن لم يعين له من يبيع منه.. صح البيع؛ لأن الإذن ضربان: إذن مستفاد نطقا، وإذن مستفاد عرفا، وفي العرف: أن من يرضى ببيع عبده بألف يرضى بيعه بألفين.
وإن قال: بع بألف، ولا تبع بما زاد.. لم يصح أن يبيعه بأكثر من الألف؛ لأن النطق أبطل حكم العرف.
وإن قال: بعه بمائة درهم، فباعه بمائة درهم ودينار.. قال ابن الصباغ: صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه باع بالمأذون فيه وزيادة من جنس الثمن.
وإن باعه بمائة درهم وثوب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه باعه بمائة وزيادة، فصح كما لو باعه بمائة درهم ودينار.
والثاني: لا يصح؛ لأنه باعه بغير جنس الأثمان.
فإن قلنا: يصح بيعه.. فلا كلام، وإن قلنا: يبطل.. بطل البيع فيما يقابل الثوب من العبد، وهل يبطل البيع فيما يقابل الدراهم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: لا تفرق.. بطل البيع في الكل، ولا كلام.
وإن قلنا: تفرق.. قوم الثوب والدراهم، فإن كانا سواء.. بطل البيع في نصف العبد، ولا خيار للموكل؛ لأنه رضي ببيع جميعه بمائة، فإذا تناول ذلك نصفه.. فقد زاده خيرا، وهل يكون للمشترى الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: له الخيار: لأن الصفقة تبعضت عليه.
والثاني: لا خيار له؛ لأنه رضي بذلك.(6/436)
والأول أصح؛ لأن الاعتبار بمقتضى العقد، والعقد اقتضى أن يكون العبد صفقة واحدة.
[فرع: باع الوكيل نصف عبد بالثمن المعين]
] : وإن وكله في بيع عبد بألف، ولم يعين من يبيع منه، فباع الوكيل نصفه بألف.. صح البيع؛ لأن ذلك معلوم من جهة العرف، وإن باعه نصفه بدون الألف.. لم يصح؛ لأنه ربما لم يمكنه أن يبيع باقيه بتمام الألف.
وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد له بألف، ولم يعين له من يبيع منه، فباع منهم واحدا بتسعمائة.. لم يصح؛ لأنه قد لا يشتري الآخران بمائة، وإن باع واحدا منهم بألف.. صح؛ لأن ذلك مأذون فيه من جهة العرف، وهل يصح بيعه للآخرين بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود هو الألف، وقد حصل.
والثاني: يصح؛ لأنه قد أذن له ببيع الجميع، فلا يسقط إذنه ببيع بعضهم.
[فرع: صحة الشراء بالمعين]
] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بعينه بمائة دينار، فاشتراه له بمائة دينار.. صح الشراء للموكل؛ لأنه امتثل أمره نطقا وعرفا، وإن اشتراه بتسعين دينارا، أو أقل منها.. قال أصحابنا: صح الشراء للموكل؛ لأنه مأذون فيه من جهة العرف؛ لأن من يرضى بمائة.. يرضى بما دونها.
والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يصح إذا لم يعرف الموكل سيد العبد، فأما إذا عرفه، أو قال: اشتر لي من فلان عبده بمائة دينار، فاشتراه له بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه قصد محاباته بالثمن، فلا يجوز مخالفته، كما لو قال: بع(6/437)
عبدي من فلان بمائة، فباعه بمائة وعشرة.. فإنه لا يصح.
وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة دينار فاشتراه له بمائة درهم.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه خالف النطق والعرف؛ لأن العرف يقتضي اختصاص الجنس المأذون فيه وإن كان غيره أحط منه وأخف.
وإن قال: اشتره بمائة دينار، ولا تشتره بأقل منها، فاشتراه بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأن النطق أبطل حكم العرف.
وإن قال: اشتره بمائة درهم، ولا تشتره بخمسين درهما.. فله أن يشتريه بمائة؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وله أن يشتريه بما دون المائة وفوق الخمسين؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وليس له أن يشتريه بالخمسين؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، وهل له أن يشتريه بما دون الخمسين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ذلك للموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإنما خرج الخمسون بالنهي، فبقي غيرها على العرف.
والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه عرفا؛ لأنه إنما نهى عن الخمسين ليكون غاية في التقليل، وما دونها أقل منها، فلا يجوز مخالفة نهيه.
[فرع: الشراء بأزيد مما عين الموكل]
] : وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة درهم، فاشتراه له بمائة درهم وعشرة.. لم يلزم الموكل.
وقال أبو العباس: يلزم العبد الموكل بمائة، والعشرة على الوكيل؛ لأنه متبرع بها.
والأول أصح؛ لأنه زاد على الثمن المأذون فيه، فلم يلزم الموكل، كما لو وكله أن يشتري له عبدا، وأطلق، فاشترى له بأكثر من ثمن المثل، ولأنه لو قال: بع هذا(6/438)
العبد بمائة درهم، فباعه بتسعين درهما ... لم يجز أن يقال: يصح البيع بالتسعين ويلزم الوكيل عشرة، فإذ لم يصح ذلك في البيع.. لم يصح في الشراء.
[فرع: لزوم شراء الوكيل إذا كانت الشروط مستوفاة وزيادة]
قال أبو العباس: إن قال: اشتر لي عبدا حبشيا أو روميا، خماسيا أو سداسيا بمائة، فاشترى له عبدا بتلك الصفة بمائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وإن ابتاعه على تلك الصفة بدون المائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإن كان العبد لا يساوي مائة.. لم يلزم الموكل؛ لأنه إنما أذن له في ابتياع عبد بتلك الصفة يساوي مائة، فإذا ابتاع بأقل من مائة ولا يساوي مائة.. لم يتضمنه إذنه نطقا، ولا عرفا، وإن اشترى له عبدا بمائتين، وهو يساوي ذلك.. لم يلزم الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، ولا عرفا.
[فرع: من وكل في السلم بنوع لا يبدله]
] : قال أبو العباس: إذا دفع إلى وكيله دراهم، وقال: أسلفها لي في طعام، أو في الطعام.. أسلفها في الحنطة، فإن أسلفها في الشعير.. لم يصح؛ لأن إطلاق اسم الطعام.. في العرف ينصرف إلى الحنطة دون غيرها وإن كان الطعام اسما للكل في اللغة، إلا أن الاعتبار في العرف دون العموم، ألا ترى أنه لو قال: اشتر لي خبزا.. انصرف ذلك إلى الخبز المعتاد في موضعه، حتى إن كان في العراق.. لم يجز أن يشتري له خبز الأرز؟ هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وقال أبو المحاسن: إذا قال: اشتر لي بها الطعام.. لم يصح التوكيل خلافا لأبي حنيفة.(6/439)
دليلنا: أن التوكيل بشراء الطعام على الإجمال والإبهام لا يصح، كما لو لم يذكر الثمن، ولم يدفعه، فإن كان قد وكله أن يسلفها في طعام إلى أجل، فأسلفها في طعام حال، فإن لم يقدر له قدر الطعام المسلم فيه.. لم يصح السلم؛ لأنه ما من شيء يسلم فيه المسلم إلى أجل بدرهم إلا إذا أسلف فيه حالا يسلف فيه أكثر من الدرهم، وإن قدر له الطعام المسلم فيه إلى الأجل، فأسلف في ذلك القدر حالا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإذا حل السلم، وكان قد أذن له في القبض، أو قلنا: له أن يقبض بمقتضى الوكالة بالسلم، فقبضه الوكيل.. صح قبضه.
فإن أبرأ الوكيل المسلم إليه من الطعام، فإن كان قد ذكر له الوكيل المسلم له في السلم، أو نواه وصدقه المسلم إليه.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يصح إبراء الوكيل من مال الموكل، وإن لم يذكره في السلم، ولا صدقه المسلم إليه أنه نواه.. فالظاهر أن السلم للوكيل، ويصح إبراؤه، ويضمن الوكيل للموكل مثل الطعام؛ لأنه حال بينه وبين طعامه بالبراءة، فصار كما لو قبضه وأتلفه.
[فرع: جواز أن يسلم له بما في ذمته]
] : قال أبو العباس: إذا قال رجل لغيره: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من مال عليك في ذمتك، ففعل الوكيل.. ذلك جاز، وكان الطعام للموكل، وبرئت ذمة الوكيل من القدر الذي دفع من الدراهم في السلم؛ لأنه دفع تلك المائة بإذن الموكل، فهو كما لو أمره بدفعه إلى وكيله، فدفعه.
قال أبو العباس: ولو قال: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من عندك لتكون لك علي قرضا، ففعل ذلك.. جاز؛ لأنه يجوز للإنسان أن يبتاع شيئا لغيره بمال نفسه بعوض يستحقه عليه، كما إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن كفارتي وعلي قيمته، فأعتقه عنه..صح، ولزمته القيمة.
قال الشيخ أبو حامد: وهاتان المسألتان سهو من أبي العباس، ومذهب الشافعي:(6/440)
(أنه لا يجوز أن يشتري لغيره شيئا بماله) ، وإنما فرعه على مذهب أبي حنيفة، وتأويل المسألة الأولى: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في كر من طعام ـ ولا يعينه بالدين ـ ثم يأذن له أن يسلم الدين الذي عليه عنها، فيبرأ.
وتأويل الثانية: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في ذمتي في كر من طعام، فإذا فعل.. قال: اقض عني المائة لأدفع إليك عوضها.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن الذي أراد أبو العباس: أن يسلم هكذا، ولا يحتاج إلى ما شرط من تأخير الإذن، ويجوز له أن يدفع الثمن من عنده، أو يدفع الدين الذي عليه؛ لأن التصرف من الوكيل يجوز تعليقه بالشرط، قال: وكذلك إذا قال: اشتر به عبدا، سواء عينه، أو لم يعينه، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن عين العبد.. جاز، وإن لم يعينه.. لم يجز) .
دليلنا: أنه دفع بإذنه، فأشبه إذا عين.
[فرع: اشترى بدينار شاتين قيمة إحداهما دينار]
] : وإن دفع إلى رجل دينارا، ووكله أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له شاتين بدينار، فإن كانت كل واحدة لا تساوي دينارا.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه خالف الإذن النطقي والعرفي؛ لأن من رضي شاة بدينار لا يرضى بما دونها. وإن كانت واحدة منهما تساوي دينارا، فإن اشتراهما في الذمة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الملك فيهما للموكل، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى عروة البارقي دينارا، وأمره أن يشتري له شاة أضحية، فاشترى له شاتين، فلقيه رجل، فاشترى منه شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ودينار، فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك» فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك فدل على(6/441)
جوازه، ولأنه مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى بشاة تساوي دينارا بدينار.. يرضى بشاتين تساوي كل واحدة منهما دينارا بدينار.
فإذا قلنا بهذا: فباع الوكيل إحداهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لحديث عروة البارقي، ولأنه قد بلغه مقصودة، فصح كما لو اشترى له شاة تساوي دينارا بنصف دينار، فأتاه بشاة ونصف دينار.
والثاني: لا يصح؛ لأنه باع مال غيره بغير إذنه، فلم يصح، كما لو اشترى له شاة بدينار، فباعها بدينارين، وحديث عروة يتأول على: أنه كان وكيلا مطلقا.
والقول الثاني: إن الملك انتقل إلى الموكل في إحداهما، وإلى الوكيل في الأخرى، ووجهه من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز بيعه في إحداهما) .
فلولا أن عروة قد ملك إحداهما.. لما صح بيعه فيها، إذ لو ملكهما النبي صلى الله عيه وسلم.. لما صح بيع عروة لإحداهما بغير إذنه، ولأن الموكل أذن له في ابتياع شاة، فملكها، ولم يأذن له في ابتياع الأخرى، فلم يملكها.
فإذا قلنا بهذا: كان الموكل بالخيار: بين أن يأخذ إحداهما بنصف دينار، ويرجع على الوكيل بنصف دينار، وبين أن يأخذهما جميعا بالدينار؛ لأنه إذا جاز للشفيع أن ينتزع ملك المشتري بالثمن بغير اختياره لاشتراكهما في الملك.. فلأن يجوز للموكل أن ينتزع ملك الوكيل الذي أضاف ابتياعه والعقد فيه إليه أولى وأحرى.
وأما إذا كانت إحدى الشاتين تساوي دينارا، والأخرى لا تساوي دينارا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يصح الشراء في حق الموكل في واحدة منهما؛ لأنه أذن له في شراء شاة تساوي دينارا، فلا يقع له غيرها.
والثاني: يصح، وهو الأقيس، ولم يذكر في " المجموع " و" الفروع " غير هذا؛ لأنه قد وجد المأذون فيه، وزيادة.
فإن قلنا: إنهما للموكل، فباع الوكيل التي تساوي دينارا.. لم يصح بيعه لها،(6/442)
وجها واحدا؛ لأنه لا يحصل للموكل غرضه، وإن باع التي لا تساوي دينارا.. فهل يصح بيعه؟ على الوجهين الأولين.
وإن قلنا: إن للوكيل إحداهما.. كان له التي لا تساوي دينارا بحصتها من الدينار، وللموكل الخيار في أخذها، كما مضى.
وإن ابتاع الشاتين التي تساوي كل واحدة دينارا بعين دينار الموكل، فإن قلنا: إن الجميع للموكل.. صح البيع فيهما له، والحكم فيهما ما مضى، وإن قلنا: إن الملك في إحداهما للوكيل.. صح البيع في إحداهما، ويبطل في الأخرى؛ لأنه لا يجوز أن يصح له الابتياع بعين مال غيره.
[مسألة: شراء الوكيل يجعل السلعة للموكل]
] : إذا وكل رجلا في شراء سلعة، فاشتراها الوكيل للموكل.. دخلت في ملك الموكل.
وقال أبو حنيفة: (تدخل في ملك الوكيل أولا، ثم تنتقل منه إلى الموكل) .
دليلنا: أنه قبل العقد لغيره، فإذا صح قبوله له.. لم يملكه الوكيل، كما لو قبل له النكاح، وقد وافقنا على النكاح، ولأنه لو وكله في بيع السلعة، فباعها.. لم يملكها الوكيل، وكذلك إذا وكله في شرائها.. لا يملكها الوكيل أيضا.
[فرع: وكله في شراء جارية معينة فخالفه]
] : وإن وكله أن يشتري له جارية معينة، فاشترى له غيرها، أو أذن له أن يشتريها بثمن مقدر، فاشتراها بأكثر منه، أو بغير جنسه.. فإن الشراء لا يصح في حق الموكل؛ لأنه يخالف الإذن النطقي والعرفي، وهل يصح الشراء للوكيل؟ ينظر فيه:
فإن اشترى بعين مال الموكل، فإن ذكر: أنه يشتري لموكله في العقد، أو لم يذكر الموكل، ولكن صدقه البائع أن المال للموكل، أو قامت البينة على ذلك.. لم يصح(6/443)
الشراء في حق الوكيل؛ لأنه لا يجوز أن يبتاع لنفسه بعين مال غيره، وإن لم يذكر الوكيل الموكل في العقد، فادعى البائع أن الوكيل اشترى لنفسه بمال نفسه.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يد الإنسان أنه يملكه، ويحكم بصحة الشراء للوكيل، ويغرم الوكيل للموكل ما دفع من عين ماله؛ لأنه ضمنه بذلك.
وإن كان قد اشترى بثمن في الذمة، فإن لم يذكر الموكل في الشراء.. انعقد الشراء للوكيل؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يؤذن له فيه، فانعقد له كما لو لم يوكله، وإن ذكر في العقد: أنه يشتريه للموكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح في حق الوكيل؛ لأن البائع أوجبه للموكل، فإذا لم يلزمه.. لم يصح، كما لو وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوج له غيرها.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن الشراء يصح للوكيل، وهو الصحيح؛ لأنه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن له فيه، فانعقد في حق الوكيل، كما لو لم يذكر الموكل، ويخالف النكاح؛ لأن القصد أعيان الزوجين، ولهذا يشترط أن يقبل النكاح باسم الزوج، والقصد بالبيع الثمن، ولهذا يصح أن يقبل الوكيل البيع لموكله وإن لم يسمه.
[مسألة: إشهاد الوكيل على الإقباض]
وإن وكله في قضاء دين عليه.. لزم الوكيل أن يشهد على القضاء؛ لأنه مأمور بالنصح له فيما وكل فيه، ومن النصح له أن يشهد، فإذا ادعى الوكيل أنه قد قضى الغريم، فإن صدقه الغريم.. فلا كلام، وإن كذبه، ولم تكن هناك بينة حاضرة.. فالقول قول الغريم مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القضاء، ولا يقبل قول الوكيل على الغريم؛ لأن الوكيل ليس بأمين للغريم، فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم، ولأن يد الوكيل كيد الموكل، ولو ادعى الموكل على الغريم أنه قضاه.. لم يقبل قوله عليه، فكذلك الوكيل.(6/444)
فإذا حلف الغريم.. أخذ حقه من الموكل؛ لأن حقه عليه، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، فإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بغيبة الموكل.. نظرت:
فإن دفع من غير إشهاد.. ضمن ما دفع؛ لأنه فرط في ذلك.
وإن كان قد أشهد على الدفع شاهدين عدلين، ثم ماتا، أو فسقا، وصدقه الموكل على ذلك.. لم يلزمه الضمان؛ لأنه غير مفرط.
وإن أشهد على الدفع شاهدين لا تقبل شهادتهما، فإن كان ما ترد به شهادتهما أمرا ظاهرا، بأن كانا كافرين، أو عبدين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. كان كما لو لم يكن أشهد، ويلزمه الضمان، وإن كان فسقهما خفيا لا يعرفه إلا الحاكم مع البحث ... ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الضمان) .
وإن أشهد شاهدا واحدا، فإن كان حاضرا.. حلف معه الوكيل. وثبت الدفع. وإن كان غائبا، أو ميتا، أو كان عدلا لكنه فسق.. ففيه وجهان.. ذكرناهما في (الضمان) أيضا.
وإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بحضرة الموكل، ولم يشهد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنه دفع؛ دفع دفعا لا يبرئ، فلزمه الضمان، كما لو دفع بغيبة الموكل، ولأن سبب الضمان هو ترك الإشهاد، فلا يسقط حكمه بحضور الموكل، كما لو أتلف مال رجل بحضرته.
والثاني: لا يلزم الوكيل الضمان؛ لأن الوكيل إنما يلزمه الإشهاد بغيبة الموكل، فأما إذا حضر: فالاحتياط في الإشهاد إليه، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فلا يضمن غيره ماله بتفريط نفسه.
[فرع: الإشهاد عند الإيداع]
] : وإن وكله: أن يودع ماله عند غيره.. فهل يجب على الوكيل الإشهاد على الدفع للمودع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، كما قلنا في قضاء الدين.(6/445)
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه لا فائدة في الإشهاد؛ لأن القول قول المودع في التلف والرد.
فإن ادعى الوكيل أنه قد دفع الوديعة إلى المودع، فأنكر المودع.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيداع، ولا يقبل قول الوكيل عليه؛ لأنه لم يأتمنه، فإذا حلف المودع.. انقطعت الخصومة عنه، وتبقى الخصومة بين الموكل والوكيل.
فإن كان الوكيل قد أشهد على الإيداع، أو اعترف له الموكل بذلك.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير مفرط، وإن لم يشهد على الإيداع، فإن كان قد دفع الوديعة بغيبة الموكل، فإن قلنا: يلزمه الإشهاد على الدفع.. لزمه الضمان؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، وإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه، وإن كان قد دفع الوديعة بحضرة الموكل من غير إشهاد، فإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه وإن قلنا: يلزمه الإشهاد فهل يلزمه الضمان هاهنا؟ فيه وجهان، كما قلنا في قضاء الدين.
[مسألة: إدعاء الوكالة تثبت مع الشاهدين]
] : إذا كان عند رجل لآخر حق، إما عين في يده، أو دين في ذمته، فجاء رجل إلى من عليه الحق، فقال: قد وكلني فلان بقبض حقه منك، وأقام الوكيل على ذلك شاهدين.. ثبتت وكالته، واستحق المطالبة، فإن قال من عليه الحق: كذب الشاهدان، والوكيل يعلم أنهما شهدا علي بالزور، فإن حلفه: أنه لا يعلم ذلك.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن هذا طعن على البينة العادلة.
فإن قال: قد قبض الموكل حقه، أو أبرأني منه.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإن ادعى أن الوكيل يعلم ذلك وطلب يمينه.. حلف الوكيل: أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن قال للوكيل: أخر القبض حتى يحضر الموكل.. لم يلزمه التأخير؛ لأنه قد ثبت له تعجيل القبض، فلا يلزمه تأخيره فإذا قبض الوكيل الحق، ثم حضر الموكل، وطالبه.. كان لمن عليه الحق أن يستحلف الموكل أنه ما قبض الحق، ولا أبرأه منه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن أقر بالقبض،(6/446)
أو نكل وحلف من عليه الحق.. استرجع ما قبضه الوكيل، فإن قال من عليه الحق للموكل: احلف: أن شهودك شهدوا بحق علي.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن في ذلك طعنا على البينة.
وإن لم يقم البينة على وكالته.. نظرت فيمن عليه الحق:
فإن صدق الوكيل فيما ادعى.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه.
وقال المزني: يجب عليه الدفع إليه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق دينا.. وجب عليه دفعه إليه، وإن كان عينا ـ فعنه روايتان، أشهرهما ـ: أنه لا يجب عليه الدفع إليه) .
دليلنا: أن إقراره بالوكالة لا يتضمن براءته بدفعه إليه، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان الحق عينا، ولأنه دفع لا يبرأ به من عليه الحق إذا أنكر الموكل الوكالة، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان عليه دين بشهادة، فطولب به من غير إشهاد.
إذا ثبت هذا: فإن دفع من عليه الحق إلى الوكيل، ثم حضر الموكل، فإن صدقه على الوكالة.. فقد برئ الدافع، وصح القبض، وإن أنكر الوكالة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فإذا حلف.. نظرت:
فإن كان الحق عينا، فإن كانت قائمة.. كان له أن يطالب بها من شاء من الدافع والقابض؛ لأن الدافع دفع ما لم يكن له دفعه، والقابض قبض ما ليس له قبضه. فإذا طالب الدافع.. كان للدافع أن يطالب القابض بردها إليه. وإن كانت العين تالفة.. كان له أن يطالب بقيمتها من شاء منهما، كما لو كانت قائمة، فإذا رجع على أحدهما بقيمتهما.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر؛ لأن كل واحد منهما يقول ظلمني الموكل برجوعه علي، فلا يكون له الرجوع على غير من ظلمه.
قال ابن الصباغ: وإن أتلفها القابض، أو تلفت عنده بتفريط، فرجع الموكل على الدافع.. فينبغي أن يرجع الدافع على القابض؛ لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا(6/447)
صحيحا، وأن الضمان على القابض للموكل دونه.. فإنه يقول: ظلمني بالرجوع علي، ولكن له قيمة العين على القابض، فكان له أخذ حقه الذي ظلمه به من الذي يملكه على الوكيل.
فإن كان الحق دينا.. فلمن له الحق أن يرجع بدينه على الدافع، وجها واحدا؛ لأن الحق له ثابت في ذمته، وهل له أن يرجع على القابض؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: له أن يرجع عليه؛ لأنه مقر بأنه قد قبض الحق له.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: ليس له الرجوع عليه، وهو الصحيح؛ لأن حق صاحب الدين في ذمة من عليه الدين لم يتعين في المقبوض.
فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وقبض من له الدين الحق من الوكيل.. برئ الدافع والوكيل.
وإن قلنا: لا يجوز له الرجوع عليه، أو قلنا: يجوز، واختار الرجوع على من عليه الحق، فإن كان المال باقيا في يد الوكيل.. فلمن عليه الدين أن يرجع به على الوكيل؛ لأن من عليه الدين يقول: قد ظلمني برجوعه علي، ولكن هذا المال له، فلي أخذه بما ظلمني. وإن كان المال قد تلف في يد الوكيل بغير تفريط.. لم يرجع الدافع على الوكيل لأنه مقر بأنه أمين تلف المال في يده بغير تفريط وإن أتلفه الوكيل، أو فرط في تلفه.. قال ابن الصباغ: فللدافع أن يرجع عليه؛ لأنه ظلمه بالخروج. وهو يستحق في ذمة الوكيل قدر ما أتلفه، فكان له أخذه بدلا عما ظلمه به.
وإن لم يصدق من عليه الدين الوكيل في الوكالة.. فالقول قوله من غير يمين.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجب عليه أن يحلف) . وقد مضى الدليل عليهما.
قال ابن الصباغ: الذي يجيء على أصلنا: أنه لا تسمع دعوى الوكيل على من عليه الدين؛ لأن الوكيل في الخصومة لا يصح أن يدعي قبل ثبوت وكالته.(6/448)
[فرع: ثبوت دعوى الوكالة بشاهدين]
] : إذا ادعى الوكالة، وأقام شاهدين ذكرين.. ثبتت وكالته، وإن أقام شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أربع نسوة.. لم تثبت وكالته بذلك؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ومما يطلع عليه الرجال، فإن شهد له رجل: أنه وكله، وشهد الآخر: أنه وكله، ثم عزله.. لم تثبت وكالته؛ لأنه لم يبق معه إلا شاهدا؛ لأن الآخر لم يثبت وكالته في الحال.
وإن شهدا له بالوكالة، فحكم الحاكم بوكالته، ثم قال أحدهما: قد عزله، أو كان قد عزله.. لم يحكم ببطلان الوكالة؛ لأنه إن كان ذلك رجوعا عن الشهادة.. لم يقبل؛ لأن الرجوع عن الشهادة بعد الحكم لا يقبل، وإن كان ذلك ابتداء شهادة بالعزل بعد الوكالة.. لم يقبل؛ لأن العزل لا يثبت بشهادة واحد، وإن قالا: عزله بعد الحكم، فإن كان ذلك رجوعا.. لم يقبلا، وإن كان ابتداء شهادة بالعزل.. قبلت شهادتهما؛ لأن العزل يثبت بشاهدين.
وإن شهدا له بالوكالة، ثم قال أحدهما ـ قبل الحكم بثبوت الوكالة ـ: قد عزله، أو كان قد عزله.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحكم بثبوت الوكالة؛ لأن هذا ليس برجوع، وإنما هو إثبات للعزل، والعزل لا يثبت بواحد.
والثاني: لا يحكم بها، وهو الصحيح؛ لأنه لم يقم على شهادته إلى أن يقضي الحاكم بصحة الوكالة، فهو كما لو ذكر العزل مضافا إلى الشهادة.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه يوم الجمعة، أو شهد أحدهما: أنه وكله بالعربية، وشهد الآخر أنه وكله بالفارسية.. لم تثبت الوكالة؛ لأنها شهادة على فعلين.. وإن شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه وكله، وشهد الآخر على إقراره بالفارسية أنه وكله ثبتت الوكالة؛ لأن الإقرارين إخباران عن عقد واحد.(6/449)
وإن شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أذنت لك في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه قال له جعلتك وكيلا، وشهد الآخر: أنه قال: جعلتك جريا، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيله، وشهد الآخر: أنه جعله وصيه، أو شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أوصيت إليك في حال الحياة.. لم تثبت الوكالة في هذه المسائل كلها؛ لأنهما شهادتان على فعلين.
وإن شهد أحدهما.. أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيلا، وشهد الآخر: أنه جعله متصرفا.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل، وإنما عبرا عن التوكيل بلفظهما، واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، وهكذا لو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه أوصى إليه في حال الحياة.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما إخباران عن عقد.
[فرع: ادعى الوكالة وشهد له بها]
] : وإن ادعى الوكالة وشهد له بها شاهدان، أحدهما ابن الآخر.. قبلت شهادتهما؛ لأن القرابة تمنع إذا كانت بين الشاهد والمشهود له، فأما إذا كانت بين الشاهدين.. فلا تؤثر.
وإن شهد بالوكالة ابنا الوكيل، أو أبواه، أو أبوه وابنه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان له التصرف، فلم يقبلا، كما لو شهدا له بمال، وإن شهد له بالوكالة أبو الموكل، أو ابناه.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنهما لا يقبلان؛ لأنهما يثبتان بذلك التصرف عن الموكل، فهي شهادة له.(6/450)
قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن هذه الوكالة ثبتت بقول الموكل، ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله.. يثبت بشهادة قرابته عليه، كالإقرار، فأما إذا ادعى الوكالة، فأنكر الموكل، فشهد عليه ابناه، أو أبواه.. ثبتت الوكالة، وأمضى تصرفه؛ لأن ذلك شهادة عليه، وهكذا: إذا أنكر من عليه الحق وكالة الوكيل، فشهد بها ابنا من عليه الحق، أو أبواه.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان عليه.
[فرع: شهادة الابنين بعزل وكيل الأب]
وإذا ثبتت وكالة رجل بالبينة بقبض حق عليه غيره، ثم جاء ابنا الموكل، فشهدا: أن أباهما قد عزل الوكيل، فإن صدقهما الوكيل.. انعزل، ولم ينفذ تصرفه؛ لأنه اعترف بعزل نفسه، وإن كذبهما.. قيل لمن عليه الحق: أتدعي العزل؟ فإن قال: نعم.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما، وإن لم يدع العزل..لم تبطل الوكالة. وكان له قبض الحق، فإن حضر الموكل، وادعى العزل، وشهد له ابناه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما.
[فرع: رفع دعوى على وكيل حاضر والأصيل غائب]
وإن ادعى على رجل غائب مالا في يد وكيل له حاضر، وأقام عليه البينة، وحلفه الحاكم، ثم حضر الغائب، وأنكر الوكالة، وادعى العزل قبل الدعوى، وأقام على ذلك بينة.. لم يؤثر ذلك في الحكم؛ لأن الحكم على الغائب لا يفتقر عندنا إلى حضور الوكيل.
وإن حضر رجل عند الحاكم، فوكل عنده رجلا في خصوماته، فإن كان الموكل حاضرا.. لم يفتقر إلى معرفة اسمه ونسبه، وإن غاب الموكل، فإن كان الحاكم يعرف الموكل باسمه ونسبه.. صح للوكيل أن يخاصم، وإن كان لا يعرف اسمه ونسبه.. لم(6/451)
تصح خصومة الوكيل، إلا أن يقر الخصم أن الذي وكله هو فلان بن فلان؛ لأن الحق عليه.
[فرع: شهادة رجلين أن فلانا وكيل لغائب]
] : إذا شهد رجلان: بأن فلانا الغائب وكل عمرا في كذا، فإن قال عمرو: صدقا.. ثبتت وكالته، وإن قال عمرو: أنا لا أعلم أنه وكلني، ولكن أنا أطالب بالحق.. صحت وكالته؛ لأن وكالته ثبتت بالبينة، وقوله: (لا أعلم) أي: أني ما سمعت، وقوله: (أنا أطالب) قبول للوكالة، وإن قال: لا أدري أنه وكلني، أو لا أعلم وسكت.. قال أبو العباس: قيل له: قد شهد لك بالوكالة اثنان، أتصدقهما، أم تكذبهما؟ فإن صدقهما.. ثبتت وكالته، وإن كذبهما.. لم تثبت وكالته.
وإن شهد رجل: أن زيدا وكل عمرا ببيع هذا العبد، وشهد آخر: أنه وكله وخالدا ببيعه.. لم تثبت وكالة واحد منهما؛ لأن أحدهما شهد لعمرو بالتصرف منفردا، وشهد له الآخر بالتصرف مع غيره، فلا يتصرف بنفسه؛ لما ذكرناه، ولا يتصرف مع خالد؛ لأنه لم يشهد لهما غير واحد. وإن شهد له شاهد: أنه وكله في بيع هذا العبد، وشهد الآخر: أنه وكله في بيع هذا العبد وهذه الجارية.. ثبتت وكالته في العبد؛ لأنهما اتفقا عليها، ولا تثبت في الجارية؛ لأنه لم يشهد بها غير واحد.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله في بيع عبده، وأطلق، وشهد الآخر: أنه وكله في بيعه، وقال: لا تبعه حتى تستأمرني.. لم تثبت وكالته في بيعه؛ لأنها شهادة مختلفة.
[فرع: ادعاء رجل على مدين موت صاحب الحق وأنه وارثه]
] : إذا كان على رجل دين لآخر، أو عين في يده، فجاء آخر، وقال: قد مات صاحب الحق، وأنا وارثه، لا وارث له غيري، فإن صدقه من عليه الحق.. لزمه الدفع إليه؛ لأنه اعترف له بملك الحق، وإن كذبه، وأقام المدعي بينة.. حكم له بذلك، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من عليه الحق مع يمينه؛ لأن الأصل(6/452)
بقاء من له الحق، فيحلف: أنه لا يعلم أن صاحب الحق قد مات، أو لا يعلم أنه لا وارث له سواه؛ لأنه يمين على نفي فعل غيره.
وإن جاء إلى من عليه الحق والدين لغيره، وقال قد أحالني صاحب الحق عليك، فإن صدقه من عليه الدين.. فهل يلزمه الدفع إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه قد اعترف له بملك الدين، فصار كما لو اعترف أن صاحب الحق مات، وأن هذا وارثه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه وإن صدقه.. فإن هذا الدفع لا يبرأ به؛ لأنه ربما أنكر من له الحق الحوالة وحلف، فصار كما لو صدقه أنه وكيله في القبض.
وإن كذبه من عليه الحق، فإن أقام المحتال بينة.. حكم له بالحق، ولزم المحال عليه الدفع إذا قلنا: إن رضا المحال عليه ليس بشرط، وإن لم تكن بينة.. فهل تلزمه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه لزمه الدفع إليه.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيصدقه.
وإن قلنا: لا يلزمه الدفع، وإن صدقه.. لا تلزمه اليمين؛ لأنه لو صدقه.. لم يلزمه الدفع، فلا فائدة في اليمين.
[مسألة: فسخ الوكالة]
وإذا وكل غيره في تصرف.. كان لكل واحد منهما أن يفسخ الوكالة؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز لكل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه.
إذا ثبت هذا: فالعقود على أربعة أضرب:
[أحدها] : ضرب لازم من الطرفين: كالبيع، والصرف: والسلم، والإجارة، والخلع، وفي النكاح وجهان:(6/453)
أشهرهما: أنه لازم من الطرفين.
والثاني: أنه لازم من جهة الزوجة، جائز من جهة الزوج؛ لأنه يملك رفعه.
والأول أصح؛ لأنه لا يملك فسحة، وإنما يملك قطعه وإزالة ملكه عنه، كما يملك الرجل عتق عبده.
والضرب الثاني: جائز من الطرفين، وهو الوكالة، والشركة، والقراض، والرهن قبل القبض، والجعالة، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ.
والضرب الثالث: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، وهو الكتابة، والرهن بعد القبض.
والضرب الرابع: اختلف قول الشافعي فيه، وهو السبق، والرمي، على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
إذا ثبت هذا: فالفسخ أن يقول أحدهما: فسخت الوكالة، أو أبطلتها، أو نفضتها: أو يقول الموكل: عزلتك، أو صرفتك عنها، أو أزلتك عنها، أو يقول الوكيل: عزلت نفسي أو صرفتها عني، أو أزلتها.
وإذا عزل الوكيل نفسه عن الوكالة.. انعزل، سواء كان بحضور الموكل وعلمه، أو بغير حضوره وعلمه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للوكيل أن يعزل نفسه إلا بحضور الموكل وعلمه، فأما بغير حضوره وعلمه.. فلا يجوز) .
دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغير، فلم يفتقر إلى حضور ذلك الغير، كالطلاق، ولأن الوكالة عقد جائز، فجاز لأحدهما فسخها بغير حضور الآخر، كالشركة، والقراض.
وأما الموكل إذا عزل الوكيل عن الوكالة، فإن عزله بحضرته أو بغيبته إلا أنه علم بالعزل قبل التصرف.. انعزل، ولم يصح تصرفه، وإن عزله ولم يعلم بعزله، فتصرف.. فهل ينعزل؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:(6/454)
أحدهما: لا ينعزل، ويصح تصرفه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تصرف الوكيل عن إذن، فلم ينقطع لمجرد المنع من غير علم بالمنع، كما إذا أمر الله تعالى بفعل شيء، ثم نهى عنه.
والثاني: ينعزل، فلا يصح تصرفه، وهو الصحيح؛ لأنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغائب، فلم يفتقر إلى علمه، كالطلاق، ولأن العزل معنى يفسخ الوكالة إذا علمه الوكيل، فوجب أن يفسخه وإن لم يعلمه الوكيل، كجنون الموكل.
[فرع: انفساخ الوكالة بموت أحد طرفيها]
] وإن وكله في تصرف، ثم ماتا أو أحدهما قبل التصرف، أو جنا أو أحدهما، أو أغمي عليهما أو على أحدهما. بطلت الوكالة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل التصرف، فبطلت الوكالة بذلك.
وإن حجر عليهما، أو على أحدهما للسفه. بطلت الوكالة فيما لا يصح تصرفه فيه مع السفه، كالبيع، والهبة، وغيرهما، ولا تبطل الوكالة فيما يملكه مع السفه، كالطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن كان الحجر للفلس. بطل توكيله في بيع أعيان ماله؛ لبطلان تصرفه فيه، وفي هبتها، ولم يبطل في التصرف في ذمته، ولا في الطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن فسقا أو أحدهما، فإن كان تصرفا يشترط فيه العدالة.. بطل، وإن كان لا يشترط فيه العدالة.. لم يبطل.
[فرع: تعذر التصرف يبطل الوكالة]
] وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه الموكل، أو أعتقه، أو وكله في نقل زوجته فطلقها.. بطلت الوكالة لتعذر التصرف.(6/455)
[فرع: الردة لا تؤثر في الوكالة]
] وإن وكل مسلم مسلما، ثم ارتد الوكيل.. لم تبطل وكالته، وكذلك إذا وكل المسلم مرتدا.. صحت وكالته، قولا واحدا؛ لأن ردته لا تؤثر في تصرفه، وإنما تؤثر في ماله.
فأما إذا ارتد الموكل: فهل يبطل توكليه؟ فيه ثلاثة أقوال، بناء على زوال ملكه بالردة.
أحدها: يزول ملكه، فتبطل وكالته.
والثاني: لا يزول ملكه، فلا تبطل وكالته.
والثالث: أن ملكه موقوف؛ فإن رجع إلى الإسلام.. لم يزل ملكه، فلا تبطل وكالته، وإن مات على الردة، أو قتل عليها.. زال ملكه بالردة، فبطلت وكالته، وهكذا إذا وكل المرتد مسلما.. فهل تصح وكالته؟ على هذه الأقوال الثلاثة.
[فرع: الطلاق لا يبطل وكالة الزوجين لأحدهما]
] وإذا وكل أحد الزوجين الآخر في البيع والشراء وما أشبههما ... صح؛ لأنها نيابة، فصحت بين الزوجين، كالأجنبيين، فإن طلق الزوج زوجته.. لم تبطل الوكالة؛ لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة، فلم يمنع استدامتها. فإن وكل السيد عبده بتصرف، ثم أعتقه، أو باعه..ففيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: لا ينعزل؛ كما لو وكل زوجته، ثم طلقها.
الثاني: ينعزل، لأن ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو استخدام بحق الملك، فإذا زال الملك.. بطل الاستخدام، وإن أمر السيد عبده أن يتوكل لغيره، فتوكل له ثم أعتقه السيد، أو باعه.. فهل تبطل وكالته؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالأولى.(6/456)
ومنهم من قال: لا تبطل وجها واحدا؛ لأنه وإن كان من جهة السيد أمر، فهي وكالة في الحقيقة من جهة الموكل.
وإن قال السيد لعبده: إن شئت فتوكل له، وإن شئت فلا تتوكل له، فتوكل له، ثم أعتقه السيد، أو باعه.. لم تبطل الوكالة، وجها واحدا؛ لأن السيد لم يأمره، وإنما خيره، فصار ذلك وكالة في الحقيقة.
[مسألة: ضمان الوكلاء ونحوهم]
] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ضمان على الوكلاء، ولا على الأوصياء، ولا على المودعين، ولا المقارضين، إلا أن يتعدوا، فيضمنوا) .
وجملة ذلك: أن الأيدي ثلاث: يد أمانة، ويد ضامنة، ويد اختلف قول الشافعي فيها.
فأما (يد الأمانة) : فهي يد الحاكم، وأمين الحاكم، والوصي، والمرتهن، والوكيل، والمودع، والمقارض، والشريك، والمساقي، والمستأجر؛ لأنهم يمسكون العين لمنفعة مالكها، وبالناس إلى ذلك حاجة، فلو قلنا: إن عليهم الضمان.. لامتنع الناس من قبول ذلك.
وأما (اليد الضامنة) : فيد المستعير، والغاصب، والمساوم، ومن أخذ الشيء ببيع فاسد.
وأما (اليد التي اختلف قول الشافعي فيها) : فيد الأجير المشترك، ويأتي بيان ذلك في (الإجارة) .
إذا ثبت هذا: فإن دفع إليه سلعة، ووكله في بيعها، وقبض ثمنها، فتلفت العين في يده، أو قبض ثمنها، فتلف في يده من غير تفريط.. لم يجب عليه الضمان؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، فكان الهالك في يده كالهالك في يد موكله.(6/457)
[فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به]
] إذا طالب الموكل برد ما بيده.. وجب عليه رده عليه على حسب إمكانه، فإن أخر الرد.. نظرت:
فإن كان لعذر.. لم يصر بذلك ضامنا.. قال أبو إسحاق: والعذر: مثل أن يكون قد خرج ليصلي صلاة الجماعة، فأخر ليفرغ من الصلاة، أو كان يبيع ويشتري في السوق، فقال حتى أرجع إلى البيت، أو كان مريضا، فقال: لا أحب أن يتولى إخراجها غيري، لأني قد أحرزتها، أو كان محبوسا، فقال: حتى أخلى أو كان في الحمام، أو يأكل الخبز، فقال حتى أفرغ، أو كان في وقت نومه، أو كان يحفظ مالا لا يخشى ضياعه، أو ملازما لغريم له، لأنه غير مفرط بذلك. قال: وكذلك إذا طالبه به، فقال: هو في الصندوق، وقد ضاع المفتاح.. فإنه لا يجبر على كسر القفل، بل يؤخر حتى يجد المفتاح، أو يصلح غيره؛ لأنه غير مفرط.
وإن أخر الرد لغير عذر، أو أخره لعذر ولكن زال العذر ولم يشتغل بالرد.. ضمن؛ لأنه مفرط بذلك، وإذا طالبه بالرد، فمنعه من غير عذر.. ضمنها، سواء تلف قبل أن يمضي زمان إمكان الرد، أو لم يمض؛ لأنه صار ضامنا بالمنع من غير عذر فإن ادعى الوكيل أنه قد كان تلف قبل المطالبة برده، أو قال: كنت رددته.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار مكذبا لنفسه ضامنا في الظاهر، فإن أقام على ذلك بينه.. فهل تسمع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسمع، كما لو صدقه الموكل على ذلك.
والثاني: لا تسمع، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه قوله يكذب بينته، ويخالف إذا صدقه الموكل؛ لأنه يقر ببراءته، فلم يستحق مطالبته.
وأما إذا طالبه برده، فأمتنع الوكيل من رده، وعنده أن الشيء باق، ثم بان أنه كان تالفا.. فهل يلزمه الضمان؟ فيه وجهان:(6/458)
أحدهما: يلزمه الضمان؛ لأنه لما منعه.. تبينا أنه كان ممسكا له على نفسه.
والثاني: لا ضمان عليه؛ وهو الأصح؛ لأن التعدي وجد بعد التلف.
[فرع: استخدام الوكيل ما وكل به]
] : وإذا دفع إليه ثوبا ليبيعه، فلبسه الوكيل، أو دفع إليه دابة ليبيعها، فركبها. صار ضامنا بذلك، وهل تبطل وكالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل وكالته، فلا يصح بيعه؛ لأنه عقد أمانة، فبطل بالخيانة كالوديعة.
والثاني: لا تبطل وكالته، فيصح بيعه؛ لأن الوكالة تضمنت الأمانة والتصرف، فإذا بطلت الأمانة بالخيانة.. بقي التصرف، كالرهن يقتضي الوثيقة والأمانة، فإذا تعدى في الرهن. بطلت الأمانة، وبقيت الوثيقة، وتخالف الوديعة، فإنها مجرد أمانة لا غير.
فإذا قلنا بهذا، وباع الوكيل.. فمتى يبرأ من الضمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - ويقول عامة أصحابنا -: أنه لا يبرأ إلا بتسليم المبيع إلى المشتري.. لأنه لو تلف في يده قبل التسليم إلى المشتري، لانفسخ البيع وعاد إلى ملك الموكل، فكان مضمونا عليه.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أن بنفس البيع يزول عنه الضمان؛ لأنه صار ملكا للمشتري، فإذا قبض الثمن.. صار أمانة في يده؛ لأنه قبضه بإذن الموكل. ولم يوجد منه التعدي فيه.
فإن وجد المشتري بالبيع عيبا، فرده على الوكيل.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه يعود مضمونا عليه؛ لأن المشتري ما قبضه للموكل، وإنما قبضه لنفسه، فزال الضمان بذلك، فإذا فسخ العقد.. انفسخ القبض، وعاد الضمان كما كان.(6/459)
[فرع: ضمان الوكيل بالتعدي]
] فإن دفع إليه دراهم، ووكله ليشتري له بعينها سلعة، فتعدى الوكيل فيها.. صار ضامنا لها، فإن اشتراها بها بعد ذلك للموكل.. فهل يصح؟ على الوجهين في المسألة قبلها، فإذا قلنا: يصح.. فمتى يزول عنه ضمانها؟ على الوجهين.
وإن أمره يشتري بثمن في الذمة وينقد الثمن منها، فتعدي الوكيل فيها بأن ترك حفظها، ثم اشترى بعد ذلك في الذمة للموكل.. صح الشراء له، وجها واحدا؛ لأنه لم يتعد فيما تناوله العقد، فإذا نقد الدراهم.. برئ من ضمانها.
وإن استقرض الوكيل الدراهم، وأتلفها.. بطلت وكالته، وجها واحدا؛ لأنه إن كان قد أمره أن يشتري بعينه.. فقد تعذر ذلك بتلفها، فجرى مجرى من وكل في بيع عبد فمات، وإن كان أمره أن يشتري في الذمة وينقد الثمن منها.. فإنه إنما أمره بالتصرف في تلك الدراهم، فإذا تلتفت.. لم يملك الشراء.
[فرع: تلف الثمن في يد الوكيل من غير تفريط]
] : وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها، فباعها، وقبض ثمنها، وتلف في يده من غير تفريط، واستحق المبيع.. رجع المشتري بالعهدة على الموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: (يرجع بالعهدة على الوكيل) .
دليلنا: أن البيع للموكل، فكانت العهدة عليه، كما لو باع بنفسه، ولأن الوكيل نائب في العقد، فلا يرجع بالعهدة عليه، كالولي، والحاكم، وأمين الحاكم.
[مسألة: القول قول الموكل]
] : إذا أدعى رجل على آخر أنه وكله في تصرف، وأنكر الموكل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة.(6/460)
وإن قال: وكلتني أن أبيع لك الجارية، فقال: بل وكلتك أن تبيع لي العبد.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها.
وإن وكل رجلا في بيع عين، فباعها الوكيل بثمن إلى أجل، فقال الموكل: إنما أذنت لك في بيعها بثمن حال، أو ببيع مطلق، فإن صدقه الوكيل والمشتري على ذلك.. حكم ببطلان البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، فإن كانت العين في يد المشتري.. كان له أن يطالب بردها من شاء منهما؛ وإن كانت العين قد تلفت في يد المشتري.. رجع الموكل ببدلها على من شاء منهما؛ لأن الوكيل دفع ما لم يكن له دفعه، والمشتري قبض ما لم يكن له قبضه، فإن رجع على الوكيل.. كان للوكيل أن يرجع على المشتري، وإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل في يد المشتري، فاستقر الضمان عليه.
وإن كذباه، وقالا: إنما أذنت ببيعها إلى أجل.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها، فإذا حلف، وكانت السلعة قائمة.. أخذها، وإن تلفت في يد المشتري.. رجع بقيمتها على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الوكيل قد قبض منه الثمن، فيرجع به عليه؛ لأنه لم يسلم له المبيع.
وإن رجع على الوكيل. قال ابن الصباغ: لم يرجع الوكيل على المشتري في الحال بشيء؛ لأنه يقر: أنه ظلمه بالرجوع عليه، فإذا حصل الأجل.. كان للوكيل أن يرجع عليه بأقل الأمرين من القيمة، أو الثمن المسمى؛ لأن القيمة إن كانت أقل.. فإن الوكيل يقر له بجميع الثمن، ولا يدعي عليه إلا القيمة، وإن كان الثمن أقل.. لم يرجع على المشتري بأكثر منه؛ لأنه يدعي أن الموكل ظلمه بأخذ الزيادة.(6/461)
وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فإن أراد الرجوع على المصدق.. رجع عليه بغير يمين، وإن أراد أن يرجع على المكذب.. لم يرجع عليه حتى يحلف، فيرجع عليه، كما هو الحال في تكذيبهما.
[فرع: لا يقبل قول الوكيل على الموكل]
] : وإن اتفقا على الوكالة، واختلفا في التصرف، فادعى الوكيل أنه قد باع العين التي وكل في بيعها، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم تبعها. أو قال الوكيل: قد بعت، وقبضت الثمن، وتلف الثمن في يدي، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم يقبضه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل على موكله، بل القول قول الموكل؛ لأن الوكيل يقر بحق موكله، فلم يقبل، كما لو أقر بدين عليه، أو أبرأه من حق.
والثاني: يقبل إقرار الوكيل، وبه قال أبو حنيفة، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه يملك البيع والقبض، فقبل إقراره فيه، كما يقبل إقرار أبي البكر بنكاحها، إلا أن أبا حنيفة ناقض في مسألة، وقال: (إذا وكله أن يتزوج له امرأة، فأقر الوكيل: أنه تزوجها له، وادعت المرأة ذلك، وأنكر الموكل. لم يقبل قول الوكيل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على النكاح؛ لأنه لا يعقد حتى يحضر شاهدين) .
فإذا قلنا: يقبل قول الوكيل، فأقر بقبض الثمن من المشتري، وأنه تلف في يده، وحلف الوكيل، ثم خرج المبيع مستحقا، فرجع المشتري على الوكيل بالثمن.. قال أبو العباس: لم يكن للوكيل أن يرجع على موكله؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يستحق الرجوع عليه بقوله ويمينه، فهو كما لو باع شيئا، ثم اختلفا في عيبه، فحلف البائع، فلو وجد به عيبا قديما، فرده به.. فليس للبائع أن يطالبه بأرش العيب الذي حلف على حدوثه في يد المشتري، بل يكون القول قول المشتري.(6/462)
قال ابن الصباغ: وفي رجوع الوكيل على موكله في هذه نظر؛ لأنه يثبت بيمينه قبضه للثمن وتلفه، فأما الرجوع: فإنما يثبت له بسبب آخر، وهو أنه نائب عنه في البيع وهذا كما نقول في النسب: إنه لا يثبت بشهادة النساء، وإذا أثبتن الولادة في الفراش.. ثبت النسب.
[فرع: اختلاف قول الموكل والوكيل]
] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن معين، أو بثمن في الذمة، فاشتراه، ثم قال الوكيل: اشتريته بألف، وصدقه البائع، وقال الموكل: بل اشتريته بخمسمائة. ولا بينة. قال ابن الصباغ: فهي على القولين. ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي إلا: أن القول قول الموكل.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الشراء في الذمة.. فالقول قول الموكل، وإن كان الشراء بعين مال الموكل.. فالقول قول الوكيل؛ لأن الثمن إذا كان في الذمة.. كان الموكل غارما، والقول قول الغارم، وإذا كان الثمن معينا.. فإن الغارم هو الوكيل؛ لأنه يريد المطالبة برد ما زاد على خمسمائة) .
دليلنا: أنه يملك الشراء، فملك الإقرار بكيفيته، كالأب في تزويج ابنته البكر، وما ذكروه من الفرق.. فغير صحيح؛ لأن في الموضعين الغرم على الموكل.
[فرع: ثبوت قول الوكيل مع البينة]
] : إذا وكله أن يشتري له جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، ثم اختلفا، فقال الوكيل: أمرتني أن اشتريها لك بعشرين، وقد اشتريتها لك بذلك. وقال الموكل: بل أمرتك أن تشتريها لي بعشرة، فاشتريتها بعشرين فلا يلزمني الشراء، فإن كان مع الوكيل بينة أنه أذن له بذلك، فأقامها.. حكم له بذلك، ولزم الموكل الثمن، وإن لم يكن مع الوكيل بينة. فالقول قول الموكل مع يمينه: أنه ما أمره أن يشتري له إلا بعشرة؛ لأنهما لو اختلفا في أصل إذنه.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفة إذنه.(6/463)
فإذا حلف الموكل.. برئ من الابتياع، وتبقى الخصومة بين الوكيل والبائع، فإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بعين مال الموكل، وذكر في العقد: أنه يبتاع لموكله بعين ماله.. حكم بفساد البيع؛ لأن الموكل لم يثبت إذنه بذلك، وإن لم يذكر في العقد أنه ابتاع لموكله بعين ماله، إلا أن البائع صدقه على ذلك.. حكم بفساد البيع؛ لما ذكرناه.
وإن كذبه البائع، فقال ما اشتريتها لغيرك بعين ماله، وإنما اشتريتها لنفسك بمالك.. حكم للبائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، ويحلف البائع: أنه لا يعلم أنه اشتراها لغيره بمال موكله؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فإذا حلف.. مضى البيع، وغرم الوكيل لموكله ما دفع من ماله.
وإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بثمن في الذمة، فإن لم يذكر في العقد: أنه يشتريها للموكل.. لزم الشراء على الوكيل؛ لأنه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن له فيه، وإن ذكر الوكيل في الشراء: أنه يشتريها لموكله، فإن اعترف البائع أنها للموكل.. كان الشراء باطلا، وإن قال البائع: ذكرت أنك تبتاع للموكل في العقد، ولكن ما ابتعتها إلا لنفسك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشراء للوكيل.
والثاني لا يصح وقد مضى ذكرهما. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وقال المحاملي: إذا اشترى في الذمة، وذكر أنه يشتريها للموكل: فعلى الوجهين، سواء صدقه البائع على ذلك أو كذبه.
فكل موضع قلنا: البيع باطل.. فلا تفريع عليه، وكل موضع قلنا: البيع فيه صحيح.. فإن الجارية تكون ملكا للوكيل، وهل يملكها ظاهرا وباطنا، أو في الظاهر دون الباطن؟ ينظر فيه:
فإن كان الوكيل كاذبا في إذن الموكل له في ابتياعها بعشرين.. فإنه يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأن البيع وقع له.(6/464)
وإن كان الوكيل صادقا في أن الموكل أذن له في ابتياعها بعشرين.. فإن الوكيل يملكها في الظاهر، وفي الباطن هي ملك للموكل، فلا يحل له وطؤها؛ لأنها ملك غيره.
قال المزني، والشافعي: (يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل، ويقول له: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين.. فبعه إياها بعشرين، فإذا قبل الوكيل.. حل له وطؤها) . فإن قال الموكل للوكيل: بعتك هذه الجارية بعشرين، أو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. ملكها ظاهرا وباطنا، وإن قال الموكل: إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين.. فقد بعتكها بعشرين وأو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. فهل يملكها في الباطن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها بذلك في الباطن؛ لأنه بيع معلق على شرط، فلم يصح، كما قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد بعتكها بعشرين.
قال: والمزني إنما حكى كلام الحاكم لا كلام الموكل.
و [الثاني] : منهم من قال: يصح ويملكها في الباطن بذلك؛ لأنه شرط يقتضيه الإيجاب؛ لأنه لا يصح أن يبيعه إلا إن كان قد أذن له، وكل أمر يعلمان وقوعه.. فلا يضر شرطه، كما لو اتفقا أن هذا الشيء ملكه، فقال: إن كان هذا ملكي.. فقد بعتكه، فيصح.
قال ابن الصباغ: وعندي أن الموكل لا يقال له: قل: قد بعتكها مطلقا؛ لأنه يؤدي إلى تكذيب قوله، والإقرار منه بالملك، فإن لم يفعل الموكل ذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه قد ثبتت بيمينه براءته.
فعلى هذا: ما يصح أن يصنع الوكيل بالجارية؟ فيه وجهان.
أحدهما: يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأنا قد حكمنا بفسخ العقد في حكم الموكل،(6/465)
فكانت ملكا للوكيل، كما لو باع رجل جارية من غيره، فأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه، فرجع البائع إلى جاريته.
فعلى هذا: يحل له وطؤها، واستخدامها، وبيعها، وهبتها من غيره.
والثاني: لا يملكها في الباطن، ويكون كمن له على غيره حق، فامتنع من أدائه، ووجد شيئا من ماله من غير جنس حقه؛ لأن الوكيل يقر: أنه لم يملكها.
فعلى هذا: لا يحل له وطؤها، ولا استخدامها، ولا هبتها من غيره، ولكن يباع منها بقدر ما دفع من الثمن، ومن الذي يتولى بيعها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما إن شاء الله.
فإن كان ثمنها قدر حقه.. أخذه، وإن كان أقل.. كان له أن يستوفي الباقي من مال الموكل، وإن كان أكثر من حقه. أخذ قدر حقه، وأمسك الباقي للموكل في يده إلى أن يدعيه.
[مسألة: تلف العين بيد الوكيل يثبته البينة أو اليمين]
وإن ادعى الوكيل أن العين التي في يده لموكله تلفت من غير تفريط، وأنكر الموكل تلفها، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب الظاهر، أو ادعى تلفها بسبب خفي.. فالقول قوله مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على تلفها. فقبل قوله في ذلك.
[فرع: إنكار الموكل رد العين]
] : وإن ادعى الوكيل أنه رد العين إلى موكله، وأنكر ذلك الموكل، فإن كانت الوكالة بغير جعل.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة مالكها، فقبل قوله في ردها، كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل، بأن يقول: وكلتك ببيع هذه السلعة، ولك الجعل درهم، فإذا باعها.. استحق الدرهم، فإن اختلفا في رد العين، أو رد(6/466)
ثمنها إلى الموكل، فادعاه الوكيل، وأنكره الموكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في ردها، كالمرتهن، والمستعير.
الثاني: يقبل قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه لا منفعة له في العين، وإنما منفعته بالجعل.
[مسألة: يطلب الإشهاد]
] إذا كان لرجل عند رجل حق، فطالبه به، فقال من عليه الحق: لا أسلمه إليك حتى تشهد على نفسك بالقبض.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: ينظر في ذلك:
فإن كان من عنده الحق يقبل قوله في الرد، كالوكيل بغير جعل، والمودع أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: يقبل قولهم في الرد.. لم يكن له أن يمتنع لأجل الإشهاد؛ لأنه لا ضرر عليهم أن لا يشهد صاحب الحق؛ لأن قولهم مقبول في الرد، فإذا امتنعوا من الرد.. ضمنوا.
وإن كان من عنده الحق لا يقبل قوله في الرد، كالمرتهن، والمستعير، والغاصب أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: لا يقبل قولهم في الرد، فإن كان لا بينة لصاحب الحق عليهم.. لم يكن لهم الامتناع لأجل الإشهاد؛ لأنه يمكنه أن يحلف: أنه لا يستحقه عليه، وإن كان لصاحب الحق به بينة.. كان لهم الامتناع من التسليم إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه؛ لأنه لا يؤمن أن يطالبه بحقه بعد أخذه له، يقيم البينة، ولا يقبل قوله في الرد، فيلزمه غرمه.
وقال أبو على بن أبي هريرة: له أن يمتنع من الرد إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه(6/467)
في جميع هذه المسائل كلها؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو سقوط اليمين عنه، وعادة الأمناء التحرز من الأيمان.
قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به عندي إذا كان الإشهاد ممكنا لا يؤدي إلى تأخير الحق فأما إذا أدى إلى تأخير الحق لتعذر الإشهاد.. فعلى التفصيل الذي مضى.
وبالله التوفيق للصواب(6/468)
[كتاب الوديعة](6/469)
كتاب الوديعة الوديعة، مشتقة من السكون، فكأنها ساكنة عند المودع، مستقرة، وقيل: إنها مشتقة من الدعة، فكأنها في دعة عند المودع.
والأصل في الوديعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء:58] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] [آل عمران:75] فدل على: أن للأمانة أصلا في الشرع.
وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» ، أي: لا تقابله بخيانة.(6/471)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد أن يهاجر.. تركها عند أم أيمن، وخلف عليا ليردها على أهلها» .
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز الإيداع.(6/472)
إذا ثبت هذا: فالناس في قبول الودائع على ثلاثة أضرب:
ضرب يعلم من نفسه القدرة على حفظها، ويأمن من نفسه الخيانة فيها، ولا يخاف التلف عليها إن لم يقبلها، فهذا يستحب له قبولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] . ولا يجب عليه قبولها؛ لأنه لا ضرورة به تدعو إلى ذلك.
وضرب يجب عليه قبولها، وهو أن يأتي رجل بمال ليودعه في مكان عند رجل، وليس هناك من يصلح لحفظها إلا هو، وهو يعلم أنه إن لم يقبل ذلك منه.. هلك المال، فيجب عليه القبول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . فلو خاف على دمه، وقدر على الدفع عنه.. لوجب عليه ذلك، وكذلك ماله، فإن لم يقبلها.. أثم؛ لما ذكرناه، ولا يضمن المال إن تلف؛ لأنه لم يوجد منه تعد، فهو كما لو قدر على الدفع عن نفس غيره، ولم يدفع عنه حتى قتل.
وضرب يكره له القبول، وهو من يعلم من حال نفسه العجز عن حفظ الوديعة، أو لا يأمن من نفسه الخيانة فيها؛ لأنه يغرر بمال غيره، ويعرض نفسه للضمان، فإن قبلها.. لم يجب عليه الضمان إلا بالتعدي.
[مسألة: أهلية المودع]
] : ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبي أو سفيه مالا.. لم يجز له قبول ذلك منه؛ لأنه لا يملك حفظ المال بنفسه، فلا يملك أن يملك ذلك غيره، فإن أخذه منه.. ضمنه، ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى الناظر في ماله؛ لأن قبضه(6/473)
كان غير جائز، فكان مضمونا عليه، فإن خاف المودع إن لم يقبل ذلك منه تلف، أو أتلفه الصبي، أو السفيه، فأخذه بِنِيَّةِ أن يسلمه إلى الناظر في أملاكه، فتلف في يد القابض قبل رده إلى الولي من غير تفريط.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في المحرم إذا خلص صيدا من سبع، فهلك في يده.
[مسألة: كفاءة المودع]
ولا يصح الإيداع إلا عند جائز التصرف في المال، فإن أودع صبيا، أو مجنونا.. لم يصح؛ لأنهما ليسا من أهل حفظ الأموال، فإن تلفت الوديعة عندهما من غير تفريط.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنه إذا لم يجب الضمان في هذه الحالة على من صح الإيداع عنده.. فلأن لا يجب على من لم يصح الإيداع عنده أولى.
وإن تلفت الوديعة عندهما بتفريط منهما في حفظها، ولم يباشرا إتلافها.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يلزمهما حفظها، فيلزمهما الضمان عند التفريط، وإن أتلفاها بأنفسهما.. فهل يجب عليهما الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن مالكها مكنهما من إتلافها، فهو كما لو باعهما مالا، أو أقرضهما وأقبضهما إياه، فأتلفاه.
والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه لم يسلطهما على الإتلاف، وإنما أمرهما بالحفظ.
[فرع: أودع عند عبد غيره]
] : وإن أودع ماله عند عبد غيره.. قال الشيخ أبو حامد: صح الإيداع؛ لأنه مكلف، فإن فرط في حفظه حتى تلف، أو أتلفه العبد.. وجب عليه الضمان.(6/474)
فإن قلنا: إن الصبي إذا أتلف ما أودع عنده ضمنه.. كان الضمان هاهنا في رقبة العبد.
وإن قلنا هناك: لا ضمان على الصبي.. كان الضمان هاهنا في ذمة العبد إلى أن يعتق.
قال الطبري: وإن أودعه العبد شيئا، فقبضه.. فعلى من يرده المودع؟ فيه وجهان، حكاهما سهل:
أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رده على العبد، وإن شاء.. رده على سيده.
والثاني - وهو مذهب أبي حنيفة -: أنه يرده على العبد دون السيد.
[مسألة: صيغة عقد الوديعة]
] : ولا تنعقد الوديعة إلا بالإيجاب بالقول، والقبول بالقول أو الفعل، كما قلنا في الوكالة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] : ولا يلزم المودع حفظ الوديعة حتى يقبضها، والوديعة من العقود الجائزة، لكل واحد منهما أن يفسخها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» ، ولأن (أد) : ملكها لصاحبها، والمودع متطوع بالحفظ، فكان لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فإن مات أحدهما، أو أغمي عليه، أو جن، أو حجر عليه لسفه.. انفسخت الوديعة؛ لأنها عقد جائز، فانفسخت بما ذكرناه، كالوكالة. فإن حدث ذلك بالمالك.. فعلى المودع رد الوديعة إلى الوارث، أو إلى الولي، فإن أمسكها بعد تمكنه من الرد.. ضمنها؛ لأنا قد حكمنا بانفساخ الوديعة، وإن حدث ذلك للمودع.. فعلى وارثه أو وليه رد الوديعة؛ لأن مالكها لم يرض بأمانة غير المودع.(6/475)
[مسألة: يد المودع يد أمانة]
] : والوديعة أمانة في يد المودع، فإن تلفت في يده بغير تفريط منه.. لم يجب عليه الضمان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المستودع - غير المغل - ضمان» وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ولا مخالف لهم من الصحابة، ولأنه لو وجب على المودع الضمان من غير تفريط.. لامتنع الناس من قبولها، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالمودعين.
فإن شرط المودع الضمان على المودع.. لم يجب عليه الضمان بذلك، وهو قول كافة العلماء، إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، فإنه قال: عليه الضمان. وهذا(6/476)
غير صحيح؛ لما ذكرناه من الخبر، فلم يفرق بين أن يشترط الضمان، أو لا يشترط، ولأن ما كان أصله الأمانة.. لم يصر مضمونا بالشرط، كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط.
وإن أودعه جارية، أو بهيمة، فولدت عنده.. كان الولد أمانة؛ لأنه لم يوجد منه ما يقتضي الضمان، وهل يلزم المودع إعلام المالك بالولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا.
والثاني: لا يلزمه ذلك، بل له إمساكه؛ لأنه لما أودعه الأم.. كان إيداعا لها ولما يحدث منها.
[مسألة: في الحرز]
] : وإذا أودعه وديعة.. فلا يخلو: أما أن يطلق المودع الحرز، أو يعين له الحرز. فإن أطلق المودع الحرز.. فعلى المودع أن يحفظها في حرز مثلها، كداره ودكانه؛ لأن الإطلاق يقتضي حرز المثل، فإن تركها المودع في بيت، ثم نقلها منه إلى ما هو أحرز منه، أو إلى ما هو دونه، إلا أن الجميع حرز مثلها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه تركها في حرز مثلها.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو تركها المودع في جيبه أو كمه، أو أمسكها معه وهو يتطرق في طرقات البلد.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز لها بكون يده عليها.
فإن تركها في حرز دون حرز مثلها.. ضمنها؛ لأن إطلاق الإيداع حرز مثلها، فإذا تركها فيما هو دونه.. صار متعديا، فضمن.
وإن عين له المودع الحرز، بأن قال: أودعتك لتحفظها في هذا البيت فإن حفظها المودع في ذلك البيت، ولم ينقلها منه.. فلا كلام، وإن نقلها المودع منه إلى غيره، أو أحرزها في غيره.. نظرت:(6/477)
فإن لم ينهه المودع عن النقل، فإذا كان البيت الذي أحرزها فيه ابتداء دون البيت المعين في الحرز.. ضمنها المودع وإن كان حرزا لمثلها؛ لأن المودع لم يرض بما دونه، وإن كان مثله، أو أحرز منه.. لم يضمن؛ لأن من رضي حرزا.. رضي بمثله وبأعلى منه.
وإن قال: احفظها في هذا البيت ولا تنقلها منه، فنقلها عنه.. نظرت: فإن نقلها إلى ما هو دونه.. ضمنها؛ لأنه لم يرض بدون ذلك البيت.
وإن نقلها إلى مثله، أو إلى ما هو أحرز منه، فإن نقلها لغير خوف عليها.. فهل يضمن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يضمن؛ لأنه نقلها إلى مثل الحرز المعين،، أو إلى ما هو أحرز منه، فهو كما لو لم ينهه عن النقل.
و [الثاني] قال أبو إسحاق: يضمن، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه قطع اجتهاده بالتعيين، فخالفه بالنقل.
وإن خاف عليها التلف في الحرز المعين من نهب، أو غزو، أو حريق.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: جاز له نقلها؛ لأنه موضع عذر، فلا يضمن بالنقل، حتى تلفت.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأنه ممتثل لأمره فيما فعل.
والثاني: يضمن؛ لأنه غرر بها، حيث ترك نقلها مع الخوف عليها.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان النهي عن النقل مطلقا، وخاف عليها.. لزمه نقلها، وجها واحدا، فإن لم ينقلها حتى تلفت.. لزمه الضمان، وإنما الوجهان إذا قال: لا تنقلها وإن خفت عليها الهلاك.(6/478)
[فرع: مخالفة المودع لمصلحة الوديعة]
وإن أودعه وديعة في صندوق، وقال: لا تقفل عليها، فأقفل عليها، أو لا تقفل عليها قفلين، فاقفل عليها قفلين، أو قال: لا تطرح ثيابك فوق الصندوق، فخالفه في ذلك، أو قال: لا ترقد عليها، فرقد عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب - أنه لا ضمان عليه؛ لأنه زاده خيرا.
والثاني - وهو قول مالك - (أنه يضمن) ؛ لأن ذلك يغري السارق بها.
وإن قال: احفظها في هذا البيت، ولا تدخل غيرك إليها، فأدخل جماعة إليها، فإن سرقها واحد من الذين أدخلهم عليها، أو دلوا عليها من سرقها.. وجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها حصل بالوجه المنهي عنه، وإن تلفت بسبب من غير الداخلين عليها، بأن انهدم عليها البيت، أو سرقها غيرهم، ولم يدل عليها أحد منهم.. لم يجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها لم يحصل من الوجه المنهي عنه.
[فرع: مخالفة الحرز المعين إلى غيره]
] : إذا دفع إليه وديعة، وهو في البيت، وقال: أحرزها في هذا البيت، ولا تجمع بها، فربطها في ثوبه، وخرج بها ... ضمن؛ لأنه نقلها عن الحرز المعين إلى ما هو دونه؛ لأن البيت أحرز من حملها في الطرقات بالثوب، وإن شدها على عضده وخرج بها، فإن جعلها مما يلي أضلاعه.. لم يضمنها؛ لأن ذلك أحرز من البيت، وإن جعلها خارج عضده.. ضمنها؛ لأن البيت أحرز من ذلك.
وإن دفع إليه وديعة في السوق، وقال: أحرزها في البيت، ولا تربطها في ثيابك.. قال الشافعي: (فإنه لا بد له من ربطها في ثيابه إلى أن يوصلها إلى البيت، فإن حملها في الحال إلى البيت.. لم يضمن، فإن تلفت في الطريق، أو على باب(6/479)
الدار، أو تعوق لتعسر الغلق.. لم يضمن؛ لأنه غير مفرط، وإن توانى في حملها إلى بيته.. ضمن؛ لأنه تعدى بذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: فإن تركها في دكانه - وهو حرز مثلها - إلى أن يرجع إلى داره بالعشي، أو أكثر.. لم يضمن؛ لأنه مثل البيت في الحرز.
[مسألة: وضع الوديعة في غير حرز]
] : وإن أودعه شيئا، فتركه المودع في يده، أو ربطه في كمه، أو تركه في جيبه وكان مزرّرا، أو كان الفتح ضيقا.. لم يضمن؛ لأن ذلك كله حرز لما ترك فيه، وإن وضعه في كمه من غير ربط، فإن كان هذا الشيء خفيفا لا يحس به إذا سقط، كالدرهم، والدينار.. ضمن؛ لأن ذلك ليس بحرز له، وإن كان ثقيلا يحس به إذا سقط، كالثوب، وما أشبهه.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز له. وإن تركه في جيبه والفتح واسع غير مزرر.. ضمنه؛ لأن اليد تناله.
[فرع: شرط عليه وضع الوديعة في كمه]
] : وإن دفع إليه وديعة، وقال: اربطها في كمك، فتركها في يده.. فقد روى المزني: (أنه لا يضمن) .
وقال في " الأم ": (إذا قال: أحرزها في كمك، فأحرزها في يده.. ضمنها، فإن غولب عليها، فأخذت من يده.. لم يضمن) .
قال الشيخ أبو حامد: والربط هاهنا: عبارة عن الجعل.
واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان:(6/480)
أحدهما: لا يضمن؛ لأن اليد أحرز من الكم؛ لأن الطرار يمكنه أن يبط الكم، ولا يمكنه ذلك في الكف.
والثاني: يضمن، لأن الكم أحرز من اليد؛ لأنه قد يسهو فيرسل يده، فيسقط ما كان بها، وإذا ترك شيئا في الكم.. فإذا سقط.. أحس به.
و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على حالين:
فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا ربطها في الكم، وقبض عليها بيده لأنه زاده خيرا.
وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير أن يربطها في الكم؛ لأن الكم أحرز.
وقال الشيخ أبو حامد: هي على حالين آخرين:
فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا خاف عليها في كمه الاستلاب، فتركها في يده.
وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير خوف.
و [الطريق الثالث] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 443) ] : إن كان تلفها بانتزاع الغاصب من يده.. لم يضمن؛ لأن الكف أحرز في هذه الحالة، وإن كان التلف بأن نام، أو غفل، فأرسل كفه فسقطت ضمن؛ لأن الربط في الكم أحرز في هذه الحالة.
وإن أودعه وديعة، وقال: أمسكها في يدك، فربطها في كمه.. فعلى الطريقة الأولى: يكون هاهنا على قولين، وعلى الطريقين الآخرين: الكم أحرز هاهنا.(6/481)
وإن أمره أن يتركها في كمه، فتركها في جيبه.. لم يضمن؛ لأنه أحرز من الكم، وإن أمره أن يتركها في جيبه، فتركها في كمه.. ضمن؛ لأن الكم دون الجيب في الحرز.
[فرع: أودعه خاتما ليضعه في خنصره]
] : وإن أودعه خاتما، وقال: البسها في خنصرك، فلبسها في البنصر، واتسع الخاتم للبنصر.. لم يضمن؛ لأن الخاتم فيها أحفظ، وإن لم يتسع الخاتم للبنصر، فانكسر.. ضمنها؛ لأنه تعدى بذلك، وإن قال: البسها في البنصر، فلبسها في الخنصر.. ضمنها؛ لأن الخنصر أدق.
[مسألة: أودعه وديعة في السفر]
] : وإن أودعه وديعة في السفر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] فللمودع أن يسافر بها؛ لأن الإيداع في السفر يقتضي السفر بها.
وإن أودع حاضرا، وأراد المودع السفر، فإن وجد المالك، أو وكيله المطلق أو المقيد بقبض ودائعه.. ردها إليه؛ لأن الوديعة عقد جائز، فكان له فسخها متى شاء، وإن لم يكن المودع ولا وكيله في البلد، أو كان في البلد، إلا أنه لا يقدر على الوصول إليه، بأن كان محبوسا، وهناك حاكم.. دفعها المودع إليه، كما لو أرادت المرأة أن تتزوج ووليها غائب، فإذا لم يكن حاكم في البلد.. دفعها إلى أمين؛ لما روي) «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد الهجرة.. أودعها أم أيمن، وخلف عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليردها» . فإن دفعها إلى الحاكم، أو الأمين مع قدرته على المالك، أو وكيله.. ضمنها، كما لو زوج الحاكم المرأة مع وجود وليها، وفيه وجه آخر: أنه لا يضمن إذا دفعها إلى الحاكم؛ لأن الحاكم يقوم مقام المالك، ويده كيده. وليس بشيء.
فإن دفعها إلى أمين مع وجود الحاكم.. فقد قال الشافعي: (فإذا سافر بها، فأودعها أمينا يودعه ماله.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا فيه:(6/482)
فقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأن الشافعي لم يفرق. وبه قال مالك؛ وأبو حنيفة، واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه أودعها أمينا لعذر السفر، فهو كما لو كان الحاكم معدوما في البلد.
وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران: يجب عليه الضمان؛ لأن الشافعي قال في (الرهن) : (وإذا وضع الرهن على يدي عدل، ثم غاب المتراهنان، أو أحدهما، وأراد العدل السفر.. دفعه إلى الحاكم) . فدل على: أن الدفع إلى غيره لا يجوز، ولأن أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين مجتهد فيها، فلم يجز ترك المقطوع به إلى المجتهد فيه، كما لا يجوز ترك النص إلى القياس.
ومن قال بالأول.. حمل نص الشافعي في (الرهن) إذا تشاح المتراهنان في العدل.. فإنهما يرفعانه إلى الحاكم ليضعه عند عدل.
وإن خالف، وسافر بها، فإن لم يكن به ضرورة إلى السفر.. ضمنها، سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، وسواء كان الطريق آمنا أو مخوفا.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الطريق آمنا: لم يضمن، إلا أن يكون قد نهاه عن السفر) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يكون كنقل الوديعة من محلة في البلد إلى محلة فيها. وهذا غلط؛ لأن أمن السفر غير موثوق به، فقد يحدث الخوف في الطريق، بخلاف محال البلد.
وإن دعته إلى السفر ضرورة بأن هجم على البلد فتنة، أو حريق، أو غرق، ولم يجد من يأمن عليها من ذلك عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فله أن يسافر بها، ولا يضمن وإن كان الطريق مخوفا؛ لأن هذا موضع ضرورة؛ لأنه لا يتمكن من شيء غير ذلك.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/363] : إذا أراد السفر ولم يجد(6/483)
المالك، ولا وكيله، ولا الحاكم، ولا الأمين.. لزمه أن يسافر بها؛ لأن السفر في هذه الحال أحوط.. ولعله أراد: إذا خاف في البلد، كما قال الشيخ أبو حامد.
[فرع: نقل الوديعة]
] : وإن أودع وديعة وهو في قرية، فانتقل منها إلى قرية أخرى، ونقل الوديعة معه، فإن اتصل بناء إحدى القريتين بالأخرى.. نظرت:
فإن كانت القرية الثانية مثل الأولى في الأمن، أو أعلى منها.. لم يضمن، كما لو نقل الوديعة من بيت في دار إلى بيت فيه مثله.
وإن كانت الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها؛ لأن الظاهر ممن أودع غيره وهو في قرية أو محلة، أنه رضي بها حرزا دون غيرها.
وإن كانت القريتان منفصلتين، فإن كان الطريق بينهما مخوفا، أو الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها المودع؛ لأنه غرر بالوديعة، وإن كان الطريق آمنا، والثانية كالأولى في الأمن. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن، كما لو نقل الوديعة من دار في البلد إلى دار أخرى فيه.
والثاني: يضمن، وهو المذهب؛ لأن أمن السفر غير موثوق به.
[فرع: دفن الوديعة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن دفن الوديعة في منزله، ولم يعلم بها أحدا يأتمنه على ماله، ثم سافر، فهلكت.. ضمن) . وهذا كما قال: إذا أراد السفر، فدفن الوديعة، فإن دفنها في برية.. ضمنها؛ لأنه عرضها للهلاك؛ لأن ما في البرية غير محفوظ، وإن دفنها في منزله، فإن لم يعلم بالوديعة أحدا.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأنه لا يؤمن أن يموت، فتضيع الوديعة، وربما حدث في الموضع حريق، أو غرق، فتلهك الوديعة بذلك، وإن أعلم بها غيره.. نظرت:
فإن أعلم بها فاسقا.. ضمنها؛ لأنه زاد في التغرير بها.(6/484)
وإن أعلم بها أمينا، فإن كان غير ساكن في تلك الدار.. ضمنها؛ لأنه لم يودعه، إذا لم يقبضه إياها، وإن كان ساكنا في تلك الدار، ولم يقدر على المالك، أو وكيله، أو الحاكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن الشافعي قال: (إن لم يعلم بها أحدا.. ضمن) . فدل على: أنه إذا أعلم أمينا.. لم يضمن، ولأنه يجوز له إيداعها عند أمين في هذه الحالة، وهذا إيداع.
والثاني: يضمن؛ لأن هذا إعلام، وليس بإيداع؛ لأن الإيداع هو: أن يسلمها إليه، فتصير مقبوضة، وهذا لم يقبضه إياها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه إن كان ساكنا في الموضع، وأعلمه بالوديعة.. فقد أودعه إياها.
[فرع: ترك الوديعة في بيت المال]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا سافر المودع، فترك الوديعة في بيت المال.. ضمن) . واختلف أصحابنا في تأويلها:
فمنهم من قال: أراد: إذا كان قادرا على المالك، أو وكيله؛ لأنه لا يجوز له إيداعها مع وجود أحدهما.
ومنهم من قال: أراد: إذا لم يقدر على المالك، ولا وكيله، ولم يودعها عند الإمام، ولكن وضعها في بيت المال، فيضمن؛ لأنه ما أودعها عند أحد.
وأيهما أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فهو صحيح في الفقه.
[مسألة: مرض المودع كالسفر]
] : وإن كانت عنده وديعة، فمرض مرضا خاف على نفسه منه.. فهو كما لو أراد السفر؛ لأنه لا يمكنه حفظ الوديعة بنفسه مع الموت، فيجب عليه ردها إلى المالك، أو وكيله إن وجدهما، فإن كانا غائبين.. فعليه أن يظهر الوديعة، وهو أن يشهد(6/485)
عليها، أو يسلمها إلى الحاكم، أو إلى الأمين، فإن سلمها إلى الحاكم مع وجود المالك، أو وكيله.. ضمنها؛ لأنه لا ولاية له عليه.
ومن أصحابنا من قال: لا يضمن؛ لأن الحاكم يقوم مقامه، ويده كيده.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف، فإن لم يشهد على الوديعة، ولم يوص بها ومات.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.
وإن مات، فوجد بخطه أن الكيس الفلاني لفلان، أو وجد على الكيس اسم رجل.. لم يحكم له به؛ لأنه قد يودعه غيره شيئا، ثم يتملكه، أو يشتري كيسا عليه اسم رجل.
وإن ادعى رجل أن هذه العين وديعة لي أودعتها الميت، وأقام على ذلك شاهدين.. قال الشيخ أبو حامد: حلف معهما، وحكم له بالوديعة.
وإن قال: عندي لفلان وديعة، ووصفها بصفة، أو قامت بينة بذلك، أو أقر الورثة بذلك، فمات ولم توجد تلك الوديعة.. فقد قال الشافعي: (ضمنت في مال الميت، ويحاص بها الغرماء) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه:
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: أراد: إذا قال ذلك عند الوفاة، وقرب الموت؛ لأن الظاهر أنه أتلفها، فيكون قوله: عندي، عبارة عن قوله: علي، فأما إذا قال في صحته: أودعني فلان وديعة، ووصفها، ومات ولم توجد.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون تلفت بعد ذلك بغير تفريط، ففرق بين طول المدة، وقصرها.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن مات، ووجد في ماله من جنس تلك الوديعة، واشتبه ماله بالوديعة.. فعليه الضمان؛ لأنه فرط، إذ لم يبينها بيانا يزول به الإشكال، وإن لم يكن في ماله من جنس الوديعة.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون قد تلفت من غير تفريط.(6/486)
و [الوجه الثالث] : منهم من قال: لا يجب عليه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان، وحمل النص عليه إن عرف أن عنده وديعة ببينة، أو إقرار الورثة، ومات ولم يوص بها.
[مسألة: إيداع الوديعة عند آخر]
] : إذا أودع الوديعة عند غيره من غير ضرورة.. ضمنها، سواء أودعها الحاكم، أو زوجته، أو غلامه.
وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه إذا أودعها الحاكم مع غيبة المالك، أو وكيله من غير ضرورة.. لم يضمن.
وقال أبو العباس: إنما يضمنها إذا سلمها إلى الذي أودعها إياه لينفرد بتدبيرها، فأما إذا استعان به في سلتها، أو في إغلاق الباب، أو في فتحه، أو في الإتيان بها إليه، بحيث لا تغيب عن نظر المودع.. فلا ضمان عليه، وهذا كما نقول فيمن أودع بهيمة.. فليس عليه أن يعلفها ويسقيها بنفسه، بل إذا تقدم بذلك إلى خادمه، أو سائسه.. جاز، ولا يضمن. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إن أودعها زوجته.. لم يضمن، وإن أودعها غيرها، من عبده، أو غيره.. ضمنها) .
وقال أبو حنيفة: (إن أودعها من يعوله، وينفق عليه، مثل زوجته، أو خادمه أو امرأة في داره يعولها.. فلا ضمان عليه) .
ودليلنا: أنه أودع الوديعة من لم يأتمنه المودع، فضمنها، كما لو أودعها أجنبيا.
فإن هلكت الوديعة عند المودع الثاني من غير تفريط منه.. فللمالك أن يضمن إن شاء منهما؛ لأنهما متعديان؛ فإن ضمنها للمودع الثاني.. نظرت في الثاني:(6/487)
فإن علم الحال.. لم يرجع بما ضمنه على الأول؛ لأنه رضي بوجوب الضمان على نفسه.
وإن لم يعلم.. فهل له أن يرجع على الأول؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنها هلكت عنده، فاستقر الضمان عليه.
والثاني: يرجع عليه؛ لأنه غره، ولم يدخل معه ليضمن، وإنما دخل معه على أنها أمانة.
وإن رجع المالك على المودع الأول، فإن كان الثاني قد علم أنها وديعة أودعت عنده من غير ضرورة. رجع الأول عليه؛ لأن الثاني رضي بوجوب الضمان عليه، وقد وجد الهلاك في يده، فاستقر الضمان عليه، وإن لم يعلم بالحال.. فهل للأول أن يرجع عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه؛ لأن الهلاك كان في يده.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه لم يدخل معه على أن يكون ضامنا.
[مسألة: خلط مال الوديعة بماله]
] : إذا أودعه دراهم، فخلطها مع دنانير.. قال الشافعي: (لا يضمن؛ لأنهما لا يختلطان، إلا أن ينصح الدراهم، فيلزمه أرش النقص، كما لو أخذ جزءا من الدراهم، فيلزمه ضمان ما أخذ دون الباقي) .
وإن خلطها بدراهم له، أو أودعه شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بمثله من ماله.. لزمه الضمان، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يلزمه الضمان؛ لأنه خلطه بمثله) . وهذا غلط؛ لأنه خلطه بما لا يتميز عنه من ماله بغير إذن المالك، فلزمه الضمان، كما لو خلطها بأردأ منها.(6/488)
وإن خلطها بمثلها من مال المودع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن الجميع له.
والثاني: يضمن؛ لأنه لم يرض باختلاطهما.
[فرع: أعطاه دراهم ليحفظها في محفظته]
] : وإن قال: أودعتك هذه الدراهم لتحفظها في خريطتك هذه، فنقلها المودع إلى خريطة غيرها، فإن كانت الثانية دون الأولى في الحرز.. ضمنها، وإن كانت مثلها، أو أحرز منها.. لم يضمن، كما قلنا في البيت، وإن أودعه دراهم في خريطة للمودع، فنقلها المودع إلى خريطة أخرى، فإن كانت الخريطة مختومة، أو مشدودة، فحل ختمها، أو حل شدها.. ضمنها؛ لأنه تعدى بحل الختم والشد، وإن كانت غير مختومة، ولا مشدودة. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\442 - 443] :
أحدهما: يضمن، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه ليس له تفتيش الوديعة من غير حاجة، فصار كما لو نقض الختم.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه أودعه خريطة دراهم، فكان له أن يحفظ كل واحد منهما في بيت، كما لو أودعه خريطتين.
[فرع: أودعه دراهم في كيس]
] : وإن أودعه عشرة دراهم في كيس مشدود، أو مختوم، فحل الختم أو الشد، أو خرق موضعا من الكيس تحت الشد.. ضمن الكيس وما فيه وإن لم يأخذ منه شيئا؛ لأنه قد تعدى بهتك الحرز، وإن خرق ما فوق الشد من الكيس.. لم يلزمه الضمان في الدراهم؛ لأن حرزها ما تحت الشد، ولكن يلزمه ضمان أرش الكيس بالخرق.(6/489)
وإن أودعه الدراهم في شيء مكشوف، فأخذ المودع منها درهما من غير أن يحصل منه تعد في الباقي.. فإنه يضمن الدراهم؛ لأنه تعدى بأخذه، فإن لم ينفقه، بل رده بعينه على الدراهم، فإن كان ذلك الدرهم متميزا عن باقي الدراهم.. لزمه ضمانه، ولا يلزمه ضمان الباقي؛ لأنه إنما تعدى به دون غيره، وإن كان غير متميز عن باقي الدراهم.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يضمن إلا ذلك الدرهم) ؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيما عداه.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\443] : فعلى هذا: يضمن عشر الدراهم.
والثاني ـ وهو قول الربيع ـ: أنه يضمن الجميع؛ لأنه خلط المضمون بغيره، ولم يتميز، فضمن الجميع.
وإن أنفق الدرهم، ورد بدله إلى الدراهم، فإن كان المردود متميزا عن الباقي.. لم يضمن باقي الدراهم؛ لأنه لم يتعد بها، وإن لم يتميز المخلوط عن باقي الدراهم.. ضمن جميع الدراهم، خلافا لمالك، وقد مضى.
ودليلنا: أنه خلط ماله بمال المودع، ولم يتميزا، فضمنه.
[مسألة: النفقة على البهيمة المودعة]
] : إذا أودعه بهيمة، أو غيرها من الحيوان.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يأمره بعلفها وسقيها، فيجب على المودع أن يعلفها ويسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة بنفسها، بدليل: أن من ملك بهيمة.. يجب عليه علفها وسقيها، وحرمة لمالكها، وقد اجتمعتا. فإذا علفها وسقاها.. رجع على المالك بما أنفق عليها؛ لأنه أخرجها بإذنه، فإن اختلفا في قدر النفقة، فإن ادعى المودع أنه أنفق أكثر من قدر النفقة بالمعروف.. لم يرجع بالزيادة؛ لأنه متطوع به. وإن ادعى المودع النفقة بالمعروف، وادعى المالك أنه أنفق دون ذلك.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله في ذلك مع يمينه. وإن اختلفا في قدر المدة التي أنفق فيها..(6/490)
فالقول قول المالك مع يمينه في قدرها؛ لأن المودع يمكنه إقامة البينة عليها.
المسألة الثانية: أن يودعه إياها، ولم يأمره بالعلف والسقي، ولا نهاه عن ذلك، فيلزم المودع أن يعلفها ويسقيها.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ذلك) .
دليلنا: أن للبهيمة المودعة حرمة لمالكها، وحرمة بنفسها، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت على النار ليلة عرج بي إلى السماء، فرأيت امرأة تعذب، فقلت: ما بالها؟ فقيل: إنها ربطت هرة لها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، فهي تعذب لأجل ذلك» . فإذا سكت المودع.. لم يسقط بذلك حق البهيمة.
إذا ثبت هذا: فإن المودع يرفع الأمر إلى الحاكم، ثم ينظر الحاكم الحظ لصاحبها، فإن أراد أن يبيعها كلها، ويحفظ ثمنها لصاحبها.. فعل، وإن أراد أن يبيع جزءا منها للإنفاق على باقيها، أو يؤجرها وينفق الأجرة عليها.. فعل، وإن رأى أن يقترض على المالك من المودع، أو من غيره.. فعل، فإن اقترض من غير المودع، وأمر المودع بإنفاق ذلك.. جاز، وإن اقترض من المودع، فقبضه منه، ثم رده إليه، وأمره بإنفاق ذلك.. جاز، وإن أمره بالإنفاق عليها قرضا على المالك.. فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نفقة الحمال في الإجارة، فإذا قلنا: يجوز.. فهل يقدر له الحاكم قدر النفقة، أو يكله إلى اجتهاده؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
وإن أنفق عليها المودع من غير إذن الحاكم، فإن كان قادرا على الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن لم ينو الرجوع، ولم يشهد.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أنه متطوع، وإن أشهد على الإنفاق ليرجع ـ قال ابن(6/491)
الصباغ: أو نوى الرجوع ـ فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لا ولاية له عليه.
ولعل ابن الصباغ أقام نية الرجوع مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد.
قال أبو إسحاق المروزي: فإذا قلنا: له أن يرجع بما أنفق بنفسه.. فله أن يبيع البهيمة ويحفظ ثمنها لمالكها، أو يبيع جزءا منها، أو يؤجرها مما يرى المصلحة في ذلك؛ لأنا قد أقمناه مقام الحاكم في ذلك.
فإن اختلفا في قدر النفقة، أو في قدر المدة.. فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها، فإن ترك المودع النفقة على البهيمة في هاتين المسألتين حتى تلفت.. نظرت:
فإن ترك علفها وسقيها مدة الغالب أن البهيمة تموت فيها من عدم العلف والسقي.. وجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها ماتت من الجوع والعطش.
وإن تركها مدة قريبة الغالب أنها لا تموت فيها من ترك العلف والسقي.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها لم تمت من منع العلف والسقي فيها.
وإن أودعه بهيمة جائعة، ولم يعلم بها المودع، فأخر علفها وسقيها مدة لا يموت مثلها من منع العلف والسقي، فماتت، ولولا الجوع السابق لم تمت.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق 442] :
أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بإجاعته لها، فصار كما لو لم تكن جائعة.
والثاني: لا يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بالجوع السابق، وتأخيره لا حكم له بانفراده.
المسألة الثالثة: إذا أودعه بهيمة، وقال له: لا تعلفها ولا تسقها.. فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليه علفها وسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة مالكها، وحرمة لها بنفسها على ما مضى، فإذا أسقط المالك حقه.. بقي حق البهيمة.
فعلى هذا: الحكم في الإنفاق عليها والرجوع حكم المودع إذا لم يأمره ولم ينهه،(6/492)
فإن ترك المودع علفها وسقيها مدة تموت فيها في الغالب من عدم العلف والسقي.. أثم المودع والمودع؛ لما ذكرناه، وهل يجب على المودع ضمانها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يلزمه الضمان؛ لأنه منهي عن ترك العلف والسقي لحق الله تعالى، فإذا تركهما، فتلفت بذلك.. لزمه الضمان.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يلزمه الضمان. وهو الأصح؛ لأن ضمان القيمة يجب للمالك، وقد أذن بما يوجب التلف، فلم تجب له القيمة، كما لو قال: اقتل عبدي، فقتله، أو احبسه عن الطعام والشراب إلى أن يموت، ففعل إلى أن مات.. فلا يجب عليه القيمة.
إذا ثبت ما ذكرناه ـ من وجوب العلف في هذه المسائل ـ: فإن علفها المودع، وسقاها بنفسه في منزله.. فهو النهاية في الاحتفاظ، وإن أمر بذلك خادمه أو غيره.. جاز، ولا ضمان عليه. واختلف أصحابنا في تعليله:
فقال أكثرهم: لأن العادة جرت في علف البهائم وسقيها هكذا.
وقال أبو العباس: لأنه لم يخرجها من يده ونظره، وإنما استعان بغيره، كما قال: إذا استعان بزوجته، أو خادمه على حفظ الوديعة.. فلا ضمان عليه.
وإن علفها، أو سقاها خارج المنزل، فإن كان المنزل ضيقا لا يتمكن من العلف فيه والسقي.. جاز، ولا ضمان عليه؛ لأنه موضع ضرورة، وإن كان يمكنه أن يفعل ذلك في منزله.. قال الشافعي: (فعليه الضمان) . واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن كان خارج المنزل آمنا.. فلا ضمان عليه؛ لأن ذلك يجري مجرى منزله، وقد جرت العادة بعلف البهائم والسقي خارج المنزل إذا كان آمنا، وحمل النص عليه إذا كان خارج المنزل مخوفا.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه الضمان بكل حال؛ لأنه أخرج الوديعة من حرزها لغير عذر، فلزمه الضمان.(6/493)
قال الشيخ أبو حامد: والمذهب الأول؛ لأن خارج المنزل حرز، كالمنزل، فهو كما لو نقل الوديعة من بيت إلى بيت.
[مسألة: إخراج الوديعة من الحرز بغير إذن المالك]
] : إذا أخرج المودع الوديعة من حرزها بغير إذن مالكها.. نظرت:
فإن أخرجها لمصلحتها، بأن دعت الحاجة إلى تجفيف الثياب في الشمس أو الرياح، أو تقليب الكتب.. لم يضمنها بذلك؛ لأن ذلك واجب عليه.
وإن أخرج الوديعة لينتفع بها.. ضمنها بنفس الإخراج وإن لم ينتفع بها.
وقال أبو حنيفة: (لا يضمنها ما لم ينتفع بها) .
دليلنا: أنه تناول الوديعة لمنفعة نفسه بغير إذن مالكها، فضمنها، كما لو انتفع بها.
وإن نوى أن يخرج الوديعة لينتفع بها، أو نوى أن لا يردها على مالكها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ هو المذهب ـ: أنه لا يضمنها بذلك؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيها على وجه التعدي، فلم يضمنها، كما لو نوى أن يغصب مال غيره.
والثاني ـ ويحكى عن أبي العباس ـ: أنه يضمنها بمجرد النية، كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها.
والثالث ـ حكاه في " المهذب " عن القاضي أبي حامد ـ: إن نوى أن لا يردها.. ضمنها بمجرد النية؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه، وإن نوى أن ينتفع بها.. لم يضمنها بمجرد النية؛ لأنه لا يصير ممسكا لها بذلك على نفسه.
ولا يجوز للمودع أن يقترض الوديعة.
وقال مالك: (يجوز له أن يقترضها؛ لأن كونها في ذمته أحفظ للمالك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .(6/494)
فإن كان عنده وديعة، وخاف عليها التغير، ولم يجد صاحبها ولا وكيله.. فهل يجوز له أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يقرضها غيره؟ فيه وجهان خراسانيان.
[فرع: زوال الضمان عن المودع]
إذا تعدى المودع في الوديعة.. لزمه ضمانها، ولا يبرأ من الضمان إلا بتسليمها إلى المودع، أو إلى وكيله.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا ردها إلى حرزها.. زال عنه الضمان) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى يؤديه» . ولأنها وديعة مضمونة، فلم يزل عنه الضمان بفعله، كما لو جحد الوديعة، ثم اعترف بها، أو منعها، ثم بذلها.
فإن قال المالك: أودعتكها، من غير أن يقبضها، أو قال: أبرأتك من الضمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه الضمان؛ لأن الضمان لحق المالك، وقد أسقط حقه.
والثاني: لا يزول عنه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الإبراء إنما يكون من حق في الذمة، ولا حق له في ذمته.
[مسألة: الإكراه على أخذ الوديعة]
] : قال الشافعي: (وإن أكرهه رجل على أخذها.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فمنهم من قال: صورتها: هو أن يكره رجل المالك على أخذها، فأخذها، فلا يضمنها إذا تلفت؛ لأنه لو تسلمها باختياره لا يضمن، فبأن لا يضمنها إذا أخذها مكرها أولى.(6/495)
ومنهم من قال: صورتها: أن يكره أجنبي المودع على أخذها منه، وهذا هو الصحيح.
فعلى هذا: ينظر في الذي أكرهه:
فإن كان يقدر على دفعه.. لزمه دفعه عنها، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأن معنى قوله: (أودعتكها) أي: استحفظتكها، وعليه أن يحفظها ما أمكنه، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان.
وإن كان الذي أكرهه لا يقدر على دفعه، ويخاف على نفسه منه.. لم يلزمه دفعه، ثم ينظر:
فإن أخذها المكره بنفسه من غير مباشرة من المودع في دفعها.. لم يلزمه الضمان. وإن أكرهه حتى سلمها بيده إليه.. فهل يجب على المودع الضمان؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن أكره، فأكل وهو صائم، أو حلف لا يدخل دارا، فأكره حتى دخلها بنفسه.
[مسألة: رد الوديعة بطلب المالك]
] : وإذا طالب المودع برد الوديعة.. وجب على المودع الرد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . فإن أخر ردها من غير عذر ضمنها، وإن أخر ردها لعذر.. لم يضمنها.
قال في " الفروع ": وليس على المودع إيصالها إلى المالك، بل عليه التخلية بينه وبينها لا غير، والأخذ على المالك. وإن طالب المودع المالك بأخذ وديعته.. وجب على المالك أخذها؛ لأن قبول الوديعة ليس بواجب عليه، فكذلك استدامة حفظها.(6/496)
[مسألة: إنكار الوديعة]
] : وإن ادعى على رجل أنه أودعه وديعة معلومة، فقال المدعى عليه: ما أودعتني، ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . ولأن الأصل عدم الإيداع.
[فرع: الاختلاف في تلف الوديعة وسببه]
] : وإن أمره بحفظ الوديعة في مكان، فنقلها عنه، فتلفت، فقال المودع: نقلتها خشية سيل، أو حريق، أو نهب عسكر، وأنكره المالك.. لم يقبل قول المودع حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه، فإن كان قد صدقه المالك على تلفها.. فلا كلام، وإن ادعى المالك أنها لم تتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، فقبل قوله فيه مع اليمين. وإن ادعى المودع أن الوديعة قد تلفت، فأنكر المودع، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر، كالسيل، والعسكر، والنهب، والحريق.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت بالسبب وبالتلف.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب الظاهر، ولم تشهد بالتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت بذلك؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على تلفها. وإن ادعى تلفها بسبب غير ظاهر، بأن قال: سرقت، أو ضاعت.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله مع اليمين. وهذا كما نقول فيمن قال لامرأته: إن ولدت.. فأنت طالق، فادعت أنها ولدت.. لم يقبل قولها من غير بينة، ولو قال: إذا حضت.. فأنت طالق، فادعت أنها حاضت.. قبل قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه من الفرق.(6/497)
[مسألة: إنكار رد الوديعة]
] : وإن ادعى المودع أنه رد الوديعة على المالك، وأنكر المالك، ولا بينة على الرد.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه مؤتمن على حفظ الوديعة لمالكها، ولاحظ للمودع فيها، فقبل قوله في ردها، بخلاف ما لو ادعى المرتهن رد الرهن.. فإنه لا يقبل قوله؛ لأنه قبض الرهن لحظ نفسه وهو الاستيثاق لحقه. وإن قال المودع للمالك: أمرتني بدفع الوديعة إلى فلان، فدفعتها إليه، فقال المالك: أمرتك بدفعها إليه، إلا أنك لم تدفعها إليه.. فلا يقبل قول المودع في الدفع إليه.
وقال أبو حنيفة: (يقبل قوله في الدفع إليه، كما لو ادعى دفعها إلى مالكها) .
دليلنا: أنه ادعى دفع الوديعة إلى من لم يأتمنه عليها، فلم يقبل قوله في الدفع إليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم.
فإن قال المودع: أحلفوا لي المالك: أنه لا يعلم أني دفعتها إلى الذي أمرني بالدفع إليه.. نظر فيه:
فإن كان قد أمره أن يقضي بالوديعة دينا على المالك، ولم يشهد المودع على الدفع.. لم يلزم المالك أن يحلف، ولزم المودع الضمان، سواء صدقه المالك على الدفع أو لم يصدقه؛ لأنه إنما أمره بدفع يبرئه، وهو لا يبرئه إلا مع الإشهاد، فإذا دفع من غير إشهاد.. لزمه الضمان، وإن كان قد أمره أن يدفع الوديعة إلى الثاني وديعة.. فهل يلزم المالك أن يحلف؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في أنه هل يلزم الوكيل الإشهاد على الإيداع؟
فإن قلنا: لا يلزمه.. لزم المالك أن يحلف هاهنا.
وإن قلنا: يلزمه الإشهاد.. لم يلزم المالك أن يحلف هاهنا.
وإن أنكر المالك الإذن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن، ثم ينظر في المدفوع إليه، فإن أنكر القبض.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، ويستقر الضمان على المودع.(6/498)
وإن أقر المدفوع إليه بالقبض، وكان حاضرا.. نظرت:
فإن كان دفعها وديعة، وكانت باقية في يد الثاني.. أخذها المالك.
وإن كان دفعها عن دين للثاني على المالك.. انتزعت من يد الثاني؛ لأن قول المودع غير مقبول على المالك، وله أن يقضي ما عليه من الدين من أي جهة شاء، وإن كانت تالفة.. فللمالك أن يضمن أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما قد وجد منه التعدي بها، وأيهما رجع عليه.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر بما ضمنه؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه. وإن كان الثاني غائبا.. رجع المالك على الأول؛ لأنه لا يجد من يرجع عليه غيره، فإذا رجع الغائب، فإن كانت الوديعة باقية.. أخذها الأول، وردها على المالك، واسترجع ما دفع، وإن كانت تالفة.. فقد استقر عليه الضمان، فلا يرجع على الثاني بشيء؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه.
[فرع: تصديق المودع البينة على الوديعة]
] : وإن ادعى عليه أنه أودعه، فقال: ما أودعتني، فأقام المدعي البينة بالإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، أودعني، ولكنها تلفت من غير تفريط، أو رددتها.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار خائنا، ضامنا، فإن أقام البينة على التلف، أو الرد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه الضمان، كما لو صدقه المدعي على ذلك.
الثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأنه كذب بينته بإنكاره الإيداع.
وإن قال عند الإنكار: ما لك عندي، أو لا تستحق علي شيئا.. صح الجواب، فإن أقام المدعي بينة على الإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، لكنها تلفت، أو رددتها.. قبل قوله مع يمينه، وإن أقام البينة على ذلك.. سمعت، وجها واحدا. والفرق بينهما: أن قوله: ما لك عندي شيء، لا يكذب إنكاره ولا بينته؛ لأنها إذا تلفت بغير تفريط، أو ردها عليه.. فلا شيء له عليه.(6/499)
[فرع: ادعاء اثنين على آخر وديعة]
] : وإن كانت في يد رجل عين فادعاها عليه رجلان أنها وديعة لهما، وكل واحد منهما ادعى جميعها، ولا بينة لهما.. نظرت:
فإن أنكرهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما بعينه.. سلمت إلى المقر له، وهل يجب على المقر أن يحلف للمدعي الثاني؟ فيه وجهان، بناء على من كان بيده دار، فقال: هي لزيد، لا بل هي لعمرو.. فإنها تسلم لزيد، وهل يغرم لعمرو شيئا؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يغرم لعمرو.. لم يحلف للثاني؛ لأنه لو أقر له.. لم يغرم له شيئا.
وإن قلنا: يلزمه الغرم لعمرو.. لزمه أن يحلف هاهنا للثاني؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر له، فيغرم.
فإذا قلنا بهذا.. نظرت:
فإن حلف للثاني.. انصرف عنه، وله أن يدعي بعينه على المقر له بكل حال، وإن أقر بها المقر للثاني.. لزمه أن يغرم له قيمتها.
وإن نكل المقر عن اليمين للثاني.. ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين.. انقطع حقه عن المقر، وإن حلف.. قال المحاملي: فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعي عليه تحل محل البينة.. سلمت العين إلى الثاني. قال: ولكنه ضعيف، فلا تفريع عليه، وإن قلنا: تحل محل الإقرار.. قال أبو العباس: ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: توقف العين لهما، إلى أن يصطلحا عليها؛ لأن حكم الثاني قد قوي بيمينه.
والثاني: تقسم بينهما، كما لو أقر لهما بها دفعة واحدة.(6/500)
والثالث: تقر العين في يد الأول؛ لأن ملكه قد استقر، ويغرم المقر للثاني القيمة؛ لأنه حال بينه وبين حقه بإقراره الأول.
وإن قال المدعى عليه: هي لكما.. قسمت بينهما نصفين، وكان الحكم في النصف الآخر حكم ما لو أقر بها لأحدهما.
وإن قال: هي لأحدكما، ولا أدري من هو منكما.. قال الشافعي: (قيل لهما: أتدعيان عينا غير هذه العين؟ فإن قالا: لا.. قيل لهما: أتدعيان علمه من المالك منكما؟ فإن قالا: لا.. فلا يمين على المودع؛ لأنهما اعترفا بجهله للمالك) . وماذا يصنع بالعين؟ فيه قولان:
أحدهما: تنقل من المقر إلى عدل ينصبه الحاكم؛ لأنه قد أقر: أنه ليس بمالك لها، وأنها لأحدهما، ولا يمكن دفعها إليهما، ولا إلى أحدهما، ولا تقر في يده؛ لأن مالكها لم يرض بأن تبقى عنده.
والثاني: تبقى في يده أمانة؛ لأنه لا معنى لانتزاعها من هذا العدل، ووضعها عند عدل آخر.
قال الشيخ أبو حامد: قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قيل لهما: أتدعيان غير هذه العين) لا معنى له؛ لأنه قد عرف ذلك بأصل الدعوى، فإن ادعيا أنه يعلم المالك منهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه. فإن عرضت عليه اليمين، واختار أن يحلف.. حلف لهما يمينا واحدة.
وقال أبو حنيفة: (يحلف لهما يمينين) .
دليلنا: أنه يحلف على جهالته للمالك، فإذا ثبت جهله في أحدهما.. ثبت في حق الآخر، إذ ليس يحلف على نفي ملك بعينه، فإذا حلف لهما.. كان الحكم في العين على قولين، كما لو اعترفا بجهله للمالك، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فإن حلفا.. ففيه قولان:(6/501)
أحدهما: توقف العين لهما إلى أن يصطلحا، والثاني: تقسم بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي له بها، كما لو أقر له بها. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 442] : إذا حلف: أنه لا يعلم المالك منهما.. برئ، فإن حلفا.. قسمت الوديعة بينهما، وأخذ كل واحد منهما مع نصف الوديعة نصف قيمة الوديعة من المودع؛ لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه جميع العين له، ولم يصل إليه إلا نصفها، فوجب تمليكها بالقيمة.
وأما إذا قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري من غصبتها منه.. فلا بد أن يحلف لكل واحد منهما يمينا على القطع: أنه لم يغصبها منه، فإذا حلف لأحدهما.. تعين المغصوب للثاني، ولا يحلف له، حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق 443] .
وبالله التوفيق(6/502)
[كتاب العارية](6/503)
كتاب العارية العارية: إباحة الانتفاع بعين من الأعيان. قال ابن الصباغ: وهي مشتقة من عار الشيء: إذا ذهب، ومنه قيل للغلام البطال: عيار.
والأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.(6/505)
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي العارية إعانة.
وقَوْله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]] (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] [الماعون: 4 - 7] . قال ابن مسعود: (الماعون: إعارة الدلو، والقدر، والميزان) . وروى عن علي، وابن عمر: (أن الماعون الزكاة) .
وأما السنة: فروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة والزعيم غارم» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر لم يؤد حقها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ـ وروى: قرق ـ تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما فني أولاها.. عادت إليه أخراها". فقيل: يا رسول الله. وما حقها؟ قال: "إعارة دلوها، ومنحة لبنها يوم وردها، وإطراق فحلها» . والقرق: المستوي. قال الشاعر:(6/506)
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق
و (القرقر) : مثله.
وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة مؤداة» .
وأجمع المسلمون على جواز العارية.
وأما القياس: فلأنه لما جاز هبة الأعيان.. جاز هبة منافعها.
[مسألة: شرط أهلية الإعارة]
] : ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، كما لا تصح هبة الأعيان إلا من جائز التصرف في المال، ولا تصح العارية إلا في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، كالدور، والأرض، والفحل للضراب، والسلاح، وما أشبه ذلك؛ لأن الخبر ورد(6/507)
بإعارة الدلو، والفحل، والدروع، وهذه الأشياء يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها، وقسنا عليها أمثالها.
وهل تصح إعارة الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان؟ فيه وجهان، بناء على جواز إجارتها لذلك.
وفي جواز إعارة ذوات الأمثال، كالطعام، والدهن، وما أشبهه لغير إتلافها وجهان.
فأما ما لا ينتفع به إلا بإتلاف لعينه، كاستعارة الهربس، والعصيد للأكل.. فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلاف عينه في الحال، وذلك خارج عن مقتضى حكم العارية.
[فرع: ما يعار من الحيوان]
] : ويجوز إعارة الحيوان للخدمة، وللركوب، وما أشبهه، كما يجوز إجارته لذلك، ويجوز إعارة الكلب للصيد، كما يجوز إعارة الفحل للضراب، ولا يجوز إعارة الجارية للوطء؛ لأن الوطء لا يكون إلا في ملك أو نكاح. قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير محرم لها للخدمة؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها.
وذكر في " الفروع "، والصيدلاني: أنه يكره إعارتها، فإن كانت كبيرة، أو صغيرة، أو قبيحة.. جاز إعارتها؛ لأنه يؤمن مواقعتها.
ولا يجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له استخدامه.
ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامه.
[فرع: ليست المنحة إعارة]
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز استعارة الشاة ليحلبها، ولا إعارة الأشجار لأخذ ثمرتها، كما لا يجوز إجارتها لذلك.(6/508)
وقال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة ورق أو هدى زقاقا، أو سقى لبنا.. كان له كعدل رقبة، أو نسمة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة وكوفا.. فله كذا وكذا» . و (الوكوف) : غزيرة اللبن.
قال أبو عبيد: وللعرب أربعة أسماء تضعها موضع اسم العارية، وهي: المنحة. والعرية، والإفقار، والإخبال.
فـ (المنحة) : أن يمنح الرجل الرجل ناقة أو شاة: فيحتلبها زمانا، ثم يردها.
و (العرية) : أن يعري الرجل الرجل ثمرة نخلة من نخيله، فيكون له الثمر عامه ذلك.
و (الإفقار) : أن يعطيه دابته، فيركبها ما أحب في سفر، أو حضر، ثم يردها عليه.
و (الإخبال) : أن يعطيه ناقته، فيركبها، ويجتز وبرها، ثم يردها.
قال ابن الصباغ: ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، بل يكون إباحة للبن وثمر الشجر؛ لأن الإباحة تصح في الأعيان.
ولا يجوز للمحرم أن يستعير صيدا، كما لا يجوز له تملكه، فإن خالف واستعاره، وتلف في يده.. لزمه الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة لمالكه. وإن استعار(6/509)
محل من محرم صيدا، فإن قلنا: إن ملك المحرم لا يزول عن الصيد.. جاز، ويضمنه بالقيمة، وإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. فقد وجب عليه إرساله، فإذا دفعه إلى المحل.. لم يسقط عنه بذلك ما وجب عليه من الإرسال، ولا يضمنه المستعير بالقيمة للمعير؛ لأنه ليس بملك له، ولا بالجزاء؛ لأنه مأذون له في إتلافه، فإن تلف الصيد في يد المستعير.. وجب على المحرم الجزاء.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أودع محل صيدا عند محرم، فتلف في يده لم.. يلزمه الجزاء؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، وإنما أمسكه للمالك.
[مسألة: صيغة العارية]
] : ولا تنعقد العارية إلا بالإيجاب والقبول كما نقول في هبة الأعيان، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: أعرني، فيسلمها إليه المالك، أو يقول المالك: أعرتك، فيقبضها الآخر، كما نقول في إباحة الطعام.
[مسألة: يد المستعير يد ضمان]
] : قال الشافعي: (وكل عارية مضمونة على المستعير وإن تلف من غير تفريط) .
وهذا كما قال: إذا قبض المستعير العين المستعارة، فتلف في يده.. فهل يجب عليه ضمانها؟ اختلف الناس فيها على خمسة مذاهب:
فـ[الأول [: ذهب الشافعي إلى: أنها مضمونة على المستعير، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، وسواء شرط ضمانها أو أطلق.
وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وبه قال عطاء وأحمد، وإسحاق.(6/510)
و [المذهب الثاني] : قال ربيعة: العارية مضمونة على المستعير، إلا أن تكون حيوانا، فيموت، فلا ضمان عليه.
و [المذهب الثالث] : قال مالك، وعثمان البتي: (العارية مضمونة على المستعير، إلا أن يكون حيوانا، فلا يضمنه بحال سواء مات حتف أنفه، أو تلف تحت يد المستعير من غير تفريط بنهب، أو غيره) .
و [المذهب الرابع] : قال قتادة، وعبيد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها ... كانت مضمونة على المستعير، وإن لم يشرط.. كانت أمانة في يده.
و [المذهب الخامس] : قال شريح، والنخعي، والحسن البصري، والثورى، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه: (العارية أمانة في يد المستعير لا يضمنها إلا إذا فرط في تلفها) .
دليلنا: ما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت» وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية في شركه ثلاثين درعا ـ وقيل: مائة درع ـ يوم حنين، فقال: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعتك إياه لم تغصبني عليه فقال: لا»
فمعنى قول صفوان: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعنك إياه لم تغصبني عليه؟ فقال: "لا".
وروى أنس: «أن امرأة من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعارت قصعة، فذهبت، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغرمها» .(6/511)
ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة، فضمنه، كالمغصوب.
فقولنا: (مال لغيره) احتراز ممن أخذ مال نفسه من غيره، فإنه غير مضمون عليه.
وقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة، فإن المنفعة فيها للمالك.
وقولنا: (لا على وجه الوثيقة) احتراز من المرتهن إذا قبض الرهن.
ولأنها عين مضمونة بالرد، فكانت مضمونة بالتلف، كالمغصوب.
فقولنا (مضمونة بالرد) أي: أنه يجب عليه مؤنة الرد، وفيه احتراز من الوديعة والرهن، فإنه لا يجب عليه مؤنة الرد، بل عليه أن يخلي بينه وبين العين لا غير، وكذلك العين المستأجرة في أحد الوجهين.
إذا تقرر هذا: فإن استعار عينا. فاستعملها استعمالا مأذونا فيه، فردها وقد نقص شيء من أجزائها، بأن كان ثوبا، فرده، وقد رق ونقصت قيمته بذلك.. لم يجب عليه ضمان ما نقص؛ لأن الإذن في استعماله تضمن الإذن في إتلاف ذلك منه.
وإن هلكت العين المستعارة، أو أتلفها قبل الاستعمال.. وجب عليه ضمانها، فأما إذا استعملها، فنقصت قيمتها بالاستعمال ثم تلفت، فإن كانت من غير ذوات الأمثال..وجب عليه قيمتها، ومتى تقوم عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب.
فعلى هذا: تكون الأجزاء التالفة بالاستعمال تابعة للعين، إن سقط عنه ضمان العين بردها.. سقط عنه ضمان الأجزاء، وإن وجب عليه ضمان العين بتلفها.. وجب عليه ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال.(6/512)
والثاني: وهو المذهب ـ: أنه يجب عليه قيمتها يوم تلفها؛ لأنا لو قومناها عليه أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف.. أدى إلى أن تجب عليه قيمة الأجزاء التالفة بالاستعمال، وهذا لا يجوز.
وإن استعار منه ثوبا ليلبسه، فلبسه حتى خلق، ولم يبق منه خيط.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يلزمه ضمان الأجزاء؛ لأن كل عين ضمن أصلها، ضمن أجزاءها، كالمغصوب.
و [الثاني [: قال الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: لا يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلفه إتلافا مأذونا فيه، فهو كما لو أذن له في أكل طعامه، فأكله.
وإن استعار منه شيئا له مثل، وتلف في يده بغير الاستعمال.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إن فيما لا مثل له تجب قيمته أكثر ما كانت.. ضمنه هاهنا بمثله، وإن قلنا فيما لا مثل له: تجب قيمته يوم التلف.. ضمن هذا بقيمته يوم التلف.
[فرع: نتاج العارية]
] : وإن ولدت العارية عنده.. فهل يكون ولدها مضمونا عليه؟ فيه وجهان، كولد الوديعة، وقد مضى.
[فرع: إعارة العين غير مملوكة]
] : وإن استأجر عينا، فأعارها غيره، فتلفت عنده من غير تفريط.. فذكر بعض أصحابنا: أنه لا يجب على واحد منهما ضمانها؛ لأن العين المستأجرة لا تضمن بالتلف من غير تفريط.
وإن غصب رجل من رجل عينا، وأعارها غيره، فاستعملها المستعير، وتلفت عنه.. فللمالك الخيار: بين أن يرجع على الغاصب بقيمتها أكثر ما كانت من حين غصبها إلى أن تلفت، وبأجرة منافعها؛ لأنه تعدى بغصبها، وبين أن يرجع على(6/513)
المستعير بقيمتها أكثر من حين قبضها إلى أن تلفت في يده، وبأجرة منافعها.
فإن علم المستعير بالغصب.. لم يرجع لما غرمه على الغاصب، قولا واحدا؛ لأن التلف حصل في يده. وأما إذا لم يعلم المستعير بالغصب.. نظرت:
فإن استعمل العين المغصوبة مدة، فنقصت أجزاؤها، وأقام المالك بينة عليها.. فإنه ينتزعها، وهو بالخيار: بين أن يرجع على الغاصب بأجرة منافعها من حين غصبها منه، إلى أن أخذها من المستعير، وبأرش ما نقصت، وبين أن يرجع على المستعير بأجرتها من حين قبضها، وبأرش ما نقصت في يده؛ لأنه قد وجد التعدي من كل واحد منهما فيها.
فإن رجع على المستعير في ذلك.. فهل للمستعير أن يرجع بما غرمه على الغاصب؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (له أن يرجع عليه) . وبه قال أحمد؛ لأنه غره، وأدخله في العارية على أن لا يضمن الأجزاء والأجرة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الصحيح؛ لأن التلف كان في يده.
وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب بذلك فهل للغاصب أن يرجع على المستعير بأرش ما نقصت في يده وبالأجرة مدة إقامتها في يده.
إن قلنا بقوله في القديم في الأولى: لو رجع المالك على المستعير رجع المستعير على الغاصب.. لم يرجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وإن قلنا بقوله الجديد: إن المستعير لا يرجع على الغاصب.. رجع الغاصب هاهنا على المستعير.
وأما إذا تلف في يد المستعير.. فللمالك أن يرجع بها على أيهما شاء بقيمتها أكثر(6/514)
ما كانت من حين قبضها، وبأجرة منافعها، فإن كانت قيمتها يوم التلف أكثر، واختار المالك الرجوع على المستعير بالقيمة، وبالأجرة.. فإن المستعير لا يرجع على الغاصب بقيمتها، قولا واحدا؛ لأنه دخل في العارية على أن تكون مضمونة عليه، وهل يرجع المستعير على الغاصب بما غرم من الأجرة؟ على القولين، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك على الغاصب بهما.. رجع الغاصب على المستعير بالقيمة، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة مدة إقامتها في يده؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.
وإن كانت قيمة العين يوم قبضها المستعير أكثر، فنقصت بالاستعمال، ثم تلفت في يده، فإن قلنا: إن المستعير يجب عليه قيمة العين أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.. فهو كما لو كانت قيمتها يوم التلف أكثر، وإن قلنا بالمذهب، وإنه لا يجب على المستعير إلا قيمتها يوم التلف.. فإن المالك إذا اختار الرجوع على المستعير.. فإنه يرجع عليه بقيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت، وأما قدر قيمتها يوم التلف.. فلا يرجع بها المستعير على الغاصب، قولا واحدا، وأما ما زاد على ذلك من القيمة التي غرمها، وأجرة منافعها.. فهل له أن يرجع بما غرمه من ذلك الغاصب؟ فيه قولان، الصحيح: لا يرجع.
وإن رجع المالك بذلك على الغاصب.. فإن الغاصب يرجع على المستعير بقدر قيمتها يوم التلف، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة، وبأرش الأجزاء التالفة في يده بالاستعمال؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه.
[مسألة: لا يشترط تعيين مدة الإعارة]
] : وتجوز الإعارة مدة معلومة، ومدة مجهولة؛ لأن العارية عطية لا عوض فيها، فصحت في المعلوم والمجهول، كإباحة الطعام، والوصية، وفيه احتراز من الإجارة.(6/515)
إذا ثبت هذا: فللمعير أن يرجع في العارية متى شاء، سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة وإن لم تنقض المدة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (إذا أعاره مدة مؤقتة.. لم يجز له أن يرجع فيها قبل انقضاء المدة، وإن أعاره مدة مجهولة.. لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها) . وبنى مالك ذلك على أصله: أن الهبة تلزم بالعقد من غير قبض.
دليلنا: أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فكان للمعير الرجوع فيها، كما لو لم يقبض العين، ويجوز للمستعير أن يرد العارية متى شاء؛ لأنه ملك الانتفاع بالإباحة، فكان له ردها متى شاء، كما لو أباح له أكل طعامه.
وإن مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر عليه للسفه.. انفسخت العارية؛ لأنها عقد جائز، فبطلت بما ذكرناه، كسائر العقود الجائزة.
وإن مات المستعير.. انفسخت العارية؛ لأن الإذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وراثه، وإذا انفسخت العارية.. وجب على المستعير ردها، ومؤنة الرد عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «عارية مضمونة مؤداة» . فوصف العارية بذلك، فدل على: أن ذلك مقتضى حكمها، فإن ردها المستعير إلى المالك، أو إلى وكيله.. برئ من الضمان. وإن ردها إلى ملك المعير، بأن استعار دابة فردها إلى إصطبل المالك..لم يبرأ بذلك.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ بذلك) .
دليلنا: أنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله، فلم يبرأ بذلك، كما لو غصب مائة عينا، أو سرقها، فردها إلى ملكه.. فإنه لا يبرأ بلا خلاف.
[مسألة: استعمال عين العارية]
] : ومن استعار عينا.. فله أن يستوفي منفعتها بنفسه، وبوكيله؛ لأنه نائب عنه، وإن استعار دابة لتركبها امرأته زينب.. فهل له أن يركبها عمرة؟ ينظر فيه:
فإن كانت عمرة أثقل منها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك انتفاع غير مأذون فيه.(6/516)
وإن كانت عمرة مثلها، أو أخف منها.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، كما قلنا في الإجارة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه انتفاع غير مأذون فيه، فلم يجز، كما لو كانت أثقل منها.
وإن استعار دابة ليركبها إلى بلد، فركبها إلى تلك البلد، وجاوز بها إلى بلد أخرى، فقبل أن يجاوز بها البلد المأذون له بالركوب إليه هي مضمونة عليه ضمان العارية، ولا أجرة عليه لذلك، فإذا جاوز بها.. صارت من حين المجاورة مضمونة عليه ضمان الغاصب، ويجب عليه أرش ما نقصت بعد ذلك، وأجرة منافعها، فإن ماتت.. وجب عليه قيمتها أكثر ما كانت حين المجازوة؛ لأنه صار متعديا بالمجاوزة، فإن رجع بها إلى البلد المأذون بالركوب إليه.. لم يزل عنه الضمان.
وقال أبو حنيفة: (يزول عنه الضمان) .
دليلنا: أنها صارت مضمونة عليه، فلم يبرأ بالرد إلى غير يد المالك، أو وكيله، كالمغصوب.
[فرع: تأجير وإعارة العارية]
] : وإن استعار عينا مدة، فأجرها المستعير تلك المدة.. لم تصح الإجارة؛ لأن الإجارة معاوضة، فلا تصح إلا فيما يملكه، والمستعير لا يملك المنافع، وإنما هي ملك لمالك العين، وقد أباح له إتلافها، فلا يملك أن يملك ذلك غيره.
وإن أعارها المستعير غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لما جاز أن يؤاجر ما استأجره.. جاز أن يعير ما استعاره.(6/517)
والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن المالك أباح للمستعير الانتفاع، فلا يملك المستعير أن يبيح ذلك لغيره، كما لو أباح له طعاما.. فليس للمباح له أن يبيحه لغيره، ويخالف المستأجر، فإنه يملك المنافع، فلذلك جاز أن يملكها غيره، كمن اشترى شيئا.. فله أن يتصرف فيه بما شاء.
[فرع: إنفاق المستعير على الحيوان]
] : قال الصيمري: وإذا استعار حيوانا.. فإن نفقته مدة العارية على المعير؛ لأنه ملكه والنفقة تجب على مالك الرقبة دون مالك المنفعة، كما نقول في الإجارة.
فعلى هذا: إذا استعار حيوانا، فإن أذن المعير للمستعير بالإنفاق عليه، فأنفق عليه.. رجع عليه بما أنفقه؛ لأنه أخرجه بإذنه، وإن لم يأذن له في الإنفاق عليه.. فللمستعير أن يرفع ذلك إلى الحاكم، لينفق عليه من مال المعير إن كان له مال، أو يبيع جزءا من الحيوان المعار، أو يقترض عليه من غير المستعير، أو من المستعير، كما قلنا في الوديعة.
[مسألة: إعارة الأرض]
] : ويجوز إعارة الأرض للزراعة، وللبناء، وللغراس؛ لأنه يجوز أن يملك منفعة الأرض لذلك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كمنفعة العبد والدار، فإن قال: أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها.. جاز له أن يزرع فيها ويغرس ويبني؛ لأن الإذن فيها مطلق، فاستباح الجميع.
وإن أعاره الأرض ليزرع فيها، وأطلق.. كان له أن يزرع أي زرع شاء؛ لأن الإذن مطلق، وإن قال: لتزرع الحنطة.. فله أن يزرع الحنطة والشعير؛ لأن ضرر الشعير أقل من ضرر الحنطة في الأرض، وإن قال: لتزرع فيها الشعير.. قال الشيخ أبو حامد: فليس له أن يزرع الحنطة؛ لأنها أكثر ضررا في الأرض من الشعير.. ولا يجوز أن يغرس في الأرض، ولا يبني فيها؛ لأنهما أعظم ضررا في الأرض من الزراعة.(6/518)
وإن استعار أرضا ليبني فيها، أو يغرس.. كان له أن يزرع فيها. وحكى في " المهذب " وجها آخر: أنه إذا استعارها للبناء.. لم يكن له أن يزرع فيها؛ لأن الزراعة فيها ترخي الأرض. وليس بشيء؛ لأن ضرر البناء والغراس في الأرض أكثر من ضرر الزرع، فإذا زرعها.. فقد استوفي بعض ما أذن له فيه، فجاز، وإن استعارها للبناء.. فهل له أن يغرس فيها؟ أو استعارها للغراس.. فهل له أن يبني فيها؟ وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن ضررهما فيا لأرض سواء؛ لأن الأرض تحفر لهما، ويراد كل واحد منهما للتأبيد.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن ضررهما يختلف في الأرض؛ لأن ضرر الغراس لانتشار عروقه في باطن الأرض، ولا يمنع من الزراعة في ظاهرها، وضرر البناء في ظاهر الأرض دون باطنها؛ لأنه يكون في موضع واحد، ويمنع الزراعة في الأرض.
[فرع: الرجوع عن الأرض المعارة للبناء]
] : وإن أعاره أرضا ليبني فيها، أو تغرس، فبنى فيها، أو غرس، ثم رجع المعير عن العارية، أو كانت العارية مقدرة بمدة.. فليس للمستعير أن يبني ويغرس فيها بعد الرجوع، ولا بعد انقضاء المدة؛ لأنه إنما ملك ذلك بالإذن، وقد زال الإذن، فإن غرس بعد ذلك.. كان كما لو غصبها، فغرس فيها، أو بنى، على ما سيأتي في (الغصب) وأما ما غرس وبنى قبل الرجوع، وقبل انقضاء المدة.. فهل يلزمه قلعه؟ ينظر فيه:
فإن شرط المعير على المستعير قلع البناء والغراس عند الرجوع، أو عند انقضاء المدة.. لزمه قلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» . وإذا قلع.. لم يكن له أن يطالب المعير بما نقص البناء والغراس بالقلع، ولا المعير أن يطالبه بتسوية الأرض من آثار القلع؛ لأن كل واحد منهما قد رضي على نفسه بما يدخل عليه من الضرر بذلك لما شرط القلع.(6/519)
وإن لم يشرط عليه القلع.. نظرت:
فإن كانت قيمة الغراس والبناء لا تنقص بالقلع.. لزم المستعير أن يقلع؛ لأنه يمكن رد الأرض المعارة فارغة من غير إضرار بالمستعير وهل يلزمه تسوية الأرض؟ يحتمل أن يكون على وجهين يأتي ذكرهما.
وإن نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع، فإن اختار المستعير أن يقلعه.. كان له ذلك، ولا يمنعه المعير منه؛ لأنه عين ماله، وهل يلزم المستعير تسوية الأرض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه ذلك؛ لأنه لما أذن له بالغراس والبناء.. تضمن ذلك الرضا بحفر الأرض عند القلع؛ لأنه يعلم أن له أن يقلع.
والثاني: يلزمه ذلك؛ لأن ذلك حصل برضا المستعير، بدليل: أنه لو امتنع من القلع.. لم يجبر عليه.
وإن لم يختر المستعير القلع.. كان المعير بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يبذل قيمة الغراس والبناء قائما ويتملكه، أو يقلعه ويدفع أرش ما نقص بالقلع، أو يطالبه بأجرة الأرض؛ لأن الضرر يزول عن المستعير بذلك.
فإن بذل المستعير قيمة الأرض ليتملكها مع الغراس والبناء.. لم يجبر المعير على ذلك لأن الأرض لا تتبع الغراس والبناء، بدليل: أنه لو باعه غراسا، أو بناء في الأرض.. لم تدخل الأرض في البيع، والبناء والغراس يتبعان الأرض، بدليل: أنه لو باعه أرضا فيها بناء، أو غراس.. دخلا في البيع.
فإن طلب المعير أجرة الأرض من المستعير، فامتنع المستعير من بذل الأجرة.. فهل يلزمه قلع البناء والغراس؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان.
والثاني: يلزمه؛ لأن بعد الرجوع لا يجوز له الانتفاع من غير أجرة.(6/520)
وإن لم يبذل المعير قيمة الغراس والبناء، ولا أرش النقص، ولا رضي بالأجرة، وطالب بقلع الغراس والبناء.. لم يجبر المستعير على القلع، سواء كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة بمدة.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الإعارة مطلقة.. فله مطالبته بقلعه أي وقت شاء، ولا ضمان على المعير، وإن كانت مقيدة.. فليس له مطالبته بالقلع قبل انقضاء المدة من غير ضمان) دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا غير ظالم، فوجب أن يكون له حق.
ولأنه غرس مأذون فيه، ولم يشرط عليه القلع، فلم يلزمه القلع من غير عوض، كما لو كانت العارية مؤقتة.
إذا ثبت هذا: ولم يبذل المعير العوض، ولا رضي المستعير بالقلع.. فإن الغراس يقر في الأرض، فإن اتفقا على البيع.. بيعا، ويقسم الثمن بينهما على قيمة الغراس والأرض، فيقوم الغراس قائما وهو في غير ملك الغارس، ثم تقوم الأرض وفيها الغراس، ولا يكون الغراس داخلا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، وإن امتنعا من البيع.. أقر الغراس، ويقال لهما: انصرفا، فلا حكم لكما عندنا حتى تصطلحا على شيء، وللمعير أن يدخل إلى أرضه، ويغرس، ويزرع في بياضها، ويستظل تحت غرس المستعير؛ لأنه ملكه، ولكن لا يستند إلى جذوع غرس المستعير، وإن أراد بيع أرضه من المستعير وغيره.. كان له ذلك؛ لأنهما ملكه.
وأما المستعير: فإن أراد دخول الأرض للتفرج والاستراحة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الأرض للمعير، وقد رجع في عاريتها، وإن أراد دخولها لسقي الشجر، وأخذ الثمرة، وإصلاحها.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المعير قد رجع في عارية الأرض، ولم يبق للمستعير إلا إقرار الغراس في مواضعه، فلم يكن له التخطي في ملك غيره.(6/521)
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الإعارة للغراس تقتضي التأبيد، ولا يحصل التأبيد فيها إلا بالسقي، والإصلاح.
وإن باع المستعير غراسه من مالك الأرض.. صح بيعه، وجها واحدا، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأن للمعير أن يبذل قيمته ويتملكه، فلم يصح بيعه من غيره.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه باع ملكه، وجواز انتزاعه لا يمنع صحة البيع، كما لو اشترى شقصا فيه شفعة، فباعه.
[فرع: قلع المستعير الغراس]
] : إذا أذن في غراس شجرة، فغرسها، فانقلعت.. فهل له أن يعيد غرسها في موضعها من غير إذن؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الإذن اختص بالأولى.
والثاني: له ذلك؛ لأن الإذن قائم ما لم يرجع عنه.
[فرع: حمل السيل الحب إلى أرض الجار]
إذا كان لرجل حب حنطة أو شعير، أو جوز، أو لوز، أو نوى، أو شجر، فحمله السيل أو الريح إلى أرض غيره، فنبت.. فإنه يكون ملكا لصاحب الحب؛ لأنه عين ماله، وإنما زاد، فصار كما لو كان له بيض فحضنته دجاجة لغيره، وفرخ.
فإن أراد صاحب الشجر قلعه من أرض غيره.. كان له ذلك، ولزمه تسوية ما حصل في الأرض من الحفر؛ لأنه حصل لتخليص ملكه، فهو كما لو كان له فصيل،(6/522)
فدخل إلى دار غيره، وكبر، ولم يقدر على إخراجه إلا بنقض الباب.. فإنه ينقض الباب لإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب.
وإن طالب صاحب الأرض صاحب الشجر بقلعه من غير ضمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن مالك الشجر غير مفرط في إنباته بأرض غيره، فصار كما لو استعار منه أرضا، فغرس فيها.
فعلى هذا يكون: حكمه حكم العارية في ضمان العوض، وهو أن مالك الأرض بالخيار: بين أن يبذل لمالك الشجر قيمته فيتملكه، أو يقلعه ويضمن أرش ما نقص بالقلع، أو يقره في الأرض ويطالبه بأجرة أرضه.
والثاني: أن مالك الشجر يجبر على قلعه، ولا يلزم مالك الأرض له عوض، وهو الصحيح؛ لأنه حصل في الأرض بغير اختيار مالك الأرض، فصار كما لو انتشرت أغصان شجرته إلى هواء أرض غيره، فإذا قلع الشجر.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه.
[فرع: طلب المعير الأرض قبل الحصاد]
] : وإن أعاره أرضا ليزرع فيها، فزرع فيها، فرجع المعير في الأرض قبل أن يبلغ الزرع وقت الحصاد.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم الغراس فيما ذكرناه، من التبقية، والقلع، والأرش.
والثاني: أنه يجبر المعير على تبقيته إلى الحصاد بأجرة المثل؛ لأن له وقتا ينتهي إليه.. بخلاف الغراس.
[مسألة: استعار الجدار ليثبت فيه خشبه]
] : إذا استعار منه حائطا ليضع عليه الخشب في التسقيف.. جاز؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه يراد للبقاء، فجازت العارية له، كاستعارة الأرض للغراس والبناء، فإن رجع المعير في العارية قبل وضع الجذوع.. صح الرجوع؛ لأنه لا ضرر على المستعير في الرجوع.(6/523)
قال ابن الصباغ: وهكذا: إذا رجع بعد وضع الجذوع وقبل البناء عليها.. صح الرجوع، ووجب، على المستعير رفعها؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن وضع الجذوع، وبنى عليه، ثم رجع المعير.. فهل له أن يطالبه بقلعها، ويضمن له أرش ما يدخل عليه من النقص؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي:
أحدهما ـ قال في " الفروع ": وبه الفتوى ـ: أن ذلك كما قلنا فيمن أعار غيره أرضا للبناء أو الغراس، فبنى فيها، أو غرس.
والثاني ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره ـ: ليس له ذلك؛ لأنه إذا قلعها.. انقلع ما في ملك المستعير، وليس له أن يقلع شيئا من ملك المستعير بضمان القيمة، بخلاف الغراس، فإن قال المعير: أنا أدفع قيمة الأجذاع وأتملكها.. لم يكن له ذلك، والفرق بينهما وبين الغراس: أنه إذا دفع قيمة الغراس.. انتفع به؛ لأنه في ملكه، وهاهنا لا ينتفع بما يدفع عنه القيمة، وهو أطراف الأجذاع؛ لأن أطرافها الأخرى في ملك المستعير. قال الصيدلاني: وإن استعار من جاره حائطين، فوضع عليهما خشب ساباط.. فللمعير أن يرجع بشرط أن يضمن النقص؛ لأن الحائطين له، فلا ضرر على المستعير بذلك، بخلاف ما إذا كان أحد الحائطين للمستعير.
فإن انهدم الحائط المعار.. قال ابن الصباغ: فإن بناه المعير بغير آلته الأولى.. لم يكن للمستعير رد الأخشاب عليه بغير إذنه، وإن بناه بآلته الأولى.. ففيه وجهان:
أحدهما: له أن يعيد خشبه بغير إذنه، لأن العارية تقتضي التأبيد.
والثاني: ليس له أن يعيدها بغير إذنه، وهو الصحيح؛ لأنه إنما لم يكن له الرجوع قبل الانهدام؛ لأن على المستعير الضرر بذلك، وهاهنا لا ضرر عليه.(6/524)
وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي الوجهين: إذا انهدم الحائط فأعيد، من غير تفصيل.
قال المحاملي: وكذلك إذا هدمه صاحبه.
وهكذا الوجهان: إذا سقطت الجذوع ولم تنكسر.. فهل له إعادتها بغير إذنه؟ على الوجهين، وإن انكسرت تلك الأجذاع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": ليس له إعادة مثلها، وذكر ابن الصباغ: أنها على الوجهين الأولين.
[فرع: جهل كيفية وضع الجذور على الحائط]
] : وإن وجدت أجذاع لرجل على حائط غيره، أو شجرة في أرض غيره، ولم يعرف سبب ذلك.. لم يكن له المطالبة بقلع ذلك؛ لأن الظاهر أنها وضعت بملك، وإن انقلعت، أو قلعها.. كان له إعادة مثل ذلك، وجها واحدا، وقد ذكرناه.
[فرع: استعارة أرض لدفن أو حفر بئر]
] : وإن أعار أرضه لدفن ميت، فدفن فيها.. لم يكن له المطالبة بإخراجه؛ لأن الميت لا يحول، ولأن في ذلك هتكا لحرمته. وإن استعار منه أرضا ليحفر فيها بئرا، أو مدفنا.. صحت العارية؛ لأنها منفعة تملك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كسائر المنافع. فإذا نبع الماء.. جاز له أخذه؛ لأن الماء يستباح بالإباحة؛ فإن رجع المعير في العارية بعد الحفر.. فهل يصح رجوعه؟
لا أعرف فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنه يبن على القولين في العمل من المفلس، هل هو كالعين، أو ليس كالعين؟
فإنه قلنا: إنه كالعين.. لم يملك الرجوع إلا بشرط أن يضمن له قيمة عمله.
وإن قلنا: إنه ليس كالعين.. كان له الرجوع من غير ضمان قيمة العمل.(6/525)
[مسألة: استعار شيئا ليرهنه]
] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بدين عليه، فرهنه.. ففيه قولان:
أحدهما: أن حكمه حكم العارية، وليس بضمان؛ لأنه قبض ملك غيره بإذنه لينفرد بمنفعته، فكان عارية، كما لو استعاره للخدمة، ولأن الضمان: ما تعلق به الحق بذمة الضامن، وهاهنا لم يتعلق بذمة مالك العبد حق، فلم يكن ضمانا.
والقول الثاني: أن حكمه حكم الضمان، وهو اختيار الشاشي، وهو الأصح؛ لأن العارية ما أفادت المنفعة للمستعير، وهاهنا منفعة العبد للسيد، فثبت أنه ضمان، ولأن أعيان الأموال تحل محل الذمم بدلالة جواز التصرف فيها، كجوازه في الذمة، فلما جاز أن يضمن الإنسان حقا في ذمته.. جاز أن يضمنه في عين ماله.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن حكمه حكم العارية.. فهل يصح عقد الرهن عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: لا يصح الرهن؛ لأن العارية عقد جائز، والرهن عقد لازم، فلا يجوز أن يستباح بالعقد الجائز العقد اللازم.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه عارية غير لازمة؛ لأن للمعير أن يطالبه بفكه أي وقت شاء، ولأن العارية قد تكون لازمة، وهو إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذعا، فوضعه، وبنى عليه.
فإذا قلنا بهذا: فرجع مالك العبد عن العارية، فإن كان قبل الرهن، أو بعد الرهن وقبل أن يقبضه المرتهن.. صح رجوعه، ولا يصح رهنه ولا قبضه بعد ذلك؛ لأن العارية قد بطلت بالرجوع، وإن رجع بعد الرهن والإقباض..لم ينفسخ الرهن؛ لأنه قد لزم بالقبض، ولا يفتقر على هذا القول إلى تعيين قدر الدين وجنسه ومحله عند العارية؛ لأن العارية تصح لمنفعة مطلقة ومقيدة، إلا أنه إن ذكر جنس الدين، وحلوله، أو أجله.. لم يجز أن يرهنه بغير ذلك الجنس، ولا أن يرهنه، بخلاف(6/526)
ما عينه عند العارية، من الحلول، أو التأجيل؛ لأنه أذن له في انتفاع مخصوص، فلم يجز له أن ينتفع به في غير ذلك، ولأنه قد يكون على المالك ضرر في المخالفة، وهو أنه إذا أذن له ليرهنه في الدراهم، فرهنه بالدنانير.. فربما كانت الدراهم أسهل في القضاء، وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه بمؤجل.. فلأن المالك لم يرض بأن يحال بينه وبين عبده إلى الأجل، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه بدين حال.. فربما لا يجد الراهن الدين حالا، فيباع العبد بالدين، فيؤدي ذلك إلى إضرار بمالك العبد لم يرض به.
وإن أذن له ليرهنه بمائة درهم، فرهنه بخمسين درهما.. صح؛ لأن الخمسين تناولها الإذن، وإن رهنه بمائتين.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هل يصح رهنه بالمائة المأذون فيها؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح رهنه بها، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه خالفه في إذنه، فلم يصح تصرفه، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد، فباعه مع عبد آخر للموكل.. فلا يصح بيع واحد منهما.
وإن قلنا: إن حكمه حكم الضمان.. لم يصح حتى يبين جنس الدين وقدره ومحله عند العارية؛ لأن الضمان لا يصح في غير معلوم، فإن أذن له ليرهنه بدين مقدر من جنس إلى أجل مقدر، أو حال.. لم يجز رهنه بغير ذلك، إلا أن يرهنه بأقل من القدر المأذون فيه، بأن يأذن له في أن يرهنه بمائة درهم، فيرهنه بخمسين درهما، فيصح؛ لما ذكرناه.
[فرع: أعاره عبدا ليرهنه بدين حال]
] : وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه به.. فللسيد مطالبته بفكاكه على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فللمعير أن يرجع متى شاء، وإن قلنا: إنه ضمان.. فله مطالبته بتخليص عبده؛ لئلا يباع، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه به.. فهل له مطالبته بفكاكه قبل الحلول؟(6/527)
إن قلنا: إنه عارية ... فله مطالبته؛ لأن للمعير أن يرجع في العارية المؤقتة قبل انقضائها.
وإن قلنا: إنه ضمان.. لم يكن له المطالبة بفكاكه قبل الأجل، كما لو ضمن عنه دينا إلى أجل.. فليس له مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبل الأجل.
إذا ثبت هذا: فإن قضى الراهن الدين من ماله انفك الرهن، ووجب عليه رده إلى مالكه، وإن لم يقض الدين وحل الأجل ولم يكن معه ما يقضي به الدين.. بيع العبد في الدين، وبماذا يرجع السيد على المستعير؟ ينظر فيه:
فإن بيع العبد بقيمته.. رجع عليه السيد بقدر قيمته، أو بالدين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فالعارية تضمن بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. فالضامن يرجع بالدين الذي غرمه.
وإن بيع بأقل من قيمته مما يتغابن الناس بمثله، فإن قلنا: إنه عارية.. رجع عليه بكمال قيمته؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به العبد؛ لأنه هو القدر الذي غرمه.
فإن بيع بأكثر من قيمته، فإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به، وإن قلنا: إنه عارية.. ففيه وجهان:
[أحدهما [: قال عامة أصحابنا: يرجع عليه بقيمته لا غير؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يرجع عليه بجميع ما بيع به وحكى ذلك ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن ثمن العبد ملك لصاحبه، ولهذا لو أسقط المرتهن حقه من الرهن.. كان جميع الثمن للسيد. وإن أراد المالك بيع العبد.. قال الطبري: فإن قلنا: إنه عارية.. فله ذلك، وإن قلنا: إنه ضمان.. فليس له ذلك.(6/528)
[فرع: تلف العارية في يد المرتهن]
] : وإن تلف العبد في يد المرتهن بغير تفريط منه، أو جنى، فبيع في الجناية، فإن قلنا: إنه ضمان.. لم يرجع السيد على المستعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئا، وإن قلنا: إنه عارية.. رجع السيد على المستعير بقيمة العبد.
[فرع: قضاء سيد العبد الدين]
] : فإن قضى سيد العبد الدين عن المستعير.. صح قضاؤه؛ لأنه يجوز أن يقضي عن غير دينه، وينفك الرهن، كما لو قضاه الراهن، فإن قضاه بغير إذن الراهن. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالتفضل عنه، وإن قضاه بإذنه.. كان له أن يرجع عليه؛ لأنه ضمن بإذنه، وقضى بإذنه، فإن كان الحق مؤجلا، فاستأذنه السيد في قضائه وتعجيله، فقضاه عنه معجلا.. كان له أن يرجع في الحال، فإن اختلفا في الإذن.. فالقول قول الرهن؛ لأن الأصل عدم الإذن، فإن شهد المرتهن للسيد في إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا)
[مسألة: رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين العبد المستعار]
مسألة: [رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجلين، عند كل واحد منهما نصفه بخمسين، بعقد واحد.. صح، فإن قضى أحدهما خمسين..انفك نصف العبد؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.
وهكذا: إذا استعار رجلان من رجل عبدا ليرهناه بمائة، فرهناه عند رجل بمائة بعقد واحد، فقضاه أحدهما خمسين.. انفك نصف العبد؛ لم ذكرناه.(6/529)
وإن استعار رجل من رجلين عبدا بينهما نصفين، ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجل بمائة دينار، فدفع إليه خمسين لينفك نصيب أحدهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا ينفك منه شيء لأن الراهن واحد، والمرتهن واحد، والحق واحد.. فلم ينفك بعضه بقضاء بعض الدين، كما لو استعاره من واحد.
والثاني: ينفك نصف؛ لأن كل واحد منهما لم يأذن في رهن نصيبه إلا بخمسين. فإذا قلنا بهذا: نظر في المرتهن:
فإن علم أن العبد لسيدين.. فلا خيار له في البيع إن كان الرهن مشروطا في بيع؛ لأنه دخل على بصيرة.
وإن لم يعلم فهل له الخيار في البيع؟ قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأنه حصل له رهن جميع العبد، وإنما انفك بعضه بالقضاء بعد ذلك.
والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في البيع على أن لا ينفك شيء من الرهن إلا بقضاء جميع الدين، ولم يحصل له ذلك.
[مسألة: اختلاف راكب الدابة وصاحبها]
] : إذا دفع إلى رجل دابة، فركبها، ثم اختلفا: فقال مالك الدابة: أكريتكها إلى موضع كذا، بكذا وكذا، وقال الراكب: بل أعرتنيها.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.
فإن كانت باقية.. نظرت:
فإن كان اختلافهما عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول الراكب مع يمنيه: إنه ما استأجرها، بلا خلاف؛ لأن مالك الدابة يدعي على الراكب عقد الإجارة، والأصل عدمها، فيحلف الراكب، وترد الدابة.
وإن كان اختلافهما بعد أن مضى زمان لمثلها أجرة.. فقد قال الشافعي في " المختصر، "3/33] ، و" الأم " [3/218] : (القول قول الراكب مع يمينه) ، وقال(6/530)
في (المزارعة) [من " الأم " 3/247] : (إذا دفع رجل إلى آخر أرضا، فزرعها، ثم اختلفا: فقال المالك: أكريتكها بكذا، وقال من بيده الأرض: بل أعرتنيها.. فالقول قول مالك الأرض) . واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين:
فـ[الأول] : منهم من حملهما على ظاهرهما، وقال: إذا اختلفا في الدابة فالقول قول الراكب، وإذا اختلفا في الأرض.. فالقول قول مالك الأرض، وفرق بينهما: بأن العادة قد جرت بأن الناس يعيرون دوابهم للركوب، فكان القول قول الراكب؛ لأن الظاهر معه، ولم تجر العادة أن الناس يعيرون أراضيهم للزراعة، وإنما يكرونها، فكان القول قول المالك؛ لأن؛ الظاهر معه.
و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين، وبه قال عامة أصحابنا، وهو الصحيح:
أحدهما: أن القول قول المالك، وهو قول مالك، واختيار المزني؛ لأن المنافع تجري مجرى الأعيان: بدليل: أنه يصح العقد عليها، وتضمن بالغصب، وتصح الوصية بها، كالأعيان، ثم لو اختلفا في عين الدابة والأرض: فقال من هي بيده: وهبتنيها، وقال المالك: بل بعتكها.. فالقول قول المالك، فكذلك هذا مثله.
والثاني: أن القول قول الراكب، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على: أن المنافع تلفت في يد الراكب وملكه، وصار المالك يدعي عليه عوض المنافع، وهو منكر، فكان القول قول المنكر كما لو كان في يده دار، وأقر غيره له بها، وادعى عليه أنه باعها منه، وأنكر من بيده الدار البيع.. فالقول قوله مع يمينه، ويخالف إذا اختلفا في هبة الدار وبيعها؛ لأن هناك اتفقا على: أن الملك لمن انتقلت منه، واختلفا في كيفية خروجه منه، فكان القول قول المالك في كيفية خروجه منه، وهاهنا المنفعة قد حكم أنها قد حدثت في ملك الراكب ويده، وادعى عليه المالك عوضا الأصل عدمه.
فإن قلنا: القول قول مالك.. نظرت:
فإن حلف.. استحق الأجرة، وأي أجرة يستحق؟ فيه وجهان:(6/531)
أحدهما: الأجرة المسماة التي ادعاها؛ لأنه قد حلف عليها.
والثاني: يستحق أجرة المثل، وهو المنصوص في " الأم " [3 218] ؛ لأنهما لو اتفقا على عقد الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة.. لم يستحق المسمى، فبأن لا يستحق المسمى، ولم يتفقا على قدر الإجارة أولى.
ويحتمل أن يكون فيها وجه ثالث: وهو أنه يستحق أقل الأمرين، من المسمى، أو أجرة المثل؛ لأنه إن كان المسمى أكثر.. لم يستحق الزيادة عليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق ذلك بدعواه أو يمينه، وإن كانت أجرة المثل أكثر.. لم يستحق الزيادة على المسمى؛ لأنه لا يدعيها.
فإن نكل المالك عن اليمين.. لم يحلف الراكب يمين الرد، وأنه أعاره إياه؛ لأنه لا يدعي شيئا، فيحلف عليه.
قال الطبري في " العدة ": فإن أراد المالك استحلاف الراكب: أنه ما أستأجرها منه.. كان له ذلك، كما لو ادعى على رجل دينا، وأقام شاهدا واحدا.. فإن له أن يحلف مع شاهده، وله أن لا يحلف مع شاهده، ويستحلف خصمه: أنه لا يستحق عليه الدين، كذلك هذا مثله.
وإن قلنا: القول قول الراكب.. نظرت:
فإن حلف: إنه ما استأجرها.. سقطت عنه المطالبة.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على المالك، فإن حلف.. فقد قال عامة أصحابنا: استحق الأجرة المسماة التي ادعاها، وجها واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه، أو محل البينة عليه، وأيهما كان.. فإن المسمى يثبت به. وقال المحاملي: فيما يستحقه من الأجرة الوجهان الأولان.
وإن اختلفا بعد تلف الدابة.. نظرت:
فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة، فإن المالك ادعى عقد(6/532)
الإجارة ـ ولو صح عقدها.. لانفسخت بموت الدابة عقيب الدفع ـ فلا تصح دعواه للأجرة؛ لأن الراكب يقر له بقيمة الدابة، وهو لا يدعيها. قال الشيخ أبو حامد: فيقال لمالك الدابة: قد أقر لك بقيمة الدابة، فإن شئت.. فصدقه أنك أعرته الدابة، وخذ قيمتها منه، وإن لم تصدقه.. فلا شيء لك.
وإن تلفت الدابة بعد أن مضت مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أجرة ما مضى، ولا يدعي القيمة، والراكب ينكر الأجرة، ويقر له بالقيمة، واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: ينظر فيه:
فإن كانت الأجرة والقيمة سواء.. فإن الحاكم يأخذ ذلك من الراكب، ويدفعه إلى المالك من غير يمين؛ لأنهما قد اتفقا على استحقاق مالك الدابة لذلك، وإن اختلفا في سببه، فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة.. ألزمه الحاكم دفع قدر الأجرة، وقيل للمالك: أنت لا تدعي الزيادة على قدر الأجرة، فإن أردت أن تستحقه.. فأقر أنك أعرته، ولم تؤاجره، وإن كانت الأجرة أكثر من القيمة.. ألزمه الحاكم أن يدفع إليه قدر القيمة، وكان الحكم في الزيادة على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.
ومنهم من قال: يسقط إقراره بالقيمة؛ لأنه أقر بها لمن لا يدعيها، والمالك يدعي الأجرة، والراكب ينكر، ومن القول قوله؟ على الطريقين إذا كانت الدابة باقية.
[فرع: اختلفا على إعارة أو إجارة]
] : وإن كان اختلافهما بعكس الأولى، بأن يقول الراكب: أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا، وقال المالك: بل أعرتكها، فإن كانت الدابة باقية.. نظرت:
فإن اختلفا عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره؛ لأن الأصل عدم الإجارة، فيحلف، ويأخذ دابته.(6/533)
وإن اختلفا بعد مضي مدة الإجارة.. فلا معنى لهذا الاختلاف؛ لأنهما اتفقا على وجوب ردها، فيأخذ المالك دابته من غير يمين، غير أن الراكب يقر للمالك بالأجرة، وهو لا يدعيها، فلا يستحقها إلا بالتصديق.
وإن اختلفا بعد مضي بعض مدة الإجارة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره، فإذا حلف.. أخذ دابته، ولا يستحق، المالك أجرة ما مضى؛ لأنه لا يدعيها.
وإن كانت الدابة تالفة، فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أنها عارية؛ ليستحق قيمتها، والراكب ينكر العارية.. فالقول قول المالك، قولا واحدا؛ لأن الاختلاف هاهنا في العين لا في المنفعة، والعين قد قبضها الراكب، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
وإن كان الاختلاف بعد مضي المدة.. فإن الراكب يقر له بالأجرة، والمالك يدعي القيمة فإن كانت القيمة بقدر الأجرة.. فمن أصحابنا من قال: يدفع إليه من غير يمين؛ لأنهما اتفقا: أن المالك يستحق ذلك، ومنهم من قال: لا تثبت الأجرة؛ لأنه لا يدعيها، ولكن يحلف المالك على القيمة، وهكذا الوجهان لو كانت القيمة أقل، هل يستحقها المالك من غير يمين؟
وإن كانت القيمة أكثر.. لم يستحق المالك ما زاد على الأجرة حتى يحلف، وهل يستحق قدر الأجرة من غير أن يحلف؟ على الوجهين.
[فرع: اختلفا في أنه اغتصب أو استعار]
] : وإن قال الراكب: أعرتنيها، وقال المالك: بل غصبتنيها فلا يخلو إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.(6/534)
فإن كانت باقية.. نظرت:
فإن كان الاختلاف عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. ردت على صاحبها، ولا كلام، سواء كانت غصبا أو عارية.
وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فنقل المزني هاهنا: (أن القول قول المستعير) . واختلف أصحابنا فيها على أربعة طرق:
فمنهم من قال: هي على الطريقين في الدابة والأرض:
أحدهما: الفرق بين الدابة والأرض.
والثانية: أنهما على قولين؛ لأن الاختلاف فيهما واحد وهو أن المالك يدعي الأجرة، والمتصرف ينكرها، فهي كالأولى.
و [الطريقة الثالثة] : منهم من قال: القول قول المالك، قولا واحدا، وما رواه المزني غلط، والفرق بينهما: أن في تلك المسألة اتفقا على: أن المنافع تلفت على ملك المتصرف، وادعى عليه المالك عوضها، فلذلك كان القول قول المتصرف في أحد القولين؛ لأن الأصل براءة ذمته، وهاهنا لم يقر المالك للمتصرف بالمنفعة، وإنما المتصرف ادعى ملكها، والأصل بقاء المنافع على ملك المالك.
و [الطريقة الرابعة] : قال الشيخ أبو حامد: الصحيح ما رواه المزني، وقد نص عليه الشافعي في " الأم " [3 218] : لأن المنافع قد تلفت، وليست ملكا قائما، والمالك يدعي عليه عوضها، والأصل براءة ذمته، ولأن الظاهر من اليد أنها بحق، ومدعي الغصب يدعي خلاف الظاهر، فكان القول قول صاحب اليد.
وإن كانت الدابة تالفة، فإن كان اختلافهما قبل مضي شيء من المدة.. فإن القيمة تجب على الراكب بلا يمين؛ لأنهما متفقان على: أن المالك يستحقها، وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فالكلام على الأجرة على ما مضى، وأما القيمة: فإن كانت قيمتها من حين قبضها إلى أن تلفت سواء، أو كانت قيمتها يوم التلف أكثر.. وجبت عليه القيمة من غير يمين، وإن كانت قيمتها يوم التلف أقل من يوم القبض، فإن قلنا: إن العارية إذا تلفت وجبت قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض.. وجبت قيمتها هاهنا(6/535)
أكثر ما كانت من غير يمين، وإن قلنا: يجب قيمتها يوم التلف.. وجب عليه قدر قيمتها يوم التلف من غير يمين، وما زاد على ذلك على الطرق.
[فرع: اختلفا على أنه استأجر أو اغتصب]
] : وإن قال المالك: غصبتنيها، وقال الراكب: بل أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.
فإن كانت باقية، فإن كان الاختلاف قبل مضي شيء من المدة.. فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه عقد الإجارة، والأصل عدمه، فيحلف؛ ويأخذ دابته، وإن كان بعد مضي مدة الإجارة، فإن كان ما يقر به الراكب من الأجرة المسماة مثل أجرة مثلها، أو أكثر من أجرة المثل.. استحق المالك قدر المسماة من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، وإن كانت أجرة المثل التي يدعيها الملك أكثر من المسماة، أو كانت البهيمة قد نقصت بالركوب، فمن القول قوله؟ يحتمل أن يكون على الطرق في المسألة قبلها؛ لأنهما سواء، وذلك: أن الراكب يدعي أنه استوفى منفعتها بملك صحيح، وهو الإجارة، كما أنه في الأولى يدعي أنه استوفاها بملك صحيح وهو الإعارة والمالك يدعي أنه استوفى ذلك فيها بغير ملك.
وإن كانت العين تالفة، فإن تلفت قبل أن يمضي شيء من المدة.. فإن المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها ولا يقر له بأجرة، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها إذا كانت العين باقية بعد مضي المدة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة، ثم تلفت، فإن كان ما يقر به الراكب من المسمى مثل أجرة المثل، أو أقل.. فإن المالك يستحق ذلك من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، ثم المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها.
وهكذا: إن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى.. في الزيادة الطرق المخرجة، وإن كانت المسماة أكثر من أجرة المثل.. استحق قدر أجرة المثل من غير يمين؛(6/536)
لاتفاقهما على استحقاق المالك له، وهل يستحق الزيادة عليه من جهة القيمة التي يعيها من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحق ذلك من غير يمين؛ لاتفاقهما على استحقاق المالك له.
والثاني: يبطل إقرار الراكب بما زاد من المسمى على أجرة المثل؛ لأنه أقر بذلك لم لا يدعيه.
وبالله التوفيق(6/537)
[كتاب الغصب]
الغصب محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] .
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية [المائدة: 38] . والسرقة من الغصب.
ومن السنة: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ـ في خطبته في حجة الوداع ـ: «ألا إن دماءكم(7/7)
وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» . ومعنى ذلك: دماء بعضكم على بعض، وأموال بعضكم على بعض.
وروى عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأخذن أحدكم مال أخيه لاعبا، ولا جادا، فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» .
وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده "، وروي: " حتى تؤديه» .
وروى يعلى بن مرة الثقفي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ أرضا بغير حقها.. كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر» .(7/8)
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ شبرا من الأرض بغير حقها.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال بحلال، أو حرام» .
وأجمعت الأمة على تحريم الغصب، قال الصيمري: ومن غصب شيئا، واعتقد إباحته.. كفر بذلك، وإن اعتقد تحريمه.. فسق بفعله، ولم تقبل شهادته.
إذا ثبت هذا: فإن الغصب يصح في الأموال المنقولة، بأن يقبضها كما يقبضها في البيع، وفي العقار، بأن يزيل يد مالكه عنه، ويصير في يده، وبه قال مالك، ومحمد.(7/9)
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح الغصب في العقار؛ لأنه لا يتأتى فيه النقل) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غصب شبرا من الأرض.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» .
ولأن ما جاز أن يضمن بالقبض في البيع.. جاز أن يضمن بالغصب، كالمنقول.
[مسألة: يرد المغصوب]
ومن غصب مال غيره.. وجب عليه رده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» .
فإن كان الغاصب من أهل الضمان في حق المغصوب منه.. فإن المغصوب يكون في ضمان الغاصب إلى أن يرده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» .
وإن لم يكن من أهل الضمان في حق المغصوب منه، بأن يغصب الحربي مال المسلم، أو يغصب العبد مال سيده.. فإنه يكون غاصبا يأثم بذلك، ويجب عليه رده، ولا يكون مضمونا عليه، ولو تلف في يده.. لم يجب عليه ضمانه، كما لو أتلف عليه مالا. وكيفية الرد الذي يبرأ به الغاصب من الضمان: أن ينظر في المغصوب:
فإن كان مما ينقل.. فبأن ينقله المالك، أو وكيله.(7/10)
وإن كان مما لا ينقل.. فبأن يرفع الغاصب يده عنه، ويعلم الملك أنه قد تخلى عنه، فإذا مضت مدة يمكن فيها القبض ... برئ الغاصب من الضمان.
وهكذا: لو لم يعلمه الغاصب، لكن وضع المالك يده على عقاره، ورفع الغاصب يده عنها، ولم يمنع المالك منه.. فإنه يبرأ بذلك.
[مسألة: ما غصب وله أجرة]
مسألة: [في ما غصب وله أجرة] :
ومن غصب عينا لغيره، وهو من أهل الضمان في حقه، وأقامت في يده مدة لمثلها أجرة، فإن كان لمثل تلك العين منفعة تملك بالإجارة، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وخدمة العبد، والجارية، وما أشبه ذلك.. وجب على الغاصب أجرة مثلها لتلك المدة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع بها. وإن كانت المنفعة لا تستباح بالإجارة، كمنفعة وطء الجارية.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الغصب لا يمنع المالك من المعاوضة على بضعها، وهو عقد النكاح، ويمنعه من إجارتها. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه ضمان أجرة المنافع بحال) .
دليلنا: أن ما صح أن يملك بالمسمى في العقد الصحيح، وبالمثل في العقد الفاسد، وهو مما يطلب بعقد المغابنة.. ضمن بالغصب، كالأعيان.
فقولنا: (وهو مما يطلب بعقد المغابنة) احتراز من منفعة الاستمتاع.
[مسألة: يرد المغصوب وإن نقصت قيمته]
وإذا غصب عينا لغيره.. فلا يخلو: إما أن تكون العين باقية بحالها، أو تالفة.
فإن كانت باقية.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه الرد للخبر، فإن نقصت قيمتها من حين الغصب إلى حين الرد لكسادها، لا لنقص حدث فيها.. فإنه لا يجب على(7/11)
الغاصب ضمان ما نقص من قيمتها، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وكافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (يجب عليه ردها، ورد ما نقص من قيمتها لرخصها) .
دليلنا: أنه رد العين، ولم ينقص منها عين، ولا أثر.. فلم يجب عليه ضمان شيء من قيمتها، كما لو لم تنقص قيمتها في السوق.
وإن كانت العين تالفة.. فلا يخلو: إما أن تكون من غير ذوات الأمثال، أو من ذوات الأمثال.
فإن كانت من غير ذوات الأمثال، وهو مما لا تتساوى أجزاؤه، ولا صفاته، كالثياب، والحيوان، والأخشاب، وما أشبهها.. وجب على الغاصب قيمته، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري: أنه قال: يجب عليه مثله من طريق الضرورة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت طعاما، فبعثت به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذني الأفكل، فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال: (إناء مثل الإناء، وطعام مثل الطعام» . و (الأفكل) : الرعدة من الغيرة.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركا له في عبد.. قوم عليه نصيب شريكه» . فأمر بتقويم نصيب الشريك، وهو متلف بالعتق، ولم يأمره بمثله من عبد.
ولأن الأشياء التي لا تتساوى أجزاؤها، لا يمكن إيجاب المثل فيها لاختلافها،(7/12)
فكانت القيمة أولى، وأما الخبر: فمحمول على أنه علم أنها ترضى بذلك.
وتجب قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف؛ لأنه غاصب له في جميع تلك المدة، وتجب قيمته من نقد البلد التي تلف فيها المغصوب؛ لأنه موضع الضمان.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو الذي لا مثل له: إما أن يكون حيوانا، أو غير حيوان. فإن كان غير الحيوان.. نظرت:
فإن كان ذهبا، أو فضة، فإن كانت فيه صنعة.. نظرت:
فإن كانت صنعته مباحة، كالخلاخل، والدمالج، وغير ذلك مما يجوز استعماله، فإن كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولا يزيد وزن القيمة عليه وجب عليه قيمته، وإن كان نقد البلد من جنسه ويزيد وزن قيمته على وزنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقوم بجنس آخر؛ لأن ضمانه بنقد البلد يؤدي إلى الربا.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن الزيادة على وزنه لأجل الصنعة، وللصنعة قيمة، ولهذا لو أتلف متلف الصنعة.. لزمه قيمتها.
وإن كانت صنعة محرمة؛ كأواني الذهب والفضة، فإن قلنا: يجوز اتخاذها.. كانت كالصنعة المباحة، وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تضمن قيمة الصنعة.
وإن لم يكن فيه صنعة، كالنقرة، والسبيكة.. فاختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو حامد: هي من ذوات الأمثال.(7/13)
وقال عامة أصحابنا: ليست من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها تختلف.
فعلى هذا: ينظر فيه:
فإن كان نقد البلد من غير جنسها، أو من جنسها، ولا يزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بقيمتها.
وإن كان نقد البلد من جنسها، ويزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بجنس آخر؛ لأن ضمانها بأكثر من وزنها من جنسها رباً.
وأما الدراهم والدنانير التي ليست بمغشوشة: فإنها من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها متساوية.
وإن خرق له ثوباً، أو كسر له ظرفا.. وجب عليه أرش ما نقص بذلك.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الأرش قليلاً.. فكما قلنا، وإن كان كثيراً.. فمالكه بالخيار: بين أن يسلمه إلى الجاني عليه، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ويطالبه بالأرش) .
دليلنا: أنها جناية على مال أرشها دون قيمتها، فلم يكن له المطالبة بجميع قيمتها، كما لو كان الأرش قليلاً.
[فرع: غصب الحر والعبد]
وأما الحيوان: فضربان: آدمي، وغير آدمي.
فأما الآدمي: فضربان: حر، وعبد.
فأما الحر: فإنه لا يضمن باليد، صغيراً كان أو كبيراً، وإنما يضمن بالجناية، على ما نذكره في (الجنايات) إن شاء الله تعالى.
وأما العبد: فيضمن بالغصب والجناية، فإذا غصب عبداً.. ضمنه، صغيراً كان أو كبيراً؛ لأنه مال، فضمن بالغصب، كسائر الأموال، فإن مات في يده.. وجبت عليه(7/14)
قيمته بالغة ما بلغت؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال، فضمنه بالقيمة، كما لو أعتق شقصا له من عبد وهو موسر بقيمة الباقي.
وإن تلف في يده جزء من أجزائه.. نظرت:
فإن لم يكن له أرش مقدر، كالبكارة، والسمن، وما أشبه ذلك.. رده وما نقص من قيمته.
وإن كان له أرش مقدر، كاليد، والرجل، وما أشبههما، فإن ذهب ذلك بغير جناية، بأن ذهبت يده بآفة سماوية.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يرده ونصف قيمته؛ لأن ما ضمن ببدل مقدر في الإتلاف.. ضمن به بالغصب، كالنفس.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يرده وما نقص من قيمته بذهاب اليد، أو العين؛ لأن ضمانه باليد ضمان المال، ولهذا لا يجب به القصاص ولا الكفارة إذا مات، فيضمنه بما نقص، كسائر الأموال.
وإن غصب عبداً، فقطع يده، أو قلع عينه.. فقد اجتمع هاهنا الغصب والجناية، فإن قلنا بالوجه الأول.. رد العبد ونصف قيمته، وإن قلنا بالثاني ... رد العبد وأكثر الأمرين من نصف القيمة، أو ما نقصت قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه الأمران.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 304] قولا آخر: أن جراحات العبد، وأطرافه كلها مضمونة بما نقص من قيمته. وليس بمشهور.
وقال مالك: (جميع أطراف العبد والجراحات في بدنه مضمونة بما نقص من قيمته، إلا المنقلة، والمأمومة) .
ودليلنا: أن ما ضمن ببدل مقدر من دية الحر.. ضمن بمثل ذلك من قيمة العبد، كالنفس.(7/15)
وإن غصب عبداً، فقطع يديه.. فإنه يرده، والكلام فيما يجب عليه كما ذكرناه في اليد، إلا أن اليدين تضمنان بجميع القيمة.
وقال أبو حنيفة: (المالك بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الغاصب، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ولا شيء له) .
دليلنا: أنه جنى على ملك غيره جناية مضمونة، فكان له المطالبة بالأرش مع إمساك ملكه، كما لو قطع يداً واحدة.
وإن غصب أم ولد.. ضمنها بالغصب، وكان حكمها حكم غيرها من الجواري.
وقال أبو حنيفة: (لا تضمن باليد) .
دليلنا: أنها تضمن بالجناية، فضمنت باليد، كالأمة القنة.
[فرع: زيادة قيمة العبد المغصوب]
] . وإن غصب عبداً يساوي مائة، فزادت قيمته، فصار يساوي ألفا، ثم قطع يده.. لزمه رده وخمسمائة؛ لأن زيادة السوق مع التلف مضمونة.
وأما غير الآدمي، كالبهيمة إذا غصبها، فإن تلفت في يده، أو أتلفها.. وجبت عليه قيمتها، وإن تلف عضو من أعضائها بيده، أو أتلفه.. وجب عليه رد البهيمة وما نقص من قيمتها. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا أنه قال: (إذا قطع ذنب حمار القاضي ... لزمه جميع قيمته) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت البهيمة مما لها ظهر بلا لحم، كالبغل، والحمار، أو مما لها لحم بلا ظهر، كالغنم ـ فمثل قولنا ـ وإن كان لها لحم وظهر، كالخيل، والإبل، والبقر.. فإنه إذا غصبها، وقلع عينيها.. ردها ونصف قيمتها، وإن قلع إحدى عينيها.. ردها وربع قيمتها) .(7/16)
دليلنا على مالك: أنه جناية على عضو من بهيمة، فضمن ما نقص من قيمتها، كقطع ذنب حمار الشرطي.
وعلى أبي حنيفة: أنه جناية على عضو بهيمة، فلم يضمنها ببدل مقدر، كما لو قطع يدها أو رجلها.
[فرع: غصب ما له مثل فتلف]
وإن غصب شيئا له مثل، فتلف في يده، أو أتلفه.. ضمنه بمثله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] .
ولأن المثلية تعلم من طريق المشاهدة، والقيمة تعلم بغلبة الظن والاجتهاد، فقدم إيجاب المثل على القيمة، كما نقدم النص على الاجتهاد.
قال القاضي أبو الطيب: وما له مثل، هو ما جمع ثلاثة أوصاف:
أحدها: أن يكون مكيلا، أو موزونا.
الثاني: أن يكون مما يضبط بالصفة.
الثالث: أن يجوز بيع بعضه ببعض، وذلك كالدراهم، والدنانير، والحبوب، والأدهان، والتمر، والزبيب، والملح.
قال الشيخ أبو حامد: والقطن من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءه تتساوى، ولا تختلف في العادة.
قال الصيمري: والغزل، والرصاص، والنحاس، والحديد من ذوات الأمثال، واللبن من ذوات الأمثال، وما طبخ وتعقدت أجزاؤه لا مثل له؛ لأنه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك الجواهر واللؤلؤ لا مثل له؛ لأنه لا يضبط بالصفة، والحيوان والثياب ليست من ذوات الأمثال؛ لأنها ليست بمكيلة، ولا موزونة.(7/17)
[فرع: أتلف مغصوبا نتج مما لا مثل له]
] : فإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما لا مثل له، وتلف، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء، والحنطة إذا جعلها دقيقا، وقلنا: لا يجوز بيع بعضه ببعض.. فقد قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر، والحنطة؛ لأنه أقرب إلى المغصوب.
قلت: وينبغي أن يلزمه أكثر الأمرين من مثل الأصل، أو قيمة الخل أو الدقيق؛ لأن كل واحد منهما عين ماله.
وإن غصب منه ما لا مثل له، واتخذ منه ما له مثل، مثل أن يغصب منه رطبا، ويجعله تمراً، فيتلف.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر؛ لأنه أقرب من قيمة المغصوب.
قلت: وينبغي أن ينظر إلى قيمة الرطب: فإن كانت قيمته أكثر من قيمة التمر.. لزمه أن يدفع مع التمر ما نقص من قيمة الرطب؛ لأنه نقص في يده.
وإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما له مثل وتلف، بأن يغصب منه سمسماً، ويتخذ منه شيرجا فتلف.. فهو بالخيار: بين أن يطالبه بأي المثلين شاء؛ لأن كل واحد منهما عين ماله، فإن كانت قيمتهما سواء.. فلا كلام، وإن كانت قيمة الشيرج أكثر، واختار المالك الشيرج.. فلا شيء للغاصب لزيادة قيمته بعمله؛ لأنه تعدى به، وإن كانت قيمة الشيرج أقل، فإن اختار المالك المطالبة بمثل السمسم.. فلا شيء له لنقصان قيمته؛ لأنه قد وصل إلى جميع حقه، وإن اختار المطالبة بمثل الشيرج.. فينبغي أن يكون له المطالبة بما نقصت قيمة الشيرج عن قيمة السمسم؛ لأنه نقص بفعله.(7/18)
[فرع: أتلف مغصوبا له مثل]
وإن غصب منه ما له مثل، وأتلفه، ولم يوجد المثل، فإن قال المغصوب منه: أنا أصبر إلى أن يوجد المثل.. كان له ذلك؛ لأن الحق له، وإن قال: لا أصبر.. كان له أن يطالب بالقيمة؛ لأنه إذا لم يجود المثل.. صار كما لو لم يكن له مثل، ومتى تعتبر قيمته؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها ـ وهو قول أبي إسحاق المروزي ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف؛ لأنه لما أتلفه، ولم يوجد له مثل.. صار كالذي لا مثل له.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ: أن قيمته تعتبر حين حكم الحاكم بها؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، بدليل: أنه لو صبر إلى وجود المثل.. لم يجبر على أخذ القيمة، فإذا تعذر المثل.. اعتبرت قيمته وقت الحكم بها.
والثالث ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، فلما تعذر.. اعتبرت قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم، كما تعتبر قيمة ما لا مثل له أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.
والرابع ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن قيمته تعتبر يوم حكم الحاكم بها، إلا أن يكون المثل مما ينقطع، مثل عصير العنب، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع؛ لأن بالانقطاع سقط المثل، ووجبت قيمته، والذي لا ينقطع ـ وإنما يتعذر في موضع دون موضع ـ لا يسقط فيه المثل، فاعتبرت قيمته يوم المحاكمة.
وإن وجد المثل بأكثر من قيمته.. فهل يلزمه شراؤه؟ فيه وجهان، خرجهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه شراؤه؛ لأن وجود الشيء بأكثر من قيمته بمنزلة المعدوم، كما قلنا في الرقبة في الكفارة.(7/19)
والثاني: يلزمه، كما لو لم يقدر على رد العين المغصوبة إلا بأكثر من قيمتها.. فإنه يلزمه تخليصها.
وإذا دفع الغاصب قيمة المثل، ثم وجد المثل بعد ذلك.. فهل له أن يسترد القيمة، ويدفع المثل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق\ 306] :
أحدهما: ليس له؛ لأن ذمته قد برئت منه بدفع القيمة.
والثاني: له ذلك، كما لو ذهبت العين المغصوبة، فدفع قيمتها، ثم قدر على ردها.
[مسألة: خروج المغصوب من يد الغاصب]
] : وإن غصب من رجل عينا، فخرجت من يده، وتعذر عليه ردها، بأن كان عبداً، فأبق، أو بهيمة، فضلت.. فللمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمتها؛ لأنه حال بينه وبين ماله، فصار كما لو تلفت بيده.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا إجماع، فإذا قبض المغصوب منه القيمة.. ملكها؛ لأنها بدل عين ماله، ومن شرط البدل أن يقوم مقام المبدل، فلما كان المبدل ملكا له.. فكذلك البدل. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وحكى سهل: أن القفال قال: لا يملك المغصوب منه القيمة، بل ينتفع بها وهي على ملك الغاصب؛ لأن ملكه لا يزول عن العين المغصوبة، فلا يجمع له ملك البدل والمبدل، والأول هو المشهور. إذا ثبت هذا: فإن الغاصب لا يملك العين المغصوبة بدفعه لقيمتها، بل إذا رجعت العين المغصوبة.. وجب عليه ردها، واسترجع ما دفع من القيمة.
وقال أبو حنيفة: (إذا دفع الغاصب القيمة.. ملك العين المغصوبة، وزال ملك المغصوب عنها، ثم ينظر فيه:(7/20)
فإن اتفقا على قدر قيمتها، أو قامت بينة بقدر قيمتها.. استقر ملك الغاصب عليها.
وإن اختلفا في قدر قيمتها.. فالقول قول الغاصب مع يمينه في قدرها، فإذا حلف، ودفع القيمة بيمينه، ثم ظهرت العين المغصوبة، فإن كانت قيمتها مثل ما غرم أو أقل.. استقر ملكه عليها، وإن كانت أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يقر حكم المعاوضة ويمسك القيمة، وبين أن يفسخ ويسترجع العين المغصوبة، ويرد ما أخذ من القيمة) .
دليلنا: أنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه من يده، فوجب أن لا يملك به العين المغصوبة، كما لو غصب منه مدبرا، أو أم ولده، فأبقا.
فقولنا: (بخروجه من يده) احتراز ممن غصب زيتا، فخلطه بزيت له، فغرم له زيته.. فإنه يملك ما بقي في يديه من زيته؛ لأنه لا يمكن تمييزه منه بحال، وممن أعتق شقصا له من عبد وهو موسر؛ لأن نصيب الشريك كالمستهلك، ولأن العين المغصوبة في هذه الحالة لا يصح للمالك بيعها من الغاصب، ولا من غيره، فلم يملكها الغاصب بدفعه لقيمتها، كما لو أتلف لغيره عينا، فدفع قيمتها.. فإنه لا يملكها، ولأن المغصوب منه أخذ البدل لأجل تعذر رد العين، لا لأجل المعاوضة، إذ لو كانت معاوضة.. لثبت فيها خيار المجلس، والثلاث، والشفعة، ولكان إذا لم يرجع المغصوب إلى الغاصب.. أن يرجع الغاصب على المغصوب منه بما دفع إليه، كما لو باع المغصوب منه العين المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب.
إذا ثبت هذا: فإن العين إذا رجعت.. أخذها المغصوب منه بزيادتها المتصلة والمنفصلة كما لو كانت باقية في يد الغاصب.
وإن كان لمثلها أجرة.. فله أن يطالبه بأجرتها من حين غصبها إلى أن يأخذ قيمتها، بلا خلاف على المذهب، وهل له مطالبته بأجرتها من حين قبض قيمتها إلى أن قبض العين؟ فيه وجهان:(7/21)
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه أخذ القيمة بدلا عن انتفاعه بالعين، فلم يستحق لأجل منفعتها أجرة.
والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الأجرة إنما لزمته؛ لأنه حال بينه وبين ملكه بغير حق، وهذا المعنى موجود بعد أخذ القيمة.
ويسترجع الغاصب القيمة التي دفعها إن كانت باقية، وإن كان للقيمة زيادة منفصلة، بأن دفع عن القيمة حيوانا، فنتج في يد المغصوب منه، أو شجرة، فأثمرت.. رجع الغاصب إلى الأصل دون النتاج والثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المغصوب منه، فملكها، كما نقول في الرد بالعيب، وإن كانت الزيادة متصلة، بأن سمن الحيوان، أو طالت الشجرة.. رجع فيها مع زيادتها، كما قلنا في الرد بالعيب، وإن ظهر على المغصوب منه دين يستغرق ماله.. كان الغاصب أحق بما دفع من القيمة دون الغرماء؛ لأنها عين ماله، وإن تلف ما دفع الغاصب من القيمة في يد المغصوب منه.. رجع الغاصب إلى مثله إن كان له مثل، وإلى قيمته إن لم يكن له مثل.
[مسألة: تغيير صفة المغصوب]
] . وإن غصب شيئاً، فغيره عن صفته، بأن كان حنطة، فطحنها، أو دقيقاً، فخبزه، أو شاة فذبحها.. فإن ملك المغصوب منه لا يزول عنه، ويلزم الغاصب أن يرده ناقصا وما نقص من قيمته.
ومن أصحابنا من قال: للمغصوب منه أن يترك الدقيق للغاصب، ويطالبه بمثل الحنطة؛ لأنها أقرب إلى حقه من الدقيق.
والأول أصح؛ لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة بغيرها، كالشاة إذا ذبحها. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا تغير اسم المغصوب، ومنفعته المقصودة بفعل الغاصب.. ملكه الغاصب، وضمن قيمته للمغصوب منه، وذلك كالحنطة إذا طحنها؛ لأن اسمها(7/22)
قد زال؛ لأنها لا تصلح للزراعة، ولا للهريس، وهكذا: إذا كان دقيقاً، فخبزه، أو كان المغصوب شاة، فذبحها وشواها، أو نقرة، فطبعها دراهم.. فإنه يملك ذلك كله، إلا أنه يكره له التصرف فيه قبل دفع القيمة إلى مالكه) .
وحكى ابن جرير، عن أبي حنيفة: أنه قال: (إذا دخل لص دار رجل، ولصاحب الدار فيه حنطة ورحى، فأخذ اللص من الطعام، وطحنه في الرحى.. فإنه يملك الدقيق، فإن جاء صاحب الطعام، وأراد أخذه منه.. كان له منعه ودفعه، فإذا لم يمتنع صاحب الدار عن اللص إلا بالقتل، فقتله اللص.. فلا شيء عليه) . واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قوما من الأنصار في دارهم، فقدموا إليه شاة مشوية، فتناول منها لقمة، فجعل يلوكها ولا يسوغها، فقال: (إن هذه الشاة لتخبرني: أنها أخذت بغير حق) . قالوا: نعم يا رسول الله، طلبنا في السوق، فلم نجد، فأخذنا شاة لبعض جيراننا، ونحن نرضيهم عن ثمنها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أطعموها الأسرى» . وهذا يدل على: أن حق أصحابها قد انقطع عنها، إذ لم يأمرهم بردها إليهم.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
ولأنه مغصوب، غيره الغاصب بفعل تعدى به، فلم يملكه به، كما لو غصب شاة، وذبحها، ولم يشوها. وأما الخبر: فتأويله: أن الأسرى كانوا مضطرين، فأمرهم بدفعها إليهم؛ لأن أصحابها كانوا غير موجودين، ويخاف فسادها قبل وصولها إليهم.(7/23)
[فرع: تأثر المغصوب بالبلل]
] . وإن غصب حنطة، فبلها بالماء، أو تركها في موضع ندي، فعفنت.. نظرت:
فإن كان قد استقر نقصانها، بأن جففها، وعلم أنها لا تنقص بعد ذلك.. لزمه ردها وأرش ما نقصت عنده؛ لأنها نقصت بفعله.
وإن لم يستقر نقصانها، بأن يزداد كل يوم فالمنصوص في (الأم) : (أن للمغصوب منه مثل مكيلتها) . وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يأخذها، وما نقص من قيمتها) .
واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ ـ[الأول] : قال أبو العباس ابن سريج: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها، قولا واحداً؛ لأن النقص غير مستقر؛ لأنه يتزايد كل يوم.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها؛ لما ذكرناه.
والثاني: يرد الطعام المبلول وما نقص من قيمته في الحال، وفيما بعد؛ لأنه وجد عين ماله، فرجع إليه، كالشاة إذا ذبحت.
فأما إذا عفن الطعام في يد الغاصب لطول المكث.. فقال الشيخ أبو حامد: هو كالطعام الذي بله على ما مضى.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب على الغاصب رد الطعام الذي غصبه وإن كان عفنا وأرش ما نقص، قولاً واحداً، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن العفن ليس من فعله، فلا يضمن ما تولد منه، بخلاف البلل، فإن قيل: فالعفن مضمون عليه لوجوده في(7/24)
يده، كالبلل الذي حصل بفعله، فكان ما تولد منهما سواء في الضمان، ألا ترى أنه لو ابتل بماء المطر، أو بله غيره.. كان كما لو بله بنفسه؟
فالجواب على هذا: أن يقال: النقص الذي حصل بالبلل إذا زاد وكثر.. فإنما حصل متولدا منه، فأما العفن: فإنما يزيد ببقائه، أو بمكثه في يده، كما أن الأول حصل بذلك، لا أن بعضه يولد بعضا، فافترقا.
[فرع: خلط الدراهم المغصوبة]
وإن غصب من رجل ألف درهم، ومن آخر ألفا أخرى، وخلطهما، ولم يتميزا.. صارا شريكين في ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يملكها الغاصب، ويجب عليه لكل واحد منهما مثل دراهمه) . وبناه على أصله في تغيير المغصوب.
دليلنا: أن هذا فعل تغير به المغصوب على وجه التعدي، فلا يملكه، كما لو ذبح الشاة.
[مسألة: نقص المغصوب شيئاً له بدل]
وإن غصب عبدا، فخصاه، وبرئ، فزادت قيمته بذلك، أو لم تنقص قيمته.. لزمه رد العبد ورد قيمته؛ لأن الأنثيين مضمونتان من الحر بالدية، ومن العبد بالقيمة.
وإن غصب جارية سمينة سمنا مفرطا، فخف سمنها في يده، ولم تنقص قيمتها بذلك، أو زادت قيمتها بذلك.. لزمه رد الجارية، ولا يلزمه معها شيء؛ لأن السمن مضمون بما نقص من قيمتها، ولم ينقص منها شيء، بخلاف التي قبلها؛ لأن للأنثيين بدلا مقدرا.(7/25)
[فرع: تغيير صفة المغصوب]
إذا غصب من رجل صاعا من زيت أو دهن غيره، فأغلاه على النار، فإن لم ينقص شيء من مكيلته، ولا من قيمته بالإغلاء.. رده، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيئاً من ماله.
وإن نقص من مكيلته وقيمته، بأن كانت قيمة الصاع قبل الإغلاء أربعة دراهم، فعاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع قيمته درهم.. لزمه نصف صاع من مثله؛ لأنه أتلف عليه عينه، ولزمه درهم أرش نقص الباقي؛ لأنه نقص بفعله.
وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن تغير طعمه، أو ريحه بالإغلاء وهو صاع، إلا أنه صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأن قيمته نقصت بفعله.
وإن نقصت مكيلته دون قيمته، بأن عاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كما كانت قبل الإغلاء.. لزمه أن يرد نصف الصاع الذي قد بقي، ونصف صاع من مثله قبل الإغلاء؛ لأنه تلف بفعله.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 305] وجها آخر: أن النقص ينجبر بزيادة قيمة الباقي. والأول أصح؛ لأنه زاد بعمل الغاصب، وذلك أثر لا عين له فيه.
وإن غصب صاعا من عصير يساوي أربعة دراهم، فأغلاه بالنار، فإن لم تنقص قيمته، ولا مكيلته.. رده ولا شيء عليه، كما قلنا في الزيت. وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأنه نقص بفعله.
وإن عاد إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كقيمته قبل الإغلاء، فإن قلنا: بالوجه الذي حكاه المسعودي في الزيت: أنه يرد ما بقي، ولا شيء عليه.. فهاهنا يرد مثله، وإن قلنا بالأصح بالزيت.. فهاهنا وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يلزمه رد ما بقي، ويلزمه نصف صاع عصير، كما قلنا في الزيت.(7/26)
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) غيره ـ: أنه يرد ما بقي من العصير، ولا شيء عليه. والفرق بينهما: أن الزيت لا يخالطه شيء، فإذا نقصت مكيلته.. فقد نقص جزء من عين ماله، وله قيمة، فلزمه رد مثله، وليس كذلك العصير، فإنه لا ينقص بالإغلاء شيء من أجزائه، وإنما يذهب الماء الذي فيه، وذلك لا قيمة له، وأما أجزاؤه: فهي باقية، وإنما انعقدت، ولهذا تزيد حلاوته، فلم يلزمه شيء.
[فرع: اغتصب أنواع طعام فطبخها]
] : وإن غصب من رجل عسلا، وسمناً، ودقيقاً، فعمله خبيصاً، فإن لم تزد قيمة الجميع، ولم تنقص.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئا من ماله، وإن زادت قيمة ذلك.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه، فيشارك بها، وإن نقصت قيمته.. أخذه المغصوب منه وما نقص من قيمته؛ لأنه نقص بفعل الغاصب.
[فرع: اغتصب فضة فسكها]
وإن غصب من رجل نقرة، وضربها دراهم، فإن لم تنقص قيمتها بذلك، ولا وزنها.. ردها، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيء من ماله.
وإن نقص وزنها، ولم تنقص قيمتها.. لزمه رد ما بقي، ورد قيمة ما نقص، ولا شيء للغاصب بزيادة الباقي؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه.
وإن نقص من قيمتها ووزنها.. لزمه قيمة ما نقص وزنه، وأرش ما نقص من الباقي؛ لأنه نقص بفعله.(7/27)
وإن نقص من قيمتها، ولم ينقص وزنها.. لزمه ردها وما نقص من قيمتها؛ لأنه نقص بفعله.
إذا ثبت هذا: فإن أراد الغاصب سبك هذه الدراهم، وإعادتها نقرة كما كانت، وامتنع المغصوب منه من ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان للغاصب غرض في ذلك بأن كانت أنقص من عيار السلطان، أو سكتها مخالفة لسكة السلطان.. كان للغاصب إعادتها؛ لأن له غرضاً، وهو خوف غضب السلطان؛ لأن الضرب إليه، وإن لم يكن له غرض في ذلك.. لم يكن له المطالبة بذلك.
[مسألة: غصب ثوباً فشقه]
] : وإن غصب من رجل ثوبا، فشقه نصفين، فإن كان من الثياب التي لا تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين، ولا شيء عليه؛ لأن ما فعله لم يحصل به نقص، وإن كان من الثياب التي تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين وأرش ما نقص بالشق؛ لأنهما نقصا بفعله.
فإن تلف أحد النصفين بيده، ونقصت قيمة النصف الباقي، بأن كان الثوب يساوي قبل الشق منه درهم، فصار النصف الباقي يساوي أربعين درهما.. لزمه قيمة التالف، وهو خمسون درهما، وما نقص من قيمة الباقي، وهو عشرة؛ لأنه نقص بجنايته عليه، فإن صارت قيمة هذا النصف الباقي ستين بعد أن كانت أربعين، ثم تلف.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه قيمة النصف الأول، وهو خمسون، وأرش ما نقص من قيمة النصف الثاني، وهو عشرة، وقيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف، وهو ستون؛ لأن العشرة الأولى نقصت بجنايته عليه، ثم حدثت زيادة في قيمته، فكانت مضمونة عليه.(7/28)
[فرع: تلف أحد الخفين بيد الغاصب]
وإن كان لرجل زوج خف يساوي عشرة دراهم، وكل واحد منهما يساوي منفردا درهمين، فغصب رجل أحدهما، فأتلفه، أو تلف في يده.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يلزمه إلا درهمان؛ لأنه لم يحصل في يد الغاصب إلا ما قيمته درهمان، فلا يلزمه أكثر منه.
والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب ـ: لا يلزمه إلا خمسة دراهم؛ لأن الغصب إنما وجد منه في الذي أخذه، وكانت قيمته حين الغصب خمسة دراهم، فنقصت قيمته ثلاثة بإفراده عن صاحبه، وتلف وقيمته درهمان، فلزمه ذلك، فأما الذي لم يغصبه: فلا صنع له فيه.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا، وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه ثمانية دراهم؛ لأن النقص دخل عليهما بتفريقه بينهما، فلزمه ضمان الجميع، كما لو قطع كم قميص لرجل.. فإنه يلزمه ما نقص من قيمة القميص بذلك، وما قال الأولان من أن الغصب لم يوجد إلا بأحد الخفين.. يبطل بمن قطع أصبع رجل، فشلت إلى جنبها أخرى، فإنه يلزمه ضمانهما وإن لم يوجد منه الفعل إلا بإحداهما، وبرجلين بينهما عبد نصفين، فأعتق أحدهما نصيبه منه، وهو موسر، وقيمة نصيب الشريك الذي لم يعتق قبل إعتاق شريكه مائة، وبعد إعتاقه تسعون ... فإنه يلزم المعتق مائة.
فإن قيل: أليس العبد لو كان إذا بيع جملة يساوي ثلاثمائة درهم، وإذا بيع كل نصف منه منفردا يساوي مائة، فأعتق أحدهما نصيبه، وهو موسر.. لزمه مائة، ولا يلزمه مائة وخمسون، فيكون النقصان الحادث بإفراد أحد النصفين عن الآخر غير مضمون عليه، فهلا كان في الخف مثله؟(7/29)
قال القاضي أبو الطيب: فالفرق بينهما: أن مالك نصف العبد لا يملكه إلا ناقص القيمة؛ لأنه لا يملك بيع نصيب شريكه، وليس كذلك الخفان، فإن صاحبهما يملك بيعهما، واستيفاء جميع العشرة من ثمنهما، وإنما النقصان حصل بفعل الغاصب، فإن كانا بحالهما، ودخل سارق إلى حرز مالك الخفين، فسرق أحدهما.. ففي قدر الضمان ما ذكرناه، ولا يختلف أصحابنا: أنه لا يجب عليه القطع؛ لأن ما ضمنه مما زاد على درهمين.. إنما ضمنه في ذمته؛ لأجل التفريق بينهما، وما ضمنه في ذمته.. لا يجب به القطع عليه، كما لو دخل حرز الرجل، وأتلف عليه مالا.
[مسألة: استعمال مغصوب له أجرة]
وإن غصب ثوباً، فلبسه مدة لمثلها أجرة، فنقصت أجزاؤه باللبس.. لزمه رد الثوب، وما الذي يرد معه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أكثر الأمرين من أرش ما نقص من قيمته، أو قدر الأجرة؛ لأن الأجرة تجب لأجل المنفعة، والنقص حصل بالانتفاع، فلم يجب الأمران، كما لو استأجر ثوباً، ولبسه، ونقصت أجزاؤه باللبس.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: يجب عليه أرش ما نقص، والأجرة؛ لأن الأرش وجب لحصول النقصان، بدليل: أنه لو نقص بغير استعمال.. لوجب عليه الأرش، والأجرة وجبت لأجل الاستعمال، بدليل: أن الأجرة تجب إذا قام في يده مدة لمثلها أجرة وإن لم يستعمله، وقد وجد الأمران، فلزمه ضمانهما.
[فرع: رتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه]
فرع: [ارتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه] :
وإن غصب قميصاً قيمته عشرة دراهم، فلبسه وأبلاه حتى صارت قيمته خمسة دراهم، ثم زاد السعر، فصار باللبس يساوي عشرة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يقوم، وليس بلبيس في هذا الوقت، ثم يقوم لبيساً، فيلزمه ما بين القيمتين.(7/30)
فعلى هذا: يلزمه أن يدفع مع القميص عشرة؛ لأنه لو كان غير لبيس في هذه الحالة.. لكانت قيمته عشرين، وقيمته الآن عشرة، فلزمه عشرة.
والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أن يرد مع القميص خمسة لا غير؛ لأن ذلك هو القدر الذي تلف باللبس، وزيادة السعر بعد تلف الأجزاء لا اعتبار بها، كما لو غصب قميصاً قيمته عشرة، فتلف، ثم زاد السعر، فصار القميص يساوي عشرين.. فإنه لا يلزمه إلا عشرة، فكذلك هذا مثله.
وإن غصب قميصا يساوي عشرة، فزاد السعر، فصار يساوي عشرين، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي عشرة.. لزمه رده، ويرد معه عشرة؛ لأن زيادة السعر مضمونة مع التلف.
وإن غصبه، وهو يساوي عشرة، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي خمسة، ثم نقص السعر، فصار جديده يساوي خمسة، ولبيسه يساوي درهمين ونصفا.. لزمه رد ما بقي من القميص، ولزمه أن يرد معه خمسة، وهي قيمة ما تلف في يده، ولا اعتبار بالنقصان الذي حدث بعد تلف الأجزاء.
[مسألة: غصب سمينة فهزلت]
] : إذا غصب جارية سمينة، ثم هزلت في يده.. ردها، وأرش ما نقص بالهزال في يده بلا خلاف، وقد مضى. فأما إذا غصب جارية مهزولة، فسمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت في يده قرآنا، أو علما، أو شعرا، أو صنعة، فزادت قيمتها بذلك، فسمنت، فنقصت قيمتها بذلك.. ردها، ولزمه أرش ما نقصت، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجب عليه أرش ما نقصت، إلا أن يطالبه بردها في حال زيادتها، فلا يردها) .(7/31)
دليلنا: أنها زيادة في العين المغصوبة، فضمنها الغاصب، كما لو طالب بردها، فلم يردها، ولأن استدامة الغصب كابتدائه، والغاصب في كل حال مأمور برد العين المغصوبة، فإذا لم يردها.. كان بمنزلة المبتدئ للغصب.
فعلى هذا: إذا غصبها وهي تساوي مائة، فسمنت في يده، وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة.. لزمه ردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأجل نقص السمن، فإن كانت بحالها، فسمنت، فبلغت قيمتها ألفا، وتعلمت صنعة، فبلغت قيمتها ألفين، ثم هزلت، ونسيت الصنعة، فعادت قيمتها إلى مائة.. فإنه يردها، ويرد معها ألفا وتسعمائة، فإن بلغت بالسمن ألفاً، فهزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فبلغت ألفا، ثم نسيتها، فعادت إلى مائة.. ردها، وألفا وثمانمائة؛ لأنها نقصت بالهزال تسعمائة، وبنسيان الصنعة تسعمائة.
وإن غصبها وهي تساوي مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم سمنت، فصارت تساوي ألفا، ثم هزلت، فصارت تساوي مائة.. لزمه ردها وتسعمائة، وهو قيمة السمن، لا زيادة السوق، فلو ماتت الجارية في هذه الحالة.. لزمه ألف وتسعمائة؛ لأنه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف مع غرم السمن.
وإن غصبها وقيمتها مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم ماتت الجارية.. لزمه قيمتها ألف، وهو أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف، وإن زادت ونقصت مراراً، ولا تجاوز الزيادة ألفا، ثم ماتت.. لم يلزمه أكثر من ألف؛ لأن ذلك أكثر ما كانت قيمتها.
[فرع: غصب هزيلة فسمنت]
وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده حتى بلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت قيمتها إلى ألف.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يردها، ولا شيء عليه؛ لأنه زال(7/32)
ما أوجب الضمان، فهو كما لو جنى على عين، فابيضت، ثم زال البياض.
والثاني ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو الصحيح ـ: أنه يردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأن السمن الثاني غير الأول، فلا يسقط به عنه ما وجب عليه بنقصانها بذهاب الأول، كما لو غصبها وهي مهزولة تساوي مائة، فسمنت حتى بلغت ألفا، ثم هزلت حتى عادت إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فعادت قيمتها ألفا.. فإنه لا يسقط عنه ما نقصت بالهزال.
وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت إلى ألف، ثم هزلت، فعادت إلى مائة.. فعلى الوجه الأول: يردها، ويرد معها تسعمائة لا غير، وعلى الوجه الثاني: يردها، ويرد معها ألفا وثمانمائة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن قلع سن من قد ثغر، ثم عادت، ففي أحد القولين لا يلزمه الأرش، وفي الثاني يلزمه.
وإن غصب جارية قيمتها مائة، فتعلمت في يده سورة من القرآن، أو شعراً، أو صنعة، فبلغت قيمتها ألفاً، ثم نسيت ذلك، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت ما كانت نسيته، فعادت قيمتها ألفا.. فقد قال الشيخ أبو حامد: هي كالسمن، فتكون على الوجهين.
وقال ابن القاص، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: يسقط عنه الضمان، وجها واحداً؛ لأن القول في السمن الثاني: أنه غير الأول، له وجه، وأما القرآن المحفوظ ثانياً، أو الشعر، أو الصنعة.. فهو الأول؛ لأنها تعود إلى العلم الذي كانت تعلمه أولا.(7/33)
[فرع: ضمان الحامل المغتصبة]
وإن غصب جارية حاملاً.. ضمنها، وضمن ولدها، وكذلك إن غصبها حائلا، فحملت في يده، ثم تلف الولد في يده.. ضمنه، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يضمن الولد) .
دليلنا: أن كل سبب يضمن به الولد إذا كان منفصلا.. جاز أن يضمن به إذا كان متصلا، كالإحرام، ولأن الولد نماء ليس له، حصل في يده من أصل مضمون متعد به، فلزمه ضمانه، كولد الصيد في يد المحرم.
إذا ثبت هذا: فإن ألقت الأم الولد حياً، ثم مات.. لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين الوضع إلى أن مات، وإن ألقته ميتاً.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أنه يجب عليه قيمته يوم الوضع لو كان حياً؛ لأنه ضمنه باليد قبل ظهوره، فضمنه بتلفه، كأمه.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه إنما يقوم عليه عند الحيلولة بينه وبين مالكه، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال، فلم يجب عليه الضمان.
[فرع: يضمن نقص المغتصب]
] : وإن غصب جارية ناهدة الثديين، فسقط ثدياها في يده، فنقصت قيمتها بذلك، أو غصب غلاما أمرد، فنبتت لحيته، أو كانت لحيته سوداء، فابيضت، فنقصت قيمته بذلك.. ضمن أرش النقص؛ لأنه نقص بسبب كان بيده، فلزمه ضمانه.(7/34)
[مسألة: ضمان غاصب العبد]
] : وإن غصب من رجل عبداً، فجنى حر على هذا العبد.. نظرت:
فإن قتله.. وجبت قيمته للمغصوب منه، وله أن يرجع بها على الغاصب، أو على الجاني، غير أنه إن رجع على الجاني.. رجع عليه بقيمته يوم جنى عليه، وإن رجع بها على الغاصب.. رجع عليه بقيمته أكثر ما كانت من يوم غصبه إلى أن قتل، فإن رجع على الجاني.. لم يرجع الجاني على الغاصب، وإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقيمته يوم الجناية؛ لأن التلف حصل بفعله، فاستقر الضمان عليه.
وإن قطع الجاني يده.. وجب على الغاصب أكثر الأمرين من نصف قيمته، أو ما نقص بالقطع؛ لأن الجناية عليه، وهو في ضمانه كجنايته عليه، فاجتمع عليه ضمان اليد، والجناية، وأما الجاني: فلا يجب إليه إلا نصف قيمته يوم الجناية؛ لأنه لم يوجد منه غير الجناية من غير غصب، وللمالك أن يرجع على أيهما شاء، فإن اختار الرجوع على الجاني، وكانت نصف قيمته أكثر مما نقص بالجناية.. رجع عليه بنصف قيمته، ولا يرجع الجاني ولا المالك على الغاصب بشيء، وإن كان نصف القيمة أقل مما نقص بالجناية.. رجع المالك على الغاصب بما زاد على نصف قيمته، وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقدر نصف قيمة العبد؛ لأنه أتلفه، فاستقر الضمان عليه.
[فرع: جناية عبد على عبد]
مغصوبمغصوب] : وإن جنى على العبد المغصوب عبد لآخر.. نظرت:
فإن قتله عمداً.. فالمالك بالخيار: بين أن يقتص من العبد القاتل، وبين أن يعفو.
فإن اقتص منه.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع على الغاصب بشيء.
وإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فله أن يطالب الغاصب؛ لأنه ضمنه(7/35)
باليد، وله أن يطالب بحقه من رقبة العبد القاتل، غير أنه إن طالب الغاصب.. فله أن يطالبه بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين غصبه إلى أن قتل، وإن طالب بحقه من رقبة القاتل.. فبأن يطالب سيده بأقل الأمرين من قيمة المقتول، أو قيمة القاتل، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يستحق عليه أكثر من ذلك.
فإن طالب الغاصب بقيمة عبده، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول، أو مثلها.. فللغاصب أن يطالب بذلك من قيمة القاتل، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم يطالب الغاصب سيد القاتل إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين.
وإن اختار مالك العبد مطالبة سيد القاتل، فإن كانت قيمة المقتول أقل من قيمة القاتل، وأخذ المالك قيمة عبده.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع المغصوب منه ولا سيد القاتل على الغاصب بشيء، وإن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل.. لم يرجع عليه المغصوب منه إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين، ثم يستوفي المغصوب منه تمام قيمة عبده من الغاصب؛ لأنه ضمنه باليد.
[مسألة: ضمان جناية العبد المغصوب]
] : وإن غصب عبدا، فجنى العبد وهو في يد الغاصب على حر، أو عبد.. نظرت:
فإن قتله عمداً.. فولي المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإن قتله.. كان للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن قتل؛ لأنه تلف بسبب كان في يده، فلزمه ضمانه، وإن عفا عنه على مال.. تعلق ذلك برقبته، وكان على الغاصب أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة العبد القاتل؛ لأن تعلق الأرش برقبته نقصان حدث في العبد بيده، فضمنه؛ لأنه ضامن للعبد ولنقصانه.(7/36)
وإن جنى على ما دون النفس، بأن قطع يد غيره، فإن كانت عمداً، واختار المجني عليه القصاص، فاقتص منه.. وجب على الغاصب ضمان اليد.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يضمنه وجهان:
أحدهما: أرش الجناية.
والثاني: ما نقص من قيمته بذلك.
وقال ابن الصباغ: يجب عليه ما نقص من قيمته بذلك، ولا يجب عليه الأرش، وجهاً واحداً؛ لأن اليد ذهبت بسبب غير مضمون، فأشبه إذا سقطت بأكلة.
وإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. كان على الغاصب أقل الأمرين من قيمة العبد المغصوب، أو أرش الجناية.
[فرع: جناية عبد مغصوب أو مودع بقدر قيمته]
فإن جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل جناية أرشها قدر قيمته، أو أكثر منها، ثم مات العبد في يد الغاصب.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمه عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأنها كانت متعلقة برقبة العبد، والقيمة بدل عن الرقبة، فإذا أخذ ولي الجناية الأرش من السيد.. قال ابن الحداد: فللسيد أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لأن الأرش الذي أخذه المجني عليه من السيد استحقه بسبب كان في يد الغاصب، فكان من ضمانه.
ولو كان العبد وديعة عند رجل، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، ثم إن المودع قتل العبد.. فللسيد أن يرجع على المودع بقيمة عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأن القيمة بدل الرقبة، فإذا أخذ المجني عليه الأرش من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع بذلك على المودع؛ لأن العبد جنى، وهو غير مضمون عليه، بخلاف الأولى.(7/37)
وإن جنى العبد وهو يد سيده على رجل جناية تستغرق قيمته، ثم غصبه غاصب، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، فاسترد العبد من الغاصب، وطلب المجني عليهما الفداء، فسلم العبد للبيع، وبيع.. فإن ثمنه يقسم بين المجني عليهما نصفين؛ لتساوي حقيهما، وللسيد أن يرجع على الغاصب بالنصف الذي أخذه المجني عليه في يد الغاصب؛ لأنه انتزع من السيد بسبب كان في يد الغاصب، فلزمه ضمانه، فإذا أخذه السيد من الغاصب.. قال ابن الحداد: فللمجني عليه الأول أن يأخذه من السيد دون المجني عليه الثاني.
قال القاضي أبو الطيب: ووجهه: أن حق المجني عليه الأول تعلق بجميع الرقبة، وحق المجني عليه ثانياً لم يتعلق إلا بالنصف.
قال ابن الصباغ: وما ذكره القاضي لا معنى له؛ لأن حق الثاني تعلق أيضاً بجميع الرقبة، ألا ترى أن الأول لو أبرأه.. لاستحق الثاني جميع القيمة؟ قال: وإنما وجه ذلك عندي: أن الذي يأخذه السيد من الغاصب إنما هو عوض عما أخذه منه المجني عليه الثاني، فلا يتعلق به حقه، ويتعلق به حق الأول؛ لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه.
وإذا أخذه الأول من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع به على الغاصب؛ لأن استحقاقه بجناية كانت في يده لا في يد الغاصب، وهكذا: لو مات العبد في يد الغاصب.. وجبت عليه قيمته، وتقسم القيمة بين المجني عليهما، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بنصف القيمة التي أخذها منه المجني عليه الثاني، ويكون ذلك للمجني عليه الأول دون الثاني، ولا يرجع السيد بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه.
ولو جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل، ثم قتل هذا العبد عبداً آخر عمداً.. فلسيد العبد المغصوب أن يقتص من العبد الذي قتل عبده، وليس للمجني عليه أن يمنعه من ذلك، كما قلنا في العبد المرهون إذا قتل، فإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. تعلق حق المجني عليه بقيمة العبد؛ لأنها قائمة مقامه، فإذا أخذ(7/38)
المجني عليه أرشه من القيمة.. كان لسيد المغصوب أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه، وإن أراد السيد أن يعفو على غير مال، فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. كان له ذلك، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين من القود أو المال.. سقط القصاص، ولم يسقط المال؛ لأن حق المجني عليه تعلق به.
[فرع: قتل العبد المغصوب الغاصب]
] : وإن غصب رجل عبداً، فوثب العبد على الغاصب، فقتله، ثم هرب إلى سيده، فإن كانت الجناية عمداً.. قال الصيمري: فإن عفا ورثة الغاصب عن القصاص والدية.. سقط الضمان عن الغاصب في المال، وإن قتلوه.. فعليهم قيمة العبد وكأنهم لم يسلموه، وكذلك لو طالبوا بالدية من رقبته.
وإن قتل العبد المغصوب سيده وهو في يد الغاصب.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: للورثة أن يقتصوا منه، فإذا قتلوه.. استحقوا قيمته على الغاصب.. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن جناية العبد المغصوب على الغاصب.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تكون الجناية هدراً؛ لأن ملك السيد ثابت عليه حال الجناية، فكانت جنايته عليه هدراً، كما قبل الغصب.
[مسألة: غصب مالاً واتجر بذمته]
وإن غصب من رجل دراهم أو دنانير، فاتجر في ذمته، ونقد الدراهم والدنانير، وربح.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يكون الربح للمغصوب منه؛ لأنه نماء ماله، فهو كثمرة الشجرة، ولأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. لأدى ذلك إلى ارتفاق الغاصب(7/39)
بمال المغصوب منه بغير إذنه، فجعل ذلك ملكا للمغصوب منه بغير إذنه؛ لينحسم الباب) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (هو ملك للغاصب؛ لأن ذلك ليس بمتولد من مال المغصوب منه، وإنما هو نماء ملك الغاصب، فهو كما لو غصب من رجل أرضا، وزرع فيها زرعاً) .
[مسألة: غصب عبداً فاصطاد]
وإن غصب من رجل عبدا، فاصطاد العبد صيدا في يد الغاصب.. كان الصيد ملكاً للمغصوب منه؛ لأن يد العبد كيد مولاه.
قال الصيمري: ولا يضمن الغاصب الصيد إلا أن يحول بين العبد وبين الصيد، وهل يجب على الغاصب أجرة العبد في المدة التي اصطاد فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأنه حال بين سيده وبين منافعه.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن المنافع في هذه المدة صارت للمولى.
وإن أكره الغاصب العبد على الاصطياد، فاصطاد.. فهل يكون الصيد ملكا لمولى العبد؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.
[فرع: غصب آلة الصيد يوجب أجرتها]
] : وإن غصب من رجل شبكته، أو شركه، أو سفينة، أو قوساً، فاصطاد بها.. فالصيد للغاصب؛ لأنه لا صنع للآلة، ويجب على الغاصب أجرة الآلة؛ لأنه حال بين مالكها وبينها.(7/40)
وإن غصب منه جارحة معلمة، فأرسلها على صيد، فأخذته.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو المرسل للجارحة، فكان الصيد له، كما قلنا في الشبكة.
فعلى هذا: يجب عليه أجرة الجارحة إن كان يجوز استئجارها، كالفهد.
والثاني: أن الصيد للمغصوب منه؛ لأن للجارحة فعلا في أخذ الصيد، فكان الصيد لمالكها، كالعبد، بخلاف الشبكة، فإنه لا فعل لها في أخذ الصيد.
فعلى هذا: هل يجب للمغصوب منه أجرة الجارحة مدة اصطيادها؟ على الوجهين في العبد.
[مسألة: غصب أرضا أو بذراً، فالنتاج للمغصوب منه]
] : إذا غصب من رجل بذراً، فبذره في أرضه، أو بأرض المغصوب منه.. فجميع ما خرج منه ملك للمغصوب منه.
وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 313] وجهاً آخر: أنه للغاصب، وعليه مثل البذر.
والأول أصح؛ لأن هذا عين مال المغصوب منه، فهو كالعبد الصغير إذا كبر، وهكذا الوجهان إذا غصب بيضاً، فصار فراخاً.. فالصحيح: أنه للمغصوب منه؛ لما ذكرناه، فإن نقص الزرع عن البذر، أو قيمة الفراخ عن قيمة البيض.. فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه نقص حدث في يده، فضمنه.(7/41)
[فرع: غصب عصيراً فانقلب حمراً]
ً] : وإن غصب من رجل عصيراً، فصار في يده خمراً.. لزمه ضمان العصير بمثله؛ لأنه تلف بيده بانقلابه خمراً، فإن انقلب الخمر بيده خلا.. لزمه رد الخل على المغصوب منه.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه رده، بل قد ملكه بالانقلاب بيده) .
دليلنا: أن الخل عين مال المغصوب منه، وإنما تغيرت صفته، فهو كالودي إذا صار نخلا.
إذا ثبت هذا: فهل يلزمه مع رد الخل ضمان العصير؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يرد مع الخل مثل العصير؛ لأنه قد لزمه ذلك بانقلابه خمراً، وإنما رجع الملك فيه إلى المغصوب منه بمعنى آخر، فلا يسقط عن الغاصب ما وجب عليه بانقلابه خمراً، كما قلنا في الجارية إذا سمنت في يد الغاصب، ثم هزلت، ثم سمنت.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليه مثل العصير، وهو الصحيح؛ لأنه عين ماله وإنما تغيرت أوصافه.
فعلى هذا: إن كانت قيمة الخل مثل قيمة العصير، أو أكثر.. فلا شيء عليه، وإن كانت قيمة الخل أقل من قيمة العصير.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأن ذلك نقص بفعل حصل في يده.
[مسألة: يضمن الغاصب النقص ولا شيء له في الزيادة]
] . وإن غصب من رجل ثوبا، فقصره، أو قطنا، فغزله، أو غزلا، فنسجه، أو ذهبا، فصاغه حليا.. لزمه رد ذلك على حالته؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن نقصت قيمته بذلك.. لزم الغاصب ضمان ما نقص؛ لأنها نقصت بفعله، وإن زادت(7/42)
قيمتها بفعله.. فلا شيء للغاصب بفعله؛ لأنها زادت بأثر لا عين له فيها.
وأن غصب منه خشبة، فشقها ألواحاً.. لزمه رد الألواح؛ لأنها عين مال المغصوب منه، فإن نقصت عن قيمة الخشبة.. لزمه ضمان النقصان، وإن زادت.. فلا شيء له؛ لما ذكرناه، وإن سمر الألواح أبواباً، فإن لم يدخل الغاصب فيها شيئا من ماله، بأن سمرها ببعضها.. فإنه يردها مسمرة وأرش نقصها إن نقصت، ولا شيء له إن زادت، وإن سمرها الغاصب بمسامير من ماله.. فإن اختار قلع مساميره.. كان له ذلك؛ لأنها عين ماله، ولكن يضمن ما نقص من قيمتها بعد قلع المسامير؛ لأن المغصوب منه قد ملكها حال كونها أبوابا، فإذا أزالها عن ذلك.. لزمه الضمان، كما لو غصب غزلا، فنسجه تكة، ثم نقضها.
فعلى هذا: إن كانت قيمة الأبواب وهي مسمرة مائة.. قيل: فكم قيمة الأبواب منها؟ وكم قيمة المسامير؟ فإن قيل: قيمة الأبواب تسعون، وقيمة المسامير عشرة.. نظرت: فإن نقصت الأبواب بعد تفصيلها عن التسعين.. ضمن ما نقصت عنها.
فإن بذل الغاصب المسامير للمغصوب منه ... فهل يجبر على قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأنها عين مال الغاصب، فلا يجبر المغصوب على قبول هبته، كسائر أمواله.
والثاني: يجبر على قبولها، وهو المنصوص؛ لأنها متصلة بماله، فلزمه قبولها، كقصارة الثوب.
[فرع: يطالب الغاصب بإزالة التزاويق]
وإن غصب من رجل داراً، فزوقها الغاصب بزاووق من عنده، أو جصصها بجص من عنده، فإن طالب مالك الدار الغاصب بقلع ذلك.. لزم الغاصب قلعه؛ لأن الغاصب شغل ملك المغصوب بملكه، فلزمه إزالته، فإذا قلعه.. نظرت:(7/43)
فإن كانت قيمة الدار قبل التزويق كقيمتها بعد قلع التزاويق.. لم يلزم الغاصب شيء؛ لأنها لم تنقص بالقلع..
وإن كانت قيمة الدار نقصت بالحك، فصارت قيمتها بعد الحك أقل من قيمتها قبل التزويق.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأنه نقص بفعله.
وإن طلب الغاصب قلع تزاويقه.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: له قلعه، سواء كان لتزاويقه قيمة بعد القلع أو لم يكن؛ لأنه عين ماله، فكان له أخذه.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان له عين.. فله قلعه، وإن لم يكن له عين.. فليس له قلعة، فإذا قلعه.. نظرت: فإن نقصت قيمة الدار بعد القلع عن قيمتها قبل التزاويق.. لزم الغاصب ما بينهما؛ لأنه نقص بفعله.
وإن وهب الغاصب الزاووق والجص لمالك الدار.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر على قبوله؛ لأن ذلك غير متميز عن ماله، فهو كقصارة الثوب.
والثاني: لا يجبر؛ لأنها أعيان ماله، فلا يجبر على قبولها، كالقماش في الدار.
[فرع: يضمن الغاصب والمستعير]
قيمة المغصوب عند الكسرقيمة المغصوب عند الكسر] :
وإن غصب من رجل جوهرة زجاج تساوي درهماً، فاتخذ منها قدحاً يساوي عشرة دراهم، فانكسر القدح، فرده إلى مالكه مكسوراً، وقيمته درهم.. لزمه مع رده تسعة دراهم، وإن أعاره قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر مرة ثانية، فرجعت قيمته إلى درهم، ثم صنعه قدحاً يساوي عشرة.. فقال صاحب (التلخيص) : يرد القدح، ويرد معه ثمانية عشر درهماً.(7/44)
قال الطبري: إن كانت الصنعة الثانية غير الصنعة الأولى.. فلا يختلف أصحابنا في أنه يرده وثمانية عشر درهماً؛ لأن الضمان استقر عليه بالكسر الأول، فإذا أعاره.. فهو مال آخر للمغصوب منه في يده، فلا ينجبر به ذلك النقص، وإن أعاد مثل ذلك القدح في القدر والصنعة، ورده صحيحاً.. فهل يغرم معه شيئاً؟ فيه وجهان، كما قلنا في السمن في الجارية.
[مسألة: اختلاط زيت بمثله أو بأجود منه]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان زيتاً، فخلطه بمثله، أو خير منه، فإن شاء.. أعطاه من هذا مكيلته، وإن شاء.. أعطاه مثل زيته) .
وجملة ذلك: أنه إذا غصب منه زيتاً، أو غيره من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه من ماله.. نظرت:
فإن خلطه بأجود منه، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي أربعة دراهم، فإن بذل الغاصب للمغصوب منه صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأنه دفع إليه بعض ما غصبه منه وشيئاً من جنسه، وهو خير مما غصب منه، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. فقد نص الشافعي هاهنا: (أن الخيار إلى الغاصب) ، ونص في (التفليس) : (إذا اشترى منه صاعاً من زيت، وخلطه بأجود منه من جنسه.. على قولين:
أحدهما: أنهما يكونان شريكين، وهذا خلاف نصه في (الغصب) .
والثاني: أنه يضرب مع الغرماء بالثمن. فجعله على هذا كالمستهلك، كما قال في (الغصب) .
واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من نقل جواب القولين إلى الغصب، وقال: في الغصب أيضاً قولان: أحدهما: أنه يصير كالمستهلك؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ماله.(7/45)
فعلى هذا: يعطيه الغاصب مثل زيته من غير هذا المختلط.
والثاني: يصيران شريكين في هذا المختلط؛ لأن عين ماله اختلط بجنسه، فصارا شريكين، كما لو اشتريا صاعين بينهما.
فعلى هذا: يباع الزيتان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، فيكون للغاصب ثلثا الثمن، وللمغصوب منه الثلث، فإن طلب المغصوب منه أن يأخذ من هذا الزيت المختلط ثلثي صاع، وهو ما قيمته منه قيمة صاعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يأخذ بعض صاع عن صاع، وذلك رباً.
والثاني: يجوز؛ لأنه يأخذ بعض حقه، ويترك البعض باختياره، وليس ذلك برباً؛ لأن الربا في المعاوضات، وليس ذلك بمعاوضة.
ومنهم من قال: يصير في الغصب كالمستهلك، قولاً واحداً، وفرقوا بينه وبين التفليس؛ لأن في التفليس لا يمكن الغريم الرجوع إلى كمال حقه إذا ضارب مع الغرماء، فجعل شريكاً، وهاهنا يمكنه أن يرجع في بدله، وهو كمال حقه.
وإن خلطه بمثله، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي درهمين، فإن بذل الغاصب صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأن بعضه عين ماله، وبعضه مال الغاصب، وهو مثله، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب من ذلك، بل أراد أن يعطيه صاعاً من غيره.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: يجبر الغاصب على أن يدفع إليه صاعاً منه؛ لأن فيه بعض عين ماله، فلا يلزمه الانتقال إلى بدله، كما لو غصب منه صاعاً، وتلف بعضه.
ومنهم من قال: لا يجبر الغاصب على دفع صاع منه، وهو المنصوص هاهنا في (الأم) [3/226] ؛ لأن عين مال المغصوب منه غير متميز من مال الغاصب، فصار كالمستهلك.
وإن خلطه بأردأ منه، بأن غصب منه صاعاً يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع(7/46)
يساوي درهمين، فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه صاعاً منه.. جاز؛ لأنه يأخذ منه صاعاً دون حقه برضاه.
فإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه مثل زيته.. يجبر على دفع صاع من مثل زيته من غيره.
وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجبر الغاصب على ذلك؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجبر الغاصب؛ لأن حقه قد تعلق بذمته حين صار زيته كالمستهلك.
وإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه صاعاً من مثله زيته من غيره..
فالمنصوص: (أن الغاصب يجبر على دفع صاع من مثل زيته الذي غصب منه من غير هذا؛ لأن زيته صار كالمستهلك) .
ومن أصحابنا من قال: يباع الزيتان، ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمة زيتيهما، كما قال إذا خلطه بأجود منه. وليس بشيء.
[فرع: خلط زيت بشيرج]
وإن غصب منه زيتاً، وخلطه بغير جنسه مما لا يمكن تمييزه منه، بأن خلطه بالبان أو بالشيرج.. فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه مثل مكيلة زيته منه.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن امتنع أحدهما.. لم يجبر؛ لأن الغاصب لا يجبر على دفع غير ما وجب عليه، والمغصوب منه لا يجبر على أخذ غير ما وجب له.(7/47)
فعلى هذا: يجبر الغاصب على دفع زيت مثل الذي غصبه؛ لأن هذا صار كالمستهلك.
ومن أصحابنا من قال: يباعان هاهنا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، كما قال في المسألتين قبلها.
وإن خلط الزيت بالماء، فإن أمكن تخليصه منه من غير أن يفسده في الحال ولا في الثاني.. كلف الغاصب تخليصه، وعليه مؤنة التخليص؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، وإن كان إذا خلصه ينقصه نقصاناً مستقراً.. لزمه تخليصه، ورده، ورد ما نقص من قيمته، وإن كان نقصانه غير مستقر.. فالمنصوص: (أن الغاصب يلزمه أن يدفع مثله من جنسه؛ لأن هذا صار كالمستهلك) .
وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يلزمه تخليصه، ويرده وأرش ما نقص في الحال وفيما بعد، كما لو غصب عبداً، فقطع يده) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: يلزم المغصوب منه أن يأخذه وأرش ما نقص؛ لأن عين ماله موجودة متميزة، فلا يملك الرجوع ببدلها.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن نقصانه غير مستقر، بل يتزايد، فصار كالمستهلك.
ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يأخذ مثله من غيره؛ لما ذكرناه، وما ذكره الربيع من تخريجه.(7/48)
[فرع: خلط الدقيق بالدقيق]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن خلط دقيقاً بدقيق.. فكالزيت) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: للدقيق مثل. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة بصغر الحب وكبره.
فعلى هذا: حكمه حكم الزيت إذا خلط بالزيت، على ما مضى.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا مثل له؛ لأنه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وقول الشافعي: (إنه كالزيت) أراد: في أنه يرجع إلى بدله، كما يرجع إلى بدل الزيت إذا تلف، لا أنه يرجع إلى مثله.
فعلى هذا: إذا أراد قسمته بينهما.. نظرت:
فإن اختلفت قيمتهما.. لم تجز قسمته؛ لأن قيمتهما مختلفة، فلو جوزناها.. كان فيه تفاضل وربا.
وإن استوت قيمتهما، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت قسمته، كما يجوز قسمة الرطب على هذا القول. وإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجز قسمته، كما لا يجوز بيع بعضه ببعض. وحكى الكرابيسي عنه: (أنه يجوز) . ولا يعرف ذلك للشافعي في شيء من كتبه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الدقيقان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيهما بكل حال، كما قال في المسائل قبلها.
[فرع: خلط حنطة بحنطة]
وإن غصب منه حنطة، فخلطها بحنطة له.. ففي ذلك مسائل كالتي ذكرناها في الزيت. فإذا خلطها بحنطة أجود منها، أو مثلها، أو دونها.. فالحكم فيها كالحكم في الزيت، وإن خلطها بما يمكن تمييزها منه، مثل: أن يخلط حنطة بيضاء بحنطة(7/49)
سمراء، أو حمراء، أو شعير، أو ذرة.. فعلى الغاصب تمييزها وتخليصها وإن لحقه بذلك مؤنة ومشقة، كما لو غصب ساجاً، وبنى عليه.
قال ابن الصباغ: وإن لم يتميز جميعه.. وجب عليه تمييز ما أمكن، وكان الباقي بمنزلة اختلاط الزيت بما لا يتميز عنه.
[مسألة: يلزم الغاصب تفريغ ملك غيره]
وإن غصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى، فدعا مالك الأرض إلى قلع الغراس أو البناء.. لزم الغاصب قلعه؛ لما روي: «أن رجلاً غصب أرضاً، فغرس فيها نخيلاً، فرفع ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلع النخيل) .
قال الراوي: (فلقد رأيتها والفؤوس تعمل في أصولها، وإنها لنخيل عم» ، يعني: طوالاً، ولهذا يقال للمرأة الطويلة: عميمة.
وروى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق» ، بكسر العين، وسكون الراء.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما وضع في الأرض للتأبيد.. فإنه يسمى: عرقا. والعروق أربعة: عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء، وعرقان باطنان، وهما: (البئر والنهر) .
ولأنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه تفريغها، كما لو جعل فيها قماشاً.(7/50)
إذا ثبت هذا: وقلع الغراس، أو البناء.. فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: عليه تسوية الأرض، وأرش نقص إن دخل على الأرض بالقلع، وأجرة مثلها؛ لأن ذلك حصل بعدوانه.
وذكر في (المهذب) : أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في (الغصب) : (يلزمه ما تنقص الأرض) ، وقال في (البيع) : (إذا قلع الأحجار المستودعة في الأرض.. عليه تسوية الأرض) .
فمن أصحابنا من قال: هي على قولين:
أحدهما: يلزمه أرش النقص؛ لأنها نقصت بفعله.
والثاني: يلزمه تسوية الأرض؛ لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.
ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقصت، وفي البيع يلزمه التسوية؛ لأن الغاصب متعد، فغلظ عليه بالقيمة؛ لأنها أوفى، والبائع غير متعد، فلم يلزمه أكثر من التسوية.
[فرع: للمالك طلب قلع الغراس إن كان له غرض آخر]
] : وإن غصب من رجل أرضاً، وغراساً، فغرسه في الأرض، فطالب مالك الأرض الغاصب بقلع الغراس عن الأرض، فإن كان له غرض في القلع، بأن كان لا يريد غرس تلك الأرض.. أخذ الغاصب بقلع الغراس؛ لأنه لا يجوز تفويت غرض المالك، وإن لم يكن لمالك الأرض غرض في القلع، بأن كان يريد غرس تلك الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يؤخذ الغاصب بقلع الغراس، لأن ذلك عبث وسفه.
والثاني: يؤخذ بذلك؛ لأن الإنسان محكم في ملكه.(7/51)
[فرع: يلزم الغاصب أجرة الأرض وقلع زرعها وبدل نقصها]
] : وإن غصب أرضاً، وزرع فيها.. لزمه قلع الزرع، وأجرة الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ليس لصاحب الأرض قلع الزرع، بل هو بالخيار: بين أن يدفع البذر والنفقة، ويملك الزرع، وبين أن يقره في الأرض إلى أوان الحصاد، ويطالب بأجرة أرضه) .
دليلنا: أنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه قلعه، كالغراس.
[مسألة: غصب أرضاً وحفر فيها بئراً]
ً] : وإن غصب من رجل أرضاً، وحفر فيها بئراً، أو نهراً، فإن طالبه المغصوب منه برد التراب إلى البئر وطمها.. لزم الغاصب ذلك؛ لأنه نقل التراب من ملكه، فكان له مطالبته بإعادته، وإن طلب الغاصب أن يعيد التراب، فامتنع المغصوب منه.. أجبر المغصوب منه على إعادته. وقال المزني [في (المختصر) 3/40-41] : لا يجبر، كما لو غصب منه غزلاً، ونسجه ثوباً. وهذا غلط؛ لأن الغاصب إن كان قد نقل التراب إلى ملك نفسه.. فله غرض برده، وهو تفريغ ملك نفسه، فإن كان قد نقله إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين.. فله غرض في رده، وهو تفريغ ملك الغير، وإزالة الضرر عن طريق المسلمين، وإن كان قد نقله إلى ملك المغصوب منه.. فله غرض في ذلك، وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع في البئر، فإذا طم البئر.. نظرت:
فإن نقصت قيمة الأرض بعد الطم عن قيمتها قبل الحفر.. لزمه ما بين القيمتين؛ لأنها نقصت بفعله.
وإن لم تنقص قيمتها.. لم يلزمه أرش النقص.(7/52)
فإن قال المغصوب منه للغاصب: قد أبرأتك من ضمان من يقع فيها.. فهل يبرأ من ضمان من يقع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يبرأ؛ لأن الضمان بالحفر حق للغير.. فلا يصح إبراء المغصوب منه، ولأن هذا أبرأه مما لا يجب، فلم يصح.
فعلى هذا: للغاصب طم البئر بكل حال.
والثاني: أنه يبرأ، وهو قول أبي حنيفة، قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الضمان يلزمه بوجود التعدي، فزال عنه برضا المالك، كما لو حفر بإذنه.
قال ابن الصباغ: وهكذا: ينبغي إذا لم يتلفظ بالإبراء، وإنما منعه من طمها؛ لأنه يتضمن رضاه بذلك.
فعلى هذا: ليس له أن يطم التراب إن كان قد وضعه في ملك المغصوب منه، وإن كان قد وضعه في ملك نفسه، أو في ملك غيره.. رده.
وإن غصب أرضاً، ثم كشط ترابها.. جاز للمغصوب منه أن يطالبه برده، وإعادة الأرض كما كانت، فإذا رده، فإن نقصت قيمة الأرض بعد ذلك عن قيمتها قبل الكشط.. لزمه ما بين القيمتين، وإن أراد الغاصب رده، وامتنع المغصوب منه، فإن كان الغاصب قد نقل التراب إلى ملك نفسه، أو إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين، أو إلى ملك المغصوب منه، ونقصت قيمة الأرض بنقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ويرجو بإعادته زوال النقص.. فللغاصب رده؛ لأن له غرضاً في رده، وهو تفريغ ما نقل إليه التراب، أو زوال النقص، وإن كان نقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ولم تنقص قيمة الأرض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا فائدة له في ذلك.
وإن خرق ثوباً، وطلب الغاصب أن يرفأه.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 314] : لم يجبر المالك على تمكينه من ذلك؛ لأنه لا يعود إلى حالته الأولى.(7/53)
[مسألة: غصبه ثوباً وصبغا]
] : وإن غصب من رجل ثوباً وصبغاً، فصبغه به.. لزم الغاصب أن يرد الثوب مصبوغاً؛ لأنهما عين ماله، فإن لم تنقص قيمة الثوب والصبغ، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ خمسة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر.. فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئاً من مال المغصوب منه، وإن زادت قيمتهما، فصارت عشرين.. فلا شيء للغاصب؛ لأن الزيادة حصلت بأثر من الغاصب لا بعين ماله، وإن نقصت قيمتهما، فصارت عشرة.. لزم الغاصب مع ردهما خمسة؛ لأنهما نقصا بفعله، إلا أن يعلم أن ذلك النقصان لنقصان سعر الثياب، أو الصبغ، فلا يلزمه شيء؛ لأن نقصان السعر لا يضمنه الغاصب مع رد العين.
[مسألة: غصب ثوباً ثم صبغه من ماله]
] : وإن غصب من رجل ثوباً، فصبغه بصبغ من عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الغاصب يكون شريكاً لصاحب الثوب؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فإذا خلطه بمال المغصوب منه.. صار شريكاً له، كما لو غصب منه طعاماً، فخلطه بطعام له.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو حالهما من ثلاثة أحوال: إما أن لا تزيد قيمتهما ولا تنقص، وإما أن تزيد قيمتهما، وإما أن تنقص قيمتهما.
فالحالة الأولى: إن لم تزد قيمتهما ولم تنقص، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وقيمتهما بعد الصبغ عشرين.. فإن الغاصب هاهنا يكون شريكاً له في النصف، فيكون فيه سبع مسائل:
إحداهن: أن يتفقا على بيعهما، فإذا بيعا.. قسم الثمن بينهما نصفين.
الثانية: إذا تراضيا على ترك الثوب بحاله، ويكونان شريكين.. جاز.
الثالثة: أن يطلب الغاصب قلع صبغه.. فله ذلك، ويجبر المغصوب منه على تمكينه من ذلك؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فكان له أخذه كما لو غصب(7/54)
أرضاً، وغرس فيها، فله قلعه، إلا أن الثوب إن نقصت قيمته بقلع الصبغ.. لزم الغاصب ما نقصت قيمته؛ لأنه نقص بسبب من جهته.
الرابعة: إذا طلب المغصوب منه أن يقلع الغاصب صبغه من ثوبه، فإن رضي الغاصب بذلك.. فلا كلام، وإن امتنع الغاصب.. فهل يجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن خيران، وأبي إسحاق ـ: أنه يجبر، كما لو غصب أرضاً، وغرس فيها.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا ـ: أنه لا يجبر الغاصب، لأن الصبغ يهلك بالاستخراج، بخلاف النخل، مع أن الثوب لا يعود كما كان قبل الصباغ، بخلاف الأرض، ولأن الغراس لم يستقر ضرره؛ لأن عروقه وأغصانه تزيد، بخلاف الصبغ.
الخامسة: إذا بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، ليتملكه مع الثوب، فإن رضي الغاصب بذلك.. جاز، وإن امتنع الغاصب، بل أراد القلع.. لم يجبر الغاصب على قبول القيمة.
وقال أبو حنيفة: (صاحب الثوب بالخيار: بين أن يعطيه قيمة الصبغ، ويأخذه مع الثوب، ويجبر الغاصب على قبوله، وبين أن يسلم الثوب إلى الغاصب، ويطالبه بقيمته) ، بناء على أصله: إذا جنى الغاصب على العين المغصوبة جناية أذهب بها منفعتها المقصودة، وقد مضى ذلك.
السادسة: إذا أراد الغاصب البيع، وامتنع صاحب الثوب.. فهل يجبر على البيع؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجبر؛ ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه.(7/55)
السابعة: إذا وهب الغاصب الصبغ من مالك الثوب.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر؛ لأن الصبغ متصل بماله، فأجبر على قبوله، كالسمن في الجارية.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبوله، كالأعيان المنفردة.
الحالة الثانية: أن تزيد القيمة، بأن صار الثوب يساوي بعد الصبغ ثلاثين:
قال ابن الصباغ: فإن كانت تلك الزيادة لزيادة سعر السوق في الثياب.. كانت الزيادة لصاحب الثوب، وإن كانت الزيادة بسعر السوق في الصبغ.. كانت للغاصب، وإن كانت بالعمل.. كانت بينهما؛ لأن مالهما زاد بعمل الغاصب، وكل زيادة حصلت في المغصوب بأثر من الغاصب.. فإنها تكون ملكاً للمغصوب منه.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الزيادة بينهما نصفين، من غير تفصيل.
فعلى هذا: يكون فيه المسائل السبعة التي ذكرناها، إلا أن هاهنا إن اختار الغاصب قلع صبغه.. فله قلعه بشرط أن يضمن لصاحب الثوب ما نقص عن قيمة الثوب في هذه الحالة، وهو خمسة عشر؛ لأن الثوب زاد في ملك صاحبه، فصار مالكاً له ولزيادته، فيلزم الغاصب ما نقص من قيمته في هذه الحالة.
الحالة الثالثة: أن تنقص القيمة، قال ابن الصباغ: فينظر:
فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كان ذلك من قيمة الثوب، وإن كان لنقصان قيمة الصبغ، أو كان لأجل الصبغ.. كان على صاحب الصبغ أرش ما نقص من قيمة الثوب؛ لأنه تعدى بالصبغ؛ لأن الصبغ يتبدد في الثوب.(7/56)
وإن كان الصبغ لم يتبدد في الثوب، وكان النقصان منه، فإن كان النقص ببعض قيمة الصبغ، بأن صار الثوب وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر.. فإن الغاصب يصير شريكاً بالثلث، وفيه المسائل التي ذكرناها. وإن نقص جميع قيمة الصبغ حتى صار الثوب وهو مصبوغ يساوي عشرة.. فإن الشافعي قال: (يقال للغاصب هاهنا: عين مالك قد استهلك، فإن شئت تركته، ولا شيء عليك ولا لك، فلا شيء عليه؛ لأن قيمة الثوب لم تنقص، ولا شيء له؛ لأن عين ماله قد استهلك، وإن اخترت أن تقلعه على أن عليك ما نقص الثوب عن العشرة.. كان لك ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء إذا طالب المغصوب منه الغاصب بقلع الصبغ.. لزمه على أحد الوجهين، ولا يجيء هاهنا دفع قيمة الصبغ، ولا هبة الصبغ؛ لأنه لا قيمة له، ولا يستحق الغاصب شيئاً من الثوب؛ لأن صبغه قد تلف، فإن صارت قيمة الثوب ثمانية دراهم.. قال الشيخ أبو حامد: قيل للغاصب: قد استهلك عين مالك، ونقص قيمة الثوب بفعلك، فأنت بالخيار: بين أن تترك الثوب مصبوغاً، وعليك ما نقص من قيمته، وهو درهمان، أو تقلع الصبغ، وعليك ضمان ما ينقص من قيمة الثوب؛ لأن الصبغ عين ماله.
[فرع: غصب ثوباً وصبغه بصبغ مغصوب]
] : وإن غصب من رجل ثوباً، ومن آخر صبغاً، وصبغ به الثوب.. نظرت:
فإن كانت القيمتان بحالهما.. كان شريكين في ذلك.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا قلنا: إن الصبغ إذا كان للغاصب، أجبرناه على قلعه.. أن يكون هاهنا لصاحب الثوب قلعه، وما ينقص يكون على الغاصب.
وإن كانت القيمة قد زادت.. كانت الزيادة بينهما، وإن نقصت، فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كانت على صاحب الثوب، وإن كان للعمل.. كانت من صاحب الصبغ، ويرجع على الغاصب بها؛ لأن الصبغ يتبدد، والثوب بحاله.(7/57)
[مسألة: غصب خشبة وبنى عليها]
] : إذا غصب ساجة، أو خشبة، فبنى عليها، فإن عفنت الساجة، أو الخشبة.. لم يلزمه ردها؛ لأنها صارت كالمستهلكة، ويرد قيمتها؛ لأنه لما تعذر ردها.. وجبت عليه قيمتها، كما لو أتلفها، وإن كانت باقية.. لزم الغاصب قلعها وردها على مالكها، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ردها إذا كانت مغيبة في البناء) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذ أحدكم مال أخيه جاداً، ولا لاعباً، ومن أخذ عصا أخيه.. فليردها» . فنص على العصا؛ لينبه بها على ما سواها.
ولأنها عين مغصوبة يمكن ردها، فوجب ردها، كما لو لم يبن عليها.
[فرع: غصب خيطاً وخاط به]
] : وإن غصب منه خيطاً، فخاط به.. نظرت:
فإن بلي الخيط.. لم يلزمه رده؛ لأنه صار كالمستهلك، وتجب قيمته.
وإن كان باقياً.. نظرت:
فإن كان قد خاط به الثوب.. فتقت الخياطة، ورد عليه الخيط؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن كان قد نقص.. لزمه أرش النقص.
وإن خاط به جرح حيوان، فإن كان لا حرمة له، كالكلب العقور والخنزير والمرتد.. نزع الخيط وإن خيف على الحيوان الهلاك؛ لأن أكثر ما في نزعه تلف الحيوان، وقد ورد الشرع بإتلافه، وإن كان الحيوان له حرمة.. نظرت:(7/58)
فإن كان لا يؤكل لحمه، كالعبيد، والبغال، والحمير، فإن كان يخاف عليه التلف بقلع الخيط.. لم يقلع؛ لأن للحيوان حرمتين: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، ولهذا لو احتاج إلى أخذ هذا الخيط ليخيط به جرحه، أو جرح حيوان له من بغل أو حمار، ولم يكن في ملكه.. كان له أخذه بغير إذن مالكه، فإذا خاط به.. لم يلزمه نزعه، ويجب عليه قيمته. وإن كان يخاف من نزع الخيط الزيادة في العلة، وإبطاء البرء، وحدوث الشين.. فهل هو كخوف التلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجريح إذا خاف ذلك من استعمال الماء.
وإن كان لا يخاف من نزع الخيط التلف، ولا إبطاء البرء.. وجب نزع الخيط؛ لأنه مقدور على رده من غير ضرر.
وإن كان قد خاط به جرح حيوان يؤكل لحمه، فإن لم يخف التلف من نزعه.. وجب نزعه، وإن كان يخاف التلف من نزعه.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب نزعه؛ لأنه يجوز ذبحه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن له حرمة بنفسه، وقد: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذبح الحيوان لغير مأكلة» .
فإن مات الحيوان الذي خيف من نزع الخيط منه التلف.. فهل يقلع؟(7/59)
قال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان غير الآدمي.. قلع، وإن كان آدمياً.. ففيه وجهان.
[مسألة: غصب لوحاً وأدخله سفينة]
] : وإن غصب لوحاً، وأدخله في سفينة، فإن كانت السفينة في الجفاف، أو في موضع من البحر بقرب الشط.. قدمت إلى الشط، وقلع اللوح، ورد على صاحبه؛ لأنه يمكن رده على مالكه بغير ضرورة. وإن كانت السفينة في لجة البحر.. نظرت:
فإن كان اللوح في أعلى السفينة بحيث لا يخاف الغرق في قلعه.. وجب قلعه.
وإن كان في أسفلها بحيث إذا قلع خيف الغرق.. نظرت:
فإن كان في السفينة حيوان له حرمة: آدمي، أو غير آدمي.. لم يجز قلعه، سواء كان للغاصب أو لغيره؛ لأن الحيوان إن كان لغير الغاصب.. فله حرمتان: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، وإن كان الحيوان للغاصب.. فله حرمة لله تعالى، فلا يجوز هتكها.
وإن كان فيها مال غير الحيوان، فإن كان لغير الغاصب.. لم يجز قلعه لحرمة مالكه، وإن لم يكن فيها إلا مال الغاصب، أو لم يكن فيها مال، إلا أنه يخاف على السفينة أن تغرق إذا قلع اللوح.. فهل يقلع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقلع، كما يقلع البناء لرد الساجة، والخشبة.
والثاني: لا يقلع، وهو الأصح؛ لأنه يمكن رده مع سلامة مال الغاصب، وهو إذا دخلت الشط، بخلاف الساجة والبناء.
وكل موضع قلنا: لا يجب قلعه.. فللمالك أن يطالب بقيمة اللوح إلى أن يأخذ لوحه، كما قلنا فيمن غصب عبداً، وأبق منه فإذا قلع اللوح، وسلم إلى مالكه.. رد ما أخذه من قيمته.(7/60)
وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب، ولم تتميز.. ففيه وجهان، حكاهما في (المهذب) :
أحدهما: يقلع جميع السفن، كما يقلع جميع السفينة.
والثاني: لا يقلع؛ لأنه إتلاف ما لم يتعين فيه التعدي.
[مسألة: غصب جوهرة فابتلعتها بهيمته]
] : إذا غصب جوهرة، فابتلعتها بهيمة له، فإن كانت بهيمة لا تؤكل.. لم يجز شق بطنها لإخراج الجوهرة؛ لأن قتلها لا يجوز، ويلزم الغاصب قيمة الجوهرة، فإن خرجت الجوهرة من البهيمة.. وجب ردها إلى مالكها، وأرش نقصها إن نقصت بالابتلاع، ووجب على المغصوب منه رد ما أخذ من القيمة، وإن كانت لمثلها أجرة.. فهل تجب أجرتها له من حين أخذ القيمة إلى أن رجعت إليه الجوهرة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن غصب عبداً، فأبق منه.
وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها، ورد الجوهرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الخيط إذا خيط به جرح حيوان مأكول اللحم وخيف من نزعه تلف الحيوان.
[فرع: إتلاف بهيمته مال غيره]
] : وإن كانت له بهيمة، فأتلفت مالاً لغيره، فإن لم تكن يد صاحبها عليها.. لم يجب على مالكها الضمان؛ لأن مالك البهيمة لا يلزمه حفظها نهاراً، فلا يلزمه ضمان ما أتلفته، وإن أتلفت شيئاً وهي تحت يد إما سائقها، أو قائدها، أو راكبها.. لزمه ضمان ما أتلفت؛ لأنها إذا كانت تحت يده.. كانت جنايتها كجنايته، فإن أتلفته بيدها، أو رجلها، أو نابها.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له(7/61)
مثل، وإن ابتلعته، فإن كان مما يتلف بالابتلاع، كالطعام.. كان كما لو أتلفته بيدها، أو رجلها، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالجواهر، واللؤلؤ.. فهو كما لو غصب جوهرة، وابتلعتها بهيمة على ما مضى.
[فرع: ابتاع شاة فأكلت ثمنها]
] : فأما إذا ابتاع شاة بثمن، فأكلت الشاة ثمنها.. لم يخل: إما أن يكون الثمن معيناً، أو غير معين.
فإن كان معيناً.. نظرت:
فإن أكلته قبل أن يقبضه البائع.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا تلف قبل القبض.. بطل البيع، فإن كانت يد المبتاع على الشاة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. لم يرجع المبتاع ببدل ثمنه على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. لزمه ضمان ذلك للمبتاع، فإن كان مما يتلف بالابتلاع.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالدراهم، والدنانير، فإن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. لم يجز شق بطنها، بل يجب عليه ضمانه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يجب ذبحها لإخراجه؟ على القولين.
وإن كان ذلك بعد قبض الثمن.. لم يبطل البيع، بل يكون الثمن على ملك البائع، والبهيمة على ملك المشتري، فإن كانت يد البائع على البهيمة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. فلا شيء له، وإن كانت يد المشتري عليها حين الأكل.. وجب عليه ضمان الثمن، والكلام في الضمان على ما مضى.
وإن كان الثمن غير معين، بأن اشتراها بثمن في ذمته، ثم عزل المشتري مثل الثمن من ماله ليسلمه إلى البائع، فأكلته البهيمة.. فإن البيع لا يبطل بذلك، ويكون الثمن تالفاً على ملك المشتري، فإن كانت البهيمة في يد المشتري، حين الأكل، أو لا يد لأحد عليها.. فلا يرجع على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. وجب عليه ضمانه؛ لأن من يده على بهيمة.. يجب عليه ضمان ما أتلفته وإن لم تكن ملكاً له، كمن استعار بهيمة، أو غصبها، أو استأجرها.(7/62)
[فرع: إدخال البهيمة رأسها في قدر وتعسر إخراجه]
] : وإن أدخلت بهيمة رأسها في قدر باقلائي، ولم يمكن إخراج رأسها إلا بكسر القدر، أو بذبح البهيمة، فإن كانت يد صاحب البهيمة عليها حين أدخلت رأسها.. لزمه الضمان؛ لأنه كان يلزمه حفظها.
فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. كسر القدر، ولزمه ما نقص من قيمته؛ لأنه كسر لتخليص ملكه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يكسر القدر، أو تذبح البهيمة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في البهيمة المأكولة إذا خيط جرحها بخيط مغصوب.
وإن لم تكن يد صاحبها عليها.. نظرت:
فإن فرط صاحب القدر، بأن ترك قدره على الطريق، فجاءت البهيمة، ولا يد لأحد عليها، فأدخلت رأسها فيه.. لم يكن على مالك البهيمة الضمان؛ لأن مالك القدر فرط.
فعلى هذا: يكسر القدر، ويخرج رأس البهيمة، ولا شيء على مالك البهيمة.
وإن لم يفرط صاحب القدر، بأن كان القدر محرزاً في دكانه، أو داره، فجاءت البهيمة، فأدخلت رأسها فيه.. كسر القدر لإخراج رأس البهيمة، ووجب على مالك البهيمة ما نقص من قيمته؛ لأن ذلك فعل لتخليص ملكه.(7/63)
[فرع: أدخل فصيلاً غصبه إلى داره فكبر]
] : إذا غصب من رجل فصيلاً، وأدخله الغاصب إلى داره، فكبر، ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الباب.. هدم الباب، وأخرج الفصيل، ولا شيء على مالك الفصيل؛ لأن التفريط حصل من الغاصب.
وإن أدخله صاحب الفصيل إلى دار غيره، أو انفلت الفصيل بنفسه، ودخل الدار.. نقض الباب، وأخرج الفصيل، ووجب على مالك الفصيل ما يلزم على إصلاحه من المؤنة؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه، وكذلك لو اشترى من رجل داراً، وله فيها مال لا يمكن إخراجه إلا بنقض الباب، كالصندوق الكبير، والحب الكبير.. هدم الباب لإخراج ذلك، ووجب على البائع إصلاح الباب كما كان؛ لأن الهدم حصل لتخليص ملكه.
[فرع: طرح ديناراً غصبه في محبرته]
] : وإن غصب من رجل ديناراً، وطرحه الغاصب في محبرته، ولم يمكن إخراجه إلا بكسر المحبرة.. كسرت المحبرة، ورد الدينار، ولا يجب ضمان المحبرة؛ لأن التفريط جاء من مالكها.
إن طرح مالك الدينار ديناره في محبرة غيره، أو وقع الدينار فيها من طاق، أو غيره بغير تفريط من أحدهما.. كسرت المحبرة، وأخرج الدينار، ووجب على مالك الدينار ما نقصت بالكسر؛ لأنها كسرت لتخليص ملكه. وإن رضي مالك الدينار بترك ديناره فيها.. فلا كلام. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا ضمن صاحب المحبرة بدل(7/64)
الدينار إذا لم يغصب الدينار.. أن لا يجب كسر محبرته؛ لأنه قد زال الضرر عن مالك الدينار، وصاحب المحبرة غير مفرط في ذلك.
[فرع: أسند خشبه على جدار فسقط]
] : قال ابن القاص: لو أن رجلاً كان يحمل خشباً، فاستراح إلى جدار، فأسنده، فوقع على إنسان، أو شيء، فأتلفه، فإن كان الجدار لغيره، فأسنده إليه بغير إذنه.. ضمن الجدار وما يسقط عليه، وإن كان الجدار له، فإن سقط في حال وضعه.. ضمن ما يسقط عليه، وإن لم يسقط في الحال، وإنما سقط بعد ساعة.. فلا ضمان عليه.
قال أصحابنا: هذا صحيح، إذا كان الجدار لغيره فأسند إليه بغير إذنه.. فيجب عليه ضمان ما وقع عليه، سواء وقع في الحال أو بعد ساعة؛ لأنه متعد بذلك، وإن كان الجدار له، وسقط في الحال.. ضمن ما وقع عليه، كما لو رمى حجراً، فأتلف بها إنساناً، أو مالاً لغيره، وإن وقف، ثم سقط.. فلا يضمن ما سقط عليه؛ لأنه غير متعد، كما لو حفر في ملكه بئراً، فوقع فيها إنسان.
قال أبو علي السنجي: إلا إن مال الجدار إلى هواء الشارع بوضع الخشب، فوقف مائلاً، ثم سقط على إنسان، أو مال.. فيجب عليه ضمانه؛ لأنه إذا مال إلى هواء الشارع.. لزمه إزالته عن هواء الشارع، فإذا لم يفعل.. صار متعدياً، فضمن ما وقع عليه.
[فرع: احتكت راحلته بجدار فسقط]
، وحفر بئر في الحرم] : قال الطبري: فإن كان رجل يحمل حطباً على حمار، فاحتك الحمار بجدار رجل، فأسقطه.. كان على سائق الحمار الضمان؛ لأن عليه أن يحفظه من إتلاف مال الغير.
وهكذا: لو تعلقت خشبة منه بثوب رجل على الطريق، فخرقته، فإن كان صاحب(7/65)
الثوب لما تعلقت به الخشبة وقف، ولم يجذب ثوبه.. وجب الضمان على سائق الحمار؛ لأن التلف حصل منه، وإن لم يقف صاحب الثوب، بل مشى، وجبذ ثوبه، فانخرق الثوب بمشيه، وبمشي الحمار.. وجب على سائق الحمار ضمان نصف الأرش، وسقط النصف؛ لأنه انخرق بفعلهما.
قال ابن القاص: إذا حفر في ملكه بئراً في الحرم، فهلك بها إنسان.. لم يضمنه، وإن هلك بها صيد.. فحكى الربيع عن الشافعي: (أنه يضمنه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من سلم له ذلك؛ لأن حرمة الحرم باقية في ملكه، فجاز له التصرف فيه بشرط السلامة، كما لو نصب شبكة، أو رمى سهماً في ملكه في الحرم، فقتل به صيداً.. فإنه يجب عليه ضمانه.
ومنهم من قال: لا يضمن الصيد؛ لأن كل ما لا يضمن به الآدمي ومال الغير.. لم يضمن به الصيد، كما لو حفر بئراً في ملكه في غير الحرم. وأولوا نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على: أنه اضطر الصيد إلى الوقوع في البئر.
قال الشيخ أبو زيد: ولعله أجاب على قول من يقول: الحرم لا يملك، فكأنه حفر في أرض غيره.
[فرع: دخل داراً بغير إذن مالكها فإنه يضمن ما فيها]
] : قال ابن الصباغ: إذا دخل دار غيره بغير إذنه، فإن كان صاحبها فيها.. لم يضمنها؛ لأن يد صاحبها عليها، فلم تثبت يد الدخل عليها، وإن كان صاحبها ليس هو فيها.. ضمنها، وكذلك: إذا دخل داراً يظنها داره، وهي لغيره، ولم يكن صاحبها فيها.. ضمنها؛ لأن يده تثبت عليها.
وإن غصب داراً، وفيها أمتعة.. فهل يكون غاصباً للأمتعة قبل نقلها؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن:
أحدهما: أنه لا يكون غاصباً لها؛ لأن ما ينقل لا يضمن إلا بالنقل.(7/66)
والثاني: يكون غاصباً لها تبعاً للدار.
وإن رأى دابة واقفة، وليس معها صاحبها، فركبها، ولم تمش به.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : لا أعرف فيها شيئاً لأصحابنا، وعندي: أنه لا يضمنها؛ لأنا نعتبر الغصب بالقبض في العقود، ولا يصير قابضاً للدابة حتى ينقلها، فإذا نقلها من موضعها.. ضمنها.
[فرع: غصب فحلاً وأنزاه على بهائمه]
] : وإن غصب من رجل فحلاً، فأنزاه على بهائمه، فنتجت.. فإن الأولاد تكون ملكاً للغاصب؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، كما نقول فيمن زوج أمته، فأولدت، ويلزمه أن يرد الفحل، فإن نقص منه شيء بالإنزاء.. لزمه ضمانه؛ لأنه نقص بعدوانه، وأما الأجرة: فإن قلنا: يجوز استئجار الفحل للضراب.. لزمه أجرته، وإن قلنا: لا يجوز، وهو الصحيح.. لم يلزمه.
وإن غصب غنماً إناثاً، فأنزى عليها فحله، فنتجت.. فإن الولد يكون ملكاً للمغصوب منه؛ لأن الولد تابع للأم في الملك، فإن نقصت قيمتها بالولادة.. لزمه ضمان ذلك، فإن أخذ منها لبناً، أو صوفاً.. قال الشافعي: (ضمن اللبن بمثله، والصوف بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) . فقال ابن الصباغ: الصوف له مثل. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان للصوف نوع معلوم.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له نوع، ولا مثل له.. فيضمنه بقيمته. قال: والصحيح: أنه لا مثل له.
[مسألة: غصب جارية فوطئها]
] : وإن غصب من رجل جارية، فوطئها، فلا يخلو: إما أن يكون الغاصب والجارية جاهلين بالتحريم، أو عالمين بالتحريم، أو أحدهما عالم والآخر جاهل.(7/67)
فإن كانا جاهلين بتحريم الوطء، بأن يكونا قريبي العهد بالإسلام، أو متربيين ببادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليهما الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» .
ويجب على الغاصب مهر المثل؛ لأنه وطء سقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر، كوطء الشبهة، فإن كانت بكراً.. وجب عليه مع المهر أرش الافتضاض؛ لأنه بدل جزء منها، فلزمه ضمانه، وإن حبلت من هذا الوطء.. كان الولد حراً؛ لأنه ولد عن وطء شبهة، ويجب على الغاصب قيمته يوم الولادة؛ لأنه حالت الحيلولة بينه، وبين سيد الأمة، ولأنه لا يمكن تقويمه قبل ذلك، فإن خرج هذا الولد ميتاً.. لم يجب على الغاصب قيمته؛ لأنه لم يعلم حياته قبل ذلك، ولأن القيمة إنما وجبت؛ لأنه حال بين الولد وسيد الأمة، ولا حيلولة هاهنا، فإن ضرب أجنبي بطن هذه الجارية، فألقت ولداً ميتاً.. وجب عليه غرة عبد أو أمة؛ لأنه جنين حر؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وتكون هذه الغرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه.
قال الشيخ أبو حامد: يجب لولي الأمة عشر قيمة الأمة؛ لأن هذا الجنين لو كان مملوكاً.. كان مضموناً بعشر قيمة أمه.
فعلى هذا: ينظر في الغرة التي أخذت من الجاني، فإن كانت مثل عشر قيمة الأمة.. أخذها مالك الأمة، وقد استوفى حقه، وإن كان عشر قيمة الأم أقل من الغرة.. أخذ السيد منها عشر قيمة الأمة، والباقي منها للأب، وهو الغاصب، وإن كان عشر قيمة الأمة أكثر من الغرة.. كان على الغاصب تمام عشر قيمة الأمة؛ لأنه هو الذي أتلفه على السيد باعتقاده.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 312] ، والطبري في (العدة) : يجب للسيد على(7/68)
الغاصب أكثر الأمرين من الغرة أو عشر قيمة الأمة؛ لأنه بدل الجنين.
وإن ضربها الغاصب، فألقت الجنين من ضربه.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه لمالك الجارية عشر قيمة الأمة، وعلى قياس ما قاله المسعودي: يجب عليه أكثر الأمرين من عشر قيمة الأمة أو نصف عشر ديته.
وأما إذا كانا عالمين بالتحريم، ولم يكرهها على الوطء. فهما زانيان، فيجب عليهما الحد، والمنصوص: (أنه لا مهر لها) ، ومن أصحابنا من قال: يجب المهر؛ لأنه حق للسيد، فلا يسقط ببذل الأمة. والأول أصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، وهي الزانية.
وإن كانت بكراً.. وجب عليه أرش البكارة ونقصان الولادة، لأنها نقصت بسبب منه، فإن حبلت.. كان الولد مملوكاً، ولا يلحقه نسبه، فإن خرج حياً.. أخذه السيد، وإن خرج ميتاً.. فنقل المزني: (أنه يجب عليه قيمته) .
وقال أبو إسحاق: لا يجب عليه شيء، كما لو كان حراً، وانفصل ميتاً. وتأول ما نقله المزني على: أنه خرج حياً، ثم مات.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه قيمته؛ لأنه مملوك، وقد ثبتت يد الغاصب عليه بثبوتها على الأم، ويفارق إذا كان حراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد.
وإن ضرب ضارب بطنها، فألقته ميتاً.. وجب عليه عشر قيمة أمه، وللسيد أن يرجع بها على من شاء من الضارب، أو الغاصب، فإن رجع بها على الغاصب ... رجع بها الغاصب على الضارب؛ لأن الضمان استقر عليه، وإن رجع بها على الضارب.. لم يرجع بها الضارب على الغاصب.
وإن كان الغاصب جاهلاً، والأمة عالمة بتحريم الوطء.. وجب الحد عليها دونه، وكان الولد حراً، ولحقه نسبه، وهل يجب المهر؟ إن أكرهها.. وجب، وإن لم يكرهها.. فعلى الوجهين، الصحيح: لا يجب.
وإن كان الغاصب عالماً بالتحريم، وهي جاهلة.. وجب عليه الحد دونها، ووجب عليه المهر، وكان الولد مملوكاً.(7/69)
وإن ردها الغاصب وهي حامل، فماتت في يد سيدها من الحمل.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري:
أحدهما: يجب عليه قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب منه.
والثاني: لا يجب؛ لأنها ماتت بمرض حادث، وهو الطلق، فهو كما لو غصبها حبلى، وردها حبلى.
وإن كانت في يد رجل جارية، فأولدها، فجاء آخر، وادعاها، وأقام عليها بينة. قضي له بها، وكان عليه ردها، وأجرة مثلها، وأرش نقصانها بالولادة، ولا يلزمه الحد.
قال الطبري: ولا يكون الولد رقيقاً، ولكن يلزم الواطئ المهر وقيمة الولد؛ لأن البينة توجب أن تكون اليد عليها للمدعي، ولا يمنع أن يكون الملك عليها للمدعى عليه في الباطن، فلم يحكم برق الولد بالشك.
[فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري]
] : وإن غصب رجل جارية، ثم باعها من آخر، وقبضها، ووطئها المشتري.. فالبيع باطل. قال ابن الصباغ: وحكى القاضي أبو حامد: أن الشافعي قال في موضع: (يكون البيع موقوفاً على إذن المغصوب منه) . ورجع عنه.
إذا ثبت هذا: فإن المشتري إذا وطئها، وحبلت عنده، وولدت من وطئه، ثم ماتت.. فالحكم في وطئه حكم وطء الغاصب، على ما مضى، إلا أن الغاصب إذا وطئ، وادعى أنه جاهل بالتحريم.. فإنه لا يقبل منه إلا بالشروط التي ذكرناها، وهاهنا المشتري إذا ادعى الجهل بالتحريم.. قبل منه؛ لأنه يعتقد أن الغاصب باع ملكه، وأنه يطأ ملك نفسه، إلا إن علم أنها مغصوبة، وأن وطأها حرام فلا شبهة له مع ذلك.
وكل ما وجب على الغاصب قبل تسليمه الجارية إلى المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص.. يطالب به المالك الغاصب، ولا يطالب به المشتري؛ لأن ذلك وجب(7/70)
على الغاصب دون المشتري، وكل ما وجب على المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص، وقيمة ولد، وقيمة العين إن تلفت.. فالمغصوب منه بالخيار: بين أن يطالب المشتري بذلك؛ لأن يده ثبتت عليه، وبين أن يطالب به الغاصب؛ لأنه هو السبب لثبوت يد المشتري عليها، فإن كان المشتري عالماً بأن الجارية مغصوبة.. لم يرجع بما ضمنه للمغصوب منه على الغاصب، ويرجع الغاصب بما ضمنه للمغصوب منه من ذلك على المشتري؛ لأن المشتري غاصب في الحقيقة، إلا أنه يرجع بالثمن الذي دفعه بكل حال؛ لأن الشراء لم يصح، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، واختار المالك تضمين المشتري.. فهل يرجع المشتري بما ضمنه على الغاصب؟ ينظر فيما ضمنه:
فإن التزم ضمانه بالثمن، كقيمة الجارية، وبدل أجزائها إن تلفت، وأرش بكارتها.. فإنه لا يرجع بها المشتري على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل مع الغاصب على أن تكون مضمونة عليه بالثمن، فإذا ضمنها.. لم يرجع بها على غيره.
وإن لم يلتزم ضمانه بالثمن، نظرت:
فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة، بأن ولدت ولداً منه، فلزمه قيمته، أو ولدت ولداً مملوكاً، فمات في يده، أو سمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت صنعة معه، ثم نسيتها، فغرمه المالك ذلك.. فللمشتري أن يرجع بذلك على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه لم يلتزم ضمان ذلك في البيع، ولا حصل له في مقابلته منفعة.
وإن حصل له في مقابلته منفعة، كالمهر، والأجرة.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه؛ لأنه غره، ودخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه؛ لأنه حصل له في مقابلته منفعة) .
وإن اختار السيد أن يرجع على الغاصب بذلك.. فهل للغاصب أن يرجع به على المشتري؟ فكل ما لا يرجع به المشتري على الغاصب.. فللغاصب أن يرجع به على(7/71)
المشتري إذا ضمنه، وكل ما يرجع به المشتري على الغاصب.. لا يرجع به الغاصب على المشتري.
فعلى هذا: للغاصب أن يرجع على المشتري بقيمة الجارية، وبدل أجزائها، وأرش بكارتها، قولاً واحداً، وليس له أن يرجع عليه بقيمة الولد ونقصان ما حدث في يد المشتري من السمن والصنعة، قولاً واحداً، وهل له أن يرجع عليه بالمهر وبأجرة المنفعة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قوله في القديم: (لا يرجع عليه) .
و [الثاني] : قوله في الجديد: (يرجع عليه) .
[فرع: حدوث عيب بمغصوب عند مشتريه]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن غصب ثوباً، وباعه من آخر، وحدث به عيب عند المشتري.. فإن المالك يأخذ ثوبه، ويرجع بأرش العيب على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع به المشتري على البائع؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه بأجزائه، وإذا ضمن أجزاءه.. لم يرجع به على أحد، وإن رجع به على الغاصب.. رجع به الغاصب على المشتري؛ لما ذكرناه.
[فرع: باع جارية مغصوبة فوطئها المشتري مراراً]
ً] : وإن غصب جارية، وباعها من رجل، ووطئها المشتري مراراً، وهي مكرهة، أو جاهلة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\311] : فإن علم بعدما وطئها أنها مغصوبة، ثم عاد إلى وطئها.. لزمه بكل وطء مهر، وإن لم يعلم.. ففيه وجهان:
الأصح: أنه يجب مهر واحد؛ لأن الشبهة واحدة.
والثاني: يجب لكل وطء مهر.(7/72)
[فرع: باع داراً مغصوبة فهدمها المشتري وبناها]
] : وإن غصب داراً، فباعها الغاصب من آخر فنقضها المشتري، وبناها بآلة أخرى.. فللمالك أن يطالب المشتري بنقض بنائه؛ لأن العرصة ملك له، ويجب على المشتري للمالك أرش ما نقصت قيمتها بالنقض، وهو أن تقوم الدار قبل النقض، ثم تقوم العرصة والآلة إن كانت باقية، ويرجع عليه بما بينهما من القيمة. وأما الأجرة: فإنه يطالبه بأجرة مثل داره من حين حصلت في يده إلى أن نقضت، ويطالبه بأجرة العرصة بعد النقض؛ لأن البناء الثاني للمشتري، ولا يطالبه بأجرته، وأما ما يرجع المشتري به على الغاصب إذا لم يعلم بالغصب.. فإنه لا يرجع عليه بأرش النقض؛ لأنه حصل بفعله، وهل يرجع عليه بالأجرة؟ على القولين.
قال الشافعي: (ويرجع بأرش ما نقض من بنيانه الجديد؛ لأنه لم يحصل له في مقابلته عوض، فيرجع به كقيمة الولد) .
[فرع: غصب عيناً وأجرها أو أودعها أو وكل ببيعها فتلفت]
] : وإن غصب عيناً، وأجرها من غيره، وتلفت عنده، ولم يعلم المستأجر أنها مغصوبة.. فللمالك أن يرجع بقيمتها، وأجرتها من حين حصلت في يد المستأجر على أيهما شاء، كما قلنا في التي قبلها، فإن رجع على المستأجر بالأجرة.. لم يرجع بها المستأجر على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة بالعوض، وإن رجع عليه المالك بقيمتها.. كان للمستأجر أن يرجع بها على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل معه في العقد على أن لا يضمن العين، ولا حصل له في مقابلة ما غرم منفعة.
وإن أودع الغاصب العين المغصوبة، أو دفعها إلى آخر ليبيعها له، فأقامها في يده مدة، وتلفت عنده، ولم يعلم أنها مغصوبة.. فللمغصوب منه أن يرجع على المودع(7/73)
والوكيل بأجرتها وقيمتها. هكذا ذكره ابن الصباغ. ويحتمل وجها آخر: أنه لا يرجع عليهما، ولا على المستأجر؛ لأنهم دخلوا على الأمانة، فإذا رجع على المودع، والوكيل.. فلهما أن يرجعا على الغاصب بذلك؛ لأنهما دخلا على أن [لا] يضمنا ذلك، ولا حصل لهما منفعة عما ضمنا.
[فرع: غصب شاة فذبحها]
وإن غصب شاة، فاستدعى قصابا، فذبحها بأجرة، أو بغير أجرة.. فإن المالك يأخذ شاته مذبوحة وما بين قيمتيها مذبوحة وحية، وله أن يطالب بذلك من شاء من الذابح، أو الغاصب، فإن ضمن الغاصب.. لم يرجع الغاصب على الذابح؛ لأن الذابح لم يذبح لنفسه، وإنما ذبحها للغاصب، وإن ضمن المالك الذابح.. رجع الذابح على الغاصب؛ لأن الذبح كان له. هكذا قال عامة أصحابنا. والذي يقتضي المذهب: أنها مفروضة في الذابح إذا لم يعلم أنها مغصوبة، فأما إذا علم أنها مغصوبة ثم ذبحها.. فإنه لا يرجع بما غرم على الغاصب، وللغاصب أن يرجع عليه بما غرم؛ لأنه غاصب في الحقيقة.
[مسألة: الاستكراه على الوطء]
] : قال الشافعي: (وإن استكره رجل حرة أو أمة، فوطئها.. وجب عليه الحد والمهر) .
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه الحد دون المهر) .
دليلنا: أن كل ما كان مضمونا بالبدل في العقد.. جاز أن يكون مضمونا بالبدل في الاستكراه والغصب، كالعين.
قال الطبري: فإن زنا بصبية لا يشتهى مثلها، أو أزال بكارتها بالإصبع. وجب عليه أرش البكارة دون المهر. وقال أبو حنيفة: (يجب المهر فيهما) .
ومن أصحابنا من قال - فيمن زنا بصغيرة لا تشتهى -: يجب المهر.(7/74)
دليلنا: أنه لم يوجد الإيلاج في الفرج، ولا العقد، فأشبه إذا ضرب على ظاهر فرجها، فأزال البكارة.
[فرع: ادعاء غصب العبد المباع]
] : وإن اشترى رجل من رجل عبداً، ثم ادعى آخر أن البائع غصب منه العبد:
فإن صدقه البائع والمشتري.. حكم ببطلان البيع، وسلم العبد إليه.
وإن صدقه البائع، وكذبه المشتري.. لم يقبل إقرار البائع في حق المشتري؛ لأن العبد قد صار ملكا له في الظاهر، وللمدعي إحلاف المشتري، فإن كان البائع قد قبض الثمن.. فليس للمشتري المطالبة به؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان لم يقبضه.. لم يكن له قبضه؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وهل يلزم البائع أن يغرم للمدعي قيمة العبد؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.
ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم، قولا واحداً؛ لأنه قد حصل للبائع عوضه، وهو الثمن.
فإن صدقه المشتري، وكذبه البائع.. لزم المشتري تسليم العبد إلى المقر له؛ لأنه أقر بما في يده، فقبل إقراره، ولا يلزم البائع رد الثمن على المشتري إن كان قد قبضه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه به؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه.
وإن كذباه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، قولاً واحد؛ لأنه لو أقر به قبل(7/75)
إقراره، وأما البائع: فإن قلنا: لو أقر به لزمه أن يغرم قيمته.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر. وإن قلنا: لا يلزمه الغرم.. لم تلزمه اليمين.
وإن كان المشتري قد أعتقه، فإن صدقه البائع والمدعي.. لم يقبل إقرارهما في رق العبد؛ لأنه قد صار حرا في الظاهر، وهكذا: لو صدقه.. العبد أيضاً.. لم يحكم برقه؛ لأن حق الحرية فيه يتعلق بها حق الله تعالى، ولهذا لو شهد شاهدان للعبد بالعتق.. سمعت شهادتهما وإن اتفق السيد والعبد على الرق.
إذا ثبت هذا: فإن للسيد أن يرجع بقيمة عبده على من شاء من البائع أو المشتري، غير أنه إن رجع على البائع.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمة عبده من حين غصبه إلى حين العتق، وإن رجع على المشتري.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمته من حين قبضه إلى أن أعتقه، ولا يرجع المشتري على البائع بما غرم؛ لأنه أتلفه، ويرجع البائع على المشتري بما غرم من قيمته من حين قبضه المشتري إلى أن أعتقه.
وإن مات العبد وفي يده مال، ولا وارث له.. كان المال للذي أقر له برقه؛ لأن قولهما لم يثبت في العتق؛ لثبوت حق الله تعالى، وأما المال: فلا حق لسواهما فيه، فقبل إقرارهما فيه، فإن أقام المدعي بينة.. حكم له برق العبد، وحكم ببطلان العتق.
[فرع: الإقرار بغصب المبيع في مدة الخيار]
] : قال ابن الصباغ: إذا باع عبدا بشرط الخيار، ثم أقر البائع في حال الخيار أنه غصبه من رجل، وصدقه المقر له، وكذبه المشتري.. حكم بصحة إقرار البائع؛ لأنه يملك الفسخ، فقبل إقراره بما يفسخ البيع.(7/76)
[فرع: ادعى بيع ما لا يملك وأنه ملكه بعد]
] : إذا باع رجل من رجل عينا، ثم ادعى البائع أنه باع ما لا يملكه، وأنه الآن ملكه، فأقام بينة بما ادعاه.. نظرت:
فإن قال البائع حين البيع: بعتك هذه العين وهي ملكي، أو أقر أنه يملك الثمن.. لم تسمع دعواه، ولا بينته؛ لأنه كذبه بإقراره السابق.
وإن قال: بعتك، وأطلق.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سمعت دعواه وبينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وغير ملكه) .
[مسألة: غصب طعاما وأطعمه آخر]
] : وإن غصب من رجل طعاماً، وأطعمه آخر.. فللمالك أن يضمن الآكل؛ لأنه أتلفه، وله أن يضمن الغاصب؛ لأنه غصبه، ولأنه هو السبب لإتلاف الآكل له. فإن ضمن المالك الآكل.. فإنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين أتلفه، وهل للآكل أن يرجع على الغاصب بما ضمنه؟
إن علم الآكل أنه مغصوب بقول الغاصب أو غيره.. لم يرجع عليه بما غرم؛ لأن إتلافه له رضا بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب.. فهل يرجع الآكل بما غرمه عليه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يرجع عليه؛ لأنه غره، وأطعمه إياه على أن لا يضمن) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الأصح؛ لأن التلف حصل بيده، فلم يرجع بما ضمنه على غيره.
فإن اختار المالك تضمين الغاصب.. فإنه يضمنه قيمة الطعام أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، وهل للغاصب أن يرجع على الآكل بقيمة الطعام من حين قبضه إلى أن أتلفه؟(7/77)
إن علم الآكل أنه مغصوب.. رجع عليه الغاصب، قولا واحداً؛ لأنه رضي بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب، فإن قال الغاصب: كله، فهو لي، أو ملكي.. لم يرجع على الآكل، قولاً واحداً؛ لأنه أقر بأن المدعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه، وإن قدمه إليه وهو ساكت.. فهل يرجع عليه؟ على القولين:
قال في القديم: (لا يرجع عليه) . وفي الجديد: (يرجع عليه) .
وإن قال ـ لما قدمه إليه ـ: وهبت لك هذا الطعام.. قال الشيخ أبو حامد: لم يرجع عليه، قولاً واحدا؛ لأن تحت قوله: وهبت لك هذا الطعام، أنه ملكه، وأنه يملكه إياه بلا عوض، وأن المدعي له ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وقال ابن الصباغ: هي على قولين، كما لو قدمه إليه، ولم يقل شيئاً.
[فرع: غصب طعاماً وأطعمه مالكه]
] : وإن غصب طعاماً، وأطعمه الغاصب المغصوب منه، فإن علم المغصوب منه أنه طعامه، ثم أكله.. برئ الغاصب من ضمانه؛ لأنه أتلف ماله، وإن لم يعلم أنه طعامه.. ففيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
أحدهما: يبرأ الغاصب من ضمانه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أتلف مال نفسه، فهو كما لو علم أنه طعامه.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنه لم يرده إليه ردا تاماً؛ لأنه يأكله على أنه لغيره.
[مسألة: غصب عينا ورهنها المالك فتلفت]
] : وإن غصب من رجل عيناً، ثم رهنها الغاصب عند المالك، أو أودعه إياها، أو أجرها منه، وتلفت عنده، فإن علم المالك أنها له قبل التلف.. برئ الغاصب من الضمان؛ لأن المالك قد رجع إليه ماله، وإن لم يعلم المالك.. ففيه قولان:(7/78)
أحدهما: يبرأ الغاصب؛ لأن العين قد رجعت إلى يد مالكها.
والثاني: لا يبرأ؛ لأنها لم ترجع إليه على أنها ملكه.
وإن باعها الغاصب من المالك.. برئ الغاصب من ضمانها، سواء علم المالك أنها له أو لم يعلم؛ لأنه قد رضي بوجوب ضمانها عليه.
وإن وهبها الغاصب من المالك، وسلمها إليه، وأتلفها، ولم يعلم أنها له، فإن قلنا: إن الغاصب يبرأ إذا قدم إليه الطعام، فأكله، ولم يعلم أنه له.. فهاهنا أولى أن يبرأ، وإن قلنا في الطعام: لا يبرأ.. فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يبرأ الغاصب؛ لأنه لا يعلم أنها له، فهو كما لو أباحها له.
والثاني: يبرأ الغاصب؛ لأنه قد سلمها إليه تسليما تاماً، بخلاف الإباحة.
[فرع: غصب عينا فرهنها المالك عنده]
] : وإن غصب عيناً، فرهنها المالك عند الغاصب، وأذن له بقبضها، فقبضها.. صارت رهناً، ولا يبرأ الغاصب من ضمانها إلا بتسليمها إلى المالك أو وكيله، وبه قال الثوري.
وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والمزني: (يزول عنه الغصب؛ لأنه أذن له في إمساكها، فزال عنه الضمان، كما لو أودعها إياه) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» . وهذا ليس بردٍّ.
ولأن الرهن لا ينافي الضمان، كما لو رهنه عينا، وتعدى بها المرتهن.
وأما الوديعة، ففيها وجهان، وإن سلمنا.. فلأنها تنافي ضمان الغصب؛ لأنه متى تعدى فيها.. خرجت عن أن تكون وديعة، بخلاف الرهن.(7/79)
[فرع: غصب عبدا فقتله سيده أو وقفه]
] : ولو قتل السيد عبده في يد الغاصب.. برئ الغاصب من ضمانه. ولو قال الغاصب للمغصوب منه: اقتله، فقتله، ولم يعلم أنه عبده.. فهل يبرأ الغاصب من ضمانه؟ فيه وجهان، وهذان الوجهان كما لو قال: اعتقه، فعتقه، ولم يعلم أنه له. ولو أبرأ الغاصب من الضمان.. فهل يبرأ؟ فيه وجهان.
وإن وقفه السيد على أمر عام، كالقناطر، والمساجد.. قال الصيمري: سقط الضمان على الغاصب للسيد، وصار الضمان للقيم.
[مسألة: حبس حرا فمات]
وإن حبس رجل حراً، ومات عنده من غير أن يمنعه الطعام والشراب.. فلا يجب عليه ضمانه، كبيراً كان أو صغيراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة، فإن استوفى الغاصب منافعه.. وجب عليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه منافعه، فهو كما لو أتلف عليه ماله، وإن لم يستوفها الغاصب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأن ما ضمن بالبدل في العقد الصحيح.. ضمن بالبدل في الغصب، كالمال.
والثاني: لا يجب عليه شيء؛ لأن منافعه تلفت تحت يده.
[فرع: غصب كلباً منتفعاً به]
] : وإن غصب كلباً فيه منفعة.. وجب عليه رده إلى مالكه؛ لأنه يجوز الانتفاع به، فإن مات.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في (الغصب) : هل تجب أجرته على الغاصب؟ فيه(7/80)
وجهان، بناء على جواز استئجاره. وذكر في (الإجارة) : أن منفعته لا تضمن بالغصب. ولم يذكر الشيخ أبو حامد إلا وجهاً واحداً: أنه لا تضمن منفعته بالغصب.
[مسألة: غصب خمراً أو خنزيرا]
] : إذا غصب من ذمي خمراً.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه ردها عليه.
وعلى قياس قوله: إذا غصب منه خنزيراً.. لزمه رده عليه؛ لأنه مقر على شرب الخمر، وأكل الخنزير.
وإن غصب الخمر من مسلم.. فهل يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ردها إليه؛ لأنه ربما أطفأ بها ناراً أو بل بها تراباً.
والثاني: لا يجب ردها إليه، بل يجب إراقتها؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة بإراقة خمر اليتامى» .
وإن تلفت الخمر عنده، أو الخنزير، أو أتلفهما.. لم يجب عليه ضمانهما، سواء كانا لمسلم أو ذمي.
وقال أبو حنيفة: (إن كانا لذمي.. وجب عليه ضمانهما، فإن أتلفهما مسلم.. وجبت عليه قيمتهما، وإن أتلفهما ذمي.. وجب عليه مثل الخمر، وقيمة الخنزير) .
دليلنا: أن كل ما لم يكن مضمونا بحق المسلم.. لم يكن مضمونا بحق الذمي، كالميتة، والدم. وعكسه: أن كل ما كان مضموناً في حق الذمي.. كان مضموناً في حق المسلم، كالثياب.(7/81)
فإن صارت الخمر عند الغاصب خلا.. لزمه رده إلى من غصبه منه؛ لأنه عاد مالاً.
[فرع: ألقى شاة ميتة فأخذ رجل جلدها]
] : وذكر الشيخ أبو حامد: إذا ماتت لرجل شاة، فطرحها على المزبلة، فأخذ رجل جلدها، ودبغه.. ملكه، وإن غصبه منه غاصب.. لزمه رده عليه، فإن دبغه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الملك للمغصوب منه، فلا يزول بالتعدي، كما لو غصب منه جرو كلب يريد تعليمه، فعلمه الغاصب.. فإن الملك فيه للمغصوب منه، وهو كما لو غصب منه خمراً، فاستحالت خلا في يد الغاصب.
والثاني: يكون ملكا للغاصب؛ لأن الملك فيه عاد بفعل الغاصب، بخلاف الخمر.
[مسألة: فصل مزماراً أو صليباً من غير كسر]
] : وإن فصل رجل مزماراً، أو صليب نصراني من غير كسر.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن تالفه لا قيمة له، فإن كسره، فإن كان يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. وجب عليه ما نقص من قيمته بالكسر؛ لأنه أتلف ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف ما لا منفعة فيه.(7/82)
[مسألة: فتح قفص طائر فهرب]
] : إذا فتح قفصا عن طائر، أو حل رباط دابة، فخرجا.. نظرت:
فإن هيجهما عقيب الفتح والحل حتى خرجا.. ضمنهما؛ لأنه ألجأهما إلى الخروج، وإن لم يهيجهما إلى الخروج، بل وقفا ساعة لم يخرجا، ثم خرجا.. لم يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجب عليه الضمان) .
دليلنا: أن الطائر والدابة لهما اختيار، بدليل: أنهما يتوقيان المكاره، وقد وجد منهما مباشرة، ومن الفاتح سبب، فتعلق الضمان بالمباشرة، كما لو حفر رجل بئراً، فطرح رجل نفسه فيها.
وإن لم يهيجهما إلى الخروج، ولا وقفا، بل خرجا عقيب الفتح.. فقد حكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا: إن كان أهاجهما الدنو منهما، أو فتح القفص، أو حل الشكال. وجب عليه الضمان، إذ لا فرق بين أن يهيجهما بنفسه، أو يحصل ذلك بفعله، وإن لم يوجد شيء من ذلك.. فلا ضمان عليه. وأكثر أصحابنا قالوا: هي على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه وجد منه سبب لا يلجئ، فهو كما لو وقفا، ثم خرجا.
والثاني: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك؛ لأن خروجه عقيب حله، فالظاهر أن الحل هو الذي ألجأه إلى الخروج، كما لو هيجه.
وإن فتح رجل باب آخر، أو هدم حائطه، فدخل آخر، فأخذ المال.. وجب الضمان على الآخذ دون الفاتح؛ لأن الفاتح صاحب سبب، والآخذ مباشر، فتعلق الضمان بالمباشر، كما لو حفر رجل بئراً وطرح فيها آخر رجلاً.(7/83)
وإن فتح رجل باب رجل، فخرجت بهائمه، وأكلت زرع رجل.. لم يجب الضمان على الفاتح؛ لما ذكرناه، وإن كان الفاتح هو المالك للبهائم.. وجب عليه الضمان؛ لأنه يجب عليه حفظ بهائمه عن زرع غيره.
[مسألة: هيج طائراً لغيره وقع على جداره]
] : وإن وقع طائر لغيره على جداره، فهيجه، فطار.. لم يضمنه؛ لأنه كان ممتنعاً قبل ذلك. وإن مر في هواء داره، فرماه، فأتلفه.. وجب عليه الضمان؛ لأنه لا يملك منعه من المرور فيه.
[مسألة: حل زقا فيه مائع فخرج]
] : فإن حل زقاً لغيره فيه مائع، أو راوية فيها ماء، فخرج المائع.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخرج عقيب الحل، فيجب عليه الضمان؛ لأن خروجه كان بفعله.
الثانية: أن لا يخرج عقيب الحل، بل وقف، إلا أنه خرج منه شيء، فابتل الموضع الذي كان مشدوداً فخرج، أو ثقل أحد جانبيه ومال، فسقط وخرج ما فيه، ضمنه؛ لأنه خرج بسراية فعله، فهو كما لو جرح حيواناً، فسرت الجراحة إلى نفسه ومات.
الثالثة: أن يكون الزق منصوباً، ولا يميل بالحل، ووقف ساعة، ثم سقط بريح، أو بتحرك إنسان أو دابة، أو بزلزلة الأرض، قال ابن الصباغ: أو لم يعلم كيف سقط وذهب ما فيه، فلا يجب على الفاتح الضمان؛ لأنه لم يوجد الخروج بفعله، ولا بسبب فعله، فهو كما لو حفر بئراً، ووقع فيها إنسان.(7/84)
وإن كان الذي في الزق جامداً، فذاب بالشمس وخرج، فإن كان الزق على صفة لو كان فيه مائع لم يخرج، بأن كان منصوباً.. فلا ضمان عليه؛ لأن الخروج لم يكن بفعله؛ وإنما كان بإذابة الشمس له، وإن كان الزق على صفة لو كان ما فيه مائعاً لخرج عقيب الحل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن خروجه كان بإذابة الشمس لا بحله.
والثاني: يضمن، وهو الصحيح؛ لأن خروجه إنما كان بفعله؛ لأن الشمس إنما أذابته، وذلك لا يوجب الخروج لولا الفتح، فهو كما لو جرح رجلاً، فأصابه الحر أو البرد، وسرت الجراحة إلى نفسه، فمات.. فإن الضمان عليه.
[فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر]
] : وإن حل زقا فيه جامد، وقرب إليه آخر ناراً، فذاب وخرج.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب على واحد منهما ضمان؛ لأن الخروج لم يحصل بالحل، ولا باشر صاحب النار الإتلاف، فهو كما لو نقب رجل حرزاً، وسرق منه آخر.. فإنه لا قطع على واحد منهما.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أن الضمان يجب على من أدنى النار؛ لأن التلف حصل به.
[فرع: فتح زقا فنكسه آخر فخرج ما فيه]
] : وإن فتح رجل زقا مستعلي الرأس فيه مائع، فخرج منه شيء، ثم جاء آخر، فنكسه حتى خرج جميع ما فيه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أن ما خرج قبل التنكيس.. يجب ضمانه على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب ضمانه عليهما نصفين؛ لأنه خرج بفعلهما.
والثاني: أن ما خرج قبل التنكيس.. على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب على الذي نكسه، كما لو جرح رجل رجلاً، وذبحه آخر.(7/85)
[مسألة: حل رباط سفينة فغرقت]
] : وإن حل رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال.. ضمنها؛ لأن غرقها حصل بفعله. فإن وقفت، ثم غرقت، فإن كان غرقها بسبب حادث، كهبوب ريح، أو ما أشبهه.. لم يضمن؛ لأنها غرقت بغير فعله، وإن غرقت من غير سبب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد حله، ثم سقط.
والثاني: يضمن؛ لأن الماء أحد المتلفات.
[مسألة: أوقد ناراً في ملكه فأحرقت دار جاره]
] : إذا أوقد في ملكه ناراً، فطارت منها شرارة إلى دار جاره، فأحرقته.. نظرت:
فإن كان بتفريط من الموقد، بأن أوقد ناراً عظيمة لا تحتملها داره في العادة، أو أوقد في يوم ريح شديد.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر من اليوم ذي الريح أن النار تطير إلى دار جاره، والظاهر ممن أوقد في ملكه شيئاً لا يحتمله ملكه أن النار تطير إلى ملك غيره.
وإن أوقد ناراً يحتملها ملكه مع سكون الريح.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط فيما صنع، فهو كما لو حفر بئراً في ملكه، فوقع فيها إنسان.
قال الطبري: وإن أوقد ناراً في ملكه في وقت سكون الريح، فهبت ريح، فأطارت شرارة منها إلى دار جاره، فأحرقتها.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط.
قال ابن الصباغ: وإن كان لجاره شجرة، فأوقد في ملك نفسه ناراً، فجفت تلك الشجرة.. ضمنها؛ لأنه مفرط في ذلك؛ لأن ذلك لا يحصل بما جرت العادة فيه من النار المستعملة.(7/86)
قال الطبري: وإن كانت أرضه متصلة بأرض جاره، وحرق أرضه، فأحرقت أرض جاره، ضمنها.
[فرع: سقى أرضه فطغى الماء على أرض جاره]
] : وإن سقى أرضه، فتعدى الماء إلى أرض جاره، فغرقها، أو أفسد زرعها.. نظرت:
فإن كان مفرطاً، بأن ساق إلى أرضه ماء كثيراً لا تحتمله أرضه، أو أرسل إليها ماء قليلاً، إلا أنه لا حاجز بين أرضه وأرض جاره.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر أن أرض جاره تغرق بذلك.
وإن كان ما ساقه من الماء تحتمله أرضه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد.
قال أصحابنا: وهكذا: لو كان في أرضه جحر فأر، فإن لم يعلم به، وقد ساق إلى أرضه من الماء ما تحتمله أرضه، فانصب الماء في الجحر إلى أرض جاره وأفسدها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بذلك.
[مسألة: ألقت الريح ثوباً في داره]
] : وإن ألقت الريح في داره ثوباً.. لزمه حفظه؛ لأنه صار أمانة في يده، فصار كاللقطة، فإن عرف صاحبه.. لزمه إعلامه، فإن لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأنه صار ممسكاً له بغير إذن صاحبه، فصار كالغاصب.
قال الصيمري: ولو أطارته الريح من داره قبل أن يعلم به.. فلا ضمان عليه، ولو علم به ولم يقبضه حتى أطارته الريح.. فأصح الوجهين: أنه لا ضمان عليه.
وإن وقع في داره طائر لغيره.. لم يلزمه إمساكه وتعريف صاحبه به؛ لأنه يتحفظ بنفسه.(7/87)
وإن دخل إلى برجه، فأغلق عليه الباب، فإن نوى إمساكه لنفسه.. ضمنه، وإن لم ينو إمساكه لنفسه.. لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في برجه.
[مسألة: نقل المغصوب إلى غير بلد صاحبه]
] : إذا غصب منه شيئاً ببلد، ونقله الغاصب إلى بلد أخرى.. كان للمغصوب منه أن يطالب الغاصب بنقله إلى البلد الذي غصبه منه فيه.
وإن غصب منه شيئاً ببلد، فلقيه المغصوب منه ببلد أخرى، فطالبه به في تلك البلد، فإن لم يكن للعين المغصوبة مؤنة في النقل، كالدراهم، والدنانير.. لزم الغاصب دفعها إليه في البلد الأخرى، وإن كان لنقله مؤنة، كالطعام، وما أشبهه، فإن كانت قيمة الطعام في البلدين سواء، أو كانت قيمته في البلد الثاني أقل.. فللمغصوب منه أن يطالبه به في البلد الثاني؛ لأنه لا ضرر على الغاصب بذلك، وإن كانت قيمته في البلد الثاني أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يرجع إلى البلد الأول؛ وبين أن يطالبه بقيمته بما يساوي في البلد الذي غصبه منه فيه؛ لأنه لا يجوز أن يلزم الغاصب أكثر مما غصبه.
قال البغداديون من أصحابنا: ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، فإذا رجعا إلى البلد الأولى.. لزم الغاصب تسليم العين إلى المغصوب منه، واسترجع ما دفع من القيمة.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 307] : هل له أن يسترد القيمة، ويدفع إليه العين؟ فيه وجهان.
[مسألة: إشهاد اثنين على الغصب]
] : إذا ادعى على رجل أنه غصب منه عيناً، وأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين يشهد أحدهما: أنه غصبها من يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه غصبها منه(7/88)
يوم الجمعة.. لم يتم الغصب بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء، ويستحق.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده: أنه غصب من فلان، وكان غصبه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه أقر عنده: أنه غصبه منه، وكان غصبه يوم الجمعة.. لم يثبت الغصب بشهادتهما، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده يوم الخميس: أنه غصب هذا الشيء من فلان، وشهد الآخر: أنه أقر عنده يوم الجمعة: أنه غصب هذا الشيء من فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فظاهر ما قال الشافعي في (الأم) [3/223] : أنه لا يحكم بشهادتهما. قال: إلا أن أصحابنا كلهم قالوا: يحكم بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بغصب واحد، وإنما اختلف تاريخ وقت الإقرار، وكلام الشافعي يرجع إلى المسألة قبلها.
[فرع: حلف بالطلاق أنه لم يغصب]
] : فإن ادعى على رجل أنه غصب منه عينا، فحلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصبها منه، فأقام المدعي شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين بما ادعاه.. ثبت الغصب، ولم يحكم بطلاق امرأته؛ لأن الغصب يثبت بالشاهد واليمين، وبالشاهد والمرأتين، والطلاق لا يثبت بذلك.
[مسألة: اتفقا على الغصب واختلفا في التلف]
] : وإن اتفقا على غصب عين، واختلفا في بقائها، فقال الغاصب: قد تلفت، وقال المغصوب منه: لم تتلف.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، وهل يستحق المغصوب [منه] بدلها؟ فيه وجهان:(7/89)
أحدهما: لا يستحق بدلها؛ لأنه لا يدعي ذلك.
والثاني: يستحق؛ لأنه لما تعذر رجوعه إلى العين بيمين الغاصب.. رجع إلى بدلها، كالعبد المغصوب إذا هرب.
[مسألة: اتفقا على التلف واختلفا في القيمة]
] : وإن اتفقا على تلف العين المغصوبة، واختلفا في قيمتها، فقال المغصوب منه: قيمتها مائة، وقال الغاصب: قيمتها خمسون، فإن أقام المغصوب منه شاهدين قد شاهدا العين المغصوبة، وقالا: قيمتها مائة.. حكم للمغصوب منه بذلك.
وإن لم يشهدا أن قيمتها مائة، ولكنهما وصفاها بصفة، فعلم أن ما كان بتلك الصفة من جنس تلك العين كانت قيمتها مائة.. لم يحكم بأن قيمتها مائة؛ لأن ذلك يختلف؛ ولأنه قد يكون بها عيب ينقص قيمتها.
وإن لم يكن مع المغصوب بينة.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والغاصب هاهنا منكر. ولأنه غارم، والأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. قال الطبري: وإنما يقبل قول الغاصب مع يمينه إذا كان ما ذكره محتملاً، فأما إذا كان ما ذكره محالاً، مثل أن يقول: قيمة الجارية التي تلفت عندي درهم، فلا يقبل قوله؛ لأنه يقطع بكذبه.
فإن أقام الغاصب بينة: أن قيمة العين كانت خمسين، فقال المغصوب منه: بل كانت قيمتها مائة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\309] : فالقول قول الغاصب في الزيادة؛ لأن الأصل عدمها.
[مسألة: الاختلاف في نقص كان في العين]
] : وإن اختلفا في نقص كان في العين المغصوبة، بأن غصب منه عبداً ومات في يده، فقال الغاصب: كان سارقاً، فقيمته عشرة، وقال المغصوب منه: لم يكن سارقاً، فقيمته عشرون.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق:(7/90)
أحدهما: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن القول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته.
وذكر ابن الصباغ: إذا قال المغصوب منه: كانت العين سليمة، وقال الغاصب: كان بها داء.. ففيه طريقان:
[الطريق الأولى] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: القول قول الغاصب.
والثاني: القول قول المغصوب منه؛ لما ذكرناه.
و [الطريق الثانية] : منهم من قال: القول قول المغصوب منه، قولاً واحداً؛ لأن الأصل سلامته.
قال ابن الصباغ: وإذا غصب منه عبداً، فكان في يد الغاصب أعور، فقال الغاصب: هكذا غصبته، وقال المغصوب منه: إنما اعورَّ عندك.. فالقول قول الغاصب؛ لأنه غارم، ولأن الظاهر أن هذه صفة العبد لم تتغير، وإن كان بعد تلف العبد.. فالقول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته، ويخالف الحي؛ لأنه قد شوهد بهذه الصفة، بخلاف الميت.
وأما المسعودي: فقال [في (الإبانة) ق\ 309] : إذا كان العبد أقطع اليد، فقال الغاصب: لم تخلق له يد، وقال المغصوب منه: بل خلقت، ولكن قطعت في يدك.. فالظاهر من المذهب: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل أنها لم تخلق له يد. وفيها قول آخر: أن القول قول المالك؛ لأن الظاهر أنها خلقت له. وإن اتفقا على: أنها خلقت له يد، ولكن قال المغصوب منه: قطعت في يدك، وقال الغاصب: غصبته وقد قطعت.. فالظاهر: أن القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم القطع. وفيه قول آخر: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.(7/91)
[فرع: الاختلاف في صفة تزيد قيمة العبد]
] : وإن قال المغصوب منه: كان العبد كاتباً، وقال الغاصب: لم يكن كاتباً.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: القول قول المغصوب منه؛ لأنه أعرف بصفة ملكه.
والثاني: القول قول الغاصب، وهو الصحيح؛ لأن الأصل عدم الكتابة.
وإن غصب منه عبداً، فقال الغاصب: رددته حياً، ومات في يدك، وقال المغصوب منه: بل مات في يدك. وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه.. تعارضت البينتان، وسقطتا، وضمن الغاصب قيمة العبد؛ لأن الأصل بقاء العبد عنده حتى يثبت رده.
وقال أبو يوسف: بينة المالك أولى؛ لأن الأصل الغصب. وقال محمد: بينة الغاصب أولى؛ لأن الأصل براءة ذمته.
دليلنا: أن كل واحدة من البينتين تعارض الأخرى، فإحداهما تثبت موته في يد غير اليد التي تثبت الأخرى الموت فيها، فتعارضتا، وسقطتا.
[فرع: الاختلاف في عين المغصوب]
] : وإن اختلفا في العين المغصوبة، فقال: غصبت مني عبداً، وقال: بل غصبت منه جارية.. قال أبو إسحاق المروزي: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في القيمة.. فكذلك في الجنس مثله.
وإن قال: غصبت مني طعاماً حديثاً، وقال: بل غصبت منك طعاماً عتيقاً.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويلزمه أن يدفع إليه العتيق؛ لأنه أنقص من حقه.(7/92)
[مسألة: الاختلاف في انقلاب الخمر المغصوب خلا]
] : وإن غصب منه خمراً، وادعى المغصوب منه أنه انقلب خلا، وأنكر الغاصب الانقلاب.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الانقلاب.
[مسألة: الاختلاف في ثوب العبد المغصوب]
] : وإن اختلف الغاصب والمغصوب منه في الثياب التي على العبد المغصوب.. فالقول قول الغاصب؛ لأن يده ثابتة عليها، وعلى العبد.
[مسألة: غصب المغصوب من الغاصب]
] : ولو غصب المغصوب من الغاصب غاصب ثانٍ.. قال أبو المحاسن: لم يبرأ الثاني بتسليمه إلى الغاصب الأول.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ) .
دليلنا: أنه سلمه إلى غير المالك، فلا يبرأ، كما لو اجتمعا على غصبه.
إذا ثبت هذا: فلا يكون للغاصب الأول خصومة في انتزاعه من الثاني.
وقال أبو حنيفة: (له ذلك) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: أن الغاصب الأول ليس بمالك، فلا يملك انتزاعه، كالأجنبي.
ولو أقر: أنه غصب من رجل خاتماً، ثم ادعى المقر أن فصه له.. فهل يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقبل؛ لأن اسم الخاتم يقع عليه من غير فص.(7/93)
والثاني: لا يقبل، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الفص من جملة الخاتم، فلا يقبل قوله فيه من بعد الإقرار، كما لو ادعى شيئاً من الخاتم.
وإن أقر: أنه غصب منه أرضاً، ثم قال: أما الشجر الذي فيها: فهو لي.. فهل يقبل؟ فيه وجهان.
ولو قال رجل: غصبنا من فلان ألف درهم، ثم قال: كنا عشرة.. فقد قال محمد بن الحسن: لا يصدق، ويلزمه الكل. وقال زفر: يقبل قوله مع يمينه، وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن ما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته.
وبالله التوفيق.(7/94)
[كتاب الشفعة](7/95)
كتاب الشفعة الشفعة مشتقة من الشفع، وهو الاثنان؛ لأن الشفيع يضم إلى ملكه ملك المشتري. وقيل: إنها مشتقة من الشفاعة؛ لأن الشفيع يأخذها بلين ورفق، فكأنه مستشفع، إذ المشتري ليس بظالم. والشفعة من أمر الإسلام، ولم تكن في الجاهلية.
والأصل في ثبوتها: ما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود.. فلا شفعة» .
وروى البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «إنما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(7/97)
الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» .
وفي رواية مسلم بن الحجاج عن جابر: أنه قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل مشترك لم يقسم، ربع، أو حائط، لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، فإن باعه، ولم يؤذنه.. فهو أحق به» .
و (الربع) : اسم للدار مع بنائها، و (الحائط) : اسم للبستان مع غراسه.
إذا ثبت هذا: فالأشياء في الشفعة على ثلاثة أضرب: ضرب ثبتت فيه الشفعة، سواء بيع منفرداً، أو مع غيره، وضرب لا تثبت فيه الشفعة بحال، وضرب تثبت فيه الشفعة تبعاً لغيره، ولا تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً.
فأما الضرب الأول ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً، أو مع غيره ـ: فهو(7/98)
العراص، مثل: عرصة الأرض، والدار، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه فيها.. ثبتت لشريكه الشفعة فيه، وهو قول عامة العلماء، إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة بحال؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك؛ لأن المشتري متى علم بأنه يؤخذ منه.. لم يرغب بالشراء، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالبائع، وربما تقاعد شريكه عن الشراء منه.
ودليلنا عليه: ما ذكرناه من الأخبار، وما ذكره.. فغير صحيح؛ لأنا نشاهد الأشقاص تشترى مع علم المشتري باستحقاق الشفعة عليه.
وأما الضرب الثاني ـ وهو ما لا تثبت فيه الشفعة بحال ـ: فهو كل ما ينقل ويحول، مثل: الطعام، والثياب، والعبيد، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه في ذلك.. لم تثبت لشريكه فيه الشفعة، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال مالك: (تثبت الشفعة في جميع ذلك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . وهذا لا يتناول ما ينتقل.
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة إلا في ربع، أو حائط» . فنفى الشفعة عن غيرهما.
وأما الضرب الثالث ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة تبعا لغيره ـ: فهو الغراس، والبناء في الأرض، فإن باع أحد الشريكين نصيبه فيه منفردا عن الأرض.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه منقول، فلم تثبت فيه الشفعة، كالثياب، والعبيد.
وإن باع أحد الشريكين نصيبه في البناء والغراس مع نصيب من الأرض.. ثبتت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . و (الربع) : هو الدار ببنائها، و (الحائط) : هو البستان بأشجاره، ولأن البناء والغراس يرادان للبقاء والتأبيد، فتثبت فيهما الشفعة، كالأرض.(7/99)
وإن باع أحد الشريكين نصيبه من الشجر مع نصيبه من قراره بالأرض دون ما يتخلل الشجر من بياض الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت فيه الشفعة؛ لأنه باع نصيبه من الشجر مع قراره من الأرض، فهو كما لو باع ذلك مع نصيبه من بياض الأرض.
والثاني: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن قرارها تابع لها، فلا يصير الشجر تابعاً له.
وإن كان هناك دار سفلها لواحد، وعلوها مشترك بين جماعة، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه فيه، فإن كان السقف لصاحب السفل.. لم تثبت الشفعة في النصيب المبيع في العلو؛ لأنه بناء منفرد، وإن كان السقف لأهل العلو.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه بناء لا يتبع أرضا.
والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن السقف يؤوى إليه، فهو كالعرصة.
[مسألة: باع شقص أرض وفيها زرع أو ثمر]
] : وإن باع شقصاً له من أرض وفيه زرع، فباع نصيبه من الزرع مع الأرض، أو كان فيها شجر وعليه ثمرة ظاهرة، فباع نصيبه من الشجر والثمرة مع الأرض.. لم تثبت الشفعة في الزرع والثمرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (تثبت فيه الشفعة تبعاً للأرض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . فأثبت الشفعة فيهما، فدل على: أنها لا تثبت لغيرهما.
ولأنه لا يتبع الأصل في البيع بالإطلاق، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو باع أرضا وفيها طعام مستودع.
وإن كان في الشقص نخيل بيع مع الشقص وعليه ثمرة غير مؤبرة.. فهل تؤخذ الثمرة بالشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تؤخذ؛ لأنه منقول، فلم يستحق أخذه بالشفعة، كالزرع، والثمرة الظاهرة.(7/100)
والثاني: يؤخذ بالشفعة؛ لأنه يدخل في بيع أصل الأرض بالإطلاق، فاستحق بالشفعة، كالنخل.
فإذا قلنا بهذا: فتأخر الأخذ بغيبة الشفيع، فجاء وقد أبرت النخل.. فهل يأخذها الشفيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذها؛ لأنه قد استحق أخذها حال البيع، فلم يسقط ذلك من غير رضاه بالتأبير.
والثاني: لا يأخذها؛ لأنه إنما يأخذها ما دامت الثمرة تابعة للشجرة والأرض، فإذا ظهرت.. خرجت عن ذلك.
فإذا قلنا بهذا: فهل يحط من الثمن شيء لأجل الثمرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحط؛ لأن الثمن قابل الجميع.
والثاني: لا يحط؛ لأن هذا كنقص حدث بالمبيع.
قال أبو علي السنجي: وهذا بناء على أن الطلع هل له قسط من الثمن؟ على قولين، كالحمل.
[مسألة: لا شفعة إلا للشريك]
ولا تثبت الشفعة عندنا إلا للشريك، ولا تثبت للجار، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي من الصحابة، ومن التابعين: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن(7/101)
عبد العزيز، ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أن الشفعة تستحق بالشركة، وتستحق بالجوار، وذهب إليه ابن سيرين، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ويفصل مذهب أبي حنيفة فيها: (أن الرجل إذا باع داراً، فإن كان له فيها شريك.. كان أحق بالشفعة من الجار، وإن لم يكن له فيها شريك، فإن كانت في درب غير نافذ.. فالجار المشارك له في الطريق أحق من الجار الذي لا يشاركه في الطريق، وإن كان له جاران يشاركانه في الطريق.. فهما أحق، وإن عفا الجار الذي إلى جنبه عن الشفعة.. استحق جاره الذي يليه الشفعة إلى آخر الدرب ولو كان بينهما ألف ذراع، وأما إذا كان الزقاق نافذاً.. استحق الجار الملاصق له الشفعة، فإن عفا.. لم يستحق الذي يلي العافي الشفعة؛ لأنه ليس بجار للبائع، وإنما هو جار جاره) .
وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه قال: تثبت الشفعة في الدار لمن يشاركه في الطريق بالدرب المشترك.
وهذا كله غير صحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، ونفاها عن المقسوم.
إذ ثبت هذا: فإن حكم حاكم بالشفعة للجار.. فهل ينقض حكمه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني:
أحدها: ينقض؛ لأنه مخالف للنص.(7/102)
والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأنه حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد.
[مسألة: فيما يقسم بين الشريكين]
] : ولا تجب الشفعة إلا فيما تجب قسمته بين الشريكين عند الطلب، وهو بحيث إذا قسم لم تنقص قيمة حصة كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة، فأما ما لا تجب قسمته عند الطلب، وهو ما ينقص قيمة نصيب كل واحد منهما.. فلا يثبت فيه الشفعة، وبه قال عثمان بن عفان، ومن الفقهاء ربيعة، وإحدى الروايتين عن مالك.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأبو العباس ابن سريج: (تثبت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل شرك، ربع، أو حائط» . ولم يفرق) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، يعني: ما لم يفعل فيه القسمة. وهذا إنما يكون فيما تجب قسمته عند الطلب، ولأن الشفعة إنما ثبتت لما يلحق الشريك من الضرر بالمقاسمة، وذلك لا يوجد فيما لا تجب قسمته.
إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (البئر، والحمام، والرحى) .
قال أصحابنا: وإذا كان بينهما بئر، فباع أحدهما نصيبه فيها.. فهل تثبت فيها الشفعة؟ ينظر فيها:
فإن كان معها بياض من الأرض بينهما، وكانا إذا قسما، كانت البئر لواحد، والبياض لواحد، وكانت قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة كقيمته قبل القسمة.. ثبتت فيها الشفعة.(7/103)
وإن كانت البئر لا بياض معها، فإن كانت كبيرة، بحيث إذا قسمت بينهما حصل لكل واحد منهما بئر منها، ينتفع بها.. ثبتت فيها الشفعة، وإن كانت بئراً صغيرة، بحيث إذا قسمت بينهما لم يحصل لكل واحد منهما بئر مفردة.. لم تثبت فيها الشفعة.
وأما الحمام: فإن كان حماما كثير البيوت، بحيث إذا قسم بينهما حصل لكل واحد منهما ما يصلح حماماً، ولم تنقص قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان لا يحصل له ذلك.. لم تثبت فيه الشفعة.
وأما الرحى: فإن كان فيه حجران، ولكل واحد منهما ماء، بحيث إذا قسم حصل لكل واحد منهما رحى.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان رحى واحدة.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه إذا قسم نقصت قيمة نصيب كل واحد منهما بذلك.
[فرع: الشفعة في طريق غير نافذة]
] : وإن باع رجل داره، وكان طريقها في زقاق نافذ.. فإن الشفعة لا تثبت في الطريق؛ لأن الزقاق النافذ غير مملوك، والشفعة إنما تثبت في المملوك، وإن كان طريقها في زقاق غير نافذ، وقال: بعتك داري مع نصيبي في الطريق، أو قال: بحقوقها.. فإن نصيبه في الطريق يدخل في البيع، ولا تثبت الشفعة في الدار، وقال ابن سريج: تثبت فيها. وقد مضى ذكره.
وأما الطريق: فهل تثبت فيه الشفعة؟ ينظر فيه:
فإن كان طريقاً ضيقاً، بحيث إذا قسم لم يصب كل واحد منهما طريقا.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه نصيب لا يحتمل القسمة.(7/104)
وإن كان الطريق واسعاً، بحيث إذا قسم أصاب كل واحد طريقاً.. نظرت:
فإن كان للدار المبيعة طريق آخر من درب نافذ، أو غير نافذ، أو يمكن أن يفتح لها بابا إلى زقاق نافذ.. ثبتت الشفعة في الطريق؛ لأنها أرض تحتمل القسمة.
وإن كان لا طريق للدار المبيعة سوى هذا الطريق.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تثبت فيه الشفعة؛ لأنها أرض مشاعة تحتمل القسمة، فتثبت فيها الشفعة، كالدار.
والثاني: تثبت فيها الشفعة، ولكن يكون لمشتري الدار المرور فيها إلى الدار؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
والثالث ـ وهو الصحيح ـ أنه لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة لإزالة الضرر، فلو أثبتنا الشفعة هاهنا.. لأضررنا بالمشتري؛ لأن داره تبقى من غير طريق.
وما قاله الأول فاسد؛ لما ذكرناه، وما قاله الثاني أيضا فاسد؛ لأن الملك إذا انتقل إلى الشفيع.. لم يستحق عليه الاستطراق في ملكه، وهذا الحكم إذا كان الطريق بحيث إذا قسم.. أصاب كل واحد مقدار طريقه لا زيادة عليه، فأما إذا كان نصيبه زيادة على ذلك.. فإن الزيادة على قدر الطريق فيها الشفعة، وجها واحداً، وفي قدر الطريق الأوجه الثلاثة.
[مسألة: ثبوت الشفعة بالشقص المملوك]
] : تثبت الشفعة بالشقص المملوك بالبيع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإن باعه.. فهو أحق به» . وبه قال عامة العلماء، إلا الأصم، وقد مضى الدليل عليه.(7/105)
وتثبت الشفعة بكل ما ملك الشقص فيه بعقد معاوضة، بأن يكون عوضاً في الصلح، أو أجرة في الإجارة، أو مهراً في النكاح، أو عوضاً في الخلع.
وقال أبو حنيفة: (لا تثبت الشفعة إلا فيما ملك بالبيع وحده) .
دليلنا: أنه ملك بعقد معاوضة، فثبتت فيه الشفعة، كالبيع.
[فرع: إرث الشفعة]
] : فإن مات رجل، وخلف شقصاً.. لم يستحق على وارثه فيه الشفعة، وهذا إجماع لا خلاف فيه.
وإن أوصى رجل لرجل بشقص، أو وهبه له هبة لا تقتضي الثواب ... لم تثبت فيه الشفعة.
وقال ابن أبي ليلى: تثبت فيه الشفعة بقيمة الشقص. وهي إحدى الروايتين عن مالك.
دليلنا: أنه ملكه بغير عقد معاوضة، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه بالإرث.
وإن وهب له شقصاً بعوض معلوم.. كان بيعا، وتثبت فيه الشفعة، سواء تقابضا أو لم يتقابضا، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه: (لا تثبت فيه الشفعة حتى يتقابضا؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض) .(7/106)
دليلنا: أنه ملكه بعقد معاوضة، فلم يعتبر في ثبوت الشفعة فيه القبض، كالبيع، وأما الهبة: فقد صرفناها عن مقتضاها بشرط العوض فيها.
وإن وهب لمن هو أعلى منه شقصاً، فإن قلنا: إنها تقتضي الثواب.. ثبتت فيه الشفعة، وإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم تثبت فيه الشفعة.
[فرع: الإقالة ترفع الشفعة]
وإن اشترى رجل شقصاً، فعفا الشفيع عن الشفعة فيه، ثم استقال البائع المشتري في الشقص، فأقاله.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه لم يرجع إليه بعوض.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان، بناء على أن الإقالة ابتداء عقد، أو فسخ عقد.
فإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم إن المشتري ولاه رجلاً.. ثبتت للشفيع فيه الشفعة؛ لأن التولية بيع برأس المال.
[فرع: تعليق حق الشفعة]
] : قال في (الأم) : (وإن قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً.. فلك بهذا الشهر الشقص، فخدمتهم.. استحقت الشقص) . وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تثبت؛ لأنها ملكته ببدل، وهو الخدمة، فهو كما لو استأجر به غيرها على الخدمة.
والثاني: لا تثبت؛ لأنها ملكته بالوصية، بدليل: أنه يعتبر من الثلث.
وإن دفع المكاتب إلى سيده شقصاً عن كتابته.. كان للشفيع أن يأخذه بالشفعة؛(7/107)
لأنه مملوك بعوض، وإن غاب الشفيع، أو لم يعلم حتى عجز المكاتب ورجع إلى الرق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه صار بالعجز مملوكاً للسيد بحق الملك.
والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت فيه حال ما قبضه السيد، فلا تسقط بالعجز.
[فرع: الدين على الميت الشفيع يمنع انتقال الشقص لوارثه]
) : قال ابن الحداد: إذا ملك الرجل شقصاً في دار أو أرض، فمات وعليه دين يحيط بتركته، فباع شريكه الشقص.. كان للوارث أن يأخذه بالشفعة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث، والشقص ملك للوارث عند بيع شريكه.
وقال أبو حنيفة، وأبو سعيد الإصطخري: (الدين يمنع انتقال الملك إلى الوارث) .
فعلى هذا: لا يستحق الوارث الأخذ بالشفعة. وليس بشيء.
ولو مات رجل، وله دار، وعليه دين يحيط ببعضها، فبيع بعض الدار بالدين، أو أوصى بأن يباع بعض الدار، ويصرف ثمنه في بعض وصاياه، فبيع بعضها.. قال ابن الحداد: لم يكن للورثة أن يأخذوا ما بيع منها بالشفعة؛ لأن البيع يقع عليهم، فلا يستحقون فيه الشفعة.
قال القاضي أبو الطيب: ولم يختلف أصحابنا في هذه، فأما إذا كان لرجل ربع دار، ولابنه ثلاثة أرباعها، فمات الأب وعليه دين يحيط بربع الدار، فبيع بالدين.. قال ابن الحداد: فللابن أن يأخذ الربع بالشفعة هاهنا؛ لأن الشقص بيع بسبب مستحق على الميت في حال حياته، فكأن الأب باشر بيعه في حال حياته، والابن شريك له في حال حياته، فاستحق الشفعة به عليه، كما لو باع الأب ذلك بنفسه.
وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا شفعة للابن؛ لأن الابن يملك ربع الدار الذي خلفه أبوه، والدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث عندنا، ومن بيع عليه بعض(7/108)
ملكه.. لم يستحق أخذه بالشفعة، كما لو غاب رجل، وله دار، وعليه دين، فباع الحاكم بعض داره بدينه، ثم قدم.. فليس له أخذ ما بيع من داره بالشفعة، فكذلك هاهنا مثله.
[فرع: سقوط الشفعة بإبراء الشفيع أو إذنه]
] : إذا أذن الشفيع في البيع، أو أبرأ من الشفعة قبل تمام البيع.. لم تسقط شفعته، به قال أكثر أصحابنا.
وقال عثمان البتي: تسقط شفعته، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، وإن باع ولم يؤذنه.. فهو أحق» .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق. ولأنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يسقط، كما لو أبرأه من دين قبل ثبوته.
وأما الخبر: فأراد به العرض عليه ليبتاع ذلك إن أراد، فتخف بذلك المؤنة على الشريك.
[مسألة: بيع شقص في دار نصفها وقف]
] : إذا كان نصف الدار وقفا على رجل، ونصفها طلقا، فباع صاحب الطلق نصيبه.. فهل تثبت فيه الشفعة لصاحب الوقف؟
إن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الله.. لم يستحق الموقوف عليه الشفعة في الطلق؛ لأن الشفعة لا تستحق إلا بالملك.(7/109)
وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه.. فهل يستحق أخذ الطلق بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أنه يستحق؛ لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك، فاستحق أخذه بالشفعة، كمالك الطلق.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يستحق؛ لأن الوقف لما لم يستحق أخذه بالشفعة.. لم يستحق الأخذ به بالشفعة.
[مسألة: باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار]
] . وإن كانت دار بين اثنين، فباع أحدهما نصيبه بشرط الخيار، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع.. لم يكن للشفيع أن يأخذه بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطع الخيار للبائع.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: إن الملك موقوف، أو لا ينتقل إلى المشتري إلا بانقضاء الخيار.. لم يكن للشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن الملك لم يحصل للمشتري، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فهل يستحق الشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأنه بيع فيه خيار، فلم يستحق الشفيع الأخذ قبل انقضاء الخيار، كما لو كان الخيار للبائع، ولأن المشتري شرط الخيار لغرض قصده، وفي أخذ الشفيع قبل انقضاء الخيار تفويت لغرض المشتري، فلم يجز.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أنه يستحق؛ لأنه إذا ملك الأخذ بعد استقرار حق المشتري بانقضاء الخيار.. فلأن يملك قبل ذلك أولى، ولأن المشتري لو وجد بالشقص عيباً، فأراد رده.. كان للشفيع أن يأخذه، ويبطل ما ثبت للمشتري من الرد، فكذلك هذا مثله.(7/110)
[فرع: باع الشريك نصيبه قبل انقضاء مدة الخيار]
] : وإن كان بين رجلين دار، فباع أحدهما نصيبه فيه بشرط الخيار له وللمشتري، أو له وحده، ثم باع الشريك الثاني نصيبه منها بغير خيار قبل انقضاء الخيار في البيع الأول.. لم يكن للبائع الثاني شفعة؛ لأن ملكه قد زال، ولا تثبت للمشتري فيه شفعة أيضاً؛ لأنه ملكه بعد البيع الأول، ولمن تثبت الشفعة في الشقص الثاني؟ يبنى على الأقوال: إلى من ينتقل المبيع في حال الخيار؟
فإن قلنا: إن الملك فيه للبائع.. كانت الشفعة فيه للبائع؛ لأن ملك الشقص له في هذه الحالة.
فعلى هذا: إذا انقضى الخيار، ولم يفسخ العقد.. فإن الشقص المبيع أولاً لمشتريه، والشقص المبيع ثانياً لبائع الشقص الأول؛ لأنه ملك أخذه بالبيع الثاني، فلا يسقط بعد ذلك.
وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول انتقل إلى المشتري بالعقد.. فإن الشفعة في الشقص الثاني لمشتري الأول، فإن فسخ البيع بعد ذلك في الذي اشتراه.. لم يسقط حقه من الشفعة في الثاني؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول موقوف على انقضاء الخيار.. كانت الشفعة في الشقص الثاني أيضاً موقوفة، فإن فسخا البيع.. كانت الشفعة لبائع الأول، وإن لم يفسخا.. كانت للمشتري.
[مسألة: ثبوت الشفعة للمسلم وغيره]
] : وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي؛ لعموم الأخبار، ولا خلاف في ذلك، وتثبت الشفعة للذمي على المسلم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.(7/111)
وقال الشعبي، وأحمد، والحسن بن صالح: (لا تثبت له) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق، ولأنه خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال، فثبت للذمي على المسلم، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمر، أو خنزير، والشفيع ذمي، فإن رفع ذلك إلى الحاكم قبل التقابض في الثمن بالبيع.. حكم الحاكم بإبطال البيع، وإبطال الشفعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] .
وإن رفع إلى الحاكم بعد التقابض في البيع، والأخذ في الشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولا بإبطال الشفعة؛ لأنه لا يحكم ببطلان ما استقر من عقودهم، كالنكاح بعد الدخول.
وإن رفع إليه بعد التقابض بالبيع، وقبل الأخذ بالشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولكن يحكم بإبطال الشفعة.
وقال أبو حنيفة: (تثبت الشفعة، فإن كانت لمسلم.. أخذ بقيمة الخمر، وإن كانت لذمي.. أخذ بمثلها) . وبناه على أصله: أن الخمر لأهل الذمة مال.
ودليلنا: أن البيع وقع بثمن حرام، فلم تثبت فيه الشفعة، كالميتة، والدم.
[فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة فارتد]
] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، فارتد المشتري قبل أن يأخذ الشفيع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص بالشفعة، سواء كان المشتري باقياً على ردته، أو مات، أو قتل بالردة؛ لأنه ليس فيه أكثر من زوال ملكه بموته إلى المسلمين، وهذا لا يسقط حق الشفيع، كما لو مات المشتري، وانتقل ماله إلى المسلمين بالإرث.
وهكذا: لو ارتد الشفيع قبل الأخذ، فمات أو قتل بالردة قبل الأخذ.. فإن شفعته لا تبطل بذلك، بل ينتقل النظر فيها إلى الإمام، فإن رأى المصلحة للمسلمين في أخذه بالشفعة.. أخذه، ودفع الثمن من بيت المال، وإن رأى الحظ في الترك.. لم(7/112)
يأخذه؛ لأن المال انتقل إليهم، وهكذا: لو مات الشفيع، ولا وارث له غير المسلمين.. كان الحكم فيه ما ذكرناه.
[فرع: بيع شقص في شركة المفلس]
] : إذا بيع شقص في شركة المفلس.. كان له الأخذ بالشفعة، والعفو عنه، وليس للغرماء الاعتراض عليه؛ لأنه إن أراد الترك.. لم يجبر على الأخذ؛ لأنه إجبار على التملك، فلم يجز، وإن أراد الأخذ.. لم يجبر على الترك؛ لأنه يأخذه بثمن في ذمته.
ويجوز للمكاتب الأخذ بالشفعة، والترك، وليس للسيد الاعتراض عليه؛ لأن التصرف يقع له دون السيد، وأما العبد المأذون له في التجارة: فإن أخذ بالشفعة.. جاز؛ لأنه مأذون له في الشراء، وإن عفا.. كان للسيد إبطال عفوه؛ لأن الحق للسيد، فلا يملك العبد إسقاطه.
[فرع: ثبوت الشفعة في بيع شقص يتيم لآخر]
] : وإن كان في حجره أيتام لهم عقار مشترك بينهم، فباع على أحدهم نصيبه منه لحاجته.. كان له أن يأخذ ذلك بالشفعة للآخرين إذا رأى لهم الحظ في ذلك؛ لأن له ولاية عليهم.
وإن كان وصياً على يتيم، وبينهما عقار، فباع الوصي على اليتيم نصيبه فيه.. فهل للوصي أخذ ما باع على اليتيم بالشفعة لنفسه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يجوز؛ لأن الوصي متهم في أنه لم يستقص في ثمن الشقص ليتملكه، فلم يجز له الأخذ.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز له أخذه بالشفعة. وبه قال ابن القفال؛(7/113)
لأنه يمكن نفي التهمة عنه، بأن يرجع فيه إلى تثمين ثقتين من أهل الخبرة بالشقص، فإن قيل: إنه بيع بثمن مثله.. استحق الأخذ؛ لأن البيع قد صح، وإن قيل: إنه بيع بأقل من ثمن مثله.. لم يصح البيع، ولم يستحق الأخذ.
والأول أصح؛ لأن التهمة تلحقه مع ذلك في أنه ترك الزيادة على ثمن المثل مع إمكانها، فإن رفع الوصي الأمر إلى الحاكم، فأمر الحاكم من قرر ثمن الشقص، فباع به.. استحق الوصي الأخذ بالشفعة لنفسه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنه هاهنا، وإن كان الناظر في أمر الصغير أباً أو جداً، فباع عليه شقصا له فيه شفعة.. استحق الشفعة عليه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنهما في حقه، بدليل: أنه يصح أن يشتري ماله لنفسه، ويبيع منه، بخلاف الوصي.
وإن اشترى الوصي لليتيم شقصاً للوصي فيه الشفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة منه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يلزم الصبي العهدة في الشقص، ولا حظ له في ذلك.
والثاني ـ وهو قول ابن الحداد، والقاضي أبي الطيب ـ: له ذلك؛ لأنه لا تهمة عليه في ذلك.
[فرع: خلف حملاً ومالاً وشقصاً لوصي فيستحق الشفعة]
] : وإن مات رجل، وخلف مالاً وحملاً، وأوصى إلى رجل بالنظر في ماله، والقيام في الحمل، وله شقص، فباع شريكه.. قال أبو العباس ابن سريج: لم يكن للوصي أن يأخذ بالشفعة للحمل؛ لأن الحمل قد لا يكون، فلا يستحق الأخذ له،(7/114)
وقد يكون موجوداً إلا أنه يجوز أن يكون رجلاً، فيستحق أخذ الجميع، وقد يكون أنثى، فلا تستحق له أخذ الجميع، فلم يجز الأخذ لمن يشك في استحقاقه.
[مسألة: ضمان الشفيع عهدة الشقص]
] : إذا باع شقصاً، فضمن الشفيع للمشتري عهدة الشقص، أو ضمن للبائع الثمن على المشتري، أو شرط البائع أو المشتري الخيار للشفيع، وقلنا: يصح، فاختار إمضاء البيع.. فإن له الأخذ بالشفعة.
وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: لا شفعة له؛ لأن البيع تم به.
ودليلنا: أن أكثر ما فيه أن الشفيع رضي بالبيع، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، كما لو قال الشفيع للمشتري: رضيت أن تشتري ولا آخذ منك بالشفعة.
[فرع: توكيل رجل الشفيع في البيع]
] : وإن كانت الدار بين رجلين، فوكل رجل أحد الشريكين أن يبتاع له نصيب شريكه، فابتاعه له.. فله أن يأخذ ما ابتاع لموكله بالشفعة.
وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: ليس له أخذه بالشفعة.
دليلنا: أنه لم يوجد منه أكثر من الرضا بالشراء، وذلك لا يسقط الشفعة.
وإن وكل أحد الشريكين صاحبه ليبيع له نصيبه، فباعه.. فهل للبائع أن يأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: له أخذه، ولا تبطل شفعته؛ لأنه تولى أحد طرفي العقد، فلم تبطل شفعته، كما لو توكل بالشراء.
و [الثاني] : قال ابن الحداد: تبطل شفعته؛ لأن التهمة تلحقه في إرخاص الشقص، أو ترك أخذ الزيادة على ثمن المثل ليتملكه.
وإن كانت الدار بينهما نصفين، فقال أحدهما لصاحبه: وكلتك أن تبيع نصف نصيبي من الدار، وقال: إن أردت أن تبيع نصف نصيبك معه.. فافعل، فباع الوكيل(7/115)
نصف الدار، ربعها عن نفسه، وربعها عن موكله بثمن معلوم.. صح البيع؛ لأن ما يقابل نصيب كل واحد منهما من الثمن معلوم، وللموكل أن يأخذ نصيب الوكيل بالشفعة؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من الرضا ببيعه، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، وليس له أن يأخذ ما بيع عليه؛ لأن الإنسان لا يأخذ بالشفعة ما بيع عليه، وهل للوكيل أن يأخذ بالشفعة الربع الذي باعه عن موكله؟ على وجهين كالأولى:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه يأخذ ذلك من المشتري لا من نفسه.
والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه متهم في إرخاصه ليأخذه، ولأنه لما لم يملك أن يبتاعه من نفسه.. لم يملك أخذه بالشفعة.
[فرع: ثبوت الشفعة للعامل في القراض]
] : وإذا اشترى العامل في القراض بعض دار بمال القراض، ثم بيع الباقي.. كان للعامل أخذه بالشفعة للقراض، فإن لم يأخذه.. كان لرب المال أن يأخذه بالشفعة؛ لأن ما اشتراه بمال القراض.. ملكه.
وإن اشترى العامل بمال القراض شقصا من دار، ولرب المال فيه شفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: له ذلك؛ لأن مال المضاربة كالمنفرد عن ملكه؛ لتعلق حق الغير به، وهو العامل، ويجوز أن يثبت له على ملكه حق لأجل حق الغير، كما ثبت له على عبده المرهون حق الجناية.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يتملك ملكه، ويخالف الجناية؛ لأنها ليست تمليكاً.
وذكر أبو العباس وجهاً ثالثاً: أن له أخذه بحكم فسخ المضاربة.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس من الشفعة.(7/116)
فإذا ما اشترى العامل في القراض شقصاً من دار، وللعامل فيه شفعة.. فهل له أخذه بالشفعة؟
قال ابن الصباغ: إن كان في المال ربح، وقلنا: يملكه بالظهور.. فهل له أخذه بالشفعة؟ على الوجهين في رب المال، وإن لم يكن في المال ربح، أو كان فيه ربح، وقلنا: لا يملكه بالظهور، فلا شفعة له، وجهاً واحداً.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه إذا لم يكن فيه ربح، أو كان فيه، وقلنا: لا يملكه بالظهور.. أن له أخذه بالشفعة، وجهاً واحداً، كما لو كانت دار بين شريكين، فأذن رجل لأحدهما أن يبتاع له نصيب شريكه، فإن للوكيل أن يأخذ ما اشتراه بالشفعة لنفسه.
إذا ثبت هذا: فإن ملك أربعة رجال داراً أرباعاً بينهم، ثم قارض واحد منهم أحد شركائه على مال، فاشترى العامل بمال القراض نصيب أحد شريكيهما، وعفا المتقارضان والشريك الرابع عن أخذ ذلك بالشفعة، ثم اشترى العامل بمال القراض نصيب الشريك الرابع.. قال أبو العباس: فإن الشفعة في هذا الربع الرابع تكون بين رب المال والعامل ومال القراض، أثلاثاً بينهم؛ لأن كل واحد منهم ينفرد بملك ربع الدار، ويملكان ربعها بمال القراض، فقسم الربع المبيع بينهم أثلاثا. على ذلك حكاها الشيخ أبو حامد.
[مسألة: يأخذ الشفيع الشقص بالثمن المستقر في العقد]
] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، واختار الشفيع الأخذ.. فإنه يأخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» .
فإن كان الشفيع قد شاهد الشقص، وعلم قدر الثمن، وقال: اخترت أخذه بالثمن(7/117)
الذي تم به العقد.. قال ابن الصباغ: صح الأخذ وإن لم يختر المشتري، ولا حضر؛ لأنه يستحق أخذه بغير اختياره، فلم يفتقر إلى حضوره، ولا يفتقر إلى حكم الحاكم بذلك؛ لأن استحقاق الشفيع ثابت بالنص والإجماع.
وإن كان الشفيع لم يشاهد الشقص.. فهل يصح أخذه بالشفعة؟
إن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح أخذه، كما لا يصح ابتياعه له.
وإن قلنا: يصح بيع خيار الرؤية.. فهل يصح أخذه له قبل رؤيته؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، بناء على أن الشفيع هل يثبت له خيار المجلس في الشفعة؟ وفيه وجهان يأتي ذكرهما.
فإن قلنا: يثبت له فيها خيار المجلس.. ثبت له فيها خيار الرؤية.
وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس.. لم يثبت له فيها خيار الرؤية.
وقال أبو العباس ابن سريج: لا يثبت له فيها خيار الرؤية، قولاً واحد؛ لأن خيار الرؤية إنما يثبت للمشتري على أحد القولين؛ لأن البيع يثبت برضا البائع، وهاهنا يؤخذ الشقص من المشتري بغير رضاه، فلا يثبت فيها خيار الرؤية.
وإن كان الشفيع لم يعلم قدر الثمن.. فذكر ابن الصباغ، والطبري: أن أخذه لا يصح، ولا يسقط حقه من الشفعة إذا أخر طلبها إلى أن يعلم قدر الثمن؛ لأن ذلك يملك بعوض، فلا يصح مع الجهالة بالعوض، كالبيع.
وذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) : إذا قال الشفيع: بكم ابتعت؟ أو بكم الثمن؟ بطلت شفعته؛ لأنه قد كان يمكنه أن يقول مكان ذلك: قد أخذت بالثمن الذي ابتعت به، فلما لم يفعل.. كان تاركاً للمطالبة بالشفعة مع تمكنه منها، وهذا يدل من قوله: إن الأخذ يصح مع جهالة الشفيع بقدر الثمن.
إذا ثبت هذا: فقال ابن الصباغ: وإذا اختار الشفيع على ما ذكرناه.. ملك الشقص بذلك، ولا يلزم المشتري تسليم الشقص إليه حتى يسلم إليه الثمن، فإن كان الثمن موجوداً.. سلمه الشفيع إليه، وإن تعذر الثمن عليه في الحال.. أجلنا الشفيع ثلاثاً،(7/118)
فإن أحضر الثمن، وإلا فسخ عليه الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري، وإنما أجل ثلاثاً؛ لأن تحصيل الثمن في الحال يتعذر عليه في غالب العادة، وعدم اعتبار ذلك يؤدي إلى إسقاط الشفعة، والإضرار بالشفيع، فأجل الثلاث؛ لأنها مدة قريبة، ولا ضرر على المشتري بذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو هرب الشفيع بعد الأخذ.. جاز للحاكم فسخ الأخذ، ورده إلى المشتري، فإن قيل: أليس في البيع لو هرب المشتري أو أخر الدفع.. لم يفسخ الحاكم البيع؟ فهلا قلتم هاهنا مثله؟ قال: فالجواب: أن البيع حصل باختيارهما، فلذلك لم يكن للحاكم فسخه عليهما، وهاهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه، فإذا كان ذلك إضراراً بالمشتري رفعه الحاكم قال: وقد قال أصحابنا: إذا أفلس الشفيع بعد أخذه الشقص.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يضرب بالثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع في الشقص إذا أفلس المشتري.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يأخذ الشفيع بالشفعة حتى يحضر الثمن، ولا يملكه حتى يحكم له الحاكم، ولا يحكم له الحاكم حتى يحضر الثمن) .
وقال محمد بن الحسن: يؤجله الحاكم يومين، أو ثلاثاً، ولا يأخذه إلا بحكم الحاكم، أو رضا المشتري.
ودليلنا: أن الأخذ بالشفعة يملك بالعوض، فلا يوقف على إحضار العوض، كالبيع.
[فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة وسيفاً]
ً] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، وسيفاً بثمن واحد.. ثبتت الشفعة بالشقص دون السيف، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيها، ولا يثبت للمشتري الخيار في البيع، لتفرق الصفقة عليه بذلك؛ لأنه رضي بذلك على نفسه. هذا هو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة.(7/119)
قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 316] : وقد قيل: لا تثبت الشفعة في الشقص لتفرق الصفقة على المشتري.
وقال مالك: (تثبت الشفعة في الشقص، والسيف، ويأخذهما الشفيع بالثمن) .
ودليلنا: أن السيف لا شفعة فيه، ولا هو تابع لما تثبت فيه الشفعة، فلم يجز أخذه بالشفعة، كما لو أفرده بالبيع.
[فرع: مضي خيار شراء الشقص مع زيادة الثمن]
] : إذا اشترى شقصاً بثمن، وانقضى الخيار، ثم ألحقا بالثمن زيادة.. لم تلحق بالعقد، ولا يملكها البائع، إلا أن تكون بعقد الهبة بشروطها، ولا يستحقها المشتري على الشفيع؛ لأنه تطوع بذلك، وهكذا: إن نقص عنه البائع بعض الثمن.. كان ذلك إبراء، ولا يسقط عن الشفيع؛ لأن العقد قد انبرم.
وقال أبو حنيفة: (يلحقان بالعقد، إلا أن الشفيع لا يثبت في حقه إلا النقصان دون الزيادة) .
ودليلنا: أن ذلك تغيير بعد استقرار العقد، فلم يثبت في حق الشفيع، كالزيادة وإن ألحقا بالثمن زيادة، أو نقصا منه شيئاً في حال الخيار.. فقد قال عامة أصحابنا: إن ذلك يلحق بالعقد، ويأخذ الشفيع به.
وقال أبو علي الطبري: هذا إذا قلنا: إن الملك لا ينتقل إلى المشتري، إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف، فأما إذا قلنا: إنه يملك بالعقد.. فلا يلحق ذلك بالعقد. وهذا ليس بشيء.
قال المسعودي [في (الإبانة) ق\317] : فإن حط جميع الثمن في حال الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه يكون بيعاً بلا ثمن.(7/120)
فعلى هذا: لا تثبت الشفعة.
والثاني: لا يبطل البيع، كالإبراء، ففرق بين الحط، والإبراء.
فعلى هذا: هل يكون بيعاً، أو هبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون بيعاً، فتثبت فيه الشفعة.
والثاني: يكون هبة، فلا تثبت فيه الشفعة.
[مسألة: نقصان الشقص في يد المشتري]
] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، فنقص الشقص في يد المشتري قبل أن يأخذه الشفيع، بأن كان داراً، فانهدم، أو حرق، واختار الشفيع الأخذ.. فنقل المزني: (أنه بالخيار: بين أن يأخذ بجميع الثمن، وبين أن يترك) . ونص الشافعي في القديم، وفي مواضع من كتبه الجديدة: (أنه يأخذه بحصته من الثمن) .
واختلف أصحابنا فيها على خمس طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيها قولان ـ وهو الصحيح: أحدهما: يأخذه بجميع الثمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» . ولم يفرق.
والثاني: يأخذه بالحصة، وهو الصحيح؛ لأنه أخذ بعض ما يتناوله العقد، وأخذه بحصته من الثمن، كما لو اشترى سيفاً وشقصاً.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته، وهذه علة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
واختلف أصحاب هذا الطريق، إذا كان هناك أخشاب، أو أحجار منفصلة عن الدار باقية.. هل يستحقها الشفيع؟
فمنهم من قال: لا يستحقها؛ لأن ذلك منفصل عنها حال أخذه بالشفعة، فلم يستحقها، كما لو اشترى داراً، وقد كان انفصل عنها أحجار وأخشاب.(7/121)
ومنهم من قال: يستحقها الشفيع، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقه للشفعة حال البيع، وقد كان متصلا بها، فلم يسقط حقه بانفصاله عنها، كما لو اشترى داراً، فانهدمت قبل أن يقبضها.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما يأخذها بالحصة، قولا واحداً؛ للعلة التي ذكرها الشافعي.
وتأول هذا القائل ما نقله المزني على: أنه أراد به: إذا استهدم الدار، ولم تنهدم، بأن انشق الحائط، وما أشبهه، وهذا القائل يقول: إذا كان هناك أحجار وأخشاب منفصلة.. فإن الشفيع لا يستحق أخذها.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا انهدمت الدار، ولم يذهب من أجزائها شيء.. فإنه يأخذ ما بقي من البناء، وما انفصل من الأحجار والأخشاب، بجميع الثمن.
والموضوع الذي قال: يأخذه بالحصة، إذا انهدمت الدار، وذهب شيء من أجزاء الأحجار والأخشاب؛ لأن الثمن يقابل الأعيان، ولا يقابل التالف.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:
فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا كانت العرصة باقية، ولا يضره ذهاب التالف من أجزاء الأحجار والأخشاب.
والموضع الذي قال: يأخذه بالحصة، أراد: إذا ذهب شيء من أجزاء العرصة؛ لأن العرصة هي الأصل، والأحجار والأخشاب تابعة لها، ولهذا لم تثبت الشفعة فيهما، إلا تبعا للعرصة، فكان الحكم للمتبوع دون التابع.
و [الطريق الخامس] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:(7/122)
فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا ذهب بآفة سماوية.
والموضوع الذي قال: يأخذ بالحصة، إذا ذهب بفعل آدمي، إما البائع، أو المشتري، أو الأجنبي؛ لأنه إذا ذهب بآفة سماوية.. لم يحصل للمشتري بدل ذلك، وإذا ذهب بفعل آدمي.. حصل له عوضه. وهذا الطريق مذهب أبي حنيفة.
قال أصحابنا: وهذا الطريق وإن كان صحيحاً في الفقه، إلا أنه خلاف نص الشافعي في القديم؛ لأنه قال فيه: (يأخذه بالحصة، سواء كان نقصه بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، أو بآفة سماوية) .
[مسألة: اشترى شقصاً بمؤجل]
] : وإن اشترى شقصا بمائة درهم مؤجلة إلى سنة.. فقيه ثلاثة أقوال:
أحدها ـ قاله في القديم، وبه قال مالك ـ: (إن الشفيع يأخذه بمائة مؤجلة) ، إلا أن مالكا قال: (إن كان الشفيع ثقة، وإلا أقام للمشتري ثقة يكون الثمن في ذمته؛ لأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، فكان تابعاً له في التأجيل) .
فعلى هذا: إن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الدين عليه؛ لأن الأجل جعل رفقا بمن عليه الدين، والرفق هاهنا للميت في تخليص ذمته، ولا يحل ذلك على الشفيع؛ لعدم المعنى الذي ذكرناه في المشتري، وإن مات الشفيع.. حل عليه الدين للمشتري، ولا يلزم المشتري تعجيل الثمن للبائع؛ لما ذكرناه.
والقول الثاني ـ ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (كتاب الشروط) ـ: (أن الشفيع يأخذ الشقص بسلعة تساوي مائة درهم إلى سنة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذه بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتساوى، ولا يجوز أن يطالب بمائة حالة؛ لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري، فإذا تعذر هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يأخذه بسلعة تساوي مائة إلى الأجل.(7/123)
والقول الثالث ـ ذكره الشافعي في الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الشفيع بالخيار: بين أن يعجل المائة، ويأخذ الشقص، وبين أن يصبر، ويترك الشقص في يد المشتري إلى أن يحل الأجل، فيأخذ بالمائة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتماثل، ولا يجوز أن يأخذ بسلعة تساوي مائة إلى الأجل؛ لأن الشفيع لا يأخذ بغير جنس الثمن، فإذا بطل هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يجبر على ما ذكرناه. فإن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الثمن في تركته، ولم يحل على الشفيع، بل هو بالخيار على ما ذكرناه، وإن لم يمت المشتري، ولكن باع الشقص قبل حلول الأجل.. صح البيع؛ لأنه ملكه، والشفيع بالخيار: بين أن يأخذ بالبيع الثاني، وبين أن يفسخ الثاني، ويأخذ بالأول.
[مسألة: باع شقصاً في مرض موته]
] : إذا باع رجل في مرض موته شقصا له من دار بثمن مثله من وارثه.. صح البيع، سواء كان الشفيع وارثاً أو غير وارث، ولا يعترض عليه في ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح بيعه؛ لأنه محجور عليه في حقه، فصار كبيع الصبي) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه محجور عليه في حقه بالشرع، كما يحجر عليه في حق الأجنبي فيما زاد على الثلث، فأما البيع منه بثمن المثل: فغير محجور عليه في حقه.
وإن حاباه، بأن باع منه شقصاً يساوي ألفين بألف.. فالورثة بالخيار مع المحاباة هاهنا، سواء احتملها الثلث أو لم يحتملها الثلث، فإن أجازوها.. أخذها الشفيع، وإن لم يجيزوها.. فإن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويرجع إلى الورثة نصف الشقص، فإن اختار الشفيع أخذ نصف الشقص بالألف.. أخذه، ولم يكن للمشتري فسخ البيع؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإن لم يختر الشفيع أخذه.. كان للمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليه.(7/124)
وإن كان المشتري أجنبياً، وكان هناك محاباة تخرج من الثلث، فإن كان الشفيع أجنبياً.. كان له أخذ جميع الشقص بالألف؛ لأن الشفيع يأخذ جميع ما حصل للمشتري بالذي ملك به، وإن كان الشفيع وارثا.. ففيه خمسة أوجه؛ أربعة لأبي العباس، والخامس خرجه أصحابنا:
أحدها: أن البيع صحيح، ولا يستحق الشفيع إلا نصف الشقص بالألف، ويبقى النصف للمشتري بغير ثمن؛ لأن المحاباة تصح للأجنبي، ولا تصح للوارث، فلو دفعنا جميع الشقص إلى الشفيع.. لحصلت المحاباة للوارث، وهذا لا يجوز، فصار كأنه باع منه النصف بألف، ووهب منه النصف.
والوجه الثاني: أن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويأخذه الشفيع، ويبطل البيع في نصفه، فيرجع إلى ورثة الميت؛ لأنا لا يمكننا أن ندفع جميع الشقص إلى الشفيع؛ لأن في ذلك إثبات المحاباة للوارث، وهذا لا يصح، ولا يمكننا أن نقول: يأخذ نصف الشقص بالألف؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، فلم يبق إلا ما قلناه.
والوجه الثالث: أن البيع يبطل في الجميع؛ لأنه لا يمكن تصحيح البيع في الشقص، ودفع المحاباة إلى الوارث؛ لأن ذلك لا يجوز، ولا يمكن أن يدفع إلى الوارث نصف الشقص بجميع الثمن؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، ولا يمكن إبطال البيع في النصف الذي تعلقت به المحاباة فقط؛ لأن تعلق البيع في النصف الذي حصلت به المحاباة كتعلقه بالآخر، فلم يبق إلا الحكم بإبطال البيع في الجميع.
والوجه الرابع ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، ويستحق الشفيع أخذ جميعه بالألف؛ لأن الاعتبار بالمحاباة لمن حصلت له، لا بمن تؤول إليه المحاباة، والذي حصلت له المحاباة هو(7/125)
المشتري، فهو كما لو أوصى لأجنبي بشيء، ولوارث الموصي على الموصى له دين، والموصى له محجور عليه.. فإن يعلم أن الوصية تؤول إلى وارث الموصي، ولا يحكم بإبطال الوصية لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله.
والوجه الخامس ـ الذي خرجه أصحابنا ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، وتسقط الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، واختيار ابن الصباغ؛ لأنا إذا أثبتنا الشفعة.. أدى إلى إبطال البيع، وإذا بطل البيع.. بطلت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه، وسقوط غيره.. وجب إسقاطه، ويفارق الوصية لمن عليه دين لوارث الموصي؛ لأن استحقاقه للأخذ إنما هو بدينه لا من جهة الوصية، وهذا استحقاقه من جهة الوصية.
[مسألة: شراء الشقص بما له مثل]
] : وإن اشترى الشقص بعرض.. نظرت:
فإن كان له مثل، كالحبوب، والأدهان.. أخذ الشفيع بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال، فأشبه الأثمان.
وإن اشتراه بما لا مثل له، بأن اشتراه بعبد، أو ثوب، وما أشبهه.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بقيمة العرض الذي اشترى به، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحسن البصري، وسوار القاضي: لا تثبت الشفعة هاهنا.
دليلنا: أنه أحد نوعي الثمن، فجاز أن تثبت فيه الشفعة، كذوات الأمثال.
إذا ثبت هذا: فأي وقت تعتبر فيه قيمة العرض؟ فيه وجهان:(7/126)
أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أنها تعتبر وقت البيع؛ لأنه وقت الاستحقاق، ولا اعتبار بما حدث بعد ذلك من زيادة، أو نقصان.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر في (الفروع) غيره ـ: أنها تعتبر حين استقرار العقد، وهو عند انقضاء الخيار، كما يعتبر قدر الثمن في تلك الحال.
وقال مالك: (يأخذه الشفيع بقيمة العرض يوم المحاكمة) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بوقت لاستحقاقه للشفعة، وإنما الاعتبار بوقت الاستحقاق، كما لو أتلف عليه عرضاً.. فإن قيمته تعتبر وقت الإتلاف ـ لأنه وقت الاستحقاق ـ لا وقت المحاكمة.
[فرع: اشترى شقصاً بعين فتلفت]
] : وإن اشترى شقصا بعين، فتلفت قبل القبض.. بطل البيع، وبطلت الشفعة؛ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا بطل الأصل.. بطل الفرع، وهكذا: لو اشترى شقصاً بعرض، فاستحق العرض.. بطلت الشفعة؛ لما ذكرناه.
[فرع: اشترى شقصاً بعبد فوجد به عيباً]
ً] : وإن اشترى شقصاً بعبد، فوجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع الشقص من المشتري، أو قبل أن يأخذه.
فإن كان ذلك بعد أن أخذ الشفيع الشقص.. فلبائع الشقص أن يرد العبد على المشتري؛ لأنه ملكه منه بعقد معاوضة، فكان له رده بالعيب، فإذا رده عليه.. لم يكن للمشتري أن يسترجع الشقص من الشفيع؛ لأن الشفيع قد ملكه بالأخذ، فلم يجز إبطال ملكه، كما لو باعه للمشتري، ثم وجد بائعه بالثمن عيباً.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص؛ لأنه تعذر عليه الرجوع إلى عين الشقص، فرجع عليه بقيمته، كما لو غصب شيئاً، فتلف في يده.
إذا ثبت هذا: وقد أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد.. فهل يثبت التراجع بين(7/127)
الشفيع والمشتري بما بين قيمة الشقص وقيمة العبد إن كان بينهما اختلاف؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تراجع بينهما؛ لأن الشفيع قد أخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد، وهو قيمة العبد، ولا يتغير ذلك لما حدث من الرد.
والثاني: يتراجعان؛ لأن الشفيع يأخذ الشقص بما استقر على المشتري والذي استقر عليه الآن، وهو قيمة الشقص.
فعلى هذا: يقابل بين القيمتين، فإن كانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد.. رجع المشتري على الشفيع بما زاد على قيمة العبد، وإن كانت قيمة العبد أكثر من قيمة الشقص.. استرجع الشفيع من المشتري ما زاد من قيمة العبد على قيمة الشقص، فإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع، أو هبة، أو إرث.. لم يكن للبائع أن يرد القيمة ويطالب بالشقص؛ لأن ملك البائع والمشتري قد زال عن الشقص، بخلاف المغصوب إذا ضل عن الغاصب؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً قبل أن يأخذ الشفيع الشقص.. فأيهما أحق بالشقص؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن البائع أحق به؛ لأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وفي إثباتها هاهنا إضرار بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر.
والثاني: أن الشفيع أحق بالشقص؛ لأن حقه سابق؛ لأنه ثبت بالبيع.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص، وهل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته، أو بقيمة العبد؟ على الوجهين المذكورين في التراجع.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، وقد حدث عنده فيه عيب آخر.. فلا يجبر المشتري على قبول العبد لأجل العيب الحادث عند بائع الشقص، ولكن يرجع بائع(7/128)
الشقص على المشتري بأرش العيب، وهل يرجع المشتري على الشفيع بشيء؟ قال أصحابنا: ينظر فيه:
فإن كان الشفيع قد دفع إلى المشتري قيمة العبد سليما. فلا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أخذ منه قيمته سليما، فدخل في جملة ذلك أرش العيب.
وإن كان قومه عليه معيبا.. فهل يرجع عليه بشيء فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه استحقه بما سمي في العقد.
والثاني: يرجع عليه؛ لأن الثمن استقر على المشتري بالعبد والأرش.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يرجع هاهنا، وجها واحدا بخلاف ما تقدم من قيمة الشقص؛ لأن العقد اقتضى أن يكون العبد سليما، فما دفع إلا ما اقتضاه العقد، بخلاف قيمة الشقص، ولهذا لو كان دفع قيمة عبد سليم.. لم يكن للشفيع أن يرجع عليه بقدر قيمة العبد، فثبت أن ذلك مستحق على الشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن قيمة الشقص إذا كانت أكثر من قيمة العبد، وأخذ الشفيع بقيمته سليما.. أن حكمه حكم ما لو أخذ الشقص بقيمته معيبا؛ لأن البائع إنما يرجع على المشتري بالأرش بجزء من قيمة الشقص، فحينئذ يستقر عليه الشقص بأكثر من قيمة العبد، وهل يكون له الرجوع بالفضل؟ على ما مضى من الوجهين.
[فرع: الشقص يكون مهرا وعوض خلع وأجره]
قد ذكرنا: أن الشقص إذا جعل مهرا في نكاح، أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فإن الشفعة تثبت فيه، ومضى خلاف أبي حنيفة فيها.
إذا ثبت هذا: فإن الشفيع يأخذه، ويلزمه أن يدفع إلى المرأة مهر مثلها إذا كان صداقا، ويدفع إلى الزوج مهر مثل المرأة التي خالعته عليه، ويدفع إلى المؤاجر أجرة مثل المنفعة التي جعل الشقص أجرة عنها.(7/129)
وقال مالك: (يلزمه قيمة الشقص) .
ودليلنا: أن المنفعة لا مثل لها، فأخذ الشفيع بقيمتها، كالثوب، والعبد.
وإن جعل الشقص متعة في طلاق امرأة.. فيأخذ الشفيع بمتعة مثلها، لا بمهر مثلها؛ لأن الواجب المتعة لا المهر.
[فرع: أمهر شقصا فيه شفعة]
إذا أصدق الرجل امرأته شقصا فيه شفعة، ثم طلقها قبل الدخول، فإن طلقها بعد ما أخذ الشفيع الشقص.. فإن الزوج لا يستحق الرجوع في نصف الشقص؛ لأن ملك المرأة قد زال عنه، ولكن يرجع الزوج على زوجته بنصف قيمة الشقص، كما لو كان الشقص تالفا.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع عليها بقيمة نصف الشقص أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن القيمة إن كانت أقل وقت العقد، ثم زادت.. فالزيادة حدثت في ملكها، فلا يرجع الزوج عليها بها، وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر، ثم نقصت.. فالنقصان مضمون عليه، فلا يرجع عليها بما هو مضمون عليه. ولم يذكر أصحابنا التراجع بين الزوجة والشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الزوجة قد أخذت من الشفيع مهر مثلها، وقد دفعت إلى الزوج نصف قيمة الشقص، فإن كان بين نصف مهر المثل وبين نصف قيمة الشقص فضل.. فهل يثبت بينهما التراجع فيه؟ يحتمل أن تكون على الوجهين، كما قلنا في العبد المعيب.
وإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف الشقص؛ لأن حق الشفيع قد سقط عنه.
وإن طلقها الزوج قبل الدخول، وقبل علم الشفيع بالنكاح.. ففيه وجهان:(7/130)
أحدهما: أن الزوج أولى بالرجوع، فيرجع بنصف الشقص، ويأخذ الشفيع النصف بنصف مهر المثل؛ لأن حق الزوج ثبت بنص القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وحق الشفيع ثبت بأخبار الآحاد، والاجتهاد.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن الشفيع أحق) ؛ لأن حقه أسبق؛ لأنه ثبت بعقد النكاح، وحق الزوج ثبت بالطلاق، ولأن حق الشفيع ثبت أيضا بالإجماع، وما ثبت بالإجماع.. كالثابت بنص الكتاب، ومع هذا ترجيح، وهو أنا إذا دفعنا الشقص إلى الشفيع.. لم يسقط حق الزوج؛ لأنه يرجع إلى قيمة الشقص، فإذا دفعناه إلى الزوج.. أسقطنا حق الشفيع، فكان هذا أولى.
[مسألة: اشترى شقصا فيه الشفعة]
إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة.. فلا يخلو: إما أن يعلم الشفيع بالبيع، أو لم يعلم.
فإن لم يعلم، مثل: أن كان غائبا، أو كتم عنه.. لم تسقط شفعته وإن طال الزمان؛ لأن هذا خيار لإزالة الضرر، فلا يسقط بالجهل به، كما لو اشترى شيئا معيبا، ولم يعلم بالعيب إلا بعد زمان طويل.
وهكذا: لو علم بالبيع، ولم يعلم من المشتري، أو لم يعلم جنس الثمن، أو قدره.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لا يعلم القدر من الثمن الذي يدفعه، ولأن له غرضا في العلم بعين المشتري؛ لأنه قد لا يرضى بشركة رجل، ويرضى بشركة غيره.
وإن علم بالبيع، وقدر الثمن، والمشتري.. فلا يخلو: إما أن يكون له عذر، أو لا يكون له عذر.
فإن لم يكن له عذر، وطالب بالشفعة على الفور.. صح ذلك، وإن أخر الطلب عن الفور.. فهل تسقط شفعته؟ فيه أربعة أقوال:
أحدها - قاله في القديم - (أن له الخيار على التأبيد لا يسقط إلا بالعفو، أو بما(7/131)
يدل على الترك، بأن يقول للمشتري: قاسمني، أو بعني، وليس للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك) .
ووجهه: قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه، ولم يؤذنه.. فشريكه أحق» . ولم يفرق.
ولأنه استيفاء حق له، فجاز له تأخيره إلى أي وقت شاء، كالقصاص.
والقول الثاني - قاله في القديم أيضا -: (أنه على التراخي لا يسقط إلا بصريح العفو، أو بما يدل عليه) ، إلا أن للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك؛ لأنا لو قلنا: إنه على الفور.. أضررنا بالشفيع؛ لأن الحظ له أن يؤخر لينظر: هل الحظ في الأخذ، أو الترك؟ ولو قلنا: إنه على التأبيد.. أضررنا بالمشتري؛ لأنه لا يغرس في أرضه، ولا يبني مخافة أن ينتزع ذلك منه، فجعل له الخيار إلى أن يرفعه المشتري إلى الحاكم.
والقول الثالث - قاله الشافعي في (سير) " حرملة " -: (أن للشفيع الخيار إلى ثلاثة أيام) ، لأنه لا يمكن أن يجعل له الخيار على التأبيد، ولا على الفور؛ لما بيناه، ولا بد من فصل بينهما، وقدر ذلك بثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، والضرر يزول عنهما بذلك.
والرابع - قاله في الجديد -: (أن خياره على الفور) . فإذا أخر الطلب من غير عذر.. سقطت شفعته، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة لمن واثبها» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشفعة كنشطة العقال، إن قيدت.. ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها» . ولأنه خيار لإزالة الضرر عن المال(7/132)
فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص.
فإذا قلنا بهذا، وعليه التفريع: فمعنى قولنا: (على الفور) هو أن يطالبه على حسب ما جرت العادة به، لا على أسرع ما يمكن، حتى لو أمكنه أن يطرد مركوبه، أو يسرع في السير، فلم يفعل.. أن تبطل شفعته؛ لأن هذا لا يقوله أحد، ولكن على حسب العادة، فإن علم ذلك بالليل.. فليس عليه أن يطالبه، حتى يصبح؛ لأن العادة في الليل الإيواء والسكن دون المطالبة بالحقوق، وكذلك: إن علم وهو جائع أو عطشان.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يفرغ من الأكل والشرب، وكذلك: إن علم به وهو في الحمام.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يخرج منه، وكذلك: إن كان يريد الصلاة.. فله أن يتطهر، ويلبس الثوب، ويؤذن، ويأتي بسنن الصلاة وهيآتها، ولا تبطل شفعته بذلك؛ لأن العادة جرت بتقديم هذه الحوائج على غيرها، وكذلك: إذا أخره لإغلاق الباب، وحفظ المال، وتحصيل المركوب إن كانت عادته الركوب، أو كانت المسافة بعيدة؛ لأن العادة جرت بتقديم ذلك، وإذا لقي المشتري، وقال: السلام عليكم، أخذت الشقص أو الشفعة بالثمن الذي اشتريت به.. صح ذلك، ولا تبطل شفعته بالسلام؛ لأن السلام قبل الكلام سنة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدأ بالكلام قبل السلام.. فلا تجيبوه» .(7/133)
وإن قال: بارك الله لك في صفقة يمينك.. لم تبطل شفعته بذلك؛ لأن ذلك يتصل بالسلام، ولأنه إذا بورك في الصفقة.. انتفع الشفيع بها؛ لأنه يأخذ من الصفقة المباركة، فلم تبطل شفعته بذلك.
وإن سأله بعد السلام عن حاله، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه ترك الأخذ بالشفعة مع القدرة عليها، فبطلت.
وإن قال الشفيع للمشتري: هبني، أو بعني الشقص، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه عدل عن المطالبة بالشفعة، إلى أن يتملكه بجهة أخرى.
وإن قال المشتري للشفيع: صالحني عما وجب لك من الشفعة بدينار، فقال الشفيع: صالحتك.. لم يصح الصلح، ولا يملك الشفيع العوض، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يصح) .(7/134)
دليلنا: أنه خيار تملك، فلا يصح بدل العوض فيه، كخيار الثلاث، وهل تسقط الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسقط؛ لأنه لما عدل عن الشفعة إلى العوض.. كان ذلك رضا بإسقاطها.
والثاني: لا تسقط وهو الصحيح؛ لأنه عدل عن الشفعة إلى عوض، فإذا لم يصح له العوض.. رجع إلى شفعته، كما لو باع له عينا بثمن لا يصح.
[فرع: لا تتوقف المطالبة بالشقص على التسليم]
قال الشافعي: (وإن كان بينهما دار بمكة، فحصلا بمصر، فباع أحدهما نصيبه منها، وعلم شريكه، فلقي الشفيع المشتري، فلم يشفع عليه حتى رجعا إلى مكة، فشفع عليه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه أخر الأخذ من غير عذر، فإن قال: إنما أخرت المطالبة لأستيقن بقاء الدار، ولأقبض الشقص.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن الأصل بقاؤها، ولأن المطالبة بالشفعة لا توقف على تسليم الشقص) .
فرع: [نقد دنانير لأجل الشقص فكانت مستحقة] :
وإن خرجت الدنانير التي دفعها الشفيع مستحقة. نظرت:
فإن شفع بدنانير في ذمته، مثل: أن قال: أخذت الشفعة بالثمن الذي اشتريت به، أو أخذت الشقص على الثمن الذي اشتريت به، ثم نقد الدنانير إلى المشتري، فبان أنها مستحقة.. فقد ملك الشفيع الشقص بالثمن الذي في ذمته، فإذا استحق ما نقده.. لم تبطل شفعته، بل يلزمه أن ينقد دنانير يملكها، كما لو اشترى عينا بثمن في ذمته، ثم نقد عما في ذمته بدنانير، فاستحقت.. فإن الشراء لا يبطل.
وإن شفع بعين الدنانير، مثل: أن قال: أخذت الشفعة أو الشقص بهذه الدنانير ثم استحقت.. فهل تبطل شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل؛ لأنه لما أخذ الشفعة بدنانير لا يملكها صار كأنه ترك أخذ الشقص مع القدرة عليها.(7/135)
والثاني: لا تبطل، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه استحق أخذ الشفعة بمثل الثمن الذي وقع به العقد في ذمته، فإذا عين عن ذلك ما لا يملكه. بطل حكم التعيين، ولم تبطل الشفعة، كما لو اشترى شيئا بدنانير في ذمته، ثم نقد عنها ما لا يملكه.
فإن كان للشفيع عذر.. فالعذر ثلاثة أشياء: مرض، أو حبس، أو غيبة. فإن كان مرضا.. نظرت:
فإن كان مرضا يسيرا كالصداع اليسير، وما أشبهه.. فحكمه حكم الصحيح.
وإن كان مرضا كبيرا لا يتمكن معه من السير، فإن لم يمكنه التوكيل.. لم تسقط شفعته؛ لأنه غير قادر على المطالبة، وإن أمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المذهب -: أن شفعته تسقط؛ لأنه أخر المطالبة مع القدرة عليها، فهو كالصحيح.
والثاني: لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض بترك التوكيل، بأن يطالب بنفسه؛ لأنه أقوم بذلك، أو يخاف الضرر من التوكيل بأن لا يوجد من يتوكل له إلا بعوض فإن وجد بغير عوض احتاج إلى التزام منه أو يخاف أن يقر عليه الوكيل بما يسقط حقه، ثم يرفع ذلك إلى حاكم يحكم بصحة إقرار الوكيل على الموكل.
والوجه الثالث: إن وجد من يتطوع بالوكالة بغير عوض، فلم يوكل.. سقطت شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه بذلك، وإن لم يجد من يتوكل عنه إلا بعوض.. لم تسقط شفعته بترك توكيله؛ لأن عليه ضررا بذلك.
وإن علم بالبيع وهو محبوس، فإن كان محبوسا بغير حق، بأن حبسه السلطان مصادرة ليأخذ منه شيئا بغير حق، أو حبس بدين عليه، وهو معسر.. فحكمه حكم(7/136)
المريض: إن لم يقدر على التوكيل.. لم تسقط شفعته، وإن قدر على التوكيل، فلم يوكل.. فعلى الأوجه الثلاثة في المريض، وإن كان محبوسا بحق، بأن حبس بدين عليه يقدر على أدائه، فإن وكل من يطلب بالشفعة.. جاز، وإن لم يوكل.. بطلت شفعته، وجها واحدا؛ لأنه ترك المطالبة مع القدرة عليها.
وإن عجز المريض أو المحبوس بغير حق عن المطالبة بنفسه، وعن التوكيل - إذا قلنا: يجب عليه - إلا أنه قدر على الإشهاد، فلم يشهد.. فهل تسقط شفعته؟ فيه قولان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: تسقط شفعته؛ لأن الترك قد يكون للزهد في الشفعة، وقد يكون للعجز، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته.
والثاني: لا تسقط؛ لأن عذره في الترك ظاهر، فلم يحتج معه إلى الإشهاد.
وإن بلغه البيع وهو غائب في بلد أو سفر، فإن سار عقيب ذلك، أو وكل من يطالب بالشفعة، وأشهد: أنه يسير هو أو وكيله لطلب الشفعة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لم يترك الطلب، وإن لم يمكنه أن يسير بنفسه، ولا أن يسير وكيله؛ لخوف الطريق، أو لعدم الرفيق، وأشهد: أنه على شفعته.. فهو على شفعته؛ لأنه غير مفرط، فإن لم يمكنه المسير، وأمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ على الأوجه الثلاثة في المريض، وإن لم يمكنه السير، ولا التوكيل - إذا قلنا: يجب - وقدر على الإشهاد، فلم يشهد: أنه على حقه من الشفعة.. فهل تسقط شفعته؟ على القولين اللذين حكاهما في " المهذب ".
وإن أمكنه السير، فسار.. فهل يلزمه الإشهاد: أنه يسير لطلب الشفعة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يلزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون سيره لطلب الشفعة، ويحتمل أن يكون لتجارة، أو غيرها، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. كان مفرطا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يلزمه ذلك، ولا تبطل به شفعته؛ لأن الظاهر من(7/137)
حاله لما سار عقيب السماع أنه سار لطلب الشفعة، ولأن له أن يسير بنفسه، وله أن يوكل، ثم ثبت أنه لو سير الوكيل لم يلزم الوكيل الإشهاد، فكذلك الموكل.
قال المحاملي: إذا قلنا: يجب الإشهاد، فاختلفا، فقال الشفيع: أشهدت وسرت، وقال المشتري: لم تشهد، أو قلنا: لا يجب الإشهاد، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري: لم تسر عقيب السماع.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في فعله، وهو أعلم به.
[فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة]
ذكر الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: إذا وجبت له الشفعة، فجاء إلى الحاكم، وقال: أنا مطالب بحقي.. كان على شفعته وإن كان متمكنا من المجيء إلى المشتري، فإن ترك المجيء إلى الحاكم وإلى المشتري مع تمكنه منهما، وأشهد على نفسه: أنه يطالب بالشفعة.. بطلت شفعته بذلك؛ لأنه تركها مع القدرة عليها.
[مسألة: اعتبار تصديق المخبر]
إذا أخر الشفيع المطالبة على الفور، ثم قال: أخرت؛ لأني لم أصدق الذي أخبرني بالبيع.. نظرت:
فإن كان قد أخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان عدول، أو ما فوق ذلك.. سقطت شفعته؛ لأنه قد أخبره من قوله حجة في الشرع.
وإن أخبره صبي، أو فاسق، أو كافر.. لم تسقط شفعته؛ لأن قول هؤلاء ليس بحجة في الشرع. وإن أخبره رجل عدل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد لا تقوم به البينة، فهو كما لو أخبره صبي أو فاسق.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد حجة في الشرع مع اليمين.
وإن أخبره عبد أو امرأة.. فاختلف أصحابنا فيها:(7/138)
فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنها على وجهين، كالحر العدل.
وذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا تسقط شفعته، وجها واحدا، كالصبي، والفاسق.
[مسألة: إظهار غلاء الشقص ليترك الشفعة]
إذا أظهر المشتري أنه اشترى الشقص بألف درهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى بدون ألف درهم.. فهو على شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك الشفعة؛ لأجل غلاء الشقص، أو لأنه لا يقدر على الألف، فإذا بان أن الثمن دونه.. لم تسقط شفعته.
وهكذا: لو قال: اشتريت ربع الدار بمائة فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصفها بمائة.. فهو على شفعته؛ لأنه قد لا يرضى بربع الدار بمائة، ويرضى نصفها بمائة، وإن قال: اشتريت الشقص بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بألف أو قال اشتريت الشقص بمائة فعفا الشفيع فبان أنه اشترى نصفه بمائة.. سقطت شفعته؛ لأن ما بان أغلظ على الشفيع مما أظهر له المشتري.
وإن قال: اشتريت الشقص بالدراهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدنانير، أو قال: اشتريت بالدنانير، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدراهم.. فهو على شفعته، سواء كانت قيمة ما اشترى به أكثر من قيمة ما أظهر الشراء به أو أقل، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (إن كانت قيمتها سواء، أو قيمة ما بان أنه اشترى به أكثر.. سقطت شفعته، وإن كان قيمة ما أظهر أكثر مما بان أنه اشترى به.. لم تسقط شفعته) .
دليلنا: أنه قد يكون له غرض في ذلك، وهو أنه لا يملك ما أظهر الشراء به.
وإن أظهر المشتري أنه اشترى نصف الدار بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى ربعها بخمسين، أو أظهر أنه اشترى الربع بخمسين، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصف الدار بمائة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض في أخذ القليل دون الكثير، أو في أخذ الكثير دون القليل.(7/139)
[فرع: إظهار الشراء لنفسه أو لغيره]
وإن قال المشتري: اشتريت الشقص لنفسي، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لغيره أو قال: اشتريته لغيري فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لنفسه.. لم تبطل شفعته؛ لأنه قد يرضى مشاركة أحد الرجلين، ولا يرضى مشاركة الآخر.
وإن اشترى الشقص اثنان، فبلغ الشفيع أنه اشتراه أحدهما، فعفا، ثم بان أنهما اشترياه.. قال أبو العباس: فله أن يأخذ منهما، أو من واحد منهما، ويترك الآخر؛ لأنه إنما ترك الشفعة لأحدهما على أنه اشترى الجميع، فإذا بان أنه اشترى البعض.. ثبتت له الشفعة عليه، وأما الآخر: فلم يترك له الشفعة.
[فرع: العفو عن الشفعة]
قال الطبري في " العدة ": وإذا عفا الشفيع عن الشفعة، بأن قال: عفوت عن الشقص، أو سلمته، أو نزلت عنه.. فقد قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (له الخيار ما لم يفارق مجلسه؛ لأن هذا يجري مجرى البيع، فثبت فيه خيار المجلس، كالبيع) . وخرج أبو العباس قولا آخر: أنه لا خيار له، كما لا يثبت له في الإبراء والإسقاط خيار.
قال ابن الصباغ: وإذا وجبت له الشفعة، وقضى بها القاضي، والشقص في يد البائع، فدفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني، فأقاله.. لم تصح الإقالة؛ لأن الإقالة تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكا من جهته، فإن باعه منه قبل القبض.. لم يصح، كما لا يصح أن يبيع ما ابتاع قبل القبض.(7/140)
[مسألة: باع أحد الشريكين الدار ولم يعلم الآخر وباع نصيبه]
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه فيها.. ثبت لشريكه فيه الشفعة، فإن باع الشفيع نصيبه فيها قبل أن يعلم بالشراء.. فهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته منها؛ لأنه استحق الشفعة ببيع شريكه، وملكه حينئذ باق على الشقص، فلم تسقط شفعته بزوال ملكه.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن شفعته تسقط؛ لأن سبب استحقاقه للشفعة وجود ملكه، وقد زال ملكه، فوجب أن يسقط استحقاقه للشفعة.
فإذا قلنا بهذا: فباع الشفيع بعض حقه.. ففيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن الشفعة تستحق بقليل الملك وكثيره، وقد بقي له ملك فاستحق به الشفعة، كما لو بيع شيء من ملكه.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن الشفعة يستحقها بجميع ملكه، فإذا باع بعضه.. سقط ما يقابله، فإذا سقط البعض.. سقط الجميع، كما لو عفا عن بعض شفعته.
[مسألة: أخذ بعض الشفعة]
وإن وجبت له الشفعة في الشقص، فأراد أن يأخذ بعضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تفريقا للصفقة على المشتري، فإن قال: عفوت عن أخذ نصف الشقص.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\ 319] :
أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أن شفعته تسقط في الجميع، كما لو عفا عن بعض حقه من القصاص.
والثاني: لا يسقط شيء من شفعته.
والثالث: يسقط حقه من نصف الشقص، وله أخذ الباقي إذا رضي المشتري بذلك.(7/141)
[فرع: شراء شقصين من أرضين]
وإن اشترى رجل شقصين من أرضين بعقد من رجل، فإن كان لكل شقص شفيع.. فكل واحد من الشفيعين بالخيار: بين أن يأخذ شقصه بالشفعة، وبين أن لا يأخذ؛ لأن كل واحد منهما لا يملك أن يأخذ ما في غير شركته، فإن كان الشفيع فيهما واحدا.. فهو بالخيار: بين أن يأخذهما جميعا، أو يتركهما جميعا، فإن أراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يبعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت له الشفعة في شقص، فأراد أن يأخذ بعضه، ويترك بعضه.
والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه لا ضرر على المشتري بذلك؛ لأن الشقص الآخر يبقى له، ولا تبعيض عليه بالشقص.
فإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من رجلين بعقد واحد.. فالشفيع بالخيار: بين أن يأخذ ما حصل للمشتريين، وبين أن يأخذ ما حصل لأحدهما دون الآخر؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء، فباع اثنان نصيبهما من رجل.. فللشريك الثالث أن يأخذ من المشتري جميع ما اشتراه من شريكيه، وله أن يأخذ منه ما اشتراه من أحدهما دون الآخر؛ لما ذكرناه من: أن حكم عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء فباع اثنان نصيبهما من اثنين، كل واحد باع نصيبه منهما بعقد أو عقدين.. فهذا في حكم أربعة عقود، والشفيع في ذلك بين ست اختيارات، إن شاء.. أخذ ما حصل للمشتريين. وإن شاء.. تركهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما، وترك الآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لكل واحد منهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما ونصف ما حصل للآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لأحدهما، ولم يأخذ من الآخر شيئا.(7/142)
[فرع: بيع أحد الشريكين نصيبه من رجل بعقدين قبل علم الشفيع]
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما بعض نصيبه من رجل بعقد، ثم باع منه الباقي بعقد آخر، ثم علم شريكه.. فللشفيع أن يأخذ المبيع أولا وثانيا. وله أن يأخذ أحدهما دون الآخر؛ لأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه، فإن أخذ الأول.. لم يكن للمشتري أن يشاركه فيه؛ لأن الشفيع استحق الشفعة في الأول قبل وجود ملكه للثاني. وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. كان للمشتري أن يشارك الشفيع في الثاني؛ لأنهما شفيعان عند شراء الثاني.
وقال أبو حنيفة: (ليس للشفيع أن يأخذ جميع النصيبين المبيعين، وإنما له أن يأخذ الأول، ونصف الثاني) .
قال ابن الصباغ: وحكي هذا عن بعض أصحابنا، ووجهه: أن ملكه ثبت على الأول، فإذا اشترى الثاني.. كان شريكا بالنصيب الثاني.
ودليلنا: أن ملكه على الأول لم يستقر؛ لأن للشفيع أخذه، فلا يستحق به الشفعة، كما لو ارتهن بعضه، واشترى الباقي.
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من ثلاثة رجال صفقة واحدة.. كان في حكم ثلاثة عقود، فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة، وله أن يأخذ من اثنين أو من واحد، وليس لأحد الثلاثة إذا عفا الشفيع عن الأخذ منه أن يشاركه في الشفعة فيما يأخذ من الآخرين؛ لأن ملكه لم يسبق ملك المشفوع عليهما، وإن باع أحد الرجلين نصيبه من ثلاثة رجال في ثلاثة عقود عقدا بعد عقد، فللشفيع أن يأخذ نصيب جميع المشترين، وله أن يأخذ من بعضهم، فإن أخذ من الأول، وعفا عن الآخرين.. لم يشاركاه؛ لأن ملكهما حادث بعد ثبوت الشفعة، وإن عفا عن الأول، وأخذ من الآخرين.. شاركه الأول، وكذلك: إن عفا عن الأول والثاني، وأخذ من الثالث.. شاركه الأول والثاني في الثالث، وكذلك: لو عفا عن الثلاثة.. كان للأول أن يأخذ(7/143)
من الثاني والثالث، وإن عفا الأول عن الثاني.. كان للأول والثاني أن يأخذا من الثالث.
[مسألة: وجود أكثر من شفيع للشقص]
وإن كان للشقص شفعاء.. كانت الشفعة لجميعهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باع، ولم يؤذن شريكه.. فشريكه أحق به بالثمن» . وكل واحد منهم شريك.
وإن كانت أنصباء الشفعاء متساوية.. قسم الشقص المبيع بينهم بالسوية، وإن تفاضلت أنصباؤهم.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس، وبه قال الشعبي، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بالشركة.. لأخذ الجميع وإن قل نصيبه، وإن اشتركوا.. تساووا في الأخذ، كالاثنين في الميراث، ولأن الشفعة لو كانت تستحق على قدر الملك.. لوجب أن يأخذ بقدر الملك حتى لو كان لرجل خمسة أسداس دار، ولرجل سدسها، ثم باع صاحب الخمسة الأسداس نصيبه.. لم يستحق صاحب السدس غير سدس ما بيع بقدر ملكه، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أنها تستحق على العدد لا على قدر الملك، ولأنه لو كان عبد بين ثلاثة، لواحد النصف، وللآخر الثلث، وللآخر السدس، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما في حالة واحدة.. لقوم الثلث عليهما بالسوية، فكذلك هاهنا مثله.
والقول الثاني: أن الشفعة تقسم على قدر الملك، وبه قال الحسن البصري، وابن المسيب، وعطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه حق مستفاد بالملك، فقسط على قدر الملك، كغلة العبد، وثمرة النخلة، وما قاله الأول.. منتقض بالفرسان والرجالة(7/144)
في الغنيمة، فإن كل واحد منهم لو انفرد بالغنيمة.. لاستحق جميعها، فإذا اشتركوا.. تفاضلوا.
إذا ثبت هذا: فإن حضر جميع الشفعاء، واختاروا الأخذ.. فلا كلام، وإن عفا بعضهم عن حقه من الشفعة.. كان جميع الشقص لمن لم يعف، فإن أراد من لم يعف أن يأخذ بقدر نصيبه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يجز. وإن قال بعضهم: جعلت حقي من الشفعة لفلان.. سقط حقه من الشفعة، وكان لباقي الشفعاء؛ لأن ذلك عفو، وليس بهبة.
[فرع: بيع أحد الشركاء نصيبه من أجنبي ثم حضر الشفعاء تباعا]
فإن كانت الدار بين أربعة أنفس، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، وحضر أحد الشفعاء الثلاثة.. فله أخذ جميع الشقص؛ لأن في أخذه البعض إضرارا بالمشتري، ولأن الظاهر أنه لا شفيع للشقص غيره؛ لأن الآخرين لا يعلم هل يطالبان بالشفعة، أم لا؟ فإذا قدم الشفيع الثاني.. أخذ من الأول نصف الشقص؛ لأنه ليس هاهنا شفيع مطالب سواهما، فإذا قدم الثالث.. أخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص المبيع؛ لأن ذلك قدر ما يستحقه كل واحد منهم عند الاجتماع، فإن عفا الشفيعان الآخران.. استقر ملك الأول على ملك جميع الشقص، فإن قال الشفيع الأول: لا آخذ جميع الشقص، وإنما آخذ منه الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وهل تبطل شفعته بذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تبطل شفعته؛ لأنه أمكنه أخذ الجميع، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته، كما لو وجبت له الشفعة وحده في شقص، فقال: لا آخذ إلا بعضه.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، فإن اختارا أخذ جميع الشقص.. كان لهما ذلك، وإن اختارا الترك.. سقطت شفعة الجميع، فإن اختار أحدهما أخذ جميع الشقص، واختار الآخر الترك.. كان لهما ذلك.
والوجه الثاني - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أن شفعة الأول لا تبطل(7/145)
وهو الصحيح؛ لأن له عذرا في ترك أخذ الجميع، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه، فلم تسقط بذلك شفعته، كما لو أظهر له المشتري أن الثمن كثير، فترك الأخذ، ثم بان له أن الثمن دونه.. فإن شفعته لا تبطل؛ لأنه أخر الأخذ لعذر.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، وطالبا بالشفعة.. قسم الشقص بينهما أثلاثا، فإن عفوا عن الشفعة.. فهل للأول أن يأخذ نصيبيهما؟
قال أبو إسحاق: ينظر في الأول، فإن قال: أنا مطالب بالشفعة في الكل، ولكن إنما آخذ حصتي، وأتوقف في حصة شريكي؛ لأنظر ما يكون منهما.. فله أخذ نصيبيهما؛ لأنه لم يعف عن الشفعة. وإن قال: لا أطالب إلا بحصتي، وقد عفوت عما زاد عن ذلك.. بطلت شفعته في نصيب شريكيه، وهو ثلثا الشقص، وله أخذ ثلث الشقص لا غير.
فإن أخذ الشفيع الأول جميع الشقص من المشتري، ثم قدم الشفيع الثاني.. فقد قلنا: إنه إذا اختار الشفعة.. أخذ نصف الشقص من الأول، وإن لم يختر ذلك، ولكن قال: لا آخذ إلا ثلث الشقص.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس قال: له ذلك إذا رضي الشفيع الأول؛ لأنه يترك بعض حقه، ولا يشبه هذا الشفيع الأول؛ لأن في أخذه لبعض الشقص تبعيضا للصفقة على المشتري. وأما ابن الصباغ: فلم يحك عنه رضا الشفيع الأول. قال: وفي ذلك نظر؛ لأنه يريد أن يأخذ بعض ما يخصه، وليس له ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن أخذ الثاني ثلث الشقص من الأول، وهو سهمان من ستة أسهم، ثم قدم الشفيع الثالث.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ثلث ما أخذ من الأول، وهو ثلثا سهم من ستة من الشقص؛ لأنه يستحق ثلث ما أخذه من الشقص، فلا يسقط حقه منه بما تركه في يد الأول، ثم يضم ما أخذه الثالث من الثاني(7/146)
إلى ما بقي في يد الأول من الشقص، وذلك كله أربعة أسهم وثلثا سهم، فيقسم ذلك بينهما نصفين، لكل واحد منهما سهمان وثلث.
قال الشيخ أبو حامد: ووجه ذلك عندي: أن الشفيع الثالث يستحق أن يأخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص، وقد أخذ من الثاني ثلث ما بيده منه، وهو ثلثا سهم، وقد بقي في يد الأول من الشقص أربعة أسهم، فثلاثة منها هي التي يستقر ملكه عليها بعد قدوم الثاني، إذ لو أخذ الثاني جميع ما يستحقه على الأول.. لأخذ ثلاثة أسهم، وبقي مع الأول ثلاثة، فللثالث ثلث الثلاثة، وهو سهم، وأما السهم الرابع الذي سامح به الأول.. فإن الثالث كان يستحق أخذ ثلثه من الثاني لو أخذه، فإذا لم يأخذه الثاني.. كان للثالث أن يأخذ ثلثه حيث وجده، ويبقى في يد الأول ثلثا السهم الرابع [الذي] سامحه به الثاني، ويأخذ الثالث نصف ذلك.
قال ابن الصباغ: ووجه ذلك عندي: أن الثالث يقول للأول: نحن سواء في الاستحقاق، ولم يترك واحد منا شيئا من حقه، فنجمع ما معنا، ونقسمه.
إذا تقرر هذا: فالشقص المأخوذ بالشفعة، وهو ستة أسهم تضرب في ثلاثة، فذلك ثمانية عشر سهما للقادم الأول سهم وثلث، في ثلاثة: فذلك أربعة، وللقادم الثاني سهمان وثلث، في ثلاثة: فذلك سبعة، وللشفيع الأول سبعة.(7/147)
قال أبو العباس: فإن كان هناك شفيع رابع، والمسألة بحالها، فقدم الرابع.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ربع ما بيده من الشقص، وهو سهم من أربعة أسهم، ثم يضمه إلى ما حصل للأول والثالث، وهو أربعة عشر، فيصير خمسة عشر سهما، ويقسم ذلك بينهم أثلاثا، لكل واحد خمسة أسهم.
فإن قدم الرابع، ولم يجد غير الشفيع الذي حصل له أربعة أسهم.. قال أبو العباس: فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يأخذ نصف ما حصل له؛ لأنه يقول: لست أجد شفيعا سواك، فأنا وأنت شفيعان بما حصل بيننا، فاقتسمناه نصفين.
والثاني: يأخذ ربع ما حصل له؛ لأنهم أربعة شفعاء، فاستحق أن يأخذ من كل واحد ربع ما حصل له.
قال ابن الصباغ: فإن قدم الشفيع الثالث، ووجد أحد الشفيعين الأولين حاضرا، والآخر غائبا، فإن قضى القاضي للثالث أن يأخذ من الغائب الثلث.. كان له أن يأخذ منه الثلث، ومن الحاضر الثلث، وإن لم يقض له القاضي على الغائب.. فكم يأخذ من الحاضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذ منه الثلث؛ لأنه قدر ما يستحقه مما في يده.
والثاني: يأخذ منه نصف ما بيده؛ لأن أحدهما إذا كان غائبا.. صار كأنهما الشفيعان لا غير، فيقتسمان بينهما بالسوية.(7/148)
فإن حضر الغائب، وغاب هذا الحاضر، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما بيده.. أخذ من الذي كان غائبا ثلث ما بيده أيضا، وإن كان أخذ من الحاضر نصف ما بيده.. أخذ من هذا سدس ما بيده، فيتم بذلك نصيبه، وتصح قسمة ذلك من ثمانية وأربعين، فالمبيع اثنا عشر سهما، أخذ كل واحد منهما ستة، فإن أخذ من أحدهما سهمين.. أخذ من الثاني سهمين، وإن أخذ من الأول ثلاثة.. أخذ من الثاني سهما ليتم له ثلث السهم المبيع.
[فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء]
فإن أخذ الشفيع الأول الشقص من المشتري، وجاء الشفيعان الآخران، وقد زاد الشقص في يد الأول، فإن كانت زيادة لا تتميز؛ كالشجر إذا طال وامتلأ.. فإن الشفيعين إذا اختارا الأخذ أخذا الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل كالرد بالعيب، وإن كانت زيادة تتميز، كالشجر إذا أثمر.. فإن الثمرة تكون للأول؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في يد الأول، فكانت له، كما قلنا في الرد بالعيب.
وإن أخذ الشفيعان الآخران الشقص من الشفيع الأول، فاستحق الشقص.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يرجع الشفعاء الثلاثة كلهم بالعهدة على المشتري؛ لأنهم استحقوا الشفعة عليه، والأول نائب عن الآخرين في الأخذ منه.
والوجه الثاني - حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أن الشفيع الثاني يرجع بالعهدة على الشفيع الأول، ويرجع الثالث بالعهدة على الأول والثاني، ويرجع الأول على المشتري اعتبارا بما أخذ منه كل واحد منهم. والأول هو المشهور.(7/149)
[فرع: للشفيع الغائب أخذ جميع الشقص إذا قدم وكان الحاضر رده بالعيب]
وإن أخذ الشفيع الحاضر جميع الشقص من المشتري، فوجد به عيبا، فرده، ثم قدم الشفيعان الآخران، أو أحدهما.. كان للقادم فسخ الرد بالعيب، وأخذ جميع الشقص.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس للقادم بعد الأول أن يأخذ إلا قدر حصته من الشقص) .
دليلنا: أن الشفيع الأول أسقط حقه من الشقص بالرد بالعيب، فكان للقادم بعده أخذ جميع الشقص، كما لو عفا الأول عن الشفعة.. فإن للثاني أن يأخذ جميع الشقص.
[مسألة: للشريك الثالث الشفعة إذا باع أحد شريكيه نصيبه من الآخر]
وإن كانت دار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه.. ثبت للشريك الثالث الشفعة، وهل له أن يأخذ جميع الشقص، أو يقسم بينه وبين الشريك المشتري؟
روى المزني: (أنه يقسم بينه وبين الشريك المشتري) . وبه قال عامة أصحابنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن له أخذ جميع الشقص. وهو قول عثمان البتي، والحسن البصري. وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس.
ووجه هذا: أنا لو قلنا: يقتسمان الشقص.. لكان للإنسان أن يأخذ الشفعة من نفسه، وهذا لا يجوز.
والأول أصح؛ لأن المشتري شريك في الشقص، فلم يأخذ الآخر جميع الشقص، كما لو باع الشريك من أجنبي، وما قاله أبو العباس: إنه لا يأخذ الشفعة من نفسه.. غير صحيح؛ لأنه لا يأخذ بالشفعة من نفسه، وإنما لا يقدم الآخر عليه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.(7/150)
فإذا قلنا بقول أبي العباس.. كان الشفيع بالخيار: بين أن يأخذ جميع الشقص، أو يترك، فإن قال: آخذ بعض الشقص دون بعض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ليس هاهنا شفيع غيره.
وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن اتفق الشفيع والمشتري على أن يقتسما الشقص بينهما.. جاز، وإن لم يختر الشفيع أن يأخذ.. لم يجبر على الأخذ، ولزم ذلك المشتري، فإن رضي المشتري أن يأخذ الشفيع جميع الشقص.. لم يلزم الشفيع ذلك؛ لأن الشفعة إنما وجبت له في نصف الشقص، فلا يلزمه أكثر من ذلك.
فإن قيل: المشتري والشريك شفيعان في الشقص، فإذا رضي المشتري بترك حقه.. لم يجز للآخر أن يأخذ البعض، كما لو كان المشتري أجنبيا.
فالجواب: أن الشفيعين إذا كان المشتري أجنبيا.. لم يملكا شيئا، وإنما ملكا أن يملكا بالاختيار، فإن أسقط أحدهما حقه.. صار كأنه لا شفيع إلا الثاني، وهاهنا قد حصل الملك للمشتري، فإذا ترك ذلك بعد حصول الملك له.. لم يلزم الآخر الأخذ، كما لو اختار الشفيعان الأخذ، ثم ترك أحدهما حقه.. فلا يلزم الآخر أخذه.
[مسألة: تثبت الشفعة لابن الابن مع أخيه بعد موت الأب ووجود العم]
وإن مات رجل، وخلف دارا وابنين، فمات أحد الابنين، وخلف ابنين، فباع أحد ولدي الابن نصيبه في الدار.. ثبت لأخيه الشفعة، قولا واحدا، وهل تثبت للعم مع ابن أخيه؟ فيه قولان:
أحدهما: الشفعة للأخ دون العم، وبه قال مالك؛ لأن الأخ أخص بشركة البائع لاشتراكهما في سبب الملك، بدليل: أن البينة لو قامت: أن أباهما غصب نصف الدار.. لأخذ نصيبيهما.
ولو قسمت الدار نصفين.. لكان نصيب الأخوين جزءا، ونصيب العم جزءا.
والثاني: أن الأخ والعم يشتركان بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنهما شريكان في الدار حال ثبوت الشفعة(7/151)
فكانت الشفعة بينهما، كما لو ملك الثلاثة بسبب واحد، وما ذكره الأول من أن ملك الأخ أخص.. فلا اعتبار به، وإنما الاعتبار بوجود الملك حال الشفعة، وما ذكره من القسمة.. فغير صحيح؛ لأن ذلك إنما يقسم - كما ذكر - إذا رضي الأخوان، ولو طلب أحد الأخوين أن يفرد نصيبه مع عمه. لكان له ذلك، وإن طلب كل واحد منهما أن يفرد نصيبه.. قسمت الدار أربعة أجزاء: للعم جزءان، ولكل أخ جزء.
فإن قلنا: إن الشفعة للأخ، فإن اختار أخذ الشقص.. فلا كلام، وإن عفا عن الشفعة.. فهل يستحقها العم؟ فيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا يستحقها؛ لأن من لم يستحق الشفعة حال البيع.. لم يستحقها عند عفو الشفيع، كالجار المقاسم.
والثاني: يستحقها؛ لأنه شريك حال البيع، وإنما قدم عليه الأخ بقرب نسبه، فإذا أسقط الأخ حقه استحقها العم كما لو قتل رجل رجلين عمدا أحدهما بعد الآخر فإن القصاص عليه للأول، فإذا عفا ولي الأول عن القصاص.. ثبت القصاص للثاني.
وإن قلنا: إن الشفعة بين الأخ والعم.. فهل يقتسمان الشقص المبيع نصفين، أو على قدر الملكين؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وفرع أبو العباس على هذا ثلاث مسائل:
الأولى: إذا كانت الدار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من رجلين، فعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه من الدار.. فهل تكون الشفعة لشريكه الذي اشترى معه وحده، أو يشاركه فيها الشريكان الأولان؟ على القولين.
المسألة الثانية: إذا مات رجل، وخلف ابنتين، وأختين لأب، وخلف دارا، فورثت الابنتان ثلثيه، وورثت الأختان ثلثه، فباعت إحدى الابنتين نصيبها في الدار.. قال أبو العباس: فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين، كالتي قلبها؛ لاختلاف سبب الملك.(7/152)
والثاني: أن الشفعة بين الابنة والأختين، قولا واحدا؛ لأن السبب واحد، وهو الإرث.
المسألة الثالثة: إذا مات رجل، وخلف ثلاثة أولاد وخلف دارا، فمات أحد الأولاد، وخلف ابنين، فباع أحد العمين نصيبه في الدار.. فهل يكون أخو البائع أحق بالشفعة، أو يشاركه فيها ابنا أخيه؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: أنهم يشتركون فيها، قولا واحدا؛ لأن ابني الميت الثاني يقومان مقام أبيهما، ولو كان أبوهما باقيا.. لشارك أخاه بالشفعة، بخلاف ما لو باع أحد ولدي الابن؛ لأن العمين لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما.
[مسألة: تصرف المشتري بالشقص قبل علم الشفيع]
إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فلم يعلم الشفيع بالشراء حتى تصرف المشتري بالشقص. نظرت:
فإن تصرف فيه تصرفا لا تستحق فيه الشفعة، بأن وهبه من غيره، أو أجره.. فللشفيع أن يفسخ تصرفه، ويأخذه بالشفعة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لتصرف المشتري، وهكذا: لو وجد به المشتري عيبا، فرده بالعيب، ثم علم الشفيع.. فله أن يفسخ ذلك، ويأخذه بالشفعة؛ لأن حقه سابق للفسخ.
وإن وقفه المشتري.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال الماسرجسي: يصح الوقف، وتبطل الشفعة؛ لأن الشفعة إنما ثبتت في المملوك، والوقف غير مملوك، فبطلت فيه الشفعة.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أن للشفيع أن يبطل الوقف، ويأخذ الشفعة، كما تبطل الهبة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لوقف المشتري.
وإن تصرف المشتري فيه تصرفا تثبت فيه الشفعة، بأن باعه، أو جعله مهرا في نكاح أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فالشفيع بالخيار: بين أن يفسخ(7/153)
التصرف الثاني، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الأول، وبين أن يقر العقد الأول، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الثاني؛ لأنه يستحق الشفعة بكل واحد منهما، فخير بينهما، فإن اختلف المشتري والبائع في الثمن، فتحالفا، وفسخ البيع ورجع الشقص إلى البائع فللشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن الذي حلف عليه البائع؛ لأن البائع أقر للمشتري بالملك بالثمن الذي حلف هو عليه، وللشفيع بالشفعة به فإذا رد المشتري إقراره بذلك.. بقي حق الشفيع، فكان له الأخذ به.
[فرع: موت المشتري بعد أن أوصى بالشقص]
فقدم الشفيع فيقدم] : وإن اشترى شقصا فيه شفعة، ثم أوصى به المشتري ومات، فحضر الشفيع والموصى له يطالبان بالشقص ... قدم الشفيع؛ لأن حقه سابق؛ لأنه يثبت بالشراء، فإذا أخذ الشفيع الشقص بالثمن.. كان الثمن للورثة دون الموصى له؛ لأنه إنما وصى له بالشقص دون الثمن.
[فرع: دار لثلاثة: لواحد نصف وللباقيين لكل ربع فباع أحدهما حصته]
وإن كان دار بين ثلاثة شركاء: لواحد نصفها، ولكل واحد من الآخرين ربعها، فاشترى صاحب النصف من أحد الشريكين ربع الدار، والشريك الثالث غائب، ثم باع الشريك المشتري ربع الدار - وهو ثلث ما بيده من الدار - من رجل، فقدم الشريك الغائب.. فله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الثاني، ويعفو عن الأول، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول والثاني.
فإن اختار أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وإن قلنا بالمذهب: إن المشتري إذا كان أحد الشريكين لا يستحق الشفيع الآخر جميع الشقص، فإن قلنا: إن الشقص يقسم بين الشفعاء على الرؤوس فإن الشفيع القادم يستحق نصف الربع المبيع وهو الثمن إلا أن هذا الثمن قد حصل ثلثه في يد المشتري الثاني؛ لأنه اشترى ثلث ما بيد الأول، وثلثا الثمن باق في يد الشريك(7/154)
المشتري، فيكون للشفيع أن يأخذ ذلك حيث وجده، وأقل عدد يخرج منه ثلث الثمن: أربعة وعشرون، فمع صاحب النصف اثنا عشر، ومع المشتري منه ستة، ومع الشفيع ستة، فيأخذ الشفيع من صاحب النصف سهمين، ويبقى معه عشرة، ويأخذ من المشتري سهما يفسخ فيه البيع، ويبقى معه خمسة، فيجتمع مع الشفيع تسعة.
وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. فإن لصاحب النصف ثلثي الربع الذي اشتراه، ولشريكه ثلثه، وأقل عدد يخرج منه ثلثا الربع: اثنا عشر، للمشتري ثلثا الربع وهو سهمان، وللشفيع ثلث الربع وهو سهم، وفي يد الشريك المشتري من هذا السهم ثلثاه، وفي يد المشتري منه ثلثه، فاضرب اثني عشر في ثلاثة.. تصبح ستة وثلاثين: لصاحب النصف ستة في ثلاثة.. فذلك ثمانية عشر، وللمشتري منه ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، وللشفيع بحق الملك ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، ويأخذ بحق الشفعة ثلث الربع وهو ثلاثة أسهم ثلثاها من صاحب النصف وهو سهمان، فيبقى معه ستة عشر، وثلثها وهو سهم من المشتري الثاني، فيبقى معه ثمانية، ويصير مع الشفيع اثنا عشر سهما(7/155)
وإن طلب الشفيع بحقه من الشفعة في البيع الثاني، وعفا عن الأول.. أخذ جميع الربع من المشتري الثاني، فصار له نصف الدار، ولشريكه نصفها.
وإن طلب بحقه من الشفعة في البيعين الأول والثاني.. أخذ جميع الربع الذي بيد المشتري الثاني، وكم يأخذ من صاحب النصف؟
إن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. أخذ منه ثلثي ثمن الدار، وهو سهمان من أربعة وعشرين سهما من الدار.
وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. أخذ منه سهمين من ستة وثلاثين سهما من الدار.
[مسألة: البناء أو الغرس في الشفعة بعد المقاسمة]
قال الشافعي: (ولو قاسم وبنى.. قيل للشفيع: إن شئت.. فخذ بالثمن وقيمة البناء اليوم، أو دع) .
وجملة ذلك: أن الشافعي ذكر: أن المشتري إذا قاسم وميز نصيبه، فبنى فيه أو غرس، ثم طالبه الشفيع بالشفعة. فاعترض المزني وغيره على الشافعي، وقالوا: كيف تصح المقاسمة مع بقاء الشفعة؟
فقال أصحابنا: يتصور ذلك في أربع مسائل:
إحداهن: أن يظهر له المشتري أنه اشترى الشقص بثمن كثير، فترك الشفيع الشفعة(7/156)
وقاسم المشتري، فبنى المشتري أو غرس، ثم بان للشفيع أن الثمن دون ذلك، فإن شفعته لا تبطل.
الثانية: أن يظهر له أنه اتهب الشقص، فقاسمه الشريك، فبنى أو غرس، ثم بان له أنه اشترى.
الثالثة: إذا وكل وهو في السفر من يطالب بالشفعة، فرأى الوكيل أن الحظ في ترك الشفعة، فترك وقاسم الوكيل - وقد وكله على ذلك - فقدم الشفيع، وبان أن الحظ له في الأخذ بالشفعة. أو كان هذا في الشفعة على المولى عليه، ورأى الولي ترك الشفعة، فقاسم، وبنى المشتري أو غرس، ثم زال الحجر عن المولى عليه، وأقام البينة: أن الحظ كان له أن يأخذ الولي.
الرابعة: إذا كان الشفيع غائبا، فجاء المشتري إلى الحاكم، وسأله: أن يقسم بينه وبين الغائب، فأمر الحاكم من قاسم عن الغائب، فبنى المشتري أو غرس، وقدم الشفيع.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشفيع إذا اختار الأخذ بالشفعة، فإن البناء أو الغراس للمشتري؛ لأنه عين ملكه، لم يدخل في الشراء.
فإن اختار المشتري قلع البناء والغراس.. كان له ذلك، لأنه ملكه، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد بذلك، فإن اختار الشفيع أخذ الشقص ناقصا بجميع الثمن.. فلا كلام، وإلا.. فلا شفعة له.
وإن لم يختر المشتري قلع البناء أو الغراس.. كان الشفيع بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يترك أخذ الشفعة. وبين أن يأخذ الشقص بالشفعة، ويتملك معه البناء أو(7/157)
الغراس بقيمته في هذه الحالة. وبين أن يأخذ الشقص بالثمن، ويجبر المشتري على قلع البناء أو الغراس، ويضمن له ما نقص بالقلع؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
فإن أراد الشفيع إجبار المشتري على قلع البناء أو الغراس، ولا يضمن له شيئا.. لم يجبر المشتري على ذلك، وبه قال النخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والمزني: (يجبر المشتري على قلعه من غير ضمان عوض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم.
ولأنه بنى أو غرس في ملكه الذي يملك بيعه، فلم يجبر على قلعه من غير ضمان، كما لو غرس في أرض له، لا شفعة فيها لغيره.
[فرع: ادعاء عمل البناء في الشفعة]
إذا ادعى المشتري: أن هذا البناء أحدثه بعد الشراء، وقال الشفيع: بل كان موجودا عند البيع.. قال أبو العباس: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ذلك ملكه، والشفيع يريد تملكه عليه، فكان القول فيه قول المالك.
[مسألة: شراء شقص فيه شجر]
إذا اشترى رجل شقصا من أرض فيها نخل أو شجر.. فقد ذكرنا: أنه يدخل في البيع بالشرط، أو بالإطلاق على المذهب، وتثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، فإن جاء الشفيع، وقد زاد ذلك في يد المشتري، فإن كانت زيادة غير متميزة، بأن طال الشجر وامتلأ.. فإن الشفيع يأخذ الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل، كالرد بالعيب. وإن كانت الزيادة ثمرة.. نظرت:
فإن كانت الثمرة ظاهرة، بأن كانت ثمرة نخل قد أبرت.. فإن الثمرة للمشتري؛ لأنها ثمرة ظاهرة حدثت في ملكه.
وإن كانت غير ظاهرة، بأن كانت الثمرة غير مؤبرة.. ففيه قولان:(7/158)
[أحدهما] : قال في القديم: (للشفيع أن يأخذها؛ لأنها ثمرة غير ظاهرة، فهي كالشجر إذا طال) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس للشفيع أن يأخذها؛ لأنه نماء تميز عن أصله وظهر، فهو كالطلع المؤبر) .
[مسألة: تؤخذ الشفعة قهرا]
إذا وجبت له الشفعة في شقص.. فله أخذه من غير حاكم ولا رضا المشتري، وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة، والدليل عليه. فإن كان المشتري قد قبض الشقص من البائع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص منه، ولا خلاف أنه لا خيار للمشتري في ذلك؛ لأنه يؤخذ منه بغير رضاه، وأما الشفيع: فلا يثبت له خيار الثلاث؛ لأن ذلك يثبت بالشرط برضا المتعاقدين، والشقص يؤخذ من المشتري بغير رضاه، ولكن هل يثبت للشفيع خيار المجلس بعد عقد الشفعة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (البيع) .
وإن كان المشتري لم يقبض الشقص من البائع.. وجب على المشتري تسلمه من البائع، وتسليمه إلى الشفيع، فإن غاب المشتري أو امتنع من القبض.. قال ابن الصباغ: أقام الحاكم من يستلمه للمشتري، ويسلمه إلى الشفيع، فإن حكم الحاكم بتسليمه على البائع إلى الشفيع، فتسلمه منه الشفيع.. كان كما لو تسلمه المشتري، وسلمه إلى الشفيع.
وإن قال الشفيع: لا أقبضه إلا من المشتري.. ففيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري، فيلزمه أن يسلم بعد قبضه.
وعلى هذا: فالحاكم يكلف المشتري تسلمه، وتسليمه إلى الشفيع.
والثاني: يأخذه الشفيع من يد البائع، فلا يكلف المشتري قبضه؛ لأن الشقص حق للشفيع، فحيث وجده.. أخذه. ولأن يد الشفيع كيد المشتري؛ لأنه استحق قبض(7/159)
ذلك من جهته، فهو كما لو وكل وكيلا في القبض، ألا ترى أنه إذا قال: أعتق عبدك عن ظهاري، فأعتقه.. صح، وكان المأمور كالقابض له؟
وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل يجوز للشفيع أن يأخذ الشقص من يد البائع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد استحقه.
والثاني: لا يجوز، بل يجبر المشتري على قبضه ليأخذه الشفيع منه؛ لأنه إذا أخذه الشفيع من البائع.. فات التسليم المستحق بالبيع، فلا يثبت الشفعة.
[فرع: وجود عيب بالشقص بعد أخذه بالشفعة]
] : وإذا قبض الشفيع الشقص، ثم وجد به عيبا، فإن لم يعلم به المشتري، ولا الشفيع.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وللمشتري أن يرده على البائع؛ لأن مقتضى العقدين سلامته من العيب. وإن علم به المشتري، ولم يعلم به الشفيع، ثم علم به.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وليس للمشتري أن يرده على البائع؛ لأن المشتري.. قد رضي به والشفيع لم يرض به وإن علم به الشفيع ورضي به ولم يعلم به المشتري.. فليس لواحد منهما أن يرده؛ أما الشفيع: فلأنه رضي به، وأما المشتري: فلأنه لا يرد ما ليس بيده.
[فرع: استحقاق الشقص بعد أخذه بالشفعة]
فإن أخذ الشفيع الشقص، ودفع الثمن، فخرج الشقص مستحقا.. فإن الشفيع يرجع بالعهدة على المشتري سواء أخذ الشقص من يد المشتري أو من يد البائع، ثم يرجع المشتري بالعهدة على البائع، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد.
وقال ابن أبي ليلى: تجب عهدة الشفيع على البائع بكل حال.(7/160)
وقال محمد: إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري.. رجع بالعهدة عليه، وإن أخذه من البائع.. رجع بالعهدة عليه.
دليلنا: أن الشفعة مستحقة على المشتري، فكان له الرجوع بالعهدة عليه كما لو قبضه منه، أو كما لو اشتراه منه.
[مسألة: وجدت الشفعة فمات قبل العلم]
] : إذا ثبت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يعلم بالشراء، أو قبل أن يتمكن من الأخذ.. انتقل ذلك إلى وارثه، وبه قال مالك، وعبيد الله بن الحسن العنبري.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد إلى: أن الشفعة تبطل بالموت.
دليلنا: أنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال، فانتقل إلى الوارث، كخيار الرد بالعيب.
فقولنا: (ثابت) احتراز من خيار القبول، وخيار الإقالة؛ وهو أن البائع لو قال لرجل: بعتك، فقبل أن يقول المشتري: قبلت، مات. أو قال أحد المتبايعين للآخر: أقلتك، فقبل أن يقول: قبلت، مات.. لم ينتقل ذلك إلى وارثه.
وقولنا: (لدفع الضرر عن المال) احتراز من خيار اللعان؛ لأنه لدفع الضرر عن النسب، فلو نفى نسب ولد، وقبل أن يلاعن مات.. لم يقم وارثه مقامه في اللعان.
إذا ثبت هذا: فروى المزني: أن الشافعي قال: (ولورثة الميت أن يأخذوا ما كان يأخذه أبوهم بينهم على العدد، وامرأته وابنه في ذلك سواء) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: في كيفية قسمة الشقص - الذي ثبتت له فيه الشفعة، ثم مات بين ورثته - قولان:
أحدهما: على قدر فروضهم.(7/161)
والثاني: على عدد الرؤوس، فيكون ما نقله المزني هاهنا هو أحد القولين: (أنها تقسم على عدد الرؤوس) .
وقال أكثر أصحابنا: يقسم الشقص بين الورثة على قدر فروضهم، قولا واحدا؛ لأنهم لم يستحقوا الشفعة بالملك، وإنما استحقوها بالإرث عن الميت، وهم متفاضلون في الميراث عنه، وما نقله المزني لا يعرف.
ومنهم من تأول ما نقله المزني، فقال: قوله: (على العدد) بمعنى: أن الجماعة يستحقون ذلك، وقوله: (سواء) أراد: في أصل الاستحقاق.
[فرع: عفو أحد الورثة عن حقه بالشفعة]
فإن ثبتت له الشفعة في شقص، ثم مات وخلف ابنين، فعفا أحدهما عن حقه من الشفعة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تسقط الشفعة في الشقص؛ لأنهما يقومان مقام أبيهما، فلو عفا أبوهما عن بعض الشقص.. أسقطت الشفعة في جميع الشقص، فكذلك إذا عفا من يقوم مقامه.
والثاني: تسقط شفعة العافي، ويكون لأخيه أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنها شفعة ثبتت لاثنين، فإذا عفا أحدهما عن حقه.. ثبتت الشفعة للآخر في جميع الشقص، كالشريكين، ويفارق الموروث، فإنها تثبت لواحد، فإذا عفا عن بعضها.. سقط الجميع.
[فرع: عفو أحد الشفيعين عن حقه]
إذا كان للشقص شفيعان، فعفا أحدهما عن حقه منها، ثم مات الآخر قبل أن يتمكن من الأخذ، والعافي وارثه.. قال ابن الحداد: فللعافي أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنه وإن عفا أول مرة، فإنما يأخذ الآن الشقص من وجه غير الوجه الذي عفا عنه، وهو بإرثه عن شريكه.(7/162)
فهو كما لو قتل رجل أباه عمدا، فعفي عنه، وقد كان قتل هذا القاتل ابن أخ العافي، فمات أب المقتول، والعافي وارثه.
وكما لو كان لمورثهما على رجل دين، فأقاما شاهدا واحدا، فنكل أحدهما عن اليمين، ومات الآخر، وهذا وارثه.. كان للوارث أن يحلف مع الشاهد، ويستحق نصيب أخيه دون نصيب نفسه؛ لأنه أبطل حقه بنكوله، بخلاف الشفعة؛ لأنها لا تتبعض، والدين يتبعض.
[مسألة: باع ثلاثة حصتهم من دار وبقي الرابع]
إذا كانت الدار بين أربعة أنفس، لكل واحد منهم ربعها، فباع ثلاثة منهم أملاكهم من ثلاثة أنفس، كل واحد باع ملكه إلى واحد بعقد في وقت واحد.. فللشفيع - وهو الشريك الرابع الذي لم يبع - أن يأخذ أيضا من شركائه كلهم بالشفعة، وله أن يأخذ بعضها دون بعض؛ لأنه لا شفيع هاهنا غيره، فإن عفا عن البعض، وأخذ البعض.. فليس لمن عفا عنه أن يشاركه فيما يأخذ؛ لأن المشترين ملكوا في وقت واحد.
وإن باع أحدهم نصيبه من رجل، ثم باع آخر نصيبه من ذلك الرجل، ثم باع ثالث نصيبه من ذلك الرجل.. قال الشيخ أبو حامد: فللشريك الرابع الذي لم يبع أن يأخذ من المشتري جميع الأنصباء؛ لأنه لا شفيع سواه، وله أن يأخذ البعض دون البعض، فإن اختار أخذ الكل دفعة واحدة.. فلا كلام، وإن أخذ الأول، ولم يعلم بالثاني، ثم علم به، وأخذه.. جاز، ولم يشاركه المشتري بالأول؛ لأن ملكه الذي يستحق به الشفعة قد زال بأخذ الشريك له، وليس له مشاركته بالثالث؛ لأن ملكه تجدد عليه بعد ثبوت الشفعة في الثاني.(7/163)
وهكذا: إن أخذ الأول والثاني دفعة، ولم يعلم بالثالث، ثم علم بالثالث، وأخذه.. لم يشاركه المشتري بالثالث لأجل ملكه الأول والثاني؛ لأن ملكه قد زال عنهما.
وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. قال أبو العباس: فللمشتري أن يقاسم الشفيع بالربع الثاني، فيكون بينهما نصفين؛ لأجل بالربع الأول.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على: أن ما حكاه أصحابنا عن أبي العباس - أنه قال: إذا كان المشتري شريكا.. لا يقاسمه الشفيع -: أنه لا أصل له.
وهكذا: إن عفا عن الأول والثالث، وأخذ الثاني؛ لأن ملكه على الثالث تجدد بعد ثبوت الشفعة في الثاني.
وإن عفا عن الأول والثاني، وأخذ الثالث.. فإن المشتري يقاسمه في الثالث؛ لأجل ملكه للأول والثاني. فإن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. اقتسم الثالث نصفين وإن قلنا إنها تقسم على قدر الأملاك.. كان للمشتري ثلث الربع الثالث، وللشفيع ثلثاه.
[مسألة: ادعاء أحد الشريكين الشفعة]
إذا كانت دار بين شريكين، فادعى أحدهما على شريكه: أنه ابتاع نصيبه بثمن معلوم بعد أن ملك هو نصيبه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وأنكر المدعى عليه، بأن قال: ما ابتعته، وإنما اتهبته، أو ورثته، أو اشتريته، ولا يستحق على الشفعة.. فإن أقام المدعي بينة بما ادعاه.. ثبتت له الشفعة، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . وكيف يحلف؟ ينظر فيه:
فإن أجاب بأنه لا يستحق عليه الشفعة.. فإنه يحلف إنه لا يستحق عليه الشفعة(7/164)
ولا يكلف أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه قد يبتاع ويستحق شريكه الشفعة، ثم يعفو ويسقط حقه، فإذا حلفناه: أنه ما ابتاع.. ظلمناه، وقد تقدم البينة على عفو الشريك.
وإن أجاب بأنه ما ابتاع.. فهل يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع، أو يجوز له أن يحلف: أنه لا يستحق عليه الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يحلفه: أنه لا يستحق عليه الشفعة؛ لأنه لو أجاب بذلك لكفاه، فكذلك في اليمين.
والثاني: يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علمنا أنه يمكنه الحلف عليه.
فإن حلف المدعى عليه.. لم تثبت الشفعة للمدعي، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. حلف المدعي، واستحق الأخذ بالشفعة، وفي الثمن ثلاثة أوجه:
أحدها: يقال للمدعى عليه: قد أقر لك بالثمن، فإما أن تأخذه منه، أو تبرئه منه، كما قال الشافعي في (المكاتب) : (إذا حمل إلى سيده نجما، فقال السيد: هو مغصوب.. فإن الحاكم يقول له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئه منه) .
والوجه الثاني: أن الثمن يقر في يد المدعي؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، كمن أقر لرجل بدار لا يدعيها.
والثالث: أن الحاكم يأخذ الثمن ويحفظه إلى أن يدعيه واحد منهما؛ لأن من هو بيده.. نفى أن يكون ملكا له، ومن أقر له به.. لا يدعيه، فيحفظه الحاكم إلى أن يدعيه أحدهما.
فإن قال المدعى عليه: اشتريته لفلان.. نظرت:
فإن كان المقر له حاضرا.. سئل، فإن صدقه.. كان الشراء له، والشفعة عليه، وإن كذبه.. قال ابن الصباغ: كان الشراء للذي اشتراه، وأخذ منه بالشفعة.(7/165)
وإن كان المقر له غائبا.. أخذه الحاكم من المقر، ودفعه إلى الشفيع، وكان القادم على حجته إذا قدم؛ لأنا إذا وقفنا الأمر بالشفعة إلى حضور المقر له.. كان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل مشتر يمكنه أن يدعي: أنه اشتراه لغائب.
وإن قال: اشتريته لابني الصغير، أو لطفل له عليه ولاية.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا تثب الشفعة؛ لأن الملك يثبت للطفل، ولا تثبت الشفعة بإقرار الولي؛ لأن في ذلك إيجاب حق في مال الصغير بإقرار الولي.
والثاني: تثبت الشفعة؛ لأنه يملك الشراء له، فصح إقراره فيه، كما يصح في حق نفسه.
وإن قال المدعى عليه: هذا الشقص لفلان الغائب، أو لفلان الصغير.. قال ابن الصباغ: لم يكن للشفيع الشفعة إلى أن يقدم الغائب، ويبلغ الصغير، فيطالبهما بذلك، ولا يسأل عن سبب ملك الغائب والصغير؛ لأن إقراره بعد ذلك إقرار في ملك الغير، فلم يقبل، ويخالف إذا أقر بالشراء لهما ابتداء؛ لأن الملك يثبت لهما بذلك الإقرار، فيثبت جميعه.
فإن قال المدعى عليه للمدعي: ليس لك ملك في الدار.. فعلى مدعي الشفعة أن يقيم البينة: أنه يملك شقصا في الدار، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد.
وقال أبو يوسف: إذا كان في يده شيء من الدار.. استحق به الشفعة؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.
دليلنا: أن الملك لا يثبت بمجرد اليد، وإذا لم يثبت الملك المستحق به الشفعة.. لم تثبت الشفعة، فإن أراد المدعي: أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يعلم له شركة في الدار.. كان على المدعى عليه أن يحلف: أنه لا يعلم أن له ملكا في الدار؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي: أن له ملكا في الدار، وثبتت شفعته.(7/166)
[فرع: ادعاء أحد الشريكين ابتياع نصيب الغائب المودع]
وإن كانت دار في يد رجلين، نصفها ملك لأحدهما، ونصفها الآخر لغائب، وهو في يد الآخر وديعة، فادعى المالك على المودع: أنه ابتاع النصف من الذي أودعه إياه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقال المدعى عليه: ما ابتعته، وإنما هو وديعة، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن كان مع المدعي بينة، فأقامها.. ثبتت الشفعة.
وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. قال المزني: قضيت له بالشفعة؛ لأن الإيداع لا ينافي البيع؛ لأنه يمكن أن يكون أودعه أولا، ثم ابتاعه منه.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه إنما يمكن إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، أو كانتا مؤرختين وبينة الوديعة متقدمة، فأما إذا كانتا مؤرختين وتاريخ البيع سابق.. كان متنافيا.
قال أصحابنا: لا تتنافيان أيضا؛ لجواز أن يكون البائع غصبها بعد البيع، ثم ردها بلفظ الإيداع، أو ردها مطلقا، فظن الشاهدان أنها وديعة.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يكون البائع أمسك الشقص على استيفاء الثمن، ثم أودعه المشتري، فصح إيداعه، ولا يكون ذلك إقباضا عن البيع، ألا ترى أنه لو تلف كان من ضمان البائع؟
قال المزني في (الجامع الكبير) : ولو أقام الشفيع البينة بالشراء، وأقام من بيده الشقص البينة: أنه ورثها.. تعارضت البينتان؛ لأن الشراء ينافي الميراث، فتكون على قولين:
أحدهما: تسقطان.
والثاني: تستعملان، على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال أبو العباس: فإن شهدت بينة الإيداع: أنه أودعه ما هو يملكه، وبينة الشراء مطلقة.. كانت بينة الإيداع أولى؛ لأنها صرحت بالملك، ويراسل الغائب، فإن(7/167)
قال: هي وديعة.. بطلت بينة الشراء بالملك، وإن قال: لا ملك لي فيها.. قضي ببينة الشراء.
قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا كانت بينة الإيداع متأخرة، فإن صرحت بينة الشراء بالملك، وأطلقت بينة الإيداع.. فبينة الشراء أولى.
[فرع: ادعاء الوكيل شراء شقص موكله]
إذا كانت الدار بين اثنين، وأحدهما غائب، ونصيبه في يد وكيله، فقال الوكيل: قد اشتريته منه.. فهل للحاضر أخذه منه بالشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن إقرار الوكيل لا يقبل في حق موكله، فيكتب الحاكم إلى البلد الذي فيه الموكل، فيسأله عن ذلك.
والثاني: له أخذه بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أقر بحق له مما في يده، ويذكر الحاكم ذلك في السجل، وينتظر الغائب، فإن قدم وصدقه.. فلا كلام، وإن أنكر، فإن قامت عليه بينة.. بطل إنكاره، وإن لم تقم عليه بينة.. حلف: أنه ما باعه، ويرد عليه النصيب، وأجرة مثله، وأرش نقص إن حدث به، وله أن يرجع به على الوكيل، أو على الشفيع.
فإن رجع على الشفيع.. لم يرجع به الشفيع على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده، وفيه وجه آخر: أنه يرجع عليه؛ لأنه غره. وإن رجع على الوكيل.. رجع به الوكيل على الشفيع.
[مسألة: ادعاء كل من الشريكين ابتياع نصيب شريكه]
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على شريكه: أنه ابتاع حصته، وأنه يستحق عليه أخذه بالشفعة.. رجع إلى أيهما سبق ملكه إليهما، متى ملكا(7/168)
فإن قالا: ملكناها في وقت واحد.. قلنا: لا شفعة لأحدكما على الآخر؛ لأن الشفعة تثبت بملك سابق، وإن قالا: ملكناها في وقتين، وادعى كل واحد منهما: أن ملكه هو السابق.. فلا يخلو: إما أن يكون مع أحدهما بينة دون الآخر، أو مع كل واحد منهما بينة، أو لا بينة مع أحدهما.
فإن كان مع أحدهما بينة تشهد له بأن ملكه سابق، وأن الآخر ملكه متأخر، ولم يكن مع الآخر بينة.. قضي بالشفعة للذي شهدت له البينة: أن ملكه سابق.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. فإن كانتا مؤرختين تأريخا واحدا، مثل: أن تشهد بينة كل واحد منهما: أنه اشترى نصيبه في وقت معين من يوم معلوم.. لم يستحق أحدهما على الآخر شفعة؛ لأن الشفعة تستحق بالملك السابق، ولم يثبت أن ملك أحدهما سابق. وإن شهدت بينه أحدهما: أنه اشترى نصيبه في رمضان، وشهدت بينة الآخر: أنه اشترى نصيبه في شوال ثبتت الشفعة للمشتري في رمضان في الشقص المشترى في شوال. وإن كانت بينة أحدهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. فهو كما لو لم تكن بينة. وإن كانتا متعارضتين، مثل: أن شهدت بينة كل واحد منهما، بأن ملكه سابق لملك الآخر.. ففيهما قولان:
أحدهما: تتعارضان وتسقطان، ويصير كما لو لم يكن لأحدهما بينة.
والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يقرع بينهما. فعلى هذا: من خرجت له القرعة.. ثبتت له الشفعة.
والثاني: يوقفان، فتوقف الشفعة هاهنا على ما يبين.
والثالث: يقسم بينهما، فإن كان نصيباهما متساويين.. فلا فائدة في القسمة، وإن كانا مختلفين، مثل: أن كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان.. قسمت الدار بينهما نصفين.(7/169)
وإن لم تكن لأحدهما بينة، فإن ترافعا إلى الحاكم، وسبق أحدهما بالدعوى.. لزم المدعى عليه الإجابة، فإذا أنكره.. فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المنكر» .
وإن قال المدعى عليه قبل إجابته عن دعوى المدعي: أنا استحق عليك الشفعة.. قيل له: قد سبقك بالدعوى، فأجب أولا عن دعواه، ثم ادع عليه إن شئت، فإن حلف المدعى عليه، ثم ادعى على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. فتجاب دعواه، ثم القول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن أقر المدعى عليه أولا بالشفعة للمدعي، أو نكل المدعى عليه عن اليمين، وحلف المدعي الأول.. ثبتت له الشفعة في نصيب المدعى عليه، فإن أخذه بالشفعة، ثم أراد المدعى عليه أولا أن يدعي على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. لم تصح دعواه؛ لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة.
[مسألة: اختلاف الشفيع والمشتري في الثمن]
] : وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بألف، وقال الشفيع: بل اشتريته بخمسمائة، فإن كان مع أحدهما بينة.. قضي له بها، ولم يسمع قول الآخر، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، وشهادة رجل ويمين المدعي؛ لأنها بينة على المال، ولا تقبل في ذلك شهادة البائع؛ لأنه إن شهد للمشتري.. لم يقبل؛ لأنه يشهد في حق نفسه، ولأنه يريد إثبات الثمن لنفسه، وإن شهد للشفيع.. لم يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه منفعة؛ لأنه ينقض بذلك الدرك عن نفسه إن خرج الشقص مستحقا. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : إذا شهد البائع للشفيع، فإن كان قبل قبض الثمن.. قبلت شهادته، وإن كان بعد قبض الثمن.. لم تقبل.(7/170)
وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني -: أن بينة المشتري تقدم، كما تقدم بينة الداخل على بينة الخارج.
والثاني - وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنهما يتعارضان؛ لأن بينة الداخل إنما تقدم إذا تنازعا اليد، وهاهنا تنازعا فيما وقع عليه العقد، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فتعارضتا.
قال: فعلى هذا: تسقطان ويصيران كما لو لم يكن مع واحد منهما بينة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يقرع بينهما، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في موضعهما.
وإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به، ولأن الملك قد ثبت له، والشفيع يريد انتزاعه منه، فلم ينتزع منه إلا بما يقر به.
[فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف]
فإن قال المشتري: اشتريت الشقص بألف، فقال الشفيع: لا أعلم هل اشتريته بألف، أو أقل.. فهل للشفيع أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له أن يحلفه حتى يصرح: أنه أقل من ألف؛ لأن اليمين لا تجب بالشك.
والثاني: له أن يحلفه؛ لأن المشتري لا يملك ما ادعاه بمجرد الدعوى.
فإن قال المشتري: اشتريته بألف، فقال الشفيع: لم تشتره بألف، وإنما اشتريته بدون الألف.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعلم بالعقد، فإن نكل عن اليمين، وردت اليمين على الشفيع.. لم يحلف حتى يتبين قدر الثمن.(7/171)
[فرع: قبول قول مشتري الشقص مع يمينه]
] : وإن طالب الشفيع بالشفعة، فقال المشتري: لا أعلم قدر الثمن الذي اشتريت به، وادعى الشفيع: أنه يعرفه.. قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت الشفعة) . وبه قال عامة أصحابنا.
وقال أبو العباس: يقال للمشتري: إما أن تذكر قدر الثمن، وإلا.. جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على الشفيع؛ ليحلف على مبلغ الثمن، ويستحق أخذ الشقص بما حلف عليه، كما لو ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: لا أدري قدر ما لك علي.. فإنه يقال له: إما أن تبين قدر ما له عليك، وإلا جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي، فحلف واستحق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المشتري قد يكون صادقا بأن يشتري بثمن معلوم، وينسى قدره، وقد يشتري بثمن جزاف، فيكون البيع صحيحا، فإذا حلف المشتري.. كان الثمن مجهولا في حق الشفيع، ولم يصح أخذه للشفعة به. ويخالف ما ذكره أبو العباس؛ لأن هناك لم يجب عن الدعوى؛ فلذلك أمرناه بالإجابة عنها، وإلا.. جعلناه ناكلا. وهاهنا قد أجاب المشتري عن الدعوى؛ لأن الشفيع ادعى الشراء، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقد أقر له المشتري بذلك، إلا أنه ادعى الجهالة بقدر الثمن، وقد يمكن صدقه.
وإذا لم يعلم قدر الثمن لم تثبت له الشفعة. فوازنه من هذه المسألة: أن يقول المشتري: لا أعرف أني اشتريت الشقص، أو لا أعرف أن لك الشفعة.. فيقال له هاهنا: أجب عن الدعوى، وإلا.. جعلناك ناكلا.(7/172)
[فرع: اختلفا في قيمة العرض بدل الشقص]
وإن اشترى الشقص بعرض، وتلف العرض، واختلفا في قيمته.. فالقول قول المشتري مع يمينه في قدر قيمته؛ لأن الشقص ملك له.. فلا ينتزع إلا بما يقر به.
[مسألة: قبول قول المشتري]
وإن أقر المشتري: أنه اشترى الشقص بألف، فأخذ منه الشفيع بالألف، ثم قال البائع: إنما بعته إياه بألفين.. وصادقه المشتري على ذلك، أو أنكره وأقام عليه البائع البينة بذلك.. لزم الألفان على المشتري، ولا يلزم ذلك على الشفيع.
وقال أبو حنيفة: (إذا قامت البينة بذلك.. لزم ذلك على الشفيع) .
دليلنا: أن المشتري إذا أقر: أنه اشتراه بألف.. تعلق بذلك حق الشفيع، فإذا رجع المشتري.. لم يقبل في حق الشفيع، كما لو أقر له بحق، ثم رجع عنه. وأما البينة: فلأنه تقدم إقراره بتكذيبها، ولأنه يعترف أن البينة ظلمته، فلا يرجع على غير من ظلمه.
[فرع: قبول قول البينة والشهادة على عفو الشفعة]
وإن ادعى المشتري على الشفيع: أنه عفا عن الشفعة، وأنكر الشفيع، فإن كان هناك بينة.. حكم بها، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين؛ لأن المقصود به المال، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العفو.
فإن شهد عليه البائع بالعفو.. فحكى ابن الصباغ عن ابن القفال: أنه قال: إن شهد بذلك قبل قبض الثمن من المشتري.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بهذه الشهادة(7/173)
إلى نفسه نفعا، وهو أن يفلس المشتري، فيرجع الشقص إليه، وإن كان بعد أن قبض الثمن من المشتري.. قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا.
وإن شهد السيد على مكاتبه بالعفو عن الشفعة.. قبلت شهادته؛ لأن ذلك شهادة عليه. وإن شهد بالشراء فيما لمكاتبه فيه الشفعة.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : قبلت شهادته.
[فرع: قبول شهادة بعض الشركاء لأجنبي بعفو شريكهم عن الشفعة]
وإن كانت دار بين أربعة، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، فادعى المشتري على أحدهم: أنه عفا عن الشفعة، وشهد عليه شريكاه بالعفو، فإن كانا قد عفوا عن الشفعة.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بها إلى أنفسهما نفعا، ولا يدفعان عن أنفسهما بها ضررا، وإن كانا لم يعفوا.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما استحقاق جميع الشقص.
[فرع: القول قول ورثة المشتري مع أيمانهما]
ذكر ابن الحداد: إذا ثبتت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يتمكن من الأخذ، وله وارثان، فادعى المشتري: أنهما قد عفوا عن الشفعة، ولا بينة له.. فالقول قولهما مع أيمانهما، فإن حلفا.. سقطت دعوى المشتري، وأخذا الشقص بالشفعة. وإن نكلا عن اليمين.. حلف المشتري، وسقطت شفعتهما. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. لم يحلف المشتري مع نكول الناكل منهما؛ لأنه لا يستفيد بيمينه شيئا؛ لأنه إذا ثبت بيمينه عفو الناكل.. أخذ الحالف جميع الشقص، فلا معنى ليمين المشتري.
فعلى هذا: يرجع إلى الشريك الحالف، فإن صدق شريكه أنه لم يعف.. كانت الشفعة بينهما. وإن ادعى أن شريكه قد عفا.. حلف يمينا بالله: أن شريكه قد عفا، وأخذ جميع الشقص، وإن لم يحلف الشريك الحالف على عفو شريكه.. كان الناكل(7/174)
على حقه من الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت له، ولا يثبت عفوه إلا ببينة، أو إقرار منه، أو بيمين المدعي مع نكول الشفيع، فإذا لم يوجد شيء من ذلك.. كان على حقه من الشفعة، كما لو ادعى على رجل مالا، فاعترف به المدعى عليه، وادعى على المقر له: أنه أبرأه منه.. فالقول قول المقر له مع يمينه: أنه لم يبرئه، فإن حلف.. ثبت الحق، ولم تثبت البراءة، وإن نكل المقر له عن اليمين ردت اليمين على المقر المدعي للبراءة فإن حلف ثبتت البراءة وإن لم يحلف.. وجب عليه ما أقر به فكذلك هاهنا مثله.
[مسألة: ثبوت حق الشفعة بالبينة واليمين]
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى أحدهما: أنه باع نصيبه من زيد ولم يقبض منه الثمن، وصدقه شريكه، وأنكر زيد الشراء، فإن كان مع البائع بينة بالبيع.. وجب على زيد تسليم الثمن، وأخذ الشفيع الشقص منه بالشفعة. وإن لم يكن مع البائع بينة.. فالقول قول زيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشراء، وهل تثبت للشريك الشفعة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني، وأكثر أصحابنا: تثبت له الشفعة. وهو قول أبي حنيفة، وأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت له الشفعة. وحكي ذلك عن أبي العباس، وهو قول مالك.
ووجهه: أن الشفعة فرع على البيع، فإذا لم يثبت البيع.. لم تثبت الشفعة.
والأول أصح؛ لأن البائع أقر للمشتري بالشراء، وللشفيع بالشفعة، فإذا بطل حق المشتري برده.. لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق، فكذبه أحدهم، وصدقه الآخر.
فإن قلنا: لا تثبت الشفعة.. فللبائع مخاصمة المشتري، وعرض اليمين عليه، فإن حلف.. سقطت الدعوى، وإن نكل.. حلف البائع. قال ابن الصباغ: ويثبت البيع والشفعة.(7/175)
وإن قلنا: تثبت الشفعة.. نظر في البائع: فإن رضي بتسليم الشقص إلى الشفيع، وأخذ الثمن منه.. جاز، وكانت العهدة للشفيع في الشقص على البائع؛ لأنه منه أخذه، وإليه دفع الثمن.
وإن اختار البائع أن يطالب المشتري بقبض المبيع، وتسليم الثمن.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يحصل له الثمن من الشفيع، فلا معنى لمخاصمته للمشتري.
فعلى هذا: يسلم الشقص إلى الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، وتكون العهدة للشفيع على البائع.
فإن قيل: أليس لو ادعى على رجل دينا، فقال له رجل: أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه عليه، ولا تخاصمه، لم يلزمه قبوله؟ فلما الفرق على هذا؟
قال ابن الصباغ: فالفرق بينهما: أن عليه منة في قبول الدين من غير من هو عليه، بخلاف هذا.
والوجه الثاني: أن للبائع مخاصمة المشتري؛ لأنه قد يكون المشتري أسهل في المعاملة عند الرجوع بالعهدة.
فعلى هذا: لو حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع عنه، ودفع الشقص إلى الشفيع، وأخذ منه الثمن، وكانت العهدة عليه للشفيع. وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: لقد باعه إياه، وثبت الشراء والشفعة، ولزم المشتري تسليم الثمن إلى البائع، وكانت العهدة للمشتري على البائع، والعهدة للشفيع على المشتري.
فإن كانت بحالها، فادعى البائع: أنه باع منه نصيبه، وقبض منه الثمن، وأنكر المشتري ذلك، وصدق الشفيع البائع.. فهل تثبت الشفعة هاهنا؟(7/176)
من قال من أصحابنا في المسألة قبلها: لا تثبت الشفعة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت.
ومن قال منهم في التي قبلها: تثبت الشفعة.. اختلفوا في هذه:
فذهب أكثرهم إلى: أن الشفعة لا تثبت هاهنا؛ لأنا لو قلنا: إنها تثبت.. لأدى إلى أن يأخذها الشفيع بغير عوض؛ لأنه لا يمكن دفع الثمن إلى المشتري؛ لأنه ينكر الشراء، ولا إلى البائع؛ لأنه قد أقر بالاستيفاء، فلم يبق إلا القول بأن الشفعة لا تثبت.
ومنهم من قال: تثبت الشفعة هاهنا؛ للمعنى الذي ذكرناه في المسألة قبلها.
فإذا قلنا بهذا: فما الذي يصنع بالثمن؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها:
أحدها: يقال للمشتري: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ منه.
والثاني: يقبضه الحاكم، ويحفظه إلى أن يدعيه أحدهما.
والثالث: يترك في ذمة الشفيع.
[مسألة: في بيان ما يمنع الشفيع من أخذ الشقص بالشفعة]
وذلك في مواضع:
أحدها: أن يشتري رجل من رجل شقصا يساوي مائة بألف، ثم يأخذ البائع من المشتري عوضا يساوي مائة، فربما لا يرضى الشفيع أن يأخذ شقصا يساوي مائة بألف، إلا أن الغرر هاهنا على المشتري.
الموضع الثاني: أن يشتري بائع الشقص ممن يريد أن يبيع منه الشقص جارية تساوي مائة بألف، ثم يعطيه عن الألف الشقص، وهو يساوي مائة، فإن أراد الشفيع أن يشفع.. لزمه الألف، إلا أن الغرر هاهنا على بائع الشقص.(7/177)
الموضع الثالث: أن يشتري منه شقصا يساوي مائة بألف، فيقبض منه مائة ويتفرقا، ويبرئه عن تسعمائة، وفي هذا غرر على المشتري.
الموضوع الرابع: إذا كان الشقص يساوي مائة، بأن يهب منه مالك الشقص نصفه، ويقبضه إياه، ثم يبيعه نصفه بمائة، فإن اختار الشفيع الشفعة.. أخذ نصف الشقص بمائة، وشاركه الموهوب أيضا بما وقعت فيه الهبة.
الموضع الخامس: أن يهب منه الشقص، ويهب منه الثمن.
الموضع السادس أن يشتريه بثمن جزاف شاهده، بأن يشتريه بملء كفيه دارهم، ولا يعلم عددها، فالبيع صحيح. فإذا طالبه الشفيع بالشفعة.. حلف المشتري: أنه لا يعلم قدر الثمن، ولم تثبت الشفعة على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبالله التوفيق(7/178)
[كتاب القراض](7/179)
كتاب القراض القراض والمضاربة: اسمان لمعنى واحد، وهو أن يدفع ماله إلى رجل ليتجر به، ويكون الربح بينهما على ما يشترطانه، ورأس المال لرب المال، وأهل الحجاز يسمون هذا العقد: قراضا. واختلف في اشتقاقه:
فقيل: إنه مشتق من القرض، وهو القطع، يقال: قرضت الطريق، أي: قطعتها، وقرض الفأر الثوب، أي: قطعه، فكأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، أو قطع له قطعة من الربح.(7/181)
وقيل: إنه مشتق من المساواة، ويقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما الآخر بشعره في المدح أو الذم.
وحكي عن أبي الدرداء: أنه قال: (قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم لم يتركوك) . يريد: ساوهم.
فالمتقارضان متساويان؛ لأن أحدهما يبذل المال، والآخر يتصرف فيه، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح. فالمقارض - بكسر الراء -: هو رب المال، و - بفتحها -: هو العامل.
وأما المضاربة: فاشتقاقها من الضرب بالمال، أو التقليب، وقيل: هو من ضرب كل واحد منهما في الربح بسهم، فالمضارب - بكسر الراء -: هو العامل؛ لأنه هو الذي يضرب في المال، ولم يشتق لرب المال منه اسم.
إذا ثبت هذا: فالقراض جائز، والأصل فيه: إجماع الصحابة، روي ذلك عن(7/182)
عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام.
وروى الشافعي: (أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى الأشعري - وهو عامل لعمر - مالا، فابتاعا به متاعا، وقدما به المدينة، فباعاه وربحا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، وقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال.. ضمناه، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضا؟ فقال: قد جعلته قراضا، فأخذ منهما رأس المال، ونصف الربح) . فدل على أن القراض كان مستفيضا في الصحابة.
فإن قيل: إذا تسلفا المال من أبي موسى.. فكيف تحتجون بذلك على القراض؟(7/183)
قلنا: موضع الحجة منه، قول الرجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ ولم ينكر عليه عمر ولا غيره القراض.
فإن قيل: فإذا كانا قد تسلفا ذلك من أبي موسى وابتاعا به متاعا.. فقد ملكا المال وربحه.. فكيف ساغ لعمر أن يجعله قراضا، ويأخذ منهما نصف الربح؟
فتأول أصحابنا ذلك ثلاث تأويلات:
أحدها - وهو تأويل أبي العباس -: أن أبا موسى كان قد اجتمع عنده مال لبيت المال، وأراد أن ينفذه إلى المدينة، فخاف عليه حرز الطريق، فأقرضهما ذلك المال ليكون في ذمتهما أحوط لبيت المال، وقد ملكا المال وربحه، إلا أن عمر أراد أن ينفع المسلمين، فاستدعاهما، واستطاب أنفسهما في نصف الربح. وللعامل أن يفعل كفعل أبي موسى إذا خاف على المال.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: كان الطريق آمنا، وإنما أقرضهما أبو موسى ليتقرب به إلى قلب عمر، فلما تصرفا في المال وربحا.. كان ذلك الربح كله ملكا للمسلمين، واستحقا أجرة المثل، وبلغت أجرتهما نصف الربح، ولهذا روي عن عمر: أنه قال: (كأني بأبي موسى وهو يقول: ابنا أمير المؤمنين) .
و (الثالث) : قال أبو إسحاق: كان أبو موسى أقرضها ذلك المال، ثم قارضهما بعد ذلك، فخلطا الربح الذي حصل منه، فاستطاب عمر أنفسهما عن نصف الربح.
والأول أصح؛ لأن الدراهم والدنانير لا يجوز إجارتهما للتجارة، فجوز عقد القراض عليهما، كالنخل لما لم يجز إجارتها لتستغل.. جاز عقد المساقاة عليها، والأرض لما جازت إجارتها لتستغل.. لم تجز عقد المخابرة عليها.(7/184)
[مسألة: القراض في أنواع المال]
ويجوز القراض على الدراهم والدنانير، قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم، فأما ما سواهما من الأموال مما له مثل، كالحبوب والأدهان، أو مما لا مثل له، كالثياب والعبيد.. فلا يجوز عقد القراض عليها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال الأوزاعي، وابن أبي ليلي: (يجوز القراض على ذلك كله، فإن كان المال له مثل.. رد العامل مثله، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) .
دليلنا: أن القراض موضوع على أن يأخذ رب المال رأس المال، ويشتركا في الربح، ولا يشارك العامل رب المال في رأس المال، ولا يستبد رب المال برأس المال والربح، والقراض على العروض يفضي إلى ذلك؛ لأنه إذا قارضه على ما له مثل، كأن يقارضه على كر طعام يساوي مائة درهم، فقد يتصرف فيه، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا.. فقد يغلو الطعام، فلا يؤخذ الكر إلا بالألف، فيستبد رب المال في جميع الربح، وقد تكون قيمة الكر يوم القراض ألفا، فيبيعه العامل بألف، ولا يتصرف فيه، ثم يتفاضلان، وقد رخص الطعام، فصار الكر بمائة، فيشتري له العامل الكر بمائة، ويشاركه بتسعمائة، وهى من رأس المال.
وإن قارضه على ما لا مثل له، وتفاضلا.. احتاج أن يرد قيمته، فإن شرطا أن ترد قيمته يوم المفاضلة.. كان باطلا من وجهين:
أحدهما: أن قيمته يومئذ مجهولة، والقراض على المجهول لا يجوز.
والثاني: أنه يفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في ذوات الأمثال.
وإن اشترطا أن ترد قيمته يوم القراض.. أفضى أيضا إلى الفساد؛ لأنه قد يدفعه وقيمته مائة، فيتركه في يده، فتزيد قيمته، فتبلغ ألفا، ثم يبيع، ويتفاضلان، فيدفع إليه مائة، ويشاركه العامل بالباقي، ويشاركه برأس المال. وقد يدفعه وقيمته ألف،(7/185)
فيبقى ذلك في يده، فتنقص قيمته، فتصير مائة، ثم يتصرف ويبيع، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا. احتاج أن يدفع إليه جميع ذلك، فيستبد رب المال بالربح، وما نافى العقد.. أبطله، بخلاف الدراهم والدنانير، فإنهما وإن كانت قيمتهما تزيد وتنقص، إلا أنهما لا يقومان بغيرهما. هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 320] : هل يصح القراض على ذوات الأمثال؟ فيه وجهان.
[فرع: صحة المضاربة بمعلوم على النصف]
قال الطبري: ولو قال: خذ ما شئت من مالي مضاربة بيننا على النصف، فأخذ الدراهم.. صح تصرفه فيه، ولا يكون قراضا، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أن العقد وقع على غير معين ولا معلوم، فهو كما لو قال: على ما ورثت من أبي، وإن أخذ شيئا من العروض، فتصرف فيها.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه وجهان.
قال الطبري: ولو قال: خذ هذه الألف مضاربة على النصف، فأخذه ولم يتكلم.. لم تصح المضاربة، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه لم يوجد من أحدهما لفظ في عقد المضاربة، وهو من أهله، كما لو لم يتكلم رب المال.
[فرع: بطلان القراض بمغشوش]
] : ولا يجوز القراض على دراهم ولا دنانير مغشوشة، سواء كان الغش أقل من الذهب والفضة أو أكثر.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الغش أكثر.. لم يصح، وإن كان أقل.. صح) .
دليلنا: أنه نقد مغشوش، فلم يصح القراض عليه، كما لو كان الغش أكثر.(7/186)
[فرع: القراض بغير المال]
وإن قارضه على سبيكة.. لم يصح القراض، كما لا يصح القراض على العروض.
وإن قارضه على فلوس.. لم يصح القراض، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال محمد: القياس أن لا يجوز إلا أني أجوزه استحسانا.
دليلنا: أن الفلوس ليست بنقد غالب، فلم يصح القراض عليها، كالثياب.
فإن دفع إلى رجل غزلا، وقال: انسجه على أن تبيعه، وتدفع إلي قيمة الغزل، ويكون الباقي بيننا.. لم يصح؛ لأن القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال وعينه، وهاهنا لم يمكنه من التصرف في رقبة المال وعينه، وإنما يتصرف في منفعته، فلم يصح، ولأنه قد تزيد قيمة الغزل وقد تنقص، فيفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في القراض على العروض، فإن نسج العامل الغزل.. كان الثوب ملكا لصاحب الغزل، وعليه للعامل أجرة عمله؛ لأنه عمل ليسلم له المشروط، ولم يسلم له، فاستحق أجره عمله.
وإن دفع إليه شبكة، وقال: اصطد بها، وما رزق الله من صيد كان بيننا.. لم يصح القراض؛ لما ذكرناه: من أن مقتضى القراض أن يتصرف العامل في رقبة رأس المال، وإنما يتصرف هاهنا في منفعته.
فعلى هذا: إذا اصطاد العامل صيدا.. كان الصيد ملكا له؛ لأنه حصل بفعله، وعليه أجرة مثل الشبكة لمالكها؛ لأنه بذلك منفعتها بعوض، ولم يسلم له، فاستحق أجرتها.
وإن دفع إلى رجل بهيمة، وقال: أكرها، وما حصل من ذلك كان بيننا.. لم(7/187)
يصح القراض؛ لما ذكرناه في الشبكة، فإن أكراها العامل.. كان الكراء لمالك البهيمة، وعلى مالك البهيمة أجرة مثل العامل، والفرق بين الشبكة والبهيمة: أن عمل العامل على البهيمة تابع لعمل البهيمة، فكانت الأجرة لمالكها، والعمل على الشبكة للعامل، والشبكة تبع للعامل.
فإن دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، فإذا نض ثمنه فقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض، وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه قراض معلق على شرط، فلم يصح، ولأن ما يباع به الثوب من الثمن مجهول، والمجهول لا يصح.
وإن قال: قارضتك على الدين الذي لي على فلان، فاقبضه، وتصرف به.. لم يصح، فإن فعل الأجير ذلك.. كان له أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض، ولم يسلم له العوض، وأما قدر الأجرة: فقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 320] : ينظر فيه:
فإن قال: قارضتك عليه لتقبض وتتصرف.. فله أجرة المثل للتقاضي والقبض والتصرف.
وإن قال: إذا قبضت، فقد قارضتك.. فليس له إلا أجرة مثل التصرف.
[مسألة: يشترط في القراض معرفة قدر المال]
ولا يصح القراض إلا على مال معلوم، فإن قارضه على دراهم جزاف لا يعلمان عددها ووزنها.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح، فإن اتفقا على قدر رأس المال، وإلا كان القول قول العامل) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» ، وفي القراض على مال لا يعرفان قدره غرر؛ لأنه لا يدري إلى ماذا يرجع رب المال عند المفاضلة.(7/188)
[فرع: تعيين مال القراض]
وإن قدم إليه ألف دينار ومائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما.. لم يصح القراض؛ لأن ذلك يمنع صحة العقد، فلم يصح، كما لو باعه أحد العبدين.
وإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما مائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما، وأودعتك الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنهما متساويان.
والثاني: لا يصح كما لا يصح مثل ذلك في البيع.
وإن كان عنده له دراهم وديعة، فقارضه عليها.. صح، كما لو دفع إليه مالا وقارضه عليه.
وإن كان غصب منه دراهم وقارضه عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مقبوض من تحت يده، فصح، كالوديعة.
والثاني: لا يصح؛ لأن مال الغصب مضمون عليه، ومال القراض أمانة عنده، وهما متنافيان. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن رهن الغاصب العين المغصوبة، فإذا قلنا: يصح، واشترى العامل به شيئا، وسلم المغصوب إلى البائع.. برئ من الضمان؛ لأنه سلمه بإذن مالكه.
[فرع: المقارضة في مال القاصر]
فرع: [يجوز للولي المقارضة في مال القاصر] :
يجوز لولي الطفل والمجنون، كالأب، والجد، والوصي، والحاكم الأمين من قبله، أن يقارض على مال الصغير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» .(7/189)
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قارض على مال اليتيم) ، ولأن عقد القراض يطلب به نماء المال.. فجاز للولي فعله، كالبيع.
[مسألة: شرط بيان حصة كل من العامل وصاحب رأس المال من الربح]
ولا يصح القراض إلا بشرط أن يبينا الربح؛ لأنه هو المقصود بالقراض.
فإن قارضه على مال، على أن يكون الربح بينهما نصفين.. صح ذلك؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع» . والقراض بمعنى المساقاة، فإن قال: قارضتك على أن يكون الربح بيننا.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يكون الربح بينهما أثلاثا، أو نصفين فلم يصح.
و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين، وهو الصحيح؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، فهو كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لي نصف الربح، وسكت عما للعامل.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الربح كله لرب المال، وإنما يملك العامل شيئا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا.
و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين؛ لأن مقتضى القراض أن الربح لهما، فإذا شرط رب المال لنفسه نصف الربح.. كان الباقي للعامل.(7/190)
والأول أصح؛ لأن المزني نقل عن الشافعي في (المساقاة) : (إذا قال: خذ هذا مساقاة، على أن لي النصف.. لم يصح) .
وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك نصف الربح.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه لم يبين ما لنفسه.
و (الثاني) : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين. وهو الصحيح؛ لأن الربح كله لرب المال بحق الملك، وإنما العامل يملك شيئا منه بالشرط، فإذا شرط للعامل بعضه.. كان الباقي لرب المال.
فعلى هذا: إذا قال: قارضتك على أن لك ثلث الربح، ولي النصف، وسكت عن السدس.. كان لرب المال ثلثا المال، وللعامل ثلثه.
قال أبو العباس: وإن دفع إليه ألفا، وقال: خذ هذا قراضا على النصف، أو على الثلث، أو على غير ذلك.. صح، وكان ذلك تقديرا لنصيب العامل؛ لأن الظاهر أن الشرط له؛ لأن رب المال يستحقه بالملك، والعامل يستحقه بالشرط، فإن اختلفا، فقال العامل: شرطته لي، وقال رب المال: شرطت ذلك لنفسي.. كان القول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الظاهر معه. وإن قال: قارضتك على أن لك شركة في الربح أو شركا فيه.. لم يصح.
وقال محمد بن الحسن: يكون له نصف الربح.
وقال أصحاب مالك: يكون له مضاربة المثل.
دليلنا: أن ذلك مجهول؛ لأن الشرك يقع على القليل والكثير، فلم يصح، كما لو قال: على أن لك سهما في الربح.(7/191)
[فرع: تعيين مقدار الربح لكل]
] : وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لك ثلث الربح، وما بقي من الربح في من الثلث، ولك الثلثان.. صح، فيكون للعامل سبعة أتساع الربح، ولرب المال تسعاه.
وإن دفع رجل إلى رجلين مالا، وقال: قارضتكما عليه، على أن يكون لي نصف الربح، ولكما النصف.. صح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين، فهو كما لو أن رب المال عقد مع واحد القراض، على أن الربح بينهما نصفين.. لصح، ويكون نصف الربح بين العاملين نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية.
وإن قال: قارضتكما على أن يكون لي نصف الربح، والنصف الآخر لأحدكما منه الثلث، وللآخر الثلثان.. صح، وحمل على ما شرط.
وإن دفع رجلان إلى رجل ألف درهم بينهما نصفين، وشرطا أن له نصف الربح، ولهما نصف الربح بينهما نصفين.. صح ذلك، وإن شرطا أن له نصف الربح، والنصف الآخر لأحدهما ثلثه، وللآخر ثلثاه.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، فلا يجوز شرط تفاضلهما فيما بقي لهما من الربح، وإن قالا: قارضناك على أن يكون لك نصف الربح، تستحق ثلثه من نصيب عمرو، وثلثيه من نصيب زيد، ويكون لعمرو ثلثا النصف الآخر، ولزيد ثلثه.. صح ذلك؛ لأن عمرا شرط له ثلث نصيبه، وشرط له زيد ثلثي نصيبه، فصح، وإن قالا: على أن لك نصف الربح، ثلثه من نصيب عمرو، وثلثاه من نصيب زيد، ثم يكون النصف الآخر بين زيد وعمرو نصفين.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (يصح) .(7/192)
دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضى العقد؛ لأنهما شرطا أن يأخذ أحد ربي المال من نصيب الآخر من الربح بعضه.. فلم يصح، كما لو شرطا أن يكون النصف الآخر لأحدهما.
[فرع: يدفع الربح على المالين المتساويين سواء]
إذا دفع إليه ألفا، وقال: ضم إليه ألفا من عندك واعمل عليهما، على أن يكون لي ثلثا الربح ولك ثلثه، أو على أن يكون لك ثلثا الربح ولي ثلثه.. لم يصح؛ لأنه إن شرط لنفسه الأكثر.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، وذلك يقتضي تساويهما في الربح، ثم شرط عليه العمل، ونقصه من الربح.. فلم يصح وإن شرط للعامل أكثر.. فسد أيضا لأن الشركة إذا وقعت على المال.. كان الربح مقسطا على قدر المالين، والعمل تابع، والمال هاهنا غير متفاضل، فلا يجوز تفاضلهما في الربح.
فإن دفع إليه ألفين، وقال: ضم إليها ألفا من عندك، فتكون ألفان شركة بيننا، والألف الأخرى قارضتك عليها بنصف الربح.. جاز؛ لأن أكثر ما فيه أن المال الذي للقراض مشاع، وإذا لم تمنعه الإشاعة من التصرف.. صح القراض.
[فرع: قارضه بشرط أن يدفع بقدر ماله بضاعة]
قال في (الأم) [3/236] : (إذا دفع إليه ألفا قراضا على أن يعمل فيها بالنصف، وشرط عليه أن يدفع إليه ألفا أخرى بضاعة.. لم يصح القراض) ؛ لأن معنى البضاعة: أن يعمل عليها لصاحبها بغير عوض له، وهذا لا يلزمه، وإذا لم يلزم العامل ذلك.. لم يستحق العامل ما بذل له من الربح؛ لأنه لم يبذل ذلك إلا بهذا الشرط. فأما إذا قال: قارضتك على هذه الألف بالنصف، واستعملتك على أن تعمل لي على هذه الألف بضاعة.. صح القراض؛ لأنه لم يجعله شرطا.(7/193)
[فرع: قارضه بشرط ربح نصف المال له]
قال أبو العباس: إذا قال: قارضتك على هذه الألف، على أن لك ربح نصفها.. لم يجز القراض.
وقال أبو ثور، وأبو حنيفة: (يصح) ، كما لو قال: على أن لك نصف ربحها.
والأول أصح؛ لأنه جعل للعامل ربح بعض المال، فلم يصح، كما لو دفع إليه ألفين، وقارضه عليهما، وجعل للعامل ربح أحدهما، ويخالف إذا جعل له نصف الربح، لأنه لا يؤدي إلى إفراده بربح شيء من المال، وإن قارضه على ما قارض به فلان عامله، فإن علما قدر ما شرط للعامل من الربح.. صح القراض؛ لأنهما أشارا إلى معلوم عندهما، فهو كما لو صرحا بذكره، وإن كانا لا يعلمان ذلك أو أحدهما.. كان القراض فاسدا؛ لأنه قراض على شيء مجهول بينهما.
[فرع: اشتراط ربح درهم لأحدهما]
] : إذا دفع إليه ألفا قراضا، وشرط العامل أن ينفرد بدرهم من الربح، والباقي من الربح بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يربح إلا ذلك الدرهم، ومن مقتضى القراض أن الربح بينهما، وهكذا: لو شرط أن لرب المال درهما من الربح، والباقي بينهما لم يصح؛ لما ذكرناه، وهكذا: لو شرطا على أن للعامل درهما من الربح، والباقي لرب المال.. لم يصح؛ لما ذكرناه.
وأن قارضه على أنه إذا اشترى عبدا أو دابة بصفة كذا وكذا، أخذ رب المال برأس ماله، والباقي بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا ذلك الموصوف، وهكذا: لو قال: قارضتك على أن أرتفق بمال القراض، بأن يقول: إذا اشتريت دابة ركبتها، وإذا اشتريت دارا سكنتها.. لم يصح القراض؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا تلك المنفعة، فلا يجوز أن يختص بها أحدهما.(7/194)
[مسألة: شرط الربح للعامل]
إذا دفع إليه ألفا، وقال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لك.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال؛ لأنه نماء ماله وللعامل أجرة المثال؛ لأنه عمل على عوض، ولم يسلم له، فكان له أجرة المثل، ووافقنا أبو حنيفة على هذا.
وإن قال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لي.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال، واستحق العامل أجرة مثله.
وقال أبو حنيفة: (إذا عمل العامل في هذه.. كان بضاعة، وكان الربح كله لرب المال، ولا أجرة للعامل) . وبه قال بعض أصحابنا.
ودليلنا: أن مقتضى القراض أن يكون الربح بينهما، فإذا شرطه لأحدهما.. فقد شرط ما ينافي مقتضاه، وإذا بطل العقد.. وجب للعامل أجرة المثل، كالأولى.
وإن دفع إليه ألفا، وقال: اعمل عليه والربح كله لك.. قال أبو العباس: كان ذلك قرضا؛ لأنه لم يذكر اسم القراض ولا معناه، وإن قال: اعمل عليه والربح كله لي.. قال أبو العباس: كان ذلك بضاعة، فيكون الربح كله لرب المال، ولا شيء للعامل؛ لأن هذه صفة البضاعة.
قال: والأصل في هذا: أن كل لفظة كانت موضوعة لعقد من العقود خاصة فيه، فإنها إذا أطلقت.. حلمت عليه، وإن عقبت بما ينافي ذلك العقد.. فسد العقد، وكل لفظة كانت محتملة لنوعين من العقود فأكثر، فإذا ذكرت، ثم عقبت بما يقتضيه أحد تلك العقود.. حملت على بيان ذلك العقد، وبيان هذا: أن قوله: قارضتك، لفظة موضوعة لنوع من العقود، وهو العقد الذي يشترك فيه العامل ورب المال في الربح، فإذا أطلقت.. حملت على ذلك، وإن عقبت بما ينافي ذلك، بأن يقول: الربح كله لي أو كله لك فسد القراض، وكذلك قوله: بعتك بلا ثمن، يكون بيعا فاسدا، وقوله: خذ هذا المال واعمل عليه، لفظة مشتركة بين القراض والقرض والبضاعة،(7/195)
فإذا أطلق.. لم يكن حملها على أحد أنواع العقود المذكورة بأولى من البعض، فإن عقبها بشرط يقتضيه أحد هذه العقود.. حلمت عليه، فإذا قال: اعمل عليه على أن يكون الربح بيننا.. كان قراضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لك.. كان قرضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لي.. كان بضاعة. وكذا إذا قال: ملكتك هذا، إن قال بعوض.. كان بيعا، وإن لم يذكر العوض.. كان هبة. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 321] : لو قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه قرض، وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: أنه قراض فاسد.
وإن قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لي.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بضاعة.
والثاني: أنه قراض فاسد.
وإن قال: أبضعتك على أن جميع الربح لك.. ففيه وجهان، وكذا لو قال: بعتك هذا الثوب، ولم يذكر الثمن.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بيع فاسد.
والثاني: ليس ببيع، ولا مضمون.
[فرع: تغيير مقدار ربح العامل]
قال في (العدة) : لو شرط للعامل نصف الربح، ثم بعد أيام رده إلى ثلث الربح أو ربعه.. لم يجز ما لم يفسخا العقد الأول، ويجددا عقدا آخر، خلافا لأبي حنيفة رحمة الله عليه.(7/196)
دليلنا: أن عقد المضاربة الصحيحة لا يقبل تغيير المشروط من الربح، فلم يصح، كما لو انفرد به أحدهما.
[مسألة: فسخ القراض]
مسألة: [القراض يجوز فسخه] :
القراض من العقود الجائزة لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء؛ لأنه عقد يتضمن تصرف العامل في رقبة المال بإذن رب المال، فكان جائزا، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد) . قال أصحابنا: وفي ذلك مسائل:
إحداهن: أن يقول: قارضتك إلى سنة، فإذا مضت فلا تبع، ولا تشتر.. فيبطل القراض بهذا الشرط؛ لأن عقد القراض يجوز مطلقا، فبطل بالتوقيت، كالبيع والنكاح، ولأن القصد من القراض أن يتصرف العامل في المال للربح، وقد لا يحصل الربح إلا في البيع بعد السنة.
الثانية: أن يقول: قارضتك سنة على أني لا أمنعك فيها من البيع والشراء.. بطل القراض؛ لأن عقد القراض عقد جائر، فلا يجوز أن يشترط لزومه على رب المال.
الثالثة: إذا قال: قارضتك على هذا سنة، فإذا مضت منعتك من الشراء دون البيع.. فالمذهب أن القراض صحيح؛ لأنه يملك منعه من الشراء متى شاء، فإذا شرط ذلك.. فقد شرط ما يقتضيه العقد، فلم يؤثر.
وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: يفسد القراض؛ لأنه عقد عقدا، وشرط قطعه، فبطل، كما لو تزوج امرأة على أن يطلقها. وليس بشيء.
الرابعة: إذا قال: قارضتك سنة وأطلق. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي السنجي:
أحدهما: لا يبطل؛ لأن له عزله بعد العقد متى شاء.
والثاني: يبطل، وهو الصحيح؛ لأن تقييده بالسنة يقتضي منعا بعده من البيع والشراء.(7/197)
[مسألة: قارضه وجعل غلامه معه وشرط الربح أثلاثا]
قال الشافعي رحمة الله عليه: (ولو قارضه فجعل معه رب المال غلامه، وشرط أن يكون الربح بينه وبين العامل والغلام أثلاثا.. فجائز) .
قال أصحابنا: وفي ذلك مسألتان:
إحداهما: أن يقول: قارضتك على هذا على أن لك ثلث الربح، ولي ثلث الربح، ولعبدي ثلث الربح، ولم يشترط على عبده شيئا من العمل في المال.. فيصح ذلك وجها واحدا؛ لأن ما شرطه رب المال لعبده هو لرب المال، فكأنه شرط لنفسه ثلثي الربح وللعامل الثلث.
الثانية: أن يشترط لعبده شيئا من الربح، ويشترط أن يعمل العبد مع العامل فاختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، فإذا لم يجز أن يشترط رب المال على نفسه شيئا من العمل.. فكذلك لا يجوز أن يشترطه على عبده، وحمل هذا القائل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا لم يشترط رب المال على عبده شيئا من العمل.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: يجوز أن يشترط رب المال أن يعمل عبده مع العامل، ولا يبطل القراض بذلك، وهو ظاهر النص هاهنا وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في (المساقاة) أيضا: (إذا ساقاه على نخل، وشرط رب المال أن يعمل غلامه مع العامل صح) ، ولأن غلامه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله بخلاف عمل رب المال بنفسه. قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا دفع إليه مالا وحمارا، أو بغلا ليحمل عليه مال القراض، أو كيسا ليجعل فيه مال القراض.. جاز.
[فرع: شرط أن يكون ربح المال لصاحبه وعامله وآخر]
وإن شرط رب المال لنفسه ثلث الربح، ولزوجته أو لغلامه الحر، أو الأجنبي ثلث الربح، وللعامل الثلث، فإن شرط رب المال على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي(7/198)
العمل مع العامل.. جاز، كما لو قارض اثنين. وإن لم يشرط عليهم العمل.. لم يصح؛ لأنه شرط الربح لغير نفسه وغير العامل، وإن قال: قارضتك على هذا، على أن لك نصف الربح، ولي نصف الربح، على أن يعطي هو غلامه أو زوجته من النصف الذي له نصفه.. جاز ذلك؛ لأنه شرط النصف لنفسه، ثم شرط على نفسه شرطا لم يلزمه، فصح، ولم يؤثر في العقد، كما قال الشافعي رحمة الله عليه في من تزوج امرأة وأصدقها ألفا، على أن يعطي هو أباها ألفا.. لا يصح؛ لأنه شرط صداقا لغير الزوجة، ولو أصدقها ألفين على أن تعطي هي أباها ألفا.. صح، وتكون المرأة بالخيار: بين أن تعطي أباها ألفا، أو لا تعطيه.
قال ابن الصباغ: وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك ثلثي الربح، على أن تعطي امرأتك نصفه.. فقال القاضي أبو حامد: إن أوجب ذلك عليه.. كان ذلك قراضا فاسدا، وإن لم يوجب ذلك عليه.. صح، كما قال الشافعي رحمة الله عليه فيمن أصدق امرأته ألفين، على أن تعطي هي أباها ألفا: (أن الصداق صحيح، وتكون بالخيار: إن شاءت.. أعطت أباها، وإن شاءت.. لم تعطه) .
[مسألة: شرط المقارض على العامل البيع من رجل بعينه]
إذا قارضه وشرط عليه أن لا يبيع أو لا يشتري إلا من رجل بعينه.. فالمنصوص: (أن القراض لا يصح) . وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي: أنه قال: إذا كان الرجل بيعا تجلب إليه الأمتعة، ولا تنقطع عنه في العادة.. جاز أن يعينه ليبتاع منه. وليس بشيء؛ لأنه قد لا يبيع منه ذلك الرجل ولا يشتري منه إلا ما يكون فيه الربح، وقد يغيب عنه ذلك الرجل، أو يفلس، أو يموت، وذلك يمنع مقصود عقد القراض، فلم يصح.
وإن قارضه على أن لا يشتري إلا سلعة معينة، أو جنسا لا يعم وجوده في ذلك(7/199)
الوقت، كالصيد في موضع لا يوجد فيه غالبا.. لم يصح عقد القراض؛ لأن المقصود من القراض طلب الربح، وذلك لا يحصل إلا بأن يمكن العامل من التصرف التام.
قال الشيخ أبو حامد: والتصرف التام يحصل بأن يقول: قارضتك، فابتع ممن شئت، وبع ممن شئت، وابتع ما شئت، أو يقول: اتجر في الجنس الفلاني، وكان مما يعم وجوده في الشتاء والصيف، كالثياب، والطعام.
وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي: وهكذا: إذا قارضه على أن يتجر في جنس يعم وجوده في بعض الأوقات دون بعض، كالرطب، والعنب.. فيصح ذلك؛ لأنه يعم وجوده في وقته، فتمكن التجارة فيه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا أن يقول: فإذا انقطع.. فاتجر فيما شئت، أو في جنس يعم وجوده في الشتاء والصيف، وليس بشيء.
فإن قيل: فقد قلتم لا يجوز أن يقارضه إلى مدة والقراض على ما ينقطع قراض إلى مدة؟
قلنا الفرق بينهما: أنه إذا قارضه إلى مدة.. فقد تنقطع المدة وبيده أعيان لا ربح فيها إلا ببيعها، فإذا منعه من بيعها.. تعذر المقصود، وليس كذلك إذا قارضه إلى مدة ما يوجد في وقت دون وقت؛ لأنه يتجر فيه ما دام موجودا، فيبيعه ويشتريه، فإذا انقطع ذلك.. انقطع ابتياعه، وأمكنه بيع ما في يده، فيحصل المقصود.
[فرع: قارضه على شيء له غلة]
ولو قارضه على أن يشتري مستغلات يكون أصلها موقوفا، وغلتها بينهما، كالنخل، والدواب، والأرض.. لم يصح القراض؛ لأن عقد القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال، وهذا قد شرط منعه من ذلك، فلم يصح.(7/200)
[فرع: تخيير المقارض العامل بنصف المال لنوع خاص]
قال المزني: إذا دفع إليه ألف درهم، وقال: ابتع بها هرويا أو مرويا بالنصف كان فاسدا؛ لأنه لم يبين، ولا خلاف بين أصحابنا أن القراض فاسد، واختلفوا في تعليله:
فقال أكثرهم: إنما فسد؛ لأن القراض يقتضي أن يكون العامل مأذونا له في البيع والشراء، وهاهنا إنما أذن له في الابتياع دون البيع.
وقال أبو إسحاق: إنما فسد؛ لأن رب المال لم يبين أن النصف الذي من الربح للعامل، أو لنفسه.
وقال أبو العباس: لا يفسد بذلك؛ لأن الشرط إذا أطلق.. انصرف إلى العامل، وقد مضى ذكره، وإنما فسد.. للمعنى الأول.
ومنهم من قال: إنما فسد؛ لأن الهروي والمروي جنس لا يعم وجوده.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إنما فسد؛ لأنه لم يعين أحد الجنسين.
والأول أصح؛ لأن ما قاله أبو إسحاق قد مضى فساده، ومن قال: إن الهروي والمروي لا يعم وجوده.. غير صحيح؛ لأن الهروي والمروي لا يعدم وجوده في بلدة، وما قاله ابن أبي هريرة.. غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يخيره فيما يشتريه.
إذا ثبت هذا فإن اشترى العامل وربح.. كان الشراء والربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عمل ذلك بإذنه بعوض، ولم يسلم له.. فاستحق أجرة المثل.
وقال الطبري: وليس للعامل أن يبيعه؛ لأنه لم يؤذن له فيه.
[فرع: إطلاق يد العامل لا يصح في محرم]
إذا قارضه، وقال له: اتجر فيما شئت.. لم يجز للعامل أن يشتري الخمر، سواء كان العامل مسلما أو ذميا.(7/201)
وقال أبو حنيفة: (إذا كان العامل ذميا.. جاز له أن يشتري الخمر ويبيعها؛ لأنها مال عنده، ويشاركه رب المال في الربح وإن كان مسلما) . وبنى ذلك على أصله: أن الملك يدخل في ملك الوكيل، ثم ينتقل إلى ملك الموكل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب، وحرم ثمنه، وحرم الخنزير، وحرم ثمنه، وحرم الخمر، وحرم ثمنه» . فإذا اشترى الذمي الخمر، ونقد الثمن فيه.. فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأن رب المال فوض الاجتهاد إليه، وعنده: إن التجارة في الخمر ونقد الثمن فيه جائز، فلا يكون متعديا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون ضامنا؛ لأنه لا يكون له نقد الثمن مع الحكم ببطلان البيع، فإذا فعل ذلك.. كان ضامنا.
وإن اشترى العامل أم ولد، ولم يعلم بها.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يعرف أم الولد.
وإن اشترى العامل المسلم خمرا لم يعلم به ونقد الثمن من مال القراض.. فهل يضمن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ] .
أحدهما: لا يضمن، كما لا يضمن ما صرفه في ثمن أم الولد.
والثاني: يضمن؛ لأنه كان يمكنه أن يذوقه، فإذا لم يفعل.. ضمنه.
[فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره]
قد ذكرنا: أن رب المال يقول: قارضتك على أن تتجر فيما شئت، أو على أن تتجر في جنس كذا، وهو مما يعم وجوده، فإذا أذن له في جنس.. لم يجز له أن يتجر في غيره؛ لأن تصرفه مقصور على إذن رب المال.(7/202)
فإذا قال له: اتجر في الثياب والبز.. فهل يجوز على الإطلاق؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) .
فإذا قلنا: يجوز.. دخل فيه ما يلبس من القطن والإبريسم والكتان والصوف، وهل يدخل فيه الثياب المخيطة؟ فيه وجهان، ذكرهما الطبري في (العدة) ، ولا يدخل فيه القطن؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز، وهل تدخل فيه الأكسية البرزكانية؟ فيه وجهان:
أحدهما: تدخل فيه؛ لأنها تلبس، فهي كالثياب.
والثاني: لا تدخل؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البز.
وإن قال: على أن تتجر في الرقيق.. فهل يجوز أن يشتري أشقاصا من الرقيق؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) . وإن قال: على أن تتجر في الطعام.. لم يدخل فيه الدقيق والشعير والذرة، لأن إطلاق اسم الطعام إنما ينصرف على الحنطة.
[مسألة: ما يقوم به العامل في القراض]
] : ويتولى العامل من الأعمال في مال القراض ما جرت به العادة للعامل أن يتولاه منه، كالبيع والشراء، وطي الثياب ونشرها، وحمل ما خف من المتاع؛ لأن العادة جرت بأن يتولى ذلك الرفيع والوضيع، فإن استأجر لذلك.. كانت الأجرة من ماله، ولا يلزمه أن يتولى ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، كحمل الأمتعة الثقيلة، بل يستأجر لها من مال القراض من يتولاها، فإن عمل ذلك بنفسه.. فلا أجرة له بذلك؛ لأنه متبرع بذلك، وإن غصب المال أو سرق.. فهل يملك المخاصمة على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي التجارة دون الخصومة.(7/203)
والثاني: له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي حفظ المال، وهذا من حفظ المال.
[مسألة: مقارضة عامل القراض عاملا آخر]
إذا قارض العامل في القراض عاملا آخر.. نظرت:
فإن كان ذلك بإذن رب المال، ولم يشرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بل شرط الربح بين رب المال والعامل على ما أذن له فيه.. صح القراض، وكان العامل الأول وكيلا لرب المال في عقد القراض، وإن شرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بأن شرط أن ربح المال بينهم أثلاث.. لم يصح القراض؛ لأنه شرط الربح لغير رب المال، أو لغير العامل.
فعلى هذا: إذا عمل الثاني.. كان الربح كله لرب المال، وللعامل الثاني أجرة علمه.
وإن قارض العامل الأول عاملا آخر بغير إذن رب المال.. لم يصح القراض؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد الأول دون اجتهاد غيره.
فعلى هذا: إذا تصرف العامل الثاني في المال.. رد المال إلى بيت المال ولا كلام، وإن حصل في المال ربح.. بنينا على من غصب شيئا، أو أودع شيئا، فتصرف فيه وربح، لمن يكون الربح؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يكون ذلك للمغصوب منه؛ لأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال والتجارة فيها لتحصيل الأرباح، وأدى إلى خفر الأمانات والودائع، فجعل ذلك لرب المال؛ لحق المال، وليحسم الباب.
و (الثاني) : قال في الجديد: (يكون الربح للغاصب) . وهو الصحيح؛ لأنه إن(7/204)
اشترى بعين مال الغاصب.. فالشراء باطل، فلا يتصور الربح، وإن اشترى بثمن في ذمته، ونقد المال المغصوب في الثمن.. فقد ملك السلعة، ولزمه الثمن في ذمته، فإذا نقد الثمن من المال المغصوب.. فقد تعدى بذلك، ولا تبرأ ذمته من الثمن، فإذا حصل ثمن السلعة.. فقد حصل ثمن ملكه.
واختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين:
فمنهم من قال: إنما ذكر الشافعي رحمة الله عليه هذا في القديم؛ لأنه كان يذهب في القديم إلى جواز البيع الموقوف. وهذه طريقة القفال والخراسانيين من أصحابنا.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق رحمهما الله، وأكثر أصحابنا: لا يعرف للشافعي جواز البيع الموقوف في قديم ولا جديد، وإنما ذهب إلى هذا في القديم للمصلحة، كما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا هاهنا بقوله القديم وأن الربح للمغصوب منه.. فإن لرب المال هاهنا نصف الربح إذا كان قد قارض الأول على نصف الربح، وأما النصف الثاني: فقال المزني: يكون بين العاملين نصفين، واختلف أصحابنا في ذلك على أربعة أوجه:
أحدها: أن الحكم فيها كما قال المزني، وأن العامل الثاني يأخذ ربع الربح، ولا شيء له غير ذلك؛ لأن الأول قارض الثاني على أن ما رزق الله من الربح.. بينهما، والذي رزقهما الله من الربح هو النصف، وأما النصف الآخر: فهو مستحق لرب المال.
والثاني: أن العامل الثاني يستحق ربع الربح، ويأخذ مع ربع الربح نصف أجرة مثله؛ لأنه دخل على أن يأخذ نصف ما رزق الله من ربح، والربح يقع على ما زاد على رأس المال، ولم يحصل له إلا نصف المشروط، فوجب أن يرجع بنصف أجرة مثله.(7/205)
والثالث: وهو قول المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 223] : إن قال الأول للثاني: قارضتك أو اعمل لي على أن لك نصف الربح.. استحق هاهنا مع ربع الربح نصف أجرة المثل، كما قال صاحب الوجه الثاني، وإن قال: قارضتك أو اعمل على ما رزق الله تعالى بيننا.. فله ربع الربح من غير شيء معه، كما قال صاحب الوجه الأول.
والرابع: وهو قول ابن الصباغ: أن نصف الربح لا يقسم بين العاملين، بل يكون للعامل الأول؛ لأن المضاربة فاسدة، والشرط لا يثبت مع الفاسد، فيرجع العامل الثاني على العامل الأول بجميع أجرة مثله؛ لأنه غره.
وأما إذا قلنا بالقول الجديد، وأن ربح المال المغصوب للغاصب، وكان العامل الثاني قد اشترى في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح.. فلمن يكون الربح؟ قال المزني: يكون الربح هاهنا للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة عمله، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من خطأ المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للعامل الثاني؛ لأنه هو المتصرف هاهنا، فكان الربح له كالغاصب.
ومنهم من وافق المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للأول؛ لأن الثاني هاهنا تصرف للأول، فكان الربح له، ويجب للثاني أجرة مثله، بخلاف الغاصب له، فإنه تصرف لنفسه، وأما الضمان: فإن كان المال باقيا.. فللمالك أن يطالب برده من شاء منهما، وإن كان تالفا.. فله أن يطالب به من شاء من العاملين، فإن طالب الأول.. لم يرجع الأول على الثاني؛ لأنه دخل معه على الأمانة، وإن رجع به على الثاني.. فهل يرجع الثاني على الأول؟ فيه قولان.
(الأول) : قال في القديم: (يرجع عليه) ؛ لأنه غره.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) ؛ لأن التلف حصل بيده.(7/206)
[فرع: قارضه على أن نصف الربح للمال]
قال الطبري: فإن دفع العامل المال إلى رب المال، وقال: قارضتك على هذا المال على أن يكون لك نصف الربح الذي شرطته لي.. لم يصح، ويبطل به عقد القراض، خلافا لأبي حنيفة.
[فرع: لا يشتري المقارض من مال القراض]
] : لا يجوز لرب المال أن يشتري من المال الذي في يد العامل للقراض؛ لأن المال له، فلا يجوز أن يشتري منه، كما لا يجوز أن يشتري من وكيله.
وإن كان لرجل غلامان في القراض مع كل واحد منهما مال منفرد به.. فهل يجوز لكل واحد منهما أن يشتري من الآخر؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) .
ويجوز للسيد أن يشتري من مكاتبه؛ لأنه معه كالأجنبي، وهل يجوز للسيد أن يشتري من عبده المأذون له؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن على المأذون له دين.. لم يجز للسيد أن يشتري منه؛ لأن ما في يده ملكه.
وإن كان عليه دين معاملة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يصح؛ لأن حقوق الغرماء قد تعلقت بما في يد العبد، فصار كالمستحق لهم، فصار كما لو اشترى منهم.
والثاني: لا يصح؛ لأن تعلق حق الغرماء به لا يخرجه عن ملكه.(7/207)
[مسألة: شراء عامل القراض عبدا]
] : وإذا دفع إليه ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا بألف درهم للقراض صح، فإن اشترى عبدا آخر بألف للقراض.. لم يصح للقراض؛ لأن رأس المال ألف، وقد استحق تسلميه للأول، فإن اشترى الثاني بعين الألف.. لم يصح؛ لأنه اشترى بمال غيره ما لم يؤذن له فيه، وإن اشترى الثاني بألف في الذمة.. لزم الشراء للعامل، والثمن عليه؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يأذن فيه، فلزمه.
قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 223] : فإن أقبض الألف في البيع الثاني.. انفسخ البيع الأول إذا وقع الشراء الأول بعينها.
قلت: ويحتمل أنه أراد: إذا تلفت قبل أن يقبضها البائع الأول.
[مسألة: إطلاق يد العامل والإذن له وعدمهما]
وإن دفع إلى رجل مالا قراضا.. فلا يخلو: إما أن يطلق رب المال الإذن، أو يقيده.
فإن أطلق.. لم يجز للعامل أن يبيع إلا بنقد البلد، ولا يبتاع إلا بنقد البلد، ولا يبيع إلى أجل، ولا يبتاع إلى أجل؛ لأنه يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فاقتضى الإطلاق، وذلك كالوكيل، ولأن المقصود بالقراض طلب الربح فإذا باع أو ابتاع إلى أجل.. كان منافيا للمقصود، ولأنه إذا باع إلى أجل.. أخرج السلعة من يده، وربما لم يحصل له الثمن، فإذا ابتاع إلى أجل.. فإنه ابتاع بفضل.
قال الشيخ أبو حامد: فإن قال له: بع نقدا أو نسيئة، واشتر نقدا أو نسيئة.. جاز له أن يفعل ما شاء من ذلك؛ لأن رب المال قد أذن له في ذلك.
قال في (الأم) : (فإن قال له: تصرف كيف شئت، وافعل ما ترى.. كان كالمطلق) .
قال الطبري: وإن قال: قارضتك على أن لا تبيع إلا بالنسيئة.. فهل يبطل؟ فيه وجهان:(7/208)
أحدهما: يصح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مأذون فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه مقارضة على خلاف معهودها، وفيه خطر على المال، فإذا قلنا: يصح.. فهل يصح بيعه بالنقد؟ فيه وجهان:
[فرع: صحة شراء المعيب للقراض]
وإن اشترى العامل شيئا معيبا.. صح شراؤه للقراض، ولو وكله بشراء سلعة معينة موصوفة.. لم يكن له أن يشتري سلعة معيبة، فإن اشتراها معيبة.. لم يصح، والفرق بينهما: أن القصد بالقراض طلب الربح، وقد يحصل الربح بطلب المعيب، والقصد في شراء السلعة الموصوفة الاقتناء، ولا يقتنى إلا السليم.
وإن اشترى العامل شيئا ظنه سليما، فبان أنه معيب.. فللعامل أن يفعل ما رأى فيه الحظ من الرد والإمساك؛ لأنه قائم مقام رب المال، وإن حضر رب المال والعامل، فإن اتفقا على الرد أو الإمساك.. فلا كلام وإن اختلفا، فدعا أحدها إلى الإمساك والآخر إلى الرد.. نظر الحاكم إلى ما فيه الحظ من ذلك، فقدم قول من دعا إليه؛ لأن المقصود طلب الربح، ولكل واحد منهما حق متعلق به، فقدم ما فيه المصلحة لهما.
[مسألة: شراء من يعتق على رب المال بإذنه]
] : وإن اشترى العامل من يعتق على رب المال.. نظرت:
فإن كان بإذن رب المال.. صح الشراء، وعتق على رب المال، كما لو اشتراه بنفسه، فإن اشتراه بجميع مال القراض.. بطل القراض؛ لأنه اشتراه بإذن رب المال،(7/209)
وعتق عليه، فهو كما لو أتلفه رب المال، فإن لم يكن في المال ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأن العامل في القراض صحيح لا يستحق شيئا إذا لم يكن في المال ربح، وإن كان في المال ربح.. رجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح؛ لأنه أتلف ذلك، فلزمه ضمانه، وإن اشتراه ببعض مال القراض، فإن كان الثمن مثل رأس المال.. انفسخ القراض في رأس المال، ويكون ما بقي من الربح بينهما، وإن كان أقل من رأس المال.. انفسخ العقد، ورد الثمن ويكون ما بقي من رأس المال على القراض والربح بينهما وإن كان الثمن أكثر من رأس المال انفسخ القراض في جميع رأس المال وبعض الربح ويقتسمان ما بقي من الربح، ثم يرجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح الذي حصل في ثمن العبد؛ لأنه تلف في حقه. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في (التعليق) .
وذكر القاضي أبو الطيب في (المجرد) : إذا كان الثمن جميع ما بيده، وكان بعضه ربحا، وقلنا: العامل حصته بالظهور، ولم يعلم العامل أن الذي اشتراه له يعتق على رب المال.. لم يعتق في قدر نصيبه، إلا أن يكون له مال آخر، فيقوم عليه.
وإن اشتراه العامل بغير إذن رب المال.. لم يصح الشراء في حق رب المال؛ لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد في شراء من يعتق على رب المال. فإن اشترى بعين مال القراض.. لم يصح الشراء في حق العامل أيضا، وإن اشتراه بثمن في الذمة.. صح الشراء في حق العامل.
[فرع: شراء زوج المضاربة]
وإن كان رب المال امرأة ولها زوج عبد، فاشتراه عاملها في القراض، فإن اشتراه بإذنها.. صح شراؤه للقراض، وينفسخ نكاحها، كما لو اشترته بنفسها، وإن اشتراه بغير إذنها بعين مال القراض.. فهل يصح شراؤه للقراض؟ فيه وجهان:(7/210)
أحدهما: يصح الشراء، وينفسخ به النكاح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الربح يحصل بشرائه، فصح، فهو كما لو لم يكن لها زوج، أو كما لو أذنت في شرائه.
والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأن إذنها يقتضي شراء ما لها فيه حظ ومنفعة، وشراء زوجها يضرها؛ لأنه ينفسخ نكاحها، ويسقط به حقها من الكسوة والنفقة، فهو كما لو اشترى لها من يعتق عليها وإن اشتراه بثمن في ذمته فإن قلنا: يصح شراؤه للقراض إن اشتراه بعين مال القراض.. صح أيضا هاهنا. وإن قلنا هناك: لا يصح للقراض.. فإنه يصح في حق العامل وحده، كما قلنا في العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه، بثمن في ذمته.
[مسألة: ما يجب على عامل القراض وما لا يجوز له فعله]
مسألة: [ما يجب على العامل تجاه مال القراض وما لا يجوز له فعله] :
وإذا قارضه على مال؛ ليتجر به في الحضر.. فقد ذكرنا: أنه يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاه العامل بنفسه، ولا يستحق لذلك عوضا، وليس عليه أن يتولى من الأعمال ما لم تجر عادة العامل أن يتولاه بنفسه، مثل: النداء على المتاع، وحمله إلى الخانات، وله أن يستأجر من يعمل ذلك من مال القراض.
ولا يستحق أن ينفق على نفسه من مال القراض، ولا يكتسي منه بلا خلاف؛ لأنه إنما يستحق الجزء المشروط له من الربح دون غيره.
ولا يسافر بالمال من غير إذن رب المال.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز إذا كان الطريق آمنا) .
دليلنا: أن السفر فيه تغرير بالمال؛ لأنه يعرض فيه الخوف والفساد، فلم يملكه العامل من غير إذن رب المال، كما لو كان الطريق مخوفا.
وإن أذن له رب المال أن يسافر بالمال.. جاز له أن يسافر به؛ لأن المنع منه لحقه، وقد رضي به، وإذا سافر به.. فعليه أن يتولى من الأعمال ما جرت العادة أن يتولاه العامل في السفر، مثل: حفظ المتاع، والنوم عليه، وليس عليه أن يتولى من(7/211)
الأعمال ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، مثل: رفع الأحمال، وحطها، وما أشبه ذلك، بل يستأجر من مال القراض من يتولاها. وهل تجب للعامل النفقة في السفر من مال القراض، مثل: المأكول، والمشروب، وما يحتاج إليه من المركوب والملبوس؟
نقل المزني في (المختصر) [3/62] : (أن له النفقة بالمعروف) ، وقال في (البويطي) : (ليس له ذلك إلا بإذن رب المال) .
وقال المزني في (الجامع الكبير) : حفظت عن الشافعي: (أن القراض لا يصح حتى يشرط العامل لنفسه نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يلبسه للعمل) .
واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين.
فـ (الأول) : قال بعض أصحابنا: لا يستحق العامل ذلك، قولا واحدا، لأن ذلك إنفاق على نفسه، فلم يستحقه العامل في السفر، كما لو كان في الحضر، وتأولوا ما نقله المزني في (المختصر) : على النفقة على الأعمال التي لا يتولاها العامل بنفسه.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن ينفرد العامل بجميع الربح، لأنه قد يحتاج إلى جميع الربح للنفقة.
والثاني: يستحق ذلك، وهو قول مالك؛ لأن سفره لأجل المال، فكانت نفقته فيه، ولأنا لو قلنا: إنه ينفق على نفسه من ماله.. لأدى إلى أن لا يحصل له شيء من الربح؛ لأنه قد ينفق جميع نصيبه من الربح، وربما لا يربح، فيغرم النفقة.
فإذا قلنا: لا نفقة له.. فلا كلام، وإذا قلنا: يستحق النفقة.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يستحق النفقة.. إلا في الربح؛ لأن مقتضى القراض رد رأس المال.
وكم يستحق من النفقة؟ فيه وجهان:(7/212)
أحدهما: جميع النفقة؛ لأن يسافر لأجل المال، فكانت جميع نفقته فيه.
والثاني: أنه يستحق ما زاد لأجل السفر على نفقة الحضر؛ لأن ذلك هو القدر الذي لزمه لأجل السفر.
وهل يفتقر إلى تقدير النفقة؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في (البويطي) : (يفتقر إلى تقدير النفقة في عقد القراض) ؛ لأنه جزء يستحقه العامل من مال القراض، فكان مقدرا، كحصته من الربح.
والثاني: لا يفتقر، وهو الأصح؛ لأن الأسفار تختلف، فيقل الإنفاق فيها ويكثر، وذلك لا يمكن تقديره، بخلاف حصة العامل من الربح، قال أبو العباس، وأبو إسحاق: يضعف التقدير جدا.
[فرع: سافر مقارضا وبمال له فالنفقة محصصة]
] : فإن سافر العامل في مال القراض، وبمال له.. كانت النفقة محصصة على المالين.
قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما تحصص النفقة على المالين إذا كان ماله مما يقصد له السفر، فأما إذا كان يسيرا: فلا حكم له، وتكون النفقة والمؤن كلها في مال القراض، وكذلك: إن سافر بمال له ومالين منفردين لمقارضين له.. كانت نفقته محصصة على قدر الأموال فيها؛ لأن سفره لأجلها، فقسمت نفقته عليها.
وإن دفع إليه مالا قراضا، وأذن له في السفر فيه إلى بلد، فلقيه رب المال في تلك البلد التي سافر إليها، وقد نض المال، فأخذه رب المال، وأراد العامل الرجوع إلى بلده.. فهل يجب على رب المال نفقة الرجوع؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب له ذلك؛ لأنه استحق نفقة ذهابه ورجوعه بمقتضى القراض، فلم تسقط نفقة رجوعه باسترجاع المال.(7/213)
والثاني: لا يستحق؛ لأن عقد القراض قد انفسخ، فلا يستحق بعد ذلك نفقة، كما لو مات العامل، فإنه لا يستحق الكفن في مال القراض.
[فرع: موت المقارض والعامل في السفر]
يمنعه النفقة] :
ذكر الطبري: لو مات رب المال والعامل في السفر.. فليس له أن ينفق من مال المقارضة ذاهبا ولا راجعا في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن المال قد صار للورثة، فافتقر إلى إذنهم.
[مسألة: وقت استحقاق العامل الربح]
] : إذا قارضه قراضا صحيحا، وحصل في المال ربح.. فمتى يملك العامل ما شرط له حصة من الربح؟ فيه قولان:
أحدهما: وهو قول مالك، والمزني: (أنه لا يملكه إلا بالمقاسمة) ؛ لأن العامل لو ملك شيئا من المال قبل القسمة.. لكان شريكا لرب المال، حتى لو تلف شيء من المال.. لكن محسوبا من المالين، فلما كان التالف محسوبا من الربح.. دل على: أنه لم يملك شيئا من المال.
والثاني: أنه يملك حصته من الربح بالظهور، وهو قول أبي حنيفة. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن العامل إنما يملك فسخ القراض بالمطالبة بحقه من الربح، ومن ملك مطالبة شريكه بقسمة ما بينهما.. دل على: أنه يملك حصته بالظهور، كالمال بين الشريكين.
[مسألة: لا يقسم الربح إلا برضا المتعاقدين]
فإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح بينهما مع بقاء عقد القراض، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن لكل واحد منهما غرضا في الامتناع؛ لأن رب المال يقول: الربح وقاية لرأس المال، والعامل يقول: لا آمن أن أخسر، فأحتاج إلى رد(7/214)
ما أخذته، فإن اتفقا على قسمة الربح مع بقاء عقد القراض.. صح؛ لأن الحق لهما، فإن حصل بعد ذلك في المال خسران، وكان للعامل نصف الربح، وقد أخذه.. كان على العامل أقل الأمرين من نصف الخسران، أو رد جميع ما أخذ؛ لأن الربح والخسران حصلا في عقد واحد، فجبر أحدهما بالآخر.
[فرع: اقتسما الربح قبل نهاية المضاربة]
] : إذا دفع إليه ألفا، فاتجر بها، فصارت ألفين، فاقتسما الربح بينهما وتفاصلا، ثم تلف الأصل في يد العامل من غير تفريط.. فلا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة: (عليه أن يرد ما أخذ من الربح) .
دليلنا: أنهما اقتسما الفضل والأصل حاصل، فصحت القسمة، وترك أصل المال في يده أمانة، فهو كما لو استرده، ثم دفعه إليه، فتلف.
[فرع: نقص مال المضاربة ثم زاد فكيف يقتسمان الربح]
إن دفع رجل إلى رجل مائة درهم قراضا، فاتجر العامل فيها، فخسر عشرة وبقي في يده تسعون درهما، فأخذ رب المال عشرة منها، ثم اتجر العامل بالثمانين، فبلغت مائة وخمسين درها.. فإن رأس المال يكون هاهنا تسعة وثمانين درهما إلا تُسع درهم، وما زاد على ذلك ربح يقتسمانه على ما شرطاه بينهما؛ لأن رأس المال كان مائة، فلما خسر عشرة.. بقي في يد العامل تسعون.
ولو أخذ رب المال جميع التسعين.. انفسخ القراض فيها وفي العشرة التي خسرها العامل، فلما أخذ رب المال عشرة لا غير.. انفسخ القراض فيها وفي قسطها من الخسران، والعشرة المأخوذة هي تُسع التسعين، وقسطها من الخسران درهم وتسع درهم؛ لأنك إذا قسمت العشرة على تسعين أصاب كل عشرة درهم وتُسع درهم، فاحتجت أن تسقط ما خص العشرة المأخوذة وما خصها من الخسران من رأس المال،(7/215)
وهو مائة، فيبقى تسعة وثمانون درهما إلا تُسع درهم، ويكون الباقي من المائة هو رأس المال، وما زاد على ذلك ربح.
فإن كانت بحالها وخسر العامل من المائة عشرين درهما، ثم أخذ رب المال من الباقي عشرين درهما، ثم اتجر العامل فيما بقي، وهو ستون، فبلغ مائة وخمسين.. فإن رأس المال هاهنا يكون خمسة وسبعين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما خسر عشرين وبقي ثمانون، فأخذ رب المال عشرين منها، وذلك ربعها، فسقطت هي وما قابلها من الخسران من رأس المال، والذي قابلها من الخسران خمسة؛ لأن العشرين - التي هي خسران - مقسومة على الثمانين.. فكأنه أخذ من المائة خمسة وعشرين، وتبقى خمسة وسبعون، هي رأس المال.
وإن كانت هي بحالها، غير أن العامل خسر من المائة عشرين، ثم أخذ رب المال من الثمانين أربعين، ثم اتجر العامل فبلغت ستين.. فإن رأس المال يكون خمسين؛ لأنه لما أخذ من الثمانين نصفها.. انفسخ القراض فيها وفيما يخصها من الخسران، وهو عشرة، فكأنه أخذ خمسين من مائة.
وهكذا: لو خسر العامل من المائة عشرة، وبقي في يده تسعون، فأخذ رب المال منها خمسة وأربعين، ثم اتجر العامل وربح.. فإن رأس المال يكون خمسين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما أخذ من التسعين نصفها.. انفسخ فيها القراض وفيما يخصها من الخسران، وهو خمسة، فكأنه أخذ خمسين من مائة، فلما اتجر العامل وربح.. كان رأس المال ما بقي بعد المأخوذ.
[فرع: أخذ المقارض نصف رأس المال واتجار العامل بالباقي]
فرع: [أخذ المقارض نصف رأس المال بعد الربح ثم اتجر العامل بالباقي] :
فإن دفع إليه مائة درهم قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، فاتجر العامل فيها فبلغت مائة وستين درهما منها، فأخذ رب المال ثمانين درهما منها، ثم اتجر العامل في الباقي، فخسر حتى بلغت عشرين.. فإن العامل يرد العشرين التي بقيت في يده إلى(7/216)
رب المال، ويأخذ من رب المال خمسة عشر درهما من الثمانين التي قبضها، وإنما كان كذلك؛ لأن المال لما بلغ مائة وستين درهما، فإن خمسة أثمان المال - وهو مائة هو رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ستون - ربح، فلما أخذ رب المال الثمانين من المالين.. كان خمسة أثمانه - وهو خمسون درهما - من رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ثلاثون - من الربح.. لا يجبر به الخسران؛ لأن المأخوذ قد انفسخت فيه المضاربة، فكان للعامل نصف ذلك الربح، وهو خمسة عشر. وأن كانت بحالها، فاتجر العامل في المائة، فبلغت مائة وخمسين درهما، ثم أخذ رب المال خمسين درهما منها، وبقي في يد العامل مائة، فاتجر فيها، فعادت إلى خمسين.. فإن العامل يرد الخمسين التي في يده إلى رب المال، ويأخذ من الخمسين التي أخذها رب المال سدسها؛ لأن ثلثي الخمسين المأخوذة رأس المال، وثلثها ربح، وللعامل نصف الربح.
وإن ربح العامل في المائة عشرين، فأخذ رب المال منها ستين، ثم اتجر العامل في الستين الباقية، فخسر، فعادت إلى أربعين أو أقل.. فإنه يرد ما بقي في يده إلى رب المال، ويأخذ من رب المال نصف سدس الستين، وهو خمسة؛ للمعنى الذي ذكرناه.
[فرع: قارضه على ألف وأضافه ألفا أخرى والربح بينهما]
وإن دفع إليه ألفا قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، ثم دفع إليه ألفا قراضا، على أن يضمها إلى الأولى، ويعمل عليهما، ويكون الربح بينهما نصفين.. قال الشافعي: (فإن قارضه على الثانية قبل أن يتصرف في الأولى.. صح القراض فيهما، وإن قارضه على الثانية بعد أن تصرف في الأولى.. لم يصح القراض على الثانية) .
ووجهه: أنه عقد معه قراضين على كل واحد من الألفين قراضا، ومن شأن العقدين أن لا يبنى أحدهما على الآخر في الربح والخسران، فإذا كان قد تصرف في الأولى.. فربما حصل فيه ربح أو خسران، فإذا ضم الثانية إليها.. جبر الخسران في الأولى بالثانية، فلم يصح، وإذا لم يكن تصرف في الأولى.. فإنه لا يفضي إلى أن(7/217)
يجبر خسران إحداهما في الأخرى، بل إن حصل خسران.. فهو فيهما، وإن حصل ربح.. فهو فيهما، وإن تصرف في الأولى ونضت.. فقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : جاز ضم الثانية إليها؛ لأنه قد أمن المعنى الذي ذكرناه، وصار كأنه لم يتصرف في الأولى.
[فرع: شراء عامل القراض من يعتق عليه]
وإن اشترى العامل من يعتق عليه، كابنه وأبيه، بمال القراض بغير إذن رب المال.. نظرت:
فإن لم يكن في المال ربح حال ما اشتراه.. صح شراؤه؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك؛ لأنه يمكن بيعه، فإن ظهر في المال ربح فلا كلام، وإن كان في المال ربح قبل أن يبتاع العبد، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.. لم يعتق الأب ولا شيء منه؛ لأن العامل لا يملك منه شيئا، فإن اقتسما الربح، وحصل في نصيب العامل.. عتق عليه، وإن حصل في نصيب رب المال لم يعتق عليه، وإن حصل بينهما.. عتق على العامل نصيبه منه، وقوم عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا بقيمة نصيب رب المال. وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور.. فهل يعتق عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن ملكه عليه غير تام قبل القسمة؛ لأن الربح قبل القسمة وقاية لرأس المال، وإنما يتم ملكه بالقسمة.
فعلى هذا: حكمه حكم ما ذكرناه إذا قلنا: لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.
والوجه الثاني: يعتق عليه؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، كما لو اشترى العامل من يعتق على رب المال بإذنه.
فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح بقدر قيمته.. عتق عليه جميعه، ولا كلام، وإن كان لا يملك من الربح إلا بقدر بعض قيمته.. عتق عليه ذلك القدر، وقوم(7/218)
عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا به، وإن لم يكن له مال آخر.. عتق منه بقدر نصيب العامل لا غير.
وأما إذا اشتراه وفي المال ربح حين الشراء:
فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة، أو قلنا: إنه يملك حصته من الربح بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه لا يعتق عليه.. صح شراؤه هاهنا؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك.
وإن قلنا: يملك حصته من المال بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه يعتق عليه حصته منه.. فهل يصح الشراء هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح؛ لأنهما شريكان في المال، وأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه.. صح شراؤه.
فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح قدر قيمته يوم الشراء.. عتق عليه، وإن كان لا يملك من الربح إلا أقل من قيمته، فإن كان موسرا بقيمة الباقي.. عتق عليه، وإن كان معسرا بقيمة باقيه.. عتق عليه بقيمة قدر ما ملك من الربح من رقبته، ورق الباقي.
والوجه الثاني: لا يصح الشراء؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنجز حق العامل قبل رب المال، ولأنه إذا عتق بعضه، ولم يكن موسرا بقيمة الباقي.. نقصت قيمة الباقي، واستضر رب المال بذلك، والعامل لا يملك تصرف تصرفا فيه ضرر على رب المال.
[مسألة: يد عامل القراض يد أمانة]
والعامل أمين على مال القراض، لا يضمن شيئا منه إلا بالتعدي؛ لأن رب المال ائتمنه عليه، فهو كالمودع.(7/219)
[فرع: إذا فرط العامل بمال القراض]
ضمنه] :
فإن خلط العامل مال القراض بمال له، ولم يتميزا.. صار ضامنا له؛ لأنه تعدى بذلك فضمنه كالمودع.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أخذ العامل من رب المال ما ليس يمكنه القيام فيه والتصرف، فتصرف فيه وتلف، أو تلف بعضه.. لزمه ضمانه؛ لأنه كان يمكنه أن لا يأخذ إلا ما يمكنه القيام بحفظه والتصرف فيه، فإذا أخذ أكثر من ذلك.. صار مفرطا فيه، فضمنه.
[فرع: قارضه بألفي درهم فتلف أحدهما]
فيحسب من الربح أو رأس المال] : وإن دفع رجل إلى رجل آخر ألفي درهم قراضا، فتلف أحدهما.. نظرت فيه:
فإن تلف في يد العامل قبل أن يتصرف.. انفسخ القراض فيها، وكان رأس المال الألف الأخرى لا غير، وجها واحدا؛ لأنها تلفت وهي باقية بعينها، فهي كما لو تلفت قبل أن يقبضها العامل.
وإن تصرف العامل بالألفين، واشترى بهما وباع، ونض المال، ثم تلف منه ألف.. فإن التالف يكون من الربح، وجها واحدا؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فكان محسوبا منه.
وإن اشترى بكل واحد من الألفين عبدا، فتلف أحدهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التالف من رأس المال، فيكون رأس المال ألفا لا غير؛ لأن العبدين بدل الألفين، ولو تلف أحد الألفين.. لكان محسوبا من رأس المال، فكذلك إذا تلف ما هو بدل عنه.
والثاني: أن التالف يحسب من الربح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح(7/220)
ويكون رأس المال ألفين؛ لأنه تلف بعد أن تصرف فيه، فكان محسوبا من الربح، كما لو باع العبد، وتلف ثمنه.
[فرع: اشترى عبد فتلف مال القراض قبل تسليم ثمنه]
وإن دفع إلى رجل ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا للقراض، فتلف الألف قبل أن يسلمه إلى بائع العبد.. نظرت:
فإن كان العامل اشترى العبد بعين الألف.. بطل بيع العبد، وانفسخ القراض؛ لأن تلف الثمن المعين قبل القبض يبطل به البيع.
وإن اشترى العبد بثمن في ذمته.. نظرت:
فإن كان تلف الألف قبل الشراء.. فإن القراض ينفسخ في الألف، ويلزم العامل ثمن العبد الذي اشتراه، وجها واحدا؛ لأنه اشتراه بعد انفساخ القراض، فلزمه الثمن.
وإن تلف الألف بعد الشراء.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الألف تلزم العامل؛ لأن إذن رب المال إنما تضمن التصرف في قدر المال الذي دفعه إليه في القراض، ولم يضمن أن يلزمه أكثر منه.
والثاني: أن الألف تلزم رب المال؛ لأن العامل اشترى العبد لرب المال؛ لأن إذنه له تضمن الشراء بعين المال وبثمن في الذمة، كرجل وكل وكيلا ليشتري له عبدا بثمن في ذمته، فسلم إليه ألفا لينقدها في الثمن، فاشترى له عبدا بألف في ذمته، ثم تلف الألف قبل أن يسلمه، فإن الموكل يلزمه ثمن العبد.
فإذا قلنا بهذا: ففي قدر رأس المال الوجهان في المسألة قبلها:
أحدهما: أن رأس المال الألفان الأول والثاني.
والوجه الثاني: أن رأس المال الألف الثاني لا غير.
فروع ثلاثة - ذكرها أبو العباس -:(7/221)
الأول: [اشترى بمال القراض عبدا فقتله عبد آخر عمدا] :
إذا اشترى العامل عبدا بمال القراض، فقتله عبد آخر عمدا.. نظرت:
فإن لم يظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق في ذلك لرب المال، فإن اقتص من العبد القاتل.. جاز، وإن عفا عنه على غير مال.. صح، وانفسخ القراض في قدر قيمة العبد المقتول، وإن عفا عنه على مال.. صح، وكان القراض ثابتا في المال الذي عفا عنه؛ لأنه بدل عن العبد، فإن كان ذلك المال مثل قيمة العبد المقتول، أو دونه.. كان ذلك لرب المال، وإن كان أكثر من قيمة المقتول.. كان قدر قيمة المقتول لرب المال، وما زاد على ذلك ربح بينهما.
وإن كان قد ظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق فيه لرب المال والعامل، وهما بالخيار، فإن تراضيا على القصاص.. اقتصا، وإن عفوا على مال أو على غير مال.. صح، وإن عفا أحدهما عن القصاص.. صح عفوه، ولم يكن للآخر أن يقتص؛ لأن العامل يملك حصته من الربح في أحد القولين، وفي الآخر قد تعلق له فيه حق.
الفرع الثاني: [اشترى العامل بمال القراض جارية، لم يجز له وطؤها] :
إذا اشترى العامل جارية للقراض.. لم يجز له وطؤها؛ لأنه إن لم يظهر في المال ربح.. فهي ملك لرب المال، ولا يجوز له وطء جارية غيره، وإن ظهر في المال ربح، فإن قلنا: إنه لا يملك شيئا من الربح إلا بالقسمة.. فهي جارية غيره، وإن قلنا: إنه يملكه بالظهور.. فهي جارية مشتركة بينهما، ولا يجوز لأحد الشريكين وطء الجارية المشتركة.
ولا يجوز لرب المال وطؤها؛ لأنه إن كان في المال ربح، وقلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فهي مشتركة بينهما، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. فهي معرضة لكي يحصل فيها ربح، فيتعلق بها حق العامل، والوطء ينقصها، وربما أحبلها.(7/222)
إذا ثبت هذا: فإن أذن رب المال للعامل في وطئها.. لم يجز؛ لأن الوطء لا يستباح بالإباحة، وإن أذن العامل لرب المال في وطئها، فإن كان قد ظهر في المال ربح، وقلنا: إنه يملك حصته منه بالظهور.. لم يجز؛ لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. جاز لرب المال وطؤها، كما لو أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة.
الفرع الثالث: [جارية القراض لا تزوج] :
إذا اشترى العامل جارية للقراض، فأراد أحدهما أن يزوجها دون الآخر.. لم يجز؛ لما ذكرناه في الوطء، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، ولو اشترى العبد المأذون له في التجارة جارية، وأراد السيد تزويجها، فإن لم يكن على المأذون له دين.. جاز ذلك بغير رضا المأذون له؛ لأن الملك فيها للسيد دونه، وإن كان على المأذون له دين.. لم يجز للسيد، لأن حقوق الغرماء تعلقت بها.
[فرع: اشترى عبدا للقراض فأراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر]
فرع: [اشترى عبدا للقراض، لم يجز لأحدهما مكاتبته دون الآخر] : قال الشافعي: (إذا اشترى العامل عبدا للقراض، فاراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الكتابة إتلاف، فإن اتفقا على كتابته.. جاز، ثم ينظر فيه:
فإن كان العبد يساوي ألفا، ولا ربح في المال، وكاتباه على ألف فأداه.. عتق، وكانت الألف لرب المال، والولاء له، ولا حق للعامل فيه؛ لأنه لم يحصل في المال فضل.
وإن كاتباه على ألفين - وكان الربح بينهما نصفين - فأدى العبد ذلك.. عتق عليهما، وكان لرب المال ألف درهم رأس ماله، والألف الثانية بينهما نصفان، فيكون الولاء بينهما: لرب المال ثلاثة أرباع الولاء، وللعامل ربع الولاء) .(7/223)
[فرع: اشترى جارية للمقارض الأول، ثم للثاني، فاشتبهتا]
إذا قارض رجل رجلا على مال، ثم قارض رجل آخر العامل على مال آخر.. صح القراض الثاني.
وقال أحمد: (لا يصح الثاني إذا كان فيه ضرر على الأول) .
دليلنا: أن هذا عقد جائز، فلا يمنع العقد مع المعقود معه، كالوكالة.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى العامل للأول جارية بمائة، ثم اشترى للثاني جارية بمائة، واشتبهتا، ولم تتميزا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الجاريتين تكونان للعامل، سواء كان فيها ربح أو خسران، وعليه قيمتهما لربي المالين؛ لأن اختلاطهما بسبب منه، فصار كما لو أتلفهما. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق.
وذكر ابن الصباغ: أن عليه - على هذا القول - ضمان المالين، وأراد: المالين اللذين اشترى بهما الجاريتين.
والقول الثاني: أن ربي المالين يكونان شريكين في الجاريتين، كما لو اختلط لرجلين كيسان.
فعلى هذا: تباع الجاريتان، فإن كان ثمنهما قدر رأس مالهما.. اقتسمه ربَّا المالين، وإن كان فيه ربح.. قاسمهما العامل بحسب شرطه مع كل واحد منهما، وإن كان فيه خسران.. كان ضمانه على العامل؛ لأنه حصل بتفريطه.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر عندي؛ لأن المفرط لا يضمن نقصان السوق، كالغاصب.
[فرع: جنى عبد المضاربة على غيره]
فله الفدية من مال المضاربة] :
قال الطبري: لو جنى عبد المضاربة على غيره.. كان للمضارب أن يفديه من مال المضاربة في أحد الوجهين؛ لأنه من صلاحه، فهو كالنفقة، خلافا لأبي حنيفة، ولو(7/224)
أراد العامل أن يبيع العبد في أرش الجناية.. قال سهل: ليس ذلك؛ لأن له ملك المنفعة دون الرقبة، كالمستعير.
قال الطبري: وإن اشترى العامل عبدا بألف، وهو يساويه، ثم رجعت قيمته إلى خمسمائة، ثم قتل رجلا وله ابنان، فعفا أحدهما عن القصاص، فباع رب المال نصفه بحق الابن الثاني.. تعلق بالنصف الثاني رأس المال بخمسمائة في أحد القولين؛ لأن الذاهب في حكم المستهلك، ويستحيل أن يتفقا على المضاربة، ففي الحقيقة: الذي بقي على المضاربة نصف العبد، فيكون على المضاربة بنصف مال المضاربة، حتى إن زادت.. كانت الزيادة ربحا بينهما.
[مسألة: يفسخ القراض أحد المتعاقدين]
] : قد ذكرنا: أن عقد القراض غير لازم، ولكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء، كالوكالة، فإذا فسخاه، أو فسخه أحدهما.. انفسخ، وليس للعامل أن يشتري بعد ذلك شيئا بمال القراض؛ لأنه إنما اشترى مع بقاء القراض وقد انفسخ. وأما البيع: فينظر فيه:
فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال من رأس ماله، فإن كان هناك ربح.. اقتسماه، وإن لم يكن هناك ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأنه لا يستحق في العمل بالعقد الصحيح في القراض إلا ما شرط له من الربح، ولا ربح هاهنا.
وإن كان المال عرضا أو نقدا من غير جنس رأس المال، فإن اتفقا على بيعه.. باعه العامل، فإن لم يكن فيه ربح.. أخذ رب المال رأس ماله ولا شيء للعامل، وإن كان فيه ربح.. اقتسما الربح، وإن اتفقا على أن يأخذ رب المال منه بقيمة رأس ماله، ويقتسما ما بقي من العرض.. جاز؛ لأن الحق لهما.
وإن طلب العامل البيع، وامتنع رب المال.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجبر رب المال على البيع، سواء ظهر فيه ربح أو لم يظهر، لأن حقه من الربح إنما يظهر بذلك.(7/225)
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : إن ظهر فيه ربح.. فللعامل بيعه، وإن لم يظهر فيه ربح.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس للعامل البيع؛ لأنه لا حق له فيه.
والثاني: له بيعه؛ لأنه يرجو الربح بالبيع، فإن قال رب المال: لا تبع العرض، ولكن يقوم، وينظر ما فيه من الربح، وادفع إلى العامل نصيبه منه.. قال الشيخ أبو حامد: فليس للعامل أن يبيع؛ لأنه إنما يبيع ليحصل له حقه من الربح، فإذا دفع إليه رب المال ذلك.. فقد حصل حقه، وزال الضرر عنه، فلا حاجة به إلى البيع، كما قلنا فيمن استعار أرضا، فغرس فيها، ثم رجع المعير في العارية.. فليس له المطالبة بقلع الغراس؛ لأن في ذلك ضررا على المستعير، فإن دفع المعير قيمة الغراس ليتملكه، أو قال: اقلعه، وادفع أرش نقصه.. كان له ذلك؛ لأن الضرر يزول عن المستعير.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين متى يملك العامل حصته من الربح؟ فإن قيل: يملكه بالظهور.. لم يجبر على أخذ قيمة حصته من العرض، كما لو كان بينهما عرض مشترك، فبذل أحدهما للآخر قيمة حقه منه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة.. ففيه وجهان، بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى من بيعه، وبذلك قيمته للمجني عليه:
أحدهما: لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه، وقد بذل له حقه.
والثاني: يجبر؛ لأنه ربما زايد قيمته مزايد، فاشتراه بأكثر من قيمته، فإن أخذ رب المال العرض بقيمته، ثم زادت قيمته، وظهر فيه ربح وهو في يد رب المال.. فهل يتعلق حق العامل به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] .
وإن طلب رب المال بيع العرض، وامتنع العامل من بيعه، وقال: خذه، وقد تركت حقي من الربح ولا أبيع العرض، فإن رضي رب المال بذلك.. جاز، وإن(7/226)
طالبه بالبيع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين في العامل متى يملك حصته من الربح؟ فإن قلنا: يملكه بالظهور.. لم يجبر رب المال على القبول؛ لأن قبول الهبة لا يجب، وإن قلنا: إنه لا يملك حصته إلا بالقسمة.. ففيه وجهان وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، سواء كان فيه ربح أو لم يكن، وسواء قلنا: يملكه بالظهور أو بالقسمة:
أحدهما: لا يجبر العامل على البيع؛ لأن البيع لحقه، وقد رضي بإسقاطه.
والثاني: يجبر؛ ليصل رب المال إلى رأس ماله.
[فرع: فسخا القراض وهناك دين]
فإن فسخا القراض أو أحدهما، وكان هناك دين من مال القراض.. وجب على العامل أن يتقاضاه، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح.
وقال أبو حنيفة: (إن كان فيه ربح.. كان على العامل أن يتقاضاه، وإن لم يكن فيه ربح.. لم يكن عليه أن يتقاضاه) . كما لا يلزم الوكيل أن يتقاضى الدين إذا عزل.
ودليلنا: أن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى الناض.. فلزمه أن يستنضه، كما يلزمه بيع العروض، بخلاف الوكيل، فإنه لا يلزمه بيع العروض.
[مسألة: موت المقارض]
قال الشافعي: (وإن مات رب المال.. صار رأس مال القراض لوارثه، فإن رضي.. ترك المقارض على قراضه، وإلا.. فقد انفسخ القراض، وإن مات العامل.. لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه) .
وجمله ذلك: أنه إذا مات أحد المتقارضين.. انفسخ عقد القراض؛ لأنه عقد جائز، فيبطل بالموت، كالوكالة.(7/227)
إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رب المال.. فقد انتقل ماله إلى وارثه، فإن اختارا أن يقيما على الفسخ، فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال رأس ماله، واقتسما الربح إن كان هناك ربح، وإن كان المال عرضا.. فللعامل المطالبة ببيعه، وهل لرب المال المطالبة ببيعه؟ على ما ذكرناه إذا فسخا القراض والمال عرض، وهل يتولى العامل بيع العرض بنفسه؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: له ذلك؛ لأن انفساخ القراض بالموت كانفساخه بالفسخ وقد بينا: أن له أن يبيعه إذا فسخا، فكذلك إذا مات رب المال.
وقال ابن الصباغ: لا يلزم ورثة رب المال تمكينه من الانفراد بالبيع، بل يرفع ذلك إلى الحاكم ليأمر ببيعه؛ لأن الوارث لا يلزمه حكم ائتمان مورثه، ولهذا لو كان لمورثهم وديعة، فمات ولم يعلموا بها، ولا أعلمهم المودع.. ضمنها المودع.
وإن أراد وارث رب المال والعامل أن يعقدا قراضا.. نظرت:
فإن كان المال ناضا.. جاز؛ لأنه إن لم يكن فيه ربح.. فهو عقد لقراض على دراهم أو دنانير ينفرد الوارث بملكها، وإن كان فيه ربح أيضا.. جاز وإن كان ذلك العقد على مال مشاع؛ لأن الشريك هو العامل، وذلك لا يمنعه من التصرف، كما لو كان بينهما ألف، فقارض أحدهما الآخر.. فإنه يصح.
إذا ثبت هذا: فإن القراض يفتقر إلى تجديد عقد؛ لأن العقد الأول قد بطل بالموت.
قال الشيخ أبو حامد: وقول الشافعي: (فإن رضي.. ترك العامل على قراضه) لم يرد: أنه يتركه على العقد الأول، وإنما أراد: أنه يستأنف معه العقد ثانيا. وقول الشافعي: (وإلا.. فقد انفسخ القراض) لم يرد: أنه ينفسخ في هذه الحالة؛ لأنه انفسخ بالموت، وإنما أراد به: أنه يقيم على الفسخ الأول.
وإن كان المال عرضا، وأراد وارث رب المال والعامل استئناف عقد القراض عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق المروزي: يصح، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي لم يفرق(7/228)
بين أن يكون المال ناضا، أو عرضا، ولأن هذا ليس بابتداء قراض على العرض، وإنما هو بناء على قراض رب المال، ولأنا إنما منعنا القراض على غير الدراهم والدنانير؛ لأنه يحتاج عند المفاصلة إلى رد المثل، أو رد القيمة، وذلك يختلف باختلاف الأوقات، وهذا غير موجود في مسألتنا؛ لأن رأس المال هاهنا غير العرض.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن القراض الأول قد بطل بالموت، وهذا عقد قراض على العرض، فلم يصح، كما لو عقده على عرض قد اشتراه الوارث.
وما قاله أبو إسحاق ينكسر في المتقارضين إذا فسخا عقد القراض والمال عروض، ثم أرادا عقد القراض ثانيا على ملك العروض.. فإنه لا يصح وإن كان بناء على القراض الأول، ويمكن هاهنا أيضا رد رأس المال الذي عقدا عليه أولا.
وإن كان الميت هو العامل.. فقد ذكرنا: أن القراض ينفسخ بموته. فإن كان المال ناضا.. أخذ رب المال رأس ماله، وإن كان هناك ربح.. أقتسمه رب المال ووارث العامل، وإن كان المال عرضا.. بيع؛ ليظهر الربح فيه لوارث العامل، وليس لوارث العامل أن يبيعه إلا أن يأذن رب المال؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد العامل دون ورثته، فإن لم يتفقا على من يبيعه.. رفع إلى الحاكم ليأمر ببيعه.
وإن أجاز رب المال ابتداء عقد القراض مع وارث العامل، فإن كان المال ناضا.. فقال البغداديون من أصحابنا: جاز، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح، كما قلنا في رب المال إذا مات.
وقال المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 323] : إن كان في المال ربح.. لم يجز؛ لأنه شريك، وإن لم يكن فيه ربح جاز، فإن كان فيه خسران فشرط أن يجبر الخسران بتصرفه.. لم يجز، وإن كان المال عرضا.. لم يجز عقد القراض عليه، وجها واحدا(7/229)
والفرق بين هذه والتي قبلها على قول أبي إسحاق: أن رب المال إذا مات بقي ماله الذي عقد عليه، ووارثه قد قام مقامه، فبنى القراض على الأصل الذي كان لمورثه، وهو موجود، وليس كذلك إذا مات العامل؛ لأنه إنما كان منه العمل، وإذا مات.. انقطع، وبطل عمله، فلم يبق له شيء موجود يبني عليه وارثه.
[فرع: مال المضاربة في التركة كالوديعة]
إذا مات العامل، ولم يعرف مال المضاربة بعينه.. كان بمنزلة من مات وعنده وديعة لغيره، ولم تعرف في ماله، وقد مضى ذكرها.
[فرع: فقد الأهلية يفسخ العقد]
وإن جن أحد المتقارضين، أو أغمي عليه.. انفسخ القراض؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالموت، فإذا أفاقا، وأرادا عقد القراض ثانيا.. فالذي يقتضي المذهب: أن حكمه حكم ما لو انفسخ القراض بموت رب المال على ما مضى.
[مسألة: القراض في مرض الموت بأكثر من أجرة المثل]
إذا قارض الرجل في مرض موته رجلا على أكثر من أجرة مثله.. صح، ولم يعتبر ما زاد على أجرة مثله من الثلث؛ لأنه إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه المريض من ماله، ولم يخرج هاهنا شيئا من ماله؛ لأن الربح ليس من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل، فإن مات وعليه ديون.. قدم حق العامل على ديون الغرماء؛ لأن حقه تعلق بعين المال.
[مسألة: ينفذ تصرف العامل ولو وجد شرط فاسد]
إذا دفع إلى رجل مالا قراضا، وشرط فيه شرطا فاسدا، وتصرف العامل فيه.. نفذ تصرفه؛ لأن رب المال قد أذن له في التصرف، وإنما شرط في العقد شرطا(7/230)
يفسده، وفساد الشرط لا يقدح في الإذن، فإذا كان الإذن باقيا.. صح تصرفه كما لو أذن له في التصرف من غير عوض.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين من باع بيعا بثمن فاسد.. أن البيع لا يصح؟
قلنا: الفرق بينهما: أن البيع مشتمل على ثمن ومثمن، وأحدهما لا ينفك عن الآخر، فإذا بطل أحدهما.. بطل الآخر، ففسد العقد، وليس كذلك الإذن بالتصرف على عوض، فإن أحدهما قد ينفك عن الآخر، فإذا فسد الشرط.. لم يؤثر في الإذن، فإن حصل في المال ربح.. كان الربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ولا شيء للعامل فيه، ويستحق أجرة المثل، سواء حصل في المال ربح أو لم يحصل.
ومن أصحابنا من قال: إن رضي العامل على أن يعمل بغير عوض، بأن قال: قارضتك على أن الربح كله لي.. لم يستحق العامل شيئا. وليس بشيء.
وقال مالك: (إن لم يحصل في المال ربح لم يستحق العامل أجرة) .
ودليلنا: أنه عمل في قراض فاسد، فاستحق أجرة المثل، كما لو لم يرض إلا بعوض، وكما لو حصل في المال ربح.
[فرع: المقارضة بالدين]
إذا كان لرجل على رجل دين، فقال له: أعزل المال الذي لي عليك، وقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض؛ لأن الإنسان لا يصح قبضه دين غيره من نفسه، ولأنه قراض على صفة، فلم يصح، كما لو دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، وإذا بعته.. فقد قارضتك على ثمنه.
إذا ثبت هذا: فإن عزل من عليه الدين قدر الدين من ماله، واشترى بعينه شيئا.. كان ذلك ملكا لمن عليه الدين؛ لأنه اشتراه بعين ماله، وإن اشترى شيئا بثمن في ذمته بنية القراض، ونقد الثمن من الذي عزله.. ففيه وجهان:(7/231)
أحدهما: أن الشراء يقع لمن له الدين، وتبرأ ذمه المشتري من الدين بتسليمه إلى البائع؛ لأنه سلمه إليه بإذنه، ويكون الربح كله له، ويجب عليه للعامل أجرة مثله.
والثاني - وهو المذهب -: أن الشراء لمن عليه الدين، ولا تبرأ ذمته من الدين، ولا أجرة له؛ لأنه لا يصح أن يشتري شيئا بنية القراض؛ إلا إذا كان في يده مال القراض، وليس في يده مال للقراض؛ لأنا بينا أن قبضه من نفسه لا يصح.
مسألة: [قبول قول العامل في دعوى التلف] :
إذا ادعى العامل تلف مال القراض، وأنكر رب المال، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن يتصرف في مال غيره بإذنه، فقبل قوله في التلف، كالوكيل.
[فرع: دعوى العامل رد مال القراض وإنكار المقارض]
وإن ادعى من بيده مال القراض لغيره: أنه رده على مالكه، وأنكر المالك.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إن قبض العين لمنفعة المالك، ولا منفعة للقابض فيها، وهو المودع والوكيل بغير جعل.. فقبل قول القابض مع يمينه في الرد، وجها واحدا؛ لأنه لا منفعة للقابض، وإنما المنفعة للمالك، ولأن يد القابض كيد المالك، بدليل: أنه يملك انتزاعها من يده متى شاء.
الثانية: إذا كانت المنفعة في العين للقابض دون المالك، وهو المرتهن والمستعير والمستأجر.. فلا يقبل قول القابض في الرد، وجها واحدا؛ لأن المنفعة فيها للقابض، ولأن يده ليست كيد المالك.
الثالثة: إذا كانت المنفعة في العين للقابض والمالك، وهو: العامل في(7/232)
القراض، والوكيل بجعل، والأجير المشترك، إذا قلنا: ليس بضامن.. فهل يقبل قوله مع يمينه في الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فهو كالمستعير.
والثاني: يقبل قوله مع يمينه، وهو الأصح؛ لأن معظم المنفعة فيها للمالك، فهو كالمودع، ولأن المالك يملك انتزاعها من يده متى شاء، فهو كالوكيل بغير جعل.
[فرع: اختلاف المقارض وعامله على نسبة الربح]
وإن قال العامل: شرطت لي نصف الربح، وقال رب المال: بل شرطت لك ثلث الربح.. تحالفا؛ لأنهما اختلفا في صفة العقد، كالمتبايعين، فإذا حلفا.. كانا كالمتبايعين إذا تحالفا، وهل ينفسخ العقد بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى.
وإذا انفسخ العقد، أو فسخه أحدهما.. وجب للعامل أجرة المثل فيما عمل.
[فرع: اختلفا في قدر رأس المال ولا بينة]
] : وإن اختلفا في قدر رأس المال، فقال العامل: رأس المال مائة، وقال رب المال: بل رأس المال مائتان، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه، وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: إن كان في المال ربح.. تحالفا، والأول أصح؛ لأن الاختلاف فيما قبضه العامل، والأصل عدم القبض إلا فيما أقر به، ولأن المال في يد العامل، ورب المال يدعي جميعه، والعامل لا يقر له إلا ببعضه.. فكان القول قول صاحب اليد.
[فرع: اختلاف العاملين والمقارض على رأس المال بعد المضاربة]
وإن دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا، على أن له النصف من الربح، والنصف الآخر بينهما نصفان، فتصرفا، فبلغ المال ثلاثة آلاف، فقال رب المال: رأس المال(7/233)
ألفا، والربح ألف، فصدقه أحد العاملين على ذلك، وكذبه العامل الآخر، فقال: بل رأس المال ألف، والربح ألفان، ولا بينة هاهنا.. فإن القول قول المكذب مع يمينه: أن رأس المال ألف، فإذا حلف.. أخذ خمسمائة، وبقي ألفان وخمسمائة، والعامل المصدق قد وافق رب المال على ما ادعاه، فأخذ رب المال ألفين رأس ماله، وما غصب من مال القراض.. فإنه يكون محسوبا من الربح.
فإذا ثبت هذا: فإن رب المال والعامل المصدق يقولان: الربح ألف لا غير، وقد أخذ العامل الحالف منه خمسمائة، فنصفها - وهو مائتان وخمسون - لرب المال، والنصف الآخر بين العاملين، فالحالف يستحق مما أخذ مائة وخمسة وعشرين، والمصدق يستحق منها مثل ذلك نصيبه، وقد بقي من الربح في يد رب المال والمصدق خمسمائة، فلرب المال نصفها - مائتان وخمسون - ولكل واحد من العاملين مائة وخمسة وعشرون، فيكون الحالف قد غصب رب المال والمصدق ثلاثمائة وخمسة وسبعين، لرب المال ثلثها، وللعامل ثلثها، وقد وجد له من جنس حقهما مائة وخمسة وعشرون، فيقسمانها على قدر حقيهما، لرب المال ثلثاها وهو ثلاثة وثمانون وثلث درهم، وللعامل ثلثها، وهو أحد وأربعون وثلثا درهم، فيحصل لرب المال - من الخمسمائة التي بقيت من الربح معهما - ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، ويحصل للعامل مائة وستة وستون وثلثان.
[فرع: اختلاف العامل والمقارض في المشتري]
] : فإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه ربح، فقال رب المال: اشتريته للقراض، وقال العامل: بل اشتريته لنفسي، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن العبد في يده، فكان القول قول فيه، ولأنه قد يشتريه لنفسه، وقد يشتريه للقراض، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية، وهو أعلم بنيته.
فإن أقام رب المال بينة: أن العامل اشتراه بمال القراض.. ففيه وجهان:(7/234)
أحدهما: أنه يحكم به للقراض؛ لأن الظاهر مما اشتراه بمال القراض أنه للقراض.
والثاني: أنه لا يحكم به للقراض، بل القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه قد يشتريه بمال القراض على وجه التعدي، فلا يحكم به للقراض؛ لبطلان البيع فيه.
وإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه خسران، فقال العامل: اشتريته للقراض، وقال رب المال: بل اشتريته لنفسك.. فالمنصوص هاهنا: (أن القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته) .
وحكى أبو العباس - إذا اختلف الوكيل والموكل في بيع عين أو شرائها.. فقال الموكل: ما بعتها، أو ما اشتريتها، وقال الوكيل: بل بعتها أو اشتريتها - عن الشافعي قولين:
أحدهما: (القول قول الوكيل) .
والثاني: (القول قول الموكل) .
واختلف أصحابنا في القراض:
فمنهم من قال: فيها قولان، كما قلنا في الوكيل والموكل.
وقال أكثرهم: بل القول قول العامل في القراض، قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الوكيل والموكل يختلفان في أصل البيع والشراء، فكان القول قول الموكل؛ لأن الأصل عدم ذلك، وهاهنا اتفقا على أصل الشراء، وإنما اختلفا في نية العامل، وهو أعلم بنيته.
[فرع: اختلفا في النهي عن شراء عبد]
وإن اشترى العامل عبدا، فقال رب المال: كنت نهيتك عن شرائه، وأنكر العامل النهي.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النهي، ويكون العبد في القراض.(7/235)
[فرع: استقراض العامل لإكمال مال المقرض]
قال الشافعي في " أمالي حرملة ": (وإذا دفع إلى رجل إلى مائة درهم قراضا، فتصرف فيها، فخسر خمسين، فقال لصديق له: أقرضني خمسين لأضمها إلى ما معي؛ ليرى ذلك رب المال ولا ينزعها مني، فإذا ترك المال في يدي.. رددت الخمسين إليك، فأقرضه خمسين، وأضافها إلى الخمسين التي بقيت معه، فلما حمل المال إلى رب المال.. أخذ رب المال المائة، وفسخ القراض، فادعى المقرض: أن له في المال خمسين أقرضه إياها، وأنه يستحق أخذها، وأقام على ذلك بينة.. لم يكن له أخذ الخمسين؛ لأن المستقرض ملكها، وزال ملكه عنها إلى رب المال، فصار بمنزلة ما لو تلفت في يده، ويكون حق المقرض في ذمة العامل) .
[فرع: تراجع العامل عن قوله ربحت]
فإن قال العامل: ربحت في المال ألفا، ثم قال بعد ذلك: غلطت، فظننت أني ربحت ذلك، ثم نظرت في الحساب، فلم أكن ربحت، أو قال: أظهرت ذلك خوفا من أن ينتزع المال من يدي.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه تعلق بذلك حق رب المال، فلم يسقط برجوعه، كما لو أقر لغيره بدين، ثم رجع عنه.
فإن قال: قد كان حصل في المال ربح، ثم تلف.. قبل قوله؛ لأنه أمين، فقبل قوله في التلف.
قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما يقبل قوله هاهنا في الخسران إذا كان قد تصرف فيه بعد ذلك، وإن لم يتصرف وكان السعر بحاله.. لم يصدق.
[فرع: اختلفا في المال قرضا أو قراضا]
قال الطبري في (العدة) : وإن دفع إلى رجل مالا، فتلف في يده، ثم اختلفا، فقال رب المال: دفعته قرضا، وقال القابض: بل أخذت قراضا، وأقام كل واحد بينة.. فبينة العامل أولى في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.(7/236)
وقال الطبري: ولو قارضه على نقد، ثم تصرف العامل فيه، ثم أبطل ذلك النقد.. فالظاهر من المذهب: أنهما متى أرادا المفاصلة.. أنه يرد مثل النقد الذي عقدا عليه القراض، ثم يقتسمان الباقي.
وقال بعض أصحابنا: يرد من النقد الحادث. حكاه أبو علي السنجي، والأول أصح.
وبالله التوفيق.(7/237)
[باب العبد المأذون له]
لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذنه، فإن رآه المولى يتجر، فسكت عنه، ولم يأمره، ولم ينهه، لم يصر مأذونا له في التجارة.
وقال أبو حنيفة: (يصير مأذونا له) .
دليلنا: أنه تصرف يفتقر إلى الإذن.. فلم يقم السكوت مقامه، كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت.(7/238)
وإن باع العبد شيئا بغير إذن مولاه.. لم يصح؛ لأنه مال لسيده، فلم يصح بيعه بغير إذنه، كمال الأجنبي.
وإن اشترى العبد شيئا في ذمته، أو اقترض شيئا.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
(الأول) : قال أبو إسحاق، وأبو سعيد الإصطخري: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالنكاح.
و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة، وغيره: يصح؛ لأنه محجور عليه لحق غيره، فصح تصرفه بثمن في ذمته، كالمفلس، وفيه احتراز من السفيه.
فإذا قلنا: يصح الشراء والقراض.. قال ابن الصباغ: فللبائع والمقرض الرجوع فيه إذا كان في يد العبد؛ لأنه قد تحقق إعساره، وإن كان قد تلف في يده.. رجع عليه بالثمن وعوض القرض إذا أعتق وأيسر، وإن كان السيد قد قبضه.. فقد ملكه، وليس للبائع والمقرض الرجوع فيه؛ لأن السيد أخذ ذلك، وله أخذه، فسقط حق البائع والمقرض، كما يسقط حق البائع ببيع المبيع ورهنه، ويكون للبائع أو المقرض العوض في ذمة العبد إلى أن يعتق ويوسر.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المبيع يدخل في ملك السيد، فإن علم البائع برقه.. لم يطالبه بشيء حتى يعتق، وإن لم يعلم برقه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يعتق، وبين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين ماله، ولم يفرق: بين أن يقبضه السيد من العبد، أو لم يقبضه.
وإن قلنا: إن الشراء والقرض فاسدان.. فإن البائع والمقرض يرجعان في العين إذا كانت باقية، سواء كانت في يد العبد أو في يد السيد؛ لأن ملكهما باق عليها. وإن كانت تالفة، فإن تلفت في يد العبد قبل أن يقبضها السيد.. رجع عليه البائع والمقرض ببدلها إذا عتق وأيسر، وإن قبضها السيد.. فالبائع والمقرض بالخيار: بين أن يرجع على السيد ببدلها في الحال، وبين أن يصبر إلى أن يعتق العبد ويوسر، فيرجع عليه.(7/239)
[مسألة: اتجار العبد بإذن مولاه]
وإن اتجر العبد بإذن المولى.. صح؛ لأن المنع منه لحق المولى، فزال بإذنه، فإن حصل عليه ديون في المعاملة، فإن كان في يده مال.. قضيت منه الديون، وإن لم يكن في يده شيء.. فإن الديون تكون في ذمته تتبع به إذا عتق وأيسر، ولا تتعلق برقبته ولا بذمة السيد، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (يباع العبد فيه إذا طالب الغرماء ببيعه) .
وقال أحمد: (تتعلق بذمة السيد) .
ودليلنا على أبي حنيفة: أن دين ثبت على العبد برضا من له الدين، فوجب أن لا يتعلق برقبته، كما لو استقرض بغير إذن سيده.
وليلنا على أحمد: أن السيد لا يضمن عن عبده، وإنما أذن له في التجارة، وهذا لا يوجب ثبوت ذلك في ذمة السيد، كالمرتهن إذا أذن للراهن بالتصرف في الرهن.
[مسألة: يتصرف العبد بما أذن له فيه]
ولا يتصرف العبد المأذون له إلا على حسب ما أذن له فيه سيده، فإن دفع إليه مالا، وقال له: اتجر فيه.. كان له أن يبيعه، ويشتري بثمنه.
وإن أذن له: في التجارة مطلقا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) :
أحدهما: يصح؛ لعموم إذنه.
والثاني: لا يصح، وهو اختيار أبي طاهر؛ لأن الإطلاق مجهول، فلم يصح، كالوكالة.
وإن أذن له أن يتجر بذمته.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يصح. وإن أذن له في التجارة في صنف من المال.. لم يتجر في غيره.(7/240)
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أنه تصرف مستفاد بالإذن من جهة الآدمي، فكان مقصورا على ما أذن فيه، كالمضارب، وفيه احتراز من الصبي إذا بلغ، فإنه تصرف مستفاد بالشرع.
وإن أذن له في التجارة.. لم يملك أن يؤاجر ما اشتراه للتجارة، ولا أن يؤاجر نفسه، ومن أصحابنا من قال: له أن يؤاجر الأعيان التي اشتراها للتجارة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يؤاجر نفسه) .
والأول أصح؛ لأن المأذون فيه هو التجارة، والإجارة ليست من التجارة. وعلى قول أبي حنيفة: إنه عقد على نفسه، فلا يملكه بالإذن في التجارة، كالبيع، والنكاح.
[فرع: تصرف العبد في مال التجارة غير مطلق]
ولا يبيع بدون ثمن المثل، ولا بنسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يسافر بالمال من غير إذن السيد؛ لأن تصرفه لغيره بإذنه، فهو كالوكيل، ولا يجوز له أن يتخذ دعوة، ولا يهب بغير إذن سيده.
وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك) .
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه من غير إذنه، فلم يصح، كمال سيده الذي في يده.
[فرع: ادعاء العبد الإذن بالتجارة دون بينة]
] : إذا زعم العبد: أن سيده أذن له في التجارة.. فليس لأحد معاملته حتى يعلم الإذن.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أن الأصل عدم الإذن، كالراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في بيع الرهن.(7/241)
وإن زعم العبد: أن سيده قد حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه.. لم يصح تصرف العبد.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أن الاعتبار بالمتعاقدين، والعبد يزعم: أنه لا يصح عقده، فهو كما لو قال: أبيعك هذه العين وإن كنت لا أملكها.
[فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له]
إذا أبق العبد المأذون له في التجارة.. لم يبطل إذن سيده له.
وقال أبو حنيفة: (يبطل) .
دليلنا: أن الإباق معنى لا يمنع من ابتداء الإذن في التجارة، فلم يمنع استدامته، كما لو غصب أو حبس بدين عليه.
[فرع: شراء العبد المأذون من يعتق على سيده]
] : وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة من يعتق على سيده، كوالده، أو ولده.. نظرت:
فإن كان السيد قد نهاه عن شرائه.. لم يصح شراؤه، قولا واحدا، سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ لأنه يملك التصرف بإذنه، فلا يملك ما نهاه عنه.
وإن أذن له السيد في شرائه.. صح شراؤه، كما لو اشتراه السيد بنفسه.
فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق عليه، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بماله، فصار كالمستحق لهم.
والثاني: يعتق عليه، ويغرم السيد قيمته للغرماء إن كان موسرا بها؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، وإن كان معسرا بها.. لم يعتق عليه؛ لأن عتقه يؤدي إلى الإضرار بالغرماء.(7/242)
وإن اشتراه العبد بغير إذن سيده من غير أن ينهاه عنه.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن إذن السيد تضمن شراء ما فيه حظ ويمكنه التجارة فيه، ولا يتناول من يعتق عليه، كالعامل في القراض إذا اشترى من يعتق على رب المال.
والثاني: يصح الشراء؛ لأن الشراء لا يصح من العبد بنفسه وإنما يشتري بإذن سيده، فإذا أذن له في الشراء.. تناول شراء كل ما يملكه السيد بنفسه، ويفارق العامل في القراض، فإن يصح له أن يشتريه لنفسه، ويصح لرب المال، فلم يصح في حق رب المال إلا ما تضمنه إذنه.
فإذا قلنا بهذا: فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق العبد، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق العبد؟ قال الشيخ أبو حامد: ينظر فيه.
فإن كان السيد معسرا.. لم يعتق، قولا واحدا.
وإن كان موسرا بقيمته.. فهل يعتق؟ فيه قولان، كالمرهون.
فإذا قلنا: يعتق.. غرم السيد قيمته للغرماء.
وأما ابن الصباغ: فقال: إذا كان على المأذون له دين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل الشراء؛ لأن الدين يمنع من عتقه، فكان بطلان العقد أحسن.
والثاني: يصح الشراء، ولا يعتق.
والثالث: يعتق عليه، وتكون ديون الغرماء في ذمة السيد.
وقال أبو حنيفة: (إن لم يكن دفع إليه المال وإنما أذن له في التجارة.. صح الشراء، وعتق على مولاه، وإن كان دفع إليه مالا.. لم يصح الشراء ورد على مولاه) .
دليلنا: أنه إذن مطلق في الشراء، فلم يتناول من يعتق على الآذن، كما لو دفع إليه مالا.(7/243)
[مسألة: اكتساب العبد ملك لسيده إلا ما ملكه إياه]
إذا اكتسب العبد مالا، بأن احتش أو اصطاد، أو عمل في معدن، فأخذ منه مالا، أو اتهب مالا، أو أُوصي له به، فقبله.. فإن العبد لا يملكه ما لم يملكه السيد، بلا خلاف على المذهب، وإنما يدخل ذلك في ملك السيد.
وقال مالك: (يدخل في ملك العبد، وللسيد أن ينتزعه منه، فإن عتق قبل ينتزعه منه.. استقر ملك العبد عليه) . وبه قال داود، وأهل الظاهر، وإسحاق، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، ويأتي الدليل عليهم.
فأما إذا ملكه السيد مالا.. فهل يملكه؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يملكه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق عبدا وله مال.. فمال العبد له، إلا أن يستثنيه السيد، فيكون له» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من باع عبدا وله مال.. فماله للبائع، إلا أن يشترطه(7/244)
المبتاع» . فأضاف إليه المال، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك إذا كانت الإضافة إلى من هو من أهل الملك، ولأنه آدمي حي، فملك المال، كالحر.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يملك) . وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] (النحل: 75) . فنفى قدرته على شيء، فلو قلنا: إنه يملك.. لأثبتنا له قدرة على ما يملك، ولأنه سبب يملك به المال، فلم يملك به العبد، كالإرث.
وأما الخبر الأول: فلا يعرف.
وأما الثاني: ففيه دليل على: أنه لا يملك؛ لأنه قال: (فماله للبائع) . فلو ملكه العبد.. لما جعله للبائع، فدل على: أن إضافة الملك إليه إنما هي إضافة مجاز، لا أنها إضافة تقتضي الملك.
إذا ثبت هذا: فإن للقولين فوائد.
منها: إذا ملكه السيد نصابا من المال، فإن قلنا بقوله الجديد.. فالزكاة فيه على السيد؛ لأن ملكه لم يزل عنه. وإن قلنا بالقديم.. لم تجب الزكاة فيه على السيد؛ لأنه قد زال ملكه عنه، ولا على العبد؛ لأن ملكه ضعيف.
ومنها: إذا ملكه السيد جارية، قلنا بالجديد.. لم يجز للعبد وطؤها؛ لأنه لا يملكها. وإن قلنا بالقديم، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يجز له وطؤها.
ومنها: إذا وجبت على العبد كفارة، فإن قلنا بالجديد.. لم يجز له أن يكفر بالإطعام ولا بالكسوة؛ لأنه لا يملك ذلك، بل يكفر بالصوم. وإن قلنا بالقديم.. جاز له أن يكفر بالإطعام والكسوة، ولا يكفر بالعتق بكل حال؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والعبد ليس ممن يثبت له الولاء.(7/245)
ومنها: إذا ملكه السيد مالا، ثم باعه وماله، فإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح البيع حتى يكون ماله معلوما عند المتبايعين؛ لأنهما مالان مبيعان. فإن كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دنانير، فباعه وماله بدنانير.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك ربا، وإن كان ماله دنانير، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدنانير.. فعلى القولين فيمن جمع بين بيع وصرف. وإن قلنا بقوله القديم، واشترط المبتاع ماله.. صح البيع فيهما وإن كان المال مجهولا عندهما، أو عند أحدهما؛ للخبر.
واختلف أصحابنا في تعليله:
فمنهم من قال: إنما صح ذلك؛ لأن البيع ينصرف إلى العبد، وأما ماله.. فهو تابع له، فلم تؤثر الجهالة فيه، كما لا تؤثر الجهالة في طي الآبار، وأساس الحيطان، وسقوف البيوت، إلا أنه إذا باع العبد بدراهم، وكان ماله دراهم، أو باعه بدنانير، وكان ماله دنانير.. لم يصح البيع على هذا التعليل؛ لأن الربا يحرم في التابع، كما يحرم في المتبوع.
ومنهم من قال: إنما يصح البيع فيهم وإن كان ماله مجهولا؛ لأن ماله غير مبيع، بل يبقى على ملك العبد.
فعلى هذا: يصح أن يبيع العبد وماله إن كان دراهم بدراهم، وإن كان دنانير بدنانير، وهذا التعليل هو الأصح؛ لأن الشافعي قال في القديم: (وعاب علينا بعض الناس، فقال: إنكم تجوزون أن يشتري عبدا ومعه ألفا درهم بألف درهم، فيقبض المشتري الثمن بأحد الألفين، ويسلم له العبد والألف الآخر) ، فالتزم الشافعي السؤال، وتكلم عليه، فدل على: أن ذلك يصح على القديم، وهذا لا يستقيم إلا على هذه العلة.(7/246)
[فرع: اشتراط المبتاع ومال العبد]
إذا اشترى عبدا، وله مال، وقلنا: يملكه العبد، فاشترطه المبتاع مع العبد.. كان للمشتري أن ينتزع المال منه، فإن انتزعه منه، وأتلفه، ثم وجد بالعبد عيبا.. لم يكن له رده.
وقال داود: (يرد العبد وحده) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد إذا كان ذا مال تكون قيمته أكثر، فتلف المال ينقص من قيمته، فلم يجز رده مع ذلك.
والله أعلم.(7/247)
[كتاب المساقاة](7/249)
كتاب المساقاة تجوز المساقاة على النخل، وهي: أن يدفع الرجل نخله إلى رجل ليعمل عليها، وتكون الثمرة بينهما على ما يشترطان.
وإنما سيمت بذلك؛ لأن أكثر عمل أهل الحجاز على النخل السقي من الآبار، فسميت بذلك.
وممن قال بصحة المساقاة: أبو بكر، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة وزفر: (لا تصح المساقاة) .(7/251)
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على أن له الأرض وكل صفراء أو بيضاء - يعني: الذهب والفضة - فقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطونا على أن لنا النصف، ولكم النصف، فأعطاهم، فلما كان وقت الثمرة.. بعث إليهم عبد الله بن رواحة ليحزر الثمرة، فحزرها عليهم، فقالوا: يا ابن رواحة، أكثرت علينا، فقال: إن شئتم.. فلكم، وضمنتم نصيب المسلمين، وإن شئتم.. فلي، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو الحق، وبه قامت السماوات» .
وروي: «أن عبد الله بن رواحة خرص عليهم أربعين ألف وسق، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها عشرون ألفا، ولهم عشرون ألفا» .
وروى ابن عمر: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على تلك الأصول بالشطر) .
وتجوز المساقاة على الكرم، وقال داود: (لا تجوز المساقاة على الكرم) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» .(7/252)
ولأن الكرم شجر تجب الزكاة في ثمرته، فجازت المساقاة عليه، كالنخل.
وإن دفع إليه وديا مقلوعا، وقال: اغرسه، وقد ساقيتك عليه.. لم يصح؛ لأنها مساقاة بصفة، ولأن المساقاة إنما تصح على أصل ثابت وهذا خشب. وإن كان مغروسا وقد علق، فساقاه على مدة يحمل إليه.. صح؛ لأنه بالعمل عليه يحصل الثمر، كما يحصل بالعمل على النخل.
و (الودي) - بكسر الدال وتشديد الياء -: هو فسيل النخل.
وكذلك: تصح المساقاة على صغار الكرم إذا غرس وعلق إلى وقت يحمل فيه.
ولا تجوز المساقاة على البقول، والقصب الفارسي، والبطيخ، والقثاء، والتوت الذكر الذي ثمرته الورق؛ لأنها كالزرع، فلم تجز المساقاة عليها، كما لا تجوز المخابرة على الزرع. وهل تصح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، كالتين، والتفاح، والمشمش، والرمان، والسفرجل، والتوت الشامي؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول مالك، وأبي يوسف، ومحمد؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» . و (الشجر) : اسم لكل شجرة مثمرة، ولأنها أشجار مثمرة، فصحت المساقاة عليها، كالنخل والكرم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) ؛ لأنها أشجار لم تجب في نمائها الزكاة، فلم تصح المساقاة عليها، كالخلاف، والقصب الفارسي. وأما الخبر: فمحمول على الشجر الذي كان بخيبر، ولم يكن بها غير النخل والكرم. وهل تصح المساقاة على الثمرة الظاهرة؟ ينظر فيها:
فإن كان قد بدا الصلاح فيها.. لم تصح المساقاة عليها، قولا واحدا؛ لأنها قد(7/253)
استغنت عن عمل يكون فيه زيادتها وتنميتها.
وإن ظهرت ولم يبد فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه قولان:
قال في " الأم " [3/238] : (تصح) . وبه قال مالك؛ لأنه إذا جازت المساقاة عليها قبل ظهورها.. فبعد ظهورها أولى.
وقال في "البويطي ": (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع» . فذكر على ما يخرج لا على ما خرج، ولأن الثمرة إذا خرجت.. فقد حصل المقصود، فصار ذلك بمثابة أن يقارضه على المال بعد ظهور الربح. هذا نقل بعض أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : إذا ظهرت الثمرة ولم يبد فيها الصلاح.. صحت المساقاة فيها، وجها واحدا، وإن ظهرت وبدا فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه وجهان.
[مسألة: تعيين حائط المساقاة شرط]
وإن قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين.. لم يصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين.
وإن ساقاه على حائط له معين، إلا أن العامل لم يره.. فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان، كما لو اشترى عبدا معيبا لم يره.
ومنهم من قال: لا يصح، قولا واحدا؛ لأن المساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر بعدم الرؤية.
[مسألة: تأقيت المساقاة شرط]
ولا تصح المساقاة إلى مدة معلومة؛ لأنها عقد لازم، فلو جاز عقدها إلى غير مدة.. لاستحقها العامل على الدوام، وهذا حكم الأملاك.
إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل أو ودي إلى مدة يحمل فيها بحكم الغالب..(7/254)
صح؛ لأن أكثر ما فيه أن العمل كثير، والنصيب قليل، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ساقاه على جزء من ألف جزء من الثمرة، فإن حملت النخل.. استحق العامل ما شرط له، وإن لم تحمل لآفة.. لم يستحق العامل شيئا؛ لأن في العقد الصحيح لا يستحق غير ما شرط له.
وإن ساقاه إلى مدة لا تحمل فيها في العادة، مثل: أن كانت تحمل إلى خمس سنين، فساقاه إلى أربع سنين.. لم تصح؛ لأن المقصود في المساقاة أن يشتركا في الثمرة، وذلك غير موجود في هذه المساقاة.
فإن عمل العامل.. فهل يستحق الأجرة؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 326] : إن كان العامل لا يعلم أنها تحمل لأوان تلك المدة.. استحق الأجرة، وجها واحدا، وإن كان يعلم أنها لا تحمل.. ففيه وجهان:
قال المزني، وعامة أصحابنا: لا يستحق؛ لأنه دخل على أنه لا يأخذ في مقابلة عمله أجرة، فصار متطوعا بالعمل.
وقال أبو العباس: يستحق أجرة المثل؛ لأن عقد المساقاة يقتضي عوضا، فلا يجوز أن يخلو من العوض، كالوطء في النكاح.
وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها وقد لا تحمل، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح المساقاة؛ لأنه ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها، فصح، كما لو ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل العامل، فإن حمل النخل.. استحق العامل ما شرط له من الثمرة، وإن لم يحمل.. فلا أجرة له؛ لأن العقد صحيح، فلا يستحق غير ما شرط له.(7/255)
والثاني: لا تصح المساقاة؛ لأن المساقاة إنما تصح إلى مدة تحمل فيها في الغالب، وهذه المدة لا تحمل فيها في الغالب.
فعلى هذا: إذا عمل.. استحق أجرة المثل، وجها واحدا؛ لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض.
[فرع: مدة عقد المساقاة]
قال الشافعي: (وتجوز المساقاة سنة) ، وقال في (الإجارة) في موضع: (لا تجوز الإجارة أكثر من سنة) ، وقال في موضع: (يجوز أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة) ، وقال في (الدعوى والبينات) : (يجوز ما شاءَا) .
ولا يختلف أصحابنا في أن المساقاة والإجارة في ذلك واحدة، واختلفوا في أكثر مدتهما [على وجهين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: في المسألتين ثلاثة أقوال:
أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة؛ لأنهما عقدان على غرر، فكان القياس يقتضي أن لا يصحا، وإنما حكم بصحتهما للحاجة، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل فيها.
والثاني: تجوز ثلاثين سنة، ولا يجوز أكثر منها؛ لأنها مدة كثيرة، ولأنها نصف العمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» . فالأشياء لا تبقى على حالة واحدة أكثر منها.(7/256)
والثالث: يجوز العقد على كل عين ما بقيت، وبه قال أكثر أهل العلم، وهو الصحيح.
قال الشيخ أبو حامد: فإن كان عبدًا.. جازت إجارته ستين سنة، وإن كانت دابة.. فمن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، وإن كانت دارًا.. فما بين مائة سنة ومائة وخمسين، وإن كانت أرضًا.. فخمسمائة سنة وأكثر، كما يصح أن يبيعه بثمن مؤجل إلى ذلك الوقت.
و [الوجه الثاني] : منهم من قال: المسألة على قولين:
أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة.
والثاني: تجوز ما بقيت العين.
فأما الثلاثون: فإنما ذكرها الشافعي على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد.
إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل سنة بنصف ثمرتها، أو أجره عينًا لسنة بأجرة معلومة.. لم يجب ذكر قسط كل شهر من العوض المشروط؛ لأن شهور السنة لا تختلف.
وإن أجره عينًا سنتين بعوض، وقلنا: يصح.. فهل يحتاج إلى أن يبين قسط كل سنة من ذلك العوض؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 327] : أنه لا يفتقر إلى ذلك، كما إذا اشترى منه أعيانًا بثمن واحد، فإنه لا يفتقر إلى تبيين قسط كل عين منها.
والثاني: يفتقر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن عقد الإجارة معرض للفسخ بتلف المعقود عليه، فإذا أطلق الأجرة لجميع المدة.. ربما لحقها فسخ، فاحتيج إلى(7/257)
تقسيط الأجرة على المدة، وذلك يشق ويتعذر، فشرط ذلك في عقد الإجارة؛ ليستغني عن ذلك.
وإن ساقاه على أصول سنتين.. فهل يجب ذكر قسط كل سنة؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالإجارة. ومنهم من قال: يجب ذكره، قولًا واحدًا؛ لأن الثمار تختلف باختلاف السنين.
[فرع: حدوث الثمرة بعد انقضاء مدة المساقاة]
وإن ساقاه عشر سنين، فانقضت العشر، ثم أطلعت الثمرة.. فلا حق للعامل فيها؛ لأنها حادثة بعد انقضاء المدة، وإن أطلعت في آخر العشر.. ملك العامل جزءًا منها؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة.
[مسألة: حصة عامل المساقاة تجب من الثمرة]
] : ولا تصح المساقاة إلا أن يشترط للعامل جزءًا معلومًا من الثمرة، كالنصف والثلث وما أشبههما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من النخل والشجر» ، ولأن المقصود من المساقاة على أن يقتسم رب المال والعامل الثمرة، فإذا لم يعلم ما للعامل.. لم يمكنهما القسمة.
فإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصيبًا من ثمرتها، أو قسطًا، أو جزءًا.. لم يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه يقع على القليل والكثير.
وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة، وسكت عن الباقي.. صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، فإذا شرط للعامل نصفها.. بقي الباقي على ملكه.
وإن قال: ساقيتك على أن لي نصف الثمرة، وسكت عما للعامل.. فقد قال المزني، وعامة أصحابنا: لا تصح المساقاة؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، وإنما يستحق العامل بعضها بالشرط، ولم يشرط له شيئًا. وحكي عن أبي العباس: أنه(7/258)
قال: يصح، ويكون الباقي للعامل؛ لأن قوله: ساقيتك.. يقتضي اشتراكهما في الثمرة، فإذا شرط لنفسه شيئًا من الثمرة.. بقي الباقي للعامل. والأول أصح.
فإذا قلنا بالأول: فعمل العامل.. فهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق؛ لأنه رضي أن يعمل بغير عوض.
والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأن المساقاة تقتضي العوض.
وإن قال: ساقيتك على هذه النخيل، على أن الثمرة كلها لي.. لم يستحق العامل شيئًا من الثمرة؛ لأنه لم يشترط له منها شيئًا، فإن عمل الأجير.. فهل يستحق أجرة؟ على الوجهين.
وإن قال: ساقيتك على أن الثمرة كلها لك.. لم يصح؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى المساقاة، فإن عمل الأجير.. استحق أجرة المثل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لم يرض بغير عوض.
وإن قال رب النخيل لرجل: اعمل لي على هذه النخلة، والثمرة كلها لي.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك كالبضاعة، فتكون الثمرة كلها لرب النخيل.
وإن قال له: خذ هذه النخيل، واعمل عليها، والثمرة كلها لك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك يكون قرضًا للنخيل، كما لو قال: اعمل لي على هذه الدراهم، والربح كله لك.
ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أن النخيل تكون مقبوضة بحكم القرض الفاسد؛ لأن اقتراض النخيل لا يصح، واقتراض الثمرة على النخل لا يصح، والذي يقتضي المذهب: أنه أباح له ثمرة النخل؛ لأن الإباحة تصح في الموجود والمعدوم، والمعلوم والمجهول.
[فرع: تعليق مساقاة على مساقاة]
وإن قال: ساقيتك على هذا البستان بالنصف، على أن أساقيك على البستان الآخر بالثلث.. لم يصح؛ لأنه في معنى بيعتين في بيعة.(7/259)
وإن كان بين رجلين نخل، فقالا: ساقيناك على أن لك نصف الثمرة.. صح، ويكون النصف الآخر بينهما على قدر أملاكهما، وسواء عرف العامل نصيب كل واحد منهما أو لم يعرفه؛ لأن نصيبه معلوم، وهو النصف من نصيب كل واحد منهما، فصح، كما لو قالا له: بعناك هذه الدار بألف.. فإنه يصح وإن لم يعلم قدر نصيب كل واحد منهما.
وإن شرطا له النصف من نصيب أحدهما، والثلث من نصيب الآخر، فإن عرف العامل نصيب كل واحد منهما.. صح؛ لأنه عوض معلوم، وإن لم يعرف ذلك.. لم يصح؛ لأنه مجهول.
فإن ساقى رجل رجلين على نخل له، وقال: ساقيتكما على أن لكما نصف الثمرة بينكما.. صح، ويكون النصف بينهما نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، وإن قال: ساقيتكما على أن لهذا نصف الثمرة، وللآخر سدس الثمرة.. صح ذلك؛ لأن ذلك عوض معلوم.
[فرع: المساقاة على نصف أنواع الثمر]
] : وإن كان لرجل بستان فيه أنواع من النخيل، وساقى رجلًا على أن له نصف الثمرة.. صح، وإن لم يعرف كل نوع فيه؛ لأن ذلك عوض معلوم، وإن قال: على أن لك من النوع الفلاني النصف، ومن الفلاني الثلث، ومن الفلاني السدس، فإن عرف العامل ورب المال قدر كل واحد من الأنواع.. صح؛ لأن لكل واحد منهما سهمًا معلومًا، وإن لم يعلما ذلك، أو أحدهما.. لم يصح؛ لأن نصيب كل واحد منهما يقل ويكثر.
[فرع: ساقاه سنين على أن لكل سنة حصة ونصيبًا خاصًا]
فإن ساقاه ثلاث سنين، على أن للعامل في السنة الأولى نصف الثمرة، وفي السنة الثانية ثلث الثمرة، وفي السنة الثالثة سدس الثمرة.. ففيه طريقان:(7/260)
[الطريق الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح ذلك، قولًا واحدًا، كما لو ساقاه على أنواع، وجعل له من كل نوع نصيبًا معلومًا وإن اختلف الأنصباء وهما يعلمان الأنواع.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو أسلم دينارًا على قفيز حنطة، وقفيز شعير.
وإن ساقاه على أن له صاعًا من الثمرة، والباقي لرب المال، أو للعامل ثمرة نخلة أو نخلات بعينها.. لم يصح؛ لأنه قد لا يحمل في البستان إلا ما اشترطه للعامل، فيؤدي إلى أن يستبد العامل بجميع الثمرة، أو قد لا يحمل النخل التي عينها للعامل، فيستضر العامل.
[فرع: مساقاة أحد الشريكين الآخر]
] : وإن كانت نخل بين الثمرة رجلين نصفين، فقال أحدهما للآخر: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك ثلثي الثمرة ولي الثلث.. صح؛ لأنه شرط للعامل ثلث نصيبه بالعمل؛ لأن العامل يستحق نصف الثمرة بحق الملك، فصح، فهو كما لو قال: ساقيتك على نصيبي، على أن لك ثلث نصيبي من الثمرة.
وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من الثمرة بحق العمل.
وإن قال: ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة ولي الثلثين.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من ثمرته بحق العمل، ولأنه شرط أن يأخذ من نصيب الآخر سهمًا بغير عوض، وذلك لا يجوز.
فإن عمل العامل في هاتين المسألتين.. فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن كانت بحالها، وساقى أحدهما صاحبه على أن يعملا جميعًا في النخل، ويكون لأحدهما ثلث الثمرة، وللآخر الثلثان.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن(7/261)
يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل، وهاهنا من كل واحد منهما مال وعمل، فإن عملا.. كانت الثمرة بينهما نصفين بحق الملك، فإن تساويا في العمل.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، وإن عمل من شرط له الثلثان أكثر.. رجع على شريكه بفضل عمله في ماله؛ لأنه لم يعمل على مال شريكه إلا بعوض، ولم يسلم له، وإن كان عمل الآخر أكثر.. فهل يستحق أجرة الزيادة؟ على الوجهين للمزني وأبي العباس.
[فرع: المساقاة على عوض مجهول]
وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أنك إن سقيتها بماء سماء أو سيح - وهو السيل - فلك ثلث الثمرة، وإن سقيتها بنضح - وهو الغرب - فلك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه عوض مجهول؛ لأنه لا يدري: أيسقيها بالسيح، أو بالنضح؟ وإن ساقاه على فسيل نخل، على أن له نصف الفسيل، ونصف الثمرة.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن يكون الأصل لرب المال، والثمرة بينهما، فإذا شرط للعامل شيئًا من الأصل، كان ذلك ينافي مقتضاها.. فلم يصح.
[فرع: اشتراط ما لا يصح شرعًا في المساقاة]
فرع: [اشتراط ما لا يصح شرعًا] :
وإن ساقاه عشر سنين، وشرط له ثمرة سنة الإحدى عشرة.. لم يصح؛ لأنه شرط له ثمرة سنة لا يستحق عليه فيها عملًا، وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه شرط عليه عملًا في مدة تثمر فيها، ولا يستحق شيئًا من ثمرتها.
والثاني: يصح، كما يصح أن يعمل في جميع السنة وإن كانت الثمرة في بعضها.(7/262)
[مسألة: صيغ المساقاة]
وتنعقد المساقاة بلفظ المساقاة؛ لأنه لفظ وضع لها، وتنعقد بما يؤدي معناها، بأن يقول: اعمل على هذه النخيل ولك نصف ثمرتها، وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : وكذلك إذا قال: تعهد نخلي، أو اسق نخلي ولك نصف ثمرتها.. صح؛ لأنه يؤدي عن معنى المساقاة.
وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصف ثمرتها عوضًا عن عملك، أو أجرة عن عملك.. صح؛ لأن ما يأخذه العامل في الحقيقة هو عوض وأجرة عن عمله، فلا يضره ذكره.
فرع: [المساقاة بلفظ الاستئجار] :
وإن قال: استأجرتك على أن تعمل على هذه النخل بنصف ما يخرج من ثمرتها.. لم يصح؛ لأن الإجارة تفتقر إلى أن تكون الأجرة معلومة القدر، والأجرة هاهنا مجهولة القدر، فلم يصح.
وإن كانت الثمرة قد ظهرت، فاستأجره ليعمل له على نخيله، أو ليبني له بيته، أو يخيط له ثوبه بتلك الثمرة أو ببعضها.. نظرت:
فإن كان قد بدا فيها الصلاح، فاستأجره ليعمل على النخل، أو يبني له، أو يخيط له، أو غير ذلك، ببعض الثمرة أو بجميعها.. صح من غير شرط القطع؛ لأن بيعها في هذه الحالة يصح من غير شرط القطع، فصح أن يكون عوضًا في الإجارة.
وإن لم يبد صلاحها، فإن استأجره بجميعها بشطر القطع.. صح، كما يصح بيعها، وإن لم يشترط قطعها.. لم يصح، كما لا يصح بيعها. وإن استأجره ببعضها.. لم يصح، سواء شرط القطع فيها أو لم يشترطه؛ لأنه إن لم يشترط القطع.. لم يصح، كما لا يصح بيعها بغير شرط القطع، وإن شرط القطع.. أيضًا لم يصح؛ لأنها مشاعة بينه وبين شريكه، فلا يمكنه قطع نصيبه إلا مع قطع نصيب شريكه، فلم يصح.(7/263)
[فرع: لا خيار في عقد المساقاة]
ولا يثبت في المساقاة خيار الثلاث، وفي خيار المجلس وجهان، وقد مضى ذلك في البيع، فإذا انعقدت المساقاة.. كانت لازمة من الطرفين؛ لأنها تفتقر إلى مدة معلومة، فكانت لازمة، كالإجارة، وعكسها القراض، والشركة، والوكالة، لما لم تفتقر إلى مدة.. كانت جائزة.
[مسألة: ما يشترط على عامل المساقاة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما فيه مستزاد في الثمرة من إصلاح الماء وطريقه، وتصريف الجريد، وإبار النخل، وقطع الحشيش المضر بالنخل ونحوه.. جاز شرطه على العامل، فأما سد الحظار: فليس فيه مستزاد وإصلاح في الثمرة، فلا يجوز شرطه على العامل) . وهذا كما قال: كل عمل كان فيه زيادة الثمرة ونماؤها، فهو على العامل، وذلك مثل:
(تلقيح النخل) : وهو تأبيرها، و (تصريف الجريد) : وهو قطع السعف اليابس، وتمييله على جانب؛ لتتدلى الثمرة، وقطع الحشيش المضر بالنخل،(7/264)
وإصلاح (أجاجينها) التي يقف الماء فيها في أصولها، و (إصلاح الماء) : وهو فتح الساقية، وإصلاح طريقه، وإدارة الدولاب.
وأما جذاذ الثمرة: ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ":
أحدهما: لا يجب على العامل؛ لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء في الثمرة.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يجب على العامل؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك (المنجل) الذي يقطع به الشوك من السعف على العامل.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وعلى العامل إصلاح الجرين، وحمل الثمرة إلى الجرين، وتجفيفها إن كانت مما يجفف؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة.
وأما حفظ الثمرة على النخل وفي الجرين: ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 327]-: أنه لا يجب على العامل، وهو المنصوص.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ، والصيمري -: أن ذلك يجب على العامل. وأما الأعمال التي فيها حفظ الأصل: فهي على رب النخل. قال الشافعي: (وذلك مثل: سد الحظار، وهي: الحيطان التي تكون حول البستان؛ ليمنع من الدخول إليها، وكذلك: حفر الآبار والأنهار، وكذلك: الدولاب والبقر التي يدار عليها، والكش الذي يلقح به؛ لأن هذه الأشياء يحتاج إليها لحفظ الأصل) .
فإن شرط شيئًا من الأعمال التي تجب على العامل على رب المال، أو ما يكون(7/265)
على رب المال على العامل.. بطلت المساقاة؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضاها، فأبطلها، هذا هو المشهور.
وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": كسح الأنهار، والبقر التي يدار عليها الدولاب لا يتعلق بصلاح الأصول والثمرة، ويكون ذلك على من شرط أنه يكون عليه، وحكي عن أبي إسحاق: أنه قال: إذا أهملا ذلك، ولم يشترطاه على أحدهما.. لم تصح المساقاة. والأول أصح.
[مسألة: شرط عمل رب المال في المساقاة]
يفسدها] : وإن ساقاه على نخل، وشرط العامل أن يعمل معه رب المال بعض الأعمال التي تلزم العامل.. لم تصح المساقاة؛ لأن موضوع المساقاة: أن يكون العمل من العامل، والمال من رب المال، فإذا شرط شيئًا من عمل العامل على رب المال.. فقد شرط ما ينافي مقتضى المساقاة، فأبطلها.
وإن شرط العامل على رب المال أن يعمل معه غلمان رب المال.. فالمنصوص: (أنه يصح) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن غلمان رب المال كرب المال، بدليل: أنه يحكم للسيد بما في يد عبده، فلما لم يجز أن يشترط العامل العمل على رب النخل.. فكذلك لا يجوز أن يشترط عمل غلمانه، وحمل هذا القائل نص الشافعي على أنه أراد: إذا شرط العامل على رب النخل عمل غلمانه في الأعمال التي تلزم رب المال، مثل: سد الحظار، وما أشبهها.
ومنهم من قال: يصح، قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن غلمان رب المال مال له، فإذا دفعهم ليعملوا مع العامل.. فكأنه ضم ماله إلى ماله، فهو كما لو ضم إليه نخلًا أخرى، وساقاه عليها، ولأن رب المال يلزمه بإطلاق المساقاة عمل، مثل: سد الحظار، وحفر الآبار، فجاز أن يلزم غلمانه بالشرط، بخلاف رب(7/266)
المال؛ لأنه لا يجوز أن يكون تابعًا لماله، والغلمان ماله، فجاز أن يكونوا تابعين لماله.
فإذا قلنا بهذا: فلا بد أن يكون الغلمان معلومين، إما بالتعيين، أو بالوصف، ويكون الغلمان تحت تدبير العامل في العمل، فيلقحون متى شاء، ويسقون متى شاء؛ لأن الغلمان تبع له.
ولا يجوز أن يشترط عملهم إلا في النخل الذي لسيدهم، فإن شرط أن يعملوا في نخل للعامل، أو يعملوا له عملًا غير ذلك.. لم يصح؛ لأن العامل في المساقاة إنما يستحق جزءًا من الثمرة بعمله على النخل، ولا يستحق شيئًا آخر.
فإذا شرط أن يعمل الغلمان في نخل له.. فقد شرط أن يأخذ شيئًا من الثمرة، وشيئًا آخر من غيرها.. فلم يصح.
[فرع: نفقة غلمان صاحب النخل]
وأما نفقة الغلمان: فإن شرط أنها على سيدهم.. صح، وكانت عليه، وإن شرط أنها على العامل.. صح، وكانت عليه؛ لأنهم يعملون فيما يلزم كل واحد منهما، فجاز أن يشترط نفقتهم على كل واحد منهما، فإن شرطاها على العامل.. فليس من شرط ذلك تقديرها.
وقال محمد بن الحسن: لا يجوز حتى يقدرها.
دليلنا: أنه لو وجب ذكر مقدارها.. لوجب ذكر صفتها.
وإن أطلقا نفقة الغلمان، ولم يشترطاها على أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه، ذكرها في " المهذب ":
أحدها - ولم يذكر في " التعليق " و" الشامل " غيره -: أنها على المالك؛ لأنه يملكهم، فكانت نفقتهم عليه بحق الملك.(7/267)
والثاني: أنها على العامل؛ لأن العمل مستحق عليه، فكانت نفقتهم عليه.
والثالث: أنها في الثمرة؛ لأنهم يعملونها، فكانت نفقتهم فيها.
[فرع: شرط أجرة عمال العامل من الثمرة مفسد للمساقاة]
إذا ساقى رجلًا على نخل، وشرط العامل أن أجرة من يستأجره من الأجراء ليعملوا معه تكون من الثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالمساقاة فاسدة) .
واختلف أصحابنا في تعليله:
فقال أبو إسحاق: إنما لم تصح؛ لأن الإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة، إما معينة، أو في الذمة، وهاهنا الأجرة مجهولة.
ومنهم من قال: إنما فسدت؛ لأن العمل مستحق على العامل، وأجرة من يعمل عليه، فإذا شرط أجرة من يعمل ذلك من الثمرة.. فقد شرط لنفسه جزءًا من الثمرة ينفرد به، فلم تصح، كما لو شرط لنفسه صاعًا من الثمرة والباقي بينهما.
ويفارق: إذا شرط غلمان رب المال يعملون معه، وتكون نفقتهم على رب النخل؛ لأن هذا ضم ماله إلى ماله.
وقال القفال: إن شرط أن يكون أجرة الأجراء من الثمرة.. لم تصح؛ لأن ذلك مجهول، وإن قالا: ثلث الثمرة يكون مصروفًا إلى أجرة الأجراء، والباقي بيننا، أو قال رب النخل: لك ثلث الثمرة، وللأجير الذي تستأجره ثلث الثمرة، ولي ثلثها.. صح ذلك، كما لو قال: على أن للعامل ثلثي الثمرة.
[مسألة: وقت ملك العامل حصة المساقاة]
إذا ساقاه على نخل، وظهرت الثمرة.. فمتى يملك العامل حصته منها؟ اختلف أصحابنا فيه:(7/268)
فمنهم من قال: فيه قولان، كالعامل في القراض:
أحدهما: أن العامل لا يملك حصته منها إلا بالقسمة.
فعلى هذا: تجب زكاة الجميع على رب النخل.
والثاني: يملك حصته منها بالظهور.
فعلى هذا: إن بلغ نصيب كل واحد منهما نصابًا.. وجبت عليه زكاة نصيبه، وإن كان لا يبلغ النصاب إلا جميع الثمرة، فإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي.. وجب عليهما الزكاة، وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير المواشي.. لم تجب الزكاة على من نقص نصيبه عن النصاب.
ومنهم من قال: يملك العامل حصته من الثمرة بالظهور، قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأن نصيب العامل في المساقاة لم يحتمل وقاية لرأس المال، بخلاف القراض، فإن الربح كله وقاية لرأس المال، فلذلك لم يملك العامل شيئًا منه قبل القسمة في أحد القولين.
[فرع: المساقاة في أرض خراجية]
وإن ساقى رجل رجلًا على نخل في أرض خراجية.. فإن الخراج يجب على رب الأرض؛ لأن الخراج حق يؤخذ عن رقبة الأرض، ولا حق للعامل في رقبة الأرض.
[مسألة: اتهم العامل فأنكر فيصدق بيمينه]
إذا ادعى رب النخل على العامل خيانة أو سرقة، وبين الدعوى، وأنكر العامل، ولا بينة لرب النخل.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله. فإذا حلف.. سقطت دعوى رب المال، وكان العامل على عمله.(7/269)
وإن قامت البينة على سرقته، أو خيانته، أو أقر بذلك، أو نكل عن اليمين، فحلف رب النخل.. فقد قال المزني في " المختصر ": (يكتري على العامل أمينًا يعمل مكانه) .
وقال في " الجامع ": (يكتري أمينا يعمل معه) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (ينزع النخل من يده، ويكتري عليه من يقوم مقامه) إذا كان العامل باطشًا، لا يمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه.
والموضع الذي قال: (يكتري أمينًا يعمل معه) إذا كان ضعيفًا في السرقة، ويمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه.
إذ ثبت هذا: فإن أجرة الأمين هاهنا على العامل؛ لأن ذلك من تمام حفظ الثمرة، وحفظها عليه.
[مسألة: ساقى رجلًا فهرب]
وإن ساقى رجل رجلًا مساقاة صحيحة، فهرب العامل، وترك العمل.. فإن المساقاة لا تنفسخ؛ لأنها عقد لازم، فإذا كان لا يملك فسخها بقوله.. فلأن لا تنفسخ بهربه أولى.
إذا ثبت هذا: فإن رب النخل يمضي إلى الحاكم، ويثبت عنده عقد المساقاة، فإذا ثبت العقد عنده.. طلب الحاكم العامل، فإن وجده.. أجبره على العمل؛ لأنه مستحق عليه. وإن لم يجده، فإن وجد له مالًا.. اكترى من ماله من يعمل عنه؛ لأن ذلك قد لزمه، وإن لم يجد له مالًا، فإن كان في بيت المال مال.. أقرضه منه، واكترى عليه من يعمل عنه. فإذا حصلت الثمرة.. اقتضى منه ما أقرضه، وحفظ الفضل له، وإن لم يحصل من الثمرة ما يقضي به ما اقترض له.. كان ذلك دينًا في ذمته(7/270)
إلى أن يجده. وإن لم يكن في بيت المال مال، أو كان فيه مال لكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه.. اقترض عليه من رجل من الرعية إن وجد، فإن لم يجد، ووجد من يستأجره بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة.. فعل ذلك. وإن لم يجد شيئًا من ذلك.. سأل رب النخل أن يقرضه عليه، فيقبضه منه، ويستأجر به من يعمل عنه. وهل يجوز للحاكم أن يأمر رب المال أن ينفق على العمل قرضًا على العامل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز له أن يستقرض من غيره له.
والثاني: لا يجوز؛ لأن رب النخل لا يصح له أن يكون قابضًا من نفسه.
وإن لم يجد الحاكم من يستقرض منه، ولا أقرضه رب النخل له.. نظرت: فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخل أن يفسخ المساقاة؛ لأن العمل قد تعذر من جهة العامل، ومن جهة من يقوم مقامه، فكان ذلك كالعيب.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفسخ، ولكن يطلب الحاكم عاملًا آخر يساقيه عن العامل.
قال أصحابنا: فهذا ليس بصحيح؛ لأن المساقاة تكون بين صاحب الأصول وبين العامل، فأما أن تكون بين العامل وعامل آخر: فلا تصح.
فإذا فسخ رب النخيل المساقاة، فإن كان العامل لم يعمل شيئًا.. فلا شيء له، وإن كان قد عمل.. استحق أجرة ما عمله على رب النخل، وكانت الثمرة إذا ظهرت.. لرب النخل.
وإن كان ذلك بعد ظهور الثمرة.. قال أصحابنا: فإنها تكون مشتركة بينهما.
فإن كان قد بدا صلاحها.. باع الحاكم من نصيب العامل لأجرة ما بقي من العمل، واستأجر عنه من يعمل ذلك، وإن احتاج إلى بيع جميعه.. باعه، ويجوز بيعها مطلقًا من غير شرط القطع.
وإن كان لم يبد صلاحها، فإن رضي رب المال أن يبيع نصيبه منها.. بيع الجميع(7/271)
بشرط القطع، وقسم الثمن بينهما، وحفظ نصيب العامل، وإن لم يرض رب النخيل بيع نصيبه منها. فإنه لا يصح بيع نصيب العامل من غير رب النخل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح بيعه إلا بشرط القطع، وذلك لا يمكن مع الإشاعة. وهل يصح بيعه، أو بيع بعضه من رب النخل؟ فيه وجهان، ومضى ذكرهما في البيع.
فإن قلنا: يصح، واختار رب النخيل أن يشتري بعض نصيب العامل، أو جميعه ليتم العمل بثمنه.. فعل.
وإن لم يختر رب النخل أن يشتري، أو قلنا: لا يصح، قلنا لرب النخيل: انصرف، فلا حكم لك عندنا.
وإن لم يرفع رب النخيل الأمر إلى الحاكم، بل أنفق على من يعمل على ماله.. نظرت:
فإن كان قادرًا على الحاكم.. لم يرجع بشيء على العامل؛ لأنه متطوع، فإذا ظهرت الثمرة.. كانت مشتركة بينه وبين العامل.
وإن كان غير قادر على الحاكم، فإن أنفق ولم يشهد على الإنفاق، أو أشهد ولم يشرط الرجوع.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع. وإن أشهد على الإنفاق شاهدين، قال ابن الصباغ: وشرط الرجوع به.. فهل يرجع به؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنه لا يلي على العامل.
والثاني: يرجع، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : إذا لم يجد حاكمًا، فأنفق بنفسه.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يرجع، كما لو وجد حاكمًا، فأنفق من غير إذنه.
والثاني: يرجع؛ لأنه معذور، ولا سبيل له إلى غير ما فعل.
والثالث: إن أشهد.. رجع، وإن لم يشهد.. لم يرجع.(7/272)
[مسألة: موت أحد متعاقدي المساقاة]
وإن ماتا، أو مات أحدهما قبل المفاصلة.. لم تنفسخ المساقاة؛ لأنها عقد لازم، فلا تبطل بالموت، كالبيع، والإجارة.
إذا ثبت هذا: فإن مات رب المال.. فإن العامل على عمله، فإن حصلت الثمرة.. قاسم العامل ورثة رب النخيل، كما كان يقاسم رب النخيل.
وإن مات العامل، فإن اختار وارثه أن يتم العمل.. جاز، وإن امتنع من العمل.. لم يجبر عليه. وحكى القاضي أبو حامد وجهًا آخر: أنه يجبر؛ لأنه الوارث يقوم مقام مورثه. والأول أصح؛ لأن الوارث لا يلزمه حق لزم الموروث، إلا ما كان يمكنه دفعه من مال الموروث.
إذا ثبت هذا: فإن الأمر يرفع إلى الحاكم، فإن وجد للعامل مالًا.. اكترى منه من يتم العمل، وإن لم يجد له مالًا.. لم يجز للحاكم أن يقترض عليه لتمام العمل؛ لأنه لا ذمة هاهنا للميت، بخلاف الحي إذا هرب.. فإن له ذمة.
فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخيل أن يفسخ المساقاة، على ما ذكرناه في هرب العامل.
وإن ظهرت الثمرة.. فهي مشتركة بين رب النخيل وورثة العامل، والحكم في بيعها حكم العامل إذا هرب وقد ظهرت الثمرة، على ما مضى.
[فرع: ساقى في مرض موته بأكثر من المثل]
وإن ساقى رجل رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا تعتبر الزيادة على أجرة المثل من الثلث، كما قلنا فيمن قارض رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله.
والثاني: تعتبر الزيادة من الثلث؛ لأن الزيادة حادثة للنخل، وهي مال له،(7/273)
بخلاف الربح، فإنه ليس بحادث من أصل ماله، وإنما يحصل بتقليب العامل وتصرفه.
[مسألة: سلم النخل فادعى غصبها]
إذا سلم رجل إلى رجل نخلًا، وساقاه عليها بنصف الثمرة، أو بثلثها، فعمل عليها العامل، وحصلت الثمرة، ثم جاء رجل، وادعى: أن النخيل له، وأن المساقي غصبها منه، وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالنخيل والثمرة؛ لأنها نماء ماله.
فإن كانت الثمرة باقية.. أخذها المالك، ولا يستحق العامل شيئًا منها؛ لأنها مساقاة فاسدة، ولا يستحق أجرة على رب النخيل؛ لأنه عمل على النخيل بغير إذنه، ولكن يرجع على الغاصب بأجرة عمله؛ لأنه استعمله فيها، فاستحق عليه الأجرة، كمن غصب نقرة، فاستأجر رجلًا على ضربها دراهم، فإن كان الغاصب والعامل قد اقتسما الثمرة وأتلفاها.. فللمالك أن يضمن الغاصب جميع الثمرة؛ لأنه حال بينه وبين الأصول، فضمن الأصول وما يتولد منها.
فإن أخذ منه المالك جميع الثمرة.. كان للغاصب أن يرجع على العامل بما أخذ من الثمرة؛ لأنه أخذه بعقد باطل، ويرجع العامل على الغاصب بأجرة عمله.
وإن اختار المالك أن يضمن العامل.. فله أن يضمنه نصيبه الذي قبضه لنفسه؛ لأنه أخذه عوض عمله، ولم يصح أخذه، فكان للمالك الرجوع عليه فيه، ويرجع العامل على الغاصب بأجره عمله.
وهل للمالك أن يرجع على العامل بجميع الثمرة؟ فيه وجهان:
[الوجه الأول] : من أصحابنا من قال: له أن يرجع عليه بجميع الثمرة؛ لأن يده قد ثبتت على جميع الثمرة مشاهدة بغير حق، فرجع عليه بجميعها، كما لو غصب رجل مالًا، وقارض عليه آخر، وتلف في يده.. فإن للمالك أن يضمن أيهما شاء بالجميع.
والوجه الثاني - وهو ظاهر قول المزني -: أنه لا يرجع عليه بالجميع، بل بما أخذه(7/274)
في نصيبه؛ لأن العامل لم تثبت يده على الثمرة، وإنما اليد فيها للغاصب، ويد العامل ثابتة على الغاصب، بدليل: أن - على قول الشافعي - ليس على العامل حفظ الثمرة، ولو شرط عليه ذلك.. لبطل العقد، بخلاف مال القراض، فإن يده قد ثبتت عليه، بدليل: أنه يجب عليه حفظه.
فإذا قلنا: يرجع عليه بنصف الثمرة.. رجع المالك على الغاصب بالنصف الثاني، ولا يرجع العامل على الغاصب بالنصف الذي تلف في يده، ولكن يرجع بأجرة عمله.
وإن قلنا: يرجع المالك على العامل بجميع الثمرة.. رجع العامل على الغاصب بنصف الثمرة الذي تلف في يده؛ لأنه أتلفه، ويرجع عليه بأجرة عمله أيضًا.
[مسألة: اختلفا في نسبة المساقاة فيتحالفا]
وإن ساقى رجل رجلًا، ثم اختلفا: فقال العامل: شرطت لي نصف الثمرة، وقال رب النخل: بل شرطت لك الثلث، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان.
وقال مالك: (إذا اختلفا بعد العمل.. فالقول قول العامل إذا أتى بما يثبته) .
دليلنا: أنهما متعاقدان اختلفا في صفة العقد، فتحالفا، كالمتبايعين قبل القبض، وكالمساقاة قبل العمل.
إذا ثبت هذا: فإن حلفا جميعًا.. كانت الثمرة كلها لرب النخل، وللعامل أجرة عمله، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. ثبت ما قال الحالف، فإن أقام أحدهما بينة.. حكم لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد منهما بينة، وأشارتا إلى عقدٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ.. تعارضت البينتان، وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان، وهو الصحيح. فعلى هذا: يتحالفان.
والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:(7/275)
أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة.
قال عامة أصحابنا: ولا يجوز الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجوز القسمة؛ لأن العقد لا ينقسم، ولا يجيء هاهنا إلا القرعة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : وجهًا آخر: أنه يجيء فيه القسمة، فيقسم السدس الذي يتنازعان فيه بينهما نصفين. والأول أصح.
[فرع: ساقى رجلان رجلًا، فادعى نصف الثمرة]
] : وإن ساقى رجلان رجلًا على نخيل بينهما، فقال العامل: شرطتما لي نصف الثمرة، فصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل شرطنا لك الثلث.. لزم المقر أن يقسم للعامل نصف نصيبه، ثم ينظر فيه:
فإن شهد على شريكه: أنه شرط للعامل النصف، وكان عدلًا.. حلف معه العامل، وثبت للعامل النصف في نصيب الآخر؛ لأنه مال، والمال يثبت بشاهد ويمين.
وإن لم يكن عدلًا، أو لم يشهد على شريكه.. فإن العامل والمنكر يتحالفان، فإذا تحالفا.. انفسخ العقد بينهما، وكان جميع نصيب المنكر من الثمرة له، وعليه للعامل أجرة عمله في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وبالله التوفيق(7/276)
[باب المزارعة]
المزارعة والمخابرة عند أكثر أصحابنا: اسمان لمعنى واحد، وهو: أن يدفع إلى رجل أرضًا له ليزرعها، وتكون الغلة بينهما على ما يشترطان.
ومن أصحابنا من قال:
المزارعة: أن تكون الأرض والبذر من واحدٍ، والعمل من واحدٍ، وتكون الغلة بينهما.
والمخابرة: أن تكون الأرض من واحدٍ، ومن الآخر البذر والعمل، ويكون لرب الأرض شيء مشروط من الثمرة، وهي مشتقة من الخبار، وهي: الأرض اللينة.
وقيل: اشتقاقها من الخبير: وهو الأكار، يقال: خابرته مخابرةً، وآكرته مؤاكرةً.
إذا ثبت هذا: فإن دفع رجل إلى رجل أرضًا ليزرعها، على أن يكون لرب الأرض أو للعامل زرع موضع بعينه، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك ما ينبت على السواقي وما أشبه ذلك، والباقي لي.. فهذا باطل بالإجماع؛ لأنه قد(7/277)
لا يزرع الموضع الذي عينه، وقد لا يزرع سواه، فينفرد أحدهما بجميع الغلة، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح.
وإن زارعه على جزء مشاع من الغلة، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك نصف زرعها أو ثلثه - وهي أرض بيضاء لا شجر فيها - فهذا باطل عندنا، سواء كان البذر من مالك الأرض أو من العامل، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، ومالك، وأبو حنيفة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى: أن ذلك صحيح لازم، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل. وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد.
وقال أحمد: (إن كان البذر من رب الأرض.. جاز، وإن كان من العامل.. لم يجز) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نخابر ولا نرى في ذلك بأسًا حتى أخبرنا رافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة، فتركناها لقول رافع) .
وروى ثابت بن الضحاك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة» .
وروى جابر، ورافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لأحدكم أرض.. فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، ولا يكرها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام مسمى» .(7/278)
وأراد: لا يكرها بثلث ما يخرج منها ولا بربعه، ولا بطعام مسمى مما يخرج منها.
ولأنه زارعه على أرض ينفرد ببعض ما يخرج منها، فلم يصح، كما لو زارعه على أن له ما ينبت على السواقي.
إذا ثبت هذا: فإن زارع على أرضه رجلًا، فعمل الأجير.. كان باطلًا.
فإن كان البذر من مالك الأرض.. كانت الغلة كلها له؛ لأنها عين ماله، ويكون عليه للعامل أجرة مثل عمله وبقره وآلته؛ لأنه دخل في العمل ليستحق جزءًا من الغلة، ولم يحصل له ذلك، فكان له أجرة عمله.
وإن كان البذر من العامل.. كانت الغلة كلها للعامل، ووجب عليه لصاحب الأرض أجرة أرضه في مثل تلك المدة، ولا يستحق العامل أجرة عمله وبقره وآلته؛ لأن عمله حصل له.
وإن كان البذر بينهما نصفين.. كانت الغلة بينهما نصفين، ووجب للعامل نصف أجرة مثله، ونصف أجرة بقره وآلته على رب الأرض، ووجب لصاحب الأرض نصف أجرة أرضه على العامل.
[مسألة: كيفية تصحيح المخابرة]
فإن أرادا الحيلة في تصحيح المخابرة، وكون الغلة بينهما.. فيصح ذلك من وجوه:
[الأول] : منها: أن يعير صاحب الأرض العامل نصف أرضه أو ثلثها، ويعمل(7/279)
العامل جميع الأرض، ويبذرا الأرض منهما، فتكون الغلة بينهما، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن كل واحد منهما متطوع.
و [الثاني] منها: أن يكتري العامل نصف الأرض أو ربعها بدراهم في ذمته، ثم يستأجر صاحب الأرض العامل على عمل نصف الأرض، أو ثلاثة أرباعها، بمثل تلك الدراهم في ذمته، ثم يتقاصا، ويبذرا الأرض بينهما.
و [الثالث] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بعمله وعمل بقره على نصيبه، ويبذرا الأرض منهما.
و [الرابع] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بنصف عمله، ونصف عمل بقره وآلته، مدة معلومة، ويكون البذر منهما.
فإن أراد أن يكون البذر من مالك الأرض.. فإنه يقول: اكتريت منك نصف منفعة بدنك وآلتك على العمل في هذه الأرض بنصف هذا البذر، وبنصف منفعة أرضي، مدة معلومة.
وإن أراد أن يكون البذر من العامل.. فإن رب الأرض يقول: أكريتك نصف منفعة أرضي مدة معلومة بنصف عمل بدنك وآلتك فيها، وبنصف هذا البذر.
إلا أن هاتين المسألتين تكونان بيعًا وإجارة، وفي ذلك قولان.
[مسألة: المزارعة تبعًا للمساقاة]
وأما إذا كان له نخيل أو كرم، وبين النخل والكرم أرض بيضاء، لا يمكن سقي النخل والكرم إلا بسقي الأرض البيضاء التي بينه.. نظرت:
فإن كانت الأرض البيضاء قليلًا، والنخيل أكثر منها.. جاز أن يساقيه على النخيل، ويزارعه على الأرض التي بينها؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرعٍ» ، ولأن الحاجة تدعو إلى جواز(7/280)
هذه المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي الأرض التي بينها.
فلو قلنا: لا يجوز المزارعة عليها.. للزم على العامل عمل لا يستحق به عوضًا.
إذا ثبت هذا: فإن قال: ساقيتك على النخيل أو الكرم، وزارعتك على الأرض التي بينها بالنصف.. جاز.
وإن قال: عاملتك على النخيل والأرض بالنصف.. جاز؛ لأن لفظ المعاملة يشملهما.
وإن قال: ساقيتك على النخيل والأرض بالنصف.. لم يصح في الأرض؛ لأن المساقاة لا تتناول البياض، وهل تبطل المساقاة في النخيل؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة.
وإن قال: ساقيتك على النخيل بثلث ثمرتها، وزارعتك على الأرض التي بينها بنصف ما يخرج منها.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المزارعة إنما جازت هاهنا تبعًا للنخل، فإذا فاصل بينهما في العوض.. لم يتبع أحدهما الآخر.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره، كما لو ساقاه على بستان فيه أنواع من الثمرة، وجعل له من كل نوع نصيبًا، وفاضل بين الأنصباء.
وإن عقد المزارعة، ثم عقد المساقاة.. لم تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة، فلا تتقدم على المساقاة.
وإن عقد المساقاة على النخل، ثم عقد المزارعة على الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة على النخيل، فإذا أفردها بالعقد.. لم تصح، كما لو باع الثمرة قبل بدو الصلاح، من غير شرط القطع منفردة عن الشجر.
والثاني: تصح؛ لأنا إنما جوزنا المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض، وهذا المعنى موجود وإن عقدت المزارعة بعد المساقاة.(7/281)
وإن كان بياض الأرض الذي بين النخيل أكثر من النخيل.. فهل تصح المزارعة عليه تبعًا للنخيل؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح؛ لما ذكرناه من المعنى، وهو: أنه لا يمكنه سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض.
والثاني: لا تصح؛ لأن المزارعة إنما صحت تبعًا للنخيل، والكثير لا يتبع القليل، وإنما القليل يتبع الكثير.
إذا ثبت هذا: فكل موضع صححنا فيه المزارعة، فإن البذر يكون من رب الأرض، ويكون من العامل العمل، كالنخل في المساقاة.
وبالله التوفيق(7/282)
[كتاب الإجارة](7/283)
كتاب الإجارة وهي مشتقة من الأجر، وهو الثواب.
تقول: أجرك الله، أي: أثابك الله، فكأن الأجرة عوض عمله، كما أن الثواب عوض عمله.
إذا ثبت هذا: فيجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة، مثل: أن يؤاجر نفسه أو عبده للخدمة، أو داره للسكنى، وما أشبه ذلك، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال عبد الرحمن الأصم، والقاساني: لا تصح الإجارة؛ لأنها غرر.
ودليلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يكن في الإجارة إلا هذا.. لكفى) . وذلك:(7/285)
أن الله تعالى ذكر: أن المطلقة إذا أرضعت ولد زوجها.. فإنه يعطيا أجرها، والأجرة لا تكون إلا في إجارة، والرضاع غرر؛ لأن اللبن قد يقل وقد يكثر، وقد يكون الصبي يشرب من اللبن قليلًا، وقد يشرب من اللبن كثيرًا، وقد أجازه الله تعالى.
ويدل على صحتها: قَوْله تَعَالَى - في قصة موسى وشعيب -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 26 - 27] . فلولا أن الإجارة كانت جائزة في شرعهم.. لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] ، ولأنكر عليها شعيب، وأيضًا فإنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . فجعل المنفعة مهرًا.
وقَوْله تَعَالَى - في قصة الخضر وموسى -: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] [الكهف: 77] .
وأما السنة: فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له الأجرة» .(7/286)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى فيّ عهدًا ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولم يوفه أجرته» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجر رجلًا خريتًا عالمًا بالهداية» . والخريت: الدليل.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجرته» .
وأما الإجماع: فروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (أنه أجر نفسه(7/287)
ليهودي يستقي له الماء؛ كل دلو بتمرة) .
وروي: أن ابن عمر، وابن عباس قالا في قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] : (هو أن يحج الرجل ويؤاجر نفسه) .
وروي: (أن عبد الرحمن بن عوف استأجر أرضًا، فبقيت في يده إلى أن مات، فقال أهله: كنا نرى أنها له حتى وصى بها، وذكر: أن عليه شيئًا من أجرتها) .
وما روي خلاف ذلك عن أحدٍ من الصحابة.
وأما القياس: فلأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان.. جاز عقد الإجارة على المنافع.
[مسألة: لا أجرة على المنفعة المحرمة]
] : ولا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة، مثل: أن يستأجر رجلًا ليحمل له خمرًا لغير الإراقة.(7/288)
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن الله الخمرة وحاملها» . وإذا كان حملها محرمًا.. قلنا: منفعتها محرمة، فلم يجز أخذ العوض عليها، كالميتة، والدم.
وإن استأجره على حمل خمر لإراقتها.. قال ابن الصباغ: صحت الإجارة؛ لأن إراقتها واجبة.
[فرع: الإجارة لما فيه نفع]
ذكر الصيدلاني: أن الشافعي قال في " حرملة ": (يجوز الاستئجار على كنس الخلاء؛ لأنها تقع على منفعة وإن كان بإخراج نجاسة، فصحت كالحجامة) .
قال الشافعي: (وإن استأجره لطرح بهيمة ماتت بجلدها.. لم تصح الإجارة؛ لأن جلدها لا يجوز أن يكون ثمنًا، فلم يجز أن يكون أجرة، فإن رافعه إلى الحاكم، فإن كان قبل العمل.. فلا شيء له، وإن كان بعد العمل.. استحق أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له) .
فإن كان الأجير قد سلخ الجلد.. قال ابن الصباغ: رده إليه؛ لأن يد مالك الشاة مقرة عليه، وله استصلاحه.
[فرع: استئجار الكلاب]
وهل يجوز استئجار الكلاب المعلمة؟ فيه وجهان:
من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن منفعتها مباحة، فجاز استئجارها، كسائر المنافع المباحة.
ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنها منفعة غير مملوكة، وإنما أبيحت للحاجة، كالميتة للمضطر.
والدليل على أنها غير مملوكةٍ: أنها لا تضمن بالغصب، وكل منفعة لا تضمن بالغصب، لا يصح الاستئجار عليها.(7/289)
فإن استأجر بيتا ليتخذه بيت نارٍ، أو كنيسة، أو ليبيع فيه الخمر.. لم تصح الإجارة. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه فعل محظور، فلا يجوز الاستئجار عليه، كما لو استأجر امرأة ليزني بها.
وإن استأجر دارًا أو بيتًا ليتخذه مسجدًا ليصلي فيه.. صحت الإجارة، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح عقد الإجارة بذلك؛ لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال، فلا تجوز الإجارة له، كما لو استأجر امرأة ليزني بها) . وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك فعل جائز، فجاز الاستئجار له، كالخياطة. وما ذكروه.. فلا يصح؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، فلا ينتفع بها المستأجر، بخلاف المسجد، ويفارق الزنا، فإنه فعل محظور.
[فرع: لا يستأجر الفحل للضراب]
] : ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجوز) وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا، لأنها منفعة تستباح بالإعارة، فاستبيحت بالإجارة، كسائر المنافع.
والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» ، وبعضهم يرويه: (عن ثمن عسب الفحل) . وقد اختلف في العسب:
فقال الأموي، وأبو عبيدٍ [في " غريب الحديث " 1/154] : هو الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، يقال: عسبت الرجل أعسبه عسبًا: إذا أعطيته الكراء على ذلك، وعلى هذا تحمل رواية من روى: (ثمن عسب الفحل) ، أي: عن كراء الفحل.
وقال بعض أهل اللغة: العسب: هو الضراب نفسه؛ لقول الشاعر، وذكر قومًا أسروا له عبدًا، فرماهم به:(7/290)
فلولا عسبه لتركتموه ... وشر منيحةٍ عسب معار
ويروى:
فلولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحةٍ هنه معار
وعلى هذا تحمل رواية من روى: (عن ثمن عسب الفحل) ، ولأن ذلك لا يقدر على تسليمه؛ لأنه متعلق باختيار الفحل وشهوته.
فإن استعار من رجل فحلًا، وأعطاه هدية أو كرامة.. جاز لمالك الفحل قبولها.
وقال أحمد: (لا يجوز؛ لأن ما منع من أخذ الأجرة عليه.. لا يجوز قبول الهدية لأجله، كمهر البغي، وحلوان الكاهن) .
دليلنا: أنه هدية لأجل منفعة مباحة، فجاز أخذها، كالهدية للحجام، وأما البغي والكهانة: فهما شيئان محظوران، فلم يجز أخذ الهدية لأجلهما.
[فرع: استئجار الأموال]
ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير ليتجر بها؛ لأنه لا يمكن التجارة بها إلا بإتلافها، والإجارة لا تصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. وهل تصح إجارتها ليجمل بها الدكان، ويتركها التاجر في يده، ويقلبها ليأمنه الناس ويعاملوه؟
فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين، فهي كسائر المنافع.(7/291)
والثاني - وهو الصحيح -: لا تصح؛ لأنها منفعة لا تضمن بالغصب، فلم يصح الاستئجار عليها كوطء الأمة، وما ذكره الأول.. يبطل بالطعام، فإن الطعام يتجمل به الحناط بتركه في دكانه ليعامله الناس، ومع هذا فلا يصح إجارته لذلك. وهل يصح استئجار الطعام ليعاير به الكيال والمكاييل؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.
[فرع: استئجار البستان للثمرة]
وإن استأجر بستانًا لأخذ ثمرته، أو استأجر موضعًا ليرعى فيه.. لم يصح؛ لأن الثمرة والمراعي أعيان، فلا تستباح بعقد الإجارة.
وإن استأجر بستانًا لينظر إليه.. لم يصح؛ لأنه يملك النظر إليه من غير إذن صاحبه، فبذل المال في ذلك سفه، فلم يصح.
وإن استأجر أشجارًا ليجفف عليها الثياب، أو ليشد عليها حبلًا يجفف عليه الثياب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها منفعة غير مقصودة.
والثاني: يصح؛ لأنها منفعة مباحة، فهي كسائر المنافع.
قال الشيخ أبو إسحاق: وكذلك الوجهان فيمن استأجر شجرًا للاستظلال به، ولعله أراد: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجر، فأما إذا كان قعوده في ملكه، أو في موضع مباح، بأن يكون الشجر يجاوره بملكه، أو بموضع مباح، وظلها فيه.. فلا يصح استئجاره لذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه يملك القعود في ظلها من غير إذن صاحب الشجرة، وبذل المال فيه من أكل المال بالباطل.
ولو قيل: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجرة.. صحت الإجارة، وجهًا واحدًا، كما لو استأجر منه بيتًا ليستظل فيه.. لم يكن بعيدًا.
وإن استأجر حبلًا ليجفف عليه الثياب.. قال ابن الصباغ: صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك منفعة مقصودة منه.(7/292)
[فرع: استئجار الكتب]
] : وإن استأجر كتابًا فيه قرآن، أو فقه، أو طب، أو شعر مباح، وما أشبه ذلك ليقرأ فيه.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح، كما لا يصح أن يستأجر سقف بيت فيه تصاوير لينظر إليها) .
دليلنا: أن هذا منفعة مباحة، فجاز عقد الإجارة عليها، كلبس القميص، وأما النظر إلى السقف والتصاوير: فليس بمقصود.
قال ابن الصباغ: وإن كان النظر إلى السقف شيئًا مقصودًا مباحًا.. جاز استئجاره لذلك أيضًا.
[فرع: استئجار حائط لأجل وضع خشبه]
فإن استأجر حائطًا ليضع عليه خشبًا معلومة، مدة معلومة.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على استيفائها، فصحت الإجارة عليها؛ كما لو استأجر سطحًا لينام عليه، أو ثوبًا ليلبسه.
[فرع: الاستئجار لاستيفاء القصاص]
وإن استأجر رجلًا يستوفي له القصاص في الطرف، أو في النفس.. صح.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح في النفس؛ لأن عدد الضرب مجهول) .
دليلنا: أن هذا حق يجوز التوكيل في استيفائه، فجاز عقد الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف، وتكون الأجرة هي على المقتص منه.(7/293)
وقال أبو حنيفة: (هي تكون على المقتص له) .
دليلنا: أنها أجرة تجب لإيفاء حق، فكانت على الموفي، كأجرة الكيال والوزان، وذلك: أنه إذا باع عشرة أقفزة من صبرة، أو عشرة أرطال من ظرف سمن.. فإن الكيل يجب على البائع، وأجرة الكيال عليه. وإن باعه صبرة، أو سمنًا في ظرفٍ، فأراد المشتري أن يعرف كيلها، أو وزنه.. فإن أجرة الكيال والوزان عليه. وكذلك: أجرة النقاد إن باعه بدنانير معينة.. فأجرة ناقد الدنانير على البائع.
وإن باعه بدنانير في الذمة.. فأجرة ناقدها للقبض على المشتري؛ لأن الإيفاء واجب عليه.
[فرع: الاستئجار للبيع والشراء]
إذا استأجر رجلًا ليبيع له ثوبًا بعينه.. صحت الإجارة، وإن استأجره ليشتري له ثوبًا بعينه.. قال ابن الصباغ: لم تصح الإجارة عندي.
والفرق بينهما: أن البيع في العادة ممكن؛ لأنه لا ينتفي الراغب فيه أصلًا، وأما الشراء بشيء معين: فلا يكون إلا من واحدٍ، وقد يبيع، وقد لا يبيع، فلا يمكن تحصيل العمل بحكم الظاهر.
وإن استأجره لشراء شيء، ووصفه، ولم يعينه.. جاز؛ لأن الظاهر أنه يمكنه شراؤه.
[فرع: استئجار الكافر المسلم]
وإن استأجر الكافر مسلمًا.. نظرت:
فإن استأجره لعمل في ذمته.. صح؛ لأنه لا صغار عليه في ذلك.
وإن استأجره لعمل مقدر، في زمان معلوم.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناءً على القولين في جواز شراء الكافر للمسلم؛ لأن في ذلك استيلاء عليه وصغارًا، كالملك.(7/294)
و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ذلك عمل في مقابلة عوض، فأشبه العمل في ذمته، ويخالف الملك؛ لأنه يقتضي تسلطا واستدامة ملكه عليه.
[مسألة: من يملك الإجارة وبم تنعقد؟]
ولا تصح الإجارة إلا من جائز التصرف في المال؛ لأنه تصرف في المال، فهو كالبيع.
وتنعقد الإجارة بلفظ الإجارة؛ لأنه لفظ موضوع له، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنعقد؛ لأنه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف ينعقد بلفظ البيع، وفيه احتراز من النكاح، فإنه لا ينعقد بلفظ البيع؛ لأنه لا يتقسط العوض فيه على المعوض.
والثاني: لا ينعقد؛ لأن البيع يخالف الإجارة في الاسم والحكم، فلم تنعقد الإجارة بلفظه، كالنكاح.
وإذا عقدت الإجارة على عين.. فاختلف أصحابنا فيما يتناوله عقد الإجارة:
فقال أبو إسحاق: إن العقد يتناول العين، ولهذا يقول: أجرتك داري. وقال أكثر أصحابنا: إن العقد يتناول المنفعة دون العين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأن الأجرة في مقابلة المنفعة.
ولهذا: إذا قبض المستأجر العين.. ضمن المنفعة دون العين، وما كان العوض في مقابلته.. فهو المعقود عليه، وقوله: (أجرتك داري) معناه: منفعة داري، ولو قال: أجرتك منفعة داري.. صح.
إذا ثبت هذا: فإن منافع العين المستأجرة تحدث على ملك المستأجر.
وقال أبو حنيفة: (المنفعة تحدث على ملك المؤاجر، ولا يملكها المستأجر بالعقد) .(7/295)
ودليلنا: أن منافع الأعيان كالأعيان الموجودة، بدليل: أنه يجوز العقد عليها، كما يجوز العقد على الأعيان الموجودة، وإذا صح العقد عليها.. فقد انتقلت إلى ملك المستأجر، فكانت حادثة على ملكه، كمنافع أعيان ماله.
[مسألة: الإجارة على الأعمال والأعيان]
يصح عقد الإجارة على الأعمال والأعيان، فأما عقدها على الأعمال: فينقسم قسمين:
أحدهما: إجارة على عمل معين، مثل: أن يقول: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب.. فيلزمه أن يخيطه بنفسه.
والثاني: على عمل في الذمة، مثل: أن يقول: استأجرتك على أن يحصل لي خياطة هذا الثوب، فيجوز أن يخيطه بنفسه، ويجوز أن يستأجر غيره، أو يستعينه عل خياطته؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على عين معينة، وعلى عين موصوفة في الذمة، فكذلك الإجارة.
وأما عقد الإجارة على الأعيان: فالأعيان تنقسم قسمين: عقارًا، وغير عقار.
فأما غير العقار: فيصح عقد الإجارة فيها على عين معينة، مثل: أن يقول: أجرني عبدك هذا، أو جملك هذا، فيملك المستأجر منفعة تلك العين المعينة، كما لو اشتراه. ويصح عقد الإجارة على عين موصوفة في الذمة، مثل: أن يقول أجرني عبدًا، أو جملًا في ذمتك، ويصفه، ويصف ما يكتري له، كما يصح أن يسلم إليه في عبد أو جمل في ذمته، فإن قال: أجرني عبدك الفلاني، ولم يكن المستأجر رآه.. فهل يصح؟ فيه قولان، بناء على القولين في بيع عين معينة لم يرها المشتري.
وأما العقار، كالدور، والأرض: فيصح عقد الإجارة عليها، ولكن لا يصح إلا على عقار معين، مثل: أن يقول: أجرني دارك هذه، أو أرضك هذه، فإن قال: أجرني دارًا، أو أرضًا في ذمتك.. لم يصح؛ لأن العقار لا يثبت في الذمة، ولهذا لا يصح السلم عليه، فكذلك الإجارة.(7/296)
[فرع: ما جاز الإجارة على كله جازت على بعضه]
] : وكل عين جاز عقد الإجارة عليها، إما معينة أو في الذمة.. جاز عقد الإجارة على جزء مشاع منها، سواء استأجرها الشريك أو غيره، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وزفر: (لا يجوز إجارة المشاع إلا من الشريك) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا تجوز إجارة المشاع بحال.
دليلنا على أبي حنيفة: أن كل عقد ملك أن يعقده مع شريكه.. جاز أن يعقده مع غير شريكه، كالبيع.
وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها منفعة يتعلق بها عقد الإجارة، فإذا جاز بيع أصلها.. جاز عقد الإجارة على تلك المنفعة، كالدار إذا كانت مقصودة، ولأن الدار إذا كانت لنفسين، فأجراها معًا من واحد.. جاز، ونحن نعلم أن كل واحد منهما قد أجر نصفه مشاعًا، كذلك إذا أجر أحد الشريكين.
[مسألة: جواز إجارة الأرض بكل عين أو منفعة]
يجوز إجارة الأرض للزراعة بكل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، سواء كان مما تنبته الأرض كالحبوب، أو مما لا تنبته الأرض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الحسن البصري، وطاووس: لا تجوز إجارة الأرض بحال، بعد أن وافقانا على جواز إجارة الدور والدكاكين.
وقال مالك: (لا تجوز إجارة الأرض بما تنبته من الحبوب، كالحنطة، والشعير، والذرة) . واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا بطعام مسمى» .
دليلنا على الحسن، وطاووس: ما ذكرناه من الأخبار في أول الباب.(7/297)
وعلى مالك: أن ما جاز أن يكترى بالذهب والفضة.. جاز بما تنبته الأرض، كالدور، والدكاكين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا بطعام مسمى» فأراد: مما يخرج من تلك الأرض، وخرج النهي على عرف أهل البلد ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يكرون الأرض بما يخرج على السواقي والجداول، أو بربع ما يخرج منها، أو بثلثه، أو بشيء مسمى مما يخرج منها، فنهاهم عن ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن اكترى أرضًا للزراعة أو للغراس.. نظرت:
فإن كان لها ماء دائم لا ينقطع في العادة، مثل: أن تكون تشرب من دجلة أو الفرات، أو كان لها نهر أو بئر، أو كان لها بركة قد جمع فيها ماء من الأمطار يكفيها، أو كانت الأرض (بعلًا) وهي: الأرض التي فيها نداوة تكتفي بها.. صحت إجارتها للزرع والغراس؛ لأنه يمكنه زراعتها مع ذلك، فصح، كما لو باعه عبدًا يملكه.
[مسألة: استأجر أرضًا لا ماء فيها]
قال الشافعي: (فإذا تكارى الأرض التي لا ماء لها، وإنما تسقى بنطف سماء أو سيل إن جاء.. فلا يصح كراؤها إلا على أن يكريه إياها أرضًا بيضاء لا ماء لها، يصنع بها المكتري ما شاء في سنته، إلا أنه لا يبني ولا يغرس، فإذا وقع على هذا.. صح الكراء، ولزمه، زرع أو لم يزرع.
فإن أكراه إياها على أن يزرعها، ولم يقل: أرضا بيضاء لا ماء لها، وهما يعلمان أنها لا تزرع إلا بمطر أو سيل يحدث.. فالكراء فاسد) .
قال أصحابنا: وإذا اكترى أرضًا ليس لها ماء قائم، وإنما تزرع على سيل نادر إن جاء، أو بالأمطار الكثيرة، ولا تكتفي بالمطر المعتاد والنطف.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يكتري هذه الأرض للزراعة.. فلا يصح؛ لأن اعتماد الزرع على السقي، فإذا لم يكن لها ماء قائم لا ينقطع في العادة.. لم يتمكن من استيفاء المنفعة،(7/298)
إذ السيل النادر مظنون، والمطر الكثير قد يقل؛ لأن العادة قد جرت أن الكثير قد يقل، فلم يصح، كما لو أكراه أرضًا لا يملكها.
الثانية: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، وهي أرض بيضاء لا ماء لها، ولا يقول: للزراعة.. قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: فتصح الإجارة؛ لأن الأرض قد تكترى للزرع وغيره، بأن يقعد فيها، أو يؤوي إليها بهائمه، أو يطرح فيها طعامًا أو حطبًا.
وقال الصيمري: لا تصح هذه الإجارة حتى يقول: أجرتكها أرضًا بيضاء لا ماء لها، تصنع بها أنت بلا ماء لنفسك ما شئت، ولا يستغنيان بقولهما: لا ماء لها، فإن لم يقولا جميع ذلك.. بطل؛ لأن الظاهر عند الإطلاق - ولا ماء لها - أن رب الأرض ربما تكلف سوق الماء إليها.
إذا ثبت هذا: فيجوز له أن يزرع هذه الأرض مدة الإجارة، ويحفر فيها بئرًا للسقي؛ لأن الزرع من منافع تلك الأرض، وله طم البئر، وله تركها إذا رضي مالك الأرض بتركها. وليس له الغرس فيها، ولا البناء؛ لأنهما يرادان للبقاء، والمكري لم يدخل على أن يبقى في أرضه شيء بعد مدة الإجارة.
الثالثة: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، ولم يقل: للزراعة، ولا أنها أرض بيضاء، فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الأرض إنما تراد للزرع في العادة والغالب، ولو شرط الزراعة.. كان باطلًا، فكذلك إذا أطلق.
والثاني: ينظر فيها: فإن كانت بحيث لا يمكن أن يساق إليها ماء من نهر لارتفاعها، ولا يتأتى فيها بئر يحفر لصلابتها أو لقلة الماء فيها.. صح الكراء؛ لأن عمله بذلك بمنزلة ما لو شرط أنها أرض بيضاء.(7/299)
وإن كانت بحيث يمكن أن يساق إليها الماء من نهر، أو يحفر فيها بئر ماء.. لم يصح الكراء؛ لأن المكتري يجوز أن يعتقد أن لها ماء، أو أن المكري يحصل لها الماء، وأنه يكتريها للزراعة، وذلك متعذر في العادة، فلم يصح.
قال الشيخ أبو حامد: وقد ذكرها أبو إسحاق المروزي في " الشرح "، وسها في كلمة، فقال: فيها وجهان، أحدهما: لا يصح إذا شرط زرعها. وجميع أصحابنا قالوا: إذا شرط زرعها.. لم يصح، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان عند الإطلاق.
وإن كانت الأرض مما يكتفي زرعها بالمطر القليل.. قال الشيخ أبو حامد: صحت إجارتها للزرع؛ لأن الله تعالى ما أجرى العادة بقطع الأمطار جملة، وإنما أجرى العادة بأن المطر قد يقل، فلذلك قلنا: لا تصح إجارة الأرض للزرع التي لا يكتفي زرعها إلا بالمطر الكثير.
وإن كانت الأرض لا تشرب إلا من زيادة نهرٍ، فإن كانت زيادته نادرةً، فإن اكتراها للزراعة بعد زيادة الماء.. صح؛ لأن الانتفاع بها ممكن، وما يتخوف في ثاني الحال من نقص يؤثر بالزرع.. لا يؤثر، كمن اشترى عبدًا، فإنه يصح وإن كان يتخوف موته أو إباقه. وإن اكتراها للزراعة قبل زيادة الماء.. لم يصح؛ لأنه قد يزيد، وقد لا يزيد، وذلك ضر مظنون، فلم يصح.
فإن اكتراها على أنها ارض بيضاء لا ماء لها، ولم يقل: للزراعة.. صح، كما قلنا في الأرض التي لا ماء لها. وإن اكتراها، ولم يقل: إنها أرض بيضاء لا ماء لها، ولا أنه يكتريها للزراعة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن لها ماءً بحالٍ؛ لأنه يمكن أن يسقي من النهر بالدواليب وإن كانت عالية.
فإن كانت الزيادة معتادةً.. صحت إجارتها للزراعة قبل وجود الزيادة، فكذلك(7/300)
تصح إجارة أرض البصرة التي تشرب من المد للزرع؛ لأن ذلك معتاد لا يختلف؛ لأن الماء يمد كل يوم مرتين.
قال ابن الصباغ: وكذلك تصح إجارة الأرض التي تشرب بالمطر المعتاد للزرع قبل مجيء المطر، ولعله أراد الأرض التي تكتفي بالمطر القليل، كما ذكره الشيخ أبو حامد.
[فرع: استأجر أرضًا مغمورة بالماء]
وإن استأجر أرضًا وفيها ماء، فإن كان الماء كدرًا لا ترى معه الأرض، ولم يكن رأى الأرض قبل ذلك.. لم يصح، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يجوز عقد الكراء على عين لم يشاهدها، وإن كان قد رأى الأرض قبل ذلك، أو كان الماء صافيًا ورأى الأرض وفيها الماء.. نظرت:
فإن استأجرها لزرع يصلح مع قيام الماء فيها، كالأرز، وما أشبهه.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع بها عقيب العقد.
وإن استأجرها لزرع لا يصلح مع قيام الماء فيه، كالحنطة، والشعير، والذرة، فإن كان فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء منها، وتزرع بعد ذلك.. صحت إجارتها؛ لأنه يمكن زراعتها. وإن لم يكن فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء، ويعلم أن الماء لا ينحسر عنها بالشمس والريح.. لم تصح إجارتها للزرع؛ لأنه لا يتمكن من زراعتها.
وإن كان يعلم في العادة أن الماء ينحسر عنها بطلوع الشمس وهبوب الريح.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها في الحال.(7/301)
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يصح، وهو الصحيح؛ لأنه يعلم بحكم العادة إمكان زراعتها، وكون الماء فيها هو من عمارتها، فلا يمنع زراعتها وقت الزراعة.
وليس من شرط الإجارة حصول الانتفاع بها في جميع مدتها، ألا ترى أنه يجوز أن يستأجر الأرض للزراعة سنتين، والزراعة لا تكون إلا في بعضهما.
[فرع: خوف غرق الأرض لا يمنع الإجارة]
قال في " الأم " [3/247] : إذا كانت الأرض على صفة يمكن زرعها، إلا أنه يخاف عليها الغرق، وقد تغرق، وقد لا تغرق.. جازت إجارتها؛ لأن الظاهر عدم الغرق، والأصل السلامة.
[فرع: الاستئجار لتعليم سورة كريمة]
] : وإن استأجر رجلًا على تحصيل تعليم سورة من القرآن، والأجير لا يحفظها.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه تحصيل تعليمه، بأن يستأجر من يحفظها ليعلمه.
وإن استأجره ليعلمه سورة، والأجير لا يحفظها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها، فهو كما لو أجر عبد غيره.
والثاني: تصح؛ لأنه يمكنه أن يتعلم من غيره ويعلمه.
[مسألة: الاستئجار على منفعة معلومة]
ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما لم يجز العقد على الأعيان مع الجهل بها.. فكذلك العقد على المنافع.
إذا ثبت هذا: فإن المنافع تنقسم ثلاثة أقسام:
[الأول] منها: ما لا يتقدر إلا بالمدة.(7/302)
و [الثاني] منها: ما لا يتقدر إلا بالعمل.
و [الثالث] منها: ما يتقدر بالمدة أو بالعمل.
فأما ما لا يتقدر إلا بالمدة: فإجارة العقار كله، كالأرض، والدور، والحوانيت؛ لأنه ليس للعقار عمل معلوم، فلم يتقدر العقد على منفعته إلا بالمدة، وكذلك: الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها لا تتقدر معرفته إلا بالزمان، فيقول: استأجرتك لتطين لي شهرًا، أو تجصص لي شهرًا؛ لأنه لا يمكن تقدير العمل فيه؛ لأن بعضه يكون رقيقًا، وبعضه يكون ثخينًا؛ لاختلاف أرض السطح والحائط، وكذلك: الإجارة على الرضاع لا تقدر المنفعة فيها إلا بالزمان؛ لأنه لا يمكن تقدير اللبن الذي يشبع به الصبي.
وأما ما لا تتقدر المنفعة فيه إلا بالعمل: فمثل أن يقول: استأجرتك لتبيع لي هذا الثوب أو لتخيطه، أو استأجرتك لتحج عني، أو عن فلان، أو لتقبض لي من فلان شيئًا، وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يمكن تقدير المنفعة فيها بالمدة.
وأما ما تتقدر المنفعة فيه بالعمل أو بالمدة: قال الشيخ أبو حامد: فمثل أن يقول: أجرني دابتك هذه لأركبها إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو أجرني عبدك هذا ليخدمني شهرًا، أو ليخيط لي شهرًا، أو ليبني لي شهرًا، أو أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا أو سنة.. فيصح ذلك؛ لأن المنفعة معلومة لكل واحدٍ منهما.
فرع: [استأجره ليخيط ثوبًا في يوم] :
وإن قال: أجرني عبدك ليخيط لي هذا الثوب يومًا.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف، ومحمد: يصح.(7/303)
دليلنا: أن تصحيحها يؤدي إلى التناقض؛ لأنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم، فإن طولب بالعمل في بقية اليوم.. أخل بشرط العمل، وإن لم يطالب بالعمل.. أخل بشرط المدة، وإن قال: استأجرتك لتحصل لي خياطة خمسة أيام.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح؛ لأن المنفعة مجهولة؛ لأن الخياطين تختلف أعمالهم، وإنما تصح الإجارة، بأن يقول: استأجرتك لتخيط لي خمسة أيام، أو لتخيط هذا الثوب، أو لتحصل لي خياطة هذا الثوب؛ لأن المنفعة في ذلك كله معلومة.
[فرع: شرط مدة الإيجار أن تكون مقدرة]
وما قدر من الإجارة بالمدة: فمن شرط المدة أن تكون معلومة الابتداء والانتهاء، فيقول: أجرني دارك هذه مدة شهر من هذا الوقت، أو من الآن، فإن قال: شهرًا أو سنة، ولم يقل من الآن، أو من هذا الوقت.. لم تصح.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا أطلق.. اقتضى أن يكون أولها عقيب العقد) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الشهر، وذلك غير معلوم، بل يجوز أن يكون هذا الشهر أو غيره، فلم تصح، كما لو قال: بعتك عبدًا.
إذا ثبت هذا: فإن من شرط المدة أن تكون متصلة بالعقد، فإن قال: أجرتك داري شهر رجب، وهو في جمادى.. لم تصح الإجارة.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أن الإجارة عقد بنفسها يتقسط العوض فيها على المعوض، فإذا عقدت على معنى ينافي الشروع في قبضها عقيب العقد.. لم تصح، كما لو باعه عبدًا آبقًا، أو مغصوبًا.
فقولنا: (يتقسط العوض فيها على المعوض) احتراز من نكاح الصغيرة، فإنه(7/304)
يصح، وإن كان لا يتأتى القبض فيها عقيب العقد الأول. أو نقول: لأن عقد الإجارة معاوضة محضة، فبطل فيما لا يتأتى فيه القبض عقيب العقد، كالبيع. ولا يبطل ببيع العين الغائبة، فإن قبضها يكون في موضعها.
وإن استأجر من رجل عينًا شهر شعبان، ثم استأجرها منه شهر رمضان قبل انقضاء شعبان.. فهل تصح الإجارة في شهر رمضان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن مدة إجارة العقد الثاني لم تتصل بوقت العقد، فلم تصح، كما لو كانت العين في إجارة غيره في شعبان، فأجرها من الثاني قبل انقضاء إجارة الأول.
والثاني: تصح، وهو المنصوص؛ لأن العين في يد المستأجر، ولا حائل بينه وبينها، فصار كما لو جمع في الإجارة بين الشهرين.
[فرع: الإجارة المطلقة بأجرة معينة]
وإن قال: أجرتك داري كل شهر بدينار، ولم يبين عدد الشهور.. لم تصح الإجارة.
ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه تصح في الشهر الأول بدينار، وتبطل فيما زاد عليه، وهو قول أبي حنيفة، واختيار أبي سعيد الإصطخري، إلا أن أبا حنيفة قال: (لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة عند انقضاء الشهر، فإذا لم يفعلا حتى مضى يوم من الشهر الثاني.. فليس لواحد منهما أن يفسخ) .
وقال مالك: (الإجارة صحيحة، وكلما مضى شهر.. استحق دينارًا، إلا أنها غير لازمة) .
دليلنا: أن قوله: (كل شهر) لا نهاية له، وإذا كانت مدة الإجارة مجهولة.. لم تصح، كما لو قال: أجرتك زمانًا، ولأن الشهر الأول وإن كان معلومًا، إلا أنه(7/305)
أضيف إلى مجهول، والمعلوم إذا أضيف إلى مجهول.. صار الجميع مجهولًا، فصار كما لو قال: أجرتك داري هذه ودار أخرى بمائة.
وإن قال: أجرتك داري هذه سنة من هذا الوقت، فإن قال: سنة عددية، أو سنة بالأيام.. كانت الإجارة ثلاثمائة وستين يومًا، وإن قال: سنة هلالية.. كانت الإجارة اثني عشر شهرًا، تمت الشهور أو نقصت.
فإن عقد الإجارة في آخر جزء من الشهر.. اعتبر جميع شهور السنة بالأهلة، وإن عقد الإجارة بعد أن مضى جزء من الشهر، أو بقي منه جزء بعد العقد.. اعتبر ما بقي من هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة، وتمم الشهر الأول بالعدد بعد الأحد عشر.
فإن قال: أجرتك سنة وأطلق، ولم يقل: عددية ولا هلالية.. انصرف ذلك إلى الهلالية؛ لأنها هي السنة المعهودة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] .
وإن أجره سنة شمسية، أو رومية، أو فارسية.. فذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أن الإجارة لا تصح؛ لأن هذه السنة تزيد على السنة الهلالية، وتلك الزيادة غير معلومة، بل تختلف، فإنها سنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا ونصف يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وثلاثة أرباع يوم، إلا أن تكون هذه الزيادة معلومة عند المتعاقدين، فتصح الإجارة. فإن جهلا ذلك أو أحدهما.. لم تصح.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا أجره سنة شمسية.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأنه على حساب النسيء فيه أيام، والنسيء حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وأراد بقوله: (النسيء) ما ذكروه من التقدم والتأخر لأجل الزيادة والنقصان في السنة؛ لأن النسيء المذكور في الآية: أن العرب كانت تؤخر تحريم المحرم إلى صفر.
والثاني: تصح؛ لأن مدة الإجارة معلومة، فهو كالنيروز، والمهرجان.(7/306)
[فرع: شرط بيان جنس الانتفاع بالمؤجر]
إذا قال: أكريتك هذه الأرض، وأطلق، ولم يبين جنس الانتفاع بها.. لم يصح؛ لأن الأرض تكرى للزرع، وللغراس، وللبناء، فإذا لم يبين واحدًا منها.. لم يصح، وإن قال: أكريتكها لتزرع فيها زرع كذا.. صح، وإن قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزرع.. صحت الإجارة؛ لأن أي زرع زرعه.. فهو مأذون له فيه، وإن قال: لتزرعها، وأطلق.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الزروع يختلف ضررها في الأرض.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يصح؛ لأن الإطلاق يعم الزروع، وقد ثبت أنه لو قال: لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزروع.. صح، فإذا أطلق.. حمل على العموم.
وإن أراد أن يغرسها أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ضررهما أكثر من ضرر الزرع.
[فرع: أجرة الأرض للغراس]
] : فإن قال: أجرتك هذه الأرض لتغرسها الغرس الفلاني.. صح، وإن قال: لتغرسها ما شئت، أو لتغرسها أضر الغروس.. صح، وإن قال: لتغرسها، وأطلق.. ففيه وجهان، كالزرع، الأصح: أنه يجوز.
فرع: [استأجر أرضًا للغراس فزرعها] : وإذا استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرع فيها؛ لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس.
فرع: [أجره ليزرع وليغرس ولم يبين] :
إذا قال: أكريتك هذه الأرض، فازرعها أو اغرسها، أو قال: فازرعها أو اغرسها ما شئت.. قال الشافعي: (فالكراء جائز) . وقال المزني: الأشبه - بقوله -:(7/307)
لا يجوز؛ لأنه عقد على زرع وغرس ولم يبين قدر كل واحد منهما، فكان مجهولًا.
واختلف أصحابنا في تأويلها:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليس تأويلها ما ذكره المزني، وإنما تأويلها: أنه اكتراها ليغرسها كلها إن شاء، أو ليزرعها كلها إن شاء؛ لأنه إذا اكتراها للغراس.. فقد استفاد به الزرع؛ لأنه أقل ضررًا، فإذا ذكره كان تأكيدًا. فأما إذا أراد زرع بعضها وغرس بعضها.. لم يصح؛ لما ذكره المزني.
وقال أبو الطيب بن سلمة: بل الإجارة صحيحة؛ لأنه إذا استأجر على أن يزرع ويغرس.. فقد استأجرها للأمرين معًا، فكذلك إذا استأجرها على أن يزرع أو يغرس.. صح، ويكون له زرع نصفها وغرس نصفها؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
والأول أصح؛ لأن الشافعي قد قال في " الأم ": (إذا قال: أجرتك هذه الأرض لتغرس بعضها، وتزرع بعضها.. لم يصح) .
[مسألة: إكراء البهائم]
مسألة: [جواز إكراء البهائم] :
قال الشافعي: (وإكراء الإبل جائز) .
وجملة ذلك: أن إكراء الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] [النحل: 8] . ولم يفرق بين المملوك والمكترى، وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] .
قال ابن عباس: (أراد بذلك: ليس عليكم جناح أن تحجوا وتكروا جمالكم) .
وهذا إجماع لا خلاف فيه.
إذا ثبت هذا: فإن البهائم تكرى، لا سيما للركوب والحمل عليها والعمل،(7/308)
فإن أراد أن يكتري بهيمة للركوب.. جاز أن يكتري بهيمة معينة، وجاز أن يكتري بهيمة موصوفة في الذمة. (فالمعينة) : أن يقول: أكرني هذا الجمل، أو هذا الفرس. و (الموصوفة) : أن يقول: أكرني جملًا، أو دابة، أو بغلًا، أو حمارًا، ويذكر النوع والذكورية، والأنوثية؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن الأنثى أسهل في الركوب من الذكر. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كان في الجنس الواحد نوعان مختلفان في السير.. فهل يجب ذكر بيانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب ذكره؛ لأن سيرهما يتفاوت.
والثاني: لا يجب؛ لأن التفاوت يقل.
ولا بد أن يكون الراكب معلومًا، ولا يكون معلومًا إلا بالمشاهدة.
وقال أصحاب مالك: يجوز الإطلاق في ذلك؛ لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب. وهذا غير صحيح؛ لأن الناس مختلفون في الطول والثقل، ويتفاوتون تفاوتًا لا يمكن ضبطه بالوصف.
وأما ما يوطأ به المركوب: فإن أطلق ذلك، ولم يذكره.. وجب له أن يوطأ بما جرت العادة أن يوطأ بمثله، فإن كان المركوب فرسًا.. وطأه بالسرج واللجام، وإن كان بغلًا أو حمارًا.. وطأه بالإكاف والبرذعة، وإن كان جملًا.. وطأه بالقتب والزاملة.
وإن ذكر محملًا أو كنيسة.. كان له أن يركب به، ولا بد أن يكون المحمل معلومًا، ويصير معلومًا بالمشاهدة، وهل يصير معلومًا بالوصف؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو إسحاق:
أحدها: يصير معلومًا بالوصف، كما قلنا في السرج والقتب.(7/309)
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن محامل بغداد وخوارزم وكنائسهم تصير معلومة بالوصف؛ لأنها خفيفة لا تختلف في العادة، وأما محامل خراسان وكنائسها: فلا تصير معلومة بالوصف؛ لأنها ثقال تختلف في العادة.
والثالث - وهو الصحيح -: أنها لا تضبط بالوصف؛ لأنها تختلف اختلافًا متباينًا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ الوجه الأول.
وقال ابن الصباغ: ولا بد أن يقول: يكون المحمل مغطى أو مكشوفًا؛ لأن الغرض يختلف فيه، ولا عرف فيه، فإذا ذكر: أنه مغطى.. فهل يصح أن يطلق الغطاء؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه يصح؛ لأن ما يغطى به لا يختلف اختلافًا متباينًا، فيغطيه بلبد، أو نطع، أو خرقٍ. فإن شرط شيئًا.. تعين ما شرط، وله أن يغطي بمثله وأخف منه.
وهل يشترط بيان ما يوطأ به فوق المحمل؟ فيه وجهان، وأصحهما: أنه لا يجب، ويحمل على ما جرت به العادة.
[فرع: يذكر المكاري ما يصطحبه المسافر من حاجات وأمتعة]
وأما المعاليق التي يحتاج إليها في السفر، مثل: القدر والدلو والحبل والقربة والركوة، فإن ذكرها المكتري وكانت معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.. صح، وإن أطلق، وقال: وتحمل المعاليق.. فهل يصح؟
قال الشافعي: (الكراء فاسد) . قال: (ومن الناس من قال: هو جائز استحسانًا، ويحمل على العرف) . واختلف أصحابنا فيها:(7/310)
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه مختلف، فلا بد من بيانه.
والثاني: يصح، ويحمل على العرف، وهو الوسط؛ لأنه لا يتفاوت، فهو كغطاء المحمل والكنيسة.
ومنهم من قال: لا يصح، قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي لا يقول بالاستحسان.
[فرع: ليس للراكب اصطحاب ما لا يعتاد]
قال الصيدلاني: فإذا اكترى دابة تركب بسرج ولجام.. لم يكن للمكتري أن يعلق عليه المعاليق، كالسفرة، والسطيحة، والقربة؛ لأنه خلاف العادة.
فرع: [اشتراط المسافة أو قدر وقتها] :
وأما قدر السير ووقته: فإن شرط أن يركبها كل يوم شيئًا معلومًا، إما فرسخين، أو ثلاثة مما تقدر أن تمشي فيه مثل تلك البهيمة.. صح العقد، وحملا عليه.
قال القاضي أبو الطيب: إلا أن يكون ذلك الطريق مخوفًا، فلا يجوز تقدير السير فيه؛ لأن السير ليس إلى اختيارهما.
وإن لم يشرطا سيرًا مقدرًا في كل يوم، فإن كان لتلك الطريق منازل معروفة، وجرت العادة بالمسير فيه بزمان مخصوص من ليل أو نهارٍ.. صح العقد، وحملا على ما جرت به العادة في تلك الطريق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلدٍ فيه نقد متعارف.
وإن لم يكن لتلك الطريق منازل معروفة، ولا وقت يمشي فيه.. لم يصح العقد مع(7/311)
الإطلاق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلد لا نقد فيه غالب.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا أكرى إلى مكة في زماننا.. فلا بد أن يذكر المراحل؛ لأن السير في هذا الزمان سير لا تطيقه الحمولة.
[فرع: مكان النزول للمكتري يحمل على العرف]
وإن كان العرف في تلك الطريق النزول في بلدة، فإن اتفقا على موضع النزول في البلد.. جاز، وإن اختلفا: فقال المكتري: ننزل وسط البلد؛ لأنه أحفظ للمتاع، وقال المكري: بل ننزل في طرف البلد؛ لأنه أقرب لرعي الإبل، أو قال أحدهما: ننزل في هذا الجانب، وقال الآخر: بل ننزل في الجانب الآخر.. حمل الأمر على ما جرت به العادة في نزول القوافل في تلك البلد.
فرع: [تعيين مكان النزول] :
قال الطبري: فإذا استأجر بهيمة ليركبها من بغداد إلى البصرة، وكان منزله في البصرة، فإن قال: إلى طرف البصرة، أو إلى منزلي فيها.. صح العقد، وحملا على ذلك، وإن أطلقا.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: تصح.. فهل تنتهي الإجارة إذا بلغ إلى طرف البصرة، أو لا تنتهي حتى يبلغ منزل المكتري؟ فيه وجهان.
[مسألة: اكترى مركبة لحمولته]
فأما إذا أراد أن يكتري الحمولة للحمولة، و (الحمولة) - بضم الحاء -: الشيء الذي يحمل. و (الحمولة) - بفتح الحاء -: البهيمة التي تحمل. قال الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] [الأنعام: 142] .
قال أهل التفسير: (الحمولة) : الكبار، و (الفرش) : الصغار.
إذا ثبت هذا: فإن اكترى ظهرًا للحمولة، فلا يفتقر إلى ذكر جنس الظهر، ولا(7/312)
إلى نوعه، بل يقول: أكرني ظهر بهيمة لتحمل لي كذا وكذا، إلى موضع كذا وكذا، فيصح؛ لأنه لا غرض في معرفة جنس الظهر ونوعه؛ لأن الغرض تحصيل حمل المتاع، فعلى أي بهيمة حمله المكري من جمل، أو بغل، أو حمارٍ.. فقد حصل المقصود، بخلاف اكتراء البهيمة للركوب؛ لأن الغرض يختلف باختلاف البهيمة، فلذلك لم يكن بد من بيان البهيمة.
وأما المتاع المحمول: فلا بد من معرفة جنسه، أنه طعام، أو حديد، أو قطن؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه وإن استوى في القدر؛ لأن الحديد وما أشبهه يقع على موضع واحدٍ من الظهر، ولا يأخذ جميع الظهر، والقطن وما أشبهه يقع على جميع الظهر، وتدخل فيه الريح، ففي كل واحدٍ منهما ثقل من وجهٍ، وخفة من وجهٍ، فلذلك وجب بيانه.
ولا بد من معرفة قدره، فإن كان المتاع مشاهدًا.. وجب عليه بيانه، وإن قال: أكرني ظهرًا على حمل هذا القطن، أو على حمل هذه الصبرة.. صح وإن لم يعرفا وزن القطن، ولا كيل الصبرة، كما قلنا في البيع. وإن لم يشاهده، ولكن وصفه بالوزن أو بالكيل.. صح؛ لأنه يصير معلومًا بذلك.
وأما الظروف التي فيها المتاع: فإن كانت معلومة بالمشاهدة.. جاز، وإن لم تكن مشاهدة، فإن كان المتاع موصوفًا بالوزن.. لم يفتقر إلى معرفة جنس الظرف؛ لأنها تكون من جملة الوزن، وإن كان المتاع معلومًا بالكيل.. فلا بد من معرفة ظرفه، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه يختلف بالثقل والخفة.
قال الشافعي: (إلا أن يكون من الغرائر الجبلية، فيجوز أن يطلق؛ لأنها لا تختلف اختلافًا متباينًا، فكان تسميتها كافيًا) .
قال ابن الصباغ: ويذكر المدة التي يحمل فيها، والموضع الذي يحمل إليه، كما قلنا في الركوب(7/313)
قال الطبري: وإذا استأجره ليحمل له متاعًا إلى بلد، فبلغ به طرف ذلك البلد.. فللمكري حط المتاع هناك.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه أن يبلغ به إلى منزل المكتري في ذلك البلد) .
دليلنا: أن المعقود عليه هو الحمل إلى البلد، واسم البلد يقع على طرفه.
[فرع: اكترى البهيمة ليحمل عليها ما لا تطيقه]
وإن اكترى منه بهيمة ليحمل عليها متاعًا لا تقدر عليه البهيمة، أو ليحمل عليها ما شاء.. لم يصح؛ لأن حملها لما لا تقدر عليه يؤدي إلى قتلها، وقوله: (ما شاء) يدخل فيه ما يقتلها، وقتلها لا يجوز.
فرع: [اكتراء البهيمة لإدارة الرحى] :
وإن اكترى دابة لإدارة الرحى.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الحجر بالمشاهدة لا بالصفة؛ لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته. ولا بد من تقدير الطحن، إما بالزمان، بأن يقول: يومًا أو يومين، أو بالعمل، بأن يقول: لطحن قفيز أو قفيزين.
وإن استأجر بهيمة لإدارة الدولاب.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الدولاب؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه، ولا يعلم إلا بالمشاهدة؛ لأنه يختلف ولا يضبط بالصفة، ويقدر ذلك بالزمان؛ لأنه لا يصير معلومًا إلا بذلك.
وإن اكتراها ليسقي عليها بالغروب.. فلا بد من معرفة الغرب؛ لأنه يختلف، ويقدر ذلك بالزمان أو بعدد الغروب، ولا يجوز أن يقدر بسقي الأرض مشاهدة ولا موصوفة؛ لأن ما تروى به الأرض من الماء مجهول.(7/314)
فرع: [استئجار بهيمة للحرث] :
وإن استأجر ظهرًا للحرث.. فلا بد من معرفة الظهر بالمشاهدة أو بالوصف، ولا بد أن يشاهد رب البهيمة الأرض المحروثة؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها، وذلك لا يضبط بالوصف، ويصح تقدير المنفعة هاهنا بالعمل، بأن يقول: أجرني هذا الظهر لأحرث عليه هذه الأرض، أو نصف الأرض.
وإن استأجره ليحرث هذه الأرض.. صح، ولا يفتقر إلى بيان جنس الظهر؛ لأن المقصود حرث تلك الأرض، فيصح وإن لم يذكر جنس الظهر، كما قلنا في حمل المتاع. وهل يصح أن يكتري ظهرًا مشاهدًا أو موصوفًا على أن يحرث عليه مدة معلومة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه مجهول.
والثاني: يصح، وهو الأصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره؛ لأن المنفعة تصير معلومة بذلك.
وإن اكترى ظهرًا غير مشاهد ولا موصوف ليحرث عليه مدة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك يختلف.
فرع: [اكتراء الظهر للدياس أو الجارحة للصيد] :
ويجوز أن يستأجر الظهر على دياس الزرع، فإن كان على دياس زرع معين.. لم يفتقر إلى ذكر جنس الظهر؛ لأن المقصود دياسه، فهو كحمل المتاع.
وإن كان على دياس مدة.. لم يصح حتى يعلم الظهر، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.(7/315)