وهل يجوز لها لبس القفازين، وهو مخيط يلبس على الكفين بمنزلة الخفين على الرجلين؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز - وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وحكي عن سعد بن أبي وقاص - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرم المرأة في وجهها» ، ولأنه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط، فجاز لها ستره بالمخيط كرجلها.
والثاني: لا يجوز، وبه قال علي، وعمر، وعائشة، وهو الصحيح؛ لحديث ابن عمر، ولأن يدها ليست بعورة منها فيتعلق بها حكم الإحرام، كالوجه.
[فرع تغطية رأس ووجه الخنثى وما يلبسه]
قال القاضي أبو الفتوح: وإن كان المحرم خنثى مشكلا، فإن غطى رأسه.. لم تجب عليه الفدية؛ لجواز أن تكون امرأة. وإن غطى وجهه.. لم تجب عليه الفدية؛(4/156)
لجواز أن يكون رجلا. وإن غطاهما جميعا.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون امرأة أو رجلا. فإن قال: أنا أكشف رأسي ووجهي.. قلنا: في إخلال بالواجب.
قال القاضي أبو الفتوح: ولو قيل: يؤمر بكشف الوجه.. كان صحيحا؛ لأنه إن كان رجلا، فكشف الوجه لا يؤثر، ولا هو ممنوع من كشفه. وإن كان امرأة فهو الواجب عليه.
قلت: وعلى قياس ما قاله القاضي أبو الفتوح: إذا لبس الخنثى قميصا أو سراويل أو خفا.. لم يجب عليه الفدية: لجواز أن يكون امرأة، ويستحب له أن لا يستر بالقميص والسراويل والخفين: لجواز أن يكون رجلا، ويمكنه أن يستر ذلك من بدنه بغير المخيط.
[مسألة حكم استعمال الطيب للمحرم]
ويحرم على المحرم استعمال الطيب في ثيابه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس ولا زعفران» ، فنص على الورس والزعفران؛ لينبه على غيرهما؛ لأن غيرهما من الطيب أعلى منهما.
ولا يجوز أن يلبس ثوبا مبخرا بالطيب، كالثوب المبخر بالند أو العود.
ولا يلبس ثوبا مصبوغا بماء الورد وغيره؛ لأن ذلك كله طيب.
ولا يجوز له الجلوس عليه، ولا الاضطجاع؛ لأن ذلك استعمال للطيب، فإن فرش فوقه ثوبا آخر غير مطيب وجلس عليه، فإن كان ذلك الثوب صفيقا.. فلا شيء عليه؛ لأن تلك الرائحة عن ثياب مجاورة.(4/157)
وإن كان رقيقا بحيث لا يمنع من مس بشرته المطيب.. كان عليه الفدية؛ لأن وجود ما فوقه كعدمه.
وإن كان رقيقا إلا أنه يمنع من مس المطيب.. كره له ذلك، ولا فدية عليه؛ لأنه غير مباشر للطيب.
[فرع زوال رائحة الثوب المطيب]
وإن انقطعت رائحة الثوب المطيب؛ لطول مكثه بحيث لا تفوح رائحة الطيب، وإن أصابه الماء.. جاز له لبسه، ولا فدية عليه وإن كان لون الطيب ظاهرا؛ لأن الاعتبار في الطيب بالرائحة دون اللون، ألا ترى أن العصفر أشهر لونا من الطيب، ولا شيء فيه؟
وهكذا إن صبغ الثوب المطيب بصبغ غيره، فقطع رائحة الطيب.. جاز له لبسه لما ذكرناه.
ولا يجوز له استعمال الطيب في خفه؛ لأنه ملبوس، فأشبه الثوب.
فإن فعل شيئا من ذلك، عالما بالتحريم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كالحلق.
[فرع استعمال الطيب في البدن أو في الأكل والشرب]
ولا يجوز له استعمال الطيب في بدنه؛ لأنه إذا لم يجز له لبس الثوب المطيب..
فلأن لا يجوز له تطييب بدنه أولى، وهكذا لا يجوز له أكل الطيب، ولا الاكتحال به، ولا الاستعاط به، ولا الاحتقان به؛ لأن ذلك أكثر من استعماله في ظاهر بدنه.(4/158)
فإن فعل شيئًا من ذلك عالما بتحريمه.. وجبت به الفدية، قياسا على الحلق وإن جعل الطيب في مأكول أو مشروب.. نظرت: فإن لم يكن له طعم ولا لون، ولا رائحة.. جاز له أكله وشربه؛ لأنه قد صار كالمعدوم. وإن بقي له رائحة.. لم يجز له أكله ولا شربه، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية.
وقال أبو حنيفة: (إن طبخ.. فلا فدية عليه؛ لأنه قد استحال بالطبخ، وإن لم يطبخ.. فلا كفارة عليه، ولكن يكره؛ لبقاء الرائحة) .
دليلنا: أن الترفه به حاصل، فهو كما لو كان متميزًا.
وإن بقي لونه دون رائحته.. فذكر الشافعي في موضع من كتبه: (أن فيه الفدية) وذكر في موضع آخر: (أنه لا فدية عليه) واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: لا فدية عليه قولا واحدا؛ لأن المقصود هو الرائحة، وقد ذهبت، وحيث قال: (عليه الفدية) .. أراد: إذا بقيت له رائحة؛ لأن اللون إذا بقي.. فالظاهر أن الرائحة تبقى.
و (الثاني) : قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الفدية؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء الرائحة.
والثاني: لا يجب عليه الفدية؛ لأن مجرد اللون ليس بطيب، كالعصفر.
وأما إذا بقي طعم الطيب لا غير.. فذكر ابن الصباغ فيها ثلاث طرق:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا فدية عليه قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان.
و [الثالث] : منهم من قال: تجب الفدية قولا واحدا؛ لأن الطعم لا يخلو من رائحة، بخلاف اللون.(4/159)
[مسألة ما يحرم من النبات للمحرم]
النبات على ثلاثة أضرب:
ضرب: ينبت للطيب، ويتخذ منه الطيب، وهو الورس، والزعفران، والورد، والكاذي، والياسمين، والصندل، فهذا لا يجوز للمحرم شمه رطبا، ولا يابسا، ولا يلبس ما صبغ به. وفي معناه: الكافور والمسك والعنبر لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على الورس والزعفران، ونبه على ما في معناهما، وما هو أعلى منهما) .
وقال الصيدلاني: و (العنبر) : نبت ينبت في البحر يبلعه حوت، وأما (الكافور) : فهو صمغ شجرة..
وضرب: لا ينبت للطيب! ولا يتخذ منه الطيب، مثل: الشيح، والقيصوم وشقائق النعمان، والإذخر. وكذلك ما يؤكل منه، كالتفاح، والسفرجل، والأترج، والزنجبيل، والدارصيني، والمصطكي، والفلفل، وما كان(4/160)
في معناه، فهذا يجوز للمحرم شمه وأكله وصبغ الثوب به؛ لأنه لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب.
وضرب: ينبت للطيب، ولا يتخذ منه الطيب، كـ (الريحان الفارسي) : وهو ما لا يبقى ريحه على الماء. والآس، والنرجس واللينوفر، والرياحين كلها، ففيها قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجوز للمحرم شمها وصبغ الثوب بها) ، وبه قال عثمان بن عفان، حيث قيل له: أيدخل المحرم البستان؟ قال: (نعم، ويشم الريحان) ، ولأنه نبات لا يتخذ منه الطيب، فأشبه الشيح والقيصوم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وبه قال ابن عمر، وهو الصحيح؛ لأنه ينبت للطيب، فأشبه الورد.(4/161)
وأما البنفسج: فقد قال الشافعي: (لا شيء فيه؛ لأنه مربب للدواء) ، واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: بظاهر قوله، وأنه لا فدية فيه؛ لأنه لا يراد للطيب وإنما يراد لتربيب الدواء به.
و [الثاني] : منهم من قال: هو طيب قولا واحدا، كالورد، وإنما أراد الشافعي: (لا شيء فيه) إذا جف وربب به الدواء؛ لأن معنى الطيب قد زال عنه.
و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان، كالريحان الفارسي.
واختلف أصحابنا في القرنفل:
فذكر الصيمري: أنه طيب كالزعفران.
وذكر الصيدلاني: أنه ليس بطيب، بل هو نبت ينبته الأدميون، كالأترج والدارصيني. والأول أظهر.
[فرع استعمال العصفر والحناء للمحرم]
فرع: [استعمال العصفر والحناء] :
والعصفر والحناء ليس واحد منهما بطيب عندنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 190] : أن الشافعي قال: (لو اختضبت امرأة بالحناء، ولفت بيدها خرقة.. فعليها الفدية) .(4/162)
فمنهم من قال: فيه قولان.
ومنهم من قال: ليس بطيب قولا واحدا، وإنما القولان في لف الخرقة كالقولين في القفازين. وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال أبو حنيفة: (العصفر والحناء طيبان، فإذا لبس المعصفر، فإذا نفض عليه الحمرة.. فعليه الفدية. وإن لم ينفض عليه الحمرة.. فلا فدية عليه) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليلبسن ما أحببن من معصفر» و «نهاهن عن لبس ما مسه ورس أو زعفران» ، ولو كان المعصفر طيبا.. لما رخص لهن في لبسه وأما الحناء: فروي «أن عائشة وأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كن يختضبن بالحناء وهن محرمات» ولأنه يقصد منه لونه، فأشبه (المشق) وهو المغرة.
[مسألة الدهن للمحرم]
وأما الدهن: فعلى ضربين:
ضرب: فيه طيب.
وضرب: لا طيب فيه.
فأما ما فيه طيب: فهو كدهن الورد والزنبق، ودهن البان المنشوش فلا يجوز(4/163)
للمحرم استعماله في شيء من بدنه ولا شعره؛ لأنه طيب.
وأما ما ليس بطيب: كالزيت، والشيرج، واللبان الذي ليس بمنشوش والبنفسج، والزبد، والسمن، فيجوز له استعماله في بدنه ظاهره وباطنه، ولا يجوز له استعماله في رأسه ولحيته.
وقال مالك: (إن دهن به ظاهر البدن.. فعليه الفدية، وإن دهن به باطنه.. فلا فدية عليه) .
وقال الحسن بن صالح: إذا دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه.. فلا شيء عليه.
وقال أبو حنيفة: (إذا استعمل الزيت أو الشيرج في شيء من رأسه أو بدنه أو لحيته.. فعليه الفدية، إلا أن يداوي به جرحه أو شقوق رجله) .
دليلنا: ما روى ابن عمر، وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دهن بدنه بزيت غير مقتت، وهو محرم» قال أبو عبيد: أي: غير مطيب. وهذا على مالك وأبي حنيفة.
وعلى الحسن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الحاج أشعث أغبر) والدهن في الرأس واللحية يزيلهما، فمنع منه.(4/164)
فإن دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه وهو أصلع، أو دهن الأمرد لحييه بذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لا يوجد فيه ترجيل الشعر.
وإن كان رأسه محلوقا، فدهنه بما لا طيب فيه قبل أن ينبت الشعر ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] :
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: أن عليه الفدية؛ لأن الدهن يحسن نبات الشعر ويزينه، فهو كما لو دهن الشعر.
والثاني - وهو قول المزني، واختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] أنه لا شيء عليه، إذ لا شعر عليه. فيزول به شعثه.
وإن كان في رأسه شجة، فجعل الدهن في داخلها.. قال الصباغ: فلا شيء عليه.
[فرع شم الريح الطيب للمحرم من غيره]
وللمحرم أن يجلس عند الكعبة وهي تجمر، وإن كان يشم ريح الطيب؛ لأن ذلك ليس مما يتطيب به الإنسان في العادة. ولا يكره له الجلوس عندها؛ لأن ذلك قربة وله أن يجلس عند العطار، وعند رجل مطيب، ولا شيء عليه في ذلك كله لما ذكرناه، وهل يكره له ذلك؟ ينظر فيه:
فإن جلس إليه لحاجة.. لم يكره.(4/165)
وإن جلس ليشم الطيب.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين:
أحدهما: لا يكره، كما لا يكره الجلوس عند الكعبة وهي تجمر.
والثاني: يكره له ذلك، كما لو أخذ الطيب في صرة فشمه.
[فرع شراء المحرم الطيب]
ويجوز للمحرم أن يشتري الطيب، كما يجوز له أن يشتري المخيط والجارية.
قال الشافعي في " الأم " [2/129] (فإن عقد طيبا، فحمله في خرقة أو غيرها وريحه يظهر منها.. لم يكن عليه فدية، وكرهت له ذلك) .
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: إذا جعل المسك في خرقة، وقصد شمه.. لزمته الفدية، وحمل كلام الشافعي إذا لم يقصد شمه.
وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 191] : التطيب يقع بإمساك الطيب معه وإن لم يستهلك عينه.
ومن قال بالأول.. قال: هذه رائحته عن مجاورة، فأشبه إذا جلس في العطارين.
[فرع مس المحرم الطيب]
وإذا مس المحرم طيبا.. فلا يخلو: إما أن يكون رطبا أو يابسا.
فإن كان يابسا، كالمسك والكافور والذريرة، فإن علق بيده لونه وريحه.. كان عليه الفدية؛ لأن الطيب هكذا يستعمل، فهو كما لو تبخر بالعود.(4/166)
فإن بقي في يده الرائحة، دون اللون.. ففيه قولان:
أحدهما: لا فدية عليه؛ لأن هذه الرائحة عن مجاورة، فهو كما لو جلس عند الكعبة وهي تجمر.
والثاني: عليه الفدية؛ لأن هذه رائحة عن مباشرة، فهو كما لو بقي معه اللون.
وإن كان الطيب رطبا، فإن علم أنه رطب، وقصد إلى مسه، فعلق بيده منه.. لزمته الفدية. وإن مسه، وعنده أنه يابس، فكان رطبا، فعلق بيده منه.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأنه مس الطيب عن قصد منه وعلق به، فكان عليه الفدية، كما لو مسه مع العلم برطوبته.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأن تعلق الطيب بيده كان بغير اختياره، فلم يكن عليه الفدية، كما لو رش عليه ماء ورد بغير اختياره.
ولو كان أخشم، فتطيب.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه استعمال الطيب مع العلم بتحريمه وإن لم ينتفع به، فوجبت عليه الفدية، كما لو حلق رأسه ولم يرتفق به.
[فرع وجوب إزالة الطيب عن المحرم]
وإذا تطيب المحرم.. وجب عليه إزالة الطيب، والمستحب له: أن يأمر محلا بإزالته عنه، حتى لا يباشره بنفسه. فإن أزاله بنفسه ومسه عند الإزالة.. جاز؛ لأن ذلك ليس بتطيب، وإنما هو إزالة.
فإن كان معه من الماء ما لا يكفيه لغسل الطيب والطهارة به، فإن لم يمكنه إزالة الطيب بغير الماء.. فإنه يغسل الطيب بالماء، ويتيمم لأن للوضوء بدلا. وإن أمكنه(4/167)
إزالة الطيب بغير ماء.. أزاله به وتوضأ بالماء؛ لأن المقصود إزالة رائحة الطيب، وذلك قد يحصل بغير الماء.
وإن كان معه ماء يحتاج إليه لغسل نجاسة عليه، وعليه طيب.. أزال النجاسة بالماء؛ لأن النجاسة تمنع صحة الصلاة، والطيب لا يمنع صحة الحج.
[مسألة عقد النكاح للمحرم]
ولا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا يزوج غيره بالولاية الخاصة، كتزوجه ابنته أو أخته، ولا أن يتوكل للزوج ولا للولي، ولا يزوج المرأة المحرمة. وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وفي التابعين: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري. وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتزوج ويزوج غيره) ، وبه قال الحكم.(4/168)
دليلنا: ما روى عثمان بن عفان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح، ولا يخطب» .(4/169)
ولأنها عبادة تحرم الطيب، فتمنع النكاح، كالعدة، وفيه احتراز من الصوم والاعتكاف.
إذا ثبت هذا: فإن عقد المحرم النكاح، أو عقد على المرأة المحرمة النكاح.. كان باطلا ويفرق بينهما بغير طلاق.
وقال مالك: (يفرق بينهما بطلقة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» ، والنهي يقتضي: فساد المنهي عنه، ولأن الطلاق من خصائص أحكام النكاح، فلم يتعلق بالفاسد، كالإيلاء والظهار.
[فرع تزويج الإمام المحرم]
وهل يجوز للإمام والحاكم المحرمين أن يزوجا بالولاية العامة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر.
والثاني: يجوز؛ لأن الولاية العامة أوسع، بدليل: أن له أن يزوج الكافرة، ولا يملك الرجل المسلم تزويج ابنته الكافرة. ولأن بالناس إلى النكاح حاجة، وفي منع النكاح من الإمام والحاكم إذا كانا محرمين مشقة.
[فرع الزواج في الإحرام الفاسد وتوكيل الحلال المحرم]
] : وإن فسد إحرامه.. لم يجز له أن يتزوج فيه، أو يزوج؛ لأن حكم الإحرام الفاسد - فيما يمنع منه - حكم الصحيح.(4/170)
قال في " الإبانة " [ق \ 196] : إذا وكل حلال محرما ليوكل له محلا، ليتزوج له.. جاز؛ لأنه مستعار بينهما.
[فرع توكيل المحل قبل إحرامه مثله ليتزوج له والعكس]
وإن وكل محل محلا ليتزوج له امرأة، فأحرم الموكل، وتزوج له الوكيل، فإن اتفق الزوجان أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساد النكاح. وإن اختلفا، فإن كان مع أحدهما بينة: أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساده أيضا.
وإن لم تكن بينة.. نظرت: فإن ادعت الزوجة: أن العقد وقع بعد الإحرام، وأنكر الزوج.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر سلامة العقد مما يفسده. وإن ادعت المرأة صحة العقد، وادعى الزوج فساده.. فالقول قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه، ولكن يحكم بانفساخه في الحال؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان قبل الدخول.. كان لها نصف المهر. وإن كان بعد الدخول.. وجب لها جميعه.
وإن لم يدع الزوجان شيئا من ذلك، وشكا: هل كان العقد قبل الإحرام أو بعده؟ قال الشافعي: (فالنكاح صحيح في الظاهر) ؛ لأن العقد قد وقع صحيحا في الظاهر.
والأصل أن لا إحرام. قال (غير أني أحب له في الورع أن ينزل عنها بطلقة؛ لجواز أن يكون قد وقع بعد الإحرام؛ لتحل لغيره بيقين) .
فأما إذا وكل المحرم محلا ليتزوج له امرأة، فحل المحرم من إحرامه، وتزوج له الوكيل بالوكالة الأولى.. فالنكاح صحيح؛ لأن الاعتبار بحال العقد، وفساد الوكالة لا يوجب فساد العقد، كما لو وكل رجلا في بيع شيء وكالة فاسدة، فباعه.. فإن البيع صحيح. ولو وكل صبي وكيلا في بيع شيء، فلم يبع الوكيل حتى بلغ الصبي، ثم باع.. فالبيع باطل.
والفرق بينهما: أن قول الصبي لا حكم له، فلم يتعلق بإذنه جواز التصرف، وليس كذلك هاهنا، فإن الوكالة وإن كانت فاسدة، إلا أن الإذن قائم.(4/171)
[فرع شهادة المحرم في النكاح وخطبة المحرم]
فإن كان الزوجان والولي محلين، والشاهدان محرمين.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه لا يصح النكاح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يشهد» ، ولأن الشهادة أحد ما ينعقد به النكاح، فمنع منه الإحرام، كالزوجين والولي.
و [الثاني]- وهو المنصوص، وبه قال عامه أصحابنا -: أنه يصح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» .
ولم يفرق في الشاهدين، بين أن يكونا محلين أو محرمين. ولأن الشاهد لا صنع له في النكاح. وأما ما احتجوا به من الخبر: فغير ثابت، وإن صح.. حمل على أنه لا يشهد في نكاح عقده الولي، وهو محرم.
قال الشافعي: (وأحب له أن لا يخطب) ؛ لحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يخطب) فإن خطب.. لم يحرم عليه.(4/172)
والفرق بين الإحرام والعدة، حيث حرمنا فيها الخطبة؛ لأنه ربما دعت الخطبة المرأة إلى أن تخبرنا بانقضاء عدتها قبل انقضائها، وهذا مأمون في مسألتنا.
[فرع جواز مراجعة المحرم]
ويجوز للمحرم أن يراجع زوجته، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أحمد: (لا يجوز له أن يراجعها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . ولم يفرق.
ولأن الرجعة عقد لا يفتقر إلى الإشهاد، فلم يمنع منه الإحرام، كالبيع. أو لأنه استباحة بضع يختص به الزوج، فلم يمنع منه الإحرام، كالتكفير في الظهار.
[مسألة تحريم الوطء والمباشرة في الإحرام]
] : ويحرم على المحرم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . ومعنى قوله: (فرض) أي: أوجب.
قال ابن عباس: (الرفث: الجماع) .
وتجب به الكفارة على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.
ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج بشهوة؛ لأنه إذا حرم عليه عقد النكاح..(4/173)
فلأن يحرم عليه المباشرة بشهوة - وهي أدعى إلى الوطء في الفرج - أولى، وتجب به الفدية على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.
[مسألة صيد المحرم]
ويحرم على المحرم أخذ صيد البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . و (الحرم) : جمع حرام، و (الحرام) : هو المحرم.
ولقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأباح الاصطياد للمحرم، إذا حل، فدل على: أنه كان قبل التحلل محرما عليه.
فإن أخذه.. لم يملكه، كما لو غصب مال غيره. فإن كان الصيد مملوكا لآدمي.. وجب عليه رده إلى مالكه. وإن كان مباحا.. وجب عليه أن يرسله في موضع يمتنع فيه عمن يأخذه. ولا يزول عنه الضمان إلا بذلك؛ لأن ما حرم أخذه لحق الغير، إذا أخذه.. وجب رده على مالكه، كالمغصوب. وإن تلف عنده.. وجب عليه الجزاء، كما لو غصب مال غيره وتلف عنده.
[فرع هلاك الصيد بإنقاذه]
قال الشافعي: (وإن خلص حمامة من فم هرة أو سبع أو شق جدار لحجت فيه أي بغرر أو أصابتها لدغة فسقاها ترياقا أو غيره ليداويها، فماتت.. فلا ضمان عليه؛ لأنه أراد صلاحها ومداواتها. ولو قال قائل: إن عليه الضمان؛ لأنه قد أراد صلاحها، إلا أنها تلفت في يده، فضمها باليد.. كان وجها محتملا) ؛ فحصل فيها قولان.(4/174)
[فرع صيد البحر]
وإن أخذ المحرم شيئا من صيد البحر.. جاز، ولا جزاء عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] .
فأحل صيد البحر، ولم يفرق، وخص تحريم صيد البر على المحرم، فدل على أن صيد البحر لا يحرم عليه.
[فرع قتل المحرم الصيد]
وما حرم على المحرم أخذه من الصيد.. حرم عليه قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
فإن قتله عمدا أو خطأ.. وجب عليه الجزاء، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال داود: (إن قتله عمدا.. وجب عليه الجزاء، وإن قتله خطأ.. لم يجب عليه) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مجاهد: إن قتله عمدا.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأن ذنبه أعظم من أن يكفره الجزاء. وإن قتله خطأ أو ناسيا لإحرامه.. وجب عليه الجزاء.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
وهذا يسقط قول مجاهد.
وعلى داود: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل. ولأن هذا تكفير يتعلق بالقتل، فاستوى فيه العمد والخطأ، ككفارة القتل.(4/175)
[فرع قتل المحرم للصيد المملوك]
وإن كان الصيد المقتول مملوكا لآدمي، فقتله ... فعليه القيمة لمالكه، والجزاء للمساكين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والمزني: (تجب فيه القيمة دون الجزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولم يفصل بين المملوك والمباح. ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام، فوجب بقتله الجزاء، كغير المملوك.
[فرع جرح الصيد وإتلاف بعضه]
ويحرم عليه جرح الصيد وإتلاف أجزائه؛ لأن ما منع من إتلافه لحق الغير.. منع من جرحه وإتلاف أجزائه، كالآدمي. فإن جرحه أو أتلف جزءا منه.. وجب عليه الجزاء.
وقال مالك وأبو حنيفة وداود: (لا جزاء عليه في جرح الصيد، ولا في قطع عضو منه) .
دليلنا: أن الصيد حيوان مضمون بالإتلاف، فوجب أن تكون الجناية عليه مضمونة، قياسا على العبد وسائر الدواب.(4/176)
[فرع تنفير الصيد]
ويحرم عليه تنفير الصيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» ، وإذا حرم ذلك في صيد الحرم.. حرم ذلك على المحرم.
فإن نفره، فتلف من نفوره، بأن صدمة شيء أو وقع في ماء أو بئر أو أكله في حال نفوره حية أو سبع.. فإن عليه الجزاء؛ لما روي: أن عمر علق رداءه، فوقع عليه طير، فخاف أن ينجسه، فطيره فنهشته حية، فقال: (أنا طردته حتى نهشته الحية، فسأل من كان معه أن يحكموا عليه، فحكموا عليه بشاة) . ولأنه تلف بسبب فعله، فهو كما لو جرحه، فمات.
قال الشافعي: (وإن كان راكبا دابة، أو سائقا لها، أو قائدا لها، فأتلفت بفمها أو يديها أو رجلها أو ذنبها صيدا.. فعليه الجزاء) ؛ لأنها في يده، فكانت جنايتها كجنايته.
[فرع قتل الصيد وغيره بسبب فعله]
قال الشافعي في القديم: (وإن رمى المحرم إلى صيد سهما، فأصابه وأنفذه إلى آخر، فأصابه وقتلهما ... كان عليه جزاؤهما) ؛ لأن الأول قتله عمدا، والثاني قتله خطأ.(4/177)
وإن رمى إلى صيد سهما.. فأصابه، فاضطرب الصيد، فوقع على فرخة فقتلها، أو على بيضة فكسرها.. كان عليه ضمان الصيد والفرخ والبيض؛ لأن الصيد قتله بفعله، والفرخ والبيض بسبب فعله.
[فرع الدلالة والإعانة على قتل الصيد]
ويحرم على المحرم أن يعين على قتل الصيد بدلالة أو إعارة آلة؛ لأن ما منع من إتلافه.. حرمت عليه الإعانة على قتله، كالآدمي. فإن خالف وأعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة.. كان الجزاء على قاتله إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا، ولا يجب على المعين جزاء، سواء كانت الدلالة أو إعارة الآلة مما يستغنى عنهما، بأن يكون الصيد ظاهرا يراه كل أحد، فدل عليه المحرم، أو أعار القاتل سلاحا ومعه مثله. أو كان ما فعله مما لا يستغني عنه القاتل، بأن يكون الصيد مختفيا لم يره غير المحرم، أو أعار القاتل سلاحا وليس مع المستعير ذلك. وبهذا قال مالك.
وقال أبو حنيفة في الدلالة الظاهرة وإعارة السلاح الذي يستغنى عنه مثل قولنا.
فأما في الدلالة الخفية وإعارة ما لا يستغني عنه القاتل.. فعلى كل واحد منهما جزاء.
وقال عطاء ومجاهد وحماد وأحمد: (إن كانا محرمين.. وجب عليهما جزاء واحد، وإن كان القاتل حلالا.. وجب الجزاء على المحرم المعين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .(4/178)
والدال والمعير ليسا بقاتلين للصيد. ولأن ضمان الصيد ضمان نفس، فوجب أن لا يتعلق بالدلالة وإعارة السلاح، كضمان الآدمي.
[فرع أكل المحرم للصيد]
يجوز للمحرم أكل ما لم يصد له، ولا أعان على قتله. فإن صيد له.. حرم عليه أكله سواء علم به وأمر، أو لم يعلم به ولم يأمر. وكذلك يحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية، وسواء أعاره ما يستغني عنه القاتل أو ما لا يستغني عنه.
وقال أبو حنيفة كقولنا فيما صيد له بأمره، أو كان له أثر لا يستغني عنه القاتل.
فأما إذا صيد له بغير علمه، أو أعان عليه بدلالة ظاهرة أو إعارة آلة يستغني عنها القاتل.. فيجوز له أكله.
وقال بعض الناس: لا يجوز للمحرم أكل الصيد بحال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيد حلال لكم، ما لم تصيدوه أو يصد لكم» . وهذا(4/179)
يبطل قول من قال: لا يحل الصيد بحال وقول أبي حنيفة.
وما «روى أبو قتادة قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم محرمون، وأنا حلال، فرأيت حمارا وحشيا، فسألتهم أن يناولوني رمحا، فلم يفعلوا، وسألتهم أن يناولوني سوطا، فلم يفعلوا، فشددت على دابتي فأخذته، فبعضهم أكل وبعضهم لم يأكل، ثم أخبروا بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " طعمة أطعمكموها الله ". وفي رواية: أنه قال: " هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا، فقال: " كلوا ما بقي» ولم يفصل في الإشارة والإعانة.
فإن خالف وأكل من لحم ما صيد له، أو أعان على قتله.. فهل يضمن ما أكله بالجزاء؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليه الجزاء) ؛ لأن الأكل ممنوع منه، كما أن القتل ممنوع منه، فإذا وجب عليه الجزاء بالقتل.. وجب عليه بالأكل.(4/180)
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأن كل لحم لو أكله الحلال.. لم يضمنه بالجزاء، فإذا أكله المحرم.. لم يضمنه بالجزاء، كما لو أكل من لحم صيد قتله بنفسه. ولأن الجزاء إنما يجب بإتلاف ما كان ناميا، كالصيد وشجر الحرم، أو ما يكون منه النماء، كالبيض. واللحم ليس بنام ولا يؤول إلى النماء، فهو كالبيض المذر، والشجر اليابس.
[فرع أكل ما ذبحه المحرم من الصيد]
إذا ذبح المحرم صيدا.. لم يحل له أكله؛ لأنه إذا لم يحل له أكل ما صيد له.. فلأن لا يحل له أكل ما ذبحه أولى، وهل يحل لغيره؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يحل) ؛ لأن كل من حل بذكاته غير الصيد.. حل بذكاته الصيد، كالحلال والذمي، وعكسه المجوسي.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحل) لأنها ذكاة ممنوع منها، لحق الله تعالى، فلم يبح الأكل، كذكاة المجوسي وفيه احتراز من ذبح شاة الغير بغير إذنه.. فإنه ممنوع منها؛ لحق مالكها.
فإن أكل المحرم من لحم ما ذبحه.. فقد فعل محرما، ولا جزاء عليه للأكل.
وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) ، وهو: ضمان قيمة ما أكل.
دليلنا: قوله: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لا يأكل، فاقتضى الظاهر: أن هذا جميع ما يلزمه.(4/181)
[فرع تملك المحرم للصيد]
ولا يجوز للمحرم أن يتهب الصيد، ولا يقبل هديته. فإن اتهبه أو قبل الهدية فيه.. لم يملكه؛ لما روى ابن عباس: «أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا فرده عليه، وقال: " إنه ليس بنا رد، ولكنا حرم» .
وكذلك لا يملك المحرم الصيد بالابتياع؛ لأنه سبب يملك به باختياره، فلم يملك به الصيد، كالهدية.
وإن مات للمحرم من يرثه، وفي ملكه صيد.. فهل يرثه المحرم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخل في ملك المحرم؛ لأن الإرث أحد أسباب الملك، فلم يملك به المحرم الصيد، كالهدية والبيع.
فعلى هذا: يبقى الصيد في حكم ملك الميت، حتى يحل المحرم من إحرامه، فيملكه.
والثاني: أنه يملكه؛ لأن الإرث أقوى من الهدية والبيع؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره.(4/182)
قال القاضي أبو الطيب: لا يتصور هذا الوجه إلا إذا قلنا: لا يزول ملكه عن الصيد بالإحرام، وأما إذا قلنا: يزول ملكه.. فلا يرثه. وهذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: المحرم يملك الصيد بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان. كما يملك الكافر العبد المسلم بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فاتهب المحرم صيدا، أو ابتاعه وقبضه، وقلنا: لا يملكه فإن تلف في يده.. قال ابن الصباغ: أو أتلفه متلف.. وجب عليه الجزاء، ولم يجب عليه قيمة الموهوب لمالكه، ووجبت عليه قيمة المبيع.
والفرق بينهما: أن الهبة الصحيحة لا تقتضي الضمان، فكذلك الفاسدة، والبيع الصحيح يقتضي الضمان، وكذلك الفاسد.
وإن كان الصيد باقيا في يده.. قال الشافعي: (فعليه إرساله) .
فمن قال من أصحابنا: إن المحرم يملك الصيد بالهبة والبيع.. تعلق بهذه اللفظة وقال: لولا أنه ملكه.. لما ملك إرساله.
ومن قال منهم: لا يملكه.. قال: أراد به إرساله من يده.
واختلف من قال: لا يملكه في كيفية الإرسال:
فقال الشيخ أبو حامد: يرده إلى يد مالكه ولا يسيبه حتى يتوحش؛ لأن ملك(4/183)
الواهب والبائع لم يزل عنه بالهبة والبيع.
وقال ابن الصباغ: بل يحمل كلام الشافعي على ظاهره، فيرسله بحيث يتوحش، ويمتنع على من يأخذه. ويرد على مالكه القيمة؛ لأن برده إلى مالكه.. لا يزول عنه ضمان الجزاء، وإنما يسقط عنه ضمان قيمته. فإذا أمكنه الجمع بين الحقين.. لم يسقط أحدهما.
فإن قيل: فكيف يسقط حق المالك من الصيد مع بقاء ملكه عليه؟
قيل: لأنه كان السبب؛ لكونه في يد المحرم، وإيجاب إرساله عليه.
[فرع الإحرام بعد بيع الصيد]
فإن باع المحل صيدا من محل، فأفلس المشتري، وقد أحرم البائع.. لم يكن له أن يرجع فيه، كما لا يجوز له أن يبتاعه.
وإن أحرم البائع، ووجد المشتري بالصيد عيبا، وأراد رده، فإن قلنا: إن المحرم يرث الصيد.. جاز للمشتري رده عليه؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، وإن قلنا: لا يرث الصيد.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يرده؛ لأن ذلك حق للمشتري، فلا يسقط بإحرام البائع.
والثاني: لا يرده؛ لأنه لا يملك الصيد، فلم يملك رده عليه.
فعلى هذا: ما يصنع المشتري؟ فيه وجهان:(4/184)
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يرد البائع عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل فيرده عليه؛ لأن الذي يتعذر هو رد الصيد دون رد الثمن.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون بالخيار: بين أن يقفه حتى يتحلل ويرده، أو يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد في الحال؛ لأنه لو ملك المشتري الثمن.. لزال ملكه عن الصيد إلى البائع ولوجب رده عليه.
[فرع الإحرام حال ملك الصيد]
وإن أحرم وفي ملكه صيد.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يزول ملكه عنه - وبه قال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة - لأنه ملكه، فلا يزول عنه بالإحرام، كالزوجة. ولأن المحل لو أخذ صيدا من الحل، وأدخله الحرم.. لم يزل ملكه عنه بدخوله إلى الحرم، فكذلك بدخوله في الإحرام.
والثاني: يزول ملكه عنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] .
ولم يفرق. ولأن الصيد لا يراد للاستدامة والبقاء، فإذا منع المحرم من ابتداء ملكه.. منع من استدامة ملكه، كلبس المخيط، وفيه احتراز من النكاح والطيب؛ لأنه لا ينكح ليطلق، ولا يتطيب ليغسله، وإنما اللباس يلبس وينزعه عند الغسل والنوم. وكذلك الصيد يتملكه ليبيعه أو يهبه أو يذبحه، فهو باللباس أشبه.
فإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. فله أن يتصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ولا يجوز له قتله، فإن قتله.. وجب عليه الجزاء.(4/185)
وإن قلنا: يزول ملكه عنه.. وجب عليه إرساله بحيث يمتنع ممن يريد أخذه، فإن تلف في يده.. نظرت: فإن تلف قبل أن يتمكن من إرساله.. فلا جزاء عليه. وإن تلف بعدما تمكن من إرساله.. كان عليه الجزاء؛ لأنه مفرط في إمساكه.
وإن أتلفه غيره، فإن كان محلا.. فلا جزاء عليه. وإن كان محرما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أن الجزاء على القاتل؛ لأنه صاحب مباشرة، والممسك صاحب سبب، والضمان يتعلق بالمباشرة.
والثاني: أن الجزاء عليهما نصفان؛ لأنه وجد من كل واحد منهما معنى يضمن به الصيد، فاشتركا في الضمان، كما لو قتلاه.
وإن لم يرسله، حتى حل من إحرامه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: أنه يلزمه إرساله؛ لأنه متعد بامتناعه من الإرسال، فلا يزول التعدي إلا بإرساله.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يعود إلى ملكه؛ لأنه إنما زال ملكه عنه بالإحرام، وقد زال الإحرام، فوجب أن يعود إلى ملكه.
فإن قلنا بالمنصوص، فقتله بعد تحلله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه محل قتل صيدا في الحل.(4/186)
والثاني - وهو المذهب -: أن عليه الجزاء؛ لأنه قد ضمنه باليد في حال الإحرام، فلم يزل عنه الضمان إلا بالإرسال. هذا مذهبنا.
وقد وافقنا أبو حنيفة: أنه لا يزول ملكه عنه بالإحرام، ولكن قال: (إن كان ممسكا له بيده.. لزمه رفع اليد عنه، وإن كان ممسكا له في بيته.. لم يلزمه رفع اليد عنه) ، ففرق بين اليد المشاهدة واليد الحكمية، وعندنا لا فرق بينهما.
دليلنا: أن كل ما لا يلزمه إزالة يده الحكمية عنه.. لا يلزمه إزالة اليد المشاهدة عنه، كسائر أملاكه.
[مسألة الصيد المتولد بين مأكول وغيره]
وإن كان الصيد غير مأكول.. نظرت: فإن كان متولدا بين ما يؤكل وما لا يؤكل كالسبع: المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل.. وجب الجزاء بقتله، تغليبا لما يجب فيه الجزاء، كما حرم أكله، تغليبا لما لا يحل أكله.
قال الشافعي: (وإذا ذبح المحرم دجاجة أهلية.. فلا جزاء عليه، ولو ذبح دجاجة حبشية.. كان عليه الجزاء) .(4/187)
قال الشيخ أبو حامد: أراد بالدجاجة الحبشية التي قد ملكت واستأنست؛ لأنها على أصلها.
[فرع ذبح ما يؤكل وجزاء ما لا يؤكل]
] : وإن ذبح المحرم الإبل والبقر والغنم.. جاز، ولا جزاء عليه، بلا خلاف.
وأما ما لا يؤكل من الوحش.. فعلى ثلاثة أضرب:
ضرب: يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو المتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل، وقد مضى ذكره.
وضرب: لا يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو الحية والعقرب والفأرة وما شاكل ذلك من حشرات الأرض، ومن الطيور: الحدأة وما لا يحل من الغراب، ومن البهائم: كالكلب العقور والذئب.
وضرب: اختلف فيه، وهو الأسد والفهد والنمر، ومن الجوارح مثل: الصقر والشاهين.. فهذا لا جزاء فيه عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يضمن بالجزاء) ، غير أنه قال في السبع: (إنه يضمن بأقل الأمرين: من قيمته أو شاة) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا جناح على من قتلهن في حل ولا حرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور» .(4/188)
فنبه بكل واحدة من هذه الخمس على ما كان في معناها: فنبه بالعقرب على الحيات؛ لأن الأذى فيهن أكثر، ونبه بالفأرة على الوزغ والقراد والحلم، ونبه بالغراب والحدأة على العقاب والصقر والبازي والشاهين؛ لأن العدوان فيهن أكثر، ونبه بالكلب على الأسد والفهد والنمر؛ لأن العقر والعدو فيهن أكثر.(4/189)
إذا ثبت هذا: فهل يكره قتل ما لا جزاء فيه؟ ينظر فيه:
فإن كان فيه أذى.. جاز لكل واحد قتله، بل هو مندوب إليه، وذلك مثل: السبع والنمر والذئب والكلب العقور وما أشبه ذلك، وكذلك حشرات الأرض، مثل: الحية والعقرب والقراد والحلم، ومن الطيور: الحدأة والغراب.
قال الشافعي: (وفي هذا المعنى الزنابير والبراغيث والقمل، غير أن المحرم لا يقتل القمل من رأسه ولحيته، فإن فعل ذلك.. تصدق بشيء لا لأجل القملة، ولكن لأجل إماطة الأذى عن رأسه، وليس ذلك بواجب عليه، وإن قتلها من ثيابه وبدنه.. فلا شيء عليه) .
وأما ما ليس بمؤذ، مثل: الخنافس والجعلان وبنات وردان والرخمة.. فالمحل والمحرم فيه سواء، فإن شاء.. قتله، وإن شاء.. تركه، والأولى أن لا يقتله؛ لأنه لا غرض له فيه.
قال الشافعي: (وأكره قتل النملة) ؛ لأنه روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها) فإن قتلها.. فلا شيء عليه؛ لأنها ليست بصيد. هذا مذهبنا.(4/190)
وقال مالك: (لا يجوز للمحرم تقريد بعيره) وروي ذلك عن ابن عمر.
وقال سعيد بن المسيب في المحرم إذا قتل قرادا: يتصدق بتمرة أو تمرتين.
دليلنا: ما روي عن عمر: (أنه كان يقرد بعيره بالسقيا بالطين الرطيب) . ولأنه يتأذى به، فأشبه الحية.
[مسألة إتلاف بيض الصيد]
كل صيد وجب على المحرم الجزاء بقتله.. وجب عليه الجزاء بإتلاف بيضه.
وبه قال كافة أهل العلم.
وقال المزني وداود: (لا يجب فيه الجزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] [المائدة: 94] .(4/191)
قال مجاهد: ما تناله أيدينا: البيض والفرخ، وما تناله رماحنا: الصيد.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كسر المحرم بيض نعامة.. فعليه ثمنها» .
إذا ثبت هذا: فإن كسر بيض الجراد.. ضمنه؛ لأن الجراد مضمون، فكذلك بيضه. وإن أخذ بيض صيد وتركه تحت الدجاجة.. نظرت: فإن حضنتها تحتها وطارت ونشأت.. فلا شيء عليه، وإن فسدت.. ضمنها.
وإن أخذ بيض دجاجة فجعلها تحت الصيد، فلم يقعد الصيد على بيضه، أو قعد عليه ففسد.. فعليه ضمان بيض الصيد؛ لأن الظاهر أنه إنما لم يقعد على بيضه لأجل ما ترك تحته من بيض الدجاج، وكذلك فساده فضمنه.
وإن نزا ديك على يعقوبة فباضت، أو نزا يعقوب على دجاجة فباضت.. لم يجز للمحرم كسر ذلك البيض تغليبا للتحريم، وكذلك لا يجوز إتلاف فرخه، فإن أتلفه.. فعليه الجزاء.(4/192)
[فرع كسر المحرم بيض الصيد]
إذا كسر بيضة من بيض الصيد.. لم يجز له أكلها، كما إذا ذبح صيدا.. لم يحل له أكله. قال الشافعي: (ويحل لغيره) .
قال الشيخ أبو حامد: هذا على أحد القولين في المحرم إذا ذبح صيدا ... هل يحل لغيره؟ وكذلك الجرادة إذا قتلها المحرم.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن البيض والجراد لا تفتقر إباحته إلى الذكاة، بدليل: أنه لو ابتلع بيضة من غير كسر.. جاز، وكذلك لو ماتت الجرادة حتف أنفها.. حلت، فلم يكن لفعل المحرم تأثير في إباحتها، بخلاف الصيد الذي لا يحل إلا بذكاة.
[فرع كسر البيض الفاسد]
] : وإن كسر بيضة مذرة - وهي الفاسدة - فإن كانت بيضة نعامة.. وجب عليه الجزاء؛ لأن لقشرها قيمة. وإن كانت من غير النعامة.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأنه لا قيمة لها.(4/193)
[فرع حلب لبن الصيد للمحرم]
فرع: [حلب لبن الصيد] :
وإن حلب لبن صيد.. ضمنه.
قال ابن الصباغ: وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة: (إن نقص الصيد بذلك.. ضمنه، وإن لم ينقص.. لم يضمنه) .
دليلنا: أنه أتلف شيئا من الصيد، فأشبه البيض والريش.
[فرع حبس الطائر في الحل وفرخه في الحرم وعكسه]
إذا حبس المحل طائرا في الحل وله فرخ في الحرم، حتى مات الطائر والفرخ.. ضمن الفرخ دون الطائر؛ لأنه أتلف الطائر في الحل، وأتلف الفرخ في الحرم بسبب كان منه في الحل، فهو كما لو رماه من الحل.
وإن حبس طائرا في الحرم وله فرخ في الحل، فمات الطائر والفرخ.. ضمنهما جميعا؛ لأنه أتلف الطائر في الحرم وأتلف فرخه بسبب كان منه في الحرم، فهو كما لو رماه من الحرم إلى الحل.
[مسألة اضطرار المحرم لفعل محظور]
مسألة: [اضطرارالمحرم لفعل محظور المحرم لفعل محظور] :
كل ما نهي عنه المحرم إذا احتاج إلى فعله، مثل: أن يحتاج إلى اللباس لحر أو برد، أو احتاج إلى الطيب لمرض، أو احتاج إلى حلق الرأس أو قطع الظفر للأذى، أو إلى قتل الصيد للمجاعة.. جاز له فعله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] [الحج: 78] .
وفي المنع من هذا عند الحاجة إليه حرج. وتجب عليه الفدية، إلا في لبس السراويل عند عدم الإزار.. فإنه لا فدية عليه، وقد مضى بيانه.(4/194)
والدليل - على وجوب الفدية في هذه الأشياء -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا فتطيب، أو به أذى من رأسه فحلق شعره ... ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. ولحديث كعب بن عجرة الذي تقدم ذكره.
[فرع صيال الصيد]
وإن صال عليه صيد، فلم يندفع عنه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه الجزاء. وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) .
دليلنا: أنه ألجأه إلى قتله، فهو كما لو قتل آدميا دفعا عن نفسه.. فإنه لا شيء عليه.
[فرع إيذاء الشعر أو قلم بعض الظفر]
وإن نبت شعر في عينيه فقلعه، أو نزل شعر حاجبيه فغطى عينيه فقص المسترسل.. فلا جزاء عليه؛ لأنه ألجأه إلى ذلك، فهو كالصيد إذا صال عليه.
فإن قيل: فقد يكثر الشعر على الرأس فيؤذيه ويحميه، فهلا أجزتم تقصيره من غير فدية؟(4/195)
قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن الحمي مضاف إلى الوقت وإن كان الشعر سببا، ألا ترى أن الشعر لا يحمي عليه في زمان البرد.
وإن انكسر بعض ظفره فأخذه.. فلا شيء عليه. نص عليه الشافعي في (مختصر الحج) ؛ لأن ذلك يؤذيه، فهو بمنزلة الشعر في عينيه. وإن أزال مع المكسور شيئا من الصحيح.. ضمنه بما يضمن به الظفر؛ لأنه لو أزال بعض الظفر ابتداء.. وجب ضمانه.
قال الشافعي: (وإن قلم بعض ظفره ولكنه لم يستوف ما على اليد منه، بل خففه أو أخذ بعضه.. ففيه الفدية، وضمنه بما يضمن جميع الظفر. وهو: مد؛ لأنه لا يتبعض) .
قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن يكون الحكم، إذا أخذ بعض شعره، كالحكم في الظفر.
[فرع افتراش الجراد الطريق وإباضة الصيد على الفراش]
وإن افترش الجراد في الطريق، فلم يجد المحرم سبيلا إلى المشي فيه إلا بقتل الجراد، فمشى فيه وقتل الجراد.. ففيه قولان:
أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه مضطر إلى قتله، فلم يجب عليه الجزاء، كما لو صال عليه صيد فقتله.
والثاني: يجب عليه الجزاء. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأنه أتلفه لمنفعة نفسه فضمنه، كما لو اضطر إلى أكله فأكله.
وإن باض صيد على فراشه فنقله عنه، ولم يحضنه الصيد حتى فسد ... ففيه قولان، كالجراد إذا مشى عليه في الطريق.(4/196)
[مسألة فعل محظور سهوا أو جهلا]
وإن لبس، أو تطيب، أو دهن رأسه أو لحيته ناسيا أو جاهلا بالتحريم ... فلا فدية عليه. وبه قال الثوري وعطاء والزهري.
وقال مالك وأبو حنيفة والمزني: (يجب عليه الفدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولم يرد رفع الفعل؛ لأن الفعل إذا وقع.. لم يرتفع، وإنما أراد رفع حكم الخطأ من الإثم والفدية.
«وروى يعلى بن أمية قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه أعرابي وعليه مقطعة - يعني: جبة مضمخة بالخلوق - فقال: يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلى هذه، فما أصنع؟ فقال: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع الجبة وأغسل الصفرة، فقال: " اصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك» . ولم يأمره بالفدية.
فإن ذكر ما فعله ناسيا، أو علم ما فعله جاهلا.. فإنه ينزع عنه اللباس ويزيل عنه الطيب في الحال إذا أمكنه ذلك وإن طال الزمان بنزع الثياب وإزالة الطيب؛ لأن ذلك ترك له. وإن تركه مع إمكانه.. لزمته الفدية قل ذلك أو كثر؛ لأنه كابتدائه للطيب واللباس.
وإن تعذر عليه ذلك، بأن كان بيده علة أو كان زمنا، ولا يمكنه نزع الثياب ولا إزالة الطيب، فانتظر من ينزع الثياب عنه ويزيل الطيب.. فلا فدية عليه؛ لأنه كالمكره على استدامته.
إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه الثياب، كما ينزع لباسه في العادة، فإن كان قميصا نزعه من قبل رأسه.(4/197)
وحكي عن بعض التابعين: أنه قال: يشق [عن] بدنه، ولا ينتظر نزعه من قبل رأسه.
دليلنا: ما روى أبو داود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن ينزع الجبة، فنزعها من قبل رأسه، ولم ينكر عليه» .
[فرع جهل معرفة الطيب]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\191] : لو علم أن الطيب محظور، ولكن تطيب بطيب وهو يجهل أنه طيب، أو يظن أنه ليس بطيب فكان طيبا.. فإن عليه الفدية، كما لو أمسك وردا وظن أنه ليس بطيب.
[فرع الترفه ناسيا أو جاهلا للمحرم وقتل غير المكلف للصيد]
فرع: [الترفه ناسيا أو جاهلا وقتل غير المكلف للصيد] :
وإن حلق الشعر، أو قلم الظفر، أو قتل الصيد ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. قال الشافعي: (فعليه الفدية) .
ولو زال عقله بجنون أو إغماء، وقتل صيدا.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى حقوق الآدميين.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه إنما منع من قتله للتعبد، والمجنون والمغمى عليه ليسا من أهل التعبد.(4/198)
فمن أصحابنا: من نقل هذين القولين إلى الناسي في إتلاف الشعر والظفر والصيد. ومنهم من قال: بل تجب الفدية على الناسي قولا واحدا؛ لأن المجنون غير مكلف، والناسي مكلف.
[فرع الجماع ناسيا أو جاهلا]
] : وإن جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يفسد حجه، ويلزمه الكفارة) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لأنه سبب يتعلق به وجوب القضاء، فاستوى عمده وسهوه كالفوات.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يفسد حجه، ولا يلزمه الكفارة) . وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
والمراد به: رفع الحكم. ولأنا لو أفسدنا الحج عليه، وأوجبنا عليه القضاء.. لم يؤمن مثل ذلك في القضاء؛ لأن الاحتراز من النسيان لا يمكن، وما كان هذا سبيله.. سقط، كما قلنا في الناس إذا أخطؤوا ووقفوا يوم العاشر أو الثامن بعرفة.
[فرع شعر المحرم على سبيل الوديعة أو العارية]
ولا يجوز للمحرم ولا للمحل أن يحلقا شعر المحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .(4/199)
والمراد به: لا يحلق بنفسه ولا بغيره، وانصرافه إلى حلقه بغيره أظهر؛ لأن العادة أن الإنسان لا يحلق رأسه بنفسه.
إذا ثبت هذا: فإن حلق واحد منهما شعر المحرم.. نظرت: فإن كان بأمره.. وجبت الفدية على المحلوق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة: «احلق رأسك، وانسك شاة» ولم يفرق بين أن يحلقه بنفسه، أو بغيره. ولأنه مستحفظ على شعره، أما على سبيل العارية أو الوديعة، فأيهما كان وأتلفه في يده باختياره.. وجب عليه الضمان، ولا يجب على الحالق شيء.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحالق محرما.. كان عليه صدقة) .
دليلنا: أنه أزال شعره بإذنه، فلم يكن على المزيل شيء، كما لو كان الحالق حلالا.
وإن حلقه غيره بغير إذنه، بأن كان نائما أو أكرهه على ذلك.. وجبت الفدية وعلى من تجب؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على الحالق قولا واحدا. فإن هرب، أو غاب، أو كان معسرا.. فهل تجب على المحلوق؟ فيه قولان.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق والشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: في الوجوب قولان:
أحدهما: يجب على الحالق ولا شيء على المحلوق. وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
ولأنه شعر زال عنه بغير اختياره، فأشبه إذا مرض وتمعط عنه شعره. ولأنه أمانة عنده، فإذا أتلفه غيره.. كان الضمان على المتلف، كالوديعة.
والثاني: يجب على المحلوق، ويرجع بها على الحالق؛ لأن المحلوق هو الذي(4/200)
ترفه بالحلق، فكانت الفدية عليه. ولأنه شعر زال عن المحرم بفعل آدمي، فكانت الفدية عليه، كما لو حلقه بإذنه.
قال الشيخ أبو حامد: وأصل المسألة أن قول الشافعي اختلف في أن شعر المحرم عنده على سبيل الوديعة أو العارية؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه كالوديعة.
فعلى هذا: إذا تلفا بغير تفريط.. فلا ضمان عليه.
والثاني: أنه كالعارية، فإذا تلف بأي وجه كان.. فعليه الضمان.
وقال القاضي أبو الطيب: هذا خطأ عندي، وينبغي أن يكون كالوديعة؛ لأن العارية ما أمسكها لمنفعة نفسه، وهذا منفعته في إزالته. ولأنه لو احترق بشرارة وقعت عليه أو تمعط بمرض.. لم يجب عليه ضمانه.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يلزم على قولنا: إنه على سبيل العارية، إذا تلف بشرارة أو مرض؛ لأن العارية إنما يجب ضمانها على المستعير إذا تلفت بغير فعل المالك وهاهنا إذا زال شعره بالاحتراق أو بالمرض.. فإنما هو بمنزلة من أعار غيره عينا، فأتلفها المالك.. فإنه لا ضمان على المستعير.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن قلنا: إن الفدية تجب على الحالق ابتداء.. نظرت: فإن أخرجها.. فلا كلام، وهو مخير في الافتداء بين: الهدي أو الإطعام أو الصيام، وإن لم يخرجها.. فقال عامة أصحابنا: للمحلوق مطالبته بالإخراج؛ لأنه وجب بسببه، وقال ابن الصباغ: ليس له ذلك؛ لأن الوجوب تعلق بالفاعل لحق الله تعالى دون المحلوق. فإن كان الحالق معسرا.. بقيت في ذمته ولا شيء على المحلوق وإن قلنا: إن الفدية تجب على المحلوق، فإن كان الحالق حاضرا قادرا على(4/201)
الكفارة.. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه أن يفتدي لأنه لا معنى أن نأمر المحلوق بالفدية، ثم يرجع على الحالق. فإن أراد المحلوق هاهنا أن يفتدي.. كان عليه أن يفتدي بالهدي، أو بالإطعام، وأما بالصيام: فلا؛ لأنه يتحمل هذه الفدية بدلا عن غيره، والصوم لا يصح فيه التحمل. وإن غاب الحالق، أو هرب، أو كان حاضرا وهو معسر بالهدي، أو الإطعام.. كان على المحلوق أن يفتدي ليسقط الفرض عن نفسه، وله أن يفتدي: بالهدي أو الإطعام أو الصيام، فإن افتدى بالهدي أو الإطعام.. رجع بأقلهما قيمة، فإن افتدى بالهدي، وكانت قيمة الطعام أقل من قيمة الهدي.. رجع عليه بقيمة الطعام. وإن افتدى بالإطعام، وكانت قيمة الهدي أقل.. رجع عليه بقيمة الهدي؛ لأن الفرض يسقط عنه بأقلهما، فإذا افتدى بالأكثر.. كان كالمتطوع في الزائد، فلم يرجع به. وإن افتدى بالصوم.. فالمذهب: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه له قيمة للصوم، فيرجع به. ومن أصحابنا من قال: يرجع عليه بثلاثة أمداد؛ لأن صوم كل يوم مقدر بمد. وليس بشيء.
وإن حلق رأسه، والمحلوق متيقظ ساكت لم يمنعه.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو أكرهه، فيكون على قولين؛ لأن سكوت المتلف عليه.. لا يوجب ضمان ما يجب له، كما لو خرق رجل ثوبه وهو ساكت.
و [الثاني] : منهم من قال: حكمه حكم ما لو أمره.. فتكون الفدية على المحلوق. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشعر عنده إما أن يكون على سبيل الوديعة، أو العارية، وأيهما كان.. فإنه إذا قدر على منع من يتلف ذلك، فلم يفعل.. وجب عليه الضمان.(4/202)
[مسألة اغتسال المحرم والغطس في الماء]
يجوز للمحرم أن يغسل رأسه وبدنه بالماء، ويدخل الحمام؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل وهو محرم» .
وروي: (أن ابن عباس دخل حماما بالجحفة، وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) .
وأما دلك البدن باليد عند الغسل: فجائز؛ لأنه لا يخشى منه قلع الشعر؛ لأن شعر البدن لا ينقطع بذلك.
ولا يكره دلك البدن، وإزالة الوسخ عنه.
وقال مالك: (لا يفعل، فإن فعل.. كان عليه صدقة) .
دليلنا: حديث ابن عباس، حيث قال: (ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) .
وأما دلك شعر الرأس واللحية في الغسل، فإن كان الغسل للتبرد والتنظف. لم يحرك شعره بيده مخافة أن يقطع به الشعر. وإن كان يغتسل للجنابة، أو للحيض، أو للنفاس.. خلل شعره ببطون أنامله، ولا يحركه بأظفاره، ويخلل الماء في أصول شعره تخليلا رفيقا؛ لما روي: أنه «سئل أبو أيوب: كيف اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم؟ وكان أبو أيوب يغتسل، فأمر من يصب الماء على رأسه، ووضع يده على(4/203)
رأسه ودلك شعره ببطون أصابعه، وقال: هكذا رأيته يفعل»
فإن دلك شعره بيده - إما دلكا رفيقا أو شديدا - وخرج على يده شعر.. فالاحتياط أن يفتدي مخافة أن يكون قد قلعه، ولا يجب عليه شيء حتى يتيقن أنه انقلع بفعله؛ لأن الشعر قد يكون مقلوعا، فإذا مسه خرج.
ويجوز للمحرم أن ينزل في الماء ويتغطس فيه: لما روي عن ابن عباس: أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: (تعال حتى أباقيك في الماء: لننظر: أينا أطول نفسا ونحن محرمان.
[فرع غسل المحرم رأسه بالمنظفات]
ويجوز للمحرم أن يغسل رأسا بالسدر والخطمي، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز، وإذا غسله بالخطمي.. وجبت عليه الفدية) .
دليلنا: أن هذا ليس بطيب، ولا يحصل به ترجيل الشعر، فلم يمنع منه المحرم كالماء.(4/204)
[فرع الحجامة والافتصاد للمحرم وحج الأغلف]
ويجوز للمحرم أن يحتجم، ويفتصد، ويقطع العروق ما لم يقطع الشعر لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، وهو صائم محرم» وإذا ثبت الاحتجام بالخبر.. جاز الافتصاد قياسا عليه.
قال الشافعي: (وكذلك لو استاك فأدمى فمه أو حك بدنه فأدماه.. فلا شيء عليه لأنه أقل من الحجامة. وقال الشافعي: (وإذا حج الرجل وهو أغلف.. صح حجه) ؛ لأن أكثر ما فيه أنه وجب عليه قطع جلدة من بدنه، وذلك لا يمنع صحة الحج، كما لو كان عليه قطع في سرقة أو قصاص.
[فرع اكتحال المحرم]
وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإنه كان أبيض كالتوتياء ... فيجوز للمحرم أن يكتحل به لحاجة ولغير حاجة؛ لأنه يقصد به التداوي، ولا يحسن العين، بل يزيدها مرها وقبحا. وإن كان أسود - وهو الإثمد - فإن لم يكن بالمحرم إليه حاجة
كره له أن يكتحل به؛ لأنه يحسن العين ويزيل شعثها وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحاج أشعث أغبر.(4/205)
قال الشافعي: (والمرأة في ذلك أشد كراهية من الرجل) ؛ لأن لها بالكحل من الجمال ما ليس للرجل.
فإن اكتحل.. فلا فدية عليه؛ لأنه لا يرجل العين.
وإن كان المحرم يحتاج إلى الكحل الذي لا طيب فيه لمرض في عينيه.. لم يكره له. لما روي: «أن رجلا اشتكى عينه وهو محرم، فسأل أبان بن عثمان وكان أميرا على الحاج، فقال له: (أضمدها بالصبر؛ فإني سمعت عثمان بن عفان يروي ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وروي: (أن ابن عمر اشتكت عينه وهو محرم، فقطر فيها الصبر) .
[فرع نظر المحرم في المرآة]
قال في " المعتمد ": لا يكره للمحرم النظر في المرآة. وروي ذلك عن ابن عباس، وفعله أبو هريرة؛ لأنه ليس فيه استمتاع، ولا إزالة شعث، فلم يكره، كالنظر إلى شيء يستحسن.(4/206)
وقال في " الفروع ": ذكر الشافعي في " الإملاء ": (أنه يكره) - وبه قال مالك وعطاء - لأنه يدعوه إلى التنظف، والمستحب للحاج أن يكون أشعث أغبر، فحصل في الكراهة وجهان، المنصوص: (أنه يكره) .
[فرع استظلال المحرم]
يجوز للمحرم أن يستظل نازلا تحت سقف بيت وكنيسة وعمارية، وكذلك يجوز راكبا في الكنيسة والعمارية والهودج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك وأحمد: (يجوز أن يستظل نازلا، ولا يجوز راكبا تحت سقف مثل الكنيسة والعمارية والهودج، ويجوز أن يستظل تحت ثوب) .
دليلنا: «أن امرأة رفعت صبيا من هودجها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: ألهذا حج؟ قال: " نعم "، ولك أجر» والهودج مسقف له محالة، ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروت أم الحصين قالت: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه بلال، وأسامة بن زيد أحدهما آخذ بزمام ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافع ثوبه يستره من الشمس، حتى رمى جمرة العقبة» .
[فرع كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد للمحرم]
فرع: [كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد] :
ويكره للمحرم أن يلبس الثياب المصبغة؛ لما روي: أن عمر رأى على طلحة(4/207)
ثوبين مصبوغين وهو محرم، فقال: (لا يلبسن أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئا) .
ويكره له أن يحمل بازيا، أو كلبا معلما؛ لأنه ينفر به الصيد، وربما قتل صيدا. وينبغي له أن ينزه إحرامه عن الخصومة، والشتم، والكلام القبيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
قال ابن عباس: (الفسوق: المنابزة بالألقاب، والجدال: المماراة) .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق.. رجع كهيئة ولدته أمه» .
وبالله التوفيق.(4/208)
[باب ما يجب بمحظورات الإحرام]
إذا حلق المحرم جميع رأسه.. وجبت عليه الفدية، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين أن يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام.
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، فوردت الآية بوجوب ذلك مجملا، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في حديث كعب بن عجرة، حيث قال: «احلق رأسك، وانسك شاة، أو طعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام» .
وإن حلق رأسه ثلاث شعرات.. وجب فيه ما يجب في حلق جميع الرأس وقال أبو حنيفة: (إن حلق ربع رأسه.. وجب عليه الدم، وإن حلق أقل من الربع.. فعليه صدقة) ، ويريدون بالصدقة نصف صاع من طعام.
وقال أبو يوسف: لا يجب الدم إلا بحلق النصف.
وقال مالك: (إن حلق من رأسه ما أماط عنه الأذى.. فعليه الفدية. وإن حلق منه ما لا يحصل به إماطة الأذى.. فلا فدية عليه) .(4/209)
وعن أحمد روايتان:
أحدهما: مثل قولنا. والثانية: (لا تجب الفدية إلا بحلق أربع شعرات) ..
دليلنا: أن الثلاث أقل الجمع، فوجب فيها الدم، قياسا على الربع عند أبي حنيفة، والنصف عند أبي يوسف.
وإن حلق من رأسه أقل من ثلاث شعرات.. فهو مضمون.
وقال مجاهد وعطاء: ليس بمضمون.
دليلنا: أن ما ضمنت جملته.. ضمنت أبعاضه، كالصيد.
إذا ثبت هذا: ففيما يجب في الشعرة والشعرتين؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب في الشعرة ثلث دم، وفي الشعرتين ثلثا دم؛ لأنه لما وجب في الثلاث دم كامل.. وجب فيما دونها بالقسط من ذلك.
والثاني: يجب في الشعرة درهم، وفي الشعرتين درهمان؛ لأن تبعيض الحيوان يشق، فقومت الشاة بثلاثة دراهم، نحو قيمتها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرجع في التقويم إلى النقد، كما يرجع في سائر المقومات.
والثالث: يجب في الشعرة مد، وفي الشعرتين مدان؛ لأن التعديل في الشرع، إنما كان في الحيوان بالإطعام، فإذا عدل عن الحيوان في جزاء الصيد إلى غيره.. فكذلك هاهنا، وأقل ما يجب للمسكين مد، فوجب ذلك في أقل الشعر.(4/210)
وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه في مجلس واحد.. وجبت عليه فدية واحدة وقال أبو القاسم الأنماطي: تجب عليه فديتان؛ لأنهما جنسان، بدليل أن التحلل يقع بشعر الرأس دون شعر البدن. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشعر كله جنس واحد وإن اختلفا في التحلل، ألا ترى أن شعر الرأس يختلف في المسح في الطهارة ولا يختلف في الفدية.
[فرع تقليم الأظفار للمحرم]
وإن قلم ثلاثة أظفار فما زاد.. وجب عليه دم.
وإن قلم ظفرا، أو ظفرين.. فعلى الأقوال الثلاثة في الشعرة والشعرتين، سواء كان ذلك من يد أو يدين.
وقال أبو حنيفة: (إن قلم خمسة أظفار من يد، فعليه دم، وإن قلم أقل من خمسة من يدين فعليه صدقة، وكذلك إن قلم خمسة من يدين فعليه صدقة) . وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: إذا قلم خمسة أظفار.. فعليه دم، سواء كان ذلك من يد أو يدين.
دليلنا: أنه قطع من أظفاره الممنوع منها لحرمة الإحرام دفعة واحدة ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فوجب عليه الدم، كما لو قلم خمسة أظفار من يد واحدة(4/211)
[مسألة الفدية في فعل المحظور]
وإن تطيب، أو لبس المخيط، أو غطى رأسه عامدا.. وجبت عليه الفدية، سواء طيب عضوا كاملا أو بعض عضو، وسواء استدام اللبس يوما كاملا أو بعض يوم، وكذلك إذا ستر جزءا من رأسه زمانا يسيرا أو كثيرا.. فالحكم فيه واحد.
وقال أبو حنيفة: (إن طيب عضوا كاملا.. فعليه الفدية. وإن طيب أقل من عضو.. فعليه صدقة: وهي نصف صاع، وإن لبس المخيط يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن لبس أقل من يوم.. فعليه صدقة) .
وقد روي عنه: (إن لبس أكثر النهار.. فعليه الفدية. ورجع عنه إلى اليوم - فإن ستر ربع رأسه يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من الربع أقل من اليوم.. فعليه صدقة) .
وقال محمد بن الحسن: إن ستر نصف الرأس يوما. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من النصف فعليه صدقة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضًا فلبس أو تطيب.. ففدية. ولم يفرق بين أن يلبس يوما، أو أقل من يوم، فهو على العموم فيما يقع عليه أثم الطيب واللباس.
ولأن ما كان مضمونا بالفدية.. تعلقت بعينه، ولا تعتبر فيه الاستدامة، كالوطء.
إذا ثبت هذا: فإن الفدية التي تجب في الطيب، أو اللباس، أو تغطية الرأس، أو دهنه، أو دهن اللحية.. هي الفدية التي تجب بحلق الرأس، وهي: شاة، أو إطعام(4/212)
ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه زينة وترفه، فهو كحلق الرأس هذا هو المشهور في المذهب.
وحكى أبو علي في " الإفصاح " قولين آخرين:
أحدهما: أنه كدم التمتع، فإن لم يجد الهدي.. صام عشرة أيام على ما مضى.
والثاني: أنه إذا لم يجد الهدي.. قوم الهدي دراهم، والدراهم طعاما. ثم يصوم عن كل مد يوما.
[فرع ارتكاب أكثر من محظور باعتبار المجلس]
إذا تطيب، فقبل أن يكفر عن الطيب لبس مخيطا أو غطى رأسه، وكان ذلك في مجلس واحد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن عليه فدية واحدة؛ لأنهما نوعا استمتاع، فهو كما لو لبس القميص والعمامة.
والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن كان السبب واحدا، مثل: أن تصيبه شجة فيحتاج إلى مداواتها بالطيب وسترها.. فعليه فدية واحدة؛ لأن سببها واحد.
وإن كانت أسبابها مختلفة.. فلكل جنس منها فدية؛ لأنها أجناس.(4/213)
الثالث - وهو المذهب -: أنه يجب لكل واحد فدية؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فهو كما لو حلق الشعر، وقلم الظفر.
فإن لبس مخيطا مطيبا، أو طلا رأسه بطيب، بحيث غطى بعض الشعر، فإن قلنا: إن الطيب واللباس جنس واحد.. لزمه هاهنا فدية واحدة. وإن قلنا بالمذهب وأنهما جنسان.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: يلزمه فديتان؛ لأنه حصل اللباس والطيب، أو التغطية والطيب.
والثاني: يلزمه فدية واحدة؛ لأن الطيب تابع للثوب أو التغطية.
وإن تطيب في مجلس، ولبس المخيط في مجلس آخر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\193] : لزمه لكل واحد منهما كفارة؛ لافتراق المجلسين.
[فرع ارتكاب نفس المحظور باعتبار المجلس]
وإن لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب.. نظرت: فإن كان ذلك في مجلس واحد، مثل: أن يلبس القميص والسراويل والعمامة في مجلس واحد، أو تطيب بماء الورد والكافور وتبخر بالعود، أو قبل ثم قبل، في مجلس واحد قبل أن يكفر عن الأول.. لزمته كفارة واحدة لكل جنس؛ لأنه كالفعلة الواحدة. وإن كفر للأول.. لزمته للثاني كفارة أخرى؛ لأن الأول استقر حكمه.
وإن كان ذلك في مجالس، مثل: أن لبس القميص في مجلس، وتسرول في مجلس آخر، أو تبخر بالعود في مجلس وبالند في مجلس آخر، فإن فعل الثاني بعد(4/214)
أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة أخرى؛ لأن حكم الأول قد استقر بالتكفير كما لو زنا فحد، ثم زنا.. فإنه يحد للثاني. وإن فعل الثاني قبل أن يكفر من الأول نظرت: فإن كان السبب واحدا، مثل: أن يلبس للبرد فيهما، أو يتطيب لمرض واحد.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجزئه فدية واحدة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات» والحدود إذا ترادفت تداخلت، فكذلك الكفارة. ولأنها جنس استمتاع متكرر منع المحرم منها، ولم يتخللها تكفير فتداخلت، كما لو اتصل فعلها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه لكل واحد كفارة وهو الصحيح لأنها أفعال متكررة في مجالس يجب لكل واحد منها فدية إذا تفرد، فوجب لكل واحد فدية وإن اجتمع مع غيره، كما لو كفر عن الأول.
وإن تكرر الفعلان بسببين مختلفين مثل: أن يلبس بكرة لأجل البرد فينزعه، ثم لبس عشية لأجل الحر.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يجب عليه فديتان قولا واحدا؛ لأن اختلاف الأسباب يجري مجرى الأجناس.
و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين كالأولى، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعتبر اختلاف الأسباب، وإنما اعتبر اختلاف الأجناس.
فإذا قلنا: يكفيه للجميع فدية واحدة فارتكب محظورا وأخرج الفدية، ونوى(4/215)
بإخراجها الفدية عما ارتكبه وعما سيرتكبه من جنسه. فهل يجزئه ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 193] :
أحدهما: يجزئه، كما يجزئه تقديم إخراج كفارة التمتع قبل وقت وجوبها.
والثاني: لا يجزئه؛ لأن في ذلك سببا إلى ارتكاب المحظور، فصار كتقديم كفارة الجماع في رمضان على الجماع.
[فرع حلق المحرم شعره في وقت أو أكثر]
وإن حلق شعر رأسه.. نظرت: فإن كان في وقت واحد.. لزمه فدية واحدة وإن طال الزمان بفعله، كما لو حلف أن لا يأكل في النهار إلا مرة واحدة، فنصبت المائدة، وجعل يأكل من بكرة إلى الظهر لقمة بعد لقمة.. فإنه لا يحنث وإن كان ذلك في أوقات متفرقة، مثل: أن حلق ثلاث شعرات بكرة، وثلاثا عشية قبل أن يكفر عن الأول. ففيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يجب لكل حلق كفارة قولا واحدا؛ لأن هذا إتلاف، فلم يتداخل كقتل الصيد.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو على قولين كالطيب واللباس، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ".(4/216)
فإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات.. فعلى ما ذكر الشيخ أبو حامد: يكون فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب في الجميع دم.
والثاني: يجب ثلاثة دراهم.
والثالث: يجب ثلاثة أمداد.
وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم قولا واحدا. وإن قلنا: لا يتداخل.. ففيه ثلاثة أقوال.
وذكر في " الإبانة " [ق \ 192] : إذا نتف ثلاث شعرات من ثلاثة مواضع في وقت واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو نتفها من موضع واحد، فيلزمه دم واحد.
والثاني: حكمه حكم ما لو نتفها في ثلاثة أوقات، فيكون على ما مضى.
وإن حلق تسع شعرات في ثلاثة أوقات، في كل وقت ثلاثا.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه ثلاثة دماء قولا واحدا. وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم واحد، وإن قلنا: لا يتداخل.. لزمه ثلاثة دماء.
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يحلق الشعر، أو ينتفه، أو يحرقه بالنار، فإن عليه الفدية؛ لأن الفدية وجبت لإزالته عن البدن، وهذا موجود فيه بهذه الأفعال.
[مسألة الجماع في الحج]
إذا وطئ المحرم بالحج في الفرج عامدا قبل الوقوف بعرفة، أو بعد الوقوف وقبل التحلل الأول ... فسد حجه ووجبت عليه بدنة.(4/217)
وقال أبو حنيفة: (إن وطئ قبل الوقوف بعرفة.. فسد حجه، ووجبت عليه شاة، وإن وطئ بعد الوقوف.. لم يفسد حجه ووجبت عليه بدنة) .
دليلنا - على فساد الحج -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
و (الرفث) : الجماع، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولم يفرق بين أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو بعده، ولأنه وطئ في الحج - قبل التحلل ففسد حجه، كالوطء قبل الوقوف.
والدليل - على وجوب الكفارة: أن كل عبادة حرمت الوطء، وغيره.. كان للوطء مزية على غيره، كالصوم.
والدليل على أنها بدنة -: ما روي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (إذا وطئ امرأته قبل عرفة.. فسد حجه وعليه بدنة) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا وطء صادف إحراما لم يتحلل منه فوجبت فيه بدنة، كالوطء بعد الوقوف.
[فرع جماع المعتمر قبل التحلل]
وإن وطئ المعتمر قبل التحلل.. فسدت عمرته، ووجبت عليه بدنة.
وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط.. فسدت عمرته، ووجبت عليه شاة. وإن وطئ بعد أن طاف أربعة أشواط، لم تفسد عمرته وجبت عليه شاة) .(4/218)
دليلنا - على وجوب البدنة -: أنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فوجب بإفسادها البدنة قياسا على الحج.
والدليل - على أنها تفسد بعد طواف أربعة أشواط -: أنه وطئ قبل التحلل من عمرته فأفسدها، كما لو وطئ قبل أربعة أشواط.
[فرع المضي في الحج والعمرة عند فسادهما وعليه القضاء]
ويجب على من أفسد الحج أو العمرة أن يمضي في فاسدهما، وبه قال كافة أهل العلم إلا داود، فإنه قال: (يخرج منه بالفساد) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأمر بإتمامهما، ولم يفرق بين الفاسد والصحيح.
ويجب عليه القضاء؛ لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس: أنهم قالوا: (يمضي في فاسده، ويقضي من قابل) وهل يجب القضاء على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان:(4/219)
أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأن الأداء على التراخي، فكذلك القضاء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب على الفور؛ لما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يقضي من قابل) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا القضاء وجب بدلا عن حجة وجب المضي فيها على الفور.
فإذا قلنا: يجب على الفور، فلم يحج على الفور.. أثم بالتأخير، ولا يسقط القضاء عن ذمته.
[مسألة جواز قضاء المحصر حجه لو فسد في عامه]
إذا ثبت هذا: فقال أصحابنا: لا يتأتى القضاء في الحج في السنة التي أفسد فيها الحج إلا في مسألة واحدة، وهو: إذا أفسد حجه قبل وقوفه بعرفة فأحصر، أو أحصر فأفسده.. فله أن يتحلل منه، كما يتحلل من الصحيح. فلو زال الحصر قبل الوقوف بعرفة.. فله أن يحرم بالحج عن القضاء في هذه السنة؛ لأنه قد أمكنه ذلك.
فإن قلنا: إن القضاء يجب على الفور.. فإنه يجب عليه هاهنا أن يحرم بالحج عن القضاء؛ لأنه أقرب من العام القابل.
[فرع الإحرام بالقضاء]
وإذا أراد الإحرام بالقضاء.. فإنه يجب عليه أن يحرم من أبعد المكانين وهما: الميقات الشرعي، أو الموضع الذي أحرم منه بالنسك الذي أفسده.(4/220)
وقال أبو حنيفة: (يقضي الحج من الميقات، ويقضي العمرة من أدنى الحل بكل حال) .
دليلنا: أن كل ما لزم الإنسان المضي فيه بالدخول في الإحرام إذا أفسده.. لزمه قضاؤه، كحجة التطوع. فإن سلك طريقا آخر.. لزمه أن يحرم إذا حاذى الموضع الذي لزمه الإحرام منه، كما قلنا فيمن سلك طريقا لا ميقات فيه.
[فرع قضاء الحج بالزوجة التي جامعها فيه]
قال الشافعي: (ويحج بامرأته) .
فمن أصحابنا من احتج بظاهر هذه اللفظة، وقال: يجب على الزوج نفقة زوجته في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن هذا مال تعلق بالوطء، فكان على الزوج كالمهر.
ومنهم من قال: تجب نفقتها في مالها، كنفقة الأداء.
قال القاضي أبو الطيب: وينبغي أن يكون في ثمن الماء الذي تغتسل به المرأة هذان الوجهان.
فإذا بلغا إلى الموضع الذي جامعها فيه.. فرق بينهما، وهل هو مستحب أو واجب؟ فيه وجهان:(4/221)
أحدهما: أنه مستحب، وبه قال أبو حنيفة، كما لا يجب التفريق بينهما في غيره من المواضع، ولا في الموضع الذي جامعها فيه في نهار رمضان في نهار القضاء.
والثاني: يجب، وبه قال مالك؛ لما روي عن عثمان، وابن عباس: أنهما قالا: (إذا بلغا إلى ذلك الموضع.. فرق بينهما) . ولأنه إذا لم يفرق بينهما.. ربما تذكرا ما جرى بينهما، فدعاهما ذلك إلى مثله.
فإذا قلنا بهذا: فلم يفعلا.. أثما بذلك لا غير.
[فرع جماع القارن قبل التحلل]
وإن وطئ القارن قبل التحلل.. فسد قرانه، ووجب عليه المضي في فاسده والقضاء، ويجب عليه بدنه. وهل يلزمه دم القران؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 194] :
أحدهما: لا يجب؛ لأن نسكه لم يصح قرانه.. فلم يجب عليه دم القران.
والثاني: يجب عليه دم، وهو قول الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا؛ لأنه قد وجب عليه بالإحرام، فلا يسقط بالوطء.
وعليه أن يقضي قارنا، فإن قضى مفردا.. صح؛ لأنه أفضل من القران، ولا يسقط عنه دم القران الواجب بالقضاء؛ لأنه لما أفسد القران.. لزمه أن يقضي بالقران، ومن حكم القران: أنه يجب فيه الدم، فإذا قضى مفردا.. صح، ولم يسقط عنه الدم الذي كان يلزمه في القضاء، هذا مذهبنا.(4/222)
وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ، القارن قبل الطواف والسعي للعمرة.. فسد إحرامه وعليه قضاء الحج والعمرة، وشاة لفساد الحج، وشاة لفساد العمرة، وشاة لفساد القران. وإن وطئ بعد ما طاف أربعة أشواط للعمرة.. لم تفسد عمرته ولزمه شاة، وفسد حجه وعليه شاة، وشاة للقران. وإن وطئ بعد أن طاف وسعى.. فعليه بدنة وشاة) .
وبنى ذلك على أصله: أن القارن كالمفرد في الطواف والسعي، وعلى: أن المفسد للنسك يلزمه شاة، وإذا لم يفسد.. فعليه بدنة بالوطء وقد مضى الكلام معه.
[فرع ترتيب الفدية على المجامع]
قد ذكرنا أن على المجامع في الحج أو العمرة قبل التحلل بدنة، وهل هي على الترتيب، أو على التخيير؟
المنصوص: (أنها تجب على الترتيب) فيجب عليه بدنة، فإن لم يجد البدنة.. أجزأته بقرة، فإن لم يجد البقرة.. أجزأه سبع من الغنم، فإن لم يجد الغنم.. قومت البدنة بمكة بدراهم واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يمكنه ذلك.. صام عن كل مد يوما.(4/223)
وبهذا قال ابن عباس.
وخرج أبو إسحاق قولا آخر: أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم. فإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة.. قوم أي الثلاثة شاء بدراهم، واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يجد.. صام عن كل مد يوما. وبه قال ابن عمر، ولأن هذه بدنة وجبت لهتك حرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير، كالبدنة الواجبة بقتل النعامة.
ووجه المنصوص: أنها كفارة وجبت لإفساد عبادة، فكانت على الترتيب، ككفارة إفساد الصوم، ولأن البقرة دون البدنة، فلا تقوم مقامها.
إذا ثبت هذا: فإن الكلام فيمن يجب عليه الكفارة كالكلام في الكفارة في إفساد الصوم على قولين:
أحدهما: يجب على كل واحد منهما بدنة.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب على الزوج بدنة.
وهل يجب عليه دونها، أو عنه وعنها؟ فيه وجهان، وقد مضى دليل ذلك في الصوم.
[مسألة جماع الصبي غيره في الإحرام]
وإن وطئ الصبي في إحرامه قبل التحلل عامدا، فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ(4/224)
فهل يفسد حجه؟ على قولين، وإن قلنا: إن عمده عمد.. فسد نسكه؛ لأن من صح إحرامه.. فسد بالوطء كالبالغ، ووجبت الكفارة، وعلى من تجب؟ فيه وجهان وقيل: قولان:
أحدهما: تجب في ماله.
والثاني: على وليه. وقد مضى ذكرهما.
فإن قلنا يفسد حج الصبي بالوطء.. فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصوم والصلاة.
والثاني: يجب؛ لأن من فسد الحج بوطئه.. وجب عليه القضاء، كالبالغ.
فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الصغر؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه حج واجب، فلم يصح من الصبي، كحجة الإسلام. والثاني: يصح؛ لأنه يصح منه أداؤه، فصح قضاؤه، كالبالغ.
[فرع جماع العبد في الإحرام]
] : وإن وطئ العبد في إحرامه عامدا قبل التحلل.. فسد نسكه بلا خلاف، كالحر، وهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأنه حج واجب، فلم يجب عليه، كحجة الإسلام.
والثاني: يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن الحج يجب عليه بالدخول، وهذا بدل عنه.
فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الرق؟ فيه وجهان كما قلنا في الصبي.
فإذا قلنا: يصح منه.. فهل للسيد منعه منه؟ ينظر فيه:
فإن دخل في الذي أفسد بغير إذنه.. فله منعه.(4/225)
وإن دخل فيه بإذنه ... فهل له منعه؟
إن قلنا: إن القضاء على التراخي ... فللسيد منعه، وإن قلنا على الفور.. ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له منعه؛ لأنه قد أذن له في الذي أفسده وهذا من موجب ما أذن فيه.
والثاني: له منعه؛ لأنه أذن له في الحج دون الإفساد.
فإن أعتق بعد التحلل وقبل القضاء لم يجز له أن يقضي حتى يحج حجة الإسلام. فإن أعتق قبل أن يتحلل من الفاسد ... لزمه أن يقضي وجها واحدا؛ لأنه حر.. وإن كان عتقه قبل الوقوف أو في حال الوقوف.. أجزأه القضاء عن القضاء وعن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد لو لم يفسد
لأجزأه عن حجة الإسلام، فكذلك ما قام مقامه ... وإن كان عتقه بعد الوقوف في الفاسد
لم تجزه حجة القضاء عن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد كان لا يجزئه عن حجة الإسلام وإن لم تفسد، فكذلك ما قام مقامه.
[مسألة تكرار الجماع قبل التحلل]
وإن وطئ الرجل قبل التحلل، ثم وطئ ثانيا ... نظرت: فإن كفر عن الأول قبل الوطء الثاني
لزمه أن يكفر عن الثاني قولا واحدا؛ لأن الأول قد استقر حكمه، وفي الكفارة التي تلزمه للثاني قولان:
أحدهما: بدنة، كالوطء الأول.
والثاني: شاة؛ لأنه وطء لم يفسد به النسك، فهو كما لو وطئ، فيما دون الفرج.
وإن كان الوطء الثاني قبل أن يكفر عن الأول فهل يلزمه للثاني كفارة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه كما لو كرر الوطء في يوم واحد من رمضان.. فإنه لا يلزمه لغير الأول كفارة.(4/226)
والثاني: يلزمه لأنه وطئ في إحرام منعقد لأنه لا يخرج من الحج بالإفساد بل لو ارتكب محظورا فيه وجبت عليه فيه الفدية، كالصحيح، بخلاف الصوم.
فإذا قلنا بهذا: فهل يلزمه لكل وطء بعد الأول بدنة أو شاة؟ فيه قولان على ما مضى.
[فرع الجماع بين التحللين]
] : وإن وطئ بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني فإنه لا يفسد حجة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (يفسد ما بقي من إحرامه، فإذا فرغ منه ... لزمه أن يأتي بعمرة لتكون قضاء عنه) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من وطئ بعد التحلل.. فحجه تام وعليه ناقة) ، ولا مخالف له ولأنه وطئ بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجه، كما لو وطئ بعد التحلل الثاني.
إذا ثبت هذا: فإن عليه الكفارة، وما تلك الكفارة؟ فيه قولان:
أحدهما: بدنة؛ لقول ابن عباس.(4/227)
والثاني: شاة لأنه وطء لم يفسد به الحج، فهو كالوطء، فيما دون الفرج.
وإن أفسد القضاء.. لزمه المضي في فاسده، ولزمته بدنة، ويجزئه قضاء واحد؛ لأن القضاء الذي لزمه إنما يجزئه إذا أتى به على شرائطه، فإذا لم يأت به على شرائطه.. بقي في ذمته.
[مسألة الوطء في الدبر أو في الفرج بخرقة]
] : وإن وطئ امرأة في دبرها، أو لاط بغلام، أو أتى بهيمة.. فسد بذلك حجه ووجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا يفسد بذلك حجه، ولا تلزمه الكفارة) .
دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل وإن لم ينزل، ففسد الحج بالإيلاج فيه كقبل المرأة.
وإن لف على ذكره خرقة، ثم أولج في فرج.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري:
أحدها: يفسد به الحج؛ لأنه أولج في فرج، فهو كما لو لم يكن عليه شيء.
والثاني: لا يفسد به الحج؛ لأن ذكره لم يباشر فرجها، فهو كما لو أولج في غير الفرج.
والثالث - وهو قول أبي الفياض، واختيار القاضي أبي القاسم الصيمري: إن كانت الخرقة رقيقة.. فسد الحج، وإن كانت كثيفة.. لم يفسد؛ لأن الرقيقة وجودها كعدمها، بخلاف الكثيفة.(4/228)
[مسألة مقدمات الجماع حال الإحرام]
وإن قبل أو لمس أو وطئ فيما دون الفرج بشهوة.. لم يفسد بذلك حجه، ووجبت عليه شاة، سواء أنزل أو لم ينزل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن أنزل.. فسد حجه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر وابن عباس: أنهما قالا: (إذا قبل المحرم امرأته فأنزل.. فلا قضاء عليه) ولا مخالف لهما. ولأنه استمتاع لا يجب به الحد، فلم يفسد به الحج، كما لو لم ينزل، وإنما أوجبنا الشاة: لأنه تلذذ به، فوجبت عليه الشاة كالطيب.
وإن قبل امرأته وهي قادمة من سفر أو كان مودعا لها، وقال: لم أرد الشهوة.. فلا عليه؛ لأن شاهد الحال يدل عليه. وإن قال: قصدت الشهوة.. فعليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه الاستمتاع. وإن قال ما قصدت هذا ولا هذا.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: عليه الفدية؛ لأنها موضوعة للشهوة.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه لم يقصد به الشهوة.
[فرع تكرار نظر المحرم للمرأة ونكاح اليد]
وإن كرر النظر إلى امرأة فأنزل.. فلا شيء عليه.
وحكى الشيخ أبو نصر صاحب " المعتمد " عن الحسن البصري ومالك وعطاء: أن عليه القضاء من قابل.(4/229)
وعن ابن عباس في الكفارة روايتان:
إحداهما: (يلزمه بدنة) .
والثانية: (شاة) ، وبه قال سعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق.
دليلنا: أنه إنزال عن غير مباشرة، فهو كما لو فكر وأنزل.
ولو استمنى بكفه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\213] .
أحدهما: أن عليه شاة؛ لأنه إنزال عن مباشرة، فهو كما لو وطئ دون الفرج.
والثاني: لا شيء عليه، لأنه لم يشاركه في هذا غيره، فهو كما لو نظر فأنزل.
[مسألة جزاء الصيد ومن يحكم فيه]
إذا قتل المحرم صيدا، فإن كان له مثل من النعم من طريق الخلقة.. وجب فيه مثله من النعم. و (النعم) : هي الإبل، والبقر، والغنم. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (الصيد كله مضمون بقيمته) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (الهدي الذي يبلغ الكعبة) : هو النعم دون القيمة.
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» فاقتضى هذا: أن الكبش هو جميع ما يجب في الضبع، ولم يفرق بين أن يكون بقيمة الضبع أو أقل.
إذا ثبت هذا: فإن كل صيد حكمت الصحابة فيه أو التابعون بأن؛ له مثلا من(4/230)
النعم.. فإنه يجب ذلك المثل من غير اجتهاد فيه.
وقال مالك: (يجب الاجتهاد فيه) .
دليلنا: أن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
والصحابة كلهم عدول مرضيون، ولأنهم شاهدوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والوحي وعرفوا التنزيل والتأويل، فكان نظرهم أولى من نظر غيرهم، وذلك مثل: ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير: (أنهم قضوا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة) ،(4/231)
وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق. قال ابن الصباغ: و (العناق) : ولد المعز إذا اشتد.
وقال الشيخ أبو حامد: (العناق) : السخلة من الضأن.
وقضوا: (في اليربوع بجفرة) : وهي ولد المعز إذا امتلأ جوفها من الماء والشجر.
قال الشافعي: (وإذا وجب في حمار الوحش بقرة.. ففي بقرة الوحشي بقرة؛ لأنها أقرب إليها) .
وعن عثمان: (أنه حكم في أم حبين بحلان) . و (أم حبين) هي: دابة(4/232)
منتفخة البطن، سميت أم حبين؛ لانتفاخ بطنها، وهي تصغير (حبن) وهو: الذي استسقى وانتفخ بطنه، وأما (الحلان) فهو: الحمل.
وقال الأزهري: هو الجدي، وفيه لغة أخرى: حلام بالميم. قال الشاعر:
كل قتيل في كليب حلام ... حتى ينال القتل آل همام
وعن مجاهد وعطاء: أنهما حكما في الوبر بشاة.
قال الشافعي: (إن كان الوبر تأكله العرب.. ففيه جفرة؛ لأنه ليس بأكبر بدنا منها) .
وقال ابن الصباغ: (الوبر) هي: دويبة مثل الجرذ، إلا أنه أنبل منها وأكرم، وهي: كحلاء طحلاء من جنس بنات عرس.
قال الشافعي: (وفي الثعلب شاة) ؛ لأنه روي ذلك عن بعض التابعين.
وأما الوعل: فقال ابن الصباغ: إن فيه بقرة. وحكى الصيمري: أن فيه تيسا. وفي الضب جدي؛ لما روي عن طارق بن شهاب: أنه قال: (خرجنا حجاجا،(4/233)
فوطئ رجل منا - يقال له: أربد - ضبا، ففرى ظهره، فقدمنا على عمر فسأله، فقال له عمر: احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم. فقال له عمر: إنما أمرتك أن تحكم به، ولم آمرك أن تزكيني. فقال أربد: أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر. فقال عمر: فذلك فيه) . وأما ما لم يحكم فيه الصحابة والتابعون: فإنه يرجع في معرفة مثله من النعم إلى ذوي عدل من المسلمين، فيلحقانه بما هو أقرب إليه من الأجناس الثلاثة.
قال الشافعي: (وأحب أن يكونا فقيهين) . وهل يجوز أن يكون أحدهما هو القاتل؟ وإن اشترك اثنان في قتل الصيد.. فهل يجوز أن يحكما على أنفسهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجوز، وهو المنصوص؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث جوز لأربد أن يحكم على نفسه وإن كان قاتلا، وحكم عمر معه بذلك. ولأنه مال يخرج في حق الله سبحانه وتعالى، فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة.
والثاني: لا يجوز، وبه قال مالك؛ لأنه متلف، ولم يرجع إليه في تقويمه، كقيم المتلفات.(4/234)
[فرع الصيد من صغار الحيوان وفداء الذكر بالأنثى وعكسه]
ويجب في صغار ما له مثل من النعم صغير مثله من النعم.
وقال مالك: (يجب في صغار الصيد كبير من مثله من النعم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ومثل الصغير صغير. ولأن ما ضمن باليد والجناية.. اختلف في ضمانه الصغير والكبير، كالعبد والبهيمة.
قال الشافعي: (ويفدي الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى) .
وإن قتل صيدا ذكرا، وأراد أن يفديه بأنثى من مثله.. قال الشافعي: (كان أحب إلي) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها ليست بمثل له.
والثاني: يجوز، كما لو وجب عليه في الزكاة إخراج ذكر، فأخرج أنثى من سنه. وقال القاضي أبو حامد: إن أراد الذبح.. لم يجز؛ لأن لحم الذكر أطيب من لحم الأنثى. وإن أراد التقويم.. جاز؛ لأنها أكثر قيمة.
وقال الشيخ أبو حامد: يجوز قولا واحدا؛ لأن لحم الأنثى أرطب من لحم الذكر.(4/235)
ومنهم من قال: إن كانت الأنثى لم تلد ... قامت مقام الذكر، وإن كانت قد ولدت
. فلا.
ومنهم من قال: إن قتل ذكرا صغيرا.. جازت الأنثى الصغيرة، وإن قتل ذكرا كبيرا.. لم تجزئ الأنثى الكبيرة.
وإن قتل أنثى من الصيد، وأراد أن يفديها بذكر من مثلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الذكر أكثر لحما من الأنثى.
والثاني: لا يجزئه؛ لأن الأنثى أرطب لحما من الذكر، فهي أفضل منه.
[فرع قتل الصيد المعيب]
وإن قتل صيدا معيبا، ففداه بمعيب من مثله من النعم.. أجزأه، إلا أن يختلف العيبان، مثل: أن يكون الصيد أعور والمثل أعرج.. فلا يجوز.
فإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار.. جاز؛ لأن التفاوت يسير.
وقال مالك: (إذا قتل صيدا معيبا.. فداه بمثله صحيحا) .
دليلنا عليه: ما مضى في الصغار.
[فرع صيد الماخض]
ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (إذا قتل صيدا ماخضا.. فداه بمثله من النعم ماخضا) .(4/236)
وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الجامع الكبير ": (أنه يضمنه بقيمة شاة ماخض) .
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يخرج الماخض إلى المساكين؛ لأنها أقل لحما من الحامل، وإنما تجب قيمتها؛ لأن الحمل في الصيد زيادة، وهو كذلك في الشاة، إلا أنه ينقص من لحمها، فأوجبنا القيمة؛ لتحصل الزيادة.
قال ابن الصباغ: وليس لهذه المسألة نظير.
[مسألة التخيير في فدية صيد له مثل وتقويمه]
إذا قتل صيدا له مثل من النعم.. وجب عليه المثل، وهو بالخيار: بين أن يخرج المثل فيذبحه ويفرقه على المساكين، وإن ملكهم إياه مذبوحا.. جاز؛ لأن الذبح واجب عليه. وإن شاء قوم المثل من النعم. لا الصيد نفسه - بدراهم، ثم اشترى بالدراهم طعاما، وتصدق بالطعام على المساكين. وإن شاء صام عن كل مد يوما.
وتعتبر قيمة المثل حال ما يعدل إلى التقويم لا حال الإتلاف. هذا مذهبنا.
وقال ابن سيرين، والحسن، وزفر، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (هو على الترتيب، فإن قدر على المثل.. لم يجز أن يقومه، وإذا قدر على إخراج الطعام.. لم يجز له أن يصوم) . وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال مالك: (يقوم الصيد لا المثل) .(4/237)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (أو) - في الأمر - للتخيير.
ودليلنا - على مالك -: أن الذي يخرج هو المثل لا الصيد، فيقوم ما يخرج، لا ما لا يخرج.
[مسألة جرح الصيد]
وإن جرح صيدا له مثل من النعم، فنقص عشر قيمته.. فالمنصوص: (أنه يجب عليه عشر ثمن مثله) . وقال المزني: عليه عشر مثله.
فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قال المزني؛ لأن كل جملة ضمنت بالمثل.. ضمن بعض تلك الجملة ببعض المثل، كالحبوب، وحملوا النص عليه إذا لم يتمكن من عشر مثله.
ومنهم من قال: يجب عليه عشر ثمن مثله؛ لأن إيجاب عشر المثل يشق، فعدل عنه إلى قيمته، كما (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدل في خمس من الإبل عن إيجاب جزء منها إلى إيجاب شاة فيها) .
قال الشيخ أبو حامد: ويكون بالخيار - في عشر ثمن المثل - بين أربعة أشياء:(4/238)
أن يتصدق على المساكين، أو يشتري به جزءا من مثل ذلك الصيد ويخرجه إلى المساكين، أو يشتري به طعاما ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوما. وإنما زدنا هنا تخييرا رابعا، بأن يتصدق بالقيمة؛ لأنه يشق عليه الشراء به.
[فرع ضرب بطن الصيد الحامل]
وإن ضرب بطن صيد حامل.. نظرت: فإن ألقت الولد حيا، ثم ماتا.. ضمن كل واحد منهما بمثله؛ لأن الظاهر أنهما ماتا بجنايته. وإن عاشا جميعا.. فلا شيء عليه. وإن مات أحدهما.. ضمن الميت بمثله.
وإن ألقت الجنين ميتا، وعاشت الأم.. قومت الأم ماخضا، ثم قومت حائلا، وكان عليه ما بين القيمتين.
وإن ألقت الجنين ميتا، وماتت الأم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يضمن الأم بمثلها من النعم ماخضا، ويدخل أرش النقصان فيه.
وقال ابن الصباغ: يضمن ما نقص من قيمتها بوضعه لأجل الولد، ويضمن مثلها بموتها لأجلها.
[مسألة الصيد الذي لا مثل له وتقويمه]
وإن قتل صيدا لا مثل له من النعم.. وجبت عليه قيمته؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا قتل صيدا لا مثل له من النعم.. فعليه قيمته تهدى إلى مكة) .(4/239)
ولأنه تعذر إيجاب المثل، فعدل إلى القيمة.
إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمته؟
المنصوص - للشافعي في أكثر كتبه -: (أنه يقوم يوم إخراج الطعام) .
وقال في موضع آخر: (يجب تقويمه يوم قتل الصيد) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم الانتقال إلى الطعام) إذا كان الصيد مما له مثل. والموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم القتل) إذا كان الصيد لا مثل له.
ومنهم من قال: أما الصيد الذي له مثل.. فلا يختلف المذهب: أن الاعتبار بقيمة المثل يوم الانتقال إلى الطعام، لا يوم قتل الصيد. وأما الصيد الذي لا مثل له.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الاعتبار بقيمته يوم القتل؛ لأنها حالة الوجوب.
والثاني: أن الاعتبار بقيمته يوم إخراج الطعام؛ لأنها حالة أداء الكفارة وإسقاط الفرض عن الذمة، فوجب أن يكون الاعتبار بها دون ما تقدمها.
قال الشيخ أبو حامد: والصحيح: هي الطريقة الأولى وأنها على حالين.(4/240)
إذا ثبت هذا: فإنه بالخيار - فيما يجب عليه من القيمة -: بين أن يشتري بها طعاما ويتصدق به، وبين الصوم عن كل مد يوما.
[فرع جزاء الصيد من الطيور]
وإن كان الصيد طائرا.. نظرت: فإن كان حماما.. وجب في كل حمامة شاة، وسواء في ذلك حمام الحرم والحل.
وقال مالك: (في حمامة الحرم شاة، وفي حمامة الحل قيمتها) .
دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ونافع بن عبد الحارث: (أنهم حكموا في الحمامة بشاة) .
قال الشافعي: (والحمام: ما عب وهدر) . قال الشيخ أبو حامد:(4/241)
و (العب) : هو أن يشرب الماء بنفس واحد، و (الهدر) : هو مواصلة الصوت.
وأراد به الترجيع، والتغريد، فيدخل في ذلك الحمام المعروف والقمارى والدباس، والفواخت، والعرب تسمي كل مطوق حماما.
قال الكسائي: (الحمام) : هو الوحشي و (اليمام) : هو المتسأنس الذي يألف البيت. قال الصيمري: فيجب الجزاء في اليمام والحمام.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما أوجبنا الشاة في الحمامة؛ اتباعا للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا بالقياس. ومن أصحابنا من قال: إنها تشبه الغنم؛ لأنها تعب الماء إذا شربت فهي كالغنم. قال: وليس بشيء.
وإن كان الطائر أصغر من الحمام، كالعصافير والقنابر والبلابل والجراد.. ضمنه بقيمته.(4/242)
وقال داود: (لا يجب في ذلك شيء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
وذلك من جملة الصيد. فنقول: لأنه ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام.. فوجب بقتله الجزاء، كالحمام.
وإن كان الطير أكبر من الحمام، كالبط، والإوز، والكركي، وغيرها من طيور الماء المأكولة.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب في كل واحد منها شاة؛ لأنها أكبر من الحمام، فإذا وجب في الحمامة شاة.. ففي ما هو أكبر منها أولى.
والثاني: تجب قيمتها؛ لأن القياس كان يقتضي: أن يجب في الحمامة قيمتها، وإنما تركنا القياس فيها لإجماع الصحابة، وما سواها لم يجمع الصحابة فيه على شيء، فبقي على ما اقتضاه القياس.
[فرع كسر بيض المأكول ونتف ريش الطائر]
وإن كسر بيض صيد مأكول.. وجبت قيمته.
وقال مالك: (يضمن بعشر ثمن أمه) .(4/243)
دليلنا: ما روى كعب بن عجرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في بيض النعامة إذا أصابه المحرم.. يفديه بقيمته ". وروي: " بثمنه» .
وإن نتف ريش طائر فنبت.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا شيء فيه.
والثاني: عليه ما نقص من قيمته، بناء على القولين فيمن قلع سن غيره، فنبت له مكانه سن أخرى.
[فرع جزاء قتل الجراد]
ويجب في الجراد قيمته.
وقال أبو سعيد الخدري: لا جزاء في الجراد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«الجراد من صيد البحر لا جزاء فيه» .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (في الجرادة تمرة) .(4/244)
وعن ابن عباس: (أن فيها قبضة من طعام) . ولأنه صيد يعيش جنسه في البر، فضمنه بالجزاء، كسائر الصيود.
وأما قوله: «الجراد من صيد البحر؛» فإنما أراد: أن أصله من صيد البحر؛ لأنه يقال: (إن الجراد نثر حوت) ثم يأوي إلى البر ويعيش فيه، وهذا لا يسقط الجزاء فيه، ألا ترى أن البط، والإوز، وسائر طيور الماء فيها الجزاء؟ وإنما يغوص في الماء على ما يأكله، كالآدمي.
وقد قيل: إن الخيل كانت متوحشة، ثم أنسها إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع هذا فلا يجب فيها الجزاء اعتبارا بحالها الآن.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي: (وفي الدباء قيمته) ، و (الدباء) : هي الجراد الصغار، وقيمته أقل من قيمة الجراد.
وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تقدير الجزاء في الجراد: فإنما ذلك على طريق القيمة.(4/245)
[مسألة جزاء تكرار الصيد]
إذا قتل صيدا بعد صيد.. وجب لكل واحد جزاء.
وقال الحسن، ومجاهد، وشريح، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي، وداود: (يجب الجزاء بقتل الأول، ولا يجب بالثاني، ولا بالثالث شيء) . وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال أحمد في رواية عنه: (إن لم يكن كفر عن الأول.. تداخلا وكفاه جزاء واحد، وإن كفر عن الأول.... لزمه للثاني جزاء) . وقال أبو حنيفة: (إن قصد بالقتل رفض الإحرام أو التحلل.. لزمه جزاء واحد، وإن لم يقصد ذلك.. لزمه لكل واحد جزاء) دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولم يفرق بين الأول والثاني، وبين أن يقصد رفض الإحرام أو لم يقصد. ولأنه ضمان متلف، فتكرر بتكرر الإتلاف، كالآدمي. على الفرقة الأولى.
وعلى أبي حنيفة: كما لو لم يقصد الرفض.(4/246)
[فرع اشتراك الجماعة في الصيد]
إذا اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد.. وجب عليهم جزاء واحد. وبهذا قال الزهري، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأحمد، وإسحاق.
وقال النخعي، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: (يجب على كل واحد منهم جزاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
ولفظة (من) : يدخل تحتها الواحد والجماعة، فاقتضى ظاهر الآية: أن جنس المحرمين إذا قتلوا صيدا.. فعليهم جزاء مثله.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش، إذا أصابه المحرم» واسم المحرم يعم الجنس. ولأنه مقتول واحد، فوجب فيه جزاء واحد، كما لو قتله واحد.
وإن اشترك محل ومحرم في قتل صيد.. وجب على المحرم نصف الجزاء؛ لأنه ممن يجب عليه الجزاء، ولا يجب على المحل شيء؛ لأنه ممن لا يجب عليه الجزاء.
[فرع إمساك المحرم الصيد وقتل المحل له]
وإن أمسك محرم صيدا فقتله محل في يده.. وجب الجزاء على المحرم، وهل يرجع به على المحل القاتل؟ فيه وجهان:(4/247)
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه أتلف صيدا يجوز له إتلافه؛ لأنه غير ممنوع منه لحق الله تعالى، ولا لحق المحرم؛ لأنه لم يملكه بالإمساك.
والثاني: يرجع عليه، وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لأن القاتل أدخل المحرم في الضمان فرجع عليه، كما لو غصب مالا فأتلفه آخر في يده.
وإن قتله محرم مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجب الجزاء على القاتل؛ لأنه وجد منه مباشرة، ومن الممسك سبب، وإذا اجتمع السبب والمباشرة.. تعلق الضمان بالمباشرة.
والثاني: يجب عليهما جزاء واحد؛ لأنه قد وجد من كل واحد منهما ما يضمن به الصيد لو انفرد به، فإذا اشتركا.. كان عليهما الضمان، كما لو اشتركا في جرحه.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب الضمان على كل واحد منهما، فإن أخرجه الممسك.. رجع به على القاتل. وإن أخرجه القاتل.. لم يرجع به على الممسك، كما لو غصب شيئا فأتلفه آخر في يده.
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس عندي؛ لأن ما ذكره الشيخ أبو حامد للوجه الأول ينتقض، بمن غصب شيئا وأتلفه غيره في يده، وما ذكره للثاني لا يستقيم؛ لأن الضمان لا ينقسم على المباشرة والسبب غير الملجئ ليس في شيء من الأصول.(4/248)
[مسألة جناية المحرم على الصيد دون أن يقتله]
إذا جنى المحرم على صيد، فأزال امتناعه، فإن قتله غيره.. ففيه طريقان:
[الأول] : قال أبو العباس: يجب على الجارح أرش ما نقص قولا واحدا، وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا؛ لأن الأول جارح وليس بقاتل.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يجب على كل واحد منهما جزاء كامل؛ لأن الأول أزال امتناعه، فصار كما لو قتله، والثاني وجد منه القتل، والأول أصح.
وإن اندمل جرح الأول، وبقي الصيد غير ممتنع.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب.: أنه يلزم الجارح ما نقص؛ لأنه جرح ولم يقتل.
فعلى هذا: إن كان الصيد لا مثل له من النعم.. وجب عليه ما نقص من قيمته.
وإن كان له مثل.. فهل يجب ما نقص من القيمة، أو جزء من المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
والوجه الثاني: أنه يجب على الجارح جزاؤه كاملا؛ لأنه جعله كالميت.(4/249)
وإن غاب الصيد ولم يعلم: هل برئ من جراحته، أو مات؟ ففيه وجهان:
أحدهما- وهو المذهب -: أن عليه ضمان ما نقص.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: عليه جزاؤه كاملا - وهو قول مالك - لأنه قد صيره غير ممتنع، والظاهر بقاؤه على هذه الحالة.
وإن أطعمه وسقاه حتى عاد ممتنعا.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن قلع سنا فنبتت مكانها أخرى.
فإذا قلنا: لا يسقط عنه الضمان.. فهل يلزمه جزاؤه كاملا، أو ما نقص؟ على الوجهين الأولين. وهل يلزمه قسط الناقص من المثل، أو من القيمة؟ على الوجهين الأولين.
[مسألة قتل القارن للصيد]
إذا قتل القارن صيدا، أو ارتكب محظورا من محظورات الإحرام ... لزمه جزاء واحد، وكفارة واحدة.(4/250)
وقال أبو حنيفة: (يلزمه جزاءان وكفارتان) .
دليلنا: أنهما حرمتان لو انفردت كل واحدة منهما بالهتك.. لزمه لكل واحدة منهما كفارة، فإذا جمع بينهما في الهتك.. لزمه كفارة واحدة، كالإحرام والحرم.
[مسألة صيد الحرم]
ويحرم صيد الحرم على المحل والمحرم، فإن قتله محل ... وجب عليه جزاؤه. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (هو ممنوع من تنفيره، فإن قتله محل
فلا جزاء عليه) .
والدليل - على تحريم ذلك -: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم مكة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها» .
والدليل - على وجوب الجزاء فيه -: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
و (الحرم) : جمع محرم، ومن في الحرم، فإنه يسمى محرما، قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مقتولا
فسماه محرما؛ لكونه في حرم المدينة، لا أنه كان محرما بحج أو عمرة.
ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى ... فوجب بقتله الجزاء، كالمحرم.(4/251)
إذا ثبت هذا: فإن قتل المحرم صيدا في الحرم.. لزمه جزاء واحد؛ لأن المقتول واحد.
[فرع إدخال المحل صيدا للحرم]
وإن اصطاد المحل صيدا في الحل وأدخله إلى الحرم.. جاز له أن يتصرف فيه بجميع التصرفات من الإمساك، والبيع، والهبة، والذبح، والأكل.
وقال أبو حنيفة: (إذا أدخله إلى الحرم.. لزمه رفع يده عنه، فإن لم يفعل وتلف في يده أو أتلفه.. كان عليه الجزاء) .
دليلنا: أن صيد المدينة يحرم، كصيد مكة، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للصبي: «يا أبا عمير ما فعل النغير» فأقره على إمساك عصفور كان في يده، ولا يجوز له ذلك إلا من الوجه الذي ذكرناه، بأن يكون ملكه في الحل وأدخله إلى الحرم.
لأن كل من جاز له الأمر بالصيد.. جاز له إمساك الصيد، كالمحل، وعكسه المحرم.(4/252)
فإن ذبح المحل صيدا من صيود الحرم.. لم يحل له أكله، وهل يحل لغيره؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمحرم إذا ذبح صيدا.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن صيد الحرم محرم على كل أحد، فهو كالحيوان الذي لا يحل أكله.
[فرع الرمي من الحل أو الحرم لصيد وحبس الصيد وله فرخ]
إذا رمى المحل من الحل إلى صيد في الحرم فقتله. كان عليه الجزاء؛ لأن الصيد في الحرم.
وإن رمى من الحرم إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.
وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.
وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل، فاخترق السهم شيئا من الحرم، ثم أصاب الصيد في الحل فقتله.. ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الجزاء؛ لمرور السهم في الحرم، فهو كما لو كان الرامي في الحرم.
والثاني: لا جزاء عليه، وهو المذهب؛ لأن الرامي والصيد في الحل.
وإن حبس المحل صيدا في الحل وله فرخ في الحرم، فماتت الأم والفرخ.. ضمن الفرخ دون الأم.(4/253)
وإن حبس صيدا في الحرم وله فرخ في الحل، فماتا.. كان عليه الجزاء فيهما؛ لأن الأم في الحرم، ولأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه.
[فرع رمي الصيد وهو على غصن وقطع الغصن]
وإن نبتت في الحرم شجرة ولها أغصان في الحل، فوقع صيد على غصنها الخارج إلى الحل، فرماه محل من الحل وقتله..... فلا جزاء عليه؛ لأنه تابع لهواء الحل. ولو قطع الغصن.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لأصل الشجرة.
وإن كان أصل الشجرة في الحل وأغصانها في الحرم، فوقع طائر على غصن منها في الحرم، فرماه وقتله.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لهواء الحرم. ولو قطع الغصن.. فلا جزاء عليه فيه؛ لأنه تابع لأصل الشجرة.
[فرع قتل صيد الحرم خطأ أو بكلب]
وحكم الصيد بين الحل والحرم] :
وإن رمى إلى صيد في الحل، فعدل السهم وأصاب صيدا في الحرم فقتله.. فعليه الجزاء؛ لأن العمد والخطأ في قتل الصيد - عندنا - واحد في وجوب الجزاء.
وإن أرسل المحل كلبا وهو في الحل على صيد في الحل، فهرب الصيد منه إلى الحرم وقتله الكلب في الحرم.. فلا جزاء عليه؛ لأن للكلب اختيارا.
وإن كان بعض الصيد في الحل، وبعضه في الحرم، فرماه محل من الحل وقتله.. فإنه يكون مضمونا بكل حال.(4/254)
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم يرعى فليس بمضمون. وإن كان بعض قوائمه في الحرم ورأسه في الحل.. فهو مضمون، وهكذا لو كان نائما وقائمه في الحل ورأسه في الحرم.. كان مضمونا.
وعللوا: بأنه إذا كانت قوائمه في الحل وهو غير نائم.. فهو مستقر في الحل، وإذا كان نائما.. فليس بمستقر على قوائمه، وإنما الاعتبار بموضعه.
دليلنا: أن بعضه في الحرم، فكان مضمونا، كما لو كانت قوائمه في الحرم، أو كان نائما.
[فرع إرسال الكلب من الحرم على صيد في الحل]
وإن أرسل كلبا من الحرم على صيد في الحل فقتله، أو أرسل كلبا من الحل على صيد في الحرم فقتله.. كان عليه الجزاء فيهما.
وقال أبو ثور: (لا جزاء عليه فيهما) .(4/255)
دليلنا: أن كون المرسل - أو الصيد في الحرم - يوجب تحريم الصيد فوجب الجزاء بقتله، كما لو كان المرسل والصيد في الحرم.
[مسألة الجزاء في صيد الحرم وتخييره كصيد المحرم]
وإذا وجب الجزاء في صيد الحرم.. فالحكم فيه كالحكم في الصيد الذي يقتله المحرم في اعتبار المثل، ويكون بالخيار: بين أن يذبح المثل ويفرقه، وبين أن يقومه بدراهم ويشتري بالدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما.
وقال أبو حنيفة: (لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم) .
دليلنا: أنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى، فدخل في بدله الصوم، كصيد المحرم.(4/256)
[مسألة قتل الكافر الصيد في الحرم]
] : وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل صيدا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الجزاء؛ لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف، فاستوى فيه المسلم والكافر، كضمان الأموال.
فعلى هذا: لا مدخل للصوم في الجزاء عليه؛ لأنه لا يصح منه.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا جزاء عليه؛ لأن ضمان صيد الحرم لحق الله تعالى، وهو غير ملتزم لحقوق الله تعالى.
[مسألة تحريم قطع شجر الحرم]
] : ولا يجوز للمحل ولا للمحرم قطع شجر الحرم، فإن قطعه.. كان عليه الجزاء.
وقال مالك وداود وأبو ثور: (هو ممنوع من إتلافه، فإن أتلفه.. فلا جزاء عليه) .
وحكى الطبري في " العدة ": أن هذا قول آخر للشافعي وليس بصحيح؛ لأنه ممنوع من إتلافه لحق الله تعالى، فوجب بإتلافه الجزاء، كالصيد، وسواء في ذلك(4/257)
الشجر الذي أنبته الله، أو أنبته الآدميون ... مما كان أصله في الحرم.
ومن أصحابنا من قال: ما أنبته الآدميون.. جاز قطعه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان من جنس ما ينبته الآدميون.. جاز قطعه. وإن كان مما لا ينبت الآدميون جنسه، فإن أنبته الآدمي.. جاز قطعه. وإن نبت بنفسه.. لم يجز قطعه) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يعضد شجرها» ولم يفرق. ولأنه شجر نام غير مؤذ نبت أصله في الحرم، فوجب بإتلافه الجزاء، كالشجر الذي أنبته الله.
فقولنا: (نام) احتراز من اليابس.
وقولنا: (غير مؤذ) احتراز من الشوك.
وقولنا: (نبت أصله في الحرم) احتراز ممن قلع شجرة من الحل، فغرسها في الحرم فنبتت، ثم قلعها هو أو غيره.. فلا شيء على قالعها وجها واحدا، كما إذا أدخل صيدا من الحل إلى الحرم.. فإن له ذبحه.
ومسألة الوجهين فيما أنبته الآدمي: هو أن يأخذ غصنا من شجر الحرم فينبته في موضع من الحرم.
وإن قلع شجرة من الحرم وغرسها في موضع من الحرم فإن نبتت.. لم يجب عليه شيء ولم يؤمر بردها؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة.
وإن قلع شجرة من الحرم وأنبتها في موضع من الحل فنبتت.. وجب عليه ردها، فإن لم يفعل.. وجب عليه الجزاء، فإذا ردها، فإن علقت.. فلا شيء(4/258)
عليه، وإن لم تعلق.. فعليه الجزاء؛ لأنها تلفت بسبب منه. وإن قلعها غيره من الحل.. فذكر ابن الصباغ والطبري في " العدة ": أن على القالع الجزاء؛ لأن الاعتبار في الشجر بمنبتها، وقد ثبت لها حكم الحرم، ولهذا يجب عليه ردها إليه، بخلاف ما لو نفر صيدا من الحرم إلى الحل فصاده غيره من الحل.. فلا ضمان عليه؛ لأنه ينتقل من موضع إلى موضع بخلاف الشجر.
وذكر المسعودي أيضا [في " الإبانة " ق \ 200] : أنه إذا أخذ غصنا من أغصان شجر الحرم أو نواة فغرسها في موضع.. ثبت لها حرمة الأصل.
[فرع الضمان في قطع غصن أو أخذ ورق من شجر الحرم]
وإن قطع غصنا من أغصان شجرة بالحرم، فإن لم يعد مثله في مكانه.. كان عليه ضمان ما نقص من قيمتها. وإن عاد مكانه مثله.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه قولان، كالسن إذا عادت.
وهل يجب دفع ما نقص منها من الحيوان أو يجوز دفعه من القيمة؟ فيه وجهان.
فأما إذا أخذ الورق من شجر الحرم، والأغصان الصغار للسواك.. فقال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) . وقال في " الإملاء ": (لا يجوز) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا لقط الورق بيده، وكسر الأغصان بيده بحيث لم ينل نفس الشجرة أذى.(4/259)
والموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا خبط الشجرة حتى تساقط الورق وتكسرت الأغصان؛ لأن ذلك يضر بالشجرة، ولما روي: (أن ابن عمر رأى رجلا يخبط شجرة في الحرم فانتهره) .
[فرع الجزاء في قطع الشجر]
شجرة الحرم تضمن بمقدر، فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة.
وقال أبو حنيفة: (يضمنها بقيمتها بكل حال) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (في الشجرة الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة) .
قال الشيخ أبو حامد: و (الدوحة) : هي الشجرة الكبيرة التي لها أغصان، و (الجزلة) : الشابة التي لا أغصان لها.
[مسألة قطع نبات الحرم من زرع ونحوه]
والرعي فيه] : قال ابن الصباغ: الزرع في الحرم يجوز قطعه، لأن الحاجة داعية إليه.(4/260)
وأما الحشيش ـ غير الإذخر في الحرم - فالمشهور من المذهب ": أنه لا يجوز قطع شيء منه.
وحكى أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " عن بعض أصحابنا: أنه يجوز له أن يأخذ العلف بيده، كورق الشجر.
وحكى في " الفروع ": إنه يجوز أخذ اليسير منه.
والأول أصح؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يختلى خلاها» ولم يفرق.
وأما الإذخر: فيجوز أخذه؛ «لأن العباس قال للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: إلا الإذخر لبيوتنا وقبورنا وصياغتنا؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إلا الإذخر» . فإن جز الحشيش.. نظرت: فإن استخلف مكانه مثله.. سقط عنه الضمان قولا واحدا؛ لأنه يستخلف في العادة، فهو كما لو قلع سن صغير لم يثغر فنبت مكانها مثلها. وإن لم يستخلف ولم يضر أصله.. كان عليه ما نقص من قيمته، وإن جف أصله.. كان عليه قيمته؛ لأنه تلف بسبب منه. ويجوز رعي الدواب فيه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: ما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «ولا يختلى خلاها، إلا رعي الدواب فيه» وروي: «أن ابن عمر رعى حماره في الحرم، فرآه النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولم ينهه عن ذلك» فدل على جوازه. وأيضا: فإن الناس كانوا من لدن رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى وقتنا(4/261)
هذا يحملون الهدايا ويرعونها في الحرم من غير إنكار، ولا نقل: أن أحدا سد أفواهها، فدل الإجماع على ذلك. ويجوز قطع الشوك والعوسج؛ لأنه يؤذي، فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب.
[مسألة يحرم إخراج حصباء وتراب الحرم]
ولا يجوز إخراج تراب الحرم وحجارته.
وذهب بعض الناس إلى أنه يجوز.
دليلنا: ما روي عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أنه قال: (دخلنا على صفية بنت شيبة، فأهدت لنا قطعة من الركن إكراما لنا ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وأبو نصر في " المعتمد " وذكر في " المهذب ": من الصفا - قال: فلما خرجنا مرضنا فقيل لنا: إنه لا يجوز إخراج شيء من الحرم، قال: وكنت أمثلهم فأخذته ورددته إليها فلما رجعت إليهم.. قالوا: ما هو إلا أن رددته فكأنما أنشطنا(4/262)
من عقل) فدل على: أنه لا يجوز؛ لأنه أخبر عن بعض أهل العلم: أنهم أمروه برده.
[فرع إخراج ماء زمزم وإدخال التراب والأحجار من وإلى الحرم]
ويجوز إخراج ماء زمزم من الحرم؛ لما روي: «أن سهيل بن عمرو أهدى إلى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راوية من ماء زمزم بالحديبية» .
ولأن الماء يستخلف في العادة، بخلاف التراب والأحجار.
قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم
[مسألة الحظر من صيد حرم المدينة]
قال الشافعي: (ولا يحرم قتل صيد إلا صيد الحرم، وأكره قتل صيد المدينة) .
قال أصحابنا: هذه الكراهة كراهة تحريم.(4/263)
قال ابن الصباغ: وهذا خلاف ظاهر كلامه، فكأنه يومئ إلى أنه يكره قتل صيد المدينة كراهة تنزيه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحرم اصطياده ولا قتله) .
ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «حرم إبراهيم مكة، وأنا حرمت المدينة، ما بين لابتيها: لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» .(4/264)
فإن قتل صيدا في حرم المدينة.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (يأثم ولا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأنها بقعة يجوز دخولها بغير إحرام، فلم يضمن صيدها، كسائر البقاع.
و [الثاني] : قال في القديم: (يسلب القاتل) - وبه قال أحمد بن حنبل - لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا قد اصطاد بالمدينة صيدا فأخذ سلبه، فأتاه موالي ذلك الرجل فسألوه أن يرد عليهم، فقال: لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: " من وجدتموه يقتل صيدا في حرم المدينة.. فاسلبوه " فإن أردتم ثمنه.. أعطيتكموه» . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : إذا قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب فيه ما يجب بصيد حرم مكة.
والثاني: يسلب، وهو المشهور.
فإذا قلنا: يسلب.. فإنه يسلب كما يسلب المقتول من الكفار، فيؤخذ جميع ما عليه من الثياب والسلاح والفرس ويترك له ما يستر به عورته. وهل يؤخذ منه المنطقة والهميان والنفقة التي معه؟ فيه وجهان.(4/265)
وإلى من يصرف ذلك السلب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصرف إلى مساكين المدينة، كما يصرف جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة.
والثاني: يختص به السالب؛ لما ذكرناه من حديث سعد بن أبي وقاص.
[مسألة كراهة صيد واد وج]
قال الشافعي: (وأكره قتل صيد وج) .
قال أصحابنا: وظاهر هذا: أنه كراهة تحريم؛ لما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «وج حرام محرم، لا ينفر صيده، ولا يعضد عضاهه» .
فإن قتل صيدا فيه، أو قطع فيه شجرا.. لم يجب فيه الجزاء، ولم يسلب؛ لأنه لم يرو فيه شيء من ذلك، ولا يبلغ حرمة مكة والمدينة. و (وج) : واد في الطائف.(4/266)
[مسألة تصرف سائر الدماء لمساكين الحرم]
] : وإذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام، كدم التمتع والقران، ودم الطيب، أو جزاء الصيد.. وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .
فإن ذبح الهدي في الحرم وفرقه في الحرم.. فقد فعل ما وجب عليه. وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحل.. لم يجزه؛ لأن الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وهذا لم يبلع الكعبة.
وإن ذبحه في الحرم وفرقه في الحل.. لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه)
دليلنا: أنه أحد مقصودي الهدي، فاختص بالحرم كالذبح.
وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحرم.. نظرت: فإن أوصله إليهم متغيرا.. لم يجزه؛ لأن المستحق إيصاله إليهم كاملا. وإن أوصله إليهم غير متغير.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وحكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن إراقة الدم في الحرم مقصودة، كما أن التفرقة مقصودة، ثم ثبت أنه لو لم يفرق اللحم في الحرم.. لم يجزه، فكذلك الذبح.
والثاني: يجزئه؛ لأن المقصد من ذبحه بالحرم إيصال اللحم إليهم غضا طريا وقد وجد ذلك.
وإن وجب عليه إطعام ... وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم، قياسا على الهدي.
وإن وجب عليه صوم.... جاز له أن يصومه في كل مكان؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم بصومه فيه.(4/267)
وإن وجب عليه هدي فيه، فأحصر عن الحرم.. جاز له أن يذبحه ويفرقه حيث أحصر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أحصره المشركون بالحديبية عن مكة.. نحر فيها هديه، وأمر أصحابه فنحروا فيها» ، وبين الحديبية وبين مكة ثلاثة أميال. ولأنه موضع تحلله فأشبه الحرم.
(وبالله التوفيق)(4/268)
[باب صفة الحج والعمرة]
لا يكره دخول مكة ليلا.
وقال النخعي وإسحاق: الأولى أن يدخلها نهارا.
وقال ابن جريج: سألت عطاء: أيجوز للمحرم أن يدخل مكة ليلا؟ فقال: لا؛ لـ: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها حين ارتفعت الشمس.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها في عمرة الجعرانة ليلا» .
إذا ثبت هذا: فيستحب لمن أراد أن يدخل مكة أن يغتسل في طرفها؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اغتسل بذي طوى» : وهو بطرف مكة. ولأن الناس يجتمعون الدخول، فسن له الغسل، كالجمعة. ويسن هذا الغسل للطاهر والحائض والنفساء؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة، وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وهذا مما يصنعه الحاج.
ويستحب أن يدخل مكة من ثنية كدى من أعلى مكة بالبطحاء، ويخرج من ثنية(4/269)
كدى من أسفل مكة؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة من الثنية العليا،
وخرج من السفلى» . هكذا ذكر عامة أصحابنا على الإطلاق.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : أن ذلك إنما يسن للمدني، ومن جاء من تلك الناحية؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل منها اتفاقا) ، وأيضا: فإنه يشق على من جاء من غير تلك الناحية أن يدور إلى الثنية العليا ليدخل منها.
ويسن الدخول من باب بني شيبة: وهو الباب الأعظم لمن جاء من تلك الناحية ومن غيرها؛ لأنه لا يشق عليه أن يدور إليه.
فإذا رأى البيت.. فالمستحب: أن يدعو؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «تستجاب دعوة المسلم عند رؤيته الكعبة» .
قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء عند رؤية البيت؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف، وعند الجمرتين» . هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ".(4/270)
وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الإملاء ": (لا أكرهه، ولا أستحبه، ولكن إن فعله.. كان حسنا) . وكان مالك لا يرى ذلك لما روي: أنه سئل جابر عن ذلك، فقال: «ما يفعله إلا اليهود وقد حججنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلم يفعله» .
ودليلنا: الخبر الأول؛ لأنه مثبت، وحديث جابر في ذلك ناف، والمثبت أولى من النافي.
إذا ثبت هذا: فيستحب أن يقول إذا رأى البيت: " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من شرفه وعظمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا " ونقل المزني: (ومهابة) .
قال سائر أصحابنا: وهو غلط، بل نص الشافعي في " الأم " [2/144] :(4/271)
(وبرا) ، وهو أليق؛ لأن المهابة للبيت، والبر للإنسان؛ لما روى ابن جريج: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا رأى البيت.. رفع يديه، وقال ذلك» .
والمستحب: أن يضيف إلى ذلك: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام) ، لما روي عن سعيد بن المسيب: أنه كان يقول ذلك. وهو ممن لقي كبار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
[مسألة استحباب الدخول من باب بني شيبة]
وطواف القدوم وطواف المرأة ليلا] : ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة، ويبتدئ بطواف القدوم؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة عند ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل منه، فأتى الحجر واستلمه بيده وقبله، ورمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم استلمه بيديه جميعا، ومسح بهما وجهه) ووقف ودعا، وفاضت عيناه بالدموع، ثم التفت فرأى عمر بن الخطاب يبكي، فقال: " يا عمر هاهنا تسكب العبرات» . ولأن طواف القدوم تحية البيت، فاستحب البداية به، كتحية المسجد. فإن اتفق ما هو(4/272)
أهم من الطواف، مثل: أن يدخل وقد أقيمت الجماعة.. بدأ بالجماعة، وكذلك إن كان عليه قضاء فائتة.. بدأ بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها.. فليصلها إذا ذكرها؛ فذلك وقتها» . وكذلك إذا خاف فوات وقت فريضة أو سنة مؤكدة.... بدأ بها؛ لأنها تفوت، والطواف لا يفوت.
وقال الشافعي: (وإن كانت امرأة ذات حظوة وجمال.. أحببت لها أن تطوف ليلا) . فمن أصحابنا من قال: أراد طواف القدوم، فأما طواف الإفاضة: فإنه يكون يوم النحر، فلا تؤخره.
ومنهم من قال: بل أراد طواف الإفاضة، فأما طواف القدوم: فإنه تحية، وإنما يؤتى بالتحية عقيب القدوم، كتحية المسجد، وإذا أخرها.. كانت صلاة مستأنفة لا تحية.
إذا ثبت هذا: فإن طواف القدوم سنة، إذا تركه.. لم يجب عليه شيء، هذا هو المشهور.
وحكى أبو علي السنجي: إذا قلنا: يجب الدم بترك طواف الوداع.. فهل يجب بترك طواف القدوم؟ فيه قولان، خرجهما بعض الأصحاب:
أحدهما: يجب عليه الدم. وهو قول أبي ثور: لأنه يتعلق بحرمة البيت ابتداء، كما يتعلق طواف الوداع بحرمته انتهاء.
والثاني: لا يجب عليه شيء، وهو الصحيح؛ لأن هذا تحية، فلم يجب بتركه شيء، كتحية المسجد.
[فرع شروط الطواف]
] : لا يصح الطواف إلا بالطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (الطهارة ليست بشرط في الطواف، فإن طاف بغير طهارة ... صح طوافه، ويجبره بالدم) .(4/273)
دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أراد أن يطوف.. توضأ، ثم طاف» ، وقال: «خذوا عني مناسككم» قلنا: منه دليلان:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بالطواف مجملا فبين النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كيفية المجمل في الآية، فدل على: أن المراد بالطواف المذكور في الآية هو الطواف بالطهارة.
والثاني: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خذوا عني مناسككم» وهذا أمر بما فعله.
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه النطق، فمن نطق.. فلا ينطق إلا بخير» .(4/274)
ولم يرد: أنه صلاة في اللغة، وإنما أراد به: أنه صلاة في الشرع؛ لأنه بعث لبيان الشرع، فإن أراد: أنه يسمى في الشرع صلاة.. فقد أجمعنا: أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، وإن أراد: أن حكمه حكم الصلاة دون التسمية.. فمن حكم الصلاة: أنها لا تصح إلا بطهارة.
والدليل - على أن ستر العورة شرط فيه -: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر الصديق إلى مكة فنادى: ألا لا يطوفَنَّ بالبيت مشرك ولا عريان» .
[فرع الحدث في الطواف]
] : فإن أحدث في أثناء الطواف.. نظرت: فإن كان عامدا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيِّب: تبطل طهارته وما مضى من طوافه، كما إذا أحدث في الصلاة عامدا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تبطل طهارته ولا يبطل ما مضى من طوافه، فإن كان الماء قريبا منه.. توضأ وبنى على طوافه، وإن كان الماء بعيدا منه.. فهل يبني على ما مضى من الطواف أو يستأنفه.. فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يستأنف) ؛ لأنه عبادة تتعلق بالبيت، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يبني على ما مضى من طوافه) ؛ لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل، فلم يبطلها التفريق الكثير كالزكاة، وعكسه الصلاة.
وإن سبقه الحدث في الطواف فإن قلنا: إذا سبقه الحدث في الصلاة لا تبطل(4/275)
صلاته.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يتوضأ ويبني على طوافه بكل حال. وإن قلنا: إن صلاته تبطل إذا سبقه الحدث.. كان كما لو تعمد الحدث في الطواف، فإن كان الماء قريبا.. توضأ وبنى، وإن كان بعيدا.. فعلى قولين كما مضى.
[فرع تيقن الحدث في طواف أحد النسكين ولم يعينه ووطئ بعد العمرة]
] : قال ابن الحداد: إذا أحرم بالعمرة وطاف لها وسعى وحلق، ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة وطاف وسعى، ثم تيقن أنه ترك الطهارة في أحد الطوافين ولم يعرفه بعينه.. فعليه أن يتوضأ، ثم يأتي بطواف وسعى، وعليه دم؛ لأنه إن ترك الطهارة في طواف العمرة.. لم يصح تحلله منها، فلما أحرم بالحج.. صار مدخلا للحج على العمرة قبل طواف، فيصح ويكون قارنا وعليه دم القران، وقد صح طوافه وسعيه للحج.
وإن كان ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صح تحلله من العمرة، فلما أحرم بالحج.. صار متمتعا، ولم يصح طوافه للحج ولا سعيه؛ لفقد الطهارة في الطواف، فيلزمه أن يطوف ويسعى؛ ليسقط الفرض عن ذمته بيقين، ويلزمه دم: إما للقران أو للتمتع، ولا يلزمه دم الحلق في العمرة؛ لأنه يشك في وجوبه.
فإن كانت بحالها، إلا أنه وطئ بعد فراغه من العمرة فإن قلنا: إن وطء الناسي لا يفسد الحج.. فالحكم فيه كالأولى.
وإن قلنا: إنه يفسد.. فيحتمل أنه ترك الطهارة في طواف العمرة، فقد فسدت وعليه بدنة، ولم يصح إحرامه بالحج، على المذهب. ويحتمل أنه ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صحت عمرته، ووجب عليه الطواف والسعي للحج. وإذا احتمل هذين.. لم تجب البدنة للشك في وجوبها، وهل تجب عليه شاة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب؛ لأنها إما أن تجب بالحلاق أو بالتمتع.
والثاني: لا تجب: لجواز أن تفسد العمرة، فلم يصح التمتع. والأول أصح.(4/276)
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويجب عليه قضاء العمرة؛ لجواز أن يكون أفسدها، ولا يجزئه الحج.
قال ابن الصباغ: وعندي أن العمرة إن كانت واجبة عليه.... فلا يجزئه، وإن لم تكن واجبة عليه.. فلا يجب عليه قضاؤها للشك في سبب القضاء.
فإن شك: هل طاف محدثا أو متطهرا؟ لم يلزمه شيء؛ لأن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر فيها.
[فرع طلب النية للطواف]
وإذا أراد أن يطوف.. فهل يفتقر إلى النية؟ ينظر فيه:
فإن كان الطواف نافلة أو طواف نذر.. افتقر إلى النية وجها واحدا؛ لأنه قربة تتعلق بالبيت فافتقر إلى النية، كالصلاة.
وإن كان طواف العمرة أو طواف الإفاضة في الحج.. فهل يفتقر إلى النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى النية؛ لأنه عبادة تفتقر إلى البيت فافتقرت إلى النية، كالصلاة.
والثاني: لا يفتقر إلى النية؛ لأن نية الحج والعمرة تأتي عليه كما تأتي على الوقوف.
[فرع استحباب الاضطباع لطواف يعقبه سعي]
] : ويستحب لمن أراد أن يطوف للنسك (أن يضطبع) وهو: أن يشتمل بردائه من تحت منكبه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء فوق منكبه الأيسر، ويكون المنكب الأيمن(4/277)
مكشوفا. وهو مأخوذ من (الضبع) وهو: عضد الإنسان، وكان أصله: الاضتباع، فقلبوا التاء طاء. والأصل فيه: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة وأراد أن يطوف، قعدت له قريش في الحجر؛ لينظروا طوافه وقالوا: إن حمى يثرب قد أنهكتهم.. فاضطبع النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأمرهم فاضطبعوا، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، وقذفوها على عواتقهم، ورملوا» وذلك لإظهار الجلد والقوة للمشركين.
قال الشافعي: (ويترك الاضطباع حتى يكمل سعيه) .
قال أصحابنا: فإذا فرغ من الطواف.. حل الاضطباع ليصلي ركعتي الطواف،
وغطى منكبه؛ لأن الصلاة موضع خشوع وخضوع، وليست مما يظهر فيها الجلد. فإذا فرغ منها: أعاد الاضطباع للسعي. وقد بين الشافعي ذلك في موضع آخر، وقد روي عنه: (حتى يكمل سبعه) يعني: طوافه.(4/278)
[فرع كون الطواف سبعة أشواط وكراهية تسميته بغير اسمه]
] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف سبع طوفات، فإن ترك طوفة أو طوفتين لم يعتد بالطواف حتى يكمل السبع، سواء كان بمكة أو خارجا منها، ولا ينجبر الدم. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف أربع طوفات، فإن كان بمكة.. لزمه الطواف وإن خرج منها.. جبره بالدم) .
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت سبعا» وقال: «خذوا عني مناسككم» فعلم أنه أراد بذلك: بيان الطواف الذي ورد به القرآن مجملا. ولأن الطواف عبادة تفتقر إلى البيت، فلم يجبر الدم بعض أجزائه، كالصلاة.
فإن طاف في يوم طوفة، وفي يوم آخر طوفة حتى أكمل السبع.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كالقولين في تفريق الوضوء. فلو طاف بعض طوفة فقطع وطال الزمان، فإن قلنا: يلزمه الاستئناف.. فلا كلام، وإن قلنا: يجوز البناء.. فهاهنا وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يستأنف.
والثاني: يبني من حيث قطع.
قال الشافعي: (وروي عن مجاهد: أنه قال: وأكره أن يقال في الطواف شوط ودور) . وقال الشافعي: (وأكره من ذلك ما كره مجاهد، وإنما يقال: طوفة وطوفتان وثلاث؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] , فسماه طوافا) .(4/279)
[فرع الطواف حول البيت والحجروالشاذروان جميعا]
فرع: [الطواف حول البيت والحجر والشاذروان جميعا] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف حول جميع البيت المبني والقدر الذي ترك منه في الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وهو ستة أذرع أو سبعة.
فإن طاف في الحجر أو على شاذروان الكعبة.. لم يجزه؛ لأن الشاذروان من الدكة السفلى في البيت.
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف حول البيت وترك الحجر.. جاز) .
دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " صلي في الحجر؛ فإنه من البيت» .
وروي أيضا: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر.. لنقضت البيت ورددته على قواعد إبراهيم؛ إن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة فتركوا بعض البيت في الحجر» .(4/280)
قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بقوله: (قصرت بهم النفقة) : أنه لم يكن لقريش مال يتمون به بناء الكعبة، وإنما أراد بذلك: أنهم قصرت بهم النفقة الطيبة الحلال؛ وذلك أن قريشا لما أرادت بناء الكعبة جمعت مالا عظيما، فخرج عليهم ثعبان ومنعهم من البناء، فتشاوروا، وقالوا: إن لهذا البيت حرمة، وإن الله طيب، وإنه لا يقبل إلا الطيب من أموالكم، فجمعوا الطيب الحلال من أموالهم، فقصر بناؤهم عن قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فأخرجوا بعض البيت وجعلوه في الحجر.
وفي رواية أخرى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة: (إن شئت أريتك القدر الذي أخرجوه من البيت، حتى إن أراد قومك أن يبنوه.. بنوه عليه "، قالت: فأراني نحوا من سبعة أذرع» .
[فرع الطواف ماشيا أوراكبا أو محمولا]
فرع: [الطواف ماشيا أو راكبا أو محمولا] : والأفضل أن يطوف ماشيا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف ماشيا في أكثر طوافه. ولأنه إذا طاف راكبا.. زاحم الناس وآذاهم بدابته، ولأنها ربما راثت في الموضع فتنجسه. ولأن القيام في العبادة أفضل من القعود.
فإن طاف راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر.
وقال مالك وأبو حنيفة: (إن طاف راكبا لعذر.. فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر.. فعليه دم) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت وبالصفا والمروة راكبا على(4/281)
راحلته؛ ليشرف على الناس، وليسألوه» .
فبين أنه طاف لذلك. ولأنه فعل من أفعال الحج، فإذا فعله راكبا.. لم يجب عليه الدم، كما لو كان له عذر، أو كما لو وقف بعرفة راكبا.
فإن حمل محرم محرما ونويا الطواف، وطاف به.. لم يجزه عنهما، ولمن يكون الطواف؟ فيه قولان:
أحدهما: يقع عن المحمول؛ لأن الحامل آلة له، فهو كالراكب.
والثاني: يقع عن الحامل. قال ابن الصباغ: وهو الأظهر؛ لأن الفعل وجد منه.
وقال أبو حنيفة: (يجزئ عنهما) .
دليلنا: أنه طواف واحد، فلا يجزئ عن طوافين، ولا ينتقض بالحامل في عرفة؛ لأن الوقوف لا يعتبر فيه الفعل، وإنما يعتبر فيه الكون هناك، وقد حصل الكون منهما فيها بخلاف الطواف.
[فرع ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله]
ويبتدئ بالطواف من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فإن أتى من وجه الكعبة.. لم يكن طائفا حتى يمر بالحجر الأسود؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ابتدأ الطواف منه، وقال: «خذوا عني مناسككم» وفي محاذاته للحجر ثلاث مسائل:(4/282)
إحداهن: أن يحاذي جميع الحجر بجميع بدنه، بأن يقف على يمين الحجر مما يلي الشق اليماني، ثم يمر به مستقبلا له، وهذا هو الأكمل.
الثانية: أن يحاذي بجميع بدنه بعض الحجر إن أمكنه فيجزئه، ولكن لا يمكن؛ لأن جثة الإنسان أكبر من الحجر، فإن أمكنه.. أجزأه، كما إذا استقبل بجميع بدنه بعض البيت في الصلاة.. فإنه يجزئه.
الثالثة: أن يحاذي ببعض بدنه جميع الحجر، مثل: أن يقف حذاء وسط الحجر؛ فإن بعض بدنه يكون خارجا من الحجر.. فهل يجزئه هذا؟ فيه قولان:
(الأول) : قال في القديم: (يجزئه) : لأنه حكم يتعلق ببدنه، فاستوى فيه جملة البدن وبعضه كوقوع الحد على بعض البدن.
و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجزئه) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استقبل الحجر واستلمه» وظاهر هذا: أنه استقبله بجميع بدنه. ولأن ما وجب فيه محاذاة البيت.. وجب محاذاته بجميع البدن، كالاستقبال في الصلاة؛ فإنه لو استقبل الكعبة في الصلاة ببعض بدنه، بأن يقف بحذاء بعض الأركان.. فإنه لا يجزئه: لأن بعض بدنه يكون خارجا عن الكعبة.
فإذا قلنا بهذا: لم تجزه الطوفة الأولى، فإذا طاف الثانية.. احتسبت له أولى؛ لأنه يمر على الحجر بجميع بدنه.
فإن طاف وهو واضع يده على جدار الكعبة.. قال المسعودي (في " الإبانة " ق\ 203] : فعلى القولين فيمن حاذى الحجر ببعض بدنه.(4/283)
إذا ثبت هذا: فروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قبل الحجر وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه» .
قال الشافعي: (وأحب للطائف أن يفعل ذلك إن أمكنه، فإن لم يمكنه ثلاثا.. فعل ما أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود عليه.. اقتصر على التقبيل، وإن لم يمكنه التقبيل بأن يتأذى بغيره أو يؤذي غيره.. استلمه بيده) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استلم الحجر الأسود» .
وروى ابن عباس: «أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ انكب على الحجر وقبله، وقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقبلك.. ما أقبلك) . وقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] » [الأحزاب: 21] .(4/284)
ويستحب أن يقبل يده؛ لما روي: «أن ابن عمر استلم الحجر الأسود وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يفعله» .
وإنما خص الحجر الأسود بالتقبيل: لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه قال: سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: «الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس نورهما.. لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» .
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يحشر الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لكل من استلمه بحق» .
وروي عن ابن عباس: أنه قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا بني آدم» . قال: فإن لم يمكنه الاستلام.. فإنه يشير إليه(4/285)
بيده، ولا يشير بالقبلة؛ لأنه قد روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما ازدحم الطواف.. استلم الركن بمحجن بيده» . ولم يشر إليه بالقبلة.
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعمر: " إنك رجل قوي، فلا تزاحم الناس على الركن، فتمنع الضعيف وتؤذي القوي، ولكن إن خلا لك.. فقبل، وإلا.. فكبر وامض» .
قال النبي: و (الاستلام) : مأخوذ من السلام، وهي الحجارة، فإذا مس الحجر بيده.. قيل: استلم، أي: مس السلام، وقيل: إنه مأخوذ من السلام "، أي: أنه يحيي نفسه عن الحجر، إذ ليس الحجر ممن يجيبه، يقال: اختدم: إذا لم يكن له خادم، وإنما خدم نفسه. وحكي عن ابن الأعرابي: أنه قال: هو مهموز ترك همزه، وهو مأخوذ من الملاءمة والموافقة، كما يقال: استلأم كذا استلئامًا: إذا رآه موافقا له وملائما.
ويستحب أن يقول عند ابتداء الطواف والاستلام: باسم الله، والله أكبر، اللهم(4/286)
إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، رواه عبد الله بن السائب عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ. وروي مثل ذلك عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وإن قرأ القرآن في الطواف.. كان حسنا؛ لما روي عن مجاهد: أنه كان يقرأ القرآن في الطواف.(4/287)
وإن قال في طوافه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. كان مستحبا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم فيه إلا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات» .
[فرع يشترط الترتيب في الطواف ويستحب الدنو منه]
] : الترتيب شرط في الطواف، وهو: أن يجعل البيت على يساره، ويمشي على يمينه، فإن مشى على يساره.. لم يجزه. وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا مشى على يساره، فإن كان بمكة.. أعاد، وإن خرج إلى بلده.. أجزأه وعليه دم) .
دليلنا: أن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] .
فأمر بالطواف مجملا.
وروى جابر وابن عباس: «أن النبي طاف مرتبا، فجعل البيت على يساره، ومشى على يمينه» . وقال: «خذوا عني مناسككم» فكان فعله هذا بيانا لما ورد به القرآن مجملا.
وما روي: أن أحدا طاف على خلاف ذلك إلا محمد بن داود، فهموا بقتله لولا(4/288)
أنه اختفى بمكة، وهذا يدل على شهرته. ولأنه عبادة تفتقر إلى البيت، فكان الترتيب فيها مستحقا، كالصلاة:
ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه هو المقصود، فكان الدنو منه أفضل، فإن كان هناك زحمة.. لم يستحب له أن يزاحم للدنو من البيت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك، فإن تباعد من البيت وطاف ملاصقا لجدار المسجد.. جاز. وإن طاف خارجا من المسجد.. لم يجزه؛ لأن حائط المسجد حائل بينه وبين الكعبة
[فرع ما يستحب استلامه من الأركان وما يفعله]
] : فإذا بلغ إلى الركن اليماني.. استلمه بيده وقبل يده ولا يقبله، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 204] : في كيفية استلام اليماني وتقبيله وجهان:
أحدهما: يقبل يده أولا، ثم يضعها عليه، كأنه ينقل القبلة إليه.
والثاني: يضع يده على الركن ثم يقبلها، فكأنه ينقل بركته إلى نفسه.
وقال مالك: (يستلمه ولا يقبل يده، ولكن يضعها على فيه) .
وقال أحمد: (يقبله) .
وقال أبو حنيفة: (لا يستلمه، ولا يقبل يده) .
دليلنا ـ على استلامه ـ: ما روى ابن عمر: «أن: النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة، ولا يستلم الآخرين» .(4/289)
وأما تقبيل اليد: فروي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري: (أنهم كانوا يتسلمون الركن اليماني ويقبلون أيديهم) ، ولا مخالف لهم. ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم، فسن فيه الاستلام، كالأسود.
وأما الركن العراقي والشامي ـ وهما اللذان يليان الحجر ـ: فلا يستلمان ـ عندنا ـ وروي ذلك عن عمر وابن عمر ومعاوية.
وروي عن جابر وابن الزبير وأنس وابن عباس: (أنهم كانوا يستلمون الأركان الأربعة) .
وروي «عن ابن عباس أو ابن الزبير: (أنه استلم الأركان الأربعة، فقال له معاوية:(4/290)
ما كان رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال ليس في البيت شيء مهجور» .
دليلنا: حديث ابن عمر قال الشافعي: (ليس ترك استلامهما هجرانا لهما؛ لأن الطواف يقع بهما، ألا ترى أن جدران البيت لا تستلم، ولا يقال في ذلك. هجران جدرانه) .
إذا ثبت هذا: فيستحب للطائف كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر، ويستحب له أن يستلم الركنين في كل طوفة؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلمهما في كل طوفة» .
وروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يطوف على راحلته، فكلما أتى على الركنين: الأسود واليماني.. أشار بشيء في يده وكبر وقبله» .(4/291)
قال الشافعي: (فإن لم يمكنه الاستلام في كل طوفة.. فالمستحب: أن يستلمهما في كل وتر، وهو الأول والثالث والخامس والسابع؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله وتر يحب الوتر» .
ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود؛ لما روي عن ابن عباس: «أنه قال: (عند الركن اليماني ملك قائم يقول: آمين آمين، فإذا مررتم به.. فقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] [البقرة: 201] » .
[مسألة مشروعية الرمل والاضطباع وما يقوله]
الرمل هيئة في الطواف، فيستحب لمن طاف الطواف الأول في النسك أن يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي في الأربعة.
قال الشافعي: (والرمل: سرعة المشي مع تقارب الخطو، ولا أحب أن يثب من الأرض) ، والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دخل مكة هو وأصحابه، قالت قريش: إن حمى يثرب قد نهكتهم، فجلسوا في الحجر لينظروا طوافهم، فرمل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في الثلاثة الأولى، وأمر أصحابنا بذلك " فلما رأوهم قالوا: ما نراهم إلا مثل الغزلان» .(4/292)
قال المسعودي [في " الإبانة، ق \ 204] : واختلفت الرواية في موضع الرمل:
فروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل من الحجر إلى الحجر» يعني: حول جميع الكعبة.
وروى ابن عباس: «أنه رمل من الحجر الأسود إلى اليماني، ومشى بين الركنين» لأنه كان يقصد إظهار الجلد للمشركين وهم لا يرونه في ذلك الموضع؛ إذ كانوا في الحجر. وقد حكى ابن الصباغ هذه الرواية عن ابن عباس.
فإن قيل: فإنما أمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالاضطباع والرمل؛ ليري المشركين القوة وقد زال هذا المعنى.
فالجواب: أنه روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل في عمرة الجعرانة» وذلك بعد الفتح، وكذلك رمل في حجته بعد الفتح، فثبت أنه سنة.
فان قيل: فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا فكيف يصح هذا؟
قلنا: إنما طاف النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راكبا في طواف الإفاضة، وطاف ماشيا في طواف القدوم، وسعى بعده، فرمل فيهما.
فإن طاف راكبا أو محمولا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\204] :
أحدهما: يحرك دابته في موضع الرمل، ويرمل به الحامل؛ لأنه هيئة في الطواف.
والثاني: لا يرمل؛ لأنه يؤذي الناس بذلك.(4/293)
وأما الشيخ أبو حامد: فحكى في رمل الحامل قولين:
[الأول] : قال في الجديد: (يرمل) .
و [الثاني] : قال في القديم: (لا يرمل) .
فإن أمكن الطائف الدنو من البيت والرمل.. فعل ذلك. وإن لم يمكنه أن يرمل في طوافه بقرب البيت من زحمة الناس ... نظرت: فإن كان إذا وقف ساعة وجد فرجة يرمل بقرب البيت.. وقف ساعة ليقرب من البيت ويرمل، وإن لم يرج بوقوفه إدراك فرجة أو خفة الزحمة.. لم يقف، بل يخرج إلى حاشية الطواف، فيرمل؛ لأن الرمل هيئة في الطواف، والدنو من البيت فضيلة في الطواف، فكان مراعاة الهيئة أولى من مراعاة الفضيلة.
فإن كان بحاشية الطواف نساء إذا خرج اختلط بهن.. لم يخرج لئلا يختلط بالنساء؛ لأنه يخاف عليه الافتتان بهن، ولكنه يطوف ويقرب من البيت، ويحرك نفسه أكثر ما يقدر عليه.
وإن ترك الرمل في الثلاثة الأولى.. لم يقضه في الأربعة؛ لأنه هيئة، فإذا فات محله.. لم يقض، كالجهر في الركعتين الأولتين، ولأن السنة أن يمشي في الأربعة، فإذا رمل فيها.. خالف السنة من وجهين:
ويستحب أن يقول في رمله: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا. ويقول في مشيه: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ لما روى السائب بن يزيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك في طوافه. ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا.(4/294)
فإذا طاف للقدوم وسعى بعده، فاضطبع ورمل فيهما.. فقد سقط فرض السعي عنه، ولا يعيد الاضطباع والرَّمَل في طواف الزيارة، لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا طاف الطواف الأول.. خب ثلاثا، ومشى أربعا» فدل على: أنه لم يفعله إلا في الأول.
وإن طاف للقدوم فاضطبع ورمل فيه، ولكن لم يسع بعده.. فإنه يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؛ لأنه يحتاج إلى الاضطباع والرّمل في السعي، ولا يمكنه أن يفعل ذلك في السعي دون الطواف؛ لأن السعي تابع للطواف، فلا يكون التابع أكمل من المتبوع.
وإن طاف للقدوم وسعى بعده، ولم يضطبع ولم يرمل فيهما.. فهل يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يضطبع ويرمل فيه ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره- لئلا تفوته سنة الاضطباع والرمل.
والثاني: لا يضطبع ولا يرمل في طواف الزيارة، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، كما إذا ترك ذلك في الثلاثة الأولى.. فإنه لا يفعله في الأربعة بعدها.
[فرع: الرمل والاضطباع للمرأة وترك الهيئات للرجل]
فرع: [لم يشرع للمرأة الرمل والاضطباع ولا شيء على الرجل بترك الهيئات] : ولا تضطبع المرأة ولا ترمل؛ لأن معنى ذلك: هو إظهار الجلد، والجلد في أصله لا يوجد فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن.(4/295)
قال القاضي: وكذلك الخنثى لا يفعل ذلك كالمرأة.
وإن ترك الرجل الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف.. جاز، ولا يلزمه بذلك شيء.. وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري، والثوري، وعبد الملك الماجشون: يجب عليه الدم.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على من ترك الرمل شيء) ولا يقول ذلك إلا توقيفا. ولأن ذلك هيئة، فلم يجب عليه شيء بتركه، كوضع اليمين على الشمال في الصلاة.
[فرع الشرب في الطواف وكراهة تغطية الفم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بشرب الماء في الطواف، ولا أكرهه بمعنى المأثم، لكني أحب تركه؛ لأن ذلك حسن في الأدب) .
وروي: أن ابن عباس: (كان يطوف فاستدعى ماء، فشربه في الطواف) .(4/296)
قال الشيخ أبو حامد: وروي من وجه لا يثبت: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شرب الماء في الطواف» .
قال ابن الصباغ: ويكره لمن طاف بالبيت أن يضع يده على فيه في الطواف؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وذلك يكره في الصلاة.
[مسألة الطواف بلباس محرم وقطعه للصلاة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ": (وإذا طاف المحرم وعليه ثوب لا يحل للمحرم لبسه.. صح طوافه، وكان عليه الفدية) ؛ لأن تحريم اللبس لا يختص بالطواف، وإنما يتعلق بالإحرام، فلم يمنع صحة الطواف.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا كان على الإنسان طواف واجب فطاف بنية النفل.. كان ذلك عن الواجب عليه؛ لأن الطواف أحد أركان الحج، فإذا فعل من جنسه بنية النفل وعليه فرضه.. كان عن فرضه، كالإحرام بالحج.
قال الشافعي: (وإن دخل في الطواف، ثم أقيمت الصلاة.. خرج وصلى، وبنى(4/297)
على طوافه؛ لأن الجماعة تفوت والطواف لا يفوت، فكان الجمع بينهما أولى) .
قال: (وأكره له أن يخرج من الطواف أو السعي إلى صلاة الجنازة إلا أن تكون الجنازة على طريقه، فيصلي عليها من غير أن يعرج إليها، ولو خرج إليها.. لم يكن عليه الاستئناف، بل يبني على ما مضى) .
[مسألة صلاة ركعتي الطواف]
فإذا فرغ من الطواف.. صلى ركعتين، وهل هما واجبتان أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهما تجبان، وبه قال أبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: 125] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا، ثم نزل فصلى ركعتين خلف المقام» فلو كانتا مستحبتين.. لصلاهما رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الراحلة.
والثاني: أنهما سنة ـ وهو قول مالك ـ لما روى طلحة بن عبيد الله في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن الإسلام، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (لا، إلا أن تطوع» . ولأنها صلاة ذات ركوع وليس لها وقت راتب، فلم تكن واجبة بأصل الشرع، كصلاة الخسوف.
فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة.
وقولنا: (ليس لها وقت راتب) احتراز من سائر الصلوات المفروضات.
وقولنا: (بأصل الشرع) احتراز من النذر.
ومن قال بهذا.. قال: ليس في الآية ما يدل على إيجاب ركعتي المقام، وإنما(4/298)
أمرنا بأن نتخذ من المقام مصلى. وأما صلاة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الأرض: فلأن صلاة النافلة على الأرض أفضل.
فإذا قلنا: إنهما سنة.. جاز أن يصليهما قاعدا من غير عذر
وإذا قلنا: إنهما واجبتان.. فهل يجوز أن يصليهما قاعدا من غير عذر؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: لا يجوز، كالصلاة الواجبة.
والثاني: يجزئ، كالطواف راكبا.
واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان في طواف الفرض، في فأما طواف القدوم: فلا يجبان فيه قولا واحدا؛ لأن طواف القدوم نفسه لا يجب، فكذلك ما يتبعه.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح، بمعنى أنه: لا يحكم له
بصحة الطواف حتى يأتي بالركعتين؛ لأن النفل يجوز أن يشترط في صحته ما هو فرض، كالطهارة والستارة والقراءة والركوع والسجود.
فإن صلى بعد الطواف صلاة فرض، فإن قلنا: إن ركعتي الطواف سنة.. أجزأه ذلك عنهما، كما إذا صلى الفرض عند دخول المسجد.. فإنها تجزئ عن تحية المسجد، وقد روي عن ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت أسبوعا، ثم وافق صلاة مكتوبة.. أجزأته عن ركعتي الطواف» . وروي عن ابن عمر: أنه فعل ذلك، ولا مخالف له. وهذا يدل على استحبابهما.(4/299)
وإن قلنا: إنهما واجبتان.. لم تقم الفريضة مقامهما؛ لأنهما فريضة، فلا تدخلان في غيرهما، كسائر الفرائض.
[فرع الجمع بين أسابيع الطواف]
قال الشيخ أبو نصر: لا يكره أن يجمع بين أسابيع من الطواف، ثم يركع لكل واحد منها. وروي ذلك عن عائشة والمسور بن مخرمة.
وقال الحسن، والزهري، وعروة، ومالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك) ، وروي ذلك: عن ابن عمر.
دليلنا: ما روى السائب بن يزيد عن أمه: أنها قالت: (طفت مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاثة أسابيع، ثم دخلت الحجر فصلت ست ركعات) .
قال الصيمري: إذا طاف أسابيع متصلة، ثم صلى ركعتين.. جاز.
قلت: ويحتمل أنه أراد إذا قلنا: إنهما سنة.
[فرع صلاة ركعتي الطواف عن الصبي]
وموضعها والرجوع بدونها] : إذا طاف بصبي لا يعقل، وصلى ركعتين.. فهل تقعان عن الصبي؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أنهما تقعان عن الصبي؛ لأنهما تبع للطواف، ولما دخلت النيابة في الطواف.. دخلت في تبعه.
والثاني: تقعان عن الحامل؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الصلاة بحال.(4/300)
وقد قال مالك: (لا يجوز أن يصلي عن الصبي) .
دليلنا: ما ذكرناه للوجه الأول.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن المستحب: أن يصليهما خلف المقام، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الطواف.. نزل، فصلى خلف المقام ركعتين، فقرأ في الأولى منهما: بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد» .
فإن صلاهما في غيره من المواضع.. جاز. وقال مالك والثوري: (إن لم يصلهما خلف المقام.. لم يجزه، وعليه دم) .
دليلنا: أنها صلاة، فلم تختص بمكان، كسائر الصلوات.
فإن لم يصلهما حتى رجع إلى بلده.. قال الشافعي: (صلاهما، وأراق دما) .
قال أصحابنا: إراقة الدم مستحبة لا واجبة.
[فرع يرقى إلى الصفا بعد ركعتي الطواف]
فإذا فرغ الطائف من ركعتي المقام.. فالمستحب له: أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده، ويمسح بها وجهه. وإن أراد السعي.. خرج من باب الصفا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل ذلك لما فرغ من ركعتي المقام» .(4/301)
[مسألة وجوب السعي بين الصفا والمروة]
وكونه بعد طواف] :
ثم يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة، إذا تركه.. لم يحل من إحرامه، ولم ينجبر بالدم. وبه قال من الصحابة عائشة. ومن الفقهاء: أحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (هو واجب وليس بركن، فإن تركه.. جبره بالدم) . وروي ذلك: عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وأنس.
دليلنا: ما روي «عن صفية بنت شيبة، عن جدتها حبيبة ـ إحدى نساء بني عبد الدارـ: أنها قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين لأنظر إلى رسول الله وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» . وهذه اللفظة أبلغ لفظة في كون السعي فرضا.(4/302)
وأما قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] : فأراد رفع الجناح عنهم في السعي بينهما؛ لأنهم كرهوا ذلك خوفا من التشبه بالمشركين؛ لأنه كان عليهما لهم صنمان: إساف ونائلة، فكانوا يطوفون بينهما، فلما جاء الإسلام تحرج المسلمون من الطواف بينهما.. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] الآية [البقرة: 158]
وقيل: إن أصل السعي بينهما: أن أم إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - سعت من ناحية الصفا إلى ناحية المروة، في طلب الماء لإسماعيل سبع مرات، حتى أنبع الله ماء زمزم، ثم جعل الله تعالى ذلك شرعا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السعي لا يصح إلا بعد طواف؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة.. طاف للقدوم، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة» .
قال الشيخ أبو نصر: ويجوز لمن أحرم بالحج من مكة، إذا طاف للوداع لخروجه إلى منى أن يقدم السعي بعد هذا الطواف.(4/303)
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (لا يجوز تقديم السعي لمن أحرم بالحج من مكة، وإنما يجوز ذلك للقادم) .
دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كان يفعل ذلك، إذا أحرم من مكة) . وروي: (أن ابن الزبير لما أهل هلال ذي الحجة.. أهل وطاف وسعى وخرج) . وأجاز ذلك القاسم بن محمد. ولأنه: إذا جاز ذلك لمن أحرم من غير مكة.. جاز ذلك لمن أحرم منها. والمستحب: أن يوالي بين الطواف والسعي.
قال الشيخ أبو حامد: فإن فرق بينهما بيوم أو شهر أو سنة.. أجزأه؛ لأنهما ركنان في الحج، فلم تجب الموالاة بينهما، كالوقوف والطواف.
وهكذا قال القفال، إلا أنه قال: يجوز الفصل بينهما بما شاء من الزمان إلا أن يتخللهما ركن، مثل: أن يطوف للقدوم، ثم يقف بعرفة، ثم يسعى بين الصفا والمروة.. فإنه لا يحتسب له بذلك، لا لوقوع الفصل بينهما؛ ولكن لأن السعي يجب أن يكون تبعا للطواف وهاهنا يكون السعي تبعا للوقوف، فلم يجز. هذا مذهبنا.
وقال عطاء وبعض أصحاب الحديث: إذا قدم السعي على الطواف.. جاز.
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر.
[فرع ترتيب السعي وحسابه]
الترتيب شرط في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة.
وقال عطاء: إن بدأ بالمروة وكان جاهلا.. أجزأه.(4/304)
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما خرج إلى السعي.. تلا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: 158] . ثم قال: " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " وبدأ بالصفا، حتى فرغ من آخر سعيه على المروة» .
فإذا مشى من الصفا إلى المروة.. احتسب له بذلك مرة، فإذا مشى من المروة إلى الصفا.. احتسب له بذلك مرة ثانية، حتى يستوفي المشي بينهما سبع مرات، ويحصل له الوقوف على كل واحد من الصفا والمروة أربع مرات.
وحكي: أن أبا بكر الصيرفي وابن خيران قالا: لا يحتسب له بمرة حتى يمشي من الصفا إلى المروة، ثم يرجع إلى الصفا، كالطواف بالبيت لا يحتسب له بمرة حتى يعود إلى الموضع الذي بدأ منه. وهو قول ابن جرير الطبري.
والمذهب الأول؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بدأ بالصفا، وفرغ من آخر سعيه بالمروة» . وهذا لا يكون إلا على ما ذكرناه، وما ذكروه من الطواف.. فهو الحجة عليهم؛ لأن الطواف بالبيت لا يمكنه استيفاء الطوفة الواحدة حتى يبلغ من الحجر إلى الحجر، وفي السعي بين الصفا والمروة، إذا مشى من الصفا إلى المروة.. فقد استوفى السعي بينهما، فاحتسب بذلك مرة، كالطواف بالبيت.
[فرع الصعود على الصفا والمروة]
والدعاء وصفة السعي بينهما] : ويرقى على الصفا، حتى يرى البيت ويستقبله، ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده(4/305)
لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولوكره الكافرون. ويقول ذلك ثلاثا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك على الصفا والمروة» . ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يدعو لنفسه على الصفا والمروة) .
فإذا فرغ.. نزل ومشى حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد نحو من ستة أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس، فيقطع السعي الشديد، ويمشي على سجية مشيه حتى يصعد المروة ويستقبل البيت، ويدعو عليها بمثل ما دعا على الصفا، ثم ينزل ويمشي في موضع المشي، ويسعى في موضع السعي؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نزل من الصفا.. مشى، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي.. سعى سعيا شديدا» وإنما فعل ذلك؛ لأنه كان بحذاء السوق، وقد كانت قريش قعدت له لتنظر إليه كيف يسعى؟ فسعى سعيا شديدا إلى الموضع الذي غاب عنهم، يقصد بذلك تكذيبهم بقولهم: إن محمدا وأصحابنا قد نهكتهم حمى يثرب. فإن ترك السعي الشديد ومشى في الجميع.. جاز؛ لما روي: «أن ابن عمر كان يمشي بينهما، وقال: قد رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمشي بينهما» .(4/306)
قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يقول في سعيه: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم؛ لما روي: «أن امرأة من بني نوفل قالت سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول ذلك في سعيه» .
وأما الشيخ أبو حامد: فذكر: أنه يقول ذلك في الطواف، ولم يذكر في حال السعي ذكرا.
فإن سعى راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر، غير أن المستحب: أن يسعى ماشيا.
وقال عروة بن الزبير وعائشة: (يكره له أن يسعى راكبا) .
وقال أبو ثور: (لا يجزئه، وتلزمه إعادته) .(4/307)
وقال أبو حنيفة: (يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلده.. أجزأه، وعليه دم)
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت على راحلته، وبين الصفا والمروة» .
وعن أنس: (أنه كان يطوف بينهما على حمار) .
فإن لم يرق على الصفا والمروة.. أجزأه.
وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يجزئه؛ لأنه لا يمكنه استيفاء ما بينهما إلا بأن يرقى عليهما.
والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] ، والمراد: السعي بينهما. وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يقف في حوض في أسفل الصفا، ولا يرقى عليه) ولا مخالف له.
وأما استيفاء ما بينهما: فيمكنه ذلك بأن يلصق عقبه بهما، فإن أخل أحد بشيء مما بينهما وإن قل.. لم يجزه.
[فرع استحباب الطهارة للسعي وقطعه وسعي المرأة]
] : والمستحب إذا سعى: أن يكون على طهارة؛ لأنه قربة وعبادة، فاستحب أن يكون فيها على طهارة.
فإن سعى محدثا أو جنبا أو كانت المرأة حائضا أو نفساء.. صح؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» فخص الطواف بالنهي، فدل على أن فعل الباقي جائز.(4/308)
فإن عرض له عارض في السعي فقطعه وطال الزمان.. استحب له أن يستأنف، فإن بنى عليه.. جاز قولا واحدا، بخلاف الطواف؛ لأنه لا يفتقر إلى الطهارة، فلم يقطعه الفصل الطويل، كالوقوف والرمي.
وإن كانت امرأة ذات جمال.. سعت ليلا، خوف الافتتان بها، وتمشي في الجميع، كما قلنا في الطواف.
[مسألة خطب الحج أربع والتعريف بيوم التروية]
] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر] .
وجملة ذلك: أن الخطب في الحج أربع:
خطبة يوم السابع بمكة، وخطبة بعرفة، وخطبة بمنى يوم النحر، وخطبة بمنى يوم النفر الأول، وكلها بعد الصلاة إلا خطبة عرفة.. فإنها قبل الصلاة.
وقال أحمد: (لا تسن الخطبة يوم السابع) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الظهر بمكة يوم السابع وخطب» .
إذا ثبت هذا: فإنه يعلمهم المناسك.
قال الشافعي: (وإن كان فقيها.. قال: هل من سائل؟ ويأمرهم بالخروج في يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن ـ إلى منى) .
قال الصيمري وسمي يوم التروية؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أرى إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مناسكه في هذا اليوم.(4/309)
وقيل: لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رأى حواء فيه عندما أهبط إلى الأرض.
وقيل: لأن الناس يتروون الماء ويحملونه في الروايا إلى منى. وهذا هو المشهور.
قال ابن الصباغ: فإن وافق يوم السابع يوم الجمعة.. صلى، ثم خطب بعد الصلاة؛ لما ذكرناه. وإن وافق يوم التروية يوم الجمعة.. أمرهم أن يخرجوا قبل طلوع الفجر؛ لأن الفجر إذا طلع.. لم يجز الخروج إلى سفر، وترك الجمعة في أحد القولين.
قال الشافعي: (ولا تصلى الجمعة بمنى، ولا بعرفات إلا أن تحدث فيهما قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلا) .
[فرع الرواح إلى منى وما يصنع الإمام والناس حتى وصولهم عرفة]
] : قال الشافعي: (ويأمرهم بالغدو بكرة إلى منى) . وقال في موضع آخر (يروحون إلى منى) .
وليست على قولين، بل هم مخيرون: بين أن يغدوا بكرة، وبين أن يروحوا بعد الزوال، وهذا أولى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لأصحابه: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا» . فندبهم إلى الرواح.
ويصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى، ويبيتون بها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه البيتوتة بمنى ليست بواجبة ولا بسنة، وإنما هي هيئة إن فعلها.. فقد أحسن، وإن تركها.. فلا شيء عليه.
فإذا صلى الإمام الصبح بمنى.. وقف، فإذا طلعت الشمس على ثبير ـ وهو أعلى جبل بمنى ـ سار إلى عرفة، فإذا بلغ إلى وادي عرنة.. نزل بنمرة ـ وهي بعرفة، وليست من عرفة ـ فإذا زالت الشمس سار إلى مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لما(4/310)
روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الصبح بمنى، فلما بزغت الشمس.. رحل في أول بزوغها إلى عرفات، فلما بلغ إلى عرفة.. أمر فضربت له قبة من شعر» .
وروي: «من أدم حمراء بنمرة، فنزل بها حتى زالت الشمس.. ثم سار إلى المسجد، فجمع بين الظهر والعصر» .
فإذا بلغ الإمام مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. صعد المنبر، فخطب الخطبة الأولى وأوجز، ثم يجلس بعدها بقدر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، ويبدأ المؤذن بالأذان، ويكون فراغ الإمام من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الأذان.
وقال أبو حنيفة: (يأمر المؤذن بالأذان، ثم يخطب بعده كالجمعة) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما زالت الشمس.. صعد المنبر وخطب الخطبة الأولى، ثم جلس وأمر المؤذن بالأذان، ثم قام فخطب الخطبة الثانية، ثم أمره فأقام الصلاة» .
فأخبر: أنه أمر بالأذان بين الخطبتين، فدل على أن هذا هو السنة، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.(4/311)
وذكر ابن الصباغ: أنه يأمر بالأذان عند قيامه في الخطبة الثانية، فإذا فرغ الإمام من الخطبتين، فإن كان مسافرا.. فله أن يقصر الظهر والعصر، ويجمع بينهما، وكذلك من بعده من المسافرين.
قال الشافعي: (وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعا.. أتموا الصلاة ولم يقصروا، فإذا خرجوا يوم التروية، ونووا الرواح إلى بلدهم عند الفراغ من نسكهم.. كان لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأنهم قد أنشئوا سفرا تقصر فيه الصلاة.
وأما أهل مكة ومن فيها من المقيمين: فلا يجوز لهم القصر، وكذلك لا يجوز للإمام إذا كان مقيما القصر، ويتم من خلفه من المسافرين) .
وقال مالك: (يجوز القصر للمسافرين بعرفة وأهل مكة ومن بها من المقيمين)
واحتج بـ: (أن ابن عمر أتم الصلاة بمكة، وقصر بعرفة) .
وأيضا فـ: «إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قصر بعرفة وكان معه أهل مكة وغيرهم، فلم ينههم عن ذلك» .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد» وذلك: بين(4/312)
مكة إلى عسفان والطائف. وهذا نص، في أنه قد نهاهم عن القصر فيما دون ذلك. وأما ابن عمر: قال الشافعي: (فإنه أتم بمكة؛ لأنه كان مقيما بها، ولما خرج إلى عرفة.. صار على السفر، ونوى أن ينفر إلى المدينة عند الفراغ من نسكه، فلذلك قصر الصلاة) .
وأما الجمع بعرفة لأهل مكة ومن كان مقيما بها: فقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجوز الجمع في السفر القصير.. جاز لهم الجمع، وإن قلنا: لا يجوز لهم الجمع إلا في السفر الطويل.. لم يجز لهم الجمع، بل يصلون الظهر في وقتها، والعصر في وقتها.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\203] هل الجمع بعرفة لأجل النسك أو لأجل السفر؟ فيه وجهان.
وهذا إنما يكون على القول الجديد، الذي يقول: (لا يجوز الجمع في السفر القصير) .
فإذا قلنا: إنه للنسك جاز الجمع فيها لأهل مكة وغيرهم، وهو قول القاضي أبي القاسم الصيمري..
وإذا قلنا: إنه للسفر.. اختص بأهل السفر الطويل.
وقال أبو حنيفة: (إن صلوا مع الإمام.. جاز لهم الجمع، وإن صلوا منفردين ... لم يجز لهم الجمع) . وهذا غلط؛ لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما مع الإمام
وجب أن يجوز الجمع بينهما منفردا، كالصلاتين بالمزدلفة؛ فإن أبا حنيفة وافقنا عليهما.
[مسألة دخول النبي صلى الله عليه وسلم عرفة والتعريف بها]
مسألة: [دخول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عرفة والتعريف بها وما يستحب لها] : فإذا فرغ من الصلاة في مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. راح إلى الموقف لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الصلاة.. ركب ناقته القصواء، وراح إلى الموقف، ووقف» .(4/313)
و (الوقوف بعرفة) : ركن من أركان الحج، وهو من أعظم أركانه؛ لأن فوات الحج وإدراكه يتعلق به.
والدليل عليه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «الحج عرفة، فمن أدرك عرفة.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج»
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعرفة» ، وقال: «خذوا عني مناسككم»
قال الصيمري: وسميت عرفة؛ لتعريف جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيها مناسكه.
وقيل: لأن آدم عرف فيها حواء.
وقيل: لحصول الناس في موضع عال، والعرب تسمي العالي: عرفة وأعرافا.
ويستحب الاغتسال للوقوف؛ لأنه موضع يجتمع فيه الناس للعبادة، فسن فيه الاغتسال كالجمعة.
و (حد عرفة) : ما بين الجبل المشرف على بطن عرفة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا.(4/314)
وأما وادي عرنة، والمسجد: فليس من عرفة.
وقال مالك: (هو من عرفة) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة» . وروي: «عرفة كلها موقف إلا وادي عرنة» ".
والأفضل أن يقف عند الصخرات السود عند جبل الرحمة؛ لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ومن بعده والنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والصحابة وقفوا عندها، وإن وقف في أي موضع شاء من عرفة.. صح.
قال الشافعي: (وأي موضع خلا بنفسه ... كان أفضل؛ ليتوفر على الدعاء والذكر) . ويستحب أن يكون مستقبل القبلة، لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف مستقبلا القبلة) وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خير المجالس ما استقبل به القبلة»(4/315)
ويستحب للإنسان يوم عرفة أن يكثر من قراءة القرآن والذكر، والصلاة، ويكثر في دعائه قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» . وروي: «أنه كان يكثر في دعائه عشية يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» .
وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقيل له: هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما سمعت بقول الشاعر:(4/316)
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ترفع الأيدي عند الموقفين - يعني - عند عرفة، والمشعر الحرام» .
وهل الأفضل أن يكون راكبا؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أن الراكب والنازل سواء.
والثاني: أن الراكب أفضل، وهو الأصح لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف راكبا» ، ولأنه أقوى على الدعاء، ولهذا: كان الإفطار بعرفة أفضل؛ لأنه أقوى على الدعاء.
[فرع زمن الوقوف بعرفة وصفة الواقف بها]
] : وأول وقت الوقوف: إذا زالت الشمس يوم عرفة، وآخره: إذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال أحمد: (جميع يوم عرفة وقت للوقوف) .
وقال مالك: (الاعتماد في الوقوف هو الليل، والنهار تبع له، والأفضل أن(4/317)
يجمع بينهما، فإن وقف بالليل دون النهار.. أجزأه، وإن وقف بالنهار دون الليل.. لم يجزه) .
دليلنا ـ على أحمد ـ: ما روي في حديث جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما صلى الصبح بمنى يوم عرفة.. مكث حتى طلعت الشمس، ثم سار إلى نمرة، فضربت له بها قبة من أدم، فنزل بها حتى زالت الشمس، فسار إلى المسجد فخطب وصلى، ثم راح إلى الموقف» ولو كان ما قبل الزوال وقتا للوقوف.. لكان يغدو إليها؛ لأن حصوله في موضع الطاعة والقربة أفضل وأكثر للثواب من نزوله في غيرها.
والدليل ـ على مالك ـ: ما روي «عن الحارث بن مضرس: أنه قال: أتيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله أتيت من جبل طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، ولم أدع حبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من صلى صلاتنا هذه، وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه، وقضى تفثه» . قال ابن الصباغ: و (الحبل) : هو الواحد من حبال الرمل.
وأيضا فـ: (إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف الكثير من النهار، والجزء اليسير من الليل) ، فلو كان الليل هو الاعتماد في الوقوف.. لكان يقف أكثر الليل وأقل النهار.(4/318)
وأما قدر الإجزاء: فإذا حصل بعرفة ـ من حين الزوال إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر ـ لحظة: إما قاعدا أو قائما أو راكبا أو سائرا.. فإنه يجزئه؛ لحديث الحارث بن مضرس.
قال الشيخ أبو حامد: وليس مسيره فيها بأكثر من مشي المعتكف في المسجد.
ولو اعتكف الرجل في المسجد فلم يجلس، بل لا يزال يمشي في المسجد من أحد طرفيه إلى الآخر.. أجزأه؛ لأن (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد، وقد وجد منه ذلك، فكذلك هذا مثله.
وإن وقف بعرفة وهو نائم.. أجزأه؛ لأنه كالمستيقظ في الحكم.
وحكى ابن القطان في النائم وجها آخر: أنه لا يصح، وليس بشيء.
وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون.. فالمشهور: أنه لا يجزئه؛ لأنه لو أغمي عليه أو جن جميع نهار يوم من رمضان.. لم يصح صومه، ولو نام جميع نهار رمضان.. صح صومه.
وحكى ابن القطان وجها آخر: أنه يصح، وليس بشيء.
فإن وقف بعرفة سكران من غير معصية.. فهو كالمغمى عليه، وإن كان سكران بمعصية.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: لا يجزئه؛ تغليظا عليه.
والثاني: يجزئه: لأنه في حكم الصاحي.
وإن وقف بعرفة وهو لا يعلم أنها عرفة.. فالمشهور: أنه يصح؛ لحديث الحارث بن مضرس؛ لأنه قال: لم أدع حبلا إلا وقد وقفت عليه ـ فلو كان يعلم عرفة.. لم يحتج إلى الوقوف بغيرها ـ فقال له النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من صلى صلاتنا هذه،(4/319)
وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» . ولم يفرق بين أن يكون عرفها أم لا.
وحكى ابن القطان وجها آخر عن ابن الوكيل: أنه لا يجزئه ـ وهو قول أبي ثور ـ وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن الأفضل أن يقف من حين الزوال إلى أن تغرب الشمس من ليلة النحر، ثم يدفع من عرفة؛ لما روى علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بها حتى غابت الشمس، ثم دفع منها» .
وروى المسور بن مخرمة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لندفع بعد غروب الشمس مخالفة لأهل الشرك والأوثان» .(4/320)
فإن دفع منها قبل غروب الشمس ولم يعد إليها حتى طلع الفجر من يوم النحر أراق دما، وهل هو واجب أو مستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه واجب، ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بعرفة إلى أن غربت الشمس، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، وقد قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» ولأن الوقوف ركن، فإذا لم يأت به على الوجه المشروع، بل أخل ببعضه.. أجزأه، ولزمه الدم، كما لو أحرم دون الميقات.
والثاني: أنه مستحب؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ للحارث بن مضرس: «وكان قد وقف معنا ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» وتمامه يقتضي: أن لا دم عليه؛ لأن الدم يراد لجبر النقص. ولأنه وقف في أحد زماني الوقوف، فلم يجب عليه الدم، كما لو وقف بالليل دون النهار.
وإن رجع إليها بعد الغروب.. سقط عنه الدم.
وقال أبو حنيفة: (لا يسقط) ، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين.
دليلنا: أنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار، فسقط عنا الدم، كما لو رجع قبل الغروب ووقف حتى غربت، ثم دفع.
[مسألة الانطلاق إلى المزدلفة وما يصنع بها ومتى يخرج منها]
] : فإذا غربت الشمس.. دفع إلى المزدلفة؛ لحديث علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليها بعد الغروب» .
وسميت مزدلفة بذلك؛ لاجتماع الناس بها، قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء: 64] [الشعراء: 64] ، أي: جمعناهم.(4/321)
ويمشي عند الازدحام على سجية مشيه؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يشير إلى الناس بيده ويقول: " على رسلكم " عند الازدحام. فإذا وجد فرجة.. أسرع المشي؛» لما روي: أنه «سئل أسامة بن زيد عن سير رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من عرفة إلى المزدلفة، فقال: (كان يسير العَنَق، فإذا وجد فرجة نصَّ» يعني: رفع في السير، وظهر فيه، و (النص) : مأخوذ من الرفع؛ لأنه رفع في بيانه إلى أقصى غايته، وسميت المنصة منصة؛ لظهورها وارتفاعها.
والمستحب: أن يمر إلى المزدلفة على طريق المأزِمين؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ سلكه) فإن سلك الطريق الآخر.. جاز.
فإذا بلغ الإمام المزدلفة.. جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ جمع بينهما فيها) .(4/322)
قال في " الإملاء ": (فإن خاف فوت النصف الأول من الليل قبل أن يوافي مزدلفة.. نزل وصلى في أي موضع كان لئلا يفوت وقتها المختار) . فإذا وافى مزدلفة.. قال الشافعي: (صلى قبل حط رحله) ؛ لـ: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هكذا فعلوا) .
قال الشافعي: (فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها.. صح) .
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يصلي المغرب بعرفة ولا في طريقه، فإن فعل ذلك.. أعادها مع العشاء بمزدلفة) .
دليلنا: أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما في وقت أحدهما.. جاز فعل كل واحدة منهما في وقتها، كالظهر والعصر بعرفة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ولأن الجمع رخصة لأجل السفر، فجاز له تركه، وهذا يدل من قوله: (أن الجمع بمزدلفة لأهل السفر الطويل) .
فأما أهل مكة والمقيمون بها: فإنما لهم ذلك على القول القديم.
ويبيت بها لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) ، وهذا المبيت ليس بركن في الحج، في قول عامة العلماء.
وقال الشعبي والنخعي: هو ركن، فإن تركه.. لم يصح حجه.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الحارث بن مضرس. وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «الحج عرفة، فمن أدركها.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج» .
ولأنه مبيت فلم يكن ركنا، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.(4/323)
إذا ثبت أنه ليس بركن.. فقال الشيخ أبو حامد: هل هو سنة، أو هيئة؟ فيه قولان. وسمى ما وجب بتركه الدم سنة مثل الرمي، كالسنن التي يقتضي تركها سجود السهو في الصلاة، وما لا يجب بتركه الدم، كالاضبطاع والرمل هيئة.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: هل هو واجب أم لا؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: إنه سنة على عبارة الشيخ أبي حامد، أو واجب على عبارة الشيخ أبي إسحاق.. وجب بتركه الدم. ووجهه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
وإذا قلنا: إنه هيئة.. لم يجب بتركه الدم. ووجهه: حديث الحارث بن مضرس، ولأنه مبيت، فلم يجب بتركه الدم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
وفي أي موضع من المزدلفة بات.. أجزأه.
قال الشافعي: (وحد مزدلفة: ما بين مأزمي عرفة إلى مأزمي محسر على يمينك وشمالك من تلك المواطن الظواهر، والقوابل والشعاب) . والمأزمان - بوادي محسر ـ ليستا من المزدلفة؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» .
والمستحب له: أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها إلى أن طلع الفجر، وصلى بها الصبح) ، فإذا طلع الفجر.. فالمستحب: أن يصلي الفجر في أول وقتها، وهكذا يستحب في سائر الأيام إلا أن(4/324)
التغليس في صلاة هذا اليوم أشد استحبابا من سائر الأيام؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «لم يصل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلاة الصبح قبل وقتها إلا صلاة الصبح بجمع ـ يعني: بالمزدلفة ـ فإنه صلاها قبل وقتها» ولم يرد: أنه صلاها قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك لا يجوز، وإنما أراد: أنه صلاها قبل وقتها المعتاد؛ لأنه كان في سائر الأيام لا يصلي الصبح حتى يظهر الفجر ويستبين، وفي ذلك اليوم صلاها مع أول طلوع الفجر.
فإذا فرغ من الصلاة.. فالسنة أن يأتي إلى المشعر الحرام، ويقف على (قزح) : وهو جبل بالمزدلفة، وهو المشعر الحرام، ويستقبل القبلة، ويدعو الله تعالى إلى أن يسفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وأيضا فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل هكذا.
فإذا أسفر.. استحب أن يدفع قبل طلوع الشمس، فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس.. كره؛ لما روى سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وقال: " إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومن المزدلفة بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير» فأخر هذه وقدم هذه؛ ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك، و (الهدي) : الطريقة والسمت.
وإن خرج من المزدلفة بعد نصف الليل.. فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه أن يحصل بالمزدلفة في جزء من النصف الثاني من الليل، ولا يجب عليه أن يكون بها في النصف الأول من الليل.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكن بالمزدلفة عند طلوع الفجر.. كان عليه دم) .(4/325)
دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أم سلمة فأفاضت في النصف الأخير من الليل من المزدلفة» . وروت عائشة: «أن سودة استأذنت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تفيض من المزدلفة في النصف الأخير من الليل، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وليتني كنت استأذنته كما استأذنته سودة» .
[فرع أخذ حصى الرمي وصفتها]
] : قال الشافعي: (ويأخذ من المزدلفة الحصى للرمي، ويكون بقدر حصى الخذف) .
قال الشيخ أبو حامد: وأطلق الشافعي هذا، وإنما أراد أنه يأخذ منها الحصى التي يرمي بها جمرة العقبة، وهي سبع حصيات.
قال الصيمري: وقد قال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، وهو خلاف السنة؛ لما «روى الفضل بن العباس قال: قال لي النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ غداة يوم النحر وهو على ناقته: " القط(4/326)
لي سبع حصيات من حصى الخذف " قال: فلقطتهن، فلما وضعتهن في كفه.. قال: " بمثل هذا فارموا " قالها ثلاثا» .
ولأنه يستحب له إذا أتى الجمرة أن يبدأ بالرمي تحية لها، فإذا أخذ الحصى من المزدلفة.. لم يشتغل بغير الرمي.
ويستحب له أن يلتقطهن وأن لا يكسر الحجارة كما يفعل رعاع الناس؛ لحديث الفضل بن العباس.
والمستحب: أن يكون ما يأخذه مثل حصى الحذف؛ لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس.
وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة.. فارموا بمثل حصى الخذف» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحصى الخذف: أصغر من الأنملة طولا وعرضا)(4/327)
ومنهم من قال: بقدر النواة، ومنهم من قال: مثل الباقلاء.
قال ابن الصباغ: وهذه المقادير متقاربة، يقال: خذف الحصاة: إذا تركها على رأس سبابته، ووضع إبهامه عليها، وخذف بالحصى: إذا رمى بها.
وإن رمى بحجر كبير.. أجزأه؛ لوقوع اسم الحجر عليه، وكره له ذلك؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إياكم والغلو في الدين» .
وإن أخذ الحصى من غير المزدلفة.. أجزأه؛ لأن الاسم يقع عليه.
[فرع صفة المشي في المزدلفة ووادي محسر]
وإذا دفع من المزدلفة.. فالمستحب: أن يمشي على سجية مشيه.
قال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فإذا وجد فرجة.. أسرع؛ لما ذكرناه في الدفع من عرفات، ولم يذكر الشيخ أبو حامد ذلك إلا في وادي محسر. فإذا بلغ إلى بطن محسر.. أسرع ـ إن كان ماشيا ـ وحرك دابته ـ إن كان راكبا ـ قدر رمية حجر؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى محسرا.. حرك قليلا، وسلك الطريق الوسطى» .
قال الشيخ أبو حامد: وروى العباس بن عبد المطلب: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دفع من المزدلفة.. كان يسير وعليه السكينة والوقار، فلما هبط وادي محسر.. أوضع» .
و (الإيضاع) : هو الإسراع في السير.(4/328)
وروي: (أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ لما هبط إلى وادي محسر ... حرك راحلته، وأنشأ يقول:
تشكو إليك قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها
معترضا في بطنها جنينها
)
قال الطبري: وقيل: إنما سن الإسراع في وادي محسر؛ لأنه كان موقفا(4/329)
للنصارى، فخالفهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيما فعلوا. وهذا صحيح يدل عليه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
مخالفا دين النصارى دينها
وإن ترك الإسراع.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يترك نسكا.
[مسألة أعمال يوم النحر والبدء برمي جمرة العقبة]
وإذا أتى إلى منى يوم النحر.. بدأ برمي جمرة العقبة فيرمي بسبع حصيات، وهي أول جمرة يجدها إذا جاء من مكة
والرمي: من مناسك الحج: لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها يوم النحر بسبع حصيات) وقال: " خذوا عني مناسككم» . والمستحب: أن لا يرميها حتى تطلع الشمس؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة ضحى يوم النحر» .
«وروى ابن عباس قال: قدمني رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في أغيلمة من بني عبد المطلب على حمرات من المزدلفة، فجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: " أبنيي، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس. وقوله: (أبنيي) : تصغير ابني» .(4/330)
فإن رمى في النصف الأول من الليل.. لم يصح. وإن رمى في النصف الثاني من الليل.. صح، وبه قال عطاء وعكرمة.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (يجوز رميها بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ولا يجوز قبله) .
وقال الثوري، والنخعي: لا يجوز رميها قبل طلوع الشمس؛ لحديث ابن عباس.
دليلنا: ما روي «عن أم سلمة: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمرها أن تعجل الإفاضة لترمي، وتوافي صلاة الصبح بمكة، وكان يومها من رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأحب أن توافيه وهي حلال» . ولأن بعد نصف الليل وقت للدفع من المزدلفة، فكان وقتا للرمي قياسا على ما بعد الفجر. وحديث ابن عباس نحمله على الاستحباب، بدليل حديث أم سلمة.
ويستحب أن يرميها من بطن الوادي، وهو أن يستدبر الكعبة ويستقبل الجمرة؛(4/331)
لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة وهو مستدبر للكعبة من بطن الوادي» فإن جعل الكعبة على يساره، ومنى على يمينه ورماها.. جاز؛ لما روي: (أن ابن مسعود رمى هكذا) ، وقال: (والذي لا إله إلا غيره، إن هذا هو المقام الذي أنزلت على رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيه سورة البقرة) .
ويستحب أن يرمي راكبا، وأن يكبر مع كل حصاة؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها راكبا) ، و: (كان يكبر مع كل حصاة) ، ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه. ولأن ذلك أعون للحاج على الرمي.
[فرع متى تقطع التلبية]
؟] : ولا يقطع الحاج التلبية إلا مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، ويبتدئ بالتكبير، وكذلك المعتمر لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف.(4/332)
وقال مالك: (لا يلبي الحاج بعد الوقوف، وأما المعتمر: فإن أنشأ العمرة من الميقات.. فإنه يقطع التلبية إذا دخل في الحرم، وإن أحرم بها من أدنى الحل ... قطع التلبية إذا رأى البيت) .
دليلنا: ما روى الفضل بن العباس، قال: «كنت رديف رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة» .
وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر الأسود» .
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اعتمر ثلاث عمر فكان لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف» .
[فرع ما يجوز به الرمي]
ولا يجوز الرمي إلا بالحجر، فإن رمى بغيره من الكحل والزرنيخ والتوتياء وإن كان مستحجرا، أو رمى بذهب أو فضة.. لم يجزه ذلك، وبه قال مالك وأحمد.(4/333)
وقال أبو حنيفة: (يجوز الرمي بالحجر وبكل ما كان من جنس الأرض مثل: الكحل والزرنيخ والنورة إلا الذهب والفضة، فإنه لا يجوز الرمي بهما) .
وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز الرمي بكل شيء حتى لو رمى بعصا وبدمية.. أجزأه) ، واحتجوا: بأن سكينة بنت الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رمت بست حصيات، فأعوزتها السابعة، فقلعت خاتمها ورمت به) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «عليكم بحصى الخذف» وهذا أمر بالحصى، والأمر يقتضي الوجوب. ولأنه لا يقع عليه اسم الحجر، فلم يجزه، كما لو رمى بثوب.
وأما ما روي عن سكينة: فلا حجة فيه؛ لأنها تابعية، وفعل التابعي ليس بحجة. على أنه يحتمل أنها رمته لفقير لتتصدق عليه به لا للرمي، أو يجوز أن يكون فيه فص من ياقوت أو عقيق أو فيروزج، وأيها كان.. فهو حجر يجوز الرمي به.
[فرع الأماكن التي يكره أخذ الحصى منها]
] : قال الشيخ أبو حامد: ويكره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع:
أحدها: من الموضع النجس، مثل: الحش وغيره؛ لأن الرمي قربة، فكره بالنجس، ولكيلا يباشر النجاسة بيده.
والثاني: من المسجد؛ لأن حصى المسجد قد ثبت لها فضيلة المسجد، وتوقي الأنجاس، فكره إخراجها إلى موضع لا توقى فيه الأنجاس.
والثالث: من جمرة، ويومي بها؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (الرمي(4/334)
قربان فما تقبل منه.. رفع، وما لم يتقبل منه.. ترك) فكره الرمي بما رد، فإن رمى بما قد رمي به.. أجزأه، سواء كان هو الذي رمى به أو غيره.
وقال أحمد: (لا يجزئه) .
وقال المزني: يجوز أن يرمي بما رمى به غيره، ولا يجوز أن يرمي بما رمى به هو.
دليلنا: (أن ابن مسعود أخذ الحصى من الجمرة، ورمى به) ، ولأنه يقع عليه اسم الحجر فأجزأه، كما لو لم يرم به. هذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] : إذ رمى بحجر رمى بها غيره أو رمى هو بها في غير هذه الجمرة، أو في هذه الجمرة في غير هذا اليوم.. أجزأه، وإن رمى هو بها في هذه الجمرة في هذا اليوم، ثم أراد رميها بها ثانيا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزئه، كما لو عاد إليه الطعام الذي كفر به، فيجزئه أن يعطيه مسكينا آخر.
والثاني: لا يجزئه، ولا بد من حصاة أخرى، كما لا يجوز أن يعطي المد الثاني إلا مسكينا ثانيا.(4/335)
[فرع كيفية الرمي وبعض صوره]
] : ويجب أن يرمي، فإن أخذ حصاة وتركها في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يرم. ويجب أن يرمي واحدة واحدة، فإن رمى بسبع حصيات مرة واحدة.. لم يجزه إلا حصاة واحدة.
وقال عطاء: يجزئه ولكن يكبر لكل حصاة تكبيرة.
وقال الأصم: يجزئه.
وقال الحسن: إن كان جاهلا.. أجزأه.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى واحدة واحدة» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم» . ولأنه نقل الخلف عن السلف، فثبت: أنه إجماع.
وإن رمى حصاة، ثم أتبعها الثانية قبل وقوع الأولى، فإن وقعت الأولى، ثم وقعت الثانية.. أجزأه. وإن وقعت الثانية، ثم وقعت الأولى.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] :(4/336)
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن هذا أبلغ من أن يرمي حصاتين دفعة في الجمع.
والثاني: يجزئه، وهو الأصح، اعتبارا برميه.
وإن رمى حصاة في الهواء فوقعت في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى.
وإن رمى حصاة فوقعت على أخرى، ووقعت الثانية في المرمى.. لم يجزه؛ لأن الثانية حصلت في المرمى بغير قصده. وإن رمى فوقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب، ثم وقعت في المرمى من غير نفض ممن وقعت عليه.. أجزأه؛ لأنها وقعت في المرمى بقصده وفعله، وإن نفضها من وقعت عليه حتى وقعت في المرمى.. لم يجزه.
وقال أحمد: (يجزئه) .
دليلنا: أنها حصلت في المرمى بغير فعله، فلم يجزه، كما لو وقعت في موضع فأخذها غيره حتى تركها في المرمى.
وإن وقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب إنسان، ثم وقعت في المرمى، ولم يدر: هل وقعت في المرمى بنفسها أو بتحريك ممن وقعت عليه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره حكاهما وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الرمي قد وجد منه وحصلت في المرمى، فالظاهر: أنها حصلت فيه بفعله؛ لأن الأصل عدم فعل غيره في حصولها فيه. .
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يشك: هل حصلت بفعله، فيسقط الفرض عنه، أو بغير فعله، فلم يسقط الفرض عنه؟ والأصل بقاء الفرض في ذمته.
وإن رمى بحصاة وشك: هل وقعت بالمرمى أم بغيره؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما - وهو قوله القديم ـ: (أنها تجزئه) ؛ لأن الظاهر إذا رمى بها: أنها قد حصلت في المرمى.(4/337)
والثاني ـ قاله في الجديد ـ: (أنه لا تجزئه) ؛ لأنه يشك في سقوط الفرض عنه، والأصل بقاؤه في ذمته.
وإن رمى بحصاة إلى المرمى فوقعت على مكان أعلى منه، ثم تدحرجت منه ووقعت في المرمى.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنها حصلت في المرمى بفعله، ولم يوجد من غيره فعل في حصولها فيه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنها لم تحصل في المرمى بفعله، وإنما حصلت فيه لعلو الموضع الذي وقعت فيه.
[مسألة موضع الذبح ووقته]
] : فإذا فرغ من رمي جمرة العقبة، فإن كان معه هدي.. ذبحه؛ لما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة يوم النحر.. رجع إلى منزله بمنى، ثم دعا بذبح فذبحه، ثم دعا بالحلاق فأعطاه شقه الأيمن فحلقه، فدفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس، ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس» .
ويجوز النحر في جميع منى، و (حدها) : ما بين بطن وادي محسر إلى جمرة العقبة: لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «منى وفجاج مكة كلها منحر» .(4/338)
[مسألة الحلق والتقصير]
] : ثم يحلق رأسه؛ لحديث أنس. وإن قصر شعر رأسه.. جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فذكر الحلق والتقصير، ولم يرتب أحدهما على الآخر، فدل على: أنه مخير بينهما.
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا» والحلق أفضل من التقصير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
فذكر الحلق قبل التقصير، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه ولم يقصر» ولا يفعل إلا الأفضل.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «رحم الله المحلقين " فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» فدل على: أن الحلاق أفضل.(4/339)
والمستحب: أن يحلق جميع شعر رأسه، كما فعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ.
وإن أراد التقصير.. فالمستحب: أن يقصر من جميع شعر رأسه كالحلق، وإن اقتصر على حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها.. أجزأه، ولا فرق بين أن يقصر من الشعر الذي يحاذي الرأس أو من الشعر الذي نزل عن حد الرأس.. فإنه يجزئه.
وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يجزئه تقصير ما نزل عن حد الرأس كالمسح. وليس بشيء؛ لأن المقصود تقصير شعر الرأس، وذلك يقع على ما حاذى الرأس وعلى ما نزل عنه، بخلاف المسح: فإن المقصود منه مسح الرأس، وذلك لا يقع على ما نزل عن حد الرأس. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (لا يجزئه إلا الأكثر) .
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه أقل من الربع) .
دليلنا: أنه حلق أو قصر من شعر رأسه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فأجزأه، كالأكثر: على مالك، والربع: على أبي حنيفة.
ولا فرق بين أن يحلق بالموسى أو بالنورة، أو يقصره بالجلم أو بأسنانه، أو يقطعه بيده، أو ينتفه.. فإنه يجزئه؛ لأن القصد إزالته، وقد وجد.
وإن كان أصلع، فإن كان على رأسه شعرة أو شعرتان أو ثلاث.. وجب عليه إزالة ذلك، وهكذا لو كان على رأسه زغب.. وجب عليه أن يزيل منه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق وهو ثلاث.(4/340)
وإن لم يكن عليه شعر أصلا، بأن حلق ولا شعر عليه، أو كان قد حلق واعتمر من ساعته.. فالمستحب له: أن يمر الموسى على رأسه.
قال الشافعي: (وأحب إلي لو أخذ من شعر لحيته أو شاربه، لكي يقطع شيئا من شعره لله تعالى، ولا يجب عليه ذلك) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فخص الرأس بالحلق والتقصير، ولا يجب عليه إمرار الموسى على رأسه.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه إمرار الموسى على رأسه) .
دليلنا: أن الله تعالى أمر بحلق شعر الرأس، وهذا لا شعر على رأسه. فلم يتناوله الأمر.
وأما النساء: فلا يحلقن، وإنما يقصرن؛ لما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليس على النساء حلق، ولكن على النساء التقصير» . ولأن الحلق في النساء مثلة، فلم يؤمرن به.(4/341)
قال الشافعي: (وأحب أن تجمع ضفائرها، وتأخذ من أطرافها قدر أنملة؛ لتعم الشعر كله، وإن قصرت ثلاث شعرات.. أجزأها كالرجل) .
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يدفن ما حلق أو قصر من الشعر.
[فرع تلبيد الشعر يوجب حلقه]
] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 207] : إذا لبد شعر رأسه.. فهل يكون كمن نذر حلقه فيلزمه حلقه؟ فيه قولان، كما لو قلد الهدي وأشعره.. فهل يلزما نحره؟ فيه قولان، وكما لو وجد هديا مذبوحا مشعرا.. فهل يحل له تناوله؟ فيه قولان.
[فرع الحلق نسك وحكم تقديم نسك على آخر]
] : وهل الحلاق نسك يجب عليه فعله ويثاب على فعله، أو استباحة محظور؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه نسك يثاب على فعله، ويحصل التحلل به، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] .
فأثنى الله تعالى على المتنسكين بالحلق والتقصير، فدل على: أنه نسك، إذ لا يستحق الثناء إلا بما يثاب على فعله، ولقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رحم الله المحلقين " قالوا: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» ، فلولا أنه نسك.. لما دعا للمحلقين، ولما فاضل بينهما.
والثاني: أنه استباحة محظور؛ لأن ما كان محرما بالإحرام لا يكون نسكا، كالطيب واللباس.
إذا ثبت هذا: فإن حلق قبل أن يذبح.. جاز، وإن ذبح قبل أن يرمي.. جاز، وإن(4/342)
حلق قبل أن يرمي، فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. جاز. وإن قلنا إنه استباحة محظور.. لم يجز. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا قدم الحلاق على الذبح.. لزمه دم إن كان قارنا أو متمتعا، ولا شيء عليه إن كان مفردا) .
وقال مالك: (إذا قدم الحلق على الذبح.. فلا شيء عليه، وإن قدمه على الرمي.. وجب عليه الدم) .
وقال أحمد: (إذا قدم الحلاق على الذبح أو الرمي، فإن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عامدا.. ففي وجوب الدم عليه روايتان) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بمنى يوم النحر، فقال له: زرت قبل أن أرمي، فقال له: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: حلقت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: ذبحت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج» .
«وروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بمنى يوم النحر للناس؛ ليسألوه، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى حلقت قبل أن أنحر، فقال: " انحر، ولا حرج "، وجاءه آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى نحرت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج ". قال عبد الله: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر.. إلا قال: " افعل، ولا حرج» .(4/343)
[مسألة خطبة منى يوم النحر]
قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر بمنى يوم النحر) .
وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب بمنى يوم النحر بعد الظهر، ويعلم الناس ما يحتاجون إليه من الرمي والذبح والحلق والطواف والبيتوتة بمنى ليالي منى، وأن من أراد أن يتعجل في يومين.. فله ذلك، وغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه الخطبة الثالثة من الخطب الأربع المسنونات في الحج.
وقال أبو حنيفة: (لا تستحب هذه الخطبة) .
دليلنا: ما روى الهرماس بن زياد الباهلي قال: «رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يوم النحر بمنى يخطب على ناقته العضباء» .
وروي «عن ابن عباس قال: خطب رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنا بمنى يوم النحر على ناقته، بعد رميه الجمرة، فقال في خطبته: " إن هذا يوم الحج الأكبر» .
ولأن في الناس عالما وجاهلا، وبهم حاجة إلى أن يعرفهم ما يفعلون في يومهم وما بعده من المناسك، فاستحبت الخطبة لأجل ذلك.
[مسألة طواف الإفاضة أو الزيارة]
] : وإذا رمى ونحر وحلق.. فإنه يفيض إلى مكة ويطوف بالبيت، وهذا الطواف يسمى: طواف الإفاضة؛ لأنه يفيض من منى إلى مكة، ويسمى: طواف الزيارة؛ لأنه يزور البيت بعد أن فارقه ويعود إلى منى، ويسمى: طواف الفرض؛ لكونه ركنا.(4/344)
قال القاضي أبو الطيب: ومن الناس من يسميه طواف الصدر، وليس بشيء؛ لأن طواف الصدر إنما هو طواف الوداع.
والدليل ـ على ما ذكرناه ـ: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة، وذبح، وحلق.. ركب وطاف بالبيت» وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] .
وروي: «أنه قيل له: يا رسول الله إن صفية بنت حيي حاضت، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " عقرى حلقى، أحابستنا هي؟ " فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: " فلا إذن» فدل على: أن هذا الطواف لا بد منه. ومعنى قوله: " «عقرى حلقى» " أي: عقرها الله وحلقها، أي: أصابها العقر في حلقها.
وأول وقت هذا الطواف: إذا انتصف الليل من ليلة النحر، ولم ينص الشافعي عليه.
قال أصحابنا: ولكنه مقيس على الدفع من المزدلفة. وليس لآخره حد ـ عندنا ـ غير أن المستحب: أن يطوف يوم النحر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف يوم النحر» .
وقال أبو حنيفة: (أول وقته: إذا طلع الفجر الثاني يوم النحر، وآخره: اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره إلى اليوم الثالث.. وجب عليه دم) .(4/345)
دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرسل أم سلمة يوم الفجر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» ولأنه إذا طاف في اليوم الثالث.. فقد طاف طوافا صحيحا، فلم يجب عليه به دم، كما لو طاف في اليوم الثاني.
[فرع تغيير النية من الزيارة إلى الوداع]
] : وإذا لم يطف للزيارة وطاف للوداع.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما من أصحابنا: أنه يقع عن طواف الزيارة.
وقال أحمد: (لا يقع عنه طواف الزيارة، وإنما يقع عما عينه) .
دليلنا: أنه ركن من أركان الحج، فلم يفتقر إلى تعيين النية كالإحرام. وهذا من قولهم يدل على: أن الطواف لا يفتقر إلى تعيين النية وجها واحدا، وإنما الوجهان: في أنه هل يجب عليه القصد إلى الطواف؟ وقد مضى توجيههما.
[مسألة حل محظورات الإحرام]
وإذا رمى وحلق وطاف وسعى.. حل له جميع ما حظر عليه في الإحرام، وهو تسعة أشياء: الطيب، واللباس، وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، وقتل الصيد، واللمس بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، والوطء في الفرج، وعقد النكاح.
ولا يحرم عليه شيء من ذلك لأجل ما بقي عليه من رمي أيام التشريق؛ لأن للحج تحللين، فإذا أتى بهذه الأشياء.. فقد تحلل التحللين جميعا.
وأما التحلل الأول: فإن كان قد قدم السعي بعد طواف القدوم:
فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. فإن التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: إما رمي وحلاق، أو طواف وحلاق، أو طواف ورمي. ويحصل له التحلل الثاني بفعل الثالث منها، هذا هو المشهور.(4/346)
وقال القاضي أبو حامد المروروذي في " الجامع ": يحصل له التحلل الأول على هذا القول بالرمي وحده؛ لأن الشافعي نص في المنسكين: " الأوسط " و " الصغير " على: (أنه يتحلل بالرمي) . وفي هذين الكتابين: (الحلاق نسك) .
وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. حصل له التحلل الأول، إما بالرمي أو بالطواف، وحصل له التحلل الثاني بالثاني.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا دخل وقت الرمي.. حصل له التحلل الأول وإن لم يرم، كما إذا فاته وقت الرمي.. فإنه يحصل له التحلل. وهذا ليس بشيء؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا رميتم وحلقتم.. فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» فعلقه بفعل الرمي لا بدخول وقته.
إذا ثبت هذا: فإن بالتحلل الأول.. يحل له اللباس والحلق وتقليم الأظفار قولا واحدا، ولا يحل له الوطء، في الفرج قولا واحدا. وفي عقد النكاح، واللمس بشهوة، والوطء، فيما دون الفرج، وقتل الصيد.. قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يحل له) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] ، وهذا محرم. ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح»(4/347)
وهذا محرم، ولأن اللمس والقبلة بشهوة من دواعي الجماع، فإذا كان الجماع محرما.. كانت دواعيه محرمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يحل له هذه الأشياء) وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا رميتم وحلقتم.... فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . وأما الطيب: ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأنه من دواعي الجماع، فكان كاللمس..
و [الثاني] : منهم من قال: يحل بالتحلل الأول قولا واحدا كاللباس ـ وهو المنصوص ـ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» .
وإن كان قد أخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة.. فإن التحلل يقف عليه؛ لأنه ركن كالطواف.
[فرع التحلل من العمرة]
وأما العمرة: فليس لها إلا تحلل واحد.
فإن قلنا: إن الحلق نسك.. لم يحصل التحلل منها إلا بالطواف والسعي والحلاق.
وإن قلنا: إن الحلق ليس بنسك.. حصل له التحلل منها بالطواف والسعي.(4/348)
[مسألة الرمي في أيام التشريق]
] : فإذا فرغ من طواف الزيارة.. رجع إلى منى وأقام بها ثلاثة أيام بعد يوم النحر ـ وهذه الأيام تسمى: أيام الرمي، والأيام المعدودات، وأيام التشريق. فيرمي كل يوم الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات، ويأخذ لها الحصى من أي موضع شاء، إلا من الموضع النجس، والمسجد، والجمار.
فيأتي الجمرة الأولى ـ وهي التي تلي مسجد الخيف ـ فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ من رميها.. تقدم عنها وجعلها على يساره، ووقف بحيث لا يناله الحصى، يدعو الله تعالى بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يأتي الجمرة الوسطى فيجعلها على يمينه، ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كالأولى، ثم يتجاوزها إلى الثالثة، ويولي ظهره إلى التي رماها، ويستقبل القبلة، ويدعو ويتضرع بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يتقدم إلى الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة فيجعلها على يمينه ويستقبل الكعبة ويرميها بسبع حصيات، وينصرف ولا يقف عندها: لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أفاض يوم النحر بعد الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمار إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» وإنما وقف عند الأولى والثانية ولم يقف عند الثالثة؛ لاتساع المكان عند الأوليين، وضيقه عند الثالثة.
ويستحب له أن يرفع اليدين في الدعاء عند الجمرتين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر.(4/349)
وقال مالك: (لا يرفع) .
دليلنا: ما روي: «أن رسول ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يرفع يديه لذلك» .
وإن ترك الدعاء عند الجمرتين.. فلا شيء عليه.
وقال الثوري: يطعم شيئا، وإن أراق دما.. كان أحب إلي.
دليلنا: أنه موقف يستحب فيه الدعاء، فلم يجب بتركه شيء كالدعاء بعرفة.
ولا يجوز الرمي في هذه الجمار إلا مرتبا: يبدأ بالأولى، ثم بالثانية، ثم بجمرة العقبة، وبه قال أحمد ابن حنبل.
وقال أبو حنيفة: (إذا رمى منكسا.. أعاد، فإن لم يفعل.. أجزأه، ولا شيء عليه) .
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها مرتبا) وقال: " خذوا عني مناسككم» ، ولأنه نسك يتكرر، فكان الترتيب فيه شرطا كالسعي.
إذا ثبت هذا: فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا ونسي حصاة، ولم يعلم من أي الجمار تركها.. قال الشافعي: (جعلها من الأولى فيرميها بحصاة، ثم يرمي الثانية، والثالثة؛ ليسقط الفرض بيقين) .
[فرع الرمي بعد الزوال]
ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال.
وقال عطاء: إن جهل فرمى قبل الزوال.. أجزأه.(4/350)
وقال طاووس: إن شاء.. رمى أول النهار ونفر.
وقال عكرمة: إن شاء.. رمى أول النهار، ولكن لا ينفر إلا بعد الزوال.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحبابا) ، وحكي عنه أيضا: أنه قال: (يجوز أن يرمي في اليوم الأول والثاني قبل الزوال أيضا)
والمشهور عنه هو الأول.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، ورمى سائر الأيام بعد ما زالت الشمس» .
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " الإملاء ": (يرمي عقيب الزوال قبل الصلاة) ؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «رمى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حين زالت الشيء» ويرمي في اليوم الأخير راكبا، وفي اليومين الأولين ماشيا، لأن في اليوم الأخير يتعقب الرمي النفر، فإذا كان راكبا.. مضى عقيب الرمي، كما يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا؛ لأنه يوافي من المزدلفة راكبا، وفي اليومين الأولين هو مقيم بمنى، فلم يسن له الركوب.
[فرع ما يجب بترك]
الرمي والتعريف بيومي القر والنفر الرمي والتعريف بيومي القر والنفر] : إذا ترك رمي اليوم الثالث من أيام التشريق.. سقط الرمي ولم يقض؛ لأنه فات أيام الرمي، والمشهور: أنه يجب عليه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم»
وحكى أبو إسحاق المروزي في " الشرح ": أن الشافعي قال في موضع من(4/351)
" الإملاء ": (إن ترك رمي يوم ... فعليه مد وإن ترك رمي يومين.. فعليه مدان، وإن ترك رمي ثلاثة.. فعليه دم) .
فعلى هذا: يجب في الحصاة مد إلى رمي يوم.
قال: وحكي: أنه يجب درهم في اليوم، أو ثلث دم، وهذا كله ليس بشيء.
وإن ترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو ترك رمي اليوم الثاني إلى الثالث.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو قوله في " الإملاء " ـ: (أن رمي كل يوم مؤقت بيومه) ؛ لأنه رمي يوم من أيام التشريق، فكان محدودا بيومه، كاليوم الثالث. ولأنه لو كان غير محدود.. لجاز تأخير رمي اليوم الأول إلى الثاني.
والقول الثاني ـ وهو الأصح المشهور ـ: أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد، ولا يفوت رمي يوم منها إلا بخروج الأيام الثلاثة؛ لأنه يجوز لرعاء الإبل تأخير رمي يوم إلى ما بعده منها، فلو لم تكن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. لما جاز لهم ذلك، بخلاف اليوم الأخير؛ لأنه إذا خرج.. فقد فات وقت الرمي.
إذا ثبت هذا: فترك رمي يوم القر ـ وهو اليوم الأول من أيام التشريق ـ حتى غابت الشمس ـ وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى ـ فإن قلنا بالصحيح: وأن الأيام الثلاثة كاليوم.. فهل له أن يرمي عن اليوم الأول ليلة النفر، أو في يوم النفر ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ قبل الزوال؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\209] :
أحدهما: ليس له ذلك، حتى تزول الشمس في يوم النفر؛ لأن ذلك وقت للرمي.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أن له أن يرميه؛ لأن ذلك أقرب إلى وقته(4/352)
المستحب، فيجعل ليلة النفر تبعا ليوم القر، كليلة يوم النحر تبع ليوم عرفة في الوقوف.
وإن لم يرم ليوم القر حتى زالت الشمس في يوم النفر.. فقد تدارك عليه رمي يومين، فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا عن اليوم الأول، ثم رماها مرتبا عن اليوم الثاني.. أجزأه. وإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه يقع عن رمى اليوم الأول. وذكر في " المهذب " وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا يجزئه عن أحدهما؛ لأنه لم يرتب.
وهكذا إذا ترك رمي اليومين الأولين إلى الثالث.. فالحكم فيه: ما ذكرناه إذا ترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني.
وإذا أراد أن يرمي رمي يوم النفر الأول في يوم القر.. فهل يجوز؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\209] : إن قلنا: إنه إذا فاته رمي يوم يقضيه فيما بعده.. فهل يجوز له تعجيل رمي يوم النفر إلى يوم القر؟ فيه وجهان، بناء على أنه إذا رمى الفائت في اليوم الأول في اليوم الثاني.. هل يكون قضاء أو أداء؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: إنه أداء.. جاز له التعجيل، وكان رمي الأيام الثلاثة كلها عبادة واحدة، فيكون كالرمي في أول الوقت.
وإن قلنا: إنه قضاء.. فلا يجوز له التعجيل: لأن القضاء يكون بعد الفوات ولم يفته الرمي بعد.
وإن قلنا: إن رمي كل يوم محدود بيومه فترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو الثاني إلى الثالث.. ففيه ثلاثة أقوال:(4/353)
أحدها: يرمي في اليوم الثاني ما ترك في الأول ويريق دما، كما إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل شهر رمضان آخر.
والثاني: لا يقضيه، ويريق دما، كرمي اليوم الثالث.
والثالث: يقضيه، ولا دم عليه، كرعاء الإبل.
فعلى هذا: إذا رمى عن اليوم الثاني قبل الأول.. جاز: لأنه قضاء، فلا يجب فيه الترتيب، كالصلوات الفائتة. وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه.
وأما إذا ترك رمي يوم النحر.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هو كما لو ترك رمي اليوم الأول من أيام التشريق إلى الثاني، فيكون على قولين.
و [الثاني] : منهم من قال: يفوت بخروج يومه قولا واحدا؛ لأنه يخالف رمي أيام التشريق في الوقت والعدد.
والطريق الأول أصح؛ لأن الشافعي نص على أنه: (إذا فاته رمي يوم النحر حتى غربت الشمس.. كان له أن يرميه في أيام التشريق) .
[فرع ما يجب بترك الرمي]
ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم.. لزمه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا ... فعليه دم» . .
وإن ترك ثلاث حصيات من الجمرة الأخيرة.... لزمه دم؛ لأن ذلك جمع مطلق هذا هو المشهور.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\210] قولا آخر: أنه لا يجب الدم إلا إذا ترك جمرة العقبة أو إحدى الجمرتين الأوليين.(4/354)
وإن ترك حصاة واحدة.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة. وهذا إنما يتصور إذا ترك حصاة من آخر جمرة من الجمرات؛ لأنه إذا تركها من الأولى أو من الثانية ... لم يعتد له برمي ما بعدها، حتى يكمل ما قبلها.
وإن ترك رمي أيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه ... لزمه ثلاثة دماء. وإن قلنا: إنها كاليوم الواحد.. لزمه دم واحد.
وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء. وإن قلنا: إن أيام التشريق كاليوم الواحد، فإن قلنا: إن يوم النحر كمثلها.. لزمه دم واحد. وإن قلنا: إنه ليس كمثلها.. لزمه دمان: دم ليوم النحر، ودم لأيام التشريق.
[مسألة الاستنابة في الرمي]
] : ومن عجز عن الرمي لمرض.. جاز له أن يستنيب من يرمي عنه بأجرة، أو بغير أجرة، سواء كان المرض ميئوسا من برئه، أو غير ميئوس من برئه. والفرق بينه وبين الحج، حيث قلنا: لا يجوز الاستنابة في الحج حتى ييأس من الحج بنفسه؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والرمي فرض مضيق الوقت، فلو منعناه من الاستنابة فيه.. ربما فات وقته قبل الرمي.
قال الشافعي: (فإن أمكنه أن يضع الحصاة في كف من يرمي عنه ... أحببت له أن يفعل ذلك؛ ليكون له في الرمي أثر. فإن لم يفعل.. فلا شيء عليه) .
قال الشيخ أبو حامد: فإن كان محبوسا بحق أو بغير حق، لكنه منع من الرمي.. جاز له أن يأمر غيره أن يرمي عنه؛ لأنه غير متمكن من الرمي بنفسه، فهو كالمريض.
وإن أغمى عليه قبل الرمي، فإن كان قد أذن لغيره بالرمي عنه.. جاز له أن يرمي(4/355)
عنه، وإن كان لم يأذن لغيره في ذلك.. لم يجز أن يرمي عنه. ولا يبطل إذنه بالرمي بالإغماء، كما تبطل الوكالة بالبيع والشراء؛ لأن هذا متعلق بالنسك، وذلك لا يبطل بالإغماء. ألا ترى أن المعضوب إذا أذن في الحج، ثم مات.. لم يبطل إذنه بالموت، ولو أذن له في بيع أو شراء، ثم مات.. بطل إذنه في ذلك.
فإن برئ من المرض، أو أطلق من الحبس، أو أفاق من الإغماء، فإن كان لم يرم عنه النائب.. وجب عليه أن يرمي بنفسه؛ لأن المانع قد زال. وإن كان قد رمى عنه.. فالمستحب له: أن يعيد الرمي إن كان وقت الرمي باقيا، ولا يجب عليه ذلك؛ لأن الرمي الفرض قد سقط عنه.
هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] في وجوب إعادة الرمي قولين.
[مسألة المبيت بمنى]
ويبيت بمنى ليالي الرمي؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) فإن ترك المبيت بها.. فهل يجب عليه بذلك الدم؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
والثاني: لا يجب عليه الدم، كما لا يجب الدم بترك المبيت بمنى ليلة عرفة.
فإذا قلنا: يجب المبيت، فإن ترك المبيت في الليالي الثلاث.. وجب عليه دم.
وإن ترك المبيت ليلة أو ليلتين.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة أو شعرتين.
فإن قيل: لم أوجبتم الدم بترك المبيت ليلة الثالث، وهي مما يجوز له تركها؟(4/356)
قيل: إنما يجوز له تركها إذا بات الليلة الأولى والثانية، فأما من لم يبت الليلة الأولى والثانية: فلا يجوز له ترك المبيت في الليلة الثالثة) .
[مسألة الرخصة لرعاة الإبل وأهل السقاية ومن يقاس عليهم]
] : ويجوز لرعاء الإبل وأهل سقاية العباس أن يتركوا المبيت بمنى ليالي الرمي، وأن يرموا يوم النحر جمرة العقبة، ثم يدعوا الرمي يوم القر، ويرموا يوم النفر ما فاتهم في اليوم الأول.
قال الطبري في " العدة ": وأهل السقاية، هم الذين يعدون السويق والماء للحجيج بمكة.
والأصل فيه: ما روى عاصم بن عدي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر» .
وروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته» . وهل تختص الرخصة لأهل السقاية ممن كان من أهل بيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:(4/357)
أحدهما: تختص بهم، فإن استعمل عليها غيرهم.. لم يجز لهم ترك المبيت والرمي.
وبه قال مالك؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لأهل السقاية من أهل بيته» .
والثاني: يجوز ذلك لمن كان من أهل السقاية منهم ومن غيرهم، وهو المنصوص؛ لأن المعنى الذي أرخص فيه لهم لأجله موجود فيمن استعمل عليها من غيرهم، وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأن العاملين عليها في زمن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كانوا من أهل بيته، فلذلك خصهم بالرخصة.
فإن أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس.. لم يجز لهم ترك المبيت في هذه الليلة. وإن أقام أهل السقاية بمنى حتى غربت الشمس.. جاز لهم ترك المبيت؛ لأن الرعي لا يكون إلا بالنهار، والاشتغال بالسقاية موجود ليلا ونهارا.
وأما من كان له مال يخاف ضياعه إن بات بمنى، أو كان مريض في غير منى يشق عليه البيتوتة بمنى لأجله، أو أبق له عبد فمضى في طلبه.. فهل يجوز لهم ترك المبيت بمنى لذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لهم ذلك؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رخص لأهل السقاية ولرعاء الإبل» ولم يرخص لغيرهم.
والثاني: يجوز؛ لأنه المعنى الذي رخص لأجله لأهل السقاية والرعاء موجود فيهم.
[فرع قضاء المعذورين للرمي]
فإن تدارك على أهل السقاية أو الرعاء أو غيرهم من المعذورين رمي يومين.. فهل يجب عليهم الترتيب في الرمي أو يستحب؟ فيه قولان. حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء(4/358)
على أن رمي كل يوم مؤقت بيومه، أو أن جميع أيام التشريق كاليوم الواحد ـ:
فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه.. لم يجب الترتيب، وإنما يستحب؛ لأن ما يرميه في اليوم الثاني يكون قضاء، والترتيب في القضاء لا يجب، كما إذا فاتته صلاة الظهر والعصر.. فله أن يقضي العصر أولا ثم الظهر.
فعلى هذا: يستحب له أن يرمي أول الجمرات الثلاث مرتبا لأمسه، ثم يرميها مرتبا ليومه، فإن بدأ فرماها ليومه، ثم رماها لأمسه.. جاز، وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه ذلك.
وإن قلنا: إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. فإن الرمي في اليوم الثاني عن الفائت في اليوم الأول أداء، لا قضاء، فيكون الترتيب فيها واجبا، فيرمي الجمار الثلاث أولا عن أمسه، ثم يرميها عن يومه، فإن رماها ونواها عن يومه أولا.. لم تجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي أمسه، وهل يجزئه ذلك عن أمسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه عن أمسه؛ لأنه لم ينوه عنه.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يجزئه عن أمسه؛ لأن من عليه في الحج فرض ففعل من جنسه بنية غيره.. وقع عن فرضه، كما لو كان عليه طواف الزيارة فطاف بنية النافلة.. فإنه يقع عن طواف الزيارة.
فإن كان عليه رمي يوم النحر فرى جمرة العقبة يوم القر بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه وسبع عن يومه.. أجزأه عن أمسه ولم يجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن نوى بالسبع الأولى عن يومه، وبالثانية عن أمسه.. لم تجزه الأولى عن يومه، وهل تجزئه الثانية عن أمسه؟
على الوجهين الأولين، فإن قلنا: تجزئه الأولى عن أمسه.. لم تجزه الثانية عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن قلنا: لا تجزئه الأولى عن أمسه.. أجزأته السبع الثانية عن؛ لأن الأولى قد سقطت وصار كأن لم يرم لها.(4/359)
[مسألة الخطبة ثاني أيام التشريق والتخيير في النفر]
] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر يوم الثالث من أيام النحر، وهو يوم النفر الأول) .
وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب يوم النفر الأول ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ بعد الظهر بمنى، ويعرف الناس ما بقي عليهم، وأن من أراد التعجيل بالنفر.. فله ذلك، ومن أراد التأخير.. فله ذلك، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته والصدقة، ويودع الحاج، وهي الخطبة الرابعة في الحج. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا تسن هذه الخطبة) .
دليلنا: ما «روي عن رجلين من بني بكر: أنهما قالا: (رأينا رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يخطب بمنى على ناقته أوسط أيام التشريق» . ولأن بالناس حاجة إلى هذه الخطبة؛ ليعلموا مالهم من النفر وما بقي عليهم.
إذا ثبت هذا: فإن رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق.. فهو بالخيار: بين أن ينفر، ويترك المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث. وبين أن لا ينفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] .
فإن قيل: أما قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] : فمفهوم المعنى، وهو: أنه لا إثم عليه في التعجيل، فما معنى قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] والتأخير فضيلة؟(4/360)
قلنا: أراد من ترك التعجيل الذي أباحه الله ورخص فيه، وثقل على نفسه، وجلس حتى يرمي اليوم الثالث.. فلا إثم عليه في ترك الرخصة، وقيل: إن الآية وردت على سبب، وهو أن قوما قالوا: لا يجوز التعجيل، وقال آخرون: لا يجوز التأخير، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] .
فإن لم ينفر حتى غربت الشمس.. لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث.
وقال الحسن البصري: إن لم ينفر حتى دخل وقت العصر.. لم يجز له النفر.
وقال أبو حنيفة: (له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] .
و (اليوم) : اسم للنهار، فإذا غربت الشمس.. فقد خرج اليومان.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني.. فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس) .
[فرع تعجيل النفر من منى]
] : وإن رحل رجل من منى فغربت الشمس وهو راحل قبل انفصاله من منى.. لم يلزمه المقام: لأن عليه مشقة في الحط بعد الترحال. وإن غابت الشمس وهو مشغول(4/361)
بالتأهب للرحيل.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه المقام؛ لأنه لم يرحل.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه مشغول بالترحال، فهو كما لو كان قد رحل.
فأما إذا كان قد رحل منها، ثم رجع إليها سائرا إلى موضع أو زائرا لإنسان، أو نسي شيئا من رحله.. لم يلزمه المقام؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالرحيل، فلم يلزمه المقام بعد ذلك، فإن بات بمنى.. لم يلزمه الرمي في اليوم الثالث لأن البيتوتة لم تلزمه.
[فرع النفر قبل الوقت المشروع]
] : إذا خرج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال.. فسمعت الإمام العثماني من أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يسقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، ولا الرمي في اليوم الثاني، واليوم الثالث؛ لأن ذلك إنما يسقط عنه بنفر جائز، وهذا نفر غير جائز، ولأنه لو سقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث إذا نفر في اليوم الثاني قبل الزوال.. لسقط عنه ذلك إذا خرج من منى يوم النحر أو يوم القر، إذ لا فرق بينهما في أنه لا يجوز له النفر فيه.
[فرع رح ما بقي من حصى الجمار]
فرع: [طرح ما بقي من حصى الجمار] : فإذا نفر في اليوم الثاني وقد بقي معه حصى اليوم الثالث.. قال ابن الصباغ: فإنه يطرحها، أو يدفعها إلى من يرمي بها، فأما ما يفعله الناس من دفنها: فلا أثر فيه.
[فرع استحباب النزول في المحصب لمن شاء]
وإذا نفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، أو في اليوم الثالث.. فالمستحب: أن ينزل بالمحصب ـ وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبل المتصل بالمقابر إلى الجبال التي في مقابلته، ويسمى: بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه؛ لأنه موضع(4/362)
منهبط، والسيل يحمل إليه الحصى من الجمار ـ فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نفر من منى.. نزل بالمحصب فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة، ثم دخل مكة فطاف بالبيت، ثم خرج ورحل إلى المدينة» .
إذا ثبت هذا: فإن النزول فيه ليس بنسك.
وقال عمر بن الخطاب: (هو نسك)
دليلنا: ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (المحصب ليس بسنة، وإنما هو منزل نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) .
«وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (المحصب ليس بشيء، وإنما نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ليكون أسمح لخروجه ... فمن شاء.. فعل
ومن شاء.. ترك» .(4/363)
وروي «عن أبي رافع: أنه قال: (أنا ضربت القبة للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالمحصب، ولم يأمرني به، وكان على رحل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) فدل على: أن أبا رافع فعله برأيه؛ لمصلحة الخروج إلى المدينة.
[مسألة وداع البيت الحرام]
] : قال الشافعي: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت، فيودع وينصرف إلى بلده) .
وهذا كما قال: إذا فرغ الحاج من الرمي، فإن كان من أهل مكة، أو من غير أهلها وأراد أن يقيم بها.. فليس عليه وداع البيت؛ لأن الوداع يراد لتوديع البيت، وهذا لا يفارق مكة. وإن كان يريد الانصراف.. فعليه أن يطوف بالبيت سبعا، ويصلي بعده ركعتين، سواء كان منزله قريبا من مكة أو بعيدا منها.
وقال أبو حنيفة: (لا توديع على من كان بالمواقيت أو دونها)
دليلنا: ما «روى ابن عباس: أن الناس كانوا ينصرفون من كل وجه، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» .(4/364)
وهل هو نسك من مناسك الحج يجب بتركه الدم أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه نسك ويجب بتركه الدم ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لما روى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فأخبر: أنه نسك.
وقد قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
والثاني: أنه ليس بنسك، فلا يجب بتركه الدم، وإنما يستحب؛ لأن كل ما لو تركه المكي لم يجب عليه به دم.. أوجب إذا تركه غير المكي أن لا يجب به دم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة. ولأنه لو كان يجب به الدم إذا تركه من غير عذر.. لوجب به الدم وإن تركه بعذر، كالرمي.(4/365)
إذا ثبت هذا: فإن طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف وانصرف من غير لبث، أو اشترى زادا في طريقه.. فقد حصل الوداع.
وإن حضرت صلاة مكتوبة فصلاها، ثم خرج.. لم يلزمه إعادة الطواف.
وقال عطاء: يلزمه؛ ليكون آخر عهده بالبيت.
دليلنا: أنه لم يشتغل عن مسيره بعد الطواف بما يتضمن الإقامة، فأجزأه، كما لو اشترى في طريقه شيئا يحتاج إليه.
وإن أقام بعد الطواف على زيارة صديق، أو شراء متاع، أو عيادة مريض فيها لبث.. فإنه يعيد طواف الوداع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يعيد الطواف للإقامة بعده شهرا أو شهرين)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ولأنه إذا أقام.. خرج عن أن يكون وداعا، فكان عليه الإعادة.
[فرع الوداع يوم النحر]
إذا نوى الحاج النفر من منى بعد الرمي، فودع البيت يوم النحر بعد طواف الزيارة والسعي.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها:
فقال الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمن أراد مفارقة البيت، وهذا قد أراد مفارقته.
ومنهم من قال: لا يجزئه ـ وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الخبر ـ لأن الشافعي قال: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت) فيودع وينصرف إلى بلده.(4/366)
وفي رواية ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فمنه دليلان:
أما أحدهما: فقوله: «لا ينفرن أحد» ولا يطلق النفر الجائز إلا بعد الرمي
والثاني: قوله: «فإنه آخر نسك في الحج» .
[فرع طواف الوداع إذا نوى الإقامة بمكة]
] : إذا قدم إلى مكة، فلما فرغ من أفعال الحج، نوى الإقامة بمكة.. فإنه لا وداع عليه وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر الأول.. لم يسقط عنه طواف الوداع) .
دليلنا: أنه غير مفارق للبيت، فلم يلزمه وداعه، كما لو نوى الإقامة قبل زمان النفر.
[فرع رجوع الحاج لطواف الوداع]
] : إذا قلنا: يجب طواف الوداع، فخرج ولم يودع ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يبلغ مسافة القصر.. لم يستقر عليه الدم؛ لأنه في حكم المقيم. وإذا رجع بعد ما بلغ مسافة القصر من مكة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\205] ، المشهور: أنه يستقر عليه الدم؛ لأنه قد صار بينه وبين البيت سفر طويل.
وقال عطاء: إن عاد بعدما خرج من الحرم.. لم يسقط عنه الدم. وإن عاد قبل أن يخرج من الحرم.. سقط عنه الدم.
دليلنا: أن الاعتبار بالقرب والبعد، وذلك يعتبر بما تقصر فيه الصلاة، فلا معنى لاعتبار الحرم.(4/367)
[فرع ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع]
] : ذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع.
وقال الثوري: إن لم يودع.. فعليه دم.
دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، ولم يأمرها بوداع البيت» . فلو كان واجبا.. لأمرها به. ولـ: (أن عليا وابن عمر كانا يعتمران كل يوم مرة مدة مقامهما بمكة ولم ينقل: أنهما كانا يطوفان للوداع) .
[فرع وداع الحائض]
ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع.
وقال عمر وابن عمر وزيد بن ثابت: (عليها أن تقيم حتى تطهر ثم تطوف للوداع) .
فأما ابن عمر وزيد بن ثابت: فقد روي عنهما: (أنهما رجعا) .(4/368)
دليلنا: ما روي: «أن صفية بنت حيي حاضت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحابستنا هي؟ " فقالوا: قد أفاضت، قال: " فلا إذن " ونفر بها، ولم تودع» .
فإن نفرت الحائض من غير وداع، ثم طهرت، فإن طهرت قبل أن تفارق بنيان مكة.. عادت واغتسلت وطافت. وإن طهرت بعد أن فارقت بنيان مكة.. لم تعد؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. لم تصر مسافرة، وإذا فارقته.. فقد صارت مسافرة. فإن قيل: هلا اعتبرتم مسافة القصر، كما يعتبر ذلك فيمن ترك طواف الوداع؟
قيل: الفرق بينهما: أن من ترك الوداع.. فقد ترك واجبا عليه، فلا يسقط عنه بمفارقته البنيان. وإذا كان بينهما مسافة القصر.. فلأنه أنشأ سفرا طويلا، فلذلك لم يجب عليه العود، وهاهنا لم يجب عليها. فإذا أمكنها بعد الانفصال.. عليها، كما لا يجب على المسافر إتمام الصلاة بعد الانفصال من البنيان.
[فرع لا ينتظر الركب الحائض]
] : قال الشيخ أبو نصر: لا يحبس الجمال لأجل المرأة الحائض، إذا لم تكن هي طافت طواف الإفاضة، ويقال لها: احملي مكانك مثلك.
وقال مالك: (يحبس أقصى ما يحبسها الدم، ثم تستظهر بستة أيام) .(4/369)
دليلنا: أنه تعذر الركوب بمعنى لا يمكنها رفعه عن نفسها، فلم تحبس الجمال لأجله، كما لو مرضت.
[فرع دعاء الخروج من مكة إلى الوطن]
] : قال الشافعي في (المختصر الصغير) : (وإذا فرغ من طواف الوداع.. فالمستحب: أن يقف في الملتزم ـ وهو: ما بين الركن الأسود والباب ـ فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا بنبيك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني) . وزاد أبو حامد في " جامعه ": واجمع لي خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قادر.
وما زاد فحسن؛ لأنه روي عن بعض السلف.
[مسألة أركان العمرة]
أركان العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي. فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. فإنه يتحلل من عمرته إذا فرغ من السعي، فتكون أفعالها ثلاثة أشياء لا غير.
وإن قلنا: إن الحلق نسك.. فإنه لا يتحلل منها إلا بالحلاق.
فعلى هذا: أفعالها أربعة أشياء.(4/370)
والدليل ـ على ذلك ـ: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحج. فأما من أهل بالعمرة: فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج والعمرة: فلم يحلوا إلا يوم النحر» .
[فرع الطواف والسعي في القران]
] : وإن قرن بين الحج والعمرة.. فلا خلاف بين أهل العلم: أنه يكفيه لهما حلاق واحد.
وأما الطواف والسعي: فيكفيه ـ عندنا ـ لهما طواف واحد وسعي واحد، غير أنا نستحب له طوافين وسعيين، وبه قال جابر بن عبد الله. ومن التابعين: عطاء وطاووس، ومجاهد والحسن. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك.
وقال علي وابن مسعود: يجب على القارن طوافان وسعيان، وبه قال أهل(4/371)
العراق، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة، هو أنه يقول: (على القارن أن يطوف ويسعى لعمرته قبل الوقوف بعرفة، ثم يطوف ويسعى لحجه بعد الوقوف، فإن لم يطف ولم يسع لعمرته حتى وقف بعرفة.. انقضت عمرته، وثبت الحج، فإذا قضى عمرته.. كان عليه دم) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من جمع بين الحج والعمرة أجزأه لهما طواف واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» .
وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» .
ولأنه يكتفى بحلاق واحد، فاكتفي بطواف واحد وسعي واحد، كالمفرد.(4/372)
[مسألة أركان الحج ومسنوناته وهيئاته]
] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الحج يشتمل على أركان ومسنونات وهيئات.
فالأركان: أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة. فمن ترك ركنا منها.. لم يحل من إحرامه ولم يجبر بالدم.
وأما المسنونات ـ وسماها صاحب " المهذب " الشيخ أبو إسحاق: الواجبات ـ فهي: ما لا يؤثر تركها في التحلل، وينجبر بالدم. وهي ستة أشياء:
فشيئان لا خلاف فيهما، وهما: الإحرام من الميقات، والرمي.
وأربعة أشياء للشافعي في كل واحد منها قولان، وهي: الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس، والمبيت بالمزدلفة، والمبيت بمنى ليالي الرمي، وطواف الوداع.
وأما الهيئات ـ وسماها الشيخ أبو إسحاق: المسنونات ـ وهي: طواف القدوم، والرمل، والاضطباع، واستلام الركن، وتقبيله، والسعي في موضع السعي، والمشي في موضع المشي، والخطب، والأذكار. فإذا تركها أو ترك شيئا منها ... لم يؤثر تركها بالتحلل، ولم يجب على من تركها دم.
[مسألة دخول الكعبة وفضيلة المسجد الحرام على بقية المساجد]
] : قال الشافعي: (وأستحب دخول البيت لكل أحد) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من دخل البيت.. دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورا له» . ويستحب أن يصلي فيه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف(4/373)
صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة في مسجدي» .
[فرع فضيلة الشرب من ماء زمزم ونبيذ السقاية]
] : ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ماء زمزم لما شرب له»
وروى عطاء: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أفاض. نزع هو لنفسه بدلو مرتين من ماء بئر زمزم، ولم ينزع معه أحد، فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» .
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يشرب من نبيذ السقاية؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أتى السقاية ليشرب منها، فقال له العباس: إنه نبيذ، قد خاضت فيه الأيدي، ووقع(4/374)
فيه الذباب، ولنا في البيت نبيذ صاف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " هات " فشرب منه» .
ولا يشرب من النبيذ إلا ما لم يكن مسكرا.
[مسألة الخروج من مكة]
وإذا خرج من مكة.. استحب له أن يخرج من أسفلها؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها» .
قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به.
[فرع أفضلية مكة على المدينة]
مكة ـ عندنا ـ أفضل من المدينة.
وقال مالك: (المدينة أفضل من مكة) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» .
ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير من مكة» .
دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف(4/375)
صلاة في غيره، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة» فدل على: أن مكة أفضل.
وروي «عن عبد الله بن عدي قال: سمعت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت» .
وأما قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» فأراد بعد مكة، بدليل ما ذكرناه.
وأما قوله: «المدينة خير من مكة» أراد أن أهل المدينة خير من أهل مكة؛ لأنهم آووه ونصروه، وأهل مكة قاتلوه وأخرجوه، ولهذا قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة، فإنها فتحت بـ: لا إله إلا الله "، وروي بـ: " القرآن» .(4/376)
[مسألة زيارة القبر الشريف]
] : ويستحب زيارة قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ لما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال «من حج ولم يزرني.. فقد جفاني» ذكره الشيخ أبو حامد.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من زار قبري.. وجبت له الجنة» .(4/377)
وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من زارني بعد وفاتي.. فكأنما زارني في حياتي» .
وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال. «من زار قبري.. وجبت له شفاعتي»
وحكى العتبي قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذ جاء أعرابي فسلم على(4/378)
النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ثم قال: يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] [النساء: 64] .
وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيناي، فنمت. فرأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم يقول: يا عتبي، الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له.
ويستحب لمن زار قبر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن يصلي في مسجده: لما ذكرناه من الخبر
وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل(4/379)
[باب الفوات والإحصار]
ومن أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر.. فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بعمل عمرة، وهو: الطواف والسعي والحلق، ولا ينقلب ذلك إلى عمرة، ويسقط عنه توابع الحج، وهو: المبيت والرمي، ويجب عليه القضاء وهدي.
وبه قال أبو حنيفة إلا في الفدية، فإنه قال: (لا فدية عليه) .
وقال أبو يوسف وأحمد: (ينقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق، ويجزئه عن عمرة الإسلام، ويقضي الحج من قابل) .
وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا، والثانية: (لا قضاء عليه كالمحصر) ، والثالثة: (يبقى على إحرامه إلى العام القابل) .
وقال المزني: يجب عليه أن يأتي بما بقي من أفعال الحج: من المبيت، والرمي.
دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس: أنهم قالوا: (من فاته الحج.. تحلل بالطواف والسعي، وعليه القضاء والهدي من قابل)(4/380)
ولا مخالف لهم، ولأن الفوات سبب يوجب قضاء الحج، فأوجب الهدي، كالإفساد.
وعلى أبي يوسف: أن إحرامه قد انعقد بنسك، فلم ينقلب إلى نسك آخر بتفريط كان منه، كما لو أفسد الحج.
وأما الدليل ـ على المزني ـ: فإن المبيت والرمي من توابع الوقوف، وقد سقط الوقوف، فسقطت توابعه.
وإن أحرم بالعمرة فقط.. فإنه لا يتصور فواتها؛ لأن الزمان كله وقت لها.
وإن كان قارنا بين الحج والعمرة ففاته الوقوف.. فإن العمرة تفوت بفوات الحج؛ لأن ترتيب العمرة يسقط، ويكون حكمها تابعا لحكم الحج. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] قولين:
أحدهما: هذا، وهو المشهور؛ لأنه إحرام واحد فلا يتبعض.
والثاني: لا تفوت العمرة؛ لأنه لا وقت لها.
فإذا قلنا بالمشهور.. تحلل بعمل عمرة، وعليه دم للقران ودم للفوات، وعليه أن يقضي قارنا، ثم يخرج شاة ثالثة للقران.(4/381)
قال الشافعي: (فإن قضاه مفردا.. لم يكن له) .
قال الشيخ أبو حامد: أراد: أنه ليس له إسقاط الدم؛ لأن بالفوات قد وجب عليه أن يقضي بالقران، والقران يقتضي وجوب الدم، فإذا أفرد الحج والعمرة.. أجزأه ذلك؛ لأنه أكمل من القران، ولكن لا يسقط عنه دم القران.
[فرع وجوب الدم على المكي وغيره في الفوات]
] : المكي وغير المكي سواء في الفوات، وفي وجوب الدم لأجله، بخلاف دم التمتع؛ لأن الفوات يحصل من المكي كما يحصل من غيره، ودم التمتع يجب بترك الميقات، والمكي لا يترك الميقات؛ لأن ميقاته بلده.
[فرع الإحرام بالعمرة بأشهر الحج وفواته عليه]
] : فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فتحلل منها، ثم أحرم بالحج ففاته.. فإن عليه قضاء الحج دون العمرة؛ لأن الحج فات دون العمرة، وعليه دم للتمتع، ودم للفوات.
[فرع قضاء الحج الفائت وإخراج الهدي]
] : وهل يجب عليه القضاء على الفور، أو يجوز تأخيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب على الفور، ويجوز له تأخيره؛ لأن أصل وجوب الحج يجوز له تأخيره، فكذلك قضاؤه.
والثاني: يجب قضاؤه على الفور؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (عليه القضاء من قابل) . ولأن القضاء بدل عما لزمه أداؤه على الفور بالدخول، بخلاف أصل الحج الواجب.
وأما الهدي: فهل يخرجه في سنة الفوات، أو في سنة القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يخرجه في سنة القضاء؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم(4/382)
قالوا: (عليه القضاء من قابل والهدي) . ولأن القضاء والمقضي في معنى النسك الواحد؛ لأن الفرض يسقط عنه بالقضاء، فجرى مجرى التمتع، والمتمتع إنما يجب عليه الدم إذا أحرم بالنسك الثاني، وهو الحج.
والثاني: أنه يخرجه في سنة الفوات؛ لأنه سبب وجوبه.
فإذا قلنا: إنه يخرجه في سنة الفوات.. فهو وقت وجوبه.
وإن قلنا: إنه يخرجه في سنة القضاء.. فهل وقت وجوبه عند القضاء، أو عند الفوات وإنما يؤخر إخراجه إلى وقت القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه يجب عند القضاء؛ لأنه لو وجب قبل ذلك.. لجاز إخراجه.
والثاني: أن وقت وجوبه عند الفوات؛ لأنه وقت سببه.
[فرع الوقوف في عاشر ذي الحجة أو الثامن خطأ]
] : إذا أخطأ الناس فوقفوا يوم العاشر من ذي الحجة، أو يوم الثامن منه.. أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء؛ لقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «حجكم يوم تحجون» .(4/383)
ولأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء. ولأن في إيجاب القضاء مشقة عظيمة وإبطالا للسفر الطويل والمال العظيم، هكذا قال عامة أصحابنا.
وذكر ابن الصباغ في موضع من " شامله ": أنهم إذا وقفوا يوم التروية.. لم يجزهم؛ لأن هذا لا يقع فيه الخطأ؛ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكثير، فأما العدد القليل: فلا يعذرون في ذلك؛ لأنهم مفرطون، ويأمنون مثل ذلك في القضاء.
قلت: ولعل ابن الصباغ أراد: إذا بان لهم أنهم وقفوا يوم الثامن قبل فوات يوم التاسع وليلة النحر. فأما إذا لم يبن لهم ذلك إلا بعد فوات وقت الوقوف.. فيجزئهم الوقوف في اليوم الثامن، لما ذكرناه في الوقوف يوم العاشر.(4/384)
[فرع شهادة الرؤية المتأخرة]
] : وإن شهد شاهدان عشية عرفة برؤية الهلال، ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الجماعة إتيان عرفة قال ابن الصباغ: وقفوا من الغد، كما قال الشافعي: (إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر في زمان لا يمكن فيه اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد، ويكون ذلك أداء للصلاة لا قضاء) .
[فرع المشاهد يعمل بعلمه]
] : وإن شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان، فرد الحاكم شهادتهم فإن الشهود يقفون يوم التاسع على حكم رؤيتهم، ويقف الناس يوم العاشر عندهما، فإن وقف الشاهدان مع الناس يوم العاشر ولم يقفا يوم التاسع عندهما لم يجزهما ذلك.
وقال محمد بن الحسن: لا يجزئهما إلا إن وقفا مع الناس يوم العاشر، وإن وقفا يوم التاسع وحدهما لم يجزهما.
دليلنا: أنهما يتيقنان أن هذا يوم عرفة، فلزمهما الوقوف فيه، كما لو قبل الحاكم شهادتهما.
[مسألة الإحصار]
] : ومن أحرم بالحج وأحصره عدو من المشركين، ومنعوه عن النفوذ في طريقه، ولم يكن له طريق سواه جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] .
وهذه الآية نزلت في شأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لـ: (أنهم خرجوا من المدينة سنة ست، وأحرموا بعمرة، ونزلوا الحديبية؛ ليدخلوا مكة فصدتهم قريش عن(4/385)
ذلك، ومنعتهم الدخول، ثم خرج إليهم سهيل بن عمرو فصالحهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن يرجع ويعود من قابل، فأنزل الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
فتحلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ورجعوا، ثم أتوا من قابل، وقضوا عمرتهم) ، وإن كان المانع له عدوا من المسلمين جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية.
فعم ولم يخص، فالآية وإن كانت واردة على سبب إلا أنها مستقلة بالعموم.
وروي: «أن ابن عمر أراد أن يخرج إلى الحج في سنة ابن الزبير، فقيل له: إن صددت فقال: (إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية» .
وإن كان لهم طريق غير هذا الذي منعوا منه، فإن كان مثل طريقهم الذي صدوا عنه لم يكن لهم التحلل؛ لأنهم قادرون على الوصول. وإن كان أطول من طريقهم، فإن لم تكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق كان لهم التحلل؛ لأنهم مصدودون عن البيت بغير حق؛ إذ قطع الطريق بغير نفقة لا يمكن، فهو كما لو لم يجدوا طريقا غير التي صدوا عنها. وإن كان معهم نفقة تكفيهم لطريقهم الآخر لم يجز لهم التحلل، ولزمهم سلوك الطريق الآخر، سواء علموا أنهم إذا سلكوا الطريق(4/386)
الآخر فاتهم الحج أو لم يفتهم؛ لأن علة جواز التحلل الحصر، لا خوف الفوات، ألا ترى أن من أحرم بالحج في يوم عرفة بالجند يعلم أنه لا يمكنه الوقوف بعرفة؟ ومع هذا فلا يجوز له التحلل لأجله. فإن سلك الطريق البعيد فأدرك الحج فلا كلام، وإن فاته الحج تحلل بعمل عمرة، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: عليه القضاء؛ لأنه فاته الحج فلزمه القضاء، كما لو فاته بالنسيان، أو أخطأ الطريق، أو أخطأ العدد.
والثاني: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مفرط في الفوات، فهو كما لو تحلل بالحصر قبل الفوات.
[مسألة الصد عن الحج وأحكام الصادين]
] : فإن كان العدو الذي صدهم مسلمين فالأولى أن لا يقاتلوهم، وسواء كان الحاج أقوى أو الصاد لهم؛ لأن التحلل أهون من قتال المسلمين وجرحهم، فإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل لم يجب عليهم بذل الجعل، وجاز لهم التحلل، سواء كان ما سألوه قليلا أو كثيرا؛ لأنا لو أوجبنا دفع القليل لأوجبنا دفع الكثير إذا كان سببهما واحدا. فإن بذلوا لهم الجعل جاز ولم يكره؛ لأنه لا صغار على المسلمين.
وإن كان العدو الذي صدهم مشركين فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : إن كان بإزاء كل مسلم مشركان أو أقل لم يجز لهم التحلل، وإن كانوا أكثر جاز لهم التحلل.
وقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليهم قتالهم بحال؛ لأن قتال المشركين(4/387)
لا يجب على المسلمين إلا إذا بدؤوا بالقتال، أو استنفرهم أهل الثغور إلى قتالهم، وهؤلاء لم يبدؤوا بقتال، وإنما منعوا الطريق فقط. فإن قاتلوهم جاز، وهل الأولى أن يقاتلوهم، أو يتحللوا؟ ينظر فيه: فإن كان في المسلمين قوة، وفي المشركين الصادين لهم ضعف فالأولى أن يقاتلوهم؛ ليجمعوا بين نصرة الإسلام والتوصل إلى قضاء نسكهم، وإن كان في المشركين قوة وفي المسلمين ضعف فالأولى أن لا يقاتلوهم؛ لئلا يلحق الإسلام والمسلمين وهن بغلبة الكفار. وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل كره لهم دفعه إليهم؛ لأن في ذلك إجراء صغار على الإسلام. وإن بذلوا لهم الجعل جاز.
وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بعد المنع، فإن كانوا واثقين بعقدهم غير خائفين من غدرهم لم يجز لهم التحلل؛ لأنهم غير مصدودين. وإن كانوا خائفين من غدرهم جاز لهم التحلل.
إذا ثبت أن لهم التحلل، فإن كان الوقت واسعا قال الشافعي: (أحببت لهم أن لا يتحللوا، وينتظروا اليومين والثلاث؛ لأنه ربما زال الحصر وانصرف العدو) .
فإن انتظروا ولم ينصرف العدو، أو كان الوقت ضيقا يخشى فيه فوات الحج قال الشافعي: (أحببت له أن يتحلل لئلا يفوته الحج) .
فإن تحلل من إحرامه لم يخل: إما أن ينصرف العدو، أو لا ينصرف. فإن لم ينصرف العدو رجع المصدود. وإن انصرف العدو، فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه أن يجدد الإحرام ويمضي ويدرك الحج فقد استقر وجوب الحج عليه؛ لأنه قد تمكن منه، لكنه بالخيار: إن شاء حج في هذه السنة، وإن شاء أخر وحج في سنة أخرى؛ لأن الحج - عندنا - على التراخي. وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه أن يلحق الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة.
وإن لم يتحلل حتى فاته الحج وجب عليه القضاء بالفوات، فإن كان قد زال(4/388)
العذر لزمه الوصول إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، وكان عليه هدي للفوات. وإن لم يزل العدو عن طريقه كان له أن يتحلل، ووجب عليه القضاء وهدي للتحلل وهدي للفوات.
[مسألة إحصار المحرم بعمرة]
] : وإن أحرم بالعمرة وأحصر جاز له التحلل.
وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا يخاف فوتها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولم يفرق بين الحج والعمرة، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا محرمين بالعمرة، فلما أحصروا نزلت هذه الآية بشأنهم، فتحللوا) . ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر زمانا، فيكون عليه مشقة في البقاء على الإحرام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أبعث باليهودية، وبالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة» .(4/389)
وقوله: (لأنه لا يخشى فوتها) لا يفيده، ألا ترى أن من أحرم بالحج في أول أشهر الحج، ثم أحصر يجوز له التحلل وإن كان لا يخاف الفوات حال تحلله.
[فرع إحاطة العدو بالمحرم]
] : فإن أحرم وأحاط به العدو من كل جهة، حتى لا يمكنه الخروج عن مكانه فهل يجوز له التحلل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له؛ لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا.
والثاني: يجوز له التحلل؛ لأنه يستفيد بذلك بأن ينهزم إلى ناحية بلده، فيكون متخلصا من الإحرام.
[مسألة قضاء الحج بسبب الإحصارالعام أو الخاص]
مسألة: [قضاء الحج بسبب الإحصار العام أو الخاص] : وإذا أحرم فصد عن الحرم فتحلل، فإن كان الحصر عاما فهل يجب عليه القضاء؟ ينظر فيه:
فإن كان في حج قد تقدم وجوبه عليهم فهو باق في ذمتهم إلى أن يأتوا به، وإن كان لم يتقدم وجوبه لم يجب عليهم القضاء؛ لأجل التحلل من الحصر. وبه قال من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليهم القضاء، سواء كان الحج تطوعا أو واجبا) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] .
فاقتضت الآية: أن هذا جميع موجب الإحصار، ولو كان لهذا موجب آخر وهو القضاء لبينه، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر وأصحابه وتحللوا كان معه ألف وأربعمائة رجل، فلما كان في العام القابل عاد بنفر يسير، ولم يأمر من تخلف عنه(4/390)
بالقضاء) . ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به. فإن قالوا: فقد أعاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتمار في العام القابل، وسميت عمرة القضاء.
قلنا: فعله لها في السنة الثانية لا يدل أنها قضاء عما تحلل عنها في الأولى، بل يجوز؛ لأن الوجوب كان قد استقر عليه، فأدى ما وجب عليه، بدليل: أنه لم يأمر جميع من كان تحلل معه في العام الأول بالقضاء. وأما تسميتها عمرة القضاء: فإن هذه التسمية من أهل النقل، ولا احتجاج بقولهم، ويجوز أن تكون سميت عمرة القضاء؛ لأنه كان قضاء سهيل بن عمرو على العود من قابل، فسميت عمرة القضاء والقضية، لا لأنها قضاء عما تحللوا عنه.
وإن كان الحصر خاصا، بأن حبسه القاضي بدين عليه، فإن كان يقدر على قضائه لم يجز له التحلل، فإن تحلل لم يصح. وإن أقام على إحرامه حتى فاته الحج لزمه القضاء قولا واحدا؛ لأنه مفرط بذلك. وإن حبسه السلطان ظلما، أو حبسه القاضي بدين لا يقدر عليه جاز له التحلل، فإذا تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه القضاء، كما لا يلزمه في الحصر العام.
والثاني: يلزمه؛ لأنه تحلل من الحج قبل وقته بسبب يختص به، فهو كما لو ضل الطريق ففاته الحج.(4/391)
[مسألة الإحصار بعد الوقوف وصد أهل مكة عن الوقوف]
] : وإن وقف بعرفة، ثم أحصر عن المزدلفة ومنى وعن الطواف بمكة جاز له أن يتحلل، كما يجوز التحلل قبل الوقوف، فإن تحلل من إحرامه لم يجزه ما قد أتى به عن حجة الإسلام.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": إذا قلنا: إن الأجير إذا مات بعد الإحرام يجوز البناء على فعله، على القول القديم جاز لغيره أن يبني على عمله هاهنا. فإن أمكنه أن يستأجر من يكمل ما بقي عليه من حجه أجزأه.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : فإن تحلل، ثم انكشف العدو فهل له البناء على باقي حجه بعد تحلله؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز البناء على حج الأجير.
وإن بقي على إحرامه ولم يتحلل فإن الطواف والسعي لا يفوتان؛ لأنه ليس لهما وقت مقدر يفوتان بفواته، ولكن المبيت بالمزدلفة والرمي يفوتان. فإن فاتا قبل تحلله فهل يجب عليه الدم لترك المبيت بالمزدلفة ومنى؟ على قولين، قد مضى ذكرهما. فإن قلنا: يجب وجب عليه دم للمبيت بالمزدلفة، ودم للمبيت بمنى ليالي الرمي. وهل يجب عليه دم لأجل الرمي أو دمان؟ على الكلام الذي مضى فيه إذا تركه عامدا. وأما حصول التحلل الأول: قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا قالوا: فوات وقت الرمي يجري مجرى فعل الرمي في حصول التحلل به.
فإن قلنا: إن الحلاق نسك حلق وتحلل به، وبفوات وقت الرمي.
وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد حصل له التحلل بفوات وقت الرمي، ومتى أمكنه الطواف والسعي أتى بهما.
فأما إذا أحرم أهل مكة أو المقيمون بها بالحج وصدوا عن عرفة جاز لهم التحلل عندنا.
وقال مالك: (لا يجوز لهم التحلل) .(4/392)
دليلنا: أنه ممنوع من إكمال نسكه بغير حق فجاز له التحلل، كما لو كان مصدودا عن البيت. ولأنا لو منعناه من التحلل لفاته الحج ولزمه القضاء، وفي ذلك مشقة. فإن تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأنه تحلل من نسكه بالحصر العام، فلم يجب عليه القضاء، كما لو كان مصدودا عن البيت.
والثاني: أن عليه القضاء؛ لأن المحصر الذي لا قضاء عليه هو المصدود عن البيت، وهذا ليس بمصدود عن البيت، وإنما لم يقدر على الوقوف، فشابه من فاته الوقوف.
فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف تحلل بالطواف والسعي والحلق، وعليه هدي للفوات، ووجب عليه القضاء قولا واحدا؛ لأنه فرط في ترك التحلل.
[مسألة ما يجب على المحصر بتحلله والتعريف بأنواع الدماء]
] : وإذا أراد المحصر أن يتحلل فعليه أن يهدي شاة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة.
وقال مالك: (يتحلل، ولا شيء عليه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ومعنى الآية: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل فما استيسر من الهدي.
وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .(4/393)
ولأنه تحلل من نسكه قبل تمامه، فلزمه الهدي، كما لو تحلل بعد الفوات.
فإن كان واجدا للهدي فعليه أن يخرجه، فإن كان في الحرم نحر هديه فيه وتحلل. وإن كان في الحل، فإن كان لا يمكنه إيصال الهدي إلى الحرم جاز أن يذبح هديه حيث أحصر، وإن كان يمكنه إيصاله إلى الحرم ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذبحه إلا في الحرم؛ لأنه يقدر على إيصاله إلى الحرم، فلزمه نحره فيه، كما لو أحصر فيه.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يبعث به إلى الحرم، وبين أن يذبحه حيث أحصر؛ لأنه موضع تحلله، فهو كما لو لم يكن قادرا على إيصاله. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للمحصر أن ينحر في الحل بحال، بل يلزمه إنفاذ الهدي إلى الحرم، فإذا وصل ونحر حينئذ يتحلل في الحل، فإن تحلل قبل نحر الهدي في الحرم لم يعتد به، وكان عليه الفدية) .
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم محرمون بالعمرة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون ومنعوه، فلما قاضى سهيل بن عمرو أمر أصحابه فنحروا وتحللوا» والحديبية حل، بدليل ما روي عن مجاهد: أنه قال: «نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هداياه تحت الشجرة» وهو: الموضع الذي بني مكانها المسجد، وهي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] [الفتح: 18] .(4/394)
إذا ثبت هذا: فإنه ينحر الهدي، ثم يحلق: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأراد بـ: (المحل) : نحر الهدي. ولأن هدي المحصر قد أقيم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، ثم ثبت أن غير المحصر لا يتحلل قبل إكمال الأفعال، فكذلك المحصر لا يتحلل قبل نحر الهدي.
ولا بد من نية الخروج من الإحرام أو التحلل منه؛ لأنه يخرج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فاحتاج إلى نية الخروج، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار في أثناء النهار فإنه ينوي الخروج من الصوم ويفطر، كذلك هاهنا.
فإن قيل: هدي المحصر عندكم يقوم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، وقد ثبت أن غير المحصر إذا أكمل أفعال النسك تحلل منها بغير نية، فهلا قلتم: لا يحتاج هاهنا إلى نية؟
قلنا: نحن وإن قلنا: إن الهدي يقوم مقام إكمال الأفعال فليس بإكمال؛ لأن من أكمل أفعال النسك فقد أتى بالنسك وسقط به الفرض، فلم يحتج إلى نية الخروج، كالصائم إذا أكمل الصوم إلى الليل فإنه يخرج منه بغير نية، وهاهنا خروج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فافتقر إلى النية، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار بالنهار.
ثم يحلق رأسه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه بالحديبية) .
فإن قلنا: إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق.
وإن قلنا: ليس بنسك حصل له التحلل بالهدي والنية لا غير.
وإن كان عادما للهدي، بأن لم يكن معه هدي ولا ما يشتري به الهدي، أو كان معه الثمن ولم يجد هديا يشتريه فهل له بدل؟ فيه قولان:(4/395)
أحدهما: لا بدل له - وبه قال أبو حنيفة - فيكون الهدي في ذمته إلى أن يجده؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولم يذكر بدله، ولو كان له بدل عند عدمه لذكره، كما ذكر في هدي المتمتع.
والثاني: له بدل - وبه قال أحمد - وهو الصحيح: لأنه هدي يتعلق بالإحرام، فكان له بدل عند عدمه، كهدي التمتع والطيب واللباس وجزاء الصيد، وعدم ذكر بدله لا يمنع قياسه على غيره.
فإذا قلنا: لا بدل له فهل له أن يتحلل قبل وجود الهدي؟ فيه قولان:
أحدهما: (لا يجوز له أن يتحلل) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . [البقرة: 196] . ولم يفرق بين الواجد والعادم.
والثاني: (له أن يتحلل) ؛ لأن المحصر إنما جعل له التحلل ليتخلص من مشقة الإحرام. فلو قلنا: لا يتحلل حتى يجد الهدي لأدى ذلك إلى المشقة العظيمة؛ لأنه ربما تعذر عليه الهدي زمانا طويلا.
وإذا قلنا: إن لهدي المحصر بدلا، فما البدل فيه؟ فلذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: بدله الصيام - وبه قال أحمد - لأنه هدي للتحلل من الإحرام، فكان بدله الصوم، كهدي المتمتع.
والثاني: بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة للهدي، فإذا عدم الهدي ولم ينص على بدله كان الانتقال إلى قيمته أولى من الانتقال إلى الصوم.
والثالث: قال الشيخ أبو حامد - وهو من تخريج أصحابنا -: أنه مخير بين الصيام والإطعام؛ لأنه يتحلل ليترفه بقطع الشعر ولبس الثياب والطيب، فكانت كفارته على التخيير عند عدم الهدي، كفدية الأذى.
فإذا قلنا: إن بدله الصيام ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: صوم التمتع، وهو عشرة أيام، وبه قال أحمد، وقد مضى دليله.
والثاني: صوم التعديل؛ لأنه اعتبار للهدي بأصله، وهو الإطعام، ثم يصوم عن(4/396)
كل مد يوما، فكان هذا أولى من اعتباره بغير أصله.
والثالث: صوم فدية الأذى، وهو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه أشبه به.
وإن قلنا: بدله الإطعام ففيه وجهان:
أحدهما: إطعام التعديل؛ لأن اعتبار الهدي بأصله.
والثاني: إطعام فدية الأذى، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به.
وإذا قلنا: إنه مخير بين الصيام والإطعام خير بين صوم فدية الأذى وبين إطعامه؛ لأنه أقرب إليه.
فإن أوجبنا عليه الإطعام وكان واجدا له أطعم وتحلل، وإن كان عادما له فهل له أن يتحلل قبل وجوده؟ فيه قولان، كالقولين في الهدي إذا قلنا: لا بدل له وإن قلنا: إن بدله الصيام فهل له أن يتحلل قبل الصيام، فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يتحلل حتى يصوم، كما إذا كان واجدا للهدي.
والثاني: له أن يتحلل قبل الصوم؛ لأن الصوم لا يمكنه جميعه في الحال، وإنما يأتي به يوما بعد يوم، ويشق عليه البقاء على الإحرام إلى الفراغ منه، بخلاف الهدي والإطعام.
إذا ثبت ما ذكرناه: فالدماء المنصوص عليها في القرآن في الحج أربعة:
أحدها: دم التمتع، وهو على الترتيب: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ودم التمتع إنما وجب لترك النسك، وهو ترك الإحرام بالحج من ميقات بلده. فيقاس على هذا الدم والترتيب فيه كل دم وجب لترك النسك، وهي ثمانية دماء: أربعة دماء لم يختلف قول الشافعي في وجوبها، وهي: دم القران، ودم الفوات، ودم من ترك الرمي، ودم من أحرم من دون الميقات. وأربعة دماء اختلف قول الشافعي في وجوبها:(4/397)
أحدها: إذا دفع من عرفة قبل الغروب، ولم يعد إليها.
الثاني: إذا ترك المبيت بالمزدلفة.
الثالث: إذا ترك المبيت بمنى ليالي الرمي.
الرابع: إذا ترك طواف الوداع.
فإذا أوجبنا هذه الدماء كانت كدم التمتع في الترتيب.
والثاني - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم فدية الأذى، وهو على التخيير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
والدم المنصوص عليه في هذه الآية هو دم الحلق، عند عامة أصحابنا.
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية.
وكل دم وجب لأجل الترفه، كقص الأظفار، والطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج فهو مقيس على حلق الرأس على التخيير: بين إخراج الشاة، أو إطعام ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام.
وقال أبو إسحاق: دم الطيب واللباس منصوص عليه في الآية، وليس بمقيس على حلق الرأس. وتقدير الآية عنده: فمن كان منكم مريضا، فلبس، أو تطيب، أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية: من صيام، أو صدقة، أو نسك.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: دم الطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، على الترتيب: فيجب الدم، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فصوم التعديل. وقال: وليس هذا بشيء.
وأما أبو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] : فذكرا له في دم الطيب واللباس قولين:(4/398)
أحدهما: أنه على التخيير كالدم الواجب بحلق الرأس.
والثاني: أنه على الترتيب. واختاره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213]- فيجب الدم، فإن لم يجده قومه دراهم والدراهم طعاما وتصدق على كل مسكين بمد، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. ولم يذكر له دليلا، والأول هو المشهور.
والدم الثالث - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم جزاء الصيد، وهو على التخيير.
وقال أبو ثور: (هو على الترتيب) ، وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . فخيره بين المثل والإطعام والصيام.
قال أصحابنا: وهذا الدم أصل لا فرع له يرد إليه؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال، ألا ترى أن جزاء الصيد يختلف باختلاف الصيد في كبره وصغره؟ وليس في الحج دم آخر ضمانه كضمان الأموال حتى يرده إليه.
قلت: ولو رد الجزاء في إتلاف شجر الحرم إلى جزاء الصيد كان محتملا؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، بدليل: أنه يختلف بصغره وكبره، ولكني لم أجده لأحد من أصحابنا.
والدم الرابع - من الدماء المنصوص عليه في القرآن في الحج -: وهو دم الإحصار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وهذا الدم أصل لا فرع له فيرد إليه، فإن كان واجدا للهدي أخرجه، وإن كان عادما فهل له بدل؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.(4/399)
وأما دم إفساد الحج بالوطء: فمأخوذ من السنة، والمنصوص: (أنه على الترتيب) .
وحكى أبو إسحاق قولا آخر: أنه على التخيير، وقد مضى ذكره.
[مسألة إحصار المريض والنصوص التي يجوزالقياس عليها]
مسألة: [إحصار المريض والنصوص التي يجوز القياس عليها] : وإذا أحرم بالحج فمرض لم يكن له أن يتحلل، سواء كان مرضه قليلا أو كثيرا، فإن أمكنه أن يمضي في طريقه فعل، وإلا أقام حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بطواف وسعي، ويقضي. وبه قال ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (للمريض أن يتحلل من إحرامه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فظاهر الآية: أن من دخل بهما فعليه إتمامهما بكل حال حتى تقوم دلالة التخصيص، فخص المحصر بالعدو بجواز التحلل بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبقي فيما سوى ذلك على الوجوب.
وروى ابن عباس وابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وإني شاكية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي: أن محلي حيث حبستني» . فلو كان المريض يجوز له أن يتحلل(4/400)
بالمرض لبين لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولما أمرها بالشرط في ذلك بالإحرام. ولأنه لا يتخلص بالتحلل من إيذاء المرض، فلم يجز له التحلل، كما لو أحرم فضل الطريق. ويخالف التحلل لأجل العدو؛ لأنه يتخلص بالتحلل من أذى العدو ومقاساته، وينصرف إلى أهله ووطنه. وهذا المعنى لا يوجد في المرض فلم يقس عليه؛ لأن ما خصه الله أو رسوله بالذكر ونص فيه على حكم على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يعقل معناه، ولا يجوز القياس عليه، وذلك مثل: أعداد الركعات وأوقاتها، ولذلك لم يقس عليها وجوب صلاة سادسة.
وضرب: يعقل معناه، ولم يوجد ذلك المعنى في غيره، مثل: المسح على الخفين؛ لأن معناه: أن الحاجة تدعو إلى لبسهما، وتلحق المشقة في نزعهما، وهذا لا يوجد في العمامة والقفازين؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسهما، وإن دعت الحاجة إلى لبسهما فيمكن المسح على الرأس من تحت العمامة. وكذلك التحلل من الإحرام لأجل الإحصار بالعدو عقل معناه، وهو: التخلص من العدو بالتحلل، وهذا المعنى لا يوجد في المرض. وكذلك تحريم الربا في الذهب والفضة عقل معناه، وهو: أنهما قيم الأشياء، ولم يوجد هذا المعنى في غيرهما، فلم يقس عليهما غيرهما من الحديد والرصاص وغير ذلك في تحريم الربا فيه.(4/401)
وضرب: عقل معناه، ووجد ذلك المعنى في غيره، فيجوز القياس عليه، وذلك مثل: ما نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح.
والمعنى المعقول - عندنا -: هو كونه مطعوم جنس، فقسنا عليه: الذرة والأرز وغيرهما من المطعومات.
[مسألة إحرام العبد وتحليله]
] : لا يجوز للعبد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما بغير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة لسيده فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن أحرم بغير إذنه فقد ذكرنا: أنه يصح، خلافا لأهل الظاهر.
ودليلنا: أنه مكلف فصح إحرامه كما لو أحرم بالصوم بغير إذن سيده.
إذا ثبت هذا: فالمستحب للسيد أن يدعه لإتمامه؛ لأنه قربة وطاعة، فإن أراد السيد تحليله منه وإخراجه كان له ذلك؛ لأن منافعه ملك له، فلا يلزمه إتلافها بغير رضاه. فإذا منعه من إتمامه صار كالمحصر، فإن ملكه السيد مالا وقلنا: إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه، أو ملكه وقلنا: إنه لا يملك فهو كالحر المعسر بالهدي إذا أحصر بالعدو، وهل للهدي بدل؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال، على ما مضى.
وإذا قلنا: لا بدل له فإن الهدي ثبت في ذمته إلى أن يعتق.(4/402)
وهل له أن يتحلل قبل إخراج الهدي؟ أو إذا قلنا: إن بدله الصوم هل له أن يتحلل قبل الفراغ من الصوم؟
نص الشافعي: أنه على قولين، كالحر المعسر.
وقال أبو إسحاق: يتحلل العبد قبل أن يجد الهدي، وقبل أن يصوم قولا واحدا، والفرق بينه وبين الحر المعسر: أن الحر إذا بقي على إحرامه دخل الضرر على نفسه دون غيره، فلذلك جاز أن يبقى على إحرامه، والعبد إذا تركناه على إحرامه دخل الضرر على السيد؛ لأنه لا يمكنه استعماله في ذبح الصيد وعمل الطيب وما أشبهه، ولأن وجود الهدي يقرب من الحر؛ لأنه ممن يملك، ويمكنه أن لا يتحلل حتى يجد الهدي بابتياع أو اتهاب، والعبد يحتاج إلى أن يصبر إلى أن يعتق، ثم يوسر، وفي هذا مشقة. وهذا الحكم في المدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة.
[فرع رجوع السيد بإذنه لعبده في الإحرام]
] : وإن أحرم العبد بإذن المولى وجب عليه أن يمكنه من إتمامه، فإن رجع السيد في الإذن بعد الإحرام لم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (له أن يحلله) .
دليلنا: أنه عقد لازم بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه، كالنكاح.
وفيه احتراز: من المضاربة، والشركة، والعارية.
وإن رجع السيد في الإذن قبل أن يحرم العبد، فإن علم العبد برجوعه ثم أحرم كان كما لو أحرم بغير إذنه، على ما مضى؛ لأن إذنه الأول قد أبطله قبل الدخول فيه، وإن لم يعلم العبد بالرجوع فأحرم فهل له أن يحلله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في بيع الوكيل بعد العزل وقبل علم الوكيل بالعزل.(4/403)
[فرع بيع السيد عبده المحرم]
وإن أذن السيد لعبده بالإحرام فأحرم، ثم باعه قبل التحلل صح البيع؛ لأن الإحرام لا يمنع التسليم. فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار في فسخ البيع؛ لأن بقاءه على الإحرام يضر بالمشتري.
وقال أبو حنيفة: (لا خيار له؛ لأنه عبده، له أن يحلله، كما لو كان لبائعه) . وقد مضى الدليل عليه.
فأما إذا أحرم بغير إذن سيده ثم باعه لم يكن للمشتري الخيار في فسخ البيع، سواء علم بإحرامه أو لم يعلم؛ لأن له أن يحلله كما كان للبائع أن يحلله فقام المشتري مقامه في ذلك.
[فرع سفر المكاتب للحج والعمرة]
] : وأما المكاتب: فإذا أراد أن يسافر للحج والعمرة فهل للسيد منعه من ذلك؟
فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالسفر للتجارة.
و [الثاني] : منهم من قال: له أن يمنعه من سفر الحج والعمرة قولا واحدا؛ لأن السفر للتجارة يقصد به زيادة المال، وفي سفر الحج إتلاف المال من غير زيادة.
[مسألة الحج للزوجة]
إذا أرادت الزوجة أن تسافر لحج التطوع أو تحرم به فللزوج منعها منه؛ لأن حقه واجب عليها، فلا يجوز لها تفويته عليه بما ليس بواجب عليها. وإن أرادت أن تسافر(4/404)
لحجة الإسلام أو تحرم بها فهل للزوج منعها من ذلك؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 211 و 212] :
أحدهما: ليس له منعها من ذلك - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . وهذا عام في المسجد الحرام وغيره. ولأنه لا يجوز للزوج منعها من الصلاة المفروضة في أول الوقت وإن كان يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، فكذلك الحج الواجب.
والثاني: له أن يمنعها من ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - لما روى الدارقطني بإسناده، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في امرأة لها زوج ولها مال ولم يأذن لها في الحج، قال: " ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها» . ولأن الحج - عندنا - على التراخي، وحق الزوج على الفور، فكان مقدما، كالعدة تقدم على الحج. ويخالف الصلاة في أول الوقت؛ لأن مدتها يسيرة، فلا يستضر الزوج بذلك، بخلاف الحج. فإن أذن لها الزوج فأحرمت لزمه تمكينها من إتمامه فرضا كان أو تطوعا؛ لأنه يلزم بالدخول. وإن أحرمت بغير إذنه صح إحرامها فرضا كان أو تطوعا، وهل يجوز للزوج أن يمنعها من إتمامه ويطالبها بالتحلل؟ ينظر فيه:
فإن كان في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يجوز له منعها من الدخول فيه لم يكن له تحليلها منه. وإن قلنا: له منعها من الدخول فيه فهل له منعها من إتمامه؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يحللها منه؛ لأن له منعها من الدخول فيه، فكان له تحليلها كالأمة.(4/405)
والثاني: ليس له تحليلها؛ لأنه كان له منعها منه ما لم يكن مضيقا عليها، بل هو على التراخي، فأما إذا أحرمت فيه فقد تضيق عليها وتعين عليها.
وإن كان الحج تطوعا فقد قال الشافعي: (ومن قال: ليس له أن يحللها من حجة الإسلام إذا أحرمت به يلزمه أن يقول: إذا أحرمت بتطوع لم يكن له أن يحللها منه) . فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كحجة الإسلام؛ لأن حجة التطوع تلزمه بالدخول، كحجة الإسلام.
ومنهم من قال: له أن يحللها من حج التطوع قولا واحدا - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " - كما يجوز له أن يحللها من صوم التطوع، وما ذكره الشافعي في حجة التطوع، فإنما ذكره تشنيعا على قول من قال: ليس له منعها من إتمام حجة الإسلام، وتضعيفا له، لا أنه مذهب له في حج التطوع.
[فرع الحج والعمرة وإذن الوالدين]
] : فأما إذا أراد أن يسافر للحج أو العمرة وله والدان أو أحدهما، فإن كان لحج واجب: إما حجة الإسلام أو النذر أو قضاء عليه لم يكن لهما ولا لأحدهما منعه منه؛ لأن هذا واجب عليه، وطاعة الوالدين مستحبة مندوب إليها، فلا يجوز له أن يترك الواجب بالمستحب. وإن كان لحج تطوع كان لهما ولكل واحد منهما منعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يجاهد معه، فقال: " ألك والدان؟ " فقال: نعم، فقال: " استأذنتهما؟ "، فقال: لا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ففيهما فجاهد ".(4/406)
وفي رواية: تركتهما وهما يبكيان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» فإذا كان ذلك في الجهاد الذي هو فرض ففي حج التطوع أولى. فإن أحرم بغير إذنهما، أو بغير إذن أحدهما، فإن كان في حج واجب لم يكن لهما تحليله؛ لأنهما لا يجوز لهما منعه من الدخول فيه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه. وإن كان لحج تطوع فهل لهما تحليله منه؟ فيه قولان:
أحدهما: لهما منعه من إتمامه ومطالبته بالتحلل منه؛ لأن لهما منعه من الدخول فيه، فكذلك من إتمامه، كالسيد مع عبده.
والثاني: ليس لهما منعه من إتمامه؛ لأنه صار بالدخول فيه واجبا عليه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه كحجة الإسلام، ويفارق السيد مع عبده؛ لأنه يملك رقبته ومنفعته.
[مسألة الإحرام مع الشرط]
] : إذا أحرم واشترط في إحرامه التحلل لغرض صحيح، مثل: أن يقول: متى مرضت، أو ضاعت نفقتي، أو ضللت عن الطريق، أو خفت الفوات، أو أخطأت العدد تحللت فهل يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم؟
قال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) ، وقال في الجديد: (إن صح حديث ضباعة قلت به) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح هذا الشرط، ولا يتعلق به حكم - وبه قال مالك وأبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .(4/407)
ولم يفرق بين أن يشترط أو لا يشترط إلا فيما خصه الدليل. ولأن كل عبادة جاز الخروج منها بالشرط جاز الخروج منها بغير الشرط، كالصوم لما جاز له أن يخرج منه إذا شرط الخروج بالمرض في البلد جاز أن يخرج منه إذا مرض وإن لم يشرط. والصلاة لما لم يجز أن يخرج منها بغير شرط لم يجز أن يخرج منها بالشرط. وكذلك الإحرام قد ثبت أنه: لا يجوز الخروج منه بعذر بغير شرط، فكذلك لا يجوز الخروج منه بشرط.
والقول الثاني: أنه يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم - وهو الصحيح - لما روي: «أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» . ولأن الإحرام يجب به النسك كما يجب بالنذر، ثم إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان صحيحا حاضرا صح شرطه، فكذلك إذا شرطه في الإحرام.
ومنهم من قال: يصح هذا الشرط ويتعلق به الحكم قولا واحدا؛ لأن الشافعي إنما علق القول في الجديد على صحة حديث ضباعة وقد صح.
إذا ثبت هذا: قال ابن الصباغ: فإن شرط أن يتحلل بالهدي تحلل به، وإن شرط أنه يتحلل من غير هدي تحلل بغير هدي، وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالا، فمرض فالمنصوص: (أنه يصير حلالا) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» ولا يمكن حمل الخبر إلا على هذا. ولأن(4/408)
هذا التحلل مستفاد بالشرط، فوجب أن يكون على حسب الشرط ومقتضاه.
ومن أصحابنا من قال: إنه لا بد من التحلل؛ لأن أصل هذا: هو حصر العدو، والمحصر بالعدو لا يخرج من إحرامه إلا بالتحلل، كذلك هذا مثله.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا وجد الشرط فهل يجب عليه الهدي؟ فيه وجهان:
أحدهما: عليه الهدي؛ لأن الأصل في الإحصار هو حصر العدو، والمحصر بالعدو إنما يتحلل بالهدي، فكذلك هذا مثله.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا هدي عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضباعة: «أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ولم يأمرها بالهدي، وهذا وقت حاجتها إلى البيان، فلما لم يبين علم أنه ليس بواجب. ولأنه إذا شرط التحلل بالعذر فإحرامه لم يتضمن من الأفعال إلا إلى وقت العذر، فإذا وجد ذلك العذر فقد انتهت أفعال نسكه، فخروجه عن الإحرام هو بعد انتهاء أفعال النسك، فجرى مجرى غير المحصر، إذا أكمل أفعال النسك وخرج منها لا هدي عليه، كذلك هذا مثله.
ويفارق هذا المحصر بالعدو؛ لأن إحرامه يتضمن أفعال النسك، فإذا تحلل بالحصر لزمه الدم لأجل ما ترك من أفعال النسك. وظاهر كلام صاحب " المهذب ": هو الوجه الأول.
فأما إذا شرط في إحرامه: أنه إذا شاء تحلل لم يصح هذا الشرط قولا واحدا؛ لأنه خروج من غير عذر فلم يصح.
[مسألة الردة بعد الحج]
] : إذا حج المسلم حجة الإسلام، ثم ارتد عن إسلامه لم يحبط عمله بنفس الردة، بل يكون مراعى، فإن قتل أو مات على الردة حكمنا بانحباط عمله، وإن أسلم لزمه قضاء ما فاته في حال الردة من الصلاة والصيام، وحجه قبل الردة صحيح لا يجب عليه قضاؤه.(4/409)
وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أن بنفس الردة يحبط عمله، فإذا أسلم لم يجب عليه قضاء الصلوات والصيام وكان عليه قضاء الحج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] .
فأخبر: أن عمله إنما يحبط بالردة والموت عليها. فمن قال: يحبط بنفس الردة فقد خالف نص الآية. ويدل على ذلك «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأقرع بن حابس، حين قال له: الحج في الدهر مرة واحدة أو أكثر يا رسول الله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مرة، وما زاد هو تطوع» .
وإن أحرم، ثم ارتد، ثم أسلم ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل إحرامه؛ لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو أصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى.
والثاني: لا يبطل، كما لا يبطل بالجنون والموت، فيبني عليه.
وبالله التوفيق(4/410)
[باب الهدي]
يستحب للحاج والمعتمر أن يهدي إلى مكة شيئا من بهيمة الأنعام - وهي: الإبل والبقر والغنم - لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة» وروي: (أنه أهدى مرة غنما) . فإن نذر ذلك وجب عليه؛ لأنه قربة فلزمه بالنذر.
فإن كان ما يهديه من الإبل أو البقر فالسنة أن يقلدها ويشعرها.
و (التقليد) : هو أن يعلق في رقبتها نعلين.
و (الإشعار) : هو أن يشق صفحة سنامها الأيمن بحديدة حتى يدميها ويمسح بالدم على السنام.
وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، إلا أن مالكا وأبا يوسف قالا: (يشعرها في شق صفحة سنامها الأيسر) .
وقال سعيد بن جبير: لا يشعر البقر، وبه قال مالك إذا لم يكن لها سنام.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الإشعار) .(4/411)
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها بصفحة سنامها الأيمن، وسلت عنها الدم بيده، ثم قلدها نعلين، ثم أتى براحلته، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج» .
وروى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة، فقلدها وأشعرها» . ولأنها ربما ندت واختلطت بمال الغير فتتميز بذلك. ولأن اللص إذا رآها مشعرة تجنب أخذها. وربما عطبت ونحرت فتكون علامة لمن أراد أخذ لحمها.
وإن كان الهدي من الغنم فالسنة أن يقلدها في رقابها خرب القرب - وهي: عرى القرب الخلقة اليابسة - ولا يقلدها النعال؛ لأن ذلك يثقلها ولا يشعرها؛ لأنها تضعف عنه، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يقلدها) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى غنما مقلدة» .
فإن ترك الإشعار والتقليد جاز؛ لأن ذلك يراد للتمييز.
وإذا أشعر هديه أو قلده فإنه لا يصير بذلك محرما حتى ينوي الإحرام.
وقال ابن عباس: (إذا قلد هديه صار بذلك محرما) .(4/412)
دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان يقلدها بيده، وكان لا يجتنب شيئا يجتنبه المحرم» . ولأن هذا متجرد عن نية الإحرام، فلم يصر به محرما، كالاغتسال والتجرد عن المخيط.
[مسألة جواز الذكر وأفضلية الأنثى والفحل في الهدي]
] : ويجزئ الذكر والأنثى؛ لأن القصد منه اللحم، والذكر أكثر لحما من الأنثى. ويفارق الزكاة حيث قلنا: لا يجوز الذكر؛ لأن القصد أن يحصل للمساكين الدر والنسل، وهذا لا يوجد في الذكر.
قال الشافعي: (والأنثى أحب إلي من الذكر؛ لأنها أطيب لحما وأرطب، والضأن أحب إلي من المعز؛ لأن الضأن أطيب لحما) .
قال: (والفحل أحب إلي من الخصي؛ لأن الخصي ناقص) .
ولم يرد بـ (الفحل) : المعد للضراب؛ لأن ذلك يهزله ويضره، فلا يكون لحمه طيبا، وإنما يريد: الذي لا ينزو على الإناث.
[مسألة التصرف بالهدي ومنعه]
] : فإن كان الهدي تطوعا فهو باق على ملكه، له أن يتصرف فيه بما شاء من وجوه التصرفات؛ لأنه لم يوجد منه إلا نية الصدقة، فهو كما لو نوى أن يتصدق بدرهم بيده، أو يعتق عبدا يملكه.(4/413)
وإن كان الهدي نذرا زال ملكه عنه بالنذر، فلا يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة.
وقال أبو حنيفة: (لا يزول ملكه عنه، ويجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك، لكن إن باعه اشترى بثمنه هديا مثله) .
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله: إني أهديت نجيبا فأعطيت به ثلاثمائة دينار، أفأبيعه وأبتاع بثمنه بدنا؟ فقال: " لا، انحره» فمنعه من بيعه، وأمره بنحره. فلو جاز البيع لأمره به؛ لأن النجيب دقيق البدن قليل اللحم، والبدنة أكثر لحما منه، وأنفع للمساكين.
[فرع ركوب الهدي المنذور والانتفاع بلبنه وصوفه]
] : وإذا نذر هديا فساقه وكان مما يركب، فإن كان غير مضطر إلى ركوبه لم يجز له ركوبه؛ لأن الملك فيه لغيره، فلم يجز له الانتفاع به بغير إذن مالكه. وإن اضطر إلى ركوبه جاز له ركوبه، وله أن يركبه من إعياء وإن نقص منه شيء بالركوب ضمنه.
وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يركبه) .
دليلنا: «ما روى أبو الزبير قال: سألت جابرا عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» هذا نقل البغداديين من أصحابنا.(4/414)
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : هل له أن يركبه؟ فيه وجهان، إن كان الركوب لا يضر الهدي.
وإن كان الهدي المنذور أنثى فولدت تبعها الولد ونحر معها، سواء حملت به بعد النذر أو كانت حاملا به عند النذر؛ لما روي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها، واذبح ولدها معها) . ولأن الولد نماء الأم، وهي ملك للمساكين فملكوا ولدها. فإن أمكنه سوق الولد مع الأم ساقه، وإن لم يمكنه سوقه حمله على ظهر أمه؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها إلى أن يضحي) . ويسقي الولد لبن أمه، فإن كان اللبن وفق كفاية الولد لم يجز للمهدي شرب شيء منه. وإن فضل عن كفاية الولد شيء، أو مات الولد وبقي اللبن كان للمهدي شربه.
فإن قيل: الولد نماء الأم، واللبن نماؤها فكيف جاز للمهدي شرب اللبن دون أكل الولد؟ قلنا: الفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن بقاء اللبن في الأم يضر بها، وبقاء الولد لا ضرر فيه عليها.
والثاني: أن اللبن يستخلف، فما يتلفه يعود غيره، فدخلت فيه المسامحة.
والثالث: أن اللبن لو جمع لفسد وبطلت منفعته، بخلاف الولد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.(4/415)
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : من أصحابنا من قال: في اللبن وجهان، كالركوب، وليس بشيء.
وقال أبو حنيفة: (ليس له شرب لبنها، وإنما ينضح ضرعها بالماء حتى يجف لبنها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] [الحج: 33] .
واللبن من المنافع لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمستحب: أن يتصدق باللبن؛ ليحصل له القربة بها، وبما يحدث منها.
وإن كان على الهدي صوف، فإن كان في تركه مصلحة له، بأن يكون في وقت البرد لم يجزه؛ لأنه ينتفع به الهدي والمساكين. وإن كان في جزه مصلحة، بأن يكون في وقت الحر جزه، والأولى أن يتصدق به، فإن انتفع به المهدي جاز كاللبن.
[فرع لا يضمن الهدي بنحره لإحصار ونحوه]
] : إذا قال: لله علي أن أهدي هذه البدنة أو هذه الشاة إلى مكة فساقها، ثم أحصر في الطريق ذبحها حيث أحصر من حل أو حرم لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه بالحديبية) . وهي حل. وإن تلف من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه أمانة(4/416)
في يده، فلم يضمنه من غير تفريط، كالوديعة. وإن أصابه عيب ذبحه ولم يجب عليه بدله؛ لأنه لو هلك جميعه لم يجب عليه بدله فكذلك إذا هلك بعضه.
وقال أبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا: يجب عليه إبداله سليما. وهو قول أبي حنيفة - وليس بشيء.
[مسألة عطب الهدي ونحره ولمن يحل أكله]
] : وإن عطب الهدي وخاف أن يهلك نظرت: فإن كان تطوعا فله ذبحه وأكله وإطعام من شاء منه من غني وفقير، وله ترك ذبحه إلى أن يموت ولا شيء عليه في ذلك لأنه ملكه. وإن كان نذرا معينا نحره وصبغ نعليه بدم جوفه، وضرب به على صفحة سنامه ليعلم أنه هدي، وخلى بينه وبين المساكين؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مع رجل من أسلم ثماني عشرة بدنة إلى مكة هديا، فقال له الأسلمي: يا رسول الله أرأيت إن زحف منها شيء - يعني: ضعف عن المشي - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انحرها، واصبغ نعليها بدم جوفها، واضرب بهما على صفحة سنامها، وخل بينها وبين المساكين، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها شيئا» ولأنه هدي صار مصدودا عن الحرم، فوجب نحره في موضع الصد كهدي المحصر.(4/417)
إذا ثبت هذا: فلا يجوز للمهدي أن يأكل منه؛ لأنه واجب عليه، ولا يجوز لأغنياء رفقته؛ لأن الهدي لا حق فيه للأغنياء.
قال ابن الصباغ: وكذلك سائقه وقائده، ولا يختلف المذهب: أنه لا يحل له الأكل منه. وأراد: وإن كان فقيرا؛ لأنه متهم في التقصير بعلفه وسقيه.
وهل يجوز لفقراء رفقته أن يأكلوا منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لحديث ابن عباس، ولأن فقراء الرفقة متهمون في إعطابه طمعا في أكله، فحسم الباب لينحسم طمعهم فيه.
والثاني: يجوز؛ لأنهم فقراء، فشابهوا غيرهم. ومن قال بهذا حمل الخبر على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن تلك الرفقة لا فقير فيها.
إذا ثبت هذا: فإن الهدي لا يصير للفقراء مباحا إلا باللفظ، وهو أن يقول: أبحته(4/418)
للفقراء والمساكين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنا له، وقال: " ليقتطع من شاء منكم» وإنما لم يصر مباحا إلا بالقول؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، كما قلنا في الزكاة. فإذا أذن المالك جاز لمن سمع الإذن أو علمه أن يأخذ منه، وأما من لم يسمع الإذن ولا أخبر به فهل يجوز له أن يأخذ منه إذا وجده مذبوحا مشعرا؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يحل له حتى يعلم الإذن لجواز أن يكون تطوعا، أو كان واجبا وأراد أن يخص به بعض الفقراء.
والثاني: يحل له وإن لم يعلم الإذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بهذه العلامة من الدم لهذه العلة، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث الأسلمي لم يأمره أن يخص به قوما دون قوم.
وإن أخر ذبحه حتى مات وجب عليه الضمان؛ لأنه فرط بتركه، فلزمه الضمان، كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه.
فإن قيل: أليس لو نذر عتق عبد، فأخر إعتاقه حتى مات لم يجب عليه ضمانه؟
قلنا: الفرق بينهما: أن المستحق للعتق هو العبد وقد تلف، وهاهنا المستحق للهدي هم الفقراء، وهم مجودون.
[فرع إتلاف الهدي بسبب منه]
] : وإن أتلف المهدي الهدي لزمه ضمانه؛ لأنه أتلف مال المساكين ويضمنه بأكثر الأمرين: من قيمته أو هدي مثله.(4/419)
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجب عليه قيمته يوم التلف) .
دليلنا: أنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع، فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين.
فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى بها هديا مثله.
وإن كان الثمن أقل من قيمة هدي مثله لزمه أن يشتري مثله.
وإن كانت أكثر، فإن أمكنه أن يشتري بها هديين مثله اشترى بها هديين، وإن لم يمكنه اشترى هديا مثله، وفي الفاضل ثلاثة أوجه:(4/420)
أحدها: أن يشتري جزءا من حيوان؛ لأن الإراقة مستحقة وقد فوتها، فإذا أمكنه لم يتركها.
والثاني: يشتري به اللحم ويتصدق به؛ لأنه أقرب.
والثالث - وهو الصحيح -: أنه يتصدق بالقيمة؛ لأن الإراقة تشق، فسقطت فكان إيجاب القيمة أولى من دفع اللحم.
وإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة يوم التلف لا غير، والفرق بينه وبين المهدي: أن المهدي وجبت عليه الإراقة، وهذا لم تجب عليه الإراقة، فإن أمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله اشترى بها، وإن رخص الهدي وقت الشراء فأمكنه أن يشتري بالقيمة هديين مثله اشترى بها هديين، وإن أمكنه أن يشتري بها هديا مثله وبقي هناك بقية لا يمكنه أن يشتري بها هديا آخر ففي البقية الأوجه الثلاثة.
وهكذا لو لم يمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله؟ بأن غلا الهدي وقت الشراء فقد ذكرنا: أنه لا يلزمه إلا القيمة فقط، وفيما يصنع بها الأوجه الثلاثة.
وإن اشترى هديا ونذر إهداءه، ثم وجد به عيبا لم يكن له رده، كما لو اشترى عبدا وأعتقه، ثم وجد به عيبا.
فعلى هذا: يرجع بالأرش كما قلنا في العبد، وفيما يأخذه من الأرش وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يصرفه إلى المساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر، فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة.(4/421)
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون المشتري أحق به؛ لأن الأرش إنما وجب له؛ لأن عقد البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبه وهو في ملكه، فلا يستحق الفقراء ما أوجبه عقد الشراء. ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم، فلا يكون ذلك مؤثرا في المقصود.
[مسألة موضع نحر الهدي بأنواعه ووقته]
] : وإذا كان مع المعتمر هدي، فإن كان تطوعا مثل: أن اعتمر في غير أشهر الحج، أو في أشهر الحج لكنه لا يريد الحج من سنته، أو أراده ولكنه من أهل مكة، أو مقيم بها فكل هؤلاء لا دم عليهم. فإذا أراد أن يذبح كان تطوعا، وموضع نحره في الاختيار عند المروة؛ لأنه موضع تحلله، وذلك إذا أكمل السعي.
فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد تحلل من عمرته.
وإن قلنا: إن الحلاق نسك لم يتحلل إلا به؛ إلا أن المستحب أن ينحر قبل الحلق، كما أن السنة للحاج: أن ينحر بمنى بعد الرمي وقبل الحلق. وفي أي موضع من مكة والحرم نحر فيه أجزأه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى وفجاج مكة كلها منحر» .
وإن كان الهدي للتمتع أو للقران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر، ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة، وبعد الإحرام بالحج، وهل يجوز ذبحه بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مضى ذكرهما.(4/422)
وإن كان الهدي منذورا نحره يوم النحر وأيام التشريق، فإن أخره عن ذلك نحره بعد ذلك وكان قضاء. وإن أخر التطوع عن يوم النحر وأيام التشريق لم يكن هديا، وإنما يكون شاة لحم.
[مسألة استحباب الذبح لصاحب الهدي وأجرة الجازر]
وما يفعل باللحم] : والمستحب للإنسان: أن يتولى ذبح هديه بنفسه؛ لأنه قربة، فإن أمر غيره بذلك ممن تصح ذكاته جاز لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بعض هداياه، وأعطى عليا فنحر ما بقي منها» . فإن دفع الهدي إلى المساكين قبل النحر لم يجزه، لأن النحر مستحق عليه.
وإذا نحر الهدي فالمستحب: أن يقسم اللحم بين الفقراء والمساكين؛ ليكون أعظم للأجر، فإن سلمه إليهم مشاعا ليقتسموه بينهم جاز لما روي: أنه «قرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال: " من شاء فليقتطع» . فإن قيل: أليس النثار عندكم مكروها؟
قلنا: الفرق بينهما: أن النثار لا يزيل ملك صاحبه، وإنما يزول ملك صاحبه عنه إذا أخذ، فربما أخذه من لا يحب صاحبه أن يأخذه، وهاهنا قد زال ملك المهدي عن الهدي، فإذا وقع الذبح، ثم سلمه إليهم فقد سلم إليهم ملكهم، فكان لهم أخذه.
ويجب عليه أن يسلم إليهم جميع لحم الهدي وجلده؛ لما «روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أمرني رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأقسم لحمها وجلودها وجلالها في(4/423)
المساكين، ولا أعطي الجازر منها شيئا» فإن كان الجازر فقيرا جاز أن يعطي منه لحق الفقر، وقوله: (ولا أعطي الجازر منها شيئا) أي: لحق الأجرة؛ لأن أجرة الجازر على المهدي.
قال الشافعي في القديم: (ويعطي النعال التي قلدها المساكين) .
قال أصحابنا: هذا مستحب؛ لأنه ليس من أصل الهدي.
فإن لم يفرق اللحم حتى أنتن قال الشافعي: (كان عليه قيمته) . وذكر في (مختصر الحج) : (أن عليه الإعادة) .
قال الشيخ أبو حامد: فيها قولان:
أحدهما: عليه إعادة الذبح، أو يضمنه بمثله؛ لأنه فرط.
والثاني: عليه قيمة اللحم. قال: وهو الصحيح؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما بقي إيصال اللحم إلى المساكين، فإن تركه حتى أنتن فقد أتلفه، واللحم لا مثل له، فضمنه بقيمته. وقوله: (عليه الإعادة) أراد: إعادة القيمة وإخراجها إلى المساكين.
[مسألة ذبح النذر بيد غيرالمهدي]
مسألة: [ذبح النذر بيد غير المهدي] : وإذا نذر هديا معينا فقد ذكرنا: أن المستحب للإنسان أن يذبح هديه بنفسه، فلو ذبحه غيره بغير أمره أجزأ المهدي؛ لأنه مستحق الذبح، فإذا ذبحه غيره وقع الموقع، كرد الوديعة والغصب وإزالة النجاسة. ووجب على الذابح ما بين قيمته حيا ومذبوحا، كما لو ذبح شاة لغيره، فإن أمكن أن يشتري بذلك هديا آخر مثله(4/424)
اشترى به، وإن لم يمكن كان فيه ثلاثة أوجه مضى ذكرها، هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى الخراسانيون فيها قولين آخرين:
أحدهما: لا شيء عليه - وبه قال أبو حنيفة - لأن الذبح قد وقع الموقع.
والثاني: إن شاء جعلها عن الذابح وأخذ قيمتها وإن شاء أخذها وما نقص من قيمتها.
وقال مالك: (لا يجزئ عن المهدي) وقد مضى الدليل عليه.
[مسألة تعيين ذبح بدلا عما وجب عليه في ذمته]
] : وإن كان في ذمته هدي، بأن كان قد تمتع أو قرن أو تطيب، فوجبت عليه شاة، فقال: علي لله أن أنحر هذه الشاة عما في ذمتي تعين عليه أن يذبح هذه الشاة عما في ذمته؛ لأنه(4/425)
لو نذر أن يهديها ابتداء لتعين عليه ذبحها، فإذا نذر أن يذبحها عما في ذمته فالأولى أن يلزمه ذبحها ويزول ملكه عنها، فلا يملك بيعها ولا إبدالها بغيرها، كما لو نذر ذبحها ابتداء. فإن هلكت قبل أن تصل إلى الحرم بتفريط أو غير تفريط، أو حدث بها عيب يمنع الإجزاء رجع الواجب إلى ما في ذمته، ويلزمه أن يذبح شاة صحيحة، كما نقول فيمن عليه دين في ذمته، فأعطى صاحب الدين بدينه عينا، ثم هلكت العين أو أصابها عيب قبل القبض وردها فإن صاحب الدين يرجع إلى دينه في ذمته، ويبطل التعيين في هذه العين. وإن أصاب هذه الشاة المعينة عيب أو هلكت بعدما وصلت إلى الحرم ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنها تجزئه، فيذبح المعيبة ويفرقها، ولا يلزمه إبدالها؛ لأنها بلغت محلها.
والثاني: لا تجزئه هذه المعيبة، ويلزمه إخراج شاة صحيحة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ لأن العيب والهلاك أصابها قبل وصولها إلى المساكين، فهو كما لو أصابها ذلك قبل أن تبلغ الحرم.
إذا ثبث هذا: فإن قلنا: يجزئه إخراج المعيبة فلا كلام.
وإن قلنا: لا يجزئه فهل تعود المعيبة إلى ملكه، أو يلزمه إخراجها مع السليمة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه - وهو قول أحمد - لأن الفقراء ملكوها بالتعيين.(4/426)
والثاني: تعود إلى ملكه، وهو الصحيح.
فعلى هذا: له أن يأكلها ويبيعها ويطعمها من شاء؛ لأنهم إنما ملكوها في مقابلة ما في ذمته، فإذا أصابها العيب قبل التسليم رجعت إلى ملكه، كما لو قضى عينا بدين في ذمته، ثم أصابها عيب قبل القبض، فردها صاحب الدين فإنها ترجع إلى ملك من عليه الدين.
وإن عطب هذا الهدي المعين قبل أن يصل إلى الحرم فنحره عاد الواجب إلى ما في ذمته، وهل يملك المهدي هذا الهدي المنحور؟ على هذين الوجهين
وإن ضل هذا الهدي المعين وجب عليه إخراج ما في ذمته، فإن عاد الضال بعد تفرقة الأول لزمه إخراج الضال، وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يستحب؛ لأن ما في ذمته قد سقط بإخراج الأول.
والثاني: يجب: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير بهديين، فنحرتهما، ثم عاد الضالان، فنحرتهما، وقالت: (هذه سنة الهدي) . ولأنه لم يزل عن صفته الأولى وقد كانوا ملكوه بالتعيين، فلم يزل ملكهم عنه بضلاله.(4/427)
وإن رجع الضال قبل تفرقة لحم الأول قال ابن الصباغ: لم يلزمه قال ويحتمل أن يقال أيضا: إنه واجب، كما إذا لم يجد ما يتطهر به فصلى، ثم وجد الماء للطهارة.
هذا إذا كان الذي عينه مثل الذي في ذمته، فإن كان الذي عينه دون الذي في ذمته، بأن عين شاة معيبة، قال ابن الحداد: لزمه ذبح ما عينه ولم يجزه عما في ذمته، كما إذا كانت عليه كفارة فأعتق عنها عبدا معيبا فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة.
وإن عين أعلى مما في ذمته، بأن عين بدنة أو بقرة عن شاة في ذمته لزمه نحرها، فإن هلكت قبل وصولها رجع الواجب إلى ما في ذمته، وهل يلزمه إخراج ما كان في ذمته قبل التعيين أو مثل الذي عين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إلا مثل الذي كان في ذمته؛ لأن المعين قد بطل بالهلاك، فرجع إلى ما في ذمته.
والثاني: يلزمه مثل المعين؛ لأنه أوجب الفضل بتعيينه.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن فرط فيه لزمه مثل الذي عين، وإن لم يفرط ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مثل ما في ذمته.
والثاني: مثل الذي عين.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
وإن نتجت هذه الشاة المعينة فهل يتبعها ولدها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتبعها، ويكون ملكا للمهدي لأن ملك الفقراء لم يستقر فيها لأنه قد يصيبها عيب، فيعود الملك فيها إلى المهدي.(4/428)
والثاني: يتبعها، وهو الصحيح؛ لأنها تعينت بالنذر، فصار كولد التي نذر ذبحها ابتداء، وعدم الاستقرار فيها لا يمنع من استتباع الولد، كالأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع، ثم هلكت.
فإذا قلنا بهذا: فهلكت الأم، أو أصابها عيب وقلنا: تعود إلى ملك المهدي فما حكم الولد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو الأظهر -: أنه يكون ملكا للفقراء، كما نقول في الأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع ثم هلكت.
والثاني: أنه يعود إلى ملك المهدي تبعا لأمه.
[مسألة لا يشترط خروج الهدي إلى عرفة]
] : ليس من شرط الهدي إيقافه بعرفات، وروي: (أن ابن عمر كان لا يرى الهدي إلا ما عرف به، ووقف مع الناس، ولا يدفع به حتى يدفع الناس) .
وقال سعيد بن جبير: البدن والبقر لا يصلح ما لم يعرف.
وقال مالك: (أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه دون ذلك مما يلي مكة فلا بأس بذلك بعد أن يقفه بعرفات) .
وقال في هدي المجامع: (إن لم يكن ساقه، فليشتره بمكة، ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه منه إلى مكة، ولينحره بها) . دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: (إن شئت فعرف، وإن شئت فلا تعرف) ولأنه لا يشترط أن يطاف به، فلم يشترط أن يقف به بعرفة.(4/429)
[مسألة الأيام المعدودات والمعلومات]
] : لا يختلف أهل العلم أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.
وأما الأيام المعلومات: فهي عندنا: العشر الأول من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر.
وقال مالك: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده) . فالحادي عشر والثاني عشر عنده من المعلومات ومن المعدودات.
وقال أبو حنيفة: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، والحادي عشر) .
وقال علي وابن عباس: (المعلومات أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعده) .
وفائدة الخلاف: أنه - عندنا - يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها.(4/430)
وعند مالك: لا يجوز في اليوم الثالث.
دليلنا: أن الله تعالى ذكر الأيام المعلومات والمعدودات وخالف بينهما في التسمية، واختلاف التسمية يقتضي اختلاف المسميات. ولأن أيام التشريق كلها محل للذبح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها أيام أكل وشرب وذبح» ، يعني: أيام التشريق.
ونقول - في اليومين الأولين من أيام التشريق -: لأنه شرع فيهما رمي الجمار الثلاث، فلم تكن من المعلومات كاليوم الثالث، ونقول في الثالث؛ لأنه شرع فيه الرمي، فكان محلا للذبح، كيوم النحر.
فأما قول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] [الحج: 28] .
فلأن المتمتع والقارن لهما الذبح في العشر كلها، ولأنه يجوز سوق الهدي في العشر كلها، وذكر اسم الله تعالى عليها. ولأنه يجوز أن يضاف الشيء إلى جملة، ثم يقع على بعض تلك الجملة، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] [نوح: 15 - 16] .(4/431)
فأضاف القمر إليهن وهو في واحدة منهن، كذلك يجوز أن يضيف الذبح إلى العشر، وهو في العاشر منها لا غيره.
والله أعلم، وبالله التوفيق.(4/432)
[باب الأضحية]
الأصل في ثبوتها قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] .
قيل في التفسير: هو النحر بعد صلاة العيد يوم النحر.
وقيل: هو وضع اليمين على اليسار تحت النحر في الصلاة.
وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» .
فـ: (الأقرن) : ما كان له قرنان.
وأما (الأملح) : فقال الكسائي وأبو زيد: هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أغلب.
وقال ابن الأعرابي: (الأملح) : الأبيض النقي البياض.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: " يا عائشة هلمي المدية " ثم قال: " اشحذيها بحجر " ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، وذبحه وقال: " بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد ومن أمة محمد» .(4/433)
قال أصحاب الحديث: معنى قولها: «يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد» : لكثرة شحمه ولحمه.
وقال أهل اللغة: كانت هذه المواضع منه سودا.
إذا ثبت هذا: فالأضحية سنة مؤكدة وليست بواجبة، وروي ذلك: عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وابن مسعود وابن عباس، وابن عمر وبلال وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود وأحمد وإسحاق.
وقال ربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة: (هي واجبة) .(4/434)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت بالنحر، وهي سنة لكم» وروى ابن عباس أيضا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» .
وقوله: " ولم تكتب عليكم " يشتمل على أنها ما فرضت ولا أوجبت، ولأنها إراقة دم لا تجب على المسافر، فلم تجب على الحاضر، كالعقيقة.
[مسألة وقت الأضحية]
] : ويدخل أول وقت الأضحية، إذا مضى بعد دخول وقت صلاة العيد قدر ركعتين وخطبتين، سواء صلى أو لم يصل، واختلف أصحابنا في قدر الصلاة والخطبتين:
فمنهم من قال: يعتبر أن يذهب قدر صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: (قاف) و (اقتربت) ، وقدر خطبتين كاملتين.
ومنهم من قال: الاعتبار بأن يذهب قدر ركعتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين.
وقال أبو حنيفة: (يدخل وقتها بالفعل، وهو: أن يفعل الإمام الصلاة والخطبة فإن تأخرت صلاة الإمام لم يجز الذبح قبلها، هذا في أهل المصر. فأما أهل(4/435)
السواد: فوقت الذبح في حقهم طلوع الشمس أو الفجر الثاني من يوم النحر؛ لأنه لا عيد على أهل السواد) .
وقال مالك: (يدخل وقتها بصلاة الإمام وخطبته وذبحه، فإن تقدم على هذا لم يصح في أهل الأمصار، وأما أهل السواد: فوقت أهل كل موضع يعتبر بأقرب البلاد إليه) .
وقال عطاء: يدخل وقتها من طلوع الشمس من يوم النحر.
دليلنا: ما روى البراء بن عازب قال: «خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصلاة فقال: " من صلى صلاتنا هذه، ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا، ومن نسك قبل صلاتنا فذلك شاة لحم، فليذبح مكانها» . وأراد: من صلى مثل صلاتنا؛ لأن أحدا لا يصلي صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يصلي مثلها، ولأن كل ما كان وقتا للذبح في أهل المصر كان وقتا للذبح في حق أهل السواد، كما بعد الصلاة. وعكسها دلالة عليهم في أهل السواد، وهو: أن كل ما لم يكن وقتا لذبح أهل الأمصار لم يكن وقتا لأهل السواد، كما قبل طلوع الفجر.
ويبقى وقت الذبح إلى أن يذهب أيام التشريق، وقد مضى خلاف مالك فيها.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أيام التشريق ذبح» .(4/436)
فإن ذهبت أيام التشريق ولم يذبح، فإن كانت الأضحية تطوعا لم تقع موقعها وتكون شاة لحم، وإن كانت نذرا لزمه أن يضحي، وكانت قضاء لا أداء، وقد مضى ذكرها.
[فرع يكره الذبح ليلا]
] : وإن ذبح ليلا كره أضحية كانت أو غير أضحية؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الذبح ليلا» . ولأن الأضحية يتعذر تفريقها ليلا. فإن ذبحها ليلا أجزأه.
وقال مالك: (لا يجزئه، بل تكون شاة لحم) .
دليلنا: أن الليل زمان يصح فيه الرمي، فصح فيه ذبح الأضحية، كالنهار.
[مسألة كراهة حلق شعر المضحي وتقليم أظفاره]
] : ومن دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي كره له أن يحلق شعره أو يقلم ظفره حتى يضحي.(4/437)
وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يكره) .
دليلنا: ما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس شيئا من شعره، ولا من بشره» . فإن فعل ذلك لم يحرم.
وقال أحمد وإسحاق: (يحرم) .
دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقلدها هو بيده، ثم يبعث بها مع ابن الزبير، ولا يحرم عليه شيئا أحله الله له حتى ينحر الهدي» . فأخبرت: أنه لم يحرم عليه شيء أحله الله تعالى له حتى نحر الهدي. والأضحية كانت واجبة عليه، فإذا دخلت العشر فلا بد أن يريد أن يضحي. ولأنه لا يحرم عليه الطيب واللباس، فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر، كما قبل العشر، وأما الخبر: فحمله على الاستحباب.(4/438)
[مسألة جواز الأضحية في كل مكان]
] : قال الشافعي: (وإذا ضحى الرجل في بيته وقع الموقع) .
وهذا كما قال: تجوز الأضحية في الحل والحرم، بخلاف الهدي، فإنه لا يجوز إلا في الحرم: لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بالمدينة) ، وهو إجماع المسلمين لم يزل الناس يضحون في منازلهم وحيث كانوا من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وقتنا هذا، من غير أن ينكره منكر، أو يرده راد. وليس كذلك الهدي: لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث بهداياه إلى مكة) ولأن القصد بالهدي سد خلة مساكين الحرم، والقصد بالأضحية سد خلة المساكين حيث كانوا.
[مسألة ما يجزئ في الأضحية وسنه]
] : ولا يجوز في الأضحية إلا الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
فإن ضحى بغيرها من الحيوان المأكول لم يقع موقع الأضحية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] [الحج: 28] .
قال أهل التفسير: و (الأنعام) : هي الإبل، والبقر، والغنم.
وأما سن ما يضحى به منها: فلا يجزئ إلا الثني من الإبل، والبقر، والمعز والجذع من الضأن.
فـ (الثني من الإبل) ما استكمل خمس سنين، و (الثني من البقر والمعز) ما استكمل سنتين، و (الجذع من الضأن) ما استكمل سنة. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وذكر ابن الصباغ: أنها تجذع لثمانية أشهر، إذا كان بين هرمين، ولستة أشهر أو سبعة، إذا كان بين شابين.(4/439)
وقال ابن عمر والزهري: (لا يجزئ إلا الثني من الكل) مخالفا في الجذع من الضأن.
وقال عطاء والأوزاعي: (يجزئ الجذع من جميع الأجناس) .
دليلنا - على ابن عمر والزهري -: ما «روى زيد بن خالد قال: قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أصحابه ضحايا، فأعطاني عتودا جذعا، فرجعت به إليه، فقلت له: يا رسول الله إنه جذع، فقال: " ضح به " فضحيت به» .
وروى عقبة بن عامر قال: «كنا نضحي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجذع من الضأن» .
«وروى ابن عباس قال: جلبت غنما جذعانا إلى المدينة فكسدت علي، فلقيت أبا هريرة فسألته، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " نعم الأضحية الجذع من الضأن "، قال: فانتهبها الناس» .(4/440)
وأما الدليل - على الأوزاعي وعطاء -: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» وروي عن البراء بن عازب قال: «ضحى أبو بردة بن نيار قبل الصلاة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاتك شاة لحم " قال: فإن عندي جذعة من المعز، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضح بها، فإنها تجزيك، ولا تجزي أحدا بعدك» هكذا روي بفتح التاء، وهو مأخوذ من قولهم جزى عني الأمر يجزي، ولا همزة فيه، ومعناه: " لا تقضي عن أحد بعدك ".
قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123] [البقرة: 123] .
ويجوز الذكر والأنثى، وقد مضى ذلك في الهدي.
[مسألة الأفضل من النعم وما يستحب في صفتها]
] : والثني من الإبل أفضل من الثني من البقر، والثني من البقر أفضل من الجذع من الضأن ومن الثني من المعز، والجذع من الضأن أفضل من الثني من المعز، والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.(4/441)
وقال مالك: (الجذع من الضأن أفضل من الثني من الإبل والبقر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفضل الذبح الجذع من الضأن " ولو علم الله خيرا منها لفدى به إسماعيل»
دليلنا: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الجمعة: «من راح من الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» ، فجعل البدنة أفضل مما عداها، وجعل البقرة أفضل من الكبش، فدل على ما قلناه.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الذبح الجذع من الضأن» فأراد من الغنم.
كما روي عن أم سلمة: أنها قالت: (لأن أضحي بالجذع من الضان أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز) .
وأما لون الأضحية: فالمستحب أن يكون أبيض، فإن لم يكن فالأعفر. وهو: الأغبر - فإن لم يكن فالأبلق - وهو: الذي بعضه بياض وبعضه سواد - فإن لم يكن فالأسود؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين» .
وقد قال ثعلب: (الأملح) : هو الأبيض الشديد البياض.
وقال ابن عباس: (البيض أحسن) . ولان الأبيض أطيب لحما.(4/442)
ويستحب أن يكون ما يضحى به سمينا؛ لما روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] [الحج: 32] : قال: (تعظيمها استسمانها واستحسانها) . ولأن القصد بالأضحية سد الجوعة، فكلما كان سمينا كان أطيب لحما وأكثر.
قال الشافعي في " المبسوط ": (وكل ما غلى من الرقاب كان أحب إلي مما رخص؛ لأنه أنفس) .
[مسألة عيوب الأضحية]
] : والعيوب في الأضحية ضربان: ضرب: يمنع الإجزاء، وضرب: يكره ولا يمنع الإجزاء
فأما (العيوب التي تمنع الإجزاء) : فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها على أربعة، وقيس عليها ما كان في معناها، وذلك أن البراء بن عازب روى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام خطيبا وقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها - وروي: البين ظلعها -، والكسير التي لا ينقى "، وروي: " العجفاء التي لا تنقي» .(4/443)
فنص على العوراء؛ لأن عينها قد ذهبت، وهي عضو مستطاب، وقد قيل: إنها إذا كانت عوراء لا تستوفي المرعى؛ لأنها لا تشاهد المرعى من ناحية عينها العوراء. وإذا لم تجز العوراء فالعمياء أولى أن لا تجوز. ونص على المريضة، قال أصحابنا: وأراد الجرباء؛ لأنه يفسد لحمها، سواء قل أو كثر، والنفس تعاف أكله.
ونص على العرجاء، وهي: التي إحدى رجليها ناقصة عن الأخرى، فإن كان عرجا بينا، وهو الذي يمنعها السير مع الغنم والمشاركة في طيب العلف، فتهزل لذلك فلا تجزئ للخبر، وإن كان عرجا يسيرا لا يمنعها ذلك أجزأت.
ونص على العجفاء، وهي: المهزولة الشديدة الهزال، والكسير كذلك؛ لأن المقصود بالأضحية اللحم، ولا لحم بها، وإنما هي عظام مجتمعة، وقوله: " لا تنقي " يعني: لا نقي فيها، وهو المخ، يقال: بالخاء والحاء، قال الشاعر:
لا يشتكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين
وروى عقبة بن عتبة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المصفرة، والمستأصلة والبخقاء، والمشيعة، والكسراء» .
فأما (المصفرة) : فهي التي قطعت أذنها حتى يرى صماخها، فلا تجزئ للخبر ولأن الأذن عضو مستطاب.
وأما (المستأصلة) : فهي التي كسر قرنها وعضب من أصله، فتكره للخبر، وتجزئ؛ لأنه لا يقدح في لحمها.
وأما (البخقاء) : فهي العوراء، وقد مضى ذكرها.(4/444)
وأما (المشيعة) : فهي التي تتأخر عن الغنم، فإن كان ذلك لهزال أو علة لم تجز؛ لأنها عجفاء، وإن كان ذلك عادة وكسلا أجزأه.
وفي التي قطع ضرعها أو أليتها وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يجوز، كالتي قطعت أذنها.
والثاني: يجوز؛ لأن الذكر من المعز لا ألية له ولا ضرع.
وأما (العيوب التي لا تمنع الإجزاء وتكره) : فهي أن يضحي بـ (الجلحاء) : وهي التي لم يخلق لها قرن.
وبـ (العصماء) : وهي التي انكسر ظاهر قرنها - وهو غلافه - وبقي باطنه، وهو المشاش الأحمر.
وبـ (العضباء) : وهي التي انكسر ظاهر القرن وباطنه، فهؤلاء تكره الأضحية بهن وتجزئ.
وقال النخعي: لا تجزئ الجلحاء.
وقال مالك: (ينظر في العضباء: فإن دمي القرن لم تجزه، وإن لم يدم جاز)
دليلنا: حديث البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع لا تجوز في الأضاحي» فدل على: أن ما عداها مما ليس بمعناها يجوز. ولأن عدم القرن لا يؤثر في اللحم، فلم يمنع الإجزاء، كما لو كانت مجزوزة الصوف.
ومن العيوب التي لا تمنع الإجزاء وتكره: ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء» .(4/445)
فقوله: (نستشرف العين والأذن) أي: نشرف عليهما ونتأملهما.
فأما (العوراء) : فقد مضى ذكرها.
وأما (المقابلة) : فهي التي قطع من مقدم أذنها شيء وبقي معلقا بها، كالزنمة.
وأما (المدابرة) : فهي ما قطع من مؤخر أذنها كذلك.
وأما (الخرقاء) : فهي التي تكون أذنها مثقوبة من الكي.
وأما (الشرقاء) : فهي المشقوقة الأذن باثنتين، هكذا حكاه أبو عبيد عن الأصمعي، ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره وذكر في " المهذب ": أن (الشرقاء) هي: التي تثقب من الكي أذنها، و (الخرقاء) : هي التي تشق أذنها بالطول عكس ما ذكروه.
والبغداديون من أصحابنا قالوا: إن هذه العيوب في الأذن لا تمنع الإجزاء وتكره؛ لأنه لا يؤثر في لحمها ولا ينقصه.
وذكر المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجزئه؟ فيه وجهان. وإن أبين من أذنها شيء لم تجز وجها واحدا. قال: وكذلك الوجهان في الموسومة التي لم يبن من بدنها شيء.(4/446)
[فرع نذر الضحية بمعيب]
] : فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الإجزاء وجب عليه ذبحه كما لو نذر أن يتصدق بلحمه، ولا يجزئه عن الأضحية للعيب الذي فيه، كما لو أعتق عبدا معيبا عن الكفارة فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. فإن زال العيب عنه قبل أن يضحي به ثم ضحى به سليما لم يجزه عن الأضحية؛ لأن ملكه قد زال عنه بالنذر، وهو في تلك الحال مما لا يجزئ عن الأضحية، فلم يجزه بما يحدث بعده، كما لو أعتق عبدا معيبا عن الكفارة ثم زال العيب فإنه لا يجزئه عن الكفارة.
[مسألة استحباب ذبحه أضحيته وحكم النية والاستنابة]
مسألة: [استحباب ذبحه أضحيته وحكم النية واستنابة غيره] : يستحب للرجل أن يتولى ذبح هديه وأضحيته؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أقرنين أملحين، فوضع رجله على صفاحهما، وسمى وكبر وذبحهما» .
وروى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يذبح أضحيته بالمصلى» . قال نافع: (وكان ابن عمر يفعل ذلك)
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر نساءه أن يلين ذبح هديهن» .(4/447)
قال الطبري: وينوي في الأضحية المعينة: أنها تذبح عن أضحيته، وهل تحتاج إلى النية عند الذبح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا بد من النية عند الذبح. قال: وهو الأصح؛ لأن تلك النية للتعيين لا للذبح.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره -: أنه لا يفتقر إلى النية عند الذبح، بل لو أوجب أضحية، فذبحها يعتقدها شاة لحم، أو ذبحها لص وقعت موقعها.
قال الطبري: وإن كانت الأضحية غير معينة نوى عند ذبحها.
وإن استناب في ذبح هديه أو أضحيته غيره جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة فنحر منها ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا فنحر منها ما غبر» أي: ما بقي.
والمستحب: أن لا يستنيب في الذبح إلا مسلما؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يذبح هداياكم إلا طاهر» فإن استناب ذميا صح.
وقال مالك: (لا تكون أضحية ويحل أكلها) .
دليلنا: أن الذمي من أهل الذكاة، فأشبه المسلم. قال الطبري في " العدة ": فعلى هذا: ينوي حين يدفع إلى وكيله، أو حين يذبح الوكيل. فإن فوَّض إلى الوكيل لينوي، فإن كان مسلما صح، وإن كان كافرا لم يجزه تفويض النية إليه، بل ينوي عند الدفع إليه، أو عند ذبحه.
والمستحب إذا استناب غيره في الذكاة: أن يشهد الذبح؛ لما روى أبو سعيد(4/448)
الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه بأول قطرة تقطر من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك» .
[فرع الضحية عن الغير بغير إذنه]
] : قال الطبري في " العدة ": إذا ضحى عن غيره بغير إذنه لم يجز، وكذلك لو ضحى عن ميت ولم يوص بها لم يجز، وهل يجزئ عن المباشر؟ ينظر فيه: فإن كانت الشاة عينها للأضحية أجزأت عنه؛ لأنه كان عليه ذبحها عن نفسه.
وإن كانت غير معينة لم تجزه؛ لأنه لم ينوها. وإن اشترك اثنان في شاة لم تجز؛ لأن أقل ما يجزي عن كل واحد منهما شاة، ولكن لو أشركه في ثواب أضحيته وذبحها عن نفسه جاز، ثم قال: وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا عن محمد وأمة محمد» .
وإن اشترك اثنان في شاتين مشاعتين أضحية عنهما بينهما فوجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":(4/449)
أحدهما: لا يجزئ؛ لأنه يقع عن كل واحد نصف كل واحدة منهما، فلم يوجد في حقه ذبح شاة كاملة.
والثاني: يصح؛ لأن حصة كل واحد منهما شاة.
[فرع التوجه حال الذبح إلى القبلة]
] . والمستحب: أن يوجه الذبيحة إلى القبلة أضحية كانت أو غيرها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين، فوجههما إلى القبلة، وقرأ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79] » الآية [الأنعام: 79] ) .
وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ضحوا وطيبوا بها أنفسكم، فإنه ليس من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة» . ولأنه إذا لم يكن بد من جهة فجهة القبلة أولى.
قال الطبري: وفي كيفية استقبال القبلة بها وجهان:
أحدهما: يكون ظهرها إلى دبر القبلة حتى يكون وجهها إلى القبلة.
والثاني - وهو الأصح -: أن يكون مذبحها إلى القبلة.(4/450)
[فرع استحباب التسمية عند الذبح]
] : ويستحب أن يسمي الله تعالى عند الذبح؛ لما روى أنس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى وكبر) . فإن ترك التسمية لم يؤثر، وحل أكلها، سواء تركها عامدا أو ناسيا، وبه قال في الصحابة ابن عباس وأبو هريرة، وإليه ذهب عطاء ومالك.
وذهب الشعبي وداود وأبو ثور إلى: أن التسمية شرط في الإباحة فمن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (هي شرط في الإباحة مع الذكر، وليست بشرط مع النسيان) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى أن قال: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولم يفرق بين أن يسمى أو لا يسمى.
وروت عائشة: «أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما من الأعراب حديثو عهد بالجاهلية يأتونا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، أفنأكل منها؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذكروا اسم الله عليه وكلوا» . ولأن كل ذكر لم يكن شرطا مع(4/451)
النسيان لم يكن شرطا مع الذكر، كالتكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وعكسه تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة.
[فرع استحباب الصلاة على النبي والدعاء عند الذبح]
] . ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع التسمية عند الذبح، وأن يقول: اللهم تقبل مني.
وقال أبو حنيفة ومالك: (يكره أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الذبح، ولا يكره أن يقول: اللهم تقبل مني) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الشرح: 4]
قيل في التفسير: (لا أذكر إلا وتذكر معي) .
وروى عبد الرحمن بن عوف قال: «سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوقفت أنتظره، فأطال، ثم رفع رأسه، فقال عبد الرحمن: لقد خشيت أن يكون الله قد قبض روحك في سجودك، فقال: " يا عبد الرحمن، لقيني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني عن الله أنه قال: من صلى عليك مرة صليت بها عليه عشرا، فسجدت لله شكرا» فثبت: أن الصلاة عليه مستحبة بكل حال.(4/452)
وروت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذبح أضحيته قال: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد» وفي رواية جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما وجه أضحيته إلى القبلة: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] » [الأنعام: 79] .
وقرأ الآيتين، وقال: «اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر» ثم ذبح. ولأنه لا خلاف أن رجلا لو مر بمن يذبح، فقال: اللهم تقبل من فلان لم يكره، فأن لا يكره منه هذا أولى.
[مسألة شراء الأضحية لا يوجبها وما تتعين به وحكم إبدالها]
مسألة: [شراء الأضحية لا يوجبها وبماذا تتعين وما حكم إبدالها؟] :
إذا اشترى شاة بنية أنها أضحية ملكها بالشراء، ولم تصر أضحية.
وقال مالك وأبو حنيفة: (تصير أضحية بذلك) .
دليلنا: أن عقد البيع يوجب الملك، وجعلها أضحية يزيل الملك، والشيء الواحد لا يوجب الملك وزواله في وقت واحد معا، كما لو اشترى شيئا بنية وقفه أو اشترى عبدا بنية عتقه.
إذا ثبت هذا: فأراد أن يجعلها أضحية فهل يفتقر إلى القول؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (لا تصير أضحية إلا بالقول) وهو أن يقول: هذه أضحية، أو جعلتها أضحية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فافتقر إلى القول، كالوقف والعتق.
و [الثاني] : قال في القديم: (إذا نوى أنها أضحية صارت أضحية) ؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلد بدنه وأشعرها) . ولم ينقل أنه قال: إنها هدي.
والأول أصح؛ لأنه يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متطوعا بها، ولم ينذرها، فلذلك لم ينطق، أو يجوز أن يكون قد أوجبها لفظا، ولم ينقله الراوي، أو لم يسمعه أحد.
فإذا قلنا بقوله الجديد فلا كلام.
وإن قلنا بالقديم: وأنها تصير أضحية أو هديا بالنية ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تصير هديا أو أضحية بالنية لا غير، كالصوم.(4/453)
والثاني: لا تصير حتى يضاف إلى النية التقليد أو الإشعار - وهو المنصوص في القديم - ليوجد منه الأمران: الظاهر والباطن.
والثالث: أنها لا تصير هديا أو أضحية إلا بالنية والذبح.
إذا تقرر هذا: وتعينت الأضحية زال ملكه عنها، ولم يجز له إبدالها بغيرها.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (له إبدالها بغيرها) وقد مضى ذكره في (الهدي) .
فإن باعها فالبيع باطل. فإن قبضها المشتري وتلفت في يده وجب على البائع الضمان، فإن ضمنها البائع ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي مثلها، وله أن يرجع على المشتري بقدر قيمتها لا غير. وإن ذبحها المشتري قبل وقت الذبح لزمه ما نقص من قيمتها للبائع، ويكون على البائع إكمال ما يشتري به مثلها؛ لأنه كان السبب لها في يد المشتري. وإن ذبحها وقت الذبح أجزأت عن البائع؛ لأنها مستحقة للذبح، وهل يضمن المشتري ما نقص من قيمتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: يضمن؛ لأنه لم يملكها.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه بالبيع صار كأنه سلطه على ذبحها.
وهما بناء على القولين في السيد إذا باع نجوم المكاتب، وقلنا: لا يصح وقبضها المشتري هل يعتق؟ فيه قولان.
[مسألة حكم الأكل من الأضحية والهدي]
] : وإذا ذبح الهدي أو الأضحية، فإن كان متطوعا بهما فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه يستحب له الأكل منها.
وأشار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : إلى أن الأكل جائز منها غير مستحب.
والأول أصح: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] [الحج: 28] فأمر بالأكل منها، وأقل أحوال الأمر الاستحباب، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة، فنحر منها ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر منها، وأشركه في هديه، ثم أمره فاقتطع من(4/454)
كل واحدة منها قطعة، ثم أمر به فطبخ في قدر، فأكل من لحمها، وتحسى من مرقها» ، ولا يجب عليه الأكل منها.
وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يجب عليه الأكل منها لظاهر الأمر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] [الحج: 36] فجعلها لنا وما هو للإنسان هو مخير: بين أكله، وبين تركه. ولأنه إراقة دم على وجه القربة، فلم يجب الأكل منها كالعقيقة، والآية نحملها على الاستحباب، وفي القدر الذي يستحب له أكله منها قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يأكل النصف، ويتصدق بالنصف) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] [الحج: 28] . فجعلها بين اثنين.
و [الثاني] : قال في الجديد: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] [الحج: 36] فجعلها بين ثلاثة.
فقال مجاهد: (القانع) : هو الجالس في بيته الذي يرضى ويقنع بالقليل، و (المعتر) : هو الذي يسأل.
وقال الحسن: (القانع) : هو الذي يسأل، و (المعتر) : هو الذي يعرض بالسؤال، يقال: قنع - بكسر النون - يقنع - بفتحها - قناعة، فهو قنع إذا رضي بقسمه، وقنع - بفتح النون - يقنع - بكسرها - قنوعا، فهو قانع: إذا سأل.
قال الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع(4/455)
أي من السؤال.
وقال آخر:.
. ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
أي: جاء سائلا. وأما القدر الذي يجوز له الأكل منها ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس ابن سريج، وابن القاص: يجوز أن يأكل جميعها، واحتجا بقول الشافعي في القديم: (فإن أكل الجميع لم يغرم) .
ولأنها ذبيحة يجوز له أكل بعضها، فجاز له أكل جميعها، كذبيحة أهله، وعكسه الهدي في الإحرام.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز له أكل جميعها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] [الحج: 28] فمنها دليلان:
أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] و (من) : للتبعيض.
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] فأمر بالإطعام منها، والأمر يقتضي الوجوب.
ولأن القصد منها إيصال النفع إلى المساكين، وإنما يحصل ذلك لهم بإيصال شيء من اللحم إليهم، فأما بإراقة الدم فقط فلا يحصل فيه إلا تلويث المكان لا غير.
فعند أبوي العباس: القربة تحصل بإراقة الدم لا غير. وعند سائر أصحابنا: لا تحصل القربة إلا بإراقة الدم وتفرقة شيء من اللحم.(4/456)
فإن خالف فأكل الجميع لم يضمن شيئا على قول أبوي العباس، ويضمن على قول غيرهما، وفي القدر الذي يضمنه وجهان:
أحدهما: القدر المستحب، وهو النصف على قوله القديم، والثلثان على قوله الجديد.
والثاني: يضمن أقل جزء.
وهذان الوجهان بناء على القولين فيمن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين فإنه يضمن نصيب الثالث، وفي قدره قولان:
أحدهما: الثلث.
والثاني: أقل جزء يقع عليه الاسم.
فإذا قلنا: إنه يضمن، فبماذا يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المنصوص -: أنه يضمنه بالقيمة؛ لأن اللحم لا مثل له، وما لا مثل له يضمن بالقيمة، كسائر المتلفات.
والثاني: يضمنه بمثله من اللحم؛ لأنه أقرب.
والثالث: أنه يشارك بقدر قيمة ذلك بجزء من حيوان، والأول أصح.
وإن كان ما يذبحه واجبا عليه نظرت: فإن كان متعلقا بالإحرام لم يجز أن يأكل منه.
وقال مالك: (يجوز أن يأكل من الجميع، إلا ما كان إتلافا: كدم الحلق، وتقليم الأظفار، وجزاء الصيد) .(4/457)
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يأكل من دم التمتع والقران، لأنه دم نسك لا جبران دون غيرهما) .
دليلنا: أنه دم واجب بالشرع، فلم يجز أن يأكل منه، قياسا على دم الإتلاف مع مالك، ومع أبي حنيفة على غير دم التمتع والقران.
وإن كان ما ذبحه عليه واجبا بالذر نظرت: فإن كان قد وجب عليه في ذمته دم في الحج، ثم عينه بالنذر في هدي وجب عليه ذبحه، ولم يجز له أن يأكل منه شيئا، لأنه بدل عما لا يجوز الأكل منه. وإن لم يكن معينا عما في ذمته من دم النسك نظرت:
فإن كان نذر مجازاة، بأن قال: إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي فعلي لله أن أهدي أو أضحي شاة لم يجز له أن يأكل منها؛ لأنه لزمه على وجه المجازاة، فهو كجزاء الصيد. وإن كان بغير مجازاة، بأن يقول ابتداء: علي لله أن أهدي أو أضحي شاة، وقلنا: يلزمه، على المذهب، فهل يجوز له أن يأكل منها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجوز؛ لأنه دم واجب، فلم يجر أن يأكل منه، كدم الطيب واللباس.
والثاني: يجوز؛ لأنه وجب بفعله، فأشبه الهدي والأضحية المتطوع بهما؛ لأنهما وجبا بفعله.
والثالث: حكاه في " المهذب " أنه يجوز له الأكل من الأضحية دون الهدي؛ لأن الأضحية المطلقة في الشرع، وهي المتطوع بها يجوز الأكل منها،(4/458)
وأكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الأكل منها فحمل مطلق النذر على ذلك.
فإذا قلنا: لا يجوز له الأكل، فخالف وأكل ضمنه، وفيما يضمنه ثلاثة أوجه مضى ذكرها.
[مسألة منع بيع شيء من الأضحية والهدي وحكم الانتفاع بها]
] : ولا يجوز بيع شيء من الأضحية والهدي لحما أو جلدا، نذرا كان ذلك أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح.
وقال عطاء: لا بأس ببيع أهب الأضاحي.
وقال الأوزاعي: يجوز بيع جلودها بآلة البيت التي تعار كالقدر والفأس والمنجل والميزان.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الأضحية وشراؤها، وإذا ذبحها جاز بيع ما شاء منها، ويتصدق بثمنه، فإن باع جلدها بآلة البيت جاز له الانتفاع بذلك) .
دليلنا: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه فأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئا، وقال: " نحن(4/459)
نعطيه من عندنا» فأمره بقسمة الجلود، والأمر على الوجوب، وإنما أمره أن لا يعطي الجازر منها؛ لأن أجرة الجازر على المهدي. ولأنه أزال ملكه عنها على وجه القربة، فلم يجز بيعها كالوقف.
إذا ثبت هذا: فكل أضحية استحب له الأكل منها فإنه يجوز أن يدخر من لحمها، وينتفع بجلدها، ويتخذ منه الحذاء والسقاء والدلو وغير ذلك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دفت دافة من أهل البادية: " ادخروا لثلاث، وتصدقوا بما بقي " فلما كان بعد ذلك قيل: يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وما ذاك؟ " قالوا: نهيت عن ادخار لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: " إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفت عليكم، فكلوا وتصدقوا وادخروا» . ولأنه إذا جاز له أكل أكثر لحمها جاز له الانتفاع بجلدها.
[مسألة جواز اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة]
] : يجوز أن يشترك سبعة في بدنة أو بقرة في الهدي والأضحية، وسواء كانوا متطوعين أو مفترضين، أو: بعضهم متطوعا وبعضهم مفترضا، وسواء كانوا أهل بيت أو أهل بيوت، وهكذا لو كان بعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة، فالكل جائز.(4/460)
وقال مالك: (لا يجوز اشتراكهم في الهدي الواجب، ويجوز في التطوع) وهكذا قال: (لا يجوز اشتراكهم في الأضحية الواجبة، ويجوز في المتطوع بها إن كانوا آل بيت واحد، وإن كانوا أهل بيوت شتى لم يجز) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانوا كلهم متقربين جاز، وإن كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم لم يجز) .
دليلنا - على مالك -: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر عمن اعتمر من نسائه بقرة» . وروي عن عائشة: أنها قالت «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بدنة ونحن معتمرات» يعني: متمتعات.
وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» .
ولأن ما جاز عن أهل بيت واحد جاز عن أهل بيوت، كالسبع من الغنم.
دليلنا - على أبي حنيفة -: أن كل ما جاز اشتراك السبعة فيه إذا كانوا متقربين جاز اشتراكهم فيه وإن كان بعضهم غير متقرب، كالسبع من الغنم. ولأن الاعتبار بنية كل(4/461)
واحد منهم، ولا يضرهم اختلاف نياتهم، كما إذا كان بعضهم متمتعا، وبعضهم قارنا فإنه يجوز.
إذا ثبت هذا: فإذا كانوا كلهم متقربين فنحروا هديهم أو أضحيتهم سلموها إلى المساكين مشاعة بينهم، ويبرؤون بذلك. وإن كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم، فإذا ذبحوها سلم المتقرب نصيبه منها مشاعا إلى المساكين ويبرأ بذلك، ويصيرون شركاء لأهل اللحم، فإن باع أهل اللحم نصيبهم من المساكين أو باع المساكين نصيبهم من أهل اللحم مشاعا جاز.
وإن أرادوا القسمة، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين جاز أن يقتسموا اللحم وزنا، وإن قلنا: إن القسمة بيع فهل يجوز قسمته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس بن القاص: يجوز للضرورة؛ لأنه لا يمكن بيعه.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه بيع لحم بلحم رطب، فلم يجز. ولأنه قد يمكن بيعه على ما ذكرناه.
فعلى هذا: إن أرادوا التخلص من الربا قسم اللحم سبعة أجزاء إذا كان لسبعة، فيأخذ كل واحد منهم جزءا، فيشتري كل واحد من كل واحد من أصحابه سبع ذلك الجزء بدرهم، ويبيع إلى كل واحد منهم سبع الجزء الذي معه بدرهم، ثم يتقاصون فيما بينهم.
والله أعلم، وبالله التوفيق(4/462)
[باب العقيقة]
أصل العقيقة في اللغة: هو الشعر الذي يخلق على المولود، وجمعه: أعقة وعقائق. قال امرؤ القيس:
أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا
و (البوهة) : الأحمق، يريد أنه من حمقه أنه لم يحلق شعره الذي ولد وهو عليه. و (الأحسب) : الشعر الأحمر الذي يضرب إلى البياض.
ثم سمت العرب ما يذبح عن الصبي يوم السابع عند حلق ذلك الشعر عقيقة؛ لأنهم يسمون الشيء باسم سببه، أو ما جاوره، كما سموا المرأة ظعينة، وإنما الظعينة هي الناقة التي تحمل عليها المرأة.
إذا ثبت هذا: فالعقيقة سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (ليست بسنة) .
وقال الحسن البصري وداود: (هي واجبة) .
دليلنا: ما روت أم كرز قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان(4/463)
مكافئتان، وعن الجارية شاة» و «لا يضركم ذكرانا كن أم إناثا» .
قال أبو داود: وروي: " شاتان مثلان " قال: وهو أصح، و " مكافئتان "، عبارة عن قوله: (مثلان) .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة» . وأدنى حالة الأمر الندب إذا دل الدليل: أنه ليس بواجب.
ولأن الإطعام على النكاح سنة، والولد مقصود به، والفرح به أشد، فكان أولى باستحباب الإطعام له.
والدليل - على أنها ليست بواجبة -: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة فليفعل» فعلقه على المحبة، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه إطعام(4/464)
لحادث سرور، فلم يكن واجبا بالشرع، كالوليمة.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لو كان واجبا لوجب تفرقة لحمها على ذوي الحاجات، كالهدي والكفارات، فلما لم يجب ذلك دل على: أنها لا تجب كشاة اللحم.
[مسألة للغلام شاتان وللجارية شاة]
والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة.
وقال مالك: (عن كل واحد شاة، رجلا كان أو جارية؟ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عق عن الحسن والحسين شاة شاة» .
دليلنا: ما رويناه عن أم كرز وعائشة وعمرو بن شعيب، وما رووه نحمله على الجواز.
[فرع ما يجزئ في العقيقة وما يستحب عند ذبحها]
وما يطبخ] : ولا يجزئ إلا الجذعة من الضأن أو الثنية من الإبل والبقر والمعز، سليمة من العيوب؛ لأنها إراقة دم بالشرع، فاعتبر فيه ما ذكرناه، كالأضحية.
والمستحب: أن يقول عند الذبح: باسم الله، اللهم منك وإليك، عقيقة فلان لما روت عائشة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك) .(4/465)
والمستحب: أن تفصل أعضاؤها، ولا تكسر من غير ضرورة؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جدولا، ولا يكسر عظم، ويأكل، ويطعم، ويتصدق منها، وذلك يوم السابع» . ولأن ذلك أول ذبيحة، فاستحب أن لا يكسر تفاؤلا بسلامة أعضائه.
ويستحب أن يطبخ منها طبيخ حلو تفاؤلا بحلاوة أخلاقه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وقيل: يطبخ بالحموضة منه، وقيل: لا يطبخ بالحموضة.
[مسألة استحباب الأكل من العقيقة ويبعث بمرقها إلى الفقراء]
] : قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يأكل من لحمها ويهدي ويتصدق؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وقال القفال: لا يتخذ عليها دعوة، بل يطبخ، ويبعث بمرقها إلى الفقراء.
[مسألة استحباب العقيقة يوم السابع وما يصنع برأس المولود]
] : والسنة أن يكون ذلك يوم السابع؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط الأذى عن رؤوسهما» . فإن قدمه(4/466)
على ذلك أو أخره جاز لأنه وجد بعد سببه.
ويستحب أن يحلق رأسه يوم السابع؛ لحديث عائشة، ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر؛ لما روي: عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القزع في الرأس» .
ويستحب أن يتصدق بزنة شعره ذهبا أو ورقا؛ لما روي «عن فاطمة: أنها قالت: يا رسول الله أعق عن الحسن؟ فقال: " احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة» .
ويستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران، ويكره أن يلطخ رأسه بدم العقيقة.
وقال الحسن: يطلى رأسه بدم العقيقة.
وقال قتادة: يؤخذ منها صوفة فيستقبل بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ المولود حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ذلك ويحلق.(4/467)
دليلنا: ما روى يزيد بن عبد المزني، عن أبيه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم» .
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونها على رأس المولود، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وأمرهم: أن يجعلوا مكانه خلوقا» .
قال الشافعي: (ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أميطوا عنه الأذى» والشعر والدم هو الأذى، فكيف ينهى عن الأذى ويأمر به؟) .
[مسألة استحباب تحنيك المولود والأذان والتسمية وتهنئة الوالد]
] : ويستحب أن يحنك المولود بشيء حلو؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر» .(4/468)
ويستحب أن يهنأ الوالد بالولد.
وروي: أن رجلا جاء إلى الحسن وعنده رجل قد رزق مولودا، فقال له: نهنئك الفارس، فقال له الحسن: وما يدريك أفارس هو أم حمار؟ فقال: كيف نقول؟ قال: (قل: بارك الله لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره) .
ويستحب أن يؤذن في أذن المولود؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، كالأذان في الصلاة» .
وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة، ثم أذن في أذنه اليمين، وأقام في أذنه اليسار، وسماه.
قال الطبري: ويستحب أن يقرأ في أذنه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] [آل عمران: 36] .(4/469)
ويستحب أن يسمي بـ: عبد الله، وعبد الرحمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» فإن سماه باسم قبيح غير ذلك الاسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير اسم عاصية، وقال: " أنت جميلة» .
وبالله التوفيق.(4/470)
[باب النذر]
الأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] .
فمدحهم على الوفاء بالنذر.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه»
إذا ثبت هذا: فإنه لا يصح النذر إلا من مسلم بالغ عاقل، فإن نذر الكافر لم يصح نذره، ولم يلزمه الوفاء به إذا أسلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوف بنذرك» .(4/471)
والأول أصح؛ لأنه معنى وضع لإيجاب القربة، فلم يصح من الكافر، كالإحرام بالحج. وأما الخبر: فنحمله على الاستحباب.
ولا يصح النذر من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه إيجاب حق بالقول، فلم يصح من الصبي والمجنون كالضمان. وفيه احتراز من إيجاب الزكاة في ماله، وأرش جنايته، ونفقة أقاربه في ماله.
[مسألة لا صحة للنذر إلا بالقول]
] : ولا يصح النذر إلا بالقول، وهو أن يقول: علي لله كذا، أو علي كذا وإن لم يقل لله؛ لأن القربة لا تكون إلا لله. وهذا في غير الهدي والأضحية، وهل يفتقر النذر في الهدي والأضحية إلى القول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في الأضحية.
[مسألة لزوم النذر]
] : ويلزم بالنذر جميع الطاعات؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» فإن نذر أن يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل من لا يجب قتله لم يجب نذره؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وإن نذر أن يذبح ولده أو أباه أو نفسه لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء وبه قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (إذا نذر أن يذبح عبده أو والده لم يصح، ولم يلزمه شيء، وإن نذر أن يذبح ولده أو نفسه لزمه شاة) .(4/472)
وعن أحمد روايتان:
أحدهما: (يلزمه ذبح كبش) .
والثانية: (تلزمه كفارة يمين) ، وهذه الرواية مذهب سعيد بن جبير، وتعلقوا بما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من نذر ذبح ولده فعليه شاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» وهذا أولى من قول ابن عباس.
[فرع في نذر صوم يوم محرم أو فعل مباح]
] : وإن نذر أن يصوم يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد نذره، ويلزمه أن يصوم في غير هذه الأيام، فإن صام فيها أجزأه) .
دليلنا: أنه نذر صوم وقت لا يصح فيه الصوم بحال، فلم ينعقد نذره، ولم يلزمه لأجله شيء، كما لو نذر صوم الليل.
وإن نذرت المرأة صوم أيام حيضها لم ينعقد نذرها، ولم يلزمها لأجله شيء.
وقال الربيع: يلزمها كفارة يمين - وهو مذهب أحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر(4/473)
كفارة يمين» قال أصحابنا: وهذا من كيس الربيع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله» ، والخبر محمول على نذر اللجاج. وإن نذر فعل شيء من المباحات، كالأكل والشرب والنوم وما أشبهه لم يلزمه بذلك شيء.
وقال أحمد: (ينعقد نذره، ويكون بالخيار: بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس، ولا يتكلم، ويصوم، فقال: " مروه فليقعد، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» .
[مسألة نذر التبرر واللجاج]
] : وإن نذر طاعة فهو على ضربين: نذر تبرر وقربة، ونذر لجاج وغضب.
فأما نذر التبرر والقربة: فينظر فيه: فإن علقه على إصابة خير أو دفع شر، بأن يقول: إن رزقني الله مالا، أو ولدا، أو علما، أو شفى الله مريضي، أو نجاني الله من الحبس وما أشبهه، فعلي لله أن أصوم، أو أتصدق، وما أشبههما من القرب فهذا نذر صحيح، فإن رزقه الله ما رجا، أو دفع عنه ما خاف لزمه الوفاء بما نذره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77](4/474)
[التوبة: 75 - 77] فذمهم الله على ترك الوفاء بنذرهم، وعاقبهم على تركه.
وروى ابن عباس: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله إن أمي أو أختي ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم، فماتت قبل أن تصوم، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصوم عنها» .
وإن لم يعلق ذلك على شيء، بأن قال ابتداء: علي لله أن أصوم، أو أتصدق فهل يلزمه بذلك شيء؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي -: أنه لا يلزمه شيء، ولكن يستحب له الوفاء به؛ لأن ما يلزم الإنسان نفسه من الحقوق حقان: حق للآدمي وحق لله، ثم وجدنا أن حق الآدمي يلزم عليه إذا كان بعوض، وهو عقود المعاوضات، وأما ما كان بغير عوض، كالهبة: لا يلزم عليه بالقول من غير قبض، فكذلك حقوق الله تعالى.
والوجه الثاني: يلزمه النذر، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ولم يفرق. ولأنه ألزم نفسه قربة ما، لا على وجه اللجاج والغضب، فلزمه الوفاء به، كما لو نذر أضحية فإنهما وافقا على ذلك.
وأما نذر اللجاج والغضب: فبأن ينذر طاعة، ويخرج نذره مخرج اليمين بأن يمنع نفسه من فعل شيء، أو يلزم نفسه شيئا، مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي كذا، ويريد منع نفسه من كلامه، أو يقول: إن فعلت كذا فلله علي كذا، أو إن لم أفعله فمالي صدقة أو في سبيل الله، فإن لم يكن المنذور حجا ولا عمرة فالمشهور(4/475)
من المذهب: أنه إذا وجد الكلام أو ما علقه فهو بالخيار: بين الوفاء بما نذره، وبين أن يكفر كفارة يمين.
وحكى الطبري في " العدة ": أن الشيخ أبا حامد حكى للشافعي قولا آخر: (أنه يلزمه كفارة يمين وله إسقاطها، بأن يفي بما نذر إن كان أكثر من الكفارة، وإن كان أقل لم يكن له ذلك) ، وهو قول عطاء، كما نقول فيمن ملك خمسا من الإبل: إنه يلزمه إخراج شاة، وله إسقاط تلك الشاة بإخراج بعير منها. قال الطبري: وهذا أجري على القياس.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه الوفاء بما نذر) . وقد قيل: إنه قول ثالث للشافعي، وليس بشيء.
دليلنا - للقول الأول -: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالمشي، أو بالهدي، أو جعل ماله في سبيل الله، أو في المساكين، أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين» . ولأنه يشبه اليمين من حيث إنه قصد منع نفسه من فعل شيء، أو إلزامها فعل شيء، ويشبه النذر من حيث إنه ألزم نفسه قربة في ذمته، فخير بين موجبيهما، وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وإن كان المنذور في اللجاج والغضب حجا أو عمرة، وقلنا بالمشهور: أن المنذور لا يتحتم عليه فعله فهل يتحتم عليه فعل الحج والعمرة، أو يكون مخيرا بين فعلهما وبين كفارة اليمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين:(4/476)
أحدهما: يلزمه الوفاء به ويتحتم عليه؛ لأن الحج لما لزمه بالدخول فيه لزمه بالنذر.
والثاني: لا يتحتم عليه فعله، بل له أن يكفر كفارة يمين: لما رويناه في حديث عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالمشي فكفارته كفارة يمين» .
وأما قول الأول: إن الحج يلزم بالدخول فيبطل عليه بالعتق؟ فإنه يلزمه بالدخول، ثم لا يلزمه في اللجاج والغضب.
[مسألة حكم النذر بجميع المال وبعتق رقبة]
] : إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بجميع ماله.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (يلزمه أن يتصدق بثلث ماله) .
دليلنا: أن اسم المال يعم جميع المال، فلزمه الوفاء به.
فإن نذر عتق رقبة وأطلق قال الشافعي: (فأي رقبة أعتق أجزأه) .
فمن أصحابنا من قال: تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة، مؤمنة كانت أو كافرة، وهو ظاهر النص؛ لأن اسم الرقبة يقع عليها.
ومنهم من قال: لا يجزئه إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق النذر محمول على المعهود في الشرع، وتأول هذا القائل كلام الشافعي أنه أراد: مما يجزئ في الكفارة.
[فرع نذر عتق رقبة معينة]
] : وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها، ولا يزول ملكه عنها بنفس النذر، فإن أراد بيعها، أو إبدالها بغيرها لم يجز؛ لأنها تعينت للعتق. وإن تلفت الرقبة أو أتلفها مالكها لم يلزمه إبدالها؛ لأن العتق حق للرقبة، وقد تلفت. وإن أتلفها أجنبي لزمه دفع القيمة إلى المالك، ولا يلزمه صرف ذلك إلى رقبة أخرى؛ لما ذكرناه من المعنى، بخلاف الهدي، فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون.(4/477)
[مسألة لزوم ما سماه وعينه بالنذر وحكم المطلق]
] : إذا سمى هديا بعينه، مثل أن يقول: علي لله أن أهدي هذا الثوب أو هذا التمر أو هذه الشاة لزمه ما سماه وعينه، جيدا كان أو رديئا؛ لأنه قد ألزم نفسه ذلك.
وإن قال: علي لله أن أهدي وأطلق ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يهدي ما شاء مما يتمول، حتى لو أهدى زبيبة أو تمرة أجزأه) لأنه يقع عليه اسم الهدي لغة وشرعا: أما اللغة: فإنه يقال: أهدى فلان إلى فلان دجاجة أو بيضة.
وأما الشرع: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال في الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة - إلى أن قال -: ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه إلا هدي من النعم: إما جذع من الضأن، أو ثني من الإبل أو البقر أو المعز) - وبه قال أحمد وأبو حنيفة - لأن إطلاق الهدي في الشرع إنما ينصرف إلى ذلك، بدليل: أن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأطلق ذلك، والمراد به ما ذكرناه، وكذلك المطلق في النذر.
فإن قال: علي لله أن أهدي بقرة أو شاة، فإن قلنا بالقول الأول أجزأه ما يقع عليه اسم البقرة والشاة. وإن قلنا بالثاني لم يجزه إلا ما يجزي في الأضحية.
وإن قال: علي لله أن أهدي الهدي لزمه الهدي المعهود في الشرع قولا واحدا؛ لأن الألف واللام للعهد، والعهد في الشرع ذلك.(4/478)
[فرع نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة]
] : وإن نذر أن يهدي شاة في ذمته، فإن ذبح شاة كان جميعها واجبا، ولا يجوز له أكل شيء منها، وإن ذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه؛ لأنها تجزئ عن سبع من الغنم، وهل يكون الجميع واجبا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الجميع واجب، فلا يجوز له أكل شيء منها؛ لأنه مخير بينهما، فأيهما فعل كان واجبا.
والثاني: أن الواجب سبعها لا غير؛ لأنها تقوم مقام سبع من الغنم.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: يلزمه أن يتصدق بسبعها، وله أن يأكل الباقي.
وإن نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه أن يذبحها، فلو أراد أن يذبح عنها بقرة أو بدنة فالذي يقتضي المذهب: أن ذلك لا يجزئه؛ لأنها قد تعينت للقربة، فلا يجوز العدول عنها إلى غيرها، كما نقول في العتق.
[مسألة نذر بدنة وأطلق أو عينها بالنية]
] : قال الشافعي: (ومن نذر بدنة لم يجزه إلا ثني أو ثنية، والخصي يجزي، فإذا لم يجد بدنة فبقرة ثنية، وإذا لم يجد فسبع من الغنم تجزئ ضحايا. وإن كانت نيته على بدنة من الإبل لم يجزه من البقر والغنم إلا بقيمتها) .
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: إذا نذر بدنة فإن أطلق ولم ينو حيوانا بعينه فإنه يخرج بدنة، وهي: الثنية من الإبل التي استكملت خمس سنين، أو ثنيا ذكرا من الإبل، وهو الذي استكمل خمس سنين، ويجزئه الخصي؛ لأنه أرطب لحما وأوفر.
فإن لم يجد بدنة أجزأته ثنية من البقر، فإن لم يجد ثنية من البقر أجزأه سبع من الغنم، تجزئ كل واحدة في الأضحية لأن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، وقد تقرر في الشرع: أن البقرة تقوم مقام البدنة، وأن السبع من الغنم تقوم مقام البقرة عند عدمها، هذا هو المنصوص.(4/479)
ومن أصحابنا من خرج وجها آخر: أنه مخير: بين البدنة والبقرة، والسبع من الغنم؛ لأن للشافعي قولا آخر - حكاه أبو إسحاق فيمن لزمه بدنة بالوطء في الحج - (أنه مخير بينها، وبين البقرة، والسبع من الغنم) .
وأما صاحب " العدة ": فقال هاهنا: هذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بقوله القديم: (وأنه يجزئه ما يقع عليه الاسم) فلا يجزئه البقرة ولا الغنم هاهنا؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين.
قلت: وهذا تفصيل حسن.
وأما إذا نوى - بقوله: بدنة - البدنة من الإبل فقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: فإن كانت البدنة موجودة لزمه إخراجها، ولم تجزه البقرة ولا الغنم وجها واحدا؛ لأن نيته قطعت جواز العدول إلى غيرها، فتعينت عليه، وإن كانت البدنة معدومة ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز الانتقال إلى البقرة، بل تكون في ذمته إلى أن يجدها؛ لأنها قد تعينت عليه بالنذر.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يجزئه الانتقال إلى البقرة بالقيمة؛ لأنه وإن عين البدنة فإنه يتعين عليه هدي شرعي، والهدي الشرعي له بدل.
فعلى هذا: يقابل بين قيمة البدنة وقيمة البقرة، فإن كانت قيمتهما سواء، أو كانت قيمة البقرة أكثر أخرج البقرة وأجزأه. وإن كانت قيمة البقرة أقل لزمه إخراج البقرة ولزمه أن يتصدق على المساكين بفضل قيمة البدنة على البقرة؛ لأنه ألزم نفسه أمرين مقصودين: النحر، وتفرقة اللحم، فلزمه الإتيان بأكثرهما.(4/480)
والفرق بين هذه، وبين التي قبلها حيث لم تعتبر القيمة في الأولى؛ لأنه إذا أطلق البدنة انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع، ومعهود الشرع فيها: أن تقوم البقرة فيها مقامها من غير تقويم. وإذا نوى البدنة من الإبل فقد وجبت بإيجابه، فإذا أعوزته كان عليه أكثر الأمرين: مما يقوم مقامها في الشرع، أو قيمتها، كما نقول فيه - إذا أتلف الهدي المعين -: أن عليه أكثر الأمرين: من قيمته، أو هدي مثله.
[مسألة النذر لأفضل بلد أو مطلقا]
] : إذا نذر الهدي للحرم أو لأفضل بلد، أو لأشرف بلد لزمه ذلك بمكة، لأنها أفضل البلاد وأشرفها.
وإن نذر الهدي لبلد غيرها وسماها لزمه صرفه إلى البلد التي سماها؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا - مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية - قال: " لصنم " قالت: لا، قال: " لوثن " قالت: له، قال: " أوفي بنذرك» .
قال أبو عبيد الهروي: (الصنم) : ما اتخذ آلهة مما له صورة. و (الوثن) : ما اتخذ آلهة مما لا صورة له.
وإن قال: لله علي أن أهدي، وأطلق ففيه وجهان:
أحدهما: يصرفه حيث شاء من البلاد؛ لأن اسم البلاد يقع عليه.
والثاني: لا يجزئه إلا في الحرم، حملا على الهدي المعهود في الشرع.(4/481)
ويشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن أطلق نذر الهدي هل يلزمه ما يقع عليه الاسم من تمرة أو زبيبة أو غير ذلك، أو لا يجزئه إلا ما يجزئ من الأنعام في الهدي؟ وفيه قولان، مضى بيانهما.
[فرع مؤنة نقل الهدي والنذر من غيرالنعم]
فرع: [مؤنة نقل الهدي والنذر من غير النعم] : قال الطبري: وهل يلزمه مؤنة نقل الهدي؟ ينظر فيه: فإن قال: لله علي أن أهدي لزمته مؤنة نقله، وإن قال: جعلته هديا لم يلزمه، بل يباع من ذلك للمؤنة.
قال الطبري: وإن نذر حيوانا غير النعم من طائر أو دابة لزمه أن يتصدق به حيا على فقراء مكة. فإن كان الهدي من النعم لزمه أن يذبح ذلك، ويسلمه إليهم بعد الذبح، فإن سلمه إليهم قبل الذبح لم يجزه، كالهدي الواجب بالشرع.
[فرع النذر لرتاج لكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا]
فرع: [النذر لرتاج الكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا] : وإن نذر الهدي لرتاج الكعبة صرف إلى كسوة البيت - وأهل الرتاج: الباب - وهكذا إن نذر ذلك لعمارة مسجد لزمه صرفه فيما عينه له. وإن أطلقه فوجهان:
أحدهما: يلزمه صرفه إلى مساكين ذلك البلد؛ لأن الهدي المعهود في الشرع ما يصرف إلى المساكين.
والثاني: يصرفه في أي وجه شاء من وجوه القرب في ذلك البلد؛ لأن الاسم يقع عليه.
وأصل هذين الوجهين: القولان فيما ينصرف إليه مطلق الهدي.
فإن كان ما نذره مما لا يمكنه نقله كالدار والأرض لزمه أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى فقراء البلد الذي سماه؛ لما روي: أن امرأة سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -:(4/482)
أنها نذرت أن تهدي دارا، فقال: (بيعيها، وتصدقي بثمنها على مساكين الحرم) ولأنه لا يمكن نقله، فنقل ثمنه.
[مسألة ينحر ويفرق اللحم حيث نذر]
] : قال الشافعي: (ولو نذر أن ينحر بمكة لم يجزه أن ينحر بغيرها، ولو نذر أن ينحر بغيرها لم يجزه إلا حيث نذر؛ لأنه وجب لمساكين ذلك البلد) .
وهذا كما قال: لو نذر النحر بمكة والتفرقة فيها لزمه الأمران جميعا بها، وإن نذر النحر بمكة وأطلق لزمه النحر بها، وهل يلزمه تفرقة اللحم بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه تفرقة اللحم بها، بل يفرقه في أي موضع شاء؛ لأنه نذر فيها أحد مقصودي الهدي، فلم يلزمه الآخر، كما لو نذر التفرقة بها دون النحر.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يلزمه تفرقة اللحم بها؛ لأنه إذا لزمه النحر بها تعينت التفرقة فيها، كالهدايا الواجبة بالشرع.
وإن نذر النحر والتفرقة في بلد غير الحرم لزمه ذلك، وإن نذر النحر بها وأطلق فنقل المزني: (أنه يلزمه) واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: يلزمه النحر في ذلك البلد، والتفرقة فيه؛ لأن ذكر النحر يتضمن التفرقة فيه.
ومنهم من قال: لا يلزمه النحر ولا التفرقة؛ لأن النحر في غير الحرم لا قربة فيه، فلم يتضمن التفرقة، قال: وأخطأ المزني في نقله؛ لأن الشافعي ذكر في " الأم " [2/231] (إذا نذر أن ينحر في بلد ويفرق اللحم به لزمه) فأسقط المزني قوله: (ويفرق) .(4/483)
[مسألة فيمن نذر صلاة أو ركوعا أو سجودا]
] : إذا نذر أن يصلي أربع ركعات أو غير ذلك لزمه ما سمى. وإن نذر أن يصلي وأطلق ففيه قولان:
أحدهما - وهو قوله القديم -: (أنه يلزمه ركعة) ؛ لأن الركعة صلاة شرعية، وهي: الوتر، فلم يلزمه أكثر منها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه ركعتان) - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - وهو الصحيح؛ لأن أقل صلاة وجبت في الشرع ركعتان.
وإن قال: علي لله ركوع عنه ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يلزمه شيء؛ لأن الركوع بانفراده ليس بقربة.
والثاني: يلزمه ركعة تامة حملا على المعهود في الشرع.
وإن نذر السجود فالذي يقتضيه المذهب: أنه يلزمه؛ لأن السجود بانفراده قربة، وهو سجود التلاوة، وسجود الشكر.
[فرع نذر الصلاة في المساجد الثلاثة أو في غيرها]
] : وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة - وهي: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى - انعقد نذره بالصلاة، ولم تتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه؛ لأن غير المساجد الثلاثة متساوية في الفضيلة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن نذر صلاة الفرض في مسجد غير المساجد الثلاثة فانتقل إلى غيره، فإن كان الذي انتقل إليه: الجمع فيه أعظم وأكثر جاز.(4/484)
وظاهر كلامه يدل على: أنه تلزمه صلاة الفرض في المسجد الذي عينه بالنذر إن كانت فيه جماعة، وله أن يسقط ذلك بأن يصلي مع جماعة أكثر منها.
فإن قيل: أليس لو نذر الصوم في يوم بعينه لم يجز له أن يصوم في غيره؟ فكيف جاز إذا نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة أن يصلي في غيره؟
فالجواب: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، فلذلك تعين بالنذر، وليس كذلك الصلاة؟ فإنها لم تتعين بالشرع في مكان بعينه، فلذلك لم تتعين بالنذر.
وإن نذر أن يصلي في المسجد الحرام لزمه أن يصلي فيه، فإن صلى في غيره لم يجزه عن النذر.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي في غيره) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد» فلا يجوز أن يسقط نذره بالصلاة فيه في غيره.
وإن نذر أن يصلي في مسجد المدينة، أو في المسجد الأقصى فهل يتعينان بالنذر؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يتعينان بالنذر؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بنذر الصلاة فيه، كسائر المساجد.
فعلى هذا: يصلي في أي موضع شاء.
والثاني: يتعينان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
فعلى هذا: إذا نذر الصلاة فيهما فصلى في المسجد الحرام سقط نذره لأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فيهما.
فإن صلى في مسجد المدينة ما نذر أن يصلي في المسجد الأقصى أجزأه لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صل هاهنا "، فأعادها عليه ثلاثا، وهو يقول(4/485)
" صل هاهنا» ولأن الصلاة فيه أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، وصلاة في مسجدي هذا: تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى: تعدل خمسمائة صلاة» .
[فرع تعليق النذر بمشيئة رجل]
] : قال الطبري: إذا قال: لله علي نذر صلاة أو هدي إن شاء فلان نظر: فإن أراد تعليق عقد النذر على مشيئته لم يصح؛ لأن العقود لا تتعلق بالصفات. وإن أراد به عقد النذر في الحال إلا أنه علق رفعه على مشيئة فلان فلا يكون نذر تبرر، قال: فيخرج على الأقوال الثلاثة المخرجة في نذر اللجاج والغضب.
[مسألة صوم يوم بعينه أو مطلقا أو نصفه]
] : وإن نذر الصوم وأطلق لزمه صوم يوم؛ لأن أقل الصوم يوم. وإن نذر صوم يوم بعينه فالمشهور من المذهب: أنه لا يصح أن يصوم عنه يوما قبله؛ لأن الصوم يتعين في زمان يوم بعينه في الشرع، فكذلك في النذر.
وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يصوم عنه يوما قبله - وبه قال أبو يوسف - وليس بشيء.
وإن نذر صوم نصف يوم، أو صوم اليوم الذي هو فيه ولم يكن أكل قبل ذلك ففيه قولان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يلزمه شيء، وهو المشهور؛ لأن ذلك ليس بصوم.
والثاني: يلزمه صوم يوم؛ لأن ذلك يتضمن إيجاب صوم يوم بعينه.(4/486)
وإن كان قد أكل قبل النذر، فإن قلنا: لا يلزمه إذا لم يأكل فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يلزمه فهاهنا وجهان.
[فرع نذر الصوم في الحرم]
] : ذكر في " العدة ": إذا نذر أن يصوم أو يصلي في الحرم فقال صاحب " التلخيص ": لا يجوز في غيره.
وقال أصحابنا: أما الصلاة: فكما قال، وأما الصوم: فلا يختص بالحرم؛ لأن المكان لا حظ له فيه، ألا ترى أن الصوم الذي يجب بدلا عن الهدي لا يختص بالحرم، وإن كان مبدله يختص به.
وقال الشيخ أبو زيد: يحتمل ما قاله صاحب " التلخيص "؛ لأن الحرم يختص بأشياء والأول أصح.
[مسألة نذر صوم سنة معينة]
مسألة: [نذر صيام سنة] . إذا نذر صوم سنة معينة، بأن قال: علي لله أن أصوم سنة كذا، أو: علي أن أصوم من هذا الشهر سنة فإنه يلزمه صوم جميع تلك السنة عن النذر، إلا شهر رمضان والعيدين وأيام التشريق: فأما شهر رمضان: فلأنه يستحق صومه بالشرع، فلا يصوم فيه عن النذر. وأما العيدان: فلأنه لا يصح صومهما بحال. وأما أيام التشريق: فلأنه لا يصح صومها على قوله الجديد، وهو الصحيح. ولا يلزمه قضاء ذلك؛ لأن النذر لم يتناولها.
وإن أفطر في غير هذه الأيام نظرت: فإن أفطر لغير عذر أثم بذلك، فإن كان قد شرط فيها التتابع في الصوم فحكى الطبري عن القفال: أنه لا يبطل ما مضى من السنة، فلا يلزمه الاستئناف قياسا على صوم رمضان. والمشهور من المذهب: أنه يلزمه استئناف صوم السنة؛ لأن التتابع لزمه بالشرط، ولا ينقطع التتابع فيها لإفطاره في العيدين وأيام التشريق؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة وليس فيها هذه الأيام. وإن(4/487)
لم يشرط التتابع في النذر لزمه قضاء ما أفطر فيها بغير عذر، ولا ينقطع تتابعه؛ لأنه وإن لزمه التتابع في السنة المعينة - وإن لم يشرط ذلك في النذر - إلا أنه تتابع لزمه من ناحية الوقت، فهو كما لو أفطر في رمضان بغير عذر.
وإن أفطر فيها بعذر نظرت: فإن كانت امرأة فحاضت أفطرت، ولا تأثم بذلك، ولا ينقطع التتابع به؛ لأنه لا يمكنها صوم السنة عن الحيض، وهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمها قضاؤها؛ لأن أيام الحيض مستحقة للفطر، فهي كالعيدين وأيام التشريق.
والثاني: يلزمها قضاؤها؛ لأن النذر محمول على الشرع، والحائض يلزمها قضاء الصوم بالشرع، وهو رمضان، فكذلك صوم النذر، ولأن أيام الحيض مما يصح فيها صوم غيرها، وإنما أفطرت لمعنى فيها، بخلاف العيدين وأيام التشريق.
وإن أفطر في صوم السنة المعينة بالمرض لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع فيها فهل يلزمه قضاء أيام المرض؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الحائض.
وإن كان قد شرط التتابع فيها فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ينقطع؛ لأنه أفطر باختياره.
والثاني: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالحائض.
فعلى هذا: هل يلزمه القضاء؟ على وجهين.
وإن أفطر بالسفر لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع لم يلزمه الاستئناف، وهل يلزمه قضاء ما أفطر بالسفر؟ فيه وجهان بناء على القولين في الحائض. وإن شرط التتابع، فإن قلنا: ينقطع التتابع بالمرض فبالسفر أولى أن ينقطع، وإن قلنا: لا ينقطع التتابع بالمرض فهل ينقطع بالسفر؟ فيه قولان:(4/488)
أحدهما: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالمريض، فيكون في القضاء على هذا وجهان.
والثاني: ينقطع؛ لأن السفر كان باختياره، بخلاف المرض.
فإن نذر صوم سنة غير معينة، فإن لم يشترط فيها التتابع جاز أن يصومها متتابعا ومتفرقا، وإن صام اثني عشر شهرا بالأهلة صح، تامة كانت الشهور أو ناقصة، فإن صام شهر شوال لم يصح صومه يوم الفطر، فإن كان الشهر تاما قضى صوم يوم، وإن كان ناقصا قضى صوم يومين. فإذا جاء شهر رمضان صامه عن فرض رمضان، ولا يصح صومه فيه عن النذر؛ لأنه مستحق بالشرع، ويفطر في العيدين وأيام التشريق؛ لأنها مستحقة للفطر، ويلزمه قضاء ذلك؛ لأن فرض النذر تعلق بذمته، فانتقل فيما لم يسلم إلى بدله، كالمسلم فيه إذا رد بالعيب؛ لأنه إذا قال: صوم سنة فيمكن حمل ذلك على سنة ليس فيها شهر رمضان ولا العيدان وأيام التشريق، بخلاف ما لو قال: علي لله صوم سنة كذا فإنها لا تخلو من ذلك. ويجوز أن يقضي صوم ذلك متفرقا ومتتابعا.
وإن شرط التتابع في صومها لزمه صومها متتابعا، فإذا صام رمضان عن رمضان وأفطر في العيدين وأيام التشريق، أو أفطرت المرأة بالحيض لم ينقطع تتابعه بذلك؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة ليس فيها رمضان والعيدان وأيام التشريق، ولا يمكن صونها عن الحيض، ولكن يلزمه قضاء ذلك متتابعا، لأنها قضاء عن صوم متتابع. وإن أفطر بالمرض فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان - على ما مضى في التي قبلها - فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء أيام الفطر قولا واحدا؛ لما ذكرناه في رمضان وأيام التشريق. وإن أفطر بالسفر فهل ينقطع التتابع؟ يبنى أيضًا على المرض، فإن قلنا في المرض: ينقطع ففي السفر أولى. وإن قلنا في المرض: لا ينقطع ففي السفر قولان:
فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء تلك الأيام التي يفطر فيها قولا واحدا؛ لما ذكرناه.(4/489)
[فرع نذر صوم هذه السنة]
قال الطبري: وإن قال: لله علي صوم هذه السنة لزمه صوم باقي سنة التاريخ؛ لأن التعريف بالألف واللام يقتضي المعهود، وهذا هو المعهود.
[مسألة نذر صوم أيام الاثنين]
] : وإن نذر أن يصوم كل اثنين لزمه ذلك، فإذا جاء شهر رمضان صام الأثانين فيه عن رمضان؛ لأنها مستحقة بالشرع، ولا يلزمه قضاؤها؛ لأن النذر لم يتناولها؛ لأنه يعلم أن رمضان لا يخلو من ذلك، وهل يلزمه قضاء ما وافق منها العيدين وأيام التشريق؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه - وهو اختيار المحاملي في " التجريد " - لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد وأيام التشريق، فإذا وافق ذلك لزمه القضاء.
والثاني: لا يلزمه القضاء - وهو اختيار المزني، والشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن هذه الأيام لا يصح صومها عن النذر، فأشبهت أثانين رمضان.
وإن كانت امرأة فحاضت فيها فهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان مضى ذكرهما في المسألة قبلها.
قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إلا أن أصح القولين في الحائض: أنه يلزمها القضاء، والأصح في العيدين: أن لا قضاء؛ لأن يوم العيد لا يصح صومه لكل أحد، وأيام الحيض تختص بها المرأة بالفطر وحدها.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض، كيوم العيد، فلا فرق بينهما، ولهذا لو نذرت صوم أيام الحيض لم يصح، كما لا يصح إذا نذرت صوم يوم العيد.
[فرع من نذر صوم الأثانين وعليه صيام شهرين متتابعين]
وعكسه] : وإن نذر صوم يوم الأثانين، ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في الكفارة لزمه صوم الشهرين المتتابعين، ثم يقضي صوم الأثانين فيهما؛ لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين(4/490)
أمكنه قضاء الأثانين بعدهما، ولو بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى.
وإن لزمه صوم الشهرين في الكفارة أولا، ثم نذر صوم الأثانين لزمه صوم الشهرين، وهل يلزمه قضاء الأثانين فيهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه - وهو اختيار المحاملي - لأن صيامهما استحق قبل النذر عن الكفارة، فصار كأثانين رمضان. والثاني: يلزمه القضاء - وهو المنصوص في رواية الربيع - لأنه قد كان يمكنه أن يصوم الأثانين في الشهرين اللذين صامهما عن الكفارة عن النذر.
قلت: فوزانه من المسألة: أنه لو نذر صوم شهرين بأعيانهما، ثم نذر صوم كل اثنين فإنه يصوم الشهرين المعينين عند النذر الأول، ولا يلزمه قضاء الأثانين فيهما عن النذر الثاني؛ لأن صومهما قد استحق عن النذر الأول. وإن نذر صوم كل اثنين، ثم نذر صوم شهرين بأعيانهما فإنه يصوم سائر أيام الشهرين غير الأثانين عن النذر الثاني، وأما الأثانين: فإنه يصومها عن النذر الأول، ولا يلزمه قضاؤها عن النذر الثاني؛ لأنها مستحقة للصوم عن النذر الأول، فلم يتناولها الثاني.
[مسألة تعليق نذر الصوم بقدوم شخص]
وإن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينعقد نذره - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأنه لا يمكنه الوفاء به؛ لأنه قد يقدم نهارا، فيكون ما صامه قبل القدوم تطوعا.
والثاني: ينعقد نذره - وهو اختيار المزني والقاضي أبي الطيب - لأنه يمكنه أن(4/491)
يتعرف اليوم الذي يقدم فيه، فينوي الصوم فيه من الليل، فانعقد نذره كما لو نذر صوم يوم مطلق.
قال الطبري في " العدة ": واختلف أصحابنا في أصل القولين:
فمنهم من قال: أصلهما فيمن نذر صوم نصف يوم هل يصح نذره؟ فيه قولان مضى ذكرهما.
ومنهم من قال: أصلهما إذا قدم زيد في خلال النهار هل يتبين أن الصوم كان قد وجب عليه من أول النهار، فيه قولان.
قال: وفائدة هذا تظهر فيمن قال: هذا العبد حر يوم يقدم فلان، ثم باع العبد في أول اليوم، ثم قدم فلان بعد البيع، فإن قلنا بالطريقة الأولى صح البيع هاهنا، ولا يلزمه شيء. وإن قلنا بالطريقة الثانية عتق العبد وانفسخ البيع؛ لأنه بان أنه باع حرا، وهذه طريقة ابن الحداد.
فإذا قلنا: لا ينعقد نذره فلا كلام.
وإن قلنا: ينعقد، فإن كان الغالب عنده أنه يقدم غدا، فنوى الصوم من الليل عن نذره، ثم قدم في أثناء النهار فوجهان:
[أحدهما] : قال القفال: لا يصح صومه؛ لأنه لم يقطع النية من الليل؛ لأنه كان يحتمل قدومه ويحتمل عدم قدومه.
و (الثاني) : قال الشيخ أبو حامد: يصح صومه؛ لأنه قد أتى بما يمكنه الإتيان به، وتبين أن ما قبل القدوم كان تطوعا، وما بعده فرضا، ولا يمتنع مثل ذلك. ألا ترى أنه يجوز أن يدخل في صوم التطوع، ثم ينذر إتمامه، فيلزم، وإن قدم في يوم وهو مفطر فيه أو صائم فيه عن تطوع لم يجزه ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ينوي الصوم الواجب بعد طلوع الفجر.
فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأن الشرط لم يوجد.(4/492)
[فرع تعليق نذر الصوم بأمس أو قدوم شخص أو بقدوم شخصين]
] : وإن قال: إن قدم فلان فلله علي أن أصوم أمس يوم قدومه فهل يصح نذره؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح نذره قولا واحدا.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على قولين، كالتي قبلها.
وإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوم قدومه، ثم قال: إن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدم عمرو قبل الاثنين لزمه أن ينوي الصوم لقدوم عمرو ليلة الاثنين. فإن نوى الصوم ثم قدم زيد يوم الاثنين، وقلنا: يصح نذره فإنه يجب عليه أن يتم صوم هذا اليوم عن نذره لقدوم عمرو؛ لأنه قد نواه، ويستحب له أن يقضيه بيوم آخر؛ لأنه صامه عن نذر وقد استحق بنذر قبله، ويجب عليه أن يصوم يوما آخر لقدوم زيد؛ لأنه لم يمكنه أن ينوي الصيام لذلك. فإن قيل: أليس لو قدم زيد في أثناء يوم من رمضان لم يجب عليه القضاء؟ قلنا: الفرق بينهما: أن أيام رمضان لا يجوز أن تقع عن النذر بحال، وهاهنا قد كان يجوز أن يقع الصوم فيه عن قدوم زيد.
فإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوما يلي يوم قدومه، وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدما يوم الأحد لزمه أن يصوم يوم الاثنين عن أول نذر نذره، ويجب عليه أن يقضي عن النذر الثاني يوما آخر؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
[فرع تعليق نذر الاعتكاف على قدوم شخص]
] : وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح نذره قولا واحدا؛ لأن الاعتكاف يصح في بعض اليوم، بخلاف الصوم. فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية اليوم، وهل يلزمه قضاء ما فاته من اليوم؟ وجهان:(4/493)
أحدهما: يلزمه، وهو قول المزني، كما قلنا في الصوم.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويفارق الصوم: فإنه لا يصح الصوم في بعض اليوم، فلذلك لزمه القضاء.
وإن قدم وهو محبوس أو مريض جاز له ترك الاعتكاف، وهل يلزمه القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقضي؛ لأنه تعذر عليه الاعتكاف حال الوجوب.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يلزمه القضاء؛ لأن العبادة الواجبة بالشرع إذا تعذرت بالمرض وجب قضاؤها، فكذلك العبادة الواجبة بالنذر.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقضي قدر ما بقي من اليوم بعد القدوم، على المذهب، وعلى قول المزني يلزمه قضاء جميع اليوم.
[مسألة نذر الحج ماشيا]
] : وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره، ولزمه المشي إليه بحج أو عمرة؛ لأن المشي ليس بقربة لله إلا لذلك، فإذا أطلقه حمل على المعهود في الشرع؛ لأن المشي إلى العبادة أفضل، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يركب في عيد ولا جنازة» .
فإن قيل: فالمشي في الشرع لا يجب، فكيف لزم بالنذر، قلنا: قد يلزم بالنذر من القرب ما ليس بواجب في الشرع ابتداء، مثل: الاعتكاف والإحرام من دويرة أهله.
ومن أين يلزمه المشي؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله؛ لأن إتمام(4/494)
الحج والعمرة يتعلق بذلك، وإنما أجيز تأخير الإحرام إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب عليه الإحرام والمشي إلا من الميقات - وبه قال أحمد - لأن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام في الشرع إنما يجب من الميقات.
فإن أراد الدخول في الحج فإنه يمشي فيه إلى أن يحل له النساء، وهو بالتحلل الثاني، ولا يلزمه المشي لرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق.
وإن أراد الدخول بعمرة فإنه يمشي فيها إلى أن يحل له النساء أيضا، وهو إلى أن يفرغ من الحلاق إذا قلنا: إنه نسك، وإن قلنا: إنه ليس بنسك، فإلى الفراغ من السعي.
وإن أحرم بالحج، ففاته الوقوف بعرفة فإنه يلزمه القضاء ماشيا؛ لأنه بدل عما لزمه، وهل يلزمه المشي في تمام الفائت؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك قد لزمه بالإحرام.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن هذا لا يجزئه عن النذر.
وإن لزمه المشي فركب نظرت: فإن كان قادرا على المشي فقد أساء بذلك، وحجه صحيح، وعليه هدي؛ لما روى ابن عباس: «أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تركب وتهدي هديا» ولأنه ترفه بترك المشي، فأشبه إذا تطيب أو لبس.(4/495)
وإن كان عاجزا عن المشي جاز له أن يركب؛ لأن الواجب بالشرع يسقط بالعجز عنه فلأن يسقط الواجب بالنذر عند العجز أولى، فإذا ركب فهل يجب عليه دم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لو نذر أن يصلي قائما فعجز كان له أن يصلي قاعدا، ولا شيء عليه، فكذلك هاهنا.
والثاني: يجب عليه الهدي؛ لحديث عقبة بن عامر؛ لأنه لا يجوز أن يأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركوب إلا مع العجز. ولأنه إذا تركه مع القدرة لزمه الدم، وكذلك إذا تركه عاجزا، كسائر المناسك، بخلاف الصلاة فإنه لا يدخلها الجبران بالهدي، والحج يدخله الجبران. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال صاحب " الإبانة ": إذا نذر الحج ماشيا فهل يلزمه الحج ماشيا أو يجوز له الركوب؟ فيه قولان، بناء على أن الأفضل أن يحج راكبا أو ماشيا، فإن قلنا: إن الأفضل أن يحج ماشيا لزمه المشي، فإن ركب مع القدرة على المشي فهل يصح حجه؟ فيه قولان. فإن قلنا: يصح فعليه الدم، وإن قلنا: لا يصح فعليه القضاء، ومن أين يمشي؟ ينظر في لفظه:
فإن قال: علي لله أن أحج ماشيا أو أحرم ماشيا فمن وقت الإحرام بالحج.
وإن قال: علي لله أن أمشي إلى مكة حاجا فمن حين يخرج من بيته.
[فرع نذر أن يركب إلى المسجد الحرام فمشى أو بغير نسك]
] : وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى فالمشهور من المذهب: أن عليه الدم: لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب. وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر: أنه لا دم عليه؛ لأن المشي أشق من الركوب.
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجا ولا معتمرا فوجهان:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن النذر إنما ينعقد إذا أطلق؛ لأنه محمول على عرف(4/496)
الشرع بالقصد إليه بالنسك، فإذا شرطه بغير نسك خرج عن معهود الشرع، فلم يصح نذره.
والثاني: يصح نذره، ويلزمه المشي بحج أو عمرة؛ لأن النسك قد لزم بقوله: علي لله أن أمشي إلى بيت الله الحرام، وقوله: (لا حاجا ولا معتمرا) : لغو في الكلام، فوجب إسقاطه.
قال الشيخ أبو حامد: يشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى؛ لأن المشي هناك لا يتضمن النسك كذا هاهنا إذا صرح بترك النسك.
قال ابن الصباغ: وهذا البناء لا يستقيم؛ لأنه إذا قلنا: يصح النذر هاهنا يلزمه المشي بالنسك، بخلاف المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى.
[فرع نذر المشي لبيت الله ولم يقل الحرام]
] : إذا نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل: الحرام ولا نواه فنقل المزني: (أنه ينعقد نذره) . وقال في " الأم " [2/230] ما يدل على أنه لا يلزمه.
قال ابن الصباغ: ففي المسألة قولان، ولكنها مشهورة بالوجهين:
أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لان المساجد كلها بيوت الله.
والثاني: ينعقد نذره، ويلزمه المشي إلى بيت الله الحرام بحج أو عمرة؛ لأن إطلاق بيت الله لا ينصرف إلا إليه. قال المحاملي: والأول أصح.
[فرع النذر إلى موضع من الحرم أو إلى عرفة]
وإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي إليه بحج أو عمرة.
قال الطبري في " العدة ": وسواء قال: علي لله أن أمشي، أو أذهب، أو أسير(4/497)
أو أنتقل، أو آتي، أو أمضي، فكل ذلك سواء.
وذكر المحاملي في " التجريد ": إذا قال: علي لله أن أذهب إلى مكة، أو إلى البيت، أو إلى الحرم فإنه يلزمه الذهاب بنسك، ولكن لا يلزمه المشي، بل إن شاء ذهب راكبا أو ماشيا؛ لأن اسم الذهاب يقع على الجميع.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا إذا نذر المشي إلى بيت الله، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة استحسانا، فإذا نذر المشي إلى بقعة من الحرم غير ذلك فلا يلزمه) .
دليلنا: أنه موضع لا يجوز دخوله بغير إحرام، فلزمه النذر بالمشي إليه بالنسك كالبيت.
وإن نذر المشي إلى عرفة فالمشهور من المذهب: أنه لا يلزمه بذلك شيء.
وحكى صاحب " الفروع ": أن أبا علي بن أبي هريرة قال: يلزمه المشي إليها بنسك؛ لأنها منسك. وليس بشيء؛ لأنه موضع يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلزمه المشي إليه بالنذر، كسائر بقاع الحل. وقوله: (إنها منسك) : يبطل بالميقات.
[فرع نذر المشي لمسجد غير الثلاثة أو لمسجد المدينة والأقصى]
] : وإن نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه شيء لأنه لا تشد إليه الرحال.
وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما.
فإذا قلنا: لا يصح فلا كلام.
وإذا قلنا: يصح النذر فقال ابن الصباغ: فإذا بلغ إليها صلى ركعتين واجبتين؛ لأن القصد بالسعي إليهما القربة بالصلاة فيهما، فتضمن ذلك نذره.
وقال الطبري في " العدة ": يصلي فيهما ركعتين، أو يعتكف ساعة حتى تكون قربة.(4/498)
[مسألة نذر الحج السنة]
] : إذا قال: علي لله أن أحج في هذه السنة، فإن وجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام في هذه السنة - وهي: البلوغ والعقل والحرية والإسلام وتخلية الطريق وإمكان السير ووجود الزاد والراحلة - فإن لم يحج استقر الفرض عليه، ولم يسقط عنه الفرض إلا بفعله بعد ذلك.
وإن وجدت فيه هذه الشرائط ولكن أحصر حصرا عاما حتى مضت هذه السنة فالمنصوص: (أنه لا يجب عليه القضاء) كما نقول في حجة الإسلام إذا أحرم بها، ولم يكن تمكن منها قبل ذلك، فأحصر حصرا عاما فتحلل فإنه لا قضاء عليه.
وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس ابن سريج قال: يجب على الناذر القضاء؛ لأنه أمر إذا لم يجب بالشرع فإنه يجب بالنذر، كالمريض لا يجب عليه الحج بالشرع، ولو نذر الحج وجب عليه.
فإن أحصر هذا الناذر في هذه السنة حصرا خاصا، بأن مرض أو حبس أو أخطأ الطريق قال المحاملي في " التجريد " والطبري في " العدة ": فإن الفرض يستقر عليه في حجة الإسلام، وفي حجة النذر أيضا، لا لأن الطريق مخلى: وإنما تعذر عليه الحج لمعنى يخصه، فاستقر عليه الفرض، ومتى عدمت الشرائط في هذا الناذر في هذه السنة فقد قلنا: لا يجب عليه، وإن وجدت الشرائط بعد هذه السنة فيه لم يجب عليه؛ لأنه قد نذره في هذه السنة، بخلاف حجة الإسلام.
وبالله التوفيق(4/499)
[باب الأطعمة]
الأصل في وجوب إباحة الأطعمة قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] .
إذا ثبت هذا: فالحيوان على ضربين: بري، وبحري.
فأما البري: فلا يحل النجس منه، مثل: الكلب والخنزير، وكذلك: ما توالد منهما، أو من أحدهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والكلب من الخبائث.
والدليل على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» .
فإن ارتضع جدي من كلبة أو خنزيرة حتى نبت لحمه ففي إباحة لحمه وجهان، حكاهما الشاشي.(4/500)
ويحل أكل الأنعام - وهي الإبل، والبقر، والغنم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] .
والأنعام من الطيبات وأجمع المسلمون على إباحة أكلها.
ويجوز أكل لحم الخيل، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يكره كراهة يتعلق بها الإثم) ، ولا يقول: إنها محرمة.
دليلنا: ما روى جابر قال: «ذبحنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل» .
ويحرم أكل لحوم الحمر الأهلية، وبه قال جماعة من العلماء.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (تحل) .
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل لحوم البغال.(4/501)
وقال الحسن البصري: يحل.
دليلنا: حديث جابر.
ويحرم أكل السنور الأهلي؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الهر» وفي السنور البري وجهان:
أحدهما: لا يحل: للخبر.
والثاني: يحل؛ لأن كل حيوان كان منه إنسي ووحشي اختص التحريم بالأهلي، كالحمار.
[مسألة: أكل الضبع والثعلب وغيرهما]
] : ويحل أكل الظبي والوعل وبقر الوحش وحمر الوحش لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات.
ويحل أكل الضبع والثعلب.(4/502)
وقال أبو حنيفة: (لا يحل أكلهما) .
وقال مالك: (يكره أكلهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهما من الطيبات، وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد يؤكل» .
[مسألة: في أكل الأرنب والقنفذ وغيرهما]
] : ويحل أكل الأرنب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والأرنب من الطيبات. ولما روى جابر: «أن غلاما من قومه صاد أرنبا أو اثنين، فذبحهما بمروة، فتعلقهما حتى لقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكلهما، فأمره بأكلهما» .
ويحل أكل اليربوع، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أنه من الطيبات، وأوجب عمر فيه الجزاء فدل على أنه صيد يؤكل.
ويحل أكل القنفذ. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يحل) .(4/503)
دليلنا: ما روي: أن ابن عمر سئل عن أكل القنفذ، فتلا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] [الأنعام: 145] . وهذا فتوى منه بإباحته.
ويحل أكل ابن عرس والوبر. و (ابن عرس) : دويبة أصغر من الوبر.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل واحد منهما) .
دليلنا: أنهما مستطابان عند العرب، فحل أكلهما.
ويحل أكل الضب، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: ما روي «عن خالد بن الوليد قال: دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، فقربت لنا ضبا محنوذا، فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بيده، فقال بعض النسوان اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يريد أن يأكل منه، فقيل له: هو ضب، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: " لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه " قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فلم ينهني» .
[فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى]
] : ولا يحل أكل ما يتقوى بنابه ويعدو على الناس وعلى البهائم، كالأسد والفهد والنمر والدب والذئب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه(4/504)
كلها من الخبائث. ولما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وفي ابن آوى وجهان:
أحدهما: يحل؛ لأنه ضعيف الناب، فأشبه الضبع.
والثاني: لا يحل؛ لأنه من جنس الكلاب، والعرب لا تستطيبه، ولأنه كريه الرائحة.
ولا تحل الحيات والعقارب والفأر والخنافس والوزغ وما أشبهها من حشرات الأرض؛ لأنها من الخبائث.
[مسألة: أكل النعامة وغيرها من الطيور]
مسألة: [جواز أكل النعامة وغيرها من الطيور وحرمة ما له مخلب] : ويحل أكل النعامة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا فيها ببدنة إذا قتلها المحرم، فدل على أنها صيد.
ويحل الديك والدجاج والحمام والقطا والبط والكركي والعصفور؛ لأن كل هذه مستطابة.
ويحل أكل الجراد؛ لما «روى عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل الجراد ونأكلها معه» . وروي: أن الجراد ذكرت عند عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: (ليت لنا منها قفعة أو قفعتين) .
وقال أبو العباس بن القاص، وأبو علي في " الإفصاح ": لا يحل أكل الهدهد،(4/505)
والخطاف؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهما) ، وذلك يدل على تحريمهما.
ولا يحل أكل ما له مخلب يصطاد به، كالعقاب والصقر والشاهين والباشق؛ لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ويحرم النسر والرخمة؛ لأنهما مستخبثان.
وتحرم الحدأة، والغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية، والفأرة، والغراب الأبقع، والحدأة، والكلب العقور» وما أمر بقتله لا يحل أكله.
وأما الغراب الذي يسمى الغداف: وهو صغير الجسم، لونه كلون الرماد، وغراب الزرع ففيهما وجهان:
أحدهما: لا يحلان؛ لعموم الخبر.(4/506)
والثاني: يحلان؛ لأنهما مستطابان يلتقطان الحب، فهما كالحمام.
ويحرم الذباب، والنحل، والزنبور، وما أشبهها؛ لأنها مستخبثة.
[مسألة: أكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره]
مسألة: [لا يؤكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره] : ولا يحل ما تولد بين حيوان يؤكل وحيوان لا يؤكل، كالسمع المتولد بين الضبع والذئب، سواء كان الذكر مما يحل أو الأنثى تغليبا للتحريم.
وإن نزا فرس على أتان وحشية، أو نزا حمار وحشي على رمكة قال الشافعي: (كان المتولد بينهما حلالا؛ لأنهما مما يحل أكلهما) .
ولو اشتبه ولد حيوان: هل هو متولد من ذكر يحل أم لا يحل؟ قال ابن الصباغ: فالاختيار: أن لا يؤكل، فإن أراد أكله نظر إلى خلقته، فإن كان الذي يحل أكله أولى بخلقته حل. وإن كان الذي لا يحل أكله أولى بخلقته لم يحل.
[مسألة: الذي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم]
] : وما لم يرد فيه تحليل ولا تحريم ينظر فيه: فإن كان مما تستطيبه العرب فهو حلال. وإن كان مما تستخبثه العرب فهو حرام. وإن استطابه قوم واستخبثه آخرون رجع إلى ما عليه الأكثر.
قال الطبري: وإنما يرجع فيه إلى العرب الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من(4/507)
أهل الريف والسعة دون الأجلاف وأهل الضرورة. وإن اتفق في بلاد العجم ما لا يعرفه العرب رجع فيه إلى شبيهه مما يحل ومما لا يحل، فيحكم فيه ما يحكم بشبهه. قال: وإن لم يشبهه شيء ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري: يكون حلالا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (بعث الله نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وأنزل عليه كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو) .
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يحل؛ لأن أصل الحيوان التحريم، إلا ما ورد الشرع بتحليله. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ما لم يرد نص بتحريمه فهو حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية [الأنعام: 145] .
[مسألة: أكل الجلالة]
مسألة: [كراهة أكل الجلالة] : وأما الجلالة - وهي: البهيمة التي أكثر علفها العذرة، من ناقة وبقرة وشاة ودجاجة - فنقل الشيخ أبو حامد: أنه يكره أكل لحمها ولبنها وبيضها ولا يحرم.
وقال القفال: إن لم يتغير لحمها بذلك لم يحرم، وإن تغير لحمها بذلك حتى ظهرت رائحة العذرة فيه لم يحل أكل لحمها ولبنها وبيضها، ولو غسل وطبخ لم يطهر بذلك. واحتج بما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الجلالة، وعن شرب ألبانها حتى تحبس» وبه قال أحمد.(4/508)
ووجه قول الشيخ أبي حامد: أن ما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها فلا يكون غذاؤها إلا بالنجاسة، ولا يؤثر ذلك في إباحة لحمها ولبنها وبيضها، ولأن النجاسة التي تأكلها تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما يتغير اللحم بها، وذلك يقتضي الكراهية لا التحريم، كما لو كان معه لحم طري فتركه حتى أنتن فإنه لا يحرم بذلك، هذا هو المشهور.
وحكى الشاشي وجها آخر: أن اللحم إذا أنتن لم يحل أكله، وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن علفت الجلالة علفا طاهرا حتى زالت رائحة بدنها زالت الكراهة عند الشيخ أبي حامد، والتحريم عند القفال. وليس للوقت الذي تعلف فيه العلف الطاهر حد، وإنما الاعتبار بما يعلم في العادة أن رائحة العذرة قد زالت عن لحمها. قال ابن الصباغ: وقد حده بعض أهل العلم: بأن يعلف البعير والبقرة أربعين يوما علفا طاهرا، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام. وليس ذلك بتقدير، وإنما الاعتبار بما ذكرناه.
[مسألة: حيوان البحر وما يحل منه والضفدع وغيره]
] : وأما حيوان البحر: فيحل منه السمك؛ لما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» .(4/509)
ولا يحل أكل الضفدع لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله) ولو حل أكله لم ينه عن قتله؛ لأنه لا يتوصل إلى أكله إلا بقتله. وقيل: إنه سم.
قال الشيخ أبو حامد: والسرطان مثله لا يحل أكله.
قال القاضي أبو الطيب: وكذلك النسناس لا يحل؛ لأنه على خلقة الآدمي.
وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يحل - وهو قول أبي حنيفة - وتعلق هذا القائل بقول الشافعي: (وما رأيت من الميت شيئا يحل إلا الحوت والجراد) . ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» فخص السمك بذلك.
والثاني: يحل ما أشبه ما كان حلالا في حيوان البر، فأما ما يشبه ما كان حراما في البر، ككلب الماء وخنزيره: فإنه لا يحل، كما نقول فيما أشكل من حيوان البر: إنه يرد إلى ما أشبهه.
والثالث - وهو المنصوص -: (أنه يحل الجميع) ؛ لأن الشافعي سئل عن كلب الماء وخنزيره فقال: (يحل أكله) .
قال القاضي أبو الطيب: وأما قوله: (لا يحل من الميت إلا الحوت والجراد) : فجميع حيوان البحر يسمى حوتا وسمكا، والدليل على تحليل الجميع: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . ولم يفرق.(4/510)
[مسألة: اعتبار الضرر في تحريم غير الحيوان]
وأما غير الحيوان: فلا يحل منه النجس؛ لأنه من الخبائث، ولا يجوز أكل ما يضر من الطاهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] .
ويحل منه ما لا يضر، كالحبوب والفواكه والثمار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات، ولأن ذلك إجماع ولا خلاف فيه.
[مسألة: جواز أكل الميتة للمضطر]
وحكم الدواء النجس] : يجوز للمضطر أكل الميتة والدم والكلب والخنزير وغير ذلك من المحرمات التي لا يتلف بأكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
و (الضرورة التي يباح فيها له أكل ذلك) : هي خوف التلف على نفسه، أو يخاف إن لم يأكلها مرضا مخوفا، أو أن يكون ماشيا فيعجز عن المشي إن لم يأكلها أو يعجز عن الركوب إن كان راكبا وينقطع بذلك عن رفقته، أو يكون به داء لا يذهبه إلا أكل النجس، فأما إذا كان به داء يطول ولكنه غير مخوف كحمى الربع فلا يحل له أن يتناول النجس لأجلها، وإن كان به داء لو لم يتناول الدواء النجس امتد وصار مخوفا فهل له أن يتناول الدواء النجس؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: يحل له، كما لو كان مخوفا.(4/511)
والثاني: لا يحل؛ لأنه في الحال غير مخوف.
إذا ثبت هذا: وأنه يجوز للمضطر أكل الميتة فله أن يأكل منها ما يسد به الرمق، وليس له أن يزيد على الشبع. وهل يجوز له أن يشبع منها؟ فيه قولان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن كل ما جاز له أن يأكل منه ما يسد به الرمق جاز له أن يشبع منه، كالحلال.
والثاني: ليس له ذلك - وبه قال أبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن مالك وأحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] [الأنعام: 119] وبعد سد الرمق هو غير مضطر.
وحكى الطبري: أن من أصحابنا من قال: إن كان في بلد لم يجز له أن يشبع؛ لأنه يرجو وجود طعام طاهر، وإن كان في سفر لا يرجو وجود ميتة أخرى ولا طعام طاهر فله أن يشبع.
[فرع: وجوب سد الرمق للمضطر]
وهل يجب عليه أن يأكل من الميتة ما يسد به الرمق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه، ويأثم إذا لم يأكل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] وفي ترك الأكل تهلكة.(4/512)
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن له غرضا في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، كما يجوز له أن يغمس نفسه في العدو وإن كان يعتقد أنه يقتل.
قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح.
[فرع: بذل ما يفضل عن الحاجة للمضطر]
] : إذا كان مع رجل طعام يفضل عن حاجته، وهناك آخر مضطر إليه على الصفة التي ذكرناها.. وجب على صاحب الطعام بذله للمضطر؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أيما رجل مات جوعا في محلة قوم سألهم الله بدمه يوم القيامة» . ولأنه لو رأى من يغرق في ماء أو نار وهو يقدر على تخليصه، وجب عليه تخليصه، فكذلك هاهنا.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المضطر عوض عن الطعام.. لم يجب على صاحب الطعام بذل طعامه له إلا بدفع العوض من المضطر؛ لأنا إنما أوجبنا على صاحب الطعام بذل طعامه لدفع الضرر عن المضطر، فلا يجوز أن يدفع عنه الضرر، ويلحق(4/513)
الضرر بصاحب الطعام. ويجب على المضطر بذل العوض لصاحب الطعام وجها واحدا، بخلاف النجاسة؛ لأن في النجاسة لا يجب عليه ـ في أحد الوجهين ـ ليتجنب المحرم، فهذا لا يوجد هاهنا. فإن بلغ المضطر إلى حالة لا يمكنه دفع العوض ... وجب على صاحب الطعام بذل طعامه قبل الدفع؛ لأن التأخر عن ذلك يفضي إلى قتل المضطر.
وإن لم يكن مع المضطر مال.. لزمه أن يلتزم العوض بذمته.
وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يلزم صاحب الطعام بذل الطعام له بغير عوض، كما لو رأى من يغرق أو يحترق.. فإنه يلزمه أن يخلصه من غير اشتراط عوض.
دليلنا: أن الذمة تجري مجرى المال؛ لأن التصرف ينفذ فيها، كما ينفذ في المال، ثم ثبت: أنه لو كان معه مال.. لم يلزمه البذل بغير عوض، كذلك الذمة.
وأما تخليص الغريق والمحترق: فإن أمكنه موافقته على أجرته.. لم يلزمه تخليصه إلا بعد أن يبذل شرط العوض، وإن تعذر ذلك.. وجب عليه تخليصه قبل ذلك، وكذلك في الطعام مثله.
فإن امتنع صاحب الطعام من بذله بعوض مثله.. فللمضطر أن يكابره على أخذه ويقاتله على ذلك.. فإن قتله صاحب الطعام.. وجب عليه ضمانه بالقصاص إن كان مكافئا له، أو بالدية إن كان غير مكافئ له. وإن قتله المضطر.. لم يجب عليه ضمانه بقصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنه قتله ليدفع عن نفسه.
وكم القدر الذي يجب على صاحب الطعام بذله، ويجوز للمضطر مكابرته عليه؟ فيه قولان:(4/514)
أحدهما: قدر ما يسد به رمقه.
والثاني: ما يشبع به، كالقولين في الميتة.
فإن طلب صاحب الطعام بطعامه أكثر من عوض المثل ولم يتمكن المضطر من مكابرته على أخذه، أو كان قادرا على ذلك لكنه ترك مكابرته تجنبا لإراقة الدم، فإن أمكنه أن يخادعه ويشتريه منه بشرط باطل.. كان له ذلك، ولا يلزمه إلا قدر قيمته، وإن لم يمكنه ذلك فاشتراه بأكثر من عوض المثل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ما عقد به؛ لأن العقد خلا مما يفسده.
والثاني: لا يلزمه إلا قدر قيمته؛ لأنه كالمكره على ذلك.
وإن بذل له الطعام فأكله، ثم اختلفا.. فقال صاحب الطعام: بذلته بعوض، وقال المضطر: بل بذلته بغير عوض.. ففيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: القول قول المضطر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته منه.
والثاني: القول قول صاحب الطعام مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه ما يرضى بخروج ملكه من يده إلا بعوض.
وإن كان صاحب الطعام مضطرا إلى طعامه.. لم يجب عليه بذله لمضطر آخر إلا أن يكون المضطر الآخر نبيا.. فيجب على صاحب الطعام إيثاره على نفسه؛ لأنه يجب على الإنسان أن يقي نفس النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنفسه.
[فرع: امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو المرض]
فرع: [امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو زيادة المرض] :
قال الشافعي في ذبائح بني إسرائيل: (وإذا اضطر ووجد من يطعمه ويسقيه.. فليس له الامتناع إلا في حالة واحدة، وهو أن يخاف إن أطعمه أو سقاه أن يسمه.. فله(4/515)
تركه وأكل الميتة، وإن كان مريضا ووجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه.. كان له تركه وأكل الميتة) .
[فرع: وجود طعام الغير والميتة]
وإن وجد المضطر الميتة وطعام الغير، فإن كان رب الطعام حاضرا فبذله له أو باعه بثمن المثل إما حالا أو مؤجلا.. لم يجز له أكل الميتة؛ لأنه غير مضطر إليها. وإن لم يبذله له، أو بذله بأكثر من ثمن المثل.. نظرت: فإن كان يخاف التلف من مكابرة صاحب الطعام، بأن كان قويا لا يأمن أن يقتله.. عدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف التلف لكون صاحب الطعام ضعيف البنية، أو كان صاحب الطعام غائبا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعدل إلى الميتة، ولا يجوز أكل مال الغير ـ وبه قال أحمد ـ لأن إباحة الميتة منصوص عليها في القرآن، وأكل مال الغير بغير اختياره مجتهد فيه، فكان تقديم الميتة أولى.
والثاني: يأكل طعام الغير؛ لأنه طاهر، فكان تقديمه أولى.
وهل له أن يشبع من مال الغير؟ فيه طريقان، حكاهما في " العدة ":
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالميتة.
و [الثاني] : منهم من قال: ليس له أن يشبع من مال الغير قولا واحدا؛ لأن المنع من أكل مال الغير لحق الآدمي، وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق.
[فرع: وجود الميتة ومال الغير والصيد للمحرم]
وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا وهو محرم.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه إذا ذبح الصيد صار ميتة.. أكل(4/516)
الميتة وترك الصيد. لأنه يلزمه الجزاء. وإن قلنا: لا يصير ميتة.. أكل الصيد؛ لأنه طاهر.
و [الثاني] : منهم من قال: إذا قلنا: إنه يصير ميتة ... أكل الميتة. وإن قلنا: لا يكون ميتة.. ففيه قولان.
وإن وجد المحرم ميتة ولحم صيد، فإن كان ذبحه محل ... فهو ملك له، فيكون على الوجهين فيمن وجد الميتة وطعام الغير وإن كان ذبحه هو قبل إحرامه، فهو طعامه يأكله ويدع الميتة. وإن كان ذبحه هو بعد إحرامه أو ذبحه محرم غيره، فإن قلنا: إنه لا يصير ميتة
فالصيد أولى؛ لأنه طاهر. وإن قلنا: إنه يصير ميتة فوجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: هو بالخيار: بين أن يأكل الميتة، وبين أن يأكل من لحم الصيد؛ لأن كل واحد منهما ميتة.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: أكل الميتة أولى؛ لأنه قد قيل: إن في أكل هذا اللحم الجزاء.
وإن وجد ملك الغير وصيدا وهو محرم.. فذكر الطبري في " العدة ": إن قلنا: إن الصيد يصير بالذبح ميتة.. تناول ملك الغير، وإن قلنا: لا يصير ميتة.... ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يتناول مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة.
والثاني: أن تناول الصيد أولى؛ لأن المنع منه لحق الله تعالى، وحقوق الله تعالى تقبل المسامحة.
والثالث: أنهما سواء.
وإن وجد الميتة والصيد وطعام الغير، فإن قلنا: يصير الصيد ميتة.. فمال الغير مع الميتة أولى من الصيد، وأيهما أولى؟ فيه وجهان مضى تعليلهما. وإن قلنا: لا يصير الصيد ميتة.. ففيه قولان:
أحدهما: الميتة أولى من الصيد ومال الغير.(4/517)
والثاني: هما أولى من الميتة، وأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد مضى ذكرها.
[فرع: أكل الآدمي أو عضو منه للمضطر]
وإن لم يجد المضطر إلا آدميا محقون الدم: من مسلم أو ذمي أو حربي له أمان.. لم يجز له أن يقتله ليأكله؛ لأنه مثله. فإن كان حربيا لا أمان له، أو مرتدا، أو من وجب قتله بالزنا.. جاز له قتله ليأكله. وإن وجد آدميا ميتا.. جاز له أكله.
قال ابن داود: أباح الشافعي أكل لحم الآدمي! فنعارضه: بأنك لم تجعل للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذا اضطر أن يأكل لحم ميت، بل تتركه حتى يموت؟
وقال أحمد: (لا يأكله) .
دليلنا: أن حرمة الحي آكد من حرمة من وجب قتله، أو من الميت، ولأنه لا خلاف: أن قوما لو كانوا في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت.. جاز لهم طرحه في البحر؛ لتخف السفينة، فكذلك هاهنا.
فإن لم يجد المضطر شيئا يسد به رمقه.. فهل يجوز له أن يقطع عضوا من بدنه ليأكله؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له ذلك؛ لأنه يجوز له حفظ نفسه بقطع بعضه، كما إذا وقعت به أكلة، فكذلك هاهنا مثله.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الخوف عليه من ذلك أكثر.(4/518)
[فرع: شرب المحرم للضرورة]
وإن وجد خمرا وبولا وهو خائف على نفسه من العطش.. فإنه يشرب البول دون الخمر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر العرنيين أن يشربوا أبوال الإبل» .
وإن لم يجد غير الخمر واحتاج إليها للعطش أو للتداوي.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يجوز شربها بحال؛ لأنها مما يجب الحد بشربها، بخلاف الميتة.
والثاني: يجوز شربها؛ لأنه مضطر إلى شربها. فهو كالمكره.
والثالث: يجوز شربها للعطش؛ لأنها تروي في الحال، ولا يجوز شربها للتداوي؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
والرابع: لا يجوز شربها للعطش؛ لأنه يزداد إلهابا، ويجوز التداوي بشرب اليسير منه.
[مسألة: الأكل من ثمر الغير للاضطرار]
وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر إليه.. لم يجز له أن يأخذ منه شيئا بغير إذنه.
وقال أحمد: (إذا مر ببستان غير محوط وفيه ثمرة رطبة.. جاز له أن يأكل منها(4/519)
في إحدى الروايتين ـ لما روى أبو سعيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أتيت على حائط بستان.. فناد صاحبه ثلاثا، فإن أجابك وإلا.. فكل من غير أن تفسد» .
ودليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» فإن صح ما رواه أحمد.. حملناه على المضطر، بدليل ما رويناه.
[فرع: ضيافة المسلم]
] : وإن استضاف مسلم مسلما، فإن لم يكن به ضرورة.. لم يجب عليه ضيافته، وإنما يستحب.
وقال أحمد: (ضيافة المسلمين واجبة لبعضهم على بعض) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ليلة الضيافة واجبة على كل مسلم» .(4/520)
دليلنا: أنه غير مضطر إلى طعامه، فلم يجب عليه بذله، كما لو لم يأت إليه، والخبر محمول على الاستحباب، كقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «غسل الجمعة واجب» .
[مسألة: كسب الحجام]
مسألة: [حل كسب الحجام] :
ولا يحرم كسب الحجام على الحر ولا على العبد.
وحكي عن بعض أصحاب الحديث: أنه قال: هو حلال للعبد، وحرام على الحر.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ احتجم وأعطى الحجام أجره» .
قال ابن عباس: (ولو كان حراما.. ما أعطاه) .
إذا ثبت هذا: فإنه يكره للحر أن يكتسب بالحجامة.
قال الشاشي: واختلف أصحابنا في علة كراهته، فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة.
فعلى هذا: يكره كسب الكناس والزبال والقصاب. وفي الفصاد وجهان:
أحدهما: أنه من جملتهم.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يكره لاقترانه بالطب.
وأما كسب الختان: فمكروه، كالحجام.
والثاني: أن كراهة الحجامة لدناءتها، وهو ظاهر مذهب الشافعي. فعلى هذا: يكره كسب الدباغ والقمام، وفي كسب الحمامي وجهان، وفي كراهة ذلك للعبد وجهان، الصحيح: لا يكره؛ لأنه دنيء. قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يسعى(4/521)
بذمتهم أدناهم» وأراد به العبد.
واختلفوا في أطيب المكاسب:
فمنهم من قال: الزراعة.
ومنهم من قال: الصناعة.
ومنهم من قال: التجارة، وقال الشاشي: وهو أظهرها، على مذهب الشافعي.
وبالله التوفيق.(4/522)
[باب الصيد والذبائح]
. الحيوان على ضربين: ضرب: لا تعتبر في إباحته الذكاة. وضرب: تعتبر في إباحته الذكاة.
فأما ما لا يعتبر فيه الذكاة: كالسمك والجراد. فأما السمك: فكل ما قلنا يحل من دواب البحر.. فيحل أكل كل ما مات منه، سواء مات بسبب أو بغير سبب، مثل: أن ضربه إنسان أو حبس عنه الماء حتى مات، أو مات بحر الماء أو ببرده، أو مات حتف أنفه. هذا قولنا، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن مات بسبب: إما بضرب أو بحبس الماء عنه.. حل أكله ـ وإن مات ببرد الماء أو بحره.. فهل يحل؛ له فيه روايتان ـ وإن مات حتف أنفه.. لم يحل) . وهذه المسألة هي المشهورة بالسمك الطافي.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] [المائدة:96] .
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صيده: ما صدناه بأيدينا، وطعامه: ما مات فيه) وهكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب.. حل أكله إذا مات حتف أنفه، كالجراد.(4/523)
[مسألة: لا يضر صيد المجوسي وغيره للسمك]
قال الشافعي: (وسواء أخذ السمك مجوسي أو وثني) ؛ لأنه لا ذكاة له، فيحل الجميع؛ لما روي عن الحسن البصري: أنه قال: (رأيت سبعين رجلا من الصحابة، كلهم يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك) .
ولأنه لا تعتبر فيه الذكاة، فلا تعتبر فيه صفة من يأخذه.
[فرع: أكل ما قطع من السمكة وهي حية]
فرع: [ما قطع من السمكة وهي حية] :
فإن أخذ بيده سمكة فانقطع في يده منها قطعة، وانفلت الباقي منها حيا ... فهل تحل له تلك القطعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أبين من حي.. فهو ميت» .
والثاني: تحل، وهو المنصوص؛ لأن أكثر ما فيه: أن تلك القطعة ميتة، ولو مات جميع السمكة.. كانت حلالا. فإن قيل: لو رمى صيدا فأبان بعضه وامتنع الباقي.. لم تحل تلك القطعة؟ فالجواب: أن الصيد غير الحوت، إذ لو مات حتف أنفه.. لم يحل أكله، فلذلك لا يحل ما أبين منه، بخلاف السمكة.
[فرع: وجود سمكة ببطن أخرى وحكم القلي والروث والدم]
] : وإن أخذ سمكة فوجد في جوفها سمكة أخرى ميتة.. قال في " الأم " 2/198] : (حل أكلهما معا؛ لأن أكثر ما فيها: أن يكون قتلها غير الآدمي، وهي لو ماتت حتف أنفها.. حل أكلها، فبأن تحل إذا كان موتها بسبب أولى) .(4/524)
وإن ابتلع رجل السمك الصغار حيا قبل أن يموت.. فوجهان:
[أحدهما] : قال ابن القاص: يحل؛ لأن قتله بغير الذكاة جائز، وفي ابتلاعه قتله.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يحل؛ لأنه يعذبه بذلك، وقد: «نهى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن تعذيب الحيوان» ، قال: وهكذا لا يحل أن يقلي السمك قبل موته، أن يأخذه وهو يضطرب فيطرحه في الزيت المغلي؛ لأنه تعذيب.
قال الشيخ أبو حامد: وأما السمك الهازي: وهو السمك الصغار، الذي يقلى ببغداد ولا يخرج ما في جوفه من الرجيع.. فلا يحل أكله ورجيعه فيه؛ لأن رجيعه نجس، فلا يحل أكله.
فعند الشيخ أبي حامد: روث السمك نجس وجها واحدا، وفي دمه وجهان.
وأما صاحب " الإبانة ": فقال: في روث السمك وجهان، كدمه، أصحهما: أنه ليس بنجس.
فعلى هذا: يحل أكله قبل أن يخرج.
[مسألة: حل ميت الجراد]
وأما الجراد: فيحل من غير ذكاة سواء مات بسبب منه أو بغير سبب منه، وبه قال أبو حنيفة.(4/525)
وقال مالك والأوزاعي: (لا يحل إلا إذا مات بسبب منه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد، واعتبر مالك في ذكاتها: قطف رأسها.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» ولم يفرق. ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب منه، حل أكله وإن كان بغير سبب منه، كالسمك.
[مسألة: ذكاة غير السمك والجراد]
ومن هم أهل الذكاة] . وأما غير السمك والجراد من الحيوان، كالأنعام والخيل والصيد.. فلا يحل إلا بذكاة، فإن مات شيء منه حتف أنفه.. لم يحل، وكذلك الطيور التي تعيش تارة في البر، وتارة في البحر، وهي: البط والإوز فلا تحل إلا بذكاة، سواء ماتت في البحر أو في البر: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهذه ميتة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي في " الأم " [2/206] : (وأحب أن يكون من يلي الذبح رجلا مسلما بالغا فقيها؛ لأنه أعرف بمحل الذكاة، وبما يذكي به، وبكيفية الذكاة) فإن ذبح مرتد أو وثني أو مجوسي.. لم يحل أكل ما ذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] وأراد به الذبائح، وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب.
وإن ذبح يهودي أو نصراني من العجم.. حل أكل ذبيحته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأراد به الذبائح. ولأن لهم حرمة بفضل كتابهم وشرفه، فحلت ذبائحهم.
ولا تحل ذبيحة نصارى العرب، وهم: تنوخ، وبهراء، وبنو وائل. وهو قول عمر وعلي.
وقال أبو حنيفة: (يحل لنا أكل ذبائحهم) .
دليلنا: أنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخلوا في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل؟ فلما أشكل أمرهم.. حرمت ذبائحهم، كالمجوس.(4/526)
[فرع: ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم]
فرع: [حل ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم] :
قال الشافعي [" الأم " 2/205] : (وذبح [كل] من أطاق الذبح من امرأة حائض أو صبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني) .
وهذا كما قال: الأولى أن يكون الذابح رجلا بالغا: لأنه أقوى على الذبح، فإن ذبحت امرأة.. جاز؛ لما روى علقمة، عن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أكل ذبيحة امرأة» .
وروى نافع، عن ابن عمر: «أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنما لهم، فرأت شاة موتى، فأخذت حجرا فكسرته، وذبحتها به، فذكر ذلك لرسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فقال تؤكل» . ومن هذا الخبر خمس فوائد:(4/527)
إحداهن: أن ذكاة النساء جائزة.
الثانية: لا فرق بين أن تكون حائضا أو طاهرا، حاملا أو حائلا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يستفصل. .
الثالثة: جواز الذبح بالمروة.
الرابعة: أن من ذبح شاة غيره بغير إذنه.. وقعت الذكاة موقعها.
الخامسة: أن الشاة إذا خيف موتها وفيها حياة مستقرة، فذكيت.. حلت.
ويحل أكل ما ذكاه الصبي سواء كان مراهقا أو غير مراهق؛ لما روي عن جابر وابن عباس: أنهما قالا: (تؤكل ذبيحة الصبي) ، ولا مخالف لهما.
وأما المجنون والسكران: فتكره ذكاتهما؛ لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة، فإن ذكيا.. حل أكل ذبيحتيهما؛ لأن القصد غير معتبر في الذكاة، كما لو قطع شيئا يظنه خشبة فكان حلق شاة، هذا هو المشهور.
وقال القاضي أبو حامد: في ذبيحة الصبي والمجنون قولان، أظهرهما: أنها تحل. قال: وكذلك السكران إذا أسقطنا حكم طلاقه.
إذا تقرر هذا: فإن المرأة أولى بالذكاة بعد الرجال البالغين من الصبي؛ لأنها مكلفة، ثم الصبي أولى من اليهودي والنصراني لأنه مسلم، ثم اليهودي والنصراني(4/528)
أولى من السكران والمجنون؛ لأنه يخاف منهما قتل الحيوان.
وتكره ذكاة الأعمى؛ لأنه لا يؤمن أن يخطئ المذبح، فإن ذبح.. جاز؛ لأنه لم يفقد غير النظر، وذلك لا يوجب التحريم.
وتحل ذكاة الأخرس؛ لأنه لم يفقد أكثر من نطقه، وذلك لا يوجب التحريم.
[مسألة: ما يستحب في المدية وحكم غيرها]
] . المستحب: أن يذبح بسكين حاد لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا ذبحتم.. فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» .
إذا ثبت هذا: فيجوز الذبح بكل محدد يتأتى الذبح به: من حديد أو صفر أو خشب أو ليطة. وهي: قشر القصب ـ أو مروة، وهي: الحجارة الحادة.
ولا يجوز الذبح بالسن والظفر سواء كانا متصلين أو منفصلين.
وقال أبو حنيفة: (لا تجوز الذكاة بهما، لكنه إن خالف وذكى بهما، فإن كانا متصلين.. لم تحصل بهما الذكاة، وإن كانا منفصلين.. حل أكله) .
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه، إلا ما كان من سن أو ظفر، وسأخبركم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة» . ولأنه ذبح بعظم فوجب أن لا يبيح كما لو كان متصلا.(4/529)
[مسألة: ما ينحر ويذبح وموضع الذبح وما يقطع منه]
] : السنة عندنا: أن تنحر الإبل، وأن تذبح البقر والغنم، هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يتخير في البقر: بين النحر والذبح والأول أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] .
وقال تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] [البقرة: 67] .
قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعث في قوم مواشيهم الإبل، فسن لهم النحر.. وكانت مواشي بني إسرائيل البقر، فسن لهم الذبح.
إذا ثبت هذا: فأراد أن ينحر الإبل.. فالسنة أن ينحرها معقولة وهي قائمة؛ لما روي: «أن ابن عمر رأى رجلا أضجع بدنة، فقال: قياما سنة أبي القاسم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» ثم(4/530)
يأخذ حربة أو سكينا فيغرزها في ثغرة النحر، وهي: الوهدة التي تكون في أعلى الصدر، وأصل العنق.
وإذا أراد أن يذبح البقر والغنم.. فالسنة أن يضجعها لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما، ووضع رجله على صفاحهما» .
وإذا ثبت هذا ـ في الغنم ـ: فالبقرة مثلها: لأنها لما كانت السنة فيها الذبح كالغنم.. كان السنة فيها الإضجاع كالغنم، فإن خالف ونحر البقر والغنم.. أجزأه بلا خلاف؛ لما روى جابر: أنه قال: «أحصرنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .
وإن ذبح الإبل.. جاز، وحل أكلها.
وقال مالك: (لا يحل أكلها) .
دليلنا: أن كل ما كان ذكاة للبقر والغنم.. كان ذكاة للإبل، كالنحر.
وأما موضع الذبح: فهو أسفل مجامع اللحيين وهو آخر العنق، والكمال فيه: أن يقطع أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجين.
فـ (الحلقوم) : مجرى النفس والتنفس من الرئة، و (المريء) : تحت الحلقوم وهو مجرى الطعام والشراب، و (الودجان) ـ قال الشيخ أبو حامد ـ: هما عرقان محيطان بالحلقوم، قال: وكنا نذكر قبل هذا: أنهما محيطان بالمريء، ورأيت أكثر الناس يقولون: هما محيطان بالحلقوم، وأيهما كان.. فقطعهما شرط في الكمال.
وأما الإجزاء: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب.
فمذهبنا: أن الإجزاء يحصل بقطع الحلقوم والمريء لا غير.
وقال مالك: (قطع الأربعة شرط في الإجزاء) .
وقال أبو حنيفة: (قطع أكثر الأربعة شرط في الإجزاء) ، فمن أصحابه من قال: مذهبه: أن قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة شرط في الإجزاء وهو الظاهر، وقال أبو يوسف: قطع أكثر الأربعة عددا شرط في الإجزاء.(4/531)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
و (الذكاة) ـ في اللغة ـ: هي الشق والفتح، فإذا قطع الحلقوم والمريء.. فقد شق وفتح. ولأن الودجين قد يسيلان من الحيوان وتبقى الحياة فيه، فلم يكن قطعهما شرطا في الإجزاء كاليد والرجل، بخلاف الحلقوم والمريء. ولأن القصد من الذكاة إخراج الروح من غير تعذيب، وهذا يحصل بقطع الحلقوم والمريء فأجزأه، كقطع الأربعة.
ويكره أن يبادر إلى تقطيع الذبيحة أو سلخها قبل خروج روحها وسكونها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، فإن الجاهلية كانت تضرب الذبيحة عقيب الذبح بالعصا حتى تخرج روحها) ، و: (نهى عمر عن النخع) . فمعنى قوله: (الأنفس) يعني: الروح، ومعنى: (حتى تزهق) : أي قبل أن يتسارع خروج روحها، يقال: زهقت نفسه إذا خرجت، وزهق فلان بين يدي القوم: إذا أسرع مبادرا. ولأن في ذلك تعذيب الحيوان، فإن خالف وفعل.. حل أكلها؛ لأن الذكاة قد حصلت. وأما نهيه عن النخع: فقال الشافعي: (هو كسر العنق بعد الذبح) . وقال أبو عبيدة: (النخع والفرس) : واحد، وهو أن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ بالذبح بعد قطع الحلقوم والمريء والودجين إلى النخاع، وهو العرق الأبيض في جوف فقر الظهر، وهو: من عجب الذنب إلى الدماغ.
قال أبو عبيد: أما (النخع) : فكما قال أبو عبيدة، وأما (الفرس) : فهو الكسر(4/532)
يقال: فرست الشيء إذا كسرته، ومنه فريسة الأسد لما دقه وكسره.
فإن كسر عنقه بعد الذبح.. كره؛ لنهي عمر، ولم يؤثر في إباحة اللحم؛ لأن ذلك يحصل بعد الذكاة.
[فرع: ما يسن حال الذبح]
ويستحب أن يستقبل القبلة بالذبيحة، ويسمي الله تعالى، ويصلي على النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وقد مضى الكلام على ذلك في الأضحية.
[فرع: ذبح الحيوان من القفا]
وإن ذبح الحيوان من قفاه.. نظرت: فإن كانت فيه حياة مستقرة بعد قطع الرقبة وقبل قطع الحلقوم والمريء.. حل أكله. وإن لم تكن فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما يعرف هذا بالحركة، فان كانت الحركة قوية قبل قطع الحلقوم والمريء والودجين.. حل أكلها. وإن لم تكن هناك حركة.. لم يحل أكلها.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأنه قد وجد فعلان: أحدهما: تتعلق به الإباحة، والآخر: يتعلق به الحظر، فإذا لم نعلم بقاء الحياة المستقرة بالحركة.. حكمنا بالحظر.
وعلل أبو إسحاق بأن الظاهر أن الحيوان إذا قطعت رقبته من قفاه: أنه لا تبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، فإذا كان هذا هو العادة.. علم أنه ما كان بقي فيها حياة مستقرة إذا لم تكن هناك حركة، وأما إذا كانت هناك حركة.. حل أكلها.
وقال مالك وأحمد: (لا يحل أكلها) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه» . ولأنها ذكاة حصلت وفيه حياة مستقرة فأباحت، كما لو قطع رجلها ثم ذبحها.(4/533)
[فرع: جرح الحيوان ثم ذبحه]
] : وإن جرح السبع أو الآدمي الشاة فذبحت.. ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا جرحها جراحا قد تموت منه وقد لا تموت منه، فأدركها وفيها حياة مستقرة فذبحها.. حل أكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
ولأن فيها حياة مستقرة فحل أكلها، كما لو لم يكن فيها جراحة.
الثانية: إذا جرحها جرحا تموت منه لا محالة، ولكن فيها حياة مستقرة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: والحياة المستقرة في هذه المسألة عما يجوز أن تبقى اليوم أو اليومين، ويجوز أن لا تبقى، مثل: أن يشق جوفها وظهرت الأمعاء ولم تنفصل، فإذا أدركها وذكاها.. حل أكلها؛ لحديث الجارية التي كسرت حجرا وذبحت بها شاة، فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بأكلها.
الثالثة: إذا جرحها جرحا لا تبقى معه حياة مستقرة، مثل: أن يشق جوفها، وأبان حشوتها فذبحها.. لم يحل. وهكذا البهيمة إذا كانت مريضة قد أشرفت على الموت لا تحل بالذكاة.
وحكى صاحب " الفروع " عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: ما دامت البهيمة تضرب بذنبها وتفتح عينيها.. فإنها تحل بالذكاة. وليس بشيء؛ لأن الحياة فيها غير مستقرة، وإنما حركتها حركة مذبوح.
وقد نقل المزني المسألة الثانية، وأفتى فيها بجواب الثالثة، ثم قال: وله قول آخر: (أنها تؤكل) فأومأ إلى قولين. وليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين على ما بيناه.(4/534)
[مسألة: الاصطياد بالسباع]
يجوز الاصطياد بسباع البهائم التي يمكن أن تعلم الاصطياد: كالكلب والفهد والنمر، وسباع الطير: كالصقر والبازي والباشق والعقاب. وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة.
وقال ابن عمر ومجاهد: (لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب) .
وقال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق: (يجوز الاصطياد بجميع ذلك إلا بالكلب الأسود، فإنه لا يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] .
فمعنى قوله: الْجَوَارِحِ أي: الكواسب. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] [الجاثية: 21] أي: اكتسبوا السيئات.
وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم. ويقال هو جارحة أهله، أي: كاسب أهله، وإذا كانت الجوارح الكواسب.. فلم يفصل بين كاسب دون كاسب.
وأما قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالكلاب تقع على سباع البهائم كلها؛ لما روي «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك يفترسه» فافترسه الأسد. ويجوز أن يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] مأخوذا من التكليب:(4/535)
وهو تعليم الجارحة للصيد، يقال: فلان يكلب على فلان، أي: يغري عليه.
ومن السنة ما روي «عن عدي بن حاتم: أنه قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن صيد البازي، فقال: " كل مما أمسك عليك» . وروى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ(4/536)
قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: وإن قتل، قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» .
[مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة]
وإن أرسل جارحة غير معلمة على صيد فجرحه، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن أدركه وليس فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم، فإن أدركت ذكاته.. فذكه وكل» .
وإن استرسل المعلم بنفسه وجرح صيدا، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن لم يدرك فيه حياة مستقرة.. لم يحل: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وهذا ما أمسك علينا، وإنما أمسك على نفسه.
وإن أرسل من يحل الحيوان بذكاته جارحة معلمة، فقتل الصيد بظفره أو نابه أو منقاره ولم يأكل منه.. حل أكله، لما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك وإن قتل ولم يأكل منه.. فإنما أمسكه عليك» .(4/537)
[فرع: شروط الجارحة المعلمة]
] . ولا تكون الجارحة معلمة حتى يكون فيها ثلاثة شرائط:
قال الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) أي: إذا أرسله.. استرسل في طلب الصيد، وإذا زجره.. انزجر، وإذا أمسك الصيد.. لم يأكل منه وخلى بينه وبينه، فإذا كرر منه ذلك.. صار معلما، وحل ما قتله.
قال أصحابنا: وليس لتكرر ذلك عدد محصور، وإنما الاعتبار بعرف الناس وعادتهم.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (إذا تكرر منه ذلك مرتين.. صار معلما) .
وقال أبو يوسف ومحمد: (إذا تكرر ذلك منه ثلاثا.. صار معلما) .
دليلنا: أن الشرع ورد بذلك مطلقا، فوجب أن يرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض والتفرق في البيع، وليس في العرف: أن بالمرتين والثلاث يصير معلما؛ لأنه قد يترك الأكل؛ لأنه غير محتاج إليه، وقد يأكل لفرط الجوع، فلا يعلم ذلك حتى يكثر منه.
إذا تقرر هذا: فاعترض ابن داود على قول الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) فقال: يقال: أشلاه إذا دعاه، وأغراه: إذا أرسله. ولهذا قال الشاعر:
أشليت عنزي ومسحت قعبي
فالجواب: أن من أصحابنا من قال: " إن الشافعي من أهل اللغة؛ لأنه ولد فيها(4/538)
ونشأ. قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين " على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. فإذا كان الأصمعي على جلالته يأخذ عنه اللغة.. ثبت أنه أصل في اللغة فيكون أشلى من الأضداد، يعبر به عن الإغراء وعن الاستدعاء.
ومنهم من قال: الإشلاء عبارة عن الاستدعاء، فكأنه يستدعيه، ثم يرسله، فعبر بالإشلاء عن الإرسال؛ لأنه إليه يؤول؛ لأن العرب تعبر عن الشيء بما يؤول إليه.
قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فعبر بالخمر عن العنب؛ لأنه يؤول إليه.
[فرع: التسمية عند إرسال الجارحة]
إذا أرسل جارحة على صيد.. فالمستحب له: أن يسمي الله تعالى؛ لما ذكرناه في الخبر، فإن ترك التسمية.. جاز. وقد مضى ذكر الخلاف في التسمية على الذبح في الأضحية، وهكذا الخلاف في ترك التسمية عند إرسال الجارحة.
[فرع: إرسال الجارحة ممن لا تحل ذكاته]
وصور أخرى] : وإن أرسل من لا تحل ذكاته: من وثني أو مرتد أو مجوسي جارحة معلمة، فقتل الصيد.. لم يحل أكله، سواء كانت الجارحة علمها مسلم أو مجوسي. هذا هو المشهور من المذهب. وحكى الطبري وجها آخر: أنه يحل أكل ما قتلته الجارحة التي أرسلها المجوسي وليس بشيء؛ لأن الجارحة آلة، و (المرسل) : هو المذكي، فلم يحل ما قتله كما لو ذبحه بيده.
وإن أرسل المسلم جارحة علمها المجوسي فقتل صيدا.. حل أكله. وبه قال عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه قال: لا يحل.(4/539)
دليلنا: أن المذكي هو المرسل وهو مسلم، فحل، كما لو أخذ سكينا من مجوسي وذبح بها شاة.
وإن أرسل المسلم كلبه المعلم، وأرسل المجوسي كلبه واتفقا على صيد فقتلاه.. لم يحل أكله؛ لأنه اجتمع فيه ما يقتضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر، كالمتولد بين الضبع والذئب. وإن أرسل كل واحد كلبه فرد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم وقتله كلب المسلم.. حل أكله. وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أن كلب المسلم انفرد بقتله، فلا يؤثر معاونة كلب المجوسي، كما لو رمى المجوسي صيدا فرد به الصيد وأصابه سهم المسلم فقتله.
[فرع: استرسال الكلب المعلم بنفسه]
وصور أخرى] : إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه فزجره صاحبه فانزجر، ثم أشلاه على الصيد - أي: أغراه به ـ فاستشلى وأخذ الصيد وقتله.. حل أكله؛ لأنه قطع استرساله بوقوفه ثم استأنف استرسالا بالإشلاء. فإن لم ينزجر، بل ذهب وصاد وقتل.. لم يحل لأنه صاد باختياره. وإن لم يزجره، ولكن لما استرسل بنفسه أشلاه على الصيد.. نظرت: فإن لم يزدد نشاطا بالإشلاء.. لم يحل ما قتله، وإن ازداد نشاطا وعدوا بالإشلاء، ثم ذهب فقتل صيدا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل؛ لأنه لما ازداد نشاطا.. علم أنه قد قطع الأول، واستأنف قصدا آخر بالإشلاء فحل ما قتله، كما لو وقف وقفة ثم أشلاه. ولأن فعل البهيمة وفعل الآدمي إذا اجتمعا.. سقط فعل البهيمة وكان الفعل للآدمي، بدليل: أنه لو رأى كلبا يقصد إنسانا، فأغراه به فازداد نشاطا، ثم جنى على الإنسان.. كان الضمان على من أغراه وأضراه.
والوجه الثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يحل؛ لأن(4/540)
الاسترسال كان باختيار الكلب، وشدة العدو يجوز أن يكون لنشاط حدث له، ويجوز أن يكون اتباعا لاختيار صاحبه، فكان بناؤه على الأول أولى به؛ لأنه لم يفارق اختيار نفسه، ولأنه قد اجتمع أمران: أحدهما: ما يوجب الحظر. والثاني: ما يوجب الإباحة، فغلب ما يوجب الحظر، كما لو أرسله مسلم ومجوسي وقتل الصيد. ويفارق إذا وقف، ثم أشلاه فاسترسل؛ لأن هناك قد قطع اختيار نفسه وهاهنا لم يقطع.
وأما قول الأول: إذا طلب الكلب إنسانا، ثم أضراه آخر وجنى عليه.. وجب الضمان على الذي أغراه.. فغير مسلم.
وإن أرسل المسلم كلبا على صيد فزجره مجوسي فانزجر، ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد.. لم يحل ما قتله؛ لأنه قد قطع الاسترسال الأول بوقوفه. وإن لم يزجره المجوسي، بل أشلاه على الصيد، فإن لم يزدد نشاطا في عدوه.. لم يؤثر إشلاء المجوسي، وإن ازداد نشاطا بإشلاء المجوسي، ثم ذهب فقتل الصيد.. فوجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه يحل اعتبارا بفعله الأول، ولم يوجد ما يقطعه.
والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب، وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه لا يحل؟ لأنه قد شاركه المجوسي في الإرسال، فلم يحل ما قتله، كما لو أرسلاه معا.
وهكذا لو أرسل المجوسي كلبا، فإن زجره المسلم فانزجر ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد ... حل ما قتله، وإن لم يزجره ولكن أشلاه فازداد في عدوه وقتل الصيد.. فهل يحل ما قتله؟ على الوجهين.
[فرع: إرسال المجنون والصبي والأعمى للكلب]
وإن أرسل المجنون أو الصبي كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد، أو رماه فقتله.. فالمشهور: أنه يحل أكله، كما لو ذبح شاة.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لا يحل؛ لأنه لا قصد له. وليس(4/541)
بشيء؛ لأن القصد غير معتبر بالذكاة، بدليل: أنه لو قطع شيئا ظنه خشبة، فبان حلق شاة.. حل أكلها.
وإن أرسل الأعمى كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد.. فوجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: لا يحل. ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه لا يرى الصيد فأشبه إذا استرسل الكلب بنفسه وقتل الصيد.
والثاني: يحل؛ لأنه من أهل الذكاة، فحل قتل ما أرسله، كما لو ذبح شاة بيده.
[فرع: حل ما قتله الجارح بنابه وغيره]
] : قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد بنابه، أو ظفره، أو مخلبه.. فإنه يحل أكله، فأما إذا قتله بشدة صدمته أو بثقله.. فهل يحل أكله؟ فيه قولان:
أحدهما: يحل ـ وهو رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله.
والثاني: لا يحل ـ وهي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ـ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه.. فكل» وهذا لم ينهر الدم، فوجب أن لا يحل، وأما إذا كد الجارحة الصيد حتى أتعبه فمات من التعب.. لم يحل أكله قولا واحدا؛ لأنه مات من غير عقر ولا فعل أوقعه فيه.
[فرع: أكل الجارحة من الصيد أو احتساء دمه]
قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد ولم يأكل منه شيئا.. فإنه يحل.
فأما إذا كل منه شيئا، فإن كانت الجارحة من سباع البهائم، كالكلب والفهد والنمر.. نظرت: فإن قتل الصيد، ثم مضى عن الصيد، ثم رجع إليه وأكل منه.. لم يحرم أكله قولا واحدا. وإن أكل منه عقيب قتله.. ففيه قولان:
أحدهما: يحل أكله ـ وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان(4/542)
الفارسي، وهو قول مالك - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يفصل: بين أن يأكل منه، أو لا يأكل منه. وروى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه.. فكل وإن كان أكل منه» . ولأن كل عقر كان ذكاة إذا لم يتعقبه أكل.. كان ذكاة وإن تعقبه أكل، كما لو قتله وتركه، ثم عاد وأكل منه.
والقول الثاني: لا يحل أكله - وبه قال أبو هريرة وابن عباس، ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي والنخعي، ومن الفقهاء: أحمد ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وإذا أكل منه.. فلم يمسكه علينا، وإنما أمسكه على نفسه. ولما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: فإن قتل؟ قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» ، فدل على: أنه إذا أكل منه فقد أمسكه على نفسه. وفي رواية الشعبي، «عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقلت: أرسل كلبي؟ فقال: " إذا سميت.. فكل، وإلا.. فلا تأكل وإن أكل منه.. فلا تأكل منه: فإنما أمسكه على نفسه.» ولأن كل ما كان شرطا في استباحة أكل الصيد في الابتداء.. كان شرطا في الاستدامة، كالإرسال.
إذا ثبت هذا: فإن ما قتله قبل الصيد الذي أكل منه لا يحرم قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة: (يحرم أكل هذا الذي أكل منه، وأكل ما قتله من قبله من الصيد) .
دليلنا: أنه لم يوجد في الصيد الأول ما يقتضي الحظر، وإنما وجد في غيره، فلم(4/543)
يحرم، كما لو أرسل جارحة على صيد فقتله، ثم استرسل بنفسه على صيد فقتله.. فإن الأول لا يحرم.
وإن كانت الجارحة من سباع الطير: كالصقر والبازي والعقاب والباشق، فأكل من الصيد عقيب قتله.. فالمنصوص للشافعي: أنه كالكلب والفهد على قولين.
وقال المزني: أكل الطير لا يحرم قولا واحدا ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه لا يمكن أن يضرب على الأكل.
وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: لا يحرم ما أكل منه الكلب.. فما أكلت منه سباع الطير أولى، وإن قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب.. فهل يحرم ما أكل منه الطائر؟ فيه وجهان.
والأول أصح؛ لأنه جارحة أكل مما قتله عقيب قتله، فأشبه ما أكل منه الكلب والفهد.
وإن شرب الجارحة من دم الصيد.. لم يحرم ذلك قولا واحدا.
وحكى ابن المنذر عن النخعي والثوري: أنهما كرها أكل ما احتسى الجارحة دمه.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «فإن أكل منه.. فلا تأكل» وهذا لم يأكل منه، ولأن الدم لا يقصده الصائد ولا منفعة له فيه، فلم يمنع الجارحة منه.
[مسألة: إدخال الكلب نابه في الصيد]
إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد وجرحه. فهل يحكم بنجاسة ذلك الموضع؟ فيه قولان، حكاهما صاحب " الإبانة ":
أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يأمره بغسله، ولو كان نجسا.. لأمر بغسله.
والثاني ـ وهو الأظهر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يحكم بنجاسته؛ لأنه جزء من الكلب، فينجس ما أصابه مع الرطوبة، كالإناء.
فإذا قلنا بهذا: فما الحكم في ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:(4/544)
" أحدها: يعفى عن غسله! لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه لو وجب غسل موضع العضة لوجب غسل جميع اللحم؛ لأن الناب يلاقي الدم، والدم مائع متفرق في جميع العروق.
والثاني: يجب غسله؛ لأنه موضع نجس بملاقاة الكلب " فأشبه الإناء وأما الآية: فلا حجة فيها؛ لأنه إنما بين الأكل، وأما النجاسة والغسل: فمعلومان من غيرها. وقول الأول: لو وجب غسل موضع العضة، لوجب غسل الجميع.. فغير صحيح؛ لأنه إن عضه بعد الموت.. فلا دم فيه، وإن عضه وهو حي.. فإن الدم يفور ويجري، فلا يرجع إلى عروقه، وعلى أنه لو رجع.. فإنما وجب غسل العضة؛ لأنه لا مشقة في ذلك فوجب، وعليه مشقة في غسل الباقي فسقط.
والوجه الثالث ـ حكاه في " الإبانة " -: أنه يجب قطع موضع العض. وليس بشيء.
فإذا قلنا: يجب الغسل.. فكم يغسل؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي: أنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، كما لو أصاب إناء.
والثاني ـ حكاه في " الفروع " -: يكفي في غسله مرة؛ لأن ما زاد على ذلك يشق.
وإن شئت.. قلت: في المسألة أربعة أوجه:
أحدها: لا يجب الغسل.
والثاني: يجب غسل موضع العض سبع مرات، إحداهن بالتراب.
والثالث: يكفي غسله مرة.
والرابع: لا يجزئه الغسل، بل يجب قطع ذلك الموضع.(4/545)
[مسألة: الاصطياد بالجارحة المغصوبة]
] : وإن غصب جارحة واصطاد بها صيدا.. كان الصيد ملكا للغاصب؛ لأن الصيد مضاف إلى الصائد دون مالك الجارحة. فإن كان الجارحة غير الكلب.. وجب لمالكه أجرة مثله على الغاصب.
وإن كان كلبا.. قال الشيخ أبو حامد: لم تجب أجرته قولا واحدا؛ لأن منفعته مباحة له غير مملوكة، فلذلك لم يضمن، بخلاف غيره من البهائم؛ لأن منفعته مملوكة.
وقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يجوز إجارته.. وجبت على الغاصب الأجرة، وإن قلنا: لا يجوز إجارته.. لم تجب.
[مسألة: القصد لا يعتبر في ملك الصيد بشبكة وغيرها]
) : القصد غير معتبر في ملك الصيد، فلو أخذ صيدا لينظر إليه.. ملكه بذلك. وإن نصب شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه بذلك. وإن كان له حوض على شط نهر فدخله حوت، فإن كان الحوض صغيرا بحيث لا يمكنه العود إلى النهر.. ملكه بذلك، وإن كان كبيرا لا يقدر على أخذه إلا بتعب.. لم يملكه بذلك؛ لأنه غير مقدور عليه.
[مسألة: صيد الحمام الأهلي والمباح]
] : إذا كان له حمام في برج فتحول منه إلى برج غيره.. لم يملكه الثاني، وكان ملك الأول باقيا عليه؛ لأنه بتحوله عن برج الأول لا يزول ملكه عنه بذلك. وإن كان الحمام مباحا فدخل إلى برج الأول.. لم يملكه بنفس الدخول، ولو أخذه غيره منه أو تحول إلى برج غيره.. لم يكن للأول أن يطالب برده؛ لأنه لا يملكه. فإن أغلق عليه صاحب البرج برجه، أو دخل من كوة إلى بيته فسدها عليه.. نظرت: فإن كان يمكنه أخذه بغير تعب ولا علاج.. ملكه بذلك، فلو انفلت وأخذه غيره.. كان له أخذه منه،(4/546)
وإن كان لا يمكنه أخذه إلا بتعب وعلاج.. لم يملكه بذلك، فإن انفلت وأخذه غيره.. لم يكن للأول مطالبته برده. وإن دخل قفصا له، فغلق عليه بابه.. ملكه بذلك.
فإن توحل في أرضه ظبي أو عشش فيها طائر.. لم يملكه بذلك.
وحكى الطبري في (العدة) وجها آخر: أنه يملكه بذلك.
[فرع: الصيد المعلم بعلامة]
) : وإن أصاب ضبا مقرطا أو موسما أو به أثر ملك لآدمي.. لم يجز له اصطياده فإن أخذه.. لم يملكه بذلك؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بظبي حاقف فهم أصحابه به فقال: (دعوه حتى يجيء صاحبه» . ولأنه إذا وجد عليه أثر الملك.. فالظاهر أنه لمالكه، فلا يزول ملكه عنه بالانفلات. فإن قيل: يجوز أن يكون قد اصطاده محرم فلم يملكه بذلك.. قلنا: هذا محتمل إلا أن الظاهر خلافه.
وهكذا لو وجد طائرا فيه علامة المالك كقص الجناح، أو وجد ما ليس له أصل في الوحش، كالدجاج أو فراخه إذا وجده متوحشا.. لم يجز له أن يملكه؛ لأن الظاهر أنه لمالك.
[مسألة: الصيد بالرمي وأنواعه]
) : ويجوز الصيد بالرمي لما «روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله إنا نكون في أرض صيد، فيصيب أحدنا بقوسه، ويبعث كلبه المعلم: فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته؟ فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ما ردت عليك(4/547)
قوسك فكل، وما أمسك عليك كلبك المعلم فكل» .
فإن رمى الصيد فقتله، فإن كان بما له حد فقتله بحده، كالسهم الذي له نصل أو السكين أو السيف أو السنان أو المروة أو الخشبة الحادة: حل أكله لحديث أبي ثعلبة. وإن أصابه بما لا حد له فقتله كالبندقية أو الدبوس أو الحجر الذي لا حد له.. فإنه لا يحل أكله سواء جرحه بذلك أو لم يجرحه، حتى لو رمى طائرا ببندقية فقطعت حلقومه ومريئه: لم يحل بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهي المضروبة بالحجارة أو بالعصا حتى تموت. ولما «روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: " إن قتل بحده: فكل، وإن قتل بعرضه - وروي: بثقله - فلا تأكل فإنه وقيذ» .
قال الهروي: (والمعراض) : سهم بلا ريش ولا نصل ويصيب بعرض عوده دون حده.
فعلى هذا: إذا رماه بما لا حد له، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه حل أكله، وإن أدركه وقد مات أو فيه حياة غير مستقرة لم يحل أكله لما ذكرناه.
[فرع: إرسال السهم في الريح وحالات أخرى]
: إذا أرسل سهمه في ريح عاصفة نحو الصيد، فأطارت الريح السهم فوقع في الصيد فقتله، ولولا الريح ما وصل إليه السهم: حل أكله؛ لأن الإرسال له حكم ولا يتغير حكمه بالريح؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن وقع السهم على الأرض ثم وثب السهم من الأرض فوقع في الصيد(4/548)
فقتله: فهل يحل؟ فيها وجهان، بناء على القولين فيمن ازدلف سهمه في الأرض ثم أصاب في المناضلة وإن نزع السهم ليرمي فانفلت قبل أن يرسله فقتل صيدا ففيه وجهان حكاهما في (العدة) .
[فرع: رمي الطائر وجرحه]
) : وإن رمى طائرا فجرحه ثم وقع على الأرض فوجده ميتا: حل أكله سواء مات في الهواء أو بعدما وقع على الأرض أو لم يعلم كيف مات، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إذا مات بعدما وقع على الأرض.. لم يحل أكله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ردت عليك قوسك فكل» ولم يفرق؛ ولأنه صيد سقط عن الإصابة على موضع لا يمكن الاحتراز من سقوطه عليه، فحل، كما لو رمى حمار وحش فوقع على جنبه ومات.
وإن وقع هذا الطائر على ماء أو جبل أو شجر فتردى، ثم مات.. نظرت: فإن لم تكن الجراحة موجبة لم يحل أكله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] ، وما وقع في الماء فالماء يخنقه وما وقع على جبل أو شجرة فهو من المتردية وروى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رميت بسهمك فذكرت اسم الله فقتل: فكل، وإن وقع في ماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» .
وإن كانت الجراحة قاتلة موجبة، مثل: أن وقع السلاح في حلقه فذبحه أو في لبته فنحره أو في كبده فأبان حشوته فإنه يحل أكله؛ لأنه قد صار كالمذكى فلا يؤثر فيه وقوعه في الماء أو ترديه من الجبل أو الشجرة كما لو ذبح شاة ثم وقعت في ماء أو تردت من جبل أو شجرة.(4/549)
[فرع: قطع الصيد قسمين أو إبانة بعضه قبل قتله]
) : فإن ضرب صيدا فقطعه باثنين فمات: حل أكله جميعا سواء كان قطعه نصفين، أو كان الذي معه الرأس أقل أو أكثر.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الذي معه الرأس أكثر.. حل ما معه الرأس دون الثاني) .
دليلنا: أن كل عقر كان ذكاة لبعضه.. كان ذكاة لجميعه، كما لو كان مع الرأس أكثر أو أقل.
وإن رماه فأبان بعضه وبقي الباقي على الامتناع، ثم رماه فقتله، أو أدركه فذكاه.. حل أكله جميعا إلا ما أبان منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميت» .
[مسألة: إدراك الصيد وفيه حياة مستقرة]
] : إذا أرسل سهمه أو جارحته على صيد فعقره، ثم أدركه وفيه حياة مستقرة.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كان العقر قد صيره في حكم المذبوح، مثل: أن أبان حشوته أو قطع الحلقوم والمريء أو في مقتل كالقلب، وكانت الحياة فيه غير مستقرة فإن أمر السكين على حلقه ليذبحه.. فهو المستحب وإن تركه حتى مات.. حل أكله؛ لأن ذلك العقر ذكاة له فحل أكله، كما لو ذبح دجاجة، فجعلت تنزو.
الثانية: إذا كان العقر لم يصيره في حكم المذبوح، بل وجد وفيه حياة مستقرة مما(4/550)
يعيش اليوم ونصف اليوم والزمان متسع لذكاته، فإن ذكاه.. حل أكله وإن ترك ذكاته عامدا أو لم تكن معه آلة يذبح بها حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، فلم يحل كما لو تردت شاة من جبل فترك ذكاتها حتى ماتت.
الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، لكنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، أو أدركه ممتنعا فجعل يعدو خلفه فلحقه وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل) .
دليلنا: أنه لم يقدر على ذكاته بوجه لا ينسب فيه إلى التفريط فكان عقره ذكاة له كما لو لم يدركه حيا.
[فرع: غياب الصيد بعد إرسال الكلب أو السهم]
إذا أرسل كلبا على صيد فغاب عنه الصيد والكلب معا قبل أن يعقره الكلب ثم وجد الصيد قتيلا، قال الشيخ أبو حامد: لم يحل أكله سواء وجد الكلب عليه، أو لم يجده عليه؛ لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم.
وإن عقره الكلب أو السهم عقرا صيره في حكم المذبوح قبل أن يغيب عنه ثم غاب عنه فوجده ميتا حل أكله لأنه غاب بعد أن صار مذكى وإن عقره قبل أن يغيب عنه عقرا يجوز أن يموت منه، ويجوز أن لا يموت منه ثم غاب عنه فوجده ميتا.. فنص الشافعي في موضع (أنه يجوز) وقال في (الأم) [2/192] .
(القياس: أنه لا يحل أكله إلا أن يكون ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر، فيسقط كل ما خالفه) ، واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـ[أحدهما] : منهم من قال: يحل قولا واحدا؛ لأن الخبر قد ورد وصح في إباحته، وقد رجع الشافعي عن القياس إلى الخبر.(4/551)
و (الثاني) : منهم من قال: فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: (إن أتبعه عقيب الرمي فوجده ميتا.. حل أكله، وإن أخر اتباعه.. لم يحل أكله) .
وقال مالك: (إن وجده في يومه.. حل أكله، وإن وجده بعد يومه.. لم يحل أكله) .
فإذا قلنا: يحل.. فوجهه: ما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت الصيد، فأدركته ميتا بعد ذلك وفيه سهمك.. فكله ما لم ينتن» . «وروى عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاث، ثم نجده ميتا فيه سهمه، أنأكله؟ قال: " نعم ما لم ينتن» . ولأنه إذا غاب بعد أن عقره، ثم مضت مدة لا يندمل في مثلها، فوجده ميتا.. فالظاهر: أنه مات من الجرح، فحل أكله.
وإذا قلنا: لا يحل أكله - قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي ـ فوجهه: ما روى سعيد بن جبير «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاث، فنجده ميتا وفيه سهمه، أيؤكل؟ فقال: " إذا وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن فيه أثر من سبع، وعلمت أن أثر سهمك قتله.. فكل» فأباحه له بشرط أن يعلم أن سهمه قتله، وهذا لا يعلمه إذا(4/552)
غاب عنه. وروي: أن رجلا سأل ابن عباس: إني أرمي الصيد: فمنه ما أصمي، ومنه ما أنمي؟ فقال: (كل ما أصميت - يعني: ما قتلته وأنت تراه - ودع ما أنميت) يعني: ما قتلته وأنت لا تراه.
[مسألة: صيد الفخ ونحوه]
) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة كان فيها سلاح أو لم يكن) .
وجملة ذلك: أن الأحبولة ما تنصب للصيد، فيتعلق به من حبل أو شبكة أو شرك. يقال: أحبولة وحبالة، وجمع حبالة: حبائل، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النساء حبائل الشيطان» يعني: مصائده، فإذا وقع في الأحبولة صيد فمات.. لم يحل أكله، لأنه لم يذكه أحد، وإنما قتل الصيد نفسه، ولم يوجد من الصائد غير سبب، فهو كمن لو نصب سكينا، فربضت عليها شاة فقطعت حلقها.(4/553)
[مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد]
) : وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله،.. حل أكله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما ردت عليك قوسك.. فكل» .
وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، فإن كان في سمته وسننه حل أكله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يحل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] . ولأنه لا يمكن تعليمه أخذ صيد بعينه، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار إصابة موضع الذكاة وكما لو أرسله على صيود كبار، فتفرقت عن صيود صغار، فأخذ منها واحدا وقتلها.. فإنه قد سلم أنه يحل.
وإن قتل صيدا في غير السمت الذي أرسله فيه.. فهل يحل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل، لأن للكلب اختيارا، فإذا عدل عن سمت الجهة التي أرسله إليها.. فكأنه قد قطع الإرسال وقصد العدول لنفسه، فلم يحل أكل ما قتله.
والثاني: يحل أكله، لأن قصد الكلب أن يصطاد ما هو أهون عليه، فحل كما لو أصابه في الجهة التي أرسله إليها.
[مسألة: إرساله الكلب أو رميه السهم وهو لا يرى صيدا]
] : وإن أرسل كلبه وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا وقتله.. لم يحل أكله، وجها واحدا، لأنه لم يرسله على صيد، فهو كما لو استرسل بنفسه وقتل صيدا.
وإن رمى إلى الغرض أو إلى السماء وهو لا يرى صيدا، فصادف سهمه في طريقه صيدا فقتله فوجهان:(4/554)
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يحل، لأن الاعتبار في آلة السلاح أن يقصد به الفعل دون المفعول به، ألا ترى أنه لو قصد قطع خشبة فكانت حلق شاة.. حلت.
والثاني: لا يحل، وهو الصحيح، لأنه لم يقصد برميه شيئا، فأشبه إذا نصب أحبولة وفيها حديدة، فوقع فيها صيد، فقتلته تلك الحديدة.
[مسألة: الرمي أو الإرسال لشاخص وظهوره صيدا أو غنما]
] : وإن قصد شاخصا يظنه حجرا أو آدميا وكان صيدا فقتله، فمات بالرمي.. حل وجها واحدا. وإن كان بالكلب: فوجهان.
قال الطبري: فإن قصد صيدا، فكان غنما فقتله، فإن كان بالكلب لم يحل وجها واحدا وإن كان بالرمي.. فوجهان.
وأراد: إذا أصاب الشاة في محل الذكاة فأما في غيره.. فلا يحل وجها واحدا.
[مسألة: ذكاة البعير الناد ونحوه]
وإن توحش أهلي، كالبعير إذا ند أو تردى في بئر ولم يقدر على ذكاته في الحلق واللبة.. فذكاته حيث أصاب منه، كالوحشي، وبه قال علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء وطاووس والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال سعيد بن المسيب وربيعة ومالك: (لا تجوز ذكاته إلا في الحلق واللبة) .
دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن بعيرا ند، فرماه رجل بسهم فحبسه الله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما ند منها.. فاصنعوا به هكذا» . يعني بقوله: " أوابد " يعني: توحشا ونفورا من الإنس.(4/555)
وروي: «أن بعيرا تردى في بئر، فقيل: يا رسول الله أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: " إنك لو طعنت في فخذها ... لأجزأك» . ولأنه غير مقدور على ذكاته، فكان عقره ذكاته، كالوحشي الممتنع. وإن تأنس الوحشي.. فذكاته في الحلق واللبة، اعتبارا بحاله عند الذكاة.
[فرع: ذكاة الجنين]
وإن ذكى ما يؤكل لحمه، فوجد في جوفه جنينا ميتا.. حل أكله.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل له) .
دليلنا: ما «روى أبو سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: " كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه» ولأن الجنين لا يمكن ذكاته فجعلت ذكاة أمه ذكاة له.(4/556)
وإن خرج الجنين حيا وتمكن من ذبحه.. لم يحل أكله من غير ذبح. وإن مات من قبل أن يتمكن من ذبحه.. حل أكله.
[مسألة: ملك الصيد بزوال الامتناع]
وإن رمى رجل صيدا فأصابه ولم يزله من الامتناع.. لم يملكه بذلك، وكان لمن اصطاده. وإن أزال امتناعه.. ملكه بذلك، كما لو أخذه بيده.
وإن رماه اثنان فأصاباه معا فأثبتاه أو قتلاه.. كان بينهما نصفين. قال الشافعي: (سواء كان الجرحان سواء، أو أحدهما أكبر من الآخر) ؛ لأن امتناعه أو موته كان بفعلهما، فاشتركا في ملكه.
وإن رماه واحد بعد واحد وزال امتناعه ... فهو لمن أثبته منهما.
وإن رمياه فوجداه ميتا فاختلفا، فقال كل واحد منهما: أنا أثبته أولا، وأنت رميته بعدي فقتلته، فعليك ضمان قيمته.. فإنه لا يحل أكله، لأنهما قد اتفقا على أنه قتل بعد إثباته، وكل واحد منهما يدعي على صاحبه القيمة.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما يعلم أن صاحبه أثبته أولا. فإن حلفا جميعا.. برئا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. رددنا اليمين على الحالف، ثم يحلف: لقد قتله الناكل بعد رميه، فيجب له عليه قيمته مجروحا.
وإن اتفقا أن أحدهما أصابه أولا، فقال الأول: أنا أثبته، ثم قتلته أنت. وقال الثاني: لم تثبته برميك، وإنما بقي ممتنعا، ثم أثبته أنا وقتلته.. فالقول قول الثاني مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على الامتناع.
قال ابن الصباغ: وينبغي إذا اتفقا على عين جراحة الأول أن يفصل، فيقال: إن كان يعلم أنه لا يبقى معها امتناع، كأنها كسرت رجل ما يمتنع بالعدو أو جناح ما يمتنع بالطيران.. فالقول قول الأول بلا يمين. وإن كانت مما يجوز أن يمتنع معها.. فالقول قول الثاني.(4/557)
[فرع: امتناع الصيد بالرجل والجناح معا]
] : وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح، كالقبج والدراج فأصابه الأول فكسر رجله، وأصابه الثاني فكسر جناحه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه بينهما، لأن امتناعه كان بفعلهما.
والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنه للثاني، لأنه كان ممتنعا بعد إصابة الأول، وإنما زال امتناعه بإصابة الثاني، فكان له.
[مسألة: رمي الصيد من اثنين فوجداه ميتا ولم يعلم امتناعه بالأول]
] . وإن رماه الأول ورماه الثاني ووجد ميتا ولم يعلم أن الأول بلغ به أن يكون ممتنعا أو غير ممتنع.. فقال الشافعي في " المختصر ": (جعلناه بينهما نصفين) . وقال في " الأم ": (حل أكله وكان بينهما) . فاعترض معترض على قول الشافعي فيها، وقال: قول الشافعي بحل أكله: لا يجوز؛ لأنه يجوز أن يكون الأول قد أثبته، وأن الثاني قتله، فلا يحل أكله، ويجوز أن لا يكون الأول أثبته، ثم قتله الثاني، فيحل. ومتى اجتمع ما يوجب التحريم والإباحة.. غلب التحريم. وأما قوله: (يكون بينهما) : فلا يجوز أيضا؛ لأنه إن كان الأول أثبته.. فهو له، وإن كان الثاني أثبته.. فهو له، فكيف يكون بينهما؟ واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك على ثلاثة أوجه:
فـ[أحدها] منهم من ترك ظاهر كلام الشافعي وأجاب: إلى أن الأمر كما قال هذا السائل، وتأول كلام الشافعي وقال: أما قوله: (إنه يحل أكله) فأراد: إذا عقره(4/558)
أحدهما فأثبته، ثم أصابه الثاني في محل الذكاة، فقطع الحلقوم والمريء، أو أثبتاه ولم يصيراه في حكم الممتنع، ثم أدركه أحدهما فذكاه.. فيحل أكله. وأما قول الشافعي: (يكون بينهما) فأراد: إذا كانت يدهما عليه، فلا يعلم من يستحقه منهما، فيقسم بينهما. فأما إذا وجداه ميتا من الجراحتين.. فلا يحل أكله، فإن اتفقا على أن الثاني الذي قتله.. كان عليه القيمة. وإن اختلفا فيه.. حلف كل واحد منهما لصاحبه، كالمسألة التي تقدمت.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة مفروضة في صيد يمتنع برجله وجناحه كالقبج، فأصاب أحدهما رجله وكسرها، وأصاب الآخر جناحه وكسره ومات.. فقد ذكرنا فيها وجهين. فإن قلنا: إنه بينهما.. فالمسألة مفروضة فيه، وإن قلنا: إنه للثاني.. فلا يعلم الثاني منهما ويدهما عليه، فكان بينهما. وهذا القائل ترك ظاهر كلام الشافعي.
و (الثالث) : قال أبو إسحاق: المسألة على ظاهرها، فيحل أكله؛ لأن الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، ويكون بينهما؛ لأن يدهما عليه، فإن قيل فقد قلتم: الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، فكيف لم تزل بذلك يد الأول؟ قلنا: هذا لا يزال به حكم اليد، ولهذا لو كان عنده شيء يدعيه.. حكم له بذلك وإن كان الأصل عدم الملك، فدل على: أن اليد أقوى من حكم الأصل.
[مسألة: وجوب الأرش إذا رمى اثنان صيدا]
إذا رمى رجل صيدا فوجأه، بأن قطع الحلقوم والمريء أو ثغرة النحر، أو أصابه في مقتل كالقلب والخاصرة.. فقد ملكه بذلك، ولا يفتقر إلى ذكاة. فإن رماه آخر بعد ذلك.. فإنه لا تأثير للثاني في تحريمه، بل يجب عليه أرش ما نقص إن أحدث به نقصا، بأن خرق جلده أو ما أشبه ذلك.
وإن لم يصيره الأول في حكم المذبوح، بل أزال امتناعه فقط.. فقد ملكه بذلك،(4/559)
فإن رماه آخر.. نظرت: فإن أصابه الثاني في محل الذكاة، بأن قطع حلقومه ومريئه أو ثغرة نحره.. حل أكله، ووجب على الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومجروحا، كما لو ذبح لغيره شاة مجروحة. وإن أصابه في غير محل الذكاة.. نظرت: فإن وجأه مثل: أن وقع في قلبه أو خاصرته.. حرم أكله؛ لأنه قتله بعد أن صارت ذكاته في الحلق واللبة، ويجب عليه للأول قيمته مجروحا. وإن لم يوجئه الثاني، بل جرحه جرحا قد يسري إلى نفسه، فإن لم يقدر الأول على ذكاته مثل: أن جاء إليه وقد مات، أو جاء إليه وقد بقي من حياته ما لا يتسع الزمان لذكاته.. حرم أكله، ويجب على الثاني قيمته مجروحا، وإن أدرك الأول ذكاته ولم يذكه حتى مات.. لم يحل أكله: لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، وأما الذي يجب على الثاني.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه قيمته مجروحا؛ لأن الأول لم يوجد منه أكثر من الرمي الذي ملكه به وترك الذكاة، وهنا لا يسقط ما وجب له على الثاني، كما لو جرح له شاة وترك مالكها ذكاتها حتى ماتت.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب على الثاني كمال قيمته مجروحا، وهو المذهب؛ لأن جراحة الأول وإن كانت مباحة إلا أنه لما أدرك ذكاته ولم يفعل.. تبينا أنها وقعت محظورة، وجراحة الثاني محظورة الابتداء، وإذا مات بجراحتين محظورتين.. لم يجب على أحدهما كمال قيمته، كما لو جرح رجل شاة لنفسه، ثم جرحها آخر فماتت من الجراحتين.. فإنه لا يجب على الثاني كمال قيمتها.
فإذا قلنا بهذا: قسمت القيمة على قدر الجنايتين: فما خص جراحة الأول.. سقط، وما خص جراحة الثاني.. وجب عليه. فتفرض المسألة في صيد مملوك لرجل، قيمته عشرة دراهم، جرحه رجل جراحة نقص بها من قيمته درهم، ثم جرحه الثاني جراحة نقص بها درهم، ثم مات منهما، ففيه ستة أوجه:
أحدها - وهو قول المزني ـ: أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته، وهو درهم، ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته بعد الجنايتين، فيجب على كل واحد منهما خمسة؛ لأن كل واحد منهما انفرد بجناية أرشها درهم، فوجب عليه أرش ذلك، ثم مات منها، فوجب قيمته بعد ذلك بينهما. فإن نقص بجناية الأول ثلاثة(4/560)
دراهم، وبجناية الثاني درهم.. وجب على الأول أرش جنايته ثلاثة دراهم، وعلى الثاني درهم، ثم يقسم ما بقي من قيمته بعد ذلك، وهو ستة بينهما نصفين فيجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة. فإن قيل: فهلا سويتم بينهما في الضمان هاهنا، كما قلتم في الحر إذا قطع رجل يديه، ثم قطع آخر رجله فمات: أن الدية تجب عليهما نصفين؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الحر لا تنقص ديته بالجناية عليه، ألا ترى أن رجلا لو قطع يد رجل ورجليه، ثم قتله آخر.. لكان على القاتل ديته كاملة، بخلاف الصيد.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما فيما ضمنه من نفسه؛ لأن الجناية إذا صارت نفسا.. سقط حكم الجناية. وقد أتلف كل واحد منهما نصف نفسه فدخل نصف أرش جنايته في قيمة ذلك النصف ولم يدخل النصف الآخر في أرش جنايته؛ لأن المتلف للنصف الآخر غيره، فيجب هاهنا على الأول نصف قيمته يوم جنى وهو خمسة ونصف أرش جنايته لأجل النصف الذي جنى عليه الثاني، فيكون عليه خمسة دراهم ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنى عليه وهو أربعة دراهم ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم لأجل النصف الذي ضمنه الأول.
وإذا ثبت: أن هذا النصف الذي وجب على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي ضمنه الأول.. فللأول أن يرجع به على الثاني؛ لأن من جنى على ما دخل في ضمان غيره.. فإن للمضمون عليه مطالبة الجاني بأرش الجناية.
فعلى هذا: إن أخذ مالك الصيد من الأول خمسة دراهم ونصف درهم.. لم يأخذ من الثاني غير أربعة دراهم ونصف درهم، وللأول أن يرجع على الثاني بنصف درهم وهو ما وجب عليه بجنايته على النصف الذي ضمنه الأول. وإن أخذ مالك الصيد من الثاني خمسة دراهم.. لم يكن له أن يأخذ من الأول غير خمسة دراهم، ولم يرجع الأول على الثاني بشيء، وهذا كما نقول في رجل غصب من رجل ثوبا قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه آخر في يد الغاصب جناية تنقص من قيمته درهما، ثم تلف الثوب في يد الغاصب.. فإن المالك إذا رجع على الغاصب بالعشرة.. رجع الغاصب على(4/561)
الجاني عليه بدرهم، وإن رجع المالك على الجاني بدرهم.. لم يكن له أن يطالب الغاصب إلا بتسعة، ولم يرجع الغاصب على الجاني بشيء، كذلك هاهنا مثله. فقول أبي إسحاق يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يؤخذ من كل واحد منهما وإن خالفه في ترتيب الوجوب ومعناه. فإن نقصت قيمة الصيد بجناية الأول ثلاثة دراهم وبجناية الثاني درهما.. فإن الأول يجب عليه نصف قيمته يوم جنايته عليه وهو خمسة دراهم ونصف أرش جنايته وهو درهم ونصف، فذلك ستة ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنايته ثلاثة ونصف، ونصف أرش جنايته نصف درهم، إلا أن هذا النصف الدرهم على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي دخل في ضمان الأول. فإن رجع المالك على الأول بستة دراهم ونصف.. فقد استوفى حقه منه بقيمة ما دخل في ضمانه، فيرجع الأول على الثاني بنصف الدرهم الذي وجب على الثاني لأجل ما جنى على ما ضمنه الأول، ولا يرجع المالك على الثاني إلا بثلاثة دراهم ونصف درهم.
وإن رجع المالك على الثاني بأربعة دراهم.. رجع على الأول بستة دراهم لا غير، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، ونصف أرش جنايته، كما قال أبو إسحاق، إلا أنه قال: لا يرجع الأول على الثاني بشيء؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية في قدر ما يجب على كل واحد منهما مع اختلاف قيمة الصيد عند جنايتيهما، ولكن يضم نصف قيمة الصيد يوم جناية الأول وهو خمسة، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، إلى نصف قيمة الصيد يوم جناية الثاني وهو أربعة ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، فذلك كله عشرة ونصف، وتقسم العشرة وهي قيمة الصيد على عشرة ونصف، فما خص خمسة ونصفا.. وجب على الأول، وما خص خمسة.. وجب على الثاني. وكيفية ذلك: أنك تبسط العشرة التي معها النصف أنصافا؛ ليكون النصف معها فتكون عشرين وتضيف إليها النصف الزائد عليها، فتكون إحدى وعشرين، فتجعل ذلك أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة المقسومة في إحدى وعشرين، فذلك مائتان وعشرة، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي الأنصاف المبسوطة، فيخص كل نصف(4/562)
عشرة، فتعلم أن الذي يخص صاحب الخمسة والنصف مائة وعشرة؛ لأن عليه أحد عشر نصفا، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي أجزاء الدراهم، فيصبح لك من ذلك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من إحدى وعشرين جزءا من درهم، وهو الواجب على الأول. ويخص صاحب الخمسة مائة جزء، من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فإذا قسمت ذلك على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وستة عشر جزءا من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فيجب ذلك على الثاني، فإذا ضممت ما يجب على كل واحد منهما.. كان جميعه عشرة دراهم.
والوجه الرابع: أنه يجب على الأول جميع أرش جنايته، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول: فيجب على الأول خمسة ونصف إذا نقص بجنايته درهم، وعلى الثاني أربعة ونصف؛ لأن الأول انفرد بالجناية، فوجب عليه أرشها ومات الصيد من سراية جنايته وجناية الثاني.
والوجه الخامس: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النصف فيكون على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته: فيجب على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني أربعة ونصف، ويسقط نصف درهم من قيمته. قال: لأني لم أجد من أوجبه عليه منهما.
والوجه السادس: -وهو قول ابن خيران -: أن أرش جناية كل واحد منهما تدخل فيما ضمنه من النفس، فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول، وهو عشرة إلى قيمته عند جناية الثاني، وهو تسعة، فذلك تسعة عشر، وتقسم العشرة عليهما، فما خص العشرة.. وجب على الأول، وما خص التسعة.. وجب على الثاني.
وكيفية ذلك: أنك تجعل التسعة عشر أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة في تسعة عشر، فيصبح لك مائة وتسعون، فإذا قسمت المائة والتسعين على تسعة عشر.. خص(4/563)
كل واحد عشرة، فتعلم: أن الذي يخص العشرة مائة جزء من تسعة عشر جزءا من الدراهم، فإذا قسمت المائة على أجزاء الدراهم.. صح لك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الأول. ويخص صاحب التسعة تسعون جزءا، فإذا قسمتها على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وأربعة عشر جزءا من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الثاني. فإذا ضممت ما وجب على كل واحد منهما إلى ما وجب على الآخر.. كان الجميع عشرة دراهم، وهذا هو الصحيح.
[فرع: جناية ثلاثة على صيد]
إذا كان لرجل صيد مملوك قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه ثلاثة رجال، فنقص بجناية كل واحد منهم درهمان، ثم مات.. فعلى قول المزني: يجب على كل واحد منهم أرش جنايته درهمان، ثم تقسم الأربعة الباقية من قيمته بعد أرش جنايتهم عليهم أثلاثا، فيجب على كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلث درهم.
وعلى قول أبي إسحاق: يجب على الأول ثلث قيمته يوم جنايته وهو ثلاثة دراهم وثلث درهم وثلثا أرش جنايته، وهو درهم وثلث لأجل الثلثين اللذين تلفا من جناية الثاني والثالث، فذلك أربعة وثلثان، ويجب على الثاني ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث. فذلك أربعة دراهم، ويجب على الثالث ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث.
فإن أخذ المالك من الأول أربعة دراهم وثلثي درهم.. رجع الأول على الثاني بثلثي درهم، وعلى الثالث بثلثي درهم، فيعلم: أن الذي حصل عليه ثلاثة دراهم وثلث. ويأخذ المالك من الثاني ثلث قيمة الصيد يوم جنايته وثلث أرش جنايته لأجل ما ضمنه الثالث، وذلك ثلاثة دراهم وثلث، ويرجع الثاني على الثالث بثلثي درهم وهو أرش جناية الثالث على الثلث الذي ضمنه الثاني. ويأخذ المالك من الثالث ثلث قيمته يوم جنايته، وهو درهمان. فيكون منتهى ما خرج من كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلثا لأن الثالث قد دفع إلى الأول ثلثي درهم، وإلى الثاني ثلثي درهم، مع ما دفعه إلى(4/564)
المالك، فذلك ثلاثة وثلث. فهذا يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يخرج من كل واحد منهم وإن خالفه في الترتيب.
وعلى قول أبي الطيب بن سلمة: يضم ما وجب على الأول وهو أربعة وثلثان إلى ما وجب على الثاني وهو أربعة، وإلى ما وجب على الثالث وهو ثلاثة وثلث فذلك اثنا عشر، ويقسم العشرة عليها، فما قابل ما وجب على كل واحد منهم من العشرة.. كان عليه.
وعلى الوجه الرابع: يجب على الأول أرش جنايته درهمان، ثم تقسم قيمته بعد جناية الأول بينهم أثلاثا، فتكون على الأول أربعة دراهم وثلثان، وعلى كل واحد من الآخرين درهمان وثلثان.
وعلى الوجه الخامس: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته، فيكون على الأول ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الثاني درهمان وثلثان، وعلى الثالث درهمان وينقص من القيمة درهمان.
وعلى قول ابن خيران: تضم قيمة الصيد عند جناية كل واحد منهم إلى قيمته عند جناية صاحبيه، وذلك أربعة وعشرون، فتقسم العشرة عليها، فتكون على الأول عشرة أجزاء من أربعة وعشرين جزءا من عشرة دراهم وهي ربع العشرة وسدسها وعلى الثاني ثمانية أجزاء وهي ثلث العشرة، وعلى الثالث ستة أجزاء وهي ربع العشرة.
[مسألة: انفلات الصيد من الكلب]
) : إذا أخذ الكلب صيدا ثم انفلت منه.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) فإن كان قبل أن يدركه صاحبه.. لم يملكه صاحب الكلب بذلك، وإن كان بعدما أدركه صاحبه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكه، لأنه لم يحصل في يده ولا أزال عن الامتناع.(4/565)
والثاني: يملكه؛ لأن الكلب قد أمسكه له وأمكنه أخذه.
وإن كان في يده صيد فانفلت الصيد منه.. لم يزل ملكه عنه، سواء كان الصيد طائرا أو غيره، وسواء لحق بالبراري أو لم يلحق، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن كان يطير في البلد وحوله.. فهو على ملك من كان بيده، وإن لحق بالبراري وعاد إلى أصل التوحش.. زال ملكه عنه وكان لمن اصطاده) .
دليلنا: أنه مال لمسلم فلم يزل ملكه بزوال يده عنه، كالعبد إذا أبق. وفيه احتراز من الحربي إذا قهر على ما بيده، فأما إذا أفلته من هو بيده باختياره.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يزول ملكه عنه؛ لأنه أزال يده عنه فأشبه ما لو كان معه عبد فأعتقه.
والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب ـ: أنه لا يزول ملكه عنه، كما لو كان معه بهيمة فسيبها.
والثالث ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح "ـ: إن قصد بذلك التقرب إلى الله في إفلاته وتخليصه.. زال ملكه عنه، وإلا.. لم يزل.
وقال المسعودي في [" الإبانة "] : إن قال: أعتقته.. لم يزل ملكه عنه بذلك، وإن قال: أبحته لغيري.. حل لغيره ولا يزول ملكه عنه بذلك.
وإن كان معه ماء فصبه، أو غير ذلك من المحقرات فطرحه.. فهل يزول ملكه عنه؟ فيه وجهان، كالوجهين الأولين، حكاهما في " الفروع ".
قال الشاشي: والسواقط من الثمار تحت الأشجار إذا لم تكن محرزة وجرت عادة أهلها بإباحتها.. فهل تجري العادة في ذلك مجرى الإذن؟ فيه وجهان، حكاهما عن " كتاب الحاوي ". وبالله التوفيق(4/566)
[كتاب البيوع](5/5)
كتاب البيوع البيع جائز. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [الْبَقَرَةِ: 275] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] [الْبَقَرَةِ: 282] .
وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النِّسَاءِ: 29] .
وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [الْبَقَرَةِ: 282] . والمداينة لا تكون إلا في بيع.(5/7)
وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [الْبَقَرَةِ: 198] .
قال ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: (نزلت هذه الآية في التجارة في مواسم الحج) .
وأما السنة: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى فرسا، وجارية، وباع حلسا، وقدحا.(5/8)
وروي «عن قيس بن أبي غرزة الجهني: أنه قال: كنا نسمى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السماسرة، فسمانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باسم أحسن منه فقال: "يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بشيء من الصدقة» .
وروي «عن رافع بن خديج: أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»
و: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتاز في السوق غدوة وعشيا ينهى عن الشيء بعد الشيء» .
وأما الإجماع: فأجمعت الأمة على جوازه.(5/9)
فروي: (أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بزازا) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لو اتجر أهل الجنة.. لم يتجروا إلا في البز» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير تجارتكم البز» .
و: (كان أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يبيع الحنطة والأقط) .
و: (كان العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عطارا) .
و: (كان أبو سفيان يبيع الأدم) .
و: (ابتاعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بريرة بمشورة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
إذا ثبت هذا: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يا تجار، كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطاه» .(5/10)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن التجار هم الفجار". فقالوا: أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى، ولكنهم يحلفون ويكذبون» . وهذا الذم إنما ينصرف إلى من يحلف ويكذب؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره، فيأتي، فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق.. خير من أن يأتي رجلا أتاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه» .
[مسألة فيمن يصح تصرفه]
] : ولا يصح البيع إلا من بالغ عاقل مختار.
فأما الصبي: فلا يصح بيعه، سواء كان بإذن الولي، أو بغير إذنه.(5/11)
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يصح بيع الصبي المميز بإذن الولي) .
فإن باع بغير إذنه.. كان عند أبي حنيفة موقوفا على إجازة الولي.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأن الصبي غير مكلف، فلم يصح بيعه، كالمجنون، ولا يصح بيع المجنون؛ للخبر.
وإن أكره على البيع، فإن كان بغير حق.. لم يصح بيعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما البيع عن تراض» فدل على: أنه لا بيع عن غير تراض.
وإن كان بحق، بأن كان عليه حق، وامتنع من أدائه.. فللحاكم أن يكرهه على بيع ما يؤدي به ذلك الحق، فإن أكرهه على البيع.. صح؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام.
[مسألة اشتراط الإيجاب والقبول]
] : ولا يصح البيع عند عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا بالإيجاب والقبول.
وقال أبو حنيفة: (التعاطي بيع) .(5/12)
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر مثل هذا في الأشياء التافهة، وليس بمشهور عنه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقع البيع بما يعده الناس بيعا) .
قال ابن الصباغ: وهذا له وجه جيد. قال: والذي ينبغي أن يعتبر في ذلك: أنهما متى افترقا عن تراض منهم بالمعاوضة.. فقد تم البيع بينهما.
وكذلك الحكم في الهدايا والهبة؛ لأن البيع موجود قبل الشرع، وإنما علق الشرع عليه أحكاما، فيجب أن يرجع فيه إلى العرف، كما يرجع في القبض والحرز والإخبار. ولأن المسلمين مجمعون في بيعاتهم على ذلك، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم استعملوا البيع بلفظ البيع، ولو فعلوا ذلك.. لنقل نقلا شائعا، بل نقل: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكا إليه الحاجة، فقال له: "هل عندك شيء؟ "، فجاءه بقعب وحلس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يشتري هذين؟ "، فقال رجل: هما علي بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يزيد على درهم؟ "، فقال آخر: هما علي بدرهمين، فقال: خذ»
وروي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه قال: كنا ندخل السوق، فنبيع الإبل بالدراهم، ونأخذ عنها الدنانير، ونبيع بالدنانير، ونأخذ عنها الدراهم،(5/13)
فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: لا بأس إذا تفرقتما، وليس بينكما شيء» ولم يذكر سوى الأخذ.
وقد أهدي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحبشة وغيرها، ولم ينقل: أنه أمر فيه بالإيجاب والقبول.
قال: ويحكى عن الشيخ أبي حامد: أنه سئل عما يتبايعه الناس؟ فقال: إنه ليس ببيع، ولكنه يسقط عن ذممهم بالتراضي بها.
قال: وهذا ليس بمستقيم؛ لأن في البيع الفاسد لا يختلف المذهب: أن لكل واحد من المتبايعين الرجوع على الآخر بما دفعه إليه إن كان باقيا، أو بقيمته إن كان تالفا، وقد حصل التراضي بينهما، وعلى أن إسقاط الحقوق يفتقر إلى اللفظ، فلم يجعل التراضي حال العقد يقوم مقام اللفظ في ذلك، ولم يجعله يقوم مقام اللفظ في المعاوضة.
قال ابن الصباغ: وسألت القاضي أبا الطيب عما يفعله الناس من ذلك؟ فقال: هو إباحات وليس بمعاوضات، فقلت له: إذا كان كل واحد منهما يبيح للآخر ما يدفعه إليه، ويستبيحه الآخر من جهة الإباحة.. فما تقول فيمن أعطى قطعة، وأخذ بقلا، فأكله، وعاد يطلب القطعة، فهل له ذلك أم لا؟ فقال: ليس له ذلك، فقلت له: فلو كان ذلك إباحة من كل واحد منهما.. لكان لأحدهما أن يرجع فيما أباحه قبل حصول الإتلاف من المباح له، ألا ترى أنه لو أباح رجلان كل واحد منهما لصاحبه(5/14)
طعاما، فأكل أحدهما ما أباحه له، ورجع عما أباحه لصاحبه.. كان له ذلك؟ فقال: إنما أباح كل واحد منهما للآخر بسبب إباحة الآخر له، فقلت له: هذا معنى المعاوضة دون الإباحة؛ لأن الإباحة إذا وجدت بعوض.. لم تكن إباحة.
والمشهور: أنه لا بد من الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد معاوضة، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالنكاح.
إذا ثبت هذا: فالإيجاب أن يقول البائع: بعتك، أو ملكتك بكذا، فيقول المبتاع: ابتعت، أو قبلت، أو اشتريت، أو قد اشتريت، فيصح.
فإن قال المشتري: بعني، فقال البائع: قد بعتك.. انعقد البيع وإن لم يقل المشتري: قبلت.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله: (لا ينعقد) .
دليلنا: أن كل عقد انعقد بالإيجاب والقبول.. انعقد بالإيجاب والاستدعاء، كالنكاح.
وإن قال المشتري: أتبيعني هذا بكذا؟ فقال البائع: بعتك.. لم ينعقد البيع؛ لأن قوله: (أتبيعني؟) استفهام، وليس باستدعاء، فلم ينعقد به البيع.
فإن فصل بين الإيجاب والقبول بزمان طويل، أو نام أحدهما، أو حجر عليه، أو قام من المجلس، ثم قبل.. لم يصح البيع.
وإن فصل بينهما بزمان قليل، بأن قال: بعتك داري بألف، فصبر المشتري زمانا قليلا، إلا أنه لم يفارق المجلس، ثم قال: قد اشتريت.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه لا يصح.
وإن قال: بعتك داري بألف، فمات المشتري عقيب الإيجاب، وقبل القبول، وكان وارثه حاضرا، فقال الوارث عقيب موت مورثه: قبلت.. ففيه وجهان:(5/15)
[أحدهما] : قال الداركي: يصح؛ لأنه لما ورث ماله.. ورث القبول.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه قبول من غير من أوجب له، فلم يصح، كما لو قال لزيد: بعتك، فقال عمرو: قبلت.
[فرع الكتاب لأجل البيع]
] : وإن كتب رجل إلى رجل ببيع سلعة، فلما قرأ المشتري البيع قال: قبلت.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قادر على النطق، فلا ينعقد بغيره، كالإيماء في حق الناطق.
فإن كان أخرس، فأشار إلى البيع بما يفهم منه، أو كتب.. صح بيعه؛ لأن إشارته وكتابته كنطق غيره.
[مسألة ثبات الخيار للمتبايعين]
] : وإذا انعقد البيع.. ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء، إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وأبو برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن التابعين:(5/16)
الشعبي، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وعطاء، والزهري، رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال النخعي، ومالك، وأبو حنيفة: (يلزم البيع بنفس العقد، ولا يثبت خيار المجلس، وإنما يثبت الخيار بالشرط فقط) .
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، فإذا تفرقا.. فقد وجب البيع» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» .(5/17)
وروى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» .
ومعنى قوله: «إلا بيع الخيار» إلا بيعا قطعا فيه خيار المجلس: إما بالتخاير بعد العقد، أو باعه على أنه لا خيار بينهما إذا قلنا: يصح؛ ولأنه عقد قصد به تمليك المال، فلا يلزم بمجرد العقد، كالهبة، وفيه احتراز من النكاح والخلع.
إذا ثبت هذا: فالتفرق: هو أن يتفرقا بأبدانهما عن مجلسهما الذي تبايعا فيه وكيفية ذلك مأخوذ مما عد في عادة الناس وعرفهم تفرقا.
فإن كانا في دار صغيرة، أو مسجد صغير، أو سفينة صغيرة.. فبأن يخرج أحدهما من الدار، أو المسجد، أو السفينة، أو يصعد السطح.
وإن كانا في دار، أو مسجد كبير، أو سفينة كبيرة.. فبأن يقوم أحدهما من ذلك المجلس، ويمشي إلى مجلس آخر، أو يدخل من صحن الدار إلى الصفة، أو من الصفة إلى البيت.
وإن كانا في صحراء، أو سوق، أو شارع، أو طريق.. فالذي قال الشافعي(5/18)
- رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن أحدهما إذا قام وولى الآخر ظهره.. فقد وقع التفرق) .
قال أصحابنا: أراد: إذا قام، وولى ظهره، ومشى خطوتين أو ثلاثا؛ لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان إذا أراد أن يجب البيع.. مشى قليلا) .
قال أبو سعيد الإصطخري: إنما يحصل التفرق بأن يتفرقا، بحيث إذا كلم أحدهما صاحبه بغير صياح ولا مناداة، بالخطاب المعتاد.. لا يسمع.
فإن تبايعا، وقاما جميعا من المجلس، وتسايرا يومهما وليلتهما، أو أكثر بحيث لم يتفرقا.. لم ينقطع خيارهما؛ لما روي: «أن رجلين ترافعا إلى أبي برزة الأسلمي، وكان قد أقاما في مجلس البيع يومهما وليلتهما، ثم ذهبا إليه، فقال: لأقضين بينكما بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما أراكما تفرقتما» .
قال صاحب " الفروع ": وقيل: لو لم يتفرقا، ولكنهما شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل.. بطل الخيار. وليس بشيء.
[فرع ما لا يضر في الخيار]
] : فإن جعل بينهما ستر من بناء حائط، أو ستارة.. لم ينقطع خيارهما بذلك؛ لأن ذلك لا يحصل به التفرق.
وأما التخاير: فإن قال أحدهما: اخترت إمضاء العقد.. انقطع خياره، فإن قال الآخر: اخترت فسخ العقد.. انفسخ العقد.
وهكذا: لو اختار أحدهما فسخ العقد.. انفسخ العقد. ولو اختار الآخر إمضاءه بعد ذلك.. لم يؤثر ذلك؛ لأن الخيار لكل واحد منهما، فإذا اختار أحدهما الفسخ.. انفسخ من الجانبين.(5/19)
وإن قال أحدهما للآخر: اختر، فسكت المسئول.. لم ينقطع خياره، وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينقطع، كما لو قال لزوجته: اختاري، فسكتت.. فإن خيار الزوج لا ينقطع في طلاقها.
والثاني: ينقطع خياره، وهو المذهب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو يقول أحدهما للآخر: اختر» .
ولأنه لم يقل هذا إلا بعد الرضا منه بالبيع. ويخالف الزوجة، فإنها لم تكن مالكة للخيار، فإذا خيرها، فلم تختر.. بقي الزوج على خياره.
[فرع الإكراه على التفرق]
] : قال الشيخ أبو حامد: إذا أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. لم يبطل خيارهما، وجها واحدا؛ لأنهما قد أكرها عليه، فلم ينقطع خيارهما إلا بالتراضي. وإن أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه ينقطع خيارهما؛ لأنهما قد قدرا على الفسخ بالقول، فكان سكوتهما رضا منهما بالإمضاء.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا ينقطع خيارهما؛ لأن وجود التفرق مع الإكراه كعدمه، وسكوتهما عن الفسخ لا يسقط الخيار الثابت.
وقال القفال: إذا أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. سقط خيارهما، وجها واحدا. وإن أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان.
فإن هرب أحدهما من الآخر.. لزم العقد، وجها واحدا؛ لأنه فارقه باختياره، وليس يقف افتراقهما على تراضيهما جميعا؛ لأنه لما سكت عن الفسخ، وفارق صاحبه.. لزم البيع.(5/20)
[فرع غياب العقل]
] : وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه قبل التفرق.. لم يبطل خياره.
قال ابن الصباغ: فإن كان له ولي.. قام مقامه في اختيار ما هو أحظ له، وإن لم يكن له ولي.. قام الحاكم مقامه.
وإن خرس، فإن كانت له إشارة مفهومة أو خط.. قام ذلك مقام لفظه، وإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا خط.. كان كالمغمى عليه، ينوب عنه وليه أو الحاكم.
[فرع تقدير خيار الموكل والوكيل]
إذا اشترى الوكيل شيئا لموكله.. فهل يتقدر الاختيار بمجلس الوكيل، أو الموكل؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يتقدر بمجلس الوكيل.
فإن مات الوكيل قبل التفرق والتخاير.. فهل ينتقل إلى الموكل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب -: أنه ينتقل إليه؛ لأن العقد له.
والثاني: لا ينتقل إليه؛ لأن الخيار تعلق بمجلس الوكيل، وليس الموكل وارثا له.
[فرع بيعان في مجلس]
] : إذا تبايعا وتقابضا، وتبايعا بالعوض المقبوض بيعا ثانيا قبل التفرق، أو التخاير.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس، وهو المشهور -: أن البيع الثاني صحيح،(5/21)
وينقطع الخيار للأول؛ لأن دخولهما في الثاني رضا منهما بلزوم العقد الأول.
والثاني - حكاه ابن الصباغ عن القفال -: أن الثاني لا ينعقد إلا على القول الذي يقول: إن الخيار لا يمنع انتقال الملك.
فإذا قلنا: يمنع.. فلا يصح.
[فرع تولي الولي طرفي العقد]
إذا اشترى الأب أو الجد شيئا من مال ابنه الصغير، أو باعه وتولى طرفي العقد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدهما - وهو المشهور -: أن خيار المجلس يثبت، ولا يلزم العقد إلا بمفارقة الأب مجلس العقد، أو باختياره للإمضاء؛ لأنه لما قام مقام الابن في العقد.. قام مقامه في خيار المجلس.
والثاني - حكاه الطبري في " العدة " -: أنه لا يثبت خيار المجلس؛ لأنه ليس هاهنا أحد يفارقه.
والثالث - حكاه أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " -: أنه يثبت، ولكن لا يلزم إلا بالاختيار بالقول، ولا يلزم بمفارقته مجلس العقد؛ لأنه لما كان هو العاقد لا غير.. كان كالمتبايعين إذا قاما من مجلسهما إلى مجلس آخر، واصطحبا إلى مكان بعيد.. فلا يبطل خيارهما ما لم يتفرقا، إلا بالتخاير.
[مسألة شرط عدم الخيار]
] : إذا شرطا قطع خيار المجلس في حال العقد، مثل أن يقول: بعتك على أن لا يكون بيننا خيار المجلس، فقال المشتري: قبلت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(5/22)
القديم، و" البويطي ": (إن الخيار لا ينقطع) ؛ لأنه قال: (وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» يحتمل تأويلين:
أحدهما - وهو أظهرهما عند أهل اللغة واللسان، وأقواهما بالسنة والقياس -: أن يتخايرا بعد التبايع.
والثاني: أن يتخايرا في عقد البيع، ولا أقول هذا، وقولي الأول) .
وقال في (الأيمان والنذور) : (إذا قال الرجل لعبده: إذا بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا ليس ببيع خيار.. عتق) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: المسألة على قول واحد، وإن قطع الخيار في حال العقد لا يجوز، والذي قاله في (الأيمان والنذور) : إنما قصد به الرد على مالك وأبى حنيفة؛ لأنهما يقولان: (ليس بين المتبايعين خيار المجلس) .
وإذا تم العقد.. لزم البيع، ولم يعتق العبد، إلا إن كان بينهما خيار الشرط، فأراد الشافعي بقوله: (ليس ببيع خيار) أي: خيار الشرط.
ومنهم من جعل ذلك قولا آخر للشافعي، فجعل المسألة على قولين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد:
أحدهما: يصح الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» . وهذا استثناء من إثبات، فوجب أن يكون نفيا، ولأن خيار المجلس غرر، فإذا صح البيع معه.. فلأن يصح مع عدمه أولى.
والثاني: لا يصح الشرط، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يتخايرا» . والتخاير لا يكون إلا بعد البيع؛ لأنهما قبل تمام العقد لا يقال لهما متبايعان، بدليل: أن من حلف لا يبيع.. لا يحنث إلا بعد الإيجاب والقبول، ولأن هذا خيار يثبت بعد تمام البيع، فلم يجز إسقاطه قبل ذلك، كخيار الشفعة، وفيه احتراز من خيار القبول.
فإذا قلنا: إن الشرط جائز.. وقع البيع لازما، ولا خيار.(5/23)
وإذا قلنا: إن الشرط باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله، كما لو قال: بعتك على أن لا أسلم المبيع.
والثاني: لا يبطل البيع؛ لأنه لا يؤدي إلى جهالة العوض والمعوض، فلم يبطل العقد لأجله.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا باعه على أن لا خيار بينهما.. ففيه وجهان، وإن شئت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل البيع والشرط.
والثاني: يصح البيع والشرط.
والثالث: يصح البيع، ويبطل الشرط.
إذا ثبت هذا: فقال الرجل لعبده: إن بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا مطلقا.. فإنه يعتق إذا تم الإيجاب والقبول؛ لأنه يثبت له خيار المجلس، وهو يملك إعتاقه، فكذلك إذا وجدت صفة العتق فيه.
وإن باعه بيعا شرط فيه قطع خيار المجلس، فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم يعتق العبد؛ لأن الصفة لم توجد. وإن قلنا: إن الشرط صحيح، والبيع صحيح.. لم يعتق العبد أيضا؛ لأن البيع يقع من غير خيار. وإن قلنا: الشرط باطل، والبيع صحيح.. عتق العبد، كما لو باعه مطلقا.
[مسألة العقود التي يثبت بها الخيار]
] : ويجوز شرط خيار الثلاث في البيوع التي لا ربا فيها؛ لما روي: «أن حبان بن منقذ أصاب رأسه آمة، فثقل لسانه، فكان يغبن في بياعاته، فجاء أهله إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا بايعت.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثة أيام» .(5/24)
إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا العقود التي يثبت فيها الخيار والتي لا يثبت فيها، على ترتيب المزني؛ ليسهل حفظه، فمنها: الصرف والسلم، يثبت فيهما خيار المجلس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» . وهذان متبايعان، ولا يثبت فيهما خيار الشرط؛ لأنهما يفتقران إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيهما خيار الشرط.. أدى إلى أن يفترقا قبل تمامهما، فلم يصح.
وأما الرهن: فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط؛ لأن الراهن بالخيار ما لم يقبض الرهن، والمرتهن له فسخ الرهن متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين.
وكذلك القرض لا يثبت فيه الخياران؛ لأن للمقرض أن يطالب بالقضاء متى شاء، وللمقترض أن يقضي متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين.(5/25)
وأما الصلح: فعلى ثلاثة أضرب: صلح هو حطيطة، وصلح بمعنى البيع، وصلح بمعنى الإجارة.
فأما صلح الحطيطة: فبأن يدعي عليه ألفا، فيقر له بها، ثم يبرئه من بعضها، ويأخذ منه الباقي، فلا خيار فيه، كالإبراء.
وأما صلح البيع: فبأن يعطيه بالألف عينا، فهذا بيع يثبت فيه الخياران، كالبيع.
وأما صلح الإجارة: فبأن يملكه منفعة عين من أعيان أمواله بالألف، فهذا كالإجارة على ما يأتي.
وأما الحوالة: فلا يثبت فيها خيار الشرط. وفي خيار المجلس وجهان:
أحدهما: يثبت؛ لأنها معاوضة في الحقيقة.
والثاني: لا يثبت؛ لأنها تجري مجرى الإبراء، بدليل: أنها لا تصح بلفظ البيع، فلم يثبت.
وأما الضمان والكفالة بالأبدان: فلا يثبت فيهما الخياران؛ لأن الضامن يدخل فيهما متطوعا مع الرضا بالعين، ولهذا يقال: الكفالة: أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
وأما الوكالة والشركة والعارية والوديعة والقراض والجعالة: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأنها عقود جائزة، لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فلا معنى لإثبات خيار المجلس فيها وخيار الشرط.
وأما الشفعة: فلا يثبت فيها خيار الشرط؛ لأنها لا تقف على التراضي. وأما خيار المجلس: فلا يثبت للمشتري؛ لأنه يؤخذ منه الشقص بغير اختياره، وهل يثبت للشفيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له؛ لأن ذلك معاوضة.
والثاني: لا يثبت له، كما لا يثبت له خيار الشرط.(5/26)
وأما المساقاة والإجارة المعقودة على زمان: فلا يثبت فيهما خيار الشرط، وهل يثبت فيهما خيار المجلس؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت فيهما، كما لا يثبت فيهما خيار الشرط.
والثاني: يثبت فيهما؛ لأن قدره يسير.
وأما الإجارة في الذمة: فمثل: أن يستأجره ليحصل له بناء حائط، أو ليحصل له خياطة ثوب: ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يثبت فيها الخياران؛ لأن الإجارة عقد على ما لم يخلق، وذلك غرر؛ فلا يجوز أن يضاف إليه غرر الخيار.
والثاني: يثبتان؛ لأن بمضي المدة لا ينفصل من المعقود عليه شيء.
والثالث: يثبت فيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، كالسلم.
وأما الوقف: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا يثبت فيه الخيار، كالعتق.
وأما الهبة: فإنها قبل القبض لا تلزم، وأما بعد القبض: فإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم يثبت فيها خيار. وإن قلنا: تقتضي الثواب.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: هل يثبت فيها الخياران؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبتان؛ لأنها معاوضة، فأشبهت البيع.
والثاني: لا يثبتان؛ لأنها وإن كانت معاوضة، فليس القصد منها العوض، فلم يثبت فيها الخيار، كالنكاح.(5/27)
وقال القاضي أبو الطيب: لا يثبت فيها خيار الشرط، وجها واحدا، وفي خيار المجلس وجهان.
وأما الوصية: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأن الموصي بالخيار إلى أن يموت، فإذا مات.. سقط خياره، وكان الموصى له بالخيار إن كان معينا إلى أن يقبل، وهل يثبت له الخيار بعد القبول وقبل القبض؟ فيه وجهان.
وأما النكاح: فلا خيار فيه؛ لأنه لا يقصد منه العوض.
وأما الصداق: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يثبت فيه الخيار، ومنهم من قال: يثبت إذا شرط، ونذكر ذلك في النكاح إن شاء الله تعالى.
وأما الخلع: فلا يثبت فيه خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يثبت؛ لأنه معاوضة، فإذا فسخ.. بقي الطلاق رجعيا.
والثاني: لا يثبت؛ لأن القصد منه الفرقة، دون المال، فأشبه النكاح.
وأما الطلاق: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إذا وقع لم يرتفع.
وأما السبق والرمي: فإن قلنا: إنهما كالجعالة، فهما عقدان جائزان.. فلا يثبت فيهما الخيار. وإن قلنا: إنهما كالإجارة.. فقد مضى حكمها.
وأما القسمة: فإن كان فيها رد.. ثبت فيها الخياران؛ لأنها بيع. وإن لم يكن فيها رد، فإن كان الحاكم يقسمها.. فهي قسمة إجبار، فلا خيار فيها وإن اقتسم الشريكان بأنفسهما، فإن قلنا: إنها إقرار الحقين.. فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع.. ثبت فيها الخياران.
وأما العتق: فلا خيار فيه؛ لأنه إسقاط حق. وكذلك التدبير لا يثبت فيه الخيار؛ لأنه عتق بشرط.
وأما الكتابة: فلا خيار للسيد فيها؛ لأنه يدخل على وجه القربة، ويعلم أنه مغبون من جهة المال، وأما العبد: فله الخيار إلى أن يؤدي المال.(5/28)
[فرع جواز خيار الشرط]
] : وكل عقد صح فيه خيار الشرط.. صح أن يشترطا خيار يوم أو يومين؛ لأنه إذا جاز شرط الخيار في الثلاث.. فلأن يجوز فيما دونها أولى.
قال الزبيري: إذا قال: بعتك على أن لي الخيار إلى طلوع الشمس من الغد.. لم يجز، وإن قال: إلى وقت طلوعها.. جاز؛ لأن طلوع الشمس مجهول؛ لأنها قد تتغيم، فلا تطلع وقت طلوعها، ووقت طلوعها لا يتغير، ولو قال إلى غروب الشمس.. جاز؛ لأن الغروب سقوط القرص، ولا مانع من ذلك كما يمنع الغيم من طلوعها.
وإن تبايعا بالنهار، وشرطا الخيار إلى الليل، أو تبايعا بالليل، وشرطا الخيار إلى النهار.. لم يدخل الليل والنهار في الخيار.
وقال أبو حنيفة: (يدخلان) .
دليلنا: أنها مدة ملحقة بالعقد، فلا يدخل حدها في محدودها، كالأجل.
[فرع معرفة معنى لا خلابة]
] : إذا قال في بيعه: " لا خلابة "، قال ابن القطان: فإن كانا عالمين بأن ذلك عبارة عن خيار الثلاث.. ثبت، وإن كان البائع عالما بذلك، والمشتري جاهلا به.. فيتحمل وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ لأنه ليس في ذلك ذكر الشرط.(5/29)
والثاني: يلزمه، ولا يعذر في جهله، كما إذا بايع محجورا عليه.. لزمه حكم حجره وإن كان جاهلا به.
[فرع لا خيار فوق ثلاث]
] : ولا يجوز أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يجوز أن يشترط من الخيار ما تدعو الحاجة إليه. فإن كان المبيع ثوبا.. جاز أن يشترطا ساعة، ولا يجوز أكثر، وإن كان المبيع قرية أو ضيعة.. جاز أن يشترطا ما تدعو الحاجة إليه من شهر أو أكثر) .
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد: (يجوز شرط الخيار ما شاءا، كالأجل) .
دليلنا: ما روي «عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ - إنه كان ضرير البصر - جعل له عهدة ثلاثة أيام، إن رضي.. أخذ، وإن سخط.. ترك» .
ولأن الخيار غرر في العقد، وإنما جوز رخصة ولأجل الحاجة، فيجب أن يتقدر بما تدعو الحاجة إليه غالبا، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من الثلاث في الغالب؛ لأنه أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، ولهذا: «جوز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثا» .(5/30)
وأما الدليل على أن الثلاث يجوز شرطها في البيان، وما يتوصل إلى معرفته في أقل من الثلاث: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحبان بن منقذ: ولك الخيار ثلاثا» ولم يفرق.
وإن اشترى شيئا يسرع إليه الفساد قبل انقضاء الثلاث، كالهريسة وما أشبهها، وشرط فيه خيار ثلاثة أيام.. فسمعت الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: يحتمل وجهين:
أحدهما: يبطل البيع.
والثاني: يصح البيع.
وإذا خيف عليها الفساد قبل انقضاء الخيار.. بيعت، وجعل ثمنها قائما مقامها.
[فرع إسقاط الزائد من الخيار]
] : إذا شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام.. فسد البيع، وإن أسقط ما زاد على الثلاث.. لم يحكم بصحة العقد، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة: (إذا أسقط ما زاد على الثلاث بعد العقد.. صح البيع) .
دليلنا: أن العقد وقع فاسدا، فلم يصح حتى يستأنف العقد، كما لو باع درهما بدرهمين، ثم أسقطا الدرهم الزائد بعد العقد.(5/31)
[فرع جواز اشتراط الخيار لأحدهما]
] : ويجوز أن يشترط الخيار لأحدهما دون الآخر، ويجوز أن يشترط لأحدهما ثلاثا، ولأحدهما يوما، أو يومين؛ لأن ذلك يجوز رفقا بهما، فجاز ما تراضيا عليه من ذلك.
فإن شرطا الخيار، ثم اختارا إمضاء العقد.. لزم العقد، وانقطع الخيار، كما قلنا في خيار المجلس.
[فرع جهالة مدة الخيار]
وإن شرطا في البيع خيارا مجهولا.. بطل الشرط والبيع، وبه قال أبو حنيفة.
وقال ابن أبي ليلى: الشرط باطل: والبيع صحيح.
وقال ابن شبرمة: الشرط صحيح، والبيع صحيح.
وقال مالك: (إذا اشترطا الخيار، ولم يقدراه.. صح) . وجعل لهما من الخيار قدر ما يختبر به المبيع في العادة.
دليلنا: أنها مدة ملحقة بالعقد، فلم يجز مع الجهل بها، كالأجل.
[فرع رضا وخيار الأجنبي]
] : وإن قال: بعتك على رضا فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يسأل، فإن قال: أردت به أن يكون الخيار لي وله على وجه النيابة.. صح، وإن قال: أردت أن الخيار له دوني، وكان ذلك مقدرا بثلاثة أيام فما دونها.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح هذا الشرط؛ لأنه حكم من أحكام العقد، فلم يجز أن يجعل إلى غيرهما، كسائر أحكامه. فعلى هذا: يبطل البيع.(5/32)
والثاني: يصح الشرط؛ لأن شرط الخيار أجيز هاهنا للأجنبي رفقا بهما للحاجة، وقد تدعو الحاجة إلى شرطه للأجنبي، بأن يكون أعرف بالمتاع المبيع منه.
فإذا قلنا بهذا: ثبت الخيار للأجنبي، وهل يثبت للبائع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له؛ لأنه إذا ثبت للأجنبي من قبله.. فلأن يثبت له أولى.
والثاني: لا يثبت؛ لأن ثبوته بالشرط، ولم يشترطه إلا للأجنبي.
فإن باع عبدا، وشرط الخيار للعبد.. قال ابن الصباغ: فهو على القولين، كما لو شرطه للأجنبي.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قال: بعتك هذه السلعة على أن أستشير فلانا، أو أستأمر فلانا.. لم يكن له أن يرد حتى يقول: قد استأمرت فلانا، فأمرني بالرد) .
فمن أصحابنا من قال: هذا على القول الذي يقول: إنه إذا شرط الخيار للأجنبي.. صح، وكان له دون الذي شرط.
ومنهم من قال: له أن يرد، ويجيز من غير أن يستأمر فلانا. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غير هذا؛ لأن له أن يفسخ من غير ذكر الاستئمار، فلا يسقط بذكر الاستئمار، وتأولوا كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تأويلين:
أحدهما: ليس له أن يرد احتياطا حتى يستشيره، ويأمره؛ لأنه ربما كان أعرف منه بالمبتاع.
والثاني: ليس له أن يرد، ويقول: استشرت فلانا، فأمرني بالرد، إلا وقد فعل؛ لئلا يكون كاذبا.
فإذا قلنا بالأول.. فهل يجوز إطلاق هذا؟ فيه وجهان:(5/33)
أحدهما: يجوز إطلاقه، ولا يكون مقدرا، كخيار الرؤية لا يتوقف.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا يجوز إلا مؤقتا ثلاثا، أو ما دونها؛ لأنه خيار شرط.
[فرع ابتداء مدة الخيار]
] : وإذا شرطا في البيع خيار الثلاث.. ففي ابتداء مدته وجهان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه من حين العقد؛ لأنه مدة ملحقة بالعقد، فكان ابتداؤها من حين العقد، كالأجل.
فعلى هذا: إذا اصطحبا في مجلس العقد أربعة أيام.. كان الخيار لهما في مدة الثلاث بالشرع والشرط، وفيما بعد الثلاث بالشرع، وإن شرطا أن يكون ابتداء الثلاث من حين التفرق.. بطل البيع، وجها واحدا؛ لأن ابتداء الخيار يكون مجهولا.
والوجه الثاني: أن ابتداء خيار الشرط من حين التفرق؛ لأن ما قبل ذلك الخيار ثابت فيه بالشرع.
فعلى هذا: إذا اصطحبا في مجلس البيع أربعة أيام، ثم افترقا قبل الفسخ أو الإجازة.. فإن في الأربع الخيار ثابت فيها بالشرع، وما بعدها الخيار ثابت فيها بالشرط.
فإن اشترطا على هذا أن يكون ابتداء خيار الشرط من حين العقد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشرط والبيع، وهو الصحيح؛ لأن ابتداء الخيار يكون معلوما.
والثاني: لا يصح الشرط؛ لأنه يسقط موجب العقد، وهل يبطل البيع؟ فيه وجهان مأخوذان ممن شرط إسقاط خيار المجلس في عقد البيع، وقلنا: لا يصح الشرط.. فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان، وقد مضى ذكرهما.(5/34)
[فرع قبض الثمن في زمن الخيار]
لا يكره نقد الثمن في خيار المجلس، ولا في خيار الشرط، وبه قال أبو حنيفة رحمة الله عليه.
وقال مالك: (يكره؛ لأنه يصير في معنى بيع وسلف، ولأنه إذا نقده الثمن، ثم تفاسخا.. صار كأنه أقرضه، فيجتمع بيع وقرض) .
دليلنا: أن هذا حكم من أحكام العقد، فجاز في حال الخيار، كالإجارة.
فإن باعه على أنه لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما.. فإن هذا ليس بشرط للخيار، بل هو شرط فاسد، ويفسد به البيع.
وكذلك: إن قال البائع: بعتك على أني إذا رددت الثمن بعد الثلاث فلا بيع بيننا.. فإن هذا ليس بشرط للخيار، بل هو شرط فاسد يبطل به البيع.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون في المسألة الأولى إثبات الخيار للمشتري وحده، وفي الثانية إثبات الخيار للبائع وحده) .
دليلنا: أنه علق فسخ العقد على شرط، فلم يصح، كما لو علقه بقدوم زيد، ولأنه إذا لم يجز تعليق تمامه على غرر.. لم يجز فسخه على غرر.
[فرع فسخ أحدهما الخيار]
] : ومن ثبت له الخيار.. فله أن يفسخ بمحضر من صاحبه وبغيبته.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بغيبة صاحبه) .
دليلنا: أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره، كالطلاق، وفيه احتراز من الإقالة.
فإن كان المبيع جارية، فأعتقها البائع في حال الخيار، أو وطئها، أو باعها، أو وهبها، أو أجرها.. فإن ذلك يكون اختيارا منه لفسخ البيع؛ لأنه يملك الفسخ، فجعل ذلك اختيارا للفسخ.(5/35)
وإن أعتقها المشتري.. كان ذلك اختيارا منه لإمضاء البيع.
وإن باعها، أو وطئها، أو وهبها، أو أجرها.. فهل يكون ذلك اختيارا منه للإمضاء؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يكون اختيارا؛ لأن ذلك لا يمنع الرد بالعيب.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون اختيارا للإمضاء؛ لأن ذلك يفتقر إلى الملك، فكان اختيارا للإمضاء، كالعتق.
وإن وطئها المشتري بحضرة البائع، وهو ساكت.. فهل ينقطع خيار البائع بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينقطع خياره بذلك؛ لأن رضاه بذلك اختيار منه للإمضاء.
والثاني: لا ينقطع خياره بذلك؛ لأنه لم يوجد منه إلا السكوت، وذلك لا يسقط حقه، كما لو رأى رجلا يحرق ثوبه، وهو ساكت.. فإنه لا يسقط بذلك حقه.
وقال الصيمري: فإن قال البائع - في حال الخيار -: لا أبيع حتى تزيدني في الثمن، وقال المشتري: لا أفعل، أو قال المشتري: لا أشتري حتى تنقص لي من الثمن، وقال البائع: لا أفعل.. كان ذلك اختيارا للفسخ.
وهكذا: إذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، أو طلب المشتري تأجيل الثمن الحال.. كان ذلك فسخا في حال الخيار. حكاه الصيمري.
[فرع ركوب الدابة لا يبطل الخيار]
وإن ركب الدابة من له الخيار في حال الخيار.. فهل يبطل خياره؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 236] :
أحدهما: يبطل؛ لأن ذلك تصرف يفتقر إلى الملك.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه يحتمل أنه ركبها للتجربة، فلا يبطل خياره بذلك.(5/36)
[فرع مضي مدة الخيار]
وإذا شرطا خيار الثلاث، فمضت الثلاث، ولم يفسخا، ولم يجيزا.. تم العقد، ولزم.
وقال مالك: (لا يلزم بمضي مدة الخيار) .
دليلنا: أن شرط الخيار ثلاثا يمنع من لزوم حكم العقد، فإذا انقضت.. ثبت موجب العقد، كالأجل إذا انقضى.. ثبت الدين، ولأن ترك الفسخ رضاء بالعقد، فلزمه.
[مسألة موت صاحب الخيار]
وإذا اشترطا الخيار في البيع، فمات من له الخيار في أثناء الخيار.. انتقل الخيار إلى وارثه، وبه قال مالك.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم: (يبطل خياره بموته) .
دليلنا: أنه خيار ثابت في معاوضة محضة، فقام الوارث فيه مقام المورث، كالرد بالعيب.
فقولنا: (ثابت) لأنه ليس لأحد أن يدفعه عنه، وفيه احتراز من خيار القبول في البيع، فإن البائع إذا قال: بعتك.. فإن الخيار في القبول قد ثبت للمشتري، ولكن للبائع أن يدفعه قبل القبول، ويقول: قد أبطلت الإيجاب.
وقولنا: (في معاوضة محضة) احتراز من المكاتب، فإنه لو مات لم يقم غيره مقامه في خيار الفسخ.
إذا ثبت هذا: فإن علم الوارث بالبيع، وبموت مورثه عند موته.. فله الخيار فيما(5/37)
بقي من مدة الخيار، وإن لم يعلم بهما، أو بأحدهما حتى مضت مدة الخيار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار في قدر ما بقي من مدة الخيار من حين علم؛ لأنه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت.. وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه.
والثاني: يثبت له الخيار على الفور؛ لأن المدة التي شرط فيها الخيار قد فاتت، فسقطت، وبقي الخيار، فكان على الفور، كالرد بالعيب.
[فرع موت أحد المتعاقدين في المجلس]
] : وإن مات المتبايعان، أو أحدهما في مجلس البيع قبل التفرق أو التخاير.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أكثر كتبه: (أن الخيار لا يبطل، وينتقل إلى الوارث) .
وقال في (كتاب المكاتب) : (إذا باع المكاتب شيئا، أو اشترى شيئا، ثم مات في مجلس البيع قبل التفرق أو التخاير.. وجب البيع) .
وظاهر هذا: أن الخيار يبطل بموته، واختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: لا يبطل الخيار في الحر، ولا في المكاتب، قولا واحدا. وقوله في (المكاتب) : (وجب البيع) أراد: أنه لا يبطل البيع، كما تبطل الكتابة، وقصد به الرد على قوم قالوا: يبطل البيع.
و [الثاني] : منهم من قال: بل أراد: أنه يبطل الخيار في بيع المكاتب، ولا يبطل في حق غيره على ظاهر النصين. والفرق بينهما: أن السيد ليس بوارث للمكاتب،(5/38)
وإنما يعود المكاتب رقيقا، فيستحق السيد بحق الملك، فلا ينوب منابه في الخيار بخلاف الحر.
و [الثالث] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يبطل؛ لأنه إذا بطل بالتفرق.. فلأن يبطل بالموت أولى.
والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأن خيار المجلس آكد من خيار الشرط؛ لأنه يثبت بمقتضى العقد، وخيار الشرط لا يثبت إلا بالشرط، فإذا لم يبطل خيار الشرط بالموت.. فلأن لا يبطل خيار المجلس أولى.
فعلى هذا: إذا كان الوارث حاضرا في مجلس البيع.. ثبت له الخيار إلى أن يتفرقا عن مجلسهما، أو يتخايرا، وإن كان غائبا عن مجلس البيع، وبلغه موت مورثه والبيع.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أن له الخيار إلى يفارق مجلسه الذي هو فيه، فإن فارقه قبل أن يفسخ، أو قام الثاني من المتبايعين من مجلسه.. لزم العقد.
والثاني - حكاه ابن الصباغ -: أن الخيار للوارث إذا نظر إلى السلعة ليعرف الحظ في الفسخ، أو الإجازة.
وإن ورث خيار المجلس جماعة، وكانوا في مجلس واحد، أو مجالس.. نظرت:
فإن فارقوا جميعا مجلسهم، أو مجالسهم.. لزم العقد في حقهم.
وإن فارقوا مجلسهم، أو مجالسهم إلا واحدا.. لم يلزم العقد؛ لأنه لم يحصل تمام الافتراق؛ لأنهم ينوبون جميعا مناب الميت، فإن اختار واحد الإجازة، واختار الباقون الفسخ.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:(5/39)
أحدهما: يقدم الفسخ، كالمتعاقدين إذا اختار أحدهما الفسخ، والآخر الإجازة.
والثاني: لا ينفسخ بقول بعضهم، كما لا يلزم بتفرق بعضهم.
وإن اختار بعضهم فسخ نصيبه فيه.. لم يكن له ذلك، كما لو فسخ المورث البيع في بعض المبيع.
[مسألة وقت انتقال الملك في الخيار]
وفي الوقت الذي ينتقل الملك فيه إلى المشتري في البيع الذي فيه خيار المجلس، أو خيار الشرط، ثلاثة أقوال، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما:
أحدها: أنه لا ينتقل إلا بشرطين: العقد، وانقطاع الخيار؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل متبايعين فلا بيع بينهما ما لم يتفرقا» . ومعلوم أنه لم يرد به: أنه لا عقد بينهما؛ لأن العقد قد وجد، فعلم أنه أراد: لا حكم للبيع بينهما ما لم يتفرقا، فثبت أن المشتري لم يملك، ولأن البائع لما ملك أن يفسخ مع سلامة الثمن ... دل على أن المشتري لم يملك أصله بأصل القبول.
فقولنا: (مع سلامة الثمن) احتراز من البائع إذا وجد بالثمن عيبا.
والقول الثاني: أن الملك موقوف مراعى فإن مضت المدة، ولم يفسخا.. تبينا أن المشتري ملك بنفس العقد، وإن فسخا.. تبينا أنه لم يملك، وأن الملك كان للبائع؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن المشتري قد ملك بالعقد؛ لأن للبائع أن يفسخ البيع ويزيله، ولا يجوز أن يقال: إن الملك لم يزل عن البائع؛ لأن سبب زوال الملك هو العقد، وقد وجد، فلم يبق إلا أن نقول إنه موقوف مراعى.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الأقوال.(5/40)
والقولُ الثالث: أن المِلك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من باع عبدًا وله مالٌ.. فمالُه للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» .
فظاهر هذا: أنه إذا اشترطه المبتاع.. كان له بالشرط والعقد، فمن قال: إنه لا يملكه بالعقد الشرط.. فقد خالف ظاهر الخبر، ولأنه معاوضة توجب التمليك، فملك بنفس العقد كالمهر في النكاح، وفيه احترازٌ من الكتابة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح الأقوال.
وأما صاحبُ " الإبانة " [ق\236] فقال: الصحيحُ: إن كان الخيار لهما.. فالملك موقوف، وإن كان لأحدهما.. فالملك لمن له الخيار.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الخيار لهما، أو للبائع.. لم يملك المشتري إلا بانقضاء الخيار، فإذا مضى الخيار زال ملك البائع، وملك المشتري بالعقد السابق، وإن كان الخيار للمشتري وحده.. فالمِلك قد زال عن البائع، ولم ينتقل إلى المشتري حتى تمضي مُدة الخيار، فإذا مضت.. ملك المشتري بالعقد السابق) . وتوجيه الأقوال دليل عليه.
إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع جارية، فأعتقها البائع قبل انقضاء الخيار.. فقد ذكرنا: أنه يكون اختيارًا منه للفسخ، وينفذ عتقه على الأقوال كلها؛ لأنها إن كانت باقية على ملكه.. فقد أعتق ملكه، وإن قلنا: إنها في ملك المشتري، إلا أن البائع يملك الفسخ، فجعل العتق فسخًا.. فينفذ، وإن أعتقها المشتري بغير إذن البائع، فإنه يكون اختيارًا منه للإمضاء، وهل ينفذ عتقه؟ ينظر في البائع:(5/41)
فإن اختار إجازة البيع بعد عتق المشتري، فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد، أو الملك موقوف.. نفذ عتقه؛ لأنه صادف ملكه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين.. لم ينفذ عتقه؛ لأنه أعتق قبل أن يملك.
وإن اختار البائع الفسخ بعد عتق المشتري، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاَّ بشرطين، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. لم ينفذ عتقه؛ لأنه لم يصادف ملكه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد.. فالمنصوص وهو قول الأكثرين من أصحابنا: (أنه لا ينفذ عتقه) ؛ لأنه أعتق ما لم يتم ملكه عليه؛ لأنّ للبائع الفسخ، ولأن عتق المشتري إجازةٌ، وفسخ البائع فسخ، وإن وجد من أحدهما الفسخ، ومن الآخر الإجازة.. قدم الفسخ وإن كان متأخرًا.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس بن سريج قال: ينفذ عتقه، ولم يفصل بين الموسر والمعسر. واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن عتقه صادف ملكه، كما لو أجاز البائع البيع.
وأما القاضي أبو الطيب: فقال: إنما ينفذ العتق عند أبي العباس إذا كان المشتري موسرًا، وإن كان معسرًا.. لم ينفذ، ولم يذكر في " المهذب " و" الشامل " عن أبي العباس غير هذا.
فإن قلنا بالمنصوص.. أخذ البائع عبده، وإن قلنا بقول أبي العباس.. ففيما يرجع به البائع وجهان:
أحدهما: أنه يرجع بقيمة العبد؛ لأن البيع قد انفسخ في العبد، وتعذّر الرجوع إلى عين العبد، فرجع إلى قيمته، كما لو تلف.
والثاني: يرجع إلى الثمن، فيكون العتق هاهنا مقرِّرًا للبيع، ومبطلا للفسخ، والأول أظهر.
وإن أعتق المشتري العبد بإذن البائع.. نفذ عتقه، وبطل خيارُهما؛ لأنهما قد رضيا بإمضاء البيع.(5/42)
[فرعٌ: شراء من يعتق عليه]
] : إذا اشترى من يعتق عليه، كوالده، أو ولده.. فهل يعتق عليه قبل انقضاء الخيار؟
قال ابن الصباغ: يجري ذلك مجرى المشتري إذا اشترى جارية فأعتقها قبل انقضاء الخيار، على التفصيل الذي ذكرناه.
[فرعٌ: العتق في الخيار]
إذا اشترى عبدًا بأمة، واشترطا الخيار للمشتري وحده، فإن أعتق المشتري الجارية في حال الخيار.. نفذ عتقه، وكان فسخا للبيع، وإن أعتق العبد.. نفذ عتقه، وكان اختيارًا لإمضاء البيع، وإن أعتقهما معًا في حالة واحدة.. لم يعتقا جميعًا.
قال القاضي أبو الطيب: وهذه من النوادر في أنه يملك عتق كل واحدٍ منهما على الانفراد، وإذا أعتقهما معًا.. عتق أحدُهُما بعينه.
وقال أبو حنيفة: (يعتقان) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يملك إعتاق أحدهما بعد الآخر، فلم يملك الجمع بينهما، كعبده وعبد غيره.
فإذا ثبت هذا: فأيُّهما يعتق عليه؟ فيه وجهان:
أحدُهما ـ وهو قول ابن الحدَّاد، واختيار أكثر أصحابنا ـ أنه يعتق العبد الذي اشتراهُ؛ لأن عِتقه للعبد إمضاءٌ، وعتقه للأمة فسخ.
وإذا اجتمع في حق من له الخيار ما يوجب الفسخ والإتمام.. كان الإتمام أولى؛ لأن الإتمام حق عليه لصاحبه، ولأن عتق الأمة يترتب على فسخ البيع، وعتق العبد(5/43)
لا يترتب على واسطة، فإذا كان كذلك.. كان العتق يسبق إلى العبد بلا واسطة قبل الأمة، فعتق، ولم تعتق الأمة.
والوجه الثاني ـ ولم يذكر ابن الصبّاغ غيره ـ: أنَّه يعتق عليه ما باع؛ لأن عتقه لما باع فسخ، ولما اشترى إجازة، وإذا اجتمع الفسخ والإجازة.. قدم الفسخ.
[فرعٌ: التصرُّف يلغي الخيار]
] : وإن باع البائع المبيع، أو وهبه في مدّة الخيار.. كان ذلك اختيارًا لفسخ البيع الأول، وصحّ بيعه الثاني.
وإن باع المشتري، أو وهبه، فإن كان بغير رضا البائع، والخيار لهما، فإن فسخ البائع البيع.. انفسخ البيع الأول، ولم يصح البيع الثاني؛ لأن له حق الفسخ. وإن أجاز البائع البيع، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاّ بشرطين.. لم يصح بيعه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد أو الملك موقوف.. فهل يصحُّ بيعُهُ؟ فيه وجهان:
أحدُهما: يصح بيعه؛ لأنه صادف ملكه.
والثاني: لا يصحُّ؛ لأنه باع عينا تعلق بها حق غيره، بغير إذنه.. فلم يصح، كالراهن إذا باع الرهن.
وإن باعه المشتري، أو وهبه بإذن البائع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح بيعه؛ لأنه ابتدأ به قبل أن يتم ملكه عليه.
والثاني: يصح بيعه؛ لأن المنع من التصرف لحق البائع، وقد رضي.
قال ابن الصبّاغ: وعلى الوجهين جميعًا قد لزم البيع الأول، وسقط الخيار فيه.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فباع، أو وهبَ.. قال المسعودي [في " الإبانة " [ق\236] : فيه ثلاثةُ أوجه:(5/44)
أحدها ـ وهو الأصح ـ: أنه يبطل الخيار في الأول، ويصح في الثاني.
والثاني: لا يبطل الخيار في الأول، ولا يصح البيع الثاني.
والثالث: يبطل الخيار في الأول، ولا يصح في الثاني.
[مسألةٌ: وطء الجارية زمن الخيار]
] : وإن كان المبيع جارية، وبينهما الخيار، فأراد أن يطأها البائع في حال الخيار.. لم يمنع من وطئها؛ لأنه يملكها في أحد الأقوال، وعلى القول الذي يقول: لا يملكُها إلا أنه يملك الفسخ، فإذا وطئها.. كان ذلك اختيارًا للفسخ. وإن أراد المشتري وطأها.. لم يجز له ذلك؛ لأنها على ملك البائع في بعض الأقوال، وفي بعضها على ملك المشتري، إلاَّ أنه ملك غير تامّ؛ لأن للبائع أن يزيل ملكه، والوطء لا يجوز إلاَّ في ملك تامّ.
قال الصيمري: فإن اشترى زوجته، وأراد وطأها قبل انقضاء الخيار.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يحل له ذلك؛ لأنه لا يدري أيطأ بالملك، أم بالزوجية؟) .
وحكى الشاشي في " حلية العلماء " وجهًا آخر: أنه يحل له. وليس بشيء.
فإن قال لها بعد الشراء، وقبل انقضاء الخيار: أنت طالق، فإن أمضيا العقد، فإن قلنا: إنه يملك بالعقد، أو الملك موقوف.. لم يقع طلاقه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين.. وقع طلاقه.
وإن فسخا البيع، فإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين، أو الملك موقوفٌ.. وقع طلاقه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد.. فهل يقع طلاقه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.(5/45)
[فرعٌ: وطء الجارية المشتراة]
] : إذا كان المبيع جارية، فوطئها المشتري في حال الخيار، وأحبلها.. تعلق بذلك سبعة أحكام: أربعة غير مبنية على الأقوال، وثلاثة مبنية عليها.
فأمَّا الأربعة: فلا يجب على المشترى حدّ؛ لأنه يملكها في بعض الأقوال، وله شُبهة ملك في بعضها، ويكون الولد ثابت النسب منه، لأن الحد إذا لم يجب.. ثبت النسب، ويكون الولد حرًّا؛ لأن الجارية إمّا ملكه أو له فيها شبهة ملك، وهل ينقطع خيارُه بذلك؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وأمَّا المهر، وقيمة الولد، وكون الجارية أم ولدٍ.. فمبنيَّةٌ على الأقوال، ثم ينظر فيه:
فإن أمضى البائع البيع، فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد، أو قلنا: إنّ الملك موقوفٌ.. لم يجب على المشتري المهر، ولا يلزمه قيمة الولد، وتصير الجارية أم ولد، قولاً واحدًا؛ لأن وطأه صادف ملكه. وإن قلنا: إنّ المشتري لا يملك إلا بشرطين.. فقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: وجب عليه المهر؛ لأنّه وطئها وهي في ملك غيره.
وحكى في " المهذب "، عن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يجب عليه المهر على هذا القول.
وقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\237] : في وجوب المهر على هذا القول وجهان، بناءً على أن الاعتبار في الحال أو المآل، وهل يجب عليه قيمة الولد؟ فيه وجهان بناءً على القولين في الحمل، هل له حكمٌ؟ فإن قلنا: للحمل حكمٌ.. وجبت قمتُه؛ لأنّ العلوق كان في ملك البائع، وإن قلنا: لا حكم له.. لم يجب؛ لأن الوضع في ملك المشتري، ولا تصير الجارية أم ولدٍ له في الحال، وهل تصير أم ولدٍ إذا ملكها؟ فيه قولان، بناءً على القولين فيمن استولد جاريةَ غيره بشبهة.(5/46)
وإن فسخ البائع البيع، فإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. وجب عليه المهر؛ لأنّ وطأه صادف ملك البائع، ولا تصير الجارية أم ولدٍ له في الحال، وهل تصير أم ولدٍ له إذا وطئها؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان:
أصحهما: أنه لا يجبُ؛ لأن الوطء صادف ملكه.
والثاني: يجب؛ لأنها وإن كانت ملكه إلا أن حق البائع متعلق بها، ولا تصير الجارية أم ولد له على المنصوص، فإن ملكها.. صارت أم ولد له، قولاً واحدًا، وعلى قول أبي العباس: تصيرُ أم ولدٍ له في الحال، وهل يجب عليه قيمتها، أو الثمن المسمى؟ فيه وجهان، كما قلنا في العتق.
[مسألة: نماء الجارية والبهيمة في الخيار]
] : فإن اشترى جارية، أو بهيمة حاملاً، فولدت في مدة الخيار.. فلمن يكون الولد؟ يبنى ذلك على أصلين.
أحدُهُما: الأقوال في انتقال الملك، وقد مضى توجيهها.
والثاني: الحمل هل له حكمٌ، أو يأخذ قسطًا من الثمن؟ وفي ذلك قولان:
أحدهما: لا حكم له، ولا يأخذ قسطا من الثمن؛ لأنه جزء متصلٌ بها، فلم يأخذ قسطًا من الثمن، كسائر الأعضاء، ولأنه لو قال لجاريته الحامل: يدك حرّة.. لعتقت، وعتق حملها، فدلّ على: أنَّ الحمل كسائر أعضائها.
والثاني: له حكمٌ، ويأخذ قسطًا من الثمن، وهو الصحيح؛ لأن ما أخذ قسطًا من الثمن بعد الانفصال.. أخذ قسطًا من الثمن قبل الانفصال، كاللبن، ولأنه لو قال لجاريته الحامل: حملك حر.. لعتق الحمل، ولم تعتق الجارية، ولو كان كعضو منها.. لعتقت الجارية، كما إذا أعتق عضوًا منها.(5/47)
فإذا قلنا بهذا: فالحمل مع الأم كالعينين المبيعتين، فإن أمضيا البيع.. كانا للمشتري، وإن فسخا البيع.. كانا للبائع.
وإن قلنا: لا حكم للحمل، قال الشيخ أبو حامد: فالحكم فيه وفي الكسب واحدٌ، فينظر فيه:
فإن أجاز البيع، فإن قلنا: إنّ المشتري يملك بنفس العقد، أو قلنا: إن الملك موقوفٌ.. فالولد والكسب للمشتري؛ لأنّه حدث في ملكه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلاَّ بشرطين.. ففيه وجهان: حكاهما ابن الصبّاغ في " الشامل ":
أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: أن الولد والكسب للبائع؛ لأنهما حدثا في ملكه.
والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنهما للمشتري تبعًا للأم. وليس بشيء.
وإن فسخا البيع، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاَّ بشرطين، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. فالولد والكسبُ للبائع؛ لأنهما حدثا في ملكه. وإن قلنا: ينتقل الملك بنفس العقد.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما للبائع؛ لأنَّ عتق المشتري لا ينفذ على هذا.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنهما للمشتري؛ لأنهما نماء ملكه، ويخالف العتق، فإن العتق لا ينفذ إلاَّ في ملك تامّ، ألا ترى أن المكاتب لا ينفذ عتقه، ويتبعه ولده وإن ضعُف ملكه.
[مسألة: تلف المشترى في مدة الخيار]
] : وإن اشترى عينًا بشرط الخيار، فقبضها، ثم تلفت في مدة الخيار.. فحكى القاضي أبو الطيب: أن الشافعي نص في بعض كتبه: (أن البيع ينفسخ، ويجب على المشتري القيمة) . وقال في (الصداق) : (يلزمه الثمن) . قال القاضي أبو(5/48)
الطيّب: ويحتمل أنّه أراد بالثمن: القيمة، ويحتمل أنّه أراد: إذا كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: يملك بنفس العقد.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الخيار لا يسقط، فإن فسخا البيع أو أحدهما.. وجب على المشتري القيمة؛ لأن العين تلفت في يده، وإن أمضيا البيع، أو سكتا حتى انقضى زمان الخيار، فإن قلنا: إنَّ المشتري ملك بالعقد، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. فقد تلف المبيع على ملك المشتري، فيستقرُّ عليه الثمن. وإن قلنا: إنّه لا يملك إلاَّ بشرطين.. ففيه وجهان:
أحدُهُما ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أنّه يجب على المشتري القيمة؛ لأنه تلف في يده، وهو ملك للبائع، فهو كالمقبوض بالسَّوْم إذا تلف في يده.
والثاني ـ حكاهُ ابن الصَّباغ عن الشيخ أبي حامد ـ: أنّه يجب عليه الثمن؛ لأنه مسمى ثبت بالعقد، فلم يسقط مع بقاء العقد، ولأن القبض إذا وقع.. استقرَّ به البيع، فلم ينفسخ بهلاك المبيع.
فال ابن الصبَّاغ: والأول أصحُّ؛ لأن المبيع إذا تلف في ملك البائع.. لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري. وقوله: إنّ العقد يستقرُّ بالقبض، فغيرُ صحيح؛ لأنه لا يستقرّ مع بقاء الخيار.
وبالله التوفيق(5/49)
[باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه]
لا يجوز بيع الكلب، سواءٌ كان معلما أو غير معلم، ولا يجب على متلفه قيمته، وبه قال الحسن، وربيعة، وحمّاد، وأحمد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيعه، ويجب على متلفه قيمته) .
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يحل بيعه وأخذ ثمنه؛ لأجل النهي، ويجب على متلفه قيمته) .
دليلنا: ما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثمن الخمر ومهر البغي حرام، وثمن الكلب حرام، فإن جاء صاحب الكلب يلتمس ثمنه.. فاملأ كفّيه تُرابًا» .(5/50)
وتجوز الوصية به؛ لأن ذلك نقل اليد، واليد تثبت عليه، وهل تصح هبته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن القاص: تصح هبته.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا تصح هبته؛ لأن الهبة تمليك، والكلب غير مملوك. قال: ولعل أبا العباس أراد بالهبة: أنّها تصح على الوجه الذي تصحّ الوصية به؛ لأنه إذا نقلته إلى يد غيره على وجه التبرع.. صح، كما يصح ذلك في الوصية، ولم يكن له الرجوع في ذلك، وهذا معنى الهبة.
ولا يجوز بيع الخنزير؛ لما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الخنزير» .
[مسألةٌ: بيع الخمر]
ولا يجوز بيع الخمر. وقال أبو حنيفة: (يجوز للمسلم أن يؤكل ذِميًّا في بيعها وشرائها) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم التجارة في الخمر» .
وروى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه جبريل، فقال: يا محمد، إنّ الله تعالى لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقيها» .(5/51)
وروى جابرُ بن عبد الله: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عام الفتح بمكة: "إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"، فقيل يا رسول الله: أرأيت شُحوم الميتة فإنه يطلى بها السُّفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها؟ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: "قاتل الله اليهود، حرِّمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا ثمنها". إن الله إذا حرّم أكل شيء على قوم.. حرّم عليهم ثمنه»
إذا ثبت هذا: فإن اقتناء الخمر لا يجوز؛ لما روى أنسٌ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الخمر يصنع خلا، فكرهه، وقال: أهرقها» ، ولأن اقتناء ما لا منفعة فيه سفهٌ، فلم يجز.(5/52)
[فرعٌ: بيع السرجين]
ولا يجوز بيع السرجين. وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أنّه نجس العين، فلم يجز بيعه، كلحم الميتة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويكره اقتناؤه، وتربية الزرع به؛ لما فيه من مباشرة النجاسة.
ولا يجوز بيع العذرة والبول، ولا اقتناؤهما؛ لأنهما نجسا العين، ولا منفعة فيهما، فلم يجز بيعهما، ولا اقتناؤهما، كالخمر.
[فرعٌ: اقتناء الكلب]
] : ويجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية والزرع؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد، أو ماشية أو زرع.. نقص من أجره كل يوم قيراطان» . وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدروب والدكاكين؟ فيه وجهان:(5/53)
أحدهما: يجوزُ؛ لأنّ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يجوز اقتناؤه إلا لصاحب حرث، أو صيد، أو ماشية، أو ما كان في معناها) ، ولأنّه اقتناه لحفظ مالٍ، فأشبه الماشية والزرع.
والثاني: لا يجوز؛ لأنّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خصّ الأشياء الثلاثة، فدلّ على: أنّه لا يجوز اقتناؤه لأجل غيرها. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ أو صورةٌ» ، ولأنه إذا اقتناه لحفظ البيوت، ربما تتم عليه حيلةٌ، فيكون ذلك سبب تلف ماله، بخلاف الصيد والماشية والزرع، فإنّه لا يتم للمتّخذ له حيلةٌ عليه.
وإن اقتناه رجل ليس له زرع ولا ماشية، أو كان غير صائد، لكن إن حصل له زرع أو ماشية حفظهما [به] ، أو ليصطاد به إن أراد ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ليس بصاحب شيء من ذلك.
والثاني: يجوز؛ لأنه اقتناه لذلك، ألا ترى أنّه إذا حصد الزرع.. جاز اقتناؤه لزرع مستقبل، فأما إذا اقتنى كلب صيد، ولا يريد أن يصطاد به.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " فيه وجهين:
أحدهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إلا كلب صيد» . وهذا كلبُ صيد.(5/54)
والثاني: لا يجوز؛ لأنه اقتناه لغير حاجةٍ ماسّة، فأشبه إذا كان غير ذلك من الكلاب، ومعنى الخبر في قوله: «إلاَّ كلب صيد» ، أي: كلبٌ يصطادٌ به، وأمّا تربية الجرو للصيد، أو الماشية، أو الزرع.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا يجوز؛ لأنه ليس بكلب صيد، ولا ماشية، ولا زرع.
والثاني: يجوز؛ لأنه يكون لذلك، ولأن تعليمه لذلك. إنما يكون في حال الصغر، فلو قلنا: لا يجوز اقتناؤه لذلك.. لم يمكن اقتناؤه لذلك أصلاً.
[مسألة: بيع الحاجات النَّجسة]
] : ويجوز بيع الثوب النجس، والخشبة النجسة، وما أشبه ذلك؛ لأن البيع يتناول العين، والنجاسة فيها من جهة المجاورة، فلا يمنع من بيعها.
وأمّا المائع: إذا وقعت فيه نجاسة.. فينظر فيه:
فإن كان مائعًا لا يمكن تطهيره، كالخلِّ والدِّبس واللَّبن.. فلا يجوزُ بيعه؛ لأنّها عينٌ نجسةٌ لا يمكن تطهيرها، فلا يجوز بيعها، كالخمر.
وإن كان ماء نجسًا.. فإنّه يمكن تطهيره، وهل يجوز بيعه؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا يجوز بيعُهُ؛ لأنّه نجسٌ حكمًا، فهو كنجس العين.
والثاني: يجوزُ بيعُهُ؛ لأنَّه يمكن تطهيره، فجاز بيعه، كالثوب النجس.
وإن كان دُهنًا.. فهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان:
[أحدُهما] : قال أبو علي في " الإفصاح ": نص الشافعي على: (أنه لا يجوز بيعه) . ولو أمكن تطهيره.. لجاز بيعه؛ ولأنه لا يمكن عصره.
والثاني: يمكن غسله؛ لأنه يمكن مكاثرة الماء عليه، ثم استخراجه من الماء. فإذا قلنا بهذا: فهل يجوز بيعه؟ فيه وجهان، كالماء النجس.(5/55)
وإذا قلنا: أنه لا يطهر بالغسل.. لم يجز بيعه، وجهًا واحدًا، ولا يجوزُ أكله، ولا الانتفاع به بالبدن، وهل يجوز الانتفاع به بالاستصباح، ودهن السفينة، وما أشبه ذلك؟ فيه وجهان، حكاهُما في " العُدَّة ":
أحدُهما: لا يجوز الانتفاع به، كما لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدّباغ.
والثاني: يجوز، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، كما يجوز الانتفاع بالكلب للصيد، والماشية، والزرع.
فعلى هذا: ففي الدُّخان الذي يعلو من ذلك عند الاستصباح وجهان، مضى ذكرهُما في (إزالة النجاسات) .
[مسألة: الأعيان التي لا منفعة لها]
قد مضى الكلام على الأعيان النجسة، وأمّا الأعيان الطاهرة: فضربان: ضربٌ لا منفعة فيه، وضربٌ فيه منفعةٌ.
فأمّا ما لا منفعة فيه: فلا يجوز بيعه، وذلك كالأسد، والذئب، والنمر، والرخم، والحدأة، والنسر، وما لا يجوز أكله من الغراب، وكذلك الفأرة، والحية، والعقرب؛ لأنه لا منفعة فيه، فبذل المال فيه من أكله بالباطل، فإن قيل: فعندكم إنَّ جلود السباع والذئاب تطهر بالدباغ، فهلاَّ جوَّزتم بيعها لذلك؟
قلنا: تلك منفعة غير مقصودة، ألا ترى أنّ الجلد قبل أن يدبغ لا يجوز بيعه؟ فكذلك الحيوان. وهل يجوز بيع دارٍ لا طريق لها، أو بيع بيت من دار لا طريق له؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا يجوز؛ لأنّه غير منتفع به.
والثاني: يجوز؛ لأنه يمكن أن يحصل له طريقًا.
وأما ما فيه منفعة: فعلى ضربين: آدمي، وغير آدمي:(5/56)
فأمّا الآدمي: فلا يجوز بيع الحرّ منهُ؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه قصمته: رجلٌ أعطى بي عهدًا ثم غدر، ورجلٌ باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفّه أجره» ، ولأنه غير مملوك فلم يجز بيعه.
[فرعٌ: بيع أم الولد]
] : ولا يجوز بيع أمّ الولد، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعامّة أهل العلم.
وقال داود، والشيعة: (يجوز بيعها) .
وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.(5/57)
وحكى الطبري في " العُدّة ": أنّ ذلك قولٌ آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وليس بمشهورٍ عنه.
والدليل على أنه لا يجوز بيعها: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع أمهات الأولاد» . فإن حكم حاكمٌ بصحة بيعها.. فهل يجوز نقضه؟ فيه قولان، حكاهما أبو علي السِّنجي في " شرح التلخيص " بناءً على أنّ أهل العصر الثاني إذا أجمعوا على أحد القولين بعد انقراض العصر الأول على الخلاف.. هل تصير المسألة إجماعًا؟ فيه قولان، أصحُّهما: لا تصير إجماعًا.
فعلى هذا: ينفذ حكمُهُ ولا يُنقَضُ.
والثاني: أنّ المسألة تصيرُ إجماعًا.
فعلى هذا: ينقض حكمه.
[فرعٌ: جواز بيع المدبر]
ويجوز بيع المدبَّر، وروي ذلك عن عائشة أم المؤمنين وعمر بن عبد العزيز.(5/58)
وقال مالك: (لا يجوز بيعه) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان التدبير مقيدًا، بأن يقول: إن متُّ من مرضي هذا فأنت حرّ.. جاز بيعه، وإن كان مطلقًا، بأن يقول: إذا متُّ فأنت حرٌّ.. فإنّه لا يجوزُ بيعه) .
دليلُنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلاً يقال له: أبو مذكور كان له عبدٌ يقال له: يعقوب، فأعتقه عن دبر منه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فباعه لدين كان عليه، فاشتراه نُعيم بن [عبد الله بن] النحّام) . قال جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهو عبد قبطي مات في أول إمارة ابن الزبير»
ويجوز بيع العبد المعلّق عتقه بصفة؛ لأنه ثبت له العتق بقول السيِّد وحَده، فجاز بيعُهُ، كالمدبَّر، وفيه احترازٌ من المكاتب إذا قلنا: لا يجوز بيعه.
[فرعٌ: بيع المكاتب]
وهل يجوز بيع رقبة المكاتب؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصح البيع) .
فعلى هذا: لا تبطل الكتابة، ولكن إن أدّى المال إلى المشتري.. عتق، وكان الولاء له، وإن عجز ورُقَّ.. كان مملوكًا له، وبه قال عطاءٌ، والنخعي، وأحمد،(5/59)
لما روي: «أنّ بريرة كاتبها أهلها على سبع أواق من الذهب، تؤديها إليهم في سبع سنين، فجاءت إلى عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينُها، وشكت إليها، وأظهرت العجز، فقالت لها عائشة: إن باعوك.. عددت لهم الثمن عدًّا، فمضت إلى أهلها، فأخبرتهم بذلك، فقالوا: نبيعك على أنّ الولاء لنا، فأخبرت عائشة بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اشتري، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، فاشترتها منهم» ولأن عتق المكاتب غير مستقر، فجاز بيعه، كالمدبر.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح بيعه) . وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة وهو الصحيح؛ لأن الكتابة عقدٌ يمنع السيد من استحقاق كسب المكاتب، وأرش الجناية عليه، فمنع صحة بيعه، كما لو باعه من زيد، ثم باعه من عمرو، وفيه احترازٌ من المدبر، فإنّه يستحق كسبه، وأرش الجناية عليه.
وأمّا الخبر: فقد قيل: إن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عجَّزَت نفسها، وكان بيعُهم لها فسخًا لكتابتها، كما أن البائع إذا باع المبيع في مدة الخيار.. كان فسخًا للأوّل، وصحّ الثاني.
ولا يجوز بيع الموقوف، سواءٌ قلنا: إنّه ينتقل الملك فيه إلى الموقوف عليه، أو إلى الله تعالى؛ لأنّه يبطل بذلك حقُّ البطن الثاني.(5/60)
[مسألةٌ: جواز بيع ما ينتفع به]
وأمَّا غير الآدمي: مما له منفعة من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم.. فيجوز بيعه، وكذلك يجوز بيع ما ينتفع به من الوحوش، مثل: الفهد والظِّباء والغزلان، وما ينتفع به من الطيور للصيد، كالصقور والبزاة والعقبان.
قال ابن الصبّاغ: ويجوز بيع ما ينتفع بصوته من الطيور، وبيع القرد؛ لأنه ينتفع به، ولأنه يعلم أشياء فيتعلَّمها، وينتفع بها، ولأنه طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كالعبيد والجواري والخيل.
[فرعٌ: بيع السنور]
ويجوز بيع السنور، وروي ذلك عن ابن عبّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد رحمة الله عليهم: (أنهم كرهوا بيعه) .
دليلنا: أنّه حيوان طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كالشاة.
[فرعٌ: لبن الآدمي]
ويجوز بيع لبن الآدميات.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنّه طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كلبن الشاة.(5/61)
[فرعٌ: جواز بيع رباع مكة]
ويجوز بيع رباع مكة، وهبتها، ورهنها، وإجارتها، إلاَّ ما كان موقوفًا منها.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] [الحشر: 8] فأضافها إليهم، وحقيقة الإضافة تقضي الملك.
ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل مكة.. قيل له: ألا تنزل في رباعك؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل ترك لنا عقيل من رباع! ". وفي بعض الروايات: وهل ترك لنا عقيل من ميراث؟!»
وأراد: أن أبا طالب مات كافرًا، وكان عقيل وطالب ابنا أبي طالب كافرين، فورثا رباعه، وباعها عقيل، وكان علي وجعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما مسلمين، فلم يرثا منه شيئا، فأضاف الرِّباع إلى عقيل، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولو كان بيع رباع مكة لا يصح.. لأبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه إجماع الصحابة ومن بعدهم، فإنهم من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا يتبايعونها، ويؤاجرونها، ولا ينكر عليه منكرٌ، و: (اشترى أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دارًا بمكة من صفوان بن أمية(5/62)
بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنًا) ، و: (اشترى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حكيم بن حزام دارين بمكة، إحداهما بستين ألف درهم، والأخرى بأربعين ألف درهم) ، ولأنها أرضٌ حيّة، لم ترد عليها صدقة مؤبدةٌ.. فجاز بيعها كسائر البلاد.
فقولنا: (حية) احتراز من الموات.
وقولنا: (لم ترد عليها صدقة مؤبدة) احترازٌ من الوقف.
[فرعٌ: جواز بيع المصحف وكتب الحديث]
ويجوز بيع المصاحف، وكتب الحديث؛ لما روي: أنه سئل ابن عباس عن بيع المصاحف، فقال: (لا بأس، يأخذون أجور أيديهم) ، ولأنه طاهر منتفع به، فهو كسائر الأموال.
قال الصيمري: قيل: إن الثمن يتوجّه إلى الدفتين؛ لأن كلاما لله تعالى لا يباع.(5/63)
وقيل: ذلك بدلٌ من أجرة النسخ. قال: ويكره بيع المصحف. وقيل: يكره البيع، ولا يكره الشراء.
ولا بأس ببيع كتب الطِّب والشعر والنحو.
وبيع كتب الشرك باطل، وإحراقها لازم، ويجوز بيع دود القز، وجهًا واحدًا؛ لأنه طاهر منتفع به، وفي بيع بيضه وبيض ما لا يؤكل لحمه، كالصقر والبازي وجهان، بناءً على الوجهين في طهارة مَنِي ما لا يؤكل لحمه. فإن قلنا: إنه طاهرٌ جاز بيعه، وإن قلنا: إنه نجس.. لم يجز بيعه.
والله أعلم بالصواب.(5/64)
[باب من نهي عنه من بيع الغرر وغيره]
ولا يجوز بيع المعدوم، بأن يقول: بعتك ثمرة نخلي التي ستخرج عامًا، أو أعوامًا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المعاومة» ، وأراد به: بيع ثمرة النخل أعوامًا، وروي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين» ، وروي: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
وقال الشيخ أبو حامد: و (الغرر) : هو ما تردَّد بين السلامة والعطب، وليس أحدهما بأولى من الآخر، أو كان الغالب العطب. وفي بيع الثمرة التي لم تخلق غرر؛ لأنه لا يدري إن خرجت.. أتسلم، أم تعطب؟(5/65)
[مسألة: بيع الفضولي]
إذا باع مال غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه، أو اشترى لغيره بغير وكالة، ولا ولاية.. لم يصح، ولم يوقف ذلك على إجازة المالك، ولا على إجازة من اشتري له أو بيع عليه.
وقال أبو حنيفة: (إذا باع مال غيره بغير إذنه.. وقف على إجازة المالك، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل. وأما الشراء: فلا يوقف) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يوقف البيع والشراء على إجازة المالك، والمشترى له) .
وحكى صاحب " الإبانة " [ق\226] : أن ذلك قول الشافعي في القديم. وليس بمشهور.
دليلنا: ما روى حكيم بن حزام: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبع ما ليس عندك» .
والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فإن قيل: فدليل الخطاب من الخبر: أنه يجوز بيع ما عنده وإن كان ملكًا لغيره.. قلنا: دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يؤد إلى إسقاط النطق، وهذا يؤدي إليه؛ لأن الناس في هذه المسألة قائلان:
قائلٌ يقول: إن بيع الموقوف لا يجوز، سواءٌ كان المبيع في يد البائع، أو في يد غيره.(5/66)
وقائل يقول: يجوز، سواء كان غائبا عنه أو في يده.
فمتى قلنا: يجوز بيع مال غيره إذا كان في يده، ويوقف على إجازة مالكه.. اقتضى أن يجوز بيعه وإن كان في يد مالكه؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما، ومتى قلنا بهذا.. سقط النطق، فأسقطنا دليل الخطاب.
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق، ولا عتق، ولا بيع قبل الملك» .
ولأنه عقد لغيره عقدًا بغير توكيل ولا ولاية، فلم يصح، كالشراء عند أبي حنيفة، أو نقول: لأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه، فلم يصح، كما لو باعه طائرًا في الهواء.
[مسألة: البيع قبل القبض]
إذا ملك عينًا بعقد معاوضة، فإن كانت ثمنًا، أو مثمنًا في بيع، أو أجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضًا في خلع، فإن كان طعامًا.. لم يجز له بيعه قبل قبضه بلا خلاف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعامًا.. فلا يبعه حتى يستوفيه» .
وإن كان غير الطعام.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:(5/67)
فمذهبنا: أن غير الطعام كالطعام، فلا يجوز بيعه قبل قبضه، فإن باعه.. لم يصحّ، وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك: (يجوز بيع ما عدا الطعام قبل القبض) .
وقال سعيد بن المسيب، والحسن، وأحمد: (ما كان مكيلا، أو موزونًا، أو معدودًا.. فلا يجوز بيعه قبل القبض، وما عدا ذلك.. يجوز بيعه قبل القبض) ، وهو قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (ما لا ينقل، ولا يحول، كالدور والعقار والأرضين والأشجار.. يجوز بيعها قبل القبض، وما ينقل ويحول، كالسلع والدراهم والدنانير.. لا يجوز بيعها قبل القبض) .
دليلنا: ما «روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها، وما يحرم؟ فقال: إذا بعت بيعا.. فلا تبعه حتى تستوفيه» وهذا عامٌّ في جميع المبيعات.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميرًا.. قال له: انههم عن بيع ما لم يقبضوا، أو ربح ما لم يضمنوا» .(5/68)
وروي «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبت.. رآني رجلٌ، فأعطاني ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ، فإذا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تباع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» وهذا عامٌّ في الطعام وغيره.
ولأنه مبيع لم يقبضه المبتاع فلم يجز بيعه، كالطعام.
[فرعٌ: جواز التصرف قبل القبض]
] : وأما إنكاح الأمة المبيعة قبل القبض.. فيصح؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان، وهل يصح إجازة البيع قبل قبضه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
ولا يصح كتابة العبد المبيع قبل القبض؛ لأن الكتابة تفتقر إلى تخليته للتصرف، وهل يصح عتقه قبل القبض؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن خيران: لا يصح؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كالبيع.(5/69)
و [الثاني]ـ المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن للعتق قوة وسراية، بدليل: أنه إذا أعتق شقصًا له في عبدٍ وهو موسر.. عتق الجميع، ولو باع شقصًا له في عبد.. لم ينفذ بيعه في ملك غيره، ولا فيما لم يبع من ملكه فيه.
[فرعٌ: قبض ثمن المبيع عند تسلمه]
] : إذا اشترى عينًا بثمن غير مؤجل.. لم يجز للمشتري قبض العين قبل تسليم الثمن؛ لأن العين محبوسة مع البائع إلى أن يستوفي الثمن، فإن خالف المشتري وقبضها بغير إذن البائع.. قال الشيخ أبو حامد: دخلت في ضمان المشتري، ولا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه قبض فاسد، وإن اشتراها بثمن مؤجل، أو حال، فسلم الثمن.. فله أن يقبضها بغير إذن البائع، فإذا قبضها.. صح تصرفه بها؛ لأنه لا حق لبائعها فيها.
[فرعٌ: البيع مقايضة]
] : لأبي العباس: إذا باع عبدًا بعبد، وقبض أحدهما ما اشترى، ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما باعه منه.. صح تصرفه في الذي اشتراه؛ لأنه قد قبضه، فإن تلف عبده الذي باعه من صاحبه قبل قبضه.. بطل البيع الأول؛ لتلف المبيع قبل القبض، ولا يبطل الثاني؛ لتعلق حق المشتري الثاني به، ولكن يلزم بائعه قيمته للذي اشتراه منه أولا؛ لأنه تعذر تسليمه إليه، فوجبت قيمته عليه.
فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد، وقبض المشتري الشقص، فأخذه الشفيع بالشفعة، ثم تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه بائع الشقص.. انفسخ البيع في العبد، ولم تنفسخ الشفعة، ولا يؤخذ الشقص من يد الشفيع، فيجب على المشتري قيمة الشقص للبائع، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد.(5/70)
[فرعٌ: التصرف بالعين في عقد لا عوض فيه]
] : إذا ملك عينًا بعقد لا عوض فيه.. نظرت:
فإن كان هبة.. فإنه لا يملكها قبل القبض، فلا يصح بيعه لها، ويأتي حكمها إن شاء الله.
وإن كانت بوصية.. ملك بيعها قبل القبض؛ لأنه لا يخشى انفساخها.
وهكذا: لو ورث شيئًا.. جاز بيعه قبل قبضه؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه.
وإن باع عينًا، وقبضها المشتري، ثم تقايلا في البيع، وأراد البائع بيعها من آخر قبل قبضها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يصح البيع؛ لأنه ملكها بغير عوض.
وأما المسعودي: فقال: [في " الإبانة " [ق\229] هل يصح بيعها قبل القبض؟ فيه قولان:
إن قلنا: إن الإقالة فسخ عقد.. جاز بيعها. وإن قلنا: إن الإقالة بيع.. لم يصح بيعها قبل قبضها.
[فرعٌ: الدين في الذمة]
وأما الدين في الذمة: فعلى ثلاثة أضرب:
[الأول] : دين مستقر لا يخاف انتقاصه، كأرش الجناية، وبدل المتلف، وبدل القرض، فهذا يجوز بيعه ممن عليه، وهل يجوز بيعه من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما جحده.
والثاني: يجوز، وهو الأصح، كما يجوز بيعه ممن عليه، ولأن ما جاز بيعه ممن عليه.. جاز بيعه من غيره؛ لأن الظاهر: أنه يقدر على تسليمه من غير جحود.(5/71)
والضرب الثاني: دين غير مستقر، وهو المسلم فيه، فلا يجوز بيعه ممن عليه، ولا من غيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» ، ولأنه غير مستقر؛ لأن العقد قد ينفسخ بعدم المسلم فيه في أحد القولين، وبالفسخ في الآخر، فلم يجز بيعه قبل القبض، كالعين المبيعة قبل القبض.
والضرب الثالث: هو الثمن، أو الأجرة، أو الصداق، أو عوض الخلع في الذمة، فهل يصح بيعه قبل القبض؟ في قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فلم يجز بيعه قبل قبضه، كالمثمن.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: كنت آتي البقيع، فأبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، أو بالدراهم، فآخذ عنها الدنانير، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: "لا بأس، إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء»(5/72)
ولأن الثمن في الذمة مستقر؛ لأنه لا يخشى انتقاص البيع بهلاكه، فجاز التصرف فيه، كالمبيع بعد القبض.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الثمن والمثمن:
فقال بعضهم: (الثمن) : هو الدراهم أو الدنانير، و (المثمن) : ما قابله، فإن لم يكن في البيع دراهم ولا دنانير.. فالثمن ما دخلت فيه الباء، والمثمن ما قابله.
ومنهم من قال: الثمن ما دخله الباء بكل حال، والمثمن ما قابله. والأول أصح.
[فرعٌ: بيع نجوم الكتابة]
] : وهل يجوز بيع نجوم المكاتب قبل قبضها؟
المنصوص عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (أنه لا يصح) .
وقال أبو إسحاق: أومأ الشافعي في القديم إلى: (أنه يصح بيعها) .
قال أصحابنا: لم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلا جواز بيع رقبته، وليس إذا جاز بيع رقبته.. جاز بيع نجومه؛ لأن الرقبة ملك للسيد، وإنما سقط حق السيد بأداء المال، وهاهنا يملك العبد إسقاط حقه من المال.
ووجه ما قال أبو إسحاق على القديم: أن السيد يملك المال في ذمة المكاتب، فجاز بيعه، كسائر أمواله.(5/73)
[فرعٌ: كيفية القبض]
] : قد ذكرنا: أنه لا يصح بيع المبيع قبل القبض.
وإذا ثبت هذا: فإن القبض ـ فيما ينقل ـ النقل، فإن كان المبيع عبدًا.. فقبضه: أن يستدعيه فيجيء، وإن كان بهيمة.. فقبضها: أن يسوقها، فإن أمر العبد بعمل لا ينتقل فيه من موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنتقل عن موضعها.. فإن الذي يقتضيه المذهب: أنّه لا يحصل القبض بذلك؛ لأنّه لا يكون بذلك غاصبًا، فكذلك لا يكون بذلك قابضًا في البيع، وإن وطئ الجارية.. فهل يكون قبضًا؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ المشهور ـ: أنه ليس بقبض؛ لأنه لم ينقلها.
والثاني ـ حكاه في " الحاوي " ـ: أنه يحصل به القبض؛ لأن ذلك أبلغ من النقل.
وإن كان المبيع ثيابًا، أو خشبًا، أو طعامًا اشتراه جزافًا.. فقبضه: أن ينقله ويحوله من مكان إلى مكان آخر، وإن كان عقارًا أو شجرًا.. فقبضه: التخلية.
وقال مالك، أبو حنيفة: (قبض جميع الأشياء بالتخلية) .
دليلنا: ما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه»
ولأن الشرع ورد بالقبض، وليس له حد في اللغة، ولا قدر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، كما قلنا في الحرز والإحياء. والعرف عند الناس ما ذكرناه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " [ق\230ـ231] في هذا ثلاث مسائل:(5/74)
الأولى: إذا اشترى منه ما ينقل، فوضعه البائع بين يدي المشتري.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم ذلك مقام القبض، كالوديعة إذا وضعها بين يديه.. فلا يكون قبضًا، حتى إن لم يحفظها إلى أن ضاعت.. لم يضمن.
والثاني ـ قال: وهو الأصح ـ: أنّه يقوم مقام القبض، بخلاف الوديعة؛ لأن قبولها لا يلزم، وليس كذلك في مسألتنا.
[المسألة] الثانية: إذا اشترى دارًا وأمتعة فيها.. فالتخلية في الدار تكون قبضا، وفي الأمتعة وجهان:
أحدهما: تكون التخلية قبضًا لها تبعًا للدار.
والثاني: يشترط نقلها.
[المسألة] الثالثة: إذا اشترى شيئًا في دار البائع، ونقله من زاوية إلى زاوية، فإن أذن له البائع في ذلك.. حصل له القبض في ذلك، وكأن البائع أعاره تلك الزاوية، وإن لم يأذن له في ذلك.. لم يحصل القبض.
قال الصيمري: وإن اشترى من رجل صبرة طعام، ثم اشترى العرصة التي تحت الصبرة.. حصل له القبض في الصبرة من غير نقل.
[فرعٌ: قبض الوديعة بدل الدين]
إذا كان لرجل في ذمة غيره دين مستقر، وعند من له الدين لمن عليه الدين وديعة أو رهن مما ينقل، فباع منه الوديعة أو الرهن بذلك الدين.. فله أن يقبض الوديعة أو الرهن بغير إذن بائعه؛ لأنه قد استحق قبض ذلك، والقبض فيه: هو أن يمضي عليه زمان يمكن فيه القبض، وهل يحتاج إلى نقله من مكانه، أو يكفي فيه مضي الزمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
أحدهما: يحتاج إلى النقل؛ لأنه مما ينقل، ويحول، فلم يحصل قبضه إلا بذلك.(5/75)
والثاني: أنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النقل يراد لحصوله في يده، وهو حاصلٌ في يده.
وإن باعه الوديعة أو الرهن بثمن في ذمته، ولم يقبضه الثمن.. لم يكن للمودع نقل الوديعة إلا بإذن البائع، فإن قبضها بغير إذنه.. لم تصر مقبوضة قبضًا يملك به التصرف.
[فرعٌ: أخذ مثلاً بدلاً عن ثمن]
قال الصيمري: إذا باعه طعامًا بثمن إلى أجل، وحل الثمن.. جاز أن يأخذ بالثمن طعامًا أو تمرًا حاضرًا.
وإن أراد أن يأخذ عن الدين المؤجل عوضًا، إما عرضًا، أو غيره، قبل حلول الدين.. لم يصح، وأما تقديمه: فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل محله، فكأنه أخذ البدل عمّا لا يستحقه، وهكذا ذكره الصيدلاني.
[فرعٌ: بيع الصكوك]
] : قال الصيمري: ولا يجوز بيع الصكوك قبل قبضها، وهي: أرزاق الجند، إذا صك السلطان على بيت المال.
[مسألة: بيع ما لا يقدر على تسليمه]
] : إذا باع طيرًا في الهواء، فإن كان لا يملكه.. لم يصح بيعه لعلتين:(5/76)
إحداهما: أنه لا يملكه.
والثانية: أنه لا يقدر على تسليمه.
وإن كان يملكه.. لم يصح بيعه، سواء كان يألف الرجوع أو لا يألفه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال.
وإن باعه طيرًا في برج، فإن كان الباب مفتوحًا.. لم يصح بيعه؛ لأن الطير إذا قدر على الطيران لم يقدر على تسليمه في الحال، وإن كان مغلقًا، فإن كان لا يحتاج في أخذه إلى كلفة ومشقة.. جاز بيعه، وإن كان يحتاج إلى ذلك.. لم يجز.
وإن باعه سمكةً في بركة عظيمة، يدخل فيها السمك ويخرج، فإن كان لا يملك البركة.. لم يصح بيعه؛ لأنه لا يملك السمكة، ولأنه لا يقدر على تسليمها، وإن كان في بركة صغيرة، يقدر على أخذها من غير كلفة، وكان الماء صافيًا يشاهد السمكة فيه، وكان قد ملكها.. صح بيعه، وإن كان لا يقدر على أخذها إلا بالاصطياد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح بيعها) .
قال الشيخ أبو حامد: وخرج أبو العباس وجهًا آخر: أنه يصح. ولا وجه له.
[فرعٌ: استئجار برك السمك]
] : قال في " الإملاء ": (ولا يجوز تقييل برك الحيتان ـ يريد: استئجارها ـ لأخذ السمك منها) ؛ لأن العين لا تملك بالإجارة.
فإن استأجر بركة ليحبس بها السمك ويأخذها.. قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، لأن الصيد ينحبس فيها بغيرها.
وقال ابن الصبّاغ: يجوز؛ لأن البركة يمكن الاصطياد بها، فجاز استئجارها لذلك، كالشبكة. قال: وأمّا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز تقييل برك الحيتان) أراد: إذا حصل فيها حيتان، فاستأجرها لأخذ ما قد حصل فيها.. فلا يصح؛ لأن الأعيان لا تملك بالإجارة. وأما إذا لم يكن فيها سمكٌ: فإن العقد على منفعة مقصودة، فجاز العقد عليها.(5/77)
وإن استأجر أرضًا للزراعة، فدخل فيها السمك، ثم نضب الماء منها، وبقي السمك.. لم يملكه المستأجر، ولكن يكون أحق به؛ لأن غيره لا يملك التخطي في أرضه، فإن تخطى أجنبي، فأخذه.. ملكه بذلك.
[فرعٌ: بيع النادِّ والفارِّ]
ِّ] : ولا يجوز بيع الجمل الشارد، والفرس العائر؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال، ولا يجوز بيع العبد الآبق، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه باع عبدًا له أبق) ، وقال ابن سيرين: إن عرف موضعه.. جاز بيعه، وإن لم يعرف موضعه.. لم يجز بيعه.
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وفي بيع الآبق غرر.
ولأنه لا يقدر على تسليمه، فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء.
فإن رجع الآبق.. لم ينقلب البيع صحيحًا.
وقال أبو حنيفة: (ينقلب صحيحًا) .
دليلنا: أنه وقع باطلاً، فلم ينقلب صحيحًا، كما لو باع طيرًا في الهواء، ثم وقع الطير في يده.(5/78)
[فرعٌ: بيع الوديعة والعارية]
] : فإن باع عينًا له مودعة، أو معارة عند غيره.. صح بيعها، سواء باعها ممن هي في يده أو من غيره؛ لأنها عينٌ يملكها، مقدورٌ على تسليمها، فصحَّ بيعها، كما لو كانت بيده.
وإن كانت له عين مغصوبة عند غيره، فإن باعها من الغاصب.. صح البيع، وإن باعها من غير الغاصب، وقال البائع أو المشتري: أنا قادر على انتزاعها من الغاصب.. صح البيع، فإن قدر على انتزاعها من الغاصب.. نفذ البيع، وإن لم يقدر على انتزاعها.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع، وإن كان البائع أو المشتري غير قادرين على انتزاعها من الغاصب.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، فهو كالطير في الهواء.
ويصح إنكاح الأمة المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها، وممن لا يقدر على انتزاعها؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان. ويصح إعتاقها؛ لما ذكرناه، ولا يصح كتابتها؛ لأن الكتابة تقتضي التصرف، والمغصوبة ممنوعة من التصرف.
ويصح إعتاق العبد الآبق؛ لما ذكرناه.
[مسألةٌ: بيع غير المعيَّن]
إذا باع عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، أو أكثر.. لم يصح.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، بشرط خيار ثلاثة أيام.. صح، وإن باعه عبدًا من أربعة أعبد، أو أكثر.. لم يصح) .
وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبيد، أو ثوبًا من ثياب، وكانت كلها متقاربة بالصفة، وشرط الخيار للمشتري.. صحَّ البيع) .
دليلنا: أن ذلك مما يختلف فيه الغرض، فلم يصح بيعه من غير تعيين، كما لو باعه عبدًا من أربعة.(5/79)
وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، فصح بيع بعضها، وإن كان غير معين.
[مسألةٌ: بيع الغائب]
ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها، بأن يقول: بعتك ما في هذا الجراب، أو بعتك ما في كمي، أو ما في بيتي.
وقال أبو حنيفة: (يصح بيع العين الحاضرة المشار إليها وإن كانت غير مشاهدة، ولا يفتقر إلى ذكر الجنس، وإن كانت غائبة.. صح بيعها إذا ذكر الجنس) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
و (الغرر) : ما خفي على الإنسان أمره، وانطوت عليه عاقبته، ولهذا روى عن رؤبة بن العجاج: أنه اشترى ثوبًا من بزَّاز، فقال له: اطوه على غرِّه، أي: على طيِّه.
وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في وصف أبيها: (فردٌ نشر الإسلام على غرِّه) ، أي: على طيِّه. وهذا المعنى موجودٌ في بيع ما جهل جنسه أو نوعه.
فأما إذا ذكر الجنس والنوع، بأن قال: بعتك الثوب المروي الذي في كمي، أو عبدي الزِّنجي، فإن كان لا يملك عبدًا زنجيًّا غيره.. كفاه، وإن كان يملك عبدًا زنجيًّا غيره، فقال: عبدي الزنجي الذي في داري.. نظرت:
فإن كان البائع قد نظر المبيع، ولم يره المشتري.. فلا خلاف بين أصحابنا أنها على قولين:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى شيئًا لم يره.. فله الخيار إذا رآه» . وروي: (أن عثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله(5/80)
عنهما تناقلا بدارين، إحداهما بالمدينة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قد غبنت، فقال: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بصحة البيع، وجعل الخيار لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .
ولأنه عقد معاوضة، فلم يفسده عدم الرؤية، كالنكاح.
والثاني: لا يصح البيع، وهو قول الحكم، وحمّاد، وهو الصحيح؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» ، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك ثوب خز.. فلا خلاف أنه لا يصح.
ومن قال بهذا: قال بحديث أبي هريرة: «من اشترى شيئا لم يره.. فهو بالخيار إذا رآه» . رواه عمر بن إبراهيم بن خالد، وكان كذّابًا. وقيل: رواه مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.(5/81)
وإن صح.. فمعنى قوله: "لم يره" أي: حال العقد وكان قد رآه قبل ذلك. وقيل: أراد: "إذا رآه" في أن يعقد عليه بعد الرؤية، وكذلك حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، معناه: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيتها متغيرة عما كنت رأيتها.
فأما إذا كان البائع والمشتري لم ينظرا جميعًا إلى المبيع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كالأولى. قال ابن الصباغ: وهو المشهور في المذهب؛ لأنّ حكم البائع حكم المشتري في ذلك.
ومنهم من قال: يبطل البيع هاهنا، قولاً واحدًا؛ لأن البائع إذا لم يشاهد المبيع.. فإنما يصفه عن صفة، لا عن مشاهدة، وبيع العين بصفة عن صفة لا يصح، ألا ترى أن الأعمى لا يصح بيعه لما لم يره؛ لأنه يصف المبيع عن صفة، لا عن مشاهدةٍ؟! ولأن البائع إذا كان قد شاهد المبيع، ولم يشاهده المشتري.. قل الغرر، وإذا لم يشاهده واحدٌ منهما.. كثر الغرر.
فأمّا إذا كان المشتري قد شاهد المبيع، ولم يشاهده البائع:
فمن قال في التي قبلها: إذا لم يشاهده البائع ولا المشتري، إنها على قولين.. فإنه لا يجعل لرؤية البائع تأثيرًا، فيصح البيع هاهنا، قولاً واحدًا.
ومن قال في التي قبلها: إن البيع يبطل، قولا واحدا.. جعل لرؤية البائع هاهنا تأثيرًا، فيجعل هذه على قولين.
فأمّا إذا قلنا: لا يصح بيع خيار الرؤية.. فلا تفريع عليه، وإذا قلنا: يصح.. فلا بد من ذكر الجنس والنوع، وهل يحتاج إلى ذكر غيرهما من الصفات؟ فيه ثلاثة أوجه:(5/82)
أحدها ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح " ـ: أنه لا بد من أن يذكر جميع صفاته، كالمسلم فيه.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حامد ـ: أنه لا بد من وصفه بمعظم الصفات، وإن لم يأت بالجميع؛ لأن الاعتماد على الرؤية.
والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يكفي ذكر الجنس والنوع) ؛ لأن المعتمد في هذا البيع على الرؤية، لا على الصفة.
فإذا قلنا بهذا: فوصف المبيع بصفة المسلم فيه، أو ثبت عند وصفه بخبر التواتر.. ففيه طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق\232] :
[الأول] : من أصحابنا من قال: هو كالمرئي، فيصح بيعه، قولا واحدا.
و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين، كالأولى.
إذا ثبت هذا: فإن وصف له البائع المبيع بصفات، وقلنا: لا بد من ذكرها، أو قلنا: لا يفتقر إلى ذكرها، لكنه قد وصفه بذلك، فوجده المشتري أنقص من تلك الصفة.. ثبت له الخيار؛ لأنه أنقص مما وصف له، فثبت له الخيار، كالمسلم فيه إذا أتى به على خلاف الوصف، وإن وجده على ما وصف له، أو أعلى منها.. فهل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان:
أحدُهما: لا خيار له، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه وجده على ما وصف له، فلم يثبت له الخيار، كالمسلم فيه.
والثاني: يثبت له الخيار، وهو المنصوص عليه؛ لأن هذا البيع يختص باسم بيع خيار الرؤية، بلا خلاف بين أهل العلم، فلم يخل من الخيار.
وإذا ثبت له الخيار.. فهل يكون على الفور؟ فيه وجهان:
أحدُهما: أنه على الفور، فإن فسخ، وإلا لزمه البيع؛ لأنه خيار يتعلق بمشاهدة المبيع، فكان على الفور، كخيار الردّ بالعيب، فإنه يتعلق بمشاهدة العيب.
والثاني: يتقدر بالمجلس بعد الرؤية؛ لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد، فكان مقدرًا(5/83)
بالمجلس، كخيار المجلس. فإن اختار إمضاء البيع قبل الرؤية.. لم يصح؛ لأن الخيار متعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى أن يلزمه المبيع، وهو مجهول الصفة، وإن فسخ البيع قبل الرؤية.. صح الفسخ؛ لأن الفسخ يصح في المجهول.
وإذا باع ما رآه البائع، ولم يره المشتري.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، والطبري:
أحدهما: يثبت له؛ لأنه خيارٌ ثبت بمطلق العقد، فاشترك فيه البائع والمشتري، كخيار المجلس.
والثاني: لا يثبت له، وهو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) ؛ لأنه أحد المتبايعين، فلا يثبت له خيار الرؤية مع تقدم الرؤية، كالمشتري.
وأمّا إذا كان البائع لم يشاهد المبيع، وباع، وقلنا: يصح بيعه.. فهل يثبت له الخيار إذا رأى المبيع؟ فيه وجهان:
أحدُهما ـ وهو قول القفّال، وأبي حنيفة ـ: أنه لا يثبت للبائع الخيار؛ لأنا لو أثبتنا له الخيار.. لكنَّا قد أثبتنا له الخيار لتوهم الزيادة، والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار، ألا ترى أنه لو باع شيئًا على أنه معيب، فبان أنه غير معيب.. لم يثبت له الخيار، ولو اشترى شيئًا على أنه غير معيب، فبان معيبًا.. ثبت له الخيار؟ ! والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يثبت للبائع الخيار؛ لأنه جاهل بصفة المعقود عليه، فأشبه المشتري، ولأن الخيار لا يتعلق بالزيادة والنقصان، ألا ترى أن المشتري لو قال: هو فوق ما طلبته، ولكن قد اخترت الفسخ.. جاز الفسخ؟!
إذا ثبت هذا: فإن كان المشتري قد رآه، دون البائع، وقلنا: يثبت الخيارُ للبائع.. فهل يثبت الخيار للمشتري معه؟ يحتمل الوجهين في ثبوت الخيار للبائع مع تقدم رؤيته له، وقد مضى توجيههما.(5/84)
[فرعٌ: يصح البيع إذا رأى المبيع ولو غاب]
وأما إذا رأيا المبيع، ثم غاب عنهما، وعقدا عليه البيع.. فالمنصوص: (أنه يصح البيع) .
وقال أبو القاسم الأنماطي: لا يصح، وهو قول الحكم، وحمّاد؛ لأن الرؤية شرطٌ في صحة العقد، فلم تتقدم على حال العقد، كالشهادة في النكاح.
ووجه المنصوص: أن الرؤية إنما تراد؛ ليصير المبيع معلومًا عندهما، وهذا المعنى موجودٌ وإن تقدمت الرؤية على حال العقد، وتخالف الشهادة في النكاح؛ لأنها تراد ليثبت الفراش بالعقد، فلم يجز أن يتقدم على العقد.
إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع لا ينقص، ولا يتلف على طول الزمان، كالحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك، وكانا قد شاهداه، ثم عقدا عليه البيع، ثم شاهداه، فإن كان على صفته الأولى.. فلا خيار للمشتري، وإن كان قد تغير ونقص عما كان عليه.. ثبت للمشتري الخيارُ؛ لأنه ناقص عما كان رآه، وإن اختلفا: هل تغير، أم لا؟ قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الثمن ينتزع منه، فلا يجوز إلا بقوله) .
وإن كان المبيع لا يبقى على طول الزمان، مثل: الهريس والطبيخ والبطيخ، وكان قد مضى من حين المشاهدة إلى حين العقد مدة يتلف فيها.. فالبيع باطل؛ لأنه غرر. وإن مضى عليه مدة قد يتلف فيها وقد لا يتلف، أو كان المبيع حيوانا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح البيع؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف، أو تغير، فصار مجهولاً، وبيع المجهول لا يصح.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أن البيع صحيح) ؛ لأن الظاهر منه السلامة.
[فرعٌ: بيع الغائب الموصوف مضمون]
] : قال الشافعي في (الصرف) : (ولا يجوز له أن يبتاع عينًا غائبة بصفة مضمونة، ولا إلى أجل، ويجوز بالنقد والدين) .(5/85)
وأراد بقوله: (بيع عين غائبة بصفة) : هو أن قول: بعتك عبدي، وصفته كذا وكذا، فإن سلم.. لك ذلك، وإلا.. فلك بدله. فهذا لا يجوز؛ لأن العقد تعلق بعين المبيع. وإذا تلف المبيع قبل القبض.. بطل البيع، فإذا شرط له البدل.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
وأما قوله: (ولا إلى أجل) فأراد: إذا قال: بعتك عبدي على أن أسلمه إليك إلى شهر، فلا يصح؛ لأنه شرط تأخير القبض في العين، فلم يصح.
[فرعٌ: شراء ما لم يكمل صنعه]
قال في (الصرف) : (إذا ابتاع ثوبًا على منسج حائك، على أن يتمه.. لم يصح البيع) .
وهذا كما قال، إذا اشترى ثوبًا من نسَّاج، قد نسج بعضه على أن يتممه.. لم يصح البيع؛ لأن بعضه بيع عين حاضرة، لا خيار له فيها، وبعضه في الذمة مجهولٌ، وإنما هو مقدر بما يحتاج إليه السدى، فلم يصح، فلو كان الغزل الباقي معينًا.. لكان قد شرط معه العمل، فلم يصحّ؛ لأنه سلم في عين، والسلم في عين معينة لا يصح.
[مسألة: بيع الأعمى]
] : إذا باع الأعمى عينًا، قد كان رآها قبل العمى، أو اشتراها، فإن كانت العين مما لا يتغير، كالحديد والرصاص.. صح العقد، ويوكل من يقبض له، على الصفة التي قد كان شاهدها عليها، فإن كانت على صفتها الأولى.. فلا خيار له، وإن تغيرت عن صفتها الأولى.. فله الخيار.
وإن كانت العين مما يتلف من الوقت الذي شاهدها إلى حين العمى، كالطعام الرطب.. بطل البيع.(5/86)
وإن كان الأعمى لم يشاهد العين المبيعة، بأن كان أكمه: وهو الذي خلق أعمى، أو كان قد خلق بصيرًا، إلاَّ أنه يشاهد العين المبيعة قبل العمى، فإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح البيع هاهنا. وإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية يصح.. فهل يصح بيع الأعمى وشراؤه؟ في وجهان:
أحدهما: يصح، ويوكل من يقبض له المبيع إذا وجده على الصفة المشروطة، ويفوض إليه الفسخ والإجازة إذا رأى.
وهكذا: البصير إذا اشترى عينًا غائبةً.. فله أن يوكل من يشاهدها، ويستنيبه في الخيار والقبض.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لم يشاهد المبيع، ولا يصح التوكيل في هذا الخيار؛ لأن هذا خيار عقد، فلم تصح الاستنابة فيه، كخيار المجلس.
وهذا القائل يقول: لا يصح توكيل البصير لغيره في مشاهدة العين المبيعة في بيع خيار الرؤية، والفسخ، والإجارة عند ذلك؛ لهذه العلة.
والقائل الأول قال: يجوز. وهذا مذهبنا. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد: (يجوز بيع الأعمى وشراؤه، في العين التي لم يرها قبل العمى) . وأثبت له أبو حنيفة الخيار إلى معرفته بالمبيع، إما بأن يجسه أو يذوقه، أو يشمه، أو بأن يوصف له.
دليلنا عليهم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غررٌ؛ لأنه لا يدري ما باع، ولا ما اشترى.
[مسألة: رؤية بعض المشترى]
] : إذا رأى بعض المبيع دون بعض، فإن كان لا تختلف أجزاؤه، كالصبرة من الطعام، والجرة من السمن والدبس، إذا رأى رأسها.. صح بيعه؛ لأن أجزاءه متساوية، والظاهر أن باطنه كظاهره. وإن كان مما تختلف أجزاؤه، فإن كان يشق رؤية باطنه، كأساس الدور، والجوز في القشر الأسفل.. صح بيعه؛ لأنه يشق رؤية(5/87)
باطنه. وإن لم يشق رؤية باطنه، كالثوب المطوي.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، كبيع خيار الرؤية، وهو المنصوص للشافعي.
و [الثاني] : منهم من قال: يبطل البيع، قولا واحدًا؛ لأن ما رآه لا خيار له فيه، وما لم يره يثبت له فيه الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة.
وهذا غلط، بل يثبت له الخيار في جميعه إذا رأى ما لم يره، ولا يمتنع ثبوت الخيار في جميع المبيع؛ لجهل شيء منه، ألا ترى أنه إذا ابتاع عينًا، وشاهدها إلا موضع العيب، ثم علم بالعيب.. يثبت له الخيار في الجميع؟!
[فرعٌ: بيع ما دل بعضه على جميعه]
قال الصيمري: وإذا رأى رأس التمر في القوصرة، فاشتراه ـ وهو في القوصرة ـ فالصحيح: أنه يجوز للضرورة، وقيل: هي على قولين.
وأما القطن في القفاع والأعدال: ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إلا بعد الإحاطة بجميعه.
قال الصيمري: والأشبه عندي: أنه كالتمر في القوصرة.(5/88)
[مسألة: بيع تراب المعدن الثمين]
] : لا يجوز بيع تراب الصاغة، وتراب المعادن.
وقال الحسن، والنخعي، وربيعة، والليث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب الفضة بالذهب، وبيع تراب الذهب بالفضة) .
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا يدًا بيد، أو بعوض إلى أجل، ولا يجوز بيع تراب الصاغة بحال) .
دليلنا: أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة، فلم يصح بيعه، كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح، وكتراب الصاغة على مالك.
[مسألة: بيع البقول في قشرها]
وفي جواز بيع الباقلاء في قشره وجهان:
[أحدُهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الحب قد يكون صغارًا، وقد يكون كبارًا، وقد يكون متغيرًا، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز.
[فرعٌ: بيع المسك]
] : وأما المسك: فهو طاهر، ويجوز بيعه. وقال بعض الناس: هو نجس، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ينفصل من حيوان. وقيل: إنه دم.(5/89)
دليلنا على أنه طاهر: ما روي «عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ثلاث من إحرامه»
وروي: أنها قالت: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأطيب الطيب، وهو المسك» وروي: (أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وقولهم: إنه من حيوان، قيل: إن الغزلان تلقيه، كما تلقي الولد، ويلقي الطير البيض، والغزلان مأكولة، وإن كان من حيوان غير مأكول.. فيجوز أن يكون طاهرًا، ألا ترى أن العسل من حيوان غير مأكول، وهو طاهر؟!
وأما الدليل على جواز بيعه: فما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أهدى إلى النجاشي أواقي مسك، فلما تزوج بأم سلمة.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، وإنه يموت قبل أن يصل إليه، فإذا ردت علي.. أعطيتك منه". فمات قبل أن يصل إليه، فرُدَّت، فأعطاها منه، وأعطى غيرها من نسائه» .(5/90)
فإذا جازت هديَّتُهُ.. جاز بيعه، كسائر المملوكات.
إذا ثبت هذا: فإن أخرج المسك من فأرته، وباعه.. صح بيعه، وإن فتحها ونظر إلى المسك، وباعه.. صح بيعه، كما قلنا في السمن في الظرف، وإن باع المسك في الفأرة قبل أن يفتحها.. فوجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأن بقاءه فيها له مصلحة؛ لأنها تحفظ عليه رطوبته وذكاء رائحته، فهو بمنزلة بيع الجوز واللوز والرمان في قشره.
والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأنه مجهول القدر، مجهول الصفة، فلم يصح، ولأنه يبقى بعد خروجه من وعائه، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه مستورًا بوعائه، كالدر في الصدف، ويخالف الجوز واللوز والرّمان؛ لأنه بعد إخراجه من ظرفه لا يبقى.
[فرعٌ: بيع الطلع]
] : وإن أفرد طلع النخل بالبيع على رؤوس النخل بشرط القطع، قبل أن يتشقق، أو بيع مقطوعًا على وجه الأرض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:(5/91)
أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأن المقصود منه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كالتمر في الجراب.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو الصحيح؛ لأن طلع النخل يؤكل ظاهره وباطنه، فهو كالتفاح والكُمَّثرى.
[فرعٌ: بيع الزروع في السنابل]
] : وأما السنبل: فإن كان الحب ظاهرًا، قال ابن الصباغ: وذلك كالشعير والذرة.. فيجوز بيعه في سنبله؛ لأنه معلومٌ بالمشاهدة، فهو كبيع الصبرة التي لا يعرف كيلها.
وأما الحنطة في سنبلها: قال الشيخ أبو حامد: فإن باع الحنطة دون سنبلها.. لم يصح بيعها، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك مجهولٌ.
قال الصيمري: وهكذا إذا باع الحنطة في التبن بعد الدياس.. لم يصح، قولا واحدًا؛ لأن ذلك مجهول.
وإن باع الحنطة مع سنبلها قبل الدياس.. فهل يصح؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد» ، ولأنه مستور بما هو من أصل الخلقة، فأشبه الرُّمان.(5/92)
وقال في الجديد: (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر لا محالة. ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كتراب الصاغة.
وأما بيع الأرز مع سنبله: فاختلف أصحابنا فيه:
فذكر ابن القاص، وأبو علي الطبري: أنه بمنزلة الشعير؛ لأنه يدخر في قشره، وبقاؤه فيه من مصلحته. واختار هذا القاضي أبو الطيب.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هو كالحنطة.
قال ابن الصباغ: وهذا موقوف على العادة في ذلك، والعادة ادّخاره في قشره.
[مسألة: بيع الصبرة]
إذا قال: بعتك هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة، ولأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، بخلاف ما لو اشترى ثوبًا، رأى أحد جانبيه، أو رآه مطويًّا.. لم يصح بيعه على الأصح؛ لأن الغالب أنه يختلف؛ لأنه قد يكون أحد جانبيه مقصورًا، أو أغلظ، أو أحد طرفيه أعرض. وهل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يكره؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة.
والثاني: يكره؛ لأنه ربما قدرها المشتري بنفسه أكثر من كيلها، وفي ذلك ضرب من الغرر.
إذا ثبت هذا: ففيها عشر مسائل.
إحداهن: إذا باعها جزافا.. فقد قلنا: يصح البيع وإن لم يذكر كيلها، سواء علم البائع قدر كيلها أو لم يعلم.
وقال مالك: (إذا كان البائع يعلم قدر كيلها.. لم يصح بيعها حتى يبينه) .(5/93)
دليلنا: أنه شاهد المبيع، فلم يفتقر إلى ذكر كيله، كما لو لم يعلمه البائع.
الثانية: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صح البيع، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع في قفيز واحد دون الباقي) .
دليلنا: أن ثمن كل قفيز معلوم، وجملتها معلومة بالمشاهدة، فإذا كالها عرف قدر الثمن، فصح، كما لو قال في المرابحة: بعتكه برأس مالي فيه، وهو كذا وكذا، والربح درهمٌ في كل عشرة.. فإنه يصح.
الثالثة: إذا قال: بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة، وهما يعلمان أنها أكثر من ذلك.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: أنه باع مقدارًا معلومًا من جملة يصح بيعها، فأشبه إذا باع نصفها. وإن اختلفا من أي موضع يعطيه منها فالخيار إلى البائع؛ لأنه أعطاه منها. فإن هلكت الصبرة إلا قدر المبيع.. قال الطبري في " العدة ": لم يجب على البائع تسليم الباقي منها.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه) .
دليلنا: أن المشتري صار شريكًا للبائع في قدر المبيع، فما تلف منها.. تلف على شركتهما، كما لو ورثا منها عشرة أقفزة، ثم هلكت إلا عشرة أقفزة.
الرابعة: إذا قال: بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو ربعها، أو بعتكها إلا ثلثها، أو إلا ربعها.. صح البيع؛ لأن المبيع معلوم.
الخامسة: إذا قال: بعتك من هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. لم يصح البيع؛(5/94)
لأن مِنْ: للتبعيض، وكلا: للعدد، فيكون ذلك العدد مجهولاً منها، فلم يصح.
وكذا: لو قال: بعتك بعض هذه الصبرة.. لم يصح؛ لأن ذلك يقع على القليل والكثير، فلم يصح.
السادسة: إذا قال بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا.. فالبيع باطل؛ لأنه إن أراد بذلك: زيادة من غير هذه الصبرة، فإن قصد بذلك الهبة.. فقد شرط عقدًا في عقد، وذلك لا يجوز، وإن قصد بذلك أنه مبيع.. فهو مجهولٌ، ولو كان معلومًا.. لم يجز أيضا؛ لأن ذلك يؤدي إلى جهالة بالثمن في التفصيل؛ لأنه إذا زاده إردبًّا بغير ثمن.. فقد صار إردبًّا وشيئًا بدرهم؛ لأن جملة الصبرة لا يعلمان كيلها. وإن أراد: أنه يزيده إردبًّا منها، فكأنه لا يحتسب عليه بثمنه.. فقد فسد؛ للجهالة التي ذكرناها.
السابعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًّا، وهما لا يعلمان قدرها.. لم يصح البيع؛ لأن معنى ذلك: على أن أحسب عليك ثم إردب، ولا أدفعه لك، فلم يصح؛ لأنه يكون بيع إردب بدرهم وشيء مجهول، والإردب: مكيالٌ بمصر يسع أربعة وعشرين صاعًا.
الثامنة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًا، أو أنقصك إردبًا.. فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري، أيزيدُهُ، أم ينقصه؟
التاسعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا، فإن أراد بذلك الزيادة من غيرها، وأطلق.. لم يصح لجهالته.
وإن أراد به زيادة منها، كأنه لا يحتسب عليه ثمن واحد منها، أو أراد الزيادة من غيرها، وعيَّنه.. صح البيع؛ لأنهما إذا علما جملة الصبرة.. كان ما ينقص من الثمن معلومًا بزيادة الإردب.(5/95)
العاشرة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًا.. جاز؛ لأنه باعه تسعة أرادب بعشرة دراهم.
[فرعٌ: بيع ما تختلف أجزاؤه]
] : إذا باع ما لا يتساوى أجزاؤه، مثل: الأرض والدار والثوب.. ففيه مسائل:
منها: إذا قال: بعتك هذه الأرض، أو هذه الدار، أو هذا الثوب بكذا.. صح البيع وإن لم يعلما مبلغ ذرعان ذلك؛ لأنها معلومة بالمشاهدة.
وكذلك: إذا قال: بعتك نصف ذلك، أو ربعه.. صح.
وإن قال: بعتك جميع ذلك، كل ذراع بدرهم.. صح، وقال أبو حنيفة: (لا يصح في شيء منها، بخلاف الصبرة) . وقد مضى الدليل عليه في الصبرة.
وإن قال: بعتك من ذلك، كل ذراع بدرهم.. لم يصح؛ لأن من للتبعيض.
وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهما لا يعلمان مبلغ ذرعان الأرض والدار والثوب.. لم يصح؛ لأن الأجزاء مختلفة.
وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهي مائة ذراع.. صح البيع في عشرها.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أن عشرة من مائة عشرها، ولو قال: بعتك منها عشرها.. صح، وإن قال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، وبين الابتداء والانتهاء، في الأرض، والدار، والثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع.. صح البيع؛ لأنه معلوم.
وإن قال: بعتك عشرة من هاهنا، ولم يبين الانتهاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن ابتداءه معلوم، والسمت والجهة التي باع منها معلومان.(5/96)
والثاني: لا يصح؛ لأن الذرع قد ينتهي إلى موضع، يخالف موضع الابتداء.. فلم يصح.
وإن كان الثوب ينقص قيمته بالقطع، فقال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، أو بين الابتداء دون الانتهاء، وقلنا: يصح.. فهل يصح في هذا؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وإليه ذهب ابن القفال في " التقريب " ـ: أن البيع يصح، كما قلنا في الدار والأرض، ولأنه قد رضي بما يدخل على نفسه من الضرر.
والثاني ـ حكاه ابن القاصّ في " التلخيص " نصًّا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقهما، بخلاف الأرض والدار.
قال ابن القاص: وهكذا إذا باع ذراعًا من أسطوانة من خشب.. فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الضرر، وإن كانت من آخر.. جاز.
قال ابن الصباغ: وهذا يفتقر إلى أن يشترطا انتهاء الذراع إلى انتهاء آخره، فلا يلحقه الضرر بذلك، فأما إذا كان انتهاؤه إلى بعضها: فإن في كسرها ضررًا.
[فرعٌ: الاستثناء في البيع]
إذا استثنى معلومًا من مجهول في البيع، مثل: أن يقول: بعتك ثمرة هذا البستان إلا قفيزا منها، أو هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، وهما لا يعلمان قفزانها، أو هذه الدار،(5/97)
أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه، وهما لا يعلمان عدد الذرعان.. لم يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح البيع) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة والثنيا» ، يعني: الاستثناء.
وظاهر هذا: أن الاستثناء لا يجوز في البيع إلا ما قام عليه الدليل، ولأن المبيع غير معلوم بالمشاهدة، ولا بالأجزاء، فلم يصح، كما لو قال: بعتك بعضها.
وإن كانا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الثوب والدار، فقال: بعتك هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، أو هذه الدار، أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه.. صح البيع في الدار والصبرة والثوب إلا قدر المستثنى، فإنه غير مبيع. فإن كان مبلغ قفزان الصبرة عشرة.. صح البيع في تسعة أعشار الصبرة. وهكذا في الدار والثوب إذا كانا عشرة أذرع.. صح البيع في تسعة أعشاره.
وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة إلا مكوكًا.. صح البيع؛ لأنّ المكوك دون القفيز، وكل واحد منهما معلوم.
وإن قال: بعتك هذه الصبرة بأربعة آلاف درهم إلا ما يخص ألفا، أو إلا بألف.. صح البيع في ثلاثة أرباع الصبرة بثلاثة آلاف درهم؛ لأن هذا معلوم.
وإن قال: بعتكها بأربعة آلاف درهم إلا ما يساوي ألفًا.. لم يصح البيع؛ لأن ما يساوي ألفا مجهول.(5/98)
[فرعٌ: فيما يباع بأوعيته]
إذا باع سمنًا أو دهنًا في ظرف من زق، أو فخار، وكان مفتوح الرأس.. صح البيع؛ لأنه لا تختلف أجزاؤه، وكذلك إن باع رطلا منه، أو جزءًا معلومًا منه.. صح، كما قلنا في الصبرة.
فأما إذا قال: بعتك هذا السمن، كل رطل منه بدرهم، على أن يوزن الظرف معه، ويحتسب له بوزنه، ولا يكون مبيعًا.. فالبيع باطل؛ لأنه شرط في بيع السمن أن يزن معه غيره.. فلم يجز، كما لو قال: بعتك هذا الطعام، كل مكيال بدرهم، على أن أكيل معه شعيرًا.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا علما وزن السمن والظرف.. أن يجوز، ويكون بمنزلة من يقول: على أن أنقصك إردبًّا، وأحتسب ثمنه عليك؛ لأنهما إذا علما ذلك.. فقد علما قدر الزيادة على ثمن الرّطل.
فأمّا إذا قال: بعتك كل رطل بدرهم، على أن يوزن معه الظرف، ثم يحط عنه الظرف.. قال الشيخ أبو حامد: صح لمعنيين:
أحدُهما: أنه إذا حطَّ الظرف.. صار كأنه باع كل رطل بدرهم بلا ظرف.
والثاني ـ قاله أبو إسحاق ـ: أن الناس يتبايعون هكذا في الغالب، فصح لذلك.
فإن قال: بعتك السمن مع ظرفه بعشرة دراهم.. صح البيع؛ لأن السمن متميزٌ عن الظرف، فصحّ، كما لو باع طعامًا مشعورًا.(5/99)
فإن قيل: فهلاَّ قلتم: لا يجوز، كما قلتم إذا باع لبنًا مشوبًا بالماء؟
قيل: لا نقول ذلك، والفرق بينهما: أن المقصود هناك اللبن، وهو ممزوجٌ بغيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المقصود منه السمن، وهو متميز عن غيره.
فأمّا إذا قال: بعتك هذا السمن مع الظرف، كلّ رطل بدرهم، فإن كانا يعلمان مبلغ وزن كل واحدٍ منهما.. جاز؛ لأنه لا غرر فيه؛ لأن الظرف هاهنا معلوم. وإن كانا لا يعلمان وزن كلِّ واحدٍ منهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأن المقصود منه السمن، وقدره مجهول.
والثاني ـ وهو قول الداركي، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يصح؛ لأنه في التفصيل معلوم، كما لو كان جنسًا واحدًا؛ ولأنه قد رضي بكل رطل من كل واحد منهما بدرهم، فصح، كما لو باع كل رطل من الظرف منفردًا بدرهم.
[فرعٌ: بيع النحل في الخلية]
وهل يجوز بيع النحل في الكُنْدُوجِ؟ في وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج: يصح؛ لأنه يشاهد عند الدخول والخروج.(5/100)
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن من النحل ما لا يفارق الكندوج، وقد يكون فيه عسل لا يدرى كم قدره، فإن خرج فرخه، وشوهد جميعه على غصن، أو غيره.. صح بيعه؛ لأنه معلوم مقدور على تسليمه، فصح العقد عليه.
[مسألة: بيع ما في الأرحام]
] : ولا يجوز بيع الحمل في البطن؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المجر» .
قال أبو عبيد: هو بيع ما في الأرحام.
وقال ابن الأعرابي: (المجر) : الولد الذي في بطن الناقة، والمجر: الربا، والمجر: القمار، والمجر: المحاقلة والمزابنة.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» .(5/101)
قال أبو عبيد: (الملاقيح) : ما في البطون، وهي الأجنة، الواحدة منها ملقوحة، اشتقت من قولهم: لقحت الناقة، ولهذا تسمى الرياح، اللواقح. وأمّا (المضامين) : فهو ماء الفحول، وكانوا يبيعون ما في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام، وأنشد:
إنَّ المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في ظهور الحدب
وإنَّما: سميت: مضامين؛ لأن الله تعالى ضمن ما فيه.
[فرعٌ: بيع الملاقيح]
] : فإن باع حيوانًا، وشرط أنه حاملٌ.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
إن قلنا: إن الحمل له حكمٌ.. صح البيع. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح البيع.
وإن باعها، وشرط أنها تضع بعد شهر، أو مدة عيَّنها.. قال ابن الصباغ: لم يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه شرط ما لا يقدر عليه، فأبطل العقد.(5/102)
[مسألة: بيع اللَّبون]
وإن باع حيوانًا على أنّها لبون.. صح البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) .
دليلنا: أنّه يتحقق وجوده في الحيوان، ويأخذ قسطًا من الثمن، فجاز شرطه، بخلاف الحمل.
وإن شرط أنها تحلُبُ كل يوم كذا.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في شرط الحمل.
وإن باع اللبن مفردًا في الضرع.. لم يصح البيع.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يصح.
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر» . وقد روي هذا الخبر موقوفًا على ابن عبّاس.
ولأن اللبن في الضرع مجهول؛ لأن الضرع قد يكون لحيما.(5/103)
وعنده: أن ذلك لبنٌ، وربما مات الحيوان قبل أن يحلب اللبن، فينجس اللبن.
قال الشيخ أبو حامد: ولا أعرف في ذلك خلافًا، ولا في بيع الحمل في البطن.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : فإن حلب شيئًا من اللبن.. فهل يجوز بيع الباقي في الضرع؟ فيه وجهان.
[فرعٌ: بيع الشيء وتابعه]
] : وإن قال: بعتك هذه الشاة وفيها لبن، أو بعتك هذه الجبة وفيها حشو.. فإن اللبن والحشو يدخلان في البيع بالإطلاق.
وإن قال: بعتك هذه الشاة ولبنها، أو هذه الجبة وحشوها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحدَّاد: لا يصح البيع؛ لأن ذلك مجهول، ولا يجوز إفراده بالبيع، فلم يجز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذه الجارية وحملها.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يصح البيع؛ لأنه يدخل في البيع بالإطلاق، فجاز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذا الجوز ولبّه، وهذه الرمانة وحبّها.
وأما الحمل: فإذا قلنا: للحمل حكمٌ، ويجوز شرطُه في البيع.. جاز أن يقول: بعتك هذه الجارية وحملها.
وإن قلنا: لا حكم له، ولا يجوز شرطه في البيع.. فلا يجوز أن يقول: بعتكها وحملها؛ لأنه لا يعلم، ولا يتيقن، بخلاف الحشو، فإنه يتيقن، ولهذا لا بد أن يعلما في البيع ما الحشو.
قال القاضي أبو الطيب: وينبغي إذا قال: بعتك هذا الجوز ولبه، وهذه الرمانة وحبّها.. أن يكون على هذا الخلاف أيضًا.
[مسألة: بيع الصوف قبل الجزّ]
ّ] : ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، وبه قال أبو حنيفة.
وذهب ربيعة، ومالك، والليث: إلى جوازه.(5/104)
دليلنا: ما ذكرناه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه لا يخلو: إما أن يشترط حلقه، أو جزّه.
فإن شرط حلقه.. لم يجز؛ لأنه يؤدي إلى تعذيب الحيوان.
وإن شرط جزّه.. فالجز يختلف ويتفاوت، وذلك لا يمكن ضبطه، ولأنه قد يوجد في وقت أقل مما يوجد في وقت، وليس له عادة مستقرة، بخلاف الجزة من الرّطبة؛ لأنه لا يخاف تعذيبها، ويمكن استيفاؤها، ولأنه قد يموت الحيوان قبل الجز، فينجس الصوف، على الصحيح من المذهب، بخلاف الجزة من الرطبة، فإنه لا يخاف ذلك.
[مسألة: البيع صورة بكتابة العقد]
وبيع التلجئة: هو أن يتفقا على أن يظهرا العقد خوفا، أو لغير ذلك، فإنه يلجئه وليس بيع، ثم بعد ذلك يتبايعان، فإذا تبايعا.. صح البيع، ولا يمنعه الاتفاق السابق.
وكذلك: إذا اتّفقا أن يتبايعا بألف، ويظهرا ألفين، فتبايعا بألفين فإنّ البيع يلزم بألفين، ولا يؤثر فيه الاتفاق السابق، وهكذا رواه أبو يوسف، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وروى محمد، عن أبي حنيفة: (أنه لا يصح البيع إلا أن يتفقا على أن الثمن ألف درهم، فيتبايعا بمائة دينار، فيكون الثمن مائة دينار، استحسانًا) . وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمّد؛ لأنه إذا تقدم الاتفاق.. صارا كالهازلين بالعقد.
دليلنا: أن الشرط السابق لحالة العقد لا يؤثر فيه، فهو كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقدا العقد، فإنه لا يبطل العقد.(5/105)
[مسألة: لا بيع بلا ثمن]
ولا يصح البيع إلاَّ بثمن معلومٌ، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه أحد عوضي البيع، فاشترط العلم به، كالمثمن، فإن قال: بعتك بهذا الدينار، وهما يُشاهدانه.. صح البيع. وإن قال: بعتك بالدينار الذي في بيتي، أو في همياني، فإن كانا قد شاهداه.. صح البيع، وإن لم يكونا شاهداه، أو لم يشاهده أحدهما.. فهو كما لو باعه عبدًا لم يشاهداه، أو لم يشاهده أحدهما، على الخلاف في بيع خيار الرؤية.
وإن قال: بعتك بدينار في ذمتك، فإن كانا في بلد لا نقد فيه، أو في بلد فيه نقودٌ متفاوتة.. لم يصح البيع؛ لأنه عوض مجهول، وإن كانا في بلد فيه نقد غالب.. صح البيع وحمل عليه؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه، وإن كان في بلد في نقود متفقة على حد واحد.. فوجهان، حكاهما الصيمري، أظهرهما: أنه يصح البيع.
ولو تعاملا بنقد بلد فيه، ثم لقيه ببلد آخر، ولا يتعامل الناس فيه بذلك النقد، فأعطاه ما عقدا به، فامتنع من له الدين من أخذها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري.
أحدها ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أخذها؛ لأنه لم يجب عليه له غير ذلك.
والثاني: لا يلزمه أخذها، كما لو أعطاه إياها في موضع مخوف.
والثالث: إن كان أهل البلد الذي يعطيه إيّاها بها لا يتعاملون بها أصلا.. لم يلزمه أخذها. وإن كانوا يتعاملون بها بوكس.. لزمه أخذها.
وإن تبايعا بنقد، ثم حرم السلطان المعاملة به قبل قبضه.. قال الصيمري، والطبري في " العدة ": وجب تسليم ذلك النقد.
وقال أحمد: (يلزم تسليم قيمته) .(5/106)
دليلنا: أن المعقود عليه قائم مقدور على تسليمه، فلزمه تسليمه، كما قبل التحريم.
[فرعٌ: البيع بدراهم رديئة]
] : إذا قال بعتك بألف درهم مكسرة.. قال الصيمري: فقد قال أكثر أصحابنا: يصح. قال: وأظنهم أجازوا ذلك إذا تقاربت قيم المكسرة، فأما إذا اختلفت قيمتها ـ وهي هكذا في وقتنا مختلفة ـ فلا يصح.
قال: وإن قال: بعتك بألف مثلمة أو مثقبة.. لم يجز، إذ لا عادة لها معروفة، وإن قال بعتك بألف صحاح ومكسرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه باطل حتى يتبين قدر كل واحد منهما.
والثاني: يصح، فيجعل من كل واحد منهما النصف.
[فرعٌ: البيع بنقدين]
] : وإن قال: بعتك بدينار إلا درهمًا.. لم يصح البيع؛ لأن قدر الدرهم من الدينار مجهولٌ، بخلاف الإقرار؛ لأنه يصح بالمجهول. هذا هو المشهور.
وحكى الصيمري وجهًا آخر: إذا كانا يعلمان قيمة الدينار من الدرهم.. صحّ البيع.
وإن قال: بعتك بألف درهم من صرف عشرين درهما بدينار.. لم يصح؛ لأن المسمى هي الدراهم، وهي مجهولةٌ؛ لأن وصف قيمتها لا تصير به معلومة. وإن كان نقد البلد صرف عشرين درهمًا بدينار.. لم يصح أيضًا؛ لأن السعر يختلف، ولا يختص ذلك بنقد البلد.
قال ابن الصبّاغ: وكذلك يفعل الناس هكذا الآن، يسمون الدراهم، وإنما(5/107)
يتبايعون بالدينار، ويكون كل قدر معلوم من الدراهم عندهم دينارًا، وهذا لا يصح؛ لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ولا مجازًا، ولا يصح البيع عندهم بالكناية.
[فرعٌ: الشراء بأجزاء الدينار]
] : إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا بنصف دينار.. لزمه تسليم نصف دينار شق، ولا يلزمه تسليم نص دينار صحيح، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا نصفه عمّا عليه، ونصفه وديعة عنده، وتراضيا على ذلك.. جاز، فإذا تراضيا، فأراد أحدهما قيمته، وأراد الآخر كسره، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأنها قسمة إضرار، وإن امتنع من له نصف الدينار من قبض الدينار الصحيح.. لم يجبر على قبضه؛ لأن عليه ضررًا في الشركة.
فإن باعه ثوبًا آخر بنصف دينار.. لزمه شقا دينار، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا عنهما.. فقد زاده خيرًا، فيلزمه قبوله.
وإن باعه الثاني بنصف دينار، على أن يسلم إليه عنه وعن الأول دينارًا صحيحًا، فإن كان البيع الثاني بعد إبرام البيع الأول.. بطل الثاني؛ لأنّه شرط ما لا يلزمه في الثاني، ولا يبطل الأول. وإن كان البيع الثاني في حال خيار الأول.. بطل البيعان، على الصحيح من المذهب.
قال الصيمري: وإن قال: بعتك هذا الثوب بنصفي دينار.. لزمه تسليم دينار مضروبٍ؛ لأن ذلك عبارة عن دينار.
وإن قال: بعتك هذا بنصف دينار وثلث دينار وسدس دينار.. لم يلزمه أن يعطيه دينارًا صحيحًا.(5/108)
[فرعٌ: البيع بنقد مغشوش]
] : وإن باعه أرضًا، أو ثوبًا، أو عرضًا بنقد مغشوش.. نظرت:
فإن كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم الزرنيخيّة، التي غِشُّها الزرنيخ والنُّورة ـ ومعنى قولنا: (مستهلكًا) إذا صفيت وسبكت.. لم يكن لغشها قيمة ـ فإن البيع يصح فيها؛ لأن الفضة التي عليها لا تختلط بالغش، وإنما هي مطلية عليه، فصح البيع.
وإن كان الغش غير مستهلك ـ وهي الدراهم التي هي مغشوشة بالصفر والنحاس، ودنانير الذهب التي غشّت بالفضة ـ فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود منها غير متميز عما ليس بمقصود، فلم يصح البيع، كما لو شيب اللبن بالماء، وبيع، فإنه لا يصح، ولهذا لم يجوز الشافعي بيع تراب الصاغة وتراب المعادن لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من زافت عليه دراهمه.. فليأت بها السوق، وليقل: من يبيعني بها سحق ثوب، أو كذا، أو كذا، ولا يحالف الناس عليها: أنّها جياد) . والسحق من الثياب، الخلق منها؛ ولأن المنع من ذلك يؤدِّي إلى الإضرار؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها جملةً.
قال الصيمري: ولا يثبت هذا النقد في الذمة.
وأما بيع بعضها ببعض: فلا يجوز، وجهًا واحدًا، ونحن نذكر ذلك في الربا إن شاء الله(5/109)
فإن تبايعا بها، وقلنا: إنه صحيح، ثم بان أن فضتها يسيرة جدًّا.. فهذا عيب فيه، فله الرد.
قال الصيمري: وكان شيخنا أبو الفياض يخرج ذلك على وجهين:
أحدهما: لا رد له؛ لأن عيبها معلوم في الأصل.
والثاني: له الرد؛ لأنه بان أن غشها أكثر من المعتاد.
[مسألة: بيع المرقوم]
] : إذا قال رجلٌ لآخر: بعتك هذه السلعة برقمها، أو مما باع به فلان سلعته، وهما لا يعلمان قدر ذلك وقت العقد.. لم يصح البيع؛ لأنه مجهول. وهذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : إذا باعه السلعة برقمها، وهما لا يعلمان قدره، ثم أعلمه إياه في مجلس البيع قبل التفرق.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الأصح: أنه لا يصح.
وإن اشترى أرضًا، أو ثوبًا بملء كفِّه دراهم أو دنانير، وهما لا يعلمان عددها.. صح البيع.
وقال مالكٌ: (لا يصح) . وجوز ذلك في النقرة والتبر والحلي.
دليلنا: أنه معلومٌ بالمشاهدة، فصح كالصبرة والنقرة.
وإن قال: بعتك هذه الغنم، كل شاة بدينار، وهما لا يعلمان عددها وقت البيع.. صح العقد.
وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: أن غرر الجهالة بالثمن ينتفي بعد عدها، فصح.(5/110)
[فرعٌ: بيع العربان]
] : و: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان» .
قال القتيبي: هو أن يشتري الرجل السلعة، فيدفع درهمًا أو دينارًا، على أنه إن أخذ السلعة بالبيع.. كان المدفوع من الثمن، وإن لم يتم البيع، وردّ السلعة.. كان المدفوع هبة للبائع، ولم يسترجعه منه.
قال: ويقال: عربان، وعُربون، وأربان، وأربون، والعامة تقول: عَربون، وهو غير جائز.
وقال أحمد: (يصح هذا البيع) .
دليلنا: أنه شرط أن يكون للبائع شيء بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي.
[فرعٌ: البيع لاثنين دفعة]
إذا كان لرجلٍ عبدٌ، فقال لرجلين: بعتكما هذا العبد بألفٍ، فقالا: قبلنا.. صح البيع؛ لأن الثمن ينقسم على أجزائه، ويكون لكل واحد منهما نصفه بخمسمائة، فإن قال أحدهما: قبلت دون الآخر.. كان له نصف العبد بخمسمائة؛ لأن إيجابه لاثنين بمنزلة العقدين.
وإن كان له عبدان، فقال: بعتك يا زيد هذا، وبعتك يا عمرو هذا بألف، فقالا:(5/111)
قبلنا.. فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن كاتب عبدين على مال واحد قولين:
أحدهما: لا يصح؛ لأن العقد الواحد مع الاثنين عقدان، فإذا لم يبين العوض لكل واحد منهما.. كان مجهولاً، فلم يصح.
والثاني: يصح، وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتيهما.
فقال أبو سعيد الإصطخري: هذا في الكتابة، فأما في البيع: فلا يصح، قولا واحدًا؛ لأن الكتابة لا تفسد بفساد العوض، بخلاف البيع، فإنه يفسد بفساد العوض، فلم يصح.
وقال العباس: بل هما سواء، فتكون المسألة على قولين، وهو الصحيح؛ لأن الكتابة أيضا تفسد بفساد العوض.
فأمّا إذا قال: بعتكما هذين العبدين بألف، فقالا: قبلنا.. صح البيع، قولاً واحدًا، ويكون لكل واحدٍ منهما نصف العبدين بخمسمائة، كما لو باعهما من رجلٍ واحدٍ، فأمَّا إذا قال أحدُهما: قبلتُ نصفهما بخمسمائة.. صحّ؛ لأنه قبل فيما أوجب له.
وهكذا: لو قال أحدهما: قبلتُ، وأطلق، ولم يقبل الآخر.. صح البيع للقابل في نصفهما بخمسمائة؛ لأن إطلاق القبول يرجع إلى مطلق الإيجاب.
وإن قال أحدهما: قبلت أحد العبدين، أو قبلت هذا بخمسمائة.. لم يجز؛ لأنه أوجب لهما في العبدين نصفين بينهما، فلا يجوز أن يقبل في أكثر مما أوجب له.
وإن قال أحدهما: قبلت نصف أحد هذين العبدين، أو نصف هذا بحصته من الألف.. لم يصح؛ لأنه قبل في بعض ما أوجب له فيه، فقد بعض الصفقة، ولأن حصته من الثمن مجهولة.
[فرعٌ: البيع بنقدين غير معينين]
] : إذا قال: بعتك هذا العبد بألف مثقال ذهبًا وفضةً، فقال: قبلت.. لم يصح البيع.(5/112)
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون الثمن نصفين منهما) .
دليلنا: أن قدر كل واحد منهما مجهول، فلم يصح العقد، كما لو قال: بعضها ذهب، وبعضها فضة.
ولا يجوز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول؛ لأنه عوض في البيع، فلم يجز إلى أجل مجهول، كالمسلم فيه.
[مسألة: بيع مجهول القدر]
إذا باع شاة مذبوحة قبل السلخ.. قال الطبري: فلا يختلف المذهب: أنّه لا يصح البيع، سواءٌ باع اللحم والجلد، أو اللحم دون الجلد؛ لأنه إذا باع اللحم دون الجلد فهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كما لو باع ما في تراب المعدن، أو تراب الصاغة.
وإن باع اللحم مع الجلد.. فالمقصود منه اللحم دون الجلد، وهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، بخلاف الجوز مع اللب، فإنه مستورٌ بما له في مصلحةٌ.
وإن سلخ اللحم، وجعله في الجلد، فباعه من غير رؤية.. فهو على الخلاف الذي مضى في بيع خيار الرؤية.
إذا ثبت هذا: فإن ابن القاص قال: إذا باع الشواء المسموط، أو السخلة الصغيرة، وهي مذبوحة، قبل سلخها.. فإن ذلك يصح؛ لأن الجلد فيها مأكولٌ، فهو كالدجاجة المذبوحة إذا بيعت في جلدها.
قال القفال: وهكذا لو باعها بعد السمط، وقبل الشواء.. فإن ذلك يصح بيعه؛ لأنه من جملة اللحم.(5/113)
قال أبو علي السنجي: وكذلك الرؤوس والأكارع المشوية، وغير المشوية، يصح بيعها وعليها جلدها؛ لأنه مأكول.
[مسألة: تعليق البيع]
] : ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طلعت الشمس.. فقد بعتك عبدي؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملامسة وبيع المنابذة» .
قال أصحابنا: فأما (الملامسة) : فلها ثلاث تأويلات:
إحداهنّ: أن يبيعه شيئًا في ظلمةٍ لا يشاهدُهُ، وإنّما يلمسه بيده، ويكون لمسه له كالمشاهدة، ولا خيار له بعد ذلك.. فهذا لا يجوز؛ للخبر، ولأنه مبيعٌ مجهول الصفة.(5/114)
والثاني: أن يبيعه ثوبًا على أنه إذا لمسه.. فقد وجب البيع ولا خيار له في المجلس فلا يجوز البيع؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث ـ حكاه ابن الصباغ ـ: وهو أن يطرح الثوب على المبتاع، فيلمسه، فإذا لمسه.. فهو عقد الشراء، فلا يصح البيع؛ للخبر، ولأن اللمس لا يكون عقدًا.
وأمّا (المنابذة) : فلها تأويلان:
أحدهما: أن يقول: أي ثوب نبذت إلي.. فقد اشتريته بمائة، أو أي ثوب نبذت إليك.. فقد بعتكه بمائة، فلا يجوز؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب، على أنّي متى نبذته إليك.. فقد لزم العقد ولا خيار لك.
ولا يجوز بيع الحصاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة» . وله ثلاث تأويلات، حكاها الشيخ أبو حامد:
إحداهن: أن يقول: أي ثوب رميت عليه حصاة.. فقد بعتكه بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول.
والثاني: أن يقول بعتك هذا الثوب بمائة، على أني متى رميتُ عليك حصاةً.. فقد انقطع خيار المجلس، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد.
والثالث: أن يقول: بعتك من هذه الأرض من هاهنا إلى الموضع الذي تنتهي إليه حصاة ترميها، أو أرميها فلا يجوز؛ للخبر، ولأنه بيع مجهول.
ولا يجوز بيع حبل الحبلة؛ لما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» .(5/115)
قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم ينتج الذي في بطنها) . وإلى هذا التفسير ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو عبيد: هو بيع نتاج النتاج.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أظهر في اللغة، والأول أظهر في الخبر، وأيهما كان.. فلا يصح؛ لأن البيع في التفسير الأول إلى أجل مجهول، وفي الثاني بيع معدوم مجهول.
ولا يجوز بيعتان في بيعةٍ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة واحدة» . وله تأويلان:(5/116)
أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بمائة، على أن تبيعني دارك بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه سلم في عقد، وذلك لا يجوز.
والثاني: أن يقول: بعتك عبدي هذا بألف حالة، أو بألفين نسيئة، فلا يصح.
وقال ابن سيرين: يلزمه البيع بأكثرهما. وهذا لا يصح؛ لأنه لم يعقد على ثمن معلوم.
[مسألة: تحرم مبايعة من ماله حرام]
] : ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرامٌ؛ لما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي، وحلوان الكاهن» .
و (البغي) : الزانية، قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] [مريم: 28] .
وأما (حلوان الكاهن) : فهو ما يعطى الكاهن ويجعل له رشوة على كهانته، يقال منه: حلوت الرجل أحلوه حلوانًا: إذا حبوته بشيء، قال الشاعر:
كأني حلوت الشعر يوم مدحتُهُ ... صفا صخرة صماء يبس بلالها
فجعل الشعر حلوانًا مثل العطاء.(5/117)
وأما مبايعة من معه حلال وحرام من مكس أو ربا: قال الشيخ أبو حامد: وكذلك أخذ الجوائز من السلطان، فإن ذلك على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حرام، فهذا لا يجوز، ولا يملكه إذا أخذه، ويجب عليه ردُّه إلى مالكه.
والثاني: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حلالٌ، إما من إرث، أو اتّهاب، أو غير ذلك، فيصح ذلك، ويكون ما يأخذه حلالاً.
الثالث: إذا كان يشك في ذلك، أهو من الحلال، أم من الحرام؟ فالأولى أن لا يبايعه، ولا يأخذ منه؛ لما روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات.. استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات.. وقع في الحرام، كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه» .
وروى الحسنُ بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير في الطمأنينة، والشر في الريبة» .(5/118)
«وروى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما المؤمن؟ قال: "المؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته". قال: قلت: وما الإثم؟ قال: ما حاك به صدرك، فدعه» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (دعوا الربا والريبة) .
فإن بايعه وأخذ منه.. صح البيع، وحلّ له ما يأخذه منه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا علم أن أكثر ماله حرام.. لم يجز مبايعته، ولا الأخذ منه، وإن كان الأكثر منه حلالاً.. جاز) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير(5/119)
أخذه منه» . وأنه كان يعلم أن اليهود يتصرفون في الخمر والرّبا وغير ذلك.
وروي: أن رجلاً سأل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: إن لي جارًا يُربي، فهل لي أن آخذ منه؟ فقال: (لك مهنؤه، وعليه مأثمه) .
وروي: (أن بعض السلاطين وهب من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثيابًا، قيمتها خمسون ألف درهم فردّها، فشفع إليه.. فقبلها) .
ولأن الظاهر مما في يده أنّه ملكه.(5/120)
قال الشيخ أبو حامد: لأن المشكوك فيه على ثلاثة أضرب:
ضربٌ: أصله على الحظر.
وضربٌ: أصله على الإباحة.
وضربٌ: لا أصل له في الحظر ولا الإباحة.
فأمّا الذي أصله على الحظر: مثل: أن يجد شاةً مذبوحة في بلد عبدة الأوثان، أو المجوس، أو في موضع يساوي فيه أهل الشرك والإسلام، فإنه لا يجوز شراؤها، ولا يحل أكلها؛ لأن أصلها على الحظر، وإنما تستباح بالذكاة، ويحتمل أن يكون ذكاها مسلم، ويحتمل أني كون ذكاها مجوسي، أو وثني، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والأصل الحظر، وإن وجدها في بلاد الإسلام، أو في موضع أكثر أهله المسلمون.. فيجوز أكلها؛ لأنه يغلب على الظن أنّها ذبيحة مسلم.
وأما الذي أصله الإباحة: فهو الماء إذا وجدَه متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغيره.. فلا يحكم بنجاسته؛ لأن أصله على الإباحة.
وأمّا ما لا أصل له في الحظر والإباحة: فهو المال، فمن أكثر ماله حرامٌ، أو تساوى عنده الحلال والحرام.. فيحتمل الذي يؤخذ منه أنه حرامٌ، ويحتمل أنّه حلال، وليس له أصلٌ في الحظر والإباحة، فهذا يكره الأخذ منه، وابتياعه، فإن ابتاعه.. صحّ؛ لأنّ الظاهر أنه ملكه.
[فرعٌ: كراهة بيع الشيء لمن يعصي به]
] : ويكره بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به؛ لأن فيه إعانة على المعصية، فإن باع منه.. صح البيع؛ لأنه قد لا يعصره خمرًا، وقد لا يعصي الله في السلاح.
قال ابن الصبّاغ: وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا اعتقد البائع أنه يعصره خمرًا.. فبيعه منه حرامٌ، وإنما يكره إذا كان يشك.
قال الشيخ أبو حامد: فإن باعه ليتخذه خمرًا.. فإنه محرمٌ؛ لأنه أعان على(5/121)
المعصية، وهو داخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها» .
والبيع جائز، أي: صحيح، فإن باعه على أن يتخذ منه الخمر.. فالبيع باطل.
[فرعٌ: حرمة بيع العبد المسلم والمصحف لكافر]
ولا يجوز أن يبيع العبد المسلم أو المصحف من الكافر؛ لأنه يعرض المسلم للصغار، والمصحف للابتذال، وكذلك لا يجوز أن تباع منهم كتب السنن والفقه.
وحكى الصيمري، عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز أن تباع منهم كتب أبي حنيفة؛ لأنه لا آثار فيها، ولا يجوز أن تباع منهم كتب أصحابه؛ لأنها متضمنة للآثار، فإن باع منهم ما لا يجوز بيعه من ذلك.. فهل ينعقد البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينعقد، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] [النساء: 141] ، ولأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام، فلم يصح، كتزويج المسلمة من الكافر، وفيه احترازٌ من النجش والبيع على بيع أخيه.
والثاني: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأظهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] ، ولأنه سبب يملك به العبد الكافر، فملك به العبد المسلم، كالإرث.
فإن قلنا بهذا: فهل يمكن الكافر من قبضه بنفسه، أو يؤمر بأن يؤكل مسلما، ليقبضه له؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\226] .
ولا يقر على ملكه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن في ذلك إذلالا للإسلام.(5/122)
فإن باعه من غيره، أو رهنه، أو أعتقه.. قبل منه، وإن رهنه، أو أجره، أو زوجه.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن ذلك لا يزيل ملكه عنه، وإن كاتبه.. ففيه قولان:
أحدهما: يقبل منه؛ لأن بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه.
والثاني: لا يقبل منه؛ لأن الكتابة لا تزيل ملكه، فهي كالتزويج.
فإذا قلنا: لا ينعقد ابتياع الكافر للعبد المسلم، فوكل المسلم كافرًا ليشتري عبدًا مسلمًا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يصح أن يكون الكافر وكيلا للمسلم، ليتزوج له مسلمة.
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يصح، كما يصح للفاسق أن يكون وكيلا في البيع، وإن لم يصح أن يكون وليًّا للنكاح.
وإن اشترى الكافر أباه المسلم، أو ابنه المسلم، فإن قلنا: يصح ابتياعه للمسلم إذا كان أجنبيًّا، لا يعتق عليه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه يملك به المسلم، فلم يصح كالأجنبي.
والثاني: يصح؛ لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتق عليه بالملك، فيحصل له من الكمال بالحرية، أكثر مما يحصل عليه من الصغار بالملك، فصح، كما إذا قال أعتق عبدك عني.. فإنه يصح العتق، كذلك هاهنا.
[مسألةٌ: إعتاق الكافر المسلم]
قال ابن الصباغ: إذا قال الكافر لآخر: أعتق عني عبدك المسلم عن كفارتي، فأعتقه عنه.. صح، ويدخل في ملكه، ويخرج منه بالعتق، وإنما جاز ذلك؛ لأن قوله أعتقته عنك ليس بتمليك له، وإنما هو إبطال الرق فيه، وإنّما حصل له الملك فيه حكمًا، كما يملكه بالإرث حكمًا.(5/123)
[مسألةٌ: شراء ما لا يشاهد]
إذا باع قطنًا، واشترط الحب لنفسه، أو باع سمسمًا، واشترط الكسب لنفسه.. فإن البيع باطلٌ؛ لأن المبيع غير مشاهد؛ لأنه إذا باع القطن، واستثنى الحب لنفسه.. فالحب مختلط بالقطن، ولا يشاهد كل القطن.
وهكذا: إذا باع السمسم، واستثنى الكسب لنفسه.. فكأنه باع الشيرج، وهو غير مشاهد، فلم يصح البيع، ولأنه لا يخلو: إمّا يسلِّم القطن مع الحب، والسمسم كما هو، أو يمسكه ليحلج القطن، ويستخرج الشيرج، ولا يجوز أن يسلم القطن والسمسم؛ لأنه لا يلزمه تسليم حقه وحق غيره، ولا يجوز أن يمسكه حتى يميز المبيع عمّا ليس بمبيع؛ لأنه يكون في الحقيقة بيعا شرط في تأخير التسليم، وذلك لا يجوز.
[فرعٌ: بيع الشاة دون السواقط]
وإن قال: بعتك هذه الشاة، إلا سواقطها.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالكٌ رحمةُ الله عليه: (إن كان في الحضر.. لم يصح، وإن كان في السفر.. صح) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الثنيا في البيع» .
ولأنه لو باع سواقطها.. لم يصح، فكذلك إذا استثناها.
وإن باع بهيمةً حاملاً أو جاريةً بمملوك.. فإن الحمل يدخل في البيع بمطلق العقد، كسائر أجزائها.(5/124)
وإن استثنى البائع الحمل، أو استثنى البائع البيضة في الدجاجة المبيعة.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك بمنزلة عضو من أعضائها، بدليل: أنه إذا أعتق الجارية الحامل.. عتق الحمل، ولأنا لو قلنا: يجوز.. لم يخل: إمّا أن يؤمر بتسليم الأم مع حملها، أو يؤمر بتسليمها بعد الوضع، فبطل أن يؤمر بتسليمها مع حملها؛ لأنه لا يؤدي إلى أن يلزمه تسليم المبيع وغيره، وبطل ألا يلزمه التسليم إلاَّ بعد الوضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تأخير تسليم المبيع، فإذا بطل القسمان.. ثبت أنّ البيع باطل.
وإن اشترى جارية حاملاً بحر.. لم يصح البيع في الجارية؛ لأن الحر لا يصح بيعه، فيصير كأنه استثناه في البيع، فلم يصح.
وإن باع جاريةً، أو بهيمة لبونًا، واستثنى البائع لبنها.. قال ابن الصباغ: فيحتمل عندي وجهين:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه مجهول، فأشبه الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض.
والثاني: يصح؛ لأنه يبقيه على ملكه، فالجهالة فيه لا تؤثر، بخلاف الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض، لأن كل واحد من ذلك لا يقدر على تسليمه عقيب العقد، بخلاف اللبن.
[فرعٌ: لا يفرق بين الأمة وطفلها]
] : ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وبين ولدها المملوك في البيع والهبة، قبل أن يستكمل الولد سبع سنين؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا توله والدةٌ بولدها» . أي: لا يشغل قبلها به.(5/125)
ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من فرّق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» .
فإن فرق بينهما بالبيع أو الهبة.. فهل يصح البيع أو الهبة؟ فيه وجهان:
المشهور من المذهب: أنه لا يصح؛ لما روى أبو داود في "سننه ": «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرق بين الأم وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وردّ البيع» .
وحكى المسعودي [في " الإبانة " [ق\222] قولاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (أنه يصح البيع) . وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(5/126)
والأول أصح؛ لأنه تفريق محرم في البيع، فأبطله، كالتفريق بين الجارية وحملها.
وهل يجوز التفريق بينهما بعد استكمال الولد سبع سنين، وقبل بلوغه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر، ولأنه غير بالغ، فأشبه ما لو لم يستكمل السبع.
والثاني: يجوز؛ لأنه مستغن عن الحضانة، فأشبه البالغ.
وإن فُرق بين الولد، وبين جدته أم أمه.. فهو كما لو فرق بينه وبين أمه، على ما مضى.
وهل يجوز التفريق بينه وبين أبيه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.
وإن فرق بينه وبين أخيه.. جاز.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أن القرابة التي بينهما لا تمنع القصاص، فلا تمنع التفريق بينهما في البيع، كابن العم.
وقال الشيخ أبو إسحاق في " التعليق " بالخلاف. فإن اشترى جارية وولدها الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما.. صح البيع.
وأما التفريق بين البهيمة وولدها الصغير بعد استغنائه عن لبنها.. فجائز، وحكى الصيمري فيه وجهين:
أحدهما ـ هذا، وهو الأصح ـ: أنه يجوز، كما يجوز له ذبح أحدهما، وذبحهما معًا.(5/127)
والثاني: لا يصح؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان وفي ذلك تعذيب له.
وبالله التوفيق.(5/128)
[باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده]
الشروط في البيع على أربعة أضرب: أحدها: ما هو من مقتضى العقد، مثل: أن يشرط عليه التسليم، أو خيار المجلس، أو ردّه بالعيب إن كان معيبًا، أو الرجوع بالعهدة إن استحق، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يفسد البيع؛ لأن إطلاق العقد يقتضي ثبوت ذلك، فكان شرطه لذلك تأكيدًا لما يقتضيه العقد.
الشرط الثاني: ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة، كالأجل في الثمن، وخيار الثلاث، والرهن، والضمان، والشهادة. وما أشبه ذلك.. فهذا شرطٌ لا يفسد البيع، ويثبت المشروط؛ لأن في ذلك مصلحة للعقد.
الشرط الثالث: أن يبيعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أن الشرط صحيح) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، وحكى القاضي أبو حامد في " جامعه ": أن أبا ثور روى عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) .
ومن أصحابنا من قال: القول المخرج للشافعي فيها: (أن الشرط والبيع باطلان) . وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا قبضه المشتري.. ملكه ملكًا ضعيفًا، فإذا أعتقه.. نفذ عتقه، ويلزمه الثمن) . وقال أبو يوسف، ومحمد: يلزمه القيمة.
واحتج من ذهب إلى هذا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .(5/129)
ولأنه شرط يمنع كمال التصرف، فمنع صحة البيع، كما لو باعه بشرط ألا يعتقه، أو بشرط أن يبيعه.
ووجه المنصوص: ما روي: «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كاتبت على نفسها بسبع أواقي ذهب، في كل سنة أوقية، فجاءت إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينها، فقالت: لا، ولكن إن شئتِ.. عددت لهم مالهم عدَّةً واحدة، على أن يكون ولاؤك لي، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لعائشة أم المؤمنين، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشتريها، واشترطي لهم الولاء، وأعتقيها "، فاشترتها، وأعتقتها، ثم صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر خطيبًا، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق ".
قالت عائشة أم المؤمنين: (فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان زوجها عبدًا فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا.. لم يخيِّرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) .(5/130)
ووجه الدلالة من هذا الخبر: أن هذا البيع إنما كان بشرط العتق، وقد روي في بعض الأخبار: (أن عائشة اشترت بريرة لتعتقها) . وأيضا فإنها إذا اشترطت الولاء لأهلها.. فإنما يكون ذلك في موضع شرط فيه العتق، ولأن للعتق مزية وغلبة في الأحكام، بدليل: أنه إذا أعتق نصف عبده.. عتق الجميع، ولو أعتق شقصًا له من عبدٍ بينه وبين غيره، وكان موسرًا بقيمة باقية.. عتق باقيه، فلم يفسد البيع بشرطه، بخلاف غيره من العقود.
فإن قيل: فبريرة كانت مكاتبة، فكيف جاز بيعها؟ قلنا: على القول القديم(5/131)
(يجوز بيعها) ، ويكون هذا حجة على صحة البيع للقول القديم، وعلى القول الجديد (لا يصح بيعها) ، فيحمل الخبر على أنها عجزت نفسها عن أداء ما عليها، فعجّزها أهلها، وفسخوا العقد، والفسخ يصح بصريح الفسخ بأن يقول المولى: فسخت الكتابة، ويصح بإزالة الملك بأن يبيعه، أو يهبه، فكأنهم جعلوا بيعهم لها فسخًا لكتابتها.
فإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، ويكون الولاء للبائع.. فشرط الولاء باطلٌ بلا خلاف على المذهب، وفي البيع قولان:
أحدهما: وهو رواية أبي ثور عن الشافعي: (أن البيع صحيح) ؛ لما ذكرناه من حديث عائشة في شراء بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولم يبن على التغليب، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة.
وأمّا تأويل حديث عائشة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد إبطال ذلك عليهم، وقطع عادتهم في ذلك، فأمر عائشة: (أن تشترط لهم الولاء) ، ثم أبطله؛ ليكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، كما أنه أمرهم بالإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فلم يحرموا؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز ذلك، فأحرموا بالحج، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحجّ، وأمرهم بالإحرام بالعمرة؛ ليبالغ في الزجر والردع عن ذلك عما كانوا يعتقدونه، كذلك هذا مثله، فيكون هذا الشرط خاصًّا لعائشة - رضي الله عنها -؛ لهذا المعنى.
قال المزني: ويحتمل أن يكون معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اشترطي لهم الولاء» ؛ أي: اشترطي عليهم الولاء؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [الإسراء: 7] ، أي: فعليها.
وهذا التأويل ليس بصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبطل شرط الولاء، ولو كانت اشترطت عليهم الولاء لها.. لكان هذا صحيحًا.(5/132)
[فرعٌ: البيع بشرط العتق]
إذا باعه عبدًا بشرط العتق.. نظرت: فإن أعتقه المشتري.. استقرَّ العقد، وإن امتنع من إعتاقه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر عليه؛ لأنه عتق لزمه، فإذا امتنع منه أجبر عليه، كما لو نذر عتق عبد، ثم امتنع من إعتاقه.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه قد ملكه، وثبت للبائع الخيار: بين أن يجيز البيع، وبين أن يفسخه، كما لو شرط أن يرهنه بالثمن رهنا، فامتنع من الرهن.
وهذان الوجهان بناءً على أن شرط العتق حقٌ للعبد، أو للبائع، وفيه وجهان:
فإن قلنا: إنه حق للعبد.. أُجبر عليه.
وإن قلنا: إنه حق للبائع.. ثبت له الخيار.
فإن رضي البائع بإسقاط العتق.. فعلى الوجهين:
إن قلنا: إنه حقٌ للبائع.. يسقط بإسقاطه، وإن قلنا: إنه حق للعبد.. لم يسقط.
وإن مات العبد قبل أن يعتقه المشتري.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يستقر البيع، ولا شيء على المشتري غير الثمن؛ لأن العبد تلف على ملكه، ولا يمكن إجباره على عتقه بعد موت العبد.
والثاني: أن البائع يأخذ الثمن، وما نقص منه لأجل العتق؛ لأنه إنما باعه بهذا الثمن لأجل العتق، فإذا لم يتم العتق.. رجع إلى ما نقص.
فعلى هذا: إن كان قد باعه بخمسين درهما بشرط العتق، ثم مات العبد قبل أن يعتق.. فإنه يقال: كم كانت قيمته لو بيع من غير شرط العتق؟ فإن قيل: في المثل ستون درهمًا.. قيل: فكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فإن قيل: أربعة وخمسون درهمًا.. قيل للبائع: فخذ من المشتري مثل تسع الثمن الذي سمي في العقد، وتسع(5/133)
الخمسين: خمسة دراهم وخمسة أتساع درهم، وهو عشر مبلغ الثمن بعد إضافة هذا إلى الخمسين.
والوجه الثالث: أن البائع بالخيار: إن شاء.. أجاز البيع، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخه، ورجع بقيمة عبده، كما لو كان العبد باقيًا.
وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه بعد شهر.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح؛ لأن ثبوت ذلك بالشرط، فكان على ما شرط.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عتق يتعلق بالعين، فلم يصح التأجيل فيه، كما لو باعه عبدًا بشرط أن لا يسلمه إليه إلا بعد شهر.
وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فباعه المشتري من آخر بشرط أن يعتقه المشتري الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح البيع الثاني؛ لثبوت حق العتق فيه، فلم يصح، كما لو نذر عتق عبد بعينه، فباعه.
والثاني: يصح؛ لأن المقصود عتق العبد، وذلك يحصل من الثاني، كما يحصل من الأول، فصح، كما لو وكل الأول في إعتاقه. والأول أصح. وإن باعه أمة بشرط أن يعتقها، فأحبلها المشتري.. فهل يجبر على إعتاقها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأن عتقها قد استحق بالإحبال.
والثاني: يجبر، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقها للعتق قد استحق قبل الإحبال، فلا يجوز تأخيره إلى وقت موته.
وإن باعه دارًا أو أرضًا أو عبدًا، بشرط أن يقفه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يصح البيع والشرط، قياسًا على العتق.
والثاني: يبطلان؛ لأن الوقف لا يبنى على التغليب، فلم يصح البيع بشرطه، كما لو باعه ثوبًا بشرط أن يتصدق به.(5/134)
الشرط الرابع: أن يبيعه عبدًا على أن لا يعتقه، أو على أن لا يبيعه، أو على أن لا خسارة عليه فيه، ومعنى هذا: أنه متى خسر في ثمنه.. فضمانه على البائع. أو باعه جارية بشرط أن لا يطأها، وما أشبه ذلك.. فالشرط باطلٌ، والبيع باطلٌ، هذا هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه، وبه قال أبو حنيفة.
وروى أبو ثور عن الشافعي: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) . وهو قول ابن أبي ليلى، والحسن البصري، والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
واحتجوا بحديث عائشة في شرائها لبريرة بشرط أن تعتقها، ويكون الولاء لأهلها.
وقال ابن سيرين: الشرط صحيح، والبيع صحيح.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .
وروي: أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من امرأته جارية، واشترطت عليه: إنك إن بعتها.. فإنها لي بالثمن، فاستفتى عمر في ذلك، فقال عمر: (لا تقربها وفيها شرط لأحد) .
ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فأبطله، كما لو شرط أن لا يسلم المبيع.
فقولنا: (لم يبن على التغليب) احترازٌ ممن شرط إعتاق العبد المبيع؛ لأن العتق بني على التغليب، على ما مضى ذكره.
وقولنا: (ولا هو من مصلحة العقد) احترازٌ من شرط الأجل، والرهن والضمان.(5/135)
وقولنا: (ولا من مقتضاه) احترازٌ منه إذا شرط ردّه بالعيب عند وجوده ورجوعه بالعهدة عندما يستحق عليه، وأما حديث عائشة: فقد ذكرنا تأويله.
[فرعٌ: شرط الانتفاع بالمبيع مدّة]
] : وإن اشترى دارًا، واشترط سكناها شهرًا، أو عبدًا، واستثنى خدمته مدة معلومة، أو جملا، واشترط أن يركبه إلى موضع معين.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح البيع، وجهًا واحدًا.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : أنها على وجهين:
أحدهما: يصح الشرط والبيع، وبه قال أحمد، وإسحاق، والأوزاعي؛ لما «روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (بعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرًا، واشترطت عليه ظهره إلى المدينة» . وروي: (أن عثمان باع دارًا واشترط سُكناها شهرًا) .
والثاني: لا يصح البيع، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» . ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فلم يصح، كما لو شرط أن لا يسلمه المبيع.
وأما حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلأن الشرط وقع بعد العقد وانقضاء الخيار، أو نقول: لم يكن ابتياعًا صحيحًا، وإنما أراد لتناله بركته؛ لما روي «عن جابر رضي الله(5/136)
عنه: أنه قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض الغزوات، فلحقني رسول الله، فقال: " ما بال جملك؟ "، فقلت: قد أعيا، فتخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فزجره، فسبق القافلة، ثم قال: " بكم ابتعته؟ "، فقلت: بثلاثة عشر دينارًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتبيعه مني بما ابتعته؟ "، فاستحييت منه، فبعته، فقدمنا المدينة، فرآني خالي، فقال: ما بال جملك؟ فقلت: بعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلامني عليه، فجئت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا رآني.. قال: " أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك» .
فلمّا قال: " خذ جملك ".. دلّ على أن الجمل كان ملكًا له، لم يزل عنه.
وأمَّا حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فالقياس مقدم عليه.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشرط الباطل إنما يفسد البيع إذا كان في حال العقد، أو بعد العقد، وقبل انقضاء الخيار على الصحيح من المذهب. وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: إن المبيع ينتقل بنفس العقد.. لم تلحق الشروط بالعقد بعد العقد في حال الخيار. وليس بشيء.
وأمّا إذا كان الشرط قبل العقد: فإنه لا يلحق بالعقد إن كان صحيحًا، ولا يبطل به العقد إن كان الشرط فاسدًا.
[مسألةٌ: البيع بشرط فاسد]
باطل] : وإن اشترى جارية بشرط فاسد.. فقد قلنا: إن البيع باطلٌ، ولا يجب على البائع أن يسلِّمها، ولا يجب على المشتري أن يتسلمها، وإن قبضها المشتري.. لم يملكها، وإن تصرف فيها ببيع، أو عتق.. لم ينفذ تصرفه.(5/137)
وقال أبو حنيفة: (إذا قبضها المشتري بإذن البائع، وكان قد سمى لها عوضًا له قيمة.. ملكها بالقبض ملكًا ضعيفًا، ولبائعها أن يرجع فيها، فيأخذها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة. فإن تصرّف فيها المشتري تصرُّفًا يمنع البائع الرجوع فيها، كالبيع والهبة والعتق والكتابة.. نفذ تصرّفه، وكان للبائع عليه ثمنها. وقيل: قيمتها. وإن اشتراها بما لا قيمة له، كالدم والميتة.. لم يملكها بالقبض) .
واحتجُّوا بحديث عائشة في شراء بريرة، وعندهم: أن الشراء كان باطلاً، وإنّما ملكتها بالقبض، ونفذ تصرُّفها فيها بالعتق لذلك.
دليلنا: أنه مقبوض عن عقدٍ فاسدٍ.. فلم يملكه به، فوجب أن لا ينفذ به تصرفه، كما لو اشتراها بدم أو ميتة.
ولأن الوطء في النكاح الصحيح بمنزلة القبض في البيع الصحيح، بدليل: أنّه يستقر به المسمى في النكاح، والثمن في البيع.
ثم ثبت أنه لا يستفيد بالوطء في النكاح الفاسد شيئًا مما يستفيده بالعقد الصحيح من استباحة البضع، والإيلاء، والظهار، والطلاق، فكذلك يجب أن لا يملك بالقبض في البيع الفاسد شيئًا مما يملك بالعقد الصحيح.
وأمّا حديث عائشة: فيحتمل أنّها شرطت لهم الولاء قبل العقد، فلذلك لم يبطل البيع، ويحتمل أن القصة كانت خاصّة بعائشة، وأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك قطع عادتهم في ذلك.
فإن قبضها المشتري، فإن كانت باقية بحالها لم تزد ولم تنقص.. لزمه ردُّها، وإن أقامت في يده مدة لها أجرة، فإن كانت صانعة.. لزمه أجرة مثلها صانعة، سواءً استخدمها أو لم يستخدمها؛ لأنه ممسك لها بغير حق، وإن كانت غير صانعة.. لزمه أجرة مثلها غير صانعة.
ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه أجرتها، كما إذا كان المبيع نخلة.. فإنه لا يلزمه رد أجرتها.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأنه ما من جارية إلا ولها أجرة ومنفعة، بأن(5/138)
يقول: اسقيني الماء، أو قدِّمي لي الخبز، بخلاف النخلة؛ لأنه ليس لمثلها أجرة، ألا ترى أنه لا يجوز إجارتها، ويجوز إجارة الجارية؟
وإن زادت في يده، فإن كانت الزيادة موجودة لم تتلف.. لزمه رد الجارية، ورد زيادتها، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها ملك للبائع، وإن تلفت الزيادة، وبقيت الجارية، بأن سمنت في يد المشتري، ثم هزلت، أو تعلمت القرآن أو صنعةً في يده، ثم نسيت ذلك.. لزمه رد الجارية. وهل يلزمه أرش الزيادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن البائع دخل في البيع ليأخذ بدل العين دون بدل الزيادة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يلزمه أرش الزيادة التي تلفت في يده) ؛ لأنها حدثت في ملك البائع، فكان له بدلُها، وقول الأول: إن البائع لم يدخل في البيع ليأخذ بدل الزيادة يبطل بالأجرة، فإنه لم يدخل في البيع ليأخذها، ومع هذا: فإنه يستحق الأجرة.
وإن قبضها المشتري وهي سمينةٌ، فهزلت في يده، أو قبضها وهي تحفظ القرآن، أو تحسن صنعة، فنسيت ذلك في يده.. لزمه رد الجارية، وأرش النقص؛ لأنه ضمن ذلك بالقبض، فلزمه قيمته إذا تلف، كالغاصب، وإن تلفت الجارية في يده.. لزمه قيمتها. وفي قدرها وجهان:
أحدهما: يلزم قيمتها يوم تلفها؛ لأنه مأذون له في إمساكها، فلزمه قيمتها يوم التلف، كالعارية.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت؛ لأنه قبض مضمون في عين يجب ردّها، فإذا هلكت.. ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب.
فقولنا: (قبضٌ مضمونٌ) احترازٌ من قبض الوديعة وغيرها من الأمانات.
وقولنا: (في عين يجبُ ردُّها) احترازٌ من قبض المشتري المبيع، فإنه قبض مضمون بالثمن، إلا أنه لا يجب ردّه، ويخالف العارية، فإن المستعير لو ردّها ناقصة بالاستعمال.. لم يجب عليه شيء، بخلاف هذا.(5/139)
وإن وطئها المشتري.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه يعتقد أنها ملكه، ولأن في الملك اختلافًا، فإن أبا حنيفة يقول: (يملكها بالقبض) وذلك شبهة، فسقط بها الحد، فإن كانت ثيِّبًا.. وجب عليه مهر ثيب؛ لأنها موطوءة لا يملك وطأها، فسقط الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب عليه المهر، كما لو وجد امرأةً على فراشه، فظنّها زوجته، فوطئها، فإن كانت بكرًا.. وجب عليه مهر بكر، ووجب عليه أرش الافتضاض مع المهر، فإن قيل: فكيف أوجبتم عليه المهر وقد أذن البائع بوطئها؟ ألا ترى أن الرجل إذا أذن بوطء جاريته.. لم يجب له المهر؟
فالجواب: أنه إنما أذن بوطئها على أنها ملك للمشتري، وهاهنا بان أن الجارية ملك للبائع، والوطء بالشبهة إذا صادف ملك غيره.. أوجب المهر.
فإن قيل: هلاَّ قلتم: إنه لا يجب على المشتري أرش البكارة، كما إذا تزوّج امرأةً بكرًا بنكاح فاسدٍ، فافتضّها.. فإنه لا يجب عليه أرش البكارة؟
فالجواب: أن النكاح يتضمن الإذن في الوطء؛ لأنه معقود عليه، والوطء يتضمن إتلاف البكارة، وليس كذلك البيع، فإنه ليس بمعقود على الوطء، ولهذا يجوز له شراء من لا يحل له وطؤها، ولأن الزوجة سلمت نفسها لا على وجه الضمان لبدنها، ولهذا إذا تلفت في يد الزوج.. لم يجب بالإتلاف ديتها بخلاف الأمة المبيعة؛ لأن البيع يقتضي ضمان بدنها.
فإن قيل: كيف أوجبتم أرش البكارة مع المهر، ولم يدخل الأرش في المهر؟
فالجواب: أنه إنما وجب الجمع بينهما؛ لأن أرش البكارة وجب بإتلاف ذلك الجزء، والمهر وجب بالاستمتاع، فوجب بدلُهما، ولأن أرش البكارة سبق وجوبه وجوب المهر؛ لأن الافتضاض قد يوجد قبل التقاء الختانين، والمهر لا يجب إلا بالتقائهما، فجرى مجرى من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها، إلا أن من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها.. يجب عليه أرش البكارة، ومهر ثيّب؛ لأنه لم يستوف اللذة المقصودة بالبكارة، وهاهنا قد وجد منه استيفاء اللذة الكاملة بإزالة البكارة، فوجب عليه مهر بكرٍ، ووجد منه إزالة ذلك الجزء، فوجب عليه بدله.(5/140)
وإن أحبلها المشتري.. نظرت:
فإن وضعت الولد حيًّا.. فإنّ الولد يكون حرًّا؛ لحصول الشبهة، ويلزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلف عليه رقّه، ويقوم عليه يوم الوضع؛ لأنه حال الحيلولة بينه وبين البائع لو كان مملوكًا.
وإن نقصت الأم بالحمل، أو بالوضع.. لزم المشتري أرش النقص.
وإن وضعت الولد ميِّتًا.. لم يجب على المشتري قيمته؛ لأنه لم توجد منه الحيلولة بين البائع وبين هذا الولد. وإن ضرب ضاربٌ بطنها، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب غرّة عبد، أو أمة مقدّرة بنصف عشر دية أبي الجنين، ويجب لمالك الأمة أقل الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة، أو الغرة؛ لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيًّا، وله أن يطالب بذلك من شاء من الضارب أو المشتري، فإن كانت الغرة أقل.. لم يجب للبائع أكثر منها، وإن كانت القيمة أقل.. كان له قدر القيمة، والباقي لورثة الجنين.
فإن سلم المشتري الجارية إلى البائع حاملاً، فولدت في يد البائع.. لزمه ضمان ما نقصت بالولادة؛ لأنها نقصت بسبب فعله.
وإن ماتت من الولادة.. لزم المشتري قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب كان في يده. وهل تحمل العاقلة عنه قيمتها؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء على القولين في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد في الجناية؟ ويأتي توجيههما في (العاقلة) إن شاء الله تعالى.
ولا تصير هذه الجارية أم ولد للمشتري في الحال.
وهل تصير أم ولدٍ له إذا ملكها بعد ذلك؟ فيه قولان:(5/141)
أحدهما: لا تصير أم ولد؛ لأنها علقت منه في غير ملكه.
والثاني: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر.
[فرعٌ: ما يلزم عن العلم بفساد الشراء]
] : قال الصيمري: وإذا اشترى عبدًا شراءً فاسدًا، وقبضه، وأنفق عليه مدّة، فإن كان المشتري عالمًا بفساد الشراء.. لم يرجع بما أنفق عليه، وإن لم يعلم.. فهل يرجع على البائع بما أنفق عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في رجوع الزوج في المهر على الولي إذا غرّه بحرّية الزوجة.
[فرعٌ: تلف ثمن البيع الفاسد بعد القبض]
] : قال أبو العباس: إذا باعه عبدًا بيعًا فاسدًا بثمن، وتقابضا، ثم أتلف البائع الثمن.. وجب على المشتري ردّ العبد، ولم يكن له إمساكه إلى أن يأخذ الثمن.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إمساكه، وهو أحق به من سائر الغرماء) .
دليلنا: أنه لم يقبض العبد وثيقة، وإنما قبضه على أنه ملكه، فإذا بان خلافه.. وجب ردّه.
وبالله التوفيق.(5/142)
[باب تفريق الصفقة]
إذا جمع في البيع بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز بيعه؛ بأن باع عبده وحرًّا، أو عبده وعبد غيره.. بطل البيع فيما لا يجوز بيعه، وهو الحر وعبد غيره.
وهل يصح بيعه في عبده؟ فيه قولان.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جمعت الصفقة بين ما هو مالٌ، وبين ما ليس بمال، مثل: أن باع خلاًّ وخمرًا، أو عبدًا وحرًّا، أو شاةً وخنزيرًا.. بطل البيع في الجميع. وإن جمعت الصفقة بين ما هو مالٌ، وما هو في حكم المال، كعبده وأم ولده.. صح البيع في عبده، وبطل في أم ولده. وإن جمعت الصفقة بين مالين، بأن باع عبده وعبد غيره.. لزم البيع في عبده، ووقف البيع في عبد غيره على إجازة مالكه، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل) . ويأتي الدليل عنه.
فإذا قلنا: تفرق الصفقة، فيبطل البيع فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز.. فوجهه: أن كل واحد منهما لو أفرده بالعقد.. لثبت له حكمه، فإذا جمع بينهما.. ثبت لكل واحد منهما حكم الانفراد، كما لو باع سيفًا وشقصًا من أرض، ولأنه لمّا لم يجُز أن يقال: يصح البيع فيما لا يجوز بيعه؛ لصحته فيما يجوز بيعه.. لم يجز أن يقال: يبطل البيع فيما يجوز بيعه؛ لبطلانه فيما لا يجوز بيعه، فأجرى حكم كل واحد منهما على ما كان يجري عليه لو أفرده بالبيع.(5/143)
وإذا قلنا: لا تفرق الصفقة، ويبطل البيع فيهما.. فاختلف أصحابنا في تعليله:
فـ[التعليل الأول] : منهم من قال: لأن الصفقة جمعت حلالاً وحرامًا، فغلّب التحريم، كما لو باع درهمًا بدرهمين، أو تزوج بأختين.
فعلى هذا: يبطل البيع فيما يتقسّط الثمن فيه على الأجزاء، بأن باع كرين من طعام، أحدهما له، والآخر لغير، أو باع عبدًا يملك بعضه، وفيما يتقسط الثمن فيه على القيمة، بأن باع عبده وعبد غيره، وكذلك إذا رهن ماله ومال غيره، أو وهب ماله ومال غيره، أو أنكح أخته وأجنبية.. فإنه يبطل نكاح الأجنبية، أو نكح مسلمة ومجوسية، أو محلة ومحرمة بعقد.. بطل النكاح.
و [التعليل الثاني] : من أصحابنا من قال: إنما يبطل البيع فيهما لجهالة الثمن؛ لأن الثمن يقسط عليهما، فيسقط ما يقابل ما لا يجوز بيعه، ويبقى ما يقابل ما يجوز بيعه، وذلك مجهولٌ حال العقد، فأبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذا بحصته من الثمن، أو رأس المال، أو يرفعه وهما لا يعلمان ذلك.
قلت: وهذا التعليل إنما يصح إذا قلنا: إنه يأخذ المبيع بحصته من الثمن.
فعلى هذا التعليل: لا يبطل البيع فيما يتقسط فيه الثمن على أجزاء المبيع، ولا يبطل الرهن والهبة والنكاح، وإنما يبطل فيما يتقسط الثمن فيه على القيمة.
وأما الدليل على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فنقول: لأن الصفقة جمعت بين ما يجوز بيعه، وبين ما لا يجوز بيعه، فصحّ فيما يجوز، كما لو باع عبده ومكاتبه، أو نقول على الآخر: فوجب أن لا يصح في الكل، كما لو باع حرًّا وعبدًا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. رد المبيع، واسترجع الثمن(5/144)
إن كانا قد تقابضا. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، وبين أن يجيزه، فإن اختار أن يجيزه.. فبكم يمسك ما صح فيه البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يمسك الجائز بجميع الثمن المسمى؛ لأن عقد البيع إنما يتوجه إلى ما يجوز بيعه، دون ما لا يجوز بيعه، فكأنه لم يذكر في العقد غيره.
والثاني: يمسكه بحصته من الثمن، وهو الصحيح؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا في مقابلهما، فلا يؤخذ منه جميعه بأحدهما.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا باع عينين يتقسط الثمن عليهما على قدر قيمتيهما، كالعبدين والثوبين. فأمّا إذا كان المبيع مما يتقسط الثمن على أجزائه، كالكرّين من الطعام، أو عبد بعضه له وبعضه لغيره.. فإنه يمسك الجائز بحصته من الثمن، قولاً واحدًا؛ لأن ما يتقسط الثمن فيه على القيمة يكون ما يخص الجائز مجهول، فدعت الحاجة إلى أن يجب عليه جميع الثمن، بخلاف ما يتقسط الثمن على أجزائه؛ لأن ثمن الجائز معلوم.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي نص على القولين في بيع الثمرة بعد بدوّ الصلاح وقبل إخراج الزكاة، والثمرة مما يتقسط الثمن فيها على أجزائها.
وإن كان أحد المبيعين غير متقوم، بأن باعه خلاًّ وخمرًا، أو عبدًا وحرًّا، فإن قلنا في التي قبلها: إنّه يمسك الجائز بجميع الثمن.. فكذلك هذا مثله.
وإن قلنا: إنه يمسك الجائز بحصته من الثمن.. ففي هذا ثلاثة أوجه:
أحدها: يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأنّ الخمر والحرّ لا قيمة لهما، فلا يمكن تقسيط الثمن عليهما.(5/145)
والثاني: حكاه في " الإفصاح ": أنه يمسك الجائز بجميع الثمن، قولاً واحدًا؛ لأنّ الخمر والحرّ لما لم يكن لهما قيمةٌ لتقسيط الثمن عليهما.. لم يبق إلا إيجاب جميع الثمن.
والثالث ـ حكاه المسعودي [في " الإبانة " [ق\227]ـ: أنه يقدر لو كان متقوّمًا، كم كانت قيمته مع قمية الجائز؟ ويقسم المسمى عليهما على قدر قيمتهما، كما قلنا في الجناية على الحرة التي لا أرش لها مقدّرًا.
فإن قلنا: إن المشتري يمسك الجائز بجميع الثمن.. فلا خيار للبائع؛ لأنه لا ضرر عليه.
وإن قلنا: إنه يمسك الجائز بحصته من الثمن.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه لم يحصل له جميع الثمن، فثبت له الخيارُ، كالمشتري.
والثاني: لا خيار له؛ لأنه هو الذي فرّق الصفقة على نفسه، حيث باع ما يجوز بيعه وما لا يجوز.
[فرعٌ: بيع المجهول]
وإن قال: بعتك هذا العبد وعبدًا آخر مجهولاً بألف.. بطل البيع في المجهول، كما لو باعه منفردًا، وهل يبطل البيع في المعلوم؟
إن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. بطل فيه أيضًا.
وإن قلنا: إن الصفقة تفرق، فإن اختار المشتري فسخ البيع في المعلوم.. فلا كلام. وإن اختار إمساكه، فإن قلنا: يمسكه بجميع الألف.. صح. وإن قلنا: يمسكه بالحصة.. بطل البيع أيضا فيه؛ لأنه لا يعلم كم قيمة المجهول ليقسط الثمن عليهما.(5/146)
[فرعٌ: تلف بعض المبيع قبل القبض]
وإن اشترى من رجل عبدين، فتلف أحدهما قبل أن يقبضهما، وبقي الآخر.. فإن البيع ينفسخ في التالف؛ لأنه تعذر التسليم المستحق فيه بالبيع، وهل يبطل البيع في الباقي منهما؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو باع عبده وعبد غيره؛ لأن الفساد الطارئ بعد العقد، كالفساد المقارن للعقد، بدليل: أن العيب الحادث في يد البائع قبل القبض، كالعيب الموجود في المبيع حال العقد.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا، لأنّا إنما أبطلنا البيع في عبده إذا باعه مع عبد غيره؛ للجمع بين الحلال والحرام، أو لجهالة ثمن عبده، وهاهنا لا يوجد واحد منهما.
وإن اشترى من رجلٍ عبدين، فقبض أحدهما، ثم تلف الآخر قبل أن يقبضه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\227] :
أحدهما: أنها كالأولى على طريقين، كما لو لم يقبض واحدًا منهما.
والثاني: لا يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا؛ لأنه قد تأكد بالقبض.
وإن اشترى عبدين، فأبق أحدهما قبل القبض.. لم يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا؛ لأن البيع لم يبطل في الآبق.
إذا ثبت هذا: فاشترى عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض، فإن قلنا: إن البيع يبطل في الباقي من العبدين.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يبطل فيه.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن اختار فسخ البيع.. فلا كلام، وإن اختار إمساك الباقي.. فبكم يمسكه؟ فيه طريقان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق الشيرازي ـ: أنه يمسك الباقي بحصته من الثمن، قولاً واحدًا؛ لأن الثمن هاهنا قابل المبيعين في الابتداء وصحّ فيهما، فإذا تلف أحدهما سقط ما يقابله لا غير.
والطريق الثاني ـ وهو قول القاضيين: أبي حامد وأبي الطيب، واختيار ابن الصبّاغ(5/147)
ـ: أنها على قولين؛ لأن العقد إذا انفسخ في التالف.. بقي العقد في الباقي خاصّة فكان بمنزلة ما لو كان ذلك في الابتداء فاسدًا في أحدهما.
قال ابن الصبّاغ: وما قال الأول يلزم عليه إذا باع مرهونًا وغير مرهون، أو ماله ومال غيره.. فإن في كل واحد منهما يصح أن يقابله عوض، وإنما لم يقابله؛ لتعلق حق الغير به، وهاهنا وإن قابله فقد زال ذلك بالفسخ بالموت، فجرى مجرى المرهون.
فإن قلنا: يأخذه بجميع الثمن.. فلا خيار للبائع.
وإن قلنا: يأخذه بالحصة.. فهل يثبت للبائع الخيار عنده؟ فيه وجهان، وقد مضى توجيههما.
[مسألة: الجمع بين بيع وإجارة]
] : وإن جمع بين البيع والإجارة، بأن يقول: أجرتك داري هذه شهرًا، وبعتك عبدي هذا بألف، فقال: قبلت.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطلان؛ لأن أحكام هذين العقدين تختلف، فالبيع يدخله الخيار، ويستقر الملك فيه بالقبض، والإجارة لا يدخلها خيار الثلاث، ولا تستقر عليه الأجرة بقبض العين.. فبطلا.
والثاني: لا يبطلان؛ لأن كل واحد منهما لو أفرده بالعقد.. صح، فإذا جمع بينهما.. فليس فيه أكثر من اختلاف الأحكام، فلم يمنع صحة العقد، كما لو باع سيفًا وشقصًا من أرض بألف.
فعلى هذا: يقوم العبد وتقوّم منفعة الدار شهرًا، وتقسم الألف عليهما على قدر قيمتيهما.
فأمّا إذا قال: بعتك داري، وأجّرتكها شهرًا بألف.. لم يصحّ واحدٌ منهما، قولاً واحدًا؛ لأنَّ بنفس عقد البيع يملك المنفعة، فإذا اشترط أن يملك المنفعة بعوض.. بطل العقد.(5/148)
وإن قال: بعتك هذه الدار بمائة على أن أؤجرك الأخرى.. بطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن هذا في معنى بيعتين في بيعة.
وإن قال: أجرتك هذه الدار بمائة، وبعتك الأخرى بعشرة، فقال المشتري: قبلت.. قال الشيخ أبو حامد: صح العقدان جميعًا؛ لأنه لا تعلق لأحدهما بالآخر.
وإن جمع بين البيع والصرف، بأن يقول: بعتك هذا الثوب وهذه الدنانير بهذه الدراهم.. ففيه قولان، ووجههما ما ذكرناه في البيع والإجارة.
وإن قال: بعتك هذا الثوب وهذه الدنانير بدنانير أخرى.. بطل البيع، قولاً واحدًا.
وإن جمع بين البيع والنكاح، قال الشيخ أبو حامد: وهو أن يقول: زوجتك ابنتي، وبعتك عبدها بألف، وهي صغيرة أو كبيرة، ووكلته على البيع، فقال: قبلت: أو قال: زوجتك أمتي وبعتك عبدي بألف، وهو ممن يحل له نكاح الأمة، فقال: قبلت.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح البيع والمهر، ويقسم الثمن على قدر قيمة العبد ومهر مثلها، وهذا يمضي في الصغيرة إذا كان ما يخص المهر قدر مهر المثل أو أكثر منه، فأمّا إذا كان أقل من مهر المثل: فلا يصح المهر، قولا واحدًا.
والثاني: يبطل البيع والصداق؛ لاختلاف أحكامهما، وأمّا النكاح: فلا يبطل، قولاً واحدًا؛ لأنه لا يفسد بفساد العوض عندنا.
وأما إذا جمع بين البيع والكتابة؛ بأن يقول لعبده: بعتك هذا العبد، وكاتبتك على نجمين بألف.. فإن البيع لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأنه لا يصح أن يبيع السيد من عبده، وفي الكتابة قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة.
وإن باع عبدين بألف، وشرط الخيار في أحدهما دون الآخر، فإن لم يبين حصة(5/149)
كل واحد منهما من الألف.. ففيه قولان، كما لو جمع بين البيع والإجارة، وإن بين حصة كل واحد من العبدين من الألف.. ففيه طريقان:
[الأول] : قال أبو العباس بن القاص: يصح، قولاً واحدًا؛ لأن علة فساد البيع الجهالة بالثمن لو احتيج إلى توزيع الثمن، فإذا بين حصة كل واحدٍ منهما.. انتفت الجهالة.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: هي على قولين.
وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على هذا، فإنه قال: (لو أصدقها ألفًا على أن ترد عليه عبدًا معينًا قيمته ألف، ومهر مثلها ألفٌ.. كان فيها قولان) .
قال: وكذلك لو بيّنا حصة كل واحد منهما، فإنها على قولين.
[فرعٌ: اشترى زرعًا واشترط حصاده]
ولو اشترى زرعًا، واشترط على البائع حصاده.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الشراء فاسدًا) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو جمع بين البيع والإجارة، وإنما ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحد القولين. وهذا اختيار ابن الصبّاغ.
ومنهم من قال: يبطلان، قولاً واحدًا، لأنه استأجره على حصاده الزرع قبل استقرار ملكه على الزرع، فلم يصح، كما لو استأجر رجلاً ليحصد له زرعًا لا يملكه.
ومنهم من قال: إنما لم يصح؛ لأنه اشترط تأخير تسليم الزرع؛ لأنه إذا شرط حصده على البائع.. ففيه تأخير التسليم إلى أن يحصد، فبطل العقد.
ومنهم من قال: إنما يبطل؛ لأن قطعه يجب على المشتري، فإذا شرطه على البائع.. فقد شرط شرطًا ينافي مقتضى العقد، فأبطله. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد.
وقال أبو علي السنجي: إذا اشترى منه زرعًا واستأجره على حصاده بألف، أو(5/150)
اشترى منه لبنًا واستأجره على طبخه بدرهم، أو اشترى منه حطبًا على ظهر دابّة واستأجره على حمله إلى بيته بدرهم.. ففيه ثلاثة طرق:
أحدها: أن الكل على قولين.
والثاني: أن جميع هذه العقود باطل، قولاً واحدًا. وهذان الطريقان حكاهما الشيخ أبو حامد.
والطريق الثالث: أن الإجارة باطلة في هذه المسائل، قولاً واحدًا، وفي البيع قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
[مسألة: البيع بأقل من القيمة عند الموت]
إذا باع في مرض موته شيئًا بأقل من قيمته، فإنّ القدر الذي نقصه عن القيمة يكون وصية تعتبر من ثلث تركته، وهكذا إذا اشترى في مرض موته شيئًا بأكثر من قيمته، فإن الزيادة وصية.
إذا ثبت هذا: فإن باع في مرض موته عبدًا يساوي ثلاثين درهمًا بعشرة دراهم، ومات لا يملك غير ذلك، ولم يجز الورثة محاباته.. فبكم يصح البيع من العبد؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال ابن الحداد، وأبو العبّاس بن سريج ـ: أن البيع يصح في ثلثي العبد وقيمته عشرون، بجميع الثمن وهو(5/151)
عشرةٌ، ويبطل البيع في ثلث العبد وهو عشرة؛ لأنه اجتمع للمشتري معاوضة ومحاباة، فوجب أن يجمع له بينهما، فيكون ثلث العبد مبيعا بالعشرة وقيمته عشرة، ويكون له ثلث العبد وصية وقيمته عشرة، ويبقى مع الورثة ثلث العبد وقيمته عشرة، وجميع الثمن وهو عشرة، فذلك مثلا المحاباة.
والوجه الثاني ـ وهو قول ابن القاص، وابن اللَّبّان ـ: أن المشتري لا بد أن يرجع إليه شيء من الثمن ويحصل له مع المحاباة؛ لأن العقد وقع على جميع العبد بجميع العشرة، فإذا رجع إلى ورثة البائع بعض العبد.. وجب أن يرجع إلى المشتري ما يقابل ذلك من الثمن. وفي كيفية معرفة القدر الذي صح فيه البيع من العبد على هذا طرق في الحساب منها:
أن يقال: المحاباة وقعت بثلثي العبد وقيمته عشرون، والثلث الذي تنفذ فيه المحاباة عشرة، وذلك نصف المحاباة، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، وقل: ينفذ البيع في نصف العبد، وقيمته خمسة عشر، بنصف الثمن وهو خمسة، فيجعل كأن المشتري اشترى سدس العبد وقيمته خمسة بخمسة، وبقي له ثلث العبد وقيمته عشرة وصية له، ويبقى مع الورثة نصف العبد وقيمته خمسة عشر، ومن الثمن خمسة، وذلك عشرون، وهما مثلا المحاباة، وقد قابل جميع الثمن جميع أجزاء العبد.
وفيه طريق آخر من الحساب: وهو أنك تنزع قدر مال الصحيح وهو عشرةٌ، من مال المريض وهو ثلاثون، ويبقى عشرون، فاضربها في ثلاثة وهو مخرج الثلث، فيكون ستين، فانسب جميع مال المريض وهو ثلاثون، ممّا اجتمع لك من الضرب، فتجد ذلك نصفه، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، ويقال: ينفذ البيع فيه بما يقابله من الثمن وأجر البيع فيه بمثله من الثمن.(5/152)
وفيه طريق آخر من الجبر والمقابلة: وهو أنك تلقي من مال المريض ما يقابل الثمن وهو عشرة، ثم تعطي المشتري مما بقي شيئًا بالوصية، وتدفع من الشيء ثلثه لأجل العشرة؛ لأن العشرة من الثلاثين ثلثها، فتبقى الوصية له في ثلثي شيء، ويبقى مع الورثة عشرون إلا ثلثي شيء يعدل مثلي الوصية، وهو شيء وثلث شيء، فإذا جبرت العشرين بثلثي الشيء الذي يقضى به، وزدت ذلك على الشيء والثلث المقابلين.. كانت العشرون تعدل شيئين كاملين، الشيء الواحد نصفها، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، وأجر البيع فيه من العبد بمثله من الثمن، وإن شئت.. فاقسم الثلاثين على الشيئين، فنصيب كل شيء نصفها، وذلك خمسة عشر، وهو نصفها، فأجر البيع في نصف العبد بنصف الثمن.
وإن باع المريض في مرض موته كر حنطة قيمته ثلاثون درهمًا، بكر شعير قيمته عشرةٌ، ومات ولا مال له غيره ولم يجز الورثة.. فهي على الوجهين في العبد.
وإن باع المريض في مرض موته كر حنطة جيّدًا يساوي ثلاثين درهمًا، بكر حنطة رديء يساوي عشرة، ومات ولا مال له غيره، ولم تجز الورثة.. فلا يجوز أن يقال: يصح البيع في ثلثي الجيد بجميع الرديء، كما قلنا في العبد في أحد الوجهين؛ لأن ذلك ربا، فيبطل هذا الوجه هاهنا، ولا يصح فيه إلا الوجه الثاني، فيصح البيع في النصف الجيد بنصف الرديء على ما ذكرناه.
إذا تقرر هذا: فإنّ المشتري يثبت له الخيار في هذه المسائل في العبد والكر على الوجهين؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، وأمّا ورثة البائع: فلا يثبت لهم الخيار وإن انتقضت عليهم الصفقة في الثمن؛ لأن المريض قصد إرفاق المشتري، فلو أثبتنا لهم الخيار.. لبطل مقصود المريض؛ ولأن تنقيص الثمن حصل باختيارهم، فإنهم لو أجازوا البيع.. لما حصل عليهم التنقيص، ولا يجوز أن يثبت لهم الخيار مرة أخرى.(5/153)
[فرعٌ: زيادة قيمة العبد قبل موت سيّده المريض]
] : وإن باع المريض من مرض موته عبدًا قيمته مائة بخمسين، فزادت قيمته قبل موت سيده حتى بلغت مائتين، ثم مات السيد، ولا يملك غيره، ولم يجز الورثة البيع:
فعلى الوجه الأول ـ وهو ظاهر كلام الشافعي: يجوز البيع في نصف العبد بخمسين، وهو قيمته يوم الشراء، ويبقى نصفه وقيمته مائة يوم مات سيده، فيضم إليه الثمن وهو خمسون، فيكون للمشتري من ذلك بالمحاباة شيء وصية، وله بفضل القيمة شيء من غير وصية، فتبقى مع الورثة مائة وخمسون إلا شيئين تعدل مثلي الوصية وهو شيئان، فإذا جبرت.. عدلت المائة والخمسون أربعة أشياء، فإذا قسّمتها على أربعة.. خص كل شيء منها سبعة وثلاثون درهمًا ونصف، وهو الجائز بالمحاباة، وذلك ثلاثة أثمان العبد يوم الشراء، وهو المعتبر من الثلث، إلا أن قيمته يوم مات السيد ضعف ذلك، ولا تحسب عليه زيادة قيمته؛ لأنه من غير الثلث، فإذا ضممت ثلاثة أثمان العبد إلى نصفه للمشتري.. بقي في أيدي ورثة البائع ثمن العبد يوم مات البائع، وقيمته خمسة وعشرون، وجميع الثمن وهو خمسون، فذلك خمسة وسبعون، وذلك مثلا قيمة ثلاثة أثمان العبد يوم الشراء.
وعلى الوجه الثاني ـ وهو قول ابن القاص، وابن اللَّبان ـ: يجوز البيع في شيء من العبد بنصف شيء من الثمن، فتكون المحاباة بنصف شيء، ويبطل البيع في عبد إلا شيئًا، وقيمته يوم مات السيد مائتان إلا شيئين، فيضم إليه نصف شيء من الثمن، فيبقى مع الورثة مائتان إلا شيئًا ونصف شيء، تعدل شيئًا كاملاً، وهو مثلا المحاباة، فإذا جبرت المائتين بما نقص منهما، وزدت ذلك على الشيء المقابل لهما.. عدلت المائتان شيئين ونصفا، فأسقط كل شيء نصفين، ليكون النصف معهما، فيكون خمسة أنصاف، فإذا قسمت المائتين على الأنصاف.. خص كل نصف أربعون، فيعلم: أن الشيء الكامل ثمانون، وهو أربعة أخماس العبد يوم الشراء، فيصح البيع(5/154)
فيه بمثل تلك النسبة من الثمن، وهو أربعون، فيعلم: أن المحاباة نصف شيء، وهو أربعون، ويبقى مع الورثة خمس العبد وقيمته أربعون يوم مات السيد، ومن الثمن أربعون، وهو مثلا المحاباة، وسواءٌ زادت قيمته بالسعر، أو بزيادة البدن، أو بتعلم صنعة.
فإن لم تزد قيمة العبد، ولكن نقصت في يد المشتري، فصار يساوي خمسين، ثم مات المريض:
فحسابه على ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقال: للمشتري نصف العبد بالخمسين، ويضم نصفه وقيمته: خمسة وعشرون إلى الثمن، فيصير خمسة وسبعين، للمشتري منها شيء محاباة، يحتسب عليه به شيئين؛ لأن قيمة الشيء يوم قبضه مثلا قيمته الآن، فيبقى للورثة خمسة وسبعون إلا شيئًا تعدل أربعة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت الخمسة والسبعون خمسة أشياء، فإذا قسمتها علمت أن الشيء خمسة عشر، وهو ثلاثة أعشار العبد، فيجمع له مع نصفه، فذلك أربعة أخماس العبد بجميع الثمن، ويبقى للورثة خمس العبد وقيمته عشرة، مع الثمن وهو خمسون، فيكون مع الورثة ستون، وهو مثلا قيمة ثلاثة أعشار العبد يوم قبضه المشتري، وهو ثلاثون.
وعلى قول ابن القاص، وابن اللَّبان: يجوز البيع في شيء من العبد، بنصف شيء من الثمن، فالمحاباة نصف شيء، ويبطل البيع في عبد إلا شيئًا، وقيمته خمسون إلا نصف شيء، فيضم إليه نصف شيء ثمنًا، فيكمل خمسين، وذلك يعدل شيئًا، فيعلم: أن الشيء خمسون، وذلك نصف قيمة العبد يوم الشراء، فيصح البيع في نصفه بنصف الثمن، وهو خمسة وعشرون، فيجتمع لورثة البائع نصف العبد وقيمته خمسة وعشرون، ونصف الثمن وهو خمسة وعشرون، فذلك خمسون، وهو مثلا نصف الشيء الذي جازت فيه المحاباة.
ولو نقصت قيمة العبد في يد المشتري بعد موت سيده.. فالجواب كذلك، ولا خيار للمشتري، فإن كان النقص في السعر لا في البدن.. فله الرد.(5/155)
ولو نقص في يد البائع، فبلغت قيمته خمسين.. نفذ البيع في جميعه على الوجهين؛ لأن ما نقص في يد البائع غير مضمون على المشتري، فكأنه باعه وحاباه ولم يسلم المحاباة، وكذلك لو بلغت قيمته خمسة وسبعين؛ لأن الثلث يحتمل، وللمشتري الخيارُ إذا كان النقص في يد البائع بالبدن، إلا أن ينقص في السعر، فلا خيار له.
[فرعٌ: باع عبدًا لا يملك سواه وله دين على آخر]
لو باع في مرض موته عبدًا لا مال له غيره، قيمته ستون درهمًا، بعشرة دراهم حاضرة، وللمريض على آخر تسعون درهما دينا:
فعلى ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمشتري سدس العبد بالعشرة، وثلثه بالمحاباة، فذلك نصفه، وللورثة نصفه وجميع الثمن، وكلَّما اقتضي من الدين شيء.. ردُّوا قدر ثلث ذلك من العبد على المشتري، حتى يستوفي وصيته.
وعلى قول ابن القاص، وابن اللبان: يأخذ المشتري خمسي العبد بخمسي العشرة، وللورثة ثلاثة أخماس العبد مع خمسي الثمن، وكلما اقتضى من الدين شيء.. ردّوا من العبد بقدر خمسي ذلك، وأخذوا من المشتري قسطه من الثمن، فإذا استوفوا الدين.. ردوا باقي العبد، وهل يردون ما أخذوا من كسبه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان.
أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنهم يردون؛ لأنا نتبين أن الملك كان للمشتري من يوم الشراء، وأن الكسب وقع في ملكه.
والثاني: لا يردون.
[فرعٌ: اشترى عبدًا بجميع ماله]
إذا اشترى في مرض موته عبدًا يساوي عشرة، بثلاثين درهمًا في يده لا يملك غيرها، ثم مات، ولم يجز الورثة:(5/156)
فعلى ظاهر كلام الشافعيّ: يلزم البيع في جميع العبد بعشرين من الدراهم، ويرد إلى ورثة المشتري من الثلاثين عشرة مع العبد وقيمته عشرة، وذلك مثلا المحاباة.
وعلى قول ابن القاصّ، وابن اللبان: يصح البيع في نصف العبد وقيمته خمسة بنصف الثمن وهو خمسة عشر، فيحصل للبائع بالمحاباة عشرة، ويجتمع لورثة المشتري نصف العبد، وقيمته خمسة، ويرجع إليهم نصف الثلاثين وهو خمسة عشر، فذلك عشرون، وهو مثلا المحاباة، ويكون للبائع الخيار هاهنا.
وإن كان للمشتري دين تخرج المحاباة به، ولم يجز الورثة:
فعلى ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون البائع بالخيار: إن شاء.. سلم العبد وردّ من الثمن عشرة، وإن شاء.. فسخ البيع. قال ابن سريج: فإن اختار فسخ البيع، ففسخ، ثم اقتضى الدين بعد ذلك.. فلا شيء للبائع. وإن لم يفسخ، ولكن رد العشرة، ثم اقتضى الدين.. رد عليه الورثة العشرة؛ لأنه إذا فسخ.. فكأنه لم يحصل له جميع الثمن، فكان في معنى من اختار فسخ البيع لعيب وجده، فلمّا فسخ.. زال العيب، فإذا لم يفسخ.. كان في معنى من أوصى له بوصية، فخرج يعضها من الثلث، ثم ظهر مالٌ، يخرج جميعها من الثلث.
وأمّا على قول ابن القاصّ، وابن اللبان: فيصح البيع في نصف العبد بنصف الثمن، وللورثة نصف العبد ونصف الثلاثين، فإن اقتضى الورثة الدين.. ردّوا نصف الثمن، واسترجعوا نصف العبد.
[فرعٌ: باع جارية بثلث قيمتها فوطئها المشتري]
وإن باع في مرض موته جارية بعشرة، وقيمتها ثلاثون، ولا مال له غيرها، فوطئها المشتري، ثم مات المريض، ولم يجز الورثة، واختار المشتري الفسخ.. رد الجارية، ولا مهر عليها.
وكذلك: إن اختار المشتري إنفاذ البيع.. فإن البيع يصح في ثلثيها في أحد الوجهين، وفي نصفها في الآخر، ولا شيء على المشتري من المهر لما انتقص فيه(5/157)
البيعُ؛ لأنه وطئها وهي في ملكه، وإنما نقص البيع في بعضها؛ لمعنى طرأ بعد أن ملكها، فهو كما لو اشترى جارية فوطئها، ثم وجد بها عيبًا فردّها.. فإنه لا مهر عليه.
وكذلك: لو اشترى المريض في مرض موته جارية قيمتها عشرة دراهم بثلاثين درهمًا بيده، لا يملك غيرها، فوطئها المشتري، ثم مات.. فلا يجب عليه مهر ما انتقص فيه البيع؛ لأنه وطئها في ملكه.
[فرعٌ: تغير قيمة العبد قبل موت المشتري المريض]
وإن اشترى في مرض موته عبدًا، قيمته عشرة، بثلاثين بيده لا يملك غيرها، فبلغت قيمة العبد قبل موت المشتري عشرين.. فقد وقعت المحاباة بعشرين، فاجعل التركة ثلاثين مع العشرة الزائدة، فيكون ثلثها ثلاثة عشر وثلثا، فيكون للبائع الخيار: بين أن يجيز البيع ويرد ما زاد على الثلث وهو ستة وثلثان، وبين أن يفسخ البيع ويأخذ العبد بزيادته. وهذا على ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعلى قول ابن القاص، وابن اللّبان: يجوز البيع في شيء من العبد، بثلاثة أشياء من الثمن، فتكون المحاباة بشيئين، ويبقى مع الورثة ثلاثون درهمًا إلا ثلاثة أشياء، يضم إليه الشيء المشترى من العبد وقيمته شيئان، فتصير ثلاثين إلا شيئًا تعدل أربعة أشياء. فإذا جبرت.. عدلت خمسة أشياء، الشيء ستةٌ، وهو ثلاثة أخماس العبد يوم الشراء وهو الجائز بالبيع، وقيمته يوم مات المشتري اثنا عشر، بثلاثة أخماس الثمن، وهو ثمانية عشر، فقيمة ما خرج من البائع يوم الشراء ستة بثمانية عشر من الثلاثين، فحصلت المحاباة له باثني عشر، لكن قد صح ما زاد فيه البيع من العبد قبل موت المشتري، فبلغ اثني عشر، وبقي مع ورثته من الثلاثين اثنا عشر، فيجتمع لهم أربعةٌ وعشرون، وذلك مثلا المحاباة.
فإن لم تزد قيمة العبد، ولكن نقصت، فبلغت خمسة في يد المريض.. ضمن المريض للبائع ما نقص في يده مما يفسخ فيه البيع؛ لأنه قبضه على بيع. وحسابه أن يقال: يجوز البيع في شيء من العبد، بثلاثة أشياء من الثمن، فيبقى مع الورثة ثلاثون(5/158)
درهمًا إلا ثلاثة أشياء، ويبطل البيع في عبدٍ إلا شيئًا، وقيمته خمسة إلا نصف شيء، ويبقى خمسة وعشرون إلاّ شيئين، فأخرج النقصان من التركة، وهو خمسة إلا نصف شيء، فيبقى خمسة وعشرون إلا شيئين ونصفا، فضمّه إلى الشيء المشترى وقيمته نصف شيء، فيصير خمسة وعشرين ونصفا إلا شيئين تعدل أربعة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت ستة أشياء، الشيء سدس الخمسة والعشرين، وذلك ربع العبد وسدسه يوم الشراء، وهو خمسة أجزاء من اثني عشر جزءًا من العبد، وهو الجائز في البيع، بخمسة عشر جزءًا من الدراهم، فالمحاباة عشرةٌ، فاجعل كل عشرة دراهم اثني عشر جزءًا، فيكون ستّة وثلاثين جزءًا، فثمن الشيء منها خمسة عشر جزءًا يبقى إحدى وعشرون جزءًا، وقد بطل البيع في سبعة أجزاء من العبد، وقد نقصت قيمة ذلك فصار يساوي ثلاثة أجزاء ونصفًا، فأخرج ما نقص من الواحد والعشرين، فيبقى من الدراهم سبعة عشر جزءًا ونصف جزء، فضمه إلى الشيء المشترى وهو خمسة، وقيمة ذلك جزءان ونصف، فذلك عشرون، وهو مثلا المحاباة.
وبالله التوفيق(5/159)
[باب الربا]
الربا محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] .
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] .
وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] [البقرة: 275] . و (المس) : الجنون.
قال ابن عباس: (وذلك حين يقوم من قبره) .(5/160)
قال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبعث يوم القيامة مجنونًا. وقيل: إنه ما أحل الربا في شريعة قط.
قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] [النساء: 161] .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبعٌ، أوّلها: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة» .
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» .(5/161)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الربا وإن كان كثيرًا، فإنه يصير إلى قل» .
إذا ثبت هذا: فالربا في اللغة: هو الزيادة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] [الحج: 5] ، أي: زادت.
ومنه قولهم: أربى فلانٌ على فلان، أي: زاد عليه.
والربا في الشرع يقع على وجهين: على الزيادة، وعلى النسيء، على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
[مسألةٌ: الأصناف الربوية]
والأعيان التي ورد النص بتحريم الربا فيها، وأجمع المسلمون على تحريم الربا فيها ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح.
والدليل عليه: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُر بالبُر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» .(5/162)
إذا ثبت هذا: فإن هذه الستة الأشياء، لم ينص عليها في تحريم الربا لأعيانها، وإنما نص عليها لمعنى فيها، فمتى وجد ذلك المعنى في غيرها.. حرم فيها الربا. هذا قول عامة العلماء، إلا داود ونفاة القياس، فإنهم قالوا: (إنما نص عليها لأعيانها، ولا يحرم الربا في غيرها) .
ودليلنا: أن القياس عندنا حجة، ورد الشرع بالتعبد به، فوجب العمل به، وموضع الكلام في ذلك أصول الفقه.
وأيضًا: فإن الله تعالى قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] .
و (الربا) : هو الزيادة، فيقتضي عموم الآية تحريم كل بيع فيه زيادة، إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه وجوازه.
فإذا ثبت هذا: فإن هذه الأعيان معللة، فالعلة عندنا في الذهب والفضة: أنهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه العلة واقفة لا تتعدى إلى غيرهما، وقد أومأ في " الفروع " إلى وجه آخر: أنه يحرم الربا في الفلوس التي هي ثمن الأشياء وقيم المتلفات في بعض البلاد. وليس بشيء؛ لأن ذلك نادر.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيهما الوزن في جنس واحد) . وقاس عليهما كل شيء موزون، مثل: الرصاص والحديد.
دليلنا: أنه يجوز إسلام الذهب والفضة في الحديد والرصاص والنحاس، ولو جمعتهما علة واحدة في الربا.. لم يجز إسلام أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام(5/163)
الذهب بالفضة، ولأنه لا ربا في معمول الحديد والصفر والنحاس، فلم يكن في تبره الربا، كالطين، وعكسه الذهب والفضة. وأما الأعيان الأربعة وهي: البُر والشعير والتمر والملح.. فلجميعها علة واحدة بالإجماع، كالذهب والفضة لهما علّة واحدة.
واختلف في علة هذه الأعيان الأربعة:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلى: (أن العلة فيها كونها مطعومة مكيل جنس، أو مطعومة موزون جنس) .
فعلى هذا: العلة ذات ثلاثة أوصاف، وهو قول سعيد بن المسيب، ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن.
فعلى هذا: يجوز بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، مثل: التفاح والسفرجل والرمان، بعضه ببعض متفاضلا.
وقال في الجديد: (العلة فيها أنها مطعومة جنس) . وهو الصحيح. فعلى هذا: العلة ذات وصفين، فيحرم الربا في كل ما يطعم، قوتًا أو تفكُّها.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيها أنها مكيلة جنس، أو موزونة جنس) .
فعلى هذا: يجوز عنده بيع تمرة بتمرتين، وبيع كف حنطة بكفين؛ لأن ذلك غير مكيل ولا موزون، ولا يجوز عنده بيع الجص، والنورة، والحديد، والرّصاص بعضه ببعض متفاضلاً؛ لأنه مكيل أو موزون.(5/164)
وقال مالك رحمة الله عليه: (العلة فيها أنها مكيلة مقتاتة جنس) .
فعلى هذا: يحرم الربا عنده فيما كان قوتًا أو يصلح للقوت.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: العلة فيها: أنها جنس تجب فيه الزكاة.
فعلى هذا: لا يجوز عنده بيع ما يجب فيه الزكاة بعضه ببعض متفاضلاً من الحيوان.
وقال سعيد بن جبير: العلة فيها: تقارب المنفعة، فكل شيئين تقارب الانتفاع بهما، لا يجوز عنده بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالتمر بالزبيب، والحنطة بالشعير، والذرة بالجاورس.
وقال ابن سيرين: العلة فيها الجنس فقط، فإذا اختلف فيها الجنس.. لم يكن فيها ربا.
فأعمّ العلل علّة سعيد بن جبير؛ لأنها تتناول الجنس والجنسين، ثم بعدها: علة ابن سيرين، ثم علتنا في الجديد، ثم: علة أبي حنيفة، ثم: علة مالك، ثم علتنا في القديم، وأبعدها: علة ربيعة.
والدليل على بطلان قول ابن سيرين، وابن جبير: ما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى عبدًا بعبدين» .
والدليل على بطلان قولهما، وقول ربيعة: ما روى عبد الله بن عمرٍو: «أن(5/165)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، يعني: في إبل الصدقة، فكان يأخذ بعيرًا ببعيرين إلى إبل الصدقة» . والإبل تتقارب منفعتها، وهي جنسٌ واحدٌ، وتجب فيها الصدقة.
وأمّا الدليل على بطلان قول مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الربا في الملح» . وليس بقوت، فإن قال: لأنها تصلح القوت.. فليس بصحيح؛ لأن جميع الإدام والنار تصلح القوت، ومعلومٌ أنه لا ربا فيها.
وأمّا الدليل على بطلان قول أبي حنيفة ـ وهو وجه قوله الجديد ـ: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . وهذا يعم القليل منه والكثير، والطعام اسمٌ لكل مطعوم شرعًا ولغة:
أما الشرع: فقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] [آل عمران: 93] . وأراد به: سائر المطعومات.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] [البقرة: 249] . وأراد به: الماء.
وقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] . وأراد به: ذبائحهم، وهو اللحم.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مكثنا مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمانًا ما لنا طعامٌ إلا الأسودان: الماء والتمر» .(5/166)
وأما اللغة: فإن الرجل يقول: ما طعمت اليوم شيئًا، إذا لم يأكل شيئًا من المطعومات جملةً. وقال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها
و (المعفر) : ولد الظبية، إذا أرادت أمه فطامه عن الرضاع.. فإنها تقطعه عن الرضاع أيامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيّامًا، ثم تقطعه أيّامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيامًا، ثم تقطعه، تفعل ذلك حتى لا يضر به القطع جملة، فإذا فعلت الظبية هذا، قيل: عفرت ولدها، والولد معفَّر، و (القهد) : من صفات لونه، و (الشلو) : العضو، و (الغبس) : السباع، وقوله: (كواسب) ؛ لأنها تكسب ما تأكله، وما يأكل أولادها، وقوله: (ما يمن طعامها) ، أي: أنها تأخذه بأنفسها، ليس أحدٌ يمن عليها به، و (تنازعها) : تجاذبها لأعضاء ولد الظبية، فسمَّى ذلك: طعامًا لها؛ لأنه مطعومٌ لها.
وإذا قلنا بهذا: فإن الربا يحرم في كل ما يطعم قوتًا، وقل ما يكون إلا مكيلاً أو موزونًا، ويحرمُ فيما يطعم تفكُّهًا، وغالبُه: أنه غير مكيل ولا موزون، وفيما يطعم تداويًا، وقد يدخله الكيل والوزن، وقد لا يدخله، وفي الماء وجهان:(5/167)
أحدهما: يحرم فيه الربّا؛ لأنه مطعوم.
والثاني: لا ربا فيه؛ لأنه غير متمول في العادة.
قال الطبري: ويحرم الربا في الزعفران؛ لأنه مطعوم.
وقال الصيمري: ويحرم الربا في اللبان؛ لأنه مطعوم. وفي الزنجبيل وحبّ الكتان وجهان، ولا ربا في العود والمصطكى؛ لأنهما غير مطعومين.
قال ابن الصبّاغ: ولا يحرم الربا في النوى؛ لأنه من طعام البهائم، فأشبه القرظ والقضب والحشيش.
ويحرم الربا في الطين الأرمنيّ؛ لأنه يخلط في الأدوية لأجل السفوف، ولا يحرم الربا في الطين الخراسانيّ؛ لأنه يؤكل سفهًا، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " يا حميراءُ لا تأكلي الطين، فإنّه يصفر اللون» .
وفي ماء الورد وجهان، حكاهما الصيمري.
[فرعٌ: الربا في الأدهان]
] : وأما الأدهان: فعلى أربعة أضرب:
ضربٌ: يعد للأكل، كالزيت، ودهن الجوز واللوز، ودهن الحبّة والخضراء،(5/168)
ودهن الفجل، ودهن الخردل، ودهن الصنوبر والشيرج، فهذا يحرم فيه الربا؛ لأنه مطعوم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز بيع الشيرج بعضه ببعض؛ لأنه فيه الماء والملح. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا ينزل معه.
والضرب الثاني: يراد للتداوي، كدهن اللوز المر، ودهن الخروع، فيجري فيها أيضا الربا؛ لأنها تؤكل للتداوي، فأشبه الهليلج والبليلج.
والضرب الثالث: ما يراد للطيب، مثل: دهن البنفسج، ودهن الورد والياسمين والبان والزنبق، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ربا فيه؛ لأنه غير مأكول.
والثاني: فيه الربا، وهو الصحيح؛ لأنه مأكول، وإنما لم يؤكل؛ لأنه ينتفع به بما هو أكثر منه، فجرى مجرى الزعفران، ولأن أصله من السمسم؛ لأن الورد والبنفسج والبان يفرش تحت السمسم ليكسبه رائحته، فإذا جف ذلك.. فرش تحته شيء آخر منه إلا أن يكسبه الرائحة، ثم يعصر السمسم، فهو من السمسم، إلا أن رائحته رائحة هذه الأشجار.
فعلى هذا: لا يجوز بيع شيء من هذه الأدهان بالشيرج، ولا بيع نوع منها بنوع آخر متفاضلاً.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بيع الدهن المطيب بعضه ببعض متفاضلاً إذا(5/169)
اختلف طيبه، وإن كان أصله واحدا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنها فروع لأصل واحد فيه الربا، فأشبه الأدقة.
والضرب الرابع: من الأدهان ما يراد للاستصباح، وهو البزر، ودهن السمك، ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم فيه الربا؛ لأنه مأكول، وأصل البزر حب الكتان، وهو مأكول يطرح مع اللحم.
والثاني ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: لا يحرم فيه الربا؛ لأنه ليس بمأكول قوتًا، ولا يتداوى به، وإنما يؤكل سفهًا، ويراد للاستصباح، فلم يحرم فيه الربا.
[مسألةٌ: ما لا يوجد فيه علة الربا]
] : وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب، لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة. ويجوز أن يشتري حيوانًا بحيوانين، سواء أريد بهما الذبح أو لم يرد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلى أجل، ولا إسلام أحدهما بالآخر، كالثوب بالثوب، والعبد بالعبد) .
وقال مالك (لا يجوز بيع حيوانٍ بحيوانين من جنسه، بصفقة يقصد بهما أمر واحد، إما الذبح، وإما غيره) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» .
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيرًا) . و:(5/170)
(باع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعيرًا، بأربعة أبعرة) .
ولأنه حيوان يجوز بيعه بغير جنسه، فجاز بيعه بجنسه نسيئة وإن تفاضلا، كما لو أريد أحدهما للذبح والآخر للقنية عند ملك.
[فرعٌ: ربا النسيئة]
ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك من صفته كذا وكذا، إلى غرة شهر كذا بدينار في ذمتي مؤجل إلى يوم كذا؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» . قال أبو عبيد: هو بيع النسيئة بالنسيئة،(5/171)
يقال منه: كلأته كلاءة، أي: استنسأت نسيئة، و (النسيئة) : التأخير، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وهو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر، ومنه قول الشاعر:
وعينه كالكالئ الضِّمار
يعني (بعينه) : حاضرة، يقول: فالحاضر من عطيته كالنسيئة. و (الضمار) : الغائب الذي لا يرجى.
[مسألةٌ: بيع متحد العلة]
وما يحرم فيه الربا لعلة واحدة، إذا أراد بيع بعضه ببعض.. فينظر فيه:
فإن كان ذهبًا أو فضة.. نظرت:
فإن أراد بيع الجنس بعضه ببعض، كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة.. فلا يجوز بيعهما إلاَّ مثلاً بمثل، ولا يجوز التفرق قبل القبض، ولا يجوز إسلام أحدهما بالآخر، ولا بيع أحدهما بالآخر إلى أجل، وإليه ذهب ثلاثة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وروي عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد رضي الله(5/172)
عنهم: أنهم قالوا: (يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولا يحرم الربا فيه إلا من جهة النَّساء لا غير) .
دليلنا: ما روي في حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إلا مثلا بمثل» .
إذا ثبت هذا: فسواءٌ كانا مصوغين، أو غير مصوغين، أو كان أحدهما مصوغًا أو مضروبًا، والآخر تبرًا.. فإنه لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلاً.
وإن أراد بيع أحد الجنسين بالآخر، كبيع الذهب بالفضة.. جاز فيهما التفاضل، واشترط التقابض فيهما قبل التفرق. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (يجوز بيع المصوغ والمضروب بالتبر بقيمته من جنسه متفاضلا) . وأصحابه ينكرون ذلك عنه.
دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: (أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل ذلك إلاَّ مثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من هذا؟ أخبره عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ويخبرني عن رأيه! والله لا ساكنتك بأرض أنت فيها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر أمير المؤمنين، فذكر ذلك له، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى معاوية: أن لا يبيع ذلك إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل) .
وروى مجاهد قال: كنت مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاء صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنِّي أصوغ الذهب، وأبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ذلك، فجعل الصائغ يردد(5/173)
عليه المسألة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينهاه عن ذلك، حتى انتهى إلى المسجد، أو إلى دابته يريد أن يركبها، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا، وعهدنا إليكم) .
[فرعٌ: الربا في الطعوم]
] : وأما ما يحرم فيه الربا من المطعومات: فإن باع الشيء بجنسه، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير.. حرم فيه الربا من جهتين: من جهة التفاضل، ومن جهة النَّساء، إذ لا يجوز التفرق قبل القبض.
وإن باعه بغير جنسه من المطعومات، كالحنطة بالشعير.. جاز فيه التفاضل، ولكن لا يجوز أن يتفرّقا قبل القبض.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتفرّقا قبل القبض، ويجوز شرط خيار الثلاث فيه، سواء باع الحنطة بالحنطة، أو باع الحنطة بالشعير) .
دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، يدًا بيد، كيف شئتم» . فأجاز بيع الطعام بالطعام، بالشرط الذي أجاز به بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فلمّا(5/174)
كان من شرط بيع الذهب بالذهب، والذهب بالورق القبض في المجلس، فكذلك في بيع الطعام بالطعام.
وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا هاء وهاء» يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يأخذ بيد، ويعطي بالأخرى.
والثاني: أن لا يفترق المتبايعان من مكانيهما حتى يتقابضا) .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لطلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد صارف مالك بن أوس، وأراد طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يؤخر القبض عن المجلس، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تفارقه حتى تعطيه ورقه، أو ترد إليه ذهبه) .
وإذا كان هذا تفسيرًا منه للخبر، وهو الراوي له.. دلّ على أن المراد به هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن تخايرا قبل التقابض.. بطل الصرف؛ لأن التخاير يقوم مقام التفرق في بطلان خيار المجلس، فقام مقامه في بطلان الصرف قبل القبض، ولو(5/175)
وكل من يقبض له، فقبض له الوكيل قبل تفرّق المتبايعين.. صح. ولو قام الموكل قبل أن يقبض الوكيل.. بطل.
[فرعٌ: في الصرف]
قال الشافعي في (الصرف) : وإذا تصارفا.. فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما، ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليوفِّيه؛ لأنهما لم يتفرّقا) .
قال ابن الصباغ: فإن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا.. فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، فإن تفرقا قبل ذلك.. كان ربا، وجرى مجرى بيع أموال الربا بعضها ببعض نسيئة، ولا يغني تفرقهما؛ لأن فساد العقد إنما يكون له شرعًا، كما أن العقد مع التفاضل فاسدٌ، ويأثمان به.
وإن قبض كل واحد منهما بعض ما صارف به، ثم تفرقا.. بطل الصرف في قدر ما لم يتقابضا فيه، وهل يبطل الصرف في قدر ما اتفق قبضهما فيه؟ فيه طريقان، بناء على من اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
[فرعٌ: بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة]
وإذا باع ذهبًا بذهب، أو ورقًا بورق.. نظرت:
فإن كانا خالصين، لا غش في واحد منهما.. جاز البيع مثلا بمثل، سواء كانا جيِّدين أو رديئين، أو كان أحدهما جيدا من جهة الجنس أو من جهة السكة، والآخر رديئًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما» . ولم يفرق.(5/176)
ويجوز أن يبيع منهما ذهبًا بورق على ما مضى.
وإن كان فيهما غش أو في أحدهما.. نظرت: فإن كان الغش فيهما غير مستهلك، وهي الدراهم التي غشها له قيمة، كالتي تغش بالصفر والنحاس.. فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض بلا خلاف على المذهب. واختلف أصحابنا في علته:
فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأنه بيع فضة وعرض، بفضة وعرض.
ومنهم من قال: لا يجوز لهذا المعنى، ولأن المقصود منها الفضة، وهي غير متميزة عمّا ليس بمقصود منها، فلم يصح، كما لا يصح بيع اللبن المشوب بالماء، فإن أراد أن يشتري بهذه الدراهم ثوبًا أو عرضًا، فعلى قول من قال: العلة فيه: أنه فضة وعرض، بفضة وعرض.. يجوز. وعلى قول من قال: العلة فيه: أن المقصود غير متميز.. لا يجوز.
وأما إذا أراد أن يشتري بهذه الفضة ذهبًا، فمن قال من أًصحابنا: لا يصح أن يشتري بها عرضا.. فالذهب أولى أن لا يصح شراؤه بها. ومن قال: يجوز شراء العروض بها.. فهل يصح شراء الذهب بها؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف.
وأما الدنانير التي غشها الفضة: فلا يصح شراء الذهب بها، ولا شراء الفضة بها، وجهًا واحدًا. وهل يصح شراء العرض بها؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يجوز؛ لما ذكرناه.
وأما إذا كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم التي غشها الزرنيخ والنُّورة؛ لأنها إذا صفيت لم يكن لغشها قيمة.. فلا يصح بيع بعضها ببعض؛ لأن الغش إن كان فيهما.. فلأنه لا يعلم التساوي بين الغشين، ولا بين الفضتين. وإن كان الغش في أحدهما؛ فلأنه لا يعلم التساوي بين الفضتين.
ويجوز شراء السلع والذهب بها، وجهًا واحدًا؛ لأن هذا الغش لا يختلط بالفضة، وإنما الفضة مطليّة عليه.(5/177)
[مسألة: البيع بدينار معين]
إذا قال: بعني هذا الدينار بهذا الدينار، أو هذه السلعة بهذا الدينار.. صح البيع، وتعين تسليم ذلك الدينار المعين، فلو أراد إبداله بغيره.. لم يكن له ذلك، وإن تلف ذلك الدينار المعين قبل القبض.. بطل البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين الدنانير والدراهم بالعقد، وإنما يتعينان بالقبض، فإذا اشترى منه بدنانير أو دراهم بأعيانها.. فللمشتري أن يدفع إليه غيرها من مثلها، وإن تلفت قبل القبض.. لم يبطل البيع، بل على المشتري تسليم مثلها) .
دليلنا: ما روى عبادةُ بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» . فذكر التعيين، فلولا أنهما يتعينان بالعقد.. لم يكن لذكره فائدة؛ ولأنه ذكر الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح، ثم شرط التعيين فيها على حد واحد، فلما كان البر والشعير والتمر والملح يتعين بالعقد، فكذلك الذهب والورق، ولأنه عوض مشار إليه، فتعين بالعقد كسائر الأعواض.
إذا ثبت هذا: فإن تصارفا دنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم، أو دنانير بدراهم، بأعيانها، ثم وجد أحدهما بما صار إليه عيبا، إما قبل التفرق أو بعده:
فإن كان العيب من غير جنسها، مثل: أن يخرج رصاصًا أو نحاسًا.. ففيه وجهان، كمن اشترى بغلا، فخرج حمارًا:
[الأول]ـ الصحيح ـ: أنه باطل.
والثاني: أنه صحيحٌ، ويثبت له الخيار.
وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن خرجت السكة مضطربة، أو خشنة الأصل، فإن وجد العيب في الجميع.. فهو بالخيار: بين أن يرد المعيب، ويسترجع ما دفع، وبين أن يرضى بالمعيب، وليس له مطالبته ببدله سليمًا؛ لأن العقد وقع على عينه،(5/178)
فلم يكن له المطالبة ببدله، كما لو اشترى عبدًا، فوجده معيبًا. وإن وجد العيب في البعض.. نظرت:
فإن كان البيع وقع في دراهم بدنانير.. فهو بالخيار: بين أن يرضى بالمعيب، وبين أن يرد الكل، ويسترجع ما دفع في مقابله. وإن أراد أن يرد المعيب لا غير.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له ذلك.
وإن قلنا: تفرق.. فله أن يمسك السليم، ويرد المعيب، ويسترجع ما يخصه من الثمن.
فإن أراد أن يرد المعيب، ويمسك السليم بكل الثمن.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجز؛ لأنه سفه؛ لأنه كان يمكنه أن يمسك المعيب والسليم بكل الثمن، أو يردهما، فلا يجوز أن يمسك السليم وحده بكل الثمن.
وإن وقع البيع على دراهم بدراهم بأعيانها، أو دنانير بدنانير بأعيانها، فوجد أحدهما ببعض ما صار إليه عيبًا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وغيره من أصحابنا ـ: أنها كالمسألة قبلها في الجنسين.
والثاني ـ وهو قول ابن الصبّاغ ـ: أن البيع باطل؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل؛ لأنه بالمعيب يأخذ من الثمن أقل مما يأخذ بالسليم، فيكون الباقي متفاضلاً، كمد عجوة ودرهم، بمدَّي عجوة.
[فرعٌ: التصارف بالذمة]
] : فأما إذا تصارفا بدراهم أو دنانير في الذمة، مثل: أن كانا في بلد فيه نقد غالب، فقال: بعني دينارًا بدينار.. فإن الإطلاق ينصرف إلى نقد البلد الغالب. وإن كانا في بلد فيه نقود ليس بعضها أغلب من بعض.. فلا يصح ثبوته في الذمة إلا بأن يصفه بما يتميز به عن غيره، ولا يلزم الصرف بينهما حتى يتقابضا قبل التفرق، فإذا تقابضا، ثم(5/179)
وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا، فإن وجده قبل التفرق.. فله أن يطالبه بالبدل، سواء كان العيب من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن وجد العيب بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنسه، بأن وجدها رصاصًا أو نحاسًا.. نظرت:
فإن وجد ذلك في الكل.. بطل العقد؛ لأن التفرق وجد قبل القبض.
وإن وجد ذلك في البعض.. بطل في العقد، وهل يبطل في السليم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: يبطل في السليم.. فلا كلام.
وإذا قلنا: لا يبطل.. فهو بالخيار: بين أن يفسخ العقد ويسترجع ما دفع، وبين أن يمسكه بحصته مما دفع.
وإن وجد العيب من جنسه، بأن خرج النقد مضطرب السكة، أو رديء النوع، فإن وجد العيب بالكل.. فهل له أن يرده، ويطالب بالبدل؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له المطالبة بالبدل، ولكنه بالخيار: بين أن يمسك المعيب، وبين أن يرده ويأخذ ما دفع، وهو اختيار المزني؛ لأنا لو جوّزنا له المطالبة بالبدل.. لأدّى إلى جواز القبض في الصرف بعد التفرق.
والثاني: له المطالبة بالبدل، وبه قال أبو يوسف، ومحمد؛ لأن ما جاز له إبداله قبل التفرق.. جاز بعده، كالمسلم فيه.
وإن وجد العيب بالبعض، فإن قلنا: له أن يستبدل إذا وجد العيب بالجميع.. فله أن يستبدل هاهنا بالمعيب، وليس له رد السليم. وإن قلنا: إذا وجد العيب بالجميع ليس له أن يستبدل.. فهاهنا يكون بالخيار: بين رد السليم والمعيب واسترجاع ما دفع، وبين أن يقر العقد ويرضى بالمعيب.(5/180)
فإن أراد إمساك السليم ورد المعيب.. ففيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإن بان له العيب بعد القبض والتفرق، وقد تلف المعيب في يده، فإن كان الصرف في الجنس بمثله.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل في البيع، ولكن يفسخ البيع، ويرد مثل الذي قبض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل، ويسترجع ما دفع. وإن كان الصرف في جنس بجنس آخر.. كان له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى التفاضل.
[فرعٌ: تماثل الوزن في النقدين]
ولا يجوز أن يشتري شيئًا من الذهب والفضة بجنسهما إلا بمثله وزنًا؛ لأنهما موزونان.
قال الشافعي في (الصرف) : (إذا اشترى دينارًا بدينارٍ، وتقابضا، ومضى كل واحدٍ منهما يستعير الدينار الذي قبضه بالوزن.. جاز، وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما قد عرف وزن الدينار، وصدقه الآخر، وتقابضا على ذلك، وأما إذا جهل وزن الدينار.. لم يجز البيع. فإن وزن أحدهما الدينار الذي أخذه، فنقص.. بطل الصرف؛ لأنه وقع العقد على عوضين متفاضلين) .
[فرعٌ: صارف من له عند وديعة]
قال في (الصرف) : (فإن كان له عند رجلٍ ديناران وديعةً، فصارفه فيهما، ولم يقر الذي عنده الديناران أنه استهلكهما حتى يكون ضامنًا لهما، ولا أنّهما في يده حين صارفه.. فلا خير في الصرف؛ لأنه غير مضمون ولا حاضر، ويجوز أن يكون قد هلك في ذلك الوقت، فبطل الصرف) .
قال أصحابنا: هذا إذا كان لا يعلم بقاؤهما، فأما إذا علم بقاؤهما.. جاز البيع.
قال الصيدلاني: وهل يحتاج في قبض الوديعة إلى مضي مدة لتكون مقبوضة؟ فيه وجهان.(5/181)
[فرعٌ: شراء دراهم مكسرة بصحاح]
إذا كان مع رجل دراهم صحاح، يريد أن يشتري بها مكسرة من جنسها، أكثر وزنًا منها.. لم يجز. فإن باع الصحاح بذهب، ثم قبضه، ثم اشترى بالذهب مكسرة أكثر وزنًا من الصحاح.. جاز ذلك، سواءٌ كان ذلك عادة له أو لم يكن له عادة، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (إن فعل ذلك مرة.. جاز، وإن تكرر ذلك منه.. لم يجز) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إلا أنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا» . والجمع من التمر: كل لون لا يعرف اسمه. إذا ثبت هذا: فإن باع الصحاح بالذهب وتقابضا، ثم تفرقا، ثم عاد فاشترى بالذهب مكسرة.. جاز. وكذلك إن تخايرا في البيع الأول، ثم تبايعها. فأما إذا تبايعا قبل التفرق والتخاير: ففيه وجهان:(5/182)
[أحدهما]ـ قال ابن سريج ـ: يصح؛ لأن دخولهما في العقد الثاني رضًا بإمضاء الأول، فلزم الأول، وصح الثاني.
والوجه الثاني ـ ذكره ابن القفال في " التقريب " ـ: أنه لا يصح البيع الثاني إلا على القول الذي يقول: الخيار لا يمنع انتقال الملك، فأما إذا قلنا: يمنع.. لم يصح. والأول أصح. فإن اختار أن يقرضه الصحاح، ويقترض منه المكسرة بقيمتها، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه.. جاز، وكذلك لو وهب كل واحد منهما صاحبه.. صح.
وإن باعه الصحاح بوزنها من المكسرة، ثم وهب له الزائد من المكسرة من غير شرط، ولا جمع بينهما في العقد.. جاز.
قال ابن الصباغ: إلا أن ذلك يكره عندي؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد، أو التصريح به، إذا دخل عليه.. كان مكروهًا.
[فرعٌ: حيلة في الصرافة للتخلص من الربا]
] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان مع رجل دينارٌ يساوي عشرين درهمًا، ومع آخر عشرة دراهم، وأراد أن يشتري الدينار بعشرين درهمًا.. فإنه يشتري نصفه بعشرة دراهم، ويتقابضان، فيقبض الدينار، ويكون نصفه له، ونصفه أمانة بيده، ويسلم إليه الدراهم، ثم يستقرضها، فيكون في ذمته مثلها، ثم يبتاع بها النصف الآخر الذي في يده، فيحصل له الدينار وعليه عشرة دراهم قرضًا، فإن لم يفعل هكذا، ولكنه اشترى الدينار بعشرين درهمًا، وقبضه وسلّم العشرة التي معه، ثم استقرضها وسلّمها عن العشرة الأخرى.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن القرض يملك بالتصرف، وهذه الدراهم لم يتصرف فيها، وإنما ردّها إليه بحالها، فكان ذلك فسخًا للقرض.(5/183)
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن هذه الدراهم دفعها قضاء عمّا عليه من الدين، وذلك تصرف، كما إذا اشترى بها النصف الآخر من الدينار.. فإنه يجوز، ويكون صرفا، فكذلك هاهنا.
وإن كان معه تسعة عشر درهما، فأراد أن يشتري دينارًا بعشرين درهمًا.. فعلى ما ذكرناه من الاقتراض، فإن اشترى الدينار بعشرين درهما، وسلّم تسعة عشر درهمًا، وأقبضه الدينار، فإنه فارقه قبل تسليم الدرهم الآخر.. قال ابن الصبّاغ: بطل العقد في نصف الدينار.
والذي يتبين لي: أنه يبطل البيع في جزء من عشرين جزءًا من الدينار بحصة ما لم يقبض من الدراهم. وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان.
فإن أراد الخلاص من ذلك.. تفاسخا العقد قبل التفرق، ثم تبايعا تسعة عشر جزءًا من عشرين جزءًا من الدينار، بتسعة عشر درهمًا، وسلّم الدينار إليه؛ ليكون الجزء له من الدينار.
[فرعٌ: ردُّه دنانير أوزن]
إذا كان لرجل على رجل آخر عشرة دنانير، فأعطاه عشرة دنانير عددًا، فوزنها، فكانت أحد عشرة دينارًا.. قال ابن الصبّاغ: كان الدينار الباقي عن دينه المقبوض مشاعًا، ويكون مضمونًا على القابض؛ لأنه قبضه على أن يكون بدلاً عن دينه، وما قبضه على سبيل المعاوضة يكون مضمونًا عليه، فإن شاء مالكه.. طالبه بالدينار، وإن شاء.. أخذ عوضه دراهم، وقبضها قبل التفرق، وإن شاء.. أخذ عنه عينًا، وإن شاء.. أسلمه إليه في موصوف.(5/184)
وإن كان له عند صيرفي دينار واحد، فأخذ منه دراهم ولم يتبايعا.. كان الدينار له والدراهم عليه، فإن تبارآ.. جاز.
وإن اشترى رجل من آخر عشرين درهمًا نقرة بدينار، فقال له رجل: ولِّني نصفها بنصف الثمن.. قال ابن الصباغ: صح، والتولية بيع.
وإن قال رجل لرجل اشتر عشرين درهمًا نقرة بدينار لنفسك، وولِّني نصفها بنصف دينار.. لم يصح؛ لأن التولية بيع، ولا يصح البيع من الغائب.
وإن قال لصائغ: صغ لي خاتما من فضة، فيه درهم، لأعطيك درهمًا وأجرتك، فصاغه.. فإن هذا ليس بشراء، والخاتم للصائغ؛ لأنه اشترى فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل التقابض، وشرط العمل أيضًا، وذلك كله مفسد للعقد، وله بعد هذا أن يبتاعه بغير جنسه، أو بمثل وزنه من جنسه.
[فرعٌ: حرمة الربا بين مسلم وحربي]
] : ويحرم الرّبا في دار الحرب بين المسلم والحربي، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع المسلم من الحربي درهمًا بدرهمين، ودرهمين بدرهم، وكذلك إذا أسلم رجلان في دار الحرب.. لم يحرم عليهما الربا في دار الحرب) .
دليلنا: عموم الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم الربا؛ ولأن ما كان ربا في دار الإسلام.. كان ربا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين في دار الإسلام.
[مسألةٌ: ما يعتبر جنسًا واحدًا]
] : قد ذكرنا: أن الجنس الواحد من أموال الربا يحرم فيه التفاضل والنّساء.
إذا ثبت هذا: فإن كل شيئين اتّفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة، فهما جنس واحد، كالتمر البرني والتمر المعقلي، والذرة الشريحي والذرة البيضاء. وكل(5/185)
شيئين اختلفا في الاسم الخاصّ من أصل الخلقة، كالتمر والزبيب، والذرة والحنطة والشعير، فهما جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وحمّاد، واللّيث: (الحنطة والشعير جنس واحد، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً) .
دليلنا: ما روي من حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولكن بيعوا البر بالشعير، يدًا بيد، كيف شئتم» .
ولأنهما عينان لا يشتركان في الاسم الخاص، فكانا جنسين، كالحنطة والذرة والدخن. فقولنا: (في الاسم الخاص) احترازٌ من الاسم العامّ؛ لأنهما مطعومان، ويجعهما اسم الحب أيضًا.
[فرعٌ: اعتبار الأصل الربوي]
وأمّا ما اتخذ من أموال الربا، كالدقيق والخبز والعصير والخلول والأدهان.. ففيها طريقان:
[الأول] : ـ المشهور من المذهب ـ أنها معتبرة بأصولها، فإن كانت أصولها أجناسًا.. فهي أجناس.
فعلى هذا: دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وخبز البر وخبز الشعير جنسان، وكذلك العصير والخل والدهن.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: هذا، وهو الصحيح.(5/186)
والثاني: أنّ الأدقة كلّها جنس واحد، وكذلك الأخبار كلها جنس واحد، والأعصار كلها جنس واحد، وكذلك الخلول والأدهان. وليس بشيء؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس حرم فيها الربا، فكان أجناسًا، كأصولها.
فإذا قلنا بهذا: ففي زيت الزيتون وزيت الفجل قولان:
أحدهما: أنها جنس واحد؛ لأن اسم الزيت يجمعهما.
والثاني: أنهما جنسان، وهو الصحيح؛ لأنهما فرعان لأصلين مختلفين؛ لأن الزيت إنما سمِّي: زيتًا؛ لأنه متخذ من الزيتون، وزيت الفجل يخالفه في اللون والطعم والرائحة، وإنما سمي: زيتًا؛ لأنه يصلح لبعض ما يصلح له الزيت، وبهذا القدر لا يكونان جنسًا واحدًا.
[فرعٌ: بيع أنواع العسل متفاضلاً]
قال الشافعي: (ويجوز بيع عسل الطبرزد وعسل القصب، بعسل النحل متفاضلاً) ؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ ولأن إطلاق العسل إنما ينصرف إلى عسل النحل. وإنما سمي عسل الطبرزد وعسل القصب: عسلا؛ لحلاوته، فيقال: رجل معسول: إذا كان طيب الكلام، وامرأة معسولة الوجه: إذا كان حسنًا، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، وأراد به: الجماع الذي يقع به الالتذاذ، مأخوذٌ من العسل.(5/187)
ولا يجوز بيع عسل الطبرزد، بعسل القصب متفاضلاً؛ لأن أصلهما من القصب، وهل يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً، أو بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، كالسكر، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى.
وأما الخضراوات، مثل: الرمان والسفرجل والبقول: إذا قلنا: يحرم فيها الربا.. فهي أجناسٌ، فالسفرجل جنس، والرمان جنس، والهندباء جنس، والنعناع جنس، والجرير جنس، يجوز بيع جنس منها، بجنس آخر متفاضلاً.
[فرعٌ: بيع اللحمان متفاضلاً]
وأما اللُّحمان: ففيها قولان:
أحدهما: أن الجميع جنس واحد؛ لأنه يشملها اسم خاص حين حدث فيه الربا، فكان جنسًا، كأنواع التمر، وأنواع العنب.
فقولنا: (اسم خاص) احترازٌ من الثمرة، فإنه اسمٌ لجميع الثمار كلها من العنب والرطب، وكذلك أنواع الحبوب.
وقولنا: (حين حدث فيها الربا) احترازٌ من الأخباز والأدمة؛ لأنها أجناس،(5/188)
ولكن لم يجمعها اسم خاص حين حدث فيها الربا؛ لأن الربا كان ثابتًا في أصولها.
فعلى هذا: يكون لحم جميع الأنعام على اختلاف أجناسها، ولحم جميع الصيود البرية جنسًا واحدًا، وهل يدخل فيها لحم السمك؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصبّاغ ـ: أنه يدخل فيها؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم. ولهذا قال الله تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] [فاطر: 12] .
والثاني ـ وهو اختيار أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد ـ: أنه لا يدخل في جملتها، بل هو جنس وحده؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم، وإنما يسمى سمكًا حيًا وميتًا، ولو قال قائل: أكلت لحم السمك.. كان تعسُّفًا في الكلام، وإنما سماه الله تعالى: لحمًا؛ بالإضافة إلى البحر.
والقول الثاني: أن اللحمان أجناس، وهو اختيار المزني، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الصحيح؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس، فكانت أجناسًا، كالأدقة والأدهان.
فعلى هذا: لحوم الإبل كلها جنس واحد، على اختلاف أنواعها، وكذلك لحم البقر الأهلي، جواميسها وعرابها جنس واحد، ولحم بقر الوحش جنس غيرها، ولحم الضأن والمعز جنس واحد، ولحم الظباء جنس غيرها، وكذلك الطيور والصيود، كل صنف منها جنس، فالعصافير جنس، والوعول جنس، والأرانب جنس، والحمير جنس، والحمام جنس، والفواخت جنس، والقماري جنس.(5/189)
وقال الربيع: كل ما عب وهدر جنس واحد. وليس بشيء؛ لأن ما انفرد باسم وصفة.. كان جنسًا.
وأما صيد البحر على هذا القول: فقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\219] : فإن قلنا: إن الجميع من صيد البحر يسمى: حوتًا، حتّى يحل أكل كلبه وخنزيره.. فالجميع جنس واحد. إن قلنا: لا يسمى: حوتًا، فهو كصيود البر، أجناسٌ وهذا هو الصحيح.
[فرعٌ: أنواع اللحم]
اللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس، والألية جنس، والشحم جنس، والكبد جنس، والطحال جنس، والكلية جنس، وكل واحد من هذه الأجناس يجوز بيعه بالجنس الآخر منها متفاضلاً؛ لأنها مختلفة الأسماء والخلق.
[فرعٌ: أنواع الألبان والبيض]
وأما الألبان: فاختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هي على قولين، كاللحمان.
ومنهم من قال: هي أجناس، قولاً واحدًا؛ لأنها تتولد من الحيوان، والحيوان أجناسٌ. والأول أصح. وأمّا البيض: فإن قلنا: إن اللحمان أجناس.. فالبيض أجناس. وإن قلنا: اللحمان جنس واحد.. ففي البيض وجهان، حكاهما الصيمري، أصحهما: أنها أجناس.(5/190)
[مسألة: بيع الجنس متفاضلا]
وما حرم فيه التفاضل.. لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن فيما يوزن، والكيل فيما يكال.
وقال بعض الناس: يجوز بيع ما يكال بعضه ببعض حتى يتساويا بالوزن فيما يوزن وزنًا.
وقال مالك: (يجوز بيع ما يكال في البادية دون الحضر بالحزر والتخمين) . ووافقنا في الموزونات: أنه لا يجوز.
دليلنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة بالصبرة لا يدرى مكيلها» .
وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، وزنًا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل، فمن زاد أو استزاد.. فقد أربى» . ولم يفرق بين البادية والحضر.
و (التبر من الذهب والفضة) : كل ما لم يطبع، والعين منهما ما طبع.
ولأنه مطعوم فقد فيه الكيل في الطرفين، فلم يصح، كما لو كان في الحضر، وفيه احترازٌ من العرايا، فإن الكيل فقد فيها في أحد الطرفين.(5/191)
[فرعٌ: بيع الصبرة بالصبرة جزافًا]
وإن تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام، وهما لا يعلمان كليهما.. لم يصح البيع؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام» . ولأنهما مجهولتان عندهما حال العقد.
قال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : وإن باع صاع حنطة في ذمته، بصاع حنطة في ذمته، فإن كان في البلد أجناس من الحنطة.. لم يصح البيع؛ لأن المعقود عليه مجهول. وإن كان في البلد جنس واحد من الحنطة.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ قال: وهو الأقيس ـ: إن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس، ويشترط فيه التقابض قبل التفرق، كما قلنا في النقد.
ومثل هذا حكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: إذا كان في بلد يصنع أهلها جنسًا من الثياب لا يخلطها غيرها، والبيع والشراء بها، فاشترى منه ثوبًا في ذمته مطلقًا.. فإن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس.
والوجه الثاني: لا يصح؛ لأن الحنطة تختلف أنواعها، بخلاف النقد.
وإن قال: بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل، أو كيلا بكيل، أو قفيزًا بقفيز، وهما جنس واحد، فإن كيلتا قبل التفرق، فخرجتا متساويتين.. صحَّ البيع؛ لأن التساوي كان موجودًا حال العقد. وإن خرجتا متفاضلتين.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع باطل، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه بيع جنس مطعوم بجنسه متفاضلاً.
والثاني: يصح البيع في القدر الذي تساويا فيه: لأنهما قد شرطا التساوي.
فعلى هذا: يكون الذي نقصت صبرته التي باع بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه دخل في البيع ليأخذ هذه الصبرة بهذه، وبين أن يقر البيع، ويأخذ بإزاء صبرته الناقصة من صبرة الآخر.
وإن تقابضا الصبرتين جزافًا، ثم تفرقا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\231] :(5/192)
أحدهما: أن البيع يبطل لوجود التفرق قبل القبض الصحيح.
والثاني: يصح؛ لوجود القبض مشاهدة.
وإن باعه صبرة حنطة بصبرة شعير، ولم يشرطا الكيل.. صح البيع، ويشترط فيهما القبض قبل التفرق، وسواء خرجتا متساويتين أو متفاضلتين، فإنه يجوز؛ لأن المفاضلة بينهما تجوز.
وإن شرطا المساواة فيهما، فإن كيلتا فخرجتا متساويتين.. صح البيع، وإن خرجتا متفاضلتين، فإن رضي من خرجت صبرته التي باع زائدة، بتسليم جميعها.. أقر العقد، ووجب على الآخر قبوله؛ لأنه ملكه بالعقد، وإن لم يرض بذلك، ولكن رضي من خرجت صبرته ناقصة، بأن يأخذ بإزاء صبرته من الزائدة.. أقر العقد. وإن تشاحّا.. فسخ العقد بينهما؛ لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة الآخر على التساوي، وقد تعذر ذلك، ففسخ العقد بينهما.
[مسألة: اعتبار الكيل والميزان]
قد ذكرنا: أنه لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلا متماثلاً بالوزن فيما يوزن، وبالكيل فيما يكال، والاعتبار في ذلك فيما كان مكيلا أو موزونًا بمكة والمدينة ومخاليفهما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة» .(5/193)
قال أبو عبيد: وقد روي: «المكيال مكيال أهل مكة، والميزان ميزان أهل المدينة» . والأول أشهر، ولم يرد: أنه لا مكيال إلا مكيال أهل مكة، ولا ميزان إلا ميزان أهل المدينة، وإنما أراد: أن الاعتبار بما يكال ويوزن بهما.
إذا ثبت هذا: فإن الذهب والورق موزونان، والأربعة الأعيان الأخرى: وهي الحنطة والشعير والملح والتمر مكيلة؛ لما روي في حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، وزنا بوزن، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل» . وهذا نص.
قال الشاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان الملح قطعا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا، لأنه لا يمكن كيله.
والثاني: يسحق، ويباع بعضه ببعض كيلا، لأن أصله الكيل.
وأما غير هذه الأعيان المنصوص عليها في الربا: فنعتبر بعرف الحجاز فيها في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها مقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودار هجرته.
قال الشيخ أبو حامد: فأما ما حدث من المطعومات بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو ما كان منها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بأرض الحجاز.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان ما يشبهه مكيلا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا كيلاً، وإن كان ما يشبهه موزونًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا وزنًا، كما قلنا في جزاء الصيد: يعتبر ما لم يحكم فيه الصحابة بأشبه الأشياء به مما حكمت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وكذلك ما استطابته العرب..(5/194)
حل، وما استخبثته حرم.. وما أشكل.. رجع فيه إلى أشبه الأشياء به مما استطابته العرب أو مما استخبثته.
والثاني: يعتبر فيه عادة سائر البلاد، فإن كان مكيلا.. لم يبع إلا كيلا، وإن كان موزونًا.. لم يبع إلا وزنًا؛ لأن الشيء إذا لم يكن بد فيه من حد، وما لم يكن محدودًا في الشرع.. رجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، كما قلنا في القبض وإحياء الموات والحرز. فإن اختلف البلاد في كيل ذلك الشيء ووزنه.. اعتبر حكم الغالب فيه. وإن كان مكيلا في بلاد، وموزونًا في بلاد، وليس بعضها بأكثر من بعض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يعتبر ذلك الشيء بأشبه الأشياء به. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ هذا الوجه: أنه يعتبر عرف البلاد فيه.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب ": أنه يعتبر البلد الذي فيه البيع ولم يعتبر غيره.
وإن كان من المطعومات مما لا يكال ولا يوزن.
فإن قلنا بقوله القديم: (وأنه لا يحرم فيه الربا) .. فلا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيه الربا) ، فإن أراد بيع الجنس منه بجنس آخر.. جاز بيعه رطبًا ويابسًا، ولا يعتبر فيه كيلٌ ولا وزنٌ؛ لأن الفضل يجوز في بيعه. وإن أراد بيع الجنس منه بجنسه، فإن كان مما ييبس وتبقى منفعته يابسًا، كالخوخ والمشمش والتفاح الجاف وحب الرمان.. جاز بيع بعضه ببعض بعد الجفاف متماثلاً. وإن أراد بيع بعضه ببعض رطبًا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن كل ما فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبًا كالرُّطب.(5/195)
والثاني: يجوز؛ لأن معظم منفعة هذه الأشياء في حال رطوبتها، فجاز بيع بعضها ببعض رطبا، كاللبن.
فإذا قلنا بهذا: فإن كان المبيع لا يمكن كيله، كالقثاء، والبطيخ، والخيار، وما أشبه ذلك.. بيع وزنًا؛ لأنه أخضر. وإن كان يمكنه كيله، مثل: التفاح، والخوخ الصغار، والتين، وحب الرمان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا؛ لأنه أخضر.
والثاني: يباع كيلا؛ لأن الأشياء الأربعة مكيلة، فكان ردّه إليها أولى.
قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح.
[مسألة: مد عجوة ودرهم]
كل جنس حرم فيه الربا، لا يجوز بيع بعضه ببعض، ومع أحدهما، أو معهما، جنس آخر من أموال الربا، أو من غير أموال الربا، كمد عجوة ـ وهو نوع من التمر ـ ودرهم بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو كدرهم ومد عجوة بدرهم ومد عجوة، أو كثوب ودرهم بدرهمين، أو كدرهم وثوب بدرهم وثوب.
قال الطبري: إلا أن ينص في البيع، فيقول: المد بالمد، والدرهم بالدرهم.. فيصح.
وكذلك لا يصح بيع نوعين من أموال الربا مختلفي القيمة، بنوع من ذلك الجنس،(5/196)
كدرهم صحيح، ودرهم مكسور، بدرهمين صحيحين أو مكسورين، وكمد تمر برني ومد معقلي، وبمدين برنيين أو معقليين، وكذهب ذرة بيضاء وذهب ذرة حمراء، بذهبي ذرة بيضاء أو حمراء.
وقال أبو حنيفة: (يجوز البيع في الجميع ـ حتى قال ـ: لو باع قرطاسًا فيه درهم بمائة درهم.. صح) ؛ لأن درهمًا من المائة يقابل الدرهم الذي في القرطاس، والقرطاس يقابل تسعة وتسعين درهمًا، وإن باع قرطاسًا فيه مائة درهم بمائة درهم.. لم يصح؟ لأن القرطاس لا يعرى عن ثمن، وإذا أخذ قسطًا من المائة.. كانت الدراهم التي في القرطاس مبيعة بأقل منها من المائة الأخرى، فلم يجز، وكذا عنده يجوز بيع نوعين من جنس مختلفي القيمة، بنوع منه متفقي القيمة، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين في النوعين لا غير.
دليلنا: ما روي عن فضالة بن عبيد: انه قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر بقلادة فيها ذهبٌ وخرزٌ، ابتاعها بسبعة دنانير أو بتسعة دنانير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يجوز ذلك حتى تميز بينه وبينه "، وفي رواية أخرى: أنه قال له: " لا يباع مثل ذلك حتى تفصل "، فقال الرجل: يا رسول الله، إنما أردت الحجارة، وفي رواية: إنما ابتعتها للحجارة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى يميز بينهما» . فمنع من البيع حتى يميز، وأراد التمييز بالعقد، ولم يسأل: هل الذهب الذي في القلادة(5/197)
يساوي الدنانير، أو أكثر؟ فدلّ على أن الحكم يختلف.
ولأن العقد إذا جمع عوضين.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتها، بدليل: أن من اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتهما.
وإن باع درهمًا صحيحًا ودرهمًا مكسورًا، بدرهمين صحيحين أو مكسورين.. فإن الصحيح يأخذ من الصحيحين، أو من المكسورين أكثر من النصف؛ لأن قيمته أكثر من قيمة المكسورين، فيؤدي إلى الربا.
وإن باع سيفًا محلّى بفضة، بفضة، أو سيفا محلّى بذهب وفضة، بذهب أو بفضة، أو بذهب وفضة.. لم يجز؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.
وإن باع سيفا محلى بفضة بذهب، أو سيفا محلى بذهب بفضة.. فقد جمع بيعًا وصرفًا، وفيه قولان مضى توجيههما.
واختلف لم سمي الصرف صرفا، فقيل: لصرفه عن حكم أكثر أحكام البيع. وقيل: لصرف المسامحة عنه في الزيادة في الجنس والتأخير. وقيل: لأن الشرع أوجب على كل واحد منهما مصارفة صاحبه، أي: مقايضته، فلا يزيد في الجنس الواحد، ولا يؤخره.
[مسألة: بيع حنطة خالصة بغير خالصة]
] : ولا يجوز بيع حنطة خالصة، بحنطة فيها شعير أو زؤان: وهو حب أصفر حاد الطرفين، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وقال ابن الصباغ: هو حب دقيق الطرفين غليظ الوسط أسود. وكذلك لا يجوز إذا كان في الحنطة شيلم: وهو حبٌّ أحد طرفيه حادٌّ والآخر غليظ، أو كان فيه عقد التبن، لأن ذلك يأخذ حظًّا من(5/198)
الكيل، فتكون الحنطة مبيعة بأقل منها كيلا، فلم يجز.
وهكذا: إذا كان في كل حنطة شعير أو زؤان أو شيلم أو عقد التبن.. فلا يصح بيع إحداهما بالأخرى؛ لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين. فإن كان في إحدى الحنطتين ترابٌ دقيقٌ يسيرٌ، أو دقاق التبن اليسير.. صح بيع إحداهما بالأخرى.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : وهكذا: لو باع الحنطة بالشعير، وفي الشعير حنيطاتٌ.. صحّ؛ لأن ذلك لا يأخذ حظًّا من الكيل. فأما إذا باع شيئًا موزونًا من أموال الربا بجنسه، وفيهما، أو في أحدهما شيء من التراب اليسير.. لم يصح؛ لأنه يأخذ حظًّا من الوزن.
[فرعٌ: بيع العسل ببعضه وفيه شمع]
وأما إذا باع عسل النحل بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما شمع.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل بين العسلين.. فلم يصح.
فإن قيل: فكيف جوّزتم بيع التمر بالتمر وفيهما النوى؟
قلنا: الفرق بينهما أن بقاء النوى في التمر من مصلحته، فلم يكلّف إزالته، لذلك فصح بيعه فيه، بخلاف الشمع، فإنه لا مصلحة للعسل في بقائه فيه، بل ربما كان سببًا لنقصه؛ ولأن الشمع مقصود مع العسل، ولا يجوز بيع ما فيه الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء مقصود، بخلاف النوى، فإنه غير مقصود.
[مسألة: بيع الرطب بالمجفف]
وما يحرم فيه الربا من الثمار والحبوب.. لا يجوز بيع رطبه بيابسه على الأرض، كبيع الرطب بالتمر، وبيع الزبيب بالعنب، وبه قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسعيد بن المسيب، ومالك، والليث، وأحمد، ومحمد، وإسحاق، وأبو يوسف رحمة الله عليهم.(5/199)
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الرطب بالتمر على وجه الأرض كيلا، ويجوز بيع العنب بالزبيب، وبيع الحنطة الجافة بالمبلولة، وبيع كل فاكهة يابسة بالرطب منها) . ووافقه أبو يوسف، ومحمد في الحنطة المبلولة بالجافة.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلا، وعن بيع الكرم بالزبيب كيلا، وعن بيع الطعام بالزرع كيلا» . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وروى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال «سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أينقص الرطب إذا يبس؟ " فقالوا: نعم، فقال: " فلا إذن "، وفي رواية: فنهى عن ذلك» .
قال الشيخ أبو حامد: ولم يسأل عن نقصانه؛ لأنه لم يعلم ذلك؛ لأن ذلك يعلم بالحس، ويشترك كل واحد بعلمه، وإنما سأل عن ذلك؛ ليبين أنه إنما منع من ذلك؛ لأجل أنه ينقص فيما بعد؛ لئلا يظن ظان أنه نهى عن ذلك لغير هذه العلة، ولأنه جنس فيه الربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار، بما هو منه على غير هيئة(5/200)
الادِّخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار، فوجب أن لا يجوز أصله بيع الحِنطة بدقيقها، أو بالحنطة المقليَّة.
وقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من العرية؛ لأنهما على صفةٍ لا يتفاضلان في حال الادخار، وذلك: أن الرُّطب على النخل يخرص، فينظر: كم هو؟ ثم ينقص منه ما ينقص في حال الجفاف، ثم يباع بمثل ذلك تمرًا.
[فرعٌ: بيع رطب برطب]
وأمَّا بيع رطبة برطبة، فإن كان مما يدخر يابسه، كالرطب والعنب.. فلا يجوز بيع رطبه برطبه.
وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والمزني: (يجوز، كما يجوز بيع اللبن باللبن) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، قال: " فلا إذن» .
فجعل العلة: أن الرطب ينقص فيما بعد، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الرطب بالرطب، ولأنهما على غير هيئة الادخار، ولا يُعلم تساويهما في حال الادخار، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر، كالحنطة بدقيقها، ويخالف اللبن، فإن معظم منفعته في حال رطوبته، بخلاف الرطب؛ لأن كل شيء يصلح له الرطب فالتمر يصلح له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولأن الرطب يجف بنفسه، فلهذا منع من بيعه إلا بعد الجفاف، وليس كذلك اللبن، فإنه لا يجف حتى يجفف، ويخلط به غيره) .
فإن قيل: علة الخبر تنتقض بالتمر الحديث، بالتمر العتيق، فإن بيع أحدهما بالآخر يجوز وإن كان الحديث ينقص عن العتيق فيما بعد.
فالجواب: أن العلة المستنبطة لا يجوز تخصيصها عندنا بحالٍ. وإن من شرط صحتها عندنا أن تكون جارية، فلا توجد إلا ويوجد الحكم معها.
وأمّا العلة المنصوص عليها: فهل يجوز تخصيصها؟ فيه وجهان. وهذه علةٌ(5/201)
منصوص عليها، فمن قال: يجوز تخصيصها.. قال: التمر الحديث مخصوص من هذه العلة، فلا يكون نقصًا لها؛ ولأن الدليل على صحة العلة المستنبطة: جريانها في الأصول، والدلالة على صحة العلة المنصوص عليها: الاسم، وكونها منصوصًا عليها.
ومن قال من أصحابنا: العلة المنصوصة لا يجوز تخصيصها أيضًا.. قال: لا يكون نقص التمر الحديث عن العتيق نقضًا لعلتنا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر النقصان في الرطب إلى حال التناهي، ولم يعتبر النقصان بعد ذلك، والحديث والعتيق متساويان في حال تناهيهما تمرًا، فلا يعتبر النقص بعد ذلك.
وإن كان مما لا يدخر يابسها، كالرمان، والسفرجل، والبقول، والكُرَّاث، والبصل، إذا قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيها الربا) .. فهل يجوز بيع بعضها ببعض؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما:
أحدهما: يجوز؛ لأن معظم منفعتها في حال رطوبتها، فهي كاللبن.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه جنس فيه ربا.. فلم يجز بيع رطبه برطبه، كالرطب بالرطب، والعنب بالعنب.
وفي بيع الرطب الذي لا يجيء منه تمر بعضه ببعض في حال رطوبته، وبيع العنب الذي لا يجيء منه زبيب بعضه ببعض في حال رطوبته، طريقان:
قال أكثر أصحابنا: لا يجوز بيع ذلك، قولاً واحدًا، كغالبه.
وقال أبو العباس: إنها على قولين، كالرمان والسفرجل، لأن معظم منفعتهما في حال رطوبتهما، فكانا كسائر الفواكه التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.(5/202)
[فرعٌ: بيع اللحم بجنسه]
وإذا أراد بيع اللحم بجنسه، وقلنا: اللحمان جنسٌ واحدٌ، فإن باعه بعد أن جف ويبس.. جاز؛ لأنه حالة ادخاره. فإن أراد بيع بعضه ببعض في حال رطوبته.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: فيه قولان، كالفواكه الرطبة التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.
و [ثانيهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز، قولاً واحدًا، وهو المنصوص؛ لأن معظم منفعة اللحم ليس في حال رطوبته؛ لأن كل شيء يصلح له اللحم الرطب الطري، صلح له اليابس، إلا أن لذته في حال رطوبته، كالرطب، فإن لذته في حال كونه رطبا.
إذا ثبت هذا: فإن باع اللحم بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما رطوبة يسيرة.. لم يجز، والفرق بينه وبين التمر ـ حيث جاز بيع بعضه ببعض وإن كان فيهما، أو أحدهما رطوبة ـ: أن اللحم لا يباع بعضه ببعض إلا وزنا، وقليل الرطوبة يؤثر في الوزن، بخلاف التمر، فإنه لا يباع بعضه ببعض إلا كيلا، والرطوبة اليسيرة فيه لا تؤثر في الكيل، ولأن الرطوبة اليسيرة في التمر لا تفسده، والرطوبة اليسيرة في اللحم تفسده في حال الادخار، فإن يبس اللحم، ثم أصابته نداوة.. لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يجف ثانيًا؛ لما ذكرنا: أنه يتناقص في الوزن بعد ذلك، وهل يجوز بيع اللحم بعضه ببعض قبل نزع العظم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع التمر بالتمر، وفيهما النوى.
والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيع العسل بالعسل، وفيهما الشمع.(5/203)
[مسألة: بيع العرايا]
روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا» . فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله:
فعندنا: أن العرية: هو أن يشتري القفيزَ الرُّطَبَ على رؤوس النخل بالتمر على الأرض، وكيفية ذلك: أن يحزِر الخارصُ ما على النخلة من الرطب، وكم يجيء من ذلك الرطب من التمر إذا جف، فيباع بمثله من التمر، ولا يتفرقا إلا بعد القبض. فالقبض في التمر: الكيل والتحويل، وفي الرطب على النخل: التخلية بين النخلة وبين مشتري الرطب. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (العرية: هو أن يهب الرجل لآخر نخلة، فتلزمه الهبة عنده بالعقد من غير قبض، فإذا ملك الموهوب له هذه النخلة وأثمرت، أو كان وهبه ثمرة النخلة لا غير، ثم شق على الواهب دخول الموهوب له إلى حائط الواهب، لأجل نخلته(5/204)
لا سيما بالحجاز، فإن عادتهم ينتقلون بأهاليهم إلى البساتين.. فيجوز للواهب أن يشتري من الموهوب له ما على تلك النخلة من الرطب بما يجيء منه من التمر، ولا يجوز ذلك لغيرهما) .
وقال أبو حنيفة: (العرية: هو أن يهب صاحب البستان ثمرة نخلة بعينها من رجل، ولم يقبضها الموهوب له، فإن الهبة لا تلزم عنده وعندنا إلا بالقبض، فيكره هذا الواهب أن يرجع في هبته، ويخاف ضرر المشاركة إن أقبضه فيقول الواهب للموهوب له: أعطيك بدل هذه الثمرة تمرًا، فسمي هذا: بيعًا على وجه المجاز) .
دليلنا: ما روى سهل بن أبي حثمة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع الثمر بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» .
وروى الشافعي، عن مالك رحمهما الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى لأبي أحمد، عن أبي هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق» الشك من داود.
والاستدلال على مالك: أنه لم يفرق بين الواهب وغيره.
وعلى أبي حنيفة: قوله: «نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا» . والاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، فلما كان المستثنى منه بيعًا، وهو بيع التمر بالتمر.. وجب أن يكون المستثنى بيعًا. وعنده: (أنه ليس ببيع) .(5/205)
وكذلك: قوله: «أرخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» ، وعنده: (لا يجوز بيع الرطب خرصًا بالتمر بحال) .
فإن قيل: العرية في اللغة: هي اسم للعطية، يقال: أعراه كذا: إذا أعطاه، ولهذا قال الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
يقول: إنا نعريها الناس.. قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما: ما قال الأزهري: إن العرية: اسمٌ لنخلةٍ مفردةٍ، سواء كانت للبيع أو للأكل، أو للهبة، وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في العرية» . وهي النخلة التي يفردها الخارص لرب الحائط ليأكل منها.(5/206)
والثاني: ما قال بعض أهل اللغة: إن العرية: هي النخلة التي عليها ثمرةٌ أرطبت، سميت: عرية؛ لأن الناس يعرونها لتلتقط الثمرة منها، يقال: عريت الرجل: إذا قصدته لتستميحه. ومنه قول النابغة:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على عجل تظن بي الظنون
إذا ثبت هذا: فإن العرايا تصح للفقراء، بلا خلاف على المذهب، وهل تصح للأغنياء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد؛ لما روي «عن محمود بن لبيد: (أنه قال: قلت لزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الرطب يأتي، ولا نقد عندهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونها رطبا مع الناس» .
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» . ولم يفرق بين الأغنياء والفقراء، ولأن كل بيع جاز للفقراء.. جاز للأغنياء، كسائر المبيعات.(5/207)
وأما حديث محمود بن لبيد: فلا حجة فيه أنه لا يجوز للأغنياء؛ لأن المحتاجين كانوا هم السبب، وأما الرخصة: فعامة، كما أن سبب الرمل في الاضطباع كان لإظهار الجلد للمشركين، ثم زال السبب والحكم باق.
[فرعٌ: بيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب على الأرض]
] : وإن باع رطبا على رؤوس النخل، برطب على الأرض، أو برطب على رؤوس النخل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وهو قول ابن خيران؛ لما روى زيد بن ثابت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرية بالتمر والرطب) . ولم يفرق، وروي: (بالتمر أو الرطب» .
والثاني ـ حكاه الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق ـ: إن كان على رؤوس النخل.. جاز، وإن كان أحدهما على الأرض.. لم يجز؛ لأنهما إذا كانا على رؤوس النخل، فربما يريد أحدهما نوعًا من الرطب غير النوع الذي عنده، فيأكله أيًّامًا من نخله. وإذا كان أحدهما على الأرض.. لا يمكنه أن يأكله أيامًا؛ لأن أكثر ما يبقى رطبا يومًا أو يومين.
وأما صاحب " المهذب "، وابن الصباغ: فحكيا قول أبي إسحاق: إن كانا نوعًا واحدًا.. لم يجز. وإن كانا نوعين.. جاز من غير تفصيل. ولعلهما أرادا إذا كان النوعان على رؤوس النخل.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز بحال؛ لما روي في حديث سهل بن أبي حثمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع تمر النخل بتمر النخل، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» .(5/208)
فيجوز بيعها بالتمر خاصة، ولأنه إذا باع الرطب بالتمر.. دخل الخرص في أحد العوضين، فيقل الغرر، وأما إذا باع الرطب بالرطب: دخل الخرص في العوضين، فيكثر الغرر.
[فرعٌ: بيع المحاقلة والمزابنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمزابنة» . واختلف في تأويله:
فذهب الشافعي إلى: (أن المحاقلة: أن يبيع الرجل الحنطة في سنبلها بحنطة موضوعة على الأرض. والمزابنة: هو أن يبيع الرجل التمر على رؤوس النخل بما زاد على خمسة أوسق من التمر على الأرض) .
وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أن المحاقلة: استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. والمزابنة: هو أن يقول الرجل لصاحبه: كم في صبرتك هذه؟ فيقول: أقل من خمسين قفيزًا، فيقول الآخر: بل فيها أكثر من خمسين قفيزًا فيقال لمالكها: اكتل الآن، فإن نقصت عن خمسين قفيزًا.. فعلي تمامها، وإن زادت على الخمسين.. فلي الفضل) .
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة» .(5/209)
فـ (المحاقلة) : أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة. و (المزابنة) : أن يبيع التمر على رؤوس النخل بمائة فرق تمرًا. وهذا أشبه باللغة.
قال الأزهري: الحقل القراح: المزروع، والحواقل: المزارع. وأما منفعة الأرض: فليست بحقل. والمزابنة: مأخوذة من المدافعة. فكأن المتبايعين إذا وقعا فيها.. تبايعا على غبن، وأراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن إمضاءه، فتزابنا، أي: تدافعا، واختصما، وإنما تعلق ذلك بالثمرة؛ لأنها مجهولة يجري فيها التغابن.
وما ذكره مالك في الصبرة.. فليس بعقد بيع يتناوله النهي، وإنما هو قمار ومخاطرة.
إذا ثبت ما ذكرناه: فلا يجوز بيع العرايا فيما زاد على خمسة أوسق بعقد واحد. وهل يصح بيع العرايا في خمسة أوسق؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا: الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة» .(5/210)
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص من بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق» . وشك داود بن الحصين في الخمسة، فبقي على الحظر.
ولأن الخمسة الأوسق في حكم ما زاد، بدليل: أن الزكاة تجب فيها، كما تجب فيما زاد عليها.
والقول الثاني: يجوز؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرايا» . وهذا يتناول الخمسة الأوسق وما زاد، إلا أن الدليل قد دل على أنه لا يصح فيما زاد على خمسة أوسق، فبقي في الخمسة على عموم الخبر.
فإذا قلنا بهذا: قال صاحب " التلخيص ": لو اشترى رجلٌ عشرة أوسق من رجلين بعقد.. لم يجز. ولو باع رجلٌ من رجلين عشرة أوسق بعقد.. جاز.
فمن أصحابنا من سلم له هذا التفصيل، وفرق بينهما، وهو أنه: إذا اشترى من رجلين عشرة أوسق بعقد.. فقد دخل في ملكه جملة واحدة بعقد واحد عشرة أوسق، فلم يجز. وإذا باع.. لم يخرج من ملكه إلى كل واحد منهما إلا خمسة أوسق، فصار كالمفرد.
ومنهم من لم يسلم له هذا، وقال: يصح في الجميع، وهو الأصح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين، بحكم العقدين من أي جانب كان. وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ ما يوافق هذا الوجه، فقالا: إذا باع رجل تسعة أوسق على رؤوس النخل من رجلين بتسعة أوسق تمرًا في عقد واحد.. جاز.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز) .
دليلنا: أن بيعه من اثنين يجري مجرى العقدين المنفردين. وكذلك إن باع رجلان تسعة أوسق، من رجل بتسعة أوسق بعقد.. صح؛ لما ذكرناه. وإن باع رجل عشرة أوسق من رجلين.. فعلى القولين، فيمن باع خمسة أوسق بعقد من رجل. وإن باع(5/211)
رجل تسعة عشر وسقا من أربعة رجال بمثلها في عقد.. صح؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وهكذا: لو باع اثنان من اثنين تسعة عشر وسقا بمثلها بعقد.. صحّ؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وإن باع رجل عشرين وسقا بمثلها من أربعة رجال بعقد واحد.. ففيه قولان، كما لو باع رجل رجلاً كلّ خمسة أوسق.
وإن باع رجلان عشرة أوسق من رجل بعقد.. فعلى القولين.
وإن باع ثلاثة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد، أو باع خمسة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد.. فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنه يصح، قولاً واحدًا؛ لأن بيع الثلاثة من اثنين بعقد بحكم ستة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد ثلاثة أوسق وثلثا بعقد، وبيع الخمسة من اثنين بحكم عشرة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد وسقين بعقد.
[فرعٌ: بيع الحائط كله عرية]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويبيع صاحب الحائط لكل من رخص له، وإن أتى على جميع حائطه) .
وجملة ذلك: أنه يجوز لصاحب الحائط أن يبيع حائطه كله على وجه العرية، فيبيع من رجل ما دون خمسة أوسق بعقد، أو خمسة أوسق إذا قلنا: يجوز، ثم يبيع صفقة أخرى كذلك منه، أو من غيره حتى يأتي على جميع الحائط.
قال القفال: وهذا إذا لم يجب فيه الزكاة، فأما إذا وجبت فيه الزكاة: فقد مضى الكلام فيه في الزكاة.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز للرجل أن يبيع أكثر من عرية واحدة) .
دليلنا: عموم حديث سهل بن أبي حثمة، ولم يفرق؛ ولأن كل بيع جاز بين المتبايعين مرة.. جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.(5/212)
فإن قيل: هذا يؤدي إلى المزابنة، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها.
فالجواب: أن المزابنة هو العقد الواحد على ما زاد على خمسة أوسق، فإذا لم يوجد ذلك.. لم يكن محرمًا، وإن كان بتفريقه يحصل به ذلك، كما أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين، ومعلوم أنه لو باع درهمًا بذهب، ثم اشترى بالذهب درهمين.. جاز ذلك.
[فرعٌ: العرية في غير الرطب]
وما جاز من العرايا في الرطب على النخل، بالتمر على الأرض.. جاز في العنب على الشجر، بالزبيب على الأرض.
وقال الليث: (لا تجوز العرايا إلا في النخل خاصة) .
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّصَ في العرايا» . وهو بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب.
ولأن العنب ثمرة تجب فيها الزكاة، ويُخرَصُ كما يُخرَصُ التمرُ، فجاز فيه العرايا، كالتمر. وأمّا ما عداهما من الثمار، كالفرسك والمشمش والإنجاص.. فهل(5/213)
يجوز بيع رطبها على الشجر باليابس منه فيما دون خمسة أوسق؟ فيه طريقان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنها على قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن هذه الثمار لا يجب فيها الزكاة، ولا يمكن فيها الخرص؛ لاستتارها بالأوراق.
والثاني: يجوز؛ لأن الحاجة تدعو إلى الرطب منها، كالرطب والعنب.
والطريق الثاني ـ حكاه صاحب " المعتمد " ـ: أنه لا يجوز، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه للقول الأول.
[فرعٌ: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه]
] : يجوز بيع التمر بالتمر قبل نزع النوى مثلا بمثل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر» . ولم يفرق؛ ولأن في بقاء النوى في التمر مصلحة للتمر.
وإن باع منه ما نزع نواه، بما لم ينزع نواه.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما هو على هيئة الادخار ـ وهو: ما لم ينزع نواه ـ بما ليس على هيئة الادخار ـ وهو: ما نُزع نواه ـ على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار، فلم يصح، كبيع الرطب بالتمر.
فقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من بيع الرطب بالتمر في العرايا؛ لأنهما لا يتفاضلان في حال الادخار.
وإن باع منه ما نزع نواه، بعضه ببعض.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لما روى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل» . ولم يفرق بين أن ينزع نواه، أو لم ينزع.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إذا نزع عنه النوى.. فقد زال عن هيئة الادخار، فلم يصح بيع بعضه ببعض، كالدقيق بالدقيق؛ ولأنه إذا نزع نواه.. تجافى في المكيال، فلا يتحقق التساوي فيه، فلم يصح.(5/214)
[مسألة: بيع المطبوخ بالنِّيء]
قال الشافعي: (ولا يجوز بيع شيء من الجنس الواحد مطبوخًا منه بنِيء بحال إذا كان يدَّخر مطبوخًا) . وهذا كما قال:
قد ذكرنا: أن عصير العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكُمَّثْرى أجناسٌ، على المشهور من المذهب، فإذا بيع بعض الجنس منها ببعض.. نظرت:
فإن كان باع النِّيء منها بالنِّيء منها.. جاز فيهما متماثلا، ولا يجوز متفاضلاً. وإن كان مطبوخًا.. فلا يصح بيعه بالنِّيء منها. ولا يصح بيع المطبوخ منها بالمطبوخ؛ لأن النار دخلت فيه، فيؤدي إلى الجهل بالتماثل.
فإن قيل: أليس التمر تجففه الشمس، ويختلف تجفيفها فيه؟ فكيف جاز بيع بعضه ببعض؟
قلنا: لأن تلك حالة ادّخار التمر. والعصير حالة ادخاره قبل طبخه.
وإن أراد أن يبيع جنسًا من الأعصار بجنس آخر.. جاز، سواءٌ كانا مطبوخين أو نيئين، أو أحدهما نِيئًا، والآخر مطبوخًا؛ لأنها أجناس، على المشهور من المذهب، فلا يعتبر فيها التساوي.
[فرعٌ: بيع اللحم باللحم]
ولا يجوز بيع اللحم النِّيء بالمطبوخ، ولا بيع المطبوخ بالمطبوخ.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع النِّيء بالمطبوخ متماثلاً، ولا يجوز بيعه متفاضلاً) .
وقال مالكٌ: (يجوز متماثلاً، ومتفاضلاً) .(5/215)
دليلُنا: أنه جنس فيه ربا، فلم يجز بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع مطبوخه بمطبوخه، كالتمر بالدبس، والحنطة بسويق الدقيق.
[فرعٌ: بيع العسل بالعسل]
وأما عسل النحل المصفّى بالشمس: فيجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن الشمس لا تعقد أجزاءه، وإنما تذيبه، وتميّزه من الشمع. وإن صُفي بالنار.. فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى صاحب " المهذب " و " الشامل " فيه وجهين:
أحدُهما: لا يجوز؛ لأنَّ النار دخلت فيه، وربما عقدت أجزاء بعضه أكثر من بعض.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن نار التصفية ليِّنةٌ، لا تعقدُ الأجزاء، وإنما تميزُهُ من الشمع، فهو كما لو صُفي بالشمس.
وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن أغلاه بالنار غليانًا يسيرًا.. جاز بيع بعضه ببعض، وإن كان غليانًا كثيرًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض.
وهل يجوز بيع السكر بعضه ببعض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النار تدخل فيه لعقد الأجزاء ولنقصانه.. فلم يجز بيع بعضه ببعض؛ كالدبس.
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن النار تدخله لتصفيته من القصب، لا لعقد الأجزاء، فإذا باع العسل بالعسل، والسكر بالسكر.. فكيف يباعان؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما يباعان كيلاً؛ لأن أصلهما الكيل.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنهما يباعان وزنًا) ؛ لأنه أحصر، ولأن السكر يتجافى في المكيال، وإن دق ليكال.. زال عن هيئة الادخار. وهكذا الوجهان في السمن.(5/216)
[مسألة: بيع الدقيق بالحنطة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة) . وهذا كما قال. واختلف أهل العلم في بيع الحنطة بدقيقها:
فذهب الشافعي إلى: (أنه لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها، لا متماثلاً، ولا متفاضلاً، لا كيلاً، ولا وزنًا) . وبه قال حمَّاد بن أبي سليمان، والثوري، وأبو حنيفة.
وذهب مالك، وابن شبرمة إلى: (أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها متماثلاً، كيلا بكيل) .
وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق إلى: (أن ذلك يجوز وزنًا بوزن) .
وحكي عن أبي ثور: أنه قال: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها متفاضلاً) .
وحكي عن الكرابيسيّ: أنه قال: قال أبو عبد الله: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلا بكيل) . فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولا آخر للشافعي. وقال سائر أصحابنا: ليس ذلك بقول للشافعي. ولعل الكرابيسي أراد بذلك مالكًا أو أحمد.
ودليلنا: أنه جنس فيه الربا، فلم يجز أن يباع منه ما زال عن هيئة الادخار، بصنعة آدمي بأصله الذي هو على هيئة الادخار، كبيع التمر بنخله.
فقولنا: (بصنعة آدمي) احترازٌ من بيع التمر المسوِّس، بغير المُسوِّس، فإن ذلك يجوز، ولأن الدقيق هو الحنطة، وإنما تفرّقت أجزاؤها بالطحن، فإذا بيع بالحنطة كيلا.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار؛ لأن الدقيق يتجافى في المكيال،(5/217)
والحنطة ينضم بعضها إلى بعض؛ لأنها شديدة، فإذا طحنت تفرقت، فلو جمع بعضه إلى بعض.. لم يجتمع كخلقة الأصل، فإذا بيع كيلاً.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار.
[فرعٌ: بيع مطحون الجنس الواحد]
] : وأما بيع دقيق الجنس بعضه ببعض: فالمنصوص: (أنه لا يجوز) .
وروى المزني عنه في (المنثور) : (أنه يجوز) . وهو رواية البويطي أيضًا، وبه قال أحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الناعم بالناعم، والخشن، بالخشن، ولا يجوز بيع الخشن بالناعم) .
دليلُنا: أن الدقيق هو نفس الطعام، وإنما تفرّقت أجزاؤه بالطحن، وقد لا يتفقان في النعومة والخشونة، فيأخذ الخشن من المكيال أكثر مما يأخذه الناعم، فيؤدّي إلى التفاضل حال الادخار، فلم يجز.
[فرعٌ: بيع الحنطة بالسويق]
ولا يجوز بيع الحنطة بسويقها؛ لما ذكرناه في الدقيق؛ لأن السويق أسوأ حالاً من الدقيق؛ لأن السويق قد دخله الماء والنار والطحن.
ولا يجوز بيع السويق بالسويق. وقال أبو حنيفة فيه: (يجوز) . كما يجوز عنده بيع الدقيق بالدقيق، وقد مضى الدليل عليه في بيع الدقيق بالدقيق.
والسويق أسوأُ حالاً من الدقيق على ما ذكرناه.(5/218)
ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق من جنسه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وروى عنه أبو يوسف روايةً شاذّة: (أنه يجوز) .
وقال أبو يوسف، ومالك: (يجوز متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان) .
دليلُنا: ما ذكرناه في الدقيق بالدقيق، والسويق أسوأ حالاً من الدقيق على ما بيّناه.
ولا يجوز بيع خبز الحنطة بالحنطة، ولا بدقيقها، وبه قال أحمد.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز متفاضلاً. وهو قياس قول أبي ثور في الحنطة بالدقيق.
دليلُنا: أنه فرعٌ لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة.
وأما بيع الخبز بمثله من جنسه: فإن كانا رطبين أو أحدهما.. لم يجز.
وقال محمد بن الحسن: يجوز بيعهما متماثلين.
دليلُنا: أنه جنس في الربا، يباع بعضه ببعض، على وجه يتفاضلان في حال الكمال والادخار.. فلم يجز، كبيع الخبز بالحنطة. وأما إذا كانا يابسين مدْقوقين يمكن كيلُهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد خالطهما الماء والملح والنار، وقد يكثر في أحدهما دون الآخر.
والثاني: أنه يجوز؛ لأن ذلك حالة كماله وادخاره، فجاز بيع بعضه ببعض، كالحنطة.
[مسألة: بيع الشيء بما يستخلص منه]
ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج، ولا بيع العنب بعصيره، ولا بخل الخمر، ولا بخل الزبيب؛ لأن فيهما مثل ما يباعان به، وذلك يؤدّي إلى التفاضل. ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر. ويجوز بيع خل الخمر بعصير العنب متساويًّا؛ لأن ذلك حالةُ(5/219)
ادّخاره، فهو كبيع الزبيب بالزبيب. ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب؛ لأن أصلهما واحد، وفي خل الزبيب ماء، وذلك يمنع تماثلهما. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب، ولا بيع خل التمر بخل التمر؛ لأنّا إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ لمعنيين، وهما: الجهل بتماثل الماءين، والجهل بتماثل الخلين. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الخلين. وهل يجوز بيع خل التمر بخل الزبيب؟
إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الماءين.
وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب، وكذلك يجوز بيع خل الخمر وعصير العنب، بخل التمر متفاضلا ومتماثلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب.
[فرعٌ: بيع المدقوق بالمدقوق]
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : ولا يجوز بيع السمسم المدقوق بالسمسم المدقوق، كما لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق. وأما بيع الشيرج بكسبه - وهو: عصارة السمسم - ففيه وجهان:
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : يجوز؛ لأنهما جنسان.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه لا يخلو من أن يبقى فيه شيء من الشيرج.
[مسألة: بيع اللبن بلبن في الضرع]
ولا يجوز بيع شاةٍ في ضرعها لبن بلبن الغنم؛ لأنه بيع لبن وغنم، بلبن؛(5/220)
لأن اللَّبن في الضرع يقابله قسط من الثمن، ولهذا إذا اشترى شاةً مصراةً ولم يعلم بها، ثم علم بها، فردّها.. وجب عليه بدل اللبن.
وإن باع شاةً في ضرعها لبنٌ، بلبن بقر أو إبل، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد.. لم يَجُزْ، لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. جاز البيع، ويشترط التقابض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان.
وإن باع شاةً مذبوحةً في ضرعها لبنٌ، بلبن البقر، فإن كانت غير مسلوخة.. لم يصح البيع؛ لأن بيعها قبل سلخها لا يجوز. وإن كانت قد سلخت، فإن قلنا: إن الألبان جنس.. لم يجز. وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. صح البيع، ويشترط قبضهما قبل التفرق.
وإن كان لا لبن في ضرع الشاة المذبوحة، فباعها بلبن قبل السلخ.. لم يجز؛ للجهل باللحم، وإن كان بعد السلخ.. صح البيع؛ لأنهما جنسان، ويشترط القبض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان. وإن كان في ضرع الشاة لبن، فحلبها، ثم باعها بلبن شاةٍ.. قال الشافعي: (صح البيع ولا اعتبار باللبن اليسير الذي لا يحلب في العادة) .
[مسألة: بيع اللبن في الضرع بلبن في الضرع]
وإن باع شاة في ضرعها لبن، بشاة في ضرعها لبن.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو الطيب بن سلمة: يصح البيع، كما يصح بيع السمسم بالسمسم(5/221)
وإن كان في كل واحد منهما شيرج، وكما يصح بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن اللبن في الضرع، كاللبن في الإناء، فلم يصح، كما لو باع حيوانًا ولبنًا، بحيوان ولبن.
وأمَّا السمسم بالسمسم: فالفرق بينهما: أن الشيرج في السمسم كالمعدوم؛ لأنه لا يؤخذ منه إلا بطحن ومعالجة. واللبن في الضرع يمكن أخذه من غير مشقة شديدة، فهو كاللبن في الإناء.
وأمَّا الماء في البئر: فإن قلنا: إن الماء غير مملوك.. لم يكن فيه ربا؛ لأنه لم يتناوله البيع. وإن قلنا: إنه مملوك، فإن قلنا: إن في الماء ربًا.. لم يجز بيع دار بدار، وفي كل واحدة منهما بئر ماء. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز.
[فرعٌ: بيع حليب الجنس]
ويجوز بيع حليب الجنس بعضه ببعض متماثلاً، كما يجوز بيع التمر بالتمر. ويجوز بيع الرائب بالرائب، وهو: اللبن الذي فيه بعض حموضةٍ، كما يجوز بيع تمر غير طيب بتمر غير طيب. ويجوز بيع الحليب بالرائب، كما يجوز بيع تمر طيب بتمر غير طيب.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز بيع الحليب المغلي بغير المغلي، ولا بيع المغلي بالمغلي؛ لأن النار تعقد أجزاءه. ولا يجوز بيع الحليب المشوب بالماء الخالص، ولا بيع المشوب بالمشوب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تفاضل اللبنين. ولا يجوز بيع اللبن بالزبد.
قال الشافعي: (لأن الزبد مستخرج من اللبن، فيكون كبيع السمسم بالشيرج) .
وقال الشيخ أبو إسحاق: العلة فيه: أن الزبد لا يخلو من لبن، فيكون بيع لبن مع غيره بلبن، والصحيح: التعليل الأول.(5/222)
ولا يجوز بيع اللبن بالسمن؛ لعلة الشافعي: أن في اللبن سمنًا، ولا يجوز بيعه باللبن المخيض، وهو: لبن منزوع الزبد؛ لأن في اللبن غير المخيض زبده، وقد نزع من المخيض زبده، فهو أنقص من اللبن.
ولا يجوز بيع اللبن باللِّبأ، ولا بالمصل، ولا بالأقط، ولا بالشيراز؛ لأن أجزاءها منعقدة بالشمس والنار، فلا يمكن كيلها، ولا يجوز بيعها وزنًا؛ لأن أصل اللبن الكيل.
فأما بيع ما يتخذ من اللبن بعضه ببعض: فإن باع السمن بالسمن.. جاز؛ لأنه بلغ حالة ادخاره، والنار دخلته للتمييز، لا لعقد الأجزاء، والمنصوص: (أن أصله الوزن) ؛ لأنه أحصر.
وقال أبو إسحاق: يباع كيلاً؛ لأنه أصله.
وأما بيع الزبد بالزبد: ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع السمن بالسمن.
والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يجوز؛ لأن فيه لبنًا، فيكون بيع لبن وزبد، بلبن وزبد.
وأما بيع المخيض بالمخيض: فإذا كان لم يطرح في أحدهما الماء للضرب..(5/223)
جاز، كالرائب بالرائب. وإن طرح الماء فيهما، أو في أحدهما.. لم يجز؛ لتفاضل الماءين والمخيضين.
وأما بيع المصل بالمصل، والأقط بالأقط، والجبن بالجبن، واللِّبأ باللِّبأ.. فلا يجوز؛ لأن أجزاءها منعقدة، وقد دخلت الإنفحة والملح في الجبن، فيكون بيع لبن وغيره بلبن وغيره.
ولا يجوز بيع السمن بالزبد؛ لأن السمن مستخرج من الزبد، فلم يجز بيعه به، كما لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم.
وأما بيع الزبد بالمخيض: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأن اللبن الذي في الزبد كالمستهلك.
وقال أبو إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن في الزبد شيئًا من اللبن.
ولا يجوز بيع المصل بالأقط، ولا بيع الأقط بالجبن ولا باللبأ؛ لأن أجزاءها منعقدة، ويختلف انعقادها.
ويجوز بيع السمن بالمخيض؛ لأنه ليس في السمن شيء من المخيض.
قال أصحابنا: ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلا؛ لأنهما جنسان، وهكذا إذا قلنا: يجوز بيع الزبد بالمخيض.. فإنه يجوز متفاضلا؛ لأنهما جنسان.
[مسألة: بيع اللحم بالحيوان]
إذا باع لحم إبل بإبل، أو لحم غنم بغنم، أو لحم بقر ببقر.. لم يصح البيع، وبه(5/224)
قال أبو بكر الصديق، والفقهاء السبعة، ومالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع اللحم بالحيوان حتى لو باع رطل لحم بحيوان.. جاز) . وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد: يجوز إذا كان اللحم أكثر من لحم الحيوان حتى تكون الزيادة بإزاء الجلد.
دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» .
وروى سعيد بن المسيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحي بالميت» .(5/225)
ولأنه جنس فيه الربا تبع أصله الذي فيه مثله، فلم يصح، كما لو باع الشيرج بالسمسم، وكان الشيرج أقل من الشيرج الذي في السمسم، أو مثله.. فإن أبا حنيفة قد وافقنا عليه: (أنه لا يجوز) .
وأما إذا كان الشيرج أكثر من الشيرج الذي في السمسم: فإنه قال: (يجوز؛ لكون الزيادة بإزاء الكسب) .
ودليلنا: أنه باعه بأصله الذي فيه مثله، فلم يجز قياسًا على الذي وافقنا.
وأما إذا باع اللحم بحيوان لا يؤكل، كالبغل والحمار.. فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان.
والثاني: يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن هذا الحيوان لا ربا فيه، فجاز بيعه فيه، كما لو باع اللحم بالثوب.
وإن باع لحم جنس من الحيوان بجنس غيره من الحيوان المأكول، كبيع لحم الإبل بالغنم، أو بالبقر، فإن قلنا: إن اللُّحمان جنس واحد.. لم يصح البيع؛ لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن اللُّحمان أجناس.. ففيه قولان، كما لو باعه بحيوان لا يؤكل:
أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان. وروى ابن عباس: (أن جزورًا نُحِر على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني بهذه العناق لحمًا، فقال أبو بكر: لا يصلح(5/226)
هذا) . والجزور لا تنحر بحضرة الخليفة إلا وهناك أماثل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفه أحد.
والثاني: يجوز؛ لأنه باعه بما ليس فيه أصله، فجاز، كما لو باع اللحم بالثوب.
فإن باع لحمًا بسمكةٍ حيَّةٍ، أو باع لحم السمك بحيوان.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه من جملة اللُّحمان.. فهو كما لو باع لحم غنم ببقر. وإن قلنا: إنه ليس من جُملة اللُّحمان.. كان فيه قولان، كما لو باع اللحم بحيوان لا يؤكل.
[فرعٌ: بيع الدجاجة فيها البيض ببيض]
وإن باع دجاجة فيها بيضٌ ببيضِ دجاجةٍ.. لم يجز، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك بمنزلة بيع شاةٍ في ضرعها لبنٌ بلبنِ شاةٍ.
وبالله التوفيق(5/227)
[باب بيع الأصول والثمار]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/39) ] : (وكل أرض بيعت، فللمشتري جميع ما فيها من بناء وأصل. و (الأصل) : ما له ثمرة بعد ثمرة من شجر وزرع) . وهذا كما قال إذا بيعت الأرض وفيها بناءٌ أو شجرٌ، فإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. دخل البناء والشجر في البيع؛ لأنه من حقوقها. وإن لم يقل: بحقوقها، ولكن قال: بعتك هذا البستان.. دخلت الأرض والشجر الذي فيها في البيع؛ لأن البستان اسم يجمعهما.
وهكذا: إن قال: بعتك هذه الدار.. دخل في البيع الأرض والحيطان والسقوف والأبواب؛ لأن الدار اسم يجمع ذلك كله.
وإن لم يقل ذلك، ولكن قال: بعتك هذه الأرض.. فهل يدخل البناء والشجر في البيع.. نص الشافعي في (البيع) : (أنّ ذلك يدخل) . وقال في (الرهن) : (إذا قال: رهنتك هذه الأرض.. لم يدخل البناء والشجر) .
واختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: لا يدخل فيهما؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة دون ما فيها. وقوله في (البيع) أراد: إذا قال بحقوقها.(5/228)
و [الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ من المسألتين إلى الأخرى، وخرَّجهما على قولين:
أحدهما: يدخل فيهما؛ لأن البناء والشجر من حقوق الأرض، فدخل في بيعها بمطلق العقد، كطرقها.
والثاني: لا يدخل؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة وحدها.
[والثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في (البيع) : (يدخل) بالإطلاق. وفي (الرهن) : (لا يدخل) من غير شرط، وفرَّق بينهما بفرقين:
أحدهما: أن البيع عقد قوي يزيل الملك، فتبع فيه البناء والشجر، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فلم يتبع فيه البناء والشجر.
والثاني: أنه لما كان النماء الحادث من المبيع بعد العقد للمشتري.. جاز أيضًا أن يتبعها البناء والشجر. ولمَّا كان النماء الحادث من الرهن بعد العقد للراهن.. جاز أن لا يتبعها البناء والشجر.
وإن قال: بعتك هذه القرية.. لم تدخل المزارع فيها؛ لأن اسم القرية حقيقة إنما يقع على البيوت والدروب الدائرة عليها، دون المزارع، ولهذا لو حلف لا يدخل قرية، فدخل مزارعها.. لم يحنث.
[مسألة: دخول المرافق في بيع الدار]
] : إذا قال: بعتك هذه الدار.. فقد قلنا: إن ذلك يشتمل على الأرض والبناء، ويدخل فيها الأبواب المنصوبة، والسلالم، والرفوف المسمرة، والأوتاد المغروزة،(5/229)
والجوابي، والأجاجين المدفونة فيها؛ لأن ذلك من مرافقها المتصلة بها، فهي كطرقها. وإن كان فيها سلم أو رف غير مسمر.. لم يدخل في البيع، وكذلك الدلو والحبل والبكرة لا تدخل في البيع؛ لأن ذلك غير متصل بها، ولا هو من مرافق الدار، فلم يدخل فيها، كالمتاع الموضوع في الدار، ويدخل فيه الغلق المستمر، والحجر السفلاني من الرحى إذا كانت مبنية؛ لأن ذلك متصل بالدار. وهل يدخل المفتاح، والحجر الفوقاني من الرحى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخلان؛ لأنهما منفصلان عن الدار، فهما كالدلو والبكرة.
والثاني: يدخلان؛ لأنهما وإن كانا منفصلين، إلا أنهما يتعلقان بمنفعة المتصل، فهما كالمتصل.
وإن كان حجر الرحى السفلاني غير مبني.. لم يدخل واحد منهما في البيع، وجهًا واحدًا؛ لأنهما منفصلان عنها، فهما كالدلو والبكرة.
وإن كان في الدار شجرةٌ، فإن قال: بعتك هذه الدار بحقوقها.. دخلت الشجرة في البيع. وإن لم يقل: بحقوقها.. فهل تدخل الشجرة في البيع؟ على الطرق الثلاث.(5/230)
وإن كان في الدار بئر ماء.. فإن البئر وما فيها من البناء يدخل في بيع الدار بمطلق العقد.
وأما الماء الذي في البئر: فهل هو مملوكٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه غير مملوك؛ لأن من اشترى دارًا وفيها بئر ماء، فاستقى منه المشتري أيَّامًا الماء، ثم وجد في الدار عيبًا.. كان له ردُّها؛ فلو كان الماء من جملة المبيع.. لم يكن له ردُّها، ولأن من اكترى دارًا وفيها بئر ماء.. كان له أن يشرب منها ويتوضأ؛ ولو كان الماء مملوكًا.. لم يكن للمستأجر الانتفاع به؛ لأن الأعيان لا يصح أن تستباح بالإجارة، بدليل: أن من استأجر أرضًا، وفيها نخلٌ.. لم يجز له أن يأكل من ثمرتها.
فعلى هذا: لا يدخل الماء في بيع الدار، غير أن المشتري أحق بالماء لثبوت يده على الدار، وليس لأحد أن يتخطى في ملكه إلى الماء؛ لأنه لا يجوز لأحد دخول ملك غيره بغير إذنه، فإن خالف الغير، وتخطى ملكه، وأخذ من ماء البئر.. ملكه كما قلنا في الطائر إذا عشش في ملكه، أو إذا توحَّل الصيد في أرضه.. فليس لأحد أن يتخطى ملكه لأخذه، فلو خالف، وتخطى، فأخذ الطائر والصيد.. ملكه.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم و " حرملة " ـ: (أن الماء مملوكٌ) ؛ لأنه نماء ملكه، فكان مملوكًا له، كالحشيش والثمرة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الماء ليس بنماءٍ للأرض، وإنما هو يجري تحت الأرض، بخلاف الحشيش والثمرة.
فإذا قلنا: إنه مملوك.. لم يدخل الماء الموجود حال العقد في البيع بالإطلاق حتى يقول: بعتك الدار والماء الظاهر الذي في البئر؛ لأنه نماء ظاهر، فهو كالطلع المؤَبَّر. فإن لم يشترط دخول الماء الظاهر في البيع.. لم يصح بيع الدار؛ لأن الماء(5/231)
الظاهر للبائع، وما ينبع بعده يكون ملكًا للمشتري. فإذا لم يشترط دخول الظاهر في البيع.. اختلط الماءان، فينفسخ البيع.
وإن أفرد الماء الذي في البئر بالبيع.. لم يصح على الوجهين؛ لأن على قول أبي إسحاق: أن الماء غير مملوك، وما ليس بمملوك.. لا يصح بيعه. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوك، إلاَّ أنه يكون مجهولاً، ولأنه لا يمكن تسليمه؛ لأنه إذا لم يسلمه.. اختلط بالماء الذي ينبع، وهو ملك للبائع.
وأمَّا العيون المستنبطة: فإنها مملوكة، وهل يملك الماء الذي فيها؟ على الوجهين. ولا يصح بيع الماء الذي فيها؛ لما ذكرناه في ماء البئر.
ولا يصح أن يبيعه كذا وكذا سهمًا من ماء كذا؛ لما ذكرناه.
وكذلك: لا يصح أن يقول: بعتك ليلة أو يومًا مِنْ كذا، وكذا يومًا في ماء كذا؛ لأنَّ الزمان لا يصح بيعه، والماء في العيون والآبار لا يصح بيعه؛ لما ذكرناه، ولكن الحيلة فيمن أراد أن يشتري ماء العين أو سهمًا منها: أن يشتري العين نفسها أو سهمًا منها. هكذا ذكر أصحابنا، وعلى قياس ما ذكروا في بيع الدار التي فيها بئر ماء، إذا اشترى العين أو سهمًا منها فيها.. إذا قلنا: إن الماء مملوك.. فيشترط أن يشتري مع العين الماء الظاهر وقت البيع؛ لئلا يختلط ماء المشتري بماء البائع، فينفسخ البيع. ويشترط رؤية الماء وقت عقد البيع؛ لأن البيع فيما لم يره واحدٌ منهما لا يصح، ولا يكفي رؤيتهما المتقدمة قبل البيع؛ لأن ذلك رؤية للماء الحادث وقت الرؤية لا لما يحدث بعده.(5/232)
فأما الماء الجاري من الأنهار التي ليست بمملوكة، كدجلة والفرات والنيل والسيل الذي يجيء من الموات.. فإنه غير مملوكٍ، فلا يجوز بيعه. فإن أخذ منه إنسان شيئًا بسقاءٍ أو غيره ملكه، وجاز له أن يبيعه. وإن دخل منه شيء إلى أرض رجل.. لم يملكه بذلك، بل يكون أحق به من غيره، كما قلنا في الصيد إذا توحَّل في أرضه. فإن دخل رجلٌ إلى أرض جاره، وأخذ من هذا الماء.. فقد تعدى بدخوله إلى أرض غيره بغير إذنه، ولكنه يملك هذا الماء الذي أخذه. ويأتي على قياس هذا: ما يقع في أرضه من ماء المطر، فإنه لا يملكه ولا يصح بيعه له، وجهًا واحدًا؛ لأنه إنما يملك ماء البئر على قول أبي عليٍّ؛ لأنه نماء أرضه، وهذا ليس بنماء أرضه، وإنما هو أحق به، كما لو توحل في أرضه صيد.
إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع فضل الماء» .
قال الصيمري: فحمل قومٌ ذلك على ظاهره، وأنه لا يصح بيعه على الإطلاق،(5/233)
وأجروه مجرى النار والشمس والقمر. وهذا غلط؛ لأنه ملكه، والعمل على بيعه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى وقتنا هذا يباع ويبتاع.
وأجمع أصحابنا: أنه لو احتاز رجل ماءً من نهر عظيم، ثم أعاده إليه.. أنه لا يختص بشركةٍ في هذا النهر.
وإن أتلف رجلٌ على غيره ماءً.. فهل تلزمه قيمته أو مثله؟ فيه وجهان.
[تذنيب: في بيع المعدن والركاز مع الأرض]
] : وأمَّا المعادن في الأرض.. فعلى ضربين: جامدة ومائعة.
فأما الجامدة: فهي كمعادن الذهب والفضة والفيروزج، وما أشبه ذلك من النحاس والرصاص، فهذه مملوكةٌ بملك الأرض، وتتبعها في البيع، كأجزائها، إلا أنه إذا كان في الأرض معدن ذهب.. لم يصح بيعها بذهب، وهل يصح بيعها بفضة؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف. ويجوز بيعها بغير الذهب والفضة، قولاً واحدًا.
وأما المعادن المائعة: فهي كمعادن النفط والقار والمومياء والملح، فعلى قول أبي إسحاق: هو غير مملوكٍ لا يدخل في البيع، ولكن المشتري أحق به، ولا يصح بيع شيء منه إلا بعد حيازته. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوكٌ؛(5/234)
فلا يدخل الظاهر منه في البيع إلا بالشرط، ويجوز أن يبيع منه قدرًا معلومًا.
وأما الركاز: فلا يدخل في البيع؛ لأنه مستودع في الأرض، فلم يدخل فيها، ولا يكون للمشتري فيه حقٌّ، سواء كان من ضرب الجاهلية أو الإسلام، فيعرض على البائع، فإن ادَّعى أنه كان دفنه فيها.. فهو له. وإن قال: ليس له.. عرض على من انتقلت الأرض منه إلى البائع إلى أن يدَّعيه مدع، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز ما وجد في موات.
[مسألة: دخول الثمر في بيع النخل]
] : إذا باع نخلاً وعليها ثمرةٌ.. نظرت:
فإن شرط أن الثمرة غير مبيعة.. فهي للبائع.
وإن شرط أنها للمشتري.. دخلت في البيع. وإن أطلقها البيع نظرت:
فإن كانت الثمرة قد أُبرت ـ وهو: أن يتشقق الطلع، أو يُشَقَّقَ ويُجعل فيه شيء من ثمرة الفحول ـ فالثمرة للبائع.
وإن لم تؤبر.. فهي للمشتري. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري بكل حال.
وقال أبو حنيفة: (بل هي للبائع، أبرت أو لم تؤبر) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر..(5/235)
فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . فنطق الخبر دليل على ابن أبي ليلى، ودليل خطابه دليل على أبي حنيفة.
وروي: «أن رجلاً ابتاع من رجل نخلا، فاختلفا، فقال المشتري: اشتريت، ثم أبرت، وقال البائع: أبرت، ثم بعت، فاحتكما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثمرة للذي أبر» .
ولأنه نماء مستتر في المبيع من أصل الخلقة، فجاز أن يتبع الأصل في البيع، كالحمل.
فقولنا: (مستتر في المبيع) احتراز من الثمرة بعد التأبير.
وقولنا: (من أصل الخلقة) احتراز من الركاز والأحجار المدفونة في الأرض.
أو نقول: لأنه نماء كامنٌ، لظهوره غاية، فكان تابعًا لأصله قبل ظهوره، كالحمل.
فقولنا: (نماء كامن) احترازٌ من المؤبر.
وقولنا: (لظهوره غاية) احترازٌ من الرمان والموز في قشره.
إذا ثبت هذا: فإنه يقال: أبر ـ بالتشديد ـ يؤبر تأبيرًا، وأبر ـ بالتخفيف ـ يأبر أبرًا. وأما الإبار: فبالتخفيف لا غير، ويسمى التأبير: التلقيح، وفيه مصلحة للنخل بإذن الله تعالى.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وهم يلقحون النخل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما هذا؟ "، فقالوا: ليحمل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإن كانت حاملةً.. فإنها(5/236)
ستحمل "، فتركوه تلك السنة، فلم يحمل نخلهم من تلك السنة إلا الشيص ـ وهو ما لا ينتفع به ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعوا إلى ما كنتم عليه، فإنكم أعرف بأمور دنياكم، وأنا أعرف بأمور دينكم» .
[فرعٌ: بيع النخل قبل التأبير]
وإن باع نخلاً وعليها طلع قد تشقق بنفسه، ولم يلقح.. فإن ثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ لأن الثمرة إذا كانت للبائع، إذا شققها الآدمي ولقحها.. فبأن تكون له إذا تشققت بنفسها أولى؛ لأن ذلك من فعل الله تعالى، ولأنها قد خرجت عن أن تكون كامنة.
[فرعٌ: بيع فحال النخل]
وإن باع فحال النخل وعليه طلع، فإن كان قد تشقق طلعه.. كان ذلك للبائع كطلع الإناث إذا تشقق بنفسه. وإن كان الطلع لم يتشقق.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إن الطلع للبائع؛ لأن جميع طلع الفحال مقصود؛ لأنه مأكولٌ، فهو بمنزلة طلع الإناث إذا أبر.
والثاني ـ وهو المنصوص للشافعي ـ: (أنه للمشتري) ؛ لأنه طلع لم يتشقق،(5/237)
فدخل في بيع الأصل بالإطلاق، كطلع الإناث. وما قال الأول.. غير صحيح؛ لأن المقصود من طلع الفحال ما في جوفه؛ لأنه يلقح به الإناث، ويؤكل أيضًا، وهو باطنٌ لم يظهر، فلم يتبع الأصل، كطلع الإناث.
[فرعٌ: جريان ما مضى بعقود المعاوضات]
وكل عقد معاوضة عقد على النخل، مثل: أن يجعل النخل عوضا في الصلح، أو أُجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضا في الخلع، فحكمه حكم البيع، إن كان عليها طلعٌ غير مؤبر.. تبع الأصل. وإن كان مؤبَّرًا.. لم يتبع الأصل.
وإن وهب لغيره نخلا وعليها طلعٌ غير مؤبر، أو وهب الأب لابنه نخلا لا طلع عليها، فأطلعت في ملك الابن، ثم رجع الأب في الهبة قبل التأبير.. فهل تتبع الثمرة النخلة فيهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: تتبعها؛ لأنه أزال ملكه عن الأصل، فتبعته الثمرة، كما لو باع النخلة.
والثاني: لا تتبعها؛ لأنه عقد لا عوض فيه، فلم تتبع الأصل، كما لو أصدق امرأته نخلاً لا طلع عليها، فأطلعت في ملكها، ثم طلقها قبل الدخول.. فإنه لا يرجع فيها.
[مسألة: تأبير نخلة من حائط]
وإذا أطلع الحائط، فأبرت نخلة منه، أو طلعة من نخلة، ثم باع جميع النخل.. نظرت:
فإن كان النخل نوعًا واحدًا.. فإن جميع طلع النخل يكون للبائع إذا لم يشترك المشتري دخولها في البيع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع نخلا بعد أن تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» .(5/238)
قال الشيخ أبو حامد: وإذا أبر نخلة واحدة من جماعة نخل، أو طلعة من نخلة.. فإنه يقال: قد أبر الثمرة. ولأنا لو قلنا: إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري.. أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي، فتبع الباطن من الثمرة الظاهر منها، كما يتبع أساس الدار ظاهرها.
وإن كان النخل في الحائط أنواعًا، كالمعقلي، والبرني، والسكر، وغير ذلك، فأبر بعض نوع منها، ثم باع جميع نخل الحائط.. فإن طلع ما لم يؤبر من ذلك النوع يتبع ما أبر منه، ويكون للبائع. وهل يتبعه ما لم يؤبر، وما لم يتشقق من الأنواع الأخرى؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يتبعه؛ لأن النوع الواحد لا يتفاوت إدراكه وتأبيره، بل يتقارب، فيتبع بعضه بعضًا. وأمَّا النوعان: فإن إدراكهما يتفاوت، فلم يتبع أحدهما الآخر.
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يتبعه، وهو الصحيح؛ لأنا إنما قلنا: إن الذي لم يؤبر يتبع المؤبر؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى موجودٌ في النوعين، كالنوع الواحد.
[فرعٌ: باع حائطان وأحدهما مؤبر]
وإن كان له حائطان فيهما نخيلٌ أو قطعتان من الأرض وفيهما نخيلٌ، قد أبر أحدهما دون الآخر، ثم باعهما.. فإن المؤبر يكون ثمرته للبائع، والذي لم يؤبر للمشتري.
قال الشيخ أبو حامد: وسواءٌ كانا متلاصقين أو غير متلاصقين إذا تميَّز أحدهما عن(5/239)
الآخر؛ لأن انفراد كل واحدٍ منهما بثمرة حائط لا يؤدِّي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي.
فإن كان له حائط، فأطلع بعضه، فأبر المطلع، أو بعضه، ثم باع جميع نخل الحائط، وأطلع الباقي بعد البيع.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن المطلع بعد البيع للبائع أيضًا؛ لأن ثمرة هذا العام له بالتأبير.
والثاني: أنه للمشتري، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه حادث في ملكه.
وإن أبر بعض الحائط، ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأنه قد ثبت لجميع الحائط حكم التأبير بتأبير بعضه.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمرة للمشتري؛ لأنا إنما جعلنا ذلك للبائع على سبيل التبع للمؤبر إذا بيع معه، فإذا أفرد بالبيع.. لم يتبع غيره.
[فرعٌ: باع حائطًا مؤبرًا وفيه فحول]
] : قال الشافعي: (وإن كان فيها فحول نخل بعد أن تؤبر الإناث.. فثمرتها للبائع) .
فاعترض معترض على قول الشافعي: (فحول) ، وقال: لا يقال في اللغة: فحل، ولا فحول، وإنما يقال للواحد: فحال، وللجمع فحاحيل.
فالجواب: أن الشافعي من أهل اللغة، فقوله حجة، وقد ورد ذلك في لغة العرب، قال الشاعر:
تأبَّري يا خيرة الفسيل ... تأبَّري من حنذٍ فشولي
إذ ضن أهل النخل بالفحول(5/240)
إذا ثبت هذا: فباع حائطًا فيه إناث وفحول، قد أطلع جميعه، فإن لم يتشقق شيء من الطلع.. فإن ثمرة الإناث للمشتري. وأما طلع الفحول: ففيه وجهان:
[الأول]ـ المنصوص ـ: (أنها للمشتري) .
والثاني: أنها للبائع. وقد مضى ذكرهما.
وإن تشقق شيء من طلع الإناث، أو أُبر.. كان الجميع للبائع؛ لأن على قول الشافعي: الفحول كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: إذا أفرده بالبيع.. كان للبائع، فكذلك هاهنا.
وإن تشقق شيء من طلع الفحول دون الإناث.. فعلى قول الشافعي: تكون ثمرة الفحول والإناث للبائع، لأن الفحول عنده كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: تكون ثمرة الفحول للبائع، وثمرة الإناث للمشتري؛ لأن ثمرة الفحول للبائع بالظهور، فلا تأثير للتشقق، فلا يتبع أحدهما الآخر.
[مسألة: بيع القطن قبل انشقاق الجوز]
] : قال الشافعي: (والكرسف إذا بيع أصله، كالنخل إذا خرج جوزه، ولم يتشقق.. فهو للمشتري، وإذا تشقق.. فهو للبائع) . وهذا كما قال. و (الكرسف) : هو القطن، وهو نوعان:
أحدهما: ما يبقى السنتين، والثلاث، وذلك قطن الحجاز والبصرة، وهو مراد الشافعي، وكذلك قطن أبين وتهامة والعراق. وحكم هذا النوع، حكم النخل،(5/241)
فإذا بيعت الأرض وفيها قطن.. كان تابعًا للأرض. وإن بيع القطن دون الأرض.. صحَّ. فإذا بيع القطن مفردًا أو مع الأرض.. نظرت:
فإن كان قبل ظهور جوزه، أو بعد ظهوره وقبل تشققه.. فهو للمشتري، كثمرة النخل قبل التشقق والتأبير.
وإن كان البيع بعد ظهور جوزه وتشققه أو تشقق بعضه.. فهو للبائع، كثمرة النخل إذا أبرت أو تشققت.
والنوع الثاني: وهو ما لا يبقى إلا سنة، وهو قطن خراسان، فهو كالزرع، فإن بيعت الأرض وفيها القطن.. لم يدخل في البيع من غير شرط. وإن بيع القطن دون الأرض.. نظرت:
فإن كان حشيشًا لم ينعقد جوزه، أو انعقد وهو حشيش لم يحصل فيه قطن.. جاز بيعه بشرط القطع. وإن بيع مع الأرض.. صحَّ بيعه من غير شرط القطع.
وإن كان قد عقد جوزه واستحكم قطنه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يصح بيعه أصلا، لا مفردًا، ولا مع الأرض؛ لأن المقصود منه القطن، وهو مغيب مجهول. قال: وكذلك لا يجوز بيعه وإن تشقق جوزه، كالطعام في سنبله. قال: ولا يجوز بيع جوزه في الأرض أيضًا؛ لأن مقصوده لا يُرى، ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كالتمر في الجراب.
[مسألة: شجيرات الورد]
وأما غير النخل والكرسف من الأشجار: فعلى ثلاثة أضرب:(5/242)
أحدها: ما يقصد منها الورد، وهو على قسمين:
أحدهما: ما يخرج ورده في كمام، ثم يتفتح بعد ذلك ويظهر، كالورد، فإذا بيعت الأرض وفيها شجر الورد.. دخل الشجر في بيع الأرض. وإن بيع شجر الورد منفردًا.. صحَّ البيع، وينظر فيه:
فإن كان الورد في كمامه لم يتشقق منه شيء.. فهو للمشتري، كطلع النخل إذا لم يتشقق.
وإن تشقق، وتقلع، وظهر الورد.. فهل للبائع، إلاَّ أن يشترطه المبتاع، كطلع النخل إذا تشقق.
والقسم الثاني: من الورد ما يخرج بارزًا بلا كمام، كالياسمين، فإذا بيع شجره، فإن كان قد ظهر ورده.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المشتري. وإن لم يظهر.. فهو للمشتري.
والضرب الثاني: من الأشجار ما يقصد منه الورق، وهو شجر التوت، فإذا بيع أصول التوت.. ففيه وجهان:(5/243)
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: إن كان قد ظهر من الورق شيء.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر منه شيء.. فهو للمشتري؛ لأن المقصود من هذا الشجر الورق، فهو كالثمرة من سائر الأشجار.
ومن أصحابنا من قال: إنه للمشتري بكل حال؛ لأنه بمنزلة أغصان الشجر؛ لأن للتوت ثمرة تؤكل غير الورق.
وإن باع شجر الحناء والجوز والهدس.. فلا نص فيها، فيحتمل أن تكون كالتوت على الوجهين، ويحتمل أن يكون البائع أحق بالورق إذا ظهر، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا ثمرة لهذه الأشجار غير الورق.
والضرب الثالث: من الأشجار ما يقصد منه الثمرة، وهو ينقسم أربعة أقسام:
[الأول] : قسم تخرج ثمرته ظاهرةً من غير كمام، كالتين والعنب، فإذا بيع الشجر، فإن كانت الثمرة قد ظهرت.. فهي للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن الظاهر منها كطلع النخل إذا تشقق، وما لم يظهر منها كقطع النخل قبل التشقق.
والقسم الثاني: من الثمار ما يخرج عليه قشرة لا تزال عنه إلا عند الأكل، وهو الرمان والموز، فإذا باع الشجر وقد ظهرت ثمرته.. فإن الثمرة للبائع. وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن هذه القشرة من مصلحته، وبقاؤه فيها.
قال الشافعي: (وإذا تشقق الرمان.. كان ذلك نقصًا فيه) .
والقسم الثالث: من الثمار ما يخرج وعليه قشرتان، وهو الجوز واللوز والرانج. فإن باع الشجر وعليه ثمرته، فإن كان قد تشقق عنها القشر الأعلى..(5/244)
فالثمرة للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن باع الشجر قبل أن يتشقق عنها القشرة العليا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ: أنها تكون للبائع؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [3/38] : (ومن باع أرضا فيها شجر رمان، أو جوز، أو لوز، أو رانج، أو ما يواريه حائل لا يفارقه بحال إلا عند أكله.. فهو كما وصفت من الثمر البادي بلا كمام؛ ولأن قشره لا يتشقق عنه، فهو كقشر الرمان) .
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه للمشتري كطلع النخل إذا لم يتشقق. قال: وأما قول الشافعي: فيحتمل: أنه لم يعلم أن للجوز واللوز قشرتين، أو أراد بالحجاز؛ لأنه لا يكون له بالحجاز إلا قشرة واحدة.
والقسم الرابع: من الثمار ما يخرج وعليه نور، ثم يتناثر عنه النور، كالتفاح والمشمش والخوخ، فإن باع الأصل، وقد تناثر النور عن الثمرة.. فإن الثمرة تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن كان قبل تناثر النور عنها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص في " البويطي "، واختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: (أن الثمرة للمشتري) ؛ لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بالطلع، وتناثر النور عنها كتشقق طلع النخل.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأن الثمرة قد ظهرت، وإنما استترت بالنور، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض.
وقال الشيخ أبو حامد: وقد أومأ الشافعي إلى: (أن العنب لا ورد له) . قال: وعندي: أن له وردًا، ثم ينعقد.(5/245)
[فرعٌ: بيع أصول الثمار]
وإذا باعه أصلاً وقد ظهرت بعض ثمرته.. فإنَّ الظاهر منها يكون للبائع، فإن ظهر باقي ثمرة العام بعد البيع.. فلمن يكون الظاهر بعد العقد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في التأبير.
[مسألة: بيع أرض مختلفة الزرع]
وإن باع أرضًا وفيها نبات غير الشجر، فإن كان له أصل يبقى السنتين والثلاث، ويجز مرة بعد أخرى، كالرطبة، وهو القضب، والقضب الفارسي، والنعناع، والهندباء، والبطيخ، والبنفسج، والنرجس.. فإن الأصل يدخل في البيع. فإن كان قد نبت منه شيء حال عقد البيع.. فإن النابت منه يكون للبائع، كالطلع المؤبر. وإن لم يكن نابتًا حال العقد.. فلا حق للبائع فيه، بل ذلك للمشتري، كالطلع الذي لم يؤبر.
قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: النرجس يكون للمشتري بكل حال. قال: وهذا كلام من لم يعرف النرجس، وذلك: أن النرجس له أصل يبقى عشرين سنة، وإنما يحول من موضع إلى موضع في كل سبع سنين لمصلحته.
وإن باع أرضًا وفيها زرعٌ ظاهرٌ.. نظرت:(5/246)
فإن كان يجز مرة بعد أخرى.. دخل الأصل في بيع الأرض. وما ظهر حال العقد.. فهو للبائع، وما يظهر بعد العقد.. فهو للمشتري. وكذلك الكراث إذا بيعت الأرض التي هو بها.. فإن أصل الكراث يدخل في البيع، وما كان ظاهرًا حال العقد لا يدخل في البيع إلا بالشرط، ويؤمر البائع بأخذه في الحال؛ لأن الزيادة بعد العقد تكون للمشتري.
وإن كان الزرع يؤخذ مرة واحدة، كالحنطة والشعير.. فإنه لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط؛ لأن هذا الزرع مودع في الأرض، فهو كالكنز والماس؛ لأنه نماءٌ ظاهرٌ لا يراد للبقاء، فلم يدخل في بيع الأرض من غير شرط، كالطلع المؤبر. وإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الزرع لا يدخل في بيعها؛ لأنه ليس من حقوقها، بخلاف الغراس.
إذا ثبت هذا: فإن للبائع أن يبقي هذا الزرع في الأرض إلى أن يستحصد.
وقال أبو حنيفة: (يجبر على أخذه في الحال) .
دليلنا: هو أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بحق البائع.. فإن على البائع أن يأخذ ذلك على الوجه الذي جرت العادة بأخذه، كما لو باعه دارًا فيها طعامٌ للبائع.. فإنه لا يجب عليه نقله إلا على حسب العادة في نقله، ولا يلزم البائع أجرة الأرض إلى وقت الحصاد؛ لأن الأجرة تجب في مقابل منفعة استوفاها بالغصب، أو بالعقد، ولا غصب هاهنا، ولا عقد. فإذا بلغ أوان الحصاد.. فعلى البائع أن يحصد زرعه، فإذا حصده.. نظر فيه:
فإن لم يبقى للزرع عروق في الأرض تضر بها، كالحنطة والشعير.. فقد ارتفعت يده، ولا شيء عليه غير ذلك.
وإن بقي للزرع عروق تضر بالأرض، كالذرة.. فعلى البائع أن يقلع تلك العروق.(5/247)
فإن حصد البائع زرعه قبل أوان الحصاد.. لم يكن له أن يبدل مكان زرعه زرعًا آخر؛ لأن المستحق على المشتري تبقيه هذا الزرع لا غير.
إذا تقرر ما ذكرناه: فإن أبا إسحاق المروزي قال: إذا باع أرضًا فيها زرع للبائع.. فهل يصح البيع في الأرض؟ على قولين، كبيع الأرض المستأجرة من غير المستأجر؛ لأن الأرض في يد البائع إلى أن يحصد زرعه، كما أن الأرض في يد المستأجر إلى أن يستوفي منفعته.
وقال أكثر أصحابنا: يصح البيع في الأرض، قولاً واحدًا؛ لأن يد المستأجر تحول بين المشتري وبين ما اشترى، ويد البائع لا تحول بينه وبين الأرض؛ لأن للمشتري أن يدخل إلى الأرض، ويتصرف بها بما ليس بمزروع فيها بما شاء من وجوه التصرفات التي لا تضر بالزرع، ولأن هذا لو أشبه الأرض المستأجرة.. لوجب أن يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن مدة الإجارة معلومة، ومدة بقاء الزرع مجهولة، وهذا لم يقله أحد.
وإن باع الزرع والأرض، فإن كان الزرع لا حبَّ فيه.. صح البيع مطلقًا من غير شرط القطع تبعًا للأرض. وإن كان في الزرع حبٌّ، فإن كان حبًّا ظاهرًا، كالشعير والذرة.. صحّ البيع فيهما، وإن كان غير ظاهر، كالحنطة والدخن، فإن قلنا بقوله القديم: (إن بيع الحنطة في سنبلها مع سنبلها يصح) صح البيع فيهما وإن قلنا بقوله الجديد: (لا يصح بيع الحنطة في سنبلها) .. لم يصح البيع في الأرض والحنطة؛ لأنه يكون بيع مجهول ومعلوم.
[فرعٌ: اشترى أرضًا كان رآها]
إذا اشترى أرضًا غائبة عنه، وكان قد رآها قبل ذلك غير مزروعة، فوجدها مزروعة، أو اشترى نخلا قد رآها قبل الشراء لا طلع عليها، فوجد عليها طلعا(5/248)
مؤبَّرًا.. قال الشافعي: (فللمشتري الخيار فيهما) ؛ لأنه يفوته زرع تلك السنة في الأرض، وتفوته الثمرة في النخل تلك السنة، فيثبت له الخيار، ولأن ملكه يبقى مشغولا بحق غيره، وذلك نقص عليه، فثبت له الرد.
[فرعٌ: اشترى أرضًا مبذورة]
وإن اشترى أرضًا مبذورة، فإن كان البذر مما يبقى أصله في الأرض سنتين وثلاثًا، كبذر الكراث وما أشبهها من البقول.. دخل البذر في بيع الأرض. وهكذا: إذا باعه أرضًا وقد بذرَ فيها نوى أو جوزًا.. دخل البذر في بيع الأرض؛ لأنه بذر فيها للبقاء، لا للنقل والتحويل. وإن كان بذر زرع يؤخذ إذا استحصد، ولا يبقى أصله، كبذر الحنطة والشعير والذرة، فإن أطلق البيع، ولم يشترط دخول البذرة في البيع.. صح البيع في الأرض، ولم يدخل البذر في البيع؛ لأنه مودعٌ في الأرض يراد للنقل والتحويل، فهو كالزرع، وعلى المشتري تبقية هذا البذر في أرضه إلى أن يستحصد، كالزرع. فإن علم المشتري بأن الأرض مبذورة.. فلا خيار له. وإن لم يعلم أنها مبذورة.. ثبت له الخيار؛ لأن في بقائه في أرضه ضررًا عليه، فثبت له الخيار لأجل ذلك. وإن قال البائع: أنا آخذ هذا البذر، وأمكنه ذلك في زمان لا يضر بمنافع الأرض.. لم يكن للمشتري الخيار.
قال في " الأم " [3/39] : (وكذلك: إن رضي البائع بتركه للمشتري.. فلا خيار له) ؛ لأنه زاده خيرًا بالترك، فلزمه قبوله؛ لأن فيه تصحيح العقد.
وإن باعه الأرض مع البذر.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أن البيع في البذر باطل؛ لأنه مجهول.
فعلى هذا: إن قلنا: إن الصفة لا تفرق.. بطل، أو قلنا: تفرق، ويأخذ الأرض بحصتها من الثمن.. بطل البيع في الأرض أيضًا. وإن قلنا: يأخذ الأرض بجميع الثمن.. صحَّ البيع فيها، وثبت له الخيار فيها؛ لتفرق الصفقة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يصح البيع في البذر تبعًا لبيع الأرض. وليس بشيء.(5/249)
[مسألة: باع أصلاً وعليه ثمرته]
] : إذا باع أصلا وعليه ثمرة لبائع.. لم يكلف البائع قطع ثمرته قبل أوان قطعها.
وقال أبو حنيفة: (يجبر على قطعها في الحال) .
دليلنا: أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بملك البائع.. فإنه لا يجب على البائع أن يأخذ ملكه إلا على الوجه الذي جرت العادة بأخذه فيه، كما لو باع منه دارًا له فيها قماشٌ بالليل.. فإنه لا يلزم البائع نقل قماشه إلا بالنهار، وإن كان في المطر.. لم يكلف البائع نقل متاعه حتى يسكن المطر، ولا يلزمه أن ينقله دفعة واحدة، بل على حسب العادة في نقله، ولم تجر العادة بأن الناس يأخذون ثمارهم قبل أوان جذاذها.
إذا ثبت هذا: فإن كان عنبًا.. فإن له أن يبقي ذلك إلى أن ينضج، ويحلو، وتشتد حلاوته. وإن كان تينًا أو تُفاحًا وغيرهما مما يشبههما من الثمار.. فإلى أن ينضج. وإن كان نخلاً.. فإلى أن يُرطبَ، إلا أن يكون نخلاً لا يصير رطبًا، وهو القرش الذي لا يقطع إلا بُسرًا، فإذا اشتدت حلاوته بسرًا.. فعليه أن يأخذه، فإذا بلغ إلى أول حالٍ يؤخذ فيها.. فعليه أن يأخذها. فإن قال البائع: أنا لا آخذها بل أُبقيها؛ لأنه أنفع لها، وأتم لصلاحها.. فليس له ذلك، كما لو باع دارًا وفيها متاعٌ له.. فعليه أن ينقل متاعه عنها، ولو قال: لا أنقله عنها. لأنها أحرز من غيرها.. لم يكن له ذلك، كذلك هاهنا مثله.
[مسألة: انقطاع الماء عن الثمر المؤبر]
] : وإن باع نخلاً، وعليها ثمرةٌ مؤبرة، ولم يشترطها المشتري.. فقد ذكرنا: أن الثمرة للبائع، فإن انقطع الماء، فإن كان تبقية الثمرة على النخل لا تضر بالنخل، أو(5/250)
تضرُّ بها ضررًا يسيرًا.. فللبائع أن يبقي ثمرته على النخل؛ لأنه وجب بإطلاق العقد، ولا ضرر بذلك على النخل. وإن كان تبقية الثمرة تضر بالنخل.. ففيه قولان:
أحدهما: للبائع أن يبقي ثمرته وإن ضر بالنخل؛ لأن ذلك وجب له بإطلاق العقد.
والثاني: يلزمه قطع ثمرته؛ لأنه إنما يملك التبقية إذا لم يضر بنخل المشتري، فإذا كان يضر به.. لم يكن له ذلك. وإن احتاجت الثمرة والنخل إلى السقي.. فلكل واحد منهما أن يسقي، وإن منعه الآخر.. أُجبر الممتنع منهما؛ لأنه لا ضرر على أحدهما بالسقي. وإن كان السقي يضر بالثمرة والنخل.. فليس لأحدهما أن يسقي بغير إذن صاحبه لأنه يضر ولا ينفعه ويضر غيره وإن كان السقي ينفع أحدهما دون الآخر، فإن اتفقا على السقي أو على ترك السقي.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن دعا إلى السقي من له فيه منفعة، وامتنع من عليه ضرر في السقي ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق يفسخ العقد بينهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، ففسخ العقد بينهما.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجبر الممتنع منها؛ لأنهما دخلا في العقد على ذلك، وكل من أراد السقي.. فأجرة السقي عليه؛ لأن منفعته تعود إليه.
فإن اختلفا في قدر السقي، فقال البائع: تسقى في كل عشرة أيام سقية، وقال المشتري: بل في كل عشرين يومًا سقية.. رجع فيها إلى أهل الخبرة بذلك، فما احتيج إليه.. أجبر عليه الآخر إذا قلنا: يجبر.
[فرعٌ: شراء شجرة في أرض]
ذكر الطبري في " العدة ": إذا اشترى شجرة في أرض.. ملك الشجرة، وله تبقيتها في أرضها إلى أن تستقلع، وهل يكون قرارها داخلاً في البيع؟ فيه وجهان:(5/251)
أحدهما: أنه داخل في البيع؛ لأن قوامها به، فجرى مجرى أصل الشجرة.
فعلى هذا: إذا انقلعت هذه الشجرة.. كان له أن يقيم مقامها في قرارها.
والثاني: أنه لا يدخل في البيع؛ لأن اسم الشجرة لا يقع على قرارها.
فعلى هذا: إذا انقلعت الشجرة.. كان قرارها ملكًا للبائع.
[مسألة: بيع الثمر قبل صلاحه]
إذا باع الثمرة على رؤوس الشجر مفردة قبل بدو الصلاح، أو باع زرعًا في أرض قبل بدو الصلاح، فإن شرط في البيع قطع ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: صحّ البيع بلا خلاف؛ لأنهما يأمنان بهذا الشرط من الغرر. وإن شرطا تبقية ذلك.. لم يصح البيع بلا خلاف؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغرر؛ لأنه لا يدري، هل يسلم ذلك، أم لا؟
وإن أطلقا العقد.. لم يصح البيع عندنا، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويأخذ المشتري بقطع ذلك في الحال) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» .(5/252)
وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تزهي؟ قال: " حتى تحمر "، ثم قال: " أرأيت لو منع الله الثمرة.. بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» .
وروى أنس أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» .
وعموم هذا يدل على أنه لا يجوز بشرط القطع ولا بغيره، فقامت الدلالة على جواز البيع بشرط القطع، وهو الإجماع، وبقي الباقي على عموم الخبر، ولأن نقل المبيع إنما يكون على حسب العادة بنقله، بدليل: أنه إذا اشترى متاعا بالليل.. فإنه لا يكلف نقله حتى يصبح، وإذا اشترى طعامًا.. لم يكلف نقله دفعةً واحدةً، بل ينقله شيئًا بعد شيء، وقد جرت العادة أن الثمار لا تنقل إلا بعد بدو الصلاح فيها، وإذا باعه ثمرة أو زرعًا قبل بدو الصلاح فيها من غير شرط القطع.. لم يأمن أن يتلف بعاهة قبل ذلك، وفي ذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح.
[مسألة: بيع الثمار قبل الصلاح من غير شرط القطع]
] : قال الشافعي في " الرسالة ": (وإن باع الثمار مع الأصول قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. صح البيع) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن(5/253)
تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . ولأن الشيء قد لا يجوز بيعه مفردًا، ويجوز بيعه مع غيره على وجه التبع، كما قلنا في الحمل في البطن، واللبن في الضرع، وأساس الحيطان.
[فرعٌ: يتعين القطع قبل بدو الصلاح]
وإن باع الثمرة قبل بدو صلاحها من صاحب النخل من غير شرط القطع، أو باع الزرع قبل بدو صلاحه من صاحب الأرض من غير شرط القطع ـ ويتصور هذا: بأن يبيع الرجل نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة ـ أو باع أرضًا وفيها زرعٌ، ولم يشترط المشتري دخول الثمرة والزرع في البيع.. فقد ذكرنا: أن الثمرة والزرع غير مبيعين، ثم باع البائع ذلك من صاحب النخل والأرض، أو أوصى لرجل بثمرة نخله أو بزرع أرضه، ثم مات، وباع صاحب الثمرة ثمرته من مالك النخل، أو باع مالك الزرع زرعه من مالك الأرض قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه باع الثمرة والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، فلم يصح البيع، كما لو باع ذلك من غير مالك النخل والأرض.
والثاني: يصح البيع؛ لأنهما يحصلان لواحد، فهو كما لو اشتراهما دفعةً واحدةً.
[فرعٌ: استثناء البائع الثمرة لنفسه]
] : وإن باع الرجل نخلاً وعليها طلعٌ غير مؤبر.. فقد ذكرنا: أن الثمرة تكون للمشتري، فإن استثنى البائع الثمرة لنفسه.. فهل يجوز من غير شرط القطع؟ فيه وجهان:(5/254)
أحدهما: لا يصح، وهو ظاهر النص، كما لو ابتدأ شراءها.
فعلى هذا: إذا اشترط التبقية.. بطل البيع.
والثاني: يصح البيع؛ لأن ذلك ليس بابتياع، وإنما هو استبقاء لها على ملكه، فلم يفتقر إلى شرط القطع.
فعلى هذا: إذا شرط التبقية فيها إلى وقت جذاذها.. صحّ البيع؛ لأن هذا من مقتضى العقد.
[فرعٌ: بيع نصف الثمر قبل صلاحه]
لو باع نصف ثمرته قبل بدو الصلاح فيها، أو نصف زرعه قبل بدو الصلاح فيه.. قال ابن الحداد: لم يصح البيع؛ لأنه لا يصح قسمة ذلك. فغلطه بعض أصحابنا في العلة، وقال: ليس العلة: أنه لا تصح قسمة ذلك، ألا ترى أنه لا يصح البيع. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين؛ لأن نصيبه لا يتميز من نصيب شريكه، ولا يجبر شريك على قلع زرعه، وهذا تعليله في كتاب (الصلح) ، بل العلة: أنه لا يصح قطع نصف الثمرة والزرع مشاعًا.
وقال القاضي أبو الطيب: بل الصحيح ما علل به ابن الحداد، وقد نص الشافعي على هذه العلة، فقال: (لو كان بين رجلين زرعٌ، فصالحه أحدهما على نصف الزرع.. لم يجز من قبل أنه لا يجوز أن يقسم الزرع أخضر، لا يجبر شريكه على أن يقطع منه شيئًا) .
قال القاضي: وإذا باعه نصف ثمرة أو نصف زرع قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يصح هذا البيع؛ لأنه لا تصح قسمته، وإذا لم تصح قسمته.. لم يتأت قطع نصفه. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح البيع؛ لأنه يمكن قطعه كأن يقاسمه في الثمرة أو الزرع، فإذا تميز حقه.. قطعه، فإن قلنا:(5/255)
لا تصح قسمة الثمرة، فباعه نصف الثمرة أو نصف الزرع بشرط أن يقطع الجميع.. لم يصح البيع؛ لأن البائع لا يجبر على قطع ما لم يبع، فكان هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
[فرعٌ: في النخلة المشتركة]
وإن كانت نخلة مثمرة بين رجلين، فاشترى أحدهما حق شريكه من جذع النخلة بحقه من الثمرة قبل بدو صلاحها، بشرط أن يقطع جميع الثمرة.. صح البيع؛ لأن المشتري للثمرة يلزمه أن يقطع النصف الذي اشتراه بالشرط، ويلزمه أن يقطع النصف الذي لم يبع بتفريغ الجذع الذي باع، فيجب عليه قطع الجميع بخلاف المسألة قبلها.
[فرعٌ: بيع الثمر بعد صلاحه]
وإذا باع الثمرة أو الزرع بعد بدو الصلاح فيه، فإن باعه بشرط القطع.. صح البيع بالإجماع؛ لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما؛ ولأنه إذا صح بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح.. فبعد بدو الصلاح أولى. وإن باعه مطلقًا.. صح بيعه بالإجماع. وعندنا يلزم البائع تبقيته إلى أوان الجذاذ والحصاد.
وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم المشتري نقله في الحال، كما قال فيمن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة.
وإن باعه بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ.. صح البيع عندنا، وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح) .
دليلنا: أن نقل المبيع لا يجب إلا على ما جرت العادة بنقله، ولم تجر العادة بنقل الثمرة والزرع إلا بعد وقت الجذاذ فيه، فاقتضى الإطلاق ذلك، وكان شرط التبقية بيانًا لما يقتضيه العقد، فلم يمنع صحة البيع له.(5/256)
إذا ثبت: أن المشتري لا يلزمه نقل ثمرته، ولا زرعه إلا وقت الجذاذ فيه، إما بالإطلاق، أو بشرط التبقية.. فحكمه حكم من باع نخلاً وعليها ثمرةٌ مؤبرة، فيلزمه أن يأخذ ذلك في الحال التي يلزم البائع أخذ ثمرته. فإن احتاجت هذه الثمرة أو الزرع إلى سقي.. وجب على البائع أجرة السقي؛ لأنه يجب عليه التسليم في حال الجذاذ والحصاد، وذلك لا يحصل إلا بالسقي، فلزمه ذلك.
[فرعٌ: أخر الجذاذ لما بعد بدو الصلاح]
إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها.. لم يبطل البيع.
وقال أحمد في أصح الروايتين عنه: (يبطل البيع، وتعود الثمرة بزيادتها إلى البائع) .
دليلنا: أن المبيع بحاله، وإنما طرأت عليه زيادة، والزيادة لا تبطل العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلا، فسمن.
وإن باع ثمرة بعد بدو صلاحها وما يحدث بعد ذلك من الثمرة.. لم يصح البيع في الموجودة ولا في المعدومة.
وقال مالك: (يصح في الجميع) .
دليلنا: أن هذا غرر، فلم يصح، كما لو باعه المعدومة منفردة.
[مسألة: بيان بدو الصلاح]
وبدو الصلاح: هو تغير الثمرة باحمرار أو اصفرار إن كانت مما يتغير. وحُكي عن بعض الفقهاء: أنه قال: بدو الصلاح: هو طلوع الثريا؛ لما «روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة) . وقيل لابن عمر: متى تنجو من العاهة؟ فقال: طلوع الثريا»(5/257)
دليلنا: ما «روى أنسٌ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي) . قيل: وما تُزهي؟ قال: تحمر»
وأما قول ابن عمر: فإنما بين بذلك وقت بدو الصلاح.
إذا ثبت هذا: فإن كانت الثمرة رُطَبًا.. فبدو الصلاح فيها أن تصفر أو تحمر؛ وإن كان عنبا أسود.. فبدو صلاحه أن يسود، وإن كان أبيض.. فبأن يتموّه، وهو أن تبدو فيه الحلاوة، ويصفر لونه، وإن كان مما لا يتلون، مثل: التفاح.. فبأن يحلو، ويطيب أكله.
قال الشافعي: (وللخربز ـ وهو البطيخ ـ نضج كنضج الرطب، فإذا رأى ذلك.. حل بيع خربزه) . قال: (والقثاء يؤكل صغارًا طيِّبا، فبدو صلاحه أن يتناهى عظمه أو عظم بعضه) . فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: علَّمنا الشافعي: (أن القثاء يؤكل صغارًا) ، وذلك يدرك بالمشاهدات، وقوله: (إنه طيب) يدل على: أنه كان يحب القثاء.
قال أصحابنا: فالجواب: أن الشافعي لم يرد هذا، وإنما أراد أن يبين بهذا أن كل ثمرة في الدنيا إذا طاب أكلها.. فقد بدا صلاحها، إلا القثاء، فإنه يؤكل صغارًا طيِّبًا، وليس ذلك بدو صلاحه، وإنما يشترط كبره بحيث يوجد في العادة ويؤكل، ويبلغ إلى الحد الذي لو زاد عليه.. لفسد.
والدليل على ما ذكرناه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» .(5/258)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تُزهيَ) . قيل: وما تُزهي؟ قال: "تصفر» . فنص على العنب والرطب والحب، وقسنا على ذلك غيرها من الثمار، فإذا وجد بدو الصلاح في بعض نوع من جنس ولو كان بسرة واحدة أو عنبة واحدة.. جاز بيع جميع ما في ذلك الحائط من ذلك النوع تبعا لما بدا فيه الصلاح منه.
ولأنا لو قلنا: لا يجوز إلا بيع ما بدا فيه الصلاح من ذلك النوع.. لأدى إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهل يجوز بيع ما لم يبدُ فيه الصلاح من نوع آخر من ذلك الجنس في ذلك الحائط معه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن الأنواع من جنس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة، فكذلك في البيع.
والثاني: لا يجوز؛ لأن النوعين يتباعد إدراكهما، بخلاف النوع الواحد، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (إذا كان أحدهما صيفيًّا والآخر شتويًّا.. لا يتبع أحدهما الآخر) . فكذلك هذا مثله. وإن أفرد ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في ذلك الحائط بالبيع من غير شرط القطع.. فهل يصح؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التأبير.
ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في حائط آخر، ولا ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر في ذلك الحائط. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال الليث: (إذا بدا الصلاح في بعض الثمار.. كان بدوًّا للصلاح في جميع الثمار) .
وقال مالك: (إذا بدا الصلاح في جنس.. كان ذلك بدوًّا للصلاح في ذلك الجنس كله في ذلك البلد، فيجوز بيعه) .
دليلنا على الليث: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» . فاعتبر كل واحد بنفسه.(5/259)
وعلى مالك: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وإذا باع ثمرة البستان الذي لم يبد فيه الصلاح.. فقد باع الثمرة قبل بدو صلاحها. ولأنا إنما جعلنا بدو الصلاح في بعض الجنس في حائط صلاحًا لجميع ذلك الجنس في ذلك الحائط؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى لا يوجد في بستانين، فلم يصح.
[مسألة: بيع ما مأكوله نابت في بطن الأرض]
قال الشافعي: (وكل ما ينبت تحت الأرض، ويكون مأكوله تحت الأرض، مثل: الجزر والبصل والسلق والكراث، فلا يجوز بيعه إلا بعد قلعه، وهذا كما قال: كل ما كان مأكوله نابتًا في الأرض، مثل: الجزر والبصل والكرَّاث والثوم والفجل.. يجوز أن يبيع ورقه بشرط القطع، فإن بيع بشرط القطع بعد عشرة أيام.. لم يصح البيع؛ لأنه يحدث هناك زيادة لا تتميز، ولا يجوز بيع ما منه تحت الأرض؛ لأنه لا يجوز بيعه بيع خيار الرؤية؛ لأن بيع خيار الرؤية ما إذا نظر إليه المشتري ولم يرضه.. ردَّه على البائع من غير ضرر، وهاهنا لا يمكنه أن ينظر إليه إلا بعد قلعه، ولا يمكنه ردُّه على البائع كما أخذه، ولا يمكنه أيضًا أن يبيعه بيعًا لا خيار له فيه؛ لأن فيه غررًا، فلم يجز. والفرق بين هذا وبين الجوز واللوز وكل ما كان مأكوله في جوفه: أن كون الجوز واللوز في قشره من مصلحته وحافظًا لمنفعته، فلذلك جاز بيعه فيه، وليس كذلك هذه الأشياء النابتة في الأرض؛ لأن بعد بلوغها الحد الذي توجد فيه لا مصلحة لها في بقائها تحت الأرض؛ ولأن الجوز واللوز إذا رآه المشتري استدل على مأكوله؛ لأنه إذا كان الجوز كبيرًا أبيض.. علم أن مأكوله كثير جيد، وإذا كان(5/260)
صغيرًا.. علم أن مأكوله قليل، وليس رؤية الورق في الجزر وما أشبهه يدل على أصله.
[مسألة: حدوث ثمرة ثانية بعد شراء الأولى]
إذا اشترى ثمرة على الشجرة، ولم يأخذها حتى حدثت ثمرة أخرى ـ قال الشيخ أبو حامد: وهذا يتصور في التين ـ فإن تميزت ثمرة إحداهما عن الأخرى بصغر أو كبر أو لون.. فإن الثمرة الأولى للمشتري، والثانية للبائع. وإن اختلطتا ولم تتميزا، أو لم يتميز بعضها من بعض.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع ينفسخ؛ لأنه قد تعذر القبض المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض.
والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبوله، وإن لم يسمح.. فسخ العقد بينهما؛ لأن المبيع باق، وإنما انضاف إليه ما لا يتميز منه، فلم ينفسخ العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلاً، فسمن. وإن اشترى من رجل طعامًا، فاختلط بطعام للبائع، ولم يتميز، فإن كان بعد قبض الطعام.. لم يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن العقد قد انبرم بالقبض، بل يكون القول قول من الطعام بيده مع يمينه في قدر حق صاحبه منه. وإن كان ذلك قبل أن يقبض المشتري طعامه.. ففيه قولان، كالمسألة قبلها.
وأمّا الثمرة: فلا فرق فيها بين أن يقبضها المشتري، أو لا يقبضها.
وقال المزني: بل تكون الثمرة كالطعام، ففرق فيه بين أن يختلط قبل القبض أو بعده، كما قلنا في الطعام. وهذا غلط، لأن المشتري إذا قبض الطعام.. لم يبق بينه وبين البائع علقة، فإذا اختلط المبيع بغيره.. لم يؤثر في البيع، وليس كذلك الثمرة(5/261)
على الشجر، فإن المشتري وإن قبضها، إلا أن العُلْقَةَ لا تنقطع بينهما؛ لأن على البائع سقيها، ويثبت للمشتري الخيار إذا أصابها العطش، وإذا تلفت.. كانت من ضمان البائع في أحد القولين.
وإن اشترى رجل من آخر شجرة عليها ثمرة للبائع، فلم يأخذ البائع ثمرته حتى حدث فيها حمل ثمرة أخرى، واختلطا، ولم يتميزا.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبولها، وإن لم يسمح.. قيل للمشتري: أتسمح بترك ثمرتك الحادثة للبائع؟ فإن سمح.. أجبر البائع على قبوله، وإن لم يسمح.. فُسخ العقد بينهما.
و [الطريق الثاني] : قال أبو علي بن خيران، وأبو علي الطبري: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال لهما: إن سمح أحدكما بترك حقه.. أقر البيع، وإن لم يسمح واحدٌ منكما.. فسخ البيع؛ لأن المبيع هو الشجر، ولم يختلط بغيره، وإنما اختلطت الثمرة، فلم ينفسخ البيع في الشجرة، كما لو اشترى دارًا وفيها طعامٌ للبائع وطعام للمشتري، فاختلط أحد الطعامين بالآخر.. فإن البيع لا ينفسخ في الدار، فكذلك هذا مثله. والمنصوص للشافعي هي الطريقة الأولى؛ لأن المقصود بالشجرة هو الثمرة، بخلاف الدار.
وإن اشترى جِزَّةً من القصب بشرط القطع، فلم يأخذها المشتري حتى طالت.. فإن الزيادة تكون للبائع، وما الحكم في البيع؟ فيه طريقان:
[أولهما] : من أصحابنا من قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال للبائع:(5/262)
إن سمحت بترك حقك للمشتري.. أُجبر المشتري على قبوله، وأُقر العقد، وإن لم تسمح.. فسخ البيع؛ لأن المبيع لم يختلط بغيره، وإنما زاد، فهو كما لو باعه عبدًا صغيرًا، فكبر.
و [الثاني] : منهم من قال: بلى هي على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر عقد البيع، وإن لم تسمح.. فسخ. وهذه الطريقة أصح؛ لأن زيادة العبد يجبر البائع على تسليمها، وهاهنا لا يجبر.
[مسألة: الشجر يحمل حملين]
وإن كان له شجرة تحمل حملين ـ قال الشيخ أبو حامد: ولا أعلم ذلك إلا التين. وقيل: الموز ـ فباعه أحد الحملين بعد بدو الصلاح فيه، وهو يعلم أن الحمل الثاني يحدث ويختلط بالحمل الأول، ولا يتميز.. فالبيع باطل.
وقال الربيع: فيه قول آخر: أن البيع لا يبطل. ولعله أخذ ذلك ممن باع جزَّةً من الرطبة، فلم يأخذها حتى طالت.. فإنها على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع.
والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر البيع. فأخذه من هذا القول؛ لأنه يعلم أن الرطبة تطول قبل الجز.
والصحيح: أن البيع باطل، قولاً واحدًا؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه؛ لأن العادة في الثمار أنها لا تؤخذ إلا بعد تكامل الصلاح فيها، بخلاف الجزة من الرُّطْبة، فإنها تجز في الحال، ولا تختلط بغيرها.(5/263)
[فرعٌ: بيع الجوز في قشرتيه]
ذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز بيع الجوز واللوز، وعليه قشرته العليا على شجرةٍ ولا على الأرض؛ لأنه لا مصلحة له في بقائه فيها، ويجوز بيعه وهو في قشرته السفلى على شجرة وعلى الأرض؛ لأن بقاءه فيها من مصلحته. وذكر ابن الصباغ: هل يجوز بيعها في قشرتهما العليا إذا كانا أخضرين على الشجر؟ فيه وجهان.
وإن كان يابسين.. لم يجز، وجهًا واحدًا.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز بيعهما في قشرتهما العليا بكل حال) .
دليلنا: أنّ المقصود مستور بما لا يدخر فيه.. فلم يصح بيعه فيه، كما لو باع شاةً مذبوحةً قبل السلخ.
وبالله التوفيق.(5/264)
[باب المصرَّاةِ والردِّ بالعيبِ]
ِ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والتصرية: أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ثم تترك من الحلاب اليومين والثلاث، حتى يجتمع فيها اللبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها لذلك) . و (التصرية) : في اللغة: الجمع، يقال: صرى الماء في الحوض: إذا جمعه، ولهذا سميت: الصُّراة؛ لأنها مجتمع الماء. ويقال: صرى الرجل الماء في صلبه، إذا امتنع من الجماع، قال الشاعر:
رأت غلامًا قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته
ويسمى أيضا: الحفل، وهو مأخوذ من الجمع أيضًا. يقال: فلان احتفل مالا، أي: جمعه، ومنه يقال: المحفل؛ لأنه مجتمع الناس.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى الرجل ناقةً أو شاةً أو بقرةً مصراةً، ولم يعلم أنها مصراة، ثم علم أنها مصراة.. ثبت له الخيار بين الإمساك والرد. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، ومن الفقهاء: مالك، والليث، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وزفر.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس ذلك بعيب، ولا يثبت له الرد لأجله) .
وقال داود: (يثبت له الرد في الناقة والشاة، ولا يثبت له الرد في البقرة) .(5/265)
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردها وصاعًا من تمر» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع محفلة.. فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها.. ردَّ معها مثل أو مثلَيْ لبنها قمحًا» . وهذا لفظ يجمع الناقة والشاة والبقرة.
ولأن التصرية تدليس بما يختلف به الثمن، فثبت لأجلها الرد، كما لو اشترى جارية قد سود شعرها.. فبان أنه كان أشمط.
وإن اتفق أن الشاة لم تحلب يومين أو ثلاثا، فاجتمع في ضرعها لبنٌ من غير قصد(5/266)
إلى التصرية.. فهل يكون ذلك عيبًا يثبت لأجله الرد للمشتري؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
وأما الكلام في زمان الخيار: فقد روي في الخبرين: «أنه بالخيار ثلاثة أيام» . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: إنما قدر خيار التصرية بالثلاث؛ لأنه لا يمكن معرفة التصرية بما دون الثلاث؛ لأنه إذا حلبها في اليوم الأول.. يجد لبنها كثيرًا، فيظن أنه لبن عادة، ويجوز أن يكون لأجل التصرية، فإذا حلبها في اليوم الثاني، فكان أنقص.. يجوز أن يكون هذا لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لاختلاف الأيدي والمكان والعلف، فإن اللبن يختلف لأجل ذلك، فإذا حلبها في اليوم الثالث.. زالت الريبة؛ لأنه إن كان لبنها مثل اللبن في اليوم الأول.. علم أن نقصانه في اليوم الثاني إنما كان لاختلاف اليد أو المكان أو العلف، وأنه لم يكن لعيب التصرية، وإن كان لبنها مثل لبن اليوم الثاني.. علم أن النقصان في الثاني والثالث لأجل التصرية، فإذا مضت الثلاث.. استبانت التصرية، وثبت له الخيار على الفور. فأبو إسحاق يحيل معرفة التصرية والاطلاع عليها من جهة التجربة قبل الثلاث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: الثلاث المذكورة في الخبر إنما يثبت له الخيار فيها بالشرط، فمتى شرط خيار الثلاث في البيع، فوجدها مصراة.. ثبت له الخيار في الثلاث، أي وقت شاء منها؛ للخبر. وأما إذا لم يشترط خيار الثلاث، وعلم أنها مصراة.. ثبت له الخيار على الفور؛ لأنه خيار ثبت لنقص، فكان على الفور، كسائر العيوب. فهذا القائل لا يحيل اطلاعه على عيب التصرية قبل الثلاث.
وقال القاضي أبو حامدٍ: إذا علم أنها مصراة قبل الثلاث.. فله الخيار إلى تمام الثلاث؛ لظاهر الخبر. وقد نص الشافعي على هذا في " اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ".(5/267)
وإن اشترى مصرَّاة مع العلم أنها مصراة، بأن أعلمه البائع.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن البائع أطلعه على العيب، فلم يثبت له الخيار، كما لو باعه سلعة معيبة وأعلمه بعيبها.
والثاني: يثبت له الخيار؛ لأن العيب لا يتحققه؛ لأنه يجوز أن يكون انتفاخ الضرع وازدياد اللبن لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لا لأجل التصرية، وإنما الزيادة من قبل العلف، ولعله يدوم ولا يتبين له ذلك إلا فيما بعد، فيثبت له الخيار.
قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من رجل تزوج امرأةً، فوجدته عِنِّينًا، ففسخت النكاح، ثم تزوج بها ثانيًا فوجدته عنِّينًا، فهل يجوز لها فسخ النكاح لأجل العنة؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا خيار لها؛ لأنها قد تزوجته مع العلم بعنته) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لها الخيار؛ لأنه قد يكون عنينا في نكاح دون نكاح) . فكان لها الخيار؛ لأنها لم تتحقق عنته في النكاح الثاني.
وإن وجدها مصراة، فدام ذلك اللبن، ولم ينقص.. فهل له الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأن التدليس كان موجودًا حال العقد، فثبت له الخيار، ولم يسقط بعد ذلك بغير رضاه.
والثاني: لا خيار له؛ لأن الخيار إنما يثبت للنقصان، ولا نقص عليه مع دوام اللبن.
قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين في الأمة، إذا أعتقت وهي تحت عبد، فقبل أن يفسخ النكاح أعتق العبد:
أحدهما: يثبت لها الخيار اعتبارًا بالابتداء.
والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا نقص عليها في الانتهاء.(5/268)
[مسألة: ما يلزم مع الردّ]
إذا اختار المشتري ردّ المصراة.. لزمه رد بدل اللبن؛ لأن العقد وقع عليه؛ لأنه كان موجودًا حال العقد، ولأنه لا يمكن رد اللبن؛ لأن بعضه كان موجودًا حال العقد وبعضه حدث، ولا يمكن تمييز أحدهما من الآخر، فقدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدله؛ لقطع المنازعة والخصومة في ذلك.
وقد اختلفت الرواية في ذلك:
فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردَّها وصاعًا من تمر لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردَّها وصاعًا من طعام لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردّها وصاعًا من طعام» .(5/269)
وفي رواية ابن عمر: «ردَّها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا» . واختلف أصحابنا في ترتيب هذه الأخبار.
فقال أبو إسحاق: الأصل هو التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، فإن أعطى دونه من دخن أو ذرة.. لم يقبل منه. فحيث روى أبو هريرة: " صاعًا من تمر " هو الأصل. وقوله: " لا سمراء " أي: لا يكلف تسليم السمراء، وهي الحنطة. وحيث روي: " صاعًا من طعام سمراء " أي: إذا سمحت نفسه به. وحيث روى: " صاعًا من طعام " أراد به: التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز. وحيث روى ابن عمر: " مثل لبنها " إذا كان كيله صاعًا. وحيث روى: "مثلي" إذا كان لبنها نصف صاع. وقوله: "قمحًا" إذا كان قيمة ذلك من القمح أكثر من قيمة صاع تمر، فتطوع به.
وقال أبو العباس: إنما أراد صاعًا من غالب قوت البلد، فنص على التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، ونص على البر؛ لأنه غالب قوت بلاد أخرى، فيجب أن يرد في كل بلد من غالب قوتها، كما قلنا في زكاة الفطر. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : هل يتقدر ذلك بالصاع، أو يختلف بقلة اللبن وكثرته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتقدر بالصاع؛ للخبر.
والثاني: يتوزع التمر على اللبن بالقيمة.
وقال ابن أبي ليلى: يجب رد قيمة اللبن.
دليلنا عليه: الأخبار التي تقدم ذكرها.
[فرع: في تساوي قيمة الصاع والشاة]
] : إذا قلنا: يجب رد التمر، وكان في بلد قيمة صاع تمر مثل قيمة الشاة أو أكثر.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا أوجب عليه صاعًا من تمر إلا إذا كانت قيمة(5/270)
الصاع من التمر أقل من نصف قيمة الشاة، فأما إذا كانت قيمة صاع تمر مثل نصف قيمة الشاة أو أكثر.. فلا أُوجب عليه صاعًا من تمر، ولكن أوجب عليه قيمة صاع تمر بالحجاز؛ لأنه هو الأصل، كما لو كان لرجل على آخر صاع تمر بالحجاز، ثم طالبه به ببلد آخر يعز فيه التمر.. فإنه لا يلزمه دفع صاع تمر، ولكن يلزمه قيمته بالحجاز، ولأنا لو أوجبنا له صاع تمر.. أدى إلى أن تجتمع له الشاة وقيمتها، وذلك جمع بين البدل والمبدل.
والثاني: يجب عليه صاع تمر؛ لأن ذلك ليس ببدل عن الشاة، وإنما هو بدل عن اللبن، كما لو غصب عبدًا وخصاه.. فإنه يلزمه رد العبد ورد قيمته.
وإن كان ما حلب من اللبن باقيًا، وأراد المشتري رده دون بدله.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": ليس له ذلك؛ لأنه صار بالحلب ناقصًا؛ لأنه تسرع إليه الحموضة.
والثاني: له ردُّه؛ لأن هذا النقص كان لاستعلام العيب، فلا يمنع الرد.
[فرع: ظهور عيب مع التصرية]
إذا اشترى ناقة أو شاةً أبو بقرة مصراة، فرضيها بعيب التصرية، ثم وجد بها عيبًا غير التصرية.. فله ردُّها؛ لأجله، ويلزمه أن يرد معها صاعًا بدل لبن التصرية؛(5/271)
لأنه كان موجودًا في الضرع يوم البيع. وإن اشتراها وهي غير مصراةٍ، ثم وجد بها عيبًا، فإن كانت حين الشراء محلوبة لا لبن فيها.. كان له ردُّها؛ لأن ما حدث من اللبن في ملكه، لم يدخل في البيع، فلا يمنعه إتلافه من ردها. وإن كان فيها لبن حين الشراء، وقد أتلفه.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص للشافعي في القديم ـ: (أنه يردها؛ لأجل العيب، ولا يرد بدل اللبن) . وفرق الشافعي بين هذه وبين المصراة: أن لبن المصراة قد تحقق وجوده حال العقد، فيتناوله العقد، ويقسط عليه الثمن، وغير المصراة لا يتحقق وجوده حال العقد. ومن أصحابنا من فرق بينهما بفرق آخر: وهو أن لبن المصراة مقصود بالابتياع، وقابله قسط من الثمن، فوجب رد بدله، ولبن غير المصراة يسير غير مقصود، فلم يتقسط عليه الثمن، ولم يجب عليه رد بدله.
والوجه الثاني: أنه لا يرد بالعيب، وهو اختيار عامة أصحابنا؛ لأنه قد أتلف بعض المبيع، فلم يثبت له الرد، وتأولوا النص عليه إذا باعها وهي محلوبة لا لبن فيها وقت العقد.
فإذا قلنا بهذا: وكان ما حلب من اللبن باقيا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يردها، ويرد اللبن؛ لأن المبيعين موجودان.
والثاني: لا يثبت له الرد، إلا أن يرضى البائع؛ لأن اللبن قد نقص بالحلب، ونقص المبيع في يد المشتري يمنع من الرد، ويثبت له الأرش.(5/272)
[مسألة: شراء جارية مصراة]
وإن اشترى جارية، فوجدها مصراة.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن التصرية فيها ليس بعيب.. فلا ترد الجارية لأجله؛ لأن لبن الآدميات غير مقصود.
فإذا قلنا بهذا: فهل يرجع على البائع بالأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنا قد قلنا: إن التصرية في الآدميات ليس بعيب.
والثاني: يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن رد الجارية من غير رد بدل لبنها؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها، ولا يمكن ردها مع بدل لبنها؛ لأنه ليس للبنها عوض مقصود، ولا يمكن إجبار المشتري على إمساكها بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا في مقابلهما، فثبت له الرجوع بالأرش.
والوجه الثاني: أن التصرية في الجواري عيب، وهو الصحيح؛ لأنه قد يرغب في لبنها لتكون داية، ولأن الجارية إذا كان في ضرعها لبن.. كان ثديها قائمًا، فيكون أحسن منه إذا كان لا لبن فيه؛ لأنه يكون مسترسلا، وذلك قبيح.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يردها: وهل يرد بدل اللبن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة.
والثاني: لا يرد معها شيئًا؛ لأن لبن الجواري غير مقصود في الأعواض.
[مسألة: شراء أتان مصراة]
وإن اشترى أتانًا، فوجدها مصرَّاة.. ثبت له الرد لأجله؛ لأن لبنها يقصد لتربية الجحش؛ لأنه إذا كان لبنها غزيرًا.. كان جحشها سمينًا، وإذا كان غير غزير.. كان(5/273)
جحشها غير سمين، وهل يرد بدل اللبن؟ إن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن لبنها طاهر.. لزمه أن يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة. وإن قلنا بقول الشافعي، وعامّة أصحابنا.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يرد شيئًا، ولا يأخذ شيئًا؛ لأنه لا قيمة للبنها، فلم يلزمه رد بدله، كما لو عرقت الأتان في يده، ثم وجد بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد بدل العرق.
والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه لا يردها، ويرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن ردُّها مع بدل اللبن؛ لأنه لا قيمة له، ولا يمكن ردُّها من غير بدل اللبن؛ لأن فيه إسقاط حق البائع من اللبن، ولا يمكن أن يمسكها المشتري بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان واللبن، فلم يبق إلا الرجوع بالأرش. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لمَّا لم يجز أن يقوم هذا اللبن للبائع.. لم يجز أن يقوم عليه.
[مسألة: رؤية شعر الجارية لصحة البيع]
] : وإذا اشترى جارية.. فإن الشراء لا يصح حتى يرى شعرها؛ لأن الشعر مقصود، ويختلف الثمن باختلافه، فإذا اشتراها، ونظر إلى شعرها، فوجده شعرًا جَعْدًا أسود، ثم بان بعد ذلك أنها سبطة، أو بان أنّ شعرها أبيض أو أحمر، وأن شعرها قد كان جعدًا واسْودّ.. ثبت للمشتري الخيار.
وقال أبو حنيفة: (لا خيار له في ذلك) .
دليلنا: أن هذا تدليس من جهة البائع يختلف به الثمن، ألا ترى أن النساء يسودن شعورهن ويجعدنه ليكتسبن به الجمال والزينة؟ وكذلك إذا اشتراها ووجهها أحمر أو(5/274)
أبيض، ثم بان سواد وجهها أو صفرته، وأن البياض أو الحمرة التي كانت فيه، إنما كان فيها بعلاج من البائع.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. وإن اشترى جارية سبطة الشعر، ثم بان أنها كانت جعدة، وإنما سبط بعلاج، إن أمكن.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمنًا.
والثاني: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في السبطة. وليس بشيء.
[فرع: ظن بهيمة منتفخة البطن حاملاً]
لو أرسل على بهيمة الزنابير، فلسعتها حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. فإن علف بهيمته حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] .
أحدهما: يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كما لو أرسل عليها الزنابير.
والثاني: لا خيار له؛ لأن امتلاء البطن إلى الله تعالى، ولأن علف البهيمة واجبٌ عليه.
وإن باعه غلامًا، وعلى الغلام ثوب في أثر حبر أو مدادٍ، فظنه المشتري كاتبًا، وكان غير كاتب.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] :
أحدهما: للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية.(5/275)
والثاني: لا خيار له. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يحتمل أن يكون استعاره له، ولا يتعين عليه أن يلبسه ثوبًا لا أثر عليه.
[فرع: اختلاف باطن الصبرة عن ظاهرها]
وإن اشترى صبرة، فبان أنها على صخرة، أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن.
[مسألة: وجوب إعلام المشتري بالعيب]
ومن ملك عينا، وعلم بها عيبًا، وأراد بيعها.. وجب عليه أن يعلمه بعيبها، فإن لم يفعل.. أثم بذلك؛ لما روى عقبة بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا، يعلم به عيبًا، إلا بيَّنه له» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غشّنا.. فليس منَّا» .(5/276)
قال الصيمري: وله ثلاث تأويلات: قيل: ليس بتبع لنا. وقيل: ليس على عادتنا. وقيل: ليس على أخلاقنا.
وإن علم بالعيب غير البائع.. وجب عليه أن يبين ذلك للمشتري؛ لما «روى أبو سباع، قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع، فأدركني، فقال: أبينوا لك ما بها؟ فقلت: إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها لحمًا، أم أردت بها سَفَرًا؟ فقلت: أردت عليها الحج، فقال: إن برجلها نقبًا، أو قال: بخفِّها ثقبًا، فقال صاحبها: أصلحك الله، لم أفسدت عليّ؟ فقال له واثلة: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحل لمسلم أن يبيع شيئًا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه» .
فإن باع ولم يبين العيب.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها،(5/277)
وإن سخطها.. ردّها وصاعًا من تمر» . ففي هذا الخبر خمسة أدلة:
أحدها: أن التدليس محرم؛ لأنه نهى عن التصرية، وهي تدليس.
والثاني: أن التصرية عيب.
والثالث: أن بيع المعيب جائز.
والرابع: أن الرد بالعيب جائز.
والخامس: أنه يجب رد بدل لبن المصراة.
[مسألة: خيار العيب]
] : إذا اشترى معيبًا، ولم يعلم بعيبه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يرضى به معيبًا، ويقر البيع، وبين أن يرده لأجل العيب؛ لما ذكرناه في خبر المصراة.
وإن اشترى شيئًا ولا عيب فيه، ثم حدث به عيبٌ بعد الشراء.. نظرت:
فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. ثبت له الرد؛ لأجل ذلك العيب، ولأن المبيع مضمون في يد البائع عليه بالثمن، فكان العيب الحادث فيه في هذا الحال كالعيب الموجود حال العقد.
وإن حدث العيب في يد المشتري.. نظرت:
فإن لم يستند حدوثه إلى سبب قبل القبض.. لم يكن له الرد، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا في الجذام والبرص والجنون، فإن ذلك إذا ظهر إلى سنة.. ثبت له الخيار) .
وقال قتادة: إذا قبض المشتري المبيع، ثم ظهر به عيب في يده في مدة الثلاث.. ثبت له الرد في جميع المبيعات.(5/278)
دليلنا: أن هذا عيب ظهر في يد المشتري يجوز أن يكون حادثا بعد القبض، فلم يثبت لأجله الخيار، كما لو ظهر ذلك بعد الثلاث والسنة.
وإن استند حدوثه إلى سبب قبل القبض، بأن كان عبدًا، فسرق في يد البائع، أو قطع يدًا، فقطعت يده في يد المشتري.. ففيه وجهان:
قال أبو إسحاق: يثبت للمشتري الرد؛ لأنه قطع في يده بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو قطع في يد البائع.
وقال ابن أبي هريرة: لا يثبت له الرد؛ لأن القطع وجد في يد المشتري، فهو كما لو لم يستند إلى سبب قبل القبض.
[مسألة: نوع العيب الذي يرد المبيع لأجله]
] : والعيوب التي يرد المبيع لأجلها: كل صفة نقصت بها العين وإن زادت بها القيمة، فإنها عيب، كالخصاء في العبد؛ لأن العقد يقتضي السلامة في الأعضاء. وكل صفة نقصت بها القيمة وإن لم تنقص العين، كالإباق والسرقة في العبد، فإنها عيب. وكذلك كل صفة نقَّصت العين والقيمة، كالعمى والعرج، فإنها عيب. فإن خفي شيء من ذلك.. رُجع إلى أهل الخبرة بذلك الشيء. فإن اشترى عبدًا، فوجده أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذومًا أو أبرص أو مجنونًا أو مريضًا أو مقطوع اليد أو الرجل.. ثبت له الرد؛ لأن هذه عاهات يقتضي العقد السلامة منها.
[فرع: هل الزنى عيب في العبد]
وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما قد كان زنى في يد البائع.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تفسد عليه فراشه، وليس بعيب في العبد) .
دليلنا: أن الزنا في العبد ينقص قيمته؛ لأنه ربما زنى في يد المشتري، فأُقيم عليه الحد، وربما أدى ذلك إلى تعطيل منافعه، أو إلى تلفه، فكان عيبًا فيه، كالسرقة.(5/279)
وإن اشترى عبدًا، فوجده مخنثًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته؛ لأنه يقام عليه الحد، وربما كان تلفه بذلك.
قال الصيمري: فإن وجده عنينا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته.
[فرع: ثبوت الرد ببعض العيوب في العبد]
وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما أبخر.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تؤذيه في الفراش، وليس بعيب في العبد) .
دليلنا: أنه قد يحتاج إلى مسارة العبد أو إلى خدمته لصب الماء على يده، وذلك يؤذيه، كما تؤذيه الجارية في الفراش، فكان عيبًا فيه، إن اشترى عبدًا، فوجده غير مختون؛ فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأنه لا يخاف عليه منه، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص من قيمته؛ لأنه يخاف عليه منه. وإن اشترى جارية، فوجدها غير مختونة.. لم يثبت له الرد، صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن ختانها سليم، لا يخاف عليها منه. وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجده يبول في الفراش، فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأن بول الصغير معتاد، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (ترد الجارية دون الغلام؛ لأنها تفسد عليه فراشه) .
دليلنا: أن الغلام يفسد ثيابه أيضًا، ولأن ذلك لعلة في المثانة.(5/280)
وإن اشترى جارية، فوجد رائحة فرجها كريهة.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمتها.
[فرع: تباعد حيض الجارية يثبت الخيار]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (وإن اشترى جارية، فتباعد حيضها.. ثبت له الخيار) .
قال ابن الصبّاغ: أراد: إذا كان ذلك لعلو السن، فيكون غالب الظن الإياس فيه. وقدره القاضي حسين، فقال: إن كانت دون عشرين سنة.. فعدم الحيض ليس بعيب. وإن كان بعد ذلك.. فهو عيب بها.
[فرع: ترك الصلاة عيب]
وإن اشترى عبدًا، أو أمةً، فبان أنه يترك الصلاة.. فذكر الصيمري، وصاحب " الحاوي ": أن ذلك عيبٌ؛ لأن ذلك ينقص القيمة؛ لأن ترك الصلاة يوجب القتل.
قال الشاشي: وكذلك شرب الخمر، وقذف المحصنات، والكذب، والنميمة.. عيبٌ؛ لأنه ينقص من القيمة.
[فرع: عيب الخنثى يرد به]
ذكر القاضي في (الخناثى) : إذا اشترى عبدًا، فبان أنه خنثى قد زال إشكاله، وأنه رجل، فإن كان يبول بالفرجين.. فهو عيب؛ لأن ذلك لاسترخاء في المثانة، وهو عيب. وإن كان يبول من فرج الرجال لا غير.. فلا خيار للمشتري؛ لأن هذه خلقة زائدة لا تنقص العين ولا المنفعة ولا القيمة.
ولو اشترى جارية، فبان أنها خنثى قد زال إشكالها، وأنها امرأة.. ثبت للمشتري(5/281)
الخيار، سواء بالت من الفرجين أو من فرج النساء؛ لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأن النفس تعاف من مباشرتها. وإن اشترى عبدًا، أو أمة، فبان أنه خنثى لم يزل إشكاله.. ثبت له الخيار؛ لأنه ربما بان بخلاف ما عقد عليه البيع.
[فرع: عيوب يأباها العقد]
قال الصميري: ولو اشترى عبدًا، فوجده أبله ـ لأنه من حيائه كالأبله أو الغافل، فشبه به مجازًا ـ أو به بهقٌ، أو قروح، أو ثآليل كثيرة، أو حمى كبد، أو نفور الطحال.. فكل ذلك عيوب؛ لأن ذلك عاهات يقتضي العقد السلامة منها.
[فرع: كون العبد ولد زنا]
] : وإن اشترى عبدًا، أو جارية، فوجده ولد زنا.. لم يثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (إن كان جارية.. ثبت له الرد، وإن كان عبدًا.. فلا رد له) .
دليلنا: أن ما لم يكن عيبًا في العبد.. لم يكن عيبًا في الجارية، كالسن؛ ولأن الأنساب غير معتبرة في المماليك، فلم يكن عيبًا.
وإن اشترى جارية، فوجدها مغنية.. لم يكن ذلك عيبًا.(5/282)
وقال مالك: (يكون ذلك عيبًا) .
دليلنا: أن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، بل يزيد في قيمتها، فلم يكن ذلك عيبًا.
وإن اشترى جارية، فوجدها مسنة، أو ثيِّبًا.. فليس له الرد؛ لأن ذلك ليس بنقص، وإنما هو عدم فضيلة. وإن اشترى مملوكًا، فوجده وثنيًّا، أو مرتدًّا.. ثبت له الرّد؛ لأنه لا يقر على دينه، ويجب قتله لذلك.
وإن وجده يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا.. لم يثبت له الرد.
وقال أبو حنيفة: (يثبت له الرد) .
دليلنا: أنه مقر على دينه، والإسلام عدم فضيلة، فلم يوجب عدمه الرد، كما لو وجد الجارية ثيِّبًا، أو مسنة.
[فرع: زواج الأمة والعبد]
وإن اشترى أمة، فوجدها مزوَّجة، أو عبدًا، فوجد له زوجة.. ففيه وجهان: قال ابن الصباغ: يثبت له الرد، وهو قول مالك؛ لأن ذلك ينقص منفعتها، فإنه لا يملك وطء الأمة المزوجة، ولأن كسب العبد مستحق لنفقة زوجته وصداقها، والعقد يقتضي السلامة من ذلك.
وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": لا يثبت له الرد؛ لأن عدم الاستمتاع لا يثبت له الرد، كما لو وجد الجارية صائمة، أو محرمة.
[فرع: حرمة الجارية لرحم أو رضاع]
قال ابن الحدّاد: إذا اشترى جارية، فوجدها أخته من الرضاع أو النسب، أو عمته، أو خالته، أو بنت امرأة دخل بها، أو غير ذلك من المحرمات عليه.. لم يثبت له الرد؛ لأن هذا التحريم يخصه، ولا ينقص من عينها، ولا من قيمتها. وإن اشترى أمة، فوجدها معتدة من طلاق أو وفاة، أو محرمة بالحج أو العمرة.. ثبت له الرد؛(5/283)
لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأنها محرمة الوطء على كل أحد. وإن وجدها صائمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي.
ولو اشترى رجل من رجل جارية لها دون الحولين، فأرضعها المشتري من أم البائع، أو ابنته خمس رضعات متفرقات، ثم وجد بها عيبًا.. كان له ردُّها بالعيب، ولا يكون تحريمها على البائع مانعًا من ردِّها عليه، كما أن تحريمها على المشتري ليس بعيب؛ لأن ذلك يخصه.
وكذلك: لو باعها من أخته، أو أمه أو ابنته، فأرضعتها، ثم وجدت بها عيبًا، فردتها، أو باعها من ابنه أو أبيه، فوطئها، ثم وجد بها عيبًا.. كان لهم الرد عليه، ولا يكون تحريمها عليه مانعًا من الرد عليه؛ لما ذكرناه.
وكذلك: لو كان له أمةٌ صغيرة، فأرضعتها أمه أو ابنته خمس رضعات متفرقات.. حرم عليه وطؤها، ولا يجب على المرضعة قيمتها له؛ لأن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها في السوق، بخلاف ما لو أرضعت زوجته الصغيرة؛ لأن ذلك يبطل النكاح، وهاهنا لا يبطل ملكه عليها.
[فرع: خيار الغبن]
إذا تبايع رجلان، فغبن أحدهما صاحبه.. فليس للمغبون خيار، سواء غبن بقليل أو بكثير، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو يوسف: (إن كان الغبن بثلث قيمة المبيع، أو دون ذلك.. فلا خيار له، وإن كان الغبن بأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار) .
وقال أحمد: (إن كان المغبون مسترسلاً غير عارف بالمبيع، ولا هو ممن لو توقف لعرفه، فغبن.. ثبت له الخيار) .(5/284)
وقال أبو ثور: (إذا غبنه بما لا يتغابن الناس بمثله.. فالبيع باطل) .
دليلنا: ما روي: أن «حبان بن منقذ أصابته آمَّةٌ في رأسه، فثقل لسانه، فكان لا يزال يُخْدَعُ في البيع، فأتى أهلُهُ إلى النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إنه يبتاع ويُغبَن، فاحجُر عليه، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت غير تاركه، فمن بايعته.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا» . فلو كان الغبن يُثبِتُ الخيارَ.. لأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفسخ من غير خيار، بل أمره بشرط الثلاث.
ولأن نقصان قيمة السلعة مع سلامة عينها ومنفعتها، لا يمنع لزوم العقد، كما لو غُبِن بالثلث، وكما لو لم يكن مسترسلاً.
[فرع: الرقيق المأذون له بالتجارة]
] : وإن اشترى عبدًا، فوجده مأذونًا له في التجارة، وقد ركبته الديون.. لم يثبت له الخيار.
وقال مالك: (يثبت له الخيار) .
وقال أبو حنيفة: (يبطل البيع) .
دليلنا: أن ثبوت الدين في ذمة العبد لا ينقص على المشتري فيه، فلم يثبت له الخيار، ولم يبطل البيع لأجله.
[مسألة: رد المبيع المعيب]
إذا وجد المشتري بالمبيع عيبًا كان موجودًا به في يد البائع، فإن كان المبيعُ باقيًّا على جهته.. فله أن يرده. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال أحمد: (له أن يمسكه ويطالب بالأرش) .
دليلنا: حديث المصراة، ولما روي عن عائشة: «أن رجلاً اشترى من رجل غلامًا، فاستغله، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برده،(5/285)
فقال: إنه قد استغل غلامي، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "الخراج بالضمان» .
ولأن المبتاع دخل في العقد على أن يكون المبيع سليمًا، فإذا كان معيبًا.. لم يسلم له ما أراد، فكان له فسخ العقد.
فإن علم بالعيب، فصرح بالرضا به، أو تصرف فيه بالبيع، أو بالهبة، أو ما أشبه ذلك، أعرضه لذلك، أو ركب الدابة لغير الرد، أو استخدم العبد، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن التصرف بالمبيع، أو تعريضه لذلك يدل على الرضا به؛ ولأن الرد على الفور، وقد أمكنه ذلك، فسقط حقه.
قال أبو العباس ابن سريج: فإن ركب الدابة ليردها، أو علفها، أو سقاها في الطريق.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك لا يدل على الرضا بالمبيع.(5/286)
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إن كانت بهيمة وبها لبن، فحلبها في طريق الرد.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك حق له إلى أن يرده.
فإن كان على الدابة إكاف، ولم ينزع الإكاف عندما علم بالعيب.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\238] : بطل خياره؛ لأن ذلك استدامة للاستعمال.
فلو لم ينزع العذار والنعل عن الدابة.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن الدابة لا يمكنه سوقها إلا بالعذار، وقلع النعل عن الدابة يحدث بها عيبًا. فإن أنعل الدابة وعلم بالعيب، وقلع النعل.. قال الصيدلاني: يسقط حقه من الرد؛ لأنه يضر بها.
[فرع: يفسخ عقد البيع بالعيب]
وللمشتري أن يفسخ العقد بالعيب من غير حكم الحاكم، ولا رضا البائع، ولا حضوره، سواءٌ كان ذلك قبل القبض أو بعده.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل القبض.. افتقر الفسخ إلى حضور البائع، ولا يفتقر إلى رضاه. وإن كان بعد القبض.. لم يصح الفسخ إلا بحكم الحاكم، أو برضا البائع) .
دليلنا: أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا شخص، فلم يفتقر إلى حضوره، كالطلاق، وفيه احترازٌ من الإقالة. وعلى الفصل الثاني؛ لأنه فسخ بيع بعيب، فلم(5/287)
يفتقر إلى الحاكم، ولا إلى رضا البائع، كما لو كان قبل القبض. فقولنا: (فسخ بيع) احترازٌ من فسخ النكاح بالعيب.
وقولنا: (بعيب) احترازٌ من الإقالة، فإنها تفتقر إلى رضاهما.
وإن اشترى ثوبًا بجارية، فوجد بالثوب عيبًا، فوطئ الجارية.. ففيه وجهان:
أحدُهما: ينفسخ البيع، كما لو وطئها في مدة الخيار.
والثاني: لا ينفسخ؛ لأن الملك قد استقر للمشتري، فلا يجوز فسخه إلا بالقبول، فإن زال العيب قبل أن يرد.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، فأعتق العبد قبل أن يفسخ النكاح، وقد مضى ذكرهما في المصراة.
[فرع: طلب البائع أن يمسك المشتري المعيب بأرش]
فإن قال البائع للمشتري: أمسك المبيع، وأنا أعطيك أرش العيب.. لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له مبيع سليم. وإن طلب المشتري الأرش من البائع ليمسك المبيع.. لم يجبر البائع على دفعه؛ لأنه لم يرض بتسليم المبيع إلا بجميع الثمن. وإن تراضيا على ذلك.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي حنيفة، ومالك ـ: (إن ذلك يصح) ؛ لأنه خيار سقط إلى المال، وهو إذا حدث عند المشتري عيبٌ آخر، أو كان عبدًا، فأعتقه.. فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي، كخيار القصاص.
فقولنا: (خيار سقط إلى المال) احتراز من خيار المجلس، وخيار الثلاث.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه خيار فسخ، فلم يسقط إلى المال، كخيار المجلس، وخيار الشرط.(5/288)
فقولنا: (خيار فسخ) احتراز من خيار القصاص.
فإذا قلنا بقول أبي العباس.. سقط الرد، ولزم البائع تسليم الأرش.
وإن قلنا بالمنصوص.. فهل يسقط خيار المشتري من الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأن رضاه بأخذ العوض.. رضًا منه بإمساك المبيع مع العيب.
والثاني: لا يسقط، وهو الصحيح؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه بعوض، ولم يسلم له العوض، فلم يسقط حقه.
[مسألة: بيع أرض فيها أحجار]
] : قال الشافعي: (وإن كان في الأرض حجارة مستودعة.. فعلى البائع نقلها، وتسوية الأرض على حالها، ولا يتركها حفرًا) .
وجملة ذلك: أنه إذا باعه أرضًا، وفيها أحجارٌ:
فإن كانت الأحجار مخلوقة في الأرض.. دخلت في البيع؛ لأنها من أجزاء الأرض.
فإن كانت غير مضرة بالأرض بأن لا يصل إليها عروق الزرع والشجر.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك ليس بعيب. وإن كانت تضر بالأرض بأن تمنع عروق الزرع أو الشجر، فإن كان المشتري عالِمًا بالأحجار.. لم يكن له الخيار؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم بها.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك عيب.
وإن كانت الأحجار مبنية في الأرض مثل طي الآبار، وأساس الحيطان.. فإنها(5/289)
تدخل في بيع الأرض، كأصول الشجر، وحكمها حكم المخلوقة في الخيار إذا كانت مبنية.
وإن كانت الأحجار مستودعة في الأرض.. فإنها لا تدخل في بيع الأرض، كما لو باعه أرضًا وله فيها كنز ذهب أو فضة، أو باعه دارًا وفيها قماش.
إذا ثبت: أنها لا تدخل في البيع.. فإن الأحجار للبائع.
فإن كانت الأرض بيضاء لا غراس فيها ولا زرع، فإن كان المشتري عالمًا بالأحجار.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواءٌ كان قلعها يضر بالمشتري أو لا يضر به، فلا خيار للمشتري بكل حال؛ لأنه رضي بذلك، وللمشتري أن يطالبه بقلعها إن كانت تضر بأرضه؛ لأنه لا عرف في تبقيتها، ولا حد له، بخلاف الزرع، ولا أجرة للمشتري لأرضه مدة نقل البائع لأحجاره؛ لأنه علم بذلك، فهو كما لو اشترى دارًا فيها قماش للبائع، فنقل البائع قماشه في زمان طويل. وإن كان المشتري غير عالمٍ بالأحجار، أو عالمًا بها غير عالم بضررها.. لم تخل الأحجار من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بها.
أو يكون بقاؤها يضر الأرض، وقلعها يضر بها.
أو يكون بقاؤها لا يضر بالأرض، وقلعها يضر بها.
[الحالة الأولى] : فإن كان بقاؤها يضر بالأرض، بأن تمنع الأحجار عروق الزرع والشجر، ولكن لا يضر قلعها بالأرض، بأن يمكن قلع الأحجار في مدة لا تتعطل فيها منفعة الأرض، كساعة وما أشبهها، وقال البائع: أنا أقلعها.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن العيب يزول عن المشتري من غير ضرر عليه، كما لو اكترى دارًا، فانسدت بالوعتها، فقال المؤجر: أنا أفتحها الآن، وكما لو اشترى من رجل عبدًا، فغصب قبل القبض، والبائع يقدر على انتزاعه في الحال.. فإنه لا خيار للمشتري.
و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض وقلعها يضر بها؛ بأن كان(5/290)
لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض ـ وقدر الشيخ أبو حامد ذلك بيوم أو يومين، فأكثر ـ يثبت للمشتري الخيار في البيع، كما لو اشترى أرضًا، فوجدها مزروعة، ولم يعلم ذلك حال العقد، فإن اختار الفسخ.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميع الثمن، ويجبر البائع على نقل الحجارة؛ لأنها ملكه، فإذا نقلها.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ماله، وهل يستحق المشتري على البائع أجرة أرضه مدة نقله الأحجار ينظر فيه:
فإن نقلها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة للمشتري على البائع؛ لأن منافعها تلفت قبل التسليم، ومنافع المبيع إذا تلفت في يد البائع قبل التسليم.. لم يكن عليه الضمان.
وإن قلعها البائع بعد أن قبضها المشتري.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يستحق عليه الأجرة؛ لأن المشتري قد استقر ملكه على المبيع بالقبض، فإذا أتلف منفعته عليه.. وجب عليه بدله، كما لو أتلف البائع جزءًا من المبيع بعد القبض.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا تلزمه الأجرة؛ لأن المشتري لما اختار إجازة البيع.. رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، ولأن هذا التعطيل كان بمعنى قارن عقد البيع، فلم يكن عليه أجرة، كما لو باع عبدًا، فوجده المشتري مستأجرًا، فاختارا المشتري الإجازة.. فإنه لا أجرة له.
و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض بحيث لا يضر بعروق الشجر والزرع، ولكن قلعها يضر بالأرض، بأن كان لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض.. فإنه يقال للبائع: أترضى بترك الأحجار، أو بقلعها؟ فإن اختارا القلع.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه تعطل عليه منفعة أرضه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميعِ(5/291)
الثمن، فإن قلعها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة له على البائع في الأرض مدة نقل الأحجار. وإن قلعها بعد القبض.. فهل يستحق الأجرة على البائع؟ على الوجهين في المسألة قبلها. وإن قال البائع: لا أقلع.. فهل يسقط حقه من الأحجار، ويملكها المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط حق البائع منها، ويملكها المشتري؛ لأنه رضي بتركها ليلزم البيع، فهو كما لو رضي بترك الثمرة الحادثة إذا اختلطت بالأولى.
فعلى هذا: لا خيار للمشتري. وإن أراد البائع أن يطالب بأحجاره بعد ذلك.. لم يكن له.
والثاني: لا يسقط حق البائع منها، ولا يملكها المشتري؛ لأنها هبة في عين مجهولةٍ، فلم تصح.
فعلى هذا: ما دام البائع مقيما على العفو وترك المطالبة بالقلع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه، ومتى طالب البائع بالقلع.. عاد حق المشتري من الخيار؛ لأن عليه ضررا بالقلع. ومثل هذين الوجهين: لو اشترى دابة، فنعلها ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها قبل قلع النعل؛ لئلا يحدث بها بالقلع عيبًا، فإذا ردّها مع نعلها.. فهل يكون ذلك تمليكًا للبائع للنعل؟ فيه وجهان:
فـ[الأول] : إن قلنا: يكون تمليكًا له، فإن سقطت النعل عن الدابة بعد الردّ.. كانت للبائع.
و [الثاني] : إن قلنا: لا يكون تمليكًا له، فإذا سقطت.. كانت للمشتري.
وإن كانت في الأرض غراس، أو زرع.. نظرت: فإن اشتراها، وفيها الشجر أو الزرع، وشرط دخول الشجر والزرع في الشراء، وظهر في الأرض أحجارٌ مستودعة.. فإن الأحجار لا تدخل في البيع على ما ذكرنا. وإن كان المشتري عالمًا بالأحجار وبضررها.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواء أضر قلعها أو لم يضر، ولا خيار(5/292)
للمشتري؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم المشتري بالأحجار، ثم علم بعد ذلك.. فلا تخلو الأحجار من أربعة أحوال:
إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض أو بالشجر، وقلعها يضر بهما أو بأحدهما.
أو يكون لا يضر بقاؤها، ولا يضر قلعها.
أو لا يضر بقاؤها، ويضر قلعها.
أو لا يضر قلعها، ويضر بقاؤها.
[الحالة الأولى] : فإن كان يضر بقاؤها، بأن كانت الأحجار، تصل عروق الشجر والزرع إليها، ويضر قلعها أيضًا.. فللمشتري الخيار؛ للضرر الذي يدخل عليه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن أجاز البيع.. فللبائع أن يأخذ أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أيضا أن يطالبه بقلعها؛ لأنها تضر به، فإذا قلع أحجاره، بأن قلعها في مدة لا أجرة لمثلها، مثل الساعة.. فلا أجرة للمشتري لأرضه. وإن قلعها في مدة تتعطل منفعة الأرض فيها ـ قال الشيخ أبو حامد: مثل اليوم واليومين ـ فهل للمشتري أن يطالب بأجرة أرضه؟ ينظر فيه:
فإن كان قلعها البائع قبل أن يقبضها المشتري.. فلا أجرة عليه.
وإن قلعها بعد أن قبضها المشتري.. فعلى الوجهين في المسألة قبلها. وهل للمشتري أن يطالب بأرش النقص الذي يدخل على الشجر بالقلع؟ فيه ثلاث طرق، حكاها الشيخ أبو حامد:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا أرش له، سواء كان قبل القبض أو بعد القبض. وهذا قول من قال: لا أجرة له.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: إن قلعها البائع قبل القبض.. فلا أرش عليه. وإن قلعها بعد القبض.. فعليه الأرش، كما قال في الأجرة والطريق.
الثالث: إن قلعها بعد القبض.. وجب الأرش، قولاً واحدًا. وإن قلعها قبل(5/293)
القبض.. ففيه قولان، مخرجان من القولين في جناية البائع على المبيع قبل القبض.
فإن قلنا: إنها كجناية الأجنبي.. وجب عليه الأرش. وإن قلنا إنها: كآفة سماوية.. فلا أرش عليه.
فإذا قلنا: يجب الأرش ـ وهو المنصوص ـ قوّم الشجر، فيقال: لو لم يكن هناك حجارة تقلع، كم كان يساوي؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمته الآن؟ فإن قيل: تسعة.. فإن المشتري يرجع بعشر ثمن الشجر.
و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن يمكن قلعها في ساعة.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه. فإن قلع البائع أحجاره.. فلا كلام. وإن اختار تركها.. فهل يزول ملكه عنها؟ على الوجهين في المسألة قبلها.
و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها يضر بالأرض، بأن تتعطل منفعتها مدة القلع، أو بالشجر، بأن كانت الأحجار تحت الشجر.. قيل للبائع: أتسمح بترك الأحجار، أو لا تسمح؟ فإن سمح بها.. فلا خيار للمشتري، وهل يملكها المشتري بذلك؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن قلنا: يملكها المشتري.. لم يكن للبائع أن يطالب بقلعها بعد ذلك، وسقط خيار المشتري. وإن قلنا: لا يملكها المشتري.. فللبائع أن يأخذ أحجاره، فيعود خيار المشتري في فسخ البيع.
وإن قال البائع: لا أسمح بتركها.. ثبت للمشتري الخيار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، وقلع البائع أحجاره.. فالكلام في الأجرة والأرش على ما مضى.
و [الحالة الرابعة] : إن كان بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بالشجر ولا بالأرض.. فللمشتري الخيار في فسخ البيع؛ لما يدخل عليه من الضرر ببقاء(5/294)
الأحجار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن اختار الإجازة.. فللبائع أن يقلع أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أن يطالبه بذلك؛ ليزول عنه الضرر ببقائها، فإذا قلع.. فلا أجرة عليها، ولا أرش لما نقص. وإن كان الغراس غرسه المشتري، ثم علم بالأحجار، فإن كان لا ضرر على الأرض بهذا الغرس ولا بقلعه.. فهو كما لو اشتراها ولم يغرس بها، على ما مضى من الكلام، فإن اختار الفسخ.. قلع غراسه، ولا كلام، وإن اختار الإجازة.. فالحكم على ما مضى. وإن كان الضرر يدخل على الأرض، إما بغرس المشتري، أو بقلعه لغراسه.. لم يكن له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه قد أحدث في الأرض نقصًا. وهل له المطالبة بالأرش؟
إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض.. فله الأرش. وإن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، ولكن يضر قلعها، فإن لم يقلع البائع.. فلا أرش له؛ لأنه لم يتحقق العيب. وإن قلع البائع.. فله الأرش؛ لأن العيب قد تحقق. والكلام في وجوب الأجرة، وفي أرش غرسه ما مضى.
[مسألة: رد بعض العين المعيبة]
إذا اشترى من رجل عينًا صفقة واحدة، ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها بالعيب، كما تقدم، فإن أراد المشتري أن يرد بعضها دون بعض، فإن رضي البائع بذلك.. صح؛ لأن الحق لهما. وإن لم يرض البائع بذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه يدخل عليه ضرر في الشركة. وإن اشترى منه بعض السلعة في عقد، ثم اشترى باقيها في عقد آخر، ثم وجد بها عيبًا كان موجودًا قبل البيع الأول.. فللمشتري الخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها بالعيب، وبين أن يرد إحدى الصفقتين، إما الأولى أو الثانية؛ لأنهما عقدان، فلا يتعلق أحدهما بالآخر. وإن أمكن حدوث العيب بعد البيع الأول، وقبل الثاني، وادّعى المشتري: أنه كان موجودًا قبل البيع الأول، وادّعى البائع: أنه حدث بعد الأول.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن(5/295)
الأصل سلامة البيع الأول من العيب. وإن علم المشتري بالعيب عند البيع الأول، ثم عقد البيع الثاني، ثم ظهر على عيب آخر كان موجودًا قبل البيع الأول لم يعلم به.. فهو بالخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها، وبين أن يرد إحدى الصفقتين دون الأخرى؛ لأجل العيب الذي لم يعلمه.
وإن اشترى رجل من رجل عبدين بعقد، فوجد بأحدهما عيبًا، فإن اختار المشتري أن يردهما جميعًا.. أجبر البائع على قبولهما. وإن أراد المشتري أن يرد المعيب لا غير، فإن رضي البائع بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن امتنع البائع من قبول المعيب.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد المعيب، وأمسك السليم، وأجبر البائع على ذلك.
وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن للمشتري ذلك، وليس له أن يطالب بالأرش؛ لأنه يمكنه رد الجميع. هكذا ذكر عامة أصحابنا، من غير تفصيل.
وذكر الشيخ أبو حامد: إن كان ذلك قبل القبض.. لم يجز أن يرد المعيب وحده بلا خلاف. وإن كان بعد القبض.. لم يجز أيضا عندنا.
وقال أبو حنيفة: (له رد المعيب، وإمساك السليم، ولو أراد ردّه.. لم يجز، إلا أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونًا مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام والتمر، فله أن يرد الكل، أو يمسك الكل، فأما أن يرد المعيب دون السليم: فليس له) .
دليلنا: أن في رد المعيب تفريقًا للصفقة على البائع، فلم يجبر على ذلك، كما لو كان قبل القبض.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما مسألة القولين، إذا اشترى عبدين، فوجد بهما عيبًا، فمات أحدهما قبل الرد.. فهل له أن يرد الباقي؟ فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن(5/296)
له ذلك إلا برضا البائع. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد الباقي وإن كان بغير رضا البائع.
وحكى القاضي أبو الطيب، عن بعض أهل خراسان من أصحابنا: أنه قال: على هذا القول يفسخ العقد فيهما، ثم يرد الباقي وقيمة التالف، ويسترجع الثمن.
قال القاضي: وهذا هو السنة؛ لأن في حديث المصراة أمر برد الشاة وقيمة اللبن التالف.
قال ابن الصباغ: وهذا مخالف لنص الشافعي، فإنه قال في " اختلاف العراقيين ": (يرجع بحصته من الثمن) . ولأن هذا تلف في يده بالثمن، فلا يرد بالعيب، ولا يضمن بالقيمة. وأما حديث المصراة: فإن ذلك كان لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، بخلاف مسألتنا.
[فرع: اشتريا عبدًا فوجداه معيبًا]
إذا اشترى رجلان من رجل عبدا صفقة واحدةً، فوجدا به عيبًا، فإن اتّفقا على رد الجميع، أو إمساك الجميع.. جاز ذلك بالإجماع. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه.. جاز ذلك عندنا، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن ذلك قول لنا آخر، وليس مشهور.
دليلنا: أنه عقد في أحد طرفيه عاقدان، فكان حكمه حكم العقدين في الرد بالعيب، كما لو كان المشتري واحدًا والبائع اثنين، أو نقول: لأنه رد جميع(5/297)
ما لزمه ثمنه، فلم يفتقر إلى رد غيره، كما لو قال كل واحد منهما للبائع: بعني نصفه بخمسمائة. فقال البائع: بعتكما. وإن وكل رجلان رجلا يشتري لهما عبدًا من رجل، فاشتراه لهما صفقة واحدة، ثم وجدا به عيبًا، وأراد أحدهما أن يرد دون الآخر. أو كان عبد بين اثنين، فوكل أحدهما الآخر أن يبيع له نصيبه منه مع نصيبه، فباع جميع العبد من رجل صفقة واحدة، ثم وجد به عيبًا، فأراد أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر.. ففي المسألتين ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يجوز، وهو قول ابن الحدّاد؛ لأن الصفقة لم يحصل في أحد طرفيها عاقدان.
قال القاضي: ويدل على صحة هذا: أن عبدًا لو كان بين اثنين، فغصب غاصب نصيب أحدهما، ثم إن الغاصب والشريك الذي لم يغصب نصيبه باعا العبد من رجل بعقد، فإن قال لهما: بيعاني هذا العبد بألفٍ. فقالا: بعناك.. فإن بيع المالك يصح في نصيبه، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك صفقتان.
ولو وكل الغاصب المالك، فباع المالك جميع العبد صفقة واحدة، أو وكل الغاصب الشريك الذي لم يغصب نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة.. لبطل بيع نصيب المغصوب، وفي نصيب المالك قولان.
وهذا يدل على: أن حكم العاقد غير حكم العاقدين، فكذلك في مسألتنا مثله.
والوجه الثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: إن قال وكيل المشتريين في العقد: بعني لفلان وفلان، أو لم يقل ذلك، وصدقه البائع.. فلكل واحد منهما أن يرد عليه نصيبه دون الآخر، وكذلك وكيل البائعين إذا ذكر في العقد: أنه يبيع العبد لهما، أو لم يقل ذلك، ولكن صدقه المشتري.. فله أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر؛ لأن الملك لاثنين، فصار كما لو باع لكل واحد منهما، أو اشترى له بعقد(5/298)
منفرد. فأمّا إذا لم يذكر الوكيل: أنه يشتري لاثنين، أو لم يصدقه البائع.. فليس لأحدهما الرد؛ لأن الظاهر أنه عقد الشراء لنفسه.
والوجه الثالث ـ حكاه الطبري في " العدة " ـ: إن كان الواحد وكيلا لاثنين في الشراء.. لم يجز لأحدهما أن يرد دون الآخر. وإن كان الواحد وكيلا لاثنين في البيع من واحد.. جاز للمشتري أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر، والفرق: أن الوكيل في الشراء يلزمه الشراء عند المخالفة، فكان الاعتبار به، والوكيل في البيع لا يلزمه البيع عند المخالفة، فكان الاعتبار بالموكلين.
[فرع: موت المشتري قبل ردّ المعيب]
] : إذا اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، فقبل أن يتمكن من الرد مات المشتري.. فإن خيار الرد ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حق لازم يختص بالمبيع، فانتقل بالموت إلى الوارث، كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن، فإن مات وخلف وارثين، فإن اتفقا على الرد، أو على الإجازة.. جاز. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه، فإن رضي البائع بذلك.. جاز. وإن امتنع البائع من قبول نصيب الراد وحده.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\228] .
أحدهما: يجبر البائع؛ لأن كل واحد من الوارثين رد جميع ما ملكه، فأُجبر البائع على قبوله، كما لو اشتريا منه صفقة واحدة.
والثاني: لا يجبر البائع على قبوله، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور؛ لأن الوارث قائم مقام الموروث، والموروث لم يكن له أن يرد بعض المبيع دون بعض، فكذلك من يقوم مقامه.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: يقال للبائع: إما أن تقبل نصفه من الراد،(5/299)
وإمّا أن تدفع إليه أرش العيب؛ لأنا إنما لم نوجب على البائع قبول البعض؛ لأن الشركة نقص وضرر عليه، فجرى ذلك مجرى العيب الحادث عند المشتري. ولو حدث بالمبيع عيب عند المشتري.. لقيل للبائع: إما أن تقبله معيبًا، وإما أن تدفع الأرش، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: رؤية العيب بعد زيادة المبيع]
] : إذا وجد المشتري العيب بالمبيع، وقد زاد المبيع في يده.. نظرت:
فإن كانت زيادة متصلة بالمبيع، كالسمن والكبر وتعلم القرآن والصنعة.. فإن الزيادة تتبع الأصل في الرد؛ لأنها زيادة لا تتميز عن العين.
وإن كانت الزيادة منفصلة عن العين.. نظرت:
فإن كانت كسبًا، مثل: أن كان عبدًا، فاستخدمه، أو أجره، أو وجد ركازًا، أو احتشّ، أو اصطاد، أو ما أشبه ذلك.. فإن المشتري إذا رد العبد.. فإن الكسب له، ولا حق للبائع فيه بلا خلاف؛ لما روى الشافعي، قال: (أخبرني من لا أتهم، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف: أنه ابتاع غلامًا، فاستلغه، ثم أصاب به عيبًا، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده وغلته) . وفي غير رواية الشافعي: (فقضى له(5/300)
بردِّه، وقضى عليه برد غلته، فأخبره عروة بن الزبير، عن عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في مثل هذا: أن الخراج بالضمان، فردّ عمر قضاءه، وقضى لمخلد بن خفاف) .
قال الشيخ أبو حامد: هكذا رُوي في الخبر، والمزني نقل: وقضى لمخلد بن خفاف برد الخراج.
فمن أصحابنا من غلط المزني في الكتابة، وقال: إنما الخبر: (وقضى له بالخراج) .
ومنهم من قال: إنما قضى له برد الخراج عليه؛ لأنه حكم به للبائع، فلمّا رُوي له الخبر.. قضى برده على المشتري.
و (الخراج) : اسم للغلة التي تحصل من جهة المبيع، يقال للعبد الذي ضُرِب عليه مقدار الكسب في كل يوم: مخارج. ومعنى قوله: «الخراج بالضمان» : أي يكون الخراج لمن لو تلف المبيع.. كان من ضمانه، وهو المشتري هاهنا.
فإن قيل: فهلا قلتم: إن خراج المغصوب للغاصب؛ لأن ضمانه عليه؟ فالجواب: أن الخبر لم يرد مطلقًا، وإنما ورد في المبيع مقيّدًا. والفرق بينهما: أن ملك المغصوب للمالك، فكان الخراج له، وهاهنا الملك للمشتري، والحكم تعلق بسببين: الملك والضمان، فلا يجوز أن يتعلق بأحدهما.
وإن كان المبيع بهيمة حائلا، فحملت في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، أو كانت لا لبن فيها، فحدث بها لبن، ثم أخذه المشتري، أو كان شجرة لا ثمرة عليها، فأثمرت، ثم وجد بها عيبًا.. فإن الثمرة والولد واللبن للمشتري، وله أن يرد البهيمة والشجرة بالعيب.
وقال مالك: (يلزم المشتري أن يرد الولد إن اختار الرد، ولا يلزمه أن يرد الثمرة، بل هي له) .(5/301)
وقال أبو حنيفة: (حصول هذه الزيادات تبطل حق المشتري من الرد، فيرجع بأرش العيب على البائع) .
دليلنا على مالك: ما روي عن عائشة: «أن رجلا ابتاع عبدًا، وبه عيب، ولم يعلمه فلما علم به.. رده بالعيب، فخاصمه البائع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إنه قد استغله منذ زمان. فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الغلة بالضمان» . وهذا أعم من «الخراج بالضمان» ؛ لأنه يتناول المنفعة والعين.
ولأنه نماء متميز عن المبيع حدث في ملك المشتري، فيجب أن لا يلزمه رده مع المبيع، كثمره الشجرة.
ودليلنا على أبي حنيفة: أنه نماء حادث في ملك المشتري، فلم يمنع الرد، كالسمن والكبر والكسب.
[فرع: رأى العيب في الجارية بعد ولادتها]
وإن كان المبيع جارية حائلا، فحملت من زوج، أو زنا، في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، فإن نقصت الجارية بالولادة.. سقط حق المشتري من الرد، ورجع بالأرش على البائع. وإن لم تنقص بالولادة.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يسقط حق المشتري من رد الجارية، ويرجع إلى الأرش؛ لأنه لا يجوز التفريق بينهما.
و [الثاني] : قال أكثرهم: لا يسقط حقه من ردها، بل يمسك الولد، ويرد الجارية؛ لأنه نماء متميز حدث في ملك المشتري، فكان له رد الأصل وإمساك النماء، كولد البهيمة.(5/302)
وأما التفريق: فإنه يجوز للحاجة، كما قال الشافعي في (الرهن) : (إذا ولدت الجارية حرًّا.. فإنها تباع دون ولدها) .
فأما إذا اشترى البهيمة، أو الجارية، وهي حامل، ثم وجد بها عيبًا، فإن وجد العيب قبل الوضع.. رد الجارية وحملها. وإن ولدت في يد المشتري، ثم وجد العيب، فإن نقصت بالولادة.. سقط حقه من الرد، ورجع بالأرش. وإن لم تنقص بالولادة، فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. رد الجارية دون الولد، كما لو حدث في ملكه.
وإن قلنا: للحمل حكم.. ردها ورد ولدها؛ لأن العقد وقع عليهما.
وإن اشتراها، وهي حائل، فحملت في يده، ثم وجد بها عيبًا قبل الوضع.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الحمل عيب؛ لأنه ينقص جمال الجارية ونشاطها، ويمنع من الحمل على البهائم فيما يحمل عليها، وينقص لحم ما يؤكل.
فعلى هذا: له المطالبة بالأرش.
وذكر ابن الصباغ: إن نقصها الحمل.. ففيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: أن للمشتري إمساكها حتى تضع، ويردها إن لم تنقصها الولادة.
وإن لم ينقصها الحمل، أو نقصها، ورضي البائع بقبول الجارية مع النقص.. فلمن يكون الولد؟ إن قلنا: للحمل حكم.. فهو للمشتري. وإن قلنا: لا حكم له.. فهو للبائع.
[فرع: العيب بالجارية الثيب]
وإن كان المبيع جارية ثيِّبًا، فوطئها المشتري، ثم علم بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد معها شيئًا، وبه قال مالك، وعثمان البتّيُّ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن زيد بن ثابت.(5/303)
وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وروي ذلك عن عمر.
وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (يبطل حقه من الرد، ويرجع بالأرش) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
دليلنا على ابن أبي ليلى: أنه وطئها وهي في ملكه، فلم يجب عليه بدل الوطء، كأجرة الاستخدام.
وعلى أبي حنيفة: أن الوطء معنى لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، ولا يتضمن الرضا بالعيب، فلم يمنع الرد، كما لو كانت زوجته، أو كما لو استخدمها.
وإن كان المبيع جارية بكرًا، فافتضها المشتري، ثم وجد بها عيبًا، فأراد ردّها، فإن رضيها البائع.. جاز. وإن لم يرضها.. لم يجبر عليها، ووجب عليه أرش العيب.
وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (يردها، ويرد معها أرش البكارة) .
دليلنا: أن في إذهاب البكارة إتلاف جزء منها، فلم يجبر البائع على قبولها، كما لو اشترى عبدًا، فخصاه، ثم وجد به عيبًا.. فإنه لا يرده، وإن زادت قيمته بذلك.
[فرع: حدوث عيب عند المشتري]
] وإن اشترى عينًا، فقبضها، ثم حدث بها عيب عنده، بأن كان عبدًا فعمي، أو كانت أمة فزوجها، أو عبدًا فزوجه، أو كان ثوبًا فقطعه، ثم وجد به عيبًا كان موجودًا(5/304)
عند البائع.. لم يكن له أن يرد إلا أن يرضى به البائع، وإن لم يرض به البائع.. فللمشتري أن يطالبه بالأرش. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة.
وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو ثور: (يرده، ويرد معه أرش العيب الحادث عنده) .
وقال مالك، وأحمد: (المشتري بالخيار: إن شاء.. رد المبيع، ورد معه أرش العيب الحادث عنده، وإن شاء.. أمسكه، ورجع بالأرش) .
وحكى أبو ثور: (أن ذلك قول الشافعي في القديم) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي، ولا نص له به في كتبه.
دليلنا: أنه نقص حدث في المبيع في يد المشتري لا لاستعلام العيب، فمنع الرد، كما لو قطع المشتري يده، فإنهم قد وافقونا على ذلك.
فقولنا: (لا لاستعلام العيب) احترازٌ من المصراة، ومن العيوب التي لا يتوصل إلى استعلام العيب في المبيع إلا بها، مثل: كسر البطيخ، وما أشبهه.
فإن قال المشتري: أرده، وأرد معه أرش العيب.. فإن البائع لا يجبر على قبول ذلك، كما إذا كان العيب عند البائع، فسأل البائع أن يدفع أرش العيب.. فإن المشتري لا يجبر على ذلك.
وإن قال البائع: رده إلي مع العيبين، وادفع إلي أرش العيب الحادث عندك.. فهل يجبر المشتري على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " \ 239] .
[فرع: حصل بالمبيع عيب جديد عند المشتري ثم زال]
إذا اشترى سلعة، وبها عيب، لم يعلمه المشتري، فقبضها، ثم حدث عنده عيب آخر، ثم ارتفع العيب الذي حدث عنده.. قال الشافعي في " مختصر البويطيّ ": (له الرد) .(5/305)
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا لم يحكم له بالأرش، فأمّا إذا حكم له بالأرش، وقبضه.. فإنه لا يرده.
وإن حكم له بالأرش، ولم يقبضه، ثم ارتفع العيب الحادث عنده.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرد؛ لأن الحكم قد ثبت له بالأرش.
والثاني: يرد؛ لأنه لم يستقر الحكم.
[فرع: صبغ الثوب ثم وجد العيب]
ذكر ابن الصباغ: إذا اشترى ثوبًا، فصبغه، ثم وجد به عيبًا كان عند البائع.. لم يكن له رده مصبوغًا، ويرجع بالأرش، فإن قال البائع: أنا آخذه، وأعطي قيمة الصبغ.. كان له، ولم يكن للمشتري الرجوع بالأرش. وكذلك إذا صبغه، ثم باعه، أو قطعه، ثم باعه.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لجواز أن يرضى به المشتري مصبوغًا أو مقطوعًا.
[فرع: قايض بثوب على عبد فوجده معيبًا]
إذا اشترى من رجل عبدًا بألف، ثم أعطاه بالألف ثوبًا، فوجد مشتري العبد به عيبًا فردّه.. فهل له أن يرجع بالألف أو بالثوب؟ فيه وجهان:
قال أبو علي الطبري، والشيخ أبو حامد: يرجع بالألف، ولا يرجع بالثوب؛ لأنه ملك الثوب بعقد ثان، فلا ينفسخ بانفساخ الأول.
وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بالثوب؛ لأنه إنما ملك الثوب بالثمن، فإذا انفسخ البيع.. سقط الثمن عن ذمة المشتري، فانفسخ بيع الثوب به.(5/306)
[مسألة: اشترى عبدًا به برص لم يعلمه وعمي عنده]
إذا اشترى عبدًا، فقبضه، فعمي، أو عرج، ثم بان أن به برصًا كان موجودًا في يد البائع. لم يعلم به المشتري، إلا بعد حدوث العيب عنده.. فقد قلنا: إنه يرجع بالأرش على البائع.
وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذا العبد، وليس به برص ولا عمى؟ فإن قيل مثلا: مائة درهم.. قيل: فكم قيمته وبه البرص، ولا عمى به؟ فإن قيل: ثمانون.. فإن المشتري يرجع على البائع بخمس الثمن، فإن كان قد اشتراه منه بأقل من قيمته، مثل: أن يشتريه منه بخمسين.. قيل له: ارجع بعشرة. وإن كان قد اشتراه بأكثر من قيمته؛ بأن يكون قد اشتراه بمائتين.. قيل له: ارجع بأربعين، ولا يرجع عليه بما نقص من القيمة؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن؛ لأنه لو هلك جميعه قبل القبض.. لرجع عليه بجميع الثمن. فإذا تلف بعضه.. ضمنه بجزء من الثمن، كما أن الجزء مضمون بالدية، فكذلك أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية.
قال الشافعي: (ولأني لو قلت: يرجع على البائع بما نقص من القيمة.. أدى إلى أن يحصل للمشتري الثمن والمثمن؛ لأنه قد يشتري عبدًا بمائة يساوي مائتين، فإذا وجد به عيبًا ينقص نصف قيمته، وقد حدث عنده عيب آخر.. جاز له أخذ الأرش، فيأخذ ما نقص وهو مائة، فيحصل له الثمن والمثمن، وهذا لا يجوز) . ومتى تعتبر قيمته؟
قال الشافعي في موضع: (تعتبر قيمته يوم العقد) . وقال في موضع آخر: (تعتبر قيمته يوم القبض) .
قال الشيخ أبو حامد: وليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين:
فـ[الأول] : حيث قال: (تعتبر قيمته يوم العقد) أراد: إذا كانت قيمته يوم العقد أقل من قيمته يوم القبض؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملك المشتري، فهو كنماء متصل، فلو أدخلنا هذه الزيادة في التقويم لدخل الضرر على البائع، وأوجبنا عليه ضمان ما لم يدخل في العقد.(5/307)
و [الثاني] : حيث قال الشافعي: (تعتبر قيمته يوم القبض) أراد: إذا كانت قيمته يوم القبض أقل من يوم العقد؛ لأن هذا النقصان كان من ضمان البائع؛ لأن المبيع متى تلف قبل القبض.. كان من ضمان البائع، فلو قومناه يوم العقد.. دخل النقصان الذي حدث في التقويم، وأخذ بمقداره من البائع.
[فرع: اشترى إبريق فضة معيبًا]
] : إذا كان هناك إبريق من فضة وزنه ألف درهم، وقيمته ألفا درهم للصنعة، فاشتراه بألف درهم؛ فوجد به عيبًا، وقد حدث به عنده عيبٌ.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا، ولكن يفسخ المشتري العقد، ويسترجع ثمنه، ويدفع قيمة الإبريق معيبًا من الذهب، ولا يرده؛ لأنه لا يمكن رده معيبًا، فجرى ذلك مجرى تلفه.
والثاني: وهو قول الشيخ أبو حامد، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يفسخ العقد، ويسترجع ثمنه، ويرد الإبريق، وأرش العيب الحادث عنده؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى الربا، بل يكون بمنزلة المأخوذ على وجه السوم إذا حدث فيه نقص.
والثالث ـ حكاه في " المهذب "، عن أبي القاسم الداركيِّ ـ: أنه لا يرد الإبريق، ولكنه يرجع بأرش العيب الموجود عند البائع؛ لأن ما ظهر من الفضل في الرجوع بالأرش لا اعتبار به، بدليل: أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا الموضع، ولا يقال: لا يجوز؛ لأنه يصير الثمن مجهولاً.(5/308)
[مسألة: وجده معيبًا ثم نقص عنده]
] : وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، وقد نقص المبيع عنده بمعنى لاستعلام العيب، مثل: أن يشتري ما مأكوله في جوفه، مثل: البيض والجوز واللوز والرانج والبطيخ والرمان.. فإنه إذا كسر ذلك.. نظرت:
فإن لم يكن لمكسوره قيمة، كبيض الدجاج إذا خرج فاسدًا، أو الرمان إذا خرج أسود.. فإن البيع باطل؛ لأن المبيع لا يصح فيما لا منفعة فيه.
وإن كان لفاسده قيمة، كالرمان والبطيخ إذا خرج حامضًا أو مدودًا، أو كبيض النعامة إذا كسرها، فإن لقشرها قيمة.. فينظر فيه:
فإن كسر قدرًا لا يتوصل إلى معرفة المبيع إلا به، مثل: أن كسر الجوز واللوز والرانج، فإنه لا يمكن معرفة ما فيه إلا بكسره نصفين، ولا يعلم التدويد في البطيخ والرمان إلا بكسرهما، بل إنه يمكن معرفة الحامض منهما بإدخال مسلَّة فيهما.. فهل يمنعه ذلك من الرد؟ فيه قولان:
أحدهما: يمنعه من الرد، وهو اختيار المزني، وقول أبي حنيفة؛ لأنه نقص حدث في يد المبتاع، فمنع الرد، كقطع الثوب.
فعلى هذا: يرجع بالأرش على ما مضى.
والقول الثاني: أن ذلك لا يمنعه من الرد. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه نقص لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، كحلب المصراة.
فإذا قلنا بهذا: فهل يرد أرش الكسر؟ فيه قولان.
أحدهما: يرد أرش الكسر؛ لأن النقص إذا لم يمنع الرد.. وجب رد الأرش معه، كالمصراة.
والثاني: لا يلزمه أن يرد معه شيئًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن(5/309)
هذا النقص حصل لاستعلام العيب، وذلك مستحق للمشتري، فكأن البائع لمّا علم أنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بذلك.. صار كما لو سلطه على ذلك. ولو أذن له في ذلك.. لم يكن عليه أرش، فيصير في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يرد، ويأخذ الأرش.
والثاني: يرده، ولا أرش عليه.
والثالث: يرده، ويدفع أرش الكسر.
فإذا قلنا بهذا: قوم المبيع صحيحًا فاسدًا، وقوم مسكورًا فاسدًا، فيرجع البائع على المشتري بما بين القيمتين؛ لأن المبيع لا يكون مضمونًا على المشتري بالثمن إلا مع صحة البيع، فأما إذا فسخ: صار مضمونًا عليه بالقيمة، فضمن الجزء منه بجزء من القيمة.
فأما إذا كسر منه قدرًا يزيد على ما يحتاج إليه لاستعلام العيب.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيها قولان، كالأولى؛ لأنه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه، وبين ما زاد عليه، فسوّى بين الجميع.
و [الثاني] : منهم من قال: إن ذلك يمنع الرد، قولاً واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا نقص حدث لا لاستعلام العيب، فهو كقطع الثوب.
[فرع: اشترى ثوبًا مطويًا كان رآه]
إذا اشترى ثوبًا مطويًّا كان قد رآه، فنشره، ثم وجد به عيبًا.. نظرت:
فإن كان من الثياب التي لا ينقصها النشر.. رده.(5/310)
وإن كان من الثياب التي تنقص بالنشر.. نظرت:
فإن نشر منه قدرًا لا يتمكن من معرفته إلا بذلك.. فهو كما كسر من الجوز ما لا يتمكن من معرفته إلا به على الأقوال الثلاثة.
وإن نشر منه قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه.. فهو كما لو كسر من الجوز قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه، فيكون على الطريقين.
[فرع: وجد الدينار معيبًا بعد قطع المشتري الثوب]
إذا اشترى من رجل ثوبًا بدينار معين، فقطع المشتري الثوب، ووجد البائع بالدينار عيبًا.. قال القاضي أبو الطيب في " شرح المولّدات ": كان بائع الثوب بالخيار: إن شاء.. رضي الدينار المعيب، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخ البيع، وردّ الدينار، واسترجع ثوبه مقطوعًا، ولا شيء له، كما لو وجد مشتري الثوب به عيبًا قبل أن يقطعه.. فإنه بالخيار: بين أن يرضى بالثوب معيبًا، ولا شيء له، وبين أن يفسخ، ويرجع بجميع الثمن.
[مسألة: وجد عيبًا بالعبد بعد خروجه عن ملكه]
] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات العبد أو وقفه أو أعتقه أو قتله، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. فله أن يرجع على البائع بالأرش، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا قتله خاصة.. لم يرجع عليه بالأرش) .
دليلنا: أنه عيب لم يرض به، وجده بعد الإياس من الرد، فكان له الرجوع بالأرش، كما لو أعتقه.
وإن اشترى عبدًا، فقبضه، فأبق من يديه، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. نظرت(5/311)
فإن كان العيب الذي كان في يد البائع هو الإباق.. فإنه عيب يستحق به الرد، إلا أنه قد تعذر رده لإباقه من يده، وليس له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. فإن رجع إليه العبد.. رده. وإن هلك مع الإباق.. كان له الرجوع بالأرش.
وإن كان به عيب عند البائع مع الإباق.. فالحكم فيها كالأولى. وإن كان لم يأبق عند البائع، بل كان به عيب آخر عنده، ثم أبق في يد المشتري.. فإن الإباق في يد المشتري عيبٌ يمنعه من الرد، ويكون له المطالبة بأرش العيب؛ لأن البائع لا يجبر على قبوله مع عيب الإباق، فيلزمه دفع الأرش، إلا أن يقول البائع: أنا أرضى برده مع الإباق.. فلا يكون للمشتري المطالبة بالأرش.
[فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبًا]
فإن اشترى عبدًا من رجل، وقبضه، ثم باعه من آخر، ثم علم المشتري الأول به عيبًا كان موجودًا في يد البائع الأول.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي العباس: للمشتري الأول أن يرجع على البائع الأول بالأرش؛ لأنه غير متمكن من الرد في الحال، فهو كما لو تلف. قال: ولكن نفى ما حكاه أصحابنا عنه.
وقال سائر أصحابنا: ليس له أن يرجع بالأرش. واختلفوا في تعليله:
فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أن العلة فيه: أنه استدرك الظلامة وغبن كما غبن.
ومنهم من قال: العلة: أنه لم ييأس من الرد؛ لأنه قد يرجع إليه، فيرده عليه. واختار هذا الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ.
فإن ردّه المشتري الثاني على المشتري الأول.. رده الأول على بائعه؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، وأمكنه الرد.
وإن حدث عند المشتري الثاني عيبٌ آخر، فرجع على المشتري الأول بأرش العيب.. فهل له أن يرجع على البائع الأول بالأرش؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحدّاد: لا يرجع عليه؛ لأنه قد تبرع بدفع الأرش؛ لأنه قد(5/312)
كان يمكنه أن يطالب برد المبيع عليه، ثم يعرض العبد على البائع الأول، فإن قبله منه.. فلا كلام. وإن لم يقبله منه.. رجع عليه حينئذ بالأرش.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكنه ذلك إلا بعد أن يسترده من المشتري الثاني، فربما لا يرضى به البائع الأول، فلزمه، فيلحقه بذلك الضرر، ولعل نقصانه كثير، مثل: قطع اليد أو الرجل، والجذام، فلم يبطل حقه بترك القبول لذلك.
وإن تلف العبد في يد الثاني، أو وقفه، أو أعتقه، أو حدث به عيب عند الثاني، وأبرأ المشتري الثاني الأول من الأرش، أو رضي به.. فهل للمشتري الأول أن يطالب البائع الأول بالأرش؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد يئس من الرد. وإن رجع إلى المشتري الأول ببيع أو هبة أو إرث، وهو على حاله.. فهل له أن يرده على البائع الأول؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يكن له رده.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. كان له رده؛ لأنه قد أمكنه الرد.
وإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره، وأقبضه.. نظرت:
فإن كانت هبة تقتضي الثواب.. فهي كالبيع، وقد بيناه.
وإن كانت هبة لا تقتضي الثواب.. فلا يختلف أصحابنا: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على ضعف قول من قال: العلة: أنه استدرك الظلامة، وأنه غبن كما غبن؛ لأنه هاهنا لم يستدرك الظلامة، ولم يغبن، ومع هذا فلا يرجع بالأرش.
فأما إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم باع نصفه من آخر، وعلم أن به عيبًا كان موجودًا(5/313)
في يد البائع.. فهل له أن يرد النصف الذي بقي في يده؟ فيه طريقان، حكاهما أبو علي السنجي:
[الأول] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
والطريق الثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يملك رده، قولاً واحدًا؛ لأن الشركة نقص، فلا يجبر البائع عليها.
فإذا قلنا بهذا: فهل يملك المشتري المطالبة بالأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: له المطالبة بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا مطالبة له بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من الرد.
وإن حدث بالعبد عيب آخر عند المشتري الثاني.. فله أن يرجع بالأرش على المشتري الأول، وللأول أن يرجع بالأرش على الذي باعه.
وإن اشترى عبدين، ثم باع أحدهما، ثم علم بأحدهما عيبًا بعد البيع.. نظرت:
فإن كان العيب بالمبيع.. لم يكن له أن يطالب بالأرش، كما لو اشتراه وحده، ثم باعه ثم اطلع على عيب فيه.
وإن باع السليم، وبقي عنده المعيب، فأراد ردّه. ففيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له ردّه؛ لأنه قد يرجو رجوع المبيع، فيرد الجميع.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد المبيع المعيب.
وإذا قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يرده. وهل له أن يطالب بالأرش على هذا؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:(5/314)
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (ليس له أن يرجع بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من رجوع المبيع إليه.
والثاني: يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال. فإن تلف السليم في يد المشتري الثاني، أو تلف في يد المشتري الأول، أو كان العبدان معيبين، فتلف أحدهما في يده أو وقفه أو أعتقه، ثم علم بالعيب بهما.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد الموجود، ورجع بأرش العيب في الميت، أو المعتق، أو الموقوف.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق.. رجع بأرش العيب فيهما؛ لأنه أيس من الرد. وكل موضع قلنا: يرد الباقي.. فإن الثمن يقسم على قيمة التالف، وقيمة الباقي، فما قابل قيمة الباقي من الثمن.. رجع به المشتري على البائع، وما قابل قيمة التالف.. لم يرجع به.
فإن اختلفا في قيمة التالف.. فقال البائع: قيمته مائة، وقال المشتري: قيمته خمسون.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أن القول قول البائع؛ لأنه ملك جميع الثمن، فلا يزال ملكه، إلا على القدر الذي يقر به، كما إذا اختلف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص.. فإن القول قول المشتري.
والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأنه يغرم، ويؤخذ منه الثمن.
وهكذا: إذا قلنا: لا تفرق الصفقة.. فإنه يرجع بالأرش. فإذا اختلفا في قيمة(5/315)
التالف لأجل الأرش، أو حدث عيب آخر، وأراد أن يأخذ الأرش، واختلفا في قيمة التالف.. فمن القول قوله؟ فيه قولان.
[فرع: باع عبدًا ثم اشتراه فوجده معيبًا]
إذا اشترى زيد من عمرٍو عبدًا، فقبضه، ثم اشتراه عمرو من زيد، ثم اطلع على عيب فيه كان في يد عمرو قبل أن يشتريه منه زيد.. نظرت:
فإن كان عمرو عالمًا بالعيب قبل أن يبيعه، أو حين اشتراه.. لم يكن له أن يرده على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولا يجوز لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من رده، فإن حدث بالعبد عيبٌ في يد عمرو.. لم يكن له أيضًا أن يرجع بالأرش على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولم يكن لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأن قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
وإن كان عمروٌ غير عالم بالعيب حين باعه، ولا حين اشتراه من زيد.. نظرت:
فإن كان زيدٌ عالمًا بالعيب قبل أن يشتريه من عمرو، أو علم به بعد أن اشتراه من عمرو، فرضي به، أو ترك ردّه مع الإمكان.. فلعمرٍو أن يرده على زيد.
وإن لم يعلما جميعًا به إلا بعد أن حصل في ملك عمرو.. فهل لعمرو أن يرده على زيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه إذا رده على زيد.. رده زيد عليه.
والثاني ـ وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن لعمرو أن يرده على زيد، ثم لزيد أن يرده على عمرو؛ لأن الثمنين قد يختلفان، فيكون له في ذلك غرض، وليس لزيد أن يطالب عمْرًا بشيء قبل أن يرده عليه؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
فإن حدث في العبد عيب آخر عند عمرو، فإن رجع عمرو على زيد بالأرش..(5/316)
فلزيد أن يرجع عليه أيضًا بالأرش، ويرجع كل واحد منهما من الثمن الذي ملك به، وإن أبرأ عمرو زيدًا من الأرش.. فهل لزيد أن يرجع عليه بالأرش؟
قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: العلة في بيعه إلى الأجنبي: أنه لا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا. وإن قلنا: العلة هناك: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد أيس من الرد.
فإن اشترى زيد من عمرو عبدًا، ثم باعه زيد من خالد، ثم اشتراه زيد من خالد، ثم اطلع زيد على عيب كان فيه وهو في يد عمرو، فإن قلنا بالأولى: لا يرده عمرو على زيد.. فإن زيدًا هاهنا يرده على عمرو. وإن قلنا بالصحيح في الأولى، وأنه يرده عليه.. فعلى من يرده زيد هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرده على خالد؛ لأنه منه ملكه.
والثاني: يرده على عمرو؛ لأن حدوث العيب كان بيده.
[فرع: اشترى عبدًا ثم طالب البائع إقالته]
قال القاضي أبو الطيب: إذا اشترى رجل من رجل عبدًا، ثم استقاله، فأقاله، ورجع العبد إلى البائع، فوجد به البائع عيبًا حدث في ملك المشتري.. كان للبائع ردّه على المشتري، ورفع الإقالة؛ لأنه يلحقه ضرر بإمساكه مع العيب؛ لأنه ربما كان الثمن الذي رده خيرًا له من العبد، فكان له إزالة الضرر برده واسترجاع الثمن، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا.. فإن له رده واسترجاع الثمن من البائع.
[فرع: إسلاف حنطة بعبد ثم ظهر عيبه]
ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إذا أسلم رجل عبدًا في حنطة أو تمر، فقبض المسلم إليه العبد، فأعتقه، ثم وجد بالعبد عيبًا، فإن عفا المسلم إليه عن حقه.. وجب عليه تسليم جميع المسلم فيه، وإن لم يعف.. يرجع بالأرش.
وكيفية ذلك: أن يقوم العبد صحيحًا، ثم يقوم معيبًا، وينظر ما بين القيمتين،(5/317)
فإن نقصه العيب العشر من قيمته.. سقط عن ذمة المسلم إليه عشر المسلم فيه، وكذلك إن نقصه العيب أقل أو أكثر.. سقط عن ذمته مثل تلك النسبة من المسلم فيه؛ لأن المسلم فيه هو ثمن العبد، وهل ينتقض العقد في الباقي من المسلم فيه؟ حكى في ذلك طريقين:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما إذا باع ما يملك وما لا يملك.
و [الثاني] : منهم من قال: لا ينتقض، قولاً واحدًا.
[مسألة: فوات الوصف المرغب]
إذا باع عبدًا بشرط أنه كاتب، أو على أنه يحسن صنعة، فبان أنه ليس بكاتب، أو أنه لا يحسن تلك الصنعة.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه أنقص مما شرط. وإن اشتراه بشرط أنه خصي، فبان فحلا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أكثر قيمة من الفحل. وإن اشتراه بشرط أنه فحل، فبان خصيًّا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أنقص خلقة وأقل بطشًا وقوة. وإن اشتراه بشرط أنه مسلم؛ فبان كافرًا.. ثبت له الخيار؛ لأن المسلم أفضل من الكافر. وإن اشتراه بشرط أنه كافرٌ، فبان مسلمًا.. ثبت له الخيار.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا خيار له؛ لأن المسلم أفضل من الكافر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن المسلم وإن كان أفضل من الكافر في الدين، إلا أن الكافر أكثر ثمنًا؛ لأنه يرغب في شرائه المسلم والكافر، والمسلم لا يرغب في شرائه إلا المسلم.
وإن اشترى جارية على أنها بكر، فبانت ثيِّبًا.. ثبت له الخيار؛ لأن البكر أكثر ثمنًا. وإن اشتراها على أنها ثيب، فبانت بكرًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد تكون الثيب أحب إليه من البكر؛ لأنه قد يكون ضعيفا لا يقدر على وطء البكر.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا خيار له، لأن البكر أكثر ثمنًا، ولا اعتبار بما عنده.(5/318)
وإن قال: بعني هذا العبد، فباعه، فبان أنه جارية، أو قال: بعني هذا الحمار، فباعه، فبان بغلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأن عقد البيع وقع على عين موجودة، ويثبت للمشتري الخيار؛ لأنه خلاف المشروط.
والثاني: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن العقد وقع على جنس، فلا ينعقد في غيره.
[فرع: نقص قدر المبيع]
إذا قال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة قفيز، فبان أنها دون المائة.. فالمشتري بالخيار.. بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص من المشروط، وبين أن يأخذ الموجود من الصبرة بحصته من الثمن.
وإن بان أنها أكثر من المائة.. أخذ المشتري المائة بجميع الثمن، وترك الزيادة؛ لأنه يمكن رد الزائد من غير ضرر.
وإن قال: بعتك هذا الثوب، أو هذه الأرض، على أنها عشرة أذرع، فبانت تسعة أذرع.. فالمشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص مما شرط، وبين أن يجيز البيع، وبكم يجيز؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " ـ: أنه يمسك التسعة بحصتها من ثمن العشر، كما قلنا في الصبرة من الحنطة.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يمسكها بجميع الثمن؛ لأن الحنطة تتساوى أجزاؤها، فكان ما فقد مثل ما وجد، وليس كذلك الثوب والأرض، فإن أجزاءهما لا تتساوى، فلم يكن ما فقد مثل ما وجد.
وإن بان الثوب أو الأرض أحد عشر ذراعًا.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون البائع بالخيار: بين أن يسلم جميع الثوب(5/319)
والأرض، ويجبر المشتري على قبوله، وبين أن يفسخ البيع؛ لأن الزيادة فيهما نقصان في حق البائع، فثبت له الخيار، كما أن الثوب إذا وجد دون العشرة.. فإنه نقصان في حق المشتري، ويثبت له الخيار، ولا يمكن أن يجعل ذراعًا منه للبائع، كما قلنا في الصبرة؛ لأن ذلك مختلف، ولأن قطعه يؤدِّي إلى نقصان قيمة الثوب، والشركة نقص عليهما.
والثاني: أن البيع باطل؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على العشرة، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ العشرة؛ لأنه يقول: اشتريت الثوب كله. والأول أصح.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : وإن قال بعني هذا القطيع من الغنم، على أنه ثلاثون، فبان تسعًا وعشرين، أو إحدى وثلاثين.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح في الثلاثين إذا كان زائدًا، وفي التسع والعشرين إذا كان ناقصًا، بحصته من الثمن.
والثاني: لا يصح البيع.
[مسألة: بيع العبد الجاني]
قال الشافعي: (ولو باع عبده، وقد جنى.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع جائز، كما يكون العتق جائزًا، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته.
والثاني: أن البيع مفسوخ) . وهذا كما قال: إذا باع عبده، وقد جنى.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لأن الجناية إن كانت عمدًا.. فهذا عبدٌ يرجى سلامته، ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه، كالمريض. وإن كانت خطأً.. فلم يتعلق المال برقبته برضا السيد، فلم يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فضل عن قدر الزكاة من ماله.(5/320)
والقول الثاني: لا يصح البيع، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد، فمنع صحة البيع، كالرهن، بل حق الجناية آكد؛ لأنها تقدم على الرهن.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق:
فـ[أوَّلها] : منهم من قال: القولان في الحالين سواءٌ كانت الجناية عمدًا أو خطأً؛ لأن القصاص حق آدمي، فهو كالمال، ولأنه يسقط إلى المال.
و [ثانيها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية عمدًا، فأمَّا إذا كانت خطأً.. فلا يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه تعلق برقبته مال، فهو كالمرهون. وهذا القائل يقول: أصل هذا: ما الموجب بقتل العمد؟ فيه قولان:
أحدهما: القود فقط.
فعلى هذا: يجوز بيعه، كالمرتد.
والثاني: أن موجبه أحد الأمرين: إما القصاص، وإما الدية، فلا يجوز بيعه، كالمرهون.
و [ثالثها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية خطأً، فأما إذا كانت عمدًا صحَّ البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه يخاف هلاكه بالقصاص، فهو كالمرتد والمريض.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه الطريقة أصح؛ لأن الشافعي قال: (فيه قولان، أحدهما: البيع جائز، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته، وإنما يكون هذا على السيد في جناية خطأً) .
فأما في جناية العمد: فإن للمجني عليه القصاص.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن البيع باطلٌ.. فإنه يرد العبد ويسترجع الثمن. وإن قلنا: إن البيع صحيحٌ.. نظرت:
فإن كانت الجناية خطأً أو عمدًا، فعفا المجنيُّ عليه على المال.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أن البائع يلزمه الفداء؛ لأن الشافعي قال: (البيع(5/321)
جائزٌ، وعلى السيد الأقل من قيمته، أو أرش جنايته) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه كان مخيرًا بين أن يفدي، وبين أن لا يفدي، فإذا باع.. فقد زال ملكه عنه، فكان اختيارًا منه للفداء، كما لو أتلفه السيد.
فعلى هذا: لا يلزم السيد إلا أقل الأمرين من قيمة العبد أو أرش الجناية؛ لأنه لا يمكن بيعه. وإن أعسر المولى بالفداء.. فسخ البيع؛ لأن حق المجني عليه سابق لحق المشتري، فإذا تعذر إمضاؤهما قدم السابق.
والوجه الثاني: أنه لا يتعين عليه الفداء، بل هو بالخيار: بين أن يفديه، وبين أن لا يفديه؛ لأن العبد لم يتلف بالبيع.
فعلى هذا: إن فداه.. استقرّ البيع، وإن لم يفده.. فسخ البيع. إذا اختار أن يفديه على هذا.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغًا ما بلغ؛ لأنه يمكن هاهنا بيعه.
وإن كانت الجناية عمدًا، واختار المجنيّ عليه القصاص.. نظرت:
فإن كانت الجناية قتلا، فقتله وليّ المجني عليه، فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. انفسخ البيع، كما لو مات. وإن قتله بعد أن قبضه المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم المشتري بجنايته حتى قتل في يده.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، وأبي عليّ بن أبي هريرة ـ: أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة العيب الموجود في يد البائع؛ لأنه لو كان بمنزلة الاستقحاق.. لم يصح بيعه، فإذا كان عيبًا، وتلف في يد المشتري.. رجع على البائع بالأرش،(5/322)
فيقوم وهو جان، ويقوم وهو غير جان، وينظر ما بين القيمتين، ويرجع في مثل تلك النسبة من الثمن.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، وهو المنصوص ـ: (أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة الاستحقاق) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تلف بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو غصب عبدًا، فباعه.
فعلى هذا: يرجع المشتري بجميع الثمن، ويجب تكفينه ودفنه على البائع، وهذا كما لو غصب عبدًا، فجنى العبد على غيره في يد الغاصب، ثم ردّه الغاصب على المالك، فاقتص من العبد في يد المالك، بالجناية التي جناها في يد الغاصب.. فإنه يجب على الغاصب قيمته.
وأما إذا كان المشتري عالمًا بالجناية حين الشراء، أو علم بها بعد الشراء، فلم يرده حتى قتل في يده، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة في المسألة قبلها.. لم يرجع بشيء، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، فعلم بمرضه، فقبضه، ثم مات في يده. وإن قلنا بقول أبي إسحاق، وبالمنصوص.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن المشتري يرجع بجميع الثمن؛ لأنه إذا قتل.. بان أنه تعلق القتل برقبته، كالاستحقاق، ولو اشترى عبدًا مستحقُا.. فإن للمشتري أن يرجع بالثمن، سواءٌ علم بالاستحقاق عند الشراء، أو لم يعلم، فكذلك هاهنا.
والوجه الثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ ـ: أنه لا يرجع المشتري بشيء؛ لأن الشافعي قال: (لو اشتراه عالمًا به.. صح البيع، ولا خيار له، فصار كالعيب إذا علم به) .(5/323)
وإن اشترى عبدًا مرتدًّا.. صح البيع، قولاً واحدًا؛ لأن الردة لا تزيل ملك مالكه عنه، وإنما يخشى هلاكه بالقتل، ويرجى سلامته بالإسلام، فيصح بيعه، كالمريض، فإن كان المشتري عالمًا بردته.. لم يثبت له الخيار، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، وهو عالمٌ بمرضه. فإن لم يعلم بردته، ثم علم قبل أن يقتل.. ثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه عيب. فإن قتل في يد المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم بردته حتى قتل.. فعلى منصوص الشافعي، وقول أبي إسحاق: يرجع بجميع الثمن، وبه قال ابن الحداد. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: يرجع بأرش العيب، وبه قال القاضي أبو الطيب.
وإن كان المشتري عالمًا بردته قبل أن يقتل، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: لم يرجع هاهنا بشيء. وإن قلنا بالمنصوص.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: يرجع بجميع الثمن.
و [ثانيهما] : قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: لا يرجع بشيء.
وفرع القاضي أبو الطيب على أصله مسائل منها:
إذا اشترى عبدًا سارقًا.. صحّ الشراء، فإن علم بسرقته.. فلا خيار له، وإن قطع في يد المشتري.. لم يرجع بشيء. وإن لم يعلم بسرقته حتى قطع.. فعلى المنصوص، وقول أبي إسحاق، وابن الحداد: يثبت له الخيار: إن شاء.. فسخ البيع ورده مقطوعًا، وإن شاء.. أجازه، ولا شيء له. وعلى قول أبي العباس، وأبي عليّ: ليس له الرد، ولكن يرجع بأرش العيب.
قال: وإن اشترى عينًا بها عيب في يد البائع، ولم يعلم به المشتري، فقبض المشتري المبيع، فزاد العيب في يد المشتري.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: تصير الزيادة كأنها حصلت في يد البائع، فيكون للمشتري الخيار. وإن مات(5/324)
من الزيادة.. انفسخ البيع، ورجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وابن أبي هريرة: لا يفسخ البيع بزيادة العيب، ولكن يرجع بالأرش، وكذلك إن تلف المبيع في يده من الزيادة.. رجع بالأرش.
قال القاضي: وكذلك: إذا اشترى جارية حاملاً لم يعلم بحملها حتى ماتت من الولادة.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: ينفسخ البيع، ويرجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي: لا ينفسخ البيع، ولكن يرجع بالأرش.
وأما إذا قتل العبد غيره في المحاربة.. نظرت:
فإن تاب قبل القدرة عليه.. فهو بمنزلة القاتل في غير المحاربة، وقد بينّاه.
وإن لم يتب، وقدر عليه.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح بيعه، قولاً واحدًا؛ لأنه لا منفعة فيه إذ قتله محتم.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو كما لو قتل في غير المحاربة، فيكون في بيعه قولان؛ لأن فيه منفعة، وهو أن يعتقه المشتري:
فإذا قلنا: يجوز بيع العبد الجاني.. جاز عتقه.
وإن قلنا: لا يجوز بيعه.. فهل يجوز عتقه؟ فيه ثلاثة أقوال، كعتق العبد المرهون، ويأتي بيان ذلك في (الرهن) إن شاء الله تعالى.
[مسألة: البيع بشرط البراءة من العيب]
إذا باعه شيئا بشرط البراءة من العيوب.. فاختلف أصحابنا فيه [على وجهين] .
فـ[الوجه الأول] : ذهب أبو سعيد الإصطخري إلى: أن في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبرأ من كل عيب، باطنًا كان أو ظاهرًا، علم به البائع أو لم يعلم به،(5/325)
وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وهذا شرط قد شرطاه، فوجب الوفاء به.
وروت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رجلين من الأنصار اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مواريث بينهما قد درست، فقال لهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استهما، وتوخيا الحق، وليحل كل واحد منكما صاحبه» . فدل على: أن البراءة من المجهول صحيحة.(5/326)
ولأنه عيب رضي به المشتري، فصار كما لو أعلمه به.
والقول الثاني: أنه لا يبرأ من شيء من العيوب، وهو قول شريح، وعطاء، وطاوس، والحسن، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن بيع الغرر» . وفي البيع بهذا الشرط غرر؛ لأن المشتري لا يدري كم ينقص العيب من قيمة المبيع، ولأنه شرط يرتفق به أحد المتعاقدين، فلم يصح مجهولاً، كشرط الرهن المجهول، والأجل المجهول، وفيه احترازٌ من خيار المجلس والشرط، فإنه يرتفق به المتعاقدان.
والقول الثالث ـ وهو الصحيح ـ: أنه يبرأ من عيب واحد، وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لم يعلم به البائع، ولا يبرأ مما سواه، وهو قول مالك؛ لما روي: (أن ابن عمر باع غلامًا له من زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة من كل عيب، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد رده، فأتى ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عثمان بن عفان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بعيب فيه؟ فأبى ابن عمر أن يحلف، وقبل الغلام، فباعه بألف درهم، وقيل: بألف وخمسمائة درهم) .
ووجه الدليل من هذا: أن عثمان قال: (أتحلف أنك لم تعلم بعيب به؟) . فدل على: أنه إنما يبرأ من العيب إذا لم يعلم به، وأمّا إذا علم بالعيب: لم تصح البراءة منه، ولم ينكر ذلك منكر من الصحابة.(5/327)
قال الشافعي: (ولأن الحيوان يغتذي بالصحة والسقم، وتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يخفى أو يظهر) . ومعناه: أن الحيوان يعتلف في حال الصحة والسقم، ولا يمكن معرفة عيبه، فكانت به حاجة إلى البراءة من العيوب الباطنة التي لم يعلم بها، وجاز ذلك، كما جاز بيع المنافع قبل أن تخلق للحاجة، ولم يجز بيع الحيوان قبل أن يخلق؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
فعلى قول أبي سعيد في غير الحيوان من الثياب وغيرها قولان:
أحدهما: لا يبرأ من عيب فيها.
والثاني: يبرأ من كل عيب فيها، ويسقط القول الثالث.
و [الوجه الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وهو: أنه يبرأ من العيب الباطن في الحيوان الذي لا يعلم به البائع، ولا يبرأ من العيب الباطن فيه الذي يعلم به البائع، ولا من العيوب الظاهرة فيه علم بها البائع أو لم يعلم ولا يبرأ من شيء من العيوب في غير الحيوان، باطنة كانت أو ظاهرة، علم بها البائع أو لم يعلم، وكذلك ما مأكوله في جوفه، مثل: الجوز واللوز والرمان، حكمه حكم الثياب، والفرق بينه وبين الحيوان: ما أشار إليه الشافعي: أن الغالب في الحيوان وجود العيب في باطنه، بخلاف ما مأكوله في جوفه، فإن الأكثر في جوفه السلامة.
فإذا قلنا: إن البيع بهذا الشرط صحيح، فحدث به عيب عند البائع بعد البيع، وقبل القبض.. لم يبرأ منه. وقال أبو يوسف: يبرأ منه.
دليلنا: أنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يصح، كما لو أبرأه مما يستحب عليه.
وإذا قلنا: إن شرط البراءة لا يصح.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويثبت للمشتري الخيار إذا وجد العيب؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بصحة البيع.(5/328)
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة، ولأن البائع أسقط جزءًا من الثمن لأجل هذا الشرط، فإذا سقط هذا الشرط.. وجب أن يرجع إلى ما أسقطه من الثمن لأجله، وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولاً، والجهل بالثمن يبطل البيع.
وبالله التوفيق(5/329)
[باب بيع المرابحة]
إذا باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم اشتراها البائع قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن.. جاز وكذلك إذا باعها بثمن نقدًا، واشتراها بأكثر منه إلى أجل.. جاز، سواءٌ كان قد قبض الثمن أو لم يقبض، وكذلك إذا باعها بثمن إلى أجل.. جاز أن يشتريها بالثمن، إلى أكثر منه. وروي ذلك عن ابن عمر، وزيد بن أرقم، وقال الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز أن يشتريها بأقل مما باعها قبل قبض الثمن) . وروي ذلك عن ابن عبّاس، وعائشة، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن باعها منه بعوض أقل من ذلك الثمن.. جاز، فأما إذا اشتراها له وكيله بأقل من ذلك الثمن.. جاز، وإن اشتراها له ولده أو والده بأقل من ذلك الثمن.. لم يجز، وإن(5/330)
اشتراها إلى أجل.. لم يجز أن يبيعها إلى أجل أكثر منه) . واحتجوا بما روي: «أن امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين، إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: (بئس ما بعت، وبئس ما ابتعت، أخبري زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا أن يتوب» . ولا تقول ذلك إلا توقيفًا. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبع ما ليس عندك» . وهذا قد باع ما عنده. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلفت هذه الأجناس.. فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» . ولأن كل سلعة لم يتقدر ثمنها مع غير بائعها.. لم يتقدر مع بائعها، كما لو قبض الثمن.(5/331)
وأمّا الحديث: فلو كان عند عائشة شيء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذكرته، على أنه يحمل على أنها أنكرت شراءه إلى العطاء؛ لأنه أجل مجهول.
[مسألةٌ: البيع مرابحة]
] : وإذا اشترى شيئًا.. جاز أن يبيعه مرابحة، وهو أن يقول: اشتريت هذه السلعة بمائة درهم، وقد بعتكها بمائة درهم وربح درهم في كل عشرة، أو لكل عشرة، وبه قال عامّة أهل العلم.
وقال الشيخ أبو إسحاق: وكان ابن مسعود لا يرى بأسًا بـ (دَهْ يُازْدَهْ) ، و (دَهْ دَوَازْدَهْ) . ومعنى هذا: أنه كان لا يرى بأسًا أن يبيع ما اشتراه بعشرة، بإحدى عشرة وباثني عشرة؛ لأن (دَهْ) ـ في لغة الفرس ـ: عشرة، و (يُازْدَهْ) : إحدى عشر، و (دَوَازْدَهْ) : اثنا عشر. وروي عن ابن عبّاس، وابن عمر: أنهما قالا: (يكره هذا البيع) .
وقال إسحاق ابن راهويه: لا يصح.
دليلنا: أن رأس المال معلومٌ، والربح معلوم، فصح، كما لو قال: بعتك بمائة وعشرة، وأما ما روي عن ابن عبّاس، وابن عمر: فيحتمل أنهما كرها ذلك؛ لما فيه من تحمل الأمانة وأدائها.(5/332)
[فرع: بيع بعض ما اشتراه مرابحة]
ويجوز أن يبيع بعض ما اشتراه مرابحة، فإن كان ممّا ينقسم الثمن فيه على الأجزاء؛ كالعين الواحدة، أو مما تستوي أجزاؤه، كذوات الأمثال.. فإن الثمن ينقسم فيه على الأجزاء، فإن أراد بيع نصفه.. أجيز بنصف الثمن، وإن كان ثلثه أو ربعه.. فكذلك، وإن كان مما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء، فإن أراد بيع نصفه.. أُجيز بنصف الثمن فيه على القيمة، بأن اشترى عبدين أو ثوبين أو ما أشبههما، فإذا أراد بيع أحدهما مرابحة.. لم يصح حتى يقوِّم المبيعين، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، ثم يبيع ما يريد بيعه منهما بحصّته من الثمن.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز بيع المرابحة فيما ينقسم الثمن فيه على قيمته، ويجوز فيما تتساوى أجزاؤه، كالمكيل والموزون والمعدود المتساوي) .
دليلنا: أن الثمن ينقسم على قدر القيمتين، ألا ترى أنه لو اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصّته من الثمن، فكذلك هاهنا مثله؟
[مسألةٌ: معرفة الثمن تصحح المرابحة]
ولا يصح بيع المرابحة إلا أن يكون رأس المال معلومًا والربح معلومًا، فإن قال: بعتُكَ برأس مالي، أو بما اشتريت وربح درهم لكلِّ عشرةٍ، وهما لا يعلمان رأس مالِه فيه ولا ما اشترى به.. لم يصح الشراء. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] وجهًا آخر: إن أعلمه برأس ماله في المجلس.. صح، وبه قال أبو حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن الثمن مجهول عند أحدهما حال العقد، فلم يصح بذكره بعد ذلك في المجلس، كما لو باعه ما لا يملك، ثم ملَّكَه في المجلس، فإن كان الربح مجهولاً حال العقد، مثل أن يقول: بعتك بمائة وربح ما شئت أو ما يستوي عليه.. لم يصح؛ لأنه غير معلوم حال العقد، فلم يصح.(5/333)
[فرع: الإخبار بما لزم به العقد]
ولا يخبر إلا بالثمن الذي لزم به العقد، فإن اشتراه بثمن، ولم يلحقا به زيادة ولا نقصانًا.. أجيز بذلك الثمن، وإن ألحقا به زيادةً أو نقصانًا.. نظرت:
فإن كان ذلك قبل لزوم البيع، إما في خيار المجلس أو في خيار الشرط، فإن ذلك يلحق بالعقد، ويخبر به في بيع المرابحة، وهذا قول عامّة أصحابنا، إلا أبا عليّ الطبريّ، فإنه قال: إذا قلنا: إن المشتري يملك المبيع بنفس العقد.. فإن ذلك لا يلحق بالعقد. وليس بشيء؛ لأن المبيع وإن انتقل بالعقد، إلا أن الملك لم يستقر، ولهذا يجوز لكل واحدٍ منهما أن ينفرد بفسخ العقد، وإن ألحقا بالعقد زيادةً، أو حطّا بعض الثمن بعد الخيار.. لم يلحق بالعقد، وكان ذلك هبة، فإن أراد بيعه مرابحة.. أخبر بما وقع به العقد.
وقال أبو حنيفة: (يلحق بالعقد، ويخبر به في المرابحة) .
دليلنا: أنه حط بعد لزوم العقد.. فلم يلحق به، كما لو حط جميع الثمن.
[فرع: بيع التولية]
وتجوز التولية والشركة في البيع. فـ (التولية) : أن يشتري عينًا بثمن، ثم يقول المشتري لغيره: اشتريت هذه السلعة بكذا، وقد وليتُكها برأس مالها، فإذا قال الآخر: قبلت.. لزم الشراء برأس المال.
و (الشركة) : أن يقول: اشتريتها بكذا، وقد أشركتك بنصفها، فإذا قبل.. لزم البيع عليه بنصف السلعة بنصف الثمن.
إذا ثبت هذا: واشترى سلعة بثمن، ثم ولاَّها غيرَه أو أشرك غيرَه في الثمن فيها،(5/334)
ثم حطَّ الثمن عن المشتري الأول.. قال الطبري في " العدة ": فإن الحط يلحق بالمولى والمشرَك؛ لأن التولية والشركة تختص بالثمن، فلحق الثاني ما لحق الأول، ولو باعه المشتري الأول بلفظ البيع، ثم حطَّ الثمن عن المشتري الأول.. لم يلحق المشتري الثاني حطٌّ. قال: وهذا اختلافٌ يحصل باختلاف اللفظ، كما يقول في المرابحة: إذا كذب في رأس المال.. ثبت للمشتري الخيارُ، ولو باعه مساومةً وكذب في رأس المال.. لم يثبت للمشتري الخيار.
[فرع: ما يقول في المرابحة إذا تعلّق بها من المؤونة]
وإذا اشترى سلعةً بثمن، وأراد بيعها مرابحةً، فإن كان لم يلزمه عليها مؤونةٌ ولا عملٌ عليها.. فلهُ أَنْ يخبرَ بأحد خمسةِ ألفاظٍ، إمَّا أن يقول: اشتريتها بكذا، أو يقول: رأس مالي فيها كذا، أو يقول: قامت عليّ بكذا، أو تقوَّم عليّ بكذا، أو يقول: هيَ عليّ بكذا؛ لأنه صادق في ذلك كلِّه، وإن لزمه عليها مؤونة بأن يكون قد اشترى ثوبًا بعشرة، واستأجر من قصره أو طرَّزه بثلاثة دراهم، فلا يجوز أن يقول: اشتريتُهُ بثلاثة عشر؛ لأنه يكون كاذبًا، ويصح أن يقول: قام عليَّ بثلاثة عشر، أو هو عليَّ بثلاثة عشر، وهل يصح أن يقول: رأس مالي فيه ثلاثة عشر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصحُّ؛ لأن حقيقة رأس المال ما وزنه ثمنًا، والذي وُزِنَ ثمنًا عشرةٌ.
و [ثانيهما] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، واختاره ابن الصَّباغ، لأن رأس المال عبارةٌ عمَّا يطلبُ به الربح والنفقة والثمن في ذلك سواءً، فإن عمل فيه بنفسه ما يساوي ثلاثةً، فإنَّه لا يضمُّه إلى رأس المال ويخبر به؛ لأنه لا يستحق بعمله على نفسه أجرةً، وكذلك إذا تطوَّع غيره بالعمل فيه، إلاَّ أنه يمكنه أن يقول: اشتريته بكذا، وعملت فيه عملاً أجرتُهُ كذا، فلي ذلك، وقد بعتكه بذلك وبربح كذا، فيصح ذلك.(5/335)
[فرع: أخذ أرش عيب وحدث عيب وأراد بيعه مرابحة]
وإن اشترى عبدًا بمائة، فوجد به عيبًا، وقد حدث به عنده عيب آخر، فرجع بأرش العيب عشرة، فأراد أن يبيعه مرابحة.. فإنه يجب أن يحط ما أخذه أرشًا من الثمن، فيقول: هو عليَّ، أو يقوَّم عليَّ بتسعين، أو رأس مالي فيه تسعون، ولا يجوز أن يقول: اشتريته بتسعين؛ لأنه كذب، ولا يقول: اشتريته بمائة، ولا رأس مالي فيه مائة؛ لأن الأرش استرجاع جزءٍ من الثمن.
فإن جنى هذا العبد جناية، ففداه السيد بشيء.. لم يضمّه إلى رأس المال، وهكذا إذا مرض، فداواه، وأنفق عليه؛ لأن ذلك لاستبقاء ملكه، ويخالف القصارة والخياطة والصبغ؛ لأن في هذه المواضع له أثر في العين.
وإن جنى جانٍ على هذا العبد، فأخذ منه الأرش.. فهل يلزمه أن يحط ما أخذه من رأس المال؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه أن يحط ذلك، كما لا يضم إلى رأس ماله ما فداه به.
والثاني: يلزمه أن يحط ذلك من الثمن؛ لأنه بذل جزءًا منه، فلزمه أن يحطه من الثمن، كأرش العيب.
[فرع: بيع نماء المرابحة]
وإن اشترى شجرة لا ثمرة عليها، فأثمرت في يده، أو بهيمة حائلاً، فحملت في يده وولدت، أو لا لبن بها، فحدث بها لبنٌ فحلبه، أو عبدًا فاستخدمه، ثم أراد بيع ذلك مرابحة.. فإنه يخبر بجميع الثمن الذي اشتراه به، ولا يحط منه لأجل هذا النماء شيئًا؛ لأن هذا نماء حادث في ملكه، فكان له، هذا هو المشهور.
وذكر الصيمري: أنه إذا اشترى عبدًا، فاستخدمه، أو أجّره.. لزمه الإخبار(5/336)
بذلك، ولا وجه له، وإن كانت الشجرة مثمرة وقت الشراء، أو كان في البهيمة لبنٌ أو صوفٌ وقت الشراء، فأخذ الثمرة واللبن والصوف.. لزمه أن يحط من الثمن بحصة ما أخذ؛ لأن الثمن قابل الجميع.
وإن كانت بهيمة أو جارية حاملاً وقت الشراء، فولدت في يده، ثم أراد بيعها: فإن قلنا: إن الحمل له حكم.. فهو كاللبن والثمرة. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يحط من الثمن لأجله شيء.
[فرع: بيع ما أسلم فيه مرابحة]
إذا أسلم في ثوبين بصفة واحدة، فقبضهما، وأراد بيع أحدهما مرابحة.. قال ابن الصبّاغ: فإنه يخبر بحصته من الثمن، وهو النصف. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يبيعه مرابحة) .
دليلنا: أن الثمن وقع عليهما بالسويّة؛ لأن الصفة متساوية في الذمة، فهو كشراء القفيزين، فإن حصل في أحدهما نقصان عن الصفة.. فذلك نقصان جارٍ مجرى العيب الحادث بعد الشراء، فلا يمنع من بيع المرابحة.
[فرع: إخبار من اشترى مؤجلاً وباع مرابحة]
وإن اشترى بثمن مؤجّل.. لم يخبر بثمن مطلق، وفيه وجهٌ آخر حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق\254] : أنه لا يلزمه أن يبين الأجل. والأول أصح؛ لأن الأجل يأخذ جزءًا من الثمن.
فعلى هذا: يكون للمشتري الخيار؛ لأنه دلّس عليه بما يأخذ جزءًا من الثمن، فثبت له الخيار، كما لو دلّس عليه بعيب.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المبيع باقيًا.. كان له الخيار: إن شاء.. أمسكه، وإن شاء.. ردَّه، وإن كان تالفًا.. لزمه الثمن) .
وقال شريح، وابن سيرين، والأوزاعي: (يلزم البيع، ويثبت في ذمته الثمن مؤجلاً) .(5/337)
وقال أحمد، وإسحاق: (إن كان المبيع باقيًا، فإن شاء.. أمسك ذلك إلى الأجل، وإن كان تالفًا.. حبس من الثمن بقدر الأجل الذي كان للبائع) .
دليلنا: ما مضى، ولأن الذمم لا تتماثل، فربما كانت ذمة المشتري الثاني دون ذمة الأول.
[فرع: إخبار المرابح عن الشراء الأخير]
إذا اشترى شيئًا بمائة، ثم باعه بخمسين، ثم اشتراه بأربعين، فأراد بيعه مرابحة.. أخبر بالأربعين؛ لأنه هو العقد الذي ملك به، وإن اشتراه بمائة، ثم باعه بمائة وخمسين، ثم اشتراه بمائة.. أخبر بمائة، ولا يحط ما ربح في العقد الأول.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه أن يحط ما ربح، فيخبر بخمسين) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] : أنه قول ابن سريج.
دليلنا: أن الثمن في البيع الذي يلي بيع المرابحة هو المائة، فجاز أن يخبر به، كما لو لم يربح في الأول.
وإن اشترى شيئًا بعشرة، ثم واطأ غلامه الحر وهو الوكيل، فباعه منه، ثم اشتراه بعشرين، وأخبر بالعشرين في بيع المرابحة.. صح الشراء والإخبار، ولكن يكره له ذلك؛ لأنه لو صرّح به في العقد.. لأبطل العقد، فإذا قصده.. كُرِهَ، فإن علم المشتري بذلك.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يثبت له الخيار؛ لأن شراءه من غلامه صحيح.
و [ثانيهما] : قال ابن الصباغ: يثبت له الخيار؛ لأن هذا ضرب من التدليس، والتدليس محرم في الشرع، فأثبت الخيار.(5/338)
[فرع: اشترى من ابنه ليبيع مرابحة]
إذا اشترى شيئًا من ابنه أو أبيه أو مكاتبه.. جاز أن يبيعه مرابحة، ولا يلزمه أن يبين ممن اشتراه، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز حتى يبين ممن اشتراه) .
دليلنا: أنه أخبر بما اشتراه به صحيحًا.. فجاز بيعه، كما لو اشتراه من أجنبي.
وإن اشترى شيئًا بمائة، فاستغلاه، فأخبر بأنه اشتراه بتسعين.. قال الشيخ أبو نصر: فالبيع صحيح، وقد أساء بالكذب. وقال إسحاق بن راهويه: ليس هذا كذبًا إذا كانت إرادته: أنها قامت عليه بتسعين.
دليلنا: أنه أخبر بخلاف ما اشترى به، فلا يصح بالنيّة أنها قامت عليه بتسعين؛ لأنها ما قامت عليه إلا بالمائة، والنيّة لا تغيّر موجب اللفظ.
[مسألةٌ: بعتكها وربحٌ بقدر العشر]
وإن اشترى سلعة بمائة، فقال: بعتكها برأس مالها، وهو مائة وربح درهم لكل عشرة، أو في كل عشرة، أو ربح دَهْ يازْدَهْ.. فإن الربح عشرةٌ، والثمن مائة، ولزِم عليه مائة وعشرة.
[فرع: البيع محاططة]
ويجوز البيع مواضعةً ومخاسرةً؛ لأنه ثمن معلوم، فجاز البيع به كالمرابحة. فإذا قال: رأس مالي مائة، وقد بعتك برأس مالي ووضيعة دَهْ يازْدَهْ، أو مخاسرةِ دهْ يازدهْ، فالثمن أحدٌ وتسعون درهمًا إلا جُزءًا من أحد عشر جُزءًا من درهم، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن: أنهما قالا: الوضيعة عشرةٌ. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] : أنه وجهٌ لبعض أصحابنا.(5/339)
دليلنا: أن الحط يعتبر من الربح، وقد ثبت: أنه لو قال: يربح دهْ يازدهْ.. لزيد على كل عشرة درهم، فيكون أحد عشرة، فيجب أن يحط ذلك الربح، وهو: أن يحط من كل أحد عشر درهمًا درهمٌ، فإذا حطّ من تسعة وتسعين درهمًا تسعة دراهم.. حطّ من الدرهم الباقي جزءًا من أحد عشر جزءًا.
وإن قال: بعتك برأس مالي ووضيعة درهم من كل عشرة.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أن الثمن أحد وتسعون درهمًا إلا جزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم؛ لأن الوضيعة معتبرة من الربح.
ولو باع بربح درهم في كل عشرة.. لكان الربح عشرة، وكان الربح جُزءًا من أحد عشر جزءًا، فإذا باع بالوضيعة.. وجب أن يحط من المائة جزءًا من أحد عشر جزءًا منها.
والثاني ـ وهو قول أبي ثور، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصبّاغ ـ: أن الثمن تسعون؛ لأن المائة عشر عشرات، فإذا وضع من كل عشرة دراهم درهمًا بقي تسعون.
قال ابن الصّباغ: فأما إذا قال بوضيعة درهم لكل عشرة: فإن الثمن يكون أحدًا وتسعين درهمًا إلا جزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم.
[مسألةٌ: خطأ البائع بالثمن]
إذا قال: رأس مالي في هذه السلعة مائة، وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم على كل عشرة أو في كل عشرة، ثم قال البائع: أخطأت، بل كان رأس مالي فيها تسعين، أو قامت البينة بذلك.. فالمنصوص: (أن البيع صحيح) .
وقال مالك: (البيع باطل) . وحكاه القاضي أبو حامد وجهًا لبعض أصحابنا؛ لأن هذا كان مجهولاً عند العقد، وليس بشيء؛ لأن سقوط جزء من الثمن ضرب من التدليس لا يبطل البيع ولا يوجب كونه مجهولاً كأرش العيب، ولأنا لا نسقطه في أحد القولين.(5/340)
إذا ثبت هذا: فكم الثمن الذي وقع به البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه مائة وعشرة، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد؛ لأنه هو المسمى في العقد، وإنما بان فيه تدليس وخيانة، وذلك يوجب الخيار دون الحط، كما لو دلّس البائع بعيب.
والثاني: أن الثمن تسعة وتسعون درهمًا، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف، وأحمد، وهو الصحيح؛ لأنه باعه برأس المال وقدر له من الربح، وإنما أخبر بأكثر من ذلك، فوجب حط الزيادة، كالشفعة والتولية.
فإذا قلنا: إن الثمن مائة وعشرة.. فلا خيار للبائع، وللمشتري الخيار: بين الإجازة والفسخ؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ برأس المال، وهذا أكثر منه.
وإذا قلنا: إن الثمن تسعة وتسعون.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ نقل المزنيّ و" حرملة ": (أنّ له الخيار) . وذكر الشافعيّ في " اختلاف العراقيين ": (أنه لا خيار له) .
وإن كانت السلعة قائمة.. فاختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في المسألة قولان، سواءٌ ثبت ذلك بالبينة أو بإقرار البائع، وسواءٌ كانت السلعة قائمة أو تالفة. هكذا قال الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في شرائها بمائة وعشرة بأن يكون قد حلف: ليشترين عبدًا بمائة وعشرة، أو أوصى إليه أن يشتري عبدًا بهذا الثمن ويعتقه، فإذا بان بدون ذلك.. ثبت له الخيار، ولأنه إن علم ذلك بإقرار البائع.. فلا يؤمن أن يكون الثمن دونه، وأنه قد خان، وإن علمت خيانته بالبينة.. فلعل الباطن بخلاف الظاهر، وأن الثمن دونه.
والثاني: لا خيار له، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف؛ لأنه قد كان رضي بها بمائة وعشرة، فإذا حصلت بدون ذلك.. فقد حصلت له فائدة، فلم يثبت له الخيار، كما لو أمر وكيله أن يبيع عبده بمائة فباعه بمائة وعشرة.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: هي على حالين:(5/341)
فحيث قال: (للمشتري الخيار) أراد: إذا كانت السلعة قائمة يمكنه فسخ البيع؛ لأنه يزيل ضررًا عن نفسه ولا يلحق ضررًا بالبائع.
وحيث قال: (لا خيار له) أراد: إذا كانت السلعة تالفةً؛ لأنه يزيل ضررًا عن نفسه ويلحقه بالبائع، فلم يجز.
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: إن ثبتت خيانة البائع بإقراره.. فلا خيار للمشتري، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك يدل على أمانته، وإن ثبت ذلك بالبينة.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه قولان. قال الشيخ أبو حامد: ولعل هذا أسد الطرق.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: للمشتري الخيار، ففسخ البيع.. فلا كلام. وإن قلنا: لا خيار له، أو قلنا: له الخيار، فاختار الإجازة.. فهل يثبت للبائع الخيار؟
قال أكثر أصحابنا: فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين:
أحدهما: لا خيار له؛ لأنه رضي ببيعه برأس المال وقدر له من الربح، وقد بان أن هذا هو رأس المال وقدره من الربح.
والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ بمائة وعشرة، فإذا نقص عن ذلك.. ثبت له الخيار.
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا إسحاق في " المهذب " أومأ إلى: أن العين إذا كانت تالفةً.. أن البيع يلزم بتسعة وتسعين، قولاً واحدًا، ولا خيار له؛ لأن إثبات الخيار له يؤدي إلى الضرر بالبائع، وهذا مخالفٌ لما تقدم من كلام الشيخ أبي حامد. وذكر ابن الصبّاغ: أنها إذا كانت تالفةً، وقلنا: إنه يأخذ بمائة وعشرة.. فإن خياره لا يسقط، بل يكون بمنزلة المعيب إذا تلف في يده، وعلم بعيبه.. فيرجع بقدر الخيانة، كما يرجع بأرش العيب.(5/342)
[مسألةٌ: تغير قول البائع بقدر الثمن]
] : إذا أخبر: أن رأس المال مائة، فباع برأس ماله وربح درهم في كل عشرة، ثم قال البائع: أخطأت، وإنما كان الثمن مائة وعشرة، والربح يكون أحد عشر.. لم يقبل منه؛ لأن هذا رجوع عن إقرار تعلق به حق المشتري، فلم يقبل، كما لو أقرّ له بدين، ثم رجع عنه، فإن أقام بيِّنَة على ذلك.. لم تُسمع؛ لأنه قد كذّبها بإقراره السابق، فإن قال البائع: المشتري يعلم أني صادق، فحلّفوه: أنه ما يعلم.. فهل يلزمه أن يحلف؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: إن تضمّن قوله تكذيب نفسه، مثل: أن يقول: ابتعته بنفسي.. لم يحلف المشتري؛ لأن إقراره يكذبه، وإن لم يتضمن قوله تكذيب نفسه، بأن يقول: ابتاعه وكيلي، وكنت أظن أنه ابتاعه بمائة، وقد بان لي أنه ابتاعه بمائة وعشرة.. حلف المشتري؛ لأن إقراره لم يتقدم بتكذيب نفسه.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يبنى على القولين في يمين المدَّعي مع نكول المدَّعى عليه.
فإن قلنا: إنها كالبينة.. لم تعرض اليمين على المشتري. وإن قلنا: إنها كإقرار المدّعى عليه.. عرضت اليمين على المشتري؛ لأن البائع هاهنا هو المدعي، والمشتري مدَّعى عليه، فإذا عرضنا اليمين على المشتري.. فربما نكل عن اليمين فردت على البائع، فيكون يمينه بمنزلة بينة يقيمها، وقد قلنا: إن بيِّنته لا تقبل، فكذلك ما يقوم مقامها.
وإن قلنا: إن يمينه بمنزلة إقرار المشتري.. عرضت اليمين على المشتري؛ لجواز أن ينكل، فيحلف البائع، فيكون كإقرار المشتري، وإقراره مقبول. قال ابن الصباغ: وهذا أصح.
فإذا قلنا: لا يحلف المشتري.. فلا كلام، وإن قلنا: إنه يحلف.. فإنه يحلف: أنه ما يعلم أن البائع اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف(5/343)
على نفي العلم. فإن حلف.. انصرف البائع، وإن نكل.. رُدَّت اليمين على البائع، فيحلف على القطع: أنه اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فإذا حلف.. صار الثمن مائة وأحدًا وعشرين، ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأنه دخل على أن يكون الثمن مائة وعشرة، فإذا لزمه الأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار.
وبالله التوفيق(5/344)
[باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي]
باب النجش والبيع على بيع أخيه
وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنجش خديعة، وليس من أخلاق أهل الدين) .
وجملة ذلك: أن النجش حرام، وهو: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، فيراه المشتري، فيظن أنها تساوي ذلك.
والدليل على تحريمه: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النجش» .(5/345)
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا» .
ولأن هذا خديعة ومكر، فكان حرامًا.
فإن اغتر رجل بمن ينجش، فاشترى.. كان الشراء صحيحًا، وقال مالك: (يكون باطلاً) لأجل النهي.
دليلنا: أن النهي لمعنى في غير المبيع، وإنما هو للخديعة، فلم يمنع صحة البيع.
وهل يثبت للمشتري الخيار إذا علم؟ ينظر فيه:
فإن لم يكن النجش بمواطأة من البائع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لم يوجد من جهة البائع تدليس، وإن كان النجش بمواطأة من البائع.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه وجهان:
[أولهما] : قال أبو إسحاق: يثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس من جهة البائع، فأشبه التصرية.
والثاني: لا يثبت له الخيار، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس فيه أكثر من الغبن،(5/346)
وذلك لا يثبت الخيار؛ لأن التفريط جاء من قبل المشتري، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته، فأمّا إذا قال البائع: أُعطيت بهذه السلعة كذا، فصدّقه المشتري، فاشتراها بذلك، ثم بان أنه كاذب في ذلك.. فإن البيع صحيح.
قال ابن الصبّاغ: وينبغي أن يكون في إثبات الخيار للمشتري هذان الوجهان.
[مسألةٌ: مما نهي عنه من البيع]
قال الشافعي: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» .
وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تبايعا عينًا وبينهما خيار مجلس أو خيار شرط، فجاء رجل إلى المشتري، فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون ثمنها الذي اشتريتها به، أو أبيعك خيرًا منها بمثل ثمنها.. فهذا حرامٌ لا يحل؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه» ، ولأن هذا إضرار وإفساد فلم يحل.(5/347)
وهكذا: إذا قال للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع وأنا أشتريها منك بأكثر من هذا الثمن.. فإن هذا محرمٌ؛ لأن فيه معنى نهي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن فسخ ـ المشتري في الأولى، أو البائع في الثانية ـ البيع، وبايع الثاني.. صحَّ؛ لأن النهي كان لا لمعنًى في البيع.. فلم يمنع جواز البيع.
[مسألةٌ: السوم على سوم آخر]
وأمّا السوم على سوم أخيه: ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يسأل رجل رجلاً أن يبيعه سلعة، فيرده البائع، ولا يؤخذ منه ما يدل على الرِّضا بالبيع، فلا يحرم على غيره أن يسأله أن يبيعه إياها؛ لأنه لا ضرر على الأول بذلك.
الثانية: إذا أجابه البائع إلى البيع، بأن يصرح بالرضا بالبيع، أو يأذن لوكيله أن يعقد له، فيأتي آخر إلى البائع، فيقول: أنا أشتريها منك بأكثر من ذلك الثمن أو بأجود منه.. فهذا الفعل محرّم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه، ولا يسومن أحدكم على سوم أخيه» ، ولأن فيه إضرارًا بالأول.(5/348)
الثالثة: أن لا يصرح البائع بالرضا بالبيع من الأول، ولكن وجد منه ما يدل عليه، بأن يقول: أنا أشاور على ذلك، وما أشبهه، فهل يحرم على غيره أن يدخل على سومه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في الدخول على خطبة غيره إذا وجد من الوليّ التعريض بالإجابة:
[أحدهما] : قال في القديم: (يحرم) ؛ لأن في إفسادًا لما تقارب بينهما.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحرم) ؛ لأنه لم يوجد منه الرِّضا بذلك. هذا إذا سام على سوم أخيه.
فأمّا إذا استام على سوم أخيه، مثل: أن قال البائع: أبيعكها بمائة، وقال المشتري: بل أشتريها بتسعين، فيجيء إنسان إلى المشتري، فيقول له: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بما قلت أو دونه.. ففيه المسائل الثلاث، إن لم يوجد من المشتري ما يدل على ركونه إلى قول البائع.. فلا يحرم، وإن وجد منه الرضا بقول البائع.. فيحرم، وإن وجد منه التعريض بالرّضا بذلك.. فهل يحرم؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإن سام، أو استام، واشترى، أو باع.. صحّ ذلك؛ لأن النهي لمعنًى في غير المبيع، فلم يمنع صحة البيع. فأمّا إذا عرضت السلعة في حال النداء: لم يحرم على من أراد أن يشتريها الزيادة في ثمنها؛ لما روى أنس: «أن رجلاً من الأنصار أصابه جوعٌ وجهدٌ، فشكا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما لك شيءٌ؟ " قال: بلى، حلسٌ وقدَحٌ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اذهب، فأت بهما"، فأتى بهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يشتريهما؟ "، فقال رجلٌ: أنا أشتريهما بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يزيد على درهم " فقال آخر: أنا أشتريهما بدرهمين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هما لك بدرهمين» ، ولأن هذا لا يؤدي إلى الإفساد؛ لأنه لا يقصد بالنداء رجلاً(5/349)
بعينه، وإنما يطلب استكثار الثمن. و (الحلس) : كل شيء ولي ظهر البعير تحت القتب أو لازمه ولم يفارقه.
[مسألةٌ: بيع حاضر لباد]
ويحرم أن يبيع الحاضر للبادي، وهو: أن يقدم البادي إلى القرية أو البلد بمتاع فيجيء إليه الحاضر في البلد، فيقول: لا تبعْه، فأنا أبيعه لك، وأزيد لك في ثمنه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» . وروى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد، وإن كان أباه أو أخاه» . وروى طاوس، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد» . قال طاوس: قلت لابن عباس: ما معنى: «لا يبعْ حاضرٌ لبادٍ» ؟ قال: لا يكون له سمسارًا.(5/350)
إذا ثبت هذا: فإنما يحرم ذلك بشروط:
أحدها: أن يكون البادي إنما حمل المتاع للبيع، فأمّا إذا حمله لغير البيع: فلا يحرم ذلك على الحاضر.
الشرط الثاني: أن يكون البادي عازمًا على البيع في الحال، ولا يريد التربص به، فأمّا إذا كان البادي يريد التربص ببيعه.. لم يحرم ذلك على الحاضر.
الثالث: أن يأتي الحاضر إلى البادي، ويسأله ذلك، فأما إذا جاء البادي إلى الحاضر وسأله أن يبيع له.. لم يحرم عليه ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استنصح أحدكم.. فلينصح» ، ولأنا لو منعنا الحاضر من البيع في ذلك.. أدّى ذلك إلى الإضرار(5/351)
بصاحب المتاع، وربّما أدّى ذلك إلى انقطاع الجلب؛ لأن كل أحد لا يقدر على البيع بنفسه.
الشرط الرابع: أن يكون في الناس حاجة إلى ذلك المتاع، والبلد ضيق، فإذا بيع ذلك لمتاع فيه.. اتسع فيه أهل البلد، فأمّا إذا لم يكن على أهل البلد في بيع الحاضر مضرّة، بأن يكون البلد كبيرًا، لا ضرر عليهم في حبس المتاع عنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم على الحاضر البيع له؛ لعموم الخبر.
والثاني: لا يحرم عليه؛ لأنه لا مضرة على أهل البلد بذلك.
إذا ثبت هذا: فكل موضع وجدت فيه هذه الشرائط، وباع الحاضر فيها للبادي.. صحّ البيع؛ لأن النهي لا يعود إلى معنًى في المبيع، فلم يمنع صحّة البيع.
[مسألةٌ: تلقي الركبان]
قال الشافعي: (قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتلقّوا الركبان للبيع» . وهذا كما قال: لا يحل تلقي الركبان للبيع، وهو: أن يسمع بقدوم قافلة إلى البلد ومعها متاع فيتلقاها، ويخبرهم بكساد متاعهم، وهم لا يعرفون سعر متاعهم في البلد؛ لبعدهم، فيغرُّهم، ويشتري منهم بدون سعر البلد؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقِّي الجلب، فإن تلقّاها متلقٍّ.. فصاحبها بالخيار إذا ورد السوق» ، وروى ابن(5/352)
عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تتلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق» ، ولأن فيه إضرارًا بأهل السلع؛ لأن أهل البادية قد لا يعرفون سعر السوق، فيغرهم، فإن خالف وتلقّاهم، واشترى منهم.. صحّ الشراء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثبت للبائع الخيار، فلولا أنّ البيع صحيح.. لما أثبت له الخيار؛ ولأنه ليس فيه أكثر من الغرور والتدليس، وذلك لا يمنع صحّة البيع، كالتصرية، فإذا قدم البائع السوق.. نظرت:
فإن كان المشتري قد اشترى منهم بدون سعر البلد ثبت للبائع الخيار؛ لما ذكرناه في الخبر.
وإن اشترى منهم بسعر السوق أو أكثر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت للبائع الخيار؛ للخبر.
والثاني: لا خيار له؛ لأن المشتري ما غرّه، ولا دلّس عليه.
إذا ثبت هذا: فكم قدر مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ:
أحدهما: ثلاثة أيام؛ لأنه خيار تدليس، فأشبه خيار المصرّاة.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه على الفور؛ لأنه خيار لغير استعلام العيب، فكان على الفور، كخيار الثلاث، ويخالف المصراة، فهي لاستعلام العيب؛ لأنه قد لا يطلع على التصرية بدون الثلاث.
[فرعٌ: الخروج لغير التلقي]
وإن خرج لحاجة غير التلقّي، فوافى القافلة.. فهل يجوز له أن يشتري منهم؟ فيه وجهان:(5/353)
أحدهما: يجوز؛ لأنه لم يقصد التلقي.
والثاني: لا يجوز.
قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن المعنى الذي نهي عن التلقي لأجله موجود. وإن خرج، وتلقى القافلة، وباع عليهم المتاع.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ:
أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يشتري منهم، ولأن في ذلك اختصاصًا به دون أهل البلد.
والثاني: يجوز؛ لأن النهي تعلّق بالشراء دون البيع.
[مسألةٌ: في التسعير]
التسعير عندنا محرّم، وهو: أن يأمر الوالي أهل الأسواق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا وكذا، سواء كان في بيع الطعام أو في غيره، وسواء كان في حال الرخص أو في حال الغلاء. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان في البلد قحطٌ وجدوبةٌ.. فهل يجوز للسلطان التسعير؟ فيه وجهان.
وقال مالك: (يجوز للسلطان التسعير بكل حال) .
دليلنا: ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإنِّي لأرجو أن ألقى الله، وليس أحدٌ يطلبني بمظلمة في دم أو مال» .(5/354)
ولأن الناس مسلطون على أملاكهم، فلا يجوز أن يؤخذ منهم إلا برضائهم، ما لم يكن حالة ضرورة.
قال أبو إسحاق المروزي: إنما منع الشافعي من تسعير الطعام إذا كان يجلب إلى البلد، فأمّا إذا كان البلد لا يجلب إليه الطعام، بل يزرع فيها، ويكون عند التناء فيها.. فيجوز للإمام أن يسعر عليهم إذا رأى في ذلك مصلحة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط، بل الكل محرّمٌ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغلاء؛ لأن أصحابها يمتنعون من بيعها.
[مسألةٌ: احتكار الطعام]
ويحرم احتكار الطعام، وهو: أن يشتري الإنسان من الطعام ما لا يحتاج إليه في حال ضيقه وغلائه على الناس، فيحبسه عنهم ليزداد في ثمنه، ومن أصحابنا من قال: هو مكروهٌ، وليس بمحرّم. والأول أصح؛ لما روى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يُحتكرَ الطعام» .(5/355)
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر الطعام أربعين ليلة.. فقد برئ من الله، وبرئ الله منه» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعونٌ» .
وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يومًا مع أصحابه، فرأى طعامًا كثيرًا قد أُلقي على باب مكة، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: أُجلب إلينا، فقال: بارك الله فيه، وفيمن جلبه، قيل له: فإنه قد احتكر، قال: ومن احتكره؟ فقالوا: فلان، مولى عثمان، وفلان مولاك، فأرسل إليهما، فجاءا، فقال لهما: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: نشتري بأموالنا ونبيع، فقال عمر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم.. لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس» .(5/356)
قال الراوي: فأمّا مولى عثمان: فباعه، وقال: والله لا أحتكره أبدًا، وأمّا مولى عمر: فلم يبعه، فرأيته مجذومًا مخدوشًا.
فأمّا إذا جلب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس.. فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة، وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنةً، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه، ولا يحرم عليه احتكار غير الأقوات؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن احتكار الطعام» ، فخص الطعام، فدّل على: أن احتكار غيره يجوز، ولأنه لا ضرر في احتكار غير الأقوات، فلم يحرم.
وبالله التوفيق(5/357)
[باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع]
إذا اختلف المتبايعان في قدر ثمن السلعة، بأن قال المشتري: اشتريتها منك بألفٍ، وقال البائع: بل بعتكها بألفين، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان، وسواءٌ كانت السلعة باقية أو تالفةً في يد المشتري، وبه قال محمد، وأحمد رحمة الله عليهما في إحدى الروايتين.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن كانت السلعة باقية.. تحالفا، وإن كانت تالفةً في يد المبتاع.. فالقول قوله مع يمينه) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد، وعن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: مثل قولنا.
والثانية: مثل قول أبي حنيفة.
والثالثة: إن كان ذلك قبل القبض.. تحالفا، وإن كان بعض القبض.. فالقول قول المشتري.
وقال زفر، وأبو ثور: (القول قول المبتاع بكل حالٍ) .
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيِّنة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» .(5/358)
والبائع هاهنا يدّعي أنه عقد البيع بألفين، وينكر أنه عقده بألف، والمشتري يدّعي أنه عقده بألف، وينكر أنه عقده بألفين، وإذا كان كل واحد منهما مدّعيًا ومدّعى عليه.. وجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين، كما لو ادّعى أحدهما على صاحبه عبدًا، وادّعى المدعى عليه على المدّعي جارية، ولأنهما اختلفا في العقد القائم بينهما، وليس معهما بيِّنة، فتحالفا، كما لو كانت السلعة قائمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان قبل القبض مع مالك.
[مسألةٌ: اختلاف المتعاقدين]
] : وإن اختلفا في قدر المبيع، بأن قال: المشتري بعتني هذين العبدين بألف، وقال البائع: بل بعتك أحدهما، وهو هذا بألف، أو اختلفا في شرط الخيار، أو في قدره، أو في الأجل، أو في قدره، أو في الرهن، أو في قدره، أو قال البائع: بعتك بثمن بشرط أن تضمن لي فلانًا، فأنكر المشتري ذلك، أو ادّعى المشتري أن البائع شرط له أن يضمن له فلانًا بالعهدة، وأنكر البائع ذلك.. فمذهبنا: أنهما يتحالفان في ذلك كله.(5/359)
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يتحالفان، بل القول قول من ينفيه مع يمينه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على المدعى عليه» ، ولأنهما اختلفا في صفة العقد القائم بينهما، ولا بينة، فتحالفا، كما لو اختلفا في الثمن.
[مسألةٌ: تحالف المختلفين]
] : وإذا أرادا التحالف.. فإن الشافعي قال هاهنا: (يبدأ بيمين البائع) . وهكذا قال في (السَّلَم) : (يبدأ بيمين المسلَم إليه) . وهو بائعٌ في الحقيقة. وقال في (المكاتب) : (إذا أراد اختلفا يبدأ بيمين السيد) . وهو بائعٌ في الحقيقة، وقال في (الصداق) : (إذا اختلف الزوجان في الصداق يُبدأُ بيمين الزوج) . والزوج كالمشتري، وهذا مخالف لما قبله. وقال في (الدعوى والبينات) : (إن بدأ بيمين البائع.. خير المشتري، وإن بدأ بيمين المشتري.. خير البائع) . وهذا يدل على: أنه بالخيار في البداية.
واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبدأ بيمين البائع، وبه قال أحمد؛ لما روى ابن مسعود: أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» .(5/360)
فبدأ بالبائع أولاً، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ لأنهما إذا تحالفا.. رجع المبيع إلى ملكه، فكانت البداية به أولى.
والثاني: يبدأ بيمين المشتري، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جنبته أقوى قبل التحالف؛ لأن المبيع على ملكه، فكانت البداية به أولى، كما لو ادّعى رجل دارًا في يد آخر.
والثالث: أنهما سواءٌ، فيبدأ بأيهما شاء؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ لأن السلعة يعود ملكها بعد التحالف إلى البائع، وكذا الثمن يعود ملكه إلى المشتري، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية، كما لو كان في يدهما دارٌ، فادّعى كل واحد منهما ملك جميعها.. فإنهما يتحالفان، ويبدأ الحاكم بيمين من شاء منهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول أقيس، والأول هو ظاهر المذهب.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وإنه يبدأ بيمين البائع، وكذلك في السلم والكتابة، وفي الصداق يبدأ بيمين الزوج؛ لأنهما إذا تحالفا في الصداق.. فإنّ ملك البضع يكون للزوج بعد التحالف، كما أن ملك المبيع يعود إلى البائع بعد التحالف، فأمّا ما ذكره في (الدعوى والبينات) : قال الشيخ أبو حامدٍ: فله تأويلان.
أحدُهما: أنّ الشافعي لم يذكر أن هذا مذهبًا له، وإنّما بيّن أن هذا مما يسوّغ فيه الاجتهاد، وإن حاكمًا لو حكم بأنه يبدأ بيمين البائع أو بيمين المبتاع.. نفذ حكمه، ولم ينقض، فأما مذهبه: فيبدأ بيمين البائع.
والتأويل الثاني: أنّ الشافعي إنما قصد بهذا أن يبين أن قولنا: إنه يبدأ بيمين البائع، ليس على وجه الشرط، ولكن على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بيمين المبتاع.. صحّ، ووقعت موقعها.(5/361)
[فرعٌ: التحالف على كل بالنفي والإثبات]
وإذا أرادا التحالف.. فإنّ كلّ واحدٍ منهما يحلف على النفي والإثبات؛ لأن كل واحدٍ منهما مدّع ومنكرٌ لما ادّعي عليه، وهل يحلف كل واحد منهما يمينين، أو يمينًا واحدةً؟ ظاهر ما قال الشافعي هاهنا: أنه يحلف يمينًا واحدةً يجمع فيها بين النفي والإثبات، وقال في (التداعي) : (إذا كانت دارًا في أيديهما، فادّعى كل واحد منهما جميع الدار لنفسه.. فإن كل واحد منهما يحلف على النفي، فيحلف أحدهما: أنك لا تستحق شيئًا من نصيبي، ثم يحلف الآخر كذلك، فإذا حلفا جميعًا على النفي.. حلف كل واحدٍ منهما على الإثبات) .
فمن أصحابنا من نقل هذا الجواب إلى البيع، فجعل في البيع قولين:
أحدهما: يحتاج أن يحلف كل واحد منهما يمينين؛ لأن كل واحد منهما يدّعي عقدًا وينكرُ عقدًا، فافتقر إلى يمينين، ولأنهما إذا حلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. حلف البائع على الإثبات، قبل نكول المشتري، فلم يجز.
والثاني: يكفي أن يحلف كل واحد منهما يمينًا؛ لأنه أقرب إلى فصل الحكم قال الشيخ أبو حامد: ولم يختلفوا أن مسألة التداعي في الدار على قول واحد، فإن كل واحدٍ منهما يحلف يمينين.
وقال ابن الصباغ: على هذا الطريق فيها قولان.
ومن أصحابنا من أجراهما على ظاهرهما، وقال: يحلف كل واحد منهما في التداعي بملك الدار يمينين؛ لأن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فلو قلنا: إن أحدهما يحلف يمينًا واحدةً: أنّ صاحبه لا يستحق شيئًا من نصيبه.. فإنه يستحق نصيب صاحبه، لكُنَّا قد حلّفناه على إثبات ما بيد غيره قبل نكول صاحب اليد، وهذا لا يجوز. وفي البيع يكفي كل واحد منهما أن يحلف يمينًا واحدةً؛ لأن كل واحد منهما لا يحلف على إثبات ما بيد غيره، وإنما يحلف على صفة عقد تضمّن نفيًا وإثباتًا، وجاز أن يحلف على الإثبات قبل نكول الآخر؛ لأن النفي تابع للإثبات،(5/362)
ولأن الحادثة واحدة وهي البيع، فإثبات قول أحد الخصمين نفيٌ لقول الآخر، فجاز الجمع بينهما، وهل يقدم الإثبات على النفي في اليمين أو اليمينين؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يبدأ بالإثبات قبل النفي، كما يبدأ في اللعان بالإثبات قبل النفي.
و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يبدأ بيمين النفي قبل الإثبات، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في الأيمان إنما هو البداية بالنفي، وهو يمين المدّعى عليه، ولا تكون اليمين على الإثبات إلا عند نكول المدَّعى عليه، أو على سبيل التبع للنفي، بخلاف اللِّعان، فإنه لا نفي فيه، وإنما هو إثبات.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يحلف كل واحد منهما يمينًا واحدة.. فإن البائع يحلف يمينًا: ما بعتكها بألف، ولقد بعتكها بألفين، فإذا حلف البائع.. قيل للمشتري: أنت بالخيار: بين أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف، فإن اختار أن يأخذها بألفين.. أُقرّ العقد، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ولقد اشتراها بألف، فإذا حلف فقد تحالفا، وهذا معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» .
وإن قلنا: يحلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. فإن البائع يحلف يمينًا: أنه ما باعها بألفٍ، فإذا حلف.. قيل للمشتري: أتختار أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف؟ فإن لم يحلف، واختار أخذها بألفين.. لزمه البيع بألفين، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ثم يحلف البائع: لقد باعها منه بألفين، ثم يحلف المشتري: لقد اشتراها منه بألفٍ، ويصيران متحالفين، فإن نكل المشتري عن يمين النفي.. حلف البائع: على الإثبات، ولزم المشتري ما حلف عليه البائع، وإن نكل المشتري عن يمين الإثبات.. لزمه ما حلف عليه البائع.(5/363)
[مسألةٌ: أيفسخ العقد بالتحالف]
وإذا تحالفا لم يبق إلاَّ الفسخ للعقد؛ لأنه لا يمكن إمضاؤه بعد التحالف، وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو يفتقر على الفسخ؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ بنفس التحالف، كما ينفسخ النكاح باللعان؛ ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولاً، والبيع لا يثبت مع جهالة الثمن.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا ينفسخ إلاَّ بالفسخ) ؛ لأن العقد وقع صحيحًا في الباطن، فتداعيهما وتعارضهما باليمين لا يوجب فسخه، كما لو أقام كل واحد منهما بيِّنةً.. فإن البيع لا ينفسخ، وإن كانت التهمة منتفية عن البينة.. فلأن لا ينفسخ بأيمانهما والتهمة غير منتفية عنهما أولى.
فإذا قلنا: إن البيع ينفسخ بالتحالف.. فإن المبيع يرد إلى البائع، فلو أراد المشتري أن يمسكه بما حلف عليه البائع أو رضي البائع بتسليمه بما حلف عليه المشتري.. لم يصح ذلك إلا بعقد جديد.
وإن قلنا بالمنصوص، وأنه لا ينفسخ بالتحالف.. فإنه يقال للمشتري: أترضى أن تمسك المبيع بما حلف عليه البائع، فإن رضي بذلك.. أجبر البائع على تسليمه بذلك؛ لأنه أقر أنه باعه بذلك، وإن لم يرض المشتري بإمساكه بما حلف عليه البائع.. قيل للبائع: أترضى أن تسلِّمَهُ بما حلف عليه المشتري، فإن رضي بذلك.. أُجبر المشتري على ذلك؛ لأنه أقر أنه ابتاعه بذلك، وإن لم يرض واحدٌ منهما.. فُسخَ العقد، وفيمن يفسخه وجهان:
أحدهما: لا يفسخه إلا الحاكم؛ لأنه فسخ مجتهد فيه، فافتقر إلى فسخ الحاكم، كفسخ النكاح بالعنة والإعسار بالنفقة، وفيه احترازٌ من الرد بالعيب.
والثاني: يفسخه من شاء منهما؛ لأن النقص قد دخل على كل واحد منهما؛ لأن البائع يقول: بعته بألفين، ولم يسلم إليّ إلاَّ ألفٌ، والمشتري يقول: أنا أستحق المبيع بألفٍ، والبائع يطلب منِّي ألفين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما أن ينفرد بالفسخ، كما(5/364)
لو اشترى عبدًا بثوب، ووجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبًا، فإذا فسخ البيع بينهما بعد التحالف أو انفسخ.. فهل ينفسخ طاهرًا وباطنًا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، كما ينفسخ النكاح باللِّعان ظاهرًا وباطنًا، وكما ينفسخ البيع بالرد بالعيب.
والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن سبب الفسخ الجهالة بالثمن، والثمن إنما هو مجهول في الظاهر دون الباطن، فكذلك الفسخ.
والثالث: إن كان البائع ظالمًا.. فإن الفسخ يقع في الظاهر دون الباطن؛ لأنه يمكنه تسليم المبيع واستيفاء ما وقع به العقد، فإذا امتنع من ذلك.. كان عاصيًا، فلم يقع الفسخ لذلك، وإن كان البائع مظلومًا.. انفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا؛ لأنه لا يمكنه الوصول إلى حقّه، فانفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا، كما لو باع من رجل عينًا، وأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه قبل أن يقبض البائع ثمنه، واختار الرجوع إلى عين ماله.
فإذا قلنا بالوجه الأول، وأن البيع ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، أو كان البائع مظلومًا على الوجه الثالث.. فإن المبيع يعود إلى ملك البائع، كما لو ملكه بعقد وتصرف فيه بجميع وجوه التصرفات، وإن كان المبيع جارية.. ملك وطأها.
وإن قلنا بالوجه الثاني، وأن البيع ينفسخ في الظاهر دون الباطن، أو كان البائع ظالمًا على الوجه الثالث.. فإن البائع إذا أخذ المبيع.. لم يملكه في الباطن، وإن كانت جارية لم يملك وطأها؛ لأنها ملك غيره.
والوجه الثالث: يتصرف بين الأولين في التفريع، فكلُّ موضع قلنا: ينفسخ البيع في الظاهر دون الباطن.. نظر فيه:
فإن كان البائع ظالمًا.. لزمه ردُّ المبيع على المشتري.
وإن كان مظلومًا.. حل له أخذه، ويكون كمن له على غيره دين، وامتنع من أدائه، ووجد له شيئًا من ماله من غير جنس حقِّه.. فله أخذه، ولا يملكه بالأخذ،(5/365)
ولكن يباع منه بقدر حقِّه، وهل يملك بيعه بنفسه، أو لا يصح بيعه إلا بالحاكم؟ فيه وجهان: يأتي بيانهما، الصحيح: أنه يملك بيعه بنفسه، فإن باعه بنفسه، أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه فوق حقِّه.. أخذه، وإن كان أنقص من حقِّه.. فله أن يستوفي حقّه من مال المشتري، وإن كان أكثر من حقِّه.. ردّ الفضل على المشتري.
[فرعٌ: إذا تلفت السلعة في يد البائع فهي من ضمانه]
] : وإن تلفت العين في يدي البائع.. تلفت من ضمانه.. وإن تحالفا بعد هلاك السلعة في يد المشتري، وفسخ العقد، أو انفسخ.. وجب على المشتري ردُّ قيمة السلعة، ومتى تعتبر القيمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أكثر ما كانت من يوم قبضها المشتري إلى أن تلفت.
والثاني: تعتبر قيمتها يوم التلف، كالوجهين في قيمة المبيع المقبوض في البيع الفاسد، فإن زادت القيمة على قدر ما يدَّعيه البائع من الثمن.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب تسليم الزيادة إليه؛ لأنه لا يدّعيها.
و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يجب تسليم ذلك، وهو المذهب؛ لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن.
وإن اختلفا في قيمة السلعة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم.
وإن اختلفا في قدر ما قبضه البائع من الثمن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض إلا فيما أقرّ به.
[فرعٌ: اختلف المتبايعان بعد وطء الثيب]
إذا اشترى جاريةً ثيبًا، فوطئها، ثمّ اختلف المتبايعان في ثمنها.. تحالفا وترادًّا على ما تقدم بيانه، ولا يجب على المشتري مهرُها؛ لأنه وطئها وهي في ملكه، كما(5/366)
إذا وطئها ووجد بها عيبًا فردَّها، وإن كنت بكرًا، فافتضَّها، ثم اختلفا في الثمن، وتحالفا.. ردَّ الجارية وأرش النقص بالافتضاض دون المهر؛ لأن الافتضاض إتلاف جزء ينقص قيمتها، ولو كانت تالفةً.. لردّ قيمتها، فكذلك إذا تلف جزء منها.
قال ابن الحداد: وكذلك: إذا زوّج المشتري الجارية، ثم اختلف المتبايعان في الثمن وتحالفا.. فإن عقد البيع ينفسخ، ولكن لا ينفسخ عقد النكاح؛ لأنه عقدٌ لازمٌ، ولكن يرد الأمة المزوجة إلى البائع، وعلى المشتري ما بين قيمتها خاليةً من الزوج وبين قيمتها مزوجة.
وهكذا: إذا أعتقها المشتري، أو وقفها، أو باعها، أو وهبها من غيره.. فإنهما إذا تحالفا.. ردّ المشتري قيمتها، كما لو تلفت. وإن تحالفا بعد ما أجّرها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : فإنه يردُّها وأرش ما نقصت بالإجارة، وإن كسب العبد المبيع، أو كانت بهيمة، فولدت ولدًا في يد المشتري، أو شجرة، فأثمرت، ثم اختلفا، وتحالفا.. فإنه يرد المبيع، ويمسك الزيادة المنفصلة، كما قلنا في المردود بالعيب.
[فرعٌ: الحلف من غير استحلاف]
وإن باعه عبدًا، فقال البائع: بعتكه بألفين، وقال المشتري: بل اشتريته بألف.. فحلف كل واحد منهما بحريته: إنه لصادق فيما قال.. فإنهما يتحالفان على ما مضى، فإذا تحالفا، وانفسخ البيع، أو فسخه الحاكم، أو أحدهما.. قال ابن الحدَّاد: فإن العبد يعتق على البائع؛ لأنه مقر: بأن المشتري حانث في يمينه، وأن العبد قد صار حرًّا؛ لأنه حنث والعبد في ملكه. وإن حلف البائع: أنه ما باعه بألف ولقد باعه بألفين، ورضي المشتري بأن يمسك العبد بالألفين.. لم يعتق عليه العبد؛ لأنه وإن أقر بحنث البائع في يمينه، إلا أنه حنث بها والعبد في ملك المشتري، وإن وجد المشتري بعد ذلك به عيبًا، فردّه على البائع.. عتق على البائع بإقراره السابق؛ لأنه متى رجع إليه زال حقّ الغير عنه، فلزمه حكم إقراره السابق، وكذلك لو رجع إليه بهبةٍ أو بيعٍ أو إرثٍ أو إقالةٍ.. لزمه حكم إقراره السابق.(5/367)
[مسألة: موت المتبايعين]
] : وإن مات المتبايعان، فاختلف ورثتهما.. تحالفوا.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المبيع باقيًا في يد ورثة البائع.. تحالفوا، وإن كان المبيع في يد ورثة المبتاع.. لم يتحالفوا، وكان القول قول ورثة المبتاع) .
دليلنا: أنها يمين في المال توجّهت على الموروث، فقام الوارث فيها مقامة، كما لو كان المبيع في يد ورثة البائع.
وإن كان المبيع بين وكيلين، واختلفا في قدر الثمن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب " [1/293] :
أحدهما: يتحالفان؛ لأنهما عاقدان، فتحالفا، كالمالكين.
والثاني: لا يتحالفان؛ لأن اليمين تعرض ليخاف الظالم منهما، فيرجع [والوكيل إذا أقر، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه، فلا تثبت اليمين في حقِّه] ؛ لأن التحالف بالإقرار، ولا يقبل إقرار الوكيل على موكِّله.
[مسألة: اختلفا بالبيع أو الهبة]
إذا انتقل عبدٌ من يد رجل إلى آخر، ثم اختلفا، فقال من انتقل من يده العبد: بعتكه بمائة، وقال من بيده العبد: بل وهبتنيه.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : يتحالفان.
قال الطبري في " العدة ": لم يرد: أنهم يتحالفان كتحالف المتبايعين على النفي والإثبات، بل يحلف كل واحدٍ منهما على نفي دعوى صاحبه دون إثبات دعواه.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يحلف البائع: أنه باعه وما وهبه؛ لأنهما قد اتفقا على زوال الملك عن مالكه، فكان القول قوله في صفة الانتقال عنه؛ لأنه أعلم بذلك.(5/368)
وإن اختلفا في عين المبيع، بأن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، وقال المشتري: بل اشتريت هذه الجارية بألف.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد: أنهما لا يتحالفان على النفي والإثبات، بل يحلف البائع: أنه ما باعه الجارية، ويحلف المشتري: أنه ما اشترى العبد؛ لأن التحالف على النفي والإثبات إنما يكون إذا اختلفا في عقد، وهذان عقدان، ولأن التحالف يكون مع اتفاقهما على انتقال الملك إلى المشتري، وهاهنا لم يتفقا على أنه يملك أحدهما.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: ذكر ابن الحداد: إذا اختلفا في الصداق، فقالت: مهرتني أمّي، وقال الزوج: بل مهرتك أباك.. أنهما يتحالفان.. قال القاضي: ولا يختلف أصحابنا في مسألة الصداق، فكذلك في البيع؛ لأن كل واحد منهما مدّع ومدّعى عليه، فتحالفا، كما لو اختلفا في قدر المبيع. وأمّا انتقال الملك: فإنهما قد اعترفا بثبوت ملك الثمن للبائع أيضًا.
فإن قلنا بقول القاضي.. نظرت:
فإن حلفا على النفي والإثبات، وانفسخ العقد، أو فسخ.. أخذ البائع العبد أو الجارية، ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه.
وإن حلف البائع وحده ونكل المشتري، أو حلف المشتري ونكل البائع.. فهو كما لو أقام الحالف منهما البينة، على ما يأتي ذكره.
وإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد.. فإن البائع إذا حلف: أنه ما باع الجارية، فإن كانت في يد المشتري.. أخذها البائع، وإن حلف المشتري: أنه ما اشترى العبد قال ابن الصباغ: فإن كان العبد.. في يد المشتري.. لم يأخذه البائع؛ لأنه يقرّ أنه له، وإن كان في يد البائع.. لم يلزم المشتري قبضه. قال ابن الصبّاغ: وله أخذه عندي ليستوفي منه الثمن الذي قبضه البائع منه.(5/369)
وإن أقام كل واحد منهما بيِّنة بما ادّعاه.. فإن بينة المشتري يحكم بها، ويأخذ المشتري الجارية.
وأمّا البائع إذا أقام بينة بأنه باعه العبد.. نظرت:
فإن كان العبد في يد المشتري.. لم ينتزع من يده، كمن بيده دارٌ أقر بها لإنسان، ولم يصادقه المقر له.. فإن الدار لا تنزع من يد المقر.
وإن كان العبد في يد البائع.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر المشتري على قبضه؛ لأن البينة قد شهدت له بملكه، بخلاف من أقر بدار لمن لا يدّعيها؛ لأن البينة هاهنا قد شهدت بحق له وحق عليه.
والثاني: لا يجبر على قبضه؛ لأنه لا يدّعي ملكه.
فعلى هذا: ينزع من يد البائع، ويسلم إلى الحاكم ليحفظه إلى أن يدّعيه المشتري أو ورثته. وإن رأى أن يؤاجره وينفق عليه من أجرته.. فعل. وإن رأى أن يبيعه ويمسك ثمنه إلى أن يدعيه المشتري.. فعل.
[مسألة: الخلاف في شرط يفسد البيع]
] : إذا اختلفا في شرط يفسد البيع، بأن قال البائع: بعتكه بشرط خيار ثلاثة أيام، وقال المشتري: بل اشتريته بخيار أربعة أيام، أو قال: بعتكَه بدراهم، فقال: بل اشتريته بخمرٍ أو خنزيرٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصبّاغ ـ أن القول قول من يدّعي صحة العقد؛ لأن الأصل عدم ما يفسده، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (فيمن أسلم إلى أجل في طعام، واختلفا، فقال المسلم إليه: إنه بشرط الخيار، وأنكر المسلم ذلك: أن القول قول المسلم مع يمينه) . وهذا نص أن القول قول من ينفي الشرط المفسد.
والثاني: أن القول قول من يدعي فساد العقد، وهو اختيار صاحب " التقريب "؛ لأن الأصل عدم العقد.(5/370)
وقال القاضي أبو الطيب: أصل هذين الوجهين مأخوذ من القولين فيمن أقر أنه تكفل ببدن رجل على أنه بالخيار، فأنكر المكفول له شرط الخيار.
وقال القفّال: أصلهما مأخوذ من القولين فيمن أقرّ لغيره بحق، ثم وصله بما يسقطه.
قلت: وهما أصلٌ واحدٌ.
قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: بعتك هذه العين بشرط البراءة من العيوب، وأنكر المشتري هذا الشرط.. فإن قلنا: إن البيع صحيح والشرط صحيح.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات على ما مضى. وإن قلنا: إن الشرط والبيع باطلان.. فالقول قول من ينكر الشرط؛ لأن الظاهر من العقد الصحة. وإن قلنا: لا يصح الشرط ويصح العقد.. ولم يفد هذا الاختلاف شيئًا، ولا يمين على أحدهما.
[فرعٌ: الاختلاف في الصرف بعد التفرق]
وإن اختلفا في الصرف بعد التفرق، فقال أحدهما: تفرقنا قبل القبض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد القبض.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق قبل القبض مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض وعدم صحة العقد.
والثاني: أن القول قول من يدّعي التفرق بعد القبض مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة العقد، والأصل عدم ما يفسده.
وإن افترقا، فقال أحدهما: تفرّقنا عن تراض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد الفسخ.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق عن التراضي؛ لأن الأصل صحة العقد.
والثاني: أن القول قول من يدّعي الفسخ؛ لأن الأصل عدم العقد.(5/371)
[مسألة: ادعاء عيب كان موجودًا]
] : إذا اشترى عبدًا، ووجد فيه عيبًا، فادّعى المشتري أنه كان موجودًا بالعبد في يد البائع، وقال البائع: بل حدث عندك.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: إذا كان لا يمكن حدوثه في يد المشتري، مثل: أن يوجد للعبد أصبع زائدة تضر بالعبد، أو شجة مندملة وللشراء وقتٌ لا يندمل مثل تلك الجراحة فيه.. فالقول قول المشتري هاهنا بغير يمين.
الثانية: إذا كان العيب مما لا يمكن حدوثه في يد البائع، مثل: أن يقيم العبد في يد المشتري سنة أو شهرًا، فيأتي وبه شجّة طريّة.. فالقول قول البائع هاهنا بغير يمين.
الثالثة: إذا كان العيب مما يمكن حدوثه في يد كلِّ واحد منهما، مثل: أن يشتري منه ثوبًا، فقبضه، فأقام، فوجد فيه خرقًا أو مرفوءًا.. فإن البائع إذا أنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل سلامة المبيع حال العقد، وعدم العيب فيه.
إذا ثبت هذا: فكيف يحلف؟ ينظر في البائع:
فإن أجاب: بأنك لا تستحق عليّ ردّه بالعيب.. فإنه يحلف كذا، ولا يكلَّف أن يحلف: لقد باعه بريئًا من العيب؛ لأن المشتري قد يشتري المعيب مع علمه به أو يرضى به.. فيسقط حقه من الرد، وقد لا يكون للبائع على ذلك بينةٌ، فلم يكلف اليمين إلا على ما أجاب به.(5/372)
وإن قال البائع: بعته بريئًا من العيب.. فهل يكلف أن يحلف على ذلك، أو يجوز أن يحلف: أنه لا يستحق عليه ردّه بالعيب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكفيه أن يحلف: أنه ما يستحق عليه ردّه بالعيب؛ لأن ذلك أعمّ.
والثاني: يلزمه أن يحلف على ما أجاب؛ ليكون موافقًا لجوابه.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يحلف البائع: لقد باعه إيّاه بريئًا من العيب) .
وقال المزني: ينبغي أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المشتري يستحق الرد بما يحدث من العيب في يد البائع قبل القبض.
قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا ادّعى المشتري أنه باعه إيّاه وبه هذا العيب، فإنّه يحلف على حسب دعوى المشتري، فأمّا إذا قال المشتري: أقبضتنيه وبه هذا العيب، وكان حدوثه قبل القبض، أو قال: سلمته إليَّ معيبًا، ولا أدري متى حدث.. فإنه يجب على البائع أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، ويحلف على البت والقطع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه.
[فرعٌ: الاختلاف في ردّ المبيع بالعيب]
وإن اختلفا في المردود بالعيب أنه المبيع أو غيره.. نظرت:
فإن تعلق العقد بعينه مثل: أن يشتري منه عبدًا بعينه بدراهم بأعيانها، فجاء مشتري العبد بعبد، وقال: هذا العبد هو الذي اشتريته منك وهو معيب، وقال البائع: العبد الذي بعتك غير هذا.. فالقول قول البائع مع يمينه.
وهكذا: إذا ردّ البائع الدراهم التي وقع البيع على عينها، وقال: هي معيبة، فقال المشتري: الدراهم التي اشتريت بها منك غير هذه.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل صحة العقد وسلامة المبيع من العيب.
وإن كان المبيع في الذمة مثل: أن يسلم رجل إلى رجل على عبدٍ، فقبض المُسلِمُ(5/373)
من المسلم إليه عبدًا، ثم جاءه بعبد، فقال: هذا العبد الذي سلّمت إليّ وهو معيبٌ، بخلاف ما وقع عليه عقد السلم، وقال المسلم إليه: العبد الذي سلّمت إليك غير هذا العبد، ولا عيب به.. فالقول قول المسلم مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العبد في ذمة المسلم إليه حتى يثبت تسليم عبدٍ على الصفات المذكورة في السلم.
وهكذا: إذا باعه عينًا بدراهم في ذمته، فقبضها البائع، ثم ردّ البائع دراهم، وقال: هي التي سلّمت إليّ وهي معيبة، وقال المشتري: بل التي سلّمت إليك غير هذه الدراهم وهي سليمة.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدّعي أنه قد أقبض البائع ما وجب عليه، والبائع منكرٌ، والأصل بقاؤها في ذمّته، وهكذا ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات "، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " في العبد المسلم فيه: أن القول قول المسلم إليه مع يمينه.
[فرعٌ: الاختلاف في عدد المشترى]
وإن اشترى منه عشرة أقفزة من صُبرة، فاكتالها المشتري من البائع، ثم قال المشتري: إنها تسعة، وقال البائع: بل هي عشرة.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدّعي القبض، والمشتري ينكره، والأصل عدم القبض وعدم الإيفاء.
والثاني: أن القول قول البائع مع يمينه.
قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتَّفقا على القبض والمشتري يدَّعي الخطأ فيه، فكان عليه البيِّنة، كما لو قبض المشتري المبيع، وادّعى به عيبًا كان موجودًا في يد البائع.. فإن القول قول البائع مع يمينه.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: إذا أسلم إليه في طعام كيلاً، ثم جاء المسلم إليه وكاله على المسلم وقبضه كيلا، ثم ادّعى المسلم [إليه] نقصانًا.. ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه.(5/374)
[مسألة: اختلفا في بداية التسليم لأن الثمن في الذمة]
إذا اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلِّم الثمن حتى أقبض السلعة.. فاختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال مشهورة:
أحدها: أن الحاكم يجبر البائع على إحضار السلعة وتسليمها إلى عدلٍ، ويجبر المشتري على إحضار الثمن وتسليمه إلى عدل، أو يأخذهما الحاكم، ثم يسلِّم السلعة إلى المشتري والثمن إلى البائع، ويجوز البداية بأيِّهما شاء؛ لأنه قد وجب الإقباض على كل واحد منهما، فإذا تمانعا.. أُجبرا، كما لو كان لأحدهما على صاحبه دنانير وعليه له دراهم.
والثاني: لا يجبر واحد منهما، ولا يتعرض لهما، بل أيُّهما تطوع، فسلَّم ما عليه.. أجبر الآخر على تسليم ما عليه، ويمنعهما من التخاصم؛ لأن كل واحدٍ منهما قادرٌ على استيفاء حقِّه، بأن يتطوع بتسليم ما عليه، فإذا لم يفعل.. فالتفريط جاء من جهته، فلم يتعرض له، كما لو ادّعى على غيره دينًا، فنكلَ المدَّعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكلَ عنها.
والقول الثالث ـ وهو اختيار الشافعي، وهو الصحيح ـ: (أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن) ؛ لأن تسليم السلعة يتعلق به استقرار العقد، فكان تقديمه أولى، ولأن حق المشتري متعلق بالعين، وحق البائع(5/375)
متعلق بالذمة، والمتعلق بالعين أقوى من المتعلق بالذمة، كما لو كان له عبدٌ، فجنى على غيره وفي ذمة السيد دين.. فإن حق الجناية يقدّم؛ لتعلقه بعين العبد.
والقول الرابع ـ حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق\249] ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة ـ: (أن المشتري يجبر على إحضار الثمن، ثم يجبر البائع على إحضار السلعة عكس ما اختاره الشافعي؛ لأن حق المشتري قد تعين بعين، وحقّ البائع لم يتعين بشيء، ومن شأن المتبايعين أن يتساويا، فأجبر المشتري على الإقباض ليتساويا.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وهو: أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري عل تسليم الثمن.
وقال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي، وما سواه من الأقوال، فإنّما حكاه الشافعي عن غيره، ولم يختر لنفسه مذهبًا إلا هذا.
فإن قلنا بالصحيح، فسلّم البائع السلعة:
فإن كان المشتري موسرًا.. نظرت:
فإن كان الثمن حاضرًا معه في المجلس أُجبر على تسليمه.
وإن كان الثمن غائبًا عنه في دكّانه أو في داره.. حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله حتى يسلِّم الثمن؛ لأنه لا يؤمن أن يتصرف في ماله فيما يضر بالبائع، وإن كان مالُه غائبًا عن البلد.. نظرت:
فإن كان بينه وبين ماله مسافة تقصر فيها الصلاة.. لم يلزم البائع أن يصبر إلى أن(5/376)
يحضر المال؛ لأن عليه مشقة في ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، فإن فسخ البيع.. استرجع السلعة. وإن اختار أن يصبر إلى أن يحضر.. حجر الحاكم على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن؛ لئلا يتصرف في ماله بما يضر بالبائع.
وإن كان بينه وبين ماله مسافةٌ لا تقصر في مثلها الصلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمها حكم ما لو كان في مسافة تقصر في مثلها الصلاة.. فيثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه يخاف الهلاك على مال المشتري فيما قرب، كما يخاف عليه فيما بعد.
والثاني: حكمها حكم ما لو كان ماله في داره أو دكّانه.. فلا يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه في حكم الحاضر، ولكن يحجر على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن.
وإن كان المشتري معسرًا بالثمن.. ففيه وجهان:
[أحدهما]ـ المنصوص للشافعي ـ: (أن البائع بالخيار: بين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى السلعة، فيأخذها، وبين أن يصبر بالثمن، ويقر البيع) ؛ لأنه تعذّر عليه الثمن بالإعسار، فثبت له الخيار في فسخ البيع، كالمفلس.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يثبت له فسخ البيع، بل تباع السلعة، فإن كان ثمنها وفق حقّه.. سُلِّم إليه، وإن كان أكثر.. كانت الزيادة للمشتري؛ لأنه يمكن إيفاء حقِّه بذلك، وإن اشترى سعلة بثمن معين.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجبر واحدٌ منهما، بل يقال: أيُّكما تطوّع بتسليم ما عليه.. أجبر الآخر.
والثاني: يجبرهما الحاكم جميعًا، ويجوز البداية بمن شاء منهما، ووجههما ما تقدم، ويسقط القول الثالث: أنه يجبر البائع أوّلاً؛ لأن حق كل واحد منهما هاهنا متعلق بالعين.(5/377)
[مسألة: لا يجبر البائع على التسليم ما لم يقبض كامل الثمن]
] : وإن اشترى رجل من رجل عينًا، فسلّم المشتري نصف الثمن.. فهل يجب تسليم ما في مقابلته من العين إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر البائع على تسليم شيء من العين، كما لو رهنه عينًا بدين، فسلّم الراهن بعض الدين.. فإنه لا ينفكُّ شيءٌ من الرهن.
والثاني: يجبر البائع على تسليم نصف العين؛ لأن الثمن عوَضٌ عن العين، فإذا سلَّم المشتري بعض الثمن.. وجب تسليم ما في مقابلته، بخلاف الرهن، فإنه ليس بعوض عن الدين، وإنما هو وثيقة به.
[فرعٌ: دفع ذمة أحد الشريكين لا يلزم لهما تسليم العين]
] : وإن اشترى رجلان من رجل عينًا بثمن في ذمّتهما، فسلّم أحدهما نصف الثمن إلى البائع.. فعلى البائع أن يسلم إليه نصف العين، وإن سلّم أحدهما إليه جميع الثمن.. بريء شريكه ممَّا عليه من الثمن، ولم يسلِّم نصيب الشريك الذي لم يدفع الثمن إلى الناقد، بل إلى المالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا سلَّم أحدهما نصف الثمن.. لم يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع إليه، وإن سلّم جميع الثمن إليه.. وجب عليه تسليم جميع المبيع إلى الدافع) .
دليلنا على الفصل الأول: أنّه سلّم ما عليه من الثمن.. فوجب عليه أن يسلِّم إليه ما استحقّ من المبيع، كما لو كان منفردًا بالشراء.
وعلى الفصل الثاني: أنّه تبرّع بدفع الثمن.. فلم يدفع إليه جميع المبيع، كما لو تبرّع بدفع الثمن أجنبيٌّ غير الشريك.(5/378)
[مسألة: تلف المبيع قبل القبض]
يفسخه] :
إذا تلف المبيع في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري بآفة سماوية.. انفسخ البيع ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه، سواءٌ كان البائع عرضه على المشتري فلم يقبل أو كان المشتري قد سأل ذلك ومنعه البائع، فإنّه يتلف من ضمان البائع، وبه قال الشعبيُّ، وربيعة، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال مالك: (إن كان المبيع عبدًا، فتلف في يد البائع قبل القبض، أو قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة.. كان ذلك من ضمان البائع) . كقولنا.
وإن كان غيرهما من المبيعات، وتلف في يد البائع.. فإنها تتلف من ضمان المشتري، ولا ينفسخ البيع ثم ينظر:
فإن لم يطلب المشتري ذلك، أو كان البائع قد عرضها على المشتري، فلم يقبضها حتّى تلفت.. فلا شيء على البائع، كالوديعة إذا تلفت في يده. وإن كان المشتري، قد دفع الثمن وطالب بالسلعة المبيعة، فلم يفعل البائع.. وجب على البائع قيمتها، كالغاصب.
وإن كان المشتري لم يدفع الثمن وطالب بالسلعة، فقال البائع: لا أسلِّمُها حتى أقبض الثمن، ثم تلفت السلعة في يده.. كان كالرهن إذا تلف في يد المرتهن، وحكم الرهن عنده إذا هلك في يد المرتهن.. ينظر فيه:
فإن كان هلاكه بأمر ظاهر.. فهو من ضمان الراهن.
وإن كان بأمر خفيٍّ.. فهو من ضمان المرتهن.
وممَّن قال: بأن المبيع يتلف من ضمان المشتري قبل القبض: أحمد، وأبو ثور. ولكن التفصيل في قدر الضمان لمالك.(5/379)
وقال النخعي، وابن سيرين: إن سأل المشتري القبض، فامتنع البائع من إقباضه حتى هلك المبيع.. كان من ضمان البائع، وإن لم يسأل المشتري ذلك.. فهو من ضمان المشتري.
دليلنا: أنه قبض مستحق بعقد البيع، فإذا تعذّر.. انفسخ البيع، كما لو تصارفا وتفرّقا قبل القبض.
فقولنا: (بعقد البيع) احترازٌ من الصداق، إذا تلف قبل القبض.. فإنّ النكاح لا يبطل؛ لأنه مبيع تلف قبل القبض، فوجب أن يكون من ضمان البائع، كما لو كان عبدًا أو قفيزًا من صُبرةٍ، فتلف في يد البائع عند مالك.
[فرعٌ: تلف الثمن قبل قبض السلعة]
وإن اشترى سلعة بثمن معين، فتلف الثمن في يد المشتري قبل القبض.. بطل البيع.
وقال أبو حنيفة: (لا يبطل) . وهذا بناء على أصله: أنّ الثمن لا يتعيّن، وقد مضى الكلام معه، ولأنه مبيع تلف قبل القبض.. فانفسخ، كالحيوان.
[فرعٌ: ما حصل ونما في ملك البائع]
فإن كان المبيع نخلةً لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد البائع، فجُدّت، ثم تلفت النخلة في يد البائع، أو بهيمة حائلاً، فحملت في يد البائع، فولدت، ثم تلفت البهيمة، أو كان المبيع عبدًا، فاكتسب في يد البائع، ثم تلف العبد قبل القبض.. فإن(5/380)
الثمرة، والولد، والكسب يكون ملكًا للمشتري؛ لأنه نماءُ ملكه، وينفسخ البيع، فيرجع المشتري بجميع الثمن إن كان قد دفعه؛ لما ذكرناه.
فإن قيل: فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» . وإذا كان الخراج هاهنا للمشتري.. فيجب أن يكون تلف المبيع من ضمانه؟
فالجواب: أن الخبر دليل على: أن كل موضع يكون الضمان على المشتري، فإن الخراج يكون له؛ لأنه علّق استحقاق الخراج على الضمان، فلا يكون الخبر دليلاً على: أن كل موضع كان الخراج له، وجب أن يكون الضمان عليه؛ لأنه لم يقل: الضمان بالخراج، كما أنه إذا قال: كل نبي صالح.. لم يكن كل صالح نبيًّا؛ لأن الصلاح علق على النبوّة، ولم يعلِّق النبوة على الصلاح.
وإن تلفت هذه الثمرة في يد البائع، فإن كان المشتري قد طالب بها، وامتنع البائع من تسليمها.. كان عليه ضمانها، وإن لم يطالب بها المشتري.. لم يجب على البائع ضمانها؛ لأنها أمانة في يده.
وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أن الثمرة والولد والكسب للبائع؛ لأن المبيع لمّا انتقص قبل استقراره.. صار بمنزلة ما لو لم يوجد. وهذا ليس بشيء.
وهكذا: لو اشترى جارية، فوطئها المشتري في يد البائع، ثم تلفت قبل القبض.. فإنّ البيع يبطل، وهل يلزم المبتاع المهر؟ على هذين الوجهين.
[فرعٌ: إقالة البائع المشتري وتلف المبيع قبل قبضه]
] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثمّ أقال البائع المشتري، وتلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بنى ذلك على الإقالة، وفيها قولان:(5/381)
أحدُهما ـ وهو قوله الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الإقالة فسخ للعقد) ؛ لأنها مأخوذة من إقالة العثرة، وترك المطالبة بحكمها والإضراب عنها، وهذا يقتضي أن تكون الإقالة: ترك المبيع لاستئناف عقد.
فعلى هذا: يلزم المشتري قيمة العبد، فإن زادت قيمته بعد القبض.. لزمه قيمته يوم قبضه، ولا يلزمه ضمان الزيادة؛ لأنها زيادة حصلت للمشتري، ولا حقّ للبائع فيها.
والقول الثاني ـ قاله في القديم ـ: (أن الإقالة بيع) ، وهو قول مالك؛ لأنها لو كانت فسخًا؛ لصحت الإقالة في المبيع وإن كان تالفًا.
فعلى هذا: إذا تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بطلت الإقالة، وعاد البيع الأول صحيحًا، ويكون المبيع تالفًا من ضمان المشتري.
قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول.
وأمّا الإقالة في المبيع بعد تلفه: فقد نص الشافعي على صحتها، كما تصح مع وجوده.
فإذا قلنا: إنّ الإقالة فسخٌ.. فهل ينفسخ العقد من أصله، أو من وقت الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\252] .
وفائدة ذلك: إذا اكتسب العبد كسبًا بعد البيع، ثم فسخ العقد، فإن قلنا: إن الفسخ يرفع العقد من أصله.. كان الكسب للبائع. وإن قلنا: إن الفسخ رفعٌ للعقد من يوم الفسخ.. كان الكسب للمشتري، وهذا أصح.
[فرعٌ: وطء البائع الجارية قبل تسليمها]
وإن اشترى رجلٌ جارية، فوطئها البائع قبل أن يقبضها المشتري، ثم تلفت قبل(5/382)
القبض.. وجب على البائع مهر المثل للمشتري؛ لأنه وطء في ملك غيره، ويبطل البيع فيها؛ لما تقدم من ذكره.
وإن وطئها المشتري في يد البائع، ثم ماتت في يد البائع بعد هذا الوطء.. قال القاضي أبو الطيب: فإن هذا الوطء لا يكون قبضًا لها، فيبطل البيع فيها؛ لأنها تلفت قبل القبض، وينظر فيها:
فإن كانت ثيِّبًا.. فلا شيء على المشتري؛ لأنها كانت ملكه وقت الوطء.
وإن كانت بكرًا، فافتضّها.. فلا مهر عليه، ولكن يجب عليه بقدر أرش الافتضاض من الثمن؛ لأنه أتلف جزءًا منها، ولو أتلفها.. لضمنها بالثمن، فإذا أتلف جزءًا منها.. ضمنه بجزء من الثمن.
[فرعٌ: نقص المبيع في يد البائع]
وإن اشترى رجلٌ من رجلٍ عبدًا، فذهبت يدُهُ أو عينه في يد البائع بآكلةٍ.. ثبت للمشتري الخيار للعيب الحادث قبل القبض، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخه مع العلم به.. لزمه جميع الثمن؛ لأن الثمن لا ينقسم على الأعضاء، ولهذا لو قال: بعتك رأس هذا العبد أو يدَهُ.. لم يصحّ البيع.
[فرعٌ: تلف المبيع بيد آخر قبل تسليمه]
وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض بفعل أجنبيّ، بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن المسألة على قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع؛ لأنه تعذر التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفة سماوية.(5/383)
فعلى هذا: يرجع المشتري على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بقيمة العبد.
والثاني: لا ينفسخ، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ العقد ـ لأن ذلك أكثر من حدوث العيب فيه ـ ويرجع على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بالقيمة، وبين أن يجيز البيع، ويرجع على الأجنبي بالقيمة؛ لأن القيمة قائمة مقام العبد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، وإنّما يثبت للمشتري الخيار.
وإن قطع الأجنبيّ يده في يد البائع، ولم يمت منه.. لم ينفسخ البيع، قولاً واحدًا؛ لأن عين العبد باقية، ولكن يثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن ذلك عيب، فإن فسخ البيع.. رجع البائع على الأجنبي بنصف قيمة عبده، وإن أجاز المشتري البيع.. رجع المشتري على الأجنبي بنصف قيمة العبد.
وإن قطع رجل يد عبدٍ لغيره، ثم باعه سيِّدُهُ، فقبضه المشتري، ثم مات من ذلك القطع.. قال الطبري في " العدة ": ضمن القطع للمشتري، ولم يبيِّن الطبري القدر الذي يجب للمشتري.
والذي تبين لي فيها: أن العبد يقوَّم الشراء، ويضم ذلك إلى نصف قيمته يوم القطع، وتقسم القيمة عليهما، فما قابل نصف القيمة يوم القطع.. وجب للبائع؛ لأن ذلك وجب في ملكه، وما قابل القيمة يوم الشراء.. وجب للمشتري؛ لأن القاطع لا يجب عليه أكثر من القيمة.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب للمشتري شيء) .
دليلنا: أنه تلف في ملكه من قطع الأجنبي، فأشبه إذا اشترى عبدًا، فقطع الأجنبي يده، فمات.
[فرعٌ: تلف المبيع بفعل البائع]
] : وإن تلف المبيع قبل القبض بفعل البائع، بأن كان عبدًا، فقتله.. ففيه طريقان:(5/384)
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفةٍ سماويةٍ.
و [الثاني] : قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بالقيمة.
فإن قطع البائع يده، واندملت.. فعلى قول عامة أصحابنا: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه بجميع الثمن، كما لو ذهبت يده بآكلة. وعلى قول أبي العبّاس: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بنصف القيمة، كما لو قطعه أجنبي.
[فرعٌ: قبض المشتري الجارية بغير رضا البائع وقبل دفع ثمنها]
] : فإن قبض المشتري الجارية المبيعة من البائع بغير اختياره قبل دفع الثمن، فوطئها المشتري، ثم طالب البائع بردِّها إليه إلى أن يقبض الثمن.. وجب ردُّها إليه، فإذا ردت إليه، ثم تلفت في يده.. انفسخ البيع؛ لأن القبض قد زال بردِّها إلى البائع، ولا مهر على المشتري؛ لأنه وطئها في ملكه.
وعلى الوجه الذي حكاه القاضي أبو الطيب: يجب عليه المهر؛ لأنه لمَّا انفسخ البيع.. صار كما لو لم يوجد. وليس بشيء.
ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل ردِّها إلى البائع.. استقر عليه الثمن، وكان تلفُها من ضمان المشتري، وإن قطع البائع يدها وهي في يد المشتري، وماتت من القطع.. لم ينفسخ البيع، بل يجب على البائع قيمتها، ويجب على المشتري جميع الثمن.(5/385)
وقال أبو حنيفة: (ينفسخ البيع) .
دليلنا: أن قبض المشتري لا يرتفع بجناية البائع على المبيع في يده، فصار كما لو قبضها بعد دفع الثمن، أو كما لو قبضها بإذن البائع.
[فرعٌ: تلف المبيع بفعل المشتري قبل قبضه]
] : وإن تلف المبيع في يد البائع بفعل المشتري؛ بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن البيع لا ينفسخ، ويستقر عليه الثمن؛ لأن إتلافه له قبض، فهو كما لو كان عبدًا، فأعتقه.
وحكى الطبريُّ في " العدّة " وجهًا آخر: أنّ البيع ينفسخ فيرجع البائع عليه بالقيمة، ويرجع هو عليه بالثمن. وهذا ليس بشيء.
فإن قطع المشتري يده وهو في يد البائع.. لم يثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه نقص بفعله، فإن اندملت جراحة اليد التي قطعها المشتري، ثم مات العبد في يد البائع قبل القبض.. انفسخ البيع؛ لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو تلف بآفة سماوية، ويجب على المشتري ضمان اليد التي قطعها، ولا يجب عليه ضمانها بنصف القيمة؛ لأن العبد مضمون على المشتري بالثمن، فكذلك أجزاؤه، ولكن يضمنها بجزء من الثمن، وفي قدر ذلك وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/295] : يقوَّم العبد مع اليد، ثم يقوَّم بلا يد فيرجع البائع على المشتري بما نقص من الثمن.
ومعنى ذلك: إن كانت قميته مع اليد عشرين، وقيمته بغير يد عشرة.. رجع بنصف الثمن، وإن كنت قيمته مع اليد ثلاثين، وقيمته بلا يد عشرين.. رجع عليه بثلث الثمن.(5/386)
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات ": يرجع عليه لقطع اليد بنصف الثمن؛ لأنه لو قتله.. لرجع عليه بجميع الثمن، فإذا قطع يده.. رجع عليه بنصف الثمن؛ لأن اليد من الحر مضمونة بنصف بدل النفس، فكذلك اليد من العبد مضمونة بنصف بدل لنفسه، ولا يقال: إن الثمن ينقسم على الأعضاء، ولكن يقال: جميع بدل العبد، إلاَّ أنّ اليد مضمونةٌ بنصف بدل النفس، كما أنّ دية الحر لا يقال: إنها مقابلة لأطرافه، وإنما هي مقابلةٌ لجميع بدنه، ثم لو قطع يده.. لوجب فيها نصف ديته، كذلك هاهنا.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: إذا قطع المشتري يدي العبد، واندملتا، ثم مات في يد البائع قبل التسليم.. لم ينفسخ البيع، ويجب على المشتري جميع الثمن؛ لما ذكرناه.
[مسألةٌ: تلف الثمرة على الأرض كغيرها]
] : وإن اشترى منه ثمرةً على الأرض، فتلفت قبل القبض.. فهي كغير الثمرة على ما مضى، وكذلك: إذا اشترى منه ثمرة على الشجر، فتلفت قبل التخلية.. فهي كغير الثمرة على ما مضى.
وإن اشترى منه ثمرة على الشجر بعد بدوِّ الصلاح فيها، وخلاَّ البائع بينه وبين الثمرة، فتلفت بآفةٍ سماويّة قبل أوان جدادها.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تتلف من ضمان البائع، فإن تلف جميعها.. انفسخ البيع، ووجب ردُّ الثمن) .
و [ثانيهما] : قال في الجديد: (تتلف من ضمان المشتري) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح.
وقال مالك: (إذا أذهبت الجائحة دون الثلث.. كان ذلك من ضمان(5/387)
المشتري، وإن أذهبت الثلث فما زاد.. كان من ضمان البائع) .
وقال أحمد: (إذا ذهبت بآفة سماويّة.. كان من ضمان البائع، وإن ذهبت بسرقة أو نهب.. كان من ضمان المشتري) .
فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، [عن حميد بن قيس] ، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح» . وروى أبو الزبير، عن جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو باع أحدكم من أخيه ثمرًا، فأصابته جائحة.. فلا يأخذ من ثمنها شيئًا، بمَ يأخذ مال أخيه بغير حقٍّ؟!» ، ولأنه لو انقطع الماء ولم يكن البائع سقى الثمرة.. كان(5/388)
المشتري بالخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن على البائع سقيها، فلو كانت التخلية قبضًا.. لوجب أن لا يثبت له الخيار بانقطاع الماء بعد القبض؛ لأن العيب إذا حدث بعد القبض.. لم يوجب الخيار.
وأمّا الدليل على صحة قوله الجديد: فما روى أنسٌ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهيَ، قيل: ما تُزِهيَ؟ قال: " حتى تَحْمَرّ» ، ثم قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة.. فبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟» . فمنع من بيع الثمرة حتى تشتد، وأخبر: أن الثمرة لو تلفت.. فبأي شيء كان يأخذ أحدكم العوض الذي بإزائها؟! فلولا أنّ الثمرة إذا تلفت كانت من ضمان المشتري بالتلف.. لما كان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!» معنى ولا فائدة وهو لا يستحق الأخذ.
وأيضًا روت عائشة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألّى أن لا يفعل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تألّى فلان أن لا يفعل خيرًا!!» . فلو كان ذلك واجبًا لأجبره عليه، ولأن التخلية(5/389)
تسليمٌ يستفيد بها المشتري التصرف في الثمرة.. فوجب أن يكون قبضًا يدخل به في ضمان المشتري، كالنقل فيما ينقل.
وأما الجواب عن حديث سفيان: فقال الشافعيُّ: (وهَّنهُ سفيان) ، أي: ضعَّفه؛ لأنه لم يذكره، ثم ذكره.
وأمّا ثبوت خيار المشتري بالعطش: فإنّ أبا عليّ الطبريّ قال: إنّما يثبت له الخيار على القول القديم، فأمّا على القول الجديد: فلا يثبت.
فعلى هذا: لا نسلِّم ذلك، وقال أبو إسحاق: يثبت له الخيار على القولين؛ لأن العقد اقتضى أن يكون سقيُ الثمرة على البائع، كما اقتضى تركها على الأصول إلى أوان الجذاذ، فإذا عجز عن تسليمها في حال كمالها.. ثبت للمشتري الخيار.
[فرعٌ: التلف بغير آفة سماوية]
وإن تلفت الثمرة قبل القبض بفعل آدمي من نهب أو سرقة.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : قال ابن الصبّاغ: هي كما لو تلفت بآفة سماويّة، وهل تتلف من ضمان البائع بعد التخلية؟ على قولين.
و [ثانيهما] : قال الشيخ أبو حامد: تتلف من ضمان المشتري بعد التخلية، قولاً واحدًا.(5/390)
وإن اشترى ثمرة بشرط القطع، فتلفت بعد التخلية.. ففيه ثلاث طرق:
[أحدها] : قال القفال: تتلفت من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنه لمّا لم يجب على البائع سقيُها.. لم تتلف من ضمانه.
و [ثانيها] : حكى أبو عليّ السِّنجيُّ عن بعض أصحابنا: أنه قال: تتلف من ضمان البائع، قولاً واحدًا؛ لأن المشتري اشتراها على أن يكون القبض فيها هو القطع والنقل، فإذا هلكت قبل ذلك.. كانت من ضمان البائع، كما لو باعه طعامًا، فلم ينقله حتى تلف.
و [ثالثها] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، ولم يذكر ابن الصبَّاغ غير هذا، كما لو اشتراها مطلقًا.
[فرعٌ: ترك الجداد والنقل بعد إمكانه]
] : فإذا بلغت الثمار وقت الجذاذ وأمكن المشتري نقلها، فلم يفعل حتى تلفت بجائحة.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: تتلف من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنها إذا بلغت وقت الجذاذ.. وجب عليه النقل، فإذا لم يفعل.. كان مفرِّطًا، فكان هلاكها من ضمانه.
و [ثانيهما] : قال ابن الصبَّاغ: إن قلنا إذا تلفت قبل أوان الجذاذ: إنّها تتلف من ضمان المشتري.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تتلف من ضمان البائع.. فهاهنا قولان:
أحدهما: يكون تلفها من ضمان البائع؛ لأن الآفة أصابتها قبل نقلها، فأشبه إذا أصابتها قبل أوان الجذاذ.
والثاني: تتلف من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّطٌ في ترك الجذاذ.
فإن هلك بعض الثمرة بعد التخلية، فإن قلنا بالقول القديم: فإن البيع ينفسخ في(5/391)
التالف، وهل ينفسخ في الباقي من الثمرة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في تفريق الصفقة.
فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ.. فينبغي أن يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع في الباقي؛ لأن الصفقة تفرَّقت عليه، فإن لم يختر الفسخ.. فإنَّ المشتري يسترجع من الثمن بقدر التالف، فإن اختلفا في قدر التالف، فقال المشتري: تلف نصف الثمرة، وقال البائع: بل تلف ثلثها.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن اليمين قد لزمت في الظاهر، فلا يسقط منه إلاَّ ما يقرُّ به البائع، ولأن الأصل عدم الهلاك، إلاَّ في القدر الذي يقرُّ به البائع.
وبالله التوفيق(5/392)
[باب السَّلَم]
السَّلَم جائزٌ. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والقياس.
أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] .
قال ابن عبَّاس: (أشهد أنّ السلف المضمون في الذمة إلى أجل مسمًّى قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ) .
وأمَّا السنَّة: فروى الشافعيُّ بإسناده عن ابن عبَّاس: أنه قال: «قدم النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة ـ وربما قال: السنتين والثلاث ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .(5/393)
و (السلف) : يقع على القرض، وعلى السلم، وهو أن يسلف عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة. والمراد بالخبر هو السلم؛ لأن القرض يثبت بمثله حالاً، ولا يحتاج إلى تعيين وتقدير وأجل.
وأمَّا القياس: فلأن البيع يشتمل على ثمن ومثمن، فإذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة.. جاز أن يثبت المثمن في الذمّة، ولأن بالناس حاجة إلى جواز السلم؛ لأن أرباب الثمار قد يحتاجون إلى ما ينفقون على تكميل ثمارهم، وربما أعوزتهم النفقة، فجوِّز لهم السلم؛ ليرتفقوا بذلك، ويرتفق به المسلم في الاسترخاص.
فإن قيل: فقد رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما ليس عنده) ، و: عن بيع السنين» ؟
فالجواب: أن المراد بالخبر: أن يبيع عينًا ليست عنده، أو يبيع ثمرة نخلةٍ سنين. فأمَّا إذا كان ذلك في الذمة: لم يدخل في النهي؛ لما ذكرناه في إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مسألةٌ: فيما يشترط في سلم الأعمى]
] : ولا يصح السلم إلاَّ ممن يصح منه البيع؛ لأنه بيع في الحقيقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح السلم من الأعمى) .(5/394)
قال المُزنيُّ: يشبه أن يكون أراد الشافعي ـ لمعرفتي بلفظه ـ: الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى، فأمَّا من خلق أعمى: فلا معرفة له بالأعيان، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه، فلا يصح.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فصوَّب المُزنيَّ أبو العبَّاس، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وقالا: لا يصح السلم من الأكمه؛ لأن السلم يقع فيه على مجهول، وذلك لا يجوز.
وقال أبو إسحاق، وعامَّة أصحابنا: أخطأ المُزني، بل يصح السلم من الأكمه؛ لأنه المعتمد فيه على الصفات، والأكمه والأعمى في باب الصفات واحد.
قالوا: ولو لم يجز السلم من الأكمه؛ لأنه لم يشاهد الأعيان والألوان.. لم يجز للبصير أن يسلم في شيء لم يشاهده. ولم يقل أحدٌ: إنه لا يجوز لأهل بغداد أن يسلموا في الموز؛ لأنهم لم يشاهدوه، ولا لأهل خراسان السَّلَم في الرُّطب؛ لأنهم لم يشاهدوه، بل متى عرفوا أوصافه.. جاز السلم عليه وإن لم يشاهدوه، كذلك هذا مثله. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.
فإذا قلنا بهذا: فإنما يصح السلم منه إذا كان رأس المال موصوفًا في الذمة، ثم يعين في المجلس، ويقبض، وهل يصح قبضه بنفسه، أو يوكِّل من يقبض له؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
فأمَّا إن كان رأس المال مغيَّبًا: فإنه لا يصح السلم فيه ولا عليه؛ لأنه لا يعرفه.
[مسألةٌ: صيغة عقد السلم]
مسألةٌ: [صيغة عقده] : وينعقد السلم بلفظ السلم والسلف، بأن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار، أو أسلفتك هذا الدينار بكذا وكذا؛ لأنه قد ثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، وهل ينعقد السلم بلفظ البيع، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا بهذا الدينار؟ فيه وجهان:(5/395)
أحدهما: لا يكون سَلَمًا؛ لأن السلم غير البيع، فلم ينعقد بلفظه.
فعلى هذا: يكون بيعًا، ولا يشترط فيه إلاّ قبض الدينار في المجلس، ويثبت فيه خيار الشرط.
والثاني: ينعقد سَلَمًا.
فعلى هذا: لا يصح السلم حتى يقبض الدينار قبل أن يتفرَّقا، ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأن السلم نوع بيع يقتضي قبض العوض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف. ومعنى هذا: أن الصرف ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ الصرف، فكذلك السلم ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ السلم، والمعنى الجامع بينهما: أنه يشترط قبض العوض فيهما في المجلس.
[مسألةٌ: خيار المجلس والشرط في السلم]
] : وإذا انقعد السلم.. ثبت لكل واحد منهما خيار المجلس إلى أن يفترقا، أو يتخايرا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقل أحدهما للآخر: اختر» . وهذان متبايعان.
ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأنه لا يجوز أن يتفرّقا قبل تمامه، ولهذا اشترط فيه قبض رأس المال في المجلس، فلم يثبت فيه خيار الشرط، كالصّرف.
[مسألةٌ: جواز السلم مؤجّلاً وحالاًّ]
ًّ] : يجوز السلم مؤجّلاً؛ للآية والخبر. ويجوز السلم حالاًّ عندنا.
وقال مالكٌ، والأوزاعيُّ، وأبو حنيفة: (لا يصح السلم في الحال، والأجل شرط في صحته) . واختلفوا في أقل الأجل:
فقال مالك: (أقلُّه ما له موقعٌ، كالشهر، وما زاد) .
وقال الأوزاعي: (أقلُّه ثلاثة أيام) . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فمنهم من قال: أقلُّه ساعةٌ. ومنهم من قال: أقلُّه ثلاثة أيّامٍ.(5/396)
دليلنا: أنه نوع معاوضة محضة، فصح معجلاً، كالبيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنه ليس المقصود منها العوض، وإنَّما المقصود منها تكميل أحكام العبد بالحرية.
ولأن السلم إذا صح مع ذكر الأجل ـ وهو نوعٌ من الغرر؛ لأنه ربما ينقطع المسلم فيه، وربما لا ينقطع، وربما أمكن التسليم، وربما لم يمكن ـ فلأن يصح مع فقده أولى. ولا تدخل عليه الكتابة؛ لأن الغرر فيها في فقد الأجل؛ لأنه يحل العوض فيها عقيب العقد، ولا يقدر على تسليمه؛ لأن ما بيده لمولاه، فيكون فيه غرر، فإذا كاتبه إلى نجمين.. يجوز أن يملك إلى حين المحل ما يؤدِّي، فانتفى عنه الغرر بذكر الأجل.
[فرعٌ: جواز السلم في المعدوم والموجود]
] : ويجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع عند المحل وإن كان منقطعًا حال العقد أو ما بعده، إلا أن يكون المسلم حالاًّ.. فيعتبر وجوده حال العقد. هذا مذهبُنا، وبه قال مالكٌ، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (من شرط السلم، أن يكون المسلم فيه موجودًا من حين العقد إلى حين المحل) .
دليلنا: ما روى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . ولا محالة أنه يكون منقطعًا في بعض الأوقات، ولأنه وقتٌ لم يكن محلاًّ للسلم عقدًا، فلم يكن وجوده فيه شرطًا، كما قبل العقد.
فقولنا: (عقدًا) احترازٌ من المسلم إليه إذا مات.. فإنه يكون وقتًا لمحل السلم، لكن بغير العقد.(5/397)
ويجوز السلم في الموجود؛ لأنه إذا جاز السلم في المعدوم.. فلأن يجوز في الموجود أولى.
[مسألةٌ: السلم في العروض والنقد]
] : ويجوز أن يسلم في الثياب وغيرها من العروض، وفي الدراهم والدنانير على المشهور من المذهب.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\257] وجهًا آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالثمار.
فأمَّا إسلام الدراهم بالدراهم أو بالدنانير: فإن كان مؤجّلاً.. لم يجز؛ لأن الأجل لا يدخل في بيع أحدهما بالآخر. وإن كان حالاًّ.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، ويشترط قبضهما في المجلس؛ لأن السلم أحد نوعي البيع، فانعقد به الصرف، كلفظة البيع.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين، واستحقاق قبضه دون الآخر، والصرف يقتضي تسليم العوضين في المجلس، فتضادَّت أحكامهما، فلم يصح.
[فرعٌ: ما يجوز فيه السلم]
] : كلُّ حيوان جاز بيعه، وضبطه بالصفة، كالرقيق والأنعام والخيل والبغال والحمير.. جاز السلم عليه، وبه قال من الصحابة: عليٌّ، وابن عمر، وابن عبّاس، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريُّ، والنَّخعيُّ، ومن الفقهاء: مالك وأحمد.
وذهبت طائفة إلى: أنه لا يجوز السلم في الحيوان بحالٍ. وذهب إليه من الصحابة: ابن مسعود، ومن الفقهاء: الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمرو قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أجهز جيشًا،(5/398)
وليس عندنا ظهرٌ، فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبتاع البعير بالبعيرين والأبعرة، إلى خروج المصدِّق» . وهذه صفة السلم في الحيوان.
قال الشافعي: (ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض في الديات الإبل، فلولا أنّها تثبت في الذمة.. لم يفرضها فيها) .
ولأن الحيوان يضبط بالصفة، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها؛ كأنه ينظر إليها» . فجعل الصفة بمنزلة الرؤية في حصول العلم بها، وإذا كان الحيوان يمكن ضبطه بالصفات.. جاز السلم فيه، كغيره من الأموال.
ويجوز السلم في الزيت والحنطة؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنّا نسلف ـ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا ـ في الزبيب، والزيت، والحنطة» .(5/399)
ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، كالثياب والأخشاب والأحجار والحديد والرّصاص والصُّفر وغير ذلك؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالحنطة والتمر والزيت.
[مسألةٌ: السلم في النبال والنشاب]
] : قال الشافعيُّ في " المختصر ": (لا يجوز السلم في النبل) .
وقال في " الأم " [3/110] : (يجوز السلم في النُّشّاب) .
قال الشيخ أبو حامد: والنَّبل على ثلاثة أضرب.
أحدُها: أن يكون قد نحت ورُيِّش ونُصِّل، فهذا لا يجوز السلم فيه؛ لأنه لا يقدر على ضبطه بصفة؛ لأنه دقيق الطرفين غليظ الوسط، وذلك لا يضبط، ولأن فيه خشبًا وحديدًا وعقبا وريشا وغرا وذلك لا يمكن ضبط كل واحد منها، ولأن ريش النسر نجس.
الضرب الثاني: ما نحت وفوِّق لا غير، فهذا لا يجوز السلم فيه أيضًا؛ لأنه لا يضبط بالصفة؛ لما ذكرناه.(5/400)
والضرب الثالث: ما شق خشبه، ولم ينحت، فهذا يجوز السلم فيه؛ لأنه يمكن ضبطه، وهذا الذي أراده الشافعي بما ذكره في " الأم ".
قال ابن الصبّاغ: ويجوز السلم فيها وزنًا.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": إن أمكن أن يقدر عرضها وطولها.. جاز السلم فيها عددًا.
[فرعٌ: السلم في الجواهر والجلود والورق وغيرها]
] : ولا يجوز السلم في شيء من الجواهر: من لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، وعقيق، وفيروزج؛ لأن كبر أجسامها ووزنها وصفاتها مقصودٌ، وأثمانها تختلف لذلك. وذلك لا يضبط بالصفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\256] : إن أريدت للزينة. لم يجز السلم فيها؛ لما ذكرناه. وإن أريدت للسحق والدواء.. جاز السلم فيها.
وأمّا الجلود والرق: فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه لا يجوز السلم فيها؛ لأنه لا يمكن ضبط صفتها، لأن جلد الوركين ثخين قوي، وجلد الصدر ثخين رخو، وجلد الظهر رقيق ضعيف، ولأنه لا يمكن ذرعه؛ لاختلاف أطرافه، ولأنه لا يمكن ضبط ذلك بالوزن؛ لأن الجلدين قد يتفقان في الوزن، ويختلفان في القيمة؛ لسعة أحدهما بالخفة، وضيق الآخر بالثقل.
وكذلك: لا يجوز السلم في النِّعال والخفاف والشمشك؛ لما ذكرناه في الجلد، ولأن في الخفاف والشِّمشك أخلاطًا، وذلك لا يضبط.
ونقل المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : أن السلم يجوز في الجلود إذا ذكر(5/401)
الجنس، والطول، والعرض. وقال [في " الإبانة " ق\256] : وكذلك يجوز السلم في الخف والنعل، إذا كانت طاقاته معلومة.
وحكى الصيمري: أن أبا العبّاس ابن سريج أجاز السلم في الخفاف والنعال. وبه قال أبو حنيفة.
ويجوز السلم في الورق؛ لأنه يمكن ضبط وصفه.
قال الصيمري: والوزن فيه أحوط. ولا يجوز السلم في الظهور والكتب المقروءة، إلاَّ أن تضبط. هكذا ذكر الصيمري.
[فرعٌ: السلم في العقار والأرض والأشجار]
] : ولا يجوز السلم في الدُّور، والأرض، والأشجار؛ لأنه لا بد من ذكر البقعة فيه، والثمن مختلف باختلاف البقاع، وإذا ذكرت البقعة.. كانت معينة، والسلم في المعين لا يجوز.
[مسألةٌ: السلم فيما عملت به النار]
] : ولا يجوز السلم فيها علمت فيه النار، كالخبز والشوى؛ لأن عمل النار فيها يختلف. فأما اللِّبَأُ: فإن طبخ بالشمس.. جاز فيه السلم. وإن طبخ في النار.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن عمل النَّار فيه يختلف.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح؛ لأن ناره ليِّنة.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس. وكل موضع صح السلم فيه.. فإنه يصفه بصفات اللبن على ما يأتي ذكره. ويذكر لونه؛ لأن لونه يختلف، ولا يحتاج إلى ذكر اللون في اللبن؛ لأنه لا يختلف. ولا يصح السلم في اللِّبأ إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن كيله.(5/402)
[مسألةٌ: السلم في أخلاط]
] : ولا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودةً لا تتميَّز، كالغالية، والند، والعود المُطَرّى، والهريسة، والقوس العجميّ؛ لأن فيه الخشب والعظم والعصب. ولا يجوز السلم في جميع ذلك؛ لأنه لا يقدر على صفة كل خلط منها، وهو مقصود.
ولا يجوز السلم فيما خلط فيه ما ليس بمقصود، ولا مصحلة له فيه، كاللبن المخيض: الذي طرح فيه الماء، والحنطة التي فيها الزؤان؛ لأنَّ ذلك يمنع من ضبط صفة المقصود.
ويجوز السلم في الجبن وفيه الإنفحة، ويجوز السلم في السمك وفيه الملح؛ لأن المقصود هو الجبن والسمك، وإنما تطرح فيه الإنفحة والملح لمصلحته. وهل يجوز السلم في خل التمر والزبيب؟ فيه وجهان:(5/403)
[الأول] : قال الصيمري في " الإيضاح ": لا يجوز؛ لأن فيه الماء، فهو كالمخيض.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأن الماء هو عماده، وبه يكون خلاًّ بخلاف المخيض، فإنه لا مصلحة له في الماء، فيصير اللَّبن به مجهولاً.
وأمَّا السلم على خل العنب: فيجوز؛ لأنه لا يخالطه غيره، ويمكن وصفه.
ويجوز السلم في الأدهان المطيَّبة؛ لأن الطيب لا يختلط بها، وإنما تعبق به رائحته.
[فرعٌ: السلم في الثوب المصبوغ]
] : وإن أسلم في ثوب صبغ غزله، ثم نسج.. صحّ. وإن كان في ثوب نسج، ثم صبغ.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول.
و [الثاني] : قال صاحب " الحاوي ": يجوز، كما يجوز فيما صبغ غزله، ثم نسج. قال الشاشيُ: وهذا أصح.
قال الشيخ أبو حامد: إذا قال: أسلمت إليك في ثوب مصبوغ.. لم يجز؛ لأن السلم في الصبغ لا يجوز. وإن قال: أسلمت إليك في ثوب مقصور.. جاز؛ لأن القصارة صفة للثوب، والصبغ عين. ولو قال: أسلمت إليك في ثوب على أن تقصره.. لم يجز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغة، والصبغة مجهولة.
قال الشيخ أبو حامد: وإن أسلم في ثوب نسج، ثمّ نقش بالإبرة بعد النسج.. جاز(5/404)
السلم. وكذلك: يجوز السلم فيما كان لحمته إبريسما وسُداه قطنًا؛ لأن المختلط وإن كان مقصودًا، إلا أنه متميز.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": لا يجوز السلم فيما عمل فيه من غير غزله، كالقرقوبي؛ لأن ذلك لا يضبط. ولعله أراد المقرقب بالإبرة، فإن كان هذا مراده.. حصل فيها وجهان. قال: واختلف أصحابنا في السلم في الثوب المعمول من غزلين:
فمنهم من قال: لا يجوز؛ لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما من الآخر، فأشبه الغالية.
ومنهم من قال: يجوز؛ لأنهما جنسان يعرف قدر كلِّ واحدٍ منهما.
[فرعٌ: السلم في الرؤوس المأكولة]
] : وهل يجوز السلم في رؤوس ما يؤكل لحمه، غير المشوية والمطبوخة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال مالك؛ لأن السلم يجوز في اللحم، وهو عظم ولحم، فكذلك في الرؤوس؛ لأنها لحمٌ وعظمٌ.
والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز السلم إلا فيما كان جميعه مقصودًا، كالسمن والعسل وغيرهما، أو فيما كان أكثره مقصودًا، كالتمر والبطِّيخ والرُّمان. وأمّا الرؤوس: فليست كلُّها مقصودة، ولا أكثرها مقصودًا؛ لأن أكثره العظم، وهو غير مقصود، فلم يصحّ السلم فيه.
وأمّا الأكارع: فقد ذكر القاضي أبو الطيب: أنه لا يجوز السلم فيها.
قال ابن الصبَّاغ: وعندي أنها على قولين، كالرؤوس.(5/405)
فإذا قلنا: يجوز السلم فيها.. فلا يجوز عددًا ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف، وإنما يجوز السلم فيها وزنًا.
[مسألةٌ: السَّلَم في الطير والجراد]
] : وهل يجوز السلم في الطير؟
قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه لا يضبط بالسن، ولا يعرف قدره بالذرع.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : يجوز إذا ضبطها بالوصف.
وأمّا السَّلَم على الجراد: فذكر الصيمري: أنه يجوز السلم فيه حيًّا وميِّتًا، ولا يجوز السلم فيه مشويًّا ولا مطبوخًا.
قلت: وهذا محمول على أنه أراد في الزمان الذي يوجد فيه غالبًا.
[فرعٌ: السلم في الجارية وولدها]
] : ولا يجوز أن يُسْلِمَ في جارية وولدها؛ لأنه لا بد من وصفها، ووصف ولدها، ويتعذر وجود جارية لها ولد على ما وصفهما.
قال الشافعي: (وإذا أسلف في جارية وولد، ولم يقل ولدها.. جاز) ؛ لأنه أسلم في كبير وصغير.
ولو شرط في العبد: أنه خبّاز، وفي الجارية: أنّها ماشطة.. جاز، وكان له أدنى ما يقع عليه الاسم.
وإن أسلم في جارية عوّادة أو مغنية.. لم يجُز؛ لأنه أسلم فيما لا يجوز أن يعقد عليه. وإن أسلم في جارية يهودية أو نصرانية.. قال الصيمري: صح السلم.
والفرق بينهما: أن ذلك تقر عليه. ولو عقد عليها بعينها، وشرطا: أنّها كذلك.. جاز العقد دون السلم؛ لأنه صفة في الذمة.(5/406)
ولو أسلم في عبد سارق، أو زان، أو قاذف.. قال الصيمري: فالصحيح جوازه، بخلاف المغنية؛ لأن تلك صناعة محظورة، وهذه أمور تحدث، فأشبهت العمى.
وإن أسلم في جارية حامل.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأن الولد مجهول غير متحقق، فلم يجز السلم عليه.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. لم يجز السلم فيها.
و [الثاني] : إن قلنا: للحمل حكم.. جاز السلم فيها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد.
قال ابن الصّباغ: والأول أصح.
[فرعٌ: السلم في الترياق والراوند]
] : قال الشافعي: (ولا خير في شراء شيء خالطه لحوم الحيَّات من الترياق) .
وجملة ذلك: أن لحوم الحيّات نجسة، والترياق يخالطه لحوم الأفاعي، فلا يجوز بيعه. ويخالطه أيضًا لبن الأتان، وهو نجس على المنصوص، فلم يجز السلم فيه لذلك، ولأنه أخلاط.
فأمَّا السُّم: فإن كان من لحوم الحيات.. فهو نجس، ولا يجوز بيعه. وإن كان من نبات الأرض، فإن كان يقتل قليله وكثيره.. لم يجز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه.
وإن كان يقتل كثيره، ويتداوى بيسيره.. جاز بيعه، والسَّلم فيه.(5/407)
وقال القاضي أبو الطيب: يجوز بيع قليله، ولا يجوز بيع كثيره.
قال ابن الصبّاغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه إذا جاز بيع قليله.. جاز بيع جنسه؛ لأن فيه منفعة في الجملة.
ويجوز بيع الراوند والسلم فيه؛ لأن فيه منفعة، وهو أنه يستعمل في الأدوية وإن كان يستعمل في النبيذ، وهذا هو الصحيح.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز بيعه. وهذا ليس بشيء.
[مسألةٌ: السلم فيما يوجد ويؤمن انقطاعه عند المحل]
] : لا يجوز السلم إلاَّ في شيء عامّ الوجود، مأمون الانقطاع وقت المحل. فإن أسلم في الصيد في بلد لا يجود فيها الصيد إلاَّ نادرًا، أو في بلد يكثر فيها الصيد، إلاَّ أنه جعل المحل فيه وقتًا لا يوجد فيه غالبًا، أو أسلم في الرُّطب وجعل محل السلم زمانًا يكون فيه أول الرطب أو آخره، فيوجد فيه نادرًا.. لم يصحّ السلم؛ لأن ذلك غرر فلم يصح.
وكذلك: إذا أسلم في ثمرة نخلة بعينها، أو حائط بعينه.. لم يصح السلم؛ لما رُوي: «أن يهوديًّا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك يا محمد، أن تبيعني تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى كذا وكذا من الأجل» .(5/408)
[مسألةٌ: شرط المسلم فيه]
] : وإذا أسلم في شيء.. فمن شرطه أن يكون المسلم فيه موصوفًا معلومًا بالصفة؛ لحديث ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . فذكر الكيل، والوزن، والأجل؛ لينبه بذلك على غيره من الصفات، ولأنه إذا لم يكن معلومًا بالصفة.. أدَّى إلى الجهل بما يطالب به.
قال الشافعي: (ويكون معلومًا عند غيرهما، حتى لو تنازعا فيه.. أمكن الرجوع إلى الشاهدين) .
قال القفال: إنما قال ذلك على سبيل الاحتياط، فإن أسلم في مكيل.. ذكر مكيالاً معتادًا عند العامة. وإن كان في موزون.. ذكر ميزانًا معتادًا عند الناس.
قال الشيخ أبو حامد: يعني صنجة معتادة، حتى لا يخاف انقطاع ذلك. وإن كان أسلم في مذروع ذكر ذراعًا معتادًا عند الناس.
قال الصيمري: يكون الذراع من الحديد أو الخشب، لا ذراع اليد؛ لأن ذلك يختلف.
فإن علّق ذلك على مكيال بعينه، لم يعرفا له عيارًا، أو رطلاً بعينه، لم يعرفا عياره.. لم يصح السلم؛ لأنه لا يؤمن أن يتلف ذلك المعيَّن قبل المحل.
قال الشافعي: (ولو قال: أسلمت إليك في مثل هذا الثوب.. لم يصح السلم؛ لأنه ربّما لا يبقى ذلك الثوب إلى المحل) . وقال في (الصداق) : (ولو أصدقها ملء(5/409)
هذه الجرة خلاًّ.. لم يصح؛ لأنها ربما انكسرت قبل حصول الخل) .
وإن أسلم فيما يكال بالوزن.. جاز؛ لأنه أحصر. وإن أسلم فيما يوزن بالكيل، وهو مما يمكن كيله.. جاز؛ لأنه يصير به معلومًا، بخلاف البيع في الربا.
[فرعٌ: السلم في الفاكهة]
] : ويجوز السلم في البطيخ والقثاء والخيار والرُّمان والسفرجل والكمثرى والخوخ والبيض وزنًا، ولا يجوز عددًا، ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف. وأمّا التين: فيجوز السلم فيه كيلاً ووزنًا؛ لأن ذلك يمكن فيه. وأمّا الجوز واللَّوز: فلا يجوز السلم فيها عددًا، ولكن يجوز وزنًا، وهل يجوز كيلا؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجوز كيلا؛ لأنه يمكن كيله.
و [الثاني]ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز؛ لأنه يتجافى في المكيال) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز السلم في البيض والجوز واللوز عددًا؛ لأن التفاوت بين ذلك بالعدد فيه قليلٌ) . وهذا لا يصح؛ لأن ذلك يختلف ويتباين ويتفاوت، فلم يصح السلم فيه بالعدد، كالرُّمان والبطيخ.
ويجوز السلم في البقول، كالكرَّاث والبصل والنَّعناع والهندباء، ولا يجوز السلم فيه حزمًا؛ لأن ذلك يختلف. ولا يصح السلم فيها إلا وزنًا.
قال الشافعي في " الأم " [3/113] : (ويجوز السلم في قصب السكر، إذا ضبط بما يعرف به، ولا يقبل أعلاه الذي لا حلاوة فيه، ويقطع مجامع عروقه من أسفله، ويطرح ما عليه من القشور، ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن غيره.
وكذلك يجوز السلم على القصب، والقصيل وكلِّ ما تنبت الأرض، ولا يجوز السلم فيه إلاَّ وزنًا) .(5/410)
[مسألةٌ: السلم في التمر]
] : وإذا أسلم في التمر.. فلا بد من ذكر سبعة أشياء:
الجنس: وهو قوله: تمر. والنوع: وهو أن يقول: برنيٌّ، أو معقليٌّ، أو صيحانيٌّ. واللون: وهو أن يقول: أحمر، أو أسود؛ لأن النوع الواحد قد يختلف لونه. ويذكر دقاق الحب، أو كبار الحب. ويذكر البلد؛ لأن ما يشرب من الماء العذب يكون أعذب مما يشرب من المالح. جيدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ، وإن قال: عتيق عام أو عامين.. كان آكد.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يذكر الجنس، والنَّوع، والجودة لا غير.
دليلنا: أنه يختلف باختلاف ما ذكرناه، فلم يكن بدٌّ من ذكره، كالجنس والنَّوع.
وإن أسلم في الرطب.. ذكر جميع صفات التمر، إلاَّ العتيق، فإن الرُّطب لا يكون عتيقًا.
[فرعٌ: السلم في البُرِّ]
وإن أسلم في الحنطة.. وصفها بستة أوصاف:
الجنس، فيقول: حنطة. والنوع، وذلك بذكر البلد. واللون، فيقول: سمراء، أو بيضاء. صغار الحب، أو كباره. جيِّدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ.
قال الشافعي [في " الأم " 3/91] : (ويصفه بالدقة، والحدارة) .
و (الدقة) : أن يكون الحب دقيقًا، فيكن دقيقه قليلا، ولكن خبزه أكثر؛ لأنه يشرب الماء.
و (الحدارة) : امتلاء الحب؛ لأن دقيقه أكثر، وخبزه أقل.
قال ابن الصبّاغ: وأمّا العلس: فلا يصح السلم فيها؛ لاختلاف الأكمام،(5/411)
وتغيب الحب. وكذلك لا يجوز السلم في الأرز؛ لما ذكرناه في العلس.
وأمّا السلم على الدقيق: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأنه يصفه بالنعومة، والخشونة.
وقال أبو القاسم الداركي: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبط صفته. وليس بشيء.
قال الشافعي: (فإن أسلم في طعام على أن يطحنه.. لم يجز) ؛ لأنه سلم في طعام وصنعةٍ. وإن شرط على أن يعطيه عن الطعام دقيقًا مثل مكيله.. لم يصح؛ لأنه شرط أن يعطيه أقل من حقه؛ لأن مكيله حنطة أكثر من مكيله دقيقًا.
[فرعٌ: السلم في الذرة]
وإن أسلم في الذرة.. فإنّها توصف بستة أوصاف:
فيذكر الجنس، وهو أن يقول: ذرة. والنوع، فيقول: شريحيٌّ، أو أبيض، أو حدارٍ. والبلد الذي زرعت فيه؛ لأن ذلك يختلف. ويصف الحبّ، فيقول: كبار الحب، أو صغار، جيّد، أو رديء، حديث، أو عتيق. وأمّا اللون: فيحتمل أن لا يفتقر إليه؛ لأن ذكر النوع يشتمل عليه.
وإن أسلم إليه في أجود الطعام.. لم يجز؛ لأنّا لا يمكننا أن نجبر المسلم على قبوله؛ لأنه ما من طعام يأتي به المسلم إليه، ويقول: هذا الذي أسلمت إليك فيه، إلا ويقول المسلم: أسلمت في أجود منه، فلم يصح السلم فيه؛ لذلك.
وإن أسلم إليه في أردأ الطعام.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح، كما لا يصح في الأجود.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه أي طعام أتى به المسلم إليه.. فإن المسلم يجبر على قبوله؛ لأنه وإن كان غيره أردأ منه، إلاَّ أنَّ المسلم إليه قد تطوع بزيادة لا تتميز، فلزمه قبوله.(5/412)
[فرعٌ: السلم في العسل]
] : وإن أسلم في العسل.. قال: عسل من رعي كذا؛ لأن النحل يقع على الكمّون والصعتر فيكون دواء، وقد يقع على أنوار الفاكهة، قال الشيخ أبو حامد: فيكون داءً. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أحمر، أو أصفر. ويذكر الوقت، فيقول: خريفي، أو ربيعي، أو صيفي؛ لأنه يختلف باختلاف الأوقات. ويقول: جيِّدٌ، أو رديءٌ.
قال الشافعي: (فإن قال: عسل مصفّى.. كان أَولى. وإن لم يذكر ذلك.. جاز) ؛ لأن العسل اسم للمصفى.
فإن جاءه بعسل مصفًّى من الشمع بالشمس، أو بنار ليِّنة تجري مجرى الشمس.. لزم المسلم قبوله، وإن صُفِّي بنار شديدة.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأن هذا نقص فيه.
وإن أتى به رقيقًا، فإن كانت رقَّته لشدة الحر، أو تأثير الهواء.. أُجبر المسلم على قبوله. وإن كانت رقته أصلية.. لم يجبر على قبوله؛ لأن هذا عيب فيه.
[فرعٌ: السلم في الشمع]
] : قال الصيمري: ويجوز السلم في الشمع مصبوبًا، وغير مصبوب.
[مسألة: السلم في القن]
] : قال الشافعي: (وإن كان ما أسلم فيه رقيقًا.. قال: عبدٌ نوبيٌّ خماسيٌّ، أو سداسيٌّ، أو محتلمٌ) . وهذا كما قال: إذا أسلم في الرقيق.. احتاج إلى ستة أوصاف:(5/413)
النوع، فيقول: حبشيٌّ، أو زنجيٌّ، أو روميٌّ، أو تركيٌّ.
واللون إن كان يختلف لون النوع، كالأبيض، والأصفر، والأسود.
وإن كان النوع الواحد يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر الأنواع منه؟ فيه قولان، ذكرهما الشافعي في (الإبل) .
ويذكر أنه ذكر أو أنثى.
ويذكر السن، فيقول: بالغ، أو غير بالغ، ابن ثمان سنين، أو عشر. ويرجع في بلوغه إليه.
وأمّا السن: فإن كان مولَّدًا.. رجع إلى من ربّاه. وإن كان جلبيًّا.. رجع إلى أهل الخبرة من النَّخَّاسين.
ويذكر القامة، فيقول: خماسيٌّ، أو سداسيٌّ. فـ (الخماسيُّ) : ما كان طوله خمسة أشبار، و (السداسيُّ) : ما كان طوله ستة أشبار، وهو دون قامة الرجل، فإن قامة الرجل سبعة أشبار.
ويقول: جيد، أو رديء. فإن كان عبدًا.. فالمستحب: أن يجليه، فيقول: أزج الحاجبين، أدعج العينين، وما أشبه ذلك، ولا يجب ذلك. وإن كانت جارية.. فهل يجب أن يذكر أنها ثيب، أو بكر؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجب ذلك، ولم يذكرها الشافعي، وإنّما يستحب؛ لأن الثمن لا يختلف بذلك اختلافًا متباينًا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والصيمري: يجب؛ لأن الثمن يختلف بذلك. والمستحب: أن يصفها بأنها جعدة أوسبطة، ولا يجب ذلك؛ لأن الثمن لا يختلف باختلافه اختلافًا متباينًا.
قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان بيع الجارية لا يصح حتى يشاهد شعرها.. فهلاَّ(5/414)
كان وصفه في السلم شرطًا؟ فقال: ليس كل ما تشترط رؤيته في بيع العين يشترط وصفه في بيع السلم. وإن قال: عبد أعور، أو أعمى، أو مقطوع اليد.. جاز.
قال الصيمري: وإن أسلم في جارية ذات زوج، أو عبدٍ ذي زوجة.. جاز؛ لأن ذلك يوجد غالبًا.
وإن أسلم جاريةً صغيرةً في جاريةٍ كبيرةٍ.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأن الصغيرة ربّما كانت كبيرة في المحل، فيأتي بها، فيجبر على قبولها، فيكون قد أخذ جارية ووطئها، ثم ردّها فيصير في معنى من استقرض جارية.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه حيوان يجوز السلم فيه، فجاز إسلام بعضه ببعض، كالإبل.
وما قاله الأول.. لا يصح؛ لأنه قد يشتري جارية، فيطؤها، ثم يجد بها عيبًا، فيردُّها، ولا يجري مجرى الاستقراض.
فإذا قلنا بهذا: فجاء بالصغيرة وقد كبرت، وصارت بصفة المسلم فيها.. فهل يجبر المسلم على قبولها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الثمن والمثمن واحدًا، وهذا لا يجوز.
والثاني: يجبر؛ لأن الثمن هو الذي يسلّم إليه، والمثمن هو الموصوف في الذمة، وهذه المدفوعة تقع عمَّا في الذمة.
[فرعٌ: السلم في الإبل والخيل والغنم]
] : وإن أسلم في الإبل.. احتاج إلى خمسة شرائط:
النوع، فيقول: من نتاج بني فلان. والسن، فيقول: بنت مخاض، أو بنت لبون، أو حقة. ذكر، أو أنثى. جيِّدٌ، أو رديء. أحمر، أو أصفر، أو أبيض، أو أسود.(5/415)
فإن كان نتاج بني فلان يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النِّتاج الواحد يتقارب ولا يختلف.
والثاني ـ قاله ابن الصَّباغ، وهو الأقيس ـ: أنه لا بد من ذكره؛ لأن الأنواع مقصودةٌ، وهي: المهرية، والأرحبية، والمجيدية، فوجب ذكرها.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يقول: غير مودن، نقيٌّ من العيوب، سبط الخلق، مجفر الجنبين) .
فـ (المودن) : الناقص الخلق. وقوله: (سبط الخلق) يعني: مديده. (مجفر الجنبين) يعني: ممتلئ الجوف، منتفخ الخواصر.
ولا يختلف أصحابنا: أن ذلك تأكيد، وقد قال في " الأم " 3/84] : (وأحب إلي أن يقول: نقيٌّ من العيوب. وإن لم يقله.. لم يكن عيبًا) . وهذا يدل على ما قلناه.
وإن أسلم في الخيل.. ذكر فيها صفات الإبل، فإن ذكر شيته كالبلقة، والتحجيل، والغرة.. جاز. وإن لم يذكر ذلك.. جاز، وكان له البهيم، وهو لونٌ واحدٌ؛ لأنه إذا قال: أدهم أو أشقر أو أبيض.. اقتضى ذلك لونًا واحدًا.
وأمّا البغال والحمير: فلا نتاج لها، فيصفها وينسبها إلى بلادها، ويذكر اللون، والسن، والذكورية، والأنوثية، والجودة، والرَّداءة.
وأمَّا الغنم: فيذكر في السلم عليها: الجنس، فيقول: شاةٌ. والنوع، فيقول:(5/416)
ضأنٌ، أو معزٌ من غنم بلد كذا. ويذكر السن. والذكر أو الأنثى. واللون. والجودة أو الرَّداءة.
فإن أسلم في شاة لبون.. ففيها قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه سلم في شاة، ولبن مجهول.
والثاني: يجوز، ويكون ذلك شرطًا يتميز به، ولا يكون سلمًا في لبن؛ لأنه لا يلزمه تسليمها وبها لبن، بل له أن يحلبها، ثم يسلمها.
[مسألة: السلم في الثياب والورق]
] : وإن أسلم في الثياب.. احتاج إلى ذكر الجنس، فيقول: كتّان، أو قطن. والنوع، فيقول: بغداديٌّ، أو رازيٌّ، أو بصريٌّ في الكتان. وإن كان قطنًا.. قال: هرويٌّ، أو مرويٌ. ويذكر الطول والعرض، والدقة والغلظ، والصَّفاقة أو الرقة؛ لأنه قد يكون غليظًا رقيقًا، وقد يكون غليظًا صفيقًا، فالصفاقة بخلاف الغلظ. ويذكر جيِّدًا، أو رديئًا. خشنًا، أو ناعمًا. وإن لم يذكر الجنس، وذكر النوع.. كان كافيًا.
وإن أسلم في ثوب، فذكر أنه مقصور، أو خام.. جاز. وإن أطلق.. سلَّم إليه ما شاء منهما. وإذا أسلم في الثوب، وضبطه بهذه الصفات، وشرط معها وزنًا معلومًا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصحُّ؛ لأنه لا يكاد يتفق ثوبٌ على هذه الصفات المشروطة مع وزن معلوم. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا أسلم في آنية، وذكر لها وزنًا معلومًا.. صحّ) .(5/417)
وإن أسلم في ثوب لبيس.. لم يصح؛ لأنه يختلف ولا ينضبط.
قال الصيمري: ويجوز السلم في القمص والسراويلات، إذا ضبطت بالطول، والعرض، والضيق، والسعة.
وإن أسلم في ورق.. وصفه بالنوع، فيقول: طلحيٌّ، أو زيديٌّ، أو نعمانيٌّ.
والطول والعرض، [فيقول] : دقيق، أو غليظ. صفيق، أو رقيق. جيّد، أو رديء. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أصفر، أو أحمر. وإن ذكر الوزن مع ذلك.. احتمل الوجهين في الثوب.
[فرعٌ: السلم في المعدن والأواني والعلوق]
وإن أسلم في النُّحاس والرصاص والحديد.. ذكر الجنس، فيقول: رصاص، أو نحاس. والنوع، فيضيف ذلك إلى البلد. ناعمٌ، أو خشنٌ. جيدٌ، أو رديءٌ. ويذكر اللون إن كان يختلف. وإن كان حديدًا.. ذكر مع ذلك ذكرًا أو أنثى؛ لأن الذكر منه أكثر ثمنًا؛ لأنه أحدُّ وأمضى.
وأمّا الأواني المتخذة منها: فإن استوى وسطه وطرفاه، كالسطل، والطست.. جاز بعد أن يذكر سعة معروفة من الطول والتدوير والعمق. وإن كان مما يختلف، كالأباريق، والقماقم، والمسارج.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، كما لا يجوز السلم في النبل المعمول.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على صحة السلم على القمقم، ولأنه يمكن وصفه ولا يختلف اختلافًا متباينًا.(5/418)
وإن اشترط وزنه.. كان أولى. وإن لم يشرط وزنه.. جاز. نصّ عليه الشافعي.
قال الصيمري: وإن أسلم في علوق الذهب والفضة.. قال: مصمت أو مجوف. فأما المحشوُّ منها: فلا يصح السلم فيها.
[مسألة: السلم في اللحم والشحم]
ويصح السلم على اللحم.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه يمكن ضبط صفاته، فجاز السلم عليه، كالثمار.
إذا ثبت هذا: فإنه يذكر في السلم عليه سبعة شرائط:
فيذكر الجنس، فيقول: هو لحم بقر، أو إبل، أو غنم.
والنوع، فإن كان من البقر.. قال: لحم بقر أهلي، أو جواميس، أو عراب، أو بقر الوحش. وإن كان من الغنم.. قال: ضأن، أو ماعز.
والسن، فيقول: صغير، أو كبير. فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع. وإن كان كبيرًا.. قال: جذع، أو ثنيُّ.
ويقول: ذكرٌ، أو أنثى، فإن كان ذكرًا.. قال: خصيّ أو فحل.
سمين، أو مهزول، ولا يقول: أعجف؛ لأن العجف عيب، وهو: أن يصيبه هزال من عيب، وذلك لا يعلم قدره.
ويقول: راع أو معلوف؛ لأن لحم الراعية أطيب.
ويذكر الموضع الذي يؤخذ منه، فيقول: من لحم الرقبة، أو الكتف، أو الجنب، أو الفخذ؛ لأن كل ما قرب من الماء.. كان أطيب، ولحم الفخذ أدون؛ لأنه أبعد من الماء.(5/419)
فإذا ثبت هذا: فإن اللحم يسلمه إليه مع العظام؛ لأن اللحم يذكر مع العظام، فأشبه النوى في التمر، ولأن العظم يلتزق باللحم ويتصل به أكثر من اتّصال النوى بالتمر. فإن تطوع المسلم إليه، وأخرج العظم منه.. جاز.
وإن أسلم في الشحم.. ذكر فيه صفات اللحم، وذكر أنه من شحم البطن، أو غيره.
ويجوز السلم على الأليات بالوزن.
[فرعٌ: السلم على لحم الصيد بأنواعه]
وإن أسلم على لحم صيد في بلد يوجد فيه غالبًا.. ذكر النوع، فيقول: غزالٌ، أو ظبيٌ، أو وعلٌ. ذكرٌ، أو أنثى. ولا يقول: خصيٌّ، أو فحلٌ؛ لأن لا يكون إلاَّ فحلاً. والسنّ، فيقول: صغير، أو كبير، فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع؛ لأن لحم الرضيع أطيب وأرطب. ويذكر السمن، أو الهزال. جيّدًا، أو رديئًا. والموضع الذي يُعطى منه.
قال الشيخ أبو حامد: ويذكر الآلة التي يصطاد بها؛ لأنها إذا صيدت بالأحبولة.. كان لحمها أطيب من لحم ما صيد بالسهم. ويقال: إن ما صيد بالكلب أطيب ممّا صيد بالفهد؛ لأن فم الكلب مفتوحٌ أبدًا، فنكهته أطيب، وفا الفهد منطبق، فنكهته كريهة.
وقال ابن الصبَّاغ: إن كان اللحم يختلف بذلك اختلافًا متباينًا.. وجب ذكره. وإن كان اختلافًا يسيرًا.. لم يجب ذكره.
فأمّا لحم الطيور: فيذكر النوع، فيقول: حمامٌ، أو عصافير، أو قنابر. سمينٌ، أومهزول. جيِّدٌ، أو رديءٌ. ولا يمكن معرفة الذكر والأنثى منه، فإن(5/420)
اختلف فيهما وأمكن معرفته.. وجب ذكره. ويذكر الصغير والكبير، ولا يذكر السن؛ لأنه لا يعرف. فإن كان الطير كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يلزمه أن يقبل فيه الرأس والرِّجل؛ لأنهما عظمان، وإنما أسلم في اللحم.
وإن كان لحم سمك.. ذكر النوع، والصغر والكبر، والجودة أو الرداءة. وإن كان كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يجوز أن يعطي في الوزن الذنب والرأس.
[فرعٌ: السلم في السمن واللبن]
] : وإذا أسلم في السمن.. فإنه يقول: سمن بقر، أو ضأن، أو معز.
قال الشافعي: (فإن كان بمكة.. قال: سمن ضأن نجدية أو تهامية؛ لأنهما يختلفان في الطعم واللون والثمن. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أصفر. ويقول: جيد أو رديء) .
قال الشيخ أبو حامد: ويذكر ما ترعى الماشية.
وأمَّا الحديث أو العتيق: ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح السلم على العتيق منها؛ لأنه معيب، ولا يُدرى قدر عيبه وتناهي نقصانه.
قال الشافعي: (لأنه يصلح للجراح، فإذا أسلم في السمن.. لم يلزمه أن يقبل إلا الحديث) .
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: العتيق الذي تغيَّر لا يدخل فيه؛ لأنه معيب، وليس كل عتيق متغيِّرًا، فلا بد أن يقول: حديث أو عتيق إن كان يختلف.
ويسلم فيه وزنًا، ويجوز كيلا إذا لم يكن جامدًا يتجافى في المكيال.
ويجوز السلم في الزبد، ويصفه بصفات السمن، ويزيد فيه وصفا، فيقول: زبد يومه، أو أمسه؛ لأنه يختلف بذلك.
فإن جاءه بزبد فيه رقة.. نظرت:(5/421)
فإن كان لشدة حر الزمان.. لزم المسلم قبوله. وإن كان لرقة في الأصل.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه عيب فيه. ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا.
وإن أسلم في اللبن.. وصفه بالنوع، فيقول: لبن بقر أو ضأن أو معز، جيدٌ أو رديءٌ، ويذكر ما ترعى الماشية.
وقال ابن الصبّاغ: ويقول: معلوفة أو راعية، ولا يحتاج إلى ذكر الحليب؛ لأنه لا يصح السلم فيه إلا في الحليب، فأمّا الحامض منه.. فلا يصح السلم فيه؛ لأنه معيب.
قال الشافعي: (فإن أسلم في حليب يوم أو يومين.. جاز) .
قال ابنُ الصبَّاغ: ذكر ذلك تأكيدًا لا شرطًا.
وقال الشيخ أبو حامد: إن كان ببلدٍ يبقى اللبن حليبًا يومًا أو يومين.. جاز أن يسلم في حليب يومين.
قال الشافعي: (وأقل حدِّ الحليب: أن تقل حلاوته، وإذا قلت حلاوته.. خرج عن أن يكون حليبًا) .
قال الشيخ أبو حامد: ويجوز السلم فيه كيلا ووزنًا، فإن أسلم فيه كيلا.. لم يكله حتى تسكن رغوته؛ لأنها تؤثر في الكيل. وإن أسلم فيه وزنًا، فإن قال أهل الخبرة: إن كان لتلك الرغوة في الوزن أثر.. لم يوزن حتى تسكن. وإن قالوا: لا تأثير لها.. وزن كما هو.
[فرعٌ: السلم في الجبن]
] : ويجوز السلم في الجبن، ويصفه بصفات اللبن، ويذكر مع ذلك البلد؛ لأنه يختلف، ويذكر: أنه رطب، أو يابس. فإن أسلم في رطب، فإنه إذا أخرج، وترك(5/422)
على موضع حتى نزل منه الماء، وبقي كالخاثر.. لزم المسلم قبوله. وإن أسلم في اليابس.. لزمه أن يقبل أدنى ما يتناوله اسم اليبس، وقد مضى ذكر اللِّبَأ.
[فرعٌ: السلم في الصوف والوبر]
ويجوز السلم في الصوف، فيذكر سبعة أوصاف:
فيقول: صوف غنم بلد كذا؛ لأنه يختلف باختلاف البُلدان. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسود أو أحمر. ويقول: طويل أو قصير؛ لأن الطويل خير من القصير. ويقول: جيد أو رديء. ويقول: صوف إناث أو ذكور؛ لأن صوف الإناث أنعم. ويذكر الزمان: خريفي أو ربيعي؛ لأن صوف الخريف أنظف؛ لأنه عقيب الصيف، وصوف الربيع رديء.
قال الشافعي: (ويقول: نقي خالص من الشوك والبعر، مغسول) .
قال أصحابنا: وهذا احتياط، فإن لم يذكر ذلك.. جاز؛ لأنه يجب دفعه كذلك.
قال الشافعي: (وكذلك الوبر والشعر، يجوز السلم فيهما، ويصفهما بصفات الصوف، ولا يجوز السلم في ذلك إلا وزنًا) .
[فرعٌ: السلم في القطن]
] : ويجوز السلم في (الكرسف) : وهو القطن، ويذكر فيه ستة أوصاف:
فيقول: قطن تهامة أو أبين. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسمر. ويقول:(5/423)
ليِّنٌ أو خشنٌ. جيّد أو رديء. ويقول: طويل الشعر أو قصيره؛ لأن ذلك يختلف.
فإن شرط منزوع الحب.. جاز، ولزمه ذلك. وإن أطلق.. كان عليه أن يأخذه بحبه؛ لأن الحب فيه بمنزلة النوى في التمر.
فإن اختلف قديمه وحديثه.. ذكره. فإن أعطاه رطبا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن الإطلاق يقتضي قطنًا جافًّا.
فإن أسلم في القطن في جوزه.. لم يصح؛ لأنه مستور بما لا مصلحة له فيه، ولأنه لا يجوز بيعه في جوزه، فلم يصح السلم عليه فيه، بخلاف الجوز واللوز؛ لأنه مستور بما له فيه مصلحة.
وإن أسلم في غزله.. لزمه وصفه بصفات القطن، إلا الطول والقصر، فلا يذكره. ويذكر فيه غليظ، أو دقيق.
[فرعٌ: السلم في الحرير]
] : وإن أسلم في الإبريسم.. ذكر نوعه، فيقول: إبريسم خوارزمي أو بغذاذي، أو غير ذلك من البلاد، ويذكر لونه فيقول: أبيض أو أصفر أو أحمر، جيد أو رديء. ويقول: طويل أو أقصير، دقيق أو غليظ.
وإن أسلم في القز، فإن كان فيه الدود.. لم يصح، حيًّا كان أو ميتًا؛ لأنه إن كان حيًّا.. فلا مصلحة في تركه فيه. وإن كان ميتا.. فلا يجوز بيعه. والقز وزنه مجهول. وإن كان قد خرج منه الدود.. جاز السلم فيه؛ لأنه يمكن وزنه.
[فرعٌ: السلم في الخشب]
] : وإن أراد أن يسلم على الخشب.. فالخشب على ثلاثة أضرب:(5/424)
ضرب: يراد للبناء، فإذا أسلم فيه.. ذكر نوعه، فيقول: خشبه من ساج أو صنوبر أو غلب، ويذكر لونه أبيض أو أحمر أو أصفر أو أسود، رطب أو يابس، ويذكر طوله وعرضه، أو دوره وسمكه. ويقول: جيد أو رديء.
وإن ذكر مع ذلك الوزن.. جاز، وجهًا واحدًا، بخلاف الثوب؛ لأن النساج لا يمكنه أن ينسج ثوبا بصفات معلومة من غزل مقدر إلا نادرا، بخلاف الخشب، فإنه إذا أراد وزنه.. أمكن أخذ شيء منه. وإن لم يذكر الوزن.. جاز.
ولا يلزم المسلم أن يأخذ ما فيه عقد؛ لأن ذلك عيب. ويجب دفعه ذلك إليه من طرفه إلى طرفه بالعرض والسمك والدور الذي شرطه. وإن كان أحد طرفيه أدق.. لم يجبر على قبوله. وإن كان أحد طرفيه أغلظ.. قال ابن الصباغ: فقد زاده خيرًا.
الضرب الثاني ـ من الخشب ـ: ما يراد للقسي، فيذكر لونه ونوعه، ويقول: جيد أو رديء، رطب أو يابس، جبلي أو سهلي؛ لأنه يختلف؛ لأن الجبلي أقوى.
فإن كان للقِسيِّ العربية.. ذكر الطول والعرض. وإن كان للقسي العجمية.. لم يحتج إلى ذكر الطول والعرض؛ لأنه يكون قطعًا صغارًا، أو يكون موزونًا.
والضرب الثالث: ما يراد للوقود، فيذكر نوعه، ويقول: خوطٌ قرضٌ أو عسق صغارًا أو كبارًا أو وسطًا، رطبٌ أو يابسٌ، جيدٌ أو رديء. ولا يذكر اللون؛ لأن ليس بمقصود. ويذكر وزنه.(5/425)
[فرعٌ: السلم في الأحجار والآجرِّ]
ِّ] : ويجوز السلم في الأحجار، وهي على ثلاثة أضرب:
ضرب: يراد للأرحية، فيصفها بالنوع، فيقول: من حجار بلد كذا وكذا، ويذكر اللون والدور والثخن، جيد أو رديء.
فإن شرط وزنه.. جاز. فإذا أراد وزنه، فإن أمكن وزنه بالقبان.. وزنه به. وإن لم يمكن وزنه بذلك.. وزنه بالسفينة، فيترك فيها، وينظر إلى أي حدٍّ تغوص في الماء، ثم توضع مكانه أحجار صغار أو رمل، حتى تغوص السفينة إلى ذلك الحد الذي غاصت فيه مع الحجر، ثم تخرج، ويزنها، فيعرف أن ذلك وزن ذلك الحجر.
والضرب الثاني ـ من الأحجار ـ: ما يراد للبناء، فيذكر نوعها بإضافتها إلى البلد، وطولها وعرضها ولونها، ويقول: جيد أو رديء، ويقول: صغار أو كبار.
والضرب الثالث: أحجار تراد للأبنية، فيذكر نوعها بذكر بلدها، ويذكر لونها، جيدًا أو رديئًا، ويذكر طولها وعرضها وسمكها وتدويرها. وإن ذكر الوزن.. جاز. وإن لم يذكر.. لم يفسد.
ويجوز السلم في الآجر، ويذكر طوله وعرضه والدور والثخن. ويجوز السلم في اللبن، ويصفه بما ذكرناه.
قال ابن الصباغ: وإن شرط في اللبن أن يطبخه.. لم يجز؛ لأنه قد يفسد.(5/426)
[فرعٌ: السلم في أنواع الطيب]
] : ويجوز السلم في المسك والعنبر والكافور. قال الشافعي: (وأخبرني عدلٌ ممن أثق بخبره: أن العنبر نباتٌ يخلقه الله في البحر، ومنه: الأشهب والأخضر والأبيض) . فيذكر لونه، وإن كان يختلف باختلاف البلاد.. قال: عنبر بلد كذا، جيد أو رديء، ويذكر قطعة وزنها كذا إن كان يوجد قطعة وزنها ذلك. فإن شرط قطعة.. لم يجبر على قبول قطعتين. وإن أطلق ذلك.. كان له أن يعطيه صغارًا أو كبارًا.
وأما العود: فلا بد من ذكر نوعه بإضافته إلى البلد، ويرجع في صفات كل ما لا يعرفه المتعاقدان إلى أهل الخبرة به.
[مسألة: في بيان الأجل]
وإن أسلم في مؤجل.. وجب بيان الأجل؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» ، ولأن الأجل إذا كان مجهولاً.. تعذرت المطالبة والقبض، فيبطل المقصود، فلم يصح.
إذا ثبت هذا: فـ (الأجل المعلوم) : أن يسلم إلى شهر من شهور العرب، أو شهور الروم، أو الفرس، ويكون ذلك معلومًا عندهما. وكذلك: إذا أسلم إلى عيد الفطر أو الأضحى، أو أسلم إلى النيروز أو المهرجان، وهما عيدان من أعياد اليهود(5/427)
معروفان عند المسلمين واليهود.. فإن ذلك يصح إذا كان المتعاقدان يعرفان ذلك. وإن كانا لا يعلمان ذلك.. لم يصح؛ لأن الاعتبار بهما.
وإن أسلم إلى النفر الأول أو الثاني.. جاز، وذلك لأهل مكة؛ لأنه معروف عندهم، وهل يجوز لغيرهم؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي "، قال: والأصح: إن كانا يعرفان وقت ذلك.. صح.
وإن أسلم إلى (يوم القر) : وهو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.. قال الشاشي: فهل يصح لأهل مكة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما لو أسلم إلى يوم النفر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يعرفه إلا خواصهم.
وإن أسلم إلى جمادى أو ربيع، ولم يبين أنه الأول أو الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه مجهول.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن الشافعي قال: (وإذا أسلم إلى النفر وأطلق.. صح، وحمل على النفر الأول) وإذا أسلم إلى عقب شهر كذا.. قال في (الإفصاح) : لم يصح؛ لأن عقب الشهر يقع على بقية الشهر، وعلى أول الشهر الذي بعده، وذلك مجهول، فلم يصح.
[فرعٌ: السلم إلى وقت مجهول]
وإن أسلم إلى عطاء السلطان الجند.. لم يجز؛ لأنه يختلف. فإن قال: إلى وقت العطاء، وكان له وقت معلوم.. صحّ. وإن قال: إلى الحصاد، أو الموسم، أو إلى قدوم الحاجّ، أو إلى الشتاء، أو إلى الصيف.. لم يجز، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأبو ثور: (يصح السلم إلى العطاء، والحصاد، والدياس) .(5/428)
دليلنا: ما روي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلاّ إلى أجل معلوم) .
ولأن ذلك يتقدم ويتأخر، فلم يصح، كما لو قال: إلى مجيء المطر.
وإن أسلم إلى عيد من أعياد اليهود والنصارى، كالشعانين، وعيد الفطير.. قال الشافعي: (لم يصح؛ لأن هذا لا يعرفه المسلمون، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم) .
وقال أبو إسحاق: إن علم المسلمون منه مثل ما يعلمونه.. جاز أن يجعلوه أجلاً في السلم.
[فرعٌ: وقت حلول الأجل لو أسلمه إلى يوم كذا]
إذا قال: أسلمت إليك إلى يوم كذا.. كان المحل إذا طلع الفجر من ذلك اليوم. وإن قال: إلى ليلة كذا.. كان المحل إذا غربت الشمس من اليوم الذي قبل تلك(5/429)
الليلة. وإن قال: إلى شهر كذا، أو رأس شهر كذا أو غرته أو أوله.. كان المحل إذا غربت الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبل هذا الشهر؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، والشهر يشتمل على الليل والنهار. وإن قال: محله من يوم كذا، أو في شهر كذا، أو محله يوم كذا أو شهر كذا.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، ويتعلق بأوله ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كما لو قال لها: أنت طالق في يوم كذا.. فإنه يتعلق بأوله.
والثاني ـ وبه قال عامّة أصحابنا ـ: أنه لا يصح؛ لأنه يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر، وذلك مجهول، فلم يصح. والفرق بين الطلاق والسلم: أن الطلاق يصح أن يعلق بالمجهول والغرر، بخلاف العقود.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق ليس بصحيح عندي؛ لأنه لو كان مجهولاً.. لوجب أن يصح ولا يتعلق بأوله، بل يتعلق بوقت منه يقف على بيانه، فإذا فات جميعه.. وقع، فلمّا تعلق بأوله.. اقتضى ذلك: أن الإطلاق يقتضيه.
وإن قال: أسلمت إليك في كذا، بأن تسلمه إلي من هذا اليوم إلى رأس الشهر.. لم يصح؛ لأنه لا يدري أي يوم يطالبه به، ولا كم يطالبه به، في كل يوم.
[فرعٌ: أسلم إلى عدة شهور ولم يعين]
] : إذا قال: أسلمت إليك إلى خمسة أشهر أو ستة أشهر.. انصرف ذلك إلى الشهور العربية، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . فجعلها علمًا للمواقيت، فانصر الإطلاق إليها. فإن كان حين العقد أول الشهر لم يمض جزء منه.. اعتبر الجميع بالأهلة، تامة كانت الشهور أو ناقصة؛ لأن الاعتبار بما بين الهلالين. وإن كان حين العقد قد مضى جزء من الشهر..عد ما بقي من هذا الشهر من الأيام، ثم اعتبر ما بعده من الشهور بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة، وتمم الشهر الأول بعد ذلك بالعدد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ.(5/430)
وذكر في " المهذب ": إن كان العقد في الليلة التي رؤي فيها الهلال.. اعتبر الجميع بالأهلة. وإن كان العقد في أثناء الشهر.. اعتبر الشهر الأول بالعدد، وما بعده بالأهلة.
[فرعٌ: أسلم وشرط الحلول أو زاد أو نقص في الأجل]
] : وإن أسلم في شيء وشرط: أنه حال.. صح. وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح السلم؛ لأن العقد يقع على مجهول؛ لأنه لم يذكر الحلول ولا التأجيل.
والثاني: يصح ويكون حالاًّ؛ لأن ما جاز حالاًّ ومؤجلاً.. حمل إطلاقه على الحال، كالثمن في البيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنها لا تصح حالة، وإذا أطلق العقد.. لم يصح.
وإن أسلم في شيء، وشرط: أنه حالٌّ، ثم اتفقا على تأجيله، أو أسلم على مؤجل، ثم اتفقا على حلوله، أو زادا في الأجل أو نقصا منه، فإن كان ذلك بعد التفرق.. لم يلحق بالعقد.
وقال أبو حنيفة: (يلحق بالعقد) . وإن كان قبل التفرق.. لحق بالعقد. وقال أبو عليّ الطبري: إذا قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. لم يلحق بالعقد. وقد مضى ذكر هذا في (المرابحة) .
[فرعٌ: أسلم في جنسين إلى أجل أو العكس]
] : إذا أسلم إليه شيئًا في جنس إلى أجلين أو آجال، أو أسلم إليه شيئًا في جنسين إلى أجل، مثل: أن قال: أسلمت إليك هذا الدينار في كذا وكذا رطل لحم، وتدفع إليّ كل يوم منه رطلا، أو قال: أسلمت إليك هذا الدينار بخسمة أذهاب بر، وخمسة أذهاب ذرة.. ففيه قولان:(5/431)
أحدهما: لا يصح ـ وهو ضعيف ـ لأن ما يقابل أبعدهما أجلا من رأس المال أقل مما يقابل أقربهما أجلا، وما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يصح. وهذا القول بناء على أن رأس المال يجب أن يكون معلومًا.
والثاني: يصح السلم ـ وبه قال مالك، وهو الأصح ـ لأن كل بيع جاز إلى أجل واحد.. جاز إلى أجلين، كبيع الأعيان ـ وفيه احتراز من الكتابة ـ أو كل بيع جاز على جنسين في عقدين.. جاز عليهما في عقد واحد، كبيع الأعيان.
[مسألةٌ: موضع التسليم]
] : وأمّا بيان موضع القبض: فهل يشترط ذلك في صحة السلم؟
قال في " الأم ": (لا بدّ من ذكره) . وقال في موضع: (يستحب) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على حالين:
فحيث قال: (لا بدّ من ذكره) أراد: إذا كان السلم في موضع لا يصلح للتسليم.
قال الشيخ أبو حامد: وذلك كالصحراء أو البادية.
وحيث قال: (يستحب) أراد: إذا كان السلم في بلد أو مصر.
والفرق بينهما: أن الصحراء والبادية لا تصلح للتسليم، فيكون موضع التسليم مجهولاً، فلم يصح، والبلد والمصر يصلح للتسليم.
فإذا أطلق العقد.. حمل على موضع العقد، كما إذا أطلق العقد في موضع فيه نقد غالب.
ومنهم من قال: إن كان السلم في الصحراء.. وجب بيان موضع التسليم، قولاً واحدًا. وإن كان في مصر.. ففيه قولان:(5/432)
أحدهما: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع العين بنقد مطلق، في موضع فيه نقد غالب.
والثاني: يفتقر إلى ذكره، كما إذا كان في الصحراء.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان السلم في موضع يصلح للتسليم.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يفتقر إلى ذكر موضع القبض؛ لأن الغرض يختلف باختلافه.
والثاني: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع الأعيان.
والثالث: إن كان لحمل المسلم فيه مؤنة.. وجب بيان موضع التسليم، وإن لم يكن لحمله مؤنة.. لم يجب ـ وهذا قول ابن القاص، واختيار القاضي أبي الطيب، وبه قال أبو حنيفة ـ لأن الثمن يختلف باختلاف ما لحمله مؤنة، ولا يختلف بما ليس لحمله مؤنة.
[مسألةٌ: قبض المال في المجلس]
] : ولا يجوز تأخير قبض رأس مال السلم عن المجلس، فإن تفرقا قبل ذلك.. بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (إن تأخر قبضه بعد افتراقهما يومًا أو يومين أو ثلاثًا.. لم يبطل، وإن تأخر أكثر من ذلك.. بطل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . و (الاستسلاف) : عبارة عن التعجيل، فظاهر الخبر: أن ذلك شرط في العقد.
ولأن السلم مشتق من (الإسلام) : وهو التسليم، فوجب أن يختص بمعنًى يضاهي الاسم.
ولأن من شرط أحد العوضين في السلم: أن يكون في الذمة، فلو جاز تأخير الآخر عن المجلس.. لصار في معنى بيع الدين بالدين؛ لأن رأس المال قد يكون موصوفًا(5/433)
في الذمة، فإذا جوزنا تأخيره عن المجلس.. كان في معنى بيع الكالئ بالكالئ، فلم يجز.
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا حامد قال: البيوع على ثلاثة أضرب:
بيع خالص، وسلم خالص، وبيع معناه معنى السلم ولفظه لفظ البيع.
فأمَّا (البيع الخالص) : فأن يبيع ثوبًا، أو سلعة معينة بثمن في الذمة، أو بثمن معين، فلا يشترط قبض شيء منهما في الملجس؛ لما ذكرناه.
وأمّا (السلم الخالص) : فهو أن يقول: أسلمت إليك كذا، في ثوب صفته كذا، فمن شرطه قبض رأس مال السلم في المجلس؛ لما ذكرناه.
وأمّا (السلم بلفظ البيع) : فهو أن يقول: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا وكذا، بشيء يذكره، فهذا لفظه لفظ البيع، ومعناه معنى السلم، فهل يراعى معنى اللفظ، ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس؟ أو يراعى معناه: وهو السلم، ولا بد من قبض رأس المال في المجلس؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في أوّل الباب.
[فرعٌ: رأس مال السلم بالذمة أو معين]
] : إذا كان رأس مال السلم عرضًا في الذمة.. فيجب ذكر صفاته؛ لأنه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف، فوجب ذكر صفاته، كالمسلم فيه.
فإن كان رأس المال نقدًا مطلقًا في الذمة، فإن كانا في بلدٍ فيه نقد غالب.. انصرف الإطلاق إليه، كما نقول في بيع الأعيان. وإن كانا في بلد فيه نقودٌ ليس بها نقدٌ غالبٌ.. لم يصح السلم حتى يبيِّنا واحدًا منها، كما قلنا في بيع الأعيان.(5/434)
وإن كان رأس المال معيَّنًا.. فهل يفتقر إلى معرفة قدره وصفاته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز أن يكون جزافًا، ولا بد من ذكر صفاته؛ لأنه أحد العوضين في السلم، فلم يجز أن يكون جزافًا، ولا غير معلوم الصفة، كالعوض الآخر، وهو المسلم فيه، ولأن عقد السلم لا يقع منبرمًا، وإنما يقع مراعى، وربما انفسخ العقد، فيحتاج أن يرجع المسلم إلى رأس المال، فإذا كان جزافًا، أو غير معلوم الصفة.. لم يمكنه الرجوع إليه.
فعلى هذا: لا يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه، كاللؤلؤ والزبرجد، أو ما عملت فيه النار، كالخبز والشواء.
والقول الثاني: يصح السلم وإن كان رأس المال جزافًا، ولا يفتقر إلى ذكر صفاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم» . ولم يفرق بين أن يكون رأس المال معلومًا موصوفًا، أو جزافًا غير موصوف. ولأنها عين يتناولها العقد بالإشارة إليها، فاستغني عن معرفة قدرها وصفتها، كالبيع.
فعلى هذا: يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه.
[فرعٌ: وجد رأس المال معيبًا بعد التفرق]
إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده معيبًا بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنس رأس المال، مثل: أن يسلم إليه دراهم، فوجدها رصاصًا أو نحاسًا.. بطل السلم؛ لأنهما تفرّقا قبل قبض رأس المال. وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن وجد الدراهم مضطربة السكة، أو كانت فضتها خشنة.. نظرت:
فإن كان العقد وقع على عينها.. فالمسلم إليه بالخيار: بين أن يرضى بها، وبين أن يردّها أو يفسخ العقد. ولا يمكنه أن يطالب ببدلها؛ لأن العقد وقع على عينها.
وإن كان العقد وقع على دراهم في الذمة، ثم عين تلك الدراهم عنها.. فهل له أن يطالب ببدلها بعد التفرق؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما في (الصرف) .(5/435)
[فرعٌ: الاختلاف في قبض القيمة]
] : إذا أسلم إلى رجل دراهم في شيء، فحصلت الدراهم في يد المسلم إليه، ثم اختلفا، فقال المسلم: أقبضتك هذه الدراهم بعد التفرق، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم إليه: بل أقبضتنيها قبل التفرق، وأقام على ذلك بينة.. قال أبو العباس: فبينة المسلم إليه أولى؛ لأنها مثبتة، والأخرى نافية، والمثبتة أولى.
وكذلك: لو كانت الدراهم في يد المسلم، فقال المسلم إليه: أقبضتني في المجلس، وأودعتها عندك، أو غصبتني عليها، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم: ما أقبضتك، وأقام على ذلك بينة.. فبينة المسلم إليه أولى؛ لأن بينته مثبتة.
والله أعلم، وبالله التوفيق(5/436)
[باب تسليم المسلم فيه]
إذا حل دين السلم.. وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد، فإن كان المسلم فيه تمرًا.. قال الشافعي: (فليس على المسلم أن يأخذه إلا جافًّا) .
قال أصحابنا: ولم يرد بهذا: أن يكون مشمَّسًا، وإنما أراد به: إذا بلغ إلى حالة الادخار، وعليه أن يأخذه، وهو: إذا وقع عليه اسم الجفاف، وإن لم يتناه جفافه. وإن كان المسلم فيه رطبا.. لزمه ما يقع عليه اسم الرطب، ولا يلزمه أن يقبل بُسرًا، ولا مذنَّبًا، ولا منصَّفًا، ولا مشدَّخًا.
فأمَّا (المذنَّب) : فهو الذي أرطب في أذنابه لا غير.
وأمّا (المنصَّف) : فهو الذي نصفه بسر، ونصفه رطب.
وأمّا (المشدَّخ) : فذكر الشيخ أبو حامد: أن المشدخ هو الذي ضرب بالخشب، حتى صار رطبا، فلا يلزمه قبوله؛ لأنه لا يتناوله اسم الرطب. وإن تناوله.. فيكون رطبًا مفتوتًا.
وقيل: إنهم يشمِّسون البسر، ثم يلدكونه بكساء صوف غليظ، وما أشبهه، فيصير طعمه طعم الرطب، يفعلون ذلك؛ استعجالاً لأكل الرطب من البسر قبل الإرطاب. ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أنهم يضربون البسر بالخشب؛ ليصير طعمه طعم الرطب.
وإن كان المسلم فيه طعامًا.. لزمه أن يدفع إليه طعامًا نقيًّا من الشعير، والزُّؤان، وعقد التبن؛ لأن هذه الأشياء تنقصه عن الكيل والوزن. وإن كان فيه قليل تراب أو شيء من دُقاق التبن.. نظرت:(5/437)
فإن أسلم فيه كيلا.. لزمه قبوله؛ لأن ذلك لا يؤثر في الكيل.
وإن أسلم فيه وزنًا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن ذلك يؤثر في الوزن، فيكون المقبوض دون حقه.
[مسألةٌ: قبض المسلم فيه والزيادة أو النقصان عليه]
] : إذا أسلم إليه في شيء، فأتى المسلم إليه بالمسلم فيه.. لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يأتيه بالمسلم فيه على الصفة المشروطة، أو يأتي بأدنى منه، أو يأتي بأعلى منه.
فـ[أحدها] : إن أتاه على صفة المسلم فيه، بأن أسلم إليه بطعام جيد، فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد وإن كان غيره أجود منه.. لزمه أن يقبله.
و [ثانيها] : إن أتى به أردأ من المسلم فيه، بأن أتاه بطعام رديء.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه دون ما شرط. وإن قال المسلم إليه: خذ هذا، وأعطيك عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأنه بيع صفة، والصفة لا تفرد بالبيع، ولأنه بيع جزء من المسلم فيه قبل القبض.
و [ثالثها] : إن أتاه بأعلى من المسلم فيه.. فلا تخلو الزيادة من أربعة أحوال:
إما أن تكون زيادة في الصفة، أو في العدد، أو في الجنس، أو في النوع.
فـ[أحدها] : إن كانت الزيادة في الصفة، مثل: أن يسلم إليه في طعام رديء، فجاءه بطعام جيد، فإن رضي المسلم إليه بتسليمه عمّا في ذمته.. لزم المسلم قبوله؛ لأنها زيادة لا تتميز، فإذا رضي المسلم إليه بتسليمها.. لزم المسلم قبولها، كما لو أصدق امرأته عينًا، فزادت في يدها زيادة لا تتميّز، ثم طلقها قبل الدخول، ورضيت المرأة بتسليم نصف العين مع زيادتها.. فإن الزوج يلزمه قبولها.
وإن لم يتطوع المسلم إليه بتسليمها، بل طلب عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأن الجودة صفة، فلا يجوز إفرادها في العقد.(5/438)
و [ثانيها] : إن كانت الزيادة في العدد، مثل: أن يسلم إليه بخمسة أذهاب حنطة، فجاءه بعشرة أذهاب حنطة.. لم يلزم المسلم قبول ما زاد على الخمسة؛ لأن ذلك ابتداءً هبة، فلم يجبر على قبولها.
و [ثالثها] : إن كانت الزيادة في الجنس، مثل: أن يسلم إليه على ذرة، فأعطاه عن الذرة حنطة.. لم يلزمه قبول ذلك، فإن قبله.. لم يصح؛ لما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» .
و [رابعها] : إن كانت الزيادة في النوع، مثل: أن يسلم إليه على ذرة حمراء، فجاءه عنها بذرة بيضاء.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين:
أحدهما: يلزم المسلم قبوله.
وهذا القائل يدعي: أن هذا ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه قال: (وأصل ما يلزم المسلم قبول ما سلف فيه، هو أن يأتيه به من جنسه) . وهذا قد أتى به من جنسه. ولأنه قد أعطاه من جنس حقِّه، وفيه زيادةٌ لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع رديء، فأعطاه من ذلك النوع جيِّدًا.. فإنه يلزمه قبوله.
والثاني: لا يلزمه قبول؛ لأنه لم يأت به على الصفة التي اشترط عليه، فلا يلزمه قبوله، كما لو أتاه بجنس آخر.(5/439)
وهذا القائل يقول: يجوز أن يقبل؛ لأنه من جنس حقه.
وقال القاضي أبو الطيب: الوجهان في الجواز، فأما الوجوب: فلا يجب عليه قبوله، وجهًا واحدًا. وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ".
وإن أسلم إليه في ذرة بيضاء، فجاءه عنها بذرة حمراء.. فلا يلزمه قبولها، وجهًا واحدًا، وهل يجوز له قبولُها؟ يحتمل أن تكون على الوجهين في المسألة قبلها.
[فرعٌ: كيفية استعمال المكيال]
] : إذا أسلم إليه في مكيل.. قال الشافعي: (فليس له أن يدق المكيال، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذه زيادة في الكيل. ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه) . وهذا صحيح، كما قال: (ليس له أن يدق رأسه، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذا زيادةٌ في الكيل، ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه) .
[فرعٌ: تقديم التسليم عن الوقت المعين أو بعده]
] : وإن أسلم إليه في شيء إلى محل، فجاءه به المسلم إليه قبل المحل، فامتنع المسلم من قبضه، فإن كان المسلم فيه مما يلحقه التغير والتلف إلى وقت المحل، بأن كان لحمًا أو رطبًا أو سائر الفواكه الرطبة.. لم يلزم المسلم قبوله؛ لأن له غرضًا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت.
وكذلك: إن كان المسلم فيه حيوانًا.. لم يلزمه قبوله قبل المحل؛ لأنه يخاف عليه التلف، ويحتاج إلى العلف إلى ذلك الوقت.
وإن كان لا يخاف عليه التغيُّر ولا التلف، ولكن يحتاج إلى مكان يحفظه فيه،(5/440)
يلزمه عليه مؤنة، كالحنطة والقطن.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررًا في المؤنة في حفظه إلى وقت المحل.
فإن كان لا يحتاج إلى مؤنة في حفظه، كالحديد الرصاص والنحاس الذي يستعمل، فإن كان الوقت مخوفًا..لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف إلى وقت المحل. وإن كان الوقت آمنًا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا ضرر عليه في قبوله. فإن لم يقبله.. قبله الحاكم وحفظه؛ لما رُوي: (أن أنس بن مالك كاتب عبدًا له على مال، فجاءه العبد بالمال قبل المحل، فلم يقبله منه أنس، فأتى به العبد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذ المال منه، وتركه في بيت المال، وقال للعبد: قد عتقت) .
وإن سأل المسلِم المسلَم إليه: أن يقدِّم له المسلَم فيه قبل المحل.. لم يلزم المسلَم إليه تقديمه؛ لأن ذلك يبطل فائدة التأجيل.
وإن قال المسلم إليه: انتقص لي من الدين؛ لأقدمه لك، ففعل.. لم يصح القبض؛ لأنه بيع أجل، والأجل لا يفرد بالبيع.
فإن جاء المسلم إليه المسلم بالمسلم فيه، بعد حلول الدين على صفته، فامتنع المسلم من قبضه.. قال له الحاكم: إما أن تقبضه، أو تبرِّئ المسلم إليه منه. وسواء كان للمسلم غرض في الامتناع أو لا غرض له؛ لأن للمسلم إليه غرضًا في الدفع، وهو أن يبرأ مما عليه من الحق، وقد حل الحق. وإن لم يفعل المسلم ذلك.. قبضه الحاكم عنه، وبريء المسلم إليه؛ لأن الحاكم ينوب عن الممتنع، ولا يملك الحاكم الإبراء؛ لأنه لا نظر للمسلم في الإبراء عنه، وله حظٌّ في حفظ ماله.(5/441)
[فرعٌ: عدم الالتزام بشروط السلم]
] : إذا تعين موضع التسليم، بإطلاق العقد أو بالشرط، فجاءه به في غير ذلك الموضع.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأنه يفوت عليه غرضه في ذلك الموضع. فإن بذل له أجرة حمله إلى ذلك الموضع.. لم يلزمه قبوله، ولم يجز له أخذ الأجرة؛ لأن بدل العوض عن المسلم فيه لا يجوز، فكذلك في تسليمه في موضع.
وإن جعله نائبًا عنه في حمله إلى ذلك الموضع.. لم يكن المسلم قابضًا له، بل يفتقر إلى تسليمه إيّاه في الموضع المعين، أو في غيره إذا رضي المسلم بذلك.
وإن أسلم إليه في شيء كيلا، فأعطاه إيّاه وزنًا، أو أسلم إليه فيه وزنًا، فأعطاه كيلا.. لم يصح القبض؛ لأن الكيل والوزن يختلفان؛ لأن الوزين يقل كيله ويكثر وزنه، والخفيف يقل وزنه ويكثر كيله.
[مسألةٌ: لا اعتبار بكيل المسلَم إليه]
] : قال الشافعي: (ولو أعطاه طعامًا، فصدَّقه في كيله.. لم يجز، فإن قبضه.. فالقول قول القابض مع يمينه) . وجملة ذلك: أنه إذا كان له في ذمة رجل طعام مكيل، أو اشترى منه عشرة أقفزةٍ من صبرةٍ بعينِها، فسلَّم إليه من عليه الطعام طعامًا من غير كيل، وأخبره بكيله، فصدقه على كيله، أو لم يصدقه.. لم يجز له قبضه بغير كيل؛ لأن المستحق عليه القبض بالكيل، فإذا قبضه من غير كيل.. لم يصح القبض. فإن كان الطعام باقيًا.. ردّه على البائع، ثم يكيله على المسلم، فإن كان وفق حقه.. فلا كلام، وإن كان دون حقه.. استوفى منه حقَّه، وإن كان أكثر من حقِّه.. كان الفضل للمسلم إليه. فإن تلف الطعام في يد القابض قبل أن يكال عليه.. تلف من ضمانه؛ لأنه قبضه لنفسه، فإن اتَّفقا على قدره.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدره، فادّعى القابض: أنه كان دون حقه، وادّعى مالك الطعام: أنه قدر حقه وأكثر.. فالقول قول القابض مع يمينه،(5/442)
سواء ادعى نقصانًا قليلاً كان أو كثيرًا ـ نصَّ عليه الشافعيُّ في (الصرف) ـ لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق، فلا يبرأ من عليه الحق، إلا من القدر الذي يقر به القابض.
فإن قيل: كيف سمعت دعوى القابض في النقصان، وقد قال الشافعي في المسألة: (فصدقه في كيله) ؟
قال أصحابنا: لم يُرد الشافعي: أنه اعترف بصحة الكيل، وإنما هو قبول قول المخبر، وحمل قوله على الصدق، فإن بان له أنه بخلافه.. سمعت دعواه.
قال الشيخ أبو حامد: إذا ثبت هذا: فإنه يكون قبضًا فاسدًا، فإن المسلم إذا قبضه وكان قدر حقِّه وزيادة عليه.. فإنه يملك بقدر حقه بالقبض، وينتقل الضمان إليه، وتبرأ ذمة البائع عنه.
وهل يجوز للقابض التصرف فيه؟ نظرت:
فإن أراد أن يتصرف في الجميع.. لم يجز؛ لأن للبائع فيه تعلقًا؛ لأنه ربما إذا كيل يخرج زيادة على قدر ما يستحق القابض، فلم يصح تصرفه في الجميع.
فإن أراد أن يبيع منه قدر ما يتحقق أنه يخصه، بأن باع نصف قفيز منه، وله قفيز.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يصح؛ لأن ذلك الشيء في ملكه، وانتقل الضمان إليه، ويعلم أنه قدر حقه، فجاز بيعه فيه.
و [الثاني] : قال أبو عليِّ بن أبي هريرة: لا يصح بيعه، وهو المنصوص في (الصرف) ، ولأن العلقة باقية بينه وبين البائع. قال فيه: (لأن ماله غير متميِّز عن مال البائع، فلم يصح بيعه فيه) .(5/443)
[مسألةٌ: لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه]
] : قال الشافعي في " الأم " [3/61] : (ولو أسلم في طعام، وباع طعامًا آخر، فأحضر المشتري منه أكياله من بائعه، وقال: أكتاله لك.. لم يجز؛ لأنه بيع الطعام قبل القبض) .
واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة:
فمنهم من قال: صورتها: أن يسلم زيدٌ إلى عمرٍو في طعام، فلمَّا حل الأجل.. باع زيد الطعام الذي له في ذمة عمرو من خالد قبل قبضه، فإن هذا لا يصح؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» ، ولأن بيع الطعام المشترى قبل القبض لا يصح وإن كان مُعيَّنًا، فلأن لا يصح بيع المسلم فيه قبل القبض أولى.
قال: وتعليله يدل عليه؛ لأنه قال: (لأنه بيع الطعام قبل القبض) .
قال: وقول الشافعي: (وباع طعامًا آخر) يريد: باع ذلك الطعام من آخر.
وقال أكثر أصحابنا: ما ذكره هذا القائل صحيح في الفقه، ولكن ليس هذا صورة المسألة التي ذكرها الشافعي، وإنما صورتها: أن يكون لزيد طعام في ذمة عمرو سَلَمٌ، وفي ذمة زيد لخالد طعام سلم، فقال زيد لخالد: أحضر أكيال ما لي عند عمرو لأكتاله لك.. فإنه لا يصح؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان» .(5/444)
والدليل على أن هذا مراده فيما ذكر: أنه قال: (وباع طعامًا آخر) . ولو أراد بيع ذلك الطعام.. لقال: وباع ذلك الطعام آخر. ولأنه قال بعدها: (ولو قال: أكتاله لنفسي، وخذه بالكيل.. لم يجز) . ولو كان قد باعه الطعام قبل القبض.. لم يكن لحضوره واكتياله لنفسه معنًى.
قالوا: وأمّا تعليله: فإنما أراد: أن هذا مثل بيع الطعام قبل القبض؛ لأنه لا يضمنه قبل أن يقبضه، كما لا يجوز بيعه قبل قبضه.
إذا ثبت هذا: ففيه خمس مسائل:
إحداهن: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله لك، فاكتاله زيد لخالد من عمرو، فلا يصح القبض لخالد، وجهًا واحدًا؛ لحديث جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري» . وهذا لم يجر فيه الصاعان، ولأنه لا يستحق على عمرٍو شيئًا، فلم يصح القبض له منه. وهل يصح القبض لزيد من عمرو؟ فيه وجهان، بناء على القولين في السيد، إذا باع نجوم المكاتب ـ وقلنا: لا يصح القبض ـ فقبض المشتري النجوم.. فهل يعتق المكاتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: إن قلنا: يصح قبض زيد لنفسه.. كاله لخالد مرة ثانية.
و [الثاني] : إن قلنا: لا يصح قبض زيد لنفسه.. رد الطعام إلى عمرو؛ ليكيله لزيد، ثم يكيله زيد لخالد.(5/445)
وإن اختلف زيدٌ وعمرٌو في المقبوض.. فالقول قول زيد مع يمينه. وإنما يقبل قوله مع اليمين، إذا كان ما يدّعيه محتملاً، فأمّا إذا ادّعى تفاوتًا كثيرًا: لم يقبل قوله؛ لأن هذا القدر لا يتفاوت. وهكذا: لو اختلف زيد وخالد فيما قبض خالد.. فالقول قول خالد مع يمينه إذا كان ما يدّعيه تفاوتًا يسيرًا، وإن كان تفاوتًا كثيرًا.. لم يقبل قوله؛ لأن مثل ذلك لا يتفاوت.
المسألة الثانية: أن يقول زيد لخالد: اذهب، فاكتل الطعام لنفسك من عمرو، ففعل، فإن قبض خالد لنفسه لا يصح، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا شيء له في ذمة عمرو. وهل يصح قبض خالد من عمرو لزيد؟ على الوجهين.
المسألة الثالثة: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله من عمرو لنفسي، ثم تأخذه بذلك الكيل، فحضر، فاكتاله زيد لنفسه، ثم سلّمه زيد إلى خالد جزافًا من غير كيل، صح قبض زيد لنفسه؛ لأنه قبضه لنفسه قبضًا صحيحًا، ولا يصح قبض خالد من زيد؛ لأنه قبضه من غير كيل.
المسألة الرابعة: إذا اكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم كاله زيد لخالد مرة ثانية.. صح القبضان؛ لأن الطعام قد جرى فيه الصاعان.
المسألة الخامسة: أن يكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم يسلمه إلى خالد عمّا عليه له وهو في المكيال، فإن قبض زيد لنفسه من عمرو صحيح، وهل يصح قبض خالد من زيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لحديث جابر: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان» . وهذا يقتضي كيلا بعد كيل.
والثاني: يصح؛ لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، بدليل: أنه لو أسلم إليه بذهب طعام، فابتدأ المسلم إليه وكاله للمسلم.. صح، ولو كال الطعام بالذهب عند السلم، فسلمه إليه.. صح، فكذلك هاهنا مثله.(5/446)
[مسألةٌ: دفع المسلم إليه بدلاً إلى المسلم دراهم]
] : وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من سلم، فدفع عمرو إلى زيد دراهم، وقال اشتر بها لنفسك طعامًا، مثل الطعام الذي لك عليَّ، ففعل.. لم يجز؛ لأن الدراهم ملك لعمرو، فلا يجوز أن يكون عوضها ملكًا لزيد. فإن اشترى زيد الطعام بعين الدراهم.. لم يصح الشراء، وإن اشترى زيدٌ الطعام بدراهم في ذمته، ثم سلَّم تلك الدراهم عمّا في ذمّته.. صح الشراء لنفسه، ولا تبرأ ذمته بتسليم تلك الدراهم؛ لأنه لا يملكها، وعليه ضمانها. وإن قال عمرٌو لزيد: اشتر بها لي طعامًا، واقبضه لنفسك.. فإن الشراء يصح لعمرو؛ لأنه اشتراه له، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يصح أن يكون قابضًا لنفسه من نفسه. وهل يصح القبض لعمرٍو؟ فيه وجهان، كالوجهين في المسألة قبلها.
وإن قال: اشتره لي واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، أو خذه بذلك الكيل لنفسك.. فإن الشراء والقبض يصح لعمرو، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يجوز أن يقبض لنفسه من نفسه.
[فرعٌ: إحالة صاحب القرض على من له سلم]
وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من جهة القرض، ولخالد في ذمة زيد طعام من جهة السَّلَم، فأحال زيد خالدًا بالطعام الذي له عليه على عمرو.. لم تصح الحوالة؛ لأن خالدًا يبيع طعامه الذي له على زيد من السلم بالطعام الذي لزيد من جهة القرض، وقد بيّنّا: أن بيع المسلم فيه قبل القبض لا يصح، فالفساد هاهنا من جهة خالد.
وإن كان الطعامان من السلم.. لم تصح الحوالة؛ لما ذكرناه، والفساد هاهنا من الطرفين.
وإن كان الطعامان من جهة القرض.. فهل تصح الحوالة بهما؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:(5/447)
أحدهما: يصح ـ وهو الصحيح ـ لأن بيع القرض يصح قبل القبض، وكل واحد منهما قرض، ولأن كل واحدٍ منهما مستقر في الذمة، فجاز أن يعتاض من ذمة إلى ذمة، بخلاف السلم.
والثاني: لا تصح؛ لأن الحوالة لو صحّت في الطعام، إذا كان من جهة القرض.. لصحَّت وإن كان من جهة البيع، كالدراهم والدنانير لمّا جازت الحوالة بهما إذا كانا من جهة القرض.. جازت أيضًا إذا كانا من جهة البيع. فلمّا لم تجز الحوالة بالطعام إذا كان من جهة البيع.. لم تصح إذا كانت من جهة القرض.
[فرعٌ: الشركة والتولية في السلم]
] : لا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه قبل القبض.
و (الشركة) : أن يقول المسلم لغيره: أشركتك في نصف المسلم فيه بنصف الثمن، فيكون ذلك بيعًا لنصف المسلم فيه.
و (التولية) : أن يقول وليتكه بجميع الثمن، أو ولّيتك نصفه بنصف الثمن.
وقال مالك: (تجوز) .
دليلنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز، كما لو كان بلفظ البيع.
[فرعٌ: مسائل بالقضاء المشروط في المسلم فيه]
] : ذكر الشافعي في (الصرف) أربع مسائل:
إحداهن: لو كان في ذمة رجل لغيره طعام، فسأل من عليه الطعام من له الطعام:(5/448)
أن يبيعه طعامًا، بشرط أن يقضيه ما له عليه منه، فباعه منه بهذا الشرط.. فالبيع باطل؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله.
الثانية: إذا باع منه طعامًا مطلقًا، ونيتُهما أن يقضيه منه.. صح البيع؛ لأنه بيع مطلق.
الثالثة: أن يقول من له الطعام لمن عليه: اقضني ما لي عليك على أن أبيعكه، فقضاه.. صح القبض؛ لأن هذا قبض مستحق عليه، فإذا قضاه.. وقع عن المقبوض. والقابض بالخيار: بين أن يبيعه منه أو لا يبيعه؛ لأن هذا وعدٌ وعده، فكان بالخيار في الوفاء به.
الرابعة: أن يقول من له الطعام: اقضني أكثر مما أستحقه أو أجود منه، بشرط أن أبيعه منك، فقضاه كذلك.. لم يصح القبض؛ لأن هذا غير مستحق عليه، فكان قبضًا فاسدًا.
قال الشيخ أبو حامد: فيجب عليه أن يرد الزيادة، وإن قضاه من غير جنس حقه.. ردّه وأخذ قدر حقه من جنسه، ثم إن شاء باعه منه، وإن شاء لم يبعه.
[مسألةٌ: وجود عيب بالمسلم فيه بعد القبض]
] : إذا قبض المسِلم المسلَم فيه، فوجد به عيبًا.. فهو بالخيار: بين أن يرضى به معيبًا، وبين أن يرده ويطالب بالمسلَم فيه سليمًا؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السليم. فإذا أخذ المعيب ورده.. رجع في الذي له في ذمة المسلَم إليه.
وإن حدث عند المسلِم بالمقبوض عيب آخر.. فله أن يطالب بأرش العيب الموجود قبل القبض، إلا أن يرضى المسلَم إليه بأخذه معيبًا.. فلا يثبت للمسلم المطالبة بالأرش.
وقال أبو حنيفة: (ليس للمسلم المطالبة بالأرش؛ لأن رجوعه بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلَم فيه قبل القبض لا يجوز) .
دليلنا: أنه عوض يجوز ردُّه بالعيب، فإذا سقط الرد بحدوث عيب.. ثبت له(5/449)
الرجوع بالأرش، كبيع الأعيان. وأمَّا قوله: (إن الرجوع بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز قبل القبض) فغير صحيح؛ لأن بيع المبيع المعيَّن قبل القبض لا يصح، وقد جاز أخذ الأرش عنه. ولأن ذلك فسخ العقد في الجزء الفائت، وليس ببيع، ولهذا يكون بحسب الثمن المسمى في العقد.
[مسألةٌ: فقد المسلم فيه عند حلول لأجل]
مسألةٌ: [فقد المسلم فيه عند حلول الأجل] : إذا أسلم في شيء مؤجّل إلى وقت، الغالب وجود المسلم فيه في ذلك الوقت، فجاء ذلك الوقت، ولم يوجد ذلك الشيء ـ كالثمرة إذا انقطعت ـ وتعذر القبض حتى نفد ذلك الشيء المسلم فيه.. ففيه قولان:
أحدهما: ينفسخ السلم؛ لأن المعقود عليه قد تعذر تسليمه، فانفسخ العقد، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة قبل القبض. ولأنه لو أسلم إليه في ثمرة بلدٍ بعينه، كبغداد.. صح السلم، ولم يكن للمسلَم إليه أن يدفع إليه من ثمرة غير بغداد. وكذلك: إذا أسلم إليه في ثمرة عام.. لم يكن له أن يدفع إليه من ثمرة غير ذلك العام.
والقول الثاني: لا ينفسخ السَّلم، ولكن يثبت للمسلم الخيار: بين أن يفسخ العقد، وبين أن لا يفسخ ويصبر إلى أن يوجد المسلم فيه، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف، بدليل: أنه لو أسلم إليه في الرطب من ثمرة عامين، فقدم المسلم إليه في العام الأول ما يجب فيه في العام الثاني.. جاز.
وإن انقطع بعض المسلم فيه، ووجد البعض:
فإن قلنا: إن السلم ينفسخ إذا عدم جميع المسلم فيه.. انفسخ السلم هاهنا في القدر المفقود من المسلم فيه. وهل ينفسخ في الموجود منه؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض:(5/450)
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا ينفسخ، قولاً واحدًا.
فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت للمسلم الخيار في الفسخ؛ لأن الصفقة تفرّقت عليه. فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. أخذ الموجود، وهل يأخذه بجميع الثمن أو بحصته؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصبّاغ.
قلت: وعلى قياس ما ذكر في " المهذب " هناك: أنه يأخذه هاهنا بحصّته من (الثمن) : وهو رأس مال السلم، قولاً واحدًا.
فإذا قلنا: يأخذه بجميع الثمن.. فلا خيار للمسلم إليه. وإن قلنا: يأخذه بحصته.. فهل للمسلم إليه الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ.
وإن قلنا: إن المسلم فيه إذا انقطع جميعه لا ينفسخ السلم، بل يثبت للمسلم الخيار.. ثبت له أيضًا هاهنا الخيار ليأخذ بعض حقه. فإذا اختار أن يفسخ السلم في المفقود والموجود.. جاز؛ لتفرق حقِّه عليه.
وإن اختار أن يفسخ السلم في المفقود، ويقره في الموجود.. فهل له ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
فإن قلنا: يجوز، ففسخ السلم في المفقود.. فبكم يأخذ الموجود؟ على ما مضى.
[مسألةٌ: الإقالة فسخ]
] : الإقالة فسخ، وليست ببيع، على المشهور من المذهب، سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة، إلاَّ أنه يقول: (هي بيع في حق غير المتعاقدين، فتثبت بها الشفعة) .
وقال أبو يوسف: إن كان قبل القبض.. فهو فسخ، وإن كان بعد القبض.. فهي بيع.(5/451)
وقال مالك: (هي بيع بكل حال) . وحكى القاضي أبو الطيب: أنه القول القديم للشافعي. وأمَّا الشيخ أبو حامد: فحكاه وجهًا لبعض أصحابنا.
دليلنا: أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخًا، كالردِّ بالعيب.
إذا ثبت هذا: فإن أسلم رجل إلى غيره شيئًا في شيء، ثم تقايلا في عقد السلم.. صحّ ـ وقد وافَقَنا مالك على ذلك ـ وهذا من أوضح دليل على: أن الإقالة فسخ؛ لأنها لو كان بيعًا.. لما صحَّ في المسلَم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعُهُ.
وإن أقاله في بعض المسلم فيه.. صح في القدر الذي أقاله.
وقال ابن أبي ليلى: تكون إقالة في الجميع.
وقال ربيعة، ومالك، والليث: (لا يصح) .
دليلنا: أن الإقالة مندوبٌ إليها، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادمًا في بيع.. أقاله الله نفسه يوم القيامة» . وما جاز في جميع المبيع.. جاز في بعضه، كالإبراء والإنظار.
وإن أقاله بأكثر من الثمن، أو بأقل منه، أو بجنس آخر.. لم تصح الإقالة.
وقال أبو حنيفة: (تصح الإقالة، ويجب ردُّ الثمن المسمى في العقد) .
دليلنا: أن المسلم أو المشتري لم يسقط حقه من المبيع، إلاَّ بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض.. لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف، بشرط أن يبيعه غلامه بألف.(5/452)
[فرع: ضمان المسلم فيه والصلح عليه]
] : وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه، ثم إن الضامن صالح المسلم عمَّا في ذمة المسلم إليه، بمثل رأس مال السلم.. لم يصح الصلح؛ لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيتعوض عنه. فأمّا إذا صالحَ المسلِمُ المسلَمُ إليه، بمثل رأس مال السلم.. قال أبو العبّاس: صح الصلح، وكان إقالةً؛ لأن (الإقالة) هو: أن يسترد ما دفع، ويعطي ما أخذ، وهذا مثله.
[فرع: فسخ عقد السلم]
] : وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ.. سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيًا.. أخذه، وإن كان تالفًا.. رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له.. رجع إلى قيمته. وإن أراد أن يسلمه في شيء آخر.. لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين.
وإن أراد أن يأخذ عنه عوضًا.. نظرت:
فإن كان رأس المال من أموال الرّبا.. نظرت:
فإن أراد أن يأخذ منه ما هو من جنسه.. جاز أن يأخذ ما هو مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرَّقا قبل قبضه.
وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه، إلا أنه جمعتهما علَّة واحدة في الربا، كالدراهم والدنانير.. جاز أن يأخذ أكثر منه وأقل منه، إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبض العوض، كما قلنا في البيع.
وإن أراد أن يأخذ منه عوضًا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الرّبا.. صح ذلك أيضًا. وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط ذلك؛ لئلا يتفرّقا والعوض والمعوَّض في ضمان واحد.(5/453)
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر.
وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به.
وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، أو في الأجل أو في قدره.. تحالفا.
وإن اتَّفقا على الأجل، واختلفا في انقضائه، فادّعى المسلم انقضاء الأجل، وادَّعى المسلم إليه بقاءه.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه.
والله أعلم(5/454)
[باب القرض]
الإقراض مستحب، وفعل من أفعال البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي الإقراض إعانةٌ على البر.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر.. يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم.. ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . والقرض مما تفرج به الكرب.(5/455)
وقد رُوي عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وأبي الدرداء: أنهم قالوا: (لئن نقرض مرتين.. أحب إلينا من أن نتصدق مرة) .
وقال بعضهم: إنما كان القرض خيرًا من الصدقة؛ لأن الصدقة قد تدفع إلى من هو غنيٌّ عنها، ولا يسأل إنسان القرض إلا وهو محتاج إليه.
[مسألة: أركان القرض وشروطه]
] : ولا يصح القرض إلاَّ من جائز التصرف في المال؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا جائز التصرف فيه، كالبيع. ولا يصح إلاَّ بالإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك(5/456)
آدميٍّ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع والهبة، وفيه احترازٌ من العتق.
وينعقد بلفظ القرض والسلف؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال. وسمي القرض: قرضًا؛ لأنه قطع له من ماله قطعة، ومن قطع منه شيئًا.. فقد قرضه. وينعقد بما يؤدي معنى ذلك، فإن قال: ملَّكتك هذا، على أن ترد عليَّ بدلَه.. كان قرضًا، وإن قال: ملَّكتك هذا، ولم يذكر البدل.. فهو هبة.
وإن اختلفا فيه.. فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه.
قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أقرضتك ألفا، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه إلفا، فإن لم يطل الفصل.. جاز؛ لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب. وإن طال الفصل.. لم يجز حتى يعيد لفظ القرض؛ لأنه لا يمكنه البناء على العقد مع طول الفصل.
[مسألة: الخيار في القرض وفسخه]
] : ولا يثبت في القرض خيار المجلس، ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار يراد للفسخ، وكل واحد منهم يملك أن يفسخ القرض متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيار.
ولو أقرضه شيئًا إلى أجل.. لم يلزم الأجل، وكان حالاًّ. وهكذا: لو كان له عنده ثمن حالٌّ فأجَّله، أو كان مؤجَّلاً فزاد في أجله.. لم يلزم ذلك.
وقال مالك - رحمة الله عليه -: (يدخل الأجل في ابتداء القرض، بأن يقرضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه، بأن يقرضه حالاًّ، ثم يؤجِّله له، فيتأجَّلَ) .
ووافقنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الأجل لا يدخل في القرض، وأمّا الثمن الحالُّ: فيتأجل بالتأجيل) .
دليلنا على مالك: أن الأجل يقتضي جزءًا من العوَض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه، فلم يجز شرط الأجل فيه.
وأمّا الدليل على أبي حنيفة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» ، وتأجيل الحق الحالِّ ليس في كتاب الله تعالى، فكان باطلاً، ولأنه حقٌّ مستقرٌّ فلم يتأجَّل بالتأجيل، كالقرض.(5/457)
وقولنا: (مستقرٌّ) احترازٌ من الثمن في مدة الخيار؛ ولأنه إنظار تبرَّع به، فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عِنِّينًا، فأجَّلَته، ثم رجعت عن ذلك.. فإن لها ذلك.
[فرعٌ: يصح الرهن في القرض]
] : ويجوز شرط الرهن في القرض؛ لـ: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه على شعير استقرضه من يهودي» . ويجوز عقد القرض بشرط الضمين فيه، وبشرط أن يقر عند الحاكم، أو يشهد؛ لأنه وثيقة فيه، فجاز شرطه فيه، كالرهن.
[مسألةٌ: ما تملك به العين المستقرضة]
] : ومتى يملك المستقرض العين التي استقرضها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف بالبيع أو الهبة أو بأن يتلفها أو تتلف في يده؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين، وللمستقرض أن يردّها. ولو ملكها المستقرض بالقبض.. لم يملك واحدٌ منهما فسخ ذلك.
فعلى هذا: إن استقرض حيوانًا.. كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض. وإن استقرض أباه.. لم يعتق عليه بالقبض.
و [الثاني] : منهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض.. لما ملك التصرف فيها بما فيه حظٌّ، وبما لا حظَّ فيه. وأمَّا الرجوع في العين المقرضة: فلا خلاف بين أصحابنا: أنَّ للمستقرض أن(5/458)
يردَّها على المقرض، وأمَّّا المقرض: فهل له أن يرجع فيها وهي في يد المستقرض؟
من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنَّ المستقرض ملكها بالقبض.. لم يكن للمقرض أن يرجع فيها بغير رضا المستقرض، وإن قلنا: إنَّ المستقرض لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف.. فللمقرض أن يرجع فيها.
ومنهم من قال: للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص، ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعًا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرُّف، ألا ترى أن الأب إذا وهب لابنه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.. فإن الابن قد ملكه، وللأب أن يرجع فيه؟
وكذلك: إذا اشترى كل واحد سلعة بسلعة، ثم وجد كل واحدٍ منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته وإن كانت ملكًا للآخر. ويبطل بما لو تصرَّف هذا المستقرض بالعين المستقرضة، ثم رجعت إليه.. فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدلُّ ذلك على: أنَّ المستقرض لم يكن مالكًا للعين وقت التصرُّف فيها. فعلى هذا: إذا اقترض حيوانًا، وقبضه.. كانت نفقته على المستقرض. وإن اقترض أباه، وقبضه.. صحَّ، وعتق عليه.
[فرعٌ: يملك الضيف الطعام]
واختلف أصحابنا فيمن قدَّم إلى غير طعامًا، وأباح له أكله.. متى يملكه المقدَّم إليه؟
فـ[الأول] : منهم من قال: يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده.. ملكها، كما إذا وهبه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.
فعلى هذا: لو أراد المقدِّم أن يسترجعها منه بعد أن أخذها بيده.. لم يكن له ذلك.
و [الثاني] : منهم من قال: يملكه بتركه في الفم.
فعلى هذا: للمقدِّم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدِّم إليه في فيهِ.(5/459)
و [الثالث] : منهم من قال: لا يملكه إلا بالبلع.
و [الرابع] : حكاه في " المهذب ": أنه لا يملكه بالأكل، بل يأكله وهو على ملك صاحبه.
فإذا قلنا: إن المقدم إليه ملكه بأخذه باليد، أو بتركه في الفم.. فهل له أن يبيحه لغيره، أو يتصرف فيه بغير ذلك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامَّة أصحابنا: لا يجوز له ذلك، لأنه أباح له انتفاعًا صحيحًا مخصوصًا، فلا يجوز له أن ينتفع به لغيره، كما لو أعاره ثوبًا.. لم يكن له أن يعيره غيره.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: له أن يفعل به ما شاء من وجوه التصرفات، مثل: البيع، والهبة لغيره؛ لأنه يملكه، فهو كما لو وهبه شيئًا وأقبضه إيّاه.
قال ابن الصبّاغ: وهذا الذي قالاه لا يجيءُ على أصولهما؛ لأن من شرط الهبة عندهما القبول والإيجاب والإذن بالقبض، إلاَّ أن يتضمَّنها العتق لقوَّته، ولم يوجد ذلك هاهنا. ولأن الإذن بالتناول إنَّما تضمَّن إباحة الأكل، فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحًا.. لجاز له تناول جميع الذي قدم إليه، وينصرف به إلى بيته. وكذلك: إذا قلنا: بتركه في فيه.. فإنه لم يحصل الأكل المأذون فيه، وإنَّما يملكه بالبلع.
وقال: وعندي: أنَّ بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف.
قال: والأوجه في ذلك: أن يكون إذنًا في الإتلاف لا تمليك فيه.
[مسألةٌ: ما يصح قرضه]
] : ويصح القرض في كل عين يصح بيعها، وتضبط صفتها، كما قلنا في السلم. وأمّا ما لا يضبط بالصفة، كالجواهر وما عملت فيه النار.. فهل يصح قرضها؟ فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيما يجب ردُّه بالقرض فيما لا مثل له:(5/460)
فإن قلنا: يجب ردُّ القيمة.. جاز قرض هذه الأشياء.
وإن قلنا: يجب ردُّ المثل فيها.. لم يجز قرضها، ويأتي توجيههما.
[فرعٌ: قرض الدراهم المزيفة]
] : قال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية، ولا المحمول عليها ولو تعامل بها الناس. فلو أقرضه دراهم أو دنانير، ثم حرمت.. لم يكن له إلاَّ ما أقرض. وقيل: قيمتها يوم حرمت.
ولا يصح القرض إلاَّ في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن، أو طعامًا غير معلوم الكيل.. لم يصحَّ؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك.. لم يمكنه القضاء.
[مسألة: قرض الجواري]
] : ويجوز قرض غير الجواري من الحيوان، كالعبيد والأنعام، وغيرهما ممَّا يصح بيعها، ويضبط وصفها.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح قرضها) . وبنى ذلك على أصله: أن السلم لا يصح فيها. دليلنا: ما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من أعرابي بَكْرًا، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمرني أن أقضيه، فقلت: لم أجِد في الإبل إلا جملاً خيارًا رباعيًّا، فقال: " اقضه إيّاه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً» .(5/461)
ولأن ما صحَّ أن يثبت في الذمة مهرًا.. صحَّ أن يثبت فيها قرضًا، كالثياب.
فأمَّا استقراض الجواري: فيجوز ذلك لمن لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها.
وقال المزني، وابن داود، وابن جرير الطبري: يجوز.
وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيِّين: أنه يجوز قرضها، ولا يحل للمستقرض وطؤها.
دليلنا: أنَّه عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع، كالعارية.
فقولنا: (عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع) احترازٌ من البيع إذا اشترى جارية بجارية، ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يطأ جاريته، وليس بعقد إرفاق. ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية؛ لأن الهبة تلزم من جهة الموهوب، ولا تلزم من جهة الواهب.
[مسألةٌ: في البيع والسلف]
] : ولا يجوز بيع وسلف، وهو أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة على أن تقرضني خمسين؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عنده» .
ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد أخرى، ولا أن يكتب له بها سفتجة، فيأمن خطر الطريق ومؤنة الحمل. وكذلك: لا يجوز أن يقرضه شيئًا(5/462)
بشرط أن يرد عليه خيرًا منه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قرض جرَّ منفعة» . فإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه أكثر منه.. نظرتَ:
فإن كان ذلك من أموال الرِّبا، بأن أقرضه درهمًا، بشرط أن يرد عليه درهمين، أو أقرضه ذهب طعام بشرط أن يرد عليه ذهبي طعام.. لم يجز؛ لما رويَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جر منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا ربًا، فلم يجز، كالبيع.(5/463)
وإن كان ذلك في غير أموال الربا، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لما روى «عبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أُجهِّزَ جيشًا، فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ بعيرًا ببعيرين إلى أجل» . وهذا استسلافٌ.
والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جرّ منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا زيادة لا يقابلها عوض، فلم تصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولأنه لو اشترط زيادة في الجودة.. لم يصح، فلأن لا يجوز اشتراط الزيادة في العدد أولى.
وأمَّا الخبر: فهو واردٌ في السلم، بدليل: أنه قال: (كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل) . والقرض لا يدخله الأجل.
وإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذَّب ":
أحدهما: لا يجوز؛ لأن مقتضى القرض ردُّ المثل، فإذا شرط النقصان عمّا أقرضه.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فلم يجز، كما لو شرط الزيادة.
والثاني: يجوز؛ لأن القرض جُعل رفقًا بالمستقرض، فشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه، فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، فجاز.
[فرعٌ: رد القرض وزيادة من غير شرط]
] : وإن اقترض رجلٌ من غيره درهمًا، فردَّ عليه درهمين أو درهمًا أجود من درهمه، أو باع منه داره، أو كتب له بدرهمه سَفْتَجَةً إلى بلدٍ آخر من غير شرط، ولا جرت للمقرض عادة بذلك.. جاز.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك في أموال الرِّبا، ويجوز في غيرها. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض نصف صاع، فرد صاعًا، واقترض(5/464)
صاعًا، فردَّ صاعين» ، واقترض من الأعرابي بكرًا، فردَّ عليه أجود منه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار الناس أحسنهم قضاء» ، «وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (كان لي عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دين، فقضاني، وزادني» ، ولأنه متطوع بالزيادة، فجاز، كما لو وصله بها.
وكذلك: لو اقترض رجل شيئًا، وردَّ أنقص ممَّا أخذ، وطابت نفس المقرض بذلك.. جاز، كما لو أعطى الزيادة وطابت نفس المقترض بذلك.
وإن كان الرجل معروفًا أنه إذا أُقرض.. ردّ أكثر ممَّا اقترض، أو أجود منه.. فهل يجوز إقراضه مطلقًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصحُّ إقراضه إلاَّ بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذه؛ لأن ما علم بالعرف، كالمعروف بالشرط.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يجوز إقراضه من غير شرط؛ لأن الزيادة مندوبٌ إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز القرض، وأمّا ما كان معروفًا من جهة العرف: فلا يمنع جواز الإقراض، ألا ترى أنه لو جرت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرًا أطعمه منه، أو أطعم البائع من غيره.. لم يصر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه.
[فرعٌ: الإقراض بشرط فاسد]
] : وإن أقرضه شيئًا بشرط فاسد، بأن أقرضه إلى أجل، أو أقرضه درهمًا بدرهمين. .(5/465)
بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» وهل يبطل القرض؟ فيه وجهان:
أحدهما: يبطل.
فعلى هذا: لا يملكه المقترض؛ لأن القرض إنما وقع بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط.. بطل القرض، كالبيع بشرط فاسد.
والثاني: لا يبطل؛ لأن القرض عقد إرفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد، بخلاف البيع.
[مسألة: يرد القرض بمثله]
وإذا اقترض شيئًا له مثل، كالحبوب والأدهان والدراهم والدنانير.. وجب على المستقرض ردُّ مثلها؛ لأنه أقرب إليه. وإن اقترض منه ما لا مثل له، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب ردُّ قيمته، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، ولم يذكر غيره؛ لأنه مضمون بالقيمة في الإتلاف، فكذلك في القرض.
والثاني: يضمنه بمثله في الصورة والخِلْقة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري؛ لحديث أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث: (أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي البكر بالبكر) ، ولأن طريق القرض الرِّفق، فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسيئة فيما فيه الرِّبا، ولا يجوز ذلك في البيع، بخلاف المتلف، فإنه متعدٍّ، فأوجبت عليه القيمة؛ لأنها أخص؟
قال ابن الصبّاغ: فإن قلنا: تجب القيمة، فإن قلنا: إنه يملك ذلك بالقبض.. وجبت القيمة حين القبض. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف.. وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التصرف.
وإن اختلفا في قدر القيمة، أو في صفة المثل.. فالقول قول المستقرض مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.(5/466)
[فرعٌ: إقراض الخبز]
] : وأمَّا إقراض الخبز: فإن قلنا: يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف، كالجواهر.. جاز قرض الخبز. وإن قلنا: لا يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف.. ففي قرض الخبز وجهان:
أحدهما: لا يجوز ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كغيره مما لا يضبط بالوصف.
والثاني: يجوز، قال ابن الصبّاغ: لإجماع أهل الأعصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز.
فإذا قلنا: يجوز اقتراضه، فإن قلنا: يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة.. رد مثل الخبز وزنًا. وإن قلنا: يجب ردُّ القيمة فيما لا مثل له.. رد قيمة الخبز.
فعلى هذا: إن شرط أن يرد مثل الخبز.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنَّ الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلاَّ بذلك.
والثاني: لا يصح، كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز.
[مسألة: إعادة القرض في غير مكان تسلمه]
وجواز أخذ قيمته] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) : (وإذا أقرضه طعامًا بمصر، فلقيه بمكة، فطالبه به.. لم يكن له ذلك) ؛ لأن عليه ضررًا في نقل الطعام من مصر إلى مكة، ولأن الطعام بمكة أكثر قيمة. وإن طالبه المستقرض بأخذه.. لم يلزم المقرض أخذه؛ لأن عليه مؤنة في حمله إلى مصر، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن طالب المقرض المستقرضَ بقيمة طعامه بمكة.. أُجبر المقترض على دفع قيمة الطعام؛ لأن الطعام بمكة كالمعدوم، وما له مثلٌ إذا عُدِم.. وجب قيمتُهُ.
قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر لا بمكََّّةَ في يوم المطالبة؛ لأنه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة.(5/467)
وهكذا: إن غصب منه طعامًا بمصر، أو أسلم إليه في طعام بمصر، فلقيه بمكة.. كان الحكم فيه كالحكم في القرض، إلاَّ في أخذ القيمة، فإنَّه لا يجوز أخذ القيمة عن المسلم فيه، ويجوز أخذ القيمة عن المغصوب، إلاَّ أنَّ الغاصب إذا دفع قيمة الطعام بمكة، وكان الطعام باقيًا.. لم يملكه الغاصب، بل إذا رجع إلى مصر.. ردَّ الطعام الذي غصبه، واسترجع القيمة، فأمَّا إذا كان في ذمَّته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر، فطالبه بقضائها في مكة.. وجب عليه القضاء؛ لأنه ليس لنقلها مؤنة، فلم تختلف باختلاف البلدان.
[فرعٌ: دفع بدل القرض التالف]
] : فإن اقترض من رجل شيئًا، وقبضه، وتصرف فيه، أو أتلفه، ثم أراد أن يعطيه عن بدل القرض عوضًا.. جاز؛ لأنه مستقر في الذمة لا يخشى انتقاصه بهلاكه، فجاز تصرفه فيه قبل القبض، كالمبيع بعد القبض، بخلاف المسلم فيه، فإنه غير مستقر؛ لأنه يخشى انتقاصه بهلاكه، وحكمه في اعتبار القبض حكم ما يأخذه عوضًا عن رأس مال السَّلم بعد الفسخ، وقد مضى بيانه.
وإن كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض.. فإنه لا يجوز أخذ العوض عنها؛ لأنَّا إن قلنا: إنَّ المقترض قد ملكها بالقبض.. فلا يجوز أخذ العوض؛ لأن ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقرَّ بدلها في ذمة المقترض؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين. وإن قلنا: إنَّ المقترض لا يملك العين إلاَّ بالتصرف.. لم يجز للمقرض أخذ بدل العين؛ لأن ملكه عليها ضعيف بتسليط المقترض عليه. هكذا ذكره ابن الصبّاغ.
والله أعلم وبالله التوفيق(5/468)
[كتاب الرهن]
الرهن ـ في اللغة ـ: مأخوذ من الثبوت والدوام، تقول العرب: رهن الشيء: إذا ثبت. والنعمة الراهنة هي الثابتة الدائمة. يقال: رهنت الشيء، فهو مرهون. ولا يقال: أرهنت، إلا في شاذ اللغة.
وأما في الشرع: فهو جعل المال وثيقة على الدين، ليُستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه، وهو جائز.
والأصل في جوازه: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . وهذا أمر على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الوجوب.
وأما السنة: فما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» .(6/7)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» . وغير ذلك من الأخبار.
وأما الإجماع: فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه.
إذا ثبت هذا: فيجوز أخذ الرهن في السفر؛ للآية، ويجوز أخذه في الحضر، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكي عن مجاهد وداود: أنهما قالا: (لا يجوز أخذ الرهن في الحضر) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض من أبي الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من(6/8)
شعير لأهله بعدما عاد من تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه، وكانت قيمتها أربعمائة درهم» .
ففي هذا الخبر فوائد:
منها: جواز الرهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن.
منها: جواز الرهن في الحضر؛ لأن ذلك كان بالمدينة، وكانت موطن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومنها: أنه يجوز معاملة من في ماله حرام وحلال إذا لم يعلم عين الحلال والحرام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون.
ومنها: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات ودرعه مرهونة.
ومنها: أن الإبراء يصح وإن لم يقبل المبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعدل عن معاملة مياسير الصحابة، مثل: عثمان، وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما-؛ لأنه(6/9)
كان يعلم أنه لو استقرض منهم.. أبرءوه. فلو كانت البراءة لا تصح إلى بقبول المبرأ.. لكان لا يقبل البراءة منهم، فعدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودي الذي يعلم أنه يطالبه بحقه. ولأنه وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر، كالضمان، والشهادة.
[مسألة: فيما يشترط في الراهن]
ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال. فأما الصبي والمجنون والمحجور عليه: فلا يصح منه الرهن؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح منهم، كالبيع.
[مسألة: ما يصح الرهن به]
ويصح الرهن بكل حق لازم في الذمة، كدين السلم، وبدل القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والأجرة، والمهر، وعوض الخلع، والأرش على الجاني. وأما الدية على العاقلة: فإن كان قبل حلول الحول.. لم تصح؛ لأنه لم يجب عليهم شيء. وإن كان بعد حلول الحول.. صح.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن بعض الناس: أنه قال: لا يصح الرهن إلا في دين السلم، وهو خلاف الإجماع.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 282 ـ 283] .(6/10)
وقد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولأنه حق ثابت في الذمة، فجاز أخذ الرهن به، كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه في بدل القرض، وهو حال.
ولا يصح الرهن بدين الكتابة.
وقال أبو حنيفة: (يصح)
دليلنا: أنه وثيقة يستوفى منها الحق، فلم يصح في دين الكتابة، كالضمان، ولأن الرهن إنما جعل لكي يستوفي منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق، وهذا لا يمكن في الكتابة؛ لأن للمكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء، ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به.
وأما الرهن بمال الجعالة، بأن يقول رجل: من رد عبدي الآبق.. فله الدينار: فإن رده رجل.. استحق الدينار، وصح أخذ الرهن به، وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب؛ لأنه حق غير لازم، فهو كـ: مال الكتابة.
والثاني: يصح؛ لأنه يؤول إلى اللزوم، فهو كالثمن في البيع مدة الخيار.
وأما مال السبق والرمي: فإن كان بعد العمل.. صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. صح أخذ الرهن به. وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فعلى الوجهين في مال الجعالة.
وأما العمل في الإجارة: فهل يصح أخذ الرهن به؟ ينظر فيه:
فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. لم يصح أخذ الرهن به؛ لأنه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن.
وإن كانت الإجارة على تحصيل عمل في ذمته.. صح أخذ الرهن به؛ لأنه يمكن استيفاء العمل من الرهن، بأن يباع الرهن، ويستأجر بثمنه منه من يعمل.(6/11)
[فرع: لا يؤخذ الرهن على الأعيان المضمونة]
ولا يصح أخذ الرهن بالثمن، والأجرة، والصداق، وعوض الخلع، إذا كان معينا، ولا بالعين المغصوبة، ولا المعارة، ولا بالعين المأخوذة على وجه السوم.
وقال أبو حنيفة: (كل عين كانت مضمونة بنفسها.. جاز أخذ الرهن بها) . وأراد بذلك: أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته.. جاز أخذ الرهن به؛ لأن المبيع لا يجوز أخذ الرهن به؛ لأنه مضمون عليه بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر، وعوض الخلع؛ لأنه يضمن بمثله أو قيمته.
دليلنا: أن قبل هلاك العين في يده لم يثبت في ذمته دين، فلا يصح أخذ الرهن به، كالمبيع.
[مسألة: عقد الرهن على الدين اللازم]
ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، مثل: أن يقرضه شيئا، أو يسلم إليه في شيء، فيرهنه بذلك؛ لأنه وثيقة بالحق بعد لزومه، فصح، كالشهادة، والضمان.
ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق، بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك، بشرط أن ترهنني به كذا، أو أقرضتك هذا، بشرط أن ترهنني كذا؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط.. لم يجب على المشتري الرهن، أي: لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع منه.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع.
ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق، مثل: أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنه وثيقة بحق، فلم يجز أن يتقدم عليها، كالشهادة، بأن يقول: اشهدوا أن له علي ألفا اقترضتها منه عدًّا.(6/12)
[فرع: لا يؤخذ الرهن قبل معرفة قيمة المأخوذ]
وإن ثقلت السفينة بقوم في البحر، وخافوا الغرق، فقال رجل لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فإن كان المتاع غير معلوم القيمة.. لم يصح أخذ الرهن به قبل الإلقاء؛ لأنه رهن بدين قبل وجوبه، وهل يصح الضمان به؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.
وإن عرف قدر المتاع وقيمته ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري:
أحدها: لا يصح الرهن به ولا الضمان. وهذا هو المشهور؛ لأن القيمة لا تجب قبل الإلقاء.
والثاني: يصحان.
والثالث: يصح الضمان، ولا يصح الرهن.
وأما إذا ألقاه في البحر: وجبت القيمة في ذمة المستدعي، ويصح أخذ الرهن به والضمان؛ لأنه دين واجب.
[مسألة: الرهن عقد غير لازم]
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن بحال، بل متى شاء.. فسخه؛ لأنه عقد لحظه، فجاز له إسقاطه متى شاء، كالإبراء من الدين.
فأما من جهة الراهن: فلا يلزم قبل القبض، سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يلزم من جهة الراهن بالإيجاب والقبول، فمتى رهن شيئا.. أجبر على إقباضه) . وكذلك قال في الهبة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283](6/13)
فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتقة بالإيمان. ثم لا يصح عن الكفارة إلا عتق رقبة مؤمنة، ولأنه عقد إرفاق من شرطه القبول، فكان من شرطه القبض، كالقرض.
فقولنا: (عقد إرفاق) احتراز من البيع، فإنه عقد معاوضة.
وقولنا: (من شرطه القبول) احتراز من الوقف.
إذا ثبت هذا: فالعقود على ثلاثة أضرب:
ضرب لازم من الطرفين، كالبيع، والحوالة، والإجارة، والنكاح، والخلع.
وضرب جائز من الطرفين، كالوكالة، والشركة، والمضاربة، والرهن قبل القبض.
وضرب لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، كالرهن بعد القبض، والضمان، والكتابة.
[فرع: الإذن في قبض المرهون به]
وإن عقد الرهن على عين في يد الراهن.. لم يجز للمرتهن قبضها إلى بإذن الراهن؛ لأن للراهن أن يفسخ الرهن قبل القبض، فلم يجز للمرتهن إسقاط حقه من ذلك بغير إذنه. فإن كانت العين المرهونة في يد المرتهن وديعة أو عارية.. فإن الرهن يصح؛ لأنه إذا صح عقد الرهن على ما في يد الراهن.. فلأن يصح على ما في يد المرتهن للراهن أولى.
أما القبض فيها: فنص الشافعي هاهنا: (أنها تصير مقبوضة عن الرهن إذا أذن الراهن في قبضها، ومضت مدة يمكنه فيها أن يقبض) . وقال في كتاب (الإقرار والمواهب) : (إذا وهب له عينا في يد الموهوب له، فقبلها تمت الهبة، ولم يعتبر الإذن في القبض) .
واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق:
[أحدها] : من قال: لا يلزم واحد منهما إلا بالقبض، ولا يصح قبضهما إلا(6/14)
بالإذن. وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الهبة) فأراد: إذا أذن وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن.
و [ثانيها] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن؛ لأن إقراره له بيده بعد عقد الرهن والهبة، بمنزلة الإذن بالقبض، ولأنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف.. لم يفتقر إلى إذن.
والثاني: يفتقر إلى الإذن فيهما. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الصحيح؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فلم يحصل إلا بالإذن، كما لو كانت العين في يد الراهن.
و [الطريق الثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في الهبة: لا تفتقر إلى الإذن بالقبض فيها. وفي الرهن: لا بد من الإذن بالقبض فيه؛ لأن الهبة عقد قوي يزيل الملك، فلم تفتقر إلى الإذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فافتقر إلى الإذن بالقبض فيه.
إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده.. فإنه لا يحتاج إلى أن ينقله، بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الإذن بالقبض؟ على الطرق المذكورة.
وسواء قلنا: يفتقر إلى الإذن بالقبض، أو لا يفتقر إلى الإذن، فلا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض في مثله: إن كان مما ينقل، فبمضي زمان يمكنه نقله. وإن كان مما يخلى بينه وبينه.. فبمضي زمان يمكنه فيه التخلية.
قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن حرملة نفسه: أنه قال: لا يحتاج إلى مضي مدة، بل يكفيه العقد والإذن إذا قلنا: إنه شرط، أو العقد لا غير إذا قلنا: إن الإذن ليس بشرط؛ لأن يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض. وهذا غلط؛ لأن القبض لا يحصل إلا بالفعل أو بالإمكان، ولم يوجد واحد منهما.
قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه،(6/15)
وهو يراه أو يعلم به.. فإن القبض فيه هو مضي مدة، لو قبضه فيها.. أمكنه. وإن كان الرهن في صندوق وهو في البيت، ويتحقق كونه فيه.. فقبضه أن تمضي مدة، لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه.. أمكنه. وإن كان الرهن غائبا عن المجلس، بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق.. فنقل المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله، والرهن فيه) .
فقال أبو إسحاق: هذا فيما يزول بنفسه، مثل العبد والبهيمة، وأما ما لا يزول بنفسه، كالثوب، والدار.. فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، بل يكفي أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مثل ذلك في " الأم " [3/125] ؛ لأن ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، فلا يمكن تقدير زمان يمكن فيه القبض، وما لا يزول بنفسه، فالظاهر بقاؤه في مكانه.
وأما الشيخ أبو حامد: فقال: غلط أبو إسحاق، فقد نص الشافعي في " الأم " على: (أنه لا فرق بين الحيوان وغيره) ؛ لأنه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق، فهو بمنزلة الحيوان.
وحكى في " المهذب ": أن من أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة: بأنه باق على صفته، ومضى زمان يتأتى فيه القبض.. صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله، ومضى زمان يتأتى فيه القبض. وليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/125) ] : (ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن، أو وكيله) .
قال أصحابنا: وهذا الكلام يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن هذه مسألة مبتدأة، أي: أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله. فقصد بهذا بيان جواز الوكالة في القبض؛ لأن القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهذا لا يوجد إلا بحضور المرتهن، أو وكيله. وقد فرع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في " الأم " [3/124] : (أن المرتهن لو وكل(6/16)
الراهن في قبض الرهن له من نفسه.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض) .
والتأويل الثاني: أن هذا عطف على المسألة المتقدمة، إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه، فلا تكون مقبوضة حتى يرجع المرتهن أو وكيله، ويشاهدها. قالوا: وهذا أشبه؛ لأنه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وإنما يكفي ذلك فيما كان عنده. فأما ما كان في يد الراهن: فلا بد من النقل فيه.
[فرع: رهن المغصوب]
وإن غصب عينا، ثم رهنها المغصوب منه عند الغاصب.. صح الرهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن في قبض الرهن، ومضت مدة يتأتى فيها القبض.. صار مقبوضا عن الرهن. ولا يزول عن الغاصب ضمان الغصب إلا بأن يسلمه إلى المغصوب منه، أو بأن يبرئه المغصوب منه عن الضمان في أحد الوجهين.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والمزني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (يزول ضمان الغصب عن المرتهن) .
دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه، والرهن لا ينافي الغصب؛ لأنهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها. فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن.. صح، وكان له الانتفاع بها؛ لأن الرهن لا ينافي ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع.. فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يزول عنه؛ لأنها خرجت عن أن تكون عارية.
والثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأن يده لم تزل.
وإن أودعها المعير عند المستعير، أو المغصوب منه عند الغاصب.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:(6/17)
أحدهما: لا يزول عنه الضمان، لبقاء يده.
والثاني: يزول؛ لأن الإيداع ينافي الغصب والعارية.
[فرع: كيفية القبض]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقبض في العبد والثوب وما يحول: أن يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض ما لا يحول من أرض أو دار: أن يسلمه بلا حائل) . وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع. فإذا رهنه ما ينقل، مثل: الدراهم، والدنانير، والثياب.. فقبضها أن يتناولها، وينقلها من مكان إلى مكان.
وكذلك: إذا رهنه عبدا أو بهيمة.. فقبض العبد أن يأخذه بيده، وينقله من مكان إلى مكان، وفي البهيمة أن يقودها أو يسوقها من مكان إلى مكان. وإن رهنه صبرة جزافا.. فقبضها أن ينقلها من مكان إلى مكان، وإن رهنه مكيلا من صبرة فقبضه بالكيل. وإن رهنه ما لا ينقل، كالأرض، والدار، والدكان.. فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها، بأن يخرج منها، ويسلمها إلى المرتهن، ولا حائل بينه وبينها. فإن رهنه دارا، فخلى بينه وبينها وهما فيها، ثم خرج الراهن.. صح القبض.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها؛ لأنه إذا كان في الدار.. فيده عليها، فلا تصح التخلية) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن التخلية تحصل بقوله، وبرفع يده عنها، ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخوله إلى دار غيره لا تثبت يده عليها؟ ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله، فلا معنى لإعادة التخلية. هكذا ذكره ابن الصباغ.
قال: وإن خلى بينه وبين الدار، وفيها قماش للراهن.. صح التسليم في الدار. وقال أبو حنيفة: (لا يصح التسليم في الدار؛ لأنها مشغولة بملك الراهن) . وكذلك يقول: (إذا رهنه دابة عليها حمل للراهن، وسلم الجميع إليه.. لم يصح قبض الدابة، ولو رهنه الحمل دون الدابة، أو معها، وسلمها إليه.. صح القبض) .
وكذلك يقول في قماش الدار. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضا في البيع..(6/18)
كان قبضا في الرهن، كالحمل، وقد قال: (إذا رهنه سرج دابة ولجامها، وسلمها بذلك.. لم يصح القبض فيه؛ لأنه تابع للدابة) . وهذا ينقض ما ذكره في الحمل.
وقوله: (إنه تابع) فيبطل به إذا باع الدابة.. فإن السرج لا يدخل فيه، وعلى أن الدابة في يده، وكذلك ما تبعها.
[فرع: جوازالتوكيل في قبض الرهن]
فرع: [جواز التوكيل في قبض الرهن] :
قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن: وكل عني رجلا ليقبضك أو ليقبض وكيلك عني.. جاز. ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن، فأقبض وكيله.. جاز.
[فرع: الإقرار بقبض الرهن]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والإقرار بقبض الرهن جائز، إلا فيما لا يمكن في مثله) . وهذا كما قال: إذا أقر الراهن بالإقباض إقرارا مطلقا، وصدقه المرتهن على ذلك.. حكم بصحة ذلك؛ لأنه يمكن صدقهما، وإن علقا ذلك بزمان لا يمكن صدقهما فيه، مثل: أن يقرا بأنهما تراهنا دارا ببغداد، وتقابضاها اليوم وهما بمكة.. فإن هذا لا يمكن ولا يثبت، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أقر الرجل أن زوجته أمه من الرضاع أو ابنته، فإن كان سنه مثل سنها.. لم يقبل، ولم ينفسخ النكاح، وإن أمكن صدقه.. قبل، وحكم بانفساخ النكاح) .
فإن عقد على عين رهنا وإجارة، ثم أذن له في قبضها عنهما، أو عن الرهن، فقبضها صارت مقبوضة عنهما؛ لأن الإجارة لا تفتقر إلى الإذن بالقبض، والرهن يفتقر. وإن أذن له في قبضها عن الإجارة.. صارت مقبوضة عن الإجارة دون الرهن؛ لأنه لم يأذن له في القبض عن الرهن.(6/19)
[مسألة: رجوع الراهن عن الإذن قبل القبض]
وإن رهنه عينا، وأذن له بقبضها، فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الإذن.. لم يكن للمرتهن قبضها؛ لأنه إنما يقبضها بإذن الراهن، وقد بطل إذنه برجوعه. وإن رهنه شيئا، ثم جن الراهن، أو أغمي عليه، أو أفلس، أو حجر عليه.. لم يصح إقباض الراهن، ولا يكون للمرتهن قبضه؛ لأنه لا يصح قبضه إلا بإذن الراهن، وقد خرج عن أن يكون من أهل الإذن.
وكذلك: إذا أذن له في القبض، فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون، أو الإغماء، أو الحجر.. بطل إذنه لذلك، ولا يبطل الرهن بذلك.
وقال أبو إسحاق: يبطل الرهن بذلك؛ لأن الرهن قبل القبض من العقود الجائزة، فيبطل بهذه الأشياء، كالوكالة والشركة. والمذهب الأول؛ لأن الرهن يؤول إلى اللزوم، فهو كالبيع بشرط الخيار. وقيل: إن أبا إسحاق رجع عن هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الولي عن المجنون والمغمى عليه ينظر:
فإن كان الحظ بإقباض الرهن، مثل: أن يكون شرطاه في بيع يستضر بفسخه أو ما أشبه ذلك.. أقبضه عنهما.
وإن كان الحظ في تركه.. لم يقبضه.
وإن كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن.. قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر؛ لأنه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.(6/20)
[فرع: تصرف الراهن قبل الإقباض يبطله]
] : وإن رهن عند غيره رهنا، ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض.. نظرت:
فإن باعه، أو أصدقه، أو جعله عوضا في خلع، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه، أو كاتبه.. بطل الرهن؛ لأنه يملك فسخ الرهن قبل القبض، فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، وإن كانت أمة فزوجها، أو عبدا فزوجه.. لم يبطل الرهن؛ لأن التزويج لا ينافي الرهن. ولهذا يصح رهن الأمة المزوجة والعبد المزوج.
وإن أجر الرهن، فإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. لم ينفسخ الرهن بالإجارة، وإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر، فإن كانت مدة الإجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن، وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخ الرهن بها.
وإن دبر الراهن العبد المرهون.. فالمنصوص: (أن الرهن ينفسخ) .
قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا ينفسخ) ؛ لأن تدبيره لا يمنع من بيعه. والأول أصح؛ لأن موجب التدبير هو العتق، وهو ينافي الرهن.
قال أصحابنا: وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه. وأما إذا رهنه الراهن من آخر ولم يقبضه، أو وهبه ولم يقبضه.. كان ذلك إبطالا للرهن الأول، على المشهور من المذهب؛ لأن موجبه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا في الرهن.
[فرع: استدامة القبض]
استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (استدامة القبض شرط فيه) .(6/21)
دليلنا: أنه عقد يعتبر فيه القبض، فلم تكن استدامته شرطا، كالهبة مع أبي حنيفة، والقرض مع مالك رحمة الله عليهما.
[فرع: خرس الراهن]
إذا رهن شيئا ثم خرس الراهن قبل الإذن بالقبض، فإن كانت له إشارة مفهومة، وأذن بالقبض بالإشارة.. جاز للمرتهن قبضه؛ لأن إشارته كعبارة الناطق، وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. لم يكن للمرتهن قبض الرهن؛ لعدم الإذن من الراهن.
وإن رهنه وأذن له بالقبض، ثم خرس الراهن قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن ينظر:
فإن كانت للراهن إشارة مفهومة أو كتابة.. لم يبطل إذنه.
وإن لم يكن له شيء من ذلك.. بطل إذنه، كالمغمى عليه والمجنون.
[مسألة: موت أحد المتراهنين]
وإن عقد الرهن، ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن، بل الراهن بالخيار: بين أن يقبض ورثة المرتهن، أولا يقبضهم) .
وحكى الداركي: أن الشافعي قال في موضع آخر: (إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:
أحدهما: ينفسخ بموت أحدهما؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة والشركة.
والثاني: لا ينفسخ بموت واحدٍ منهما؛ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت، كالبيع بشرط الخيار.(6/22)
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ينفسخ بموت الراهن، ولا ينفسخ بموت المرتهن؛ لأن بموت المرتهن لا يحل الدين المؤجل عليه، وبموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإن كان عليه دين غير دين المرتهن.. كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وإن لم يكن عليه دين غير المرهون به.. فقد تعلق الدين بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به، وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته، فالحاجة باقية إلى الاستيثاق بالرهن.
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما، قولا واحدا؛ لأن الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن، والعقد لا يلزم من جهته بحال.. فلأن لا يبطل بموت الراهن ـ والعقد قد لزم من جهته بعد القبض ـ أولى.
وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركي، وقال: بل كلام الشافعي يدل على: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأنه قال في " الأم ": (وإذا رهن عند رجل شيئا، ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين.. كان له أسوة الغرماء، وإن لم يكن عليه دين.. فوارثه بالخيار: بين أن يقبض الرهن المرتهن، أو يمنعه) .
وإن مات أحدهما بعد القبض.. لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه؛ لأن الرهن لازم من جهة الراهن، والعقد اللازم لا يبطل بالموت، كالبيع والإجارة.
[مسألة: امتناع الراهن من الإقباض]
إذا امتنع الراهن من الإقباض، أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في العقد.. بقي الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن.
وإن كان الرهن مشروطا في بيع.. ثبت للبائع الخيار: بين فسخ البيع، وبين إمضائه؛ لأنه دخل في البيع بشرط الوثيقة، ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.(6/23)
[مسألة: لزوم الرهن بالإقباض]
وإذا أقبض الراهن الرهن.. لزم من جهته، فلا يملك فسخه.
قال ابن الصباغ: وهو إجماع لا خلاف فيه، ولأنه يراد للوثيقة، فلو جاز له الفسخ.. لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن.. فإنه يكون وثيقة بالدين، وبكل جزء منه. فإذا رهنه عبدين بألف، وقبضهما المرتهن، ثم تلف أحدهما.. كان الباقي رهنا بجميع الألف، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روي عنه في الأصول.
وروي عنه في " الزيادات ": (أن الدين يتقسط على الرهن) .
دليلنا: أنه مال محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بالحق، وبكل جزء منه، كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه.. فإن التركة محبوسة بالدين، وبكل جزء منه، ولأن وثيقة بحق، فكان وثيقة بالحق، وبكل جزء منه، كالشهادة، والضمان.
فإذا قضى الراهن الدين، أو أبرأه منه المرتهن، والرهن في يد المرتهن.. بقي في يده أمانة.
وقال أبو حنيفة: (إن قضاه الراهن.. كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن، أو وهبه، ثم تلف الرهن في يده.. لم يضمنه استحسانا؛ لأن البراءة والرهن لا تقتضي الضمان) . وهذا مناقضة منه؛ لأن القبض المضمون عنده لم يزل، ولم يبرئه منه.(6/24)
[فرع: أسلم بطعام وأخذ رهنا]
وإن أسلم في طعام، فأخذ به رهنا، ثم تقايلا عقد السلم.. برئ المسلم إليه من الطعام، ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن؛ لأن الدين الذي ارتهن به قد سقط، ولا يكون له حبس الرهن، إلا أنه يأخذ رأس المال؛ لأنه لم يرهنه به.
وإن اقترض منه ألفا، ورهنه بها رهنا، ثم أخذ المقرض بالألف عينا.. سقطت الألف عن ذمة المقترض، وبطل الرهن، فإن تلفت العين في يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض.. انفسخ القضاء، وعاد القرض والرهن؛ لأنه متعلق به، وقد عاد.
قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر طعام بألف درهم إلى أجل، وأخذ بالثمن رهنا، فإذا حل الأجل، أو كان حالا.. فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها.. انفسخ الرهن، وإن تفرقا قبل القبض.. بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشتري، ويعود الرهن؛ لأن الرهن من حق ذلك الثمن، فسقط بسقوطه، فإذا عاد الثمن.. عاد بحقه.
وإن ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته، ودفع عن الدراهم رهنا.. صح، فإن تقابضا في المجلس.. صح الصرف، وانفك الرهن، وإن تفرقا من غير قبض.. بطل الصرف والرهن.(6/25)
[فرع: لرهن من اثنين]
فرع: [الرهن من اثنين] :
وإن كان لرجل على رجلين دين، فرهناه ملكا بينهما مشاعا.. جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا قضاه أحدهما ما عليه له، أو أبرأ المرتهن أحدهما.. انفك نصف الرهن؛ لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان.. فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فإن طلب من انفك نصيبه القسمة.. نظرت:
فإن كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه، كالثياب، والحيوان، أو كانا دارين، فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار بينهما.. لم يجز ذلك من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مناقلة، والرهن يمنع من ذلك.
وإن كان الرهن مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام.. فله المطالبة بقسمته؛ لأنه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا: إذا كانت الأرض متساوية الأجزاء.. فهي كالطعام.
وإن كان الرهن مما تنقص قيمته بالقسمة، كالحجرة الواحدة إذا أراد قسمتها نصفين.. فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يمتنع؛ لأن الضرر يدخل عليه بذلك.
والثاني: ليس له أن يمتنع؛ لأن المرتهن عنده النصف، فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 262] : إن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت القسمة، وإن قلنا: إنها بيع.. لم تجز.
وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه، فقضى أحدهما دينه، أو أبرأه أحدهما عن دينه.. انفك نصف الرهن؛ لأن في أحد شطري الصفقة عاقدين، فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى.(6/26)
[مسألة: العيب في الرهن]
وإذا قبض المرتهن الرهن، ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن.. نظرت:
فإن كان الرهن غير مشروط في عقد البيع.. فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ لأن الراهن متطوع بالرهن.
وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له الشرط.
وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده، أو حدث عنده به عيب.. لم يثبت له الخيار؛ لأنه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ، ولا يثبت له أرش العيب، كما يثبت للمشتري أرش العيب، والفرق بينهما: أن المبيع يجبر البائع على إقباضه، فأجبر على دفع الأرش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن، فلم يجبر على دفع الأرش، ولأن المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم.. لوجب عليه ضمانه بالثمن، وهاهنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم.. لم يجب عليه بدله، فلم يجب عليه بدل جزء منه، ولأنا لو قلنا: لا أرش للمشتري.. لأسقطنا حقه، وهاهنا لا يسقط حق المرتهن؛ لأن حقه في ذمة الراهن.
قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين، فرهنهما عنده، وأقبضه أحدهما دون الآخر، وتلف عند المرتهن، وامتنع الراهن من إقباض الثاني، أو تلف في يد الراهن.. لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لا يمكن رد العبد الذي قبض، فيمضي البيع بلا رهن.
وبالله التوفيق(6/27)
[باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز]
كل ما لا يجوز بيعه، كالكلب، والخنزير، وما أشبههما.. لا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد ليستوفى الحق من ثمنه، وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه.
[مسألة: رهن شيء رطب يقبل التجفيف]
وإن رهنه شيئا رطبا يسرع إليه الفساد، فإن كان مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب.. صح رهنه، ووجب على الراهن مؤنة تجفيفه، كما يجب عليه مؤنة حفظه، وعلف الحيوان، وإن كان مما لا يمكن تجفيفه، كالبقل، والبطيخ، والهريس.. نظرت:
فإن رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل فساده.. صح الرهن؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
وإن رهنه بدين مؤجل يفسد قبل حلول الدين.. نظرت:
فإن شرط المرتهن على الراهن بيع الرهن عند خوف الفساد؛ ليكون ثمنه رهنا.. صح الرهن؛ لأن الغرض يحصل بذلك.
وإن شرط الراهن أن لا يباع إلا بعد حلول الحق.. لم يصح الرهن؛ لأنه يتلف، ولا يحصل المقصود، وإن أطلقا ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن، فإذا خيف عليه الفساد.. بيع، وجعل ثمنه رهنا؛ لأن العقد يبنى على عرف الناس، وفي عرفهم: أن المالك لا يترك من ماله ما يخاف عليه الفساد ليفسد.
والثاني: لا يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن إجبار الراهن على إزالة ملكه قبل حلول الدين، فإذا كان كذلك.. فلا يمكن استيفاء الحق من ثمنه، فلم يصح رهنه، كأم الولد.(6/28)
[مسألة: رهن العبد المعلق عتقه على صفة]
وإن علق عتق عبده على صفة، ثم رهنه.. ففيه ثلاث مسائل:
الأولى: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت حر، ثم رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل مجيء رأس الشهر.. فيصح الرهن، قولا واحدا؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.
الثانية: أن يرهنه بحق مؤجل توجد الصفة قبله، فقد قال عامة أصحابنا: لا يصح، قولا واحدا.
وقال أبو علي الطبري: فيه قولان، كرهن ما يسرع إليه الفساد. والصحيح هو الأول؛ لأن الطعام الرطب، الظاهر من جهة الراهن بيعه إذا خيف عليه الفساد وجعل ثمنه رهنا، والظاهر ممن علق عتق عبده على صفة: أنه أراد إيقاع العتق بذلك.
الثالثة: إذا علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل حلول الدين، ويجوز أن يحل الدين قبلها، بأن يقول: إذا قدم زيد.. فأنت حر. أو إذا دخلت الدار، أو كلمت زيدا.. فأنت حر.. فهل يصح رهنه هاهنا بعد ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح الرهن؛ لأن وقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه.
والثاني: لا يصح؛ لأن الصفة قد توجد قبل محل الدين، فيبطل الرهن، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز. هذا قول عامة أصحابنا.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": لا يصح رهنه، قولا واحدا، لأنه عقد الرهن على غرر.
[مسألة: رهن عبده بعد تدبيره]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو دبره، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا) .
وجملة ذلك: أنه إذا قال لعبده: إذا مت.. فأنت حر، ثم رهنه بعد ذلك.. فاختلف أصحابنا في صحة الرهن على ثلاث طرق:(6/29)
فـ[أحدها] : منهم من قال: إن قلنا: إن التدبير وصية.. صح الرهن، وبطل التدبير؛ لأن الوصية يجوز الرجوع فيها بالقول، فجعل الرهن رجوعا. وإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لم يصح الرهن؛ لأنه لا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك.
قال: وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الرهن مفسوخا) أراد على هذا القول.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح الرهن، قولا واحدا، وعليه يدل ظاهر قوله في " الأم " [3/140] ؛ لأنه قال: (إذا دبر عبده، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا. ولو قال: كنت رجعت عن التدبير قبل الرهن.. فهل يصح الرهن؟ فيه قولان) .
وهذا نص في أنه لا يصح الرهن قبل الرجوع، قولا واحدا، ولأنا وإن قلنا: إن التدبير وصية، إلا أنه أقوى من الوصية، بدليل: أنه يتنجز بالموت من غير قبول، بخلاف الوصية.
و [الثالث] : منهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا، ولا يبطل التدبير؛ لأن الشافعي قال: (كل ما جاز بيعه.. جاز رهنه) . والمدبر يجوز بيعه، قولا واحدا، فكذلك رهنه.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح، والثانية ظاهر كلامه، والثالثة مخالفة للنص والقياس.
فإذا قلنا بالطريقة الأولى، وأن الرهن يصح إذا قلنا: إن التدبير وصية.. فإن التدبير يبطل، وهو اختيار المزني. فإن قضى الحق من غيره.. فلا كلام، ولم يعتق العبد بالموت إلا بتدبير ثان أو عتق، وإن لم يقضه من غيره.. بيع العبد في الدين.
وإن قلنا بالطريقة الثانية، وأن الرهن لا يصح.. فالعبد على تدبيره.
وإن قلنا بالطريقة الثالثة، وأن الرهن صحيح، والتدبير صحيح ... نظرت:
فإن حل الحق، وقضى الحق من غير الرهن.. بقي العبد على تدبيره.
وإن لم يقضه من غيره.. قيل له: أترجع في التدبير؟ فإن اختار الرجوع فيه(6/30)
ورجع.. بيع العبد في الدين، وإن لم يختر الرجوع فيه، فإن كان له مال غير العبد.. أجبر على قضاء الدين منه، وبقي العبد على التدبير، وإن لم يكن له مال غيره.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يحكم بفساد الرهن؛ لأنا إنما صححنا الرهن رجاء أن يرجع في التدبير، فيباع. وتأول هذا القائل قول الشافعي: (كان الرهن مفسوخا) على هذا الموضع.
و [الثاني] : منهم من قال: يباع في الدين، وهو الصحيح؛ لأنا إذا حكمنا بصحة الرهن.. لم يتعقبه الفساد بامتناع الراهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين.
[فرع: رهن العبد ثم دبره]
وإن رهن عبده، ثم دبره، فإن دبره قبل أن يقبضه.. كان فسخا للرهن، على المنصوص، وعلى تخريج الربيع لا يكون فسخا، وقد مضى ذكره.
وإن أقبضه، ثم دبره.. قال الشافعي: (أوقفت التدبير، فإن حل الحق، وقضى الدين من غير الرهن.. خرج العبد من الرهن، وكان مدبرا. وإن لم يقضه من غيره، فإن باعه.. صح، وبطل التدبير. وإن لم يختر الرجوع في التدبير، فإن كان له مال غيره.. أجبر على قضائه منه، وبقي العبد على التدبير. وإن لم يكن له مال غير العبد.. بيع في الدين، وبطل التدبير. وإن مات الراهن قبل قضاء الدين.. فقد حل الدين بموته، فإن خلف تركة تفي بالدين غير العبد.. قضي الدين منها، وعتق العبد من ثلث ما يبقى. وإن لم يكن له مال غيره، فإن كان الدين يستغرق قيمة العبد.. بيع العبد في الدين، وإن كانت قيمته أكثر من الدين.. بيع منه بقدر الدين، وعتق ثلث ما يبقى منه بالتدبير، وإن أجاز الورثة عتق باقيه.. نفذ) .(6/31)
[مسألة: رهن قسط من مشاع]
وما صح رهنه.. صح رهن جزء منه مشاعا، سواء كان مما ينقسم، كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم، كالجواهر، وسواء رهنه من شريكه أو من غيره، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وعثمان البتي.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح رهن المشاع من غير شريكه) . وفي رهنه من شريكه روايتان، وإن طرأت الإشاعة على الرهن، بأن يبيع بعضه بإذن المرتهن.. فهل يبطل الرهن؟ فيه روايتان عنه.
دليلنا: أن المشاع يصح بيعه، فصح رهنه، كالمفرد، ولأن كل من جاز له أن يرتهن المفرد.. جاز له أن يرتهن المشاع. أصله إذا ارتهن رجلان من رجل شيئا؛ لأن الرهن مشاع بين المرتهنين.
وإن كان بين رجلين دار فيها بيوت، فرهن أحدهما نصيبه من بيت، من غير شريكه، فإن كان بإذن شريكه.. صح الرهن، وإن كان بغير إذنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح، كما يصح بيعه.
والثاني: لا يصح؛ لأن في ذلك ضررا على شريكه؛ لأنهما قد يقتسمان، فيقع هذا البيت في حق شريكه، فيكون قد رهن ملك غيره بغير إذنه، بخلاف البيع، فإنه إذا باعه.. زال ملكه فيه، ولا يملك المقاسمة على ما باع.
إذا ثبت هذا: ورهن شقصا مشاعا في عين بينه وبين غيره، فإن كان مما لا ينقل.. فإن الراهن يخلي بينه وبين المرتهن، سواء حضر الشريك أو لم يحضر. وإن كان مما ينقل، كالجواهر، والعبيد، وما أشبههما.. فإن القبض لا يحصل فيها إلا بالنقل، ولا يمكنه تناولها إلا بإذن الشريك، فإن رضي الشريك.. تناولها، وإن امتنع، فإن رضي المرتهن أن تكون في يد الشريك.. جاز، وناب عنه في القبض. وإن تنازعا.. فإن الحاكم ينصب عدلا يكون في يده لهما، وإن كان مما له منفعة.. أجره عليهما.(6/32)
[مسألة: لا يرهن إلا ما يملك]
ولا يجوز رهن مال الغير من غير إذنه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، فهو كما لو رهنه سمكة في البحر. وإن كان في يده مال لمن يرثه، فباعه، أو رهنه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان قد مات قبل البيع والرهن.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه باع ورهن ما لا يعتقده ملكه، فكان متلاعبا في ذلك.. فلم يصح.
والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه ملكه.
وهكذا: لو وكل رجلا يشتري له عبدا بعينه، فباعه الموكل، أو رهنه قبل أن يعلم بالشراء، أو قال: بعتك هذا العبد إن كان لي، فبان أنه كان له، أو كان له مال في صندوق، وكان قد رآه المرتهن، فرهنه، أو باعه وهو لا يتحقق كونه فيه، ثم بان أنه كان فيه.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذين الوجهين: المنصوص: (أنه لا يصح) .
[فرع: رهن منفعة كسكنى دار]
وإن رهنه سكنى دار.. لم يصح؛ لأن الدين إن كان مؤجلا.. فالمنافع تتلف إلى وقت الحلول، وإن كان الدين حالا.. لم يحصل الاستيثاق؛ لأنه كلما مضى جزء.. فات، والرهن لا يلزم إلا بالقبض، والقبض لا يمكن في السكنى إلا بإتلافه، فكأنه رهنه ما لا يمكنه إقباضه. فإن قال: أردت به: إن أجرتها تكون الأجرة رهنا.. لم يصح أيضا؛ لأنه لا يدري بكم يؤاجرها، فكان باطلا.
[مسألة: رهن المشتري قبل القبض]
] : وإن اشترى عينا، فرهنها قبل أن يقبضها، فإن كان قبل أن يدفع الثمن.. لم يصح الرهن؛ لأنها مرهونة بالثمن، وكذلك إن رهنها بثمنها.. لم يصح؛ لأنها قد صارت مرهونة به، وإن نقد الثمن، ثم رهنها.. ففيه وجهان:(6/33)
أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرهن يفتقر إلى القبض، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كما لو باعه، وفيه احتراز من العتق والتزويج.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الرهن لا يقتضي الضمان على المرتهن، فصح فيما لم يدخل في ضمانه، بخلاف البيع.
[مسألة: بيع الدين ورهنه]
وفي بيع الدين المستقر، وهبته، ورهنه من غير من هو عليه.. ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يصح واحد منها؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فلم يصح، كالسمك في الماء.
والثاني: يصح الجميع منها، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، ألا ترى أنه يصح أن يشتري بثمن في ذمته ويبيع فيها، كما يجوز أن يشتري الأعيان ويبيعها، إلا أن البيع لا يفتقر لزومه إلى القبض، وفي الهبة والرهن لا يلزمان من غير قبض، كما قلنا في الأعيان.
والثالث: أن البيع والهبة يصحان ويلزمان من غير قبض، ولا يصح الرهن؛ لأن البيع والهبة تمليك، فجرى مجرى الحوالة، بخلاف الرهن.
[مسألة: رهن الرهن عند آخر]
وإن رهن عبدا عند رجل، وأقبضه إياه، فقبضه، ثم رهنه الراهن عند آخر من غير إذن الأول.. لم يصح الرهن الثاني؛ لأن ما يستحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق، كما لو باع عينا من زيد، ولزم البيع، ثم باعها من عمرو.
فقولنا: (بعقد لازم) احتراز من الرهن قبل القبض، ومن إعارة ما أعاره.
وقولنا: (لا يجوز أن يعقد عليه مثله) احتراز من عقد الإجارة على الرهن، فإنه يصح بغير إذن المرتهن.(6/34)
وقولنا: (من غير إذن من له الحق) احتراز من المرتهن؛ لأن المرتهن لو أذن في رهنه من غيره.. صح.
وإن رهن رجلا عبدا بألف درهم، ثم رهنه غيره بألف أخرى.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يصح) . وبه قال مالك، وأبو يوسف، والمزني لأنه لما جاز أن يزيده في الحق الواحد رهنا آخر.. جاز أيضا أن يرهن الرهن الواحد بحق آخر، ولأن الرهن وثيقة، كالضمان، فلما جاز أن يضمن عن غيره حقا، ثم يضمن عنه حقا.. جاز في الرهن مثله.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه رهن لازم بدين، فلم يجز رهنه بدين آخر، كما لو رهنه عند غيره، وفيه احتراز من رهنه قبل القبض.
فعلى هذا: إن أراد أن يرهنه بألفين.. فسخ الأول، ثم يرهنه بالألفين. فإن رهنه بألف، ثم رهنه بألف آخر، وأقر أنه رهنه بالألفين.. كان الإقرار صحيحا في الظاهر والباطن على القديم، وأما على الجديد: فيكون رهنا بالألفين حكما ظاهرا، وأما في الباطن: فيكون مرهونا بألف. فإن ادعى المقر: أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف، وادعى المقر له: أنه رهنه بهما معا.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة الإقرار.
وإن شهد شاهدان على عقد الرهنين، ثم أرادا أن يقيما الشهادة، فإن كانا يعتقدان صحة القول الجديد.. شهدا أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف. وإن كانا يعتقدان صحة القول القديم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يشهدا أنه رهنه بألفين، ويطلقا ذلك؛ لأنهما يعتقدان صحة ما يشهدان به.
والثاني: لا يجوز أن يشهدا إلا على ما وقع عليه العقدان؛ لأن الاجتهاد في ذلك إلى الحاكم.(6/35)
[فرع: جناية العبد المرهون بقدر الرهن]
وإن رهن عبده عند رجل بألف درهم، ثم جنى العبد على آخر جناية أرشها ألف، فلم يفده الراهن، واختار المرتهن أن يفديه، وشرط على الراهن بدله، وأنه يكون مرهونا بما يفديه به وبالألف الأولى.. فقد قال الشافعي: (صح ذلك) .
فمن أصحابنا من قال: هذا على القول القديم، فأما على الجديد: فلا يصح أيضا.
ومنهم من قال: يصح ذلك على القولين، وقد نص الشافعي عليه في الجديد؛ لأن في ذلك مصلحة للراهن في حفظ ماله، وللمرتهن حظ في حفظ وثيقته.
[مسألة: رهن أرض الخراج]
قال الشافعي: (وإن رهنه أرضا من أرض الخراج.. فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو سعيد الإصطخري: أراد الشافعي بذلك سواد العراق، وذلك: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - افتتحها، وأخرجها من أيدي المجوس، وقسمها بين الناس، فاستغلوها سنتين أو ثلاثا، ثم رأى أنهم قد اشتغلوا بالأرض عن الجهاد، فسألهم أن يردوا عليه، فمنهم من طابت نفسه بالرد بغير عوض، ومنهم من لم تطب نفسه إلا بعوض، ثم وقفها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المسلمين، وأجرها ممن هي في يده على كل نوع من الغلات أجرة معلومة لا إلى غاية) .
فعلى هذا: لا يجوز بيعها، ولا رهنها، وهذا ظاهر النص.
وقال أبو العباس بن سريج: لما استرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأرض من المسلمين..(6/36)
باعها ممن هي في يده، وجعل ثمنها هو الخراج الذي يؤخذ منهم، فيجوز بيعها ورهنها؛ لأن الناس من وقت عمر إلى يومنا هذا يبيعونها ويبتاعونها من غير منكر.
وأما قول الشافعي: فمحمول عليه ما إذا أوقف الإمام أرضا، وضرب عليها الخراج. فإن قيل: فهذا الذي قلتموه في فعل عمر من التأويلين جميعا لا يصح على مذهب الشافعي ولا غيره؛ لأن الإجارة لا تجوز إلى مدة غير معلومة ولا بأجرة غير معلومة، وكذلك البيع لا يجوز إلا إلى أجل غير معلوم، ولا بثمن غير معلوم؟
فالجواب: أن هذا إنما لا يصح إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أملاك المشركين.. فيصح، ألا ترى أن رجلا لو قال: من جاء بعبدي الآبق.. فله عبد أو ثوب، وهما غير موصوفين.. لم يكن هذا جعلا صحيحا، ولو قال الإمام: من دلنا على القلعة الفلانية.. فله منها جارية.. لكان جعلا صحيحا، ولهذا: «نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البداءة الربع، وفي القفول الثلث» . وهذا مجهول، لكنه صح؛ لأنه معاملة في أموال المشركين.(6/37)
[فرع: رهن بناء الخراج]
فإن كان في أرض الخراج بناء أو غراس، فإن كان محدثا في أرض الخراج من غيرها.. صح بيعه ورهنه مفردا، وإن باعه، أو رهنه مع أرض الخراج، وقلنا: لا يصح بيعها ورهنها.. بطل في الأرض، وهل يصح في البناء والغراس؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كان البناء والغراس من أرض الخراج.. لم يصح بيعه ورهنه.
[فرع: تأدية المرتهن الخراج تطوع]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أدى عنه الخراج.. كان متطوعا لا يرجع به، إلا أن يكون دفع بأمره، فيرجع) . وهذا كما قال: إذا رهن أرضا من أرض الخراج، أو أجرها.. فإن الخراج الذي يجب في الأرض، يجب على راهن الأرض الذي رهنها أو أجرها، فإن دفع المرتهن أو المستأجر الخراج الواجب فيها.. نظرت:
فإن كان بغير أمر من وجب عليه، أو قضى الدين عن غيره بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يرجع عليه) .
دليلنا: أنه متطوع بالدفع عنه، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا.
وإن قضى بإذنه، وشر ط عليه البدل.. رجع عليه بالبدل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» .
وإن قضى عنه بأمره، ولم يشترط عليه الرجوع بالبدل.. ففيه وجهان:(6/38)
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي حامد ـ: أنه يرجع عليه، لأن إذنه بذلك يقتضي الرجوع، فهو كما لو شرط عليه البدل.
والثاني: لا يرجع عليه بشيء، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو دفع ثوبا إلى قصار، فقصره.. لا أجرة له؛ لأنه لم يشترطها له، ولأنه لم يشترط الرجوع عليه بشيء، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا) .
[مسألة: رهن العبد الجاني]
وفي رهن العبد الجاني قولان، وفي موضع القولين ثلاث طرق، مضى ذكر ذلك في البيع. ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه، كالطير الطائر، والعبد الآبق، ولا رهن عبد من عبيد، كما لا يجوز بيع ذلك.
[فرع: الرهن لا يجوز إلا بمعلوم]
إذا قال: رهنتك هذا الحق بما فيه، أو هذا البيت بما فيه، أو هذا الجراب بما فيه، أو هذه الخريطة بما فيها.. فنص الشافعي في " الأم " [3/143] : (أن الرهن لا يصح بما في هذه الأشياء) .
قال الشيخ أبو حامد: وهل يصح الرهن في الحق والبيت والجراب والخريطة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن قال: رهنتك هذا الحق دون ما فيه، أو هذا البيت دون ما فيه، أو هذا الجراب دون ما فيه، أو هذه الخريطة دون ما فيها.. صح الرهن في هذه الأشياء دون(6/39)
ما فيها. وإن قال: رهنتك هذا الحق، أو هذا البيت، أو هذا الجراب، أو هذه الخريطة، ولم يقل: دون ما فيه، ولا بما فيه.. فنص الشافعي: (أن الرهن يصح في الحق والبيت والجراب، ولا يصح في الخريطة) ؛ لأن الحق والبيت والجراب لها قيمة تقصد في العادة، والخريطة ليس لها قيمة مقصودة في العادة، وإنما المقصود ما فيها.
قال الشيخ أبو حامد: ولأصحابنا في هذا تخليط، ومنصوص الشافعي ما ذكرته.
وأما ابن الصباغ: فقال: قال أصحابنا: فلو كانت الخريطة مما يقصد؛ لأنها ديباج أو شيء له قيمة.. كانت كالحق، ولو كان الحق لا قيمة له.. كان كالخريطة.
[مسألة: رهن النخل المؤبر]
] : إذا رهنه نخلا وعليها طلع مؤبر، ولم يرهنه الثمرة.. صح الرهن في النخل دون الثمرة؛ لأنه لو باعه نخلا عليها طلع مؤبر، ولم يشترط دخوله في البيع.. لم يدخل، فكذلك الرهن.
وإن كان عليها طلع غير مؤبر، ولم يشترط دخوله في الرهن، ولا خروجه من الرهن.. فهل يدخل الطلع في الرهن؟ المنصوص: (أنه لا يدخل) . قال الربيع: قول آخر: (أنه يدخل، كالبيع) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يدخل في الرهن، كما قلنا في البيع.
والثاني: لا يدخل ـ وهو الصحيح ـ كما لا تدخل الثمرة الحادثة بعد الرهن.
ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما ذكرناه.
وقال أبو حنيفة: (تدخل الثمرة في الرهن بكل حال، بخلاف قوله في البيع) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن البيع أقوى من الرهن، فإذا لم تدخل الثمرة في البيع.. فلأن لا تدخل في الرهن أولى.(6/40)
وإن قال: رهنتك النخل والثمرة.. صح، سواء كان قبل التأبير أو بعده، كما قلنا في البيع، ثم ينظر فيه:
فإن رهن ذلك بحق حال أو بمؤجل يحل قبل إدراك الثمرة، أو مع إداركها.. صح ذلك؛ لأنه يمكن استيفاء الحق منها.
وإن كان بحق مؤجل لا يحل إلا بعد إدراك الثمرة.. نظرت في الثمرة:
فإن كانت مما يمكن استصلاحها وتجفيفها، كالتمر والزبيب.. صح ذلك، ولزم الراهن مؤنة تجفيفها.
وإن كانت ثمرة لا يمكن تجفيفها، كالتفاح والكمثرى.. فمن أصحابنا من قال:
فيه قولان، كما قلنا في رهن ما يسرع إليه الفساد. ومنهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا؛ لأن الثمرة تابعة للأصول، فصح رهنها، كما يجوز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مع الأصول، ولا يجوز بيعها مفردة.
فإذا قلنا: يبطل الرهن في الثمرة.. فهل يبطل في الأصول؟ يبنى على القولين نفي تفريق الصفقة، وقد مضى ذكره.
وإن رهنه الثمرة مفردة، فإن كان بعد بدو صلاحها.. فهو بمنزلة رهن الأشياء الرطبة، وقد مضى ذكره. وإن كان قبل بدو صلاحها، فسواء كانت قد أبرت أو لم تؤبر، فإن كان الدين حالا، وشرط القطع.. صح الرهن، كما يصح البيع، وإن لم يشترط القطع.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع.
والثاني: يصح الرهن؛ لأن رهنه بالدين الحال يوجب الطع، فصار كما لو شرط القطع.
وإن رهنها بدين مؤجل، فإن كان بشرط القطع.. قال ابن الصباغ: كان بمنزلة(6/41)