وتأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع، ولم يكن انتهى سفره؛ لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم ينو الإقامة فيها، فلذلك قصر فيه وجمع، فلما فرغ من نسكه، ونزل من منى لم يدخل مكة، وإنما نزل بالمحصب، فلما كان من الغد دخل مكة، وطاف للوداع، وراح إلى المدينة، فلم ينو الإقامة بمكة.
فإن دخل المسافر في طريقه بلدًا له فيها أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيها، فإن له أن يقصر فيها؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالناس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حجًّا بالناس، وكان لهم بمكة دور، وأهل، وقرابة، ولم ينقل: أن أحدًا منهم أتم الصلاة، بل نقل: أنهم قصروا فيها.
ولأن الإقامة إنما تكون بنية الإقامة، أو بأن تحصل بدار إقامته، ولم يوجد شيء منهما.(2/472)
وحكى الطبري في " العدة" قولًا آخر: أن بنفس الدخول يصير مقيمًا، كدخوله دار إقامته، والأول هو المشهور.
[فرع نية الإقامة]
] : إذا نوى المسافر أن يقيم ببلد أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، انقطعت رخص السفر، وبه قال عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، ومالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: (إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، مع اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) . وهي إحدى الروايتين عن ابن عمر، واختاره المزني.
وحكي عن سعيد بن جبير: أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر.
وروي عن ابن عمر رواية أخرى: (أنه إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) .
وروي عنه رواية ثالثة: (إن نوى إقامة اثني عشر يومًا أتم، وإن نوى دون ذلك قصر) .
وقال علي وابن عباس: (إن نوى إقامة عشرة أيام أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) .(2/473)
وقال ربيعة: إن نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة.
وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم الصلاة.
وقالت عائشة: (إذا وضع المسافر رحله أتم الصلاة، سواء كانت في البلد أو خارجًا منها) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا» .
ووجه الدلالة منه هو: أن المهاجرين حرمت عليهم الإقامة بمكة قبل فتحها، فلما صارت دار إسلام تحرج المسلمون من الإقامة فيها؛ ليكونوا على هجرتهم، وكانوا لا يدخلونها إلا لقضاء نسك، فلما أذن لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إقامة الثلاثة دل على أنها في حكم السفر، وما زاد علها في حكم الإقامة، وفي هذا دليل على أكثر المخالفين.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة بمكة، ومنى، وعرفات» ، وفي هذا دليل على باقي المخالفين فيها.
وأما يوم الدخول ويوم الخروج: فلا يعتبر؛ لأنه يشق مراعاة الزمان والساعة التي يدخل فيها أو يخرج، وضم بعضه إلى بعض، فسقط اعتبار ذلك.(2/474)
[فرع نية الإقامة]
] : وإن نوى الإقامة في موضع لا يصلح لها، كالمفازة من الأرض؛ فقال البغداديون من أصحابنا: حكمه حكم ما لو نوى الإقامة في بلد.
وقال الخراسانيون: هل يكون كالإقامة في بلد؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن نوى الإقامة عند مواجهة العدو.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الإتمام) .
دليلنا: أنه نوى الإقامة مدة الإقامة، فأشبه إذا نوى الإقامة بقرية.
[فرع نية التابع إذا انفرد بها]
إذا كان العبد مع سيده في سفر، فنوى العبد إقامة أربعة أيام، أو كانت الزوجة مع زوجها في السفر، فنوت الإقامة، ولم ينو الزوج، ولا السيد ففيه وجهان:
أحدهما: يلزم العبد والزوجة الإتمام؛ لأنهما قد نويا الإقامة، فصارا كغيرهما.
والثاني: لا يلزمهما؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة.
ويحتمل أن يكون إذا نوى الجيش الإقامة مع الإمام، أو الأمير من قبله، ولم ينو هو الإقامة على هذين الوجهين.
[فرع نية إقامة المسافرين]
لو أن مسافرين دخلا بلدًا، ونويا إقامة أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وأحدهما يعتقد جواز القصر مع نية إقامة أربعة أيام، كره للآخر أن يأتم به، فإن خالف، واقتدى به، فقصر الإمام لم تبطل صلاة المأموم بذلك؛ لأن الإمام لا تبطل صلاته إلا بالسلام من ركعتين، فيقوم المأموم، ويتم لنفسه، كما لو أفسد الإمام صلاته بكلام أو غيره.(2/475)
[فرع نية الإقامة لإنجاز حاجة]
] : فأما إذا نوى المسافر الإقامة؛ لينجز حاجة، ثم يرحل بعدها، مثل: أن يقيم على كتب حديث أو سماعه، أو قراءة علم، أو على بيع سلعة أو شرائها، أو كان مريضًا، فنوى الإقامة إلى أن يبرأ، ولم ينو إقامة مدة نظرت: فإن كان يعلم أن حاجته لا تتنجز له إلا بإقامة أربعة أيام، فما زاد لم يجز له القصر، كما لو نوى إقامة أربعة أيام.
وإن كان لا يدري متى تتنجز حاجته، وقد تتنجز في أربع، وفيما دونها، وفيما زاد عليها، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: له أن يقصر إلى أن تبلغ إقامته إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن عام الفتح قولًا واحدًا، وقد اختلفت الرواية في قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن.
ففي رواية: (أنه أقام سبعة عشر يومًا) .
وفي رواية: (أنه أقام ثمانية عشر) .
قال في " الإبانة " [ق \ 88] : وهو الأصح.(2/476)
وفي رواية ثالثة ذكرها في " الإبانة " [ق \ 88] : (أنها عشرون يومًا) .
وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة، جمعت هوازن قبائل العرب، وأرادت المسير إلى قتاله، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيمًا يتخوف من ذلك، وينتظرهم ليقاتلهم، وهو يقصر الصلاة، فأقام المدة التي ذكرناها.
فإن زادت إقامته على ذلك، ففيه قولان:
أحدهما: يجوز له أن يقصر؛ لأنه إقامة في مدة، على تنجز حاجة يرحل بعدها، فجاز له القصر فيها، كالإقامة في سبعة عشر يومًا.
والثاني: يلزمه الإتمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذا ليس بضارب؛ ولأن الأصل التمام، إلا فيما وردت فيه الرخصة، وهو قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونفي ما زاد على الأصل.
وقال أبو إسحاق المروزي: له أن يقصر أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها ثلاثة أقوال:
أحدها: يجوز له أن يقصر أبدًا.
والثاني: له أن يقصر إلى أن يبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يتم فيما زاد عليها، ووجههما ما ذكرناه.
والثالث: يلزمه الإتمام بعد الأربع؛ لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة، فإذا لزمه(2/477)
الإتمام بنية إقامة أربعة أيام، فلأن يلزمه الإتمام بالإقامة فيما زاد عليها أولى.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 88] : له أن يقصر ثلاثة أيام قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها قولان:
أحدهما: يقصر أبدًا.
والثاني: يقصر ما لم تبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويتم فيما زاد عليها.
فأما الإقامة على حرب: فلا فرق بين أن يكون مقاتلًا في الحال، أو يكون متخوفًا من القتال، والحكم فيه واحد، فينظر فيه:
فإن لم ينو إقامة مدة، بل نوى أنه متى انقضى القتال رحل، فهو كما لو نوى الإقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها، على ما مضى من الطرق.
وإن نوى إقامة أربعة أيام، فما زاد على ذلك ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له القصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام، فهو كما لو نوى الإقامة على غير حرب.
والثاني: له أن يقصر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة على قتال هوازن المدة التي ذكرناها، وهو يقصر الصلاة.
ولما روي: أن رجلًا سأل ابن عباس، فقال: إنا نغزو بخراسان، فتطول المدة؛ أنقصر؟ فقال: (اقصروا، ولو بقيتم عشر سنين) ، وروي: (أن أنسًا أقام بنيسابور سنة يقصر الصلاة على حرب) ، و (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) .(2/478)
قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نزل المسافر قرية، فأقام بها أربعة أيام، من غير نية الإقامة لم يكن له أن يقصر بعدها.
وقال أبو حنيفة: (يقصر ما لم ينو الإقامة) .
دليلنا: أن وجود الإقامة عيانًا وحقيقة، أقوى من نية الإقامة، ولو نوى هذه المدة لم يقصر كذلك إذا وجد حقيقة.
[فرع المسافر في البحر عند ركود الريح]
وإن سافروا في البحر، فركدت بهم الريح، فأقاموا على هبوبها، فهم كالمقيمين على تنجز حاجة، فلو أقاموا في موضع قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي قبلها، وقلنا: يجب عليهم التمام، أو قلنا: يلزمهم الإتمام بعد أربعة أيام، في أحد الأقوال على طريقة أبي إسحاق، ثم هبت الريح، فعدوا عن موضعهم، جاز لهم القصر.
فإن ردتهم الريح إلى موضعهم الأول، ثم ركدت بهم الريح فيه كانوا كالمقيمين في هذه الحالة على تنجز حاجة، فلهم أن يقصروا أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها الطرق؛ لأنهم قد أنشئوا السفر بهبوب الريح، وهذه إقامة غير الأولى، وإن كان الموضع واحدًا.
[فرع يقصر المكي]
] : ذكر الطبري في " العدة": لو أن مكيًّا قصد إلى عرفات، ثم يعود إلى منى، ثم إلى مكة، ثم يخرج إلى بعض الآفاق، ولم يقم في شيء من هذه المواضع أربعة أيام، فليس له أن يقصر في شيء منها، ما لم يفارق مكة بعد رجوعه إليها؛ لأن كل ذلك بلد إقامته، والمسافات متقاربة.(2/479)
فأما إذا قصد المكي إلى جدة، أو إلى موضع تقصر إليه الصلاة من مكة، ثم يعود إلى مكة، ولا يقيم بها أربعة أيام، بل يخرج منها إلى بعض الآفاق فله أن يقصر هاهنا عند خروجه من مكة إلى جدة، وفي رجوعه من جدة إلى مكة، وهل له أن يقصر بمكة؟ فيه قولان، كالقولين فيمن مر ببلد له فيها أهل ومال.
قلت: وعندي: أنه لا يقصر بمكة قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي قال: (لو خرج من وطنه مسافرًا إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فأحرم بالصلاة خارج البلد فرعف، فرجع إلى البلد لغسل الدم، أو لحاجة نسيها لم يكن له أن يقصر ببلده) ؛ لأنه في دار إقامته، وإن كان برجوعه لم ينو الإقامة، بل هو على نية السفر.
ويدل على ما ذكرته: أن الشافعي قال في "الأم" [1/164] والقديم: (إذا ولى الإمام رجلًا مكة، فسار من موضع تقصر منه الصلاة إليها، وهو يريد الحج، فبلغ مكة انقطع قصره، وإن كان يريد المسير إلى منى وعرفات) ؛ لأنه يحصل بذلك في وطنه، ولا يقطع قصره إذا حصل في طرق عمله؛ لأن ذلك ليس بوطن له؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في البلد التي فيها أهل طاعته، وكان يقصر الصلاة فيها.
[فرع المسافر يؤم غيره]
إذا أمّ المسافر بمسافرين وبمقيمين جاز، ويجوز للإمام، ولمن خلفه من المسافرين أن يقصروا، ويتم المقيمون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤم المسافرين والمقيمين بمكة، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن خلفه من المسافرين يقصرون الصلاة، ويتم المقيمون خلفه.
ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول للمقيمين: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم قال: "أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» .
فإن أراد أن يستخلف أحد المقيمين؛ ليتم بهم الصلاة، بنى على القولين في(2/480)
الاستخلاف عند الحدث، فإن قلنا هناك: لا يجوز فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يجوز فهاهنا وجهان، ويأتي بيان ذلك.
[مسألة قضاء فائتة الحضر في السفر]
] : فإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في الحضر، وجب عليه أن يقضيها تامة، سواء كان بين فواتها وقضائها سفر أو لم يكن؛ لأنه مقيم حال الوجوب، وحال القضاء.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز له أن يقضيها مقصورة) ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والثوري، والحسن البصري، وحماد؛ لأنها صلاة، فكان قضاؤها كأدائها كالصبح، والمغرب، وكما لو فاتته في الحضر، فقضاها في السفر.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه أن يقضيها تامة) ، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وهو الأصح؛ لأن القصر تخفيف تعلق بعذر، وقد زال العذر، فزال التخفيف، كالقعود في صلاة المريض.
وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في السفر ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له قصرها؛ لأنها صلاة ردت إلى ركعتين، فكان من شرطها الوقت، كصلاة الجمعة.
والثاني: يجوز له قصرها، وهو الأصح؛ لأنه تخفيف تعلق بعذر، والوقت باق، فجاز أن يكون التخفيف باقيًا، كالقعود في صلاة المريض.
فعلى هذا: إن تخلل بين الفوات والقضاء حضر، فهل يجوز له القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 87] .(2/481)
[فرع القضاء في السفر]
] : وإن فاتته صلاة في الحضر، وأراد قضاءها في السفر، وجب عليه أن يقضيها تامة.
وقال الحسن البصري والمزني: يجوز أن يقضيها مقصورة؛ لأن الاعتبار بحال الفعل، ولهذا لو ترك صلاة في حال الصحة، فقضاها في حال المرض، كان له أن يصليها قاعدًا، وكما لو فاته صوم في الحضر، فذكره في السفر فإن له أن يفطر.
ودليلنا: أن هذه صلاة تعين عليه فعلها أربعًا، فلا يجوز له النقصان عن عددها، كما لو لم يسافر، وكم لو نذر أن يصلي أربع ركعات.
وأما ما ذكراه من صلاة المريض: فالفرق بينهما: أن المرض حال ضرورة، والسفر حال عذر، فلا يعتبر أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لو افتتح الصلاة قائمًا في الصحة، ثم طرأ عليه المرض، في أثنائها جاز له القعود، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر في أثنائها لم يجز له قصرها.
وأما الصوم: فإن كان تركه في الحضر لغير عذر، بأن أكل عامدًا فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له تركه في السفر؛ لأنه مفرط.
فعلى هذا: يسقط السؤال.
وقال أكثر أصحابنا: هو مخير بين قضائه في السفر أو الحضر، وكذلك إذا تركه في الحضر بعذر، فهو مخير أيضًا بين قضائه بالسفر أو الحضر، فيكون الفرق بينه وبين الصلاة: أن الترخص في الصوم بالسفر هاهنا إنما هو بتأخيره، لا بسقوط بعضه، والترخص بالسفر في الصلاة إنما هو بسقوط بعضها، ولهذا لو دخل في الصوم بالسفر؛ كان مخيرًا بين إتمامه أو الفطر منه، ولو دخل في الصلاة في السفر بنية التمام لم يجز له قصرها.(2/482)
[فرع أدرك الصلاة حضرًا وصلاها سفرًا]
] : إذا دخل عليه وقت الصلاة في الحضر، وتمكن من أدائها، ثم سافر فله أن يقصر، وقال المزني: ليس له أن يقصر.
قال الشيخ أبو إسحاق: ووافقه أبو العباس ابن سريج على هذا، كما لو دخل على المرأة وقت الصلاة في الحضر، وتمكنت من أدائها، ثم حاضت قبل أن تصليها، فإنها لا تسقط عنها.
والمذهب الأول؛ لأن الاعتبار في الصلاة بحال الأداء، لا بحال الوجوب، بدليل أنه لو دخل عليه وقت الظهر يوم الجمعة، وهو عبد، فلم يصل حتى أعتق فإن الجمعة تجب عليه، وهذا مسافر في حال الأداء فجاز له القصر.
قال ابن الصباغ: وأما الحائض: فلا نسلمه، على قول أبي العباس، فإنه قال فيها: إذا دخل عليها وقت الصلاة، وتمكنت من فعلها، ثم طرأ عليها الحيض، أو الإغماء، فإنها تسقط عنها، وقد حكى الشيخ أبو إسحاق هذا عن أبي العباس في الحائض.
فإن ثبتت الحكايتان عن أبي العباس، تناقض قوله.
وإن سلمنا الحائض على المذهب، فالفرق بينها وبين المسافر: أن الحيض يؤثر في إسقاط الصلاة، فلو أثر ذلك بعد التمكن من فعلها، لأدى إلى إسقاط فرض الصلاة بعد وجوبها، والسفر لا يؤثر في إسقاط الفرض، وإنما يؤثر في عدد الركعات، فلا يؤدي إلى إسقاطها.
وإن سافر، ولم يبق من وقت الصلاة إلا قدر أربع ركعات، جاز له القصر.
وقال المزني: لا يجوز له القصر، ووافقه على هذا أبو الطيب بن سلمة، والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في الأولى.
وإن سافر وقد بقي من الوقت قدر ركعة، فإن قلنا بقول المزني، وابن سلمة في الأولى لزمه التمام.(2/483)
وإن قلنا بقول عامة أصحابنا في الأولى بنيت هذه على من صلى في الوقت ركعة، ثم خرج الوقت، فإن قلنا بقول أبي علي ابن خيران: إنه يكون مؤديًا للجميع، وهو ظاهر المذهب، جاز له القصر.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت لم يجز له القصر.
وإن لم يصل المسافر، حتى بقي من الوقت قدر ركعة أو أقل، فإن قلنا: يكون مؤديًا للجميع جاز له القصر، قولًا واحدًا.
وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت، فهل يجوز له القصر؟ فيه قولان، كما لو فاتته في السفر، فقضاها في السفر.
[فرع استخلاف المسافر المقيم]
] : قال في " الإبانة " [ق \ 89] : إذا اقتدى مسافر بمسافر، ونويا القصر، فأحدث الإمام، واستخلف مقيمًا لزم المأموم الإتمام، وأما الإمام الأول: فإن توضأ وعاد، فائتم بخلفيته لزمه التمام، وإن صلى منفردًا جاز له القصر.
قال: وفيه وجه بعيد: أنه يلزمه الإتمام؛ لأن نظام صلاة الخليفة بنظام صلاته، ولعل هذا الوجه مأخوذ من أحد التأويلات في مسألة الراعف التي مضت.
[مسألة الجمع بين الصلوات]
يجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، في السفر الطويل، وبه قال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن(2/484)
زيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، ومعاذ بن جبل، وجابر بن سمرة.
وهل يجوز الجمع بينهما في السفر الطويل؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) ، وبه قال مالك.
ووجهه: أن أهل مكة يجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولا ننكر عليهم منكر؛ ولأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة، فجاز الجمع فيه كالطويل.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وهو الأصح؛ لأنه إخراج عبادة عن وقتها، فلم يجز في السفر القصير كالفطر، وأما أهل مكة: فلا حجة في فعلهم أيضًا.
قال ابن الصباغ: لأنهم يقصرون أيضًا، ونحن لا نجيز ذلك في القصر، وأما التنفل على الراحلة: فإنما جاز ذلك؛ لئلا ينقطع عن النافلة، وفي ذلك مشقة، وهذا يستوي فيه القصير والطويل، وليس في منع الجمع في القصر مشقة، هذا مذهبنا.(2/485)
وقال الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر بحال، وإنما يجوز لأجل النسك في عرفة، ومزدلفة لا غير) .
ودليلنا: ما روي عن «ابن عباس: أنه قال: (ألا أخبركم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر» .
وروي عن «عبد الله بن دينار: أنه قال: غربت الشمس، ونحن مع عبد الله بن عمر في سفر، فسار حتى أمسى، فقلنا: الصلاة، فسار حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم ثم نزل، فجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير صلى صلاتي هذه» .(2/486)
إذا ثبت هذا: فالأفضل إن كان نازلًا في وقت الأولى أن يجمع بينهما في وقت الأولى، وإن كان سائرًا فالأفضل أن يجمع بينهما في وقت الثانية؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس؛ ولأنه أرفق بالمسافر، فكان أولى.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، افتقر إلى ثلاثة شروط:
أحدها: نية الجمع.
وقال المزني: لا يفتقر إلى نية الجمع، بل إذا فرغ من الأولى، وأراد أن يصلي الثانية نوى أنه يترخص بها.
ودليلنا: أنه جمع، فلا بد من نيته، كالجمع في وقت الثانية، فإنه وافقنا على ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن نوى الجمع عند الإحرام بالأولى صح ذلك قولًا واحدًا، وإن أخر نية الجمع عن حال الإحرام بالأولى، ونواه قبل تسليمه منها، في أي جزء كان منها فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن القصر رخصة، والجمع رخصة، فلما كان القصر لا يصح إلا بنية مع الإحرام، فكذلك الجمع.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأن الجمع يحصل بفعل الثانية عقيب الأولى، فإذا نوى الجمع قبل الفراغ من الأولى أجزأه، كما لو نوى عند الإحرام.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 90] : طريقة ثانية: إن كان الجمع بالمطر، اشترط أن تكون النية عند الإحرام بالأولى، وإن كان في السفر أجزأه أن ينوي قبل التسليم من الأولى، قال: وقد نص الشافعي على هذا، والفرق بينهما: أن وجود السفر شرط في جميع الصلاة، فاكتفي بوجوده عن النية في أولها، والمطر لا يفتقر إلى وجوده في جميع الصلاة، فافتقر إلى النية في أولها؛ لأن المطر يشترط في أولها.
الشرط الثاني: الترتيب بين الصلاتين، وهو أن يقدم الأولى منهما؛ لأن الوقت(2/487)
لها، والثانية تبع لها، فاشترط تقديم المتبوع.
الشرط الثالث: التتابع بينهما، فإن فصل بينهما بفصل يسير جاز؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن فصل بينهما بفصل طويل، ويعرف حده بالعرف والعادة منع الجمع.
قال الشافعي: (ولا يسبح بينهما) ؛ يعني: لا يتنفل بينهما.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يمنع ذلك؛ لأن ذلك من سنن الصلاة، فلم يمنع صحة الجمع كالإقامة، وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإقامة للثانية، ولم يتنفل بينهما.
وإن كان عادمًا للماء، وأراد الجمع بينهما بالتيمم ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يطلب الماء للثانية، ويجدد التيمم للثانية، بعد الفراغ من الأولى، وذلك فصل يطول، فمنع الجمع، كما لو فصل بينهما بنافلة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز، كما يجوز الجمع بينهما بالوضوء، وما ذكرناه من الفصل غير صحيح؛ لأنه من مصلحة الصلاة؛ ولأنه دون الطلب الأول، ويفارق النافلة؛ لأنها ليست من مصلحة الصلاة.
فإن جمع بينهما في وقت الأولى، فلما فرغ منهما تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الصلاتين، ولم يعرفها بعينها، لزمه إعادة الظهر؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة منها، ولم يجز له أن يجمع إليها العصر، بل يصلي العصر في وقتها؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة من العصر، وقد يسقط عنه فرض الظهر بفعل الأولى، وقد حصل هناك فصل طويل، بفعل العصر وبإعادة الظهر، فمنع صحة الجمع.
قال أصحابنا: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجوز الجمع له، قياسًا على الجمعتين إذا(2/488)
أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة ثانيًا، في أحد القولين.
وإن نوى الإقامة في أثناء الأولى، أو بعد الفراغ منها وقبل الدخول في الثانية بطل الجمع؛ لأنه زال سبب الرخصة، وهو السفر.
وإن نوى الإقامة في أثناء الثانية، فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] .
وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: إن نية الإقامة في أثناء الثانية لا تمنع الجمع فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: إنها تمنع الجمع بينهما، فهاهنا وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] .
قلت: وهذا بعيد؛ لأنا قد حكمنا بسقوط الفرض عنه بالفراغ منها، فلا تؤثر هذه النية، كما لو أحدث، وكما لو قصر، ثم نوى الإقامة بعد الفراغ منها.
وإن أراد الجمع بينهما في وقت الثانية افتقر إلى نية الجمع، وهو أن ينوي أنه يصليها مع الثانية في وقتها، وتجزئه النية في أي وقت شاء من وقت الأولى؛ لأنه قد يؤخر الأولى إلى وقت الثانية، على وجه المعصية، وعلى وجه النسيان، فافتقر إلى النية؛ لتمييز التأخير الشرعي عن غيره، ولا يفتقر إلى تقديم إحداهما على الأخرى، ولا إلى المتابعة بينهما؛ لأن الأولى قد فات وقتها، فهي تفعل في وقت الثانية على وجه القضاء، والثانية تؤدى في وقتها، فلا تتعلق إحدى الصلاتين بالأخرى، هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل تفتقر إلى الشروط الثلاثة هاهنا؟ فيه وجهان.
[مسألة الجمع بالمطر]
] : يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى منهما في الحضر في المطر.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا يجوز) .(2/489)
وقال مالك: (يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر، ولا يجوز بين الظهر والعصر) .
دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر؛ لأجل المطر» ، وقد روى الشافعي، عن مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المدينة بين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر» .
قال مالك: (أرى ذلك في المطر) .
إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة ذلك: تقديم الأولى منهما، ونية الجمع على ما مضى، والموالاة بينهما.
وأما المطر: فيشترط وجوده عند الإحرام في الأولى، وعند السلام منها، وعند الإحرام في الثانية، ولا يؤثر انقطاع المطر في غير هذه الحالات؛ لأن المطر قد وجد حال الجمع.
وقال ابن الصباغ: إذا حدث المطر بعد الإحرام بالأولى، فعندي أنه يجوز له الجمع إذا قلنا: تجوز نية الجمع قبل السلام منها؛ لأن سبب الجمع قد وجد، وهو المطر.
والأول هو المشهور، هذا طريقة أصحابنا العراقيين.(2/490)
وقال الخراسانيون: إذا انقطع المطر في أثناء العصر فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان.
وإن انقطع بعد الفراغ من العصر، فعلى أحد الوجهين وجهان، كما مضى في نية الإقامة، وإن أراد الجمع بينهما للمطر في وقت الثانية، فهل يجوز؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) ؛ لأن كل سبب جاز لأجله تقديم العصر إلى الظهر، جاز تأخير الظهر إلى العصر لأجله كالسفر.
و [الثاني] : قال في "الأم": (لا يجوز) ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الجمع من غير وجود العذر؛ ولأن المطر قد ينقطع.
فإذا قلنا: يجوز الجمع بينهما في وقت الثانية، قال أصحابنا: فإنه يجوز الجمع سواء اتصل المطر إلى وقت الثانية أو انقطع؛ لأنه إذا أخر فقد لزمه الجمع بالضرورة، فلا تتغير حاله، هذه طريقة أصحابنا العراقيين.
وقال في " الإبانة " [ق \ 90] : يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان.(2/491)
[فرع الجمع في المطر لمن لا حرج عليه]
] : وهل يجوز الجمع في المطر للمنفرد، أو لمن يصلي في بيته، أو لمن يصلي في المسجد، وبين المسجد وبين بيته سقف يمنع من وصول المطر إليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنا إنما جوزنا له الجمع؛ لئلا تفوته الجماعة، وللمشقة التي تلحقه بالمطر، وهذا غير موجود هاهنا.
والثاني: يجوز؛ لأن العلة في جواز الجمع وجود المطر، والمطر موجود، فوجب أن يجوز له الجمع، كمن يصلي في جماعة في مسجد لا سقف بينه وبين بيته.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في المطر في المسجد، وليس بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء.
[فرع المطر المجيز للجمع]
والمطر الذي يجوز الجمع لأجله: هو المطر الذي يبل الأرض والثياب، سواء كان كثيرًا أو خفيفًا؛ لأن التأذي به موجود.
فأما الرذاذ الذي لا يبل الأرض والثياب إلا بطول المكث فيه: فلا يجوز الجمع لأجله؛ لأن ذلك لا يتأذى به، وأما البرد: فإنه لا يجوز الجمع لأجله؛ لأنه لا يبل الأرض والثبات.
وأما الثلج: فإن كان رخوًا يبل الأرض والثياب جاز الجمع لأجله؛ لأنه بمنزلة المطر بالتأذي به، وإن كان صلبًا لا يبل الأرض والثياب لم يجز الجمع لأجله كالبرد، وأما الوحل: فلا يجوز الجمع لأجله.
وقال مالك وأحمد: (يجوز) .(2/492)
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع لأجل المطر، ولم ينقل أنه جمع لأجل الوحل؛ ولأن الوحل لا يشارك المطر في التأذي به؛ لأن المطر يبل الثياب، وذلك لا يوجد في الوحل.
[فرع الجمع للمرض والخوف]
] : ولا يجوز الجمع في الحضر للمرض، ولا للخوف.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (يجوز الجمع للمرض والخوف) .
وقال ابن سيرين: يجوز الجمع في الحضر أيضًا من غير مرض، ولا خوف، ولا مطر، واختاره ابن المنذر؛ لما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر» .
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك؟ قال: (أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته) .
وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر» .(2/493)
ودليلنا: ما ذكرناه من الأخبار في المواقيت.
وأما الخبر الأول: فقوله: (من غير خوف ولا سفر) ، فنقول: أراد به: في المطر، وأما قوله في الخبر الثاني: (من غير خوف ولا مطر) ، فيحتمل أن يكون أراد: أن المطر انقطع في الثانية، ويحتمل أن يكون أراد: الجمع الذي يقوله أبو حنيفة وهو: أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها.
[فرع جمع العصر مع الجمعة]
إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، فلا أعلم فيها نصًّا.
والذي يقتضي القياس: أنه يجوز ويشترط وجود المطر عند الإحرام بصلاة الجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجود المطر في الخطبتين؛ لأنهما ليستا من الصلاة، وإنما هما شرط في صحة الجمعة، فلم يشترط وجود المطر فيهما كالطهارة والتيمم.
وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر، على القول القديم جاز ذلك، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر، على ما مضى، ويخطب وقت العصر، ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فيه فعل صلاة الجمعة، كآخر وقت الظهر، وهذا القول ضعيف، وما ت فرع عليه.(2/494)
وبالله التوفيق(2/499)
[باب صلاة الخوف]
صلاة الخوف ثابتة في وقتنا، ولم تنسخ، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أبو يوسف والمزني: كانت جائزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نسخت في آخر زمانه، وفي حق غيره، فلا يجوز لأحد فعلها بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: لم تنسخ، وإنما هي خاصة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون من بعده.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا عام، ويدل عليه إجماع الصحابة، فإنه روي: (أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير) ، وروي: (أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف في بعض غزواته) ، وروي: «أن سعيد بن العاص كان أميرًا على الجيش بطبرستان، فأراد أن يصلي صلاة الخوف، فقال: (هل فيكم من(2/500)
صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا فقدمه، حتى يصلي بهم» . ولم ينكر ذلك كله أحد من الصحابة، فدل على أنه إجماع.
ولا يؤثر الخوف في عدد الركعات، بل إن كان في الحضر صلاها أربعًا، وإن كان في السفر صلاها ركعتين، ويستوي الإمام والمأموم في ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، وبه قال ابن عمر وجابر.
وذهب الحسن البصري، وطاوس إلى: أن الإمام يصلي ركعتين، والمأموم يصلي ركعة، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يفرق.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بذات الرقاع، بكل طائفة ركعتين» .(2/501)
[مسألة جواز صلاة الخوف في القتال]
] : ويجوز صلاة الخوف بالقتال الواجب والمباح.
فأما الواجب: فهو قتال الكفار، وقتال أهل العدل لأهل البغي، وقتال من يقصد نفسه، إذا قلنا: إنه واجب.
وأما المباح: فهو كقتاله لمن أراد أخذ ماله، أو مال غيره من المسلمين، أو من أهل الذمة؛ لأن القرآن دل على جواز ذلك في قتال الكفار، وقسنا غيره عليه.
ولا تجوز صلاة الخوف في قتال المعصية، كقتال المسلمين وأهل الذمة لأخذ أموالهم، وقتال أهل البغي لأهل العدل، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك رخصة متعلقة بسبب، فإذا كان السبب معصية لم تتعلق به الرخصة، كالقصر والفطر في سفر المعصية.
فإن هرب من غريمه، وهو معسر فله أن يصلي صلاة الخوف عند الخوف.
قال في " الإبانة " [ق \ 99] : وكذلك إذا هرب من القصاص، فله أن يصلي صلاة الخوف؛ لأنه يرجو العفو.
وإن انهزموا عن المشركين، فصلوا صلاة شدة الخوف، فإن كانوا متحرفين لقتال، مثل أن تكون الشمس في وجوههم، أو في هبوط من الأرض، والعدو أعلى منهم، فانهزموا؛ ليطلبوا مكانًا أمكن للقتال، أو كانوا متحيزين إلى فئة، مستنصرين بهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم ليسوا بعصاة.(2/502)
وإن انهزموا منهم لغير هذين المعنيين، فإن كان العدو أكثر من مثليهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه فرار جائز، وإن كانوا مثلهم أو مثليهم لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم عاصون بالهزيمة منهم.
[مسألة صلاة الخوف عند طلب العدو]
] : قال الشافعي: (وليس لأحد أن يصلي صلاة شدة الخوف في طلب العدو) .
قال أصحابنا: طلب العدو على ضربين.
أحدهما: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يتلقاهم العدو هناك، ولا يخالفون منهم، أو يكون المشركون قد انهزموا من المسلمين هزيمة يتحقق أنهم لا يرجعون ولا يجتمعون عن قرب، فإن كان هكذا لم يجز أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأنهم غير خائفين.
الثاني: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يأمنون وقوع العدو عليهم، ويخافون نكايتهم، أو يكونون قد هزموهم هزيمة قد يمكنهم الرجوع، والاجتماع عليهم عن قرب، ولا يؤمن ذلك منهم، فيجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن الخوف هاهنا موجود.
[مسألة كيفية صلاة الخوف]
] : وأما كيفية صلاة الخوف: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه صلى صلاة الخوف في مواضع كثيرة، وبعضها يخالف بعضًا فعلًا) ، واختار الشافعي منها صلاته في ثلاثة مواضع: في بطن نخل، وفي ذات الرقاع، وبعسفان، وكل صلاة تخالف الأخرى فعلًا؛ لاختلاف الحال فيها.(2/503)
فأما صلاة بطن نخل: فيصليها الإمام بوجود ثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة.
الثاني: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة.
والثالث: ألا يأمنوا من انكباب العدو عليهم في الصلاة.
فإذا وجدت هذه الشرائط، فرق الإمام الناس فرقتين، فيصلي بفرقة جميع الصلاة، وفرقة في وجه العدو، فإذا سلم الإمام بالأولى، مضت إلى وجه العدو؛ وجاءت الفرقة الثانية، فيصلي بهم جميع الصلاة أيضا مرة ثانية، فتكون للإمام تطوعا، ولهم فريضة.
والدليل عليه: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس ببطن النخل هكذا» .
[مسألة صلاة ذات الرقاع]
] : وأما صلاة ذات الرقاع: فتجوز بوجود هذه الشروط الثلاثة.(2/504)
وصفتها: أن يفرق الإمام الناس فرقتين، فتقف فرقة في وجه العدو، ويحرم الإمام بالصلاة، وتصلي خلفه فرقة، فإن كانت الصلاة ركعتين، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة، فإذا قام إلى الثانية، ثبت الإمام قائما، ونوت الأولى مفارقته، وأتموا الركعة الثانية لأنفسهم، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويحرمون خلف الإمام، وينوون الاقتداء به، فيصلي بهم الركعة الثانية، ويقومون قبل سلامه، ويتمون الركعة الثانية لأنفسهم، وينتظرهم حتى يسلم بهم، وهذا أفضل من أن يصلي بكل فرقة جميع الصلاة؛ ليسوي بين الطائفتين، فأما في الأولى: فقد صلى مع الأولى فرضا، ومع الثانية نفلا؛ ولأن هذا أخف من الأولى، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا في شيء واحد، وهو أنه قال: (إذا صلى الإمام بالفرقة الثانية الركعة التي بقيت عليه، فإنه يتشهد بهم ويسلم، فإذا سلم أمر الطائفة يقضون ما عليهم، ويسلمون لأنفسهم) .
وقال أبو حنيفة: (يصلي بالطائفة الأولى ركعة، فإذا قام الإمام إلى الثانية، مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الأولى، فيصلي بهم الإمام ركعة ثانية، ويتشهد بهم، ويسلم الإمام وحده، فإذا فرغ الإمام من السلام، قامت الطائفة، ومضت إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانها، وأتمت صلاتها وسلمت، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية إلى مكانها، وأتمت صلاتها) .
واحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
فدل على أنهم إذا قاموا من سجود الأولى، مضوا إلى وجه العدو.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذات الرقاع نحو ما ذكروه» .(2/505)
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
فأضاف السجود إليهم، وذلك لا يضاف إليهم بانفرادهم، إلا في الركعة الثانية؛ لأنه لو أراد السجود في الأولى، لأضافه إلى الإمام وإليهم، كما قال في الأولى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] [النساء: 102] ، فأضاف القيام إليه وإليهم؛ لما كان مشتركًا بينهم.
وروى صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذات الرقاع، فذكر نحو ما قلناه.
ولأن ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه روى ذلك صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهل بن أبي حثمة، وخبرهم تفرد به ابن عمر.
ولأن فيما ذكروه المشي في الصلاة، فكان ما ذهبنا إليه أولى.
وذات الرقاع: اسم لمكان، واختلفوا: لم سمي بذلك؟ فقيل: لأنه اسم لجبل مختلف البقاع، فمنه: أسود، وأحمر، وأصفر، فلما اختلفت بقاعه سمي: ذات الرقاع.
وقيل: إنها أرض خشنة، مشى فيها ثمانية نفر، قد ذهبت أظافيرهم، وبقيت أقدامهم، فكانوا يرقعون أظافيرهم بالخرق، فسميت بذات الرقاع.(2/506)
[فرع كيفية صلاة الخوف]
] : إذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، فإن الطائفة الأولى تنوي مفارقته، وتتم الركعة الثانية لأنفسهم، فيفارقونه فعلًا وحكمًا.
ومعنى قولنا: (فعلًا) أي: أنهم ينفردون بفعل الثانية.
ومعنى قولنا: (حكمًا) أي أن الإمام إذا سها بعد أن فارقوه، لم يلحقهم سهوه، وإن سهوا بعد مفارقته، لم يتحمل عنهم الإمام؛ لأنهم غير مؤتمين به، فلم يتعلق حكمهم بحكمه.
فإن جلس الإمام في الثانية ساهيًا، أو عجز عن القيام فجلس، فإنهم ينوون مفارقته قبل الانتصاب؛ لأن هذا موضع قيامهم، وكذلك إذا عمد الإمام إلى الجلوس، نووا أيضًا مفارقته، وقاموا لما ذكرناه.
فإن أطال الإمام الجلوس مع العلم بطلت صلاته، ولا تبطل صلاة الطائفة الأولى؛ لأن صلاته تبطل بعد أن فارقوه.
وأما الطائفة الثانية: فإن جاءوا، وأحرموا خلفه، فإن كانوا عالمين ببطلان صلاته بطلت صلاتهم، وإن لم يعملوا لم تبطل صلاتهم، كما نقول فيمن صلى خلف محدث.
وإذا قام الإمام إلى الثانية، وانتظر الثانية، فهل يقرأ في حال انتظاره؟
قال الشافعي في موضع: (يقرأ، ويطيل القراءة، فإذا جاءت الثانية قرأ بعد مجيئها بقدر فاتحة الكتاب، وأقصر سورة) .
وقال في موضع: (لا يقرأ، وإنما يسبح) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يقرأ؛ ليساوي بين الطائفتين في القراءة.
فعلى هذا: يسبح، ويذكر الله تعالى بما شاء.(2/507)
والثاني: يقرأ، وهو الصحيح؛ لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر الله، والقيام لم يشرع له إلا القراءة.
فعلى هذا: يقرأ بعد مجيء الثانية بقدر الفاتحة، وأقصر سورة؛ لتدرك ذلك معه الثانية.
ومنهم من قال: إن كان قد نوى أن يطيل القراءة قرأ، وإن نوى ألا يطيل القراءة لم يقرأ.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 97] طريقًا آخر: أنه يقرأ، قولًا واحدًا.
وإذا جاءت الطائفة الثانية أحرمت خلف الإمام، فيقرءون معه، ويركعون، ويسجدون، فإن خفف الإمام القراءة، فأدركته الثانية راكعًا، فقد أدركوا معه ركعة.
ومتى يفارقونه؟
قال الشافعي في موضع: (يفارقونه بعد الرفع من السجود في الثانية) .
وقال في موضع ما يدل على أنهم: (يفارقونه بعد التشهد) .
فمن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يفارقونه عقيب السجود؛ لأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، وهذا أخف.
والثاني: يفارقونه بعد التشهد، كالمسبوق.
ومن أصحابنا من قال: يفارقونه عقيب السجود قولًا واحدًا، وقول الشافعي: (بعد التشهد) أراد: إذا صلوا في الحضر، فإنه يصلي بالأولى ركعتين ويتشهد، وبالثانية ركعتين.
قال الشيخ أبو حامد: وقد أصاب هذا القائل في هذا التأويل.
فإذا قلنا: إنهم يفارقونه عقيب السجود، فهل يتشهد الإمام في حال انتظاره؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان كالقراءة.(2/508)
ومنهم من قال: يتشهد قولًا واحدًا؛ لأنه لم يتشهد مع الأولى، فلا مفاضلة هاهنا.
فعلى هذا: يطيل التشهد بعد مجيء الثانية بقدر ما تتشهد الطائفة.
إذا ثبت هذا: فإن الطائفة الثانية تقوم إلى تمام ما عليها، ولا تنوي مفارقة الإمام؛ لأنها تفارقه فعلًا، فتنفرد بفعل الثانية، ولا تفارقه حكمًا؛ فإن سها الإمام بعد أن فارقته، أو قبل أن تأتي إليه لزمهم سهوه، وإن سهوا في حال قضاء ما عليهم فالمذهب: أنه يتحمل عنهم؛ لأنهم في حكم متابعة الإمام.
وحكي عن ابن خيران، وأبي العباس: أنهما قالا: لا يتحمل عنهم، ولا يلحقهم سهوه، كالطائفة الأولى، وكذلك الوجهان في المزحوم عن السجود في الجمعة، إذا أمرناه بالسجود فسها، وكذا من وصل صلاته بصلاة إمام أحرم بعده، وجوزنا له الوصل، وكان قد سها قبل الوصل، فهل يتحمل عنه؟ على هذين الوجهين.
[فرع كيفية قراءة الإمام]
ويستحب للإمام أن يخفف القراءة في الركعة الأولى؛ لأنها حالة حرب ونقل سلاح، وكذلك يستحب للطائفة الأولى والثانية إذا فارقتا الإمام لتمام ما عليهما، أن يخففا القراءة؛ لما ذكرناه.
وأما الإمام: فيستحب له أن يطول القراءة في الثانية لتدركه الثانية؛ لأنه موضع حاجة.
[فرع تعريف الطائفة]
قال الشافعي: (والطائفة: ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة، وأن تحرسه أقل من طائفة) ، وهذا صحيح، ويستحب أن تكون الطائفة التي تصلي مع الإمام ثلاثة أو أكثر، وكذلك الطائفة التي تحرسه.
فإن كانوا خمسة، واحتاجوا إلى أن يصلوا صلاة الخوف، صلى الإمام بثلاثة(2/509)
ركعتين، ومضوا إلى وجه العدو، وصلى الآخران أحدهما بالآخر ركعتين.
فإن كان أقل من يقوم بالعدو أربعة صلى واحد واحد.
واعترض ابن داود على الشافعي في هذا، وقال: الطائفة تقع على الواحد أيضًا، وقد احتج الشافعي على قبول خبر الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] .
والطائفة: اسم للواحد.
والجواب: أن مراد الشافعي أن الطائفة المذكورة في هذه الآية ثلاثة فما زاد؛ لأن الله تعالى قال فيه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
ولهذا خطاب جمع، وأقل الجمع ثلاثة.
[مسألة سهو الإمام]
] : قد ذكرنا أن الإمام إذا سها في الأولى، لزم الأولى سهوه.
فعلى هذا: إذا فارقوه، قال الشافعي: (أشار إليهم بما يفهمونه، أنه قد سها، فإذا بلغوا آخر صلاتهم سجدوا للسهو، ثم يسلموا) .
قال أبو إسحاق المروزي: إنما يشير إليهم، إذا كان سهوه يخفى مثله على المأمومين، فإن كان سهوه جليًّا، لا يخفى عليهم، فإنه لا يشير إليهم.
قال الشيخ أبو حامد: وأظن الشافعي أشار إلى هذا في " الإملاء ".
ومن أصحابنا من قال: يشير إليهم، سواء كان سهوه خفيًّا، أو جليًّا؛ لأنه وإن كان سهوه جليًّا، فقد يجهل المأمومون أن عليهم سجود السهو بعد مفارقتهم، فيعرفهم ذلك؛ ليعلموا ذلك، ويسجدوا.
فإن قامت الأولى إلى تمام ما عليها، فسهوا أيضًا، فهل يجزئهم سجدتان، أو يحتاجون إلى أربع؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا: تكفيهم سجدتان، فعم يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها في (السهو) .(2/510)
[فرع متابعة الإمام]
] : إذا قلنا: إن الثانية تفارق الإمام عقيب السجود في الثانية، وكان قد سها الإمام، فإنهم يسجدون مع الإمام في آخر صلاتهم.
وإن قلنا: إنهم يتشهدون معه، فإن الإمام يسجد لسهوه، ويسجدون معه، ثم يقومون لقضاء ما عليهم.
وهل يعيدون سجود السهو في آخر صلاتهم؟ فيه قولان، كالمسبوق بركعة.
وإن أدركته قاعدًا، لكنه قد سبقهم بالتشهد، وسجد للسهو قبل تشهدهم، فهل يتابعونه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يسجدون معه؛ لأنهم متبعون له.
والثاني: لا يسجدون، حتى يقضوا ما عليهم، وهو التشهد.
فإن قلنا: يسجدون معه، فهل يعيدونه بعد تشهدهم؟ على القولين الأولين.
[مسألة كيفية صلاة المغرب]
وإن كانت الصلاة مغربًا، فلا بد من تفضيل إحدى الطائفتين على الأخرى؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما في قسمة الصلاة، فيجوز أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ويجوز أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لما روي:(2/511)
(أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى ليلة الهرير هكذا) ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل الثانية على الأولى بذات الرقاع؛ لأنه انتظرهم مرتين، وانتظر الأولى مرة، فدل على أن الثانية أولى بالتفضيل.
والثاني: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وهو الأصح؛ لأنه أخف؛ وذلك أن كل طائفة هاهنا تتشهد تشهدين، وفي الأولى تتشهد الثانية ثلاث تشهدات.
فإذا قلنا بهذا: جاز للإمام أن ينتظر الثانية قاعدًا في الثانية، وقائمًا في الثالثة، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن ينتظرهم قاعدًا في الثانية؛ لتدرك معه الثانية الركعة الثالثة من أولها.
والثاني: أن الأفضل أن ينتظرهم قائمًا في الثالثة، وهو الأصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الثانية قائمًا.
ولأن القيام في الصلاة أفضل من القعود، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، وأصل هذا الخبر: إنما هو في النفل عند القدرة على(2/512)
القيام، فأما في الفرض: فإن كان قادرًا على القيام، فصلى قاعدًا.. لم تصح صلاته، وإن كان عاجزًا عن القيام، فصلى الفرض أو النفل قاعدًا.. فثوابه كثواب القائم، أو أكثر إن شاء الله.
[مسألة صلاة الخوف حضرًا]
] : وإن كانت الصلاة في الحضر، واحتاج الإمام إلى صلاة الخوف، بأن ينزل العدو على باب البلد، فيخرج الناس ليقاتلوهم.. جاز للإمام أن يصلي بهم صلاة الخوف.
وقال مالك: (لا يجوز) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] [النساء: 102] الآية.
فبين كيفيتها، ولم يفرق بين: سفر، ولا حضر.
فإن كانت الصلاة رباعية، أو كانت في السفر، وأراد الإمام إتمامها.. فإنه يفرق الناس طائفتين، ويصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعتين، وهل الأفضل أن ينتظر الثانية قاعدًا في التشهد الأول، أو قائمًا في الثالثة؟ فيه قولان، كما ذكرنا في المغرب، ويتشهد -هاهنا- مع الطائفة الأولى والثانية، قولًا واحدًا؛ لأنه موضع تشهدهم.
وإن فرقهم أربع فرق، فصلى بكل طائفة ركعة.. ففي صلاة الإمام قولان:
أحدهما: أنها باطلة، وهو اختيار المزني، ووجهه: أن الله تعالى أمر بالصلاة مجملًا، وكيفيتها مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتظرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف إلا انتظارين، فعلم أن هذا بيان لما أمر الله بإقامته مجملًا، فبطلت بالزيادة، كما لو صلاها خمسًا.
والثاني: لا تبطل، وهو الأصح؛ لأن الانتظار الثاني والثالث والرابع بالقراءة والذكر، وذلك لا يبطل الصلاة.
ولأن الحاجة قد تدعو إليه، بأن يكون المسلمون أربعمائة، والعدو ستمائة، فيصلي الإمام بمائة مائة، ويقف بإزاء العدو ثلاثمائة؛ فإذا قلنا بهذا: صحت صلاة الطائفة الرابعة؛ لأنهم لم يفارقوا الإمام حكمًا.(2/513)
وأما صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة: فإنهم فارقوه بغير عذر؛ لأنهم فارقوه قبل وقت المفارقة، وذلك أن الطائفة الأولى، إنما فارقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نصف صلاته، ونصف صلاتهم، وكل طائفة من هذه الثلاث فارقته قبل ذلك، فيكون في صلاتهم القولان، فيمن فارق الإمام بغير عذر.
وإن قلنا: إن صلاة الإمام باطلة.. فمتى تبطل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ لأنه هو الانتظار الزائد على ما وردت فيه الرخصة.
فعلى هذا: تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، وأما الرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل، كمن صلى خلف محدث.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تبطل بالانتظار الثاني) ؛ لأن الزيادة حصلت فيه.
وفي أي موضع تبطل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تبطل بمضي الطائفة الثانية؛ لأن هذا وقت الزيادة، وذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفة الأولى بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، وهذا قد فعل مثل هذا في الانتظار الأول، وانتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطائفة الثانية بقدر ما أتمت صلاتها لا غير، وهذا قد انتظر الثانية بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، فبنفس مضيها وقعت الزيادة.. فتبطل صلاته حينئذ.
والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاة الإمام تبطل عندما يمضي من الانتظار الثاني قدر ركعة، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفتين جميعًا بقدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر ما صلت ركعة، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ركعة، وهذا قد انتظر أكثر من قدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر(2/514)
ما صلت ثلاث ركعات، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ثلاث ركعات، فيجب أن تبطل صلاته إذا مضى من الثانية قدر ركعة؛ ليكون انتظاره بقدر الصلاة التي هو فيها، وهي أربع ركعات مع المضي والمجيء.
إلا أن ما قاله أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد لا يفيد في صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنهم يفارقونه قبل بطلان صلاته، وإنما يفيد في وقت بطلان صلاة الإمام.
وعلى قولها معًا: ينظر في الثالثة، والرابعة، فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل صلاتهم، كمن صلى خلف محدث، وإن علم البعض دون البعض.. بطلت صلاة من علم بطلان صلاة الإمام، دون صلاة من لم يعلم.
وبأي شيء يعتبر علمهم؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يعتبر أن يكونوا علما تفريق الإمام للطوائف، فإن علموا ذلك.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا أن التفريق مبطل لصلاتهم، كما إذا علموا إن الإمام جنب.
والثاني: يعتبر علمهم، بأن هذا التفريق مبطل لصلاته، وإن لم يعلموا ذلك.. لم تبطل صلاتهم، ويفارق الجنابة؛ لأن كل مسلم يعلم أن الجنب لا تصح صلاته، بخلاف مسألتنا، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة.
والثاني: أن صلاة الإمام والطائفة الرابعة صحيحة، وصلاة الأولى والثانية والثالثة باطلة.
والثالث: أن صلاة الإمام باطلة، وصلاة الأولى والثانية صحيحة، وأما الثالثة والرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل.
ويجيء فيه قول أبي العباس: تصح صلاة الطائفة الثالثة أيضًا، فيكون فيها أربعة أقوال.(2/515)
[فرع صلى بطائفة ثلاثًا]
] : قال في " الأم " [1/189] : (وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات، وبطائفة ركعة.. كرهت ذلك له، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار) .
قال الشافعي: (ويسجد الإمام للسهو؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه، وكذلك الطائفة الأخرى) . قال ابن الصباغ: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق، وقلنا: لا تبطل صلاتهم.. أنهم يسجدون للسهو.
[فرع العدو في جهات]
وإن كان العدو في جهتين أو ثلاث أو أربع، فإن أمكنه أن يفرقهم فرقتين: فرقة تصلي معه، وفرقة تتفرق في جميع الجهات.. فعل ذلك، وكان كما لو كان العدو في جهة واحدة.
وإن كان لا يمكن إلا أن يكونوا أربع فرق:
فإن قلنا: يجوز أن يفرقهم أربع فرق، إذا كانوا في الحضر.. فرقهم أربع فرق.
وإن قلنا: لا يجوز، أو كانت الصلاة في السفر.. فإنه يصلي بفرقتين جميع الصلاة، ثم يصلي بالفرقتين الأخريين أيضًا جميع الصلاة، ويكون متطوعًا.
ويأتي على قياس هذا: إذا احتاج أن يفرقهم ثلاث طوائف، بأن كان العدو في جهتين.. أن يصلي بطائفتين جميع الصلاة، ثم يعيدها بالطائفة الثالثة، ويكون متطوعًا مع الثالثة.
[مسألة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان]
وأما صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان: فلها ثلاثة شروط:(2/516)
أحدها: أن يكون العدو في جهة القبلة.
الثاني: أن يكونوا في بسيط من الأرض، لا يحجبهم عن أبصارهم شيء.
الثالث: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة، فإذا وجدت هذه الشروط.. جعل الإمام الناس صفين خلفه، فيحرم بالصلاة، ويحرمون خلفه، ويركع، ويركعون معه، ويرفع، ويرفعون معه، فإذا بلغ إلى السجود.. قال الشافعي: (فإذا سجد.. وقف الصف الذي يلي الإمام، يحرسون العدو، ويسجد الصف الأخير) .
وإنما اختار الشافعي هذا، لثلاثة معان:
أحدها: أن الأولى أقرب من العدو، فهم بالحراسة أمكن.
الثاني: أنهم يكونون جُنَّة لمن وراءهم، فإن رماهم المشركون بسهم تلقوه بسلاحهم.
الثالث: لكي يمنعوا أبصار المشركين من مشاهدة المسلمين، ومعرفة عددهم، فإذا رفع الإمام رأسه من السجود.. حرس الذين سجدوا معه، وسجد الذين حرسوا.
قال الشافعي: (فإن حرس الصف الثاني في مواضعهم، وسجد الصف الأول.. فحسن، وإن تقدموا إلى الموضع الأول، فحرسوا، وتأخر الأول إلى موضعه، فسجدوا.. فجائز) . فأجاز هذا؛ لكي يكون فيه مساواة بين الطائفتين، واستحسن الأول؛ لأنه ليس فيه تقدم وتأخر.
فإذا ركع الإمام في الثانية.. ركعوا جميعًا، ورفعوا معه، ويسجد معه من حرس أولًا في الأولى، ويحرس من سجد أولًا في الأولى.
قال الشافعي: (فإن سجد معه صف واحد من الركعتين.. جاز، وإن حرس بعض أهل الصف.. جاز) .. هذا قول الشافعي.
وأما المروي في الخبر: فروى أبو داود في "سننه " [1326] بإسناده عن أبي(2/517)
عياش الزرقي أنه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم السلاح وهم في الصلاة، فقال بعضهم: إن بين أيديهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فلما حضرت العصر.. قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبلًا القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعًا، ثم سجد، وسجد الذين يلونه، وقام الآخرون، يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين، وقاموا.. سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وركعوا معه، ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه.. وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصف الذي يليه.. سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلم بهم جميعًا» . وما ذكر عن الشافعي مخالف لهذا الخبر.
قال أصحابنا: واتباع ما في الرواية أولى، ولعل الشافعي لم يبلغه الخبر، أو سها عنه، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " إلا ما ذكر في هذا الخبر، ولكنه لم يذكر التقدم والتأخر.
واحتج بما روى جابر، وابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى هكذا) ، ولعل الشيخ أبا إسحاق صحت له هذه الرواية، أو اختار الذي استحسنه الشافعي في ترك التقدم والتأخر.(2/518)
[مسألة اختيار أبي حنيفة]
إذا صلى الإمام بالناس صلاة الخوف التي اختارها أبو حنيفة.. فإن صلاة الإمام صحيحة؛ لأنها أخف من الصلاة التي نرويها في حق الإمام.
وأما صلاة المأمومين.. فهل تصح؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا:
أحدهما: تصح؛ لأن ابن عمر روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جوازها.
فعلى هذا: يكون الخلاف بيننا وبينهم في الأفضل.
والثاني: لا تصح.
فعلى هذا: ترجح أخبارنا على خبر ابن عمر بكثرة الرواة؛ ولأن فيما ذكروه أفعالًا تنافي الصلاة، أو نقول: قوله: (انصرفوا وهم في الصلاة) توهم من بعض الرواة.
[مسألة صلاة الإمام حال الأمن بإحدى كيفيات صلاة الخوف]
وإن صلى الإمام بالناس في حال الأمن إحدى الصلوات الثلاث التي اختارها الشافعي في الخوف.. نظرت: فإن صلى بهم صلاة بطن النخل.. صحت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأن أكثر ما فيه أن صلاة الإمام مع الأولى فرض، ومع الثانية نفل، وذلك جائز عندنا.
وإن صلى بهم صلاة ذات الرقاع.. ففي صلاة الإمام طريقان:
قال عامة أصحابنا: تصح، قولًا واحدًا؛ لأن أكثر ما فيه أنه يطول الصلاة في حال الأمن بالقراءة، والتشهد، وهذا لا يبطل الصلاة.
وقال القاضي أبو الطيب: في صلاة الإمام قولان، كما قلنا فيه إذا فرقهم أربع فرق في الخوف، وهذا هو الأقيس؛ لأنه إذا كان في صلاة الإمام: إذا فرقهم أربع فرق في الخوف - وقد تدعو الحاجة إلى ذلك - قولان، فلأن يكون في صلاته قولان إذا فرقهم في الأمن، ولا حاجة به إلى ذلك، أولى.
وأما صلاة المأمومين: فإن في صلاة الطائفة الأولى قولين؛ لأنهم فارقوه لغير(2/519)
عذر، وأما صلاة الطائفة الثانية: فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وقلنا: تبطل صلاة الإمام.. نظرت: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. لم تنعقد صلاتهم؛ لأنهم يعلقون صلاتهم بصلاة باطلة، مع العلم بها، وإن لم يعلموا.. انعقد إحرامهم.
وإن قلنا: إن صلاة الإمام صحيحة، إما على أحد القولين في قول القاضي، أو قولًا واحدًا، في قول غيره.. فإن إحرام الثانية صحيح.
وهل تبطل بمفارقتهم له؛ لإتمام صلاتهم؟ فيه ثلاثة طرق:
[الأول] : إن قلنا بقول أبي العباس، وابن خيران: إنهم إذا قاموا لقضاء ما عليهم.. فارقوا الإمام فعلًا، وحكمًا، فلا يلحقهم سهو الإمام، ولا يتحمل الإمام سهوهم.. كان في بطلان صلاتهم هاهنا قولان؛ لأنهم فارقوه بغير عذر.
والطريق الثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أنهم يفارقونه، فعلًا، لا حكمًا.
فعلى هذا: تبطل صلاتهم، قولًا واحدًا؛ لأنهم قاموا لقضاء ما عليهم قبل خروج الإمام من الصلاة.
والطريق الثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاتهم لا تبطل، قولًا واحدًا، وعليه يدل قول الشافعي، فإنه قال: (أحببت لهم أن يعيدوا الصلاة) ، ولم يقل: يجب عليهم.
وإن صلى بهم صلاة عسفان في حال الأمن.. فصلاة الإمام وصلاة من سجد معه صحيحة، وأما صلاة من حرس: ففيها وجهان:
إن قلنا: السجدتان والجلسة بينهما ركن واحد.. لم تبطل صلاتهم؛ لأن الإمام سبقهم بركن واحد.
وإن قلنا: إنهما ركنان، وهو الأشبه بالمذهب.. بطلت صلاتهم.
[فرع صلاة الخوف في القتال المحرم]
قد ذكرنا أن القتال المحرم لا تصلى فيه صلاة الخوف، فإن خالف، وصلى فيه.. قال الشافعي: (أعاد) .(2/520)
قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا صلى به صلاة شدة الخوف، فإنه يعيد، فأما إذا صلى فيه إحدى الصلوات الثلاث: فحكمه حكم الآمن إذا صلاها، على ما مضى.
[مسألة صلاة الجمعة في الخوف]
] : ذكر الشافعي في صلاة الجمعة في الخوف أربع مسائل:
الأولى: إذا كان القتال في المصر، ووافق يوم الجمعة، وأراد أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع.. فإن الإمام يفرق الناس فرقتين: فرقة تقف في وجه العدو، ويخطب بفرقة، ولا يجوز أن تنقص هذه الفرقة عن أربعين، ويصلي بهم ركعة، ويثبت الإمام قائمًا في الثانية، ويتمون لأنفسهم، ويجهرون بالقراءة فيما بقي عليهم؛ لأنهم منفردون، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويصلي بهم الركعة التي بقيت عليه، وينتظرهم جالسًا، ويتمون لأنفسهم، ولا يجهرون بالقراءة؛ لأنهم في حكم إمامته، ويسلم بهم.
فإن نقصت الفرقة الثانية عن أربعين.. فهل تصح؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: تصح قولًا واحدًا؛ لأن الجمعة قد انعقدت بالأولى.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، كالانفضاض.
فإن قيل: فالعدد شرط في جميع الجمعة، فكيف جاز أن يبقى الإمام - هاهنا - منفردًا من حين مضت الأولى؟
فاختلف أصحابنا في الجواب عن هذا:
فمنهم من قال: إنما بنى الشافعي هذه المسألة على أحد القولين في الانفضاض، وأنه إذا بقي وحده يصلي الجمعة.(2/521)
ومنهم من قال: يجوز هاهنا، قولًا واحدًا؛ لأن الانفضاض من غير عذر، وهاهنا الانفضاض لعذر، وهو الخوف، ولأن مجيء الفرقة الثانية هاهنا يتوقت، وفي الانفضاض لا يتوقت مجيؤها.
فإن قيل: أليس قد قلتم: إن الجمعة إذا أقيمت في المصر الواحد مرة.. لا يجوز إقامتها ثانيًا، فلم جوزتم - هاهنا - للطائفة الثانية أن تصلي الجمعة مع الإمام، والجمعة قد أقيمت؟
فالجواب: أنا إنما نمنع استفتاح الجمعة في المصر بعد إقامتها مرة، وفي هذه المسألة لم تستفتح الجمعة بعد إقامتها، وإنما هو استدامتها؛ لأن الإمام لم يخرج من الجمعة، فالثانية تحرم مع الإمام بالجمعة، تبعًا له.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن الإمام إذا سبق بعض المأمومين بركعة من الجمعة، ثم سلم الإمام ومن معه، وقام المسبوقون لقضاء ما عليهم، فقدم الإمام رجلًا ليتم بهم، أو قدموا هم رجلًًا، وجوزنا ذلك، فأدركهم رجل، وصلى معهم ركعة.. أنهم إذا سلموا.. جاز له أن يقوم، ويأتي بركعة أخرى، وتكون له جمعة؛ لأن هذا وإن استفتح الجمعة، فهو تبع للإمام والإمام مستديم لها، لا مستفتح.
المسألة الثانية: إذا خطب الإمام بالطائفة الأولى، وهم أربعون، فمضوا إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، فأحرم بهم الجمعة.. لم تصح في حقه وحقهم؛ لأن هذا في معنى من خطب وحده، وصلى الجمعة بأربعين، وذلك لا يصح.
فإن بقي من الأولى أربعون، ومضى الباقون، وجاءت الثانية.. جاز أن يصلي بهم الجمعة، تبعًا للأربعين الذين سمعوا الخطبة.
المسألة الثالثة: إذا خطب الإمام بالأولى، وصلى بهم الجمعة، وسلم، ثم خطب بالثانية، وصلى بهم الجمعة.. صحت الجمعة في حق الإمام والأولى، دون الثانية؛ لأنه لا تصح إقامة الجمعة في المصر مرة بعد مرة.
المسألة الرابعة: إذا كان الإمام والطائفة خارج المصر.. لم يجز أن يصلوا الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حج.. وافق عرفة يوم الجمعة، فلم يصل الجمعة،(2/522)
وقد كان معه أهل مكة، ومعلوم أن عرفة دار إقامتهم، وإنما لا يستوطنونها، ولأن المسافر يجوز له أن يقصر إذا فارق بنيان البلد، ولا يجوز له إقامة الجمعة، حيث يقصر.
قال الشيخ أبو حامد: وقد كان الداركي يحكي عن أبي إسحاق: أن الجمعة لا تجوز في جامع براثا؛؛ لأنه خارج البلد، وإنما كان كذلك.. فلا فرق بين أن يكون بعيدًا، أو قريبًا، إذا كان منقطعًا عن البلد، أنه لا يجوز.
[فرع الخطبة في المسجد]
لو خطب بهم في المصر، وصلى بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان.. جاز ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع، والإمام يبقى منفردًا في بعضها.. فلأن يجوز هاهنا أولى.
ولو لم يمكن الإمام الجمعة، فصلى بهم الظهر، ثم أمكنه الجمعة، قال الصيدلاني: لم يجب عليهم، لكن على من لم يصل معهم، ولو أعاد.. لم أكره، ويقدم غيره؛ ليخرج من الخلاف.
[فرع صلاة الاستسقاء ونحوها]
] : فأما صلاة الاستسقاء في الخوف: قال الشافعي في " الأم " [1/201] : (لا بأس أن يدع الاستسقاء، إلا أن يكون في عدد كثير ممتنع، فلا بأس أن يستسقي، ويصلي، كما يصلي في المكتوبات، وإن كان في شدة الخوف.. لم يصل الاستسقاء، ويصلي الخسوف والعيدين؛ لأنه لا يصلح تأخيرهما) .
ومعنى ذلك: أن صلاة الاستسقاء لا يتحقق فواتها، وصلاة العيدين والخسوفين يتحقق فواتهما بخروج الوقت والتجلي.(2/523)
[مسألة ترك حمل السلاح حال الصلاة]
قال الشافعي: (ولا أحب للمصلي ترك السلاح) ، وهذا يدل على استحباب حمله في الصلاة.
وذكر في موضع آخر: (لا أجيز ترك السلاح) ، وهذا يدل على وجوبه.
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هي على حالين: فالذي يجب حمله: هو السلاح الذي يدفع به عن نفسه، مثل: السكين والسيف، والذي استحبه هو ما يدافع به عن نفسه وعن غيره، كالرمح، والقوس؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه، ولا يجب عليه أن يدفع عن غيره.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب، وبه قال داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] .
وهذا أمر، والأمر على الوجوب.
ولأنهم إذا وضعوا السلاح عنهم.. لم يأمنوا هجوم العدو عليهم، فيحتاجون إلى أخذ السلاح، وربما كان ذلك سبب هزيمتهم.
والثاني: (أنه لا يجب) ، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان حمله واجبًا في الصلاة.. لكان شرطًا فيها.
وأما قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .
فإنه أمر ورد بعد الحظر.(2/524)
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن حمل السلاح في الصلاة في غير حال الخوف مكروه ينهى عنه، ثم ورد الأمر بحمله في صلاة الخوف، والأمر بالشيء إذا ورد بعد النهي.. فإنه يقتضي الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] .
وإذا ثبت هذا: فالسلاح المختلف فيه: هو السلاح الطاهر، فأما النجس: فيحرم حمله.
فإن أصاب سلاحه دم، فإن ألقاه في الحال من يده.. جاز.
وإن أمسكه، للاحتياج إليه.. قال صاحب " الإبانة " [ق\ 98] : فهل تجب عليه الإعادة؟ فيه قولان، بناء على المحبوس في الحش.
وإن جعله في الحال تحت ركابه.. جاز أيضًا، وإن كان متقلدًا له، فتركه.. بطلت صلاته.
قال الصيدلاني: فإن تنحى لغسله.. فوجهان.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السلاح على قول من قال: هو على اختلاف حالين ينقسم خمسة أقسام:
[الأول] : قسم يحرم حمله: وهو السلاح النجس، مثل: السيف والسكين، إذا أصابهما دم، أو سقيا بسم نجس، أو النبل، إذا كان عليه ريش نجس.
والثاني: سلاح يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن الصلاة، مثل: الدرع وأما البيضة: فإن كان لها أنف يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض في السجود.. لم يجز حملها.
والثالث: يجب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، مثل: السيف.(2/525)
والرابع: يستحب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره، مثل: القوس، والنشاب، والجعبة.
والخامس: ما يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح، فإن كان المصلي في حاشية الناس، بحيث إذا ركع، وسجد..يمكنه أن يضعه، بحيث لا يتأذى به أحد.. استحب حمله، وإن كان في وسط الناس.. لم يستحب حمله.
وأما على قول من قال: المسألة على قولين.. فينقسم السلاح عنده على أربعة أقسام:
[الأول] : قسم يحرم حمله، وهو النجس.
و [الثاني] : قسم يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن أفعال الصلاة.
والثالث: يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح.
والرابع: هل يجب حمله؟ على قولين، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره.
[فرع السيف المسقي سما]
فإن سقى سيفه سمًّا نجسًا، ثم غسل ظاهره.. طهر، وإن لم يصل إلى باطنه.
هكذا قال ابن الصباغ.
وإن أدخل في النار، فقيل: إنه قد ذاب وزال، حتى لم يبق منه شيء.. لم يطهر حتى يغسل، وإن مسح.. لم يطهر.
وقال أبو حنيفة: (يطهر) . وقد مضى ذكر ذلك.(2/526)
[مسألة المتمكن يصلي قاعدًا]
قال في " الإبانة " [ق\ 98] : يجوز للمتمكن أن يصلي قاعدًا؛ مخافة أن يراه العدو.
وفي الإعادة قولان، بناء على القولين في المحبوس في الحش.
[مسألة الصلاة في شدة الخوف]
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن كان الخوف أشد من ذلك، وهي المسايفة، والتحام القتال، ومطاردة العدو، حتى يخافوا إن ولوا أن يركبوا أكتافهم، فيكون سبب هزيمتهم.. فيصلون كيف ما أمكنهم، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ركبانًا على دوابهم، ومشاة على أقدامهم، يومئون بالركوع والسجود، ولا يجوز لهم إخراج الصلاة عن وقتها) .
وكذلك الرجل، إذا خاف من سبع، أو كافر، إن اشتغل بالصلاة ركبه.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الحال هكذا، ولا يتمكنون من الركوع والسجود.. جاز لهم تأخير الصلاة عن وقتها، فأما إذا زال ذلك.. صلوا) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] [البقرة: 239] .
قال ابن عمر: (مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) .
وروى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة شدة الخوف) ، فذكر كمذهب أبي حنيفة، ثم قال: (فإذا كان الخوف أشد من ذلك.. صلوا كيف أمكنهم، مشاة وركبانًا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) . وقد روي ذلك موقوفًا على ابن عمر.(2/527)
[فرع جوازائتمام المقاتلين بعضهم ببعض]
فرع: [جواز ائتمام المقاتلين بعضهم ببعض] : يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهة قتاله؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يصلي إلى جهته مع العلم بها، فهو بمنزلة من حول الكعبة، يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهته، والجماعة - هاهنا - أفضل من الانفراد، كصلاة الأمن.
[فرع إذا خشي العدو صلوا صلاة شدة الخوف]
] : قال الشافعي: (وإذا كان العدو بإزاء المسلمين، ولم يأمنوا مكيدتهم، وانهجامهم لو اشتغلوا بالصلاة.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف. وكذلك إن لم يروا العدو، ولكن أخبرهم الثقة عندهم: أن العدو بالقرب منهم، وأنه يطلبهم، فخافوا نكايتهم إن اشتغلوا بصلاة الخوف.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف) .
[فرع بطلان الصلاة بالصياح]
فإن صاح على العدو.. بطلت صلاته؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وأما العمل في صلاة الخوف: فلا فرق بين صلاة الخوف، وبين صلاة الأمن فيه، وإن عمل فيها عملًا قليلًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان كثيرًا - في غير صلاة شدة الخوف - بطلت صلاته.
قال الشيخ أبو حامد: والمرجع في ذلك إلى العرف والعادة.
وقال القاضي أبو الطيب: الضربة الواحدة لا تبطل الصلاة.
وفي الاثنتين إذا توالتا وجهان , وإن ضرب ثلاث ضربات، أو طعن ثلاث طعنات متواليات، أو ردد الطعنة في المطعون.. قال الشافعي: (مضى فيها، ويعيد) .
فمن أصحابنا من قال: بطلت صلاته بذلك، ولهذا تجب عليه الإعادة.
وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطرًّا إليه.. بطلت صلاته به؛ لأنه لا حاجة به(2/528)
إليه، وإن كان مضطرًّا إليه.. لم تبطل صلاته؛ لأن به إليه حاجة، فلم تبطل به صلاته، كالمشي.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يصح؛ لأن الصلاة لا يمضى فيها مع البطلان، وإنما يجري مجرى الصلاة بغير طهارة عند الضرورة؛ لشغل الوقت.
وإذا مشى في صلاة شدة الخوف مشيًا كثيرًا لحاجة.. لم تبطل صلاته؛ لأن المشي قد يصح مع النفل، بخلاف غيره من العمل.
[فرع لا تضر الحركة القليلة]
] : قال الشافعي: (ولا بأس أن يصلي الرجل في الخوف ممسكًا بعنان فرسه؛ لأنه عمل يسير قليل، فإن نازعه فجذبه إليه جذبتين، أو ثلاثًا، أو نحو ذلك، وهو غير منحرف عن القتال.. فلا بأس، فإن كثرت مجاذبته.. فقد قطع صلاته، وعليه استئنافها) .
قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكرناه من الضربات والطعنات، وهذا يدل على أنه تعتبر كثرة العلم، دون العدد.
[فرع الحمل على العدو]
قال الشافعي في " الأم " [1/199] : (ولو كانوا في صلاة الخوف، فحملوا على العدو، متوجهين إلى القبلة.. بطلت صلاتهم وإن حملوا عليهم قدر خطوة) .
وهذا في غير شدة الخوف، وإنما أبطلها بالخطوة الواحدة؛ لأنهم قصدوا عملًا كثيرًا، لغير ضرورة، وعملوا شيئًا منه.
قال الشافعي: (ولو نووا أن العدو، إذا أظلهم معًا قاتلوه.. لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم في الحال لم يغيروا نية الصلاة) .(2/529)
[فرع الأمن حال الصلاة راكبًا]
إذا كان يصلي راكبًا، فأمن.. وجب عليه أن ينزل، ويتمها على الأرض، كالمريض إذا قدر على القيام في أثناء الصلاة، فإن نزل، وهو مستقبل القبلة، وخف نزوله.. بنى على صلاته.
وإن احتاج في النزول إلى عمل كثير.. فحكى في " الإبانة " [ق\ 99] وجهين:
أحدهما: يستأنف الصلاة.
والثاني: يبني على إحرامه.
وإن افتتحها آمنًا على الأرض، فخاف، فركب في أثنائها.. قال الشافعي: (استأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير) .
وقال في موضع آخر: (يبني على صلاته) .
واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تبطل صلاته) إذا كان ركوبه لغير ضرورة، مثل: أن يركب لطلب مشرك، وما أشبهه؛ لأنه لا حاجة به إليه. والموضع الذي قال: (لا تبطل) إذا كان ركوبه لضرورة، كالدفع عن نفسه، أو للهرب الواجب؛ لأن به إليه حاجة.
ومنهم من قال: بل هي على قولين:
أحدهما: يبطلها؛ لأنه عمل كثير.
والثاني: لا يبطلها؛ لأن العمل الكثير للحاجة، لا يبطل الصلاة في شدة الخوف، كالمشي.
[مسألة ظن وجود العدو]
إذا رأوا إبلًا، أو سوادًا، أو غبارًا، فظنوا ذلك عدوًّا، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنهم ليسوا عدوًّا.. فهل تجب عليهم الإعادة؟ فيه قولان:(2/530)
أحدهما: تجب عليهم الإعادة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنهم تركوا ركنًا من أركان الصلاة على وجه الخطأ، فلزمتهم الإعادة، كما لو تركوا الطهارة، أو الركوع على وجه النسيان.
والثاني: لا إعادة عليهم، وهو الصحيح؛ لأن صلاة الخوف تتعلق بوجود الخوف وإن لم يتحقق المخوف، ألا ترى أن العدو، إذا كانوا بإزائهم، وخافوا إن اشتغلوا بالصلاة، ركبوا أكتافهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم علموا بعد ذلك أن العدو لم يعزم على شيء من ذلك، فإنه لا إعادة عليهم؟ فكذلك هذا مثله.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا أخبرهم ثقة أن العدو قاصد إليهم، فأما إذا ظنوهم: فعليهم الإعادة، قولًا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين.
وإن رأوا العدو، فخافوهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أن بينهم وبينهم خندقًا أو نهرًا، أو طائفة من المسلمين لا يمكنهم الوصول إليهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تلزمهم الإعادة، قولًا واحدًا؛ لأنهم مفرطون في ترك تأمل المانع.
ومنهم من قال: فيه قولان، كالأولى.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه.
[فرع خوف الغرق]
] : إذا كانوا في واد فغشيهم سيل، وخافوا منه الغرق، فإن وجدوا نجوة - وهو الموضع المرتفع من الأرض - وأمكنهم صعودها.. لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه لا خوف مع ذلك، وإن لم يكن هناك شيء يتحصنون به من السيل، أو كان هناك، ولم يمكنهم أن يحصنوا به أموالهم، واحتاجوا أن يمشوا في طول(2/531)
الوادي.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف.
وكذلك إذا خاف الرجل من سبع، أو حية، ولم يمكنه منعه من نفسه، ولا التحصن عنه بشيء.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف؛ لأن الخوف موجود، ولا تلزمهم الإعادة.
وقال المزني: قياس قوله: أن تجب عليهم الإعادة؛ لأن العذر إذا لم يكن معتادًا أو نادرًا متصلًا.. لم تسقط عنه الإعادة، وهذا ليس بشيء؛ لأن كل جنس من الأعذار، إذا كان معتادًا.. فإن أنواع ذلك الجنس ملحقة به وإن كان ذلك النوع نادرًا لا يدوم، كالمرض، وذلك: أن المرض لما كان جنسه معتادًا.. كانت أنواعه ملحقة به وإن كان منها ما يندر، مثل: السل، والبواسير.. كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق
* * *(2/532)
[باب ما يكره لبسه]
يحرم على الرجل لبس الحرير، والديباج من غير ضرورة، ولا يحرم على النساء؛ لما روى علي، قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا، وفي يمينه قطعة حرير، وفي شماله قطعة ذهب، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» .
وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى حلة سيراء تباع على باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريناها لك لتلبسها للجمعة، وللوفد إذا قدم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا لباس من لا خلاق له في الآخرة»
ويحرم الجلوس والنوم عليه، والتغطي به.
وقال أبو حنيفة: (لا يحرم عليه غير اللبس) .
دليلنا: حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يفرق فيه بين اللبس، وغيره من الاستعمالات.
ولأن السرف في ذلك أعظم من اللبس.
وهلي يحرم ذلك على الصبيان؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه لا يحرم عليهم؛ لأنهم غير مكلفين.
والثاني: يحرم عليهم، كما يحرم على البالغين.(2/533)
والثالث: إن كان له دون سبع سنين.. لم يحرم، وإن كان له سبع فما زاد.. حرم.
قال القاضي أبو الفتوح: يحرم على الخنثى لبس الحرير؛ لاحتمال كونه رجلًا.
هذا الكلام إذا كان جميع الثوب، أو أكثره من الحرير، فأما إذا كان الأقل من الثوب من الحرير، كالعلم والسدى والجيب والكفة.. فلا يحرم؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم والسدى: فلا بأس به» .
وروي عن علي: أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير، إلا في موضع أصبع، أو أصبعين أو ثلاث، أو أربع» . ولا يعرف لهما مخالف.
وروي عن مولى لأسماء: أنه قال: «اشترى ابن عمر ثوبًا شاميًّا، فرأى فيه خيطًا أحمر، فرده، فأخبرت بذلك أسماء، فقالت: يا جارية، ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخرجت جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج» .(2/534)
فإن كان نصف الثوب إبريسم، ونصفه من القطن أو الكتان.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يحرم لأنه ليس الغالب فيه حلال.
والثاني: لا يحرم؛ لأنه ليس الأغلب منه المحرم.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يكون في غير حال الحرب، فأما إذا فاجأته الحرب، ولم يجد ما يحصنه عن السلاح إلا الديباج.. فالمستحب له أن يتوقى لبسه.
فإن لبسه.. جاز. قلت: لأنه يتوقى به، ويستعين به في الحرب.
وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما» .
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " وجهًا آخر: أنه لا يجوز، والأول هو المشهور.
فإن كانت له جبة قطن محشوة بالإبريسم، أو لبس الحرير باطنًا.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
ويحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي والمزعفر» .
وأما الثياب النجسة: فلا يحرم لبسها إلا في الصلاة.(2/535)
[مسألة حرمة الذهب على الرجال]
] : ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب» .
والخاتم في حد القلة، ويفارق الحرير، حيث قلنا: لم يحرم القليل منه في الثوب؛ لأن السرف في قليل الذهب ظاهر، والسرف في قليل الحرير غير ظاهر.
وأما القسي: قال أبو عبيد: فإن أصحاب الحديث يقولون (القسي) : بكسر القاف، وأهل مصر يقولون: (القسي) : بفتح القاف، منسوبة إلى بلد يقال لها: (القس) ، وهي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير.
ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان له خاتم من فضة فصها منها، وكان يجعل فصها إلى راحته» .
ويكره أن يتخذ خاتمًا من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار"، ثم جاءه الرجل وعليه خاتم من صفر، فقال: "ما لي أجد منك ريح(2/536)
الأصنام"، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة"، فقلت: من أي شيء أتخذه؟ فقال: "من ورق، ولا تتمه مثقالًا» .
وقد ورد الخبر بالتختم باليمين واليسار، وهو في اليسار أظهر.
[فرع مزج الذهب بغيره]
فإن كان الذهب مختلطًا بغيره.. نظرت: فإن كان الذهب ظاهرًا.. حرم استعماله؛ لأن السرف فيه ظاهر، وإن كان غير ظاهر.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا صدئ الذهب، أو ذهب بالوسخ.. جاز لبسه؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
وقال القاضي أبو الطيب: يقال: إن الذهب لا يصدأ، فإن احتاج إلى لبس درع منسوج بذهب، أو بيضة مطلية بذهب، وفاجأته الحرب، فإن وجد ما يقوم مقامهما.. لم يجز لبسهما، وإن لم يجد ما يقوم مقامهما.. جاز لبسهما؛ لأنه موضع ضرورة.
[فرع لبس اللؤلؤ]
قال الشافعي: (ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء، لا للتحريم؛ لأنه لم يرد الشرع بتحريم لبسه) .(2/537)
قال صاحب: " الإبانة ": ويكره المشي في نعل واحدة، وخف واحد.
[مسألة استعمال الجلود المحرمة]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد، وأسد، وفيل، ونحو ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بعد الدباغ؛ لأنه جلد نجس.
قال: ومراد الشافعي: بعد الدباغ. وهذا ليس بشيء؛ لأن الشافعي علل: (لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) .
وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما: فلا يجوز استعماله بحال؛ لأن الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، والكلب لا ينتفع به إلا عند الحاجة إليه، وهو الحرث والماشية والصيد، وليس كذلك سائر الحيوانات، فإنه يجوز الانتفاع بها في حال الحياة بكل حال، فلذلك جاز بعد الموت.
وبالله التوفيق(2/538)
[باب صلاة الجمعة]
يقال: الجمعة: بضم الميم وسكونها، ويوم الجمعة: يوم فاضل، والدليل على فضله، قَوْله تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] [البروج: 3] .
قال الشافعي: (روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة» . فأقسم الله به، وهذا يدل على فضله) .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله تعالى آدم، وفيه أهبط، وفيه تاب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة، من حين يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس شفقًا من الساعة، إلا الثقلين الجن والإنس، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي، ويسأل الله تعالى فيها شيئًا، إلا أعطاه» .(2/539)
وقد اختلف الناس في هذه الساعة:
فقيل: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمعوا، وتذاكروا فيها، فتفرقوا، ولم يختلفوا: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.
وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس.
وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل: من زوال الشمس إلى أن يدخل الإمام في الصلاة.
وقيل: من خروج الإمام إلى أن تقضى الصلاة.
وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع ... أتى على تلك الساعة. يريد: أنه يدعو في كل جمعة في ساعة، حتى يأتي على جميع اليوم.
قال الشافعي: (والجمعة: هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وكانت العرب تسميه: العروبة، وفيه قال الشاعر:
نفسي الفداء لأقوام همو خلطوا ... يوم العروبة أزوادا بأزواد
فإن قيل: لم قال الشافعي: (هو بين الخميس والسبت) وليس بخفي هذا على أحد؟
قلنا: إنما أراد الشافعي: أن يبين هذا للعرب الذين كانوا يسمونها العروبة، وكانوا يعرفون الخميس والسبت، ولا يعرفون الجمعة، فبينها لهم بما يعرفونه.
[مسألة وجوب الجمعة]
والأصل في وجوب الجمعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.(2/540)
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة: 9] .
وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: أنه أمر بالسعي إليها، والأمر يقتضي الوجوب.
والثاني: أنه نهى عن البيع لأجلها، ولا يُنهى عن منافع إلا لواجب.
والثالث: أنه وبخ على تركها بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] [الجمعة: 11] .
ولا يوبخ إلا على ترك واجب.
وأما السنة: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة.. طبع الله على قلبه» .
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض» .
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو على المنبر -: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصلوا ما بينكم وبينه بكثرة(2/541)
ذكركم له، وكثرة الصدقة، تؤجروا، وترزقوا، واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا، في شهركم هذا، في ساعتكم هذه، فريضة مكتوبة، فمن تركها جاحدًا بها، واستخفافًا بحقها ... فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا صيام له، ألا ولا حج له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له» .
وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على وجوبها.
[مسألة فرضية الجمعة على كل مسلم]
] . الجمعة: فرض من فروض الأعيان، وغلط بعض أصحابنا على الشافعي: أنه قال: هي من فروض الكفاية؛ لأنه قال: (ومن وجبت عليه الجمعة ... وجبت عليه صلاة العيدين) . وهذا ليس بشيء، وإنما أراد الشافعي: أن المخاطب بالجمعة وجوبًا، مخاطب بالعيدين استحبابًا.
إذا ثبت هذا: فإن الجمعة لا تجب إلا على من وجدت فيه سبع شرائط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان.
ثلاثة من هذه الشروط شرط في الجمعة وفي غيرها من العبادات البدنية، مثل:(2/542)
الصلوات، والصيام، والحج، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل.
وأربعة منهن شرط في الجمعة وحدها، وهي: الذكورية، والحرية، والصحة، والاستيطان.
وشرطان من هذه السبعة شرط في الوجوب والإجزاء، وهما: الإسلام، والعقل.
وخمسة شروط في الوجوب دون الإجزاء: فلا تجب الجمعة على كافر في قول من قال من أصحابنا: إن الكفار غير مخاطبين في الشرعيات.
ولا تجب على صبي، ولا مجنون؛ لما ذكرناه في سائر الصلوات، وقد مضى ذكر ذلك في الصلاة.
ولا تجب الجمعة على المرأة؛ لما ذكرناه من حديث جابر، وروى أبو عمرو الشيباني، قال: رأيت ابن مسعود يُخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، يقول: (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن) .
قال في " الأم " [1/168] : (وأحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضورها، لأنها لا تُشتهى) .
ولا تجب الجمعة على الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرًا، فتجب، ويحتمل أن يكون امرأة، فلا تجب، وإذا احتمل الأمرين ... لا تجب عليه الجمعة بالشك.
[فرع وجوب الجمعة على المسافر]
] . ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري، والنخعي: إذا سمع النداء ... وجبت عليه.
دليلنا: حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر.(2/543)
ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها، فإن حضرها ... فهل يتعين عليه فعلها؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
والمذهب: أنها لا تتعين عليه، فإن نوى المسافر الإقامة في بلد أربعة أيام ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مقيم غير مستوطن، وهل تنعقد به؟ فيه وجهان، ويأتي بيانهما.
[فرع لا تجب الجمعة على ذي رق]
] : ولا تجب الجمعة على العبد والمكاتب، وقال داود: (تجب عليهما) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وقال الحسن، وقتادة: تجب على المكاتب، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة، دون من لم يؤد.
دليلنا: حديث جابر، ولأن العبد مشغول بخدمة سيده، وحكم المكاتب حكمه، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبيه درهم» .
فإن كان نصفه حرًا، ونصفه عبدًا، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، أو كان بينهما مهاياة، ولكن كان يوم الجمعة في حق السيد ... لم يجب عليه؛ لما ذكرناه فيمن جميعه عبد، ويستحب له أن يحضر إذا أذن له سيده؛ لتحصيل الفضيلة، ولكن لا تجب عليه؛ لأن الحقوق الشرعية تتعلق بخطاب الشرع، لا بإذن سيده.(2/544)
وإن كان يوم الجمعة في حق العبد ... ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] :
أحدهما: تجب عليه الجمعة؛ لأنه في حكم الحر في هذا اليوم، بدليل أن جميع كسبه له.
والثاني: لا تجب عليه؛ لأن فيه بعض الرق.
وقال أصحابنا العراقيون: لا تجب عليه من غير تفصيل.
[فرع لا تجب على المريض]
] : ولا تجب الجمعة على المريض؛ لحديث جابر، ولأنه يشق عليه القصد إلى الجمعة، فلم تجب عليه.
ولا تجب الجمعة على الأعمى، إذا لم يكن له قائد؛ لأنه يشق عليه ذلك، وحكى الشاشي: أن القاضي حسينا قال: تجب عليه إذا كان يحسن المشي بالعصا، ولعله أراد: إذا اعتاد المشي إلى موضع الجمعة وحده، وإن كان للأعمى قائد ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مع القائد كالبصير.
[فرع أعذار الجمعة]
] : والأعذار التي ذكرناها: أنها أعذار في ترك الجماعة، هي أعذار في ترك الجمعة، فلا تجب الجمعة على خائف على نفسه أو ماله، ولا على من في طريقه مطر، ولا على من له مريض يخاف ضياعه؛ لما ذكرناه في الجماعة، ولا تجب على من له قريب(2/545)
أو ذو ود يخاف موته؛ لما روي: (أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر يسعى إلى الجمعة فتركها) لأنه ابن عمه.
ومعنى قوله: (استصرخ) ، أي: استغيث عليه.
فإن حضر المريض الجامع، أو الأعمى الذي لا قائد له، أو من في طريقه مطر ... وجبت عليهم الجمعة؛ لأن المشقة قد زالت بالحضور.
فإن أحرم المسافر أو المريض بالجمعة، فأراد الانصراف عنها ... لم يكن لهما ذلك: لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.
وإن أحرمت المرأة أو العبد بالجمعة، فأراد الانصراف منها إلى الظهر ... فهل يجوز لهما ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يجوز لهما ذلك؛ لأنهما ليسا من أهل فرضها.
والثاني: لا يجوز لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.
[مسألة وجوب الجمعة على أهل المدن]
تجب الجمعة على أهل المصر، إذا وجدت فيهم الشرائط التي ذكرناها، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب أهل المدينة بوجوبها، ولم(2/546)
يفرق بين أن سمعوا النداء، أو لم يسمعوا؛ ولأن المصر الواحد كالدار الواحدة، بدليل: أن من سافر منه لا يقصر حتى يفارق جميعه.
وأما من كان من خارج المصر: فهم على ثلاثة أضرب:
[الأول] : قوم تجب عليهم الجمعة بأنفسهم.
و [الثاني] : قوم لا تجب عليهم بأنفسهم، ولكن تجب عليهم بغيرهم.
و [الثالث] : قوم لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم.
فأما الذين تجب عليهم بأنفسهم: فهم أهل القرية إذا كانوا أربعين رجلًا على الشروط التي ذكرناها، فتلزمهم إقامتها في موضعهم، سواء سمعوا نداء المصر، أو لم يسمعوا، فإن أقاموها في موضعهم لهذا ... فقد أحسنوا، وإن أتوا المصر، وصلوا الجمعة فيه
أجزأتهم، وقد أساءوا؛ لأن إقامة الجمعة في موضعين أفضل من إقامتها في موضع واحد، هذا هو المنصوص.
وقال الصيدلاني: لا يكونون مسيئين بذلك؛ لأن من الفقهاء من يقول: لا تنعقد الجمعة في القرية، وإنما تنعقد في البلد، فإذا دخلوا البلد، وصلوا فيه ... فقد خرجوا من الخلاف.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم، وتجب عليهم بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن أربعين، ويسكنون في موضع يسمعون النداء فيه من البلد الذي تقام فيه الجمعة.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة لا بأنفسهم ولا بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن الأربعين، ويسكنون في موضع لا يسمعون فيه النداء من البلد الذي تجب فيه الجمعة.
هذا مذهبنا، وبه قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب، وأحمد، وأبو ثور.
وذهبت طائفة إلى: أن الجمعة تجب على من يمكنه إتيان الجمعة، ويأوي بالليل إلى منزله. ذهب إليه ابن عمر، وأنس، وأبو هريرة.(2/547)
وقال عطاء: تجب الجمعة على من كان من المصر على عشرة أميال.
وقال الزهري: تجب على من كان من المصر على ستة أميال.
وقال ربيعة: على أربعة أميال.
وقال مالك والليث: (على ثلاثة أميال) .
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الجمعة على من كان خارج المصر، ولو كان بينه وبين المصر خطوة) .
وقال محمد: قلت لأبي حنيفة: تجب الجمعة على أهل ريادة بأهل الكوفة؟ فقال: (لا) . وبين ريادة وبين الكوفة نهر.
وعند أبي حنيفة: (أن الجمعة لا تجب على أهل القرى، وإن كان العدد فيهم موجودًا، وإنما تجب على أهل المصر) .
وحد المصر عنده: أن يكون هناك سلطان قاهر يستوفي الحقوق، ويقيم الحدود، أو خليفة من قبله، ويكون فيها سوق قائم، وجامع، ومنبر، ونهر جار.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
فأوجب السعي إلى الجمعة على المؤمنين، ولم يفرق بين أهل المصر، وأهل القرى، وأهل السواد، وظاهر أمره يقتضي وجوب السعي على من كان خارج المصر، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيده بمن سمع النداء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» ،(2/548)
وأراد به من كان خارج المصر؛ لأن أهل المصر تجب عليهم الجمعة، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، بالإجماع.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (أول جمعة بعد جمعة المدينة جمعت في قرية بالبحرين، يقال لها: جواثا) .
[فرع صفة نداء الجمعة]
إذا ثبت: أن الجمعة تجب على من كان خارج المصر، إذا سمعوا النداء من المصر:
قال الشافعي: (فصفة النداء الذي تجب به الجمعة على من سمعه: أن يكون المؤذن صيتًا، وتكون الرياح ساكنة، والأصوات هادئة، وكان من ليس بأصم مستمعًا - يعني: مصغيًا - غير لاه، ولا ساه) ، ومن أي موضع يُعتبر سماعه من المصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] :(2/549)
أحدهما - وهو الأصح -: أن الاعتبار أن يقف المؤذن في طرف البلدة إلى جانب القرية الخارجة عن البلد.
والثاني: يعتبر من وسط البلد. ولا يعتبر أن يعلو المؤذن على سور أو منارة؛ ليعلوا أعلى البناء؛ لأن الارتفاع ليس له حد، قال القاضي أبو الطيب: وسمعت شيوخنا يقولون: إلا بطبرستان؛ فإنها مبنية بين غياض وأشجار تمنع من بلوغ الصوت، فيعتبر أن يصعد على شيء يعلو على الغياض والأشجار.
فإن كان هناك قرية على جبل يسمعون النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة لعلوهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض ... لم يسمعوا، أو كانت هناك قرية في وهدة من الأرض، لا يسمعون النداء فيها من البلد لانخفاض قريتهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض.. لسمعوا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا تجب على من سمع؛ لعلو قريته، وتجب على من لم يسمع؛ لانخفاض قريته.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تجب الجمعة على من سمع لعلوه، ولا تجب(2/550)
على من لم يسمع لانخفاض قريته؛ لأنا نلحق النادر بالغالب العام.
قال ابن الصباغ: والذي قاله القاضي أبو الطيب أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه اعتبر أن يكون المؤذن صيتًا، والأصوات هادئة، والرياح ساكنة، فلم يعتبر حصول السماع مع عارض، وهو شدة الرياح، كذا ينبغي ألا يعتبر العلو والانخفاض، وإنما يعتبر الاستواء.
[مسألة اتفاق العيد والجمعة]
وإن اتفق العيد يوم الجمعة ... وجبت الجمعة على أهل المصر، ولا تسقط عنهم بفعل العيد، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال عطاء: يصلي العيد، ويترك الجمعة، ولا صلاة في هذا اليوم إلى العصر.
وقال أحمد: (يسقط عنه حضور الجمعة) .
وحكي عن عبد الله بن الزبير: أنه صلى العيد، وترك الجمعة، فعابه بعض بني أمية، فقال ابن الزبير: (هكذا كان يصنع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، فبلغ ابن عباس فعل ابن الزبير، وكان غائبًا في اليمن، فقال: (أصاب السنة) .
وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب في العيد، فقال: (أيها الناس، قد اجتمع(2/551)
عيدان في يوم، فمن شهد العيد ... فقد قضى الجمعة إن شاء الله) .
ودليلنا: ما ذكرناه من الظواهر في وجوب الجمعة، ولم يفرق فيها بين يوم العيد وغيره.
وأما أهل السواد - وهم من كان خارج المصر الذين يجب عليهم حضور الجمعة بسماع النداء من المصر إذا حضروا العيد، وراحوا -: فلا يجب عليهم حضور الجمعة في يومهم ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يسقط عنهم فرض الجمعة؛ لأن من لزمه فرض الجمعة في غير يوم العيد ... لزمه في يوم العيد، كأهل المصر.
والمنصوص هو الأول، والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة وابن عمر: أنهما قالا: «اجتمع عيدان على رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم واحد، فصلى العيد في أول النهار، وقال: "أيها الناس، إن هذا يوم اجتمع فيه عيدان لكم، فمن أحب أن يشهد معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أحب أن ينصرف
فليفعل» .
وأراد به أهل العالية والسوادات، بدليل ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه(2/552)
قال في خطبته: (أيها الناس، قد اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أراد أن ينصرف
فليفعل) .
ولأنهم إذا قعدوا في البلد بعد صلاة العيد إلى صلاة الجمعة ... فاتتهم لذة العيد، وإن راحوا بعد صلاة العيد إلى منازلهم، ثم رجعوا لصلاة الجمعة
كان عليهم مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة، بخلاف أهل المصر، فإن ذلك لا يوجد في حقهم.
[مسألة يسقط الظهر بالجمعة]
ومن لا جمعة عليه، كالمرأة والعبد والمسافر، إذا حضروا الجمعة، وصلوها ... سقط عنهم فرض الظهر؛ لأن الجمعة إنما سقطت عنهم لعذر، فإذا حملوا على أنفسهم، وصلوا الجمعة
أجزأتهم، كالمريض إذا صلى من قيام.
وإن صلوا الظهر ... أجزأتهم؛ لأنها فرضهم، فإن صلوا الجمعة بعد ذلك
سقط عنهم الفرض بالظهر، وكانت الجمعة نافلة.
وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال في القديم: (يحتسب الله له بأيتهما شاء) . والأول أصح.
وقال أبو حنيفة: (يبطل الظهر بالسعي إلى الجمعة) .
وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الظهر بالإحرام بالجمعة.
ودليلنا: أن صلاة الظهر قد صحت، فلا تبطل بالسعي ولا بالإحرام بالجمعة، كالمنفرد إذا صلى وحده، ثم صلى تلك الصلاة في جماعة.
والمستحب لأهل الأعذار: ألا يصلوا الظهر حتى يفوت وقت الجمعة، وفواتها برفع الإمام رأسه من الركوع في الثانية، وإنما استحببنا ذلك لمعنيين:(2/553)
أحدهما: أن الجمعة فرض الجماعة، والظهر فرض الخصوص، فاستحب تقديم فرض الجماعة.
والمعنى الثاني: أن فيهم من قد يزول عذره، فيكون فرضه الجمعة، وإن صلى المعذور الظهر، ثم زال عذره قبل صلاة الإمام الجمعة ... لم تجب عليه الجمعة.
وقال ابن حداد: إذا صلى الصبي الظهر، ثم بلغ قبل صلاة الإمام الجمعة ... وجبت عليه صلاة الجمعة؛ لأن ما صلى الصبي قبل البلوغ نفل، بخلاف غيره.
والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قد نص على: (أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ في آخره: أنه لا تجب عليه إعادتها) . فكذلك في يوم الجمعة.
وإن صلى الخنثى الظهر في أول الوقت، ثم بان أنه رجل قبل صلاة الإمام الجمعة ... لزمه أن يصلي الجمعة.
والفرق بينه وبين غيره من المعذورين: إذا تبين أنه كان رجلًا وقت الصلاة، بخلاف غيره من المعذورين.
وتستحب الجماعة للمعذورين في الظهر يوم الجمعة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهم الجماعة) .
دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الجماعة، ولم يفرق بين صلاة الظهر يوم الجمعة وبين غيرها.
قال الشافعي: (وأحب لهم إخفاء جماعتهم، لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام) .(2/554)
قال أصحابنا: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فأما إذا كان جليًّا: لم يستحب لهم إخفاء الجماعة؛ لأن التهمة منتفية عنهم.
وأما من كان من أهل فرض الجمعة: إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة ... ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح ظهره، ويجب عليه السعي إلى الجمعة، فإذا صلى الجمعة
احتسب الله تعالى بأيتهما شاء، فإن فاتته الجمعة ... أجزأته الظهر التي صلاها) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح ظهره، وتلزمه الجمعة، فإن لم يصلها حتى فاتت ... وجب عليه إعادة الظهر) . وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وزفر.
وقال أبو حنيفة: (يصح ظهره قبل فوات الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة، فإذا سعى إليها ... بطل الظهر، وإن لم يسع
أجزأته الظهر) .
وقال أبو يوسف ومحمد: يصح الظهر، ويبطل بالإحرام بالجمعة.
وأصل القولين عندنا: ما المخاطب به يوم الجمعة؟ وفيه قولان.
[الأول] : قال في القديم: (المخاطب به هو الظهر، ولكن كلفوا إسقاطها بالجمعة) . ووجهه: أنه لا خلاف أن الجمعة إذا فاتت ... فإنه يقضي الظهر أربعًا، فثبت أنها هي الواجبة، إذ لو كانت الجمعة هي الواجبة
لوجب قضاؤها.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر) . وهو الصحيح، ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] ، فأوجب السعي إلى الجمعة، فعلم: أن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر، ولما ذكرناه من حديث جابر؛ ولأنه مأمور بفعل الجمعة، معاقب على تركها، منهي عن فعل الظهر، فوجب أن يكون فرضه ما أمر بفعله، دون ما نهي عن فعله، كسائر الأوقات.(2/555)
وأما القضاء: فقد قال أبو إسحاق: إذا فاتته الجمعة ... فإنه يقضيها، ولكن يقضي أربعًا؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، فلما فاتت الجمعة
قضى أربعا. هذا قول عامة أصحابنا. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا الظهر ... أثموا بترك الجمعة، وتجزئهم الظهر؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة. والصحيح: أنها لا تجزئهم على قوله الجديد؛ لما ذكرناه فيه.
[مسألة السفر يوم الجمعة]
ومن وجبت عليه صلاة الجمعة، وأراد السفر، فإن كان يخاف فوت السفر؛ لذهاب القافلة ولا يمكنه المشي وحده ... جاز له السفر، وترك الجمعة، سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لأن عليه مشقة في ذلك، والجمعة تسقط بالمشقة.
وإن كان لا يخاف فوت السفر، فإن أراد السفر بعد الزوال إلى بلد لا تقام فيه الجمعة ... لم يجز.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
وقال أحمد: (إن كان إلى سفر الجهاد ... جاز) .
دليلنا: أن الصلاة قد وجبت عليه، فلا يجوز تفويتها بالسفر، كالتجارة.
وإن أراد السفر بعد طلوع الفجر الثاني، وقبل الزوال ... ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال عمر، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه.
ووجهه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وكان فيهم عبد الله بن(2/556)
رواحة، فرآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فقال: "ما الذي خلفك؟ ". فقال: الجمعة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لروحة في سبيل الله، أو غدوة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها»
والثاني: لا يجوز له السفر، وهو الأصح؛ لأن الجمعة واجبة، والتسبب إليها وهو السعي واجب، بدليل: أن الرجل إذا كان في طرف المصر، بحيث لا يمكنه الوصول إلى الجامع إلا بالسعي قبل الزوال ... لزمه ذلك، وإذا كان التسبب إليها واجبًا، كوجوب الجمعة
لم يجز له أن يسافر بعد وجوب السبب، كما لا يجوز له بعد وجوب الجمعة.
وأما الخبر: فيحتمل أن يكون أمره بالخروج قبل طلوع الفجر.
[مسألة البيع وقت الجمعة]
وأما البيع يوم الجمعة: فينظر فيه:
فإن كان قبل الزوال ... لم يكره، وإن زالت الشمس، ولم يظهر الإمام على المنبر
كره، ولا يحرم.
وقال الضحاك، وربيعة، وأحمد: (يحرم) .(2/557)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
فثبت: أن النهي عن البيع يتعلق بحال النداء.
وإن ظهر الإمام على المنبر، وأذن المؤذن ... حرم البيع؛ للآية.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يختص بأهل فرض الجمعة.
فأما إذا تبايع اثنان ليسا من أهل فرض الجمعة، كالمسافرين والعبدين والمرأتين ... لم يحرم عليهما.
وقال مالك: (يحرم عليهما) .
دليلنا: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة، ونهى عن البيع؛ لأجلها، فلما كان السعي إلى الجمعة لا يجب على هؤلاء ... ثبت أن النهي عن البيع لا يتوجه في حقهم.
فإن تبايع اثنان - بعد ظهور الإمام على المنبر، والأذان - أحدهما من أهل فرض الجمعة، والآخر ليس من أهل فرضها:
قال الشافعي: (أثما جميعًا) لأن من كان من أهل فرض الجمعة ... تناولته الآية، والآخر أعانه على المعصية، فكان عاصيًا بذلك.
وكان موضع يحرم فيه البيع إذا وقع البيع فيه ... صح البيع.
وقال مالك، وأحمد، وداود: (لا يصح) .
دليلنا: أن النهي لأجل الصلاة، وذلك لا يختص بالبيع، فلم يوجب فساده، كمن ترك الصلاة في وقتها، واشتغل عنها بالبيع، وكذلك: لو ذبح بسكين مغصوبة ... فإن الذكاة تصح، ولو ذبح بظفر أو عظم
لم تصح الذكاة؛ لاختصاص النهي بمعنى في المذبوح به.(2/558)
[مسألة لا تقام إلا في بناء]
ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة؛ لأنها لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أيام الخلفاء، إلا في أبنية.
قال الشافعي: (وسواء كانت أبنيتهم من حجارة، أو طين، أو خشب، أو شجر، أو جريد، أو سعف) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا أن أهل الخيام لا يجمعون؛ لأنه شرط البناء.
وقال في "البويطي": (ومن كان في بادية يبلغ عددهم أربعين رجلًا حرًا بالغًا، وكانت مظالهم بعضها إلى جنب بعض، وكانت وطنهم في الشتاء والصيف، لا يظعنون عنها إن قحطوا، ولا يرغبون عنها بخصب غيرها ... وجبت عليهم الجمعة) .
فالمسألة على قولين:
أحدهما: لا يجب على أهل الخيام؛ لعدم البناء؛ لأن الخيام بناء المستوفزين، لا بناء المستوطنين.
والثاني: تجب عليهم الجمعة؛ لأن ذلك موضع الاستيطان والمقام، فأشبه البناء.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (من شرط القرية أن تكون مجتمعة المنازل) .(2/559)
قال ابن الصباغ: فإن كانت متفرقة ... نظرت:
فإن كان بعضها بائنًا من بعض بحيث يقصر إذا أراد أن يسافر من بعضها، وإن لم يفارق الباقي ... فهذه متفرقة لا تجب عليهم الجمعة، وهذا ثبت من قوله: إن الأزقة والسكك بين الدور لا تكون فاصلة بينها؛ لأن أصحابنا ذكروا: أنه لا يجوز القصر لمن يسافر من بغداد، حتى يفارق نهر بغداد، وكذلك الرحبة تكون في القرية، فإن انهدمت القرية، وأقام أهلها فيها يصلحونها
فإنهم يصلون الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غير مظال؛ لأنهم في موضع استيطانهم.
وإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد، وأقاموا فيه الجمعة ... لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (تصح خارج المصر قريبًا منه، نحو الموضع الذي يصلى فيه العيد) .
وقال أبو ثور: (الجمعة كسائر الصلوات، إلا أن فيها خطبة، فحيثما أقيمت ... جاز) . واحتج: أن عمر كتب إلى أبي هريرة: (أن جمعوا حيث كنتم) .
ودليلنا على أبي حنيفة: أنه موضع يجوز أن يقصر فيه المسافر من أهل البلد ... فلم تجز إقامة الجمعة فيه، كالبعيد.
وعلى قول أبي ثور: أن قبائل العرب كانت حول المدينة، ولم ينقل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بإقامة الجمعة، ولا أقاموها، وأما حديث عمر: فمحمول على أنه أراد حيث كنتم، من بلد، أو قرية.(2/560)
[مسألة العدد للجمعة]
العدد شرط في الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد بواحد.
واختلف أهل العلم في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة.
فذهب الشافعي إلى: (أنها تنعقد بأربعين رجلًا، ولا تنعقد بأقل من ذلك) ، وهل يكون الإمام منهم، أو يشترط أن يكون زائدًا عليهم؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه منهم، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلًا.
وقال عكرمة: تنعقد بتسعةٍ.
وقال أبو حنيفة: (تنعقد بأربعة: إمام، وثلاثة مأمومين) .
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور إلى: (أنها تنعقد بثلاثة: إمام ومأمومَين) . وحكى صاحب " التلخيص ". وصاحب " الفروع ": أن ذلك قول للشافعي في القديم.
فمن أصحابنا من سلم له هذا النقل، وقال: الثلاثة جمع مطلق، فيكون على قولين.
وذهب عامة أصحابنا: إلى أن هذا لا يعرف للشافعي في قديم ولا جديد، ولعل(2/561)
ناقل هذا القول أخذه من أحد الأقوال في الانفضاض.
وقال الحسن بن صالح: تنعقد الجمعة بإمام ومأموم.
وقال مالك: (لا حد في ذلك، وإنما يعتبر عدد تتقرى بهم قرية، ويمكنهم المقام فيها، والبيع والشراء، فإذا كانت قرية، وفيها سوق ومسجد ... انعقدت بهم الجمعة) .
دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: (كنت قائد أبي بعد ما كف بصره، وكان إذا سمع نداء الجمعة، ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه عند نداء الجمعة؟ قال: نعم؛ لأنه أول من جمع بنا في بني بياضة، قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلا) .
ووجه الدلالة منه: أن الناس قد كانوا يسلمون في المدينة الثلاثة والأربعة والعشرة، ولم يقيموا الجمعة حتى تم عددهم أربعين، فدل على أنه لا تجوز إقامتها فيما دون ذلك.
وروي عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «مضت السنة: أن في كل أربعين فما(2/562)
فوقها جمعة وأضحى وفطرًا» . وقول الصحابي: (مضت السنة) بمنزلة الرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن الأربعة والثلاثة والتسعة والاثني عشر لا تُبنى لهم الأوطان غالبًا، فوجب ألا تنعقد بهم الجمعة، كالاثنين.
[فرع شرط عدد المجمعين]
ومن شرط العدد أن يكونوا رجالًا بالغين، عاقلين، مسلمين، أحرارًا، مستوطنين؛ لما مضى ذكره.
إذا ثبت هذا: فالناس في الجمعة على أربعة أضرب:
ضرب: تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، وتنعقد بهم.
وضرب: تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان.
فأما الذين تجب عليهم وتنعقد بهم: فهم أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها.(2/563)
وأما الذين لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم: فهم الصبيان، والخناثى، والنساء والمسافرون، والعبيد.
فلو اجتمع من أحدهم أربعون، وعقدوا الجمعة ... لم تصح منهم.
وإن اجتمع أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها، وصلوا الجمعة، وصلى هؤلاء معهم ... انعقدت لهم الجمعة تبعًا لغيرهم.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (إذا اجتمع المسافرون أو العبيد، وصلوا الجمعة بانفرادهم ... صحت لهم الجمعة) .
دليلنا: أنهم ليسوا من أهل فرض الجمعة ... فلم تنعقد بهم: بانفرادهم، كالنساء.
وأما الذين لا تجب عليهم، وتنعقد بهم: فهم المرضى، ومن في طريقه مطر، ومن يخاف حضور الجامع، فإن حضروا ... وجبت عليهم، وانعقدت بهم.
وأما الذين تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان:
فهم المقيمون في بلد على تنجز حاجة، مثل: المقيم على درس الفقه أو التجارة، بحيث لا يجوز له القصر.
قال أبو علي بن أبي هريرة: تنعقد بهم الجمعة؛ لأن كل من وجبت عليه الجمعة ... تنعقد به، كالمستوطن.
وقال أبو إسحاق: لا تنعقد بهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم؛ لأنها ليست بوطنٍ لهم.
[مسألة العدد شرط للخطبة]
العدد شرط في الخطبة.
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (لو خطب وحده، ثم حضر العدد، وصلى بهم الجمعة ... جاز) .(2/564)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
والذكر - هاهنا - هو الخطبة؛ ولأنه ذكر هو شرط في الصلاة، فكان من شرطه حضور الجماعة، كتكبيرة الإحرام.
إذا ثبت هذا: فإنما يشترط حضور العدد عند ذكر الواجبات من الخطبة على ما يأتي ذكره، دون ما سواها، فإن انفضوا عنه بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل أن يتطاول الفصل ... بنى الإمام على الخطبة، وأحرم بهم بالجمعة، وإن رجعوا بعد أن تطاول الفصل - وحده: ما يعرفه الناس تطاولًا - قال الشافعي: (أحببت أن يعيد الخطبة، ثم يصلي بهم الجمعة، فإن لم يفعل
صلى بهم الظهر) .
واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو العباس: تجب عليهم إعادة الخطبة والجمعة؛ لأن الوقت متسع لهما، وهم من أهل فرضها.
وقوله: (أحببت) لا يعرف للشافعي، وإنما هو: (أوجبت) ، فصحفه الناقل.
وأما قوله: (صلى بهم الظهر) أراد: إذا ضاق الوقت عن الخطبة والجمعة.
وقال أبو إسحاق: يستحب إعادة الخطبة، ولا تبطل بطول الفصل؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة أخرى، وأما الصلاة: فتجب عليهم الجمعة؛ لأنه ممكن من فعلها، فإن صلى بهم الظهر ... أساؤوا بذلك، وأجزأهم قولًا واحدًا، بخلاف من صلى الظهر في بيته، وهو من أهل الجمعة، فإن الإعادة تجب عليه في قوله الجديد؛ لأن الجمعة قد أقيمت بعد صلاته، وهاهنا لم تقم.(2/565)
ومن أصحابنا من قال بظاهر كلام الشافعي، وأنه يستحب إعادة الخطبة والجمعة؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة ثانية.
[فرع الانفضاض بعد الإحرام]
] : وإن أحرم الإمام بالجمعة، ثم انفضوا عنه ... ففيه ثلاثة أقوال منصوصة للشافعي: أحدها - وهو الصحيح -: (أنهم إذا انفضوا عن الأربعين في أثناء الصلاة
لم تصح الجمعة) ؛ لأن العدد شرط في ابتداء الصلاة، فكان شرطًا في استدامتها، كالوقت والاستيطان.
والثاني: (إن بقي معه اثنان ... أتم الجمعة) ؛ لأنهم يصيرون ثلاثة، وذلك أقل الجمع.
والثالث: (إن بقي معه واحد ... أتم الجمعة) ؛ لأن اثنين يحصل معهما فضل الجماعة.
وخرج المزني قولين آخرين:
أحدهما: أنهم إن انفضوا بعد أن صلى بهم ركعة ... أتمها جمعة، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة
أتمها ظهرًا، وهو قول مالك.
وإنما خرج المزني هذا من قول الشافعي: (إذا فرق الإمام الناس طائفتين في صلاة الخوف في البلد، فصلى بالطائفة الأولى ركعة من الجمعة، ثم قام في الثانية، ينتظر الثانية، فلما جاز أن يبقى وحده، ثم يتمها جمعة إذا جاءت الثانية ... كذا هذا مثله) .
والثاني: إذا انفضوا عنه بعد الإحرام. جاز أن يتمها جمعة وإن بقي وحده، وأخذ هذا من قول الشافعي: (إذا أحدث الإمام، وقلنا: لا يجوز الاستخلاف ... جاز لهم أن يتموها جمعة) ؛ لأن الشيء قد يكون شرطًا في الابتداء، ولا يكون شرطًا في الاستدامة، ألا ترى أن النية شرط في ابتداء الصلاة، دون استدامتها.
فمن أصحابنا من صوب المزني في هذا التخريج، فقال: في المسألة خمسة أقوال. ومنهم من خطأه في ذلك.(2/566)
[مسألة خطبتا الجمعة]
ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان، وهما واجبتان، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري: الخطبة مستحبة، وبه قال عبد الملك، وداود.
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل الجمعة إلا بخطبتين) وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما قصرت الصلاة؛ لأجل الخطبة) .
ولا تصح الخطبة والصلاة إلا بعد زوال الشمس.
وقال أحمد: (يجوز فعلها قبل الزوال) . واختلف أصحابه في وقتها: فمنهم من قال: أول وقتها وقت صلاة العيد.
ومنهم من قال: يجوز فعلها في الساعة السادسة.
وقال مالك: (يجوز فعل الخطبة قبل الزوال، وأما صلاة الجمعة: فلا تجوز له قبل الزوال) .(2/567)
دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة بعد الزوال» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولأنهما فرضا وقت، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر والسفر.
فإن دخل في الجمعة في وقتها، ثم خرج الوقت وهو فيها ... لم تبطل الصلاة، بل يتمها ظهرًا، ولا يحتاج إلى تجديد نية.
قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: يحتاج إلى تجديد النية بعد خروج الوقت.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الوقت وهو فيها ... بطلت صلاته) .
وحكاه السنجي وجهًا آخر لبعض أصحابنا، وليس بمشهور.
وقال عطاء، ومالك، وأحمد: (يتمها جمعة) .
دليلنا على أبي حنيفة: أنهما صلاتا وقت، فجاز بناء إحداهما على الأخرى، كصلاة الحضر على صلاة السفر.(2/568)
وعلى من قال: يتمها جمعة: أن من كان شرطًا في ابتداء صلاة الجمعة ... كان شرطًا في استدامتها، كسائر الشروط.
وإن أحرم بالجمعة، وشك وهو فيها، هل خرج وقتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاء الوقت.
والثاني: يتمها ظهرًا؛ لأن الأصل الظهر، وإنما جوز فعل الجمعة بشروط، فلا يجوز أن يفعلها حتى تتحقق الشروط.
وإن خرج من الصلاة، ثم شك، هل خرج الوقت وهو فيها؟ لم تجب عليه إعادتها؛ لأن الظاهر أنه أداها على الصحة.
وأما المسبوق فيها بركعة: إذا قام ليأتي بها، ثم خرج الوقت ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\90] :
أحدهما: يتمها ظهرًا، كالإمام والجماعة.
والثاني: يتمها جمعة، لأن هذه الركعة تبتنى على جمعة قد تمت.
وإن تشاغلوا عن الجمعة، حتى ضاق الوقت ... قال الشافعي: (فإن علم الإمام أنه إذا خطب أقل خطبتين، وصلى أخف ركعتين، دخل وقت العصر قبل الفراغ منهما
صلوا الظهر؛ لأنه لا يمكنهم صلاة الجمعة، وإن علم أنه يفرغ منها قبل دخول وقت العصر ... صلاها جمعة.
[مسألة القيام في الخطبة]
] : القيام شرط في الخطبة، فإن خطب قاعدًا مع العجز ... أجزأه، فإن كان قادرًا
لم يصح.(2/569)
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (القيام ليس بشرط فيها بحال) .
دليلنا: ما روى جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله» .
وفي رواية عن جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الخطبتين، وهو قائم، فمن حدثك أنه كان يخطب قاعدًا ... فقد كذبك، فقد صليت خلفه أكثر من ألفي صلاة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن خطب الإمام قاعدًا، فإن علم المأمومون أنه عاجز عن القيام، أو أخبرهم: أنه عاجز ... صحت صلاتهم؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا من جهته، وإن لم يعلموا بعجزه ولا أخبرهم
صحت صلاتهم؛ لأن الظاهر من حاله: أنه ترك القيام لعجزه.
فإن بان أنه كان قادرًا على القيام، فإن كان الإمام أحد الأربعين ... لم تصح الجمعة، لا له، ولا لهم، وإن كان زائدًا على الأربعين
صحت الجمعة لهم دونه، كما قلنا فيمن صلى الجمعة خلف جنب.
ويفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما، فإن خطب قاعدًا عند العجز ... فصل بينهما بسكتةٍ، والجلسة واجبة.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (الجلسة بينهما مستحبة غير واجبةٍ) .(2/570)
دليلنا: حديث جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل بينهما بجلسة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وهل يشترط فيهما الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يشترط ذلك، وأنه مستحب) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يشترط فيه الطهارة، كالأذان.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يشترط ذلك) . وهو الأصح؛ لأنه ذكر شرط في الصلاة، فاشترطت فيه الطهارة، كتكبيرة الإحرام، وينبغي أن يكون ستر العورة فيهما شرطًا على هذين القولين.
[مسألة الألفاظ الواجبة في الخطبة]
وأما الألفاظ في الخطبتين: فاتفق أصحابنا على وجوب ثلاثة ألفاظ فيها: حمد الله، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى.
وأما القراءة: فالمشهور من مذهب الشافعي: أنها واجبة.
وحكى بعض أصحابنا قولًا آخر: أنها ليست بواجبة بواحدة منهما؛ لأن الشافعي قال في " الإملاء ": (فإن حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووعظ ... أجزأه، وقد ضيع حظ نفسه) . وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الشافعي قد نص على وجوبها في " الأم " [1/178] .(2/571)
ووجهه: حديث جابر بن سمرة.
فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في محلها:
فمنهم من قال: القراءة واجبة في كل واحدة من الخطبتين؛ لأن ما كان واجبًا في إحداهما، كان واجبًا فيهما، كسائر الألفاظ.
ومنهم من قال: تجب القراءة في إحدى الخطبتين لا بعينها؛ لأنه روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الخطبة» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة.
وحكى في " الإفصاح " وجهًا ثالثًا: أن القراءة لا تجزئ إلا في الأولى، وهذا ليس بمشهور.
وأما الدعاء: فمن أصحابنا من قال: يجب؛ لأن المزني ذكره في أقل ما يجزئ من الخطبة.
ومنهم من قال: هو مستحب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة، فلا يجب فيها، كالتسبيح، وأما الدعاء للسلطان: فلا يستحب؛ لما روي: أنه سُئل عطاء عن ذلك؟ فقال: إنه محدث، وإنما كانت الخطبة تذكيرًا.(2/572)
[فرع الخطبة بالعربية]
ويشترط أن يأتي بالخطبة بالعربية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن لم يوجد فيهم من يحسن الخطبة بالعربية ... احتمل أن تجزئهم الخطبة بالعجمية، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام.
ولفظ الوصية ليس بشرط في الخطبة، فلو قرأ آية فيها وصية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] [النساء:1] ... أجزأه؛ لأنها أبلغ من الوصية. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه أن يقول: الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله) .
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة.
وعن مالك روايتان:
إحداهما: (أن من سبح أو هلل ... أعاد ما لم يصل) .
والثانية: (لا يجزئه إلا ما سمته العرب خطبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] .
ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي في خطبته بجميع ما ذكرناه، وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يومًا، فقال: الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونستنصره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله ... فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله ... فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله
فقد غوى»(2/573)
قال الشافعي: وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب، فقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا، وكونوا من الله على حذر، ألا واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم - وفي رواية: على أموالكم - فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا ... يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا
يره»
وروي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الجمعة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى، ثم قال: إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، من ترك مالًا ... فلأهله، ومن ترك دينًا أوضياعًا
فإلي [وعلي] » وهذا يدل على وجوب الحمد والوصية.(2/574)
قال أبو عبيد الهروي في " الغريب ": «خير الهدي هدي محمد» ، أي: أحسن الطرائق، يقال: فلان حسن الهدي، أي: حسن المذاهب في الأمور كلها.
وقوله: " ضياعا " قال: فالضياع: العيال.
وقال القتيبي: وهو مصدر ضاع يضيع ضياعًا، أي: من ترك عيالًا عالة، فجاء بالمصدر نائبًا عن الاسم. كقوله: فمن مات وترك فقيرًا، أي: فقراء، فإذا كسرت الضاد ... فهو جمع: ضائع، مثل: جائع وجياع.
وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح:4] .
قال أهل التفسير: أي: لا أذكر إلا وتذكر معي.
وأما الدليل على وجوب القراءة: فحديث جابر بن سمرة، وروت أم هشام بنت حارثة، قالت: «حفظت سورة (ق) من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر» .(2/575)
[فرع يستحب في الخطبة]
ويستحب أن يرفع صوته بالخطبة؛ لحديث جابر، ولأن القصد بالخطبة الإعلام، فكان رفع الصوت أولى، فإن خطب سرًا بحيث يسمع نفسه لا غير ... ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي -: أنه يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، كما لو خطب بالعربية، وهم عجم لا يفقهونه، أو كما لو جهر بالخطبة، وهم صم لا يسمعونه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه أخل بالمقصود، فهو كما لو خطب في نفسه، أو كما لو كتبها في درج، وقرؤوها في أنفسهم، وفهموها، ويخالف إذا خطب بالعربية، وهم عجم أو صم؛ لأنه لم يفرط هناك، وهاهنا قد فرط.
[مسألة يسن للخطبة]
والسنة: أن يخطب على شيء مرتفع: إما منبرٍ، أو درجةٍ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل المدينة ... خطب مستندًا إلى جذع في المسجد، ثم صنع له المنبر، فصعده، وخطب عليه، فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد، فنزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه، وضمه حتى سكن» .
ولأنه أبلغ في الإعلام.
ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب، وهو الموضع الذي يكون على يمين الإمام، إذا توجه إلى القبلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع له منبره هكذا.
ويستحب للإمام إذا دخل المسجد أن يسلم على الناس عند دخوله، فإذا بلغ المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر، فإذا بلغ إلى الدرجة التي تلي الدرجة التي يستريح بالقعود عليها
التفت إلى الناس، وسلم عليهم.(2/576)
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره هذا السلام) ؛ لأنه قد سلم عليهم عند دخوله، فلا معنى لإعادته.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم على من عند منبره، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه ... سلم، ثم قعد» ، ولأن الإمام يستدبرهم إذا صعد، فاستحب له أن يسلم عليهم إذا أقبل؛ ولهذا روي: (أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا مروا في طريق يحول بين بعضهم وبعض شجرة
فيسلم بعضهم على بعض) .
فإذا فرغ الإمام من السلام ... جلس، وأذن المؤذن؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصنع ذلك) .
ولأنه قد يتعب في الصعود، فاستحب له الجلوس؛ لترجع إليه نفسه.
والمستحب: أن يكون المؤذن واحدًا، حكاه أبو علي في " الإفصاح "، والمحاملي، وغيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد، ثم يقوم؛ لما ذكرناه من حديث جابر.
ويستحب أن يعتمد على عنزة، أو قوس، أو سيف، أو عصى؛ لما روى(2/577)
الحكم بن حزن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمد على قوس في خطبته» ، ولأنه أسكن لجأشه.
قال الشافعي: (فإن لم يكن معه شيء ... سكن نفسه: إما بأن يضع يمينه على شماله، أو بأن يرسل يديه ساكنتين، ويخطب خطبتين على ما مضى) .
ويستحب أن يكون كلامه مسترسلًا معربًا بلا تمطيط ولا مد، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه؛ لأن القصد بالخطبة الموعظة، ولا يحصل إلا بما ذكرناه.
ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه في جميع الخطبة، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.
وقال أبو حنيفة: (يلتفت يمينًا وشمالًا، كالمؤذن) .
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطبنا ... استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه» . ولا يلتفت، ويفارق الأذان؛ فإن المقصود منه(2/578)
الإعلام، وذلك يحصل بكلمة، وهاهنا: المقصود السماع، فإذا التفت إلى يمينه ... فوت على بعض الناس السماع، فكان أولى الجهات قصد وجهه، فإن خالف، وخطب مستقبل القبلة، مستدبر الناس
صح، ولكنه قد خالف السنة.
وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجزئه، وليس بصحيح.
[فرع إن استغلق الكلام]
وإن ارتج على الإمام ... فقد قال الشافعي في موضع: (ولا يلقن) ، وقال في موضع: (يلقن) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (لا يلقن) أراد: إذا رجى أن يفتح عليه، مثل: أن كان يردد الكلام في نفسه، والذي قال: (يلقن) أراد: إذا لم يرج انفتاحه.
والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة في الصلاة، فنسى آية، فلما فرغ ... قال: "أليس فيكم أُبي؟ "، فقالوا: بلى، يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا رددت علي؟ "، فقال أُبي: ما كان الله ليراني وأنا أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .(2/579)
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام ... فأطعموه) ، يعني: الفتح عليه.
ويستحب أن يقصر الخطبة، قال الشافعي في القديم: (يخطب بقدر أقل سورة) ، ولم يعين، وقد بينه في " الأم " [1/187] ، فقال: (أن يأتي بالألفاظ الواجبة التي ذكرناها) .
والأصل في ذلك ... ما روي: أن عبد الله بن مسعود خطب، وأوجز، فقيل له: لو تنفست في خطبتك، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قصر الخطبة، وتطويل الصلاة، مئنة من فقه الرجل، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة» .
قوله: " مئنة "، أي: مادة وقوة ودليل على فضل وكثرة علم.
[فرع شرب الماء حال الخطبة]
يجوز شرب الماء في حال الخطبة للعطش أو للتبرد.
وقال مالك، وأحمد، والأوزاعي: (لا يجوز) .
قال الأوزاعي: (فإن فعل ذلك ... بطلت جمعته) .
دليلنا: أن الكلام إذا لم يبطلها، فشرب الماء أولى.
قال الشافعي: (فإن قرأ آية فيها سجدة، فنزل، وسجد ... لم يكن به بأس) ؛ لما روي: (أن عمر فعل ذلك) .(2/580)
فإن تركها ... كان أولى؛ لما روي: أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس، على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا) ، ولم يسجد.
فإن نزل، وسجد، وطال الفصل ... فهل يبني، أو يستأنف؟ فيه قولان:
قال في القديم ... (يبني) ، وقال في الجديد: (يستأنف) .
[مسألة ركعتا الجمعة]
] : وإذا فرغ من الخطبة ... نزل وصلى الجمعة ركعتين، وهو نقل الخلف، عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن نوى أن يصليها ظهرًا مقصورة ... قال في " الفروع ": فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الواجب يوم الجمعة.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (الجمعة) ، وفي الثانية بعد الفاتحة سورة (المنافقون) .
قال الشافعي: (فإن قرأ في الأولى سورة (المنافقون) ... قرأ في الثانية سورة (الجمعة) ، حتى لا تخلو الصلاة من هاتين السورتين) .
وقال مالك: (يقرأ في الأولى سورة (الجمعة) ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] [الغاشية:1] .
وقال أبو حنيفة: (لا تتعين القراءة المستحبة فيهما، وهما وغيرهما في الفضل سواء) .(2/581)
دليلنا: ما روي عن عبيد الله بن أبي رافع: أنه قال: «قرأ أبو هريرة في صلاة الجمعة سورة (الجمعة) و (المنافقون) ، فقلت له: قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما، فقال أبو هريرة: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأهما في صلاة الجمعة» .
ولأن في الأولى ذكر الجمعة، وفي الثانية ذم المنافقين، وهذا أليق بالموضع، فإن قرأ غيرهما من السور ... جاز؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الجمعة في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » .
ويستحب أن يجهر بالقراءة فيهما؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، وأما ما روي: (أن صلاة النهار عجماء) : فإنما روي ذلك عن بعض التابعين، وإن صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فإنه أراد: أكثر صلاة النهار عجماء، بدليل: أن صلاة الصبح يجهر بها، وهي من صلاة النهار.
وبالله التوفيق(2/582)
[باب هيئة الجمعة والتبكير]
والغُسل للجمعة سنة، وليس بواجب، وبه قال عامة أهل العلم، وقال الحسن البصري، وداود، وأهل الظاهر: (هو واجب) .
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل
فالغُسل أفضل» : فجعل غُسل يوم الجمعة فضيلة، فدل على أنه لا يجب.
فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فبها ونعمت» : قال ابن الصباغ: معناه: فبالفريضة أخذ، ونعمت الخلة الفريضة.
وحكى أبو عبيد الهروي، عن الأصمعي: أنه قال: فبالسنة أخذ. وقال بعضهم: فبالرخصة أخذ.
ومما يدل على ما ذهبنا إليه: ما روي: «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب على المنبر، فقال أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق، فلم أشعر إلا أن سمعت النداء، فما زدت على أن توضأت وجئت، فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! وقد علمت: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا بالغسل» . فأقره عمر على ترك الغسل بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو كان واجبًا ... لم يجز تركه.(2/583)
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» : فأراد: وجوب اختيار، لا وجوب إلزام، بدليل ما ذكرناه.
وهل يسن غُسل الجمعة لليوم، أو للصلاة؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه يسن للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم إلى الجمعة ... فليغتسل» .
فعلى هذا: لا يسن لمن لا يأتي الجمعة.
والثاني: يسن لليوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» .
فعلقه على اليوم.
فعلى هذا: يسن لمن يحضر الصلاة، ولمن لا يحضرها.
فإن اغتسل للجمعة قبل الفجر ... لم يجزئه، وقال الأوزاعي: (يجزئه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . فعلقه على اليوم.
وإن اغتسل بعد طلوع الفجر، وراح إلى الجمعة عقيبه ... فقد أتى بالأفضل، وإن لم يرح عقيبه
أجزأه عندنا.(2/584)
وقال مالك: (لا يجزئه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل
فالغُسل أفضل» . ولم يفرق بين أن يروح عقيبه، أو لا يروح.
[مسألة الغسل من الجنابة يوم الجمعة]
] : وإن كان جُنبًا يوم الجمعة، فاغتسل غُسلين: غسلًا عن الجنابة، وغسلًا عن الجمعة ... فقد أتى بالأفضل، وإن اغتسل غسلًا واحدًا، ونواه عنهما
أجزأه.
وقال مالك: (لا يجزئه) .
دليلنا: ما روى نافع: (أن ابن عمر كان يغتسل يوم الجمعة غُسلًا واحدًا عن الجنابة والجمعة) ، ولأنهما غسلان ترادفا، فأجزأه عنهما غسل واحد، كما لو كان على المرأة غسل جنابة، وغسل حيض.
وإن اغتسل عن الجنابة، ولم ينو الجمعة ... أجزأه عن الجنابة، وهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينوها.
والثاني: يجزئه؛ لأن القصد بالغسل عن الجمعة التنظيف، وقد حصل.
وإن اغتسل، أو نوى الغسل عن الجمعة، ولم ينو عن الجنابة ... فهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه عن الجمعة؛ لأنه قد نواها، ثم يجب عليه أن يغتسل عن الجنابة.(2/585)
والثاني: لا يجزئه عن الجمعة؛ لأن المقصود من غُسل الجمعة التنظيف، ولا تنظيف مع بقاء الجنابة.
قال في " الإبانة " [ق\29] : إذا اغتسل بنية الجمعة، وكان يوم عيد ... فقد حصل له غسل الجمعة والعيد، وإن اغتسل بنية العيد
حصل له غُسل العيد والجمعة؛ لأنهما غُسلا نفل، فتداخلا، بخلاف غسل الجمعة والجنابة.
[فرع يستحب مع غسل الجمعة]
ويستحب له مع الغُسل يوم الجمعة أن يفعل ستة أشياء: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، والسواك، وقطع الروائح الكريهة، ولبس أحسن ثيابه، والتطيب؛ لما روى أبو سعيد، وأبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة، واستن، واستاك، ولبس أحسن ما يجد من الثياب، وخرج، ولم يتخط رقاب الناس، وركع ما شاء الله له أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام ... كانت كفارة ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة التي قبلها". قال أبو هريرة: (وزيادة ثلاثة أيام؛ قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » [الأنعام:160] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم الجمعة: "يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب ... فلا يضره أن يمسه» .(2/586)
قال الشافعي: (ويستحب ذلك للعبيد والصبيان إذا أرادوا حضور الجمعة) .
ويستحب للنساء التنظيف بالغسل والسواك، ويكره لهن لبس الشهرة من الثياب، والطيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى الافتتان بهن.
ويستحب له أن يلبس من الثياب البيض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض؛ فإنها خير ثيابكم» .
ولأن البياض كان أكثر لبس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و: «كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، ولم ينقل: أنه لبس السواد إلا يوم فتح مكة، فـ: «إنه دخل وعلى رأسه عمامة سوداء» .(2/587)
فإن لم يجد البياض ... قال الشافعي: (فعصب اليمن، وهي هذه الأبراد المخططة التي يصبغ غزلها، ثم ينسج) .
و (الغزل) : العصب، و (الغزال) : هو العصاب الذي يبيع الغزل.
ولا يستحب لبس ما صبغ ثوبه، قال الشيخ أبو حامد: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلبسها.
ويستحب له أن يرتدي بُردًا، ويعتم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي كرَّم الله وجهه: «العمائم تيجان العرب» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة تكتب أصحاب العمائم يوم الجمعة» .
ويستحب للإمام من ذلك أكثر مما يستحب لغيره؛ لأنه يقتدى به.
[مسألة التبكير للجمعة]
ويستحب التبكير إلى الجمعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى ... فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة ... فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة
فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في(2/588)
الساعة الخامسة ... فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام
حضرت الملائكة يستمعون الذكر» .
قال الشيخ أبو حامد: يعني: الصحف التي يكتب فيها فضل التبكير.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم الجمعة ... كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، الأول فالأول، فإذا خرج الإمام
طويت الصحف» ، ومن أين تعتبر هذه الساعات؟ فيه وجهان:
أحدهما: من طلوع الشمس؛ لأن الساعة لا تعلم إلا بعد طلوع الشمس، فأما قبله: فلا.
والثاني: وهو ظاهر قول الشافعي: أنها تعتبر من طلوع الفجر؛ لأنه أول اليوم، وبه يتعلق جواز الغسل، هذا نقل الشيخ أبي حامد وأصحابنا البغداديين.
وقال القفال: ليس المراد هاهنا بالساعات: أعداد ساعات اليوم والليلة التي هي أربع وعشرون ساعة في الليلة واليوم، حتى إن اثنين إذا أتيا على التعاقب في ساعة واحدة، استويا في الأجر.
وإنما معنى الخبر: أن من كان أسبق الاثنين رواحًا ... فهو أعظم أجرًا وإن كان بينهما لحظة، وهو عبارة عن ترتيب المجيء، لا غير.(2/589)
قال الشافعي: (فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . فأمر الله بالسعي بعد النداء، وهو بعد الزوال ... فكيف استحببتم السعي قبل الزوال؟ -قال - فالجواب: أن السعي المأمور به بعد الزوال واجب، وذلك لا يمنع استحباب السعي قبل الزوال) .
والمستحب: أن يمشي إلى الجمعة على سجية مشيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة ... فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» .
ولا يركب من غير عذر؛ لما روى أوس بن أوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع، ولم يلغ ... كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» .
وقوله: (غسل) فيه ثلاث روايات: غسل - بالتخفيف - وروي: غسل - بالتشديد - وروي: عسل - بالعين غير معجمة منقوطة - فمن روى بالتخفيف ... فأراد: توضأ واغتسل، ومن روى بالتشديد
فأراد: جامع أهله، فاغتسل وغسل غيره، وكذا من روى بالعين ... أي: ذاق العُسيلة - وهو الجماع - واغتسل.
وقوله: "بكر"، أي: خرج في الساعة الأولى، وفي "ابتكر" تأويلان: أحدهما: أنه أراد: حضور أول الخطبة، مشتق من: باكورة الثمرة، وهو أولها.
والثاني: أنه أراد: فَعل فِعل المبتكرين، من الصلاة، والقراءة، والطاعة.(2/590)
فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له أن يركب؛ لأنه إذا لم يكره له ترك القيام في الصلاة للعجز
فلأن لا يكره ترك المندوب إليه مع العجز أولى.
قال المزني: ومن بلغ باب المسجد ... فالمستحب: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وألحح من طلب إليك.
[مسألة تخطي الرقاب يوم الجمعة]
] : قال الشافعي: (وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإمام، وبعده، إلا أن يكون إمامًا، فلا يكره؛ لحديث أبي سعيد، وأبي هريرة) .
وحكى الطبري: أن القفال قال: إذا كان الرجل محتشمًا أو مخوفًا ... لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة في الجامع؛ لما ذكرناه من حديث عثمان حين جاء وعمر يخطب، ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيء به حين مرض يهادى بين رجلين، حتى دخل المحراب» .
فإن ازدحم الناس، وكان هناك فرجة، فإن علم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، تقدموا إليها ... لم يتخط؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
وإن كان يعلم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة لا يتقدمون إليها ... جاز له أن يتخطى إليها؛ لأن به حاجة إلى ذلك، وهكذا: إذا علم أنهم يقومون إليها وإنما يتخطى إليها رجلًا أو رجلين
جاز له ذلك؛ لأنه يسير.(2/591)
[فرع اتخاذ موضع لسماع الخطبة]
قال الشافعي: (ولا أكره للرجل يوم الجمعة أن يوجه من يأخذ له موضعه، فإذا جاءه الآمر ... تنحى له) ؛ لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة، ليجلس فيه، فإذا جاءه محمد
قام الغلام، وجلس فيه محمد.
فإن جلس رجل في موضع ... فلا يجوز لغيره أن يقيمه منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن يقول: تفسحوا، أو توسعوا» .
فإن قام الجالس، وأجلس غيره مكانه ... لم يكره له أن يجلس فيه.
وأما القائم منه: فإن تقدم منه إلى موضع أقرب إلى الإمام ... لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام
كره له؛ لأنه آثر غيره بالقربة.
فإن وجد ثوبًا مفروشًا لرجل في المسجد ... لم يجز له أن يجلس عليه؛ لأنه لا يجوز له أن يرتفق بمال غيره بغير إذنه من غير ضرورة، ولا يدفعه؛ لئلا يلزمه ضمانه.
قال الطبري: ولكن يُنحيه، كما نقول في المصلي إذا كان بين يديه كمشك في أسفله نجاسة، وهو في الصلاة: إن نحاه من غير أن يدفعه ... لم يضره، وإن دفعه بطلت صلاته.(2/592)
ويستحب له إذا نعس ووجد موضعًا لا يتخطى إليه أحد أن يقوم إليه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نعس أحدكم في مجلسه ... فليتحول إلى غيره» . ولا يشبك بين أصابعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إليها» ، وهذا مكروه في الصلاة، فكره لمن ينتظرها.
[مسألة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة]
والمستحب له: أن يقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها ... وقي فتنة الدجال» .(2/593)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ... غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة» .
والمستحب: أن يكثر من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإني أبلغ، وأسمع» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أقربكم إلي في الجنة أكثركم صلاة علي، فأكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر» . قال الشافعي: (يعني: يوم الجمعة وليلتها) .(2/594)
[فرع الاحتباء في الخطبة]
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ولا يكره الاحتباء في حال الخُطبة، وروي ذلك عن ابن عمر.
قال بعض أصحاب الحديث: يُكره، وروى فيه حديثًا في إسناده مقال.
ودليلنا: أن ذلك لا يمنع من استماع الخطبة، فلم يكره، كالتربع.
قال الشيخ أبو نصر: وليس للشافعي نص فيما يصلى بعد الجمعة، والذي يجيء على المذهب: أنه يصلي بعدها ما يصلي بعد الظهر، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا؛ لأنه روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يصلي بعدها أربعًا) .
قلت: وكذلك يصلي قبلها ما يصلي قبل الظهر.
[مسألة التنفل قبل الخطبة]
ولا ينقطع التنفل، ولا الكلام قبل خروج الإمام بالإجماع، فإذا خرج الإمام ... لم(2/595)
ينقطع التنفل عندنا، حتى يجلس الإمام على المنبر، ولا ينقطع الكلام إلا بابتداء الإمام في الخطبة.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الإمام ... حرم الكلام والتنفل) .
دليلنا: ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك: أنه قال: (قعود الإمام على المنبر يقطع السبحة - يعني: النافلة - وكلامه يقطع الكلام) .
ولأن الصحابة كانوا يتحدثون وعمر على المنبر، فإذا ابتدأ الخطبة ... سكتوا.
فإن دخل رجل والإمام يخطب على المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، وبه قال الحسن، ومكحول، وأحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره) .
دليلنا: ما روى جابر، قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: "يا سليك، قم، فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب ... فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» .
وإن دخل والإمام في آخر الخطبة ... لم يصل التحية؛ لأنه يفوته أول الصلاة مع(2/596)
الإمام، وهو فرضٌ، ولأن تحية المسجد تحصل بصلاة الجمعة.
ويجوز الكلام إذا جلس الإمام بين الخطبتين، وإذا نزل من المنبر؛ لما روي في حديث ثعلبة بن أبي مالك: (أن الصحابة كانوا يتحدثون، إذا نزل عمر من المنبر) . ولأنه ليس بحال استماع.
وإذا بدأ الإمام الخطبة ... أنصتوا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أنصت إلى الإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته
كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» .
ولما ذكرناه من حديث أوس بن أوس.
وهل يجب الإنصات، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب، وبه قال عثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، واختيار ابن المنذر، ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب ... فقد لغوت» ، و (اللغو) :(2/597)
الإثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] [المؤمنون:3] .
وروى جابر: «أن ابن مسعود جلس إلى جنب أبي بن كعب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فكلمه، فلم يجبه، فظن أنه على موجدة، فلما فرغوا ... قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فلا جمعة لك، فأتى ابن مسعود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك؟ فقال: "صدق أُبي، وأطع أُبيًا» .
والثاني: أنه لا يجب، ولكن يستحب، وهو الصحيح، ووجهه: ما روي: «أن رجلًا دخل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: متى الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثالثة: "ما أعددت لها؟ "، فقال: حب الله وحب رسوله، فقال: "إنك مع من أحببت» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه قومًا ليقتلوا رجلًا من اليهود بخيبر، فقدموا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال لهم: "أفلحت الوجوه"، فقالوا، ووجهك يا رسول الله، فقال: "ما الذي صنعتم؟ "، فقالوا: قتلناه» .
وروي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم سُليكا الغطفاني وهو يخطب) .
ومن قال بهذا ... قال: (اللغو) : هو الكلام في الموضع الذي تركه فيه أدب.(2/598)
وعلى القولين جميعًا: إذا تكلم ... لم تبطل جمعته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن مسعود بإعادة الجمعة) .
إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون قريبًا من الإمام يسمع، أو كان بعيدًا لا يسمع، غير أن البعيد بالخيار: إن شاء ... أنصت، وإن شاء
ذكر الله تعالى؛ لما روي عن عثمان: أنه قال: (إذا خطب الإمام ... فأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل ما للسامع) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال في " الإبانة " [ق\92] : هل يقرأ البعيد القرآن؟ فيه وجهان.
هذا فيما لا فائدة فيه من الكلام.
فأما إذا علم إنسانًا شيئًا من الخير، أو نهاه عن المنكر، أو رأى أعمى يتردى في بئر، أو رأى عقربًا تدب إليه ... لم يحرم كلامه قولًا واحدًا.
وإن سلم رجل والإمام يخطب ... كره له ذلك، وهل يرد عليه، ويشمت العاطس؟ يبنى على القولين في الإنصات.
فإن قلنا: إنه مستحب ... رد السلام عليه، ولكن يرد السلام عليه واحد؛ لأن الرد فرض على الكفاية، وذلك يحصل بواحد، ويشمت العاطس واحد أيضًا.
وإن قلنا: إن الإنصات واجب، لم يرد السلام، ولم يشمت العاطس؛ لأن المسلم سلم في غير موضعه، فلم يرد عليه، وتشميت العاطس سنة، فلم يترك له الإنصات الواجب.
ومن أصحابنا من قال: يشمت العاطس ولا يرد السلام؛ لأن العاطس غير مفرط، والمسلم مفرط.
ومنهم من قال: يرد السلام ولا يشمت العاطس؛ لأن رد السلام واجب، وتشميت العاطس سنة.
والأول هو المنصوص.(2/599)
وإن سلم صبي في غير حال الخطبة ... فهل يجب الرد عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي، وكذلك إن رد عنهم صبي
فهل يسقط عنهم فرض الرد؟ فيه وجهان.
[فرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة]
إذا قرأ الإمام في الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] [الأحزاب:56] ... جاز للمستمع أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع بها صوته.
وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (يصلي عليه في نفسه، ولا يرفع صوته) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (السكوت أحب إلينا) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: أنه يستحب له أن يسأل الرحمة عند آية الرحمة، ويستعيذ من العذاب عند ذكره، فكذلك هذا مثله.
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس للشافعي نص في الإشارة إلى من يتكلم في حال الخطبة، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا بأس به.
ويكره الحصب بالحصا والإمام يخطب، وروي عن ابن عمر: (أنه كان يحصب من يتكلم بالحصا، وربما أشار إليه) .
وقال طاووس: تكره الإشارة إليه.
دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أشاروا إلى الرجل الذي سأل عن الساعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتهم.(2/600)
[مسألة المسبوق في الجمعة]
ومن دخل والإمام في صلاة الجمعة ... أحرم خلفه، فإن أدرك معه الركوع من الثانية
فقد أدرك معه الجمعة، فإذا سلم الإمام ... قام، وأضاف إليها ركعة، وسلم.
وإن أدركه بعد الركوع من الثانية ... فقد فاتته الجمعة، وما الذي ينوي؟ فيه وجهان:
أحدهما: ينوي الظهر؛ لأنها فرضه.
والثاني: ينوي الجمعة؛ لأن الإمام لم يسلم منها. هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وأنس، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأحمد.
وقال عمر بن الخطاب: (لا يكون مدركًا للجمعة، حتى يدرك الخطبة) . وبه قال عطاء، وطاووس، ومجاهد.
وقال أبو حنيفة: (إذا أحرم خلف الإمام في التشهد ... فإنه يكون مدركًا للجمعة، وكذا لو أحرم خلف الإمام في سجدتي السهو بعد السلام
فإنه يدرك الجمعة) .(2/601)
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليصل إليها أخرى» . منطوقه: دليل على عمر، ودليل خطابه: دليل على أبي حنيفة.
وقد روي في رواية أخرى، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فقد أدركها، ومن أدرك دون الركعة
صلاها ظهرًا أربعًا» . فيكون نطق هذا الخبر دليلًا على إبطال قول غيرنا فيها.
[فرع أدرك ركعة ونسي سجدة]
إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فلما جلس للتشهد مع الإمام ... ذكر المأموم أنه ترك سجدة
فإنه يسجد، ويتابع الإمام في التشهد، فإذا سلم الإمام ... أتى بركعةٍ، ويكون مدركًا للجمعة في أصح الوجهين؛ لأنه أتى بالركعة مع الإمام، إلا أنه أتى بسجدة في حكم متابعته، فلم يمنع من إدراكها.
وإن ذكر بعدما سلم الإمام أنه ترك سجدة ... أتى بها، وأتمها ظهرًا؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة.
وإن أدرك مع الإمام ركعة، فلما سلم الإمام ... قام المأموم، فأتى بركعته، ثم ذكر أنه نسي سجدة، ولم يدر من أي الركعتين تركها
فإنه يبني عل أشد الأمرين،(2/602)
وأنه تركها من الركعة التي أدرك مع الإمام، فيتم الأولى بالثانية، ثم يقوم، ويأتي بثلاث ركعات. نص عليه الشافعي.
قال ابن الحداد: وإن صلى الإمام الجمعة ثلاث ركعات ساهيًا، فدخل مأموم معه، وأدركه في الثالثة، ولم يعلم أنها ثالثة، فصلاها معه ... لم يكن مدركًا للجمعة؛ لأن هذه الركعة ليست من صلب صلاة الإمام، فيقوم المأموم، ويأتي بثلاث ركعاتٍ.
فإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة، ولا يعلم موضعها من الثلاث ... فإن صلاة الإمام قد تمت، وأما المدرك له في الثالثة: فلا يدرك الجمعة؛ لجواز أن يكون قد ترك الإمام السجدة من الثانية، فتمت بالثالثة.
وإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة من الأولى ... فإن المدرك له في الثالثة قد أدرك ركعة من الجمعة؛ لأن الأولى للإمام تتم بالثانية، وتكون الثالثة له فعلًا هي الثانية له حكمًا، فيضيف إليها المأموم أخرى.
وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية، ثم رفع رأسه، وشك المأموم، هل أدرك معه الركوع الجائز، أم لا؟ لم يدرك الجمعة، بل عليه أن يصلي الظهر أربعًا؛ لأن الأصل عدم الإدراك.
قال الشيخ أبو نصر: إذا دخل مع الإمام، ولم يدر أجمعة هي، أم ظهر؟ فصلى معه ركعتين ... لم يجزه ذلك عن جمعة ولا ظهر، سواء بان أن الإمام صلى الجمعة أو الظهر.
وقال أبو حنيفة: (إذا علق نيته بنية الإمام ... أجزأه) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن تعيين الصلاة في النية واجب، وهذا لم يعين.
[مسألة منع المأموم من السجود]
إذا زحم المأموم عن السجود ... نظرت:
فإن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان، أو رأسه، أو رجليه، بحيث إذا سجد عليه(2/603)
كان كهيئة الساجدين ... فإنه يلزمه ذلك، وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق.
وقال الحسن البصري: هو بالخيار بين أن يسجد على ظهر إنسان، وبين أن يصبر حتى يزول، الزحام، ويسجد على الأرض.
وحكى بعض أصحابنا: أن ذلك قول للشافعي في القديم.
وقال عطاء، والزهري، ومالك: (لا يجوز أن يسجد على ظهر إنسان، بل يصبر حتى يسجد على الأرض) . وإليه أومأ أبو علي الطبري في " الإفصاح ".
دليلنا: ما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال: (إذا اشتد الزحام ... فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولا يعرف له مخالف، ولأن أكثر ما فيه أن موضع سجوده أعلى من موضع قدميه، وقد نص الشافعي على: (أنه لو سجد على شيء أعلى من موضع قدميه
جاز) مع أن السجود يجب على حسب قدرته.
وأما إذا لم يتمكن من السجود على ظهر إنسان ... انتظر زوال الزحام، فإن زال، وقد صار الإمام قائمًا في الثانية
فإن المأموم يسجد على الأرض، ويتابع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز مثل ذلك بعسفان للعذر، والعذر - هاهنا - موجود.
ويستحب للإمام أن يرتل القراءة في الثانية؛ ليتبعه المزحوم.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك الحكم فيمن فاته السجود مع الإمام بنسيان، أو(2/604)
سهو، أو مرضٍ، أو عذرٍ، فإنه يقضيه بعد فراغ الإمام منه، ويجزئه ذلك.
فإن فرغ المزحوم من السجود، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية ... تبعه، ولا كلام.
وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية ... فهل يلزمه أن يقرأ، أو يلزمه أن يركع مع الإمام؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يتبعه في الركوع.
قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بركوع الإمام، فهو كما لو أدركه راكعًا.
والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء القراءة؛ لأنه قد أدرك محلها، بخلاف المسبوق.
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا بهذا: فإنما يلزمه أن يقرأ ما لم يخف فوت الركوع، فإن خاف فوته قبل فراغه من القراءة ... فما الحكم فيه؟ على قولين، كما لو أدركه راكعًا قبل السجود.
[فرع تأخر المسبوق عن الإمام كثيرًا]
] : وإن ركع الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم في الأولى ... ففيه قولان:
أحدهما: لا يشتغل بقضاء ما فاته، وهو السجود، بل يجب عليه أن يتابع الإمام في الركوع، وهو قول مالكٍ، واختيار القفال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع ... فاركعوا» . وهذا قد ركع، فوجب أن يركع معه؛ ولأنه قد أدركه راكعًا، فوجب أن يركع معه، كالمسبوق.
والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء ما فاته، وهو قول أبي حنيفة، واختيار الشيخ أبي حامدٍ.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد ... فاسجدوا» .(2/605)
ومنه دليلان:
أحدهما: أنه قال: «ليؤتم به» ، والائتمام به: هو أن يفعل كفعله، وقد سجد الإمام، فوجب أن يسجد مثله.
والثاني: أنه قال: «فإذا سجد ... فاسجدوا» ، فينبغي أن يسجد مثله.
فإذا قلنا: يركع مع الإمام ... نظرت.
فإن فعل ذلك، وركع معه، وسجد في الثانية ... فبأي الركوعين يحتسب له؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: يُحتسب له بالركوع الثاني، كالمسبوق.
فعلى هذا: إذا سلم الإمام ... قام، وصلى ركعة، وكان مدركًا للجمعة.
والثاني: يحتسب له بالركوع الأول؛ لأنه قد صح له، فلا يبطل بترك ما بعده.
فعلى هذا: يحصل له ركعة ملفقة؛ لأن القيام والقراءة والركوع من الأولى، والسجود من الثانية، وهل يدرك بها الجمعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون مدركًا بها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن أمر الجمعة مبني على الكمال، والكمال أن يدرك منها ركعة كاملة، والملفقة ليست بكاملة، فلم تدرك بها الجمعة.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يدرك بها الجمعة، قال ابن الصباغ: وهو الصحيح: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليضف إليها أخرى» . ولم يفرق بين أن تكون كاملة أو ملفقة.
فإذا قلنا بقول أبي إسحاق ... أضاف إليها أخرى، وسلم، وإذا قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة
فإنه يصلي الظهر أربعًا، وهل يبني على ما فعله مع الإمام؟ فيه(2/606)
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة:
أحدهما: يبطل ما فعله مع الإمام، فيستأنف الإحرام، ويصلي الظهر أربعًا.
والثاني: يبني عليه، فيأتي بثلاث ركعاتٍ.
ومنهم من قال: يبني على ما فعله مع الإمام، قولًا واحدًا؛ لأن القولين فيمن صلى الظهر قبل صلاة الإمام من غير عذرٍ، وهذا معذور.
وإن خالف ما أمرناه به، واشتغل بقضاء السجود ... نظرت:
فإن اعتقد أن فرضه الاشتغال بالسجود ... لم تبطل صلاته بذلك؛ لأنها زيادة في الصلاة من جنسها ناسيًا، ولا يعتد له بهذا السجود؛ لأنه فعله في غير موضعه.
فإن أدرك الإمام راكعًا، بأن خفف المزحوم سجوده، وطول الإمام ركوعه، فركع معه ... فهو كما لو أدركه راكعًا، فركع معه، على ما مضى من التفريع. وإن فرغ من السجود، وأدرك الإمام وقد رفع رأسه من الركوع
فإنه يسجد معه، وتحصل له ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين والتفريع عليهما كما مضى.
وإن كان عالمًا حين سجد أن فرضه المتابعة:
فإن لم ينو مفارقة الإمام.. بطلت صلاته؛ لأنه سجد في موضع الركوع عامدًا عالمًا، فنأمره أن يحرم بالجمعة، إن طول الإمام ركوعه: فإن فعل وركع معه، وسجد معه ... حصلت له ركعة من الجمعة، ويضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام. وإن وجد الإمام قد رفع رأسه من الركوع
أحرم، وبنى الظهر على ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه أحرم بعد فوات الجمعة.
وإن نوى مفارقة الإمام ... فهل تبطل صلاته؟ فيه قولان فيمن فارق الإمام بغير عذرٍ.(2/607)
فإذا قلنا: تبطل ... كان الحكم فيه حكم ما لو لم ينو مفارقته، على ما ذكرناه.
وإن قلنا: لا تبطل ... فإن كان الإمام راكعًا
أمرناه بالإحرام بالجمعة، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع ... أتمها ظهرًا، وهل يبني على إحرامه، أو يستأنفه؟ على الطريقين المذكورين أولًا.
وإن قلنا: إن فرضه الاشتغال بالسجود ... نظرت:
فإن فعل ذلك، وسجد، وقام، وأدرك الإمام راكعًا ... فهل يلزمه متابعته في الركوع، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة في الثانية؟ فيه وجهان:
الصحيح: يلزمه متابعته في الركوع، فإذا سجد معه في الثانية ... حصلت له الجمعة؛ لأنه قد أدرك الأولى، بعضها فعلًا، وبعضها حُكمًا، وأدرك معظم الثانية.
وإن أدركه وقد رفع رأسه من الركوع، أو ساجدًا في الثانية، أو جالسًا ... فهل يتبعه، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة والركوع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمن أصحابنا من قال: يشتغل بقضاء ما فاته؛ لأن الاشتغال بالقضاء على هذا أولى من المتابعة.
ومنهم من قال: يلزمه متابعته، وهو الأصح؛ لأن هذه الركعة لم يدرك منها شيئًا يحتسب له به، بخلاف الأولى.
فعلى هذا: لا يحتسب له بما فعله مع إمامه من الثانية، وهل يكون مدركًا للجمعة بالركعة الأولى؟ فيه وجهان، لا لأجل التلفيق، ولكن لأنه فعل بعضها مع الإمام، وانفرد بفعل بعضها، فأشبه التلفيق.
فإذا قلنا: يكون مدركًا بها للجمعة ... أضاف إليها بعد سلام الإمام أخرى.
وإن قلنا: لا يدرك بها ... فهل يبني عليها بثلاث ركعاتٍ، أو يلزمه استئناف الإحرام للظهر؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.
وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم السجدتين في الأولى ... لم يدرك الجمعة،(2/608)
وجهًا واحدًا، ويلزمه الظهر أربعًا، وهل يبني على ما قد فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ فيه طريقان.
فإن خالف ما أمرناه به، وتابع الإمام في الركوع في الثانية:
فإن اعتقد أن فرضه المتابعة ... لم تبطل صلاته؛ لأنه زاد فيها من جنسها ساهيًا، فإذا سجد مع الإمام
اعتد له به إلى الأولى، وكانت ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين، والتفريع عليهما ما مضى.
وإن اعتقد أن فرضه القضاء ... فقد بطلت صلاته؛ لأنه ركع في موضع السجود عامدًا عالمًا، فيلزمه أن يبتدئ بالإحرام بالجمعة مع الإمام، إن كان راكعًا، فإن سجد معه
فقد أدرك ركعة تامة منها، ويدرك بها الجمعة.
وإن أدركه، وقد رفع رأسه من الركوع ... أحرم معه، ويتمها ظهرًا أربعًا، وجهًا واحدًا.
وإن زحم عن السجود في الأولى، ولم يتخلص من الزحام حتى سجد الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم ... فإنه يسجد معه، قولًا واحدًا، وقد أدرك ركعة ملفقة، فهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين.
وإن زحم عن السجود في الأولى، فزال الزحام، وسجد، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية، وقرأ معه، وركع، ثم زحم عن السجود، فسجد، وأدركه قبل السلام ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا.
وقال الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب: هل يدرك الجمعة؟ على وجهين؛ لأنه أدرك بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا.(2/609)
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأنه أدرك جميع الصلاة، بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا، فثبت له حكم الجماعة.
وإن دخل رجل مع الإمام في الركوع في الثانية، فأدركه في الركوع، ثم زحم عن السجود، ثم زال الزحام، ثم سجد، وتبع الإمام في التشهد قبل السلام ... فهل يدرك الجمعة بهذه الركعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، وهذا يوافق ما ذكره القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق في الأولى.
فإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم ... لم يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا، وهل يبني الظهر على ما فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ على ما ذكرناه من الطريقين.
وإن أحرم مع الإمام، فزحم عن الركوع، فلم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية ... فإنه يركع معه، وهل تكون ركعة ملفقة؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال القاضي أبو الطيب: تكون ملفقة، كما قلنا فيمن زحم عن السجود، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا تكون ملفقة، ويدرك الجمعة، وجهًا واحدًا.
قال ابن الصباغ: وهذا أشبه؛ لأنه لو أدرك الركوع في الثانية ... كان مدركًا للجمعة، فما زاد على ذلك من الركعة الأولى، لا يمنعه من إدراك الجمعة.
[فرع سهو المأموم في الجمعة]
إذا ركع مع الإمام في الأولى، فسهى المأموم حتى ركع الإمام في الثانية:
فحكى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن الشافعي قال: (يشتغل بالركوع قبل أن يشتغل بالسجود) ؛ لأنه مفرط في السهو، فلم يعذر في الانفراد.(2/610)
وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن القاضي أبا حامد قال: يجب أن يكون فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يشتغل بقضاء ما فاته، كالمزحوم.
[مسألة حدث الإمام في الصلاة]
إذا أحدث الإمام في الصلاة، أو ذكر أنه كان محدثًا، أو حدث عليه أمر قطعه عن الصلاة ... فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يجوز) .
والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بأصحابه، ثم ذكر أنه جنب، فقال لهم: "كما أنتم"، وذهب، واغتسل، وجاء ورأسه يقطر ماء، فأحرم بهم، وصلى» .
ولو كان الاستخلاف جائزًا في الصلاة ... لاستخلف من يصلي بهم.
وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أحرم بالناس، ثم خرج من صلاته، وتوضأ،(2/611)
ورجع، وصلى بهم، ثم قال: (مسست ذكري) . فعلم: أن الاستخلاف لا يجوز.
ولأن حكم الإمام مخالف لحكم المأموم؛ لأن الإمام يجهر ويقرأ السورة، ويسجد لسهوه، والمأموم خلافه في هذا، فلو جوزنا الاستخلاف ... لتناقض حكم المأموم فيه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الصحيح.
والدليل عليه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف أبا بكر ليصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأقام سبعة عشر يومًا يصلي بالناس، فوجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا في نفسه خفة، فخرج يُهادى بين رجلين، فقام على يسار أبي بكر، وصلى بالناس، فصار أبو بكر والناس مؤتمين بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان الناس مؤتمين بأبي بكر»
وروي أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليصلح بين بني عمرو بن عوف، فأقيمت الصلاة فتقدم أبو بكر، فصلى بهم بعض الصلاة، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رآه الناس ... أكثروا التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثروا التصفيق
التفت، فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتأخر، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اثبت مكانك"، وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى بهم»
ومن قال بهذا ... قال: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ذكر أنه جنب في الصلاة لا يدل على أنه لا يجوز الاستخلاف، وإنما يدل على أن الاستخلاف لا يجب. وكذلك نقول.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بقوله القديم ... نظرت:(2/612)
فإن كان ذلك في غير الجمعة ... فإن المأمومين يتمون صلاتهم وحدانًا.
وإن كان ذلك في الجمعة ... نظرت:
فإن كان ذلك في الخطبة أو بعدها، وقبل الإحرام في الجمعة ... فلا يجوز أن يصلي غيره بهم الجمعة؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فيخطب غيره بهم، ويصلي الجمعة إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع الوقت
صلى بهم الظهر أربعًا.
وإن كان ذلك بعد أن أحرم بهم في الجمعة ... ففيه قولان:
أحدهما: يتمون الجمعة وُحدانًا، كغيرها.
والثاني: إن أحدث بعد أن صلى بهم ركعة ... أضافوا إليها أخرى، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة
صلوها ظهرًا، كالمسبوق.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن الاستخلاف يجوز ... لم يستخلف غير الإمام، ولا يستخلف إلا رجلًا.
فإن استخلف امرأة ... فمن لم يقتدوا بها
لم تبطل صلاتهم.
وقال أبو حنيفة: (تبطل صلاتهم بنفس الاستخلاف) .
دليلنا: أن تقديمها للصلاة لا يُبطل الصلاة، كما لو جاءت، وتقدمت بنفسها.
وإن استخلف الإمام جُنبًا، ثم استخلف الجُنب رجلًا طاهرًا ... لم يجز.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أن من لا يصلح للإمامة لصفة فيه ... لا يصلح لتقديم الخليفة، كما لو استخلف صبيًا، فاستخلف الصبي بالغًا.
وإن استخلف الإمام من يصح استخلافه ... نظرت:(2/613)
فإن كان ذلك في غير الجمعة من الصلوات، فإن استخلف من أحرم خلفه ... جاز، سواء كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، وإن أراد أن يستخلف من لم يحرم خلفه بالصلاة
نظرت:
فإن كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثالثة من الرباعية ... جاز، وإن كان ذلك في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب
لم يجز، وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا استخلف من أحرم خلفه ... فإن الخليفة يراعي نظم صلاة الإمام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه؛ لأنه قد لزمه ذلك بإحرامه خلف الإمام، وليس كذلك من لم يحرم خلف الإمام، فإنه إذا استخلفه في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب
فإن الخليفة إذا صلى ركعة ... يجب عليه القيام؛ لأنه موضع قيامه، وهم يقعدون، وذلك لا يتفق.
إذا ثبت هذا: ففرغ الخليفة من صلاة الإمام، وقد بقي عليه شيء من صلاته ... فإنه يقوم، والمأمومون بالخيار بين أن يسلموا لأنفسهم، وبين أن ينتظروا الخليفة إلى أن يفرغ من صلاته، ويسلم بهم.
قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: هو في حكم إمام منفرد، ولهذا فوائد في التشهد والسهو.
وإن كان هذا في الجمعة ... نظرت:
فإن أحدث في أثناء الخطبة، وقلنا: الطهارة شرط فيها، فأراد أن يستخلف من يتم الخطبة ... فهل يجوز على هذا القول؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يجوز؛ لأنهما أُقيمتا مُقام الركعتين، فلما جاز الاستخلاف في الركعتين، فكذلك في الخطبتين.
والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا ذكر يتقدم الصلاة ... فلم يجز الاستخلاف فيه، كالأذان.(2/614)
وإن كان الحدث بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الإحرام ... فإنه يجوز أن يستخلف بهم من سمع واجبات الخطبتين؛ لأنه أكمل بالسماع، ولا يجوز أن يستخلف من لم يسمع ذلك؛ لأنه لم يكمل بالسماع
هذه عبارة أصحابنا، وهم يريدون بذلك: الحضور، وإن لم يسمع، ولا استمع.
وإن أحدث في الركعة الأولى ... نظرت:
فإن استخلف من أحرم معه في الصلاة قبل حدثه ... جاز، سواء سمع الخطبة، أو لم يسمعها، وسواء كان قبل الركوع، أو بعده؛ لأنه قد صار من أهل الجمعة.
وإن أراد أن يستخلف من لم يدخل معه في الصلاة ... لم يجز؛ لأنه يكون مبتدئًا للجمعة، ولا يجوز أن يبتدئ جمعة بعد جمعة، ويخالف من قد دخل معه، فإنه متبع، وليس بمبتدئ، هكذا قال أصحابنا.
والذي تبين لي: أن هذا الذي لم يحرم خلفه، لا يجوز استخلافه، سواء حضر الخطبة، أو لم يحضرها؛ لأنهم قد قالوا: العلة فيه أنه: لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة، وهذا موجود فيه وإن كان قد حضر الخطبة، وإذا استخلف من حضر معه في الركعة الأولى ... فإن الخليفة ومن خلفه يصلون الجمعة.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يحتمل أن يصلي الخليفة الظهر، وهم يصلون خلفه الجمعة، قياسًا على إمامة الصبي، وقياسًا على مسألة ذكرها الشافعي، نذكرها فيما بعد، والأول هو المشهور.
وإن كان حدثه في الركعة الثانية ... فيجوز له أن يستخلف من أحرم خلفه فيها قبل حدثه قبل الركوع، أو في الركوع، ويتمون خلفه الجمعة، وما الذي يصلي هذا الخليفة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يتمها ظهرًا) ، وبه قال أبو العباس بن سريج، والفرق بينه وبين المأموم: أنه إذا أدرك ركعة ... أنه يتمها جمعة؛ لأن(2/615)
المأموم تبع إمامه، فجاز أن يتمها جمعة على وجه التبع لإمامه، وليس كذلك الخليفة، فإنه لا يجوز أن يكون تبعًا للمأمومين، فيبني على صلاتهم.
قال ابن سريج: ويحتمل أن يكون في جواز ظهره قولان؛ لأن الجمعة لم تفته بعد إذا كان يمكنه أن لا يتقدم حتى يتقدم من أدرك الركعة الأولى، لتصح جمعة هذا الخليفة.
وفرع الشافعي على هذا: (لو أدرك مسبوق هذا الخليفة في هذه الركعة الثانية التي استخلف فيها قبل الركوع، أو فيه ... أضاف هذا المسبوق إليها ركعة، وأدرك الجمعة) .
والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وأكثر أصحابنا -: أن الخليفة يتمها جمعة؛ لأنه قد صلى منها ركعة في جماعة الجمعة، فلا فرق بين أن يكون إمامًا أو مأمومًا، كما لو استخلف في الركعة الأولى.
وإن أحدث الإمام في الثانية، فاستخلف من دخل معه في الصلاة بعد الركوع، وقبل الحدث ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأن فرضه الظهر، فلا يجوز أن يكون إمامًا في الجمعة.
ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الشافعي نص في التي قبلها على جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر.
[فرع استخلف من دخل معه ولم يعلم أنها ثانية]
] : ذكر الطبري في " العُدة ": إذا استخلف الإمام رجلًا دخل معه في الصلاة، فلم يدر الخليفة أنها ثانية الإمام ليجلس، أو ثالثته ليقوم؛ لأن عليه أن يراعي نظم صلاة الإمام ... فذكر صاحب " التلخيص " فيه قولين:(2/616)
أحدهما: أنه يلاحظ القوم، فإن تأهبوا للقيام ... قام، وإن تأهبوا للقعود
قعد؛ لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من جهتهم.
والثاني: لا يجوز ذلك حتى يعلم، فإما أن يقلدهم، وإلا فلا.
قال الشيخ أبو علي السنجي: وليست هذه المسألة للشافعي، وإنما هي لأبي العباس بن سريج، وفيها وجهان:
الصحيح: أنه يلاحظ القوم؛ لأنه يجوز أن يقلد الإمام وحده، فالجماعة أولى، وإنما القولان للشافعي: إذا سبح القوم للإمام ينبهونه على السهو، وهو لا يذكر ... فهل يقلدهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقلدهم، بل يبني على يقين نفسه، وهذا هو المشهور.
والثاني: إن كانوا جمعًا كثيرًا بحيث لا يقع عليهم الخطأ ... قلدهم؛ لحديث ذي اليدين مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن قال بالأول ... قال: لم يقلدهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما تنبه بقولهم، فرجع إلى يقين نفسه.
[فرع لو صلى إمام الجمعة جنبًا ثم تذكر]
] : قال في " الفروع ": قال الشافعي في " الأم ": (إذا صلى الإمام الجمعة، فذكر أنه كان جنبًا، فإن كان الأربعون تموا به ... لم تصح الجمعة، وإن تموا دونه
انعقدت لهم الجمعة) .
ولو أدرك رجل ركوع الركعة الثانية في هذه المسألة ... كان مدركًا للجمعة، قياسًا على ما نص عليه.(2/617)
وقال ابن القاص: لا يكون مدركًا، وكذلك سائر الصلوات؛ لأن الإمام لم تصح صلاته، فلم تصح صلاة من تحمل عنه القراءة. قال: وقد قيل في الجمعة خاصة: أنها لا تصح خلف الجنب؛ لأن الإمام شرط فيها.
[فرع صلى الجمعة أربعون محدثون]
] : فلو صلى الجمعة بأربعين، فبان أنهم محدثون ... فإن صلاة الإمام صحيحة إذ كان متطهرًا؛ لأنه لم يكلف العلم بطهارة من خلفه.
وأما المحدثون: فتلزمهم الإعادة؛ لأنهم كلفوا العلم بأنفسهم.
وإن بان أنهم عبيد أو نساء وجبت الإعادة على جميعهم؛ لأن له طريقًا إلى العلم بذلك.
[مسألة تقام الجمعة بإذن الإمام]
يستحب أن لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ لأن الجمعة لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، فإن أُقيمت بغير إذنه ... صحت، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (لا تصح إقامتها إلا بإذن الإمام أو الوالي من قبله) .
وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي في القديم، وليس بمشهور.
وقال محمد: إن مات الإمام، فقدم الناس رجلًا يصلي بهم الجمعة ... جاز ذلك؛ لأن ذلك موضع ضرورة.(2/618)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة» . ولم يفرق بين أن يكون فيها إمام أو لم يكن.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيأتي بعدي أُمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبحة» . ولم يفرق بين الجمعة وغيرها.
وروي: (أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة بالكوفة، فصلى بهم ابن مسعود الجمعة) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولأنها صلاة، فجاز إقامتها بغير إذن الإمام، كسائر الصلوات.
[مسألة لا تعدد الجمعة]
قال الشافعي: (ولا يجمع في مصر وإن عظم، وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد) .
وقال عطاء، وداود: (يجوز إقامة الجمعة في كل مسجد، كسائر الصلوات) .
وقال أبو يوسف: إذا كان البلد جانبين، وفي وسطه نهر عظيم يجري، مثل: مدينة السلام، وواسط ... جاز أن يصلى في كل جانب في مسجد واحدٍ الجمعة، وبه قال أبو الطيب بن سلمة من أصحابنا.
وقال محمد بن الحسن: القياس: أنها لا تقام إلا في مسجدٍ واحدٍ، ولكن يجوز(2/619)
إقامتها في مسجدين في البلد استحسانًا، ولا يجوز في ثلاثة مساجد، وأهل الخلاف يذكرون: أن مذهب أبي حنيفة فيها كمذهبنا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: والذي يدل عليه كلام الشافعي: أن مذهب أبي حنيفة كمذهب محمد.
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء من بعده، ما أقاموا الجمعة إلا في موضع واحدٍ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
فإن قيل: فقد دخل الشافعي بغداد، ورأى الناس يصلون الجمع في جامع المنصور، وفي جامع المهدي، ولم ينكر عليهم.
فالجواب: أن هذا موضع اجتهاد، وليس لبعض المجتهدين أن ينكر على بعضٍ.
واختلف أصحابنا في بغداد:
فقال القاضي أبو الطيب بن سلمة: إنما أراد الشافعي إذا كان المصر جانبًا واحدًا، فأما إذا كان البلد جانبين، ويجري فيهما نهر، كبغداد: جاز في موضعين؛ لأنه كالبلدين.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان كالبلدين ... لوجب أن يجوز له القصر إذا سافر من أحد الجانبين، وإن لم يعبر الآخر.
وقال بعض أصحابنا: إنما أراد الشافعي: لا تقام إلا في مسجد واحدٍ إذا كان البلد مبنيًا بلدًا واحدًا من أصله، فأما إذا كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت العمارة: جاز أن تقام الجمعة في القرى التي كانت قبل الاتصال، ومدينة السلام بهذه الصفة.
ومن أصحابنا من قال: إنما أراد الشافعي: إذا لم يكن عليهم مشقة في الاجتماع في مسجد واحدٍ.
فأما إذا كانت عليهم مشقة في الاجتماع بمسجدٍ واحدٍ: جاز إقامتها في مساجد؛(2/620)
لأن البلد قد تكون فراسخ، ولا يمكنه الوصول إلى الجامع، إلا بالسعي قبل الفجر، فسقط هذا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: ولا يوافق شيء من هذه التأويلات كلام الشافعي؛ لأنه قال: (لا يُجمع في مصرٍ، وإن عظم، وكثر أهله، إلا في مسجدٍ واحدٍ) .
[مسألة جمعتان في البلد]
وإن أُقيمت جمعتان في بلدٍ في الموضع الذي نقول: لا تصح، فإن لم تكن لإحداهما على الأخرى مزية، بأن أقيمتا بإذن الإمام، أو أقيمتا بغير إذنه ... ففي هذا خمس مسائل:
إحداهن: إذا سبقت إحداهما الأخرى ... فالأولى صحيحة، والثانية باطلة؛ لأن الأولى أُقيمت بشروطها، فمنعت صحة الثانية، وبماذا يعتبر السبق؟
حكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما: يعتبر السبق بالإحرام بالصلاة، وهو الصحيح؛ لأن الأولى إذا انعقدت ... لم تنعقد بعدها أخرى.
والثاني: يُعتبر السبق بالفراغ من الصلاة؛ لأن الفساد قد يطرأ عليها بعد الإحرام، وبعد الفراغ لا يطرأ عليها الفساد، هكذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر السبق بالابتداء بالخطبة.
والثاني: بالابتداء بالصلاة.(2/621)
المسألة الثانية: إذا أحرموا بهما في حالةٍ واحدةٍ ... حكم ببطلانهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى.
المسألة الثالثة: إذا لم يُعلم، هل سبقت إحداهما الأخرى، أو كانتا في وقتٍ واحد ... حكم ببطلانهما؛ لما ذكرناه في التي قبلها، ويجب عليهم أن يعيدوا فيهما الجمعة، إن كان الوقت واسعًا.
المسألة الرابعة: إذا علم أن إحداهما سابقة، ولكن لا يعلم عينها، مثل: أن يُسمع تكبير أحدٍ من الإمامين في الإحرام، إذا قلنا: الاعتبار بالسبق بالإحرام، ثم كبر الثاني، ولم يعلم من المكبر أولًا.
المسألة الخامسة: إذا علم عين السابقة، ثم نسيت، مثل: أن علم عين المكبر أولًا، ثم نسي ... فالحكم في هاتين المسألتين واحد، وهو أن الجمعتين باطلتان.
وقال المزني: هما صحيحتان؛ لأنهم قد أدوا ما كلفوا في الظاهر، فلا يبطل ذلك بالشك، كما لو صلى، ثم وجد على ثوبه نجاسة لا يعلم هل أصابته قبل الصلاة، أو بعدها؟ وهذا غلط؛ لأنا نعلم لا محالة: أن إحداهما باطلة، والأخرى صحيحة، وإذا لم يُعلم عين الصحيحة من الباطلة، فالأصل بقاء الفرض في ذمتهم، ويفارق النجاسة؛ لأن هناك الصلاة قد صحت في الظاهر، فلا تبطل بالشك.
إذا تقرر أنهما تبطلان ... فما الذي يقضي الناس؟ فيه قولان:
أحدهما: يقضون الجمعة؛ لأنهما إذا بطلتا ... صار كأن لم يقم في المصر جمعة، فوجب عليهم إقامتها.
والثاني: يقضون الظهر أربعًا؛ لأن الجهل بعين السابقة ليس بجهل في أن إحداهما سابقة، وقد علمنا يقينًا، بأن الجمعة قد أقيمت في المصر مرة، فلا يجوز إقامتها مرة ثانية فيه.
هذا إذا تساوت الجمعتان، وإن كان لإحداهما مزية على الأخرى، بأن كان في إحداهما الإمام الراتب، وهو الإمام الأعظم، فإن كان مع الأولى ... فالأولى هي(2/622)
الصحيحة؛ لأنها أولى، ولأن فيها الإمام الأعظم، وإن كان الإمام في الثانية ... ففيه قولان:
أحدهما: أن الأولى هي الصحيحة.
قال ابن الصباغ: وهو المشهور؛ لأن الإمام ليس بشرطٍ عندنا في الجمعة، فلا تبطل بجمعة بعدها.
والثاني: أن الصحيحة هي جمعة الإمام؛ لأن في تصحيح الأولى افتياتًا على الإمام؛ لأن ذلك يؤدي إلى أنه متى شاء أربعون رجلًا ... أقاموا الجمعة قبل الإمام؛ ليفسدوا على أهل البلد صلاتهم.
هذا الحكم في المسألة الأولى من الخمس المسائل، إذا كان في إحداهما الإمام.
وأما الحكم في المسائل الأربع، وهو إذا عقدتا في وقتٍ واحدٍ، ولم يعلم هل سبقت إحداهما الأخرى؟ أو هل كانتا في وقتٍ واحدٍ؟ أو علم سبق إحداهما، ولم تتعين، أو علمت السابقة، ونُسيت، وكان الإمام في إحداهن:
فإن قلنا: إن الثانية إذا كان فيها الإمام هي الصحيحة ... فجمعة الإمام في هذه الأربع هي الصحيحة حيث كانت.
وإن قلنا في الأولى: إن الجمعة الأولى هي الصحيحة، وجمعة الإمام إذا كانت ثانية هي باطلة ... فالحكم في هذه المسائل الأربع حكم ما لو لم يكن في واحدةٍ منهما الإمام على ما ذكرناه.
وبالله التوفيق(2/623)
[باب صلاة العيدين]
صلاة العيدين الأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر:2] .
قال بعض أهل التفسير: أراد به الصلاة التي يتعقبها النحر، وهي صلاة الأضحى.
وأما السنة: فروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟ "، فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال: "إن الله قد أبدلكم بخير منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى» .
وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على ثبوتها.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي: (ومن وجب عليه حضور الجمعة ... وجب عليه حضور العيدين) .
واختلف أصحابنا في هذا:(2/624)
فقال أبو سعيد الإصطخري: صلاة العيدين فرض على الكفاية - فيكون تأويل كلام الشافعي عنده: من وجب عليه حضور الجمعة فرض عين ... وجب عليه حضور العيدين فرض كفاية، وهو مذهب أحمد بن حنبل - لأنها صلاة يتوالى فيها التكبير في القيام، فكانت فرضًا على الكفاية، كصلاة الجنازة.
وقال عامة أصحابنا: هي سنة. فيكون تأويل كلام الشافعي عندهم: ومن وجب عليه حضور الجمعة حتمًا ... وجب عليه حضور العيدين ندبًا.
وقال أبو حنيفة: (هي واجبة، وليست بفرض) .
ودليلنا: «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: "خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع» .
ولأنها صلاة ذات ركوعٍ وسجودٍ، لم يسن لها الأذان بوجهٍ، فلم تكن واجبة بالشرع، كصلاة الاستسقاء.
فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة.
وقولنا: (لم يسن لها الأذان) احتراز من الصلوات الخمس في مواقيتها.
وقولنا: (بوجهٍ) احتراز من الفوائت؛ لأنه لا يؤذن للثانية منها، ولكنه قد يسن لها الأذان بوجهٍ، وهو في وقتها.
وقولنا: (بالشرع) احتراز من النذر.
وأما قول الإصطخري: يتوالى فيها التكبير: فينتقض بصلاة الاستسقاء، فإن اتفق أهل بلدٍ على تركها ... قوتلوا على تركها على قول الإصطخري، وهل يقاتلون على تركها على قول عامة أصحابنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يُقاتلون؛ لأنها نفل، والإنسان لا يُقاتل على ترك النفل.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنهم يُقاتلون؛ لأنها من الأعلام الظاهرة في(2/625)
الشرع، وفي الاجتماع على تركها نقص ظاهر في الدين.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن هذا القائل رجع إلى قول الإصطخري، لأنه إذا جاز للإمام أن يقاتلهم ... لحقهم بذلك الإثم والقتل، ولا يستحقون مثل ذلك إلا عن معصيةٍ، وإذا كانوا عاصين بتركها
كانت واجبة؛ لأن حد الواجب: ما أثم بتركه.
[مسألة وقت صلاة العيد]
وأول وقت صلاة العيد: إذا طلعت الشمس، وتم طلوعها.
والمستحب: أن يؤخرها حتى يرتفع قيد رُمح.
وآخره: إذا زالت الشمس.
والمستحب: أن يؤخر صلاة عيد الفطر عن أول الوقت قليلًا، ويصلي الأضحى في أول وقتها: لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى عمرو بن حزم: أن آخر صلاة الفطر، وعجل صلاة الأضحى، وذكر الناس»
ولأن الأفضل إخراج الفطرة قبل الصلاة، فأخرت الصلاة؛ ليتسع الوقت لذلك، والسنة: أن يضحي بعد الصلاة، فقدمت؛ ليرجع إلى الأضحية.
[مسألة الصلاة في المكان الأرفق]
قال الشافعي: (وأحب للإمام أن يصلي بهم حيث أرفق لهم) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان مسجد البلد ضيقًا ... فالمستحب أن يصلي العيد في المصلى، فإن كان المسجد واسعًا
فالأفضل أن يصلي العيد في المسجد،(2/626)
والأصل فيه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العيد في المصلى» ، وإنما كان كذلك؛ لأن مسجد المدينة كان صغيرًا لا يسع الناس، وكان الأئمة يصلون العيد بمكة في المسجد؛ لأنه واسع.
وقال مالك: (الأفضل أن يصلي العيد في المصلى بكل حالٍ) .
دليلنا: ما ذكرناه.
فإن صلى العيد في المصلى في غير يوم المطر، مع اتساع المسجد ... لم يكره.
وإن صلى في المسجد مع ضيقه في غير يوم المطر ... كره.
وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا صلى في المسجد مع ضيقه، ربما فات على بعض الناس للصلاة، وإذا عدل إلى المصلى مع اتساع المسجد ... لم يفت على أحد شيء من الصلاة، وإن كان قد ترك الأفضل.
وإن كان في البلد مطر ... فالأفضل أن يصلي العيد في المسجد وإن كان ضيقًا؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد في يوم مطر في المسجد» .
وكذلك روي عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وإذا صلى في المصلى، وكان في البلد ضعفاء لا يقدرون على الخروج إلى المصلى ... استُحب للإمام أن يستخلف من يصلي بهم في المسجد في البلد؛ لما روي: (أن علي بن أبي طالب استخلف أبا مسعود الأنصاري يصلي العيد بضعفة الناس في المسجد) .(2/627)
[مسألة الأكل قبل صلاة الفطر]
والمستحب: أن يطعم يوم الفطر قبل الصلاة.
قال الشافعي: (فإن لم يطعم في بيته، ففي الطريق، أو في المصلى إن أمكنه ذلك، فأما في الأضحى: فيستحب له ألا يطعم شيئًا حتى يرجع) ؛ لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع، فيأكل من نسيكته» .
وقال ابن المسيب: كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة، ولا يفعلون ذلك يوم النحر، وإنما فرق بينهما؛ لأن السنة: أن يتصدق يوم الفطر قبل الصلاة، فاستحب له الأكل؛ ليشارك المساكين في ذلك، والصدقة يوم النحر بعد الصلاة وقبلها، فلم يستحب الأكل فيها.
ويحتمل أن يكون الفرق بينهما؛ لأن ما قبل يوم الفطر يحرم فيه الأكل، فندب إلى الأكل قبل الصلاة؛ ليتميز عما قبله، وفي يوم الأضحى: لا يحرم الأكل فيما قبله، فأخر الأكل إلى ما بعد الصلاة؛ ليتميز عما قبله.
والسنة: أن يأكل في يوم الفطر تمرات وترًا: إما ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر، لما روى أنس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك) .(2/628)
[مسألة الغسل للعيد]
ويُسن الغسل للعيدين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع للناس: «إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا فيه، ومن كان عنده طيب ... فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» .
وروي عن علي، وابن عمر: (أنهما كانا يغتسلان في يوم الفطر والأضحى) .
ولأنه يوم يجتمع فيه الكافة للصلاة، فسن فيه الغسل، كيوم الجمعة، فإن اغتسل بعد طلوع الفجر ... أجزأه بلا خلاف، وإن اغتسل قبل طلوع الفجر
ففيه قولان: أحدهما: لا يُجزئه، كغسل الجمعة.
والثاني: يجزئه؛ لأن صلاة العيد تفعل قريبًا من طلوع الشمس، وقد يقصدها الناس من البعد.
فلو قلنا: لا يجوز الغُسل قبل الفجر ... لأدى إلى تفويتها عليهم بالغسل.
فإذا قلنا بهذا: فإن القاضي أبا الطيب، والشيخ أبا إسحاق قالا: يجوز في النصف الثاني من الليل، ولا يجوز في الأول، كما قلنا في أذان الصبح.
قال ابن الصباغ: ويحتمل أيضًا أن يجوز في جميع الليل، كما تجوز النية للصوم.
والفرق بينه وبين الأذان للصبح: أن النصف الأول في وقتٍ مختارٍ للعشاء، فربما ظن السامع أن الأذان لها بخلاف الغسل.
ويستحب أن يتطيب، ويستاك؛ لما ذكرناه في الخبر، وروي عن الحسن بن(2/629)
علي: أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتنظف ونتطيب بأجود ما نجد في العيد» .
ويستحب أن يتنظف، ويقلم أظفاره، ويحلق الشعر - كما قلنا في يوم الجمعة - ويلبس أحسن ثيابه، ويعتم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس في العيدين بُرد حبرة» .
ويستحب ذلك لمن يريد حضور الصلاة، ولمن لا يريد حضورها؛ لأن المقصود إظهار الزينة والجمال، فاستحب ذلك لمن حضر الصلاة، ولمن لم يحضر.
[مسألة حضور النساء وغيرهن العيد]
والمستحب: أن تحضر النساء غير ذوات الهيئات: لما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد، وأما الحيض: فكن يعتزلن المُصلى، وتشهدن الخير ودعوة المسلمين» ويتنظفن بالماء، ولا يتطيبن،(2/630)
ولا يلبسن الشهرة من الثياب، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات» ، أي: غير مُتطيبات، والتفلة، والمتفال: هي التي غير متطيبة، قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير متفال
ولأن ذلك يدعو إلى الافتنان بها.
ويستحب أن يحضر العبيد والصبيان، قال أصحابنا: إلا أن سُنة العيد لا تتأكد في حق العبيد والنساء والصبيان، كما تتأكد في حق الذكور البالغين الأحرار.
ويزين الصبيان بالمصبغ والحرير والحلي من الذهب وغيره، ذكورًا كانوا أو إناثًا؛ لأنهم غير مكلفين.
[مسألة التبكير لغير الإمام]
والمستحب لغير الإمام: أن يبكر إلى المصلى، كما قلنا في الجمعة، ويمشي إليها، ولا يركب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في عيد ولا جنازة» ، ولأنه(2/631)
إذا ركب ... زاحم الناس بدابته وآذاهم، وربما بالت دابته في الطريق، أو راثت، فتتلوث به نعال الناس، ولأنه إذا مشى
كثر ثوابه بكثرة خطواته، إلا أن يكون به ضعف، فلا بأس بالركوب في ذهابه.
قال الربيع: هذا في الذهاب.
فأما في الرجوع: فإن شاء ... مشى، وإن شاء
ركب.
قال أصحابنا: هذا صحيح؛ لأنه غير قاصد إلى قربةٍ، إلا أن يتأذى الناس بمركوبه، فيكره له ذلك؛ لما يلحق الناس من الأذى.
وأما الإمام: فالسنة له: أن لا يخرج إلا في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة؛ لما روى أبو سعيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كان يخرج في العيد إلى المصلى، ولا يبتدئ إلا بالصلاة» ، ولأن هذا أكثر في جماله وزينته من أن يخرج، ويجلس لانتظار الناس؛ لأن المأموم ينتظر الإمام، والإمام لا ينتظر المأموم.
[مسألة السنة لصلاة العيد]
ليس لصلاة العيد سنة قبلها ولا بعدها؛ لأنها نافلة، والنافلة لا إتباع لها.
إذا ثبت هذا: فإن الإمام يُكره له أن يتنفل قبلها وبعدها؛ لما روى ابن عباس:(2/632)
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الأضحى ركعتين، ولم يتنفل قبلها ولا بعدها» ، ولأن الإمام يُقتدى به، فإذا صلى قبلها أو بعدها ... أوهم أن ذلك سنة لها، ولا سنة.
وأما المأموم: فيجوز له أن يتنفل قبلها وبعدها في بيته، وفي طريقه، وفي مُصلاه، وروي ذلك: عن أنس، وأبي هريرة، وسهل بن سعد الساعدي.
وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: (تكره النافلة قبلها، ولا تكره بعدها) .
وقال مالك، وأحمد: (تكره قبلها وبعدها) .
وعند مالك في المسجد روايتان.
دليلنا: أن هذا وقت للتنفل في غير هذا اليوم، فلم يكره في هذا اليوم، كسائر الأيام.
قال الشافعي: (وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو يوم الفطر والأضحى يمشي في طريق، ويرجع في أخرى على دار عمار بن ياسر» .
وقد اختلف الناسُ في تأويل فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فقيل: إنه كان يخرج في طريق بعيدٍ، ويرجع في طريقٍ قريبٍ؛ لكي يكثر ثوابه؛ لأن ذهابه قُربة، ورجوعه ليس بقربة.
وقيل: لأنه كان يذهب في طريق، فيتصدق فيه على الفقراء والمساكين، فلا يبقى معه شيء، فيكره أن يرجع في ذلك الطريق، فيسأله سائل، ولا شيء معه، فيرده.(2/633)
وقيل: بل كان يتصدق على أهل ذلك الطريق في ذهابه، ثم يرجع في أخرى؛ ليتصدق على أهله في رجوعه.
وقيل: أراد: ليشرف أهل الطريق الأول برؤيته، ويرجع في أخرى؛ ليُشرف أهلها، فيساوي بين أهل الطريقين.
وقيل: أراد: ليشهد له الطريقان.
وقيل: أراد: ليسأله أهل الطريقين عن الحلال والحرام.
وقيل: إنه كان يقصد بذلك غيظ المنافقين.
وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوقى كيد المنافقين؛ لئلا يرصد في الطريق الأول.
وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد به الفأل في تغيير الحال على نفسه، رجاء أن يغير الله تعالى على الأمة حالها إلى الأجر والثواب، كما حول رداءه في الاستسقاء.
وقيل: إنه كان يخرج في طريقٍ، فيخرج معه خلق كثير، فتكثر الزحمة، فإذا أراد الرجوع، انتظره الناس على ذلك الطريق؛ لكي يرجعوا معه، فكان يرجع في طريق أخرى، ويعدل عن الأول؛ لكي لا تكثر الزحمة، فيتأذى الناس بالازدحام.
قال الشيخ أبو حامد: ويشبه أن يكون هذا بعد الأول أشبه؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج إلى صلاة العيدين من طريق، ويرجع من أخرى» ؛ لكي لا يكثر الزحام.
إذا ثبت هذا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فما حكم غيره من الناس؟ قال الشافعي: (أُحب ذلك للإمام والمأموم) .
واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن لم يعلم المعنى الذي كان يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله ... اقتدى به، اتباعًا للسنة، وإن علم المعنى الذي فعله لأجله، فإن كان موجودًا
فعل كفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن لم يكن موجودًا ... لم يفعل.
قال أبو علي بن أبي هريرة: يفعل كفعله ذلك، سواء علم المعنى الذي فعله(2/634)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله، أو لم يعلم، وسواء كان موجودًا أو غير موجودٍ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يفعل ذلك لمعنى، ثم يزول ذلك المعنى، وتبقى السنة فيه، كما قلنا في الرمل والاضطباع، وذلك؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة معتمرًا ... قال المشركون: أما ترون أصحاب محمد قد أنهكتهم حُمى يثرب، فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل والاضطباع بالطواف والسعي؛ ليريهم الجلد والقوة» ، ثم صارت مكة دار إسلام، وزال ذلك المعنى، ولم تزل السنة في الرمل والاضطباع.
[مسألة لا يؤذن للعيد]
ولا يُسن الأذان والإقامة للعيد، قال الشافعي: (فإن أذن، وأقام ... كرهته) . وبه قال كافة أهل العلم.
وقال سعيد بن المُسيب: أول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين معاوية.
وقال ابن سيرين: أول من أحدث ذلك مروان، ثم أحدثه الحجاج.
وقال أبو قلابة: أول من أحدث الأذان في العيدين ابن الزبير.
فلم يختلفوا أنه محدث، وإنما اختلفوا في أول من أحدثه.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد، ثم خطب بغير أذان ولا إقامة» ، وكذلك روي: عن أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي: (فإذا خرج الإمام إلى المصلى، فالسنة: أن ينادى(2/635)
لها: الصلاة جامعة) ؛ لما روى الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه يوم العيد، فينادي: الصلاة جامعة» .
قال الشافعي: (فإن قال: هلموا إلى الصلاة، أو حي على الصلاة ... فلا بأس به - قال - وأحب أن يتوقى ألفاظ الأذان) .
قال أصحابنا: وكذلك يفعل لصلاة الاستسقاء والكسوف والتراويح.
[مسألة صلاة العيد ركعتان]
ثم يصلي صلاة العيد ركعتين؛ لما روي عن عمر: أنه قال: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى» .
ولأنه نقل الخلف عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو إجماع لا خلاف فيه.(2/636)
والسنة: أن تصلى جماعة؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا كبر للإحرام ... قرأ دعاء الاستفتاح عقيب تكبيرة الإحرام، وأما التعوذ: فيأتي به أول الفاتحة.
وقال في " الفروع ": وقد قيل فيه قول آخر: أنه يأتي بدعاء الاستفتاح بعد التكبيرات الزوائد. والمذهب الأول.
وقال أبو يوسف: يأتي بالتعوذ عقيب دعاء الاستفتاح، وهذا ليس بشيء؛ لأن دعاء الاستفتاح يراد لافتتاح الصلاة، وذلك يوجد عقيب تكبيرة الإحرام، والتعوذ يراد لافتتاح القراءة، وذلك يوجد بعد التكبيرات الزوائد.
إذا ثبت هذا: وفرغ من دعاء الاستفتاح، فإنه يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة، وبه قال أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك مثل قولنا، إلا أنه قال: (يكبر في الأولى بست تكبيرات لا غير) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يكبر في الأولى ثلاث تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية: ثلاث تكبيرات بعد القراءة) .
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة فيهما» . وهذا نص.(2/637)
وروت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة» .
[فرع رفع اليدين حال التكبير]
ويستحب أن يرفع يديه في كل تكبيرة من هذه التكبيرات حذو منكبيه، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه قال: (يرفع إلى شحمتي أذنيه) . وقد مضى الدليل عليه في الصلاة.
وقال مالك، والثوري: (لا يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح) .
دليلنا: ما روي: (أن عمر صلى العيد، فكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا، يرفع يديه عند كل تكبيرة منها) . ولا يعرف له مخالف.
ولأنها تكبيرة في الصلاة في حال الانتصاب، فيسن فيها رفع اليدين، كتكبيرة الافتتاح.
قال الشافعي: (ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية، لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله ويحمده - وقال - يمجده.
وقال مالك: (يقف بين كل تكبيرتين، ولا يقرأ شيئًا) .
وقال أبو حنيفة: (يكبر متواليًا، ولا يقف) .
دليلنا: ما روي: (أن ابن مسعود صلى صلاة العيد، وكان يقف بين كل تكبيرتين، يحمد الله، ويكبره، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ولا مخالف له.(2/638)
ومن أصحابنا من قال: يقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ومنهم من قال: يقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ولو قال ما اعتاده الناس، فحسن، وهو: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
ولا يأتي بهذا الذكر بين تكبيرة الافتتاح والتي بعدها؛ لأن هذا الذكر من توابع تكبيرات العيد، وتكبيرة الافتتاح لا تختص بالعيد.
[فرع نسي التكبيرات]
] : فإن نسي تكبيرات العيد حتى شرع في القراءة ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يأتي به) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن محله القيام، وهو باقٍ.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يأتي به) ؛ لأن محله قد فات بالقراءة، كدعاء الاستفتاح.
فإذا قلنا بالقديم، وذكر ذلك في أثناء الفاتحة ... قطع الفاتحة وأتى بالتكبيرات، فإذا فرغ من التكبيرات
أعاد الفاتحة؛ لأنه قد قطعها بغيرها متعمدًا.
وإن ذكر ذلك بعد الفراغ من الفاتحة ... أتى بالتكبيرات، ولا يجب عليه إعادة الفاتحة؛ لأنها وقعت موقعها، ولكن يستحب له أن يعيدها؛ لتكون بعد التكبيرات.(2/639)
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\101] وجهًا آخر: أنه يجب عليه إعادتها. والمذهب الأول.
وإن ذكر ذلك في الركوع ... لم يأت به، قولًا واحدًا؛ لأنه فات محله.
[فرع فوات المأموم بعض التكبيرات]
وإن أدرك المأموم الإمام، وقد فاته ببعض التكبيرات ... فإنه يكبر ما بقي من تكبيرات الإمام، وهل يعيد ما فاته؟ على القولين في التي قبلها.
وكذلك: إذا أدركه في القراءة ... فهل يقضي التكبيرات؟ على القولين.
وإن أدركه راكعًا ... لم يأت بالتكبيرات، قولًا واحدًا.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (يكبر في حال الركوع تكبيرات العيد) .
دليلنا: أنه ذكر مسنون في حال القيام، فسقط بالركوع، كدعاء الاستفتاح.
[فرع زيادة التكبير]
فإن كبر في الأولى ثماني تكبيرات، ثم شك: هل نوى الإحرام بواحدةٍ منها؟ استأنف الصلاة؛ لأن الأصل عدم النية، وإن علم أنه نوى بواحدةٍ منها، وشك في أيهما نوى؟ قال الشافعي: (أخذ بالأشد، وأنه نوى في الآخرة، ويعيد تكبيرات العيد) .
وإن علم أنه نوى في الأولى، وشك في عدد ما كبر بعدها ... بنى على اليقين، وكبر التمام.(2/640)
[فرع ما يقرأ في صلاة العيد]
ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق:1] . وفي الثانية بعد الفاتحة سورة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر:1] .
وقال أبو حنيفة: (ليس بعض السور بأولى من بعض) .
وقال مالك، وأحمد: (يقرأ في الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] [الغاشية] ) .
دليلنا: ما «روي أن عمر سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة العيد؟ فقال: (قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق:1] ، وفي الثانية: بفاتحة الكتاب، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر:1] . ويجهر فيهما بالقراءة» .
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أسمع من يليك، ولا ترفع صوتك) .
دليلنا: حديث أبي واقد، ولولا أنه جهر به، لما سمعه.
[مسألة خطبة العيد]
فإذا فرغ من الصلاة ... خطب، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي مسعود البدري. وروي عن عثمان: (أنه كان يصلي، ثم يخطب) .
وروي عنه: (أنه خطب، ثم صلى، لما كثر الناس على عهده) . وروي ذلك عن ابن الزبير، ومروان بن الحكم.
«وروي: أن مروان أخرج المنبر يوم العيد، وخطب قبل الصلاة، فقام رجل، فقال: يا مروان، أخرجت المنبر في يوم لم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بإخراجه، وخطبت قبل الصلاة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بعد الصلاة؟! فقال أبو سعيد الخدري:(2/641)
من هذا؟ فقالوا: هذا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من رأى منكرًا، فاستطاع أن ينكره بيده ... فليفعل، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع ... فبقلبه، وهو أضعف الإيمان»
إذا ثبت هذا: فجملة الخطب عشر:
خطبتا العيدين، وخُطبتا الكسوفين، وخطبة الاستسقاء، وخطبة الجمعة. وأربع خطب في الحج:
خطبة بمكة يوم السابع من ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة بمنى يوم النحر، وخطبة بمنى يوم النفر الأول.
وكل هذه الخطب بعد الصلاة، إلا خطبة الجمعة، وخطبة عرفة، فإنهما قبل الصلاة، والفرق من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن خطبة الجمعة فرض لصلاة فرضٍ، فقدمت، وسائر الخطب نفل، فأخرت؛ ليتميز الفرض عن النفل، ولا يدخل على ذلك خطبة عرفة؛ لأنها ليست للصلاة، وإنما هي للوقت.
والفرق الثاني: أن صلاة الجمعة لا تصلى إلا بجماعة، فإذا فاتته الجمعة ... لم تقض فرادى، فقدمت على الصلاة؛ لكي يمتد الوقت، ويلحق الناس الصلاة، فلا تفوتهم، وليس كذلك صلاة العيدين؛ لأنها تصح فرادى، فلم يُحتج إلى تقديم الخطبة عليها، ليلحق الناس الصلاة.
وهكذا ذكره الشيخ أبو حامدٍ.
والثالث -حكاه ابن الصباغ -: أن الخطبة في الجمعة شرط في الصلاة، فلذلك قدمت؛ لتكامل شرائط الصلاة، بخلاف غيرها، وأما خُطبة عرفة: فإنما قُدمت؛(2/642)
ليعلم الناس مناسكهم وصلاتهم وما يفعلونه، فقدمت؛ ليشتغلوا بعد الصلاة بذلك.
[فرع الخطبة على المنبر]
] : والسنة: أن يخطب على المنبر؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب في العيد على المنبر» .
قال الشافعي: (فإذا ظهر على المنبر ... سلم عليهم، فيرد الناس السلام عليه؛ لأن هذا مروي عاليًا) ، فقيل: معناه: أن السلام يروى عاليًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو عن أعالي الصحابة، يريد: كبارهم.
وقيل: يروى: (أنه كان يسلم عاليًا) ، أي: فوق المنبر.
وقيل: (عاليًا) ، أي: أنه يرفع صوته.
وهل يسن له الجلوس بعد السلام؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يسن، وهو المنصوص، كما قلنا في خطبة الجمعة.
والثاني: لا يُسن؛ لأن في الجمعة إنما يُسن له؛ ليفرغ المؤذن من الأذان، ولا أذان هاهنا، وهذا ليس بشيء؛ لأنه وإن لم يكن هناك أذان فإنه يحتاج إلى الجلوس؛ ليستريح من تعب صعود المنبر، وليتأهب الناس للسماع.
ويخطب قائمًا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب في العيدين قائمًا» .(2/643)
فإن خطب جالسًا ... جاز؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في العيد قاعدًا على راحلته» ، ولأن صلاة العيد تصح من القاعد مع قدرته على القيام، فكذلك الخطبة فيه. بخلاف الجمعة.
ويجب أن يفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما:
قال في " الفروع ": وقيل: إن الجلسة ليست بمعتبرة في شيء من الخطب، وإنما المعتبر حصول الفصل، سواء كان بجلسة، أو سكتة، أو كلام من غيره.
وهذا ليس بصحيح؛ لما روي «عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (من السنة أن يخطب في العيد خطبتين، ويجلس بينهما»
وإطلاق السنة يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخص الجلسة، فدل على أن غيرها لا يقوم مقامها.
[فرع وقت وعدد التكبير في الخطبتين]
] : ويستحب أن يبتدأ ويكبر في الخطبة الأولى تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات نسقًا؛ لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (هو من السنة) .(2/644)
قال الشافعي: (وإن فصل بين كل تكبيرتين بحمد الله والثناء عليه كان حسنًا) ؛ لأنه روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
قال الشيخ أبو حامد: وظاهر كلام الشافعي: أن التكبيرات ليست من الخطبة؛ لأن الشافعي قال: (يكبر، ثم يخطب) .
[فرع ما يقال في خطبة العيد]
] : إذا خطب للعيد، فإنه يحمد الله، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية، لما ذكرناه في الجمعة.
ويستحب أن يعلمهم في خطبة الفطر صدقة الفطر، ووقت وجوبها، وأن السنة أن يخرجها قبل الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر، ويبين قدرها وجنسها.
وفي الأضحى: يعلمهم أن الأضحية سنة مؤكدة، ويبين وقت الذبح، وجنس المذبوح، وسنه، وأن المعيب لا يجزئ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته: «ولا يذبحن أحدكم حتى يصلي» ، وإن كان في الحج يوم السابع ...(2/645)
أمرهم أن يحرموا يوم التروية، ويخرجوا إلى منى، ويبيتوا ليلتهم، ويبكروا إلى عرفات.
وإن كانت الخطبة بعرفة ... أمرهم ألا يخرجوا منها، حتى تغيب الشمس، ويأمرهم بالبيتوتة بالمزدلفة، وأن عليهم أن يرموا يوم النحر جمرة العقبة بسبع حصيات.
وإن كانت يوم النحر ... أعلمهم كيف ينحرون، وأين ينحرون، وكيفية الرمي في أيام منى.
وإن كانت يوم النفر الأول ... أخبرهم: أنهم مخيرون بين أن ينفروا يومهم، وبين أن يقفوا حتى يرموا اليوم الثالث.
وغير ذلك مما يحتاجون إليه؛ لأن ذكر ذلك يليق في الخطبة.
[فرع إعادة الخطبة لمن لم يسمعها]
] : قال في " الأم " [1/212] : (وإذا خطب، ثم رأى نساء أو جماعة من الرجال لم يسمعوا الخطبة ... لم أر بأسًا أن يأتيهم، فيستأنف الخطبة لهم) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم العيد، فصلى ركعتين، ولم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها، وقد فرش بلال ثوبه يطرحن فيه» ، فـ (الخرص) : الحلقة، و (السحاب) : القلادة.(2/646)
[فرع من السنة استماع الخطبة]
] : ويستحب للناس استماع الخطبة؛ لما روي عن أبي مسعود البدري: أنه قال يوم عيد: (من شهد الصلاة معنا، فلا يبرح حتى يشهد الخطبة) .
فإن جاء رجل والإمام يخطب، فإن كان في المُصلى ... لم يستحب له أن يصلي التحية؛ لأنه لا حرمة لهذا الموضع، ولكن يجلس، ويستمع الخطبة، فإذا فرغ الإمام من الخطبة
صلى الرجل العيد على القول الذي يقول: يجوز للمنفرد أن يصلي العيد.
فإن كان في المسجد ... فإنه يصلي ركعتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب
فليصل ركعتين من قبل أن يجلس» .
فإذا قلنا: يجوز للمنفرد أن يصلي صلاة العيد، فما هاتان الركعتان؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يصليهما صلاة العيد؛ لأنهما أهم من تحية المسجد وأوكد، وإذا صلاهما ... حصلت بهما سنة صلاة العيد، وتحية المسجد.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصليهما تحية المسجد، وهو الأصح؛ لأنه يحتاج إلى استماع الخطبة، وصلاة العيد تطول؛ ولأن الإمام لم يفرغ(2/647)
من سنة العيد، فلا يشتغل بالقضاء، فإذا فرغ الإمام من الخطبة ... صلى صلاة العيد.
[مسألة صحة صلاة العيد للمنفرد]
] : قال الشافعي: (وتجوز صلاة العيد للمنفرد في بيته، وللمسافر، والعبد، والمرأة) .
وقال في مواضع من كتبه: (لا يُصَلِّي العيد إلا في الموضع الذي يصلي فيه الجمعة) .
وظاهر هذا: أن المسافر والعبد والمرأة والمنفرد لا يصلون العيد، وكذلك أهل القرى الذين لا جمعة عليهم، وإنما يصليها أهل الأمصار.
واختلف أصحابنا فيها، فمنهم من قال: يجوز للعبد والمرأة والمسافر والمنفرد أن يصلوا العيد، قولًا واحدًا.
وما ذكره الشافعي: (لا يصلي إلا في الموضع الذي يصلي فيه الجمعة) أراد: لا يصلي العيد في المصر في مواضع، كسائر الصلوات، وإنما يصلي في موضعٍ واحدٍ، كالجمعة.
ومنهم من قال، فيه قولان:
أحدهما: لا يصليها إلا أهل الأمصار، ومن يصلي الجمعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل العيد بمنى؛ لأنه كان مسافرًا، كما لم يصل الجمعة بعرفاتٍ.(2/648)
والقول الثاني -وهو الصحيح -: أنه يجوز فعلها لكل واحدٍ؛ لأنها صلاة نفل، فاستوى فيها الحر والعبد، والرجل والمرأة، والحاضر والمسافر، كصلاة الاستسقاء، وسائر النوافل, ومن قال بهذا ... قال: إنما لم يُصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد بمنى؛ لأنه كان مشغولًا بالنسك، فكان اشتغاله بالمناسك أولى.
فإذا قلنا: حكمها حكم الجمعة ... فماذا يكون حكمها؟ فيه وجهان:
أحدهما -وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن حُكمها حكمُها في اعتبار الجماعة، وألا تقام إلا في موضع واحدٍ في المصر، ولكن لا يعتبر فيها الأربعون، ويجوز فعلها خارج البلد.
والثاني -وهو قول ابن الصباغ، وصاحب " الإبانة " [ق \ 100]-: أن حكمها حكم الجمعة في العدد، فلا يصح بأقل من أربعين رجلًا على الشروط المذكورة فيهم في الجمعة.
ويشترط الخطبة فيها، وإنما يجوز للمسافر والعبد والمرأة فعلها، تبعًا للعدد المشروط، كما قلنا في صلاة الجمعة.
فإذا قلنا بالقول الصحيح ... جاز فعلها للمنفرد، إلا أنه إذا صلاها وحده لم يخطب. وإن كانوا مسافرين
جاز أن يصلي بهم أحدهم، ويخطب بهم، قال في " الإبانة " [ق \ 100] : ويصح فعلها بغير خطبة على هذا.
[مسألة ثبوت العيد بشهادة العدول]
إذا أصبح الناس صيامًا يوم الثلاثين من رمضان، فشهد شاهدان: أنهما رأيا الهلال بالأمس.
فإن ثبت عدالتهما قبل الزوال ... فإن الإمام يأمر الناس بالإفطار، ويصلي بهم العيد، قولًا واحدًا، ويكون ذلك أداء.
وإن شهد بعد الزوال: أنهما رأيا الهلال بالأمس، أو شهدا قبل الزوال، ولم تثبت عدالتهما إلا بعد الزوال ... فإن الإمام يأمر الناس بالإفطار، وهل يسن لهم أن(2/649)
يصلوا صلاة العيد؟ فيه قولان، كالقولين في النوافل، إذا فاتت ... هل يسن قضاؤها؟ وقد مضى ذكرهما.
فإن قلنا: لا يقضي ... فلا كلام.
فإن صلوا ... لم تكن صلاة عيد، بل تكون نفلًا، كسائر النوافل.
وإن قلنا: يقضي -وهو الصحيح -: فإن كان البلد صغيرًا بحيث يتمكن الإمام من جمع الناس ... أمر بجمعهم، وصلى بهم العيد؛ لأن قضاء الصلاة كلما كان أقرب إلى وقت الصلاة
كان أولى.
فإن تراخى ذلك إلى الليل ... فهل تقضى؟ فيه وجهان، حكاهما في الفروع " الفروع ".
وإن كان البلد كبيرًا بحيث لا يتمكن الإمام من جمع الناس ... فإنه يؤخرها إلى الغد؛ لكي يجتمع الناس، ويُظهروا الزينة.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 100] وجهًا آخر: أنها لا تقضى في الحال بكل حال، وإنما تقضى من الغد، والمشهور هو الأول.
فأما إذا صام الناس يوم الثلاثين، فلما كان الليل شهد شاهدان: أنهما رأيا الهلال ليلة الثلاثين، وأن يوم الثلاثين الذي صام الناس فيه كان يوم فطر ... فإنهم يصلون يوم الحادي والثلاثين العيد، قولًا واحدًا، وتكون أداء لا قضاء، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " بقوله: إذا شهدوا ليلة الحادي والثلاثين
صلوا قولًا واحدًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون» .(2/650)
[فرع قضاء صلاة العيد للجميع]
إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقلنا: إنه يجوز للمنفرد فعلها ... صلاها ركعتين، كصلاة الإمام.
وقال أحمد: (يصليها أربعًا) . وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقال * * *
الثوري: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا.
وقال الأوزاعي: (يصلي ركعتين، ولا يجهر بهما، ولا يكبر كما يكبر الإمام) .
وقال إسحاق: إن صلاها في الجبان ... صلاها كصلاة الإمام، وإن لم يصلها في الجبان
صلاها أربعًا.
دليلنا: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولم يفرق، ولأنها صلاة، فاستوى في عددها الانفراد والجماعة، كسائر الصلوات.
وبالله التوفيق(2/651)
[باب التكبير]
التكبير مسنون في العيدين.
وقال داود: (هو واجب في عيد الفطر) .
وقال النخعي: إنما يفعل ذلك الحواكون.
وقال ابن عباس: (يكبر مع الإمام، ولا يكبر المنفرد) .
وحُكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لا يكبر في الفطر، ويكبر في الأضحى) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] .
قال الشافعي: (سمعت من أرضاه من أهل العلم يقول في قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] [البقرة:185] : عدة صوم رمضان، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة: 185] عند كماله) .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى» .(2/652)
[مسألة أوقات التكبير]
وأول وقت التكبير في عيد الفطر إذا غابت الشمس من آخر يوم من رمضان، وبه قال فقهاء المدينة السبعة.
وقال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يكبر ليلة الفطر، وإنما يكبر عند ذهابه إلى المصلى) ؛ لحديث ابن عمر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] ، وإكمال العدة بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، ولا يمكن حمل الواو -هاهنا- على الجمع؛ لأن أحدًا لا يقول: إنه يكبر مع جمع العدة، فثبت أن المراد بها الترتيب، فيكون تقدير الآية: (ولتكملوا العدة، ثم لتكبروا الله) .
وأما حديث ابن عمر: فلا يعني: أنه لم يكبر قبله.
وأما آخر وقت تكبير عيد الفطر: ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يسن التكبير إلى أن يبرز الإمام للصلاة، ثم ينقطع؛ لأنه إذا برز ... بالناس حاجة إلى أن يأخذوا أُهبة الصلاة، ويشتغلوا بالقيام إليها، فينبغي أن ينقطع التكبير.
والثاني: يسن التكبير إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام مباح لهم في هذه الحالة، فالتكبير أولى.
والثالث: إلى أن يفرغ الإمام من صلاة العيد والخطبتين؛ لما روى الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في العيد حتى يأتي المُصلى. وحتى يقضي الصلاة» . وهذا(2/653)
القول إنما يجيء فيمن لم يكن مع الإمام في الصلاة.
ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر إلى أن يُحرم الإمام بالصلاة، قولًا واحدًا. وتأول ما سواه عليه.
[فرع التكبير في العيد]
ويسن في عيد الفطر التكبير المطلق: وهو أن لا يتحرى له وقت، وإنما يكبر الإنسان متى اتفق وقدر عليه في المنزل والسوق والمسجد وغيرها، وفي الليل والنهار، وهل يسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يتحرى له أدبار الصلوات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسن له؛ لأنه عيد يسن فيه التكبير المطلق، فسن فيه التكبير المقيد، كالأضحى.
فعلى هذا: يكبر خلف ثلاث صلوات: المغرب، والعشاء، والصبح.
والثاني: لا يسن فيه التكبير المقيد؛ لأنه لم يُرو ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، بخلاف عيد الأضحى.
[مسألة تكبير الأضحى]
وأما التكبير في عيد الأضحى: فاختلف أصحابنا في وقته:
فقال أكثرهم: فيه ثلاثة أقوال:(2/654)
أحدها: أنه يبتدأ بالتكبير بعد صلاة الظهر يوم النحر، ويقطعه بعد صلاة الصبح من آخر يوم من أيام التشريق، فيكبر عقيب خمس عشرة صلاة مجموعة، وهو الصحيح. وروي ذلك عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وهو قول مالك، وأحمد.
ووجهه: أن الناس تبع للحاج، والحاج يقطعون التلبية مع أول حصاةٍ، ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، وأول صلاةٍ بعد رميهم: صلاة الظهر يوم النحر، وآخر صلاةٍ يصليها الحاج بمنى: صلاة الصبح من آخر أيام التشريق.
والقول الثاني: أنه يكبر بعد المغرب من ليلة يوم النحر، قياسًا على عيد الفطر، ويقطعه بعد الصبح آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب ثماني عشرة صلاة؛ لما ذكرناه من التبع للحاج.
والقول الثالث: أنه يكبر بعد الصبح من يوم عرفة، ويقطعه بعد العصر من آخر يومٍ من أيام التشريق.
وروي ذلك عن عمر، وعلي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمدٍ، واختاره ابن المنذر.
والدليل عليه: ما «روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: "الله أكبر، الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق» .
ومن أصحابنا من قال: هي على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر بعد الظهر يوم النحر إلى(2/655)
بعد الصبح من آخر أيام التشريق، والقولان الآخران حكاهما عن غيره.
قال المحاملي: ولا يأتي في الحاج إلا هذا القول؛ لأنهم قبل ذلك مشغولون بالتلبية والمناسك. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يكبر بعد الصبح يوم عرفة إلى بعد العصر يوم النحر، لا غير) .
وقال الأوزاعي، والمزني، ويحيى بن سعيد الأنصاري: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق) .
وقال داود: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق) ، وهو قول الزهري، وسعيد بن جبير، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: ما ذكرناه للأقوال.
قال الصيمري: وما الأوكد في التكبير؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (تكبير ليلة النحر آكد من تكبير ليلة الفطر) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (تكبير ليلة الفطر آكد من تكبير ليلة النحر) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] .
[فرع التكبير عقب الصلوات]
] : ويكبر في الأضحى خلف الفرائض في الأمصار والقرى المقيم، والمسافر، والرجل، والمرأة، سواء صلى في جماعة أو منفردًا.(2/656)
وقال أبو حنيفة: (التكبير مسنون للرجال البالغين من أهل الأمصار إذا صلوا الفرض في جماعة، فأما أهل السواد والقرى والمسافرون، ومن صلى منفردًا ... فلا يكبر، ومن صلى في جماعة
فإنما يكبر عقيب السلام، فإن أتى بما ينافي الصلاة، مثل: أن تكلم، أو خرج من المسجد ... لم يكبر) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] [البقرة:200] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] [البقرة:203] .
وقَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] [الحج:28] .
فخاطب الله الحجيج بالتكبير، وهم مسافرون، ولأن كل من خوطب بالفرائض سن له التكبير، كأهل المصر إذا صلوا في جماعة.
ويسن التكبير المطلق في عيد الأضحى، وهو أن يكبر كل وقتٍ.
ويسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يكبر خلف الفرائض.
والدليل على ذلك: نقل الخلف عن السلف، وهل يسن التكبير خلف النوافل؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان.
أصحهما: أنه لا يُسن؛ لأن النقل تابع للفرض، والتابع لا يكون له تبع.(2/657)
والثاني: يسن؛ لأنها صلاة راتبة، فأشبهت الفرائض.
ومنهم من قال: يكبر، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وإن صلى، وقام، ولم يكبر، ومشى خطواتٍ ... فهل يكبر؟
قال أصحابنا البغداديون: يكبر كما يصلي السنن الراتبة بعد الفرائض بعد قيامه من مجلسه.
وقال الخراسانيون: هل يكبر؟ فيه قولان: بناء على أنه لو ترك سجود السهو، وسلم، وتطاولت المدة. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إن ذكره قريبًا ... أتى به، وإن تباعد
لم يأت به) . وقد مضى ذكر مذهب أبي حنيفة.
دليلنا: أن التكبير مسنون في أيام التشريق، وهي باقية.
[فرع التكبير بعد القضاء]
] : قال أصحابنا الخراسانيون: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق ... كبر خلفها قولًا واحدًا.
وهل يكون قضاء أو أداء؟ فيه قولان، بناء على أنه هل يكبر خلف النفل؟
فإن قلنا: يكبر خلف النفل ... كان التكبير خلف المقضية أداء؛ لأنها أولى بالتكبير من النفل.
وإن قلنا: لا يكبر خلف النفل ... كان التكبير خلف المقضية قضاء.
فإن فاتته صلاة في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق، فإن قلنا في التي(2/658)
قبلها: تكون أداء ... فإنه يكبر هاهنا، وإن قلنا: يكون هناك قضاء
فلا يكبر هاهنا.
وأما البغداديون: فقالوا: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في غير أيام التشريق، أو فاتته في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق ... لم يكبر خلفها، وجهًا واحدًا.
وإن فاتته صلاة في هذه الأيام، فقضاها في هذه الأيام ... ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر؛ لأن وقت التكبير باقٍ.
والثاني: لا يكبر؛ لأن التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها، وقد فات الوقت، فلم يُقض.
[فرع ألفاظ التكبير]
التكبير: هو أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثًا نسقًا.
قال الشافعي: (وما زاد من ذكر الله تعالى ... فهو حسن، وإن قال: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على الصفا» .
قال ابن الصباغ: والذي يقوله الناس، لا بأس به، وهو: الله أكبر، ثلاثًا، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.(2/659)
وقال صاحب " الإبانة " [ق] : يكبر ثلاثًا نسقًا، وهل يهلل معه؟ فيه قولان. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكبر مرتين) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صعد الصفا يوم النحر للسعي، قال: "الله أكبر، الله أكبر" ثلاثًا نسقًا» . ثم ذكر الدعاء الذي ذكرناه.
قال الشافعي: (فثبت أن التكبير المسنون هذا؛ لأنه يوم عيد) .
قال في: " الإبانة " [ق -102] : إذا اقتدى بإمامٍ لا يرى التكبير ... فهل يكبر هو؟ فيه وجهان، حكاهما ابن سريج:
أحدهما: يكبر؛ لأنه قد خرج من متابعته بالسلام.
والثاني: يتابعه في تركه.
وبالله التوفيق * * *(2/660)
[باب صلاة الكسوف]
قال الأزهري: يقال: خسفت الشمس، وخسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] [القيامة:8] .
ويقال أيضًا: كسفت الشمس، وكسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما.
وقال بعضهم: كسفت الشمس: إذا تغطت، ومنه قول الشاعر:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يعني: الشمس طالعة ليست مغطية نجوم الليل والقمر.
والأصل في صلاة الكسوف: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] [فصلت:37] .
قال الشافعي: (فاحتملت الآية معنيين:
أحدهما: أنه أمرنا بالسجود له، ونهى عن السجود للشمس والقمر.
والثاني: أنه أمر بالسجود له عند حادث يحدث فيهما) ، وهذا أظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عند حدوث الحادث بهما.
وروى الشافعي بإسناده عن أبي مسعود البدري: أنه قال: «كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الناس: إن الشمس انكسفت لموته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم(2/661)
ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة» .
والسنة: أن يغتسل لها؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فسن لها الغسل كالجمعة، وينادى لها: (الصلاة جامعة) ؛ لما روي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت: «كسفت الشمس، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلًا، فنادى: الصلاة جامعة، وصلى حيث يُصلي الجمعة» ؛ لأنها قد تتفق في وقت لا يُمكن قصد المُصلى فيه.
[مسألة مشروعية صلاة الكسوف للجميع]
ويجوز فعلها للمقيم والمسافر، في الجماعة والانفراد.
وقال الثوري، ومحمد بن الحسن: لا يجوز فعلها على الانفراد.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا رأيتم ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة» . ولم يفرق.
وروى صفوان بن عبد الله، قال: (رأيت ابن عباس يصلي على ظهر زمزم صلاة الخسوف) .
قال الشافعي: (فيحتمل ذلك ثلاثة معانٍ:
أحدها: أن يكون الإمام غائبًا، فصلاها ابن عباس منفردًا.
والثاني: يحتمل أن الإمام لم يفعلها، ففعلها ابن عباس لنفسه.(2/662)
والثالث: يحتمل أن يكون ذلك وقتًا منهيًا عن الصلاة فيه، وكان الإمام ممن يرى أنها لا تصلى في الوقت المنهي عنه، ففعلها ابن عباس) .
ويستحب فعلها للنساء مع الإمام؛ لما روي عن أسماء بنت أبي بكر: أنها قالت: «كسفت الشمس، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيامًا طويلًا، فرأيت المرأة التي هي أكبر مني والتي هي أصغر مني قائمة، فقلت: أنا أحرى على القيام» .
وإنما يستحب ذلك لغير ذوات الهيئات، فأما ذوات الهيئات فيصلين في البيوت منفردات.
قال الشافعي: (فإن جمعن ... فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن؛ لأن الخطبة من سنة الرجال، فإن قامت واحدة منهن، ووعظتهن، وذكرتهن، كان حسنًا) .
[فرع الجهر في خسوف القمر]
] : ويُصلي لخسوف القمر، كما يُصلي لخسوف الشمس، إلا أنه يجهر في صلاة خسوف القمر، ويُسر في صلاة خسوف الشمس.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصلي في خسوف القمر فرادى، ويكره أن يصلي جماعة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة» ، ولم يفرق.
ولأنها صلاة خسوف، فكان من سننها الجماعة، ككسوف الشمس.
والدليل على الإسرار والجهر: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كسفت الشمس، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فقمت إلى جنبه، فلم أسمع له قراءة» .(2/663)
وأما صلاة خسوف القمر: فلأنها صلاة ليل لها نظير بالنهار، يسن في نظيرها الإسرار، فسن فيها الجهر كالعشاء.
[مسألة كيفية صلاة الكسوف]
وكيفية صلاة الكسوف: أن ينوي صلاة الكسوف، ويكبر، ثم يقرأ دعاء التوجه، ثم يتعوذ، ويقرأ بأم الكتاب، وبسورة البقرة، إن كان يحفظها، أو بقدرها من القرآن إن كان لا يحفظها، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة مائة آية من سورة البقرة، ثم يرفع رأسه، ويستوي قائمًا، ويتعوذ، ويقرأ بفاتحة الكتاب وبقدر مائتي آيةٍ من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح، قال الشافعي: (بقدر ثلثي الركوع الأول) . وروي عنه: (بقدر ما يلي الركوع الأول) ، يعني: دونه بقليل.
قال أصحابنا: وهذا أصح.
وقدره الشيخ أبو إسحاق بقدر سبعين آية، وقدره الشيخ أبو حامد بقدر ثمانين آية من سورة البقرة، ثم يسجد كما يسجد في غيرها.(2/664)
وقال أبو العباس بن سريج: يطيل السجود كما يطيل الركوع، وليس بشيء؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعله ... لنقل كما نقل في الركوع.
ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإذا استوى قائمًا ... قرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها بقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح فيه بقدر قراءة سبعين آية من سورة البقرة. هكذا قال عامة أصحابنا.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يسبح فيه بقدر خمس وسبعين آية. قال أصحابنا: وهذا يدل على أن الصحيح: أن التسبيح في الركوع الثاني في الأولى يلي التسبيح الأول فيها؛ لأن السبعين أكثر من ثلثي المائة، وبناء هذه الصلاة: أن الفعل الثاني أخف من الفعل الذي قبله.
قلت: وهذا يدل على أنه يسبح في الثاني من الأولى بأكثر من قدر السبعين آية؛ ليكون أكثر مما بعده؛ لتقع الصلاة على نظم واحد.
ثم يرفع رأسه من الركوع، فإذا استوى قائمًا قرأ الفاتحة، وقرأ بعدها قدر مائة آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة خمسين آية من سورة البقرة، ثم يسجد سجدتين. هذا قول الشافعي المشهور.
وقال في رواية " البويطي ": (يقرأ في القيام الأول في الركعة الأولى سورة البقرة، وفي الثاني منها سورة آل عمران، وفي الأول من الثانية سورة النساء، وفي الثاني منها سورة المائدة) .(2/665)
قال أصحابنا: وهذا قريب من الأول. هذا مذهبنا، وبه قال عثمان، وابن عباس من الصحابة، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد.
وقال الثوري، والنخعي، وأبو حنيفة: (يصلي صلاة الخسوف، كصلاة الصبح) .
وروي عن حذيفة: (أنه ركع في صلاة الخسوف ست ركعات، وأربع سجدات) .
وروي عن علي: (أنه ركع خمس ركعات وسجد سجدتين، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، وقال: ما صلاها أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيري) .
ومن الناس من قال: الأخبار ثابتة في الكسوف في كل ركعة: ركوعان، وثلاث، وأربع، وله أن يفعل أيها شاء. واختاره ابن المنذر.
دليلنا: أن ابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رويا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخسوف ركعتين، في كل ركعة ركوعان» . فذكرا نحوًا مما قلناه.
قال في " الإبانة " [ق 102] : إذا امتد الخسوف، وهو في الصلاة ... فهل يزيد ركوعًا آخر؟ فيه وجهان:(2/666)
أحدهما: يزيد، ولو امتد عشر ركعاتٍ، إلى أن ينجلي، وعلى هذا يُحمل ما ورد من الأخبار في الزيادة على ركوعين.
والثاني -وهو طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الأصح -: أنه لا يزيد؛ لأن الأخبار في الزيادة على ركوعين غير صحيحة.
قال في " الإبانة " [ق 102 -103] : فإن تجلى الكسوف، وهو في القيام الأول ... فهل يتجوز، ويقتصر على ركوع واحدٍ؟
إن قلنا: يزيد ركوعًا إذا امتد الخسوف ... اقتصر -هاهنا- على ركوع واحدٍ.
وإن قلنا هناك: لا يزيد ... لم يقتصر هاهنا.
قال في " الإبانة " [ق 103] : وإن فرغ من الصلاة، ولم يدخل الكسوف ... فهل يعود إلى الصلاة؟
إن قلنا: يزيد ركوعًا لو امتد الخسوف ... عاد إلى الصلاة.
وإن قلنا: لا يزيد ركوعًا ... لم يعد إلى الصلاة.
والوجه المذكور في " الإبانة " في زيادة الركوع غريب، وما يفرع عليه.
[مسألة إدراك الركوع الثاني]
قال في " الإبانة " [ق 103] : وإن أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني ... فقد قال الشافعي: (لم يكن مدركًا لتلك الركعة؛ لأنه لم يدرك معظمها) .(2/667)
قال الشافعي: (فعلى هذا يفعل المأموم ما بقي من الركعة متابعة لإمامه، ويصلي معه الركعة الثانية، فإذا سلم الإمام ... قام المأموم، فإن كان الكسوف باقيًا
صلى الركعة الثانية بهيئاتها، وإن تجلى الكسوف ... صلاها، وتجوز فيها) .
فإن لم يقرأ في كل قيام إلا بأم القرآن ... أجزأه؛ لأن الفريضة تجزئ بذلك، فالنافلة بذلك أولى.
وقال صاحب " التقريب ": إذا أدركه في الركوع الثاني ... كان مدركًا للركعة.
وحكى الصيمري: أنه لو اقتصر على ركوعٍ واحدٍ ... أجزأه.
[مسألة خطبة الكسوف]
فإذا فرغ من الصلاة، فالسنة أن يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسةٍ، يحمد الله فيهما، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية؛ لما ذكرناه في الجمعة.
قال الشافعي: (ويحثهم على الصدقة، ويأمرهم بالتوبة، والاستغفار، والنزوع عن المعاصي) ؛ لأنه قد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يخطب) .
دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «لما كسفت الشمس ... قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى -ووصفت صلاته نحوًا مما ذكرناه- فلما تجلت الشمس
انصرف، وخطب الناس، فذكر الله، وأثنى عليه، وقال: "يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك ... فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا"، ثم قال: "يا أمة محمد، والله، لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا» .
ولأنها صلاة نافلة يسن لها الجماعة، تنفرد بوقتٍ، فكان من سننها الخطبة، كالعيدين.(2/668)
فقولنا: (نافلة) احتراز من الفريضة.
وقولنا: (يُسن لها الجماعة) احتراز من النوافل التي لم تسن لها الجماعة.
وقولنا: (تنفرد بوقت) احتراز من التراويح؛ لأن وقتها ووقت العشاء واحد.
وقال الشافعي: (يخطب حيث لا يجمع) .
قال أصحابنا: أراد أنه يخطب في الكسوف في السفر، وفي غير عددٍ، إلا أنه إذا كان منفردًا ... لم يخطب؛ لأن الخطبة لوعظ غيره وتذكيره.
[مسألة جلاء الكسوف قبل الصلاة]
] : فإن لم يصل للخسوف حتى تجلى الخسوف ... لم يصل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فصلوا حتى تنجلي ".
وإن تجلى بعض الكسوف ... جاز أن يبتدأ الصلاة، كما لو لم ينكشف غير ما بقي.
فإن جللها سحاب أو حائل، وهي كاسفة ... صلى الكسوف؛ لأن الأصل بقاؤه، وكذلك إذا ظهر بعض الشمس أو بعض القمر منجليًا
فإنه يصلي؛ لأن الأصل بقاء الكسوف في الباقي منه.
فإن غابت الشمس كاسفة ... لم يصل الكسوف؛ لأن الصلاة إنما تراد لكي يرد الله تعالى عليها نورها، ولا نور لها في الليل.
وإن غاب القمر خاسفًا، فإن كان قبل طلوع الفجر ... صلى الخسوف؛ لأنه ينتفع بضوئه في غير هذا اليوم في هذا الوقت.
وإن لم يصل لخسوف القمر حتى طلع الفجر الثاني، أو غاب خاسفًا في هذا الوقت ... ففيه قولان:(2/669)
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يصلِّي؛ لأن آية القمر الليل، وقد ذهب، فلا يصلِّي لأجله، كالشمس إذا ذهبت آيتها، وهي النهار) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يصلِّي؛ لأنه ينتفع بضوئه) .
وإن كسف القمر بعد طلوع الشمس، أو بقي كاسفًا إلى تلك الحالة.. لم يصل الكسوف، قولاً واحدًا؛ لأنه لا ينتفع بضوئه في هذه الحالة.
فإن طلعت الشمس، وهو في صلاة كسوف القمر، أو تجلَّى الكسوف، وهو في الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأنها صلاة أصل، فلا يخرج منها بخروج وقتها، كسائر الصلوات.
وفيه احتراز من الجمعة، فإنها بدلٌ عن الظهر، ويخرج منها بخروج وقتها إلى الظهر.
[فرع لا يصلي لآية غير الخسوفين جماعة]
] : قال الشافعي: (ولا آمر بالصلاة جماعة لآية سواها، وآمر بالصلاة منفردين) .
وهذا كما قال: لا تستحب صلاة الجماعة لسائر الآيات، مثل: الزلازل، والظلمة بالنهار، والريح الشديدة، والأمطار الشديدة.
فإن صلَّى الناس منفردين؛ لئلا يكونوا على غفلة.. فلا بأس.(2/670)
وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور: (يسن لها الصلاة بالاجتماع، كالكسوف) .
دليلنا: أن هذه الآيات قد كانت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينقل: أنه صلَّى لها جماعة.
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى ريحًا عاصفًا، قال: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا» .
قال ابن عباس: (لأن كل موضع ذكر الله الريح، فهو عذاب) .
[مسألة اجتماع صلاة الكسوف وغيرها]
إذا اجتمعت صلاة الكسوف، وصلاة الجنازة، واستسقاء، وعيد ... فإنه يبدأ بصلاة الجنازة؛ لأنها فرض، ولأنه يُخشى على الميت التغير، ولهذا ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسراع بها.
فإن كان وقت صلاة العيد واسعًا ... بدأ بصلاة الكسوف قبل صلاة العيد؛ لأنه يخشى فواتها، وصلاة العيد يتحقق أنها لا تفوت، ثم يُصلَّى العيد بعدها، ويخطب لهما معًا.
وإن ضاق وقت صلاة العيد ... بدأ بصلاة العيد قبل صلاة الكسوف؛ لأنه يُتحقق فواتها، ويُشكُّ في فوات وقت صلاة الخسوف.(2/671)
فإذا فرغ من صلاة العيد، وكان الخسوف باقيًا.. صلَّى له وخطب له، وللعيد خطبتين.
وأما الاستسقاء: فإنه يؤخره عن ذلك كلَّه إلى يوم آخر، لأنه لا يفوت بتأخيره عن اليوم.
وقد اعترض ابن داود على الشافعي، وقال: كيف يجتمع الكسوف مع صلاة العيد، والشمس لا تكسف في العادة إلا في يوم التاسع والعشرين، ويوم العيد أول يوم من الشهر، أو يوم العاشر؟!
قال أصحابنا: فالجواب: أنه لا يمتنع كسوفها في غير ذلك اليوم، وقد روي: أنها كسفت في اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وموته كان يوم العاشر من ربيع الأول، على أن الفقهاء قد يذكرون مسائل، وإن لم يتفق وجودها في العادة، كقول الفرضيِّين: إذا مات رجلٌ، وخلَّف مائة جدَّةٍ.
وإن اجتمع الكسوف مع صلاة فريضة ... نظرت:
فإن كانت غير الجمعة، فإن كان وقت الفريضة واسعًا.. صلَّى صلاة الكسوف، لأنه يخشى فواتها، ثم صلَّى الفريضة؛ لأنه يتحقق أنها لا تفوت.
وإن كان وقت الفريضة ضيقًا ... بدأ بصلاة الفريضة؛ لأنها فريضة، ويخاف فواتها، ثم صلَّى صلاة الكسوف.
وإن كانت الفريضة الجمعة: فإن كان وقتها واسعًا.. صلَّى الخسوف أوَّلاً؛ لما ذكرناه في غير الجمعة.(2/672)
قال الشافعي: (ويقرأ في كل قيام فاتحة الكتاب، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [الإخلاص] . فإذا فرغ.. خطب خطبتين للجمعة والخسوف، ثم يصلِّي الجمعة) .
وإن كان وقت الجمعة ضيقًا.. بدأ بها قبل الكسوف؛ لأنها فريضة يخاف فوتها، والخسوف نافلة لا يتحقق فواتها.
وإن اجتمع الخسوف مع الوتر، أو التراويح، أو ركعتي الفجر.. فإنه يقدم صلاة الخسوف، وإن خاف فوت هذه الصلوات؛ لأنها آكد منهن.
قال في " الأمِّ " [1 216] : (وإن كان الكسوف حال الموقف بعرفة.. فإنه يقدم صلاة الكسوف على الدعاء، ثم يخطب راكبًا، ويدعو، وإن كسفت الشمس وقت صلاة الظهر بعرفة.. قدَّم صلاة الكسوف على الدفع إلى عرفة؛ لأنه يخاف فوات صلاة الخسوف، ولا يخاف فوات الدَّفع) .
وإن خُسف القمر بعد طلوع الفجر من ليلة المزدلفة، وهو بالمشعر الحرام صلَّى الخسوف وإن كان يؤدي إلى فوات الدفع إلى منى قبل طلوع الشمس؛ لأنها آكد، ويستحب أن يخفف؛ لئلا يفوته الدفع قبل طلوع الشمس.
وإن كسفت الشمس في اليوم الثامن بمكة، وخاف إن اشتغل بصلاة الخسوف أن يفوته الظهر بمنى.. قدَّم صلاة الخسوف.
وبالله التوفيق والعفو والمغفرة * * *(2/673)
[باب صلاة الاستسقاء]
وصلاة الاستسقاء سُنَّة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] [البقرة: 60] .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المُصلَّى للاستسقاء» .
وروي عن أنس: أنه قال: «أصاب أهل المدينة قحط، فبينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل، فقال: يا رسول الله، هلك الكراع والشاء، فادع الله أن يسقينا، فمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ودعا، وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريحٌ، فأنشأت سحابًا، ثم أرسلت عزاليها، فخرجنا نخوض الماء، حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، واحتبس الركبان، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل» .(2/674)
[مسألة الاستسقاء بطلب الحاكم]
وإذا أرد الإمام الاستسقاء.. وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم من دم، أو مال، أو عِرْضٍ، وصُلحِ مشاجرٍ، والصدقة، وصوم ثلاثة أيام متوالية، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، وإنما أمروا بالخروج من المظالم؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (إذا بخس المكيال والميزان، حبس القطر) .
وقال مجاهد، في قَوْله تَعَالَى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] [البقرة: 159] :
قال: دواب الأرض تلعنهم، تقول: يمنع القطر آثامهم، ولأن مَنْ عليه الدَّين لا يدخل الجنة وهو عليه، فبأن ترد دعوته أولى.
وأما الصلح: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يهجرن أحدكم أخاه فوق ثلاثة أيام، فمن هجر أخاه فوق ثلاث.. فهو في النار» .(2/675)
وأما الصدقة: فتستحب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تطفئ غضب الرب» ، والقحط من الغضب.
وأما الصوم: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة الصائم لا ترد» .
[مسألة الصلاة في المصلَّى]
والسُنَّة في الاستسقاء: أن تكون في المصلَّى؛ لـ: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فيه) ، ولأنه أوسع للجمع.
قال أبو إسحاق: ولأنهم يسألون المطر، فينبغي أن يكونوا حيث يصيبهم المطر.
ويخرج الناس متنظفين بالغسل والسواك في ثياب البذلة، ولا يتطيبون؛(2/676)
لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء متبذلاً» ، ولأنهم يخرجون للسؤال، فينبغي أن يكونوا بزيِّ السؤال، ويخالف العيد؛ لأنه يوم زينة، فاستحب إظهار الزينة فيه.
ويستحب أن يستسقي بأهل الصلاح من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روي: (أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا.. توسلنا إليك بنبيك، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك، فاسقنا، فسقوا) .
فإن لم يكن هناك أحد من أهل الصلاح من أقرباء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. استسقى بأهل الصلاح من غيرهم؛ لما روي: (أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود، وقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم وإنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابةٌ من المغرب كأنها ترْسٌ، وهبَّت لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم) .
ويستحب إخراج المشايخ، والصبيان، ومن لا هيئة لها من النساء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: لولا مشايخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع.. لصببت عليكم العذاب صبا» .(2/677)
ولأن الإنسان إذا كبرت سَنُّهُ.. تساقطت ذنوبه.
والدليل عليه: ما روي أن: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ العبد ثمانين عامًا.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . ذكره الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، ومن لا ذنب له ترجى إجابة دعوته، ولهذا روي: (أن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فأوحى الله إليه: قل لبني إسرائيل: من كان له ذنب.. فليرجع، فنادى موسى فيهم بذلك، فرجع الناس كلهم حتى لم يبقى منهم معه إلا رجل أعور، فقال له موسى: أما سمعت النداء؟! فقال: بلى، قال: أما لك ذنب؟ قال: لا، نظرت بهذه العين مرَّةً إلى امرأة، فقلعتها، فدعا موسى، وأمن الأعور على دعائه، فسقوا) .
[فرع لا يطلب إخراج البهائم]
قال الشافعي: (ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، فإن أخرجت.. فلا بأس) .(2/678)
وقال أبو إسحاق: يستحب إخراجها، لعل الله سبحانه أن يرحمهما، ولما روي: (أن قوم يونس لما أتاهم العذاب.. جاءوا إلى يونس، ففرَّ منهم غيظًا عليهم ففرَّقوا بين النساء وأطفالهنَّ، وبين البهائم وأولادها، ودعوا، فكثر الضجيج، فصرف الله عنهم العذاب) .
وروي: (أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فرأى نملة واقفة على ظهرها، وقد رفعت يديها، وقالت: اللهم إنك خلقتنا، فارزقنا، وإلا فأهلكنا) .
وروي: أنها قالت: (اللهم إنا خلقٌ من خلقك لا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، فقال سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقومه: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، فسقوا) .
ويكرهُ إخراج أهل الذمة للاستسقاء، فإن خرجوا.. لم يمنعوا؛ لأنهم جاءوا في طلب الرزق، ولكن لا يختلطون بالمسلمين.
وقال مكحول: لا بأس بإخراجهم.
وقال إسحاق: لا يأمرهم بالخروج، ولا ينهاهم عنه.(2/679)
وقال الأوزاعي: (كتب يزيد بن عبد الملك إلى عمَّاله بإخراج أهل الذمة للاستسقاء، ولم يعب عليه أحد ذلك في زمانه) .
دليلنا: أن الكفار أعداء الله، فلا يتوسَّل بهم إليه.
[مسألة مكان الاستسقاء]
قال الشافعي: (ويُستسقى حيث لا يجمع من باديةٍ وقريةٍ ويفعله المسافرون، وإنما كان كذلك؛ لأنه يسنُّ للحاجة إلى المطر، وأهل الأمصار والبوادي والمسافرون في ذلك سواء) .
ويجوز فعله جماعة وفرادى؛ لما ذكرناه، فإن نضب ماء الأنهار والآبار، واستنصر أهل البلد بذلك.. جاز أن يصلّى الاستسقاء؛ لأن الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى المطر.
[مسألة ينادي للاستسقاء الصلاة جامعة]
] : ولا يؤذن لصلاة الاستسقاء، ولا يقام لها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا» .
ويستحب أن ينادى لها: (الصلاة جامعة) ؛ لأنها صلاةٌ شرع لها الاجتماع والخطبة، ولم يشرع فيها الأذان، فيشرع فيها: (الصلاة جامعة) ، كصلاة العيد والكسوف.(2/680)
قال الشيخ أبو حامد: ووقتها وقت صلاة العيد؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين» . قال ابن الصباغ: إلاَّ أن الشافعي قال: (فإن لم يصلِّها قبل الزوال.. صلاَّها بعده) ؛ لأنها لا وقت لها تفوت فيه؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم، فلم تختص بوقت.
إذا ثبت هذا: فإن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد دعاء التوجه سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال مالك: (يصلِّي ركعتين، كصلاة الصبح، من غير تكبير زائد) .
وقال أبو حنيفة: (لا تسن الصلاة في الاستسقاء، وإنما يسن الدعاء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فصلَّى ركعتين» .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلَّى للاستسقاء متبذلاً متواضعًا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد» .
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق: 1] وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر: 1] .
قال الشيخ أبو إسحاق: ومن أصحابنا مَنْ قال: يقرأ في الثانية بسورة نوح. وحكاه الشيخ أبو حامد قولاً للشافعي؛ لأنها تليق في الحال، لذكر الاستسقاء فيها.
والأول أصحُّ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس.
ويجهر في القراءة فيهما، كما قلنا في صلاة العيد.(2/681)
[فرع خطبة الاستسقاء]
فإذا فرغ من الصلاة.. خطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، كما قلنا في خطبة الجمعة.
قال المحامليُّ: ويكبِّرُ في أوَّل الخطبة، وأراد: كما يكبر في أوَّل خطبتي العيد.
وقال المسعودي: [في " الإبانة " ق 103] : يستفتح الخطبة بالاستغفار مكان التكبير في خطبة العيد. هذا مذهبنا.
وحُكي: (أن ابن الزبير خطب، ثم صلَّى البراء بن عازبٍ، وزيد بن أرقم) ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الليث بن سعد.
وروي ذلك: عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في الاستسقاء، كما يصنع في العيد» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على الاستسقاء، فصلَّى ركعتين، ثم خطب» .
إذا ثبت هذا: فإنه يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من كتاب الله، كما قلنا في خطبة الجمعة، ويُكثر من الاستغفار في الخطبة.
ويستحب أن يدعو في الخطبة الأولى؛ لما روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى.. قال: «اللهم اسقنا غيثًا، هنيئًا مرئيًا، مريعًا غدقًا، مجللاً طبقًا، سحًّا عامًّا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين،(2/682)
اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا» .
قال الشافعي: (وأحب أن يفعل هذا كله، ولا وقت للدعاء، ولا يجاوزه) .
فـ (المغيث) : الذي يغيث الخلق. و (الهنيء) : الذي لا ضرر فيه، و (المريء) : مثله، و (المريع) : الذي تمرع الأرض عليه، أي: تنبت عليه، و (الطبق) : الذي يطبق الأرض، و (الغدق) : المغدوق الكثير القطر، و (الضنك) : الضيق، و (اللأواء والجهد) - بضم الجيم-: الشدة، وبفتحها: النصب.
ثم يخطب بعض الخطبة الثانية مستقبلاً للناس، ثم يستقبل القبلة في بعضها، ويدعو الله، ويحوِّل رداءه، وينكسه إذا كان مربَّعًا، في قوله الجديد.
وقال في القديم: (ويحوله ولا ينكسه) ، وهو قول مالك، وأحمد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
و (التحويل) : أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن.(2/683)
و (التنكيس) : أن يجعل أعلاه أسفله، فإذا كان الرداء ساجيًا، وهو الطيلسان المقوَّر.. فإنه يحوله ولا ينكسه، ويفعل ذلك المأمومون.
وقال أبو حنيفة: (لا يفعل شيئًا من ذلك) .
وقال محمد بن الحسن: يفعل ذلك الإمام، دون المأمومين.
دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومًا يستسقى، وعليه خميصة سوداء، فاستقبل الناس، ودعا، فأراد أن يجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، فثقلت عليه، فحولها، وحول الناس معه» .
قال الشافعي: (فأحب التحويل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وأحب القلب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يفعله، وإنما تركه لثقل الخميصة) .
قال أبو عبيد: إنما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً، ولكي يحول الله الخلق من حال الجدب إلى حال الخضب.
ويدعو الله سرًّا فيها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] [الأعراف: 55] .
قال ابن الصباغ: فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعةٍ في رزقنا، ثم يدعو بما شاء من دِينٍ ودنيا. [و] ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار.(2/684)
وإذا حوَّلوا أرديتهم.. تركوها محوَّلة؛ لينزعوها مع الثياب؛ لأنه لم يرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه غيروها.
[فرع أنواع الاستسقاء]
] : قال الشافعي: (ويجوز أن يستسقى بغير صلاة) . قال أصحابنا: الاستسقاء على ثلاث أضربٍ:
أحدها -وهو أفضلها-: أن يأمر الناس الإمام بالصيام، ويستسقي بالصلاة والخطبة، كما ذكرناه.
والثاني: أن يستسقي بالدعاء لا غير، إما قبل الصلاة، أو بعدها، نفلاً كانت أو فرضًا؛ لما ذكرناه في أول الباب في الرجل الذي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يوم الجمعة: «هلك الكراع والشاء، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
والثالث: أن يجمع الناس، ويدعو؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يستسقي، فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار، حتى نزل، فقيل له: لو استسقيت؟! فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يُستنزل بها القطر) .
قال أبو عبيد [في " الغريب " (3 259) ] : (المجاديح) : واحدها مجدح ومجدح -بكسر الميم وضمها- وهو كل نجم من النجوم التي كانت العرب تمطر به في الأنواء، فجعل عمر الاستغفار هي المجاديح التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممَّن لا يرى بالأنواء، وإنما ذلك على طريق التشبيه على ما تقوله العرب من الأنواء.(2/685)
[مسألة إذا تأخرت السقيا]
فإن لم يُسْقَوْا.. قال الشافعي في موضع: (يعودون من الغد) .
وقال في القديم: (يخرج ثلاثًا متواليًا إن لم يشق عليهم) .
وقال في " الأمِّ " [1 219] : (يأمرهم بصيام ثلاثة أيام) .
فمن أصحابنا من قال: في ذلك قولان، حتى قال ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين إلا هذه:
أحدهما: يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، كما قلنا في الأول.
والثاني: لا يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، بل يخرجون من الغد؛ لأنهم قد صاموا الثلاث، ويشق عليهم صوم ثلاث غيرها.
وقال الشيخ أبو حامد: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فإن كان الإمام يعلم أنه إذا أخرجهم في اليوم الثاني، لا يشق عليهم، ولا يقطعهم عن أشغالهم ومعاشهم.. فعل ذلك، وإن كان يعلم أنه يقطعهم.. أمرهم بالصوم، وخرجوا في اليوم الرابع.
وأما قول ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين غير هذه.. فقد مضى ذكر مسألة قبلها في القلب والتحويل على قولين.
[فرع استسقاء المسلم لأخيه]
قال الشافعي: (وإن كانت ناحيةٌ خصبة، وأخرى جدبةٌ.. فحسن أن يستسقي أهل الخصبة لأهل الجدبة ولسائر المسلمين) ؛ لأن الله تعالى أثنى على من دعا(2/686)
لغيره، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الآية [الحشر: 10] .
قال الشافعي: (وإذا تهيأ الإمام للاستسقاء، فسقوا قبل أن يخرج.. استحب له أن يخرج، ويستسقي، ويشكر الله تعالى على ذلك، ويستزيده من المطر) فإن استدام المطر حتى تأذى الناس به، وخافوا أن يهدم البيوت.. جاز أن يدعو الله تعالى أن يحبسه عنهم، ويصرفه إلى حيث ينفع ولا يضر من الآكام وبطون الأودية؛ لما ذكرناه في الخبر الأول في أول الباب.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه في الاستسقاء: «اللهم سُقْيَا رَحْمَةٍ، ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم على الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا» .
[مسألة لا يلزم الخروج للاستسقاء إلا في الجدب]
قال الشافعي: (وإن نذر الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك، ولا يلزمه أن يخرج الناس، وإن أخرجهم.. لم يلزمهم الخروج معه؛ لأنه ليس له أن يكرههم على الخروج في غير حال الجدب) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن للإمام أن يكرههم على الخروج في حال الجدب.(2/687)
وإن نذر غير الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك؛ لأنه نذر طاعة، فإن نذر أن يستسقي بالناس.. لزمه في نفسه دون الناس؛ لأنه لا يملك إخراجهم.
ويستحب أن يُخرج معه من يقدر عليه من ولده وعبده وأهله، ويجزئه أن يستسقي في داره، أو في المسجد؛ لأن الاستسقاء هو الدعاء، وذلك لا يختص بالمسجد.
قال الشافعي: (وإن نذر غير الإمام أن يستسقي، ويخطب.. لزمه أن يستسقي، ويخطب، ويجزئه أن يخطب قائمًا وقاعدًا) .
وإن كان هناك ناسٌ.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه أن يخطب قائمًا.
وإن نذر أن يخطب على المنبر.. جاز أن يخطب على المنبر، أو على راحلته، أو نشز من الأرض؛ لأنه لا يختص بمكان دون مكان.
قال الشافعي: (وأحبُّ أنْ يتمطر الإنسان في أول مطر حتى يصيب ثيابه وبدنه؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاء أول المطر.. خرج حتى يصيب جسده منه، ويقول: "إنه قريب عهد بربه» .
وروي: (أن ابن عباس كان إذا جاء المطر، يأمر عبده أن يخرج رحله وفراشه على المطر، فقيل له في ذلك؟ فقال: أما قرأت: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] [ق: 9] ؟!(2/688)
فأحب أن ينالني من بركته) .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سال الوادي.. قال لأصحابه: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي سمَّاه الله طهورًا، فنتطهَّر منه، ونحمد الله عليه» .
ويستحب أن يدعو عند نزول الغيث؛ لما روى الشافعي بإسناده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلبوا استجابة الدُّعاء عند ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» .
[فرع المطر من فضل الله تعالى]
روى الشافعي في " الأمِّ " [1 223] : «عن زيد بن خالد، قال: (صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، ثم قال: "أتدرون ما قال ربكم؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وكافرٌ بي مؤمن بالكوكب، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته.. فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا.. فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب» .(2/689)
و (الأنواء) : هي البروج، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، يطلع في كل ثلاثة عشر يومًا منها واحد، ويغيب رقيبه، والنوء: هو النهوض، فمن قال: إن النوء هو الممطر.. فذلك كافرٌ، وإن أراد: أنه وقت أجرى الله تعالى العادة بمجيء المطر فيه.. فيكره أن يقال ذلك، ولكن لا يكفر قائله.
وقد روى عن عمر: أنه قال في يوم جمعة على المنبر: (كم بقي من نوء الثُريَّا؟ فقال العباس: العواء، ودعا الناس حتى نزل من المنبر، فَمُطِروا مطرًا أحيا الناس) .
[فرع إشفاقه صلى الله عليه وسلم من البرق والرعد]
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا برقت السماء، أو رعدت.. عُرف ذلك في وجهه، فإذا نزل المطر.. سري عنه» .
قال الشافعي: (ولا ينبغي لأحد أن يسب الريح.. فإنها خلق لله مطيعة) .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرها، وعُوذُوا به من شرها» .(2/690)
وروي عن عروة: أنه قال: (إذا رأى أحدكم البرق.. فلا يشير إليه) .
قال الشافعي: (حكي عن مجاهد، أنه قال: الرعد ملك، والبرق بياض جناحيه إذا نشرهما، وما أحسن ما قال؛ لأن الله تعالى قال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] [الرعد: 13] .
ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح؛ لما روي عن ابن عباس: قال: (كنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سفر، فأصابنا رعد وبرق وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته (ثلاثًا) .. عوفي من ذلك الرعد، فقلنا ذلك، فعوفينا) .
وروي عن بعض الصحابة: أنه كان إذا سمع الرعد.. قال: (سبحان من سبحت له) .
وبالله التوفيق.(2/691)
[كتاب الجنائز] [باب ما يفعل بالميت](3/5)
كتاب الجنائز
باب ما يفعل بالميت يستحب لكل أحد أن يكثر من ذكر الموت في جميع أحواله؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات". "فما ذكر في كثير ... إلا وقلله، ولا ذكر في قليل
إلا وكثره» .
وروي: (أنه كان منقوشًا على خاتم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كفى بالموت واعظًا يا عمر) .(3/7)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استحيوا من الله حق الحياء" فقيل له: وكيف ذلك: قال: "من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموتى والبلى ... فقد استحيا من الله حق الحياء» .
وروي: (الجوف وما وعى) فقيل: معناه: البطن والفرج، فيكون تأويله: ألا يضع في بطنه إلا حلالاً، ولا يضع فرجه إلا في حلال.
وقيل: بل أراد (بالجوف) : القلب، (وما وعى) : من معرفة الله والعلم بحلاله وحرامه، وأن لا يضيع ذلك.
وأما (الرأس) : فقال أبو عبيد: أراد به الدماغ، وإنما خص به القلب والدماغ؛ لأنهما مجمع العقل ومسكنه.
ويستحب أن يستعد للموت: بالخروج من المظالم، وإصلاح المشاجر له، والإقلاع عن المعاصي، والإقبال على الطاعات؛ لأنه لا يأمن أن يأتيه الموت فجأة، واستحبابنا ذلك في حال المرض أشد؛ لأنه سبب الموت.
[مسألة: الصبر عند المرض والابتلاء]
ومن مرض ... استحب له أن يصبر عليه؛ لما روي: «أن امرأة قالت: (يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: "إن شئت
دعوت الله فشفاك، وإن شئت ... فاصبري، ولا حساب عليك"، فقالت: أصبر ولا حساب علي»(3/8)
ويكره للمريض الأنين، لما روي عن طاووس: أنه كره له ذلك.
ويكره للمريض أن يتمنى الموت وإن اشتد مرضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت، لضيق نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» .
ويستحب له أن يتداوى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بالحرام» .
ويستحب للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى في حياته، وعند وفاته؛ لما روى جابر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بثلاث يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»(3/9)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على شاب، وهو يكابد الموت، فقال: "كيف تجدك؟ "، فقال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف من ذنوبي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف»
ويستحب عيادة المريض، لما روي عن البراء بن عازب، أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس» .(3/10)
وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة وعشية ... إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية
صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، فإن رجا له العافية ... دعا له بها» .
والمستحب: أن يقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك (سبع مرات) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال ذلك سبع مرات عند مريض لم يحضره أجله ... عافاه الله من مرضه» .
ويستحب أن يبشره بالعافية؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخلتم على المريض ... فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويطيب نفسه» .
وإن رآه منزولاً به، فالمستحب: أن يلقنه قول: لا إله إلا الله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»(3/11)
والمستحب: أن لا يقول له: قل: لا إله إلا الله، ولكن يقول عنده؛ لأنه ربما ضاق صدره إذا قال له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا، فيكفر، ولا يكثر عليه.
قال المحاملي: بل يلقنه ثلاث مرات، فإذا قالها ... لم يلقن إلا أن يتكلم بكلام غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة» .
ويستحب أن يوضع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بجميع بدنه، كما يوضع الميت في لحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» . فاستحب أن يموت على أشرف الهيئات.
وروي: أن فاطمة ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالت لأم ولد رافع: (ضعي فراشي هاهنا، واستقبلي بي القبلة، ثم قامت، واغتسلت كأحسن ما يغتسل، ولبست ثيابًا جددًا، ثم(3/12)
قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن، ثم استقبلت القبلة، وتوسدت يمينها) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن ذلك لضيق المكان ... ألقي على قفاه حتى يكون بوجهه وقدميه مستقبل القبلة) .
ويستحب أن يُقرأ عنده سورة (يس) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا على موتاكم يس» .
ويستحب أن يقرأ عنده سورة (الرعد) ؛ لما روي عن جابر بن زيد: أنه قال: اقرؤوا على موتاكم سورة الرعد؛ فإنها تهون عليه خروج الروح.
[مسألة: ما يسن فعله بالميت]
إذا مات الميت ... استحب أن يُفعل به سبعة أشياء:
أحدها: أن يتولى أرفق أهله به - إما ولده، أو والده - إغماض عينيه بأسهل ما يقدر عليه، لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغمض أبا سلمة لما مات، وقال: "إن البصر يتبع الروح» ، ولأنه إذا لم يفعل ذلك ... بقيت عيناه مفتوحتين، فقبح(3/13)
منظره، وإذا أغمضتا ... بقي كالنائم.
الثاني: أن يشد لحيه الأسفل بعصابة عريضة أو عمامة، ويربطها فوق رأسه؛ لئلا يبقى فوه مفتوحًا، فتدخل إليه الهوام.
الثالث: أن يلين مفاصله، فيرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يمدهما، ويرد أصابع يديه إلى كفيه، ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدهما؛ ليكون أسهل على غاسله، وذلك: أن الروح إذا فارق البدن ... كان البدن حارًا، لقرب مفارقة الروح، ثم تبرد، فإذا لين عقيب خروجه
لانت وإذا لم يلين ... بقيت جافة.
الرابع: أن ينزع عنه ثيابه التي مات فيها.
قال الشافعي: (سمعت أهل التجربة يقولون: إن الثياب تحمى عليه، فيسرع إليه الفساد) .
الخامس: أن يسجى جميع بدنه بثوب؛ لما روت عائشة أم المؤمنين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... سجي بثوب حبرة» .
السادس: أن يترك على شيء مرتفع من الأرض: إما سرير أو لوح؛ لئلا تصيبه نداوة الأرض، فيتغير ريحه.
السابع: أن يثقل بطنه بحديدة، أو طين رطب؛ لما روي: أن مولى لأنس مات، فقال أنس: (ضعوا على بطنه حديدة؛ لئلا ينتفخ) .(3/14)
قال الشافعي: (وأول ما يبدأ به ولي الميت بعد ذلك أن يقضي دينه إن كان عليه، أو يحتال به على نفسه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه» ، وروي: «مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» ، وإن كان قد وصى بوصية ... نفذت؛ لكي يتعجل له منفعتها.
[مسألة: التحقق من الموت قبل الدفن]
فإذا مات بمرض وعلة معروفة ... لم يدفن حتى تظهر فيه علامات الموت؛ لأنه قد يغشى عليه، فيخيل إليهم أنه قد مات.
وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للموت أربع علامات:
(إحداهن: أن تسترخي قدماه، فينصبان، فلا ينتصبان. الثانية: أن تميل أنفه. الثالثة: أن تمتد جلدة وجهه. الرابعة: أن ينخلع كفه من ذراعه) .(3/15)
وذكر أصحابنا علامة خامسة: وهو: أن ينخسف صدغاه.
فإذا شوهدت هذه العلامات فيه، مع تقدم المرض ... تحقق بذلك موته.
وإن مات فجأة بغير علة، كأن يموت من فزع، أو غرق، وما أشبه ذلك ... فإنه ينتظر حتى يتحقق موته.
فإذا تحقق موته في هذا، أو في القسم قبله. فالسنة: أن يبادر إلى تجهيزه ودفنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تؤخروهن: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا وجدت كفؤًا» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على طلحة بن البراء يعوده، فقال: "ما أرى الموت إلا قد ذهب بطلحة، فإذا مات ... فآذنوني، وبادروا به، فما ينبغي لجيفة مسلم أن يكون بين ظهراني أهله» .
وبالله التوفيق(3/16)
[باب غسل الميت]
غسل الميت فرض من فروض الكفاية، يجب على من علمه ميتًا أن يتولاه، فإذا قام به البعض ... سقط الفرض عن الباقين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل الذي سقط عن بعيره، فمات: اغسلوه بماء وسدر»
قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه.
[مسألة: المقدم لغسل الميت]
فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له: فأولى الناس بغسله الأب، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ، ثم ابن الأخ وإن سفل، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل، على ترتيب العصبات.
وإنما قدمنا الأب والجد على الابن، لأنهم أكثر شفقة عليه من الابن.
وإن كان له زوجة ... جاز لها غسله.
قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا رواية تروى عن أحمد: أنه قال: (لا يجوز لها) .(3/17)
والدليل عليه: ما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ... ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير نسائه) .
وروي: (أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته، وهي: أسماء ابنة عميس) ، ولا مخالف له، وهل تقدم الزوجة على الأب والجد وسائر القرابات؟ فيه وجهان:
أحدهما: تقدم؛ لأن لها النظر إلى عورته، بخلاف القرابات فيه.
والثاني: تقدم القرابة عليها، كما يقدمون في الصلاة عليه.
والأول أقيس؛ لما ذكرناه من حديث عائشة وأبيها، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر(3/18)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهما قرابة من الرجال.
ويخالف الصلاة؛ لأن المرأة لا مدخل لها في التقدم بالصلاة على الميت.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: وإن مات رجل وامرأته حامل، فوضعت قبل أن تغسله ... حل لها غسله بعد الوضع.
وقال أبو حنيفة: (ليس لها أن تغسله) .
دليلنا: أنه مات على الزوجية التامة، فأشبه إذا بقيت عدتها.
وإن كان له نساء من ذوات محارمه، كأمه، وجدته، وأخته، ومن أشبههن، فالذي يقتضي المذهب: أنه يجوز لهن غسله، كما يجوز له غسلهن، إلا أن الرجال والزوجة يقدمون عليهن.
وإن كان الميت امرأة، ولا زوج لها ... فالنساء أحق بغسلها من الرجال، سواء كن محارم لها، أو أجنبيات؛ لأنهن أوسع في باب النظر، وأولاهن ذوات رحم محرم، وهن: كل من لو كانت رجلاً
لم يحل له أن يتزوج بها، مثل: الأم، والجدة، والأخت، وابنة الأخ، وابنة الأخت، ومن أشبههن، ثم ذات رحم غير محرم، مثل: ابنة العم، ثم الأجنبيات.
فإن لم يكن هناك نساء ... غسلها أقاربها من الرجال، من كان ذا رحم محرم لها، كالأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم، وهم عصبة لها ومحرم.
فإن اجتمع الخال وابن الأخت مع ابن العم ... غسلها الخال، أو ابن الأخت؛ لأنهما من ذوي الأرحام المحرمين، وابن العم ليس من المحرمين، بل هو عصبة لا غير.(3/19)
وإن ماتت امرأة، ولها زوج ... جاز له غسلها، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له غسلها) .
دليلنا: ما «روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو مت قبلي ... لغسلتك ودفنتك» .
وروي: (أن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتت ... أوصت أن يغسلها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسماء ابنة عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فغسلاها) وظهر ذلك في(3/20)
الصحابة، ولم ينكره أحد، فدل على أنه إجماع.
ولأنه أحد الزوجين، فجاز له غسلها، كالزوجة.
ولأن النظر الذي يستفاد بعقد النكاح نظران: نظر شهوة، ونظر حرمة، فإن مات أحد الزوجين ... بطل جواز النظر بالشهوة، وبقي جواز النظر بالحرمة.
إن ثبت هذا: فهل يقدم الزوج على غيره؟ فيه وجهان، كالوجهين في الزوجة، هل تقدم على الرجال، وقد مضى توجيههما.
فإن قلنا: تقدم الزوجة على الرجال ... قدم الزوج - هاهنا - على النساء والرجال من أقاربها؛ لأنه أوسع في باب النظر منهن ومنهم.
وإن قلنا: يقدم الرجال على الزوجة ... قدم النساء - هاهنا - ثم القرابات المحرمون من الرجال، ثم الزوج.
وإن مات وله امرأتان أو أكثر في حالة واحدة ... أقرع بينهما بتقديم الغسل؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
وإن طلق زوجته طلاقًا رجعيًا، ثم مات أحدهما ... لم يجز للآخر غسله.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إحدى الروايتين عنه: (يجوز له أن يغسلها) .
دليلنا: أنها محرمة الوطء عليه، فأشبهت المبتوتة.(3/21)
[مسألة: عدم وجود مغسل من جنسه]
مسألة: [في عدم وجود مغسل من جنسه] :
إذا مات رجل بين نسوة لا محرم له منهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا محرم لها منهم ... ففيه وجهان:
أحدهما: ييمم ولا يغسل، وهو قول ابن المسيب، وحماد، ومالك، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم، لأن في غسله النظر إلى من ليس بمحرم.
والثاني: وبه قال قتادة، والزهري، والنخعي رحمة الله عليهم: أنه يجعل على الميت ثوب، ويصب الماء من تحت الثوب، ويمر الغاسل يده عليه، وعليها خرقة؛ لأنه يمكن غسله بذلك.
وقال الأوزاعي: (لا ييمم، ولا يغسل، بل يدفن) . واختار هذا الشيخ أبو نصر في " المعتمد ".
دليلنا: أن غسله ممكن، على ما ذكرناه، فلم يسقط فرضه.
وإن مات خنثى مشكل، وليس هناك أحد من ذوي محارمه من الرجال والنساء ... ففيه أربعة أوجه:
وجهان حكاهما فيه ابن الصباغ، وهما الوجهان في التي قبل هذه في الرجل إذا مات وليس له قرابة، لا من الرجال، ولا من النساء المحرمات عليه، ووجهان حكاهما أصحابنا الخراسانيون فيه:
أحدهما: يُشترى له جارية من ماله إن كان له مال، أو من بيت المال إن لم يكن له مال؛ لأنه لا يجوز للرجال غسله؛ لجواز أن تكون امرأة، ولا يجوز للنساء غسله؛ لجواز أن يكون رجلاً، ولا بد من غسله، ولا طريق إلى جواز غسله إلا بذلك.(3/22)
والوجه الثاني - وهو قول القفال -: أنه يغسله الرجال والنساء استصحابًا لحكمه في حال الصغر؛ لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للنساء والرجال غسله.
فإن كان الخنثى ذميًا، ولا مال له ... لم يكن فيه إلا الأوجه الثلاثة
ويسقط شراء الجارية له من بيت المال؛ لأنه لا حق له في بيت المال.
فإذا قلنا: يُشترى له جارية، فاشتريت من ماله ... فإنها تكون لوارثه، كسائر أمواله، وإن اشتريت للمسلم من بيت المال
اشتريت من سهم المصالح، فإذا فرغت من غسله وتكفينه ... بيعت، وأعيد ثمنها إلى بيت المال، ولا حق لوارثه فيها.
[فرع: غسل الصغير]
قد ذكرنا: أن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله.
قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس في سنه نص، والذي يجيء على المذهب: أنه ما لم يكن مميزًا ... غسله الرجال والنساء.
وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما لم يفطم.
وقال مالك رحمة الله عليه: (ما له دون سبع سنين) ، وقال أبو حنيفة: (ما لم يتكلم) .
[فرع: يغسل السيد أمته]
] : وإن ماتت أم ولده، أو أمته القنة ... جاز للسيد غسلها.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) ؛ لأنه لا يجوز له وطؤها.
دليلنا: أنه يلزمه الإنفاق عليها بحكم الملك، فكان له غسلها، كالحية.(3/23)
وإذا مات السيد: فهل يجوز لأم الولد غسله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها عتقت بموته، فصارت أجنبية منه.
والثاني: يجوز؛ لأنه لما جاز له غسلها ... جاز لها غسله، كالزوجة.
وهل لأمته القنة غسله؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون:
أحدهما: يجوز لها غسله، كما يجوز له غسلها.
والثاني: لا يجوز، لأنها أجنبية منه، إذ صارت ملكًا لوارثه.
[مسألة: غسل الكافر]
وإن مات كافر ... جاز غسله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل أباه» ، ولو لم يكن جائزًا
لما أمره بغسله.
فإن كان له قرابة مسلمون، وقرابة كفار، وتنازعوا في غسله ... فالكفار أولى؛ لأنه لا موالاة بينه وبين المسلمين.(3/24)
فإن لم يغسله الكافر، أو لم يكن له ولي كافر، جاز لوليه المسلم غسله، وكفنه، ودفنه، ولا يجوز له الصلاة عليه.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يجوز له غسله، ولا يجوز الصلاة عليه) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا أن يغسل أباه» ، ولو لم يجز له غسله، لما أمره به.
ولأن الله تعالى قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] .
ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها الترحم عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله.
[فرع: غسل الذمية ونية الغسل]
وإن ماتت ذمية، ولها زوج مسلم ... جاز له غسلها؛ لأن النكاح يجري مجرى النسب.
وإن مات المسلم وله زوجة ذمية ... قال الشافعي: (كرهت لها أن تغسله، فإن غسلته
أجزأه؛ لأن القصد منه التنظيف، وذلك يحصل بغسلها) .
فمن أصحابنا من قال: لا يفتقر غسل الميت إلى النية، واستدل بما ذكره الشافعي في غسل الذمية للمسلم؛ لأنها لو كانت واجبة ... لما صحت من الكافرة، ولأن القصد منه التنظيف، فلم يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة.
ومنهم من قال: إنه يفتقر إلى النية، فينوي الغاسل أنه غسل واجب؛ لأن الشافعي(3/25)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا وجد الغريق ... غسل) ، فلما لم يكتف بإصابته الماء
علم أن النية واجبة.
ولأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فوجبت فيه النية، كغسل الجنابة.
ومن قال بالأول ... قال: لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - غسل الغريق لعدم النية، وإنما أوجبه لعدم فعل الآدمي فيه؛ لأن غسل الميت يجب علينا، فلما لم يفعله الآدمي
لم يسقط الفرض عنا.
[مسألة: ستر موضع الغسل]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستر موضعه الذي يغسل فيه، فلا يراه إلا غاسله ومن لا بد له من معونته عليه، ويغضون أبصارهم عنه، إلا فيما لا يمكن غيره، ليعرف الغاسل ما غسل؛ لأنه قد يكون فيه عيب يكتمه) .
وينبغي أن يكون الغاسل ثقة؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يغسل موتاكم إلا المأمونون) .
ولأنه إذا لم يكن ثقة ... لم يؤمن أن لا يستوفي الغسل، أو يظهر ما يرى من قبيح، ويخفي ما يرى من جميل.
ويستحب أن لا يكون مع الغاسل إلا من لا بد له من معونته.
ويستحب أن يغسل في قميص رقيق؛ لكي إذا صب الماء ... نزل، ولم يقف، فإن كانت أكمام القميص واسعة
أدخل الغاسل فيه يده، وصب الماء من فوق القميص،(3/26)
وإن كانت أكمامه ضيقة ... فإن الشافعي قال: (ينزع القميص، ويطرح على عورته خرقة، ويغسل) .
وقال أبو علي بن أبي هريرة: فيشق فوق الدخاريص، ويدخل يده فيه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (الأفضل أن يجرد، ولا يغسل في قميص) .
دليلنا: ما روي عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: «لما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمعنا صوتًا، ولم ندر من يتكلم: اغسلوا نبي الله في ثيابه، فغسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قميصه، والماء يصب من فوق القميص» ، ولأن ذلك أستر، فكان أولى.
[مسألة: موضع الميت حال الغسل]
قال المزني: ويفضى بالميت إلى مغتسله، ويكون كالمنحدر قليلاً، ويعاد تليين مفاصله، وهذا صحيح، إذا أريد غسل الميت، فإنه يجعل على ألواح، ويكون منحدرًا من قبل رجليه؛ لئلا يقف الماء، فيستنقع الميت فيه، وتسترخي مفاصله.
قال أصحابنا: وأما تليين مفاصله عند الغسل: فلا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحتاج إليه؛ لأن بدنه قد برد، فلا ينفعه ذلك. فلا معنى لما ذكره المزني من ذلك.
ويستحب أن يكون مع الغاسل ثلاثة آنية:
إناء كبير، كالحب، يكون فيه الماء بالبعد منه؛ لئلا يتطاير إليه شيء من النجاسة إن كان هناك.(3/27)
وإناء صغير أصغر من الأول بقرب الغاسل.
وإناء صغير بيد المعين يغرف به من الإناء الكبير إلى الذي هو أصغر منه، ثم من ذلك الإناء إلى الميت.
والماء البارد أولى من المسخن، إلا أن يكون بالميت وسخ لا يزيله إلا المسخن، أو كان البرد شديدًا لا يقدر الغاسل على استعمال الماء البارد، فلا بأس بالمسخن.
وقال أبو حنيفة: (المسخن أولى بكل حال) .
دليلنا: أن البارد يشد بدنه، والمسخن يرخيه، فكان البارد أولى.
[فرع: إعداد الغاسل الخرق ونحوها]
ويعد الغاسل خرقتين، فيلف إحداهما على يديه، ويغسل بها فرجيه، وأسفله، ويرمي بها، ويأخذ الأخرى، فيغسل بها بقية بدنه، ولو غسل كل عضو بخرقة ... كان أولى؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيديه خرقة يتبع بها ما تحت القميص) .
ولو غسل الخرقة التي نجاه بها، وغسل بها بدنه ... جاز.
ولا يجوز للغاسل أن يمس عورة الميت بيديه، ولا ينظر إليها، كما لا يجوز له ذلك في حال حياته، ويغض بصره عن سائر بدنه، إلا ما لا بد له منه.(3/28)
ويستحب أن يكون بقربه مجمرة فيها بخور أو عود؛ لئلا يظهر ريح شيء إن خرج من الميت، فتضعف نفس الغاسل ومن يعينه.
[مسألة: كيفية الغسل]
وأول ما يبدأ به الغاسل: أن يجلس الميت إجلاسًا رفيقًا، ويكون جلوسه مائلاً على ظهره، ولا ينصبه نصبًا مستويًا؛ لأنه إذا نصبه نصبًا مستويًا ... لم يخرج منه شيء، ويمر يده على بطنه إمرارًا بليغًا؛ لما روي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما غسل عبد الله بن عبد الرحمن، فنفضه نفضًا شديدًا، وعصره عصرًا شديدًا، ثم غسله) .
ولأنه إذا فعل به ذلك، وكان في جوفه شيء ... خرج منه، وإذا لم يفعل به ذلك
ربما خرج منه ما بجوفه بعد كمال غسله، أو بعد تكفينه، فيفسد بدنه أو كفنه.
ويلف الغاسل على يده إحدى الخرقتين المعدتين، فيدخل يده التي تلف الخرقة عليها بين فخذيه، ويصب عليه الماء، فيغسل بها مذاكيره، ويصب عليه الماء صبًا كثيرًا؛ ليذهب ما خرج من جوفه، ثم يرمي بهذه الخرقة، ويغسل يديه بماء وأشنان إن كان عليها نجاسة، ثم يأخذ الخرقة الأخرى، ويلفها على يده، فيوضئ(3/29)
الميت، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق، ويدخل أصابعه في فمه، ويمرها على ظاهر أسنانه بالماء، ولا يفغر فاه، أي: لا يفتحه، ويدخل أصبعه في خيشومه؛ ليزيل وسخًا إن كان هناك، ثم يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه.
وقال أبو حنيفة: (لا تستحب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت) .
دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن غسل ابنته: ابدأن بمواضع الوضوء منها» ومعلوم: أن موضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء، ثم يغسل رأسه، ثم لحيته، بالماء والسدر والخطمي.
وقال النخعي: يبدأ بلحيته قبل رأسه.
دليلنا: أنه إذا غسل لحيته أولاً، ثم غسل رأسه ... نزل الماء والسدر إلى لحيته، فيحتاج إلى غسلها من ذلك ثانيًا.
وإذا بدأ بغسل رأسه، لم ينزل من لحيته إلى رأسه شيء، فكانت البداية بالرأس أولى.
وإن كان شعر الرأس واللحية متلبدًا ... سرحهما بمشط منفرج الأسنان.(3/30)
وقال أبو حنيفة: (لا يسرحهما بمشط) .
دليلنا: ما روي «عن أم عطية: أنها قالت (ضفرنا شعر ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها» . وهذا لا يكون إلا بعد التسريح.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم» . ومعلوم: أن شعر العروس يسرح، فكذلك شعر الميت.
ثم يغسل صفحة عنقه اليمنى، ثم شق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه الأيمن، ثم يعود إلى شقه الأيسر، فيغسله من صفحة عنقه الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جانبه الأيسر، فيغسل جانب ظهره الأيمن وقفاه إلى ساقه الأيمن، ثم يحرفه على جانبه الأيمن، فيغسل جانب ظهره الأيسر وقفاه إلى ساقه الأيسر.(3/31)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر: (إنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه ويحوله، ثم يغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يعود إلى جانبه الأيسر من مقدمه، فيغسله، ثم يحوله، ويغسل جانب ظهره الأيسر، وأيها فعل ... أجزأه) ، إلا أن الأول أولى، ويكون ذلك بالماء المخلوط فيه السدر.
وإن كان عليه وسخ كثير لا يزول إلا بالأشنان ... لم يكن باستعماله بأس، فإذا فرغ من غسله بالماء المخلوط فيه السدر، صب عليه الماء القراح - وهو الذي لا يخالطه غيره - من قرنه إلى قدميه، على جميع بدنه، ويكون الغسل المعتد به هو هذا الغسل بالماء القراح، دون الغسل بالماء والسدر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالغسل بالماء والسدر من الغسلات. وليس بشيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وكل ما صب عليه الماء بعد السدر، حسب ذلك غسلاً) ، ولأن الماء إذا خلط فيه السدر ... سلب صفته.
إذا ثبت هذا: فإنه يستحب أن يغسل وترًا، ثلاث مرات، أو خمسًا، أو سبعًا، كما ذكرناه، في كل مرة يغسل بالماء والسدر، ثم يصب عليه الماء القراح، فيحتسب الغسل بالماء القراح، ويستحب أن يجعل الكافور في الماء القراح في كل غسلة، فإن لم يمكن ... ترك في الغسلة الأخيرة.
وقال أبو حنيفة: (يغسل ثلاث مرات، أولها: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء القراح، ولا يستحب الكافور) .
وقال مالك: (لا حد في الغسل) .(3/32)
دليلنا: ما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غسل ابنته: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا بماء وسدر، أو أكثر إن رأيتن ذلك، واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافور» .
وظاهر الخبر يقتضي: أن كل غسلة منها تكون بالسدر.
والواجب غسل مرة واحدة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره: «اغسلوه بماء وسدر» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة، ولأن غسل الحي يجزئ مرة واحدة، فكذلك غسل الميت.
ويستحب أن يمر يده على بطنه، ويعصرها في كل مرة، إلا أنه يبالغ في المرة الأولى، ويرفق فيما بعدها، ويتفقده عند آخر غسلة، فإن خرج من أحد فرجيه شيء ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) ، واختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني وغيره من أصحابنا: يجب غسل الموضع لا غير، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم؛ لأن غسله قد صح، فلا يبطل بالحدث، كالجنب إذا اغتسل، ثم أحدث، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) أراد: استحبابًا، لا وجوبًا.
وقال أبو إسحاق: يجب غسل الموضع، وغسل أعضاء الوضوء، كالحي إذا اغتسل من الجنابة، ثم أحدث.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب إعادة غسل جميع بدنه، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه خاتمة طهارته.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الوجوه، والأول هو الصحيح.(3/33)
[فرع: تنشيف المغسل]
فإذا فرغ من غسله ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فإنه ينشف في ثوب، ثم يصير في أكفانه، وإنما كان كذلك؛ لأن عادة الحي إذا اغتسل أن ينشف في ثوب، ثم يلبس ثيابه، فكذلك الميت، ولأنه إذا لم يفعل ذلك
ابتلت أكفانه، وأسرع الفساد إليها) .
وإن تعذر غسل الميت؛ لعدم الماء أو لغيره ... يمم؛ لأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فناب التيمم عنه عند العجز، كغسل الجنابة.
[مسألة: غسل الجنب والحائض للميت]
يجوز للجنب والحائض غسل الميت، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يغسله الجنب) .
دليلنا: أن الجنب والحائض طاهران، فلم يمنعا من غسل الميت.
وإن مات الجنب أو الحائض ... غسلا غسلاً واحدًا.
وقال الحسن: يغسلان غسلين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن موجبهما واحد، وهو الحدث، فتداخلا، كغسل الجنابة والحيض في حال الحياة.
[مسألة: لا يختن الأقلف بعد موته]
] : وإذا مات الرجل، وهو أغلف لم يختن ... فهل يختن بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما: يختن، صغيرًا كان أو كبيرًا.
والثاني: إن كان صغيرًا، لم يختن، وإن كان كبيرًا ... ختن.(3/34)
وقال سائر أصحابنا: لا يختن، من غير تفصيل؛ لأنه قطع عضو، والميت لا يقطع منه عضو.
وأما تقليم الأظافر، وحف شاربه، وحلق عانته، ونتف إبطه: فقال الشيخ أبو حامد: لا خلاف على المذهب: أنه لا يستحب، ولكن هل يكره؟ فيه قولان:
أحدهما: يكره؛ لأنه متصل بالميت، فلم يقطع منه، كموضع الختان.
فإن قلنا بهذا: أخذ الغاسل خلة من شجرة لينة لا تجرح، ويتبع بها ما تحت أظافيره.
والثاني: لا يكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم، ما تفعلون بعروسكم» .
والعروس يفعل به هذا، فكذلك الميت.
وروي: (أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: غسل ميتًا، فدعا بموسى، وحلقه) . ولا يعرف له مخالف.
فإذا قلنا بهذا: فإن شاء ... حلقه بالنورة، وإن شاء
بالموسى.
وأما شعر رأسه: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحلق؛ لأن شعر الرأس إنما يحلق لزينة، أو نسك، والميت لا يزين، ولا نسك عليه.(3/35)
وقال أبو إسحاق: فإن كان شعره جمة ... لم يحلق؛ لأن حلقه ليس بزينة في حقه، وإن كان ممن يحلق رأسه في حياته في العادة
فحلقه تنظيف في حقه، وهل يكره حلقه؟ على القولين في حلق شعر العانة، والمذهب الأول.
[فرع: غسل المرأة كالرجل]
وإن كان الميت امرأة ... كان غسلها كغسل الرجل، وإن كان لها شعر
ضفر بعد الغسل ثلاث ضفائر، وألقين خلفها.
وقال أبو حنيفة: (لا يسرح، ويجعل بين يديها) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أم عطية في غسل ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مسألة: غسل المغسل]
وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت ... اغتسل، وهل يجب ذلك عليه، أو يستحب؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، ولا يجب، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن الميت طاهر، ومن غسله طاهر، فهو كما لو غسل جنبًا.
والثاني: يجب، وبه قال علي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا ... فليغتسل، ومن مسه
فليتوضأ» .(3/36)
والأول أصح، والخبر محمول على الاستحباب، بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا غسل عليكم من غسل ميتكم، حسبكم أن تغسلوا أيديكم» .
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (أأنجاس موتاكم؟!) ، تريد بذلك: الإنكار على من قال بوجوب الغسل من غسل الميت.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والوضوء من مسه» : فيحتمل أنه أراد: من مس ذكره، ويحتمل أنه أراد: الوضوء، لا لأجل مسه، ولكن لأجل الصلاة عليه عند مسه، حتى لا تفوته الصلاة إذا اشتغل بالوضوء بعد غسله، ويحتمل أنه أراد: غسل اليد.
إذا ثبت: أن الغسل من غسل الميت لا يجب ... فهل هو آكد، أو غسل الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: أن غسل الجمعة آكد؛ لأن الأخبار فيه أثبت.
والثاني: أن الغسل من غسل الميت آكد، وهو الأصح؛ لأنه مختلف في وجوبه عندنا، بخلاف غسل الجمعة.(3/37)
ويستحب لمن غسل ميتًا، فرأى ما يعجبه، مثل: تهلل وجهه، وما أشبه ذلك ... أن يتحدث به، وإن رأى ما يكرهه، مثل: اسوداد وجهه، وما أشبه ذلك
أن لا يتحدث به؛ لما روى أبو رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا، فكتم عليه ... غفر الله له أربعين مرة» .
وإن كان الميت مبتدعًا مظهرًا لبدعته، ورأى الغاسل منه ما يكرهه، فالذي يقتضي القياس: أن يتحدث به الغاسل في الناس، ليكون ذلك زجرًا للناس عن البدعة.
والله أعلم، وبالله التوفيق(3/38)
[باب الكفن]
وتكفين الميت فرض على الكفاية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره، فمات: «وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» .
ويجب الكفن ومؤنة الغسل والدفن من رأس مال الميت مقدمًا على الدين، سواء كان موسرًا أو معسرًا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال الزهري، وطاووس: إن كان موسرًا، فمن رأس ماله، وإن كان معسرًا، فمن ثلثه.
وقال خلاس بن عمرو: يجب من ثلثه بكل حال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي سقط من بعيره، فوقص، فمات: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» . ولم يسأل، هل يخرجان من ثلثه، أم لا؟ أو هل هو موسر، أو معسر؟.
وروي: «أن رجلاً من الأنصار مات، فقدموا جنازته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ "، فقالوا: نعم، عليه ديناران، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا على صاحبكم"، فتحملها أبو قتادة، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» .(3/39)
فلو كان الكفن محتسبًا من الثلث ... لوجب صرف كفنه في الدينارين.
فإن قال بعض الورثة: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من التركة ... كفن من التركة؛ لأن في كفنه من مال بعض الورثة منة على الباقين، فلم يلزمهم قبولها.
وإن كان الميت امرأة لها زوج، ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجب على زوجها؛ لأن من وجبت كسوته على شخص في حال الحياة ... وجب كفنه عليه في الموت، كالمملوك.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: إنه لا يجب على الزوج، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأن الكسوة إنما وجبت عليه في حياتها؛ لأجل تمكينها له من الاستمتاع، وقد عدم ذلك بموتها.
فعلى هذا: يجب في مالها، فإن لم يكن لها مال ... فعلى قرابتها الذين تلزمهم نفقتها لو لم يكن لها زوج، فإن لم يكن
ففي بيت المال. والأول أصح.
[مسألة: أقل الكفن]
وأقل ما يجب في الكفن ما يستر به عورة الميت.
ومن أصحابنا من قال: يجب ثوب في الرجل والمرأة؛ لأن ما دونه لا يسمى كفنًا.
والأول أصح؛ لما روي: «أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يكن له إلا(3/40)
نمرة، إذا غطي بها رأسه ... بدت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه
بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر» و (النمرة) : الشملة المخططة.
وأما المستحب في كفن الرجل: فثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وقال أبو حنيفة: (يستحب القميص فيها) .
دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة» وروي: (أن عمر كفن في ثلاثة أثواب، بردتين سحوليتين، وثوب كان يلبسه) .
قال ابن الصباغ: و (سحول) - بفتح السين -: مدينة بناحية اليمن يعمل فيها، و (السحول) - بضم السين -: هي الثياب الشديدة البياض.
وقد روى الترمذي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية» .(3/41)
وروى أبو عبيد الهروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثوبين صحاريين» .
وأما الجائز في كفن الرجل: فخمسة أثواب؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة) .
فإن كان في الكفن قميص وعمامة ... جُعلا تحت الثياب؛ لأن إظهارهما زينة، وليس حاله حال زينة، ويكره الزيادة على ذلك؛ لأنه سرف.
ويستحب أن يكفن الصغير في ثلاثة أثواب.
وقال أبو حنيفة: (يكفن في خرقتين) .
دليلنا: أنه لما ساوى الكبير في صفة الكفن ... ساواه في قدره، كحال الحياة.
وأما صفة الكفن: فإن الشافعي قال: (أستحب أن يكون ثلاثة أثواب بيض رياط) .
وقال أبو حنيفة: (يكون فيهما برد حبرة) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البسوا البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطيب وأطهر» .
وأما (الرياط) : فواحدتها: ريطة، وهي الملاءة البيضاء التي ليست ملفقة من ثوبين.
وإن اختلف الورثة في قدر الكفن ... قال بعضهم: يكفن بثلاثة أثواب، وقال بعضهم: يكفن بثوب، وقال بعضهم: يكفن بما يستر عورته
ففيه ثلاثة أوجه:(3/42)
أحدها: أنه يقدم قول من دعا إلى الثلاث؛ لأنه هو الكفن المسنون.
والثاني: يقدم قول من دعا إلى ثوب؛ لأنه يعم ويستر البدن.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه يقدم قول من دعا إلى ما يستر العورة إذا قلنا: إنه الواجب؛ لأنه هو الواجب.
فإن كان الميت موسرًا ... كفن في ثياب مرتفعة، وإن كان متوسطًا
ففي ثياب متوسطة، وإن كان معسرًا ... ففي ثياب أدنى من المتوسطة، اعتبارًا بحاله في الحياة.
وتكره المغالاة في الكفن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلبًا سريعًا، فإما يبدل خيرًا منه، أو شرًا منه» .
ويستحب أن يبخر الكفن على مشجب أو عود؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت ... فجمروه ثلاثًا» .
ولأنه ربما ظهر من الميت شيء، فيغلبه ريح البخور، ولهذا قال بعض أصحابنا: يستحب أن يبخر عند الميت من حين يموت؛ لهذه العلة.(3/43)
[مسألة: بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً في الكفن]
مسألة: [بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً] :
ويستحب أن تبسط أحسن الثياب وأوسعها، ويذر عليه الحنوط، ثم يبسط الذي بعده، ويذر عليه الحنوط ثم الذي دونها، اعتبارًا بالحي، فإنه يجعل أحسن ثيابه ظاهرًا، ثم يذر عليه الحنوط.
قال ابن الصباغ: وظاهر ما نقله المزني يقتضي: ألا يذر على الثالث الحنوط؛ لأنه قال: يذر فيما بينهما الحنوط، إلا أن أصحابنا لا يختلفون أنه يذر عليه الحنوط؛ لأنه أولى بذلك، فإنه يلي الميت.
ثم يحمل الميت مستورًا، حتى يوضع على الأكفان ملقى على قفاه، ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويدخل بين أليتيه إدخالاً بليغًا؛ ليرد شيئًا إن خرج منه.
وقد ظن المزني أن الشافعي أراد: أنه يدخل في دبره، وقال أصحابنا: ليس كما ظن، وإنما أراد الشافعي: أنه يجعل كالموزة، ويدخل بين إليتيه؛ لأنه قال: (ليرد شيئًا إن خرج منه) ، فلو كان أراد إدخاله في دبره، لكان يقول: ليمنع شيئًا إن خرج.
قال الشافعي: (ويشد عليه خرقة مشقوقة الطرفين بإحدى أليتيه وعانته، ثم تشد عليه كما يشد التبان الواسع) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا الشد لا يحتاج إليه في الميت إلا إن كان به علة قيام، أو خشي عليه أن يخرج منه، فيؤخذ لبد، فيشد عليه من فوق أليتيه، فإن لم(3/44)
يكن لبد، فخرقة، فأما شق الطرف: فلا يحتاج إليه في الميت، وإنما ذكره الشافعي في (المستحاضة) ؛ لأنها تنصرف وتمشي، وأما الميت: فلا يحتاج أن يشد ذلك عليه.
قال ابن الصباغ: وقد قيل: يشد ذلك بخيط، والتبان: السراويل بلا تكة. ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويترك على الفم، والمنخرين، والعينين، والأذنين، وعلى جراح نافذة إن كانت فيه؛ ليخفى ما يظهر من الرائحة من هذه المواضع.
ويذر الحنوط والكافور على قطن منزوع الحب، ويجعل على مواضع السجود من بدنه؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يتبع بالطيب مساجده) ، ولأنها شرفت بالسجود، فاستحب تطييبها.
ويستحب أن يطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يطيبهما إذا تطيب، وإن حنط جميع بدنه بالكافور والحنوط ... فلا بأس؛ لأنه يقويه.
قال الشافعي: (وإن حنط بالمسك والعنبر ... فلا بأس) .
وقال عطاء، وطاووس: لا يطيب بالمسك.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسك من أطيب الطيب» ، وروي: عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اجعلوا في حنوطي المسك، فإنه من بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وهل يجب الحنوط والكافور؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:(3/45)
أحدهما: يجب؛ لأن العادة جرت به.
والثاني: لا يجب، كما لا يجب الطيب في حق المفلس.
فإذا فرغ من ذلك ... أدرج في ثوب.
قال الشافعي في موضع: (يثني صنفة الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ثم يأخذ صنفة الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن) .
وقال في موضع آخر: (بل يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن، ثم يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ويكون العالي ما على كتفه الأيسر) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يبتدأ بالأيسر على الأيمن، ثم بالأيمن على الأيسر، وهو الأصح؛ لأن هذا عادة الحي في الرداء أو الطيلسان.
ثم يفعل ببقية الأكفان كذلك، ويجعل ما يلي الرأس من زيادة الأكفان أكثر مما يلي الرجلين، كالحي ما على رأسه أكثر، ويرد ما بقي عند رأسه على وجهه، وما بقي عند رجليه على ظهر قدميه، فإن خافوا أن تنتشر الأكفان ... عقدوها عليه، فإذا أدخلوه القبر
حلوها؛ لأنه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود، ولهذا استحب ألا يكون معه شيء مخيط، ولأن الانتشار قد أمن منه.
وإن كان الكفن قصيرًا لا يعم بدنه ... ستر به عورته، وما بقي من ستر عورته
غطي به صدره ورأسه؛ لما ذكرناه في حديث مصعب بن عمير.(3/46)
[مسألة: تكفين المرأة]
وأما المرأة: فإنه يستحب أن تكفن في خمسة أثواب.
قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك الخنثى يستحب أن يكفن في خمسة أثواب، كالمرأة، وهل يستحب أن يكون أحدها درعا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحب؛ لأنها ميتة، فلم يستحب في كفنها المخيط، كالرجل، ولأن الدرع إنما تحتاج إليه المرأة؛ لتستتر به في تصرفها، والميت لا يتصرف.
فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتخمر بخمار، وتدرج في ثلاثة أثواب.
والثاني: يستحب أن يكون أحدها درعًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لما روي عن أم عطية: أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسًا على الباب يناولنا الأكفان واحدًا واحدًا، فناولنا إزارًا، ودرعًا، وخمارًا، وثوبين»
ولأن أفضل حال الإنسان، إذا كان محرمًا، فلما كان للمرأة المحرمة لبس المخيط، فكذلك بعد الموت.
فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتلبس الدرع، وتخمر بخمار، وتدرج بثوبين.
قال الشافعي: (ثم يشد على صدرها ثوب؛ ليجمع أثوابها) .
فقال الشيخ أبو إسحاق: هذا ثوب سادس ليس من جملة الأكفان، فيحل عنها في القبر.(3/47)
وقال أبو العباس: هو من جملة الأكفان، ولكن يكون فوق اللفافة؛ لأن الشافعي لم يذكر أنه يحل.
والأول أشبه بقول الشافعي؛ لأنه قال: (يجمع عليها الثياب) . وهذا يقتضي أن يكون أعلاها.
[فرع: كراهة المعصفر للمرأة]
ويكره أن تكفن المرأة في المعصفر والمزعفر.
وقال أبو حنيفة: (لا يكره) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثياب البيض: «وكفنوا فيها موتاكم» . وهذا يعم الرجال والنساء.
قال الصيمري: ولا يستحب أن يعد الرجل كفنه في حياته، لئلا يحاسب عليه.
[مسألة: تكفين المحرم]
إذا مات محرم ... لم ينقطع إحرامه بموته، فلا يلبس المخيط، ولا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبًا في بدنه، ولا في ثيابه، ولا يجعل الكافور في الماء الذي يغسل به. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: عطاء، ومن الفقهاء: الثوري، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة إلى: أن بموته ينقطع حكم إحرامه، فيلبس المخيط، ويخمر رأسه، ويطيب. ذهب إليه من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن رجلاً محرمًا خر من بعيره، فوقص، فمات،(3/48)
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» .
وروي: "ملبدًا".
فإن طيبه إنسان ... لم تجب الفدية على الذي طيبه؛ لأن الطيب في الإحرام يتعلق به حقان: حق لله، وحق للآدمي، فحق الآدمي: هو الانتفاع بالطيب، وحق الله: التحريم، والفدية تجب في مقابلة الانتفاع به، وإذا مات
زال انتفاعه بالطيب، فسقطت الفدية، وحق الله لم يزل بموت المحرم، فلم يسقط التحريم.
وهذا كما نقول في الجناية على الآدمي: يتعلق بها حقان: حق الله تعالى، وهو التحريم، وحق الآدمي، وهو القصاص، أو الأرش.
فإذا مات إنسان، ثم جنى عليه إنسان ... لم يلزمه القصاص ولا الأرش؛ لزوال حقه بموته، وكان عليه الإثم، لحق الله تعالى.
[فرع: تطييب المعتدة]
وإن ماتت معتدة عن الوفاة ... فهل يسقط تحريم الطيب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط، كالمحرمة.
والثاني: يسقط؛ لأن المعتدة إنما حرم عليها الطيب؛ لئلا يدعوها ذلك إلى النكاح، وذلك لا يوجد بعد الموت، فسقط التحريم.
وبالله التوفيق(3/49)
[باب الصلاة على الميت]
الصلاة على الميت فرض على الكفاية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وفرض الكفاية كفرض الأعيان في ابتداء الوجوب؛ لأن فرض الأعيان يجب على كل واحد بعينه، وفرض الكفاية أيضًا يجب على كل أحد علم بالميت إلا أنهما يختلفان في الفعل، ففرض الكفاية إذا قام به بعض الناس ... سقط الفرض عنهم وعن غيرهم، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره.
إذا ثبت هذا: ففي أدنى ما يسقط به فرض الصلاة على الميت قولان، حكاهما أصحابنا البغداديون.
أحدهما: ثلاثة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا" خطاب للجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
والثاني: يسقط الفرض بواحد؛ لأنها صلاة لا تفتقر إلى الجماعة، فلم تفتقر إلى العدد، كسائر الصلوات.
وقولنا: (لا تفتقر إلى الجماعة) احتراز من الجمعة، فإنها لا تصح فرادى، فلذلك اشترط العدد فيها.
وأصحابنا الخراسانيون يحكون فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: ثلاثة.
والثاني: واحد.(3/50)
والثالث أربعة.
وهل يسقط الفرض بصلاة النساء؟ فيه وجهان، قال صاحب " الإبانة " [ق \ 108] : لا يسقط الفرض بفعلهن، واختار القاضي أبو الفتوح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وهذا خطاب للذكور.
فعلى هذا: إذا صلى عليه الخنثى المشكل ... لم يسقط الفرض.
وقال صاحب " المجموع ": يسقط الفرض بفعلهن، كالغسل.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الرجال إذا كانوا موجودين، فالفرض لا يتوجه على النساء، وهذا يدل من قوله: إذا عدم الرجال ... توجه الفرض عليهن.
والسنة: أن تصلى في جماعة؛ لنقل الخلف عن السلف.
ويستحب أن يكونوا ثلاثة صفوف؛ لما روي «عن مالك بن هبيرة: أنه كان إذا صلى على ميت، فتقال الناس، جزأهم ثلاثة صفوف، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليه ثلاثة صفوف ... فقد أوجب» .(3/51)
وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يموت من المسلمين ميت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة، فيشفعون له، إلا شفعوا له» .
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن اجتمع نسوة، ولا رجل معهن ... صلين على الميت فرادى؛ لأن النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت، فإن صلين جماعة
فلا بأس.
[مسألة: نعي الموتى]
ويكره نعي الميت، وهو: أن ينادى في الناس: إن فلانًا قد مات؛ ليشهدوا جنازته، وحكى الصيدلاني وجهًا آخر: أنه لا يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعى النجاشي للناس» .
وقال النخعي: لا بأس أن تعرف قرابة الميت.
دليلنا: ما روى عبد الله بن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إياكم والنعي، فإنه من عمل الجاهلية» . قال عبد الله: والنعي: أذان بالميت.(3/52)
وقال حذيفة: (إذا مت، فلا تؤذنوا بي أحدًا، فإني أخاف أن يكون نعيًا) .
[مسألة: الأولى بالصلاة على الميت]
] : وأولى الناس بالصلاة على الميت: الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ ثم بنوه، ثم العم، ثم بنوه، ثم يقدم الأقرب فالأقرب.
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقدم الابن على الأب) ؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه في الميراث.
دليلنا: أن المقصود من الصلاة على الميت الدعاء له، والأب يساوي الابن في الإدلاء إلى الميت، ويزيد على الابن بأنه أحنى على الميت، وأكثر شفقة منه، فقدم؛ لأن دعاءه أرجى إجابة.
[فرع: لا ولاية للزوج في التقدم]
ولا ولاية للزوج في التقدم بالصلاة على زوجته.
وقال الشعبي، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق رحمة الله عليهم: هو أولى من القريب. وروي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(3/53)
وقال أبو حنيفة: (لا ولاية له، إلا أنه يكره لابنه أن يتقدم عليه، فيقدم الزوج هاهنا) .
دليلنا: أنه لا ولاية له، فلم يقدم على العصبات، كتزويج الزوج جارية زوجته. وما قاله أبو حنيفة يبطل بتقديم الأب مع الجد.
وإن اجتمع أخ لأب وأم، وأخ لأب ... فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان:
أحدهما: أنهما سواء.
والثاني: يقدم الأخ للأب والأم، كما قلنا فيهما إذا اجتمعا في ولاية النكاح، وتحمل العقل.
ومنهم من قال: يقدم هاهنا الأخ للأب والأم، قولاً واحدًا، لأن للأم مدخلاً في الصلاة على الميت؛ لأنها تصلي عليه مأمومة ومنفردة، فقدم من يدلي بها، كما يقدم من يدلي بها في الميراث، حين كان لها مدخل في الميراث.
وإن لم يكن من العصبة، ولا مدخل لها في ولاية النكاح، ولا في تحمل العقل، فإن قلنا: إنهما سواء ... فأولادهما سواء، وإن قلنا: يقدم ذو القرابتين
قدم ابنه على ابن الآخر.
وإن اجتمع عمان، أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب. فعلى الطريقين.
وكذلك: إذا كان هناك ابنا عم، أحدهما: أخ لأم، فعلى الطريقين.
وإن اجتمع أخوان، أحدهما: حر، والآخر: مملوك ... فالحر أولى.
وإن كان هناك أخ هو عبد، وعم حر ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: العبد أولى؛ لأنه أقرب.(3/54)
والثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره -: (أن العم أولى) ؛ لأنه أكمل.
قال أصحابنا: وقد سها المزني في نقله، حيث قال: (والولي الحر أولى من الولي المملوك) ، وقالوا: لا يسمى المملوك وليًا، بل قد قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (والولي الحر أولى من المملوك) .
قال صاحب " الإبانة " [ق\107] : والقريب المملوك أولى من الأجنبي الحر؛ لأنه أرجى إجابة.
[فرع: اجتماع وليين في رتبة]
فإن اجتمع وليان في درجة واحدة ... ففيه وجهان:
أحدهما: يقدم الأفقه، كما قلنا في الصلاة المفروضة.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقدم الأسن) ، والفرق بينهما: أن الحق في الصلاة المفروضة لله، فقدم الأفقه؛ لأنه أعرف بحق الله، والحق - هاهنا - للميت، فقدم الأسن؛ لأنه أرجى إجابة، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يستحيي أن يرد للشيخ دعوة» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من إجلال الله وكرمه إكرام ذي الشيبة المسلم» .
فإن لم يكن الأسن محمود الطريقة ... قدم الأفقه، وكذلك إذا استويا في(3/55)
السن ... قدم الأفقه؛ لأن له مزية بالفقه، فإن استويا في ذلك
أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن اجتمع الولي والوالي ... ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يقدم الوالي) . وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤم الرجل في سلطانه» .
وروي: أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما مات ... دفع الحسين بن علي في قفا سعيد بن العاص، وهو وال يومئذ بالمدينة، وقال: (تقدم، فلولا السنة ما قدمتك) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (الولي أولى) . وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وهذا عام في الصلاة وغيرها، ولأنها ولاية مستحقة بالنسب، فقدم الولي فيها على الوالي، كولاية النكاح.
وأما الخبر: فمحمول على صلاة الفرض.(3/56)
وأما تقديم الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فخاف إن منعه ذلك أن تكون فتنة، والسنة: إطفاء الشر، ويحتمل أن يكون الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد صلى عليه قبل ذلك.
[فرع: وصى أن يصلي عليه رجل]
إذا أوصى الميت أن يصلي عليه رجل ... لم يقدم على الأولياء.
وقال أنس بن مالك، وزيد بن أرقم: (الوصي أولى) ، وهو قول أحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (إن كان الوصي ممن يرجى دعاؤه ... قدم على الولي) .
دليلنا: أنها ولاية ترتبت فيها العصبات، فلم يقدم الوصي على العصبات، كولاية النكاح.
فإن غاب الولي الأقرب، واستناب من يصلي ... فالذي استنابه أولى من القريب البعيد الحاضر.
وقال أبو حنيفة: (القريب الحاضر أولى) .
دليلنا: أن الغائب على ولايته، فكان من استنابه أولى من الولي البعيد الحاضر، كما لو كان الولي القريب حاضرًا، واستناب غيره.
[فرع: يقدم المملوك والصبي على النساء]
وإن كان ميت في فلاة، ومعه نساء ومملوك وصبي يعقل ... فالمملوك والصبي أولى منهن، والمملوك أولى من الصبي؛ لأن المملوك مكلف، فإن لم يكن إلا النساء
صلين عليه فرادى، فإن صلين عليه جماعة ... قامت إمامتهن في وسطهن.
وقال أبو حنيفة: (يصلين عليه جماعة) .
دليلنا: أن النساء لم يسن لهن الصلاة على الجنازة ... فلم يشرع لهن الجماعة.(3/57)
هكذا ذكر ابن الصباغ، وهذا يدل عليه من قوله: إن الفرض لا يسقط بصلاتهن. وقد مضى ذكر ذلك.
[مسألة: شروط صلاة الجنازة]
ومن شروط صحة صلاة الجنازة: الطهارة بالماء عند وجوده، أو التيمم عند عدمه، أو الخوف من استعماله، وهو قول كافة أهل العلم.
وقال الشعبي، وابن جرير: الطهارة ليست من شرط صحة صلاة الجنازة، وبه قال الشيعة؛ لأن المقصود منها الدعاء.
وقال أبو حنيفة: (إن خاف فوتها بالاشتغال بالطهارة بالماء ... تيمم لها مع وجود الماء) . وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة في التيمم.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية. [المائدة:6] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور» . ولم يفرق بين صلاة الجنازة وغيرها.
ولأن صلاة الجنازة تفتقر إلى ستر العورة، والطهارة من النجاسة، واستقبال القبلة، فافتقرت إلى الطهارة عن الحدث، كسائر الصلوات.
[مسألة: صلاة الجنازة في المسجد]
لا تكره الصلاة على الجنازة في المسجد.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (تكره) .(3/58)
دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أمرت بجنازة سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أن تدخل المسجد، ليصلى عليها، فأنكر عليها ذلك، فقالت: (ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل ابن بيضاء وأخيه إلا في المسجد»
ولا تكره الصلاة على الميت في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وقال الأوزاعي: (تكره) .
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الوقت، وتجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الفعل) . وقد مضى ذكر ذلك.
[فرع: موقف الإمام في الجنازة]
] : وفي مسنون موقف الإمام من الرجل وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن يقف عند رأسه.(3/59)
والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه عند صدره.
وأما المرأة: فلا يختلف أصحابنا فيها، بل يقف الإمام عند عجيزتها، وكذلك الخنثى يقف عند عجيزته، كالمرأة.
وقال أبو حنيفة: (يقف عند صدر الرجل والمرأة) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يقف من الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها) .
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» .
«وروى أبو غالب: قال: (كنت في سكة المدينة، يعني: البصرة، فمرت جنازة معها ناس كثير، فقيل: هذه جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها، فإذا برجل عليه كساء رقيق، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما وضعت الجنازة ... قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبر أربعًا، ثم ذهب، فقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فأتي بها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، وصلى عليها صلاته على الرجل، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؟ قال: نعم، فلما فرغ
قال: احفظوا» . وذكر الترمذي: أن المرأة كانت من قريش.(3/60)
[مسألة: اجتماع جنائز]
وإن اجتمع جنائز ... فالأولى أن يفرد كل جنازة بصلاة، فإن أراد الإمام أن يصلي على جميعها صلاة واحدة
جاز؛ لأن القصد من ذلك الدعاء، وذلك يحصل بصلاة واحدة.
فإن كانت الجنائز جنسًا: إما رجالاً، أو نساء ... ففي كيفية وضعها وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: يوضع رأس كل واحد عند رجل الآخر.
والثاني: يوضع كل واحد بجنب الآخر، كالصف، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الصحيح.(3/61)
وإن اجتمع جنازة رجل، وصبي، وخنثى، وامرأة: فإن الرجل يكون مما يلي الإمام، ثم الصبي بعده، ثم الخنثى، ثم المرأة مما يلي القبلة.
وقال القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب: يكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة مما يلي الإمام؛ لأن أشرف المواضع ما يلي القبلة، فخص الرجل بها، كما إذا دفنا معًا في اللحد.
دليلنا: ما روي عن عمار بن أبي عمار: أنه قال: (لما ماتت أم كثلوم بنت علي بن أبي طالب، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب، فصلى عليهما سعيد بن زيد، فجعل زيدًا مما يليه، وأمه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن، والحسين، وابن عباس، وأبو هريرة، حتى عد ثمانين من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هكذا السنة) .
وروي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما صلى على تسع جنائز، رجالاً ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة) .
ولأن الرجال يلون الإمام في جميع الصلوات، فكذلك هاهنا، ويخالف اللحد؛ لأنه ليس ثم إمام، فاعتبرت القبلة، وهاهنا إمام، فاعتبر القرب منه.(3/62)
[فرع: اختلاف أولياء الموتى]
وإن اختلف أولياؤهم فيمن يوضع للصلاة أولاً؟ فإن كان الأموات رجالاً أو نساء ... قدم السابق؛ لأن له مزية السبق.
وإن كان رجلاً وامرأة ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قدم الرجل، سواء كانت المرأة سابقة أو مسبوقة؛ لأن سنة موقف المرأة أن تكون خلف الرجل) .
وإن كان رجلا وصبيًا: فإن كان الرجل هو السابق ... قدم إلى الإمام، وإن كانت جنازة الصبي سابقة، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم أؤخره؛ لأن له حق السبق، وقد يقف مع الرجل في الموقف، بخلاف المرأة مع الرجل) .
[مسألة: صلاة الجنازة قائمًا]
إذا أراد الصلاة على الميت ... قام، فإن صلى عليه قاعدًا مع القدرة على القيام
لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (يصح) .
دليلنا: أنها صلاة مفروضة، فوجب فيها القيام مع القدرة عليه، كسائر الصلوات المفروضة.
ويجب أن ينوي الصلاة المفروضة، ويجب أن ينوي الصلاة على الميت؛ لأنها صلاة، فوجبت لها النية، كسائر الصلوات، ولا يفتقر أن ينوي أن الميت رجل أو امرأة.
فإن نوى أن يصلي على هذا الرجل الميت، فبان الميت امرأة، أو نوى أن يصلي على المرأة، فبان رجلاً ... قال المسعودي [في " الإبانة " ق\108] : لم يجزه.
ولا يجوز أن ينوي بها سنة؛ لأنها لا يتنفل بمثلها؛ ولأنها تتعين بالدخول فيها.
وهل يلزمه أن ينوي أنها فريضة؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان، كما قلنا في سائر الصلوات المفروضة.(3/63)
[فرع: التكبير على الجنازة أربعًا]
ويكبر أربعًا، وبه قال عمر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعقبة بن عامر، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وداود رحمة الله عليهم.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يكبر ثلاث تكبيرات) . وبه قال ابن سيرين، وجابر بن زيد رحمة الله عليهما.
و: (كان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يكبر على من كان بدريًا ست تكبيرات، وعلى غيره من الصحابة خمس تكبيرات، وعلى غير الصحابة أربع تكبيرات) .
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز، تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، فكبروا ما كبر الإمام» .
وقال زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان: (يكبر خمسًا) ، وإليه ذهبت الشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعًا» .(3/64)
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن آخر ما كان كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة أربعًا» وكذلك حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي مضى ذكره.
وروى أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة صلت على آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكبرت عليه أربعًا، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم» .
فإن كبر خمسًا عامدًا ... فقد ذكر في " الإبانة " [ق\108] وجهين:
أحدهما: تبطل صلاته، كما قلنا: لو زاد في الصلاة ركعة عامدًا.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه زاد ذكرًا، وهذا هو الصحيح.(3/65)
ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرفع يديه، إلا في الأولى) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر، وأنس: (أنهما كانا يفعلان ذلك في التكبيرات كلها) .
ولأنها تكبيرة في صلاة الجنازة ... فسن فيها رفع اليدين كالأولى.
[مسألة: قراءة الفاتحة]
] : ثم يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب، وهي واجبة، وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وإسحاق، وداود.
وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري: (لا يقرأ فيها شيئًا من القرآن) .
وقال مالك: (أكره القراءة، وإنما يأتي بعد الأولى بالتحميد) .
دليلنا: ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على الميت أربعًا، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن» .
ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة، كسائر الصلوات.
وهل يسن دعاء التوجه والتعوذ قبلها والسورة بعدها؟ فيه وجهان:(3/66)
[الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يسن شيء من ذلك؛ لأنها مبنية على الحذف والإيجاز.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يسن ذلك كله، كما يسن في غيرها من الصلوات.
وهل يسن الجهر بالقراءة فيها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يسن ذلك، سواء صلاها ليلاً أو نهارًا؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه جهر بالقراءة فيها، وقال: (إني لم أجهر فيها؛ لأن الجهر مسنون فيها، ولكن أحببت أن تعلموا أن لها قراءة واجبة) .
و [الثاني] : قال الداركي: يجهر فيها، إن صلى بالليل، كالمغرب والعشاء. وليس بشيء.
[مسألة: ما يقال عقب التكبيرة الثانية]
فإذا كبر الثانية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه»(3/67)
قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
قال الشافعي: (ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولا يجب، وإنما يستحب) ؛ لأن في سائر الصلوات يدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ونقل المزني: (أنه إذا كبر الثانية ... حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولأن هذا ليس بموضع حمد.
[مسألة: الدعاء للميت بعد الثالثة]
ثم يكبر الثالثة، ويدعو للميت، وذلك واجب؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على موتاكم ... فأخلصوا لهم بالدعاء» .
ولأن القصد من الصلاة عليه الدعاء له، فلا ينبغي الإخلال به.
وأما صفة الدعاء: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية مختلفة، إلا أن أكثر ما نقل عنه: أنه كان يقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا ... فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا
فتوفه على الإسلام ".(3/68)
وزاد ابن الصباغ في أوله، وهو: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا، وفي آخره: فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» قال: وعليه أكثر أهل خراسان.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا وقف فيه، فأي دعاء دعا فيه ... أجزأه) . واختار - رَحِمَهُ اللَّهُ - دعاء ذكره في " الأم " [1/240] : (اللهم هذا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم، إن كان محسنًا
فزد في إحسانه، وارفع درجته، وقه عذاب القبر، وهول يوم القيامة، وابعثه من الآمنين، وإن كان مسيئًا ... فتجاوز عن سيئاته، وبلغه بمغفرتك وطولك درجات المحسنين، اللهم إنه قد فارق ما كان يحب من سعة الدنيا وأهلها وغيره، وصار إلى ظلمة القبر وضيقه، وجئناك شفعاء له، نرجو له مغفرتك، اللهم إنه فقير إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه) .
ونقل المزني عنه [في " المختصر " (1/183) دعاء أطول منه، وهو: (اللهم هذا عبدك، وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا ... فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا
فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من(3/69)
عذابك حتى تبعثه إلى جنتك، يا أرحم الراحمين) .
ومعنى قولنا: (كان يشهد أن لا إله إلا أنت) ، أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد.
وإن كان الميت صغيرًا ... قال في موضع الدعاء له: اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأجرًا، ويدعو لأبويه، فيقول: اللهم اجعله لهما سلفًا وذخرًا، وفرطًا وغبطة واعتبارًا.
[مسألة: الدعاء بعد الرابعة]
فإذا كبر الرابعة ... فروى المزني: (إنه يسلم) .
وذكر الشافعي في موضع آخر: (أنه إذا كبر الرابعة، قال: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) .
قال أصحابنا: وليست على قولين، ولا اختلاف حالين، وإنما ذكره في موضع، وأغفله في آخر، وليس بواجب.
ثم يسلم، وذلك واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . وهل يسن تسليمتان، أو تسليمة واحدة؟ فيه قولان، كسائر الصلوات.(3/70)
[مسألة: من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة]
مسألة: [من سبق ببعض التكبيرات] : فإن فاته الإمام ببعض التكبيرات ... فإنه يكبر، ولا ينتظر تكبيرة الإمام.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يكبر، بل ينتظر تكبيرة الإمام، فيكبر معه) .
دليلنا: أنه مدرك للإمام، فدخل معه، كسائر الصلوات.
إذا ثبت هذا: وأدرك المأموم الإمام في القراءة ... فإنه يكبر، ويقرأ، فإذا كبر الإمام الثانية، فإن كان المأموم قد فرغ من القراءة
كبر الثانية، وإن لم يفرغ من القراءة ... فهل يقطع القراءة ويكبر، أو يتم القراءة؟ فيه وجهان: كالمسبوق إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة.
فإذا قلنا: يقطع القراءة ويكبر ... فهل يتم القراءة بعد التكبيرة الثانية؟ فيها وجهان، خرجهما ابن الصباغ:
أحدهما: يتم القراءة؛ لأن محلها القيام، وهو باق.
والثاني: لا يتمها؛ لأن محلها ما قبل التكبيرة الثانية.
فإن أدركه بعد التكبيرة الثانية ... فإنه يكبر، ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته، لا ما يقتضيه ترتيب صلاة الإمام.
فإذا سلم الإمام، وقد بقي عليه شيء من التكبيرات ... أتى بهن.
وقال الأوزاعي: (لا يأتي بهن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» .
وهل يجب عليه أن يأتي بالذكر بين التكبيرات؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه أن يأتي به؛ لأن الميت يرفع.(3/71)
والثاني: يجب عليه أن يأتي به، كما لو كان الميت غائبًا.
[مسألة: تعجيل الدفن]
] : إذا صلي على الميت ... بودر إلى دفنه، ولا يوضع لمن أراد أن يصلي عليه ثانيًا، إلا أن يكون وليه لم يصل عليه، فجاء ليصلي، فإن لم يخش تغير الميت
فلا بأس أن يوضع ليصلي عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صلى عليه بعض الأولياء والناس، ثم جاء ولي آخر كان غائبًا، فأراد الصلاة عليه ... لم توضع له الجنازة، فإن وضعت له
رجوت أن لا يكون به بأس، ومن فاتته الصلاة ... صلى على القبر) . وإليه ذهب ابن سيرين، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على القبر، إلا أن يكون الميت قد دفن بغير صلاة، فيجوز أن يصلى على القبر إلى ثلاثة أيام، وبعد الثلاث: لا يجوز، وإن صلي عليه ... لم يصل على القبر إلا الولي، أو الوالي، أو إمام الحي) .
دليلنا: ما روي: «أن امرأة مسكينة مرضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتت ... فآذنوني"، فماتت ليلاً، فدفنوها، ولم يوقظوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح
أخبر بذلك، فقال: "آلا آذنتموني؟ "، فقالوا: كرهنا أن نوقظك، فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، ووقف بالناس، وصلى عليها، وكبر أربعًا» .(3/72)
فإن قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام.
قلنا: قد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم عليها.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وقد مات البراء بن معرور وكان قد أوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر» .
إذا ثبت هذا: فإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: إلى شهر، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر البراء بن معرور، وعلى أم سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعدما دفنا بشهر، ولم ينقل أكثر منه.
والثاني: ما لم يبل جسده ويذهب؛ لأنه إذا كان باقيًا ... فهو بمنزلة حال الموت.
والثالث: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه؛ لأنه من أهل الخطاب بالصلاة عليه، فأما من ولد أو بلغ بعد موته: فلا يصلي عليه؛ لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه.(3/73)
والرابع: أن يصلى عليه أبدًا؛ لأن القصد منها الدعاء له، وذلك يوجد بعد طول المدة.
فأما الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلا تجوز على الأوجه الثلاثة الأولى؛ لأنه قد مضى أكثر من شهر، ولأنا لا نعلم بقاءه في القبر؛ لأن الأنبياء يرفعون من قبورهم، ولأنا لم نكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه عند موته. وأما على الوجه الرابع: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تجوز الصلاة عليه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، قال: وكذلك لو صلى على قبر آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ... جاز ذلك، كما يجوز ذلك في حق سائر الموتى.
ومنهم من قال: لا يجوز. حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا قبري مسجدًا» . وروي: «لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وهل يستحب لمن صلى على الميت أن يعيد الصلاة عليه مع من لم يصل عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحب، كما قلنا في سائر الصلوات.
والثاني: لا يستحب؛ لأن صلاته الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها.(3/74)
[مسألة: الصلاة على الغائب]
وتجوز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، فيتوجه المصلي إلى القبلة، ويصلي عليه بالنية، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وبه قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على الغائب) .
دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه يوم مات، وخرج بهم إلى المصلى، وصف بهم، وكبر أربعًا» .
هذا إذا كان الميت في بلد أخرى، أو قرية أخرى، وبينهما مسافة، سواء كان ما بينهما قريبًا أو بعيدًا.
فإن كان الميت في طرف البلد ... لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده؛ لأنه يمكنه ذلك.
وإن كان بحضرة الجنازة، فتقدم عليها، وصلى، وهي خلفه ظهره ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] :
أحدهما: يجوز، كما لو كان الميت غائبًا.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الأصول فرقت بين حال الضرورة والإمكان، وهاهنا: أمكنه أن تكون الجنازة أمامه.
[مسألة: وجود جزء من الميت]
إذا وجد بعض الميت ... فإنه يجب غسله والصلاة عليه، سواء وجد أكثر البدن أو أقله، حتى لو وجد منه أصبع بعد أن علم أنه انفصل من ميت، وبه قال أحمد(3/75)
رحمة الله عليه، وإن وجد منه الظفر أو الشعر ... ففيه وجهان:
أحدهما: يغسل، ويصلى عليه، كسائر أعضائه. والثاني: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأن ذلك يوجد منه في حال الحياة.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (إن وجد أكثر البدن ... صلي عليه، وإن وجد الأقل
لا يغسل، ولا يصلى عليه) .
دليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه صلى على عظام بالشام) .
و: (صلى أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه على رؤوس من المسلمين) .
و: (صلت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل، فعرفوها بخاتم) .
ولأنه بعض من البدن لا يزال منه في حال السلامة، انفصل من البدن بعد وجوب الصلاة على الجملة، فصلي عليها، كما لو كان أكثر البدن.
وفيه: احتراز من الظفر والشعر، ومن العضو المقطوع في حال الحياة.(3/76)
[مسألة: الصلاة على السقط]
إذا استهل السقط صارخًا، أو تحرك ثم مات ... فإنه يغسل، ويصلى عليه.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلى عليه حتى يبلغ.
وقال بعض الناس: إن كان قد صلى ... صُلي عليه، وإلا فلا.
دليلنا: ما روى جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» .
وروى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على المولود، ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة» .
وإن لم يستهل ... نظرت:
فإن كان قد نفخ فيه الروح بأن يولد لأربعة أشهر فما زاد ... فهل تجب الصلاة عليه؟
فيه قولان:
أحدهما: تجب الصلاة عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح، بدليل: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمكث أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا(3/77)
نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ويأتيه ملكان، فيقال لهما: اكتبا رزقه، وعمله، وأجله شقيًا أو سعيد» .
وإذا ثبت: أنه نفخ فيه الروح ... صلي عليه.
فعلى هذا: يجب غسله.
والثاني: لا تجب الصلاة عليه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وهو الصحيح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» ، فدليل خطابه: أنه إذا لم يستهل
لا يصلى عليه.
فعلى هذا: هل يجب غسله؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي فيه قولين:
أحدهما: لا يغسل؛ لأن من لا يصلى عليه لا يغسل، كالشهيد.
والثاني: يغسل؛ لأن الغسل آكد من الصلاة، بدليل: أن الكافر يغسل، ولا يصلى عليه.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وسلم في " الفروع ": أنه يجب غسله، قولاً واحدًا، وقالا: وإنما القولان في وجوب غسله، إذا وضعته لدون أربعة أشهر، وقد بان فيه شيء من خلق الآدمي ... فإنه يجب كفنه، قولاً واحدًا، وفي وجوب غسله قولان.
والطريقة الأولى أشهر.(3/78)
[مسألة: لا يصلى على الكافر]
إذا مات كافر ... لم تجز الصلاة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] [التوبة: 84] .
ولأن الصلاة للرحمة، والكافر لا يرحم.
ويجوز غسله وكفنه ودفنه؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في موت أبيه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه؛ ليكفن فيه عبد الله بن أبي، ابن سلول، وكان منافقًا، وقال: " إنه لا يعذب ما بقي عليه منه سلكة "، يعني: خيطًا.
فإن اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، ولم يتميزوا ... فإنه يصلي على واحد واحد، وينوي الصلاة عليه إن كان مسلمًا، سواء كان المسلمون أكثر أو أقل، وبه قال(3/79)
مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وكذلك إذا صلى صلاة واحدة، ونوى بها الصلاة على المسلمين منهم ... صح.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المسلمون أكثر ... صلى عليهم - كما قلنا - وإن كانوا أقل من المشركين
لم يصل عليهم) .
دليلنا: أنه اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه، ولم يتميزوا، فوجبت الصلاة بالقصد، كما لو كان المسلمون أكثر.
[مسألة: لا يصلى على الشهيد]
المقتول من المسلمين في معركة الكفار لا يغسل، ولا يصلى عليه، وكذلك من مات من المسلمين هناك بسبب من أسباب القتال، بأن وقع من دابته، أو من جبل، أو رجع عليه سلاحه، أو رفسته دابة، فمات ... فهو شهيد، وحكمه حكمه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يغسل الشهيد، وإنما يصلى عليه) . واختاره المزني.
وقال الحسن وسعيد بن المسيب: يغسل، ويصلى عليه.
دليلنا: ما روى جابر، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه «قتل من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يوم أحد اثنان وسبعون قتيلاً، فـ: (أمر بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنزع عنهم الجلود والفرى، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم»(3/80)
إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه ما لم يكن من عامة لباس الناس، مثل: الجلود، والفرى، والخفاف، ووليه بالخيار: بين أن ينزع ثيابه التي قتل فيها، ويكفنه بغيرها، وبين أن يدفنه بثيابه التي قتل فيها.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا ينزع عنهم الخفاف والجلود والفرى) .
وقال أبو حنيفة: (ليس لوليه نزع تلك الثياب، بل يدفن بها) .
دليلنا على مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن ينزع عن قتلى أحد الحديد والجلود» .
وعلى أبي حنيفة: ما روي: «أن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثوبين؛ ليكفن بهما حمزة بن عبد المطلب، فكفنه بأحدهما، وكفن بالآخر رجلا آخر» . فدل على جواز ذلك.(3/81)
[فرع: جرح في الحرب ثم مات بعد انقضائها]
فإن جرح في الحرب، فمات بعد انقضاء الحرب ... فالمشهور من المذهب: أن حكمه حكم الموتى يغسل ويصلى عليه.
وحكى في " الإبانة " [ق\109] قولاً آخر: أن حكمه حكم الشهيد.
وقال أبو حنيفة: (إن أكل، أو شرب، أو أوصى ... لم يثبت له حكم الشهادة، وإن مات قبل ذلك
ثبت له حكم الشهادة) .
وقال مالك: (إن أكل، أو شرب، أو بقي يومين أو ثلاثة ... فحكمه حكم الموتى، وإن لم يأكل، ولم يشرب، ولم يبق
فحكمه حكم الشهيد) .
دليلنا: أنه مات بعد انقضاء الحرب، فهو كما لو أكل، أو شرب، أو بقي ثلاثًا.
[فرع: المقتول خارج الصف]
إذا انكشف الصف عن مقتول من المسلمين ... فإنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، سواء كان به أثر أو لم يكن.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (إن لم يكن به أثر ... غسل، وصلي عليه) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان به دم يخرج من عينه أو أذنه ... لم يغسل، وإن كان يخرج من أنفه أو ذكره أو دبره
غسل) .
دليلنا: أن الظاهر أنه مقتول بسبب الحرب، فلم يغسل، ولم يصل عليه، كما لو كان به أثر.(3/82)
[فرع: الصغير يقتل في المعركة]
وإن كان المقتول صغيرًا ... ثبت له حكم الشهداء.
وقال أبو حنيفة: (لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ) .
دليلنا: أنه مسلم قتل في معركة الكفار، بقتالهم، فهو كالبالغ.
[فرع: الشهيد الجنب]
وإن كان الشهيد جنبًا ... فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يغسل.
وقال أبو العباس، وأبو علي بن أبي هريرة: يغسل. وهو قول أحمد رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (يغسل، ويصلى عليه) .
والدليل على وجوب غسله: ما روي: «أن حنظلة بن الراهب قتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهله: "ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله"، فقالوا: إنه كان جنبًا، فسمع هيعة، فخرج إلى القتال، فقتل» .
والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أحد: «زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في الله، إلا وهو يأتي يوم القيامة بدم، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» . وهذا عام في الجنب وغيره.(3/83)
وأما حديث حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلا حجة فيه؛ لأن غسله لو كان واجبًا ... لما سقط الفرض بغسل الملائكة.
وإن كان على الشهيد نجاسة قبل القتال ... فهل يجب غسلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب غسلها؛ لأنه غسل واجب، فسقط بالشهادة، كغسل الموت.
والثاني: يجب غسلها؛ لأن هذا غسل وجب بغير الموت، فلم يسقط بالشهادة، بخلاف غسل الموت.
[مسألة: قتل أهل البغي عدلاً]
ً] : إذا قتل أهل البغي رجلاً من أهل العدل ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لما روي: (أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لم يغسل أحدًا ممن قتل معه) ، و: (أوصى عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألا يغسل) ؛ لأنه يذب عن الدين، فهو كالمقتول في معترك الكفار.
والثاني: يجب غسله، والصلاة عليه، لما روي: (أن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه غسلت عبد الله بن الزبير) . ولم ينكر ذلك منكر.
ولأنه مقتول في غير معركة الكفار، فهو كمن قتل غيلة في المصر.(3/84)
ومن قتله قطاع الطريق من أهل المصر أو القافلة ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين فيمن قتله أهل البغي من أهل العدل؟
وأما من قتله اللصوص من أهل القافلة: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كمن قتله قطاع الطريق.
وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب غسله، والصلاة عليه، وجهًا واحدًا، هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (من قتل ظلمًا بحديدة ... فإنه لا يغسل، وإن قتل بمثقل
غسل) .
دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قتل بحديدة ظلمًا، فغسل، وصلي عليه) فدل على: إنه إجماع بين الصحابة.
ومن قتل قصاصًا، أو رجم بالزنا ... فوجب غسله، والصلاة عليه.
وقال الزهري: (المرجوم لا يصلى عليه) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يصلي عليه الإمام الأعظم، ويصلي عليه غيره) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم الغامدية، وصلى عليها» .
وإن قتل أهل العدل رجلاً من أهل البغي ... وجب غسله، والصلاة عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ عقوبة له) .
دليلنا: أنه مسلم قتل في غير معركة الكفار، فهو كما لو قتل غيلة.(3/85)
[مسألة: الصلاة على ولد الزنا]
ولد الزنا إذا مات ... وجب غسله، والصلاة عليه.
وقال قتادة: لا يغسل، ولا يصلى عليه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» ، ولأنه مسلم مات في غير حرب الكفار ... فوجب غسله والصلاة عليه، كثابت النسب.
[مسألة: الصلاة على النفساء]
والنفساء إذا ماتت ... وجب غسلها والصلاة عليها.
وقال الحسن: لا يصلى عليها.
دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا.
وإن قتل نفسه، أو مات الغال من الغنيمة ... وجب غسلهما والصلاة عليهما.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يصلي عليهما الإمام) .
وقال الأوزاعي: (من قتل نفسه ... لا يغسل، ولا يصلى عليه) .
دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا.
وقال الشيخ أبو حامد: وأما سائر الشهداء، مثل: من مات بحريق، أو غرق، أو بطن، أو تحت الهدم، وما أشبه ذلك ... فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم، بلا خلاف؛ لعموم الخبر، ولأنه مسلم مات في غير معترك الكفار
فوجب غسله، والصلاة عليه، كما لو مات بغير هذه الأمراض.
وبالله التوفيق(3/86)
[باب حمل الجنازة والدفن]
الحمل - بفتح الحاء -: المصدر، وما كان غير منفصل، كحمل البطن، وحمل الشجرة، وبكسر الحاء: ما كان بائنًا، كالحمل على الظهر وغيره.
والجنازة - بكسر الجيم -: السرير، وبفتحها: الميت.
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: الأفضل إذا أراد حمل الجنازة أن يجمع في الحمل بين العمودين والتربيع، وإذا أراد الاقتصار على أحدهما ... فالحمل بين العمودين أفضل.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ في " الشامل ": أن الحمل بين العمودين أفضل.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم: (أن التربيع أفضل) .
وقال النخعي، والحسن: (يكره الحمل بين العمودين) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (هما سواء) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» .
وروي ذلك عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
إذا ثبت هذا: فكيفية الحمل بين العمودين، وهو أن يحمل النعش ثلاثة: واحد(3/87)
من مقدم النعش، فيضع كل عمود على كتف ورأسه بينهما، ومن المؤخر اثنان، لا يتأتى غير ذلك.
وأما التربيع: فيستحب لكل من أراد أن يحمل الجنازة أن يأخذ بجوانبها الأربعة، فيبدأ بياسرة المقدمة، فيضع العمود على عاتقه الأيمن، ثم بياسرة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيمن، ثم يرجع إلى يامنة المقدمة، فيضعها على عاتقه الأيسر، ثم يامنة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيسر.
وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبدأ، فيأخذ بياسرة المقدمة، ثم بياسرة المؤخرة، كما قلنا، ثم يأخذ بيامنة المؤخرة، ثم بيامنة المقدمة. وهذا ليس بصحيح، بل الأولى أن يبدأ بالمقدم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدؤوا بميامنكم» .
ويحمل على سرير أو لوح أو خشب، فإن خيف عليه الانفجار قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه ... فلا بأس بحمله على الأيدي والرقاب، فإن ثقل
فلا بأس أن يحمل في جنبي السرير من يخففه على الحاملين، وإن أدخلوا عمودًا آخر، ليكونوا ستة أو ثمانية ... لم يكن في ذلك بأس، وإن كان الميت امرأة
اتخذ لها خيمة تسترها؛ لما روي: (أن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: إني لضئيلة، فإذا مت ... فلا يراني الناس) ، يعني: أنها مهزولة. فلما ماتت
قالت أم سلمة، أو أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إني رأيت في أرض الحبشة يعمل للنساء نعش يحملن فيه، عليه خيمة، فاتخذت لها نعشًا عليه خيمة، فكانت أول من حمل بنعش عليه خيمة فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) .(3/88)
ويستحب الإسراع بالمشي في الجنازة.
قال أصحابنا: وهو إجماع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة ... فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك
فشر تضعونه عن رقابكم» .
ولا يبلغ به الخبب، وإنما يزيد فوق سجية مشي العادة، بحيث لا يشق على ضعفاء الناس معها.
وقال أبو حنيفة: (يبلغ به الخبب) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: «سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المشي بالجنازة، فقال: "دون الخبب، فإن يكن خيرًا ... قدمتموها إليه، وإن يكن شرًا
فبعدًا لأصحاب النار» .
فإن خيف الانفجار، إذا كان المشي فوق سجية المشي ... مشوا به أسرع من ذلك. فإن خيف الانفجار من الإسراع
فإنه يمشي به على سجية المشي.
ويستحب اتباع الجنازة؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «أمرنا(3/89)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم» .
ويكره له الركوب في الذهاب مع الجنازة من غير عذر؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في عيد ولا جنازة» .
وروي عن ثوبان: أنه قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: "ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» .
فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له الركوب في الذهاب؛ لأن ذلك عذر.
وإن ركب في الانصراف ... لم يكره؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة أبي الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس» ، ولأنه غير قاصد إلى قربة.
[مسألة: المشي أمام الجنازة]
والمشي أمام الجنازة أفضل للماشي والراكب، وبه قال الزهري، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.(3/90)
وقال أبو حنيفة: (المشي خلف الجنازة أفضل) . وبه قال الأوزاعي.
وقال الثوري: (الراكب خلفها، والماشي أمامها) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يمشون أمام الجنازة» ، ويقولون: هو أفضل؛ لأنهم شفعاء الميت ... فاستحب أن يتقدموا عليه.
ويستحب أن يمشي قريبًا منها؛ لأنه إذا بعد منها ... لم يكن معها، فإن سبق إلى المقبرة
لم يجب عليه القيام، بل هو بالخيار إن شاء ... قام، وإن شاء
قعد.
وحكي عن أبي مسعود البدري، وجماعة معه: أنهم قالوا: (يجب القيام لها) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكره له الجلوس حتى يوضع في اللحد) .
دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقوم للجنازة، ثم أمرنا بالجلوس» .(3/91)
وروى الحسن، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن جنازة اليهودي مرت بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها رائحة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرائحتها حتى جازت، ثم قعد» . فرؤي: أنه قام لذلك.
وقيل أيضًا: إنه قام، لكي لا تعلوه جنازة المشرك.
وروى عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في جنازة ... لم يجلس حتى توضع في اللحد، فاعترض بعض اليهود، وقال: إنا لنفعل ذلك، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "خالفوهم» .
ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر؛ لما روي: «أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما مات أبوه ... أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إن عمك الضال قد مات، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب فواره»(3/92)
[فرع: لا تتبع الجنائز بنار ولا نائحة]
ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت» ، يعني: نوحًا.
وروي: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى مجمرة على قبر، فقال: (لا تتشبهوا باليهود) .
ولأنها إذا أتبعت بالنار ... يفأل بذلك فأل السوء.
[مسألة: دفن الميت]
دفن الميت فرض على الكفاية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] [عبس:21] ، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أكرمه) ، ولأنه إذا ترك ... تأذى الناس برائحته.
ولا يكره الدفن بالليل، ولكنه بالنهار أولى؛ لأنه أمكن.
وقال الحسن البصري: (يكره الدفن ليلاً) .(3/93)
دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (ما عرفنا دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمعنا صوت المساحي أول ليلة الأربعاء) .
وروي: (أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دفن ليلاً) ، و: (دفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليلاً) .
[مسألة: الدفن بمكة]
إذا مات ميت بمكة ... فالأفضل أن يدفن في مقبرتها؛ لما جاء فيها من الأثر، وكذلك من مات في المدينة أو بيت المقدس
فالأفضل أن يدفن في مقبرتهما؛ لحرمتهما، وشرف منزلتهما.
وإن مات في بلد غير هذه، وكانت مقبرتها تذكر بخير، مثل: أن يكون فيها قبور الصالحين، أو يرى فيها منامات صالحة ... فالدفن فيها أولى من غيرها من المقابر، وإن لم يذكر فيها شيء
فالدفن فيها أفضل من الدفن في البيت؛ لما يلحقه من دعاء المسلمين الذين يزورون القبور.(3/94)
فإن قيل: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن في بيت عائشة أم المؤمنين؟
قلنا: إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن أصحابه في المقبرة، فكان الاقتداء بفعله أولى.
ولأنهم أرادوا تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ لأنه يكثر إليه الزوار، بخلاف غيره.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... اختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا ما أُنسيته، سمعته يقول: ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه.
[فرع: الاختلاف على موضع الدفن]
] : وإن تشاحَّ الورثة، فقال بعضهم: ندفنه في ملكه، وقال بعضهم: يدفن في المقبرة المسبلة ... فإنه يدفن في المقبرة المسبلة؛ لأن الملك قد صار لهم.
ولو قال بعضهم: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من ماله ... كفن من ماله.
والفرق بينهما: أنه لا منة عليهم بدفنه في المقبرة المسبلة، وعليهم المنة في كفن بعض الورثة له من ماله.
فإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك الميت ... قال أصحابنا: كان للباقين نقله؛ لأن الملك قد صار لهم، غير أنه يكره لهم نقله.(3/95)
وإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك نفسه، أو كفنه من مال نفسه، ثم دفنه ... قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، وعندي: أنه لا ينقل، ولا تسلب أكفانه بعد دفنه؛ لأنه ليس في تبقيته إسقاط حق أحدهم، وفي نقله هتك حرمته.
وإن تشاحّ اثنان في الدفن في مقبرة مسبلة ... قدم السابق منهما؛ لأن له مزية بالسبق، وإن لم يسبق واحد منهما
أقرع بينهما؛ لتساويهما.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت عندنا يحبون أن يجمع الأهل والقرابة في الدفن في موضع واحد) . وهذا صحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دفن عثمان بن مظعون ... أمر رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه، ثم حملها، فوضعها عند رأسه، وقال: "أُعلم على قبر أخي؛ لأدفن فيه من مات من أهلي» .
وإذا دفن ميت في مقبرة مسبلة، ثم أراد آخر أن يدفن في ذلك الموضع ميتًا آخر، فإن علم أنه قد بلي الأول ... جاز الدفن فيه، وإن علم أنه لم يبل
لم يجز الدفن فيه، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ لأن البلد إذا كان شديد الحر ... فإن الميت يبلى فيه في أقرب مما يبلى في البلاد الباردة، فإن خالف وحفر قبرًا، فوجد فيه ميتًا،(3/96)
أو عظامًا ... أعيد القبر، إلا أن الشافعي قال: (فإن فرغ من القبر، وظهر فيه شيء من العظام
لم يضر أن يجعل في جانب القبر، ويدفن الثاني معه) .
[فرع: عارية الأرض للدفن]
فإن أعار رجل أرضه لرجل ليدفن فيها ميتًا ... فله أن يرجع فيها ما لم يدفن؛ لأنها عارية لم تقبض، وإن دفن الميت فيها
لم يكن له الرجوع فيها، فإن بلي ... كان له الرجوع.
وإن دفن رجل بأرض غيره بغير إذنه ... فالمستحب لصاحب الأرض: أن لا ينقله؛ لأن في ذلك هتكًا لحرمته، فإن نقله
جاز؛ لأنه دفن فيها بغير إذنه.
[فرع: دفن أكثر من واحد]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب أن يدفن في قبر أكثر من واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل هكذا) .
فإن دعت إلى ذلك ضرورة، بأن يكثر الموتى، أو يكون في الناس ضعف؛ لقلة الغذاء في القحط، أو مشتغلين في الحرب ... جاز أن يدفن الاثنان، والثلاثة، وأكثر في قبر، ويقدم أكثرهم قرآنًا إلى القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في قتلى أحد أن يجعل الاثنان والثلاثة في قبر، قالوا: فمن نقدم؟ قال: "أكثرهم قرآنًا» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، وإن دعت(3/97)
ضرورة أن يدفن رجل مع امرأة في قبر ... جعل الرجل قدامها، وجعل بينهما حاجز من تراب) .
وإن كان رجلاً وصبيا وخنثى وامرأة ... قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، اعتبارًا بصف الصلاة.
[مسألة: ترتيب دفن الجماعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن مات جماعة من أهله، ولم يمكنه دفنهم إلا واحدًا واحدًا، فإن كان يخشى تغير أحدهم ... بدأ به، ثم بمن يخشى تغيره بعده، وإن لم يخش تغير أحدهم
بدأ بأبيه؛ لأنه أكثر حرمة، وأوجب حقًا، ثم بعده الأم؛ لأن لها رحمًا، ثم الأقرب فالأقرب.
وإن كانا أخوين ... قدم أكبرهما، وإن كانتا زوجتين
أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى) .
[مسألة: الدفن في مقابر الكفرة]
ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين، فإن ماتت ذمية حامل بمسلم ... دفنت بين مقابر المسلمين والكفار، وجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأنه يقال: إن وجه الجنين إلى ظهرها.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه دفنها في مقبرة المسلمين) . وبه قال مكحول، وإسحاق رحمهما الله.(3/98)
وقال عطاء، والزهري، والأوزاعي: (تدفن مع أهل دينها) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يؤدي إلى دفن مسلم مع الكفار.
وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يصح عنه؛ لأنه يؤدي إلى دفن مشرك مع المسلمين.
[مسألة: الدفن في البحر]
وإن مات ميت في السفينة في البحر ... فإنه يغسل، ويحنط، ويكفن، ويصلى عليه، فإن علموا أنهم يجدون جزيرة، أو كانوا بقرب ساحل
انتظروا حتى يدفنوه هنالك.
وإن لم يكن شيء من ذلك ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يتركونه بين لوحين، ويشدونه، ويطرحونه في الماء، فربما يقع في جزيرة، فيراه بعض المسلمين، فيدفنه، ولا يثقل حتى ينزل إلى القرار، فتأكله الحيتان) .
قال المزني: إنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان أهل الجزائر مسلمين، فأما إذا كانوا مشركين: فإنه يثقل بشيء حتى ينزل إلى القرار؛ لكي لا يأخذه الكفار، فيغيروا فيه سنة المسلمين.
وقال أحمد: (يثقل بشيء حتى ينزل بكل حال) .
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى؛ لأنه ربما يأخذه مسلم، فيدفنه، فيكون أولى من أن تأكله الحيتان.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فاختار في " المهذب " ما قاله المزني.(3/99)
[مسألة: تعميق القبر]
قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (ويعمق القبر قدر قامة وبسطة) . قال أصحابنا: وذلك أربعة أذرع ونصف.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا حد فيه) .
وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلى السرة.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا» .
وروي عن عمر: أنه قال: (احفروا قبري قامة وبسطة) ، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع، وأبعد على من يريد نبشه، ولئلا يظهر ريحه.
ويستحب أن يوسع عند رجلي الميت ورأسه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحافر: أوسع من قبل رجليه ورأسه»
فإن كانت الأرض صلبة ... فاللحد أحب إلينا من الشق، وهو أن يحفر في القبر(3/100)
حفيرة في جانبه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللحد لنا، والشق لغيرنا» .
وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... اختلفوا في قبره، فقال بعضهم: يلحد له، وقال الآخرون: يشق له، وكان في المدينة حفاران، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فوجهوا إليهما، وقالوا: اللهم اختر لنبيك ما فيه الخيرة، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وإن كانت الأرض رخوة ... لم يمكن اللحد، ولكن الشق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أن يبني في القبر من الجانبين بالحجارة أو اللبن، ويترك الميت في وسطه، ثم يسقف عليه باللبن أو الخشب، ويجعل في شقوقه كسر اللبن) .(3/101)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيتهم - عندنا - يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون عليه التراب) .
[مسألة: فعل الدفن للرجال]
] : ولا يدخل الميت قبره إلا الرجال، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ لأنه يحتاج فيه إلى بطش وقوة، فكان الرجال به أقوم، ولأن المرأة إذا تولت ذلك ... بان شيء مما هو عورة منها.
قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من مغتسلها إلى الجنازة، وتسليمها إلى من في القبر؛ لأنهن يقدرن على ذلك ... وكذلك: يتولى النساء حل ثيابها في القبر، ولم أر هذا لغيره من أصحابنا.
إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رجلاً ... فأولى الناس بإدخاله القبر أولاهم بالصلاة عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويدخله منهم أفقههم) . فإن كان له قريبان، أحدهما أبعد من الآخر، وكان البعيد فقيهًا ... فهو أولى من القريب الذي ليس بفقيه؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى معرفة وعلم، فكان الفقيه بذلك أولى.
فإن استويا في الفقه ... فأقربهم رحمًا، كالأب والجد، ثم بعدهما الابن، ثم ابن الابن، على ترتيب العصبات.
وإن كان الميت امرأة ... فالزوج أولى بإدخالها من كل أحد؛ لأنه يحل له من النظر إليها ما لا يحل لغيره، فإن لم يكن زوج
فالأب أولى، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، فإن لم يكن أحد من ذوي محارمها ... فمملوكها؛ لأنه محرم لها على ظاهر المذهب، فإن لم يكن
فالخصي من الرجال؛ لأنه لا شهوة له، فإن لم يكن، فبنوا العم.(3/102)
قال صاحب " الفروع ": فإن لم يكونوا ... أرسلت بحبل، فإن تعذر ذلك
جاز للأجانب الثقات وضعها.
[فرع: عدد الدافنين]
والمستحب: أن يكون عدد من يدفن وترًا: إما ثلاثة، أو خمسة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى وتر يحب الوتر» .
ولما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... أدخله القبر ثلاثة: العباس، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، واختلف في الثالث: فقيل: إنه الفضل بن العباس. وقيل: أسامة بن زيد، وهو الصحيح.
وأما عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فهم بذلك، وتهيأ للنزول، ولم ينزل.
[فرع: ستر القبر]
ويستحب أن يستر القبر بثوب عند إدخال الميت، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الميت رجلاً ... لم يفعل ذلك) .
دليلنا: ما روي عن سعد بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «لما دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/103)
سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... ستر قبره بثوب، وكنت ممسكًا بحاشية الثوب، فأصغى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما قال لك؟ فقال: قال: اهتزت قوائم العرش لموت سعد»
ولأنه لا خلاف أنه يستحب ستره بثوب بعد الموت، وعند الغسل؛ لأنه لا يؤمن أن يكون قد تغير، فاستحب - هاهنا - مثله.
ولأنه يحتاج إلى حل عقد كفنه، وتسويته، فاستحب ستره.
[مسألة: استحباب الدفن من قبل الرأس]
ويستحب أن يسل الميت من قبل رأسه، فيوضع رأس الميت عند رجل الميت من القبر، ثم يسل الميت من قبل رأسه سلاًّ إلى القبر، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (توضع الجنازة عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل إلى القبر معترضًا) .
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُل من قبل رأسه) ولأن ذلك أسهل.(3/104)
والمستحب: أن يقول من يدخله القبر: (بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . والملة والسنة واحد؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أدخل الميت القبر ... قال ذلك) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يدعو مع ذلك، فيقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة، إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك، وأنت خير منزول به، إن عاقبته ... فبذنبه، وإن عفوت
فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر حسنته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك، يا أرحم الراحمين) .(3/105)
[فرع: إضجاعه على الشق الأيمن]
والمستحب: أن يوضع على جنبه الأيمن، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» .
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا فُعِلَ به، وكذلك فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم من بعده إلى يومنا هذا.
ولأنه إذا فعل به ذلك ... استقبل القبلة بجميع بدنه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .
فإن خالفوا، وأضجعوه على جنبه الأيسر، واستقبلوا بوجهه القبلة ... جاز.
ويستحب أن يوسد رأسه بلبنة، كالحي إذا نام، ويدنى إلى اللحد، ويجعل خلف ظهره تراب يسنده؛ لئلا يستلقي على ظهره.
ولا تترك يده تحت خده؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إذا مت ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) .
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليتوسد يمينه» ... فأراد به: الجنب الأيمن.
ويكره أن يدفن في تابوت، أو يجعل تحته مخدة، أو مضربة، أو غير ذلك؛(3/106)
لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أنزلتموني في اللحد ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) .
وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا) .
ويستحب أن ينصب عليه اللبن؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انصبوا علي اللبن نصبًا، وأهيلوا علي التراب) .
ويستحب لمن على شفير القبر عند رد التراب أن يحثو بيده ثلاث حثيات من التراب في القبر، ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب في القبر» . وروي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت:(3/107)
(كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . فدل على: أنهم كانوا يحثون.
ولا يستحب أن يزاد في القبر أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع، فيضيق على الناس.
وقيل: إن الملك يأخذ من تراب قبر المؤمن، فإذا زيد تراب في قبره، فرآه الناس كثيرًا ... أساءوا الظن به، وأن الملك لم يأخذ من ترابه شيئًا.
ويكره أن يرفع القبر فوق الأرض رفعًا كثيرًا؛ لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته»
ويستحب أن يشخص القبر على وجه الأرض قدر شبر، ليعلم أن هناك قبرًا، لما روي عن القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أماه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة) .(3/108)
وروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ألحد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصب عليه اللبن، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر) . ويستحب أن يسطح القبر.
وقال أبو علي الطبري: الأولى أن يسنم. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن التسطيح شعار الرافضة واليهود.
قال أبو علي الطبري: وكذلك يستحب ألا يجهر بالبسملة في الصلاة؛ لأن الجهر بها شعار الرافضة، وهذا ليس بصحيح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سطح قبر ابنه إبراهيم، ورش عليه الماء، ووضع عليه حصى من حصى العرصة» .
وأما موافقة الرافضة: فلا يضر إذا صحت السنة فيه.
ويستحب أن يرش على القبر الماء، ويوضع عليه الحصى؛ لما ذكرناه من الخبر، وإنما أمر بالرش؛ ليلصق عليه الحصى، وإذا لم يفعل ذلك ... زال أثره، فلا يعرف.
[فرع: تجصيص القبر]
ويكره أن تجصص القبور؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقعد على قبر، ولا يبنى عليه، ولا يقصص» ، يعني: لا يجصص.(3/109)
وفي رواية أخرى: «أنه نهى عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والقعود عليها» .
ولأن ذلك من زينة الأحياء، ولا حاجة بالميت إليه.
وأما البناء على القبر: فإن بني عليه بيت أو قبة، فإن كان ذلك في مقبرة مسبلة ... لم يجز؛ لأنه يضيق على غيره، وعليه يحمل الخبر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها، ولم أر من الفقهاء من يعيب عليه ذلك) .
وإن كان في ملكه ... جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المسبلة.
[مسألة: الدفن قبل الصلاة]
إذا دفن الميت قبل الصلاة عليه ... صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصح على القبر عندنا.(3/110)
وإن دفن بغير غسل، أو وجه إلى غير القبلة، فإن خيف عليه التغيير ... لم ينبش؛ لأن ذلك قد تعذر، وإن لم يخف عليه التغيير
نبش، وغسل، ووجه إلى القبلة.
وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل نصب اللبن، أو بعد نصب اللبن، وقبل أن يطرح عليه التراب ... فإنه ينبش، وإن كان بعد طرح اللبن عليه
لم ينبش) .
دليلنا: أنه فرض مقدور عليه، فوجب أن ينبش لأجله، كما لو لم يطرح عليه التراب.
وإن دفن من غير كفن ... ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا ينبش؛ لأن القصد منه المواراة، وقد وجد ذلك، فلا ينبغي أن ينبش.
والثاني: أنه ينبش، ويكفن؛ لأنه فرض مقدور عليه، فأشبه الغسل.
وإن غصب من رجل ثوبًا، وكفن به ميتًا، ودفنه ... ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: ينتقل حق مالكه إلى القيمة، مراعاة لحق الميت.
والثاني - وهو الأشبه -: إن أتى عليه زمان يبلى فيه ذلك الثوب ... كان حقه في القيمة، وإن لم يأت عليه ذلك
طالبه برد الثوب، كما لو دفنه في أرض مغصوبة.
[فرع: وقوع شيء في القبر]
فروع: [وقوع شيء في القبر] :
فإن وقع في القبر شيء له قيمة ... نبش، وأخرج؛ لما روي: (أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الدفن، فقال: خاتمي، ففتح موضعًا وأخرجه) .(3/111)
وقيل: إنه فعل ذلك حيلة؛ ليقول: (أنا أقربكم عهدًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وإن ابتلع الميت جوهرة، فإن كانت لغيره ... شق جوفه، وأخرجت، وإن كانت للميت
ففيه وجهان:
أحدهما: يشق جوفه، وتخرج؛ لأنها صارت للورثة.
والثاني: لا تخرج؛ لأنه أتلفها في حياته، وهي على ملكه.
وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين يتحرك ... ففيه وجهان:
قال أبو العباس ابن سريج: يشق جوفها، ويخرج؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت.
ومن أصحابنا من قال: ينظر فيه: فإن قلن القوابل: إن هذا الجنين إذا أخرج عاش، مثل: أن يكون ابن ستة أشهر، فأكثر ... شق جوفها.
وإن قلن: لا يعيش ... فإنه لا يخرج؛ لأن فيه هتك حرمة الميتة بما لا فائدة فيه.
فعلى هذا: لا تدفن حتى يتحقق موته.(3/112)
[فرع: نقل الميت]
] : قال الشيخ أبو نصر: ليس في نقل الميت من بلد إلى بلد نص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والذي يشبه عندي: أنه يكره، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: (قد حمل سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه وسعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العقيق إلى المدينة) .
ودليلنا: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعجيل دفن الميت» . وفي ذلك تأخير لدفنه، وأما نقل سعد وسعيد: فالعقيق قرب المدينة، فجرى مجرى البلد الواحد إذا نقل من مقبرة فيه إلى مقبرة.
[مسألة: الانصراف بعد الدفن]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا فرغ من الدفن ... فقد أكمل، وينصرف من شاء) .
قال أصحابنا: وفي الانصراف أربع مسائل:
إحداهن: إذا صلى، وانصرف ... فله ثواب.
الثانية: إذا صلى عليه، وانتظره حتى يوسد في القبر، وانصرف ... فهذا أفضل من الأول.(3/113)
الثالثة: أن يقف حتى يفرغ من الدفن، وينصرف، فهذا أفضل من الأولين؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى على جنازة ... فله قيراط، ومن شيعها حتى قضى دفنها
فله قيراطان. أحدهما - أو قال: أصغرهما - مثل جبل أحد".
قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فذكرت ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فأرسل إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فسألها عن ذلك، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لقد فرطنا في قراريط كثيرة»
الرابعة: أن يقف بعد الدفن، ويدعو للميت، وهذا أفضل من الأولين.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/245] : (وكان بعض من مضى عندنا من أهل العلم يأمر أهل الميت إذا فرغوا من الدفن: أن يقفوا عند قبره بمقدار ما ينحر جزور) .(3/114)
وقال: (ذلك حسن، إلا أني لست أراهم يفعلون ذلك الآن عندنا) . فيستحب ذلك؛ لما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دفن ميتًا ... وقف عند قبره، وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» .
وبالله التوفيق(3/115)
[باب التعزية والبكاء على الميت]
يستحب أن يعزى أهل الميت وأقاربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» .(3/116)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى ... كسي بردًا في الجنة» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ووقت التعزية من حين يموت الميت إلى أن يدفن، وبعد الدفن أحب إلي، إلا أن يضعف الولي عن احتماله، فيعزى قبل الدفن) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يعزى بعد الدفن، بل قبله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» . ولم يفرق.
ولأن بعد الدفن أولى بالتعزية؛ لأنه حين مفارقته، وتجديد مصيبته.
ولأن الميت ما لم يدفن، فهو بين أظهر أهله، وإنما يأنسون منه، ويستوحشون بفرقته إذا دفن، فكان أولى الأحوال بالتعزية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعزى الكبير والصغير، والرجل والمرأة إلا أن تكون شابة، فلا أحب أن يعزيها إلا ذو رحم محرم لها) . فأما الأجنبي: فلا يعزيها؛ مخافة الافتتان بها، ويخص بالتعزية صبيانهم وضعفاؤهم عن احتمال المصيبة، فإن الثواب في تعزيتهم أكثر.
وأما لفظ التعزية: فقال الشافعي: (فإن كان يعزي مسلمًا بمسلم، فأحب أن يعزي بتعزية الخضر أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك: أنه لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/117)
وجاءت التعزية ... سمعوا صوتًا، ولا يرون أحدًا، يقول: (السلام عليكم، أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) .
ويستحب أن يقول بعد ذلك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك.
وإن عزى مسلمًا بكافر ... قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وخلفه عليك، يعني: الله خليفته عليك.
وإن عزى كافرًا بكافر ... قال: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، حتى تكثر الجزية.
[مسألة: كراهة الجلوس للتعزية]
ويكره الجلوس للتعزية، وهو أن يجتمع أهل الميت في بيت؛ ليقصدهم من أراد العزاء؛ لأن ذلك محدث وبدعة، بل يتوجه كل واحد منهم لحاجته، فيعزى الرجل في مصلاه، وفي سوقه وضيعته.(3/118)
[مسألة: حرمة النياحة]
ويحرم النوح على الميت، وشق الجيوب، ونشر الشعور، وخمش الوجوه؛ لما روت «أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت: (نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوح، فما وفت منا واحدة، إلا أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -»
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن النائحة والمستمعة» .
وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» .
وروي «عن امرأة بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: (أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن(3/119)
لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيبًا، ولا ننشر شعرًا» .
ولأن ذلك شبيه بالتظلم والاستغاثة، وما فعله الله تعالى حق وعدل.
ولأن ذلك يجدد الحزن، ويمنع الصبر، فحرم.
وأما البكاء من غير ندب، ولا نوح: فيجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو ينزع، فبكى عليه، وقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون" ثم فاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! فقال: إنها رحمة يضعها الله في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»
وروي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس قد نهيت يا رسول الله عن البكاء؟! فقال: "لا، إنما نهيت عن النوح» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكى على عثمان بن مظعون، حتى سالت دموعه، فروي: أنه قال في بكائه عليه: "هاء هاء هاء" ثلاث مرات» .
فإن قيل: هذا صوت، وأنتم تكرهون الصوت؟!(3/120)
فالجواب: أنه يحتمل أنه كان مغلوبًا عليه، وما كان مغلوبًا عليه الإنسان لا يؤاخذ به. ويحتمل أن يكون الصوت المكروه ما كان بنوح وتعديد، وهذا ليس بشيء منه.
إذا ثبت هذا: فالبكاء مباح إلى أن يموت الميت، فإذا مات: فيستحب أن لا يبكي.
قال الشيخ أبو حامد: وإن كان لا يحرم؛ لما روى جابر بن عتيك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه، فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] [البقرة: 156] ، ثم قال: "قد غلبنا عليك يا أبا الربيع "، فصاحت النسوة بالبكاء، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعهن يبكين، فإذا وجبت ... فلا تبكين باكية". قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: إذا مات»
ولأن البكاء بعد الموت يجدد الحزن، ويمنع الصبر.
فإن قيل: فقد روى عمر، وابن عمر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» .(3/121)
قال أصحابنا: فعن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن هذا الخبر؟ فقالت: يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث هكذا، وإنما قال: "إن الميت ليزاد في عذابه ببكاء أهله عليه". حسبكم القرآن، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] » [الأنعام: 164] ) .
وروي عنها: أنها قالت: «مات يهودي، فكان أهله يبكون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه»
والجواب الثاني: قال المزني: تأويله: أن يكون الميت أوصى بالبكاء عليه، وهكذا أهل الجاهلية كانوا يوصون بالبكاء عليهم، قال طرفة بن العبد:(3/122)
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
والجواب الثالث: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» ، أي: بما يبكي عليه أهله؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يبكون على ميتهم، ويعددون في بكائهم ما كان يصنع من الظلم والقتل، ويفتخرون به.
[مسألة: زيارة القبور]
] : ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت، ولا تقولوا هجرًا» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قبر أمه في ألف مقنع» .
ويستحب أن يسلم عليهم، ويدعو لهم؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبور بالمدينة، فأقبل عليها بوجهه، وقال: "السلام عليكم، يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» .(3/123)
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى البقيع، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» .
وروي: أنه قال: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» .
وأما النساء: فلا يجوز لهن زيارة القبور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله زوارات القبور» .(3/124)
ولا يكره المشي في المقبرة بنعلين، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره) .
دليلنا: ما روي في حديث المساءلة: «وإنه ليسمع خفق نعالهم» .
ويكره أن يطأ القبر، أو يجلس عليه، أو يتكئ عليه.
وقال مالك: (لا يكره ذلك إلا أن يكون لبول أو غائط) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن يجلس أحدكم على نار، فتحرق ثوبه، ويصل إلى بدنه، أحب إلي من أن يجلس على قبر» .
فإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا أن يمشي على قبر ... جاز له المشي عليه؛ لأنه موضع عذر.
ويكره المبيت في المقبرة؛ لما فيها من الوحشة.
ويكره أن يبني على القبر مسجدًا، لما روى أبو مرثد الغنوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(3/125)
«لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن تبنى، وأن توطأ» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس) .
[مسألة: إطعام أصحاب المصيبة]
ويستحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت طعامًا يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... قال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم»
ولأن ذلك من البر والمعروف.
وقال ابن الصباغ: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه: فلم ينقل فيه شيء، وهو بدعة، غير مستحب.(3/126)
...
....
....
...(3/127)
وبالله التوفيق(3/128)
[كتاب الزكاة](3/129)
كتاب الزكاة والأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] .
فأمر بالإيتاء، وهو الدفع.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] [البينة: 5] .
وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] [التوبة: 103] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] [التوبة: 34-35] .
فتواعدهم على الكنز، والكنز: كل مال لم تؤد زكاته.
وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ويدل على وجوبها من السنة: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له مال، فلم يؤد زكاته.. مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع يطلبه وهو يفر منه حتى يطوقه، وتلا قَوْله تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] » [آل عمران: 180] .(3/131)
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم» .
ووجوب الزكاة إجماع بين المسلمين، لا خلاف بينهم في ذلك.(3/132)
إذا ثبت هذا: فالزكاة - في اللغة -: هي النماء والزيادة، يقال: زكت الثمرة: إذا كثرت، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، ويسمى ما يدفع إلى المساكين: زكاة؛ لأنها تثمن المال.
واختلف أصحابنا في الآيات التي ذكرناها، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] ، وفيما يشبهها من الأخبار:
فمنهم من قال: إنها مجملة، وهو قول أبي إسحاق؛ لأن المجمل: ما لا يعلم المراد منه إلا ببيان، وهذه الآيات والأخبار بهذه الصفة.
فعلى هذا: لا يحتج بها إلا على وجوب الزكاة، فأما على القدر المخرج: فلا يحتج بها.
ومن أصحابنا من قال: هي عامة تدل بظاهرها؛ لأن الصلاة هي الدعاء، والزكاة النماء، فيصح أن يحتج بها على وجوب فعل ما يسمى صلاة، وعلى إخراج ما يقع عليه الاسم في الزكاة، ولا يجب ما زاد على ذلك إلا بدليل.
[مسألة: وجوب الزكاة في الملك الحقيقي]
ولا تجب الزكاة في مال المكاتب.
وقال أبو ثور: (تجب الزكاة في ماله) .
وقال أبو حنيفة: (يجب العشر في أرضه) .
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال المكاتب» .(3/133)
ولأن هذا يجب في المال على طريق المواساة، فلم يجب في مال المكاتب، كنفقة الأقارب، فإن أدى المكاتب ما عليه من نجوم الكتابة.. عتق، واستأنف الحول على ما بقي في يده، وإن عجز.. رد ما بيده إلى سيده، واستأنف به السيد الحول، وكان كـ: مال استفاد ملكه في هذه الحالة.
وإن ملك السيد عبده، أو أم ولده مالًا:
فإن قلنا بقوله القديم، وأنه يملك.. لم يجب على السيد فيه زكاة؛ لأنه خارج عن ملكه، ولا يجب على العبد فيه زكاة؛ لأن ملكه أضعف من ملك المكاتب؛ لأن للسيد أن يسترجعه متى شاء.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملك.. فإن حول السيد لا ينقطع فيه، ويجب على السيد زكاته.
وإن كان نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا، وملك بنصفه الحر نصابًا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يجب عليه فيه زكاة؛ لنقصانه بالرق.
والثاني: يجب عليه فيه الزكاة؛ لأنه يملكه ملكًا تامًا.
[مسألة: لا يخاطب الكافر بالزكاة]
وأما الكافر الأصلي: فلا يصح إخراج الزكاة منه، وهل هو مخاطب بوجوبها، ويكون آثمًا بها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وأما المرتد: فإن ارتد بعد وجوب الزكاة عليه.. لم يسقط عنه بردته ما قد وجب عليه، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه) .
دليلنا: أنه قد ثبت وجوبه عليه، فلم يسقط بردته، كالدين.(3/134)
وإن ارتد في أثناء الحول.. فهل ينقطع الحول؟ يبنى على حكم ملكه، وفيه طريقان:
قال أبو العباس: في ملكه قولان:
أحدهما: أن ملكه لا يزول بالردة، وإنما يزول بالموت.
فعلى هذا: لا ينقطع حوله، وتجب عليه الزكاة عند حلول الحول.
والثاني: أن ملكه موقوف.
فإن رجع إلى الإسلام.. بنينا أن ملكه لم يزل.
فعلى هذا: تجب عليه الزكاة.
وإن لم يعد.. بنينا أن ملكه زال بنفس الردة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة في ماله.
وقال أبو إسحاق: في ملكه ثلاثة أقوال:
قولان: هما الأولان.
والثالث: أن ملكه زال عن ماله بنفس الردة، وبه قال أبو حنيفة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة، واختار صاحب " المهذب " طريقة أبي إسحاق.
[مسألة: الزكاة حق في المال]
وتجب الزكاة في مال الصبي، والمعتوه والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من ماله، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال مالك، وابن أبي ليلي.(3/135)
وقال ابن مسعود، والثوري، والأوزاعي: (تجب، ولكن لا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه والمجنون، فيؤديها) .
وقال ابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تجب الزكاة في مالهم، وإنما تجب زكاة الفطر والعشر في مالهم) . وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر، وفي الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة» . ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» .
ولأنه حر مسلم، فجاز أن تجب الزكاة في ماله، كالبالغ.(3/136)
[مسألة: أنواع المزكين]
] : إذا تقرر ما ذكرناه: فالناس في الزكاة على ثلاثة أضرب:
[أحدها] : ضرب يعتقد وجوبها، ويؤديها في الوقت الذي تحل عليه، فهذا داخل تحت المدح في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] [المؤمنون: 1-4] .
وفي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] [الأعلى: 14] وما أشبهها من الآيات.
والضرب الثاني: يعتقد وجوبها، ولا يؤديها، وهم فساق المسلمين، فإن كانوا في قبضة الإمام.. ضيق عليهم، وأخذها منهم.
وإن امتنعوا بمنعة.. قاتلهم الإمام كما قاتل أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مانعيها.
وإن أخفوا أموالهم.. حبسهم الإمام، فإذا ظهرت.. ففي القدر الذي يؤخذ منهم قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يأخذ منهم الزكاة، وشطر مالهم، عقوبة لهم) ؛ لما روى بهز بن حكيم [بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده] : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن منعها.. فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء» .(3/137)
و [الثاني] : قال في الجديد: (تؤخذ منه الزكاة لا غير) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، ولأنها عبادة، فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات، والخبر منسوخ؛ لأن العقوبات كانت في أول الإسلام في الأموال.
والضرب الثالث: من لا يقر بوجوب الزكاة، فإن كان قريب عهد بالإسلام، أو ناشئًا في بادية لا يعلم وجوب الزكاة.. فإنه يعرف وجوب الزكاة.
وإن كان ممن نشأ مع المسلمين.. فإنه يحكم بكفره؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى من طريق توجب العلم الضروري؛ لكونها معلومة من نص الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الخاصة والعامة، فمن جحد وجوبها بعد ذلك.. حكم بكفره.
فإن قيل: أفليس الذين منعوا الزكاة في زمان أبي بكر زعموا أنها غير واجبة عليهم، ولم يكفروا؟
قلنا: إنما لم يكفروا؛ لأن وجوبها لم يكن مستقرًا في ذلك الوقت؛ لأنهم اعتقدوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصًا بذلك، ولهذا قال عمر لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف نقاتلهم؟! وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الصلاة من حقها، والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، والله لو منعوني عناقًا - وروي: عقالًا - مما أعطوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه) ثم اجتمعت الصحابة بعد ذلك معه على قتالهم، فاستقر الوجوب.(3/138)
وهذا كما نقول: إن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب كانا يذهبان إلى إباحة الخمر، وكان عمرو يقول: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] [المائدة: 93] ، فقيل له: هذا فيما سلف، فرجع عن ذلك، ولم يحكم بكفره.
فلو أن قائلًا قال في وقتنا: الخمر مباحة.. كان كافرًا.
إذا ثبت هذا: ففي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوائد:
أحدها: أنه يدل على وجوب الزكاة.
الثانية: أن للإمام أن يقاتل مانعيها.
الثالثة: أن المناظرة في الأحكام جائزة.
الرابعة: أن مناظرة الإمام جائزة.
الخامسة: أن الاحتجاج بالعموم جائز؛ لأن عمرَ احتج بعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/139)
السادسة: أن تخصيص العموم جائز؛ لأن أبا بكر احتج عليه بالتخصيص، وهو قوله: «إلا بحقها» .
السابعة: أن التخصيص بالقياس جائز؛ لقول أبي بكر: (والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة) . وهذا اعتبار الزكاة بالصلاة.
الثامنة: أن من ترك الصلاة قوتل.
التاسعة: أن خلاف الواحد للجماعة خلاف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنكروا على أبي بكر، ولم يكن قولهم حجة عليه.
العاشرة: أن الناس إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحدهما.. صار إجماعًا؛ لأن الصحابة رجعوا إلى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الحادية عشرة: أن ذلك يدل على شجاعة أبي بكر وعلمه، فإنهم أشاروا عليه بترك قتالهم، وبرد جيش أسامة بن زيد، فقال: (والله، لأقاتلنهم بموالي وأتباعي، ولا أرد جيشًا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
الاثنتا عشرة: أن الخطاب الوارد في القرآن بخطاب المواجهة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركه فيه غيره من الأئمة، وهو قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] .
الثالثة عشرة: أن السخلة يجوز أخذها في الزكاة؛ لقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والله لو منعوني عناقًا) ، وأما (العقال) : فهو صدقة العام. وقيل: هو الحبل الذي يقرن به البعيران. وقيل: إنه الحبل الذي يشد به مال التجارة.
وبالله التوفيق(3/140)
[باب صدقة المواشي وأحكام الملك]
لا تجب زكاة العين في الماشية إلا في الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن الأخبار وردت بإيجاب الزكاة فيها، فأما الخيل والبغال والحمير والعبيد: فلا تجب فيها زكاة العين، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومالك، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الخيل ذكورًا وإناثًا.. وجبت فيها الزكاة، وإن كانت ذكورًا أو إناثًا، ففيها روايتان) .
وزكاتها عنده: إن شاء مالكها.. أعطى عن كل فرس دينارًا، وإن شاء.. قومها، وأعطى ربع عشر قيمتها.
دليلنا: ما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» .
ولأنها تقتنى للزينة لا للنماء، فلم تجب فيها الزكاة، كثياب البدن.
ولا تجب الزكاة فيما تولد بين الغنم والظباء، سواء كانت الأمهات من الغنم أو من الظباء.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الأمهات غنمًا، والفحل ظبيًا.. وجبت فيها الزكاة، وإن كانت الأمهات من الظباء، والفحل من الغنم.. لم تجب فيها الزكاة) .
وقال أحمد: (تجب فيها الزكاة بكل حال) .(3/141)
دليلنا: أنه متولد بين أصلين لا زكاة في أحدهما بحال، فأشبه إذا كانت الأمهات ظباء، وهذا على أبي حنيفة.
وعلى أحمد: حيوان تولد بين وحشي وأهلي، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو كان الأبوان من الوحشي.
وإن ملك بقر الوحش.. لم تجب فيها الزكاة.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (تجب فيها الزكاة) .
دليلنا: أنه حيوان لا يجزئ في الأضحية، فلم تجب فيه زكاة العين، كالظباء وغيرها.
وأما الماشية الموقوفة عليه إذا حال عليها الحول: فهل تجب فيها الزكاة؟
إن قلنا: إن الملك ينتقل فيها إلى الله تعالى.. لم تجب فيها الزكاة. وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوفة عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تجب عليه فيها الزكاة؛ لأن ملكه عليها ناقص.
والثاني: يجب عليه فيها الزكاة؛ لأنه يملكها ملكًا تامًا مستقرًا، فهو كالمطلق.
فإذا قلنا بهذا: فقد قال بعض أصحابنا: يخرج الزكاة منها؛ لأنها كالمطلق على هذا.
والذي يقتضي المذهب عندي: أن يبنى على القولين في محل وجوب الزكاة:
فإن قلنا: إنها تجب في عين المال.. كان له إخراج الزكاة منها.(3/142)
وإن قلنا: إنها تجب في الذمة.. أخرجها من ماله المطلق. وما قاله الأول لا يصح؛ لأنها لو كانت كالمطلق.. لجاز له بيعها.
وأما إذا وقف عليه نخلًا أو كرمًا.. وجبت زكاة الثمرة على الموقوف عليه، قولًا واحدًا؛ لأنه يملك الثمرة ملكًا تامًا.
[مسألة: زكاة المغصوب ونحوه]
إذا غصب له مال، أو ضاع، أو أودعه، فجحده المودع، أو وقع في بحر لا يمكنه إخراجه، أو دفنه في موضع، ونسي موضعه حتى حال عليه حول، أو أحوال.. لم يجب عليه إخراج الزكاة عنه قبل أن يرجع إليه؛ لأنه لا يلزمه زكاة مال لا يقدر عليه.
فإن رجع إليه المال من غير نماء.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه فيه الزكاة، وينقطع حوله) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ناقص التصرف فيه، فلم تجب عليه فيه الزكاة، كالمكاتب، ولأن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية، وهذا لا نماء له، فلم تجب عليه فيه الزكاة، كالبغال والحمير.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب عليه فيه الزكاة) . وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . وهذا قد حال عليه(3/143)
الحول، ولأنه مال له يملك المطالبة به، ويجبر من هو بيده على تسليمه، فهو كما لو كان في يد وكيله.
فإن عاد إليه في أثناء الحول:
فعلى القول القديم: يستأنف الحول. وعلى الجديد: يبني الحول.
وإن كان معه أربعون من الغنم، فغصبت منها واحدة، ثم رجعت إليه:
فعلى القول القديم: ينقطع الحول، فيستأنفه حين تعود. وعلى الجديد: لا ينقطع.
وإن رجعت إليه الماشية مع نمائها.. ففيه طريقان:
قال أبو العباس: تجب عليه فيها الزكاة، قولا واحدا؛ لأن النماء قد رجع إليه.
وقال عامة أصحابنا: هي على القولين؛ لأن المانع من وجوبها الحيلولة بينه وبين ذلك، وذلك لا يعود بعود النماء.
[فرع: حبس عن الوصول لماله]
وإن أسر المشركون أو المسلمون رجلا من المسلمين وحبسوه عن ماله، وحال عليه أحوال.. فهل يجب عليه إخراج زكاته إذا تمكن؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمغصوب.
ومنهم من قال: يجب عليه قولا واحدا؛ لأنه يملك بيعه.
وإن اشترى من رجل نصابا، وبقي في يد البائع، ولم يقبضه المشترى حتى حال(3/144)
عليه الحول ففيه ثلاث طرق، حكاها في " الإبانة " [ق\121] :
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمغصوب.
وقال صاحب " التقريب ": عليه الزكاة، قولا واحدا؛ لأنه يمكنه انتزاعه من يد البائع في الحال، فهو كالمال في يد وكيله.
وقال القفال: لا زكاة عليه، قولا واحدا؛ لأنه لا يصح تصرفه فيه بالبيع والهبة.
[مسألة: زكاة اللقطة]
وإذا ضاع من رجل نصاب من الأثمان، والتقطه آخر، وأقام في يد الملتقط حولا، وعرفه.. فإن زكاة العام الأول لا تجب على الملتقط، قولا واحدا؛ لأنه لم يملكه فيه، وهل تجب على المالك زكاة العام الأول إذا رجع إليه؟ فيه قولان، كالمال المغصوب.
وأما العام الثاني: فإن لم يختر الملتقط تملكها:
فإن قلنا: تدخل اللقطة في ملك الملتقط بنفس التعريف.. فهو كما لو اختار تملكها على ما يأتي بيانه.
وإن قلنا بالصحيح: وأنها لا تدخل في ملكه إلا بالتملك.. فإنه لا زكاة على الملتقط في هذا العام الثاني؛ لأنه لم يملكها.
وأما المالك: فهل يجب عليه زكاتها إذا رجعت إليه العام الثاني؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالعام الأول.
ومنهم من قال: لا تجب عليه زكاتها، قولا واحدا؛ لأن للملتقط أن يختار تملكها، ويزيل ملكها.(3/145)
فعلى هذا: لا تجب زكاة هذا المال على أحد للعام الثاني، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بأولى مما بعد التملك.
وإن اختار الملتقط تملكها في أول الحول الثاني بعد التعريف.. فإنه يملكها، فإذا تم الحول من حين تملكها.. فهل تجب عليه زكاة هذا المال؟ ينظر فيه:
فإن كان له مال بقدر هذه اللقطة.. وجب عليه زكاتها.
وإن لم يكن له مال سوى هذه اللقطة.. فهل تجب عليه زكاتها؟ فيه قولان، بناء على القولين في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟ على ما يأتي بيانه.
وأما المالك: فهل يجب عليه إخراج الزكاة للأحوال بعد التملك إذا رجعت إليه؟ فيه قولان، كالمغصوب، فإذا أوجبنا عليهما الزكاة.. وجبت زكاتان في حول واحد؛ لأجل مال واحد، وإن أسقطنا عنهما الزكاة.. فهذا مال يملكه حر مسلم، ولا زكاة فيه.
[مسألة: الدين يستغرق النصاب]
] : وإذا كان له نصاب من المال، وعليه دين يستغرق ماله، أو ينقصه عن النصاب.. فهل تجب عليه الزكاة فيه؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه فيه الزكاة) . وبه قال الحسن، والليث، والثوري، وأحمد.
ووجهه: ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين.. فليقضه، ثم ليزك بقية ماله) .
ولأنه حق يتعلق بماله، فمنع منه الدين، كالحج.(3/146)
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب فيه الزكاة) . وبه قال حماد بن أبي سليمان أستاذ أبي حنيفة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ مالك رحمة الله عليهم، وهو الصحيح.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة» . ولم يفرق.
ولأن الدين يجب في الذمة، والزكاة تجب في عين ماله، فلم يمنع أحدهما الآخر، كما لو كان عليه دين، وله عبد، فجنى.
قال الشيخ أبو حامد: ولا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة، ولا فرق بين أن يكون الدين من جنس ما بيده، أو من غير جنسه.
فإن كان معه مائتا درهم، وعليه دين مائتا درهم، وله دار أو عروض قيمتها مائتا درهم.. وجبت عليه الزكاة في المأتي درهم، قولا واحدا، ويكون الدين في مقابلة الدار والعروض.
وقال مالك: (إن كان ذلك الدين من الذهب أو الفضة.. منع وجوب الزكاة، وإن كان من غيرهما.. لم يمنع) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\121] : أن من أصحابنا من قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر: (إن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، ولا يمنع في الظاهرة) .
ومنهم من أنكر ذلك.
وحكى أيضا: أن من أصحابنا من قال: القولان إذا كان الدين من جنس ما بيده، فإن كان من غير جنسه.. لم يمنع.
ومنهم من قال: لا فرق، وهو الصحيح، وهو طريقة أصحابنا البغداديين.(3/147)
[فرع: من نذر التصدق بماله]
] : إذا كان بيده مائتا درهم، فقال: لله علي أن أتصدق بها، وحال الحول، وهي بيده.. فهل تجب فيها الزكاة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه القولان في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟
ومنهم من قال: لا تجب عليه الزكاة فيها، قولا واحدا، وهو الأصح؛ لتعلق النذر بعينها.
وإن نذر أن يتصدق بمأتي درهم في ذمته، فحال الحول على مائتين، وهي في يده:
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟
ومنهم من قال: تجب الزكاة فيها قولا واحدا، وهو الأصح؛ لأن الحق فيه لله تعالى، وهو يقبل المسامحة، بخلاف دين الآدمي، فإنه مبني على التشديد.
[فرع: زكاة المحجور عليه]
وإن حجر الحاكم عليه لديون عليه، ثم حال الحول على ماله، فإن حال الحول بعد أن فرق الحاكم ماله على الغرماء، وقبضوه.. لم تجب عليه فيه الزكاة، وكذلك إذا لم يقبضوه ولكن قد نظر الحاكم إلى قدر دينه، وإلى عيون ماله، وجعل لكل واحد عينا بدينه.. فإنه لا زكاة على ما ملكه؛ لأن ملكه قد زال.
وإن كان موجودا في يده: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولهم أن يأخذوه حيث وجدوه) .
فاعترض الكرخي عليه، وقال: أباح الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم انتهاب ماله.
قلنا: هذا خطأ؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا.. جاز له أخذها حيث وجدها.(3/148)
وإن حجر عليه الحاكم، ولم يفرق ماله، ولا عين لكل إنسان عينا، فحال عليه الحول:
فإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. لم تجب الزكاة هاهنا، قولا واحدا.
وإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة ففيه ثلاثة طرق:
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمال المغصوب.
وقال أبو إسحاق: إن كان من الماشية.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنه يحصل له نماؤها، وإن كان من غير الماشية.. ففيه قولان، كالمال المغصوب.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": تجب الزكاة في الماشية وغيرها، قولا واحدا؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة، كالحجر على السفيه والمجنون. والطريق الأول أصح.
[فرع: إقرار المحجور عليه بوجوب الزكاة]
إذا أقر قبل الحجر بوجوب الزكاة عليه:
قال ابن الصباغ: فإن صدقه الغرماء.. ثبت، وإن كذبوه.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين فيها، فإذا ثبتت: فأيهما يقدم؟ فيها ثلاثة أقوال، يأتي بيانها.
فإن أقر بها بعد الحجر. فعلى القولين في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر عليه، ويأتي بيانها في (التفليس) إن شاء الله تعالى.
[مسألة: زكاة السائمة]
وتجب الزكاة في سائمة الإبل والبقر والغنم.
فأما المعلوفة منها: فلا تجب فيها الزكاة، وبه قال الليث، وسفيان، وأبو حنيفة وأصحابه.(3/149)
وقال مالك: (تجب الزكاة في المعلوفة) .
وقال داود: (لا تجب في معلوفة الغنم، وتجب في معلوفة البقر والإبل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في سائمة الغنم زكاة» . فدل على أنه لا زكاة في المعلوفة، وإذا ثبت ذلك في الغنم.. ثبت في غيرها من المواشي قياسا عليها.
وأما العوامل من الإبل والبقر: إذا كانت غير سائمة.. فلا زكاة فيها، كأثاث الدار، وإن كانت سائمة.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما - وبه قال الجويني، ومالك -: (أنه تجب فيهما الزكاة) ؛ لأن الملك والسوم موجودان، فإذا انتفع بهما من وجه.. كان أولى بإيجاب الزكاة.
والثاني - وهو الأصح -: أنه لا تجب فيها الزكاة؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في العوامل شيء» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن(3/150)
جده، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الإبل العوامل صدقة» ، ولأنها ليست مرصدة للدر والنسل، فأشبهت البغال والحمير.
فإن أسيمت الماشية في كلأ مملوك.. فهل هي سائمة، أو معلوفة؟ فيه وجهان.
وإن أسيمت الماشية في بعض الحول، وعلفت في بعضه.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
[أحدها] : من أصحابنا من قال: إن علفها يوما أو يومين.. لم يبطل حكم السوم، وإن علفها ثلاثة أيام.. بطل حكم السوم؛ لأنها لا تصبر عن العلف ثلاثة أيام، وتصبر دون ذلك ولا تتلف.
و [الثاني] : منهم من قال: يثبت العلف بأن ينوي علفها، ويعلفها وإن كان مرة، كما إذا كان له ذهب، فنوى صياغته، وصاغه.. انقطع الحول.
والثالث: يراعي الأكثر، فإن كان الغالب السوم.. كان الحكم له، وإن كان الغالب العلف.. كان الحكم له، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا سقى الزرع بماء السماء والناضح.. اعتبر الغالب.(3/151)
[فرع: غصب من نصابه]
فإن كان عنده نصاب من المعلوفة، فغصبها غاصب، فعلفها، فرجعت إلى مالكها.. فلا زكاة على مالكها، قولا واحدا.
وإن كان عنده نصاب من السائمة، فغصبها غاصب منه، فأسامها.. فهل تجب على مالكها الزكاة إذا رجعت إليه؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما.
وإن أسامها المالك بعض الحول، فغصبت منه، ثم علفها الغاصب باقي الحول: فمن أصحابنا من قال: في وجوب الزكاة على المالك إذا رجعت إليه قولان:
أحدهما: تجب عليه؛ لأن علف الغاصب لا حكم له، فصار كما لو كان المغصوب ذهبا أو فضة، فصاغه الغاصب حليا.
و [الثاني] : منهم من قال: لا تجب الزكاة على المالك إذا رجعت إليه، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه فقد السوم، وهو شرط في الزكاة فهو كما لو ذبح الغاصب شاة من النصاب.
وإن علفها المالك بعض الحول ثم أسامها الغاصب بعض الحول.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو غصب منه طعاما، فبذره.
ومنهم من قال: لا تجب الزكاة، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأن قصد المالك معتبر في السوم، وقصد المالك لم يوجد هاهنا، فهو كما لو رتعت الماشية بنفسها، ويخالف البذر، فإن قصده غير معتبر، ولهذا لو تبذر له طعام في أرض، ونبت.. وجب فيه العشر.
[مسألة: النصاب شرط في الزكاة]
ولا تجب الزكاة إلا في نصاب؛ لأن الأخبار إنما وردت بإيجاب الزكاة في النصب فإن كان عنده نصاب من الماشية، فتلفت منها واحدة، أو باعها، ثم ولدت(3/152)
أخرى.. استأنف الحول من حين ولدت؛ لأن الحول انقطع بموت الأولى.
وإن ولدت واحدة، وتلفت واحدة في حالة واحدة.. لم ينقطع الحول؛ لأن الحول لم يخل من نصاب.
وهكذا: لو شك: هل كان التلف والولادة في حالة واحدة، أو سبق التلف؟ لم ينقطع الحول؛ لأن الأصل بقاء الحول.
وإن خرج بعض الحمل من الجوف، ثم تلفت واحدة قبل أن ينفصل الحمل.. انقطع الحول؛ لأن حكمه قبل الانفصال حكم الباقي في البطن.
[مسألة: الأموال على أقسام]
الأموال على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا ينمو في نفسه، ولا يرصد للنماء، كالعقار والثياب والصفر ومتاع البيت، وذلك: أنه ما بقي، فإنه على النقصان، فلا تجب الزكاة في شيء منه؛ لأنه لا يحتمل المواساة.
وضرب: ينمو في نفسه، ويؤخذ نماؤه دفعة واحدة، كالزرع والثمار، فهذا تجب فيه الزكاة، ولكن لا يعتبر في زكاته الحول، بل متى وجد نماؤه.. وجبت فيه الزكاة.
والضرب الثالث: مما ينمو حالا بعد حال، فهو المواشي والذهب والفضة، فهذا تجب فيه الزكاة، ولكن لا تجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول من يوم ملكه، وهو قول كافة العلماء.
وحكي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (من استفاد مالا.. فعليه أن يزكيه في الحال) .(3/153)
و: (كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا قبض عطاءه من بيت المال.. زكاه في الحال) .
دليلنا: ما روى علي، وأنس، وعائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ، ولأن الزكاة تجب نعمة على المسلمين، والجزية تجب نقمة على الكفار، ثم ثبت أن الجزية لا تجب إلا بعد الحول، فالنعمة بذلك أولى.
[فرع: بيع ما لم يمر عليه الحول]
وإن مضى عليه بعض الحول، فباع النصاب الذي عنده، أو بادل به إلى نصاب.. انقطع الحول.
وإن مات.. فهل يبني وارثه على حول مورثه؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يبني عليه) ؛ لأن من ورث مالا.. ورثه بحقوقه، كما تورث الشفعة، والرد بالعيب، والوثيقة بالرهن.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يستأنف الورثة الحول) . وهو الصحيح؛ لأن ملك الميت قد زال، وابتدأ الوارث الملك عليه بموت مورثه، فهو كما لو اشتراه، ويخالف الشفعة، والرد بالعيب، والوثيقة بالرهن، فإن تلك حقوق للمال، والزكاة حق على المال.
[مسألة: المستفاد خلال الحول]
] : وإن كان عنده نصاب من السائمة مضى عليها بعض الحول، ثم استفاد شيئا من جنسه ببيع، أو هبة، أو إرث.. فإن المستفاد لا يضم إلى حول ما عنده.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يضم المستفاد إلى ما عنده) . فإذا تم حول ما عنده، جعل المستفاد كأنه موجود من أول الحول.(3/154)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . والمستفاد لم يحل عليه الحول.
فعلى هذا: ينظر في المستفاد: فإن كان لا يبلغ نصابا في نفسه، ولا يتم به الثاني بأن كان عنده خمس من الإبل، فاستفاد دون الخمس.. فإنها تكون وقصا لا يتعلق بها حكم.
وإن بلغ به النصاب الثاني، مثل: أن يكون عنده ثلاثون من البقر ستة أشهر، ثم استفاد عشرا. فإنه يجب عليه تبيع لحول الثلاثين، وإذا تم حول العشر.. وجب فيها ربع مسنة؛ لأنه تم بها نصاب المسنة.
وفي الحول الثاني: يجب في الثلاثين عند تمام حولها ثلاثة أرباع مسنة، وعند تمام الحول على العشر ربع مسنة.
وإن كان عنده أربعون من البقر ستة أشهر، ثم استفاد عشرا.. لم يجب لأجلها شيء.
وإن استفاد عشرين.. وجبت عليه مسنة عند تمام حول الأربعين، وإذا تم حول العشرين.. وجب عليها فيها ثلثا تبيع.
وإن كان المستفاد يبلغ نصابا بنفسه، ولا يبلغ النصاب الثاني، قال ابن الصباغ: مثل: أن: كان عنده أربعون من الغنم أقامت ستة أشهر، ثم استفاد أربعين من الغنم، فإن الشيخ أبا إسحاق، وابن الصباغ قالا: تجب في الأولى شاة لحولها؛ لأنها انفردت بالحول.
وفي الثانية ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب فيها شاة لحولها، كالأربعين الأولى.(3/155)
والثاني: يجب فيها نصف شاة؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من حين ملكها، فكان حصتها نصف شاة.
والثالث: لا يجب فيها شيء.
فالأول هو الصحيح؛ لأن الأولى انفردت بالحول، ولم تبلغ بالثانية إلى النصاب الثاني، فحصلت وقصا بين النصابين.
قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور على القول الذي يقول: الزكاة تجب في الذمة، ولم تخرج من الأولى.
فأما إذا قلنا: إنها استحقاق جزء من العين، أو قلنا: في الذمة، فأخرج منها قبل تمام حول الزيادة.. لم يجب في الزيادة شيء؛ لأنه لا يتم بها نصاب ثان، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " هذه الأوجه الثلاثة، إلا أن أصحابنا ذكروا في الخلطة: إذا ملك في أول المحرم أربعين شاة، وفي أول صفر أربعين، وفي أول ربيع أربعين:
فإن قلنا بقوله القديم، وأن الاعتبار بالخلطة في آخر الحول.. وجب في الجميع شاة، في كل أربعين ثلث شاة عند تمام حولها.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن الاعتبار في الخلطة أن تكون بجميع الحول، وهو الصحيح.. وجب في الأولى شاة لحولها، وفي الأربعين الثانية والثالثة وجهان:
أحدهما: يجب في كل أربعين شاة عند تمام الحول، كالأربعين الأولى.
والثاني: يجب في كل أربعين ثلث شاة عند تمام حولها؛ لأنها خليطة والثمانين عند الوجوب.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر الوجه الثاني في الأربعين الثانية يجب فيها نصف شاة؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من أول الحول.
فإن قيل: فما ذكره الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في الأولى مخالف لما ذكروه في الثانية، وهما في الصورة واحد، فما الفرق بينهما؟
فالجواب: أنه يجوز أن يكونا إنما ذكرا المسألة على القول الجديد في الثانية، ولا يبعد أن يكون على القول القديم: يجب في المسألة الأولى شاة في كل أربعين، نصفها(3/156)
عند تمام حولها، ويكون في الأربعين المستفادة في صفر في المسألة الثانية على القول الجديد أربعة أوجه مخرجة مما ذكروه:
أحدها: يجب فيها شاة لحولها، كالأربعين الأولى.
والثاني: يجب فيها نصف شاة عند تمام حولها، وهو المذكور في " المهذب " فيها؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من حين ملكها.
والثالث: يجب فيها ثلث شاة، وهو المذكور في " التعليق " و " الشامل " فيها؛ لأنها خليطة للثمانين حال الوجوب.
والرابع: أنه لا شيء فيها مخرج مما ذكره الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ في الأربعين الثانية في المسألة الأولى؛ لأنهما قالا: العلة هناك: أن الأربعين الأولى انفردت بالحول، ولم يبلغ المال بالأربعين الثانية النصاب الثاني، فكانت وقصا بين النصابين، فلم يتعلق بها فرض، وهذه العلة موجودة في مسألتنا.
وأما الأربعون المستفادة في ربيع: فيحتمل أن يكون فيها على القول الجديد ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب فيها شاة.
والثاني: يجب فيها ثلث شاة.
والثالث: لا شيء فيها، والتعليل فيها ما تقدم في الأربعين الثانية.
[فرع: ضم النتاج إلى أصوله]
وإذا كان المستفاد متولدا مما عنده.. فإن الأولاد تضم إلى حول الأمهات بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون متولدا مما عنده.
والثاني: أن تكون الأمهات نصابا.(3/157)
والثالث: أن يوجد قبل تمام الحول.
فمتى وجدت هذه الشروط، وبلغت بالأولاد النصاب الثاني، فإنه يزكي عن النصاب الثاني، لحول الأمهات، وهو قول كافة الفقهاء.
وقال الحسن البصري: لا يضم إلى الأمهات، بل يستأنف لها الحول.
دليلنا: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للساعي: (اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده) .
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال للساعي: (عد عليهم الصغار مع الكبار) ولا مخالف لهما.
إذا ثبت هذا: فإن ولد الشاة الأنثى يسمى أيام الولادة: سخلة، فإذا ترعرعت، سميت: بهمة، فإذا صار لها أربعة أشهر، وفصلت عن أمها، فإن كانت من المعز.. سميت: جفرة، والذكر: جفرا، فإذا رعى وسمن، سمي: عريضا، وعتودا، وجديا إذا كان ذكرا، وعناقا إن كانت أنثى.
فإذا ضمت الأولاد إلى الأمهات، ثم تلفت الأمهات أو بعضها، أو بقيت الأولاد، وهي نصاب.. فإنه لا ينقطع الحول، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو القاسم بن بشار من أصحابنا: إذا نقصت الأمهات عن النصاب.. انقطع الحول في الأولاد؛ لأن الأولاد إنما تجري في حول الأمهات، بشرط أن تكون الأمهات نصابا، وقد زال هذا الشرط.
وقال أبو حنيفة: (إن بقي من الأمهات واحدة.. فالأولاد جارية في حول أمهاتها، وإن لم يبق منها شيء.. انقطع الحول) .(3/158)
دليلنا: أنها جملة جارية في الحول، هلك بعضها، ولم ينقص الباقي عن النصاب، فلم ينقطع الحول، كما لو بقي من الأمهات نصاب، وهو اختيار الأنماطي، وأبي حنيفة، كما لو بقيت واحدة.
وما قاله الأنماطي: ينكسر بولد أم الولد، فإنه ثبت له ما ثبت لأمه من حرمة الاستيلاد، ولو ماتت الأم في حياة سيدها.. بطل ما ثبت لها، ولا يبطل ما ثبت لولدها.
[مسألة: إمكان الأداء من شرط الضمان]
] : قد ذكرنا أن الحول والنصاب شرطان في وجوب الزكاة، ومضى الكلام عليهما.
وأما إمكان الأداء.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه من شرائط الوجوب، وبه قال مالك.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة إلا بثلاثة شروط: الحول، والنصاب، وإمكان الأداء؛ لأن المال لو تلف بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. لم تجب الزكاة، فلو كانت الزكاة قد وجبت.. لم يسقط ضمانها؛ ولأن العبادات كلها إمكان الأداء شرط في وجوبها، ألا ترى أن العذر إذا طرأ بعد الزوال وقبل التمكن من الفعل.. لم يجب قضاء الظهر.
والقول الثاني: أن إمكان الأداء ليس بشرط من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . ولم يفرق بين أن يتمكن من الأداء، أو لا يتمكن.
ولأنه لو تلف المال بعد الحول.. كان عليه ضمان الزكاة، فلو لم تجب الزكاة فيه.. لم يجب عليه ضمانها، كما لو أتلفه قبل الحول.
وأما الصلاة: فإن الشمس إذا زالت.. فقد وجبت عليه الصلاة، ولكن لا يستقر عليه الوجوب إلا بالتمكن من الأداء، وكذلك هذا مثله.(3/159)
وأما كيفية إمكان الأداء: فإن كان المال باطنا: كالذهب والفضة، ومال التجارة، وزكاة الفطر ووجبت الزكاة فيها.. فرب المال بالخيار: بين أن يفرق زكاتها بنفسه على أهل السهمان، وبين أن يدفعها إلى الإمام أو إلى الساعي، فمتى قدر على أحد هؤلاء الثلاثة.. فقد أمكنه الأداء.
وإن كان المال ظاهرا، مثل: النخل، والكرم، والزرع، والماشية.. فهل يجوز لرب المال تفرقة زكاته بنفسه، أو يجب عليه دفع زكاته إلى الساعي أو الإمام؟ فيه قولان، يأتي بيانهما.
فإذا قلنا: يجب دفعها إلى الإمام أو الساعي، فإن تلف المال قبل ذلك.. لم يلزمه ضمان زكاته، وإن طالبه الإمام أو الساعي، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، فما لم يقدر على أحدهما.. لا يكون متمكنا من الأداء.
وإن قلنا: يجوز له تفرقتها بنفسه، فمتى قدر على الإمام أو الساعي أو أهل السهمان. صار متمكنا من الأداء.
[فرع: ضمان الزكاة إذا أخرها]
وإذا وجبت عليه الزكاة، وتمكن من أدائها، فلم يؤدها حتى تلف المال.. لزمه ضمانها.
وقال أبو حنيفة في الأموال الظاهرة: (لا يلزمه الإخراج حتى يطالبه الإمام أو الساعي، فإن تلف المال قبل ذلك.. لم يلزمه ضمان زكاته، وإن طالبه الإمام أو الساعي، فلم يخرج حتى تلف المال.. لزمه الضمان) . حكاه عنه البغداديون من أصحابنا.
وحكى عنه الخراسانيون من أصحابنا: (أنه لا ضمان عليه) .(3/160)
وأما الأموال الباطنة: (فإذا قدر على أدائها.. لزمه إخراجها، فإن لم يفعل حتى تلف المال.. فلا ضمان عليه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] . ولم يفرق بين أن يطالب أو لا يطالب، فإن كان عنده نصاب من المال، فهلك بعضه بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. لم تجب عليه زكاة التالف، بلا خلاف، وأما زكاة ما بقي: فهل يجب عليه شيء؟ على القولين في إمكان الأداء.
فإن قلنا: إن إمكان الأداء شرط في الوجوب.. لم يجب عليه زكاة الباقي أيضا.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء ليس من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان.. لزمه زكاة ما بقي.
[فرع: وقع النتاج الثاني قبل إمكان دفعها]
] : وإن كان عنده ثمانون شاة، فتوالدت بعد الحول، وقبل إمكان الأداء، حتى بلغت النصاب الثاني.. فهل يلزمه أن يزكي النصاب الثاني لحول الأمهات؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، بناء على القولين في إمكان الأداء.
فإن قلنا: إنه من شرائط الوجوب.. ضم الأولاد إلى الأمهات، وزكى الجميع لحول الأمهات؛ لأنها بلغت النصاب الثاني قبل الوجوب، فصار كما لو توالدت قبل الحول.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء ليس من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان.. لم يضم إليها في الحول الأول، كما لو توالدت بعد إمكان الأداء.
ومنهم من قال: فيه قولان من غير بناء:
أحدهما: يضم إليها في الحول الأول؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للساعي: (اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده) وأراد به: بعد الحول، فأما ما تولد قبل الحول: فإنه بعد الحول يمشي بنفسه.(3/161)
والثاني: لا يضم إليها، وهو الصحيح لأنها إذا لم تضم إليها بعد استقرار الزكاة بإمكان الأداء.. فلأن لا يضم إليها قبل استقرار الوجوب أولى.
[مسألة: تعلق وجوب الزكاة]
وهل تجب الزكاة في عين المال، أو في الذمة؟ فيه قولان:
أحدهما - وهو قوله القديم -: (إنها تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها) .
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة» . ولا يمكن أخذ الشاة من عينها، فعلم: أنه أراد: في ذمة رب المال عن ذلك المال.
ولأنه لو كان الحق متعلقا بعين المال.. لم يجز للمالك إسقاط حقهم من عين المال من غير رضاهم.
والثاني - وهو قوله في الجديد -: (أنها تتعلق بعين المال) .
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في أربعين شاة شاة» . فأوجب الزكاة منها، فعلم: أن الزكاة تتعلق بعينها.
ولأنه لو لم تجب الزكاة لعين المال، لما سقطت بتلف المال، هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: في محل الزكاة طريقان:
[الطريق الأول] : منهم من قال فيه قولان:
أحدهما: تجب في الذمة، ولها تعلق بالعين.
والثاني: تتعلق بالعين. وفي كيفية تعلقها بالعين قولان:
أحدهما: على معنى استحقاق جزء من العين.
والثاني: كتعلق الجناية برقبة الجاني.
وحكى القفال قولا ثالثا: أنها تتعلق به كتعلق حق المرتهن بالرهن، ولهذا فائدة نذكرها في بيع قدر الزكاة.(3/162)
والطريق الثاني - وهو قول أبي العباس -: أن المسألة على قول واحد، وأنها تتعلق بالعين. وفي كيفية تعلقها بها قولان:
أحدهما: بمعنى استحقاق جزء.
والثاني: كتعلق الجناية برقبة الجاني.
فأما تعلقها بالذمة: فليس بمذهب للشافعي. وطريقة البغداديين أشهر، وعليها التفريع هاهنا.
فإن كان معه أربعون من الغنم، ولم يؤد زكاتها حتى حال عليها ثلاثة أحوال.. نظرت:
فإن نتجت منها شاة سخلة عند ابتداء الحول الثاني، ثم نتجت شاة منها سخلة عند ابتداء الحول الثالث، وجاء الحول الثالث، وهي اثنتان وأربعون.. وجب عليه ثلاث شياه للأحوال الثلاثة؛ لأن النصاب لم ينقص في جميع الأحوال الثلاثة.
وإن لم يزد النصاب، ولم ينقص، بل حال عليها ثلاثة أحوال، وهي أربعون لا غير:
فإن قلنا: إن الزكاة تجب في العين.. فإنه يجب عليه شاة عند تمام الحول الأول، ولا تجب في الحول الثاني والثالث شيء فيها؛ لأن الفقراء ملكوا منها شاة عند تمام الحول الأول، فنقصت عن النصاب.
وإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة.. فإنه يجب عليه شاة في الحول الأول، وهل يجب عليه بالحول الثاني والثالث شيء؟ ينظر فيه:
فإن كان يملك مالا من غير الغنم بقدر قيمة الشاة التي وجبت عليه من أول الحول الثاني إلى آخره.. وجبت عليه شاة ثانية عند تمام الحول الثاني.
وكذلك: إن كان يملك مالا من غير الغنم بقدر قيمة شاتين من أول الحول الثالث إلى آخره.. وجبت عليه شاة للحول الثالث.
وإن كان لا يملك مالا غير الأربعين من الغنم.. فإن قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة.. لم يجب عليه زكاة الحول الثاني والثالث.(3/163)
وإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه الزكاة للحول الثاني والثالث، على هذا التفصيل، هكذا ذكر أكثر أصحابنا.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا قلنا: تجب الزكاة في الذمة.. وجبت عليه الزكاة للحول الثاني والثالث من غير تفصيل، ولعله أراد: على الصحيح من القولين، في أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.
وبالله التوفيق.(3/164)
[باب صدقة الإبل السائمة]
: الأصل في وجوب الزكاة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته» .
إذا ثبت هذا: فبدأ الشافعي من المواشي بالإبل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بذكرها في الصدقات. وليس فيما دون خمس من الإبل صدقة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، فإذا بلغت الإبل خمسا، ففيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها ابنة مخاض» ، وهي التي لها سنة، ودخلت في(3/165)
الثانية، وإنما سميت: ابنة مخاض؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضا، أي: حاملا بغيرها:
فإذا بلغت ستا وثلاثين.. ففيها ابنة لبون، وهي التي لها سنتان، ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون لبونا على غيرها.
فإذا بلغت ستا وأربعين.. ففيها حقة، وهي التي لها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك؛ لأنها قد استحقت أن يطرقها الفحل، وهذا المروي في الخبر. وقيل: لأنها استحقت أن يحمل على ظهرها.
فإذا بلغت إحدى وستين.. ففيها جذعة، وهي التي لها أربع سنين، ودخلت في السنة الخامسة، وهي أعلى سن تجب في زكاة الإبل، وسميت بذلك؛ لأنها تجذع سنها.
فإذا بلغت ستا وسبعين.. ففيها بنتا لبون.
فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون.
قال أصحابنا: ولا خلاف فيما ذكرناه بين الصحابة والفقهاء، إلا حكاية تحكى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، فإذا بلغت ستا وعشرين.. فيها ابنة مخاض، فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) . هذا مذهبنا.
وقال مالك: (تجب في إحدى وتسعين حقتان، حتى تبلغ مائة وتسعا وعشرين، فإذا صارت مائة وثلاثين.. كان في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) .
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت مائة وعشرين.. استؤنفت الفريضة، فتجب في كل خمس شاة مع الحقتين، إلى أن تبلغ مائة وخمسا وأربعين، فتجب فيها حقتان وابنة مخاض) .(3/166)
وقال ابن جرير الطبري: إذا بلغت مائة وعشرين، ثم زادت.. فرب المال بالخيار بين أن يأخذ بما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبين أن يأخذ بما قال أبو حنيفة.
دليلنا: ما روي «عن أنس: أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له لما وجهه إلى البحرين: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله بها عباده، فمن سألها على وجهها.. فليعطها، ومن سأل فوقها.. فلا يعطه: " في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض، فإن لم يوجد فابن لبون ذكر، فإن بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين.. ففيها ابنة لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين.. ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين.. ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين.. ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة»(3/167)
وإذا ثبت هذا: فمعنى قوله: (التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي: التي قدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أمره الله به مجملا.
وقوله: «إذا سألها على وجهها.. فليعطها» : إذا أتى المصدق، وطلب الصدقة كما أمره الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فإنه يعطى.
وأما قوله: «ومن سأل فوقها فلا يعطه» : إن سال فوقها بتأويل، مثل: أن يكون الإمام مالكيا يرى أخذ الكبيرة من الصغار.. فإنه لا يعطى الزيادة، ويعطى الأصل، وإن سأل فوقها بغير تأويل، مثل: أن يسأل عن أربعين شاة شاتين.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: لا يعطى شيئا؛ لأنه قد ظهر ظلمه، ودفع الصدقة إلى الظلمة لا يجوز.
ومنهم من قال: يعطى الأصل، ولا يعطى الزيادة؛ لاحتمال أن يكون سها أو نسي، فلا يمنع عن الواجب. قال ابن الصباغ: وهذا أصح. فإن ملك مائة وعشرين من الإبل وجزءا من واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه فيها ثلاث بنات لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا زادت على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون» . ولم يفرق بين أن يزيد واحدة، أو أقل.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب فيها إلا حقتان) ؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في كتاب الصدقة: «فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين.. ففيها ثلاث بنات لبون» . وهذا نص لا احتمال فيه.
ولأن سائر الأوقاص لا تتغير بأقل من واحد، فكذلك هذا مثله.(3/168)
[مسألة: وجوب زكاة المواشي في النصاب]
] : وهل تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص، أو بالنصاب وحده، والوقص عفو؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم والجديد: (تتعلق الزكاة بالنصاب، وما زاد عليها عفو) . وبه قال أبو حنيفة، والمزني؛ لأنه وقص قبل النصاب، فلم يتعلق به حق كالأربعة الأولى.
و [الثاني] : قال في " البويطي ": (تتعلق الزكاة بالجميع) . قال أبو العباس: وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض» ، ولأنه حق يتعلق بنصاب، فتعلق به وبما زاد عليه، كالقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فالوقص - بتسكين القاف -: هو ما بين الفرضين، وحكي عن بعض أهل اللغة: الوقص، بفتح القاف.(3/169)
فإن ملك تسعا من الإبل، فتلف منها أربع، فإن تلفت قبل الحول.. وجبت عليه شاة؛ لتمام الحول، وإن تلفت بعد الحول وبعد إمكان الأداء.. لم يسقط عنه من الشاة شيء.
وإن تلفت بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. فإن الشيخ أبا حامد، وأكثر أصحابنا قالوا: إن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجب عليه شاة بإمكان الأداء؛ لأنه جاء وقت الوجوب وعنده نصاب.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان:
فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجب عليه خمسة أتساع شاة، وهذا هو المشهور.
وحكى القاضي أبو الطيب، عن أبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليه شاة على هذا. ولم يذكر وجهه.
قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن الزيادة لما لم تكن شرطا في وجوب الشاة.. لم يسقط منها شيء بتلفها، وإن كانت الزكاة متعلقة بها.. فهو كما لو شهد ثمانية بالزنا، فرجم المشهود عليه، ثم رجع أربعة منهم، فإنه لا يجب عليهم شيء.
وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجبت عليه شاة.
وأما الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": فلم يذكر هاهنا البناء على إمكان الأداء، ولعله أراد التفريع على القول الصحيح، فحصل في هذه المسألة وجهان:(3/170)
أحدهما: تجب عليه شاة.
والثاني: لا يجب عليه إلا خمسة أتساع الشاة.
وإن هلك منها خمس بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه شيء؛ لأن وقت الوجوب جاء وعنده أقل من نصاب.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. بنيت على القولين الآخرين:
فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجب عليه أربعة أخماس شاة.
وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجبت عليه أربعة أتساع الشاة، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب فيها شيء.
والثاني: يجب فيها أربعة أخماس شاة.
والثالث: أربعة أتساع الشاة.
[فرع: تلف بعض الماشية قبل إمكان الأداء]
فإن كان معه خمس وعشرون من الإبل، فتلف منها خمس من الإبل، بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكانية الأداء من شرائط الوجوب.. لم تجب عليه ابنة مخاض، بل يجب عليه أربع شياه.(3/171)
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. وجب عليه أربعة أخماس ابنة مخاض.
[فرع: تلف شطر الماشية]
وإن كان معه ثمانون شاة، فتلف منها أربعون: فإن كان قبل الحول، أو بعد الحول وبعد إمكان الأداء وجب عليه شاة.
وإن كان تلفها بعد الحول، وقبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فعليه شاة أيضا.
وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان:
فإن قلنا: تجب الشاة في النصاب والوقص.. وجب عليه نصف شاة.
وإن قلنا: تجب عليه في النصاب، والوقص عفو.. فعليه شاة.
قال ابن الصباغ: ويجيء على الوجه المحكي عن أبي إسحاق: أنه تجب عليه شاة بكل حال.
[مسألة: وجوب الغنم في دون خمس وعشرين من الإبل]
] : الواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل: إخراج الغنم، ولا يطالب إلا بالغنم؛ لأنه هو الفرض المنصوص عليه، فإن اختار أن يعطي بعيرا منها.. جاز، بشرط أن يكون مما يجزئ في خمس وعشرين، هذا قول عامة أهل العلم.(3/172)
وقال مالك وداود: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن البعير يجزئ عن خمسة وعشرين، فلأن يجزئ عما دونها أولى.
وإن كانت الإبل من أصناف، أعطى بعيرا متوسطا منها.. قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (كان له ذلك وإن كان أردأها) ؛ لأنه أفضل من الشاة، وهل الجميع فرضه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الجميع ليس بفرض، بل الفرض يقسط على خمس وعشرين، فإن أخرجه عن خمس.. كان خمسه فرضا لا غير، وإن أخرجه عن عشرة.. كان فرضه خمساه لا غير، والباقي تطوع؛ لأنه يجزئ عن خمس وعشرين، فدل على أن لكل خمس من الإبل خمس بعير.
والثاني: أن الجميع فرضه؛ لأنه خير بين الشاة والبعير، فأيهما اختار إخراجه.. كان ذلك فرضه، كمن خير بين غسل الرجلين والمسح على الخفين.
قال ابن الصباغ: ولو كان ما قاله الأول صحيحا.. لأجزأه خمس بعير.
وهكذا: إذا أخرج المتمتع بدنة.. فهل الجميع فرضه أو سبعها؟ على هذين الوجهين.
وإن اختار إخراج الغنم.. أخرج جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز؛ لما «روى سويد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: (نهينا عن أخذ الراضع،(3/173)
وأمرنا أن نأخذ جذعة من الضأن، وثنية من المعز» وهل يجزئ فيه الذكر؟ فيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لحديث سويد بن غفلة.
والثاني: يجزئه، وهو المنصوص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس شاة» . ولم يفرق. وأما جنسها: فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: إنه يجب عليه من غالب غنم البلد، إن كان بمكة.. فالشاة مكية، وإن كانت غنمه غير ذلك، فإن كان ببغداد.. فتجب عليه شاة بغدادية. وإن كانت غنمه غير ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أنظر إلى الغالب من غنم البلد) . قال الشيخ أبو حامد: أراد به في الصنفين، يعني: الضأن والمعز.
وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كان غالب غنم البلد الضأن.. فعليه أن يخرج الضأن، وإن كان غالب غنم البلد المعز.. فعليه أن يخرج المعز) . وكذلك طريقة الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " في الأغلب، كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس من الإبل شاة» . ولم يفرق بين الضأن والمعز.
فإن عدل عن نوع بلده إلى نوع بلد آخر: فإن كان خيرا من نوع بلده أو مثله.. أجزأه، وإن كان دونه.. لم يجزئه.(3/174)
وإن كانت الخمس من الإبل مراضا.. ففي شاتها وجهان:
أحدهما: يجب عليه أن يخرج شاة تجزئ في الأضحية، وهو المذهب؛ لأنه لا يعتبر فيه صفة المال، فلم يختلف بصحة المال ومرضه، كالأضحية، وفيه احتراز منه إذا كانت الزكاة من جنس المال المزكى.
و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب عليه إلا شاة بالقسط؛ لأنه لا يجب في المال المريض صحيحة إذا كان الفرض من جنسه، فكذلك إذا كان الفرض من غير جنسه.
وكيفية التقسيط هاهنا: أن يقال: لو كانت هذه الخمس من الإبل صحاحا.. كم قيمتها؟
فإن قيل: قيمتها ألف.. قيل: فكم قيمة الشاة الواجبة فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمة هذه الإبل المراض؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: أخرج شاة قيمتها خمسة.
قال ابن الصباغ: فإن أمكن أن يشتري بها شاة، وإلا فرقت دراهم على المساكين.
[فرع: أخر الزكاة أحوالا]
وإن أقامت في يده خمس من الإبل ثلاثة الأحوال لم يزك عنها.. فإن بالحول الأول تجب فيه الشاة.(3/175)
فإذا جاء الحول الثاني:
فإن قلنا: تجب الزكاة في الذمة، وكان له مال من غير الإبل بقدر قيمة الشاة في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه تجب عليه شاة أخرى.
فإذا حال الحول الثالث، وكان يملك من غير الإبل في جميع الحول الثالث بقدر قيمة الشاتين، أو لم يكن له مال غير الإبل، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة ثالثة.
وإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة في الحول الأول، ولا يجب في الثاني ولا في الثالث شيء.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين.. ففيه قولان:
أحدهما: تجب في السنة الأولى شاة، ولا يجب في السنة الثانية والثالثة شيء؛ لأن المساكين قد استحقوا في الحول الأول بقدر شاة، وبقي معه دون النصاب، فهو كما لو كان معه أربعون من الغنم، فحال عليها ثلاثة أحوال.. لم يزك عنها.. فإنه لا تجب عليه زكاة الثانية والثالثة على هذا القول.
والقول الثاني: يجب فيه ثلاث شياه لثلاث سنين؛ لأن الشاة التي تجب في الأولى لا تؤخذ من عين المال، وإنما يؤخذ بدلها، فتكون من الإبل بقدر شاة رهنا بتلك الشاة، والرهن لا يمنع وجوب الزكاة. هكذا ذكر أصحابنا.
والذي تبين لي: أن على هذا القول يجب أن يكون الحكم كالحكم فيها إذا قلنا: الزكاة تجب في الذمة، وهو أن ينظر فيه: فإن كان يملك قدر قيمة الشاة في الحول الثاني، وقدر قيمة الشاتين في الحول الثالث.. وجب عليه ثلاث شياه، وإن كان لا يملك شيئا غير هذه الإبل.. كان على القولين في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟
وإن ملك ستا من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال، ولم يؤد زكاتها فيها.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجب فيها ثلاث شياه بكل حال؛ لأن معه أكثر من نصاب؛ لأنه إذا أخرج لكل سنة شاة، يكون الباقي نصابا.(3/176)
وهذا الذي قاله الشيخ أبو حامد صحيح إذا كانت قيمة واحدة من هذه الست في جميع الحول الثاني تساوي قيمة شاة، وكانت هي أو غيرها تساوي في الحول الثالث قيمة شاتين.
[فرع: تأجيل الزكاة أحوالا]
إذا كان معه خمس وعشرون من الإبل، وأقامت في يده ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه ابنة مخاض.
فإذا حال الحول الثاني:
فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها، فإن كان له مال من غير الإبل يفي بقيمة ابنة مخاض في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه بحؤول الحول الثاني ابنة مخاض ثانية.
فإن كان يملك في جميع الثالث مالا من غير الإبل، بقدر قيمة ابنتي مخاض، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض ثالثة بحؤول الحول الثالث.
وإن قلنا: الزكاة تجب في العين أو في الذمة، ولا مال له غيرها، والدين يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض بحؤول الحول الأول، ويجب عليه في الحول الثاني أربع شياه، وكذلك في الثالث أربع شياه.
[فرع: مرور أحوال بلا زكاة]
إذا كان معه أحد وتسعون من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال لم يزك عنها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه حقتان.
فإذا حال الحول الثاني: فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها،(3/177)
فإن كان له فيه مال من غير الإبل بقدر قيمة الحقتين في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه يجب عليه حقتان بحؤول الحول الثاني.
فإذا حال الحول الثالث: فإن كان له في الحول الثالث مال غير الإبل يفي بقيمة أربع حقاق، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجب عليه حقتان أيضا بحؤول الحول الثالث.
وإن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. وجب عليه بحؤول الأول حقتان؛ لأن نصابه تام، ويجب عليه بحؤول الحول الثاني ابنتا لبون، وكذلك بحؤول الثالث أيضا.
وهكذا إذا قلنا: تجب الزكاة في الذمة، ولا مال له غيره، وقلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. فالحكم فيه كالحكم إذا قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.
[مسألة: وجوب بنت مخاض]
إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل، فقد ذكرنا أن عليه ابنة مخاض، وفيها ست مسائل:
الأولى: إذا كان واجدا لها في إبله.. فيلزمه إخراج ابنة مخاض على صفة إبله، ولا يجوز له إخراج ابن لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن فيها ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . وهذا في إبله ابنة مخاض، فدل على: أنه لا يجزئه إخراج ابن لبون.
الثانية: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا يقدر على شرائها، وكان فيها ابن لبون ذكر.. جاز له إخراجه من غير جبران؛ للخبر، ولأن فيها فضيلة بالأنوثية،(3/178)
ولكنها لا تصل حيث يصل ابن لبون من الرعي، ولا تمتنع من صغار السبع كامتناعه، ففيه فضيلة بهذا، وينقص عنها لكونه ذكرا، فاستويا.
الثالثة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، وكان هو يقدر على شرائها، وعنده ابن لبون.. فيجوز له إخراج ابن لبون، ولا يلزمه شراء ابنة مخاض.
والفرق بين هذه، وبين من وجبت عليه في الكفارة رقبة لا يملكها، ويقدر على ثمنها: أنه يلزمه شراؤها؛ لأن الله تعالى قال في الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] .
ومن وجد الثمن.. فهو قادر على الرقبة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الزكاة: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض، فابن لبون» . وهذا ليس في إبله ابنة مخاض.
الرابعة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا ابن لبون، وكان قادرا على شرائهما.. فقال الشافعي: (هو بالخيار بين أن يشتري أيهما شاء) .
وقال مالك: (لا يجزئه أن يشتري ابن لبون، بل يشتري ابنة مخاض) . وحكاه صاحب " الإبانة " [ق \ 111] وجها لصاحب " التقريب ".(3/179)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . فأجاز له إخراج ابن لبون، إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولم يفرق بين أن يقدر على شرائها، أو لا يقدر.
الخامسة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، فأخرج مكانها حقا.. أجزأه؛ لأنه أفضل من ابنة مخاض وابن لبون. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأطلق.
والذي يقتضي المذهب: أنه لو طلب معه الجبران.. لم يعط؛ لأن الجبران إنما يكون بين الإناث، وهاهنا: لا يعلم الفضل بينهما.
وإن أراد أن يخرج الحق مكان ابنة لبون.. لم يقبل منه؛ لأنهما يتساويان في ورود الماء والشجر، وتفضل عليه بالأنوثة.
السادسة: إذا كانت إبله مهازيل، وفيها ابنة مخاض سمينة.. لم يلزمه إخراجها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» ، فإن أخرجها.. أجزأه، وقد تطوع بأكثر مما عليه.
وإن اشترى ابنة مخاض بصفة ماله، وأخرجها.. جاز.
وإن أراد إخراج ابن لبون.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يجزئه) ؛ لأن التي عنده لا يلزمه إخراجها، فكان وجودها كعدمها.(3/180)
والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره -: أنه لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون» . وهذا في إبله ابنة مخاض تجزيء.
[مسألة: جبران السنين]
] : ومن وجبت عليه سن من هذه الأسنان المذكورة، وليس عنده إلا ما هو أسفل منها بسنة.. فإنها تقبل منه، ويدفع معها شاتين أو عشرين درهما، وإن وجبت عليه سن وليس عنده إلا ما هو أعلى منها بسنة، واختار دفعها.. قبلت منه، ويعطيه الساعي شاتين أو عشرين درهما، وقال الثوري، وأبو عبيد، وإحدى الروايتين عن إسحاق بن راهويه: الجبران شاتان، أو عشرة دراهم. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روى أنس في (كتاب الصدقة) .
فإن وجبت عليه جذعة، ولم يكن فيها جذعة، وفيها حقة.. فإنها تقبل منه، ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن بلغت صدقته الحقة، وليس عنده إلا ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته ابنة لبون، وليست عنده، وعنده ابنة مخاض.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعنده ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، فإن وجبت عليه جذعة، وليست عنده، وعنده ثنية، فإن دفعها، ولم يطلب الجبران.. قبلت منه؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة، وإن طلب الجبران.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يعطى) ؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة.
والثاني: لا يعطى؛ لأن الجذعة تساوي الثنية؛ لورود الماء والشجر.(3/181)
وإن وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وأراد أن يعطي ما لها دون السنة، ويدفع الجبران.. لم يجز؛ لأن ما دونها ليس بفرض مقدر.
وإن كانت إبله مراضا، ولم يكن الفرض فيها، فأراد أن يصعد إلى فرض مريض، ويأخذ الجبران.. لم يجز؛ لأن الجبران بين المريضين أقل مما بين الصحيحين.
وإن أراد أن ينزل إلى فرض مريض، ويدفع الجبران.. جاز؛ لأنه متطوع بالزيادة.
وإن لم يكن عنده الفرض المنصوص عليه، وعنده أعلى منه بسنة وأنزل منه بسنة، فإن اتفق رب المال والساعي على الصعود أو النزول مع الجبران.. جاز.
وإن اختلفا، فدعا أحدهما إلى الصعود، والآخر إلى النزول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يقدم اختيار الساعي؛ ليأخذ للمساكين الأنفع لهم) .
الثاني: يقدم اختيار رب المال؛ لأنه هو المعطي. وهذا ليس بشيء.
وإن لم يوجد في المال الفرض المنصوص عليه، ووجد ما هو أعلى منه بسنتين.. قبل منه، وأعطاه الساعي أربع شياه، أو أربعين درهما.
وهكذا: إذا لم يوجد في المال إلا ما هو أنزل من الفرض بسنتين.. قبل منه مع أربع شياه، أو أربعين درهما، قياسا على الجبران بسنة.
وحكى ابن الصباغ: أن من الناس من قال: لا يجوز، واختاره ابن المنذر.(3/182)
دليلنا: أن كل سن جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنة مع الجبران.. جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنتين مع الجبران، كما لو دفع أعلى مما يجب عليه بسنتين من غير جبران.
وإن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة وجذعة، فأراد رب المال أن يدفع الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما.
والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه قد كان يمكنه أن يدفع ما هو أعلى بسنة وجبرانا واحدا، فلم يجز له العدول عنه إلى جبرانين، كما لو وجد الفرض، وأراد أن يعدل إلى غيره مع الجبران.
ومن وجبت عليه شاتان، أو عشرون درهما.. فالخيار إليه، فإن كان الذي يدفع الجبران هو رب المال.. فالأولى أن يدفع الأكثر من الشاتين أو عشرين درهما؛ لأنه أكثر ثوابا، وإن أراد أن يدفع أدونهما.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بينهما، وإن كان الذي يدفع الجبران هو الساعي.. فلا يجوز أن يعطي إلا أقلهما؛ لأنه ناظر لغيره، فإن كان في بيت المال شيء.. دفع الإمام منه ذلك؛ لأنه مصلحة لأهل السهمان، وإن لم يكن في بيت المال شيء، باع الساعي مما في يده للمساكين، وسلمه جبرانا؛ لأنه ناظر للمساكين، فهو كولي اليتيم.
فإن أراد الدافع منهما أن يدفع شاة وعشرة دراهم.. لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بين شيئين، فلا يجوز أن يخيره بين ثلاثة أشياء، وإن أراد من وجب عليه في الجبران أربع شياه، أو أربعون درهما، فأراد أن يعطي شاتين وعشرين درهما.. كان له ذلك؛ لأنهما جبرانان.
[مسألة: فيما يجب بالمائتين من الإبل]
وإن كان معه مائتان من الإبل:
فقال الشافعي في الجديد: (يحب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون) .(3/183)
وقال في القديم: (يجب فيها أربع حقاق) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب فيها أربع حقاق لا غير؛ لأن تغير الفرض بالسن في الإبل أكثر من تغيره بالعدد، ألا ترى أنه يجب في مائة وستين أربع بنات لبون، ثم كلما زادت الإبل عشرا.. تغير الفرض فيها بالسن؟
فإذا بلغت مائة وتسعين.. ففيها ثلاث حقاق، وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين.. وجب التغيير بالسن أيضا، فيجب أربع حقاق.
والقول الثاني: يجب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، وهو الصحيح؛ لما روى سالم بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، يرفعه في نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت مائتين.. ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون» .
ومنهم من قال: يجب أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، قولا واحدا، وما قاله في القديم، فإنما قال ذلك؛ لأن الخيار إلى الساعي عند الشافعي، وعليه أن يأخذ الحقاق؛ لأنها أفضل.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن الواجب أربع حقاق، فإن كانت موجودة في المال.. لم يجز العدول عنها إلى غيرها.
وإن كانت معدومة في المال.. فرب المال بالخيار بين أن يشتري الحقاق، وبين أن يصعد إلى الجذاع، ويأخذ الجبران، أو ينزل إلى بنات لبون، ويدفع الجبران.
وإن قلنا: إن الواجب أحد الفرضين، فإن وجد أحدهما في المال.. تعين إخراجه، ولا يطالبه الساعي بإحضار الثاني، وإن عدما جميعا.. كان رب المال بالخيار: بين أن يشتري أحدهما، أو ينزل عن أحدهما، ويدفع الجبران، أو يصعد إلى ما فوقه، ويأخذ الجبران، وإن وجد الفرضان معا.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أن الخيار إلى الساعي، فيأخذ الأفضل منهما) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .(3/184)
فلو قلنا: الخيار إلى رب المال.. لكان يخرج الأدون، فيكون قد أنفق خبيث المال.
الثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الخيار إلى رب المال، فيعطي أي الفرضين شاء، إلا أن يكون ناظرا ليتيم، فلا يجوز أن يعطي إلا أدونهما، وحمل النص عليه إذا خير رب المال الساعي.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» . فلو جعلنا الخيار إلى الساعي، لأخذ الكريمة.
فإذا قلنا بالمنصوص: فإن كان الفرضان متساويين في القيمة.. أخذ الساعي أيهما شاء، وإن كان أحدهما أكثر قيمة.. كان على الساعي أن يأخذ أفضل الفرضين.
فإن أخذ الأدون: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان على رب المال أن يخرج الفضل، ويعطيه أهل السهمان) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: أراد بذلك: إذا أخذ الساعي الأدنى بغير عمد منه، أو من رب المال، مثل: أن يكون رب المال قد أظهرهما، وأدى الساعي اجتهاده إلى أن الذي يأخذه هو الأفضل، ثم بان أنه الأدنى.. فإنه يخرج الفضل.
فأما إذا أخذ الأدنى بتفريط منهما، أو من أحدهما، بأن لم يظهر رب المال له الفرض الآخر، أو أخذه بغير نظر، أو مع العلم بأنه الأدنى.. فلا يجزئه إخراج الفضل، بل يجب رد المأخوذ إن كان باقيا، أو قيمته إن كان تالفا، ويجب على رب المال أن يخرج الفرض الأجود.
ومنهم من قال: إن كان الساعي قد أخذ الأدون، وفرقه على المساكين.. لم يمكن رده؛ لأنه تالف، فيخرج الفضل هاهنا.
فأما إذا لم يكن الساعي فرقه: فإنه يرد إلى رب المال، ويؤخذ الأجود.
ومنهم من قال: يجزئه المأخوذ بكل حال، ويخرج الفضل؛ لأن كل واحد منهما(3/185)
فرض بحال، وهل يكون إخراج الفاضل واجبا، أو مستحبا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستحب؛ لأن الفرض الذي أخرجه قد أجزأ، إذ لو لم يكن مجزئا.. لوجب رده، وإخراج الأجود.
والثاني - وهو المذهب -: أن إخراج الأفضل واجب؛ لأن الواجب على الساعي أن يأخذ الأجود، فإن تركه، وأخذ الأدون.. فقد أخذ بعض ما وجب له، فصار بمنزلة ما لو وجب له خمسة دراهم، فأخذ أربعة.
فإذا قلنا: إن إخراج الفضل مستحب.. أخرجه كيف شاء.
وإن قلنا: إنه واجب، فإن كان الفضل يسيرا لا يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فرقه دراهم، وإن كان يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فهل يلزمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن ذلك يشق.
والثاني: يلزمه لأن إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه أن يشتري من جنس الأجود منهما، أو يجوز له أن يشتري من جنس الأدون منهما؟ فيه وجهان.(3/186)
وإن وجد أحد الفرضين، وبعض الآخر. أخذ الموجود، ولا يجوز أن يأخذ بعض الموجود ويضم إليه غيره مع الجبران.
وإن وجد في المال ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فإن أخذ الثلاث الحقاق وبنت لبون وجبرانا واحدا، أو أخذ أربع بنات لبون وحقة ودفع الجبران.. جاز، وإن أخذ ثلاث بنات لبون مع كل واحدة جبران، وحقة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عدل إلى الجبرانات مع إمكانه أن يأخذ جبرانا واحدا، فلم يصح.
وإن كان الفرضان معيبين. لم يجز أخذهما؛ لأن المعيب لا يجزئ أخذه عن الصحاح، ويقال له: إما أن تشتري صحيحا، أو تصعد وتأخذ الجبران، أو تنزل وتدفع الجبران.
[فرع: جواز دفع بنات اللبون أو الحقاق]
فإن ملك أربعمائة من الإبل.. فعلى الطريقين في الأولى:
فإن قلنا: يجب أحد الفرضين.. فله أن يأخذ عشر بنات لبون، أو ثماني حقاق، فإن أراد أن يأخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون.. فعامة أصحابنا قالوا: يجوز.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز، كما لا يجوز مثل ذلك في المائتين. وهذا ليس بشيء؛ لأن كل مائتين فريضة منفردة بنفسها، فأشبه إذا انفردت.
وبالله التوفيق(3/187)
[باب صدقة البقر]
الأصل في وجوب الزكاة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . والبقر من الأموال.
وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته» .
إذا ثبت هذا: فأول نصاب البقر ثلاثون، ولا شيء فيها قبل ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكى عن الزهري، وسعيد بن المسيب: أنهما قالا: (في كل خمس من البقر شاة) ، كالإبل.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر معاذا أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» .
وروي: أنه أتي بما دون ذلك، فقال: «لم أومر فيها بشيء، وسآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسأله عن ذلك) ، فرجع معاذ، فلم يلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .(3/188)
وفي رواية: أنه سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «ليس فيها شيء» .
إذا ثبت هذا: فيجب في الثلاثين تبيع، وهو الذي دخل في السنة الثانية، هذا هو المشهور. وقال صاحب " الإبانة "] ق \ 114] : هو اسم للعجل الذي يتبع أمه، وإن لم يستكمل سنة، وسمي: تبيعا؛ لأنه يتبع أمه. وقيل: سمي بذلك؛ لأن قرنيه تبعا أذنيه.
ثم لا شيء في زيادتها، حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين.. وجب فيها مسنة، وهي التي دخلت في السنة الثالثة، ثم تستقر الفريضة، فلا يجب فيها شيء حتى تبلغ ستين، فيجب فيها تبيعان، ثم يجب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
فإذا بلغت مائة وعشرين.. فقد اجتمع فيها فريضتان، وهي ثلاث أربعينات، أو أربع ثلاثينات، فيكون على الطريقين في الإبل إذا بلغت مائتين.
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت أربعين.. فيها مسنة) ، كقولنا: فإذا زادت.. ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: مثل قولنا، وبه قال مالك.
والثانية: (لا شيء فيه، حتى تبلغ خمسين، فيجب فيها مسنة وربع مسنة) .
والثالثة - وعليها يناظرون -: (أنها إذا زادت على الأربعين شيئا.. وجب فيها بالقسط من المسنة) .
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» . فظاهر هذا: أن زكاة البقر لا تتعلق إلى بهذين العددين.(3/189)
[مسألة: جواز الإعطاء فوق الواجب]
] : فإن وجب عليه تبيع، فأعطى مسنة.. جاز؛ لأنها أعلى مما وجب عليه، وإن وجب عليه مسنة، فأعطى تبيعين.. جاز؛ لأنهما يجزئان عن الستين، فلأن يجزيان عما دونها أولى.
ولا مدخل للجبران في صدقة البقر؛ لأن الزكاة لا يعدل فيها عن المنصوص عليه إلى غيره بالقياس.
والله أعلم.(3/190)
[باب صدقة الغنم السائمة]
والأصل في وجوب الصدقة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103]
والغنم مال.
ومن السنة: ما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الغنم صدقتها» .
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كانت له إبل أو بقر أو غنم، فلم يؤد زكاتها.. بطح بها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفذت أخراها.. عادت عليه أولاها» . وهو بإجماع المسلمين، لا خلاف في وجوب الزكاة فيها.
إذا ثبت هذا: فما دون الأربعين من الغنم لا زكاة فيها، فإذا بلغت أربعين.. ففيها شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغتها.. فيجب فيها شاتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائتين وواحدة، فإذا بلغتها.. ففيها ثلاث شياه، ثم لا شيء في زيادتها، حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها.. ففيها أربع شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة.(3/191)
هذا مذهبنا، وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن النخعي، والحسن بن صالح، فإنهما قالا: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة.. وجب فيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة.. وجب فيها خمس شياه.
دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في (كتاب الصدقة) : «في الغنم إذا كانت سائمة، فبلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت عليها واحدة.. ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ذلك.. ففي كل مائة شاة» .
والشاة الواجبة: هي الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز.
قال ابن الأعرابي: والجذعة من الضأن: إذا كانت من شابين.. مالها ستة أشهر إلى سبعة، وإن كانت من هرمين.. فما لها ثمانية أشهر إلى عشرة.
وحكي عن الأصمعي: أن الجذعة من الضأن: ما لها سبعة أشهر. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن الجذعة: مالها سنة. وقيل: مالها ستة أشهر.
وأما الثنية: فما لها سنتان، وطعنت في الثالثة. هكذا ذكره ابن الصباغ، هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئ إلا الثنية منهما) . وهذه رواية (الأصول) عنه.
وروى الحسن بن زياد عنه مثل مذهبنا.
وقال مالك: (تجزئ الجذعة منهما) .
دليلنا: ما روى سويد بن غفلة: أن مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتانا، وقال: «أمرنا أن نأخذ الجذعة والثنية» .
ولأن الجذعة تجزئ في الأضحية، فأجزأت في الزكاة، كالثنية.(3/192)
[مسألة: لا تؤخذ المريضة من الصحاح]
إذا كانت الماشية كلها صحاحا.. لم يؤخذ في فرضها مريضة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . وفي أخذ المريضة من الصحاح تيمم الخبيث.
وإن كانت الماشية كلها مراضا.. جاز أن يؤخذ منها مريضة.
وقال مالك: (لا يجوز، بل يكلف أن يشترى صحيحة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إياك وكرائم أموالهم» . وفي أخذ الصحيحة من المراض أخذ الكرائم.
وروى عبد الله بن معاوية الغاضري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من فعلهن.. طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأن لا إله غيره، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا اللئيمة - يعني: الدون - ولكن يعطي وسطا، فإن الله لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها» .
فمن قال: يجب إخراج الصحيحة عن المراض.. فقد خالف الخبر.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي: (ويأخذ خير المعيب) ، ولا خلاف بين أصحابنا: أنه لا يجوز للساعي أن يأخذ خير معيب في المال.
واختلف أصحابنا في تأويله:
فقال ابن خيران: أراد بهذا: يأخذ خير المعيبين من الفرضين في ما بين من الإبل إذا كانت معيبة.(3/193)
ومنهم من قال: يأخذ خير المعيبين، إذا خيره رب المال.
ومنهم من قال: أراد به: يأخذ الوسط، وقد يسمى الوسط خيرا، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] [البقرة: 143] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] [آل عمران: 110] ، يعني: أوسطها وأعدلها.
ومن قال بهذا اختلفوا على وجهين:
فمنهم من قال: يأخذ أوسطها قيمة، وهو أن يقال: كم قيمة فرض أجود هذه المراض؟ فإذا قيل: عشرون.. فيقال: كم قيمة أوسطها؟ فيقال: خمسة عشر. فيقال: كم قيمة أقلها؟ فيقال: عشرة، فإنه يأخذ ما قيمته خمسة عشر، فأما الوسط في العيب: فلا يعتبر.
ومنهم من قال: يعتبر وسطا في العيب والقيمة جميعا.
والصحيح: قول ابن خيران، وقد نص الشافعي عليه في " الأم " [2/9] .
[مسألة: إذا كان النصاب صحيحا فلا تؤخذ المراض]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدد صحيح) .
وقال في موضع آخر: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدده صحيح) .
قال أصحابنا: وكلاهما صحيح.
أما قوله: (وفي الإبل عدد صحيح) ، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا، وفي الإبل عدد صحيح، يعني: بعض المال صحيحا.(3/194)
وأما قوله: (عدده صحيح) ، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا إذا كان في الإبل عدد الفرض صحيح.
إذا ثبت هذا - وكان بعض الماشية صحيحا، وبعضها مريضا -: لم يجب عليه إخراج الصحيحة من غير تقسيط، كما لو كانت كلها مراضا، ولا يجزئه إخراج المريضة؛ لأن في ذلك تيمم الخبيث، ولكن يخرج صحيحة بالقسط.
وكيفية ذلك: إذا كان معه أربعون من الغنم عشر منها مراض لا غير.. فإنه يقال له: كم قيمة فرض مريض منها؟ فإن قيل: عشرة دراهم.. قيل: وكم قيمة فرض صحيح منها؟ فإن قيل: عشرون درهما.. قيل له: خذ ربع قيمة الفرض المريض؛ ليكون المراض ربع النصاب، وثلاثة أرباع قيمة الفرض الصحيح؛ لكون الصحاح ثلاثة أرباع النصاب، وذلك سبعة عشر ونصف، ويشتري به فرضا صحيحا.
وإن كان نصفها مراضا.. فإنه يأخذ نصف قيمة شاة صحيحة، ونصف قيمة شاة مريضة، ويشتري بذلك شاة صحيحة.
وإن كان معه مائتان من الإبل، وفيها أربع حقاق صحاح، والباقي منها مراض.. فإنه لا يؤخذ منها إلا أربع حقاق صحاح بالقسط.
وكيفية ذلك: أن الأربع من المائتين جزء من خمسين جزءا، فيقوم حقة صحيحة فإن قيل: قيمتها خمسون درهما.. قيل: خذ منها جزءا من خمسين جزءا، وذلك درهم، ثم يقوم حقة مريضة منها، فإن قيل: قيمتها خمسة وعشرون درهما.. قيل: خذ منها تسعة وأربعين جزءا من خمسين جزءا، وذلك أربعة وعشرون درهما ونصف درهم، فيضاف ذلك إلى الدرهم، فيقال له: اشتر أربع حقاق صحاح، كل حقة بخمسة وعشرين درهما ونصف درهم.
فإن كان في المال ثلاث حقاق صحاح لا غير.. فإنه يؤخذ منها مريضة وثلاث حقاق بالقسط، على ما مضى.(3/195)
وإن كان فيه حقتان صحيحتان لا غير.. أخذ منه حقتان مريضتان، وحقتان صحيحتان بالقسط، على ما مضى بيانه.
وإن كان فيه حقة صحيحة لا غير.. أخذ منه ثلاث حقاق مراض، وحقة صحيحة بالقسط، على الإجزاء في القيمة، على ما مضى.
وكذلك: إذا كان فيها صحاح من غير الحقاق.. فالكلام في التقسيط على ما مضى، وعلى هذا جميع الأنعام.
[فرع: في الماشية الجياد والأسن]
وإن كانت الماشية أعلى من الفرض، كالثنايا وما فوقها من الإبل.. لم يطالب رب المال إلا بالفرض المنصوص عليه؛ لئلا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير.
وإن كانت الماشية صغارا، وحال عليها الحول، وهذا يتصور في موضع واحد، وهو أن يكون عنده نصاب من الماشية ثمانية أشهر، فتوالدت، ثم تماوتت الأمهات قبل الحول، وبقيت أولادها، فتم حول أمهاتها عليها، وأسنانها دون الفرض المنصوص عليه.. ينظر:(3/196)
فإن كان ذلك في الغنم.. أخذ الساعي صغيرة منها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يأخذ منه الساعي إلا كبيرة) .
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 115] : أن ذلك قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» . فلو أخذنا الكبيرة من الغنم عن الصغار.. لأخذنا الكريمة عن مال لا كريم فيه، فلم يجزه.
وإن كان ذلك في الإبل والبقر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أنه لا يجزئ في زكاتها إلا الكبيرة بالقسط؛ لأنا لو أخذنا فصيلا عن خمس وعشرين من الإبل، وعن إحدى وستين فصيلا.. سوينا بين القليل والكثير.
فعلى هذا: يقال: لو كانت هذه الخمس والعشرون كبارا.. كم كانت قيمتها؟ فإن قيل: ألف.. قيل: فكم قيمة ابنة مخاض تجب فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل فكم قيمة هذه الخمس والعشرين الصغار؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: اشتر ابنة مخاض بخمسة دراهم.
والوجه الثاني: أنا نفعل ذلك ما دام الفرض يتعين بالسن، كخمس وعشرين في الإبل، وست وثلاثين، وست وأربعين، وإحدى وستين؛ لئلا يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير. فإذا بلغت ستا وسبعين.. تغير الفرض فيها بالعدد، فيؤخذ منها صغيرتان؛ لأنه لا يؤدي إلى التسوية بين ما يؤخذ من القليل والكثير.(3/197)
والوجه الثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يؤخذ منها صغيرة بكل حال، كما قلنا في الغنم. والأول أصح؛ لأن على الوجه الثاني: يؤخذ من ست وسبعين فصيلان، ومن إحدى وتسعين فصيلان، وعلى الوجه الثالث: يؤخذ من خمس وعشرين فصيل، ومن إحدى وستين فصيل، وهذا خلاف الأصول.
[فرع: الثلاثون من البقر]
إذا ملك ثلاثين من البقر.. جاز إخراج الذكر في فرضها، سواء كانت البقر إناثا أو ذكورا، أو بعضها إناثا وبعضها ذكورا؛ لما روى «عن معاذ: أنه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل أربعين من البقر مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة» ولم يفرق بين الذكور والإناث.
وإن ملك أربعين من البقر: فإن كانت كلها إناثا، أو بعضها إناثا.. لم يجزئه إلا الأنثى؛ لحديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت كلها ذكورا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: يجب فيها مسنة بالقسط، وهو أن تقوم هذه الأربعون لو كانت إناثا، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الأربعون الذكور، وينظر قدر قيمتها من قيمة الأربعين الإناث، فما نقصت عنها.. نقص بقدر ذلك من قيمة فرضها، واشترى به مسنة.
والدليل على ذلك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل أربعين بقرة مسنة» ، ولم يفرق.
والوجه الثاني - وهو قول أبي علي بن خيران - أنه يجزئ فيه مسن ذكر، وهو(3/198)
المنصوص في " الأم " [2/10] ؛ لأنا لو كلفنا رب المال إخراج المسنة عن الذكور.. أضررنا به، والزكاة مبنية على الرفق.
وأما إخراج الذكر في زكاة الإبل: فإن ملك خمسا وعشرين من الإبل، ولم يكن في إبله ابنة مخاض.. فإنه يجوز إخراج ابن لبون ذكر، سواء كانت إبله ذكورا أو إناثا، أو إناثا وذكورا؛ للخبر، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كانت في غير الخمس والعشرين.. نظرت:
فإن كانت إبله إناثا، أو ذكورا وإناثا.. لم يجزئه إخراج الذكر؛ لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت إبله كلها ذكورا.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: لا يجزئه إلا الأنثى بالقسط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس وعشرين ابنة مخاض» إلى قوله: «وفي إحدى وستين جذعة» . ولم يفرق بين أن تكون الإبل إناثا أو ذكورا، ولأنا لو أخذنا منها الذكر..لأدى إلى أن يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، ويؤخذ في ست وثلاثين، وفي ذلك تسوية بين القليل والكثير.
فعلى هذا: تؤخذ أنثى بالقسط، بأن تقوم هذه الإبل لو كانت إناثا كلها، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الذكور، فما نقصت قيمتها من قيمة الإناث.. نقص من قيمة القرض قدر ذلك، واشترى به أنثى.
و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: يجزئه الذكر، وهو المنصوص؛ لئلا يؤدي إلى الإضرار برب المال.
قال ابن الصباغ: قال ابن خيران:
فعلى هذا: يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، وتكون قيمته دون قيمة ابن لبون يؤخذ في ست وثلاثين، ويكن بينهما في القيمة مثل ما بينهما في العدد، حتى لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير.
وحكى في " الفروع " وجها آخر: أنه يجوز أن يكونوا سواء.
وما حكاه ابن الصباغ أولى.(3/199)
وعلى قول ابن خيران: إذا ملك خمسًا وعشرين ذكرًا.. فهل يجزئ إخراج ابن مخاضٍ؟ فيه وجهان:
قال الشيخُ أبو حامدٍ في " التعليق ": يجوزُ، كما يجوزُ إخراجُ ابن لبون في ست وثلاثين، وإخراجُ الحِقِّ في ستة وأربعين.
وقال ابن الصباغ: لا يجوزُ؛ لأنَّ ابن مخاضٍ دون ما افتُتح به الفرضُ.
وأما إخراج ذَكَرَ الغنمِ في زكاتها:
فإن كانت الغنمُ كلها إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا.. لم يُجزئه إخراجُ الذكر. وقال أبو حنيفةَ: (يُجزئهُ) .
دليلنا: أنه حيوانٌ تجبُ الزكاةُ في عينه، فكانت الأنوثيةُ معتبرةً في فرضِها، كالإبلِ.
وإنْ كانت الغنمُ كلُّها ذكورًا.. فالمشهورُ: أنه يجزئه إخراجُ الذكر، أما جذعٌ من الضأنِ أو ثنيٌّ من المعزِ؛ لأنَّ ذلك لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يُؤخذُ من الكثيرِ.
وحكى في " الإبانةِ " [ق\115] وجهًا آخر: أنه لا يجزئه إلا الأنثى بالتقسيط، كما قلنا في الإبل والبقر، وليس بشيء.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إلا أن يكون تيسًا، فلا يقبل بحال؛ لأنه ليس في فرض الغنم ذكر) .
واختلفَ أصحابنا ـ الذين قالوا: يجزئ إخراج الذكر من الغنم، إذا كانت كلها ذكورًا ـ في تأويل هذا:
فمنهم من قال: أرادَ به: التيس الذي لا ينزو، فلا يؤخذ لنقصانه، فأما الفحل(3/200)
الذي ينزو، ويضربُ الغنم: فذلك من كرائم المال، فلا يُطالب به رب المال، وإن كانت غنمه كلها ذكورًا، فإن تطوع ربُ المال بتسليمه.. قُبل منه.
وقال الشيخ أبو حامد: بل تأويله: إذا كانت الغنمُ إناثًا.. فإنه لا يؤخذ التيس؛ لأنه قال: (لأنه ليس في فرض الغنم ذكر) ، أي: ليس في فرض الغنم الإناث ذكر، بل يجب أنثى، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [2/8] : ولا تؤخذُ الربى، ولا المَاخض ولا تيس الغنم) ، فأخبر: أن التيس الذي ينزو فلا يطالب به لفضيلته.
[مسألة: الماشية إذا تمحضت من نوع]
] : وإن كانت الماشية نوعًا واحدًا، بسن الفرض، فإن كانت متفقة الصفة.. فإن الساعي يختار الواجب منها، ولا يفرق المال.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تفرق الغنم ثلاث فرق، فيختار رب المال فرقة، ويختار الساعي الفريضة من الفرقتين الأخريين) ، وبه قال الزهري، وقال عطاء والثوري: (تفرق الغنم فرقتين، فيختار رب المال(3/201)
فِرقة، ويختارُ الساعي الفريضة من الفرقة الأخرى) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . فلو جعلنا الخيارَ لرب المال.. لأعطى الخبيث.
وإن كانت الماشيةُ متفقةً بالسن مختلفةً في الصفةِ.. ففيه وجهانِ:
قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي خيرَها، كما يختارُ أربعَ حِقاقٍ، أو خمسَ بناتِ لبونٍ في المائتين.
وقال أبو إسحاق: يأخذُ وسط ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» . فلو جعلنا الخيارَ إلى الساعي.. لأخذ الكرائم هاهنا.
وإنْ كانت الماشيةُ أنواعًا من جنسٍ، كالضأنِ والمعزِ في الغنم، وكالمَهريةِ والأرحبية والمجيدية في الإبل، فـ: (المهرية) : منسوبةُ إلى مَهْرَةَ، وهي قبيلةٌ من العربِ أهل اليمن، وكذلك (المجيديةُ والأرحبيَّةُ) : من إبل اليمنِ، وكالجواميسِ والعِرابِ في البقرِ، و (العِرابُ) : جُرْدٌ مُلْسٌ حِسانُ الألوانِ، فإنَّ أنواعَ الجنسِ يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ في إكمالِ النصابِ.
وفي كيفية أخذ الفرضِ منها، ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: أنه يؤخذُ الفرضُ من النوعِ الغالبِ؛ لأن للغلبةِ تأثيرًا في الأصولِ، كما نقولُ في الماءِ إذا اختلطَ بالمائع الطاهرِ، وكما تُقبلُ شهادةُ من اجتنبَ الكبائرَ، وارتكبَ الصغائِرَ.
فعلى هذا: إذا ملكَ ثلاثينَ من الضأنِ وعشرًا من المعزِ.. أُخِذَ منهُ جذعةٌ من(3/202)
الضأن، وإن استوى النوعان على هذا القول.. ففيه وجهانِ:
قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي أنفعَ النوعين للمساكين.
وقال القاضي أبو الطيِّبِ في " المجرد ": ينبغي أن يُسقطَ هذا القولَ هاهنا.
والقول الثاني: حكاه ابنُ الصبَّاغِ عن " الأمِّ ": أنه يأخذُ من أوسطِ الأنواعِ؛ لأنَّهُ أعدلُ، وهذا ليس بمشهورٍ.
والقول الثالث ـ وهو الأصحُّ ـ: أنه يأخذُ من كلِّ نوع بقسطِهِ؛ لأنه مالٌ تجبُ الزكاةُ في عينهِ، فلمْ يُعتبرِ الغالبُ في أخذِ الزكاةِ منهُ، كالثمارِ إذا كانتْ نوعينِ أو ثلاثةً، ولا يدخلُ عليه إذا كانت أنواعًا كثيرةً؛ لأن ذلك يشقُّ.
فعلى هذا: إذا كان معه عشرون من الضأن، وعشرون من المعز.. فإن الشيخ أبا حامدٍ، وابنَ الصباغِ، وأكثرَ أصحابِنا قالوا: يقومُ جذعةً من الضأن، فإن قيلَ: عشرةُ دراهمَ.. قيل له: خُذْ نصفَ قيمتِها، فذلكَ خمسةٌ؛ لأن الضأنَ نصفُ المالِ، ويقالُ: كمْ قيمةُ ثنيَّةٍ من المعز؟ فإن قيل: ثمانيةُ دراهمَ.. قيلَ له: خُذْ نصفَ قيمتها، وهو أربعةٌ، وضُمَّ ذلك إلى خمسةٍ، فذلك تسعةٌ، فيشتري به شاةً، ولم يذكروا تقويم النصابِ من الضأن، ولا من المعز.
وذكر في " المهذب ": أنه يقوِّمُ النِّصابَ ويقومُ فرضَهُ، ولا معنى لتقويم النصاب، وقد صوَّرها الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإبل، إذا ملك خمسًا وعشرينَ: عشرًا مَهريةً، وعشرًا أرحبيَّة، وخمسًا مجيديةً.. أن يقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مَهريةٍ؟ فإن قيلَ: ثلاثونَ.. قيل: خذْ خُمسي قيمتها، وهو اثنا عشر؛ لكونِ المَهريَّةِ خُمسي الإبل.
ويقالُ: كم قيمةُ ابنةِ مخاضٍ أرحبيِّةٍ؟ فإن قيلَ: عشرون.. قيلَ: خُذْ خمسي قيمتها أيضًا، وهي ثمانيةٌ، ويقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مجيدية؟ فإن قيل: عشرةٌ.. قيل: خذ خمس قيمتها، وهو درهمان، وضُم جميع هذا المأخوذ، وهو اثنان وعشرونَ، وماذا يشتري بذلك؟ فيه وجهان:
[الأول] : قالَ عامة أصحابنا: يشتري به من أي أنواع المالِ شاءَ.(3/203)
فعلى هذا: يشتري في مسألتنا بتسعةِ دراهم في الغنم: إما جذعةً من الضأن، أو ثنيةً من المعزِ، وفي الإبل: يشتري باثنين وعشرينَ درهمًا ابنةَ مخاضٍ من أي الأنواعِ الثلاثةِ شاءَ.
و [الثاني] : قال ابنُ الصبَّاغ: يشتري من أعلى أنواع المالِ، كما إذا كان بعضُ مالِهِ صحيحًا وبعضه مريضًا.. فإن الزكاة تؤخذ بالقسط، ولا يشتري إلا صحيحة.
[مسألة: ما يقبل في الزكاة]
قال الشافعي: (وروي: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَ معاذًا إلى اليمن مصدقًا، فقال: " إياك وكرائم أموالهم» .
وروي: أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعمل أبا سفيان بن عبد الله على الطائف ومخاليفها، فقال: (اعتدَّ عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية) .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: " إذا خرجت مصدقا.. فلا تأخذ الشافع ولا حزرة الرجل» .
قال الشافعي: (فالأكولة: هي السمينة التي تعد للذبح، والربى: هي التي يتبعها ولدها) . وتقول العرب: هي في ربابها. كما يقال: المرأة في نفاسها، قال(3/204)
الساجي: التي يتبعها ولدها، وهي حديثة العهد بالولادة، فهي في أوان كثرة لبنها، فلا تؤخذ لفضيلتها.
قال الشيخ أبو حامد: وغلط بعض أصحابنا، فقال لا تؤخذ لنقصانها؛ لأن ولدها قد هزلها. وليس بشيءٍ.
وأما (الماخض) : فهي الحاملُ فلا يطالبُ بها؛ لفضيلها، وكذلك ما طرقها الفحلُ، وإن لم يبن حملها؛ لأن البهيمة لا يطرقها الفحل إلا وتحمل في الغالب، وأما (فحل الغنم) : فهو الذي ينزو عليها.
وأما (الشافع) : فقيل: إنها السمينةُ، وقد روي ما يدلُ على هذا، وهو: «أنَّ رجلين أتيا رجلًا يطلبان منه الصدقة، وقالا: إنَّا رسولا رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فدفعتُ إليهما شاةً ممتلئة شحمًا ولحمًا، فقالا: إنها شافعٌ، وقد نُهينا عن أخذ الشافع» فدل على أنَّ الشافع هي السمينة، وقيل: إنَّ الشافع هي التي في بطنها ولدٌ ويتبعُها ولدٌ، وسميت: شافعًا؛ لأن ولدها شفعها، أو لأنها شفعت ولدها الأول بالآخر.
وأما (حزرة الرجل) : فهو المال الذي يحزره الإنسان في نفسه ويقصده بقلبه، قال الشاعر:
الحَزَراتُ حَزراتُ القلبِ(3/205)
قال أبو عبيد الهروي: وقد روي: " ولا حرزات المال " ـ بتقديم الراء ـ فإن رضي رب المال بدفع الربى، والحامل.. أجزأه.
وكذلك: لو وجبت عليه ابنة مخاض، فدفع عنها ابنة لبون، أو حقة.. جاز؛ لأنها أعلى منها.
وقال داودُ: (لا تجزئه الحاملُ؛ لأن الحملَ عيبٌ في الحيوان) بدليل: أنه لو باعه جارية حائلًا في الظاهر، فبانت حاملًا.. كان له ردها، ولا تجزئ الحاملُ في الأضحية، وكذلك عنده: لو دفع ابنة لبونٍ عن ابنةِ مخاض.. لم يُجْزِهِ.
دليلُنا: أنَّ الحمل زيادة في الحيوان، بدليل: أنه يجب دفع الحامل في دية العمد تغليظًا على القاتل، وإنما الحمل نقص في الآدميات، لما ينقص من جمالها واستمتاعها، ويخاف عليها منه الموت عند الولادة، وإنما لم تجزئ الحاملُ في الأضحية؛ لأنه ينقص من لحمها.
وأما الدليل على جواز أخذ سن عما دونها: ما «روى أبي بن كعب: قال: بعثني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا، فمررت برجل، فجمع لي ماله، فرأيت قد وجب فيها ابنةُ مخاضٍ، فقلت له: قد وجبت عليك ابنة مخاض، فقال: إنه لا در لها، ولا ظهر، ولا نسل، وهذه ناقة فتية سمينة عظيمة، فخذها، فقلت لا آخذها؛ لأني لم أومر بأخذ ذلك، وهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك قريبٌ، فاعرض عليه ما عرضت علي، فإن أخذها.. أخذتها، وإن ردها.. رددتها، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلك الناقة، فأخبرناه بذلك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذلك الذي وجب عليك، فإن تطوعت بخيرٍ.. آجرك الله فيه، وقبلناه منك ". وأمرنا بقبضها» .(3/206)
ولأنها تجزئ عن ست وثلاثين، فلأن تجزئ عما دونها أولى.
[مسألة: إخراج القيمة بدل الماشيةِ]
ولا يجوزُ إخراجُ القيمةِ في الزكاةِ.
وقال أبو حنيفةَ: (يجوزُ) .
دليلنا: أنَّ الحق لله، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقله إلى غيره، كالأضحية، ولا يجوزُ إخراجها من غير الأنعام.
وإن أخرج ناقةً عن أربعينَ شاةً.. لم يجزه؛ لأن ذلك من غير جنس الحيوان الذي وجبت فيه الزكاة، فهو كالدراهم والدنانير.
والله أعلم.(3/207)
[باب صدقة الخلطة]
والخلطة خلطتان: خلطة أوصاف، وخلطة أعيان وأوصاف.
فأما (خلطة الأوصاف) : فهو أن يكون ملك كل واحدٍ من الرجلين متميزًا عن ملك الآخر، وإنما خلطا المالين في المرعى والمراح وغيرهما، على ما نذكره.
وأما (خلطةُ الأعيان) : وهو أن يكون المال مُشتركًا بينهما مُشاعًا، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يسمي هذه: خلطة الاشتراك، والأول: خُلطة الأعيان.
إذا ثبت هذا: فإن الخليطين في الماشية يزكيان زكاة الرجل الواحد، فإن كان لكل واحدِ عشرون من الغنم، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ، وكذلك: لو كانَ لكل واحدٍ منهما أربعونَ من الغنم، ولم ينفرد أحدُهما عن الآخر بالحول، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ واحدةٌ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاقُ.
وقال أبو حنيفة: (لا تأثير للخلطةِ في الزكاةِ، وزكاتُهما كما لو كانا منفردين) .
وقال مالكٌ: (إن كان لكل واحدٍ نصابٌ، وخلطا المالين.. زكيا زكاةَ الواحدِ ـ كقولنا ـ وإن كان لكل واحدٍ أقل من نصابٍ، فخلطا المالين.. لم تجب عليهما زكاةٌ) ، كقول أبي حنيفة.
دليلنا: ما «روى أنسٌ: أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولاه البحرين.. كتب له كتاب الصدقات: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أمر الله بها، إلى أن(3/208)
قال: ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية»
فمعنى قوله: «لا يُجمعُ بين مفترقٍ» ، أي: لا يجمعُ الساعي بين ملكين في مكانين؛ ليأخذ منهما زكاة الواحد، مثل: أن يكون لأحدهما مائة شاة وشاة، وللآخر مائة شاة، فليس للساعي أن يجمع بينهما؛ ليأخذ منها ثلاث شياه، بل يأخذ من كل واحدٍ منهما شاة، ووافقنا أبو حنيفة: أنَّ هذا مراده بقوله: «ولا يجمع بين مفترقٍ» .
وأما قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» وهو موضع الدليل من الخبر: فيتصور ذلك في ثلاث مسائل:
إحداهنَّ: إذا كان بين ثلاثةِ أنفس مائة وعشرون شاةً، لكلّ واحدٍ أربعون، وهم مختلطون.. فليس للساعي أن يفرق بينهم؛ ليأخذ من كل واحدٍ شاةً، بل يأخذ منهم شاةً واحدةً.
الثانية: إذا اختلط الرجلان بأربعين شاةً.. فيجب عليهما شاةٌ، وليس لهما أن يفرقا حكميهما بعد تمام الحول، خشية وجوب الزكاة.
الثالثة: إذا كان لأحدهما مائة شاةٍ وشاةٌ، ولأحدهما مائة شاةٍ، فاختلطا حولًا.. وجبَ عليهما ثلاثُ شياه، ولا يفرقُ حكمهما، خشية وجوب الزكاة الثالثة عليهما.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خشية الصدقة» : فالخشية خشيتان:
خشية من الساعي أن يغل الصدقة، وذلك في مسألتين:
إحداهما: إذا كان المال في مكانين.. فليس له أن يجمع بينهما، كما مضى.
الثانية: ليس له أن يفرق بين الشركاء الثلاثة في مائة وعشرين من الغنم.
وخشية أرباب الأموال أن تكثر الصدقة، وذلك في مسألتين: وهما الأخريان من الثلاثة المسائل.(3/209)
ولنا من الخبر دليل ثانٍ: وهو قوله: «وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ، وهذا لا يكون إلا على مذهبنا.
قال الطحاوي: وقد يأتي التراجع على مذهب أبي حنيفة، بأن يكون بينهما ستون شاة، لأحدهما أربعون، وللآخر عشرون، وهي شركة بينهما، فإن الساعي إذا أخذ شاةً منهما، فإنها إنما وجبت على صاحب الأربعين، فيرجع عليه شريكه بثلث قيمتها.
قال أصحابنا: لا يصح حمل الخبر على هذا؛ لأنه قال: «يتراجعان بينهما بالسوية» ، وصاحب الأربعين لا يتأتى له الرجوع على صاحب العشرين في حالٍ من الأحوال، وقد قال: " بالسوية ".
[مسألة: شروط زكاة الماشية]
قال المحاملي: ولا تجب الزكاة في الماشية على المنفرد إلا بخمسة شروطٍ: شرطين في المالك، وثلاثة في المملوك:
فأما الشرطان في المالك: فأن يكون مسلمًا، حرًا، وأما الثلاثة في المملوك: فأن يكون المال نصابًا، وأن يكون سائمةً، وأن يمضي على ذلك حولٌ.
إذا ثبت هذا: فإن مال الخلطة لا يجب الزكاةُ فيه إلا بوجود هذه الخمسة الشرائط، مع سبع شرائط أخرى تختصُّ بالخلطة: خمس منها متفقٌ عليها على مذهبنا، واثنان مختلف فيهما.
فالمتفق عليها: الأولى: أن يكون مراحها واحدًا، وهو الموضع الذي تأوي إليه الغنم بالليل.
الثانية: أن يكون المسرحُ واحدًا، وهو المرعى، فإن رتعت ماشية كل واحدٍ منهما في مرعى منفرد.. لم تصح الخلطة.
قال المحاملي: وأصحابنا يعبرون عن المرعى بأن يكون الراعي واحدًا، وليس يحتاج إلى ذلك إذا كان المرعى واحدًا، سواءٌ كان الراعي واحدًا أو اثنين، ولكن لا ينفرد مالُ كل واحدٍ براعٍ.(3/210)
وذكر في " الإبانة " [ق\115] : هل يشترطُ أن يكون الراعي مشتركًا يتفقان عليه؟ فيه وجهان:
الشريطة الثالثةُ: أن يكون المشربُ واحدًا، فأما إذا كان ماشية كل واحد يشرب على ماء منفردٍ.. فلا خلطة.
الشريطة الرابعة: أن يكون الفحل واحدًا، سواءٌ كان الفحل مشتركًا بينهما، أو لأحدهما، أو مستعارًا من غيرهما، فتصح الخلطة في ذلك كله.
هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وأما صاحب " الإبانة " [ق\115] : فقال: هل من شرطها أن يكون الفحل مشتركًا بينهما؟ فيه وجهان.
وإن كان مالُ أحدهما ضأنًا، ومال الآخر مَعزًا، وخلطا المالين، ولكل واحدٍ منهما فحلٌ.. صحت الخلطة؛ لأنه لا يمكنُ اختلاطهما في الفحل، كما لو كان مالُ أحدهما إناثًا، ومال الآخر ذكورًا من جنسٍ.
الشريطةُ الخامسةُ: أن يكون المال المختلط نصابًا، فإن كان لكل واحدٍ منهما أربعون شاةً، فخالط كل واحدٍ صاحبه بخمس عشرة، فصار مال الخلطة ثلاثين.. لم تصح الخلطة، بل يزكيان زكاةَ المنفردين على كل واحدٍ شاةٌ، وهذه الشريطة التي ذكرها قد مضت في مال المنفرد، فلا معنى لإعادتها.
وأما الشريطتان المختلفُ فيهما في مذهبنا فهما: الحلب، والنية.
فأما الحلب: فقال الشافعي: (وأن يحلبا معًا) .
واختلف أصحابنا في ذلك [على ثلاثة أقوالٍ] :
فـ[الأول] : قال أبو إسحاق المروزي: لا يشترط أن يحلب لبنُ أحدهما فوقَ لبن الآخر؛ لأن لبن أحدِهما قد يكون أكثر من لبن الآخر، فإذا قسماه بالسوية بينهما كان ذلك ربًا.
واختلف أصحابنا في حكاية قول أبي إسحاق في تأويل مراد الشافعي بقوله: (وأن يحلبا معًا) على ثلاثة أوجه:(3/211)
فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": قال أبو إسحاق: مراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يكون موضع الحلب واحدًا، وهو المكان.
و [الوجه الثاني] : حكى المحاملي وصاحب " الفروع ": أن أبا إسحاق قال: مراد الشافعي: أن يكون الإناء واحدًا.
و [الوجه الثالث] : حكى ابن الصباغ صاحب " الشامل ": أن أبا إسحاق المروزي قال: مراد الشافعي: أن يكون الحالب واحدًا، فاختلفوا في حكاية مذهب أبي إسحاق، وذكروا: أنه الصحيح. وأما خلط اللبنين: فلا يعتبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا.
و [القول] الثاني: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يحلبا معًا، ويخلطا اللبنين، ثم يقسمانه بالسوية، قال ابن الصباغ على هذا: ولا اعتبار بالتفاضل الذي يحصل فيه؛ لأن أحدهما يسامح الآخر به، كالمسافرين يخلطون أزوادهم، ثم يأكلون، وإن كان قد يأكل بعضهم أكثر من بعض.
و [القول] الثالث: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يكون الحالب واحدًا، والإناء واحدًا، ويخلط اللبنين.
والأول أصح: لأن اللبن من النماء، فلا يعتبر فيه الخلط، كالصوف، ويخالف المسافرين؛ لأن كل واحد منهم يدعو الآخر إلى طعامه، فيكون ذلك إباحة منه له.
واختلف أصحابنا في نية الخلطة، وجهان:
فأحدهما: منهم من قال: إنها معتبرة؛ لأن الخلطة تؤثر في الفرض، فافتقرت إلى النية.
والثاني: منهم من قال: لا يعتبر؛ لأن الخلطة إنما أثرت؛ لخفة المؤنة، وذلك موجود من غير نية.
فإن اختل شرط من هذه الشروط.. لم تصح الخلطة، وهذا إنما هو في خلطة الأوصاف.
فأما خلطة الأعيان: فإن هذه الشرائط موجودة فيها ضرورة.(3/212)
وقال مالك: (يعتبر ثلاثة شروط لا غير: الراعي، والمسرح، والفحل) .
دليلنا: ما روى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والخليطان: ما اجتمعا في الرعي، والسقي، والفحل "، وفي رواية: " والحوض» . فنص على هذه الأشياء، ونبه على ما سواها؛ لأن المؤنة تخف بها.
[فرع: شركة المكاتب أو الذمي]
فإن ملك من تجب عليه الزكاة أربعين شاة، خالط مكاتبًا، أو ذميًا.. لم تصح الخلطة، ووجب على الحر المسلم زكاة المنفرد.
وقال أبو ثور: (تصح الخلطة مع المكاتب) ؛ لأن المكاتب عنده من أهل الزكاة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على الحر المسلم زكاة المنفرد، كما لا تجب على شريكه) .
والدليل على أبي ثور: أن المكاتب ناقص بالرق، فلم تجب عليه الزكاة، كالقن.
وعلى أبي حنيفة: أن الزكاة تجب عليه إذا كان منفردًا، فلا تسقط عنه الزكاة بخلطة من لا تجب عليه الزكاة، كما لو خلط الأثمان بالصفر والنحاس) .
[مسألة: أنواع الخلطة]
] : وإذا وُجدت الخلطة.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون لم يثبت لمال أحدهما حكم الانفراد، أو لم يثبت لمالهما حكم الانفراد، أو ثبت لمال أحدهما دون الآخر حكم الانفراد.
فـ[الأول] إن لم يثبت [لمال] أحدهما حكم الانفراد، بأن ملك كل واحدٍ(3/213)
عشرين من الغنم، ثم خلطاها، أو ملك كل واحدٍ أربعين من الغنم، وخلطاها عقيب الملك حولًا.. فإنهما يزكيان زكاة الخلطة.
و [الحال الثاني] : إن ثبت لمالهما حكم الانفراد.. نظرت:
فإن كان حولهما متفقًا، مثلُ: أن ملك كل واحد منهما أربعين من الغنم، أول المحرم، ثم خلطاها أول صفر.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يزكيان زكاة الخلطة، فتجبُ عليهما شاةٌ أول المحرم) . وبه قال مالك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمع» ، ولأنه لما كان الاعتبار في قدر الزكاة آخر الحول.. وجب أن تعتبر الخلطة في آخره أيضًا.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يزكيان زكاة الانفراد) ، فيجب على كل واحدٍ منهما شاةٌ أول المحرم، وهو الصحيح، وبه قال أحمد؛ لأنهما شخصان ثبت لمالِ كل واحدٍ منهما حكم الانفراد في بعض الحول، فزكيا زكاة الانفراد، كما لو اختلطا أول الحول وانفردا آخره. وأما في الحول الثاني وما بعده: فيزكيان زكاة الخلطة على القولين؛ لأن الخلطة موجودةٌ في جميعه.
وإن كان حولهما مختلفًا، مثل: أن ملك أحدهما في أول المحرم أربعين شاةً، وملك الآخر في أول صفر أربعين، ثم خلطاها في أول ربيع، فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بالقول القديم.. أخرج الذي ملك أول المحرم نصف شاةٍ، فإذا بلغا أول صفرٍ.. أخرج الثاني نصف شاةٍ، وعلى هذا في الحول الثاني وما بعده.
وإن قلنا بالقول الجديد.. أخرج كل واحدٍ منهما شاةً عند تمام حوله الأول.
وأما في الحول الثاني وما بعده: ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ أنهما يزكيان زكاة الخلطة؛ لأنهما صارا خليطين في جميع السنة، إلا أنه لا يجب على كل واحد منهما إلا إخراج نصف شاة عند تمام حوله.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سُريج ـ: أنهما يزكيان زكاة الانفراد في جميع الأحوال، كالسنة الأولى.(3/214)
و [الحال الثالث] إن ثبت لمال أحدهما حكم الانفراد دون الآخر، مثل: أن ملك رجل أربعين شاةً أول المحرم، فلما جاء صفر.. خالط بها رجلًا له أربعون شاة، ثم جاء ثالثٌ، فاشترى تلك الأربعين من الثاني، وصورها الشيخ أبو حامد: أن الأول ملك في أول المحرم، وملك الثاني في أول صفر، وخلطاها قبل انفراد الثاني بالحولِ.
قال ابن الصباغ: وهذا يتصور أن تحصل الخلطة عقيب القبول، ولا يعتبر الزمان اليسير.
إذا ثبت هذا: وبلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم.. وجب على الأول نصفُ شاة، وكذلك في الحول الثاني وما بعده.
وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب عليه شاةٌ، وأما في الحول الثاني وما بعده: فعلى المذهب: يزكيان زكاة الخلطة، وعلى قول أبي العباس ابن سريج: يزكيان زكاة الانفراد؛ لأن حولهما مختلفٌ.
فإذا بلغا أول صفرٍ، فإن قلنا بالقول القديم.. وجب على الثاني نصف شاةٍ، وإن قلنا بالقول الجديد.. ففيه وجهانِ:
أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو أيضًا.
والثاني: يجب عليه نصف شاةٍ، وهو الصحيح؛ لأنه خليطٌ للأول في جميع السنة.
وما قاله الأول لا يصح؛ لأن أحد الخليطين قد يرتفق بالخلطة دون الآخر، ألا ترى أن في هذه المسألة: إذا حال الحول الثاني على الأول.. فإنه يزكي زكاة الخلطة على المذهب، ثم لو تقاسما قبل تمام الحول الثاني.. وجب على الثاني شاةٌ عند تمام حوله، فقد ارتفق الأول دون الثاني.
[فرع: وجود النصاب نصف حول]
إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً، وأقامت في يده نصف الحول، ثم باع نصفها مشاعًا من آخر، فإن حول البائع ينقطع في النصف الذي باع، وهل ينقطع في حوله الذي لم يُبع؟ فيه طريقان:(3/215)
أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن خيران ـ: أنها على القولين، هل يُبنى حول الخلطة على حول الانفراد؟
فإن قلنا بالقول القديم: (إن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. لم ينقطع.
وإن قلنا بالقول الجديد: (إنه لا يبنى) .. انقطع الحول فيما لم يبع، فيستأنفان الحول من يوم البيع. قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فمن له ستون شاةً مضى عليها نصف الحول، ثم باع ثلثها مشاعًا.. إنه يجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله) ، ولو صح بناءُ حول الخلطة على حول الانفراد.. لأوجب عليه ثلثي شاةٍ.
والطريق الثاني ـ وهو المنصوص في " المختصر " [1/208] و " الأم " [2/13] ، وبه قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا ـ: (إن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، قولًا واحدًا، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله) ؛ لأن نصيبه لم ينفك من نصابٍ، إما منفردًا، أو مختلطًا؛ لأنه لو كان منفردًا يملك النصاب أول الحول، ثم صار خليطًا للمشتري آخر الحول.. فلم ينقطع الحولُ فيه. هذا الكلام في البائع.
وأما المبتاع: فإن ابتداء حوله من حين الابتياع، فإذا تم حوله.. نظرت في البائع:
فإن كان قد أخرج زكاته من الأربعين.. فلا زكاة على المشتري؛ لأن النصاب نقص قبل الحول.
وإن أخرجها من غير الأربعين، فإن قلنا: إن الزكاة تعلقت بذمة البائع.. لم ينقطع حول المبتاع، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، فإن نتجت شاةٌ سخلةً مع تمام الحول أو قبله.. لم ينقطع حول المبتاع أيضًا، وإن لم تنتج شاةٌ سخلةً.. ففيه طريقان:
قال عامة أصحابنا: ينقطع حول المبتاع بحؤول الحول على مال البائع؛ لأن أهل الزكاة ملكوا نصف شاة منها، فنقص المال عن النصاب، فإذا أخرج البائع الزكاة من غيرها.. عاد إليه ملك ذلك النصف بالإخراج، فيعتبر حولهما جميعًا من ذلك الوقت.(3/216)
وذكر أبو إسحاق في " الشرح ": أن على هذا القول قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا ينقطع حول المبتاع؛ لأن رب المال إذا أخرج الزكاة من غير المال.. تبينّا أن المساكين لم يملكوا جزءًا من المال.
والطريق الأول أصح. فأما إذا باع عشرين منها بأعيانها، وسلمها إلى المبتاع من غير تفريق بينهما في المكان.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أن حكمها حكم الأول.
والثاني: أن حول البائع ينقطع فيما لم يبع، ويستأنفان الحول من حين البيع؛ لأنه لما أفردها بالبيع.. صار كما لو أفردها عن ماله في المكان، ثم باعها.
والأول أصح؛ لأنها لم تنفرد عن ماله في المكان.
[فرع: لا ينقطع الحول فيما لم يبع]
وإن ملك رجلٌ ثمانين شاةً، ومضى عليها نصفُ الحول، ثم باع نصفها مشاعًا.. فإن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، بلا خلافٍ.
فإذا تم حوله من حين ملكها، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب عليه نصف شاةٍ، ويجبُ على المبتاع نصفُ شاةٍ عند تمام حوله.
وإن قلنا بقوله الجديد: (وأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد) .. وجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله، وفي المبتاع وجهان:
أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق به، فلم يرتفق هو به أيضًا.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ أن عليه نصف شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول.(3/217)
قال الشيخ أبو حامدٍ: هكذا درسها أصحابنا، إلا أني أذهب: أن البائع يجب عليه نصف شاة عند تمام حوله على القولين؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول، وكذلك المبتاع: يجب عليه نصف شاةٍ؛ لهذه العلة.
[فرع: انقطاع الحول]
إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً في أول المحرم، وملك آخر أربعين في أول المحرم، وأقاما منفردين ستةَ أشهرٍ، ثم باع أحدهما جميع غنمه بجميع الآخر.. انقطع حولُ كل واحدٍ منهما فيما باعَ، واستأنف الحولُ فيما اشترى، فإن بقيا منفردين إلى آخر الحول.. زكيا زكاة الانفراد من حين التبايع، فإن خلطا عقيب التبايع.. صحت الخلطة، وزكيا زكاة الخلطة.
وإن مضى زمانٌ، ثم تخالطا.. فعلى القولين في حال الخلطة: هل يُبنى على حول الانفراد؟
وإن باع كل واحدٍ منهما نصف غنمه مشاعًا بنصف غنم الآخر مشاعًا، ثم تخالطا عقيب التبايع.. فإن حول كل واحدٍ منهما ينقطع فيما باعَ، وهل ينقطع فيما لم يبع؟ فيه طريقان:
قال عامة أصحابنا: لا ينقطع، قولًا واحدًا.
وقال ابن خيران: فيه قولان، وقد مضى ذلك.
فإن قلنا: ينقطع.. استأنف الحول من حين البيع.
وإن قلنا: لا ينقطع.
فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأنه مخالطٌ حال الوجوب بعشرين لسنتين. وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب على كل واحدٍ منهما نصف شاةٍ.
فإذا بلغا أول رجب، وهو وقت تبايعهما، فعلى القديم: يجب على كل واحدٍ منهما ربع شاةٍ، وعلى الجديد: فيه وجهان:(3/218)
أحدهما: يجب على كل واحدٍ منهما نصفُ شاةٍ؛ لأن شريكه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو به أيضًا.
والثاني: يجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأن هذا المال كان مختلطًا من حين ملك.
[مسألة: اجتماع حول المشتركين]
إذا كان بين رجلين أربعون شاةً، لكل واحدٍ عشرون، ولأحدهما أربعون شاةً منفردةً، واتفق حول الجميع.. ففيها ستة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المنصوص للشافعي، وبه قال عامة أصحابنا ـ (أنه يجب في الجميع شاةٌ، ربعها على صاحب العشرين، وثلاثة أرباعها على صاحب الستين) ؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن افترقت الأماكن به، ثم يضم ذلك إلى مال خليطه، فيصير كأن الثمانين في مكانٍ واحدٍ، فجيب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الملكين.
والثاني ـ وهو قولُ أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وقياسُ قول ابن الحداد ـ: أنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لأن مال الرجل يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط من مال خليطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.
والثالث ـ وهو اختيار أبي زيد والخضري ـ أنه يجب على صاحب الستين أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا من شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصف شاةٍ؛ لأن صاحب الستين لو انفرد بجميع غنمه.. لوجب عليه شاةٌ، فيخص الأربعين التي انفرد بها ثلثا شاةٍ، ولو خالط بجميع غنمه.. لوجب عليه ثلاثةُ أرباع شاةٍ، لكنه لم يخالط منها إلا بعشرين فيجب فيه ربع شاةٍ، فإذا ضممت ثلثي شاةٍ وربعها.. كان ذلك أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.(3/219)
والرابع ـ ما حكاه الشيخ أبو حامدٍ، عن أبي علي بن أبي هريرة أيضًا ـ: أنه يجب على صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لما ذكرناه، وعلى صاحب الستين شاةٌ؛ لأن له مالًا منفردًا، ومالًا مختلطًا، فغلبت زكاة الانفرادِ؛ لأنها أقوى لكونها مجمعٌ عليها.
والخامسُ ـ يحكى عن أبي العباس ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ وسدس شاةٍ؛ لأن حصة الأربعين ثلثا شاةٍ من زكاة الانفراد، وحصة العشرين نصفُ شاةٍ؛ لكونه مخالطًا بها بعشرين، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه ضم الأربعين إلى العشرين، ولم يضم العشرين إلى الأربعين.
والسادس ـ حكاه في " الإبانة " [ق\118] : أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصف شاةٍ، وعلى صاحب العشرينَ نصفُ شاةٍ؛ لأن الأربعين منفردةٌ، فجيب فيها شاةٌ، والعشرين مخالطٌ بها بعشرين، فيجبُ فيها نصف شاةٍ، وهذا ضعيفٌ أيضًا؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن تفرقت الأماكنُ به.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في " الأم " [2/17] نظير هذه المسألة، فقال: (إذا ملك الرجل أربعين شاةً ببلدٍ، وله أربعون ببلدٍ أخرى، فلما مضى له ستةُ أشهرٍ.. باع نصف إحدى الأربعين مشاعًا من رجلٍ.. انقطع حوله فيما باعَ، ولم ينقطع فيما لم يبع، فإن لم يقاسمه حتى حال الحول على البائع من يوم ملك غنمه.. وجبت عليه شاةٌ، وإذا حال الحول على المبتاع من حين البيع.. وجب عليه نصف شاةٍ) .
قال المحاملي: والقاضي أبو الطيب: إنما أوجب الشافعي على صاحب الستين شاةً؛ لأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد، على قوله الجديد، وقد كان منفردًا أول الحول، وأما صاحب العشرين على هذا القول: ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ربع شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجب عليه نصف شاةٍ) ؛ لأن شريكه لم يرتفق بشركته، فلم يرتفق هو أيضًا بشركته.(3/220)
وأما على القول القديم، وهو: (أن حول الخلطة يبنى عل حول الانفراد) : فيجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين ربع شاةٍ.
[فرع: مشاركة جماعة في ستين شاة]
إذا كان لرجل ستون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له عشرون شاةً، وحالَ الحولُ على الجميع.. ففيه خمسةُ أوجه.
أحدُها: يجب عليهم شاةٌ، على صاحب الستين نصفها، وعلى كل واحدٍ من خلطائه سدسُها؛ لأن مال الرجل الواحد ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ثم ينضم ذلك إلى خلطائه، فيصير كالمائة والعشرين في مكان واحدٍ، فوجب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الأملاك.
والثاني: يجب على صاحب الستين نصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ، وهو قول ابن الحداد، واختيار القاضي أبي الطيب بن سلمة؛ لأن مال الرجل ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وهو مخالطٌ بجميعه، فانضم مال خلطائه في حقه؛ لكونه مخالطًا لكل واحد منهم، فصارا كما لو خلط بستين شاةً رجلًا له ستون، وكل واحد من خلطائه لم يخالط إلا بعشرين.. فلم يرتفق بغيرها، ولا يرتفق واحدٌ من خلطائه بالآخرين؛ لأنه لا خلطة بينه وبينهما.
والثالث: تجب على صاحب الستين ثلاثةُ أرباع شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ؛ لأن مال صاحب الستين ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ولا يمكن ضمه إلى كل واحدٍ من خلطائه، بل ينضم إلى مال واحدٍ منهم، فيصير كأنه مخالطٌ بستين رجلًا له عشرون، فجيب عليه ثلاثة أرباع شاةٍ، وكل واحدٍ من خلطائه لم يخالطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.
والرابع ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصف شاةٍ؛ لأن كل عشرين من غنمه منقطعة على من لم يخالطه بها، فيجب أن تكون منقطعةً في حقه أيضًا عن الأربعين التي خالط بها الآخرين، فيجبُ في كل أربعين شاةٌ، عليه نصفها.(3/221)
والخامسُ ـ حكاه الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب " المهذب " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ، على قول من قال في الأولى: يغلب زكاةُ الانفراد؛ لأنه لا يمكن ضم ماله مع تفرقه إلى أموال خلطائه، فيجعل كأنه منفردٌ بالستين، فيجب عليه فيها شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ.
وأما ابن الصباغ: فقال: لا يمكن هذا في هذه المسألة؛ لأنه ليس هاهنا مالٌ منفردٌ، فيغلبُ حكمه.
[فرع: خالط غنمه مع اثنين]
فرعٌ: [خالط غنمه معاثنين] :
وإن كان له أربعون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له أربعون شاةً:
فعلى الوجه الأول في الفروع قبل هذا: تجب عليهم شاةٌ، على كل واحدٍ ثلثها.
وعلى قول ابن الحداد: يجب على الذي فرق ماله ثلث شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلثا شاةٍ.
وعلى الوجه الثالث: ينضم ماله بعضه إلى بعض، ثم ينضم إلى أحد خليطيه في حق نفسه، فيجب عليه نصف شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ؛ لأنه لا يرتفق إلا بما خولط به.
وعلى الوجه الرابع ـ الذي قطع مال الرجل بعضه من بعض لافتراقه في الخلطة ـ: يجب عليه ثلثا شاةٍ، في كل عشرين ثلثها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ.
ويأتي على الوجه الخامس الذي حكاه الشيخُ أبو حامد في تغليب الانفراد: يجبُ على كل من فرق ماله شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ.
[فرع: المشاركة بنصف ما يملك]
وإن كان لرجلٍ عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ منها رجلًا له خمس عشرةَ من الإبل، وبالخمس الأخرى رجلًا له خمسةَ عشرَ:(3/222)
فعلى الوجه الأول ـ وهو المنصوص ـ: (يجب في الجميع بنت لبون: على صاحب العشر ربعها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاثة أثمانها) .
وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر ربع بنت لبون، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ.
وعلى قول من قطع الخمس عن الخمس الأخرى، قال: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلاث شياه، وكذلك: على قول من غلب زكاة الانفراد، وهذا ضعيفٌ.
وعلى قول من ضم بعض ماله إلى بعضٍ، وضمه إلى مال أحد خليطيه، قال: يجب على صاحب العشر خمسا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ.
وإن كانت له عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ رجلًا له عشرونَ:
فعلى الوجه الأول: يجب على الجميع حقةٌ: على صاحب العشر خمسها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه خمساها.
وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر خمس حقةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماس ابنة مخاضٍ.
وعلى قول من قطع أحد ماليه عن الآخر: يجب على صاحب العشرة خمسا بنت مخاضٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةً أخماسِ بنت مخاضٍ.(3/223)
وعلى قول من ضم مال الرجل الواحد بعضه إلى بعض، وضمه إلى أحد خليطيه: يجب على صاحب العشر ثلثا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماسِ بنت مخاضٍ.
وعلى قول من غلب زكاة الانفراد: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةُ أخماسِ بنت مخاضٍ.
[مسألة: خلطة الأعيان والأوصاف]
قد ذكرنا: أن الخلطة خلطتان: خلطة أعيان، وخلطة أوصافٍ، وهما سواءٌ في أنه يجب فيهما ما يجب على الواحد.
واختلف قول الشافعي إلى ماذا ينصرف إطلاقُ اسم الخلطة في اللغة وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان يتراجعان بينهما بالسوية» ؟
فقال في القديم: (ينصرف إلى خلطة الأوصاف) .
وقال في الجديد: (ينصرف إلى خلطة الأعيان) .
إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا في أخذ الساعي الزكاة من المال، وفي التراجع.
فإن كانت الخلطة خلطة الأعيان.. أخذ منه، ولا تراجع بينهما إلا في الإبل التي يجب فيها الغنم، فإن الساعي إذا وجد في يد أحدهما خمسًا من الإبل.. أخذ منه شاةً، ويرجع على خليطه.
وإن كانت خلطة أوصافٍ، فإن كان الفرض موجودًا في مال أحدهما دون الآخر، أو كان بينهما أربعون شاةً.. فإن الساعي يأخذ الفرض من مال أحدهما، بلا خلافٍ؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك، وإن أمكنه أن يأخذ زكاة كل واحدٍ منهما من ماله، بأن كان لكل واحدٍ مائة شاةٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الساعي لا يجوز له أن يأخذ من مال أحدهما إلا شاةً؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يأخذ ذلك من مال خليطه.(3/224)
والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يجوز له أن يأخذ الكل من مال أحدهما بكل حالٍ؛ لأنه كالمال الواحد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أشبه بمذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول أقيسُ.
فإذا أخذ الساعي الزكاة من غير زيادةٍ من مالِ أحدهما.. رجع على خليطه من قيمة المأخوذ بقدر ماله من المال الذي وجبت فيه الزكاة عليهما، فإن اتفقا على قيمة المأخوذ.. فلا كلام، وإن اختلفا، فإن كان للمأخوذ منه بينةٌ بقيمة ما أُخذ منه.. عمل بها، وإن لم يكن له بينةٌ.. فالقولُ قول المرجوع عليه مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.
وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الفرض بغير تأويل، بأن أخذ من الأربعين شاتين، أو أخذ شاة ربى، أو ماخضًا، أو فحل الغنم، أو سنًا أكبر من سن الفرض.. يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من قيمة الواجب، لا من الزيادة، مثل: أن يأخذ منه ابنة لبون مكان ابنة مخاضٍ، فإنه يرجع عليه من قيمة ابنة مخاضٍ؛ لأن الساعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه.
وهكذا: لو تطوع أحدهما بتسليم ذلك.. لم يرجع على خليطه إلا من قدر الواجب لا غير؛ لأنه متطوعٌ بالزيادة.
وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الواجب بتأويلٍ، بأن أخذ الكبيرة عن الصغار، أو الصحيحة عن المراض على قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. رجع المأخوذ منه على خليطه من قيمة ما أخذ منه؛ لئلا يؤدي إلى نقض اجتهاد الإمام.
فإن أخذ من أحدهما قيمة الفرض على مذهب أبي حنيفة.. فهل يرجع على خليطه منهما؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأن القيمة لا تجزئ عندنا.
والثاني ـ وهو المنصوص في " الأم ": (أنه يرجع عليه بحصته من القيمة) ؛ لأنه أخذه باجتهاده، فأشبه إذا أخذ الكبيرة عن الصغار.(3/225)
[مسألة: فيما تصح الخلطة فيه]
] : وهل تصح الخلطة فيما عدا الماشية من الأموالِ: كالدراهم، والدنانير، وأموال التجارة، والزروع، والثمار؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تأثير لها في ذلك) . وبه قال مالكٌ.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» . وهذا عامٌ إذا كان لواحدٍ أو لاثنينِ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان ما اجتمعا في الرعي والفحل والحوض» .
فثبت: أن ما لا يوجد فيه ذلك.. لا تؤثر فيه الخلطةُ؛ ولأن الخلطة إنما تصح في جنس المال الذي يرتفق بها رب المال تارةً، ويستضر بها تارةً، وهي الماشية؛ لأنه لو كان بين ثلاثةٍ مائة وعشرون من الغنم، لكل واحدٍ أربعون.. لوجب عليهم شاةٌ وحدةٌ عند الاختلاط، ولو تفرقوا.. لوجب على كل واحدٍ شاةٌ. فهذا وجه ارتفاقهم في الخلطة.
وأما وجه استضرارهم: فلو كان بين رجلين أربعون من الغنم.. لوجب عليهما شاةٌ، ولو تفرقا.. لم يجب عليهما شيءٌ.
وأما الخلطةُ في غير المواشي: ففيها مضرةٌ على أرباب الأموال بكل حالٍ من غير ارتفاقٍ، وذلك أنه: إذا كان مال كل واحدٍ منهما أقل من نصابٍ، ويبلغان بمجموعهما النصاب.. وجبت عليهما الزكاة عند الخلطة، وإذا افترقا.. لم يجب عليهما الزكاةٌ.(3/226)
ولو كان مع كل واحدٍ منهما نصابٌ، فاختلطا.. فلا مضرة عليهما في الخلطة، ولا منفعة، فلذلك لم تصح الخلطةُ في غير الماشية.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح الخلطةُ) . وبه قال أحمدُ، وهو الصحيحُ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمعٍ» . وهذا عام في الماشية، وغيرها.
ولأن المؤن تخف في الخلطة، وذلك لأن في عروض التجارة يكون دكانهما واحدًا، وميزانهما وحمالهما واحدًا، وكيالهما واحدًا.
وكذلك في الزروع والثمار: يكون أكارهما واحدًا، وصعادهما واحدا، وسقاؤهما واحدًا، وما جرى هذا المجرى.. فأثرت الخلطة فيهما، كالمواشي.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول القديم: فإن بلغ مال أحدهما نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. لم يجب عليه الزكاة.
وإن قلنا بالقول الجديد: فلا خلاف بين أصحابنا أن خلطة الأعيان تصح بها، وهل تصح في خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الاختلاط لا يحصل.
والثاني: يصح، وهو الأصح الصحيح؛ لأن ما صح فيه خلطة الأعيان.. صح فيه خلطة الأوصاف، كالمواشي.
والله أعلم وبالله التوفيق(3/227)
[باب زكاة الثمار]
تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] الآية [البقرة: 267] .
والمرادُ بالإنفاق هاهنا: الزكاة؛ لأنه قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .
وإنفاقُ الخبيث ـ وهو الدون ـ في غير الزكاة يجوز، وروى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الكرم: «يخرص كما يخرص النخل، فتؤدى زكاته زبيبًا، كما تؤدى زكاة النخل تمرًا» . وإنما جعل النخل أصلًا، ورد إليه الكرم؛ لأنه قد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح خيبر في سنة ستٍّ، وكان بها نخلٌ، و «كان يوجه عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرصها عليهم» . وكان خرص النخل عندهم مستفيضًا، ثم فتح الطائف(3/228)
وهوازن سنة ثمانٍ، وكان بها كرمٌ، فأمرهم بخرصها، كما يخرص النخل.
[مسألة: وجوب الزكاة في بعض الثمار]
ولا تجب الزكاة في التفاح، والسفرجل، والمشمش، والرمان، والتين، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والبقول، وطلع الفحال، وما أشبهها مما لا يقتات.
وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض، فيجب في جميع ما تنبته الأرض إلا الحطبَ، والحشيشَ، والقصب الفارسي) .
دليلنا: ما روى معاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الخضراوات صدقةٌ» . ولأنه لا يقتات في حال الاختيار.. فلم يجب فيه زكاةٌ، كالحطب، والحشيش.
وهل تجب الزكاة في الزيتون؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) . وبه قال مالكٌ، والزهري،(3/229)
والثوري، والأوزاعي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 99] [الأنعام: 99] .
ثم قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] .
وقد روي ذلك عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فإذا قلنا بهذا: لم تجب فيه الزكاة، حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، ولا يدخله الخرص؛ لأنه مختلطٌ بورقه، فإن كان من الزيتون الذي لا يجيء منه الزيت، وإنما يؤكل أدمًا، كالبغدادي، فإنه إذا بدا في الصلاح.. أخرج عشره زيتونًا.
وإن كان يجيءُ منه الزيت، كالشامي.. قال الشافعي رحمة الله عليه في القديم: (إن أخرج زيتونًا.. جاز؛ لأنه حالة الادخار له، وأحب أن يخرج عشره زيتًا؛ لأنه نهاية ادخاره) . وحكى ابن المرزبان في جواز إخراج الزيتون وجهين. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلطٌ.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنها ثمرةٌ لا تقتات في حال الاختيار، فأشبهت التين.
وهل تجب الزكاة في الورس؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب) ؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى بني حفاشٍ بذلك) .(3/230)
فعلى هذا: تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لأنه لا يوسقُ.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب الزكاة) ؛ لأنه لا يقتات في حال الادخار.
فإذا قلنا بهذا: فلا زكاة في الزعفران.
وإن قلنا بالأول: ففي الزعفران قولان:
أحدهما: تجب فيه الزكاة؛ لأنه طيب كالورس.
والثاني: لا زكاة فيه؛ لأنه نبتٌ لا ساق له، والورس له ساقٌ.
وهل تجب الزكاة في العسل؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: «أن قومًا أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشور نحلهم، وحمى لهم واديًا» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذًا إلى اليمن.. قال: «لا تأخذ العشر إلا من أربعة: من الشعير، والحنطة، والعنب، والنخل» .
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا زكاة في العسل) . ولا مخالف له.
وهل تجب الزكاة في القرطم، وهو حب العصفر؟ فيه قولان:(3/231)
[الأول] : قال في القديم: (تجب) . وروي ذلك عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فعلى هذا: لا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ خمسةَ أوسقٍ، كسائر الحبوب.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه ليس بمقتاتٍ، فأشبه السمسم) .
[مسألة: نصاب الثمار]
ولا تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم، حتى يبلغ يابسه خمسة أوسق، وبه قال جابرٌ، وابن عمر، ومن الفقهاء: مالكٌ، والأوزاعيٌ، والليث، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وأحمدُ رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل قليلٍ وكثيرٍ، ولو كانت حبةً واحدةً.. ـ وجب عشرها) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» .
وروى جابرٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في نخلٍ ولا كرمٍ حتى تبلغ خمسة أوسقٍ» .
إذا ثبت هذا: فالوسقُ: ستون صاعًا، فذلك ثلاثمائة صاعٍ، والصاعُ: أربعة أمداد، والمد: رطلٌ وثلثٌ، فذلك ألف وستمائة رطلٍ بالبغدادي، وهو ثمانمائة منٍّ؛ لما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في شيءٍ من(3/232)
الحرث حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، والوسق: ستون صاعًا» . وهل ذلك تحديدٌ، أو تقريبٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه تقريبٌ، فلو نقص منه خمسة أرطالٍ.. لم يؤثر؛ لأن الوسق: حمل بعيرٍ، وذلك يزيد وينقص.
والثاني: أنه تحديدٌ. قال المحاملي: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والوسق: ستون صاعًا» . فعلم أنه تحديدٌ.
فعلى هذا: لو نقص منه شيءٌ قل أو كثر.. لم تجب الزكاةُ.
[فرع: زكاة الثمار التي لا تجفف]
وإن كان له رطبٌ لم يجئ فيه تمرٌ، أو عنبٌ لم يجئ منه زبيبٌ.. وجبت فيه الزكاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .
وكيف يعتبر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بنفسه، فإن كان يبلغ يابسه خمسة أوسقٍ.. وجبت فيه الزكاة، وإن كان لا يبلغ.. لم تجب فيه؛ لأن الزكاة تجب فيه، فاعتبر بنفسه.
والثاني: يعتبر بغيره، فيقال: لو كان بدل هذه التمرة مما يجفف في العادة.. هل كان يبلغ النصاب؟ فإن كان يبلغ النصاب.. وجبت فيه، وإلا.. فلا تجب؛ لأنه لما لم يمكن أن يعتبر بنفسه.. اعتبر بغيره، كالجناية على الحر التي لا أرش لها مقدرٌ.(3/233)
قال ابن الصباغ: فعلى هذا: ينبغي أن يعتبر بأقرب الأرطاب إليه مما يجفف.
فإن قيل: فقد قلتم لا يجيء منه تمرٌ ولا زبيبٌ، ثم قلتم: يعتبر بنفسه؟
فالجواب: أنه ما من رطبٍ إلا ويجيءُ منه تمرٌ، وما من عنبٍ إلا ويجيء منه زبيبٌ، وإنما منه ما لا يقصد إلى تجفيفه؛ لقلة ما يأتي منه.
[مسألة: أنواع التمر]
قال الشافعي: (وثمرُ النخل تختلف، فتثمر النخل، وتجد بتهامة، وهو بنجدٍ بسرٌ وبلحٌ، فيضم بعض ذلك إلى بعض؛ لأنها ثمرة عامٍ وإن كان بينهما الشهر والشهران. وإذا أثمرت في عامٍ قابلٍ.. لم يضمَّ) .
وجملةُ ذلك: أن إدراك الثمرة يختلف باختلاف البلاد، فتسرع في البلاد الحارة، وتتأخر في البلاد الباردة.
فإن كان له نخيلٌ بتهامة ـ وهي مكة وحواليها ـ ونخيلٌ بنجٍد ـ وهي من ذات عرق إلى حرر المدينة ـ ففيها أربع مسائل:
إحداهن: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدركا في وقتٍ واحدٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ.
الثانية: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدرك شيءٌ بعد شيءٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ أيضًا؛ لما ذكرناه.
الثالثة: أن تطلع التهامية ويبدو صلاحها، ثم تطلع النجدية، فالبغداديون من(3/234)
أصحابنا قالوا: يضم بعضها إلى بعضٍ؛ لأنها ثمرة عامٍ واحدٍ، وهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان بينهما الشهر والشهران) .
وحكاها صاحب " الإبانة " [ق\ 136] على وجهين:
أحدهما: هذا، وهو الصحيح. والثاني: لا يضم إليها؛ لأن الزكاة قد وجبت في الأولى قبل حدوث الثانية.
الرابعة: أن تطلع التهامية ويبدو فيها الصلاح وتقطع، ثم تطلع النجدية، فاختلف أصحابنا البغداديون والخراسانيون.
فقال البغداديون: تضم النجدية إلى التهامية؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة أن إدراك الثمار لا تتفق في حالةٍ واحدةٍ ووقتٍ واحدٍ.
وقال الخراسانيون: لا تضم.
[فرع: ضم الثمر بعضه إلى بعض]
فإن أطلعت التهامية وبدا فيها الصلاح فجدت، ثم أطلعت النجدية، إما قبل جداد التهامية، أو بعده.. فقد ذكرنا أن التمرتين يضم بعضهما إلى بعضٍ.
فإن أطلعت التهامية مرة ثانيةً قبل أن تجد النجدية.. لم يضم هذه الثمرة الثانية في التهامية إلى ثمرتها الأولى ولا إلى النجدية؛ لأن هذه ثمرة عامٍ آخر، وإنما تقدمت لشدة حر البلد.
[مسألة: العشر فيما سقي بلا كلفة]
ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنةٍ ثقيلةٍ، كماء السماء، والسيح، والبعل: وهو العثري، وهو الشجر الذي يشرب الماء بعروقه من ندى الأرض، وكذلك(3/235)
ما يشرب من الماء الذي يجري إليه من نهرٍ، وإن كثرت المؤنة بجره؛ لأن ذلك ليس بمؤنةٍ للزروع، وإنما هو لإصلاح شرب الأرض فيجري مجرى إحياء الموات.
فأما ما سقي بمؤنةٍ ثقيلة، كالنواضح، والدواليب، والغروب.. ففيه نصف العشر.
والدليل عليه: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما سقته السماءُ والأنهار.. ففيه العشر، وما سقي بالسواني.. ففيه نصف العشر» .
ولأن لخفةِ المؤنة تأثيرًا في الزكاة، ولهذا وجبت الزكاة في السائمة لخفة مؤنتها، ولم تجب في المعلوفة لثقل مؤنتها.
وإن سقي نصفه بالسيح، ونصفه بالناضح.. وجب فيه ثلاثة أرباع العشر اعتبارًا بالسقيين.
قال الشيخ أبو حامد: والاعتبار بما يعيش به الشجر، فإن عاش بالسيح ثلاثة أشهرٍ، وبالناضح ثلاثة أشهرٍ.. فهما نصفان، وإن سقي بأحدهما أكثر.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتبر قدرهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهو القياس؛ لأنه لو سقي بهما نصفين.. لقسطت الزكاة عليهما، فكذلك إذا تفاضلا.
والثاني: يعتبر الغالب، فإن كان الغالب السيح.. أخذ منه العشر، وإن كان(3/236)
الغالب الناضح.. أخذ منه نصف العشر؛ لأن للغلبة تأثيرًا في الأصول، ولهذا إذا اجتمع الماء والمائع الطاهر.. كان الحكم للغالب.
وفي كيفية اعتبار الغالب وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 137] :
أحدهما ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: أن الاعتبار بالزمان الذي يعيش فيه الشجر، لا بعدد السقيات؛ لأنه قد يعيش بالسقية الواحدة ما لا يعيش بالسقيات.
والثاني: أن الاعتبار بعدد السقيات، وإليه أومأ الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، حيث قال: يقسط على عدد السقيات.
وإن سقي بهما، وجهل قدر كل واحدٍ منهما.. قال أبو العباس: جعلا نصفين، ووجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فجعل نصفين. فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالناضح.. ضم إلى الآخر في إكمال النصاب، وأخرج من المسقي بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر.
قال في " الإبانة " [ق\138] : إذا كان يسقى بالسيح، فانقطع، واحتيج إلى سقيه بالناضح، فسقي به.. فهل يثبت له حكم ما سقي بالسيح والناضح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له؛ لوجوده.
والثاني: لا يثبت له؛ لأنه كان يسقى بالسيح، والحاجة إلى الناضح نادرةٌ، فلم يثبت حكمه.
قال: وهما كالوجهين فيمن علف السائمة ساعةً، ثم أعادها، وكالوجهين في الخليطين إذا ميزا المالين ساعةً لا غير، ثم خلطاه.
وإن اختلف الساعي ورب المال فيما يُسقى به، أو في قدره.. فالقول قول رب المال مع يمينه، واليمين ـ هاهنا ـ مستحبةٌ؛ لأن دعوى رب المال لا تخالف الظاهر.
فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالنواضح.. ضم أحدهما(3/237)
إلى الآخر، لإكمال النصاب، وأخرج من الذي يسقى بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر، وإن زادت الثمرة على خمسة أوسقٍ.. وجب فيما زاد بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضررٍ، فأشبه الأثمان.
[مسألة: لا تجب الزكاة إلا ببدو الصلاح]
ولا تجب الزكاة في الثمار حتى يبدو الصلاح فيها، وبدوّ الصلاح في النخل: إذا احمر ما يحمر من ثمرتها، أو اصفر ما يصفر منها.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وذلك حالة كونها بسرًا؛ لأنها تسلم من الآفة والعاهة، مثل البر.
وإن كان عنبًا أسود.. فحتى يسود، وإن كان أبيض.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فحتى يتموه) .
فمن أصحابنا من قال.. معنى قوله: (يتموه) : يدور فيه ماء الحلاوة، والتموه: مأخوذٌ من الماء.
ومنهم من قال: معنى قوله: (يتموه) : تبدو فيه الصفرة؛ لأن الشيء إذا بدا اصفراره.. سمي: متموها، ولهذا يقال: موهت الفضة: إذا صفرت بالذهب.
[مسألة: نقص نصاب الزكاة قبل الوجوب]
] : فإذا ملك نصابًا تجب فيه الزكاة من الماشية، أو الدراهم، أو الدنانير، أو الثمار، فنقص نصابها قبل وجوب الزكاة، فإن كان لعذرٍ بأن قضى دينه، أو خفف عن نخله خوفًا عليها.. فإن ذلك ليس بمكروهٍ، ولا تجب عليه الزكاة.
وإن قصد بذلك الفرار من الزكاة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: كره ذلك ولم يحرم.(3/238)
وإذا حال عليه الحول.. فلا زكاة فيه، وقال مالك، وأحمدٌ: (إذا حال عليها الحول.. وجبت عليه الزكاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
وهذا لم يحل عليه الحول، فلا زكاة فيه، فلم يمنع من بيعه.
[مسألة: بدو صلاح الثمرة في ملكه]
إذا ملك الرجل ثمرة لم يبد فيها الصلاح، من غير شرط القطع، ثم بدا فيها الصلاح، وهي في ملكه.. وجبت عليه الزكاة، وذلك بأن يشتري النخل والثمرة، أو يوصى له بالثمرة، أو كانت النخلة له دون الثمرة، فاشترى الثمرة من مالكها من غير شرط القطع في أحد الوجهين، ثم بدا الصلاح بالثمرة، وهي في ملك الثاني.. وجبت عليه الزكاة؛ لأنه جاء وقت الوجوب وهي في ملكه.
وأما إذا اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح فيها بشرط القطع.. صح البيع، فإن قطعها المشتري قبل بدو الصلاح فيها.. فلا كلام، وإن لم يقطعها المشتري حتى بدا الصلاح فيها.. فقد وجبت فيها الزكاة.
فإن اتفقا على قطعها، فإن كان المشتري قد خرصت عليه الثمرة، وضمن نصيب المساكين.. قطعت، وإن لم يخرص عليه.. لم يجز قطعها؛ لأن في ذلك إتلاف حق المساكين، فينفسخ البيع، وترد الثمرة إلى البائع، وتجب عليه الزكاة.
فإن قيل: كيف توجبون الزكاة عليه، وبدو الصلاح كان في ملك المشتري؟(3/239)
قلنا: لأن وجوب القطع كان مستفادًا بالشرط، وإنما تعذر لبدو الصلاح، فصار الفسخ مستفادًا بالشرط، فاستند إلى حال العقد، فكأن العقد ارتفع من أصله لا من وقت الفسخ.
وإن اتفقا على تبقية الثمرة على النخل إلى وقت الجداد، فالمشهور من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ذلك جائزٌ، ولا يفسخ البيع، وتجب الزكاة على المشتري؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وحكى أبو إسحاق قولًا آخر: أن البيع ينفسخ؛ لأنهما لو اتفقا على التبقية حال العقد.. لبطل البيع، فكذلك إذا وجد هذا الشرط المبطل بعد ذلك، قال: وهذا غلطٌ؛ لأن الشرط المبطل إنما يؤثر إذا قارن العقد، ألا ترى أنه لو اشترى عينًا إلى أجل مجهول.. لم يصح، ولو اشتراها إلى أجل معلوم، ثم بعد لزوم البيع اتفقا على أجلٍ مجهولٍ.. لم يؤثر في العقد فكذلك هاهنا.
وإن طلب البائع قطع الثمرة لتخلية نخله، وطلب المشتري تبقيتها إلى الجداد.. فذكر الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: أن البيع ينفسخ، وترجع الثمرة إلى البائع، فتجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على هذه التبقية؛ لأن البيع وقع بهذا الشرط، ولا يمكن القطع؛ لأن في ذلك إضرارًا بالمساكين، فلم يبق إلا الفسخ.
وحكى في " الإبانة " [ق\140] قولين:
أحدهما: ينفسخ البيع؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا ينفسخ، ويجبر المشتري على القطع، ويؤخذ منه عشر ثمرته مقطوعًا. وهذا ليس بشيءٍ.
وإن رضي البائع بترك الثمرة إلى أوان الجداد، وطلب المشتري قطعها.. فحكى الشيخ أبو حامدٍ فيه قولين:
أحدهما: يجبر المشتري على التبقية، وهو الصحيح؛ لأن البائع زاده خيرًا، فهو كما لو أسلم إليه طعامًا على صفةٍ، فسلم إليه طعامًا أعلى منه صفةً.(3/240)
قال في " الإبانة " [ق\140] : على هذا: فإن رجع البائع عن الرضا بترك الثمرة.. كان له ذلك؛ لأن رضاه بترك الثمرة إعارةٌ منه للنخل، وللمعير أن يرجع في العارية.
والقول الثاني: أن المشتري لا يجبر على التبقية، بل يفسخ العقد؛ لأنه يقول: إنما دخلت في العقد على أن تحصل لي الثمرة في الحال، ولا آمن التلف إذا تركتها.
[فرع: البيع للذمي قبل بدو الصلاح]
ذكر ابنُ الحداد: إذا باع المسلم نخلًا مثمرًا لم يبد صلحه من ذميٍّ، فبدا صلاحه.. فلا زكاة على واحدٍ منها. فإن وجد الذمي به عيبًا ـ بعد بدو الصلاح ـ فرده بالعيب.. لم تجب الزكاة على البائع؛ لأن وقت الوجوب هو في ملك الذمي، وليس هو من أهل الزكاة.
وإن باعه الذمي من مسلم، فبدا الصلاح فيه في ملك المسلم.. فالزكاة على المسلم، فلو رده بعيبٍ.. لم تسقط عنه الزكاة.
[مسألة: قطع الثمرة قبل بدو الصلاح]
إذا قطع رب المال الثمرة قبل بدو صلاحها.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن ذلك قبل الوجوب.
وهل يكره؟ ينظر فيه:
فإن كان ذلك لعذرٍ، مثل: أن قطعها ليأكلها، أو ليبيعها، أو ليخفف عن نخله.. لم يكره.. وإن قطعها للفرار من وجوب الزكاة، وكانت تبلغ نصابًا لو بقيت.. كره له ذلك، ولم يحرم.. وقد مضى خلاف مالكٍ، وأحمد فيها.
[مسألة: خشي على الثمار التلف]
وإن بدا الصلاح في الثمرة، وأصابها عطشٌ، وخاف أن تشرب الثمرة ماء النخلة، فتتلف النخلة، وكان قبل أوان جدادها.. جاز للمالك أن يقطع من الثمرة.. ما تدعو(3/241)
الحاجة إليه في ذلك.. فإن كان الضر يزول بقطع الثمرة.. قطع البعض منها. وإن كان الضرر لا يزول إلا بقطع جميع الثمرة.. قطع جميعها؛ لأن في ذلك حظًا لرب المال يحفظ أصل نخله، وللمساكين في مستقبل الأحوال.
ولا يقطع إلا بمحضر الساعي؛ لأنه نائبٌ عن المساكين، فإذا حضر الساعي قبل القطع، فإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. فإن الخارص يخرص ما في كل نخله من الرطب، ويفرد حق المساكين في نخلاتٍ بعينها، ويسلمها رب المال إلى الساعي، فإن رأى الساعي الحظ في بيعها وقسمة ثمنها.. فعل، وإن رأى الحظ في قسمتها رطبًا.. قطعها، وقسمها عليهم.
وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ.. لم يجز قسمتها على رؤوس النخل، فيسلم رب المال عشر الثمرة مشاعًا إلى الساعي.
فإن رأى الساعي بيعها وتفرقة ثمنها.. باع عشرها مشاعًا، وفرق الثمن.
وإن رأى قسمتها.. سلمها الساعي مشاعًا إلى المساكين.
وإن قطعا الثمرة من النخل.. فهل تصح المقاسمة بالثمرة على هذا القول؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره ـ: أن ذلك يصح بالكيل أو الوزن؛ لأن ذلك استيفاءٌ للزكاة لا معاوضةٌ، ألا ترى أن رب المال لو سلم أكثر مما وجب عليه.. صح.
والوجه الثاني ـ وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ ـ: أنه لا يصح، كما لا يجوز على رؤوس النخل، على هذا القول، فإن قطع رب المال الثمرة ـ عند خوف العطش ـ من غير إذن الإمام أو الساعي.. فقد أساء، ويعزر إن كان عالمًا.
وما الذي يؤخذ منه؟ روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " [1، \ 228] : (أنه يؤخذ من ثمن عشرها، أو عشرها مقطوعة) . وظاهر هذا: أنه مخير.(3/242)
وقال في " الأم " [2/28] : (يأخذ عشرها مقطوعة إن كانت باقية، أو ثمن عشرها إن كان قد استهلكها) . وأراد بالثمن: القيمة.
ولما نقله المزني تأويلان:
أحدهما: أنه أراد ما فسره في " الأم ".
والثاني: أنه أراد: أنه يفعل ما رأى فيه الحظ من أخذ عشرها أو ثمن عشرها.
[مسألة: الخرص بعد بدو الصلاح]
وإذا بدا الصلاح في ثمرة النخل والكرم، فإن الإمام يبعث من يخرصها، ويستفاد بالخرص جواز التضمين على رب المال.
وهل الخرص واجبٌ، أو مستحبٌ؟ قال الصيمري: فيه وجهان:
أحدهما: أنه واجب.
والثاني: أنه مستحب، وهو المشهور.
وقيل: مستحبٌ فيما يدلى، ويجب فيما لم يدل، كنخل الحجاز.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الخرص، ولا يستفاد به جواز التضمين، وإنما يستفاد بالخرص؛ لئلا يتلفها رب المال أو ينقصها) .
دليلنا: ما روى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر في الكرم أن تخرص كما تخرص النخل» . وروي عن أبي بكر، وعمر: (أنهما أمرا بالخرص) .
واختلف أصحابنا في عدد من يخرص.
فمنهم من قال: فيه قولان.(3/243)
أحدهما: لا يجوز أقل من خارصين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه غيره للخرص على أهل خيبر» ، ولأنهما كالمقومين.
والثاني: يجوز أن يكون واحدًا، وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصًا، وكان يخير اليهود، فيقول: إن شئتم.. فلكم، وإن شئتم.. فعلي» ، ولأنه بمنزلة الحاكم.
وحكى الصيمري قولًا ثالثًا ليس بمشهورٍ: إن كان الخرص على صبيٍّ، أو مجنونٍ، أو غائبٍ، فلا بد من اثنين، وإن كان على غيرهم.. جاز خارصٌ واحدٌ.
وقال أبو العباس، وأبو سعيد الاصطخري: يجوز خارصٌ واحدٌ، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وهل يجوز أن يكون الخارص امرأةً؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكيفية الخرص: أن يأتي الخارص النخلة، فيطوف بها، ويرى ما فيها من الأعذاق، ويحزر ما عليها من الرطب، وما يجيء من ذلك من الثمر، ثم يجمل جميع ذلك.
وقال أبو العباس: وقد يجوز أن يعرف ما في كل نخلةٍ من الرطب، ثم يجمل(3/244)
رطب جميع النخل، ثم يعرف ما يجيء من ذلك من التمر.
قال أصحابنا: ويصح ما قال أبو العباس، إذا كانت نوعًا واحدًا، إما برنيًا، وإما معقليًا، أو غيرهما، فأما إذا كانت النخل أنواعًا: فلا يصح؛ لأن من الرطب ما يكون كثير الماء قليل اللحم والشحم، فإذا جف.. كان تمره قليلًا، كالسكر والهلياث، ومنها ما يكون قليل الماء كثير اللحم والشحم، فإذا جف.. كان ثمره أكثر، كالبرني والمعقلي.. فلم يصح إلا بأن يحزر رطب كل نخلةٍ وما يجيء منه تمرٌ، فإذا خرصت الثمارُ، وعرف الساعي مبلغ حق المساكين منها.. فإن الثمرة تقر في يد رب المال؛ لأنه أمينٌ عليها، ولأن مؤنة تجفيفها عليه، فأقرت في يده.
فإن ضمن رب المال حق المساكين.. جاز؛ لحديث عبد الله بن رواحة: «أنه كان يضمن أهل خيبر» ويستفيد بهذا الضمان جواز التصرف فيها: بالأكل، والبيع والهبة، وغير ذلك.
قال الشيخُ أبو حامدٍ: ولكن لا يلزم عليه الضمان إلا بعد التصرف؛ لأن ما لا يضمن بالغصب والتسليم.. لم يضمن بالشرط، وإنما يضمن بالإتلاف كالوديعة. فإذا أتلفها أو باعها.. لزمه حق المساكين تمرًا مما خرص عليه، فيستفاد بالخرص التضمين، وبالتضمين التصرف، وبالتصرف لزوم الضمان.
فإن لم يخير رب المال أن يضمن.. لم يجبر على ذلك، وتقر الثمرة في يده، ولا يجوز له التصرف في الثمرة بشيء من وجوه التصرفات؛ لأن المال إما أن يكون مرهونًا بالزكاة، والتصرف بالرهن لا يجوز بغير إذن المرتهن، أو يستحق الفقراء جزءًا من المال، فيصير كالمال المشترك، ولا يجوز لأحد الشريكين التصرف بشيءٍ منه.(3/245)
فإذا جفت الثمرة.. أخذ الساعي حق المساكين بالغًا ما بلغ، وكان الباقي لرب المال، وإن تصرف رب المال هاهنا بشيء من الثمرة بأكلٍ أو بيعٍ.. لزمه زكاة ما أتلفه تمرًا بالخرص، فتكون فائدة الخرص في هذه الحالة لزوم الزكاة فيما يتلفه رب المال.
ولو لم تكن خرصت الثمرة، فأتلفها رب المال، أو بعضها.. لزمه زكاة ما أتلفه، وعزر إن كان عالمًا، وإن كان جاهلًا.. لم يعزر، والقول قوله في قدر ما أتلفه.
وما الذي يلزمه دفعه؟
قال الشافعي: (عليه عشرها رطبًا) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: يلزمه قيمة عشرها رطبًا؛ لأن الرطب لا مثل له.
ومنهم من قال: يضمن عشرها رطبًا، كما لو كان له أربعون شاةً، فأتلفها بعد وجوب الزكاة.. لزمه شاةٌ.
وتأول كلام الشافعي: إذا أفرد نصيب المساكين، واستقر ملكهم عليه. هكذا ذكره ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي في " المجموع ": يلزمه ـ في هذه المسألة ـ زكاة ما أتلفه تمرًا، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وذكر صاحب " الإبانة " [ق\140] : لو أتلف رب المال الثمرة بعد الخرص.. فماذا يجب عليه؟ فيه قولان، بناءً على أن الخرص: عبرةٌ، أو تضمينٌ:
فإن قلنا: إنه تضمينٌ.. وجب عليه عشر ما خرص تمرًا؛ لأن الزكاة قد لزمت في ذمته.
وإن قلنا.. عبرةٌ.. فعليه قيمة عشر الثمرة يوم أتلفها.
فإذا كانت الثمرة رطبًا لا يجيء منه تمرٌ، فأتلفها بعد الخرص.. وجب عليه قيمة عشره رطبًا، على القولين؛ لأنه ليس لهذه الثمرة حالة جفافٍ.(3/246)
وإن أتلفها رب المال بعد بدو الصلاح، وقبل الخرص، فإن قلنا: الخرص عبرةٌ.. وجب عليه قيمة عشرها يوم أتلفها. وإن قلنا: إنه تضمينٌ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه قيمة عشرها رطبًا يوم التلف؛ لأن الخرص إنما يكون له حكمٌ إذا وجد، فأما قبله.. فلا حكم له.
والثاني: يجب عليه عشره تمرًا؛ لأنه قد أمكنه تركها إلى أن تصير تمرًا.
قال صاحب " الإبانة " [ق\140] : وهل له أكل جميع الثمرة بعد الخرص؟ وأراد قبل أن يضمن:
إن قلنا: الخرص تضمينٌ.. فله ذلك، والعشر في ذمته.
وإن قلنا: إنه عبرةٌ.. فليس له أكل القدر الذي هو حق المساكين.
إذا ثبت ما ذكرناه: فقد روى سهل بن أبي حثمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرصتم.. فاتركوا لهم الثلث، فإن لم تتركوا لهم الثلث.. فاتركوا لهم الربع» .
ولهذا تأويلان:
أحدهما ـ وهو تأويل الشافعي ـ: (أنه أراد: إذا خرصت الثمرة، وأقرت أمانةً في يد رب المال، أو ضمنها، ثم جاء الساعي ليأخذ الزكاة.. فيستحب له أن يترك له ثلث(3/247)
الزكاة، أو ربعها في يد رب المال؛ ليفرقها على جيرانه؛ لأنهم يتوقعون ذلك منه) .
والتأويل الثاني: أن الثمرة إذا خرصت ولم يختر رب المال أن يضمن حق المساكين، وأمسكها أمانة في يده.. فقد قلنا: لا يجوز له أن يتصرف في شيء منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوا لهم الثلث أو الربع» . ليتصرفوا فيه بالأكل والبيع وغيرهما، فإذا جاء وقت أخذ الزكاة.. أخذ منه زكاة ما تصرف فيه بالخرص.
[فرع: ادعاء تلف الثمرة بعد الخرص]
فإذا ادعى رب المال تلف جميع الثمرة بعد الخرص، فإن ادعى تلفها بأمرٍ ظاهر، كالبرد، والجراد، أو عطش عظيم.. لم يقبل قوله، حتى يقيم البينة على وجود ذلك؛ لأن ذلك مما يمكن إقامة البينة عليه.
فإن اتهمه الساعي أنها لم تتلف بذلك، ولم تشهد البينة أنها تلفت بذلك.. حلف رب المال.
وإن ادعى رب المال أنها تلفت بأمرٍ خفي، مثل: أن قال: سرقت.. لم يطالب بإقامة البينة على ذلك؛ لأن البينة قد تتعذر هاهنا، بل يحلف رب المال.
وهل اليمين في الموضوعين واجبةٌ، أو مستحبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها واجبةٌ، فإن لم يحلف.. أخذت منه الزكاة، لا بالنكول، ولكن بالوجوب المتقدم.
والثاني: أنها مستحبةٌ، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه.
وإن ادعى رب المال أنه تلف بعض الثمرة.. فالحكم في التالف كالحكم فيه إذا ادعى تلف الجميع، فإذا حلف.. لم تجب عليه زكاة التالف، وأما الباقي: فإن كان نصابًا أو أكثر.. أخرج زكاته، وإن كان أقل من نصابٍ، فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه فيه. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. أخرج زكاة الباقي.
وإن قال: أكلت بعضًا، وتلف بعضٌ، وبقي بعضٌ.. فالحكم في التالف على(3/248)
ما مضى، ويضم ما بقي إلى ما أكل، فإن بلغ نصابًا، زكى الجميع، وإن لم يبلغ نصابًا.. فعلى القولين في إمكان الآداء.
[فرع: الثمرة تخرص وتقر بيد صاحب المال]
وإن خرصت الثمرة، وأقرت في يد رب المال: إما أمانة أو ضمانًا، وادعى أنه أحصى مكيلتها، وأن الخارص أخطأ في خرصه، فإن ادعى أنه أخطأ في خرصه فيما يجوز لمثله الخطأ، بأن قال: خرص علي عشرة أوسقٍ، فنقص وسقٌ، أو وسقٌ ونصفٌ، وما أشبه ذلك.. فالقول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الخرص حزرٌ وتخمينٌ، ويجوز الخطأ في مثل ذلك، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ذلك، وإن نكل.. فعلى الوجهين.
فإن ادعى أن الخارص أخطأ في النصف أو الثلث.. لم يقبل؛ لأنه لا يخطئ مثل ذلك في العادة.
قال الشيخ أبو حامدٍ: ويقال له: إن شئت أن تدعي دعوى ـ تقبل منك.. فافعل.
وإن ادعى غلطًا يسيرًا، يجري بين الكيلين.. فهل يحط عنه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\141] :
أحدهما: يحط عنه؛ لأن ما ادعاه محتملٌ.
والثاني: لا يحط؛ لأنه ذلك يجري بين الكيلين، ولعله لو كاله مرة أخرى، لوفى.
قال أبو العباس: فأما إذا قال: وجدت الثمرة خمسة أوسقٍ.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه لم يكذب الخارص، ويجوز أن تكون الثمرة قد سرقت، فقبل.(3/249)
[فرع: ادعاء سرقة الثمار]
قال الشافعي: (فإن قال: سرق بعد ما صيرته إلى الجرين، فإن كان بعد ما يبس، وأمكنه أن يؤدي الزكاة إلى الوالي أو إلى أهل السهمان.. فقد ضمن ما أمكنه، ففرط، وإن لم يمكنه.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط) .
[مسألة: يؤخذ الأوسط من الثمار]
قال الشافعي: (ويترك لصاحب الحائط أجود الثمار من الكبيس، والبردي، ولا يؤخذ الجعرور، ولا مصران الفأرة، ولا عذقٌ من حبيق، ويؤخذ وسطٌ من الثمر، إلا أن تكون الثمرة كلها برديًا، فيؤخذ منه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان له نخيلٌ، فإذا كان نوعًا واحدًا.. فإنه تؤخذ منه الزكاة، وإن كان أنواعًا، فإن كان أربعة أنواع، أو خمسةً.. أخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه لا يشق. أو كان أنواعًا كثيرة.. ففيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها في " الإفصاح ":
أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يؤخذ من الجيد، وهو الكبيس والبردي، ولا من الرديء، وهو مصران الفأرة وعذقٌ من حبيقٍ، ولكن يؤخذ من الجعرور وهو أوسطها؛ لأن الأخذ من كل نوع يشق، فعدل إلى الوسط.
والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه أعدل.
والثالث: يؤخذ من الغالب منها؛ لأنه يشق الأخذ من كل نوعٍ، فأخذ من(3/250)
الغالب، وهو الأكثر، ولا يؤخذ إلا التمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكرم: «تؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا» .
فإن أخذ الساعي الرطب.. وجب رده إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب رد قيمته؛ لأنه لا مثل له.
والثاني: يجب رد مثله، وليس بشيء.
وإن كانت النخل لا يأتي منها تمرٌ، أو كرمٌ لا يأتي منه زبيبٌ.. أخذ زكاته رطبًا وعنبًا، والكلام فيه كالنخل إذا خاف عليها العطش، وقد مضى ذكره.
[مسألة: مات مدين والثمرة لم يبدو صلاحها]
إذا مات رجلٌ، وخلف نخلًا، وعليها ثمرةٌ لم يبد صلاحها، وعليه دينٌ يستغرق التركة، فبدا صلاحها قبل بيعها في الدين.. فإن الزكاة تجب فيها على الورثة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إليهم، على مذهب الشافعي، فإن كان لهم مالٌ غير ذلك.. أخرجوا الزكاة منه؛ لأن الوجوب حصل في ملكهم.
وإن لم يكن لهم مالٌ غير الثمرة، فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنةٌ بها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ ولم يذكر القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أن الدين أولى؛ لأنهما قد استويا، والدين أسبق، فقدم.
والثاني ـ ذكره ابن الصباغ ـ: أنهما سواءٌ، فإذا استوى حق الله وحق الآدميِّ.. فأيهما أولى بالتقديم؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: حق الله تعالى أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فدين الله أحق أن يقضى» .(3/251)
والثاني: حق الآدميِّ أولى؛ لأنه مبنيٌّ على الشح.
والثالث: يقسط المال عليهما.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين.. وجب تقديم الزكاة، ثم يصرف ما بقي من التركة في الدين، ويجب على الورثة أن يغرموا قدر الزكاة للغرماء إذا أيسروا؛ لأنها وجبت عليهم. هذا إذا قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.
فأما إذا قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجب الزكاة ـ هاهنا ـ على الورثة؛ لأن الدين لا يجب على الورثة، وإنما يجب على الميت، والزكاة تجب على الورثة دون الميت.
والثاني: لا يجب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ضعف ملك الورثة على الثمرة موجودٌ ـ هاهنا ـ وإن كان الدين على الميت؛ لأنهم يجبرون على بيعها لحق الغرماء.
وإن مات رجلٌ وخلف نخلًا لا ثمرة عليها، وعليه دينٌ يستغرق قيمتها، ثم أثمرت في يد الورثة، وبدا صلاحها.. فإن الثمرة للورثة، وتجب عليهم الزكاة، ولا يتعلق الدين بها على المذهب، وقال الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة.
فعلى هذا: تحدث الثمرة هاهنا على ملك الميت، ويتعلق بها حق الغرماء. وهذا ليس بشيء.
[مسألة: ورثوا نخلًا جاز بيعها]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن ورثوا نخلًا، فاقتسموا بعدما حل بيع ثمرتها، وكان في جيمعها خمسة أوسقٍ.. فعليهم الصدقة؛ لأن أول وقت وجوبها كان وهم(3/252)
شركاء، ولو اقتسموها قبل أن يحل بيعها.. فلا زكاة على أحدٍ منهم، حتى تبلغ حصته خمسة أوسقٍ) .
وجملة ذلك: أنه إذا مات رجلٌ ولا دين عليه، وخلف ابنين، وخلف نخلتين مثمرتين، أو غير مثمرتين، ثم أثمرتا، فإن الثمرة مشتركة بينهما. فإن قلنا: الخلطة لا تصح فيما عدا المواشي، فكل واحدٍ مخاطبٌ بزكاته على الانفراد، إن بلغ نصيبه نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. فلا زكاة عليه، سواءٌ اقتسما أو لم يقتسما.
وإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي، فإن اقتسماها قبل بدو الصلاح.. صحت القسمة، واعتبر نصيب كل واحدٍ بانفراده، فإن بلغ نصابًا.. زكاه، وإلا فلا.
وإن اقتسما بعد بدو الصلاح.. فهل تصح القسمة؟
إن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. لم تصح؛ لأن المساكين شركاء في المال، فلا تصح القسمة دونهم.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرهونةٌ بها.. صحت القسمةُ؛ لأن الرهن لا يمنع القسمة.
فعلى هذا: إذا جاء الساعي، ووجد المال في أيديهما.. أخذ من كل واحدٍ زكاة نصيبه.
وإن وجد المال في يد أحدهما دون الآخر.. أخذ جميع الزكاة مما في يده؛ لأن الزكاة تعلقت بالمال، ثم يرجع المأخوذ منه على صاحبه بزكاة نصيبه.
إذا ثبت هذا: فاعترض المزني على الشافعي، وقال: كيف تصح هذه القسمة عند الشافعي، والقسمة بيع عنده، سواءٌ كان قبل بدو الصلاح أو بعده، ولذلك لا يجوز بيع الرطب والجذع بالرطب والجذع؟
فالجواب: أن للشافعي في القسمة قولين:(3/253)
أحدهما: (أنها إفراز حق) . فيجوز أن يكون أجاب بهذا على هذا القول.
والثاني: (أن القسمة بيعٌ) . فيصح القسمة فيها.
فعلى هذا: إذا تعاوضا بالدراهم، بأن يشتري أحدهما من صاحبه حصته من الثمرة والجذع بدارهم، ويبيعه كذلك في النخلة الأخرى وثمرتها بمثل تلك الدراهم، ويتقاصا، أو يقول أحدهما لصاحبه: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة، بحصتي من جذع النخلة الأخرى، وبعتك حصتي من ثمرة تلك النخلة، بحصتك من جذع هذه النخلة، أو يقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة بحصتي من جذعها، فتحصل الثمرة لواحدٍ، والجذع لآخر، ثم يبتاع مبتاع الثمرة حصة صاحبه في جذع الأخرى بحصته من ثمرتها، فيصير لكل واحدٍ ثمرةٌ على جذع الآخر، أو تكون إحدى النخلتين لا ثمرة عليها، وقيمتها سواءٌ، فيقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة وجذعها، بحصتي من جذع الأخرى.. فيصح.
وبالله التوفيق.(3/254)
[باب زكاة الزروع]
الأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] .
ومن السنة: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .
إذا ثبت هذا: فإن الزكاة لا تجب في الزروع إلا إذا اجتمع فيه أربع صفاتٍ:
إحداهن: أن يكون مما يزرعه الآدميون، وليس المراد بذلك: أن يقصدوا إلى زراعة هذا الزرع، وإنما المراد: أن يكون من جنس ما يزرعونه؛ لأن الحب لو سقط من صاحبه عند نقل الغلة، فنبت.. وجبت فيه الزكاة إذا بلغ نصابًا.
الصفة الثانية: أن يكون مقتاتًا في حال الاختيار.
الثالثة: أن يكون مما ييبس، إذا يبس.
الرابعة: أن يكون مما يدخر، وذلك كالحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، والجاورس، والأرز، وكذلك القطنية، وهي: اللوبياء، والهرطمان، والعدس، والدجر، والكشد، والبلس، والعتر، والباقلاء، وسميت بذلك؛ لأنها تقطن في البيت.
وقال الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، وابن أبي ليلى، وسفيان، والحسن بن صالح، وابن المبارك، ويحيى بن آدم، وأبو عبيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا تجب الزكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وروي ذلك عن أحمد.(3/255)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذٍ: «خذ العشر من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» ، ولأنه حبٌّ يقتات في حال الاختيار، ويدخر، وييبس، فوجبت فيه الزكاة، كالأربعة التي ذكروها.
[مسألة: فيما لا تجب فيه الزكاة من النبات]
ولا تجب الزكاة في الخلجان، ولا في الكزبرة، ولا في بذر الكتان، ولا في بذر الفجل، ولا في سائر الخضراوات، ولا في حب الحنظل، ولا في (حب الغاسول) ، وهو الأشنان؛ لأنها ليست بقوتٍ.
[مسألة: هل تجب الزكاة في قليل الثمار والزروع]
وكل زرع وجبت فيه الزكاة.. فلا تجب فيه حتى يبلغ يابسه خمسة أوسقٍ.
وقال أبو حنيفة: (تجب في القليل والكثير) .
دليلنا: ما روى جابرٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في شيءٍ من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسقٍ» ، فإذا بلغ.. ففيه الزكاة.
قال الشافعي: (والعلس: ضربٌ من الحنطة، إذا ديس.. يبقى على كل حبةٍ منه(3/256)
كمامٌ، ولا يمكن إنقاؤه إلا بأن يدق بالمهراس، أو برحًا خفيفة، ويزعم أهلها: أن بقاءها في كمامها أكثر من بقائها وهي خارجة منه، ويزعمون: أنها إذا بقيت، وأخرجت من كمامها الأسفل، حصل منه النصف، قال: وأخير رب المال بين أن يخرجه من الكمام حتى يصير حبًا، فيكون نصابه خمسة أوسقٍ، أو بين أن يتركها في كمامها، ويكون نصابها عشرة أوسقٍ) .
قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا معنى كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا لفظه، والأرز: يدخر في قشره، فنصابه عشرة أوسقٍ لأجل قشره، وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامدٍ قال: وقد قيل: إنه يجيء منه الثلث، فإذا كان في كمامه قدرٌ يجيء منه خمسة أوسقٍ.. وجبت فيه الزكاة.
[مسألة: تكميل الجنس من أنواعه]
] : ويضم أنواع الجنس الواحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، فيضم العلس إلى الحنطة، وتضم الحنطة البيضاء إلى الحنطة السمراء والحمراء، وكذلك تضم الذرة البيضاء إلى الذرة الحمراء، ولا تضم حنطة إلى شعيرٍ، وكذلك القطنيات تضم أنواع الجنس الواحد بعضها إلى بعض، ولا يضم جنسٌ إلى جنسٍ آخر، وهل يضم السلت - وهو حبٌ حامضٌ صغير الحب رقيق القشر - إلى الشعير؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه يضم إليه؛ لأنه يشبه الشعير في البرودة.
والثاني - وهو المنصوص في " البويطي " -: (أنه لا يضم إليه) ؛ لأنهما(3/257)
جنسان. وقال مالكٌ، والحسن، والزهري: (تضم الحنطة إلى الشعير والسلت، وتضم أجناس القطنيات بعضها إلى بعض في إكمال النصاب) .
دليلنا: أنهما جنسان لا يجمعهما اسمٌ خاصٌ مشتركٌ، فلم يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب، كالتمر والزبيب، فقولنا: (اسم خاصٌ مشتركٌ) احترازٌ من الاسم العام المشترك، وهو الحب، فإنه يجمع الحبوب كلها، والثمرة تجمع الثمارَ.
وقولنا: (مشتركٌ) احترازٌ من الاسم المنفرد، وهو اسم النوع من الجنس، كالمعقلي والبرني من التمر، والشريحي والأبيض في الذرة؛ لأن الأسماء على ثلاثة أضربٍ: اسمٌ عامٌ مشتركٌ، اسمٌ خاص مشتركٌ واسمٌ خاصٌ منفردٌ.
فالعام المشترك: هو قولنا: ثمرة أو حبٌ.
والخاص المشترك: هو قولنا: تمرٌ؛ لأنه يجمع المعقلي والبرني، أو ذرة، تجمع البيضاء والصفراء والحمراء.
والخاصٌ المنفرد: معقليٌ أو شريحيٌ، فإن زاد الزرع على خمسة أوسقٍ بشيء ما.. وجب فيما زاد بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضرورة، فوجب في الزائد، كالأثمان، وزكاته العشر فيما سقي بغير مؤونة ثقيلة، ونصف العشر فيما سقي بمؤنة ثقيلة، كما قلنا في الثمار.
[مسألة: اختلاف أوقات الزرع]
] : فإن اختلفت أوقات الزرع.. ففي ضم بعضه إلى بعضٍ أقوالٌ:
أحدها - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أن الاعتبار بوقت الحصاد، فكل زرعين حصدا في فصل واحدٍ من خريفٍ أو ربيعٍ أو شتاءٍ أو صيفٍ.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك وقت الوجوب.
والثاني: أن الاعتبار بوقت الزراعة، فكل زرعين اتفقت زراعتهما في فصل واحدٍ، وإن كان بينهما أيامٌ كثيرة.. ضم أحدهما إلى الآخر وإن اختلفا في وقت الحصاد؛ لأن الزراعة أصلٌ، والحصاد نتيجتها، فكان اعتبار الأصل أولى.(3/258)
والثالث: إن اتفق زراعتهما في فصلٍ، وحصادهما في فصلٍ.. ضما، وإن اختلفا في أحدهما.. لم يضما؛ لأنه مالٌ تتعلق الزكاة بعينه، فاعتبر فيه الطرفان، كالماشية، قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا أضعف الأقوال.
والرابع: حكى الشيخ أبو حامدٍ: أن أبا إسحاق خرجه، وليس بمنصوص -: أن الاعتبار أن يكونا من زرع السنة، وسنة الزرع: من وقت إمكانه إلى آخر وقت حصاده، وذلك ستة أشهرٍ إلى ثمانية أشهرٍ. قال ابن الصباغ: وهذا أشبهها؛ لأن الثمار يضم بعضها إلى بعضٍ إذا كانت ثمرة عامٍ واحدٍ، فكذلك الزرع، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 136] قولين آخرين غريبين:
أحدهما: إن كان إدراكهما جميعًا في سنة واحدة، وليس بينهما اثنا عشر شهرًا بالعربية.. ضما، ولا اعتبار بوقت الزراعة.
والثاني: إن حصد أحدهما قبل أن تمضي سنة من وقت حصاد زرع الآخر.. ضما. قال: وهذا بعيدٌ.
[فرع: زرع الذرة]
قال الشافعي: (والذرة تزرع مرة، فتخرج، فتحصد، ثم تستخلف في بعض المواضع، فتحصد في مرة أخرى، فهو زرعٌ واحدٌ وإن تأخرت حصدته الأخرى، وهكذا بذرُ اليوم وبذر بعد شهرٍ؛ لأنه وقتٌ واحدٌ) .
وجملة ذلك: أن الذرة على ضربين:(3/259)
ضربٌ: لا يستخلف، وضربٌ: يستخلف.
فأما ما لا يستخف، وما تفاوت حصاده: إما بأن يسبق نبات بعضه، فأظل الباقي، فمنعه من الشمس، فلم يطل، أو منعه من النبات، فهذا من فروع المسألة الأولى.
وأما المستخلف: فمثل أن يحصد، ثم يخرج من ساقه زرعٌ آخر، فسنبل وحصد، فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يضم الأول إلى الثاني على القول الذي يقول: يعتبر حال الزراعة، أو زرعُ سنة واحدة.
فأما إذا قلنا بالقولين الآخرين: فلا يضم؛ لأن الزرع لا يراد للبقاء بخلاف الشجر.
ومنهم من قال: لا يضم. كما قلنا في النخيل إذا حمل في السنة حملين، وحمل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا زحم الزرع بعضه بعضًا، فأدرك الزاحم، ثم المزحوم. قال ابن الصباغ: والأول أشبه.
[مسألة: وجوب زكاة الحب بالاشتداد]
قال الشافعي: (إذا اشتد الحب.. وجبت فيه الزكاة) . قال أبو العباس: أراد به: اشتداد الحب في السنبل، وهو وقت الحصاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] .
فأوجب الحق يوم حصاده، فثبت أن الحق إنما يجب في الوقت الذي آن حصاده، ولا مدخل للخرص في الزرع؛ لأن الزرع مستورٌ بالأوراق، فلا يمكن حزره.
قال الشيخُ أبو حامد: ولأنه لا فائدة في خرص الزرع؛ لأنه لا يجوز التصرف فيه بالبيع؛ لأن بيعه في سنبله لا يجوز، ولا يمكن أكله في سنبله، بخلاف الرطب والعنب.(3/260)
[مسألة: تؤخذ الزكاة بعد الدياس والتنقية]
ولا تؤخذ الزكاة إلا بعد التصفية، ومؤونة الدياس، والتصفية على رب المال، وهو قول كافة العلماء.
وقال عطاءٌ: تقسط المؤنة على جميع المال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . وهذا يقتضي أن يدفع عشر المال كاملًا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأخذ العشر: أن يكال لرب المال تسعة، ويأخذ المصدق العاشر، وإن وجب نصف العشر.. كيل لرب المال تسعة عشر مكيالًا، وللمصدق مكيالٌ، وإن وجب ثلاثة أرباع العشر.. كيل لرب المال سبعة وثلاثون مكيالًا، وللمصدق ثلاثة مكاييل) . وإنما بدأ برب المال؛ لأن نصيبه أكثر، أو لأنه إذا لم يقدم نصيبه.. لم يعلم ما للمساكين.
قال الشافعي [في " الأم " 2/32] : (ويكال لرب المال والمساكين كيلٌ واحدٌ، ولا يزلزل المكيال، ولا يلتف منه شيءٌ على المكيال ولا يمسحه، وإنما يطرح على رأسه، فما قام عليه، أفرغه؛ لأن الزلزلة والمسح تختلف) .
[فرع: لا زكاة فيما يدخر]
إذا ملك الرجل خمسة أوسقٍ أو أكثر من الثمار أو الحبوب، فأخرج عنها الزكاة، ثم أمسكها إلى الحول الثاني والثالث.. لم تجب عليه زكاة في الحول الثاني وما بعده، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن الحسن البصري: أنه قال: يزكيه في الحول الثاني وما بعده، كالأثمان.(3/261)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . فمن أوجب في الحول الثاني.. فقد أوجب الخمس، وهذا لا يجوز.
ولأن الثمار والزرع غير نامية في الحول الثاني، فلم تجب فيها الزكاة، كالبغال والحمير.
[فرع: لا زكاة على ذميٍّ ومكاتب]
ولا يجب العشر على ذميٍّ ولا مكاتب.
وقال أبو حنيفة: (يجب) .
دليلنا: أنه زكاة، فلا تجب على المكاتب والذمي، كزكاة الماشية والأثمان.
[مسألة: الزكاة على صاحب الزرع]
إذا استأجر أرضًا، فزرعها.. فإن العشر يجب على مالك الزرع عند بدو الصلاح فيه، لا على مالك الأرض.
وقال أبو حنيفة: (يجب العشر على مالك الأرض، ولا يجب على مالك الزرع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . ومالك الأرض لم يخرج له شيءٌ من الأرض، وإنما هو للمستأجر.
ولأنه لا زكاة مالٍ.. فوجبت على مالك المال، كسائر الأموال.
[فرع: زكاة الموقوف]
ولا تجب الزكاة في الثمرة المحبس أصلها على المساجد والقناطر والمساكين والفقراء. قال الشيخ أبو نصر: وحكى ابن المنذر، عن الشافعي: أن الزكاة تجب في جميع ذلك، قال: وهذا ليس بمعروف عند أصحابنا.
دليلنا على أنه لا يجب فيها: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وهذا خطابٌ لمن يعقل، فلا تدخل المساجد والقناطر تحته.(3/262)
وأما الفقراء والمساكين: فلأنهم غير معينين، فجرى ما يصرف إليهم مجرى ما يصرف إلى المساجد.
[مسألة: وجوب الخراج على المشركين]
قال الشافعي: (وهكذا نصف العشر، وخراج الأرض) .
وجملة ذلك: أن الإمام إذا غزا وغنم أرض المشركين، وأخذها عنوة.. فإنه بالخيار إن شاء.. قسمها بين الغانمين، كما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرض خيبر، فتكون الأرض عشرية، وإن شاء.. أقرها على ملك المشركين، وضرب عليهم الخراج باسم الجزية، فإذا أسلموا.. سقطت عنهم الجزية، ووجب عليهم العشر.
وقال أبو حنيفة: (لا تسقط عنهم الجزية، ولا يجب عليهم العشر) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية» . وهذا مسلمٌ.
وأما أرض سواد العراق: وهي ما بين عبادان إلى الموصل طولًا، وما بين القادسية إلى حلوان عرضًا.. فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (افتتحها عنوة، وأخذها من كسرى وشيعته، وقسمها بين الغانمين، وبقيت في أيديهم سنتين أو ثلاثًا، ثم خاف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يشتغلوا بعمارتها، فيتعطل الجهاد، أو يشتغلوا بالجهاد، فتخرب الأرض، فرأى من المصلحة أن يسترجعها منهم، فمنهم من طابت نفسه برد ما معه بغير عوضٍ، ومنهم من لم يرد إلا بعوض، وردها على أهلها بعوضٍ يؤخذ منهم كل سنة) .
قال الشافعي: (وقفها عمر على المسلمين، ثم أخذها من أهلها) .
فعلى هذا: لا يجوز بيعها ولا رهنها.
وقال أبو العباس: باعها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أهلها بشيءٍ يؤخذ منهم كل سنة.(3/263)
فعلى هذا: يجوز بيعها، وإنما جاز إلى أجلٍ مجهولٍ؛ لأنها معاملة مع الكفار، ألا ترى أن رجلًا لو أبق له عبدٌ، فأراد الجعالة لمن يرده.. فإنه لا بد أن يكون الجعل معلومًا؛ لأنها معاملة بين المسلمين، ولو أن الإمام غزا بلدًا من الكفار، وأراد الجعالة لمن يدله.. لجاز أن يقول: من دلني على القلعة الفلانية.. فله منها جارية، وإن كانت مجهولة؛ لأنها عقدٌ في ملك الكفار.
إذا ثبت هذا: فإن هذه الأرض التي فتحها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يجب فيها الخراج لوقته، والعشر لوقته.
وقال أبو حنيفة: (لا يجتمعان، بل يجب الخراج لا غير) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .. ولم يفرق.
ولأنه حقٌ يتعلق بالمستفاد من غير أرض الخراج.. فوجب أن يتعلق بالمستفاد من أرض الخراج، كالمعدن.
إذا ثبت هذا: فإن اشترى الذمي أرضًا خراجية، وقلنا: يصح.. فإنه يؤخذ منه الخراج؛ لأنه إما أجرة أو ثمنٌ، ولا يؤخذ منه العشر، وإن اشترى أرضًا عشرية.. فإنه يصح الشراء، ولا يجب عليه خراجٌ ولا عشرٌ.
وقال مالكٌ: (لا يصح شراؤه) .
وقال أبو حنيفة: (يصح شراؤه، ويجب عليه الخراج) .
وقال أبو يوسف: يجب عليه عشران.
دليلنا على مالكٍ: أنها أرضٌ يملكها المسلم بالشراء، فملكها الذمي به، كالخراجية.
وعلى أبي حنيفة: أنه مالٌ يتعلق به حق الله تعالى، فإذا ملكه الذمي.. لم يجب عليه شيءٌ، كالماشية.
وبالله التوفيق.(3/264)
[باب المبادلة في الماشية وبيع ما وجب فيه]
الزكاة والصداق والرهن والغنيمة إذا بادل الرجل جنسًا تجب الزكاة في عينه، بجنس تجب الزكاة في عينه.. فإن كل واحدٍ منهما يستأنف الحول بما تجدد ملكه عليه بالمبادلة، سواءٌ كان قد بادل جنسًا بجنسٍ مثله، مثل: أن يبادل إبلًا بإبلٍ، أو غنمًا بغنمٍ، أو بادل جنسًا بجنسٍ آخر، مثل: أن يبادل إبلًا بغنمٍ، وكذلك الدراهم والدنانير، ووافقنا أبو حنيفة في المواشي، وخالفنا في الدراهم والدنانير إذا بادلهما بجنسهما.. فإنه يبني على الحول الأول.
ووافقنا مالكٌ إذا بادل جنسًا بغير جنسه.. فإنه يستأنف الحول الثاني، وإن بادل الجنس بمثله، مثل: الغنم بالغنم.. فإنه يبني حول الثاني على حول الأول.
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» .(3/265)
ولأنه بادل جنسًا تجب الزكاة في عينه، بجنس تجب الزكاة بعينه، فوجب أن يستأنف به الحول، كما لو بادل الجنس بغير جنسه، وفيه احترازٌ من أموال التجارة.
إذا ثبت هذا: فإن وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا - وتصورهما: فيمن بادل أربعين من الغنم بمثلها مبادلة صحيحة - فإن وجد العيب قبل حؤول الحول من حين المبادلة.. فله أن يرد بالعيب، فإذا رجع إليه ما كان أخرجه من ملكه.. استأنف به الحول من حين الرد بالعيب؛ لأنه تجدد له عليه الملك من حينئذٍ، وإن وجد العيب بعد وجوب الزكاة فيما اشتراه، وقبل أن يخرج الزكاة منها، أو من غيرها.. فليس له الرد بالعيب؛ لأن المساكين، إما أن يكونوا قد استحقوا جزءًا منها، فيصير كمن اشترى عبدًا، فجنى على غيره، ثم وجد به عيبًا.. فليس له رده بالعيب، أو صار المال مرهونًا بحقهم، فهو كمن اشترى عبدًا، فرهنه، ثم وجد به عيبًا.. فليس له رده بالعيب، وهل يرجع بأرش العيب؟ فيه وجهان:
أحدهما - ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره -: أنه يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم يباشره من الرد.
وإن وجد العيب بعد أن أخرج الزكاة، فإن أخرج الزكاة من عين المال.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:(3/266)
فإن قلنا: تفرق.. قوم الباقي من الغنم، وقومت الشاة المخرجة، ورجع بحصة ما بقي مما يقابله من غنمه، فإن اختلفا في قيمة التالفة.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول المشتري؛ لأنها تلفت في ملكه.
والثاني: القول قول البائع؛ لأنه قد ثبت ملكه على ما في يده، فلم ينتزع منه شيءٌ منها إلا برضاه، كالمشتري والشفيع.
وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له رد الباقي بالعيب، وهل يرجع بالأرش؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يرجع المشتري بأرش المعيب.
وقال ابن الصباغ: إن كانت الشاة المخرجة باقية يرجى عودها إليه.. لم يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. وإن كانت تالفة.. كان له الرجوع بالأرش.
وإن كان قد أخرج الزكاة من غير المال، فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها.. فله الرد بالعيب، كما لو اشترى من رجلٍ عَبْدًا، فرهنه، ثم فكه، ثم وجد به عيبًا.. فله أن يرده بالعيب.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين.. فهل له الرد؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن اشترى عبدًا، ثم زال ملكه عنه، ثم عاد الملك إليه، ثم وجد به عيبًا، فهل له أن يرده؟ فيه وجهان:
قال الشيخ أبو حامدٍ: إلا أن الصحيح فيمن اشترى عبدًا: أنه لا رد له؛ لأنه قد استدرك الظلامة، ودلس على غيره، كما دلس عليه.
والصحيح في المسألة المبادلة: أن له الرد؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، ولم يدلس على غيره، كما دلس عليه، ولأنه إذا اشترى عبدًا، ثم باعه، أو وهبه.. فقد انقطعت علائق الملك بينه وبين البائع، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المساكين وإن ملكوا جزءًا من المال، فإن علائق ملكه لم تنقطع عنه؛ لأن له أن يسقط حقهم منه بغير رضاهم، بأن يدفع إليهم من غيره.
وإن كانت المبادلة فاسدة.. فإن حول كل واحدٍ منهما لا ينقطع فيما باع؛ لأن(3/267)
ملكه لم يزل، فإذا تم حوله.. وجبت عليه زكاة ماله.
فإن قيل: فهلا جعلتموه كالمغصوب والضال؛ لأنه ليس في يده؟
قلنا: الفرق بينهما: أن في المغصوب والضال قد حيل بينه وبين ماله؛ لأنه لا يمكنه التصرف فيه، فلذلك استأنف الحول في أحد القولين، وهاهنا لم يحل بينه وبين ماله، وإنما اعتقد أنه غير مالكٍ لأخذه.
قال صاحب " الإبانة " [ق \ 132] : فإن أسامها المشتري بحكم المبادلة الفاسدة، وكانت معلوفة عند مالكها.. فهل تجب الزكاة على مالكها؟ فيه وجهان، كالغاصب.
فإذا قلنا: تجب.. فهل يرجع على المشتري بذلك؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: يرجع.. فهل يغرم أولًا، ثم يرجع عليه، أو يطالبه ابتداءً بذلك؟ فيه وجهان، بناءً على الحلاق إذا حلق شعر المحرم، ووجبت الفدية.. فهل يغرمها المحرم، ثم يرجع بها على الحلاق، أو لا يغرمها، ولكن يطالب بها الحلاق؟ فيه وجهان.
[مسألة: بيع ما وجبت فيه الزكاة]
إذا كان في يده نصابٌ من المال، قد وجبت فيه الزكاة: إما من الماشية، أو الثمار، أو الزروع، أو الأثمان، فباع جميعه قبل إخراج الزكاة عنه.. فهل يصح البيع في قدر الزكاة؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأنا إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزء من العين إلا أن علائق ملك رب المال لم تنقطع عنه، وله أن يدفع الزكاة من غير المال.. فجعل بيعه اختيارًا لدفع الزكاة من غيره.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والمال مرهونٌ بها، إلا أنه رهن بغير اختيار المالك.. فلم يمنع صحة البيع، كالبيع في العبد الجاني إذا قلنا: يصح.(3/268)
والقول الثاني: لا يصح البيع في قدر الزكاة، وهو الأصح؛ لأنا إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من المال.. فقد باع ما لا يملكه.
وإن قلنا: إن المال مرهونٌ بها.. فبيع المرهون بغير إذن المرتهن لا يصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون:
إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة.. صح البيع في قدر الزكاة.
وإن قلنا: إنها تتعلق بالعين على معنى استحقاق جزء منها.. لم يصح البيع في قدر الزكاة.
وإن قلنا: كتعلق الجناية برقبة الجاني.. فهل يصح البيع في قدر الزكاة؟ فيه قولان، كبيع العبد الجاني.
إذا ثبت هذا: فكل موضعٍ قلنا: يصح البيع في قدر الزكاة.. ففي الباقي أولى.
وإن قلنا: لا يصح البيع في قدر الزكاة.. فهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يبطل في الكل.. فلأي معنًى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لأن الصفقة جمعت حلالًا وحرامًا، فغلب التحريم.
فعلى هذا: يبطل البيع في الماشية والثمار والزروع والأثمان. وإن رهن مالًا وجبت فيه الزكاة، أو وهبه.. بطل الرهن والهبة في الجميع.
والثاني: يبطل؛ لجهالة ثمن المبيع.
فعلى هذا: يبطل بيع الماشية، ولا يبطل بيع الثمرة والحبوب. وإن رهن مالًا وجبت فيه الزكاة، أو وهبه.. لم يبطل الرهن والهبة فيما زاد على قدر الزكاة.
فإذا قلنا: يبطل البيع في الجميع.. فسواءٌ أخرج رب المال الزكاة منه، أو من غيره، فإنه لا يصح إلا بعقد بعد إخراج الزكاة.
وإذا قلنا: إن البيع باطلٌ في قدر الزكاة، صحيحٌ في الباقي.. كان كالمشتري(3/269)
بالخيار؛ لتفريق الصفقة عليه، فإن اختار الفسخ.. فلا كلام، وإن لم يختر الفسخ، فبكم يمسك الباقي؟ فيه قولان:
أحدهما: بجميع الثمن.
والثاني: بحصته.
وإن قلنا: إن البيع يصح في قدر الزكاة.. ففي ما سواه أولى، ثم ينظر فيه: فإن أخرج رب المال الزكاة من غير ذلك المال.. استقر البيع، وإن لم يخرج الزكاة من غيره.. فللساعي أن يطالب البائع بالزكاة؛ لأنها وجبت عليه، وله أن يأخذ الزكاة مما في يد المشتري؛ لأن الزكاة وجبت فيه، فإذا أخذها.. بطل البيع فيه، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه طريقان، كما نقول فيمن باع عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.. فإن البيع ينفسخ فيه، وهل ينفسخ في الباقي منهما؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان.
ومنهم من قال: لا ينفسخ البيع فيه، قولًا واحدًا.
فإذا قلنا: لا يبطل، واختار المشتري الإجازة، فبكم يمسك الباقي؟ اختلف الشيخان فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: بجميع الثمن.
والثاني: بالحصة.
وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": يمسكه بحصته من الثمن، قولًا واحدًا.
ويأتي ذكره في البيوع بعلله.
وإن عزل رب المال قدر الزكاة، وباع الباقي بأن باع من الأربعين من الغنم تسعًا وثلاثين، وأمسك واحدة، فإن قلنا: إنه إذا باع الجميع يصح البيع في قدر الزكاة.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: يبطل البيع هناك في قدر الزكاة.. فهاهنا وجهان:(3/270)
أحدهما: يصح البيع؛ لأنه قد استثنى قدر الزكاة.
والثاني: لا يصح. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن الزكاة تتعلق بالجميع على وجه الإشاعة، ولا تتعين المعزولة إلا بالدفع، ألا ترى أنه لو جنى عبده جناية أرشها عشرة، وهو يساوي مائة، فباع منه ربعه أو ثلثه.. فإن البيع لا يصح على القول الذي يقول: لا يصح بيع الجاني، ولأنه لو عزل الزكاة من غيره.. لم يؤثر هذا العزل في البيع؛ لأنه لا يتعين عليه دفع المعزول، فكذلك إذا عزل من المال.
قال صاحب " الفروع ": وأصل هذين الوجهين: هل الزكاة شائعة في كل واحدٍ من العدد بقسطه، أو في قدر الفرض لا بعينه؟ فيه وجهان.
[مسألة: دفع الصداق غنمًا]
] : إذا أصدق الرجل امرأته أربعين من الغنم معينة.. فإنها تملكها بالعقد، وتجري في الحول، سواءٌ قبضتها أو لم تقبضها، فإن طلقها بعد الدخول.. لم يرجع عليها بشيءٍ، وإن طلقها قبل الدخول، وقبل وجوب الزكاة عليها.. رجع عليها بنصف الصداق، ولا كلام، وإن طلقها قبل الدخول، وبعد وجوب الزكاة على الزوجة:
فإن كانت الزوجة قد أخرجت الزكاة من غيرها.. رجع الزوج بنصف الصداق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] .
فإن قيل: هلا قلتم: إنه لا يرجع عليها في قدر الزكاة على القول الذي يقول: إن الفقراء يستحقون جزءًا من المال، فيكون قد خرج من ملكها، ثم رجع إليها، كالأب إذا وهب لابنه عينًا، ثم زالت عن ملكه، ثم رجعت إليه.. لا يرجع بها الأب؟
فالجواب: أن في هبة الأب في هذه وجهين:
أحدهما: للأب الرجوع، ولا كلام.(3/271)
والثاني: لا يرجع، فيكون الفرق بينهما على هذا: أن رجوع الزوج آكد؛ لأنه لا يسقط بتلف العين، بخلاف الأب، فإن رجوعه يسقط بتلف العين.
وإن كانت الزوجة قد أخرجت الزكاة من الأربعين.. ففيه ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أن الزوج يرجع عليها بنصف الصداق من الباقي، فيرجع عليها بعشرين سهمًا من تسعة وثلاثين سهمًا من هذه الغنم الموجودة بالقيمة.
فعلى هذا: لو أتلفت الزوجة نصف الأربعين، ووجد الزوج النصف.. أخذه بالقيمة، ولا يمكن الرجوع بالنصف من العدد بالغنم؛ لأنها تتفاوت.
ولو كان ذلك في الطعام.. رجع بنصف جميع الصداق مما وجد بالأجزاء؛ لأن الرجوع إلى القيمة طريقه الاجتهاد، والرجوع إلى العين طريقه النص، فقدم النص على الاجتهاد.
والقول الثاني: أن الزوج يرجع بنصف ما بقي بالقيمة وبنصف قيمة الشاة المخرجة، قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأنها لو كانت كلها باقية.. لرجع بنصف الجميع، ولو كانت كلها تالفة.. لرجع بنصف قيمة الجميع، فإذا كان بعضها تالفًا.. رجع بنصف قيمة التالف.
والقول الثالث: أن الزوج بالخيار: بين أن يرجع بنصف الجميع من الباقي، وبين أن يرجع بنصف الباقي ونصف قيمة الشاة المخرجة؛ لأن حقه قد يتبعض عليه، فكان له الخيار، كما لو اشترى عبدًا، فقطع أجنبيٌ يده في يد البائع قبل القبض.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، أو يجيزه ويرجع على الجاني بنصف القيمة.
وإن طلقها قبل أن تخرج الزكاة، فإن أخرجتها من غير الأربعين، أو منها.. فالحكم فيه كالحكم فيما مضى.
وإن لم تخرجها، وأراد القسمة قبل إخراجها، فإن قلنا: الزكاة استحقاق جزءٍ من(3/272)
العين.. فهل تصح القسمة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - ولم يذكر في " التعليق " كـ " المجموع " غيره -: أن القسمة لا تصح؛ لأنه مشتركٌ بين الزوجين وبين المساكين، فلم تصح قسمته بغير رضا المساكين.
والثاني: تصح. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن لرب المال تعيين حق الفقراء فيما اختار من المال، أو غيره، فلم يمنع من القسمة.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرهونة بها.. صحت القسمة؛ لأن الرهن لا يمنع من القسمة، كما لو كان بين رجلين مالٌ، فرهناه، ثم اقتسماه.. صحت القسمة.
فإن قلنا: القسمة باطلة.. فهو كما لو لم يقتسما.
وإن قلنا: إنها صحيحة.. فإن الساعي يطالب الزوجة بالزكاة؛ لأنها وجبت عليها، فإن وجد لها مالًا.. أخذ منه الزكاة، وإن لم يجد لها مالًا.. فله أن يأخذ مما في يد الزوج شاة؛ لأن الزكاة وجبت فيه، فإذا أخذ منه شاة.. فهل تبطل القسمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل؛ لأن هذه الشاة استحقت بسبب متقدم على القسمة، فصار كما لو كانت مستحقة حال القسمة.
فعلى هذا: يكون كمن أصدق امرأة أربعين شاة، فتلف منها إحدى وعشرين، ثم طلقها قبل الدخول.. فإلى ماذا يرجع الزوج؟ على الأقوال الثلاثة.
والوجه الثاني: لا تبطل القسمة؛ لأن الماشية كانت مملوكة لهما عند القسمة، والزكاة كانت دينًا في ذمة الزوجة، وإنما استحق أخذها من الزوج؛ لتعذر أخذها من الزوجة، وذلك متأخرٌ عن القسمة.
فعلى هذا: يرجع الزوج على الزوجة بقيمة الشاة المأخوذة منه؛ لأنها أخذت بزكاة واجبة عليها.
وإن كان الصداق في ذمة الزوج، فإن كان حيوانًا موصوفًا.. صح، ولكن لا يجب عليها الزكاة عند الحول.(3/273)
وكذلك: إذا أسلم إليه على أربعين شاة موصوفة.. صح، ولم تستحق الزكاة على المسلم عند الحول؛ لأن من شرط وجوب الزكاة في الماشية السوم، ولا يمكن السوم فيما في الذمة.
وإن كان من الثمار أو من الحبوب أو العروض.. لم تجب عليها فيه زكاة، فإن كان من الذهب والفضة، فيأتي ذكره في زكاة الذهب والفضة.
[مسألة: زكاة المرهون]
] : وإن رهن رجلٌ رجلًا مالًا يجب فيه الزكاة قبل إخراجها.. فهل يصح الرهن في قدر الزكاة؟ فيه قولان، كما قلنا في البيع.
فإن قلنا: يصح.. ففيما سوى قدر الزكاة أولى أن يصح، وإن كان الراهن موسرًا.. كلف إخراج الزكاة من غير الرهن، فإن لم يكن له مالٌ غير الرهن.. أخذ الساعي الزكاة من الرهن، فإذا أخذها.. بطل فيها الرهن، وهل يبطل الرهن في الباقي؟ فيه طريقان، كمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، حكى ذلك ابن الصباغ، ويثبت للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان الرهن مشروطًا في بيع، سواءٌ قلنا: يبطل الرهن في الباقي، أو لا يبطل؛ لأن النقص قد دخل عليه ببطلان الرهن في المأخوذ.
وإن قلن: الرهن يبطل في قدر الزكاة.. فهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناءً على تفريق الصفقة:
فإن قلنا: تفرق الصفقة.. لم يبطل في الباقي.
وإن قلنا: لا نفرق.. فإن قلنا: العلة أن الصفقة الواحدة جمعت حلالًا وحرامًا.. بطل الرهن في الباقي.
وإن قلنا: العلة جهالة الثمن.. لم يبطل الرهن في الباقي.
فإن كان الرهن غير مشروطٍ في بيعٍ.. لم يؤثر البطلان في الرهن، ولا في بعضه في البيع.(3/274)
وإن كان الرهن مشروطًا في بيعٍ.. فهل يبطل البيع لبطلان الرهن؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في (الرهن) .
فإن قلنا: يبطل البيع.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يبطل.. ثبت للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه دخل على أن يحصل له رهنٌ، ولم يحصل.
[فرع: رهن غنمًا قبل حلول الزكاة]
] : فإن رهنه ماشية أو غيرها من أموال الزكاة قبل وجوب البيع فيها، ثم حال عليها الحول.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنه ملك الراهن عليها تامٌ، وإنما هو ناقص التصرف فيها لحق المرتهن، وذلك لا يمنع وجوب الزكاة، كمال الصبي والمجنون.
إذا ثبت هذا: فإن كان للراهن مالٌ غير الرهن.. كلف إخراج الزكاة منه؛ لأن ذلك من مؤن الرهن، ومؤن الرهن على الراهن.
وإن لم يكن له مالٌ غير الرهن.. فهل يبدأ بإخراج الزكاة، أو بحق المرتهن؟
إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من العين.. قدمت الزكاة، ويتعلق حق المرتهن بالباقي؛ لأنها متعلقة بالعين وحدها، ومختصة بها، وحق المرتهن متعلقٌ بالرهن وذمة الراهن، فقدم حق المختص بالعين، كالعبد إذا جنى.
وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ.
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري في " الإفصاح " -: إنه يستوي حق الله تعالى وحق المرتهن؛ لأن حق كل واحدٍ منهما يتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها، وفيمن يقدم؟ ثلاثة أقوالٍ تقدم ذكرها.
والوجه الثاني - وهو قول أصحابنا، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره -: أن حق المرتهن مقدمٌ على الزكاة؛ لأنه أسبق، ولأن حق المرتهن تعلق بعقد صاحب المال ورضاه، فكان آكد مما تعلق بغير فعله.(3/275)
[مسألة: حصول الحول في وقت خيار البيع]
] : إذا باع أربعين من الغنم بشرط خيار الثلاث، فحال الحول على البائع من يوم ملك قبل انقضاء الثلاث أو في خيار المجلس:
فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد.. فلا زكاة على واحدٍ منهما؛ لأن حول البائع قد انقطع، ولم يتم الحول للمشتري، فإن فسخا العقد أو أحدهما على هذا القول بعد الحول.. فإن الملك يعود إلى البائع.
قال ابن الصباغ: وتجب الزكاة عندي على البائع؛ لأن هذا الفسخ استند إلى العقد بالشرط المذكور فيه.
وإن قلنا: إن الملك لا ينتقل إلى المشتري إلا بالعقد وانقضاء الخيار.. فإن الزكاة تجب على البائع؛ لأن الحول حال عليه، وملكه باقٍ.
فعلى هذا: إن أخرج الزكاة من غير هذا المال.. استقر البيع، وإن لم يخرجه من غيره.. فإن الساعي يأخذ شاة من المشتري؛ لأن الزكاة وجبت في هذا المال، فإذا أخذها انفسخ فيها البيع.
قال ابن الصباغ: وهل ينفسخ البيع في الباقي؟ فيه قولان، في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: لا تبطل في الباقي.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع.
وأما الشيخ أبو حامد، والمحاملي: فلم يذكرا الانفساخ في الباقي، بل قالا: يثبت للمشتري الخيار.
وإن قلنا: الملك موقوفٌ.. نظرت:
فإن فسخ البيع.. تبينا أن ملك البائع لم يزل، فيجب عليه الزكاة.
وإن لم يفسخ حتى مضى زمان الخيار.. تبينا أن ملك البائع زال بنفس العقد، فلا زكاة على واحدٍ منهما.(3/276)
[مسألة: وجوب الزكاة في القيمة]
] : إذا اغتنم المسلمون غنيمة من المشركين، وحازوها، وانقضت الحرب، فإن كان للإمام عذرٌ عن القسمة، بأن يخاف كرة المشركين.. جاز له تأخير القسمة إلى أن يأمن مما خافه.
وإن لم يكن له عذرٌ.. قال الشيخ أبو حامد: وجب على الإمام أن يقسمها على الغانمين؛ لأنه حقٌ معجلٌ، فلم يجز تأخيره عن مستحقه، كالوديعة إذا طالب بها صاحبها، وأما وقت ملك الغانمين للغنيمة: فلا يملكها الغانمون ما لم تنقض الحرب، وينهزم العدو، وكذلك: إذا انقضت الحرب، ولم يحرزوا الغنيمة ويجمعوها ويحوزوها.
فأما إذا انقضت الحرب، وجمعوا الغنيمة، وحازوها.. فقد ملك الغانمون أن يملكوها.
وإنما يقع الملك لهم فيها بأحد شيئين:
إما أن يقول كل واحدٍ: قد اخترت نصيبي من هذه الغنيمة، فيملك المختار نصيبه منها مشاعًا.
أو بأن يدفع الإمام إلى كل واحد نصيبه، فيقبله، فيملكه، فيكون قبوله اختيارًا للملك.
وإنما كان كذلك؛ لأنه لو دفع إلى واحدٍ منهم نصيبه، فرده.. زال حقه من الغنيمة، فثبت: أنه ما ملكه قبل الاختيار، ولأن واحدًا من الغانمين لو أتلف عينًا من الغنيمة قبل الاختيار.. لزمه جميع قيمتها، فثبت: أنه لم يملك شيئًا منها قبل الاختيار، بخلاف الميراث.
وأما وجوب الزكاة في الغنيمة: فإن الغانمين إذا جمعوا الغنيمة، وحازوها، ولم يختاروا تملكها.. فإنه لا زكاة عليهم ولو بقيت في أيديهم أحوالًا؛ لأنهم لم يملكوها، وإن اختاروا التملك:(3/277)
فإن كانت الغنيمة أصنافًا، مثل: الإبل والبقر والغنم والدراهم والدنانير.. فلا يبتدأ لها حولٌ قبل أن يقسموها؛ لأن للإمام أن يعطي واحدًا صنفًا، والآخر صنفًا آخر، فلم يملك واحدٌ صنفًا بعينه، فلم يجر في الحول، فلم تجب عليه الزكاة، ولأن فيها الخمس، وللإمام أن يعزل الخمس من أي صنفٍ شاء.
وإن كانت الغنيمة صنفًا واحدًا تجب فيه الزكاة، كالإبل والبقر أو غيرهما.. فإن ابتداء الحول عليهم من حين الاختيار.
فإن اقتسموا قبل الحول.. اعتبر نصيب كل واحدٍ بنفسه، فإن بلغ نصابًا.. وجبت عليه الزكاة عند تمام حوله من وقت الاختيار؛ لأن ملكه مستقرٌ؛ لأنه ليس للإمام أن يسقط حق أحدٍ من هذا المال.
وإن نقص نصيبه عن النصاب.. فلا زكاة عليه؛ لأن الخلطة زالت قبل الحول، وإن حال الحول قبل القسمة.. فلا تصح الخلطة مع أهل الخمس، ولا يكمل النصاب بنصيبهم؛ لأنهم غير متعينين، وتصح الخلطة في الأربعة الأخماس.
فإن كانت الغنيمة ماشية تجب فيها الزكاة.. زكوه زكاة الخلطة، قولًا واحدًا.
وإن كانت ثمارًا أو دراهم أو دنانير.. فهل تصح فيها الخلطة؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما.
[فرع: منح الإمام جماعة من الغنيمة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [2/53] : (فإن عزل الإمام من الغنيمة نصيب قومٍ حضورٍ في صنفٍ، فقبلوه منه.. ملكوه، وجرى في الحول، وإن عزل نصيب قومٍ غيبٍ في صنفٍ.. فلا زكاة عليهم؛ لأن الحاضرين إذا قبلوه.. فقد ملكوه، وتميز نصيبهم في ذلك الصنف، فوجبت عليهم الزكاة، وأما الغائبون: فلا نعلم اختيارهم للملك.
وإن عزل الإمام الخمس لأهل الخمس.. فلا زكاة عليهم؛ لأنهم غير متعينين.(3/278)
وكذلك: إذا عزل الفيء لأهله - وهو ما يؤخذ من المشركين إذا انهزموا أول الحرب - فإنه لا زكاة فيه؛ لأن أهله غير معينين.
والله أعلم.(3/279)
[باب زكاة الذهب والفضة]
الأصل في وجوب الزكاة فيهما: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] [التوبة: 103] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] الآية [التوبة: 34] .
والكنز المراد بالآية: هو المال الذي لم تؤد زكاته، سواءٌ كان مدفونًا أو غير مدفونٍ، وإنما سمي: كنزًا؛ لأنه منع من إخراج الزكاة منه، كما منعه بدفنه من الأيدي، ويدل عليه: ما روي «عن أم سلمة: أنها قالت: يا رسول الله، إني ألبس أوضاحًا من ذهبٍ، أو كنزٌ هو؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي، فليس بكنزٍ، وإن كانت تحت سبع أرضين» . وإنما أرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الكنز المتوعد عليه في القرآن.
وروى أنسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في (كتاب الصدقات) ، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» . قال أصحابنا: و (الرقة) : الذهب والفضة.(3/280)
قال: وأجمعت الأمة على وجوب الزكاة فيهما.
[مسألة: الزكاة في غير النقدين]
] : ولا تجب الزكاة فيما سواهما من الجواهر، كاللؤلؤ والزبرجد والمرجان والصفر والنحاس، وكذلك لا تجب الزكاة في المسك والعنبر، إذا لم يكن ذلك كله للتجارة، وهو قول عامة العلماء.
وقال الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو يوسف - رحمة الله عليهم -: يجب في العنبر الخمس.
وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يجب الخمس في كل ما يستخرج من البحر، كالركاز.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا زكاة في العنبر، إنما هو شيءٌ دسره البحر) .(3/281)
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (لا زكاة في اللؤلؤ) . ولا مخالف لهما في الصحابة.
ولأنه مالٌ مقومٌ مستفادٌ من البحر، فلم تجب فيه الزكاة، كالمسك، وفيه احترازٌ من الذهب والفضة؛ لأنهما قيمة الأشياء.
[مسألة: نصاب الذهب والورق]
ولا تجب الزكاة في الذهب والفضة إلا في النصاب، ونصاب الذهب عشرون مثقالًا، ونصاب الفضة مائتا درهمٍ.
وقال مالكٌ: (إذا نقص عن ذلك حبة أو حبتان، ففيهما الزكاة؛ لأنها تجوز بجواز الوزانة، ومعناه: أنه إذا كان عليه لغريمه عشرون مثقالًا، فحمل إليه عشرون مثقالًا، إلا حبة أو حبتين.. فإنه لا يرد ذلك، وكذلك في مائتي درهم، هكذا ذكره في " الموطأ ".(3/282)
وحكى الأبهري: أن مذهب مالكٍ: إذا نقصت حبة أو حبتين، في جميع الموازين.. فلا زكاة عليه، وإن نقصت في ميزانٍ دون ميزانٍ.. فعليه الزكاة.
وقال عطاءٌ، والزهري: الأصل الورق، والذهب محمولٌ عليه.
فإذا كان معه من الذهب ما يبلغ قيمته مائتي درهم.. فعليه الزكاة وإن كان أقل من عشرين مثقالًا.
وقال الحسن البصري: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالًا؛ لئلا يستفتح ما يؤخذ زكاته بالكسر.
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون عشرين مثقالًا من الذهب صدقة، ولا فيما دون مائتي درهمٍ من الورق صدقة» . وهذا حجة على الكل.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يعتبر العدد، بل إذا ملك عشرين مثقالًا بالوزن: إما تبرًا أو مضروبًا، أو قطعة ذهبٍ.. فإن الزكاة تجب عليه، وكذلك: إذا ملك مائتي درهمٍ بالوزن بهذه الصفة.. فعليه الزكاة، وهو قول كافة العلماء.(3/283)
وقال المغربي من أهل الظاهر: إذا ملك مائتي درهم عددًا.. فعليه الزكاة سواءٌ كانت صغارًا أو كبارًا، وإن كان معه أقل من مائتي درهم عددًا.. فلا زكاة عليه، وإن كان وزنها أكثر من مائتي درهمٍ.
وهذا قولٌ يخالف الإجماع؛ لأن الأمة قد أجمعت قبله على ما ذكرناه.
إذا تقرر ما ذكرناه: فإن المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلامٍ.
وأما الدراهم: فقال أبو عبيدٍ القاسم بن سلام: سمعت شيخًا من أهل المعرفة بهذا الشأن يقول: كانت الدراهم في الجاهلية نوعين: كسروية سوداء ثقالًا، في كل درهمٍ منها درهمٌ ودانقان. وطبرية خفافًا، في كل درهم منها أربعة دوانق، فلما كان الإسلام، وكانت الزكاة تجب في مائتي درهمٍ، وأراد بنو أمية ضرب الدراهم، فقالوا: إن ضربنا من الكسروية.. أضررنا بالمساكين، وإن ضربنا من الطبرية.. أضررنا بأرباب الأموال، فجمعوا الدرهمين الكسروي والطبري، فبلغا اثني عشر دانقًا، فضربوا من ذلك درهمين متساويين في كل درهمٍ ستة دوانيق، وفي كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل؛ لأن المثقال لم يختلف.
وقيل: إن الذي ضرب الدراهم زياد بن أبيه في أيام معاوية.
وقيل: بل هو الحجاج بن يوسف في زمان عبد الملك بن مروان.
فالأوقية: أربعون درهمًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بلغ مال أحدكم خمس أواقٍ مائتي درهمٍ.. ففيه خمسة دراهم» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان مهور أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته اثني عشر أوقية ونشًا، أتدرون ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية: عشرون درهمًا» .(3/284)
وقال أبو العباس ابن سريج: الدراهم لم تختلف - أيضًا - كالمثقال.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا غلطٌ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (مائتا درهمٍ من دراهم الإسلام) . فلولا أنه اختلف بالجاهلية والإسلام.. لما قيده بالإسلام.
إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب " في (الزكاة) : ودراهم الإسلام الذي كل أوقية بسبعة مثاقيل. وهذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو حامدٍ وغيره.
وقد ذكر في " المهذب " - أيضًا - في (الإقرار) : الذي وزن كل عشرة دراهم بسبعة مثاقيل. كما ذكره غيره، فيحتمل ما ذكره: أنه أراد الذي ربع كل أوقية بسبعة مثاقيل، فأسقط الكاتب قوله: ربعٌ، ويحتمل: أن يكون الشيخ أبو إسحاق لم يرد بقوله: الأوقية الشرعية، وإنما أراد: الأوقية المستعملة عند الناس، فإن الناس يسمون عشرة دراهم: أوقية.
[فرع: لا يكمل نصاب ذهب بنصاب فضة]
] : ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب، بل يعتبر نصاب كل واحدٍ منهما بنفسه.
وقال أبو حنيفة: (يضم أحدهما على الآخر بالقيمة) .(3/285)
وقال مالكٌ، وأبو يوسف، ومحمدٌ: (يضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء، فإذا كان معه عشرة مثاقيل ومائة درهمٍ.. وجبت عليه الزكاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون عشرين مثقالًا من الذهب صدقة، ولا فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة» . ولم يفرق بين أن يكون معه ما يتم ذلك من الجنس الآخر، أو لا شيء معه.
ولأنهما مالان نصابهما مختلفٌ، فلم يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب، كالإبل والبقر.
[مسألة: كمال النصاب من أول الحول وإلى آخره]
] : قال الشافعي: (ولا تجب الزكاة في الذهب، حتى يكون عشرين مثقالًا في أول الحول وآخره، فإن نقصت شيئًا، ثم تمت عشرين مثقالًا.. فلا زكاة فيها حتى يستقبل بها حولًا من يوم تمت) .
وجملة ذلك: أن المال الذي تجب الزكاة في عينه، ويعتبر فيه الحول، مثل: الذهب والفضة والمواشي، يعتبر وجود النصاب فيه من أول الحول إلى آخره، فإن نقص عن النصاب في أثناء الحول.. انقطع الحول، وبه قال مالكٌ وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (الاعتبار بالنصاب: كلا طرفي الحول، فإن نقص عن النصاب في أثناء الحول.. لم ينقطع الحول إذا بقي من المال شيءٌ) . بيانه: إذا كان معه أربعون شاة في أول الحول، فهلك الجميع إلا واحدًا في أثناء الحول، ثم ملك في آخر الحول تسعًا وثلاثين، مع الباقية من الأربعين.. وجبت عليه الزكاة عند تمام الحول من حين ملك الأربعين.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» . وهذا المستفاد لم يحل عليه الحول.(3/286)
[فرع: زكاة النقدين ربع العشر]
] : وزكاة الذهب والفضة ربع العشر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» .
ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عمر، ومن الفقهاء: مالكٌ، وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب فيما زاد على عشرين مثقالًا شيءٌ حتى تبلغ الزيادة أربعة دنانير، ولا تجب فيما زاد على مائتي درهم شيءٌ حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا) .
دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هاتوا ربع العشر من الورق من كل أربعين درهمًا درهمٌ، ولا شيء في الورق حتى تبلغ مائتي درهمٍ، فإذا بلغ مائتي درهم.. ففيها خمسة دراهم، فإذا زاد على ذلك.. ففيها بحسابها» ، ولأنها زيادة على نصابٍ في جنسٍ لا ضرر في تبعيضه، فوجب فيما زاد بحسابه، كالحبوب، وفيه احترازٌ من الماشية؛ لأن في تبعيضها ضررًا.
[فرع: إذا كانت الدراهم جيدة ورديئة]
] : إذا كان بعض دراهمه جيدة وبعضها رديئة من جهة الجنس، مثل: أن يكون بعضها لينة، وبعضها خشنة.. ضم بعضها إلى بعضٍ في إكمال النصاب، وتخرج الزكاة من كل واحدٍ منها بقسطها، وكذلك: إذا كانت أنواعًا.. أخرج من كل نوع بقسطه.
وإن كثرت الأنواع.. فذكر في " المهذب ": أنه يخرج الوسط، كما قلنا في الثمار.(3/287)
وأما ضرب الدراهم المغشوشة: فيكره ذلك للإمام؛ لأنه ربما غر المسلمون بعضهم بعضًا بها؛ ولأن من عليه عشرة دراهم إذا دفع عنها عشرة دراهم مغشوشة.. لا تبرأ ذمته إذا لم تكن الفضة فيها عشرة دراهم.
وأما غير الإمام: فيكره له ضرب الدراهم المغشوشة؛ لما ذكرناه في الإمام، ولأن ضرب الدراهم للإمام، فلا يفتات عليه، وهل يصح الشراء بها؟ فيه وجهان: يأتي ذكرهما.
وأما وجوب الزكاة فيها: فإن كانت الفضة فيها أقل من مائتي درهمٍ.. لم تجب فيها الزكاة؛ لأنها أقل من النصاب.
وإن كانت الفضة فيها تبلغ مائتي درهم.. وجبت فيها الزكاة، وبه قال مالكٌ، وأحمدُ.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الغش فيها أقل.. وجبت فيها الزكاة، وإن كان الغش أكثر أو كانا سواءً.. لم تجب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة» . وهذه دون خمسة أواقٍ.
إذا ثبت هذا: فإن كان يعرف قدر الفضة التي فيها.. أخرج عنها الزكاة، وإن كان لا يعرف.. فهو بالخيار بين أن يمسكها؛ ليعرف الفضة، فيخرج منها، أو يخرج الزكاة، ويستظهر، بحيث يعلم أنه لم ينقص عما وجب عليه فيها، فإن كان معه ألف درهمٍ مغشوشة، فأخرج عنها خمسة وعشرين درهمًا فضة.. قال الشافعي: (قبل منه وقد تطوع بالفضل) .(3/288)
[فرع: يخرج زكاته من دراهمه]
] : إذا كان معه مائتا درهمٍ جيدة قد وجبت فيها الزكاة، فأخرج عنها خمسة دراهم مغشوشة.. فإنها لا تجزئه.
وقال أبو حنيفة: (تجزئه) .
وقال محمد بن الحسن: يجزئه ما فيها من الفضة، وعليه أن يخرج الفضل، فيتصدق به.
دليلنا: أنه أخرج المغشوش عن الجيد، فلم يجزه، كما لو أخرج مريضة عن الصحاح.
إذا ثبت هذا: فهل له أن يسترجعها؟ قال أبو العباس: فيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يسترجعها، وتكون تطوعًا؛ لأنه أخرج المعيب في حق الله تعالى، لم يكن له استرجاعه، كما لو وجب عليه عتق رقبة سليمة، فأعتق رقبة معيبة.
والثاني: له أن يسترجعها، وهو الصحيح؛ لأنه أخرجها عن الزكاة، فإذا لم تقع موقعها.. كان له استرجاعها، كما لو أسلف الزكاة، فتلف ماله.
قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا دفعها وقال: هذه زكاة هذا المال بعينه، فأما مع الإطلاق، فلا يتوجه الرجوع.
فإذا قلنا: له أن يسترجعها، فإن كانت باقية.. أخذها، وإن استهلكها المساكين.. أخرج الفضل.
قال أبو العباس: وكيفية معرفة ذلك أن يبتاع بأربعة دراهم فضة جيدة قطعة ذهبٍ، ثم يبتاع بتلك القطعة دراهم مغشوشة، فإن ابتاع بها خمسة مغشوشة.. علمنا أن قيمة التي أخرج أربعة دراهم جيدة، فيخرج درهمًا جيدًا.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وكنت قد حكيتها عن أبي العباس، بخلاف هذا، وغلطت فيه، والصحيح هذا، فينبغي لمن عقلها أن يضرب عليها.(3/289)
[فرع: مزيج الذهب بفضة]
] : ذكر في " التعليق " و " المجموع ": إذا كانت له فضة ملطخة بذهبٍ، أو ذهبٌ ملطخٌ بفضة، فإن كان رب المال يعلم قدر كل واحدٍ منهما.. رجع إليه، وإن قال: لا أعلم، فإن كان رب المال هو المخرج للزكاة.. نظرت:
فإن قال: يغلب على ظني أن الذهب كذا، والفضة كذا.. جاز أن يخرج الزكاة على غالب ظنه؛ لأن ذلك موكولٌ إلى الاجتهاد، فجاز الإخراج به.
وإن قال: لا يغلب على ظني، ولكني أخرج الزكاة بالاستظهار، مثل: أن يقول: هذا الذهب المخلوط يجوز أن يكون خمسة عشر دينارًا، أو عشرين دينارًا، ولكني أخرج زكاة خمسة وعشرين دينارًا، أو يتحقق أنها لا تبلغ ذلك، وهذه الفضة يجوز أن تكون مائتي درهمٍ، أو مائتين وخمسين درهمًا، ويتحقق أنها لا تبلغ ثلاثمائة درهمٍ، وأخرج زكاة ثلاثمائة درهمٍ.. جاز ذلك؛ لأنه قد أدى الزكاة وزيادة، وإن لم يفعل ذلك.. ميزهما بالنار.
وإن طالبه الإمام بالزكاة، وأراد أن يستوفيها منه: فإن قال رب المال: أنا أعلم قدر كل واحدٍ منهما.. قبل منه؛ لأنه أمينٌ، وإن قال: لا أعلم قدرهما، ولكن قال: يغلب على ظني قدر كل واحدٍ منهما.. لم يقبل منه ذلك.
والفرق بينهما وبين التي قبلها: أن رب المال إذا كان هو المخرج.. فإن ذلك موكولٌ إلى اجتهاده، فإذا كان الإمام هو الآخذ للزكاة.. فإن ذلك موكولٌ إلى اجتهاده، ولا يجوز أن يحكم باجتهاد غيره، فإذا ثبت أنه لا يقبل، فإن أعطى رب المال الزكاة على الاستظهار، على ما ذكرناه في الأولى.. جاز، وإن لم يعط على الاستظهار.. ميزهما بالنار.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 142] : ويمكن أن يعلم قدر كل واحدٍ منهما حقيقة من غير تمييزٍ بالنار، بأن يجعل ماءً في إناءٍ، ويطرح فيه من الذهب الخالص مثل وزن المخلوط، فيعلو الماء في الإناء، فيعلم على رأس الماء بعلامة في الإناء، ثم يخرج ذلك الذهب من الماء، ويطرح فيه من الفضة الخالصة مثل وزن المخلوط، فيعلو الماء(3/290)
في الإناء، فيعلم على رأس الماء، ويزيد على علوه مع الذهب؛ لأن الفضة أضخم جثة من الذهب، فيعلم على رأس الماء في الإناء بعلامة ثانية، ثم يخرج تلك الفضة، ثم يطرح فيه المخلوط، فيزيد علو الماء على علو الماء مع الذهب؛ لما في المخلوط من الفضة، ولا يبلغ علو الماء مع الفضة، لما في المخلوط من الذهب، فيعلم على رأس الماء في الإناء بعلامة ثالثة بين العلامتين الأولتين، ثم يمسح ما بين العلامة الوسطى والعليا، وما بين الوسطى والسفلى، فإن كانت المساحتان سواءً.. فنصف المخلوط ذهبٌ، ونصفه فضة، وإن زاد أحدهما على الثاني.. فبحساب ذلك.
[مسألة: من عليه دين]
] : وإن كان له دينٌ.. نظرت:
فإن كان غير لازم، كمال الكتابة.. لم تجب عليه فيه زكاة؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه بأن يعجز نفسه.
فإن كان لازمًا.. فهل تجب فيه الزكاة؟
قال الشافعي في القديم - فيما نقله الزعفراني عنه -: (ولا أعلم في وجوب الزكاة في الدين خبرًا يثبت، وعندي: أن الزكاة لا تجب في الدين؛ لأنه غير مقدورٍ عليه، ولا معينٍ) .
وقال في الجديد: (تجب فيه الزكاة) . وهو الأصح؛ لأنه مالٌ يقدر على قبضه، فهو كالوديعة.
فإذا قلنا بهذا: وعليه التفريع.. نظرت في الدين:
فإن كان حالًا على مليء باذلٍ له أي وقتٍ طولب به.. فهذا يجب على مالكه إخراج الزكاة عنه عند تمام كل حولٍ إن كان نصابًا؛ لأن هذا كالمال المودع.
وإن كان الدين على مليءٍ موسرٍ إلا أنه يقر له به في الباطن دون الظاهر، ولا بينة له:
فعلى هذا: إذا حال عليه الحول.. وجبت فيه الزكاة، ولكن لا يلزم المالك(3/291)
إخراجها إلا بعد أن يقبضه، فإذا قبضه.. زكاه لما مضى.
وإن كان الدين على مليء جاحدٍ له في الظاهر والباطن، أو على مقرٍ معسرٍ.. فهذا لا يجب عليه إخراج الزكاة عند الحول.
فإذا قبضه.. فهل يلزمه أن يزكي عنه لما مضى؟ فيه قولان، كالمال المغصوب.
وإن كان له بينة على الدين الذي يجحده المليء، أو يعلمه الحاكم.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب: أنه يجب عليه الزكاة؛ لأنه يقدر على أخذه.
وإن كان له دينٌ مؤجلٌ على مليءٍ مقرٍ.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: هو مملوكٌ له، ولكن لا يملك المطالبة به.
فعلى هذا: لا يجب إخراج الزكاة فيه قبل قبضه، وهل تجب الزكاة عليه لما مضى إذا قبضه؟ فيه قولان، كما لو كان على معسر مقرٍّ.
و [الثاني] : قال أبوعلي بن أبي هريرة: لا يملكه قبل حلول الأجل؛ لأنه لا يملك المطالبة به.
فعلى هذا: إذا قبضه.. استأنف الحول به، ولا يزكيه لما مضى، قولًا واحدًا.
والأول أصح؛ لأنه لو أبرأه عنه.. صح إبراؤه.
[فرع: من له مال غائب]
] : فإن كان له مالٌ غائبٌ، فإن كان مقدورًا عليه، بأن يكون بعث مالًا بضاعة إلى بلدٍ، وهو يعرف خبره وسلامته ويقدر على التصرف فيه.. فتجب فيه الزكاة عند الحول.
وأما وجوب الإخراج قبل أن يرجع إليه: فذكر في " المهذب " و " الشامل ": أنه لا يجب عليه إلا بعد أن يرجع إليه.
وظاهر كلام الشيخ أبي حامدٍ في " التعليق ": أنه يجب عليه الإخراج قبل أن يرجع إليه؛ لأنه قال: فكلما حال عليه الحول.. فعليه إخراج الزكاة عنه.(3/292)
والمستحب: أن يخرج زكاته في البلد الذي فيه المال، فإن أخرجها في بلد نفسه.. فعلى القولين في نقل الصدقة.
وإن كان المال الغائب بحيث لا يعرف موضعه أو يعرف موضعه، ولكنه لا يقدر عليه.. فلا يلزمه إخراج الزكاة عنه قبل أن يرجع إليه، فإذا رجع إليه.. فهل يلزمه أن يزكيه لما مضى؟ فيه قولان، كالمال المغصوب.
إذا ثبت هذا: فكل دينٍ يجب عليه إخراج الزكاة عنه قبل قبضه، فإنه يضمه إلى ما كان معه من جنسه؛ لإكمال النصاب، ويلزمه إخراج الزكاة عما معه أيضًا.
وكل دينٍ لا يلزمه إخراج الزكاة عنه إلا بعد قبضه، فإن كان معه من جنسه ما لا يتم النصاب إلا بالدين.. فإنه لا يلزمه إخراج الزكاة عما معه قبل أن يقبض الدين، فإذا قبض الدين.. أخرج الزكاة عنه، وعما معه لما مضى.
وكل دينٍ لا يجري في الحول إلا بعد قبضه، فإنه لا يتم به نصاب ما معه من جنسه.
[مسألة: زكاة ريع العقار]
] : إذا أكرى داره أربع سنين بمائة دينارٍ، وقبضها، وأقامت في يده إلى أن انقضت مدة الإجارة، لم ينفقها.. فلا خلاف على المذهب: أن المكري يملك المائة بنفس العقد.(3/293)
فإن مضت السنة الأولى: قال الشيخ أبو حامدٍ: فلا خلاف على المذهب: أن الزكاة قد وجبت في المائة، ويلزمه إخراج زكاة خمسة وعشرين منها؛ لأن ملكه قد استقر عليها، وهل يلزمه إخراج زكاة الخمسة والسبعين؟ فيه قولان.
وقال القاضي أبو الطيب: القولان في الوجوب في الخمسة والسبعين.
قال ابن الصباغ: والصحيح قول الشيخ أبي حامدٍ، وعليه التفريع:
أحدهما: يلزمه إخراج الزكاة عن الجميع، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.
ووجهه: أن ملكه قد ثبت على الجميع، وملك التصرف فيه، بدليل: أن الأجرة لو كانت جارية.. ملك وطئها، فأشبه مهر المرأة قبل الدخول.
والثاني: لا يلزمه إخراج الزكاة إلا عن القدر الذي استقر ملكه عليه، وهو اختيار الشيخ أبي حامدٍ، والمحاملي.
ووجهه: أن ملكه غير مستقرٍّ على ما زاد على أجرة السنة الأولى؛ لأن الدار قد تنهدم، فجيب رد الأجرة، فلم يجب إخراج زكاته، كمال الكتابة، ويفارق الصداق، فإن المرأة تملكه تملكًا تامًا.
وإذا طلقها قبل الدخول: فإنما يعود النصف إلى الزوج بمعنًى آخر، وهو الطلاق، لا بالملك المتقدم، فصار كما لو أصدقها شيئًا، ثم اشتراه منها.
فعلى هذا: إذا مضت السنة الأولى.. وجب عليه أن يخرج زكاة خمسة وعشرين دينارًا، وهو نصف دينارٍ وثمن دينارٍ؛ لأن ملكه قد استقر عليها، فإذا مضت السنة الثانية، فقد استقر ملكه على خمسة وعشرين ثانية، وعلمنا: أن ملكه قد استقر عليها سنتين.
فإن كان قد أخرج زكاة الخمسة والعشرين الأولى في السنة الأولى من غيرها.. زكاها في العام الثاني، وإن أخرج زكاتها منها في العام الأول.. زكى ما بقي منها في العام الثاني.
وأما الخمسة والعشرون الثانية: فقد حال عليها حولان:(3/294)
فإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. أخرج عنها زكاة حولين، وهو دينارٌ وربعٌ.
وإن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من العين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولكن لم يكن له مالٌ غيرها.. لزمه زكاتها في الحول الأول، وفي الحول الثاني: يلزمه زكاتها إلا عن قدر الزكاة فيها في الحول الأول، فإنه لا يلزمه زكاة ذلك في الثاني، فإذا مضت السنة الثالثة.. فقد استقر ملكه على خمسة وعشرين ثالثة، وعلمنا: أن ملكه ثابتٌ عليها ثلاث سنين.
فأما الخمسون الأولى: فإن كان قد أخرج زكاتها للحولين الأولين منها.. زكى ما بقي منها في الحول الثالث، وإن أخرج زكاتها من غيرها.. زكى جميعها للحول الثالث.
وأما الخمسة والعشرون الثالثة: فإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. أخرج عنها زكاة ثلاث سنين، وهو دينارٌ وسبعة أثمان دينارٍ.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولا مال له غيرها.. وجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الأول نصف دينارٍ وثمن دينارٍ، ووجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الثاني، إلا عن قدر ما وجب للأول، فلا يلزمه إخراج زكاته، ووجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الثالث، إلا عن قدر ما وجب للعام الأول والثاني، فلا يلزمه إخراج الزكاة عنه في العام الثالث.
فإذا مضت السنة الرابعة.. استقر ملكه على الخمسة والعشرين الرابعة أربع سنين، فإن كان قد أخرج الزكاة عن أجرة الثلاث السنين الأولى من غيرها.. زكى جميعها في العام الرابع، وإن أخرج زكاتها منها.. زكى ما بقي منها في العام الرابع.
وأما أجرة السنة الرابعة، فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. لزمه إخراج الزكاة عن جميعها أربع سنين، وهو ديناران ونصفٌ.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولا مال له غيرها.. زكى جميعها للحول الأول، وزكاها للثاني إلا عن قدر ما وجب للأول،(3/295)
وزكاها للثلث إلا عن قدر ما وجب للأول والثاني، وزكاها للعام الرابع إلا عن قدر ما وجب للأول والثاني والثالث.
[مسألة: مصوغ الذهب والفضة]
] : وأما المصوغ من الذهب والفضة: فعلى ضربين: مباحٌ، ومحظورٌ.
فأما المباح: فهو ما يتخذه الرجل كحلية لنفسه، كالمنطقة المحلاة بالفضة، والقبيعة للسيف، والخاتم من الفضة، وكذلك ما تتخذه المرأة لتلبسه من خلاخل الذهب والفضة والدمالج والمخانق وغير ذلك، فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب فهي الزكاة، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباسٍ، وابن مسعودٍ، وعبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن الفقهاء: الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه؛ لما روي: «أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تلبس أوضاحًا من ذهبٍ، قالت: فقلت: أكنزٌ هو يا رسول الله؟ قال: " ما بلغ أن يزكى، فزكي، فليس بكنزٍ» . وروي: «أن امرأة من اليمن أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنتها، وفي يدها(3/296)
مسكتان غليظتان من ذهبٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أتؤدين زكاة هذا؟ "، قالت: لا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار؟! " فخلعتهما، وألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: هما لله ولرسوله» .
والثاني: لا تجب فيه الزكاة. قال المحاملي: وهو الصحيح، وبه قال ابن عمر وجابرٌ وعائشة، وأختها أسماء، ومن التابعين: الحسن، وابن المسيب والشعبي، ومن الفقهاء: مالكٌ، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فريعة ابنة أبي أمامة قالت: (حلاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رعاثًا من ذهبٍ، وحلا أختي، وكنا في حجره، فما أخذ منا زكاة حليٍّ قط» .(3/297)
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في الحلي» .
ولأنه مبتذلٌ في مباحٍ، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من البهائم.
وأما ما روي من حديث أم سلمة، وحديث المرأة التي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن: فيحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كان لبس الذهب محرمًا على النساء؛ لأنه قد(3/298)
روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من تطوق بطوقٍ من ذهبٍ.. طوقه الله يوم القيامة بطوقٍ من نارٍ» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من تسور بسوارٍ من ذهبٍ.. سوره الله بسوارٍ من نارٍ» . وهذا كان في أول الإسلام.
إذا ثبت هذا: فللرجل أن يتخذ الخاتم من الفضة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتمًا من فضة فكان إذا لبسه.. جعل فصه مما يلي كفه» وكان السبب في ذلك أن الأكاسرة كانوا لا يقبلون الكتب إلا مختومة، فاتخذ ذلك ليختم به الكتب، وكتب على الفص ثلاثة أسطرٍ: " محمدٌ "، سطرٌ، و " رسول " سطرٌ، و " الله " سطرٌ؛ فلما توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أخذه أبو بكرٍ، ثم أخذه بعده عمر، ثم أخذه بعده عثمان، ثم وقع في بئرٍ في أيام عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) .
وأما تختم الرجل بالذهب: فلا يجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب» .(3/299)
ويجوز للرجل أن يتخذ قبيعة السيف والسكين من فضة؛ لما روي: «أن سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قبيعة من فضة» .
وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملٌ في أنفه برة من فضة، وإنما اتخذ ذلك؛ لأنه يغيظ به المشركين» .
ويجوز له أن يحلي المصحف بالفضة، وهل له أن يحليه بالذهب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوزُ؛ لأن فيه تعظيم القرآن، فأشبه الفضة.
والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للرجل لا للقرآن، والرجل لا يجوز أن يتحلى بالذهب.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فأوجب الزكاة في حلية المصحف، وهذا يدل على أنها غير مباحة عنده.
وهل يجوز للرجل أن يحلي اللجام وثفر الدابة بالفضة؟ فيه وجهان:(3/300)
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه زينة وغيظًا للمشركين وترهيبًا لهم، فشابه حلية السيف.
والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للدابة.
ولا يجوز أن يتخذ محبرة من فضة، ولا دواة ولا مقلمة من فضة، لأن ذلك يجري مجرى الأواني من الفضة في البيت.
ويجوز للمرأة أن تلبس من حلي الذهب والفضة ما جرت عادة النساء بلبسه، كالخلاخل والدمالج والأساور والمخانق، ولا يجوز أن تحلي ربعتها ولا مرآتها؛ لأن ذلك يجري مجرى الآنية من الذهب والفضة.
ولا يجوز للرجل أن يتخذ لنفسه حلي النساء، ولا للمرأة أن تتخذ لنفسها حلي الرجال، كالمنطقة والطوق، فإن اتخذ الرجل حلية النساء؛ ليلبسه نساءه، أو يعيره.. جاز، وكذلك إذا اتخذت المرأة حلي الرجال؛ لتلبسه زوجها، أو ولدها، أو لتعيرها الرجال.. جاز ذلك، وكل ما قلنا لا يجوز استعماله، فتجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا، وكل ما جوزنا استعماله، ففي وجوب الزكاة فيه: القولان في الحلي.
وإن اتخذ الرجل أو المرأة آنية من ذهبٍ أو فضة.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا، سواءٌ قلنا: يجوز الاتخاذ أو لا يجوز؛ لأن الزكاة إنما تسقط في أحد القولين، إذا كان معدًا لاستعمال مباحٍ، وهذا غير معدٍّ لذلك.
وإن اتخذ الرجل حلية يجوز له لبسها، أو اتخذت المرأة حلية يجوز لها لبسها، ونويا القنية بذلك.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍِّ لاستعمالٍ مباحٍ.
فإن اتخذ الرجل منطقة من فضة ثقيلة لا يمكن لبسها، أو اتخذت المرأة حليًا ثقيلًا لا يمكن لبسه.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍّ لاستعمالٍ مباحٍ.(3/301)
[فرع: تزيين المساجد بالفضة والذهب]
] : قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجوز تفضيض المساجد، ولا أن يتخذ لها قناديل من ذهبٍ أو فضة، لأن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك، فإن فعل ذلك.. ففيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يوقفها على المسجد، فلا يجب فيها الزكاة؛ لأن ملكه زال عنها، ولكن لا يجوز استعمالها.
وكذلك: لا يجوز أن يموه سقف بيته بذهبٍ ولا فضة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أن في ذلك سرفًا وخيلاء، فلم يجز، كالتختم بالذهب.
إذا ثبت هذا: فإن كان يمكنه تخليصه، وكان نصابًا، أو لمالكه من جنسه مالٌ إذا ضمه إليه بلغ نصابًا.. وجبت فيه الزكاة، وإن أخرج الزكاة بالاستظهار.. جاز، وإن لم يخرج بالاستظهار، ولم يعلم قدر ما فيها.. ميز بالنار، وإن كان إذا خلص، لم يتخلص منه شيءٌ.. فإنه لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه تالفٌ. قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامدٍ: إذا كان لا يتخلص، وكان مستهلكًا.. لم يحرم استدامته.
[فرع: الزكاة في حلي الخنثى]
] : ذكر القاضي أبو الفتوح: لا يجوز للخنثى المشكل أن يتخذ حلي الرجال، ولا حلي النساء؛ ليستعمله، فإن اتخذ شيئًا من ذلك.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يتخذه؛ ليلبسه جواريه، أو يعيره.
وإن اتخذت امرأة حليًا للكراء.. ففيه طريقان:
أحدهما: تجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه معد لطلب النماء، فهو كما لو اشترته للتجارة.(3/302)
والثاني: أنها على قولين؛ لأن النماء المقصود منه قد فقد، فإن الذي يحصل من الأجرة قليلٌ.
قال الصيمري: وهل يجوز إكراء الذهب بالذهب، والفضة بالفضة؟ فيه وجهان.
[فرع: الزكاة فيما كسر من الحلي]
] : إذا قلنا: لا تجب الزكاة في الحلي، فانكسر، فإن كان كسرًا لا يصلح حتى تعاد صياغته.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إذا قام في يده حولًا بعد الكسر؛ لأنه لا يصلح للاستعمال، فهو كالتبر، وإن انكسر كسرًا لا يمنع من اللبس، كالشق في الخاتم والخلخال.. لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ، وهذا الشق لا تأثير له.
وإن انكسر كسرًا يمنع من لبسه، ولا يحتاج إلى إعادة صياغته من أصلها، بل يكفي فيه اللحام مثل: أن ينقسم نصفين، فإن نوت كنزه دون استعماله.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنها لو نوت ذلك قبل الانكسار، لوجبت فيه الزكاة، فبعد الانكسار أولى، وإن نوت إصلاحه.. فلا زكاة فيه؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ.
وإن لم تنو به القنية، ولا الإصلاح.. ففيه قولان:
الأول: قال في القديم: (تجب فيه الزكاة؛ لأنه لا يمكن لبسه، فهو كما لو تفتت) .
والثاني - وهو قوله في " الأم " [2/35] : - (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه يمكن(3/303)
إصلاحه للبس، والظاهر بقاؤه على ما كان من إرصاده للاستعمال) .
هكذا ذكره الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا.
وذكر في " المهذب ": إذا انكسر بحيث لا يمكن لبسه إلا أنه يمكن إصلاحه.. فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان من غير تفصيلٍ، ولعله أراد ما ذكروه.
[فرع: زكاة الحلي المباح]
] : إذا قلنا: تجب الزكاة في الحلي المباح، فإن كان لامرأة خلخالٌ قيمته ثلاثمائة درهمٍ، ووزنه مائتا درهم.. فإن الزكاة تجب على قدر وزنه، لا على قيمته، فإن سلم رب المال ربع عشره إلى الإمام، أو إلى المساكين مشاعًا.. جاز، فإذا صح تسليمه.. كان الإمام أو المساكين بالخيار: بين أن يبيعوه منه أو من غيره، ثم يفرق ثمنه عليهم.
وإن أعطى رب المال خمسة دراهم جيدة، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ، لجودة سكتها وطبعها.. قبل منه؛ لأنه أعطى مثل ما وجب عليه، وإن أراد أن يعطي سبعة دراهم ونصفًا.. لم يجز؛ لأنه يعطي ذلك عوضًا عن خمسة دراهم، وذلك ربًا.. فلم يجز.
وإن قال رب المال: أنا أكسره، وأعطي منه خمسة دراهم، أو طلب المساكين ذلك.. لم يجز، وذلك؛ لأن النقص يدخل عليهم، وإن قال رب المال: أنا أكسره وأعطي قطعة ذهبٍ، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي العباس -: أنه يجوز؛ لأن هذا موضع ضرورة، لأنه لا يمكن أخذ الزكاة من عينه، ولا من غيره، فدعت الحاجة إلى أن يأخذ بقيمة الزكاة ذهبًا.
والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامدٍ، وإليه أشار في " المهذب " -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه أن يسلم ربع عشره مشاعًا، وإن كان مع رجل إناءً من ذهبٍ أو فضة، وزنه مائتا درهمٍ، وقيمته ثلاثمائة درهمٍ.. فإن استعماله لا يجوز، قولًا واحدًا، وهل يجوز اتخاذه؟ فيه قولان، وقيل: فيه وجهان:(3/304)
وتجب الزكاة فيه، قولًا واحدًا.
وأما كيفية أخذ الزكاة منه، فإن قلنا: إن اتخاذه يجوز.. فالحكم فيه كالحكم في الخلخال، على ما ذكرناه.
وإن قلنا: إن اتخاذه لا يجوز، وهو ظاهر المذهب، فإن سلم رب المال ربع عشره مشاعًا.. جاز، وإن أراد أن يكسره، ويسلم الزكاة منه.. جاز؛ لأنه لا قيمة لصنعته، وإن أعطى خمسة دراهم من نوع تلك الفضة، أو أجود منها، قيمتها خمسة دراهم.. جاز؛ لأنه قد أعطى مثل ما وجب عليه، وتلك الصنعة لا قيمة لها، وإن أراد أن يعطي قطعة ذهبٍ قيمتها خمسة دراهم.. لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لو أعطى سبعة دراهم ونصفًا.. جاز؛ لأنه يكون متطوعًا بالزيادة على الخمسة.
وإنما لا يجوز، إذا أخرج ذلك بالقيمة للصنعة، والصنعة هاهنا لا قيمة لها، فيكون متطوعًا بالزيادة، فهو كما لو وجب عليه وسقٌ، فأعطى وسقين.
وبالله التوفيق(3/305)
[باب زكاة مال التجارة]
قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن الزكاة واجبة في أموال التجارة) . وبه قال عمر، وابن عمر، وجابرٌ، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة، والثوري، وأبو حنيفة.
واختلف قول الشافعي في القديم، فقال فيه: (اختلف الناس في وجوب الزكاة في مال التجارة، فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وهو قول ابن عباسٍ، وهو القياس - وبه قال داود - وقال بعضهم: تجب الزكاة فيها بكل حالٍ، وهذا أحب إلينا.. وذهبت طائفة إلى: أنه لا زكاة فيها حتى تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت أخذ منها زكاة عامٍ واحدٍ، وإليه ذهب عطاءٌ، وربيعة، ومالكٌ) .
دليلنا: ما روى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته» . قاله بالزاي المنقوطة، والبز: لا تجب فيه الصدقة إلا إذا كان للتجارة.(3/306)
وروي عن سمرة بن جندب: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا نصٌّ؛ لأن الذي نعده للبيع هو عروض التجارة.
ولأن الأثمان لما كانت على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو الحلي المعدة لاستعمالٍ مباحٍ.
ومنها: ما تجب فيه لزكاة، وهو ما عدا ذلك.
والماشية على ضربين:
منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهي المعلوفة.
ومنه: ما تجب فيه الزكاة، وهي السائمة.(3/307)
وجب - أيضًا - أن تكون العروض على ضربين:
منهما: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو ما لا يكون للتجارة.
ومنها: ما تجب فيه الزكاة، وهو ما أعد للتجارة.
ووجه المشابهة بينهما: أنه مالٌ: يطلب فيه النماء، فوجبت فيه الزكاة، كالأثمان والسائمة.
[مسألة: المعاوضة شرط للتجارة]
] : ولا يصير العرض للتجارة، إلا بأن يملكه بعقد معاوضة، كالبيع والإجارة، وينوي بالعقد أنه للتجارة، فإن ورثه أو اتهبه، ونوى أنه للتجارة، أو اشتراه ولم ينو به التجارة.. لم يصر للتجارة، وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة.
وقال أحمد، وإسحاق: (تصير للتجارة) . وتابعهما الحسين الكرابيسي من أصحابنا.
دليلنا: أن كل ما لم تجب الزكاة فيه من أصله.. لم يصر للزكاة بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، وفيه احترازٌ من الأثمان.
فإن قيل: أليس لو اشترى شاة بنية أنها أضحية.. لم تصر أضحية حتى ينوي بها بعد الشراء؟
قلنا: الفرق بينهما: أن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية توجب زوال الملك، وهما أمران متنافيان، فجرى مجرى من اشترى عبدًا بنية إعتاقه، فإن العتق لا يصح، وليس كذلك إذا اشترى عرضًا ونوى به التجار؛ لأن نية التجارة لا توجب زوال الملك، فلذلك جاز اجتماعهما.
فإن نوى بعرض التجارة القنية.. انقطع حول التجارة فيه؛ لأن نية القيمة اقترنت بفعل القنية، وهي الإمساك، فهو كالمسافر إذا نوى الإقامة.(3/308)
[فرع: نية التجارة بالصداق]
] : إذا تزوجت امرأة بمالٍ، ونوت عند العقد أنه للتجارة، أو خالع الرجل امرأته بمالٍ، ونوى عند العقد أنه للتجارة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 144] :
أحدهما: أنه يصير للتجارة، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا؛ لأنه ملكه بعقد معاوضة، فهو كالمملوك بالبيع.
والثاني: لا يصير للتجارة؛ لأن النكاح والخلع ليس المقصود منهما العوض، بدليل: أنه يصح من غير عوضٍ.
[فرع: نية التجارة لا يبطلها الفسخ]
] : لو باع عرضًا لا بنية التجارة، ثم فسخ البيع، ونوى بالفسخ التجارة.. لم يصر للتجارة؛ لأن ذلك ليس بتجارة، بل هو منعٌ منها.
ولو باع عرضًا بنية التجارة.. صار ما قبضه للتجارة، فلو وجد به عيبًا، ففسخ البيع بنية التجارة.. قال في " الإبانة " [ق \ 144] : لم تبطل التجارة؛ لأن العقد الذي انعقد للتجارة لم يبطل من أصله.
[مسألة: شراء ما تجب الزكاة بعينه]
] : إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه، كالسائمة من الماشية أو كالنخل والكرم، أو اشترى أرضًا للتجارة، فزرعها، أو كان بها زرعٌ.. نظرت:
فإن وجد نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى، كخمسٍ من الإبل لا تساوي مائتي درهمٍ، أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه؛ لأنه ليس - هاهنا - زكاة تعارضها.(3/309)
وإن وجد نصابهما.. فلا خلاف أن الزكاتين لا تجبان معًا، وأيهما يجب؟ ينظر فيه:
فإن اتفق حولاهما بأن اشترى خمسًا من الإبل للتجارة بعرض للقنية وأسامها، وقومت عند الحول، فبلغت قيمتها نصابًا.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تجب زكاة التجارة) . وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أبا حنيفة يقول في التجارة والزرع كقولنا الجديد.
ووجه هذا: حديث سمرة بن جندب حيث قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع، ولأن زكاة التجارة أعم؛ لأنها تجب في الثمرة، والجذع، وفي الأرض، والزرع، ولأنها تزاد بزيادة القيمة، فكان إيجابها آكد للمساكين.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب زكاة العين) . وبه قال مالكٌ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماءُ العشر» . ولم يفرق بين أن يكون للتجارة أو للقنية.
ولأن زكاة العين مجمعٌ عليها، بدليل: أن من قال: لا تجب زكاة العين.. يحكم بكفره، وزكاة التجارة مختلفٌ في وجوبها؛ ولهذا لا يكفر من قال: لا تجب.
وإن سبق حول إحدى الزكاتين، مثل: أن يكون عنده مائتا درهمٍ أقامت في يده أحد عشر شهرًا، فاشترى بها خمسًا من الإبل، فأسامها.. فإنه إذا مضى شهرٌ.. أتم حول زكاة التجارة.
وإن أقامت في يده ستة أشهرٍ، ثم اشترى بها أرضًا فيها نخلٌ للتجارة، فأقامت شهرًا، وبدا فيها الصلاح، وقد سبق حول زكاة العين.. فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامدٍ -: أنها على قولين، كالأولى؛ لأن(3/310)
الشافعي لم يفصل، ولأن الشافعي فرض الكلام في الثمرة، ويبعد أن يوافق آخر جزءٍ من حول التجارة أول بدو الصلاح، وبهذا قال أحمد.
والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار القاضي أبي الطيب -: أن التي سبق حولها تقدم، قولًا واحدًا، كما إذا وجد نصاب إحدى الزكاتين، فإنها أولى.
إذا ثبتَ هذا: فإنْ قلنا: تُقدَّمُ زكاة التجارة.. قوِّمت الأرض والزرع والجذوع والثمرة، وأخرج ربع العشر.
وإن قلنا: تقدم زكاة العين.. أخرج عن خمسٍ من الإبل شاة، وعن أربعين شاة شاة، وأخرج عشر الثمرة أو الزَّرْعِ، وهل تقوم الأرض أو الجذوع؟ فيه قولان حكاهما في " المهذب " و " الشامل "، وحكاهما صاحب " التعليق " و " المجموع " وجهين:
أحدهما: تقوم الأرض والجذوع، فإن بلغت القيمة نصابًا.. أخرج عنها زكاة التجارة، وإن لم تبلغ القيمة نصابًا.. لم يخرج شيئًا؛ لأن المخرج زكاة الثمرة، فبقيت الأرض والجذوع، ولا يتأتى فيها إيجاب زكاة العين، فوجبت فيهما زكاة التجارة.
والثاني: لا يقومان، ولا يجب فيها شيءٌ؛ لأنا إذا أوجبنا الزكاة في الثمار.. صارت الأرض والنخل، تبعًا لها، كما إذا ملك تسعًا من الإبل، فأخرج عنها شاة، فإن الأربعة تابعة للخمس.
[مسألة: اتجر بأربعين شاة]
فرعٌ: [اتجر بأربعين شاة] :
فإن اشترى أربعين شاة للتجارة، وأسامها، فإن قلنا: تجب زكاة التجارة، فأخرج عنها الزكاة في الحول الأول، فإذا جاء الحول الثاني قومها، فإن بلغت قيمتها نصابًا.. أخرج عنها الزكاة، وإن نقصت عن الأربعين، ولم تبلغ قيمتها نصابًا.. سقطت زكاة التجارة عنها.(3/311)
وإن قلنا: تجب زكاة العين.. أخرج عنها في الحول الأول شاة، فإذا حال الحول الثاني.. لم يجب فيها زكاة العين؛ لأنها ناقصة عن الأربعين، وهل تجب فيها زكاة التجارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا تجب لأنا قد حكمنا بأن زكاة التجارة لا تجب فيها، وإنما تجب فيها زكاة العين، وقد نقص نصابها، فسقطت.
والثاني: تجب فيها زكاة التجارة، وهو الصحيح؛ لأنه مالٌ للتجارة، وإنما أسقطنا زكاة التجارة إذا كان هناك ما هو أقوى منها، فإذا سقط الأقوى.. رجع إلى زكاة التجارة، وينبغي على قياس ما قاله الشيخ أبو حامد: إذا أوجبنا فيها زكاة التجارة، فأخرج عنها في الحول الأول، ثم قومناها في الحول الثاني، ولم تبلغ قيمتها نصابًا، ولم تنقص عن الأربعين.. هل يجب فيها زكاة العين على هذين الوجهين؟ الصحيح: أنها تجب.
قال الشافعي: (ولو كان مكان النخل غرسٌ لا زكاة فيها.. زكاها زكاة التجارة) .
وهذا صحيح كما قال، إذا ملك الرجل غرسًا لا يحمل، كودي النخل أو شجرة مثمرة لا تجب الزكاة في ثمرتها، مثل: التفاح والتين، وإن كان ذلك للتجارة.. زكاه زكاة التجارة، قولًا واحدًا؛ لأنه لم يوجد - هاهنا - زكاة تعارضها.
[فرع: شراء الحلي المباح للتجارة]
] : فإن اشترت المرأة حليًا مباحًا للتجارة.. فإن الزكاة تجب فيه، سواءٌ كانت تلبسه أو لا تلبسه، لأن الرجل إذا كان له مالٌ لا تجب فيه الزكاة، وجعله للتجارة.. وجبت فيه الزكاة، فإذا جعل ما تجب فيه الزكاة للتجارة.. أولى أن تجب.
فعلى هذا: إن قلنا: إن الحلي المباح لا تجب فيه زكاة العين.. فهاهنا تجب زكاة التجارة، قولًا واحدًا إذا بلغت قيمته نصابًا.(3/312)
وإن قلنا: الحلي المباح تجب فيه زكاة العين.. فقد ترادف هاهنا زكاتان، وأيهما تجب؟ فيه قولان، كما مضى.
[مسألة: شراء عرض التجارة]
] : إذا اشترى عرضًا للتجارة.. لم يخل: إما أن يشتريه بنقدٍ، أو بعرضٍ آخر:
فإن اشتراه بنقدٍ.. نظرت:
فإن اشتراه بنصابٍ من الأثمان.. فإنه يبني حول العرض على حول الثمن؛ لأن العرض فرعٌ لأصل تجب فيه الزكاة، فبنى حوله على حوله.
وإن اشتراه بدون النصاب من الأثمان.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها - وهو المذهب -: أن الحول ينعقد عليه من حين الشراء، فإن بلغت قيمته في آخر الحول نصابًا.. أخرج عنه الزكاة، ولا يعتبر وجوب النصاب في أول الحول، ولا في وسطه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» ، وهذا العرض قد حال عليه الحول، ولأن زكاة التجارة تجب في القيمة، وتقويم العرض في كل ساعة يشق، فاعتبر ذلك آخر الحول.
والوجه الثاني - حكاه في " التعليق " و " المجموع " و " المعتمد " عن أبي العباس ابن سريج -: أنه يعتبر وجود النصاب في أول الحول، وفي آخره، ولا يعتبر في وسطه، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مالٌ نقص عن النصاب، فلم يخرج في الحول، كأربع من الإبل.
والثالث - حكاه أبو إسحاق المروزي في " الشرح " -: أنه يعتبر وجود النصاب في جميع السنة، كسائر أموال الزكاة. وحكى صاحب " المهذب " وصاحب " الشامل " هذا الوجه عن أبي العباس.(3/313)
وإن اشتراه بعرضٍ للقنية.. نظرت:
فإن كان العرض من غير أموال الزكاة.. انعقد الحول عليه من حين الشراء.
وقال مالكٌ: (لا تجب الزكاة إلا فيما اشترى بالدراهم أو الدنانير) .
دليلنا: ما روي عن سمرة بن جندبٍ: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع.
ولأنه مالٌ اشترى بنية التجارة، فوجب أن تجب فيه الزكاة، كما لو اشتراه بالدراهم والدنانير.
وإن اشترى العرض بنصابٍ من السائمة.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو سعيدٍ الإصطخري: يبنى حول العرض على حول السائمة؛ لأن الشافعي قال: (لو اشترى عرضًا للتجارة بدراهم أو دنانير، أو بشيء تجب فيه الصدقة من الماشية، وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه.. لم يقوم العرض حتى يحول عليه الحول من يوم أفاد ثمن العرض) .
ولأن الماشية مالٌ تجب الزكاة في عينه، فبني حول العروض على حولها، كالدراهم والدنانير.
والوجه الثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن ابتداء الحول من يوم الشراء؛ لأنهما مالان نصابهما مختلفٌ، وقدر المخرج منهما مختلفٌ، فلم يبن حول أحدهما على حول الآخر، ويفارق الأثمان، فإن نصابها ونصاب التجارة متفقٌ، وكذلك زكاتهما متفقة.
ومن قال بهذا: تأول كلام الشافعي ثلاث تأويلاتٍ:
أحدها: أن معنى قوله: (أو ما تجب الصدقة - في عينه - من الماشية) أراد: إذا اشترى ماشية، أو ملكها بأي وجهٍ كان، فاشترى بها عرضًا يوم ملكها؛ لأنه قال: (وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه) . فإما إذا ملك الماشية، ومضت لها مدة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يستأنف حول العرض من يوم ملكه.(3/314)
والتأويل الثاني: أنها مصورة إذا كان لرجلٍ ماشية سائمة للتجارة، فهل تجب فيها زكاة العين، أو زكاة التجارة؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: تجب زكاة التجارة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يبني حول العرض على حول الماشية.
والتأويل الثالث: أن المراد بقوله: (حتى يحول الحول من يوم أفاد ثمن العرض) الدراهم والدنانير؛ لأن الشافعي قد يجمع بين مسائل، ثم يعطف بالجواب على بعضها دون بعضً، أو يفرع على بعضها دون بعضٍ.
[مسألة: باع عرضًا بعرض آخر وكلًا للتجارة]
] : وإن كان في يده عرضٌ للتجارة، فباعه بعرض التجارة.. بنى حول الثاني على حول الأول؛ لأن الزكاة تجب في القيمة، وقيمة الأول وقيمة الثاني واحدة.
وإن كان عنده نصابٌ من الدراهم أو الدنانير، فاشترى به عرضًا للتجارة.. فإن حول العرض يبنى على حول الدراهم والدنانير، ثم لا يخلو: إما أن يبقى عرضًا إلى آخر الحول، أو يبيعه قبل الحول:
فإن بقي عرضًا إلى آخر الحول.. فإنه يقوم ويؤدي زكاته مما بلغت قيمته، لا يختلف المذهب في ذلك؛ لأنه يتعذر، ويشق التقويم في كل يومٍ، فاعتبر آخر الحول.
وإن باعه قبل الحول.. نظرت.
فإن باعه بقدر قيمته، بأن اشترى عرضًا بمائتي درهمٍ، فباعه في أثناء الحول بمائتين.. بنى حول المائتين على حول العرض، كما بنى حول العرض على حول ما اشترى به.
وإن باعه بأكثر من قيمته، بأن باعه بثلاثمائة درهمٍ.. زكى المائتين لحولها.
وأما المائة الزائدة: فقد نص الشافعي هاهنا: (أنه لا يزكي المائة إلا لحولها) ، وقال في (القراض) : (إذا دفع إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، فاشترى بها سلعة، وباعها بألفين قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان:(3/315)
أحدهما: أن زكاة الألفين على رب المال.
والثاني: أن على رب المال رأس المال وحصته من الربح) .
وظاهر هذا: أن الربح يزكى لحول الأصل.
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: المسألة على اختلاف حالين، فالذي قال: (يزكي المائتين لحولها، والمائة لحولها) أراد: إذا كان قد اشترى سلعة بمائتين تساوي مائتين، ثم باعها قبل الحول بثلاثمائة، والذي قال في (القراض) : (أنه يزكى لحول الأصل) أراد: إذا ظهر الربح يوم الشراء بأن اشترى سلعة بألفٍ تساوي ألفين، فيكون حولهما واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويلٌ صحيحٌ؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [2/42] : (إذا رفع إليه ألفًا قراضًا، فاشترى بها عرضًا يساوي ألفين، فباعه قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان) .
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ: أن الربح لا يتبع الأصل في الحول، بل يزكى لحوله، والذي قال في (القراض) ، فإنما قصد به: أن يبين أن الزكاة على رب المال دون العامل، ولم يبين أنه يزكي لحولِ الأصل أو لحول نفسه.
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعل فيهما قولين:
أحدهما: أنه يزكي الربح لحول الأصل؛ لأنه نماء مالٍ، فزكي لحول أصله، كالسخال.
والثاني: يستأنف الحول في الربح، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
ولأنها فائدة ناضة لم تتولد مما عنده، فلم يبن على حوله، كما لو استفاد من غير الربح.(3/316)
فإذا قلنا بهذا: فمن أين ابتداء حول الربح؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين النض، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه صار متحققًا.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: من حين ظهر؛ لأنه إذا ظهر، ثم نض.. تحققنا أنه كان موجودًا من حين ظهر.
والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا نض الربح حال ما ظهر.
[فرع: تبديل السلع أثناء الحول]
فرعٌ: [في تبديل السلع أثناء الحول] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا ملك عشرين دينارًا، فاشترى بها سلعة للتجارة حين ملك العشرين، فباعها بعد ستة أشهر بأربعين دينارًا، ثم اشترى بها سلعة للتجارة، فحال الحول من يوم استفاد العشرين الأولى، والسلعة تساوي مائة، فباعها بمائة.. فعليه أن يزكي عن خمسين دينارًا، ثم إذا مضت ستة أشهر.. زكى عن عشرين دينارًا من الخمسين الباقية، ثم إذا حال الحول الثاني.. زكى عن الثلاثين الباقية من الخمسين.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا فرعه على القول المشهور في الربح، إذا نض قبل الحول.. لم يضم إلى حول الأصل، بل يستأنف به الحول؛ لأن السلعة الأولى التي اشتراها بعشرين لما باعها في نصف الحول بأربعين.. فقد نض الربح، وهو عشرون قبل الحول، فاستأنف به الحول، فلما اشترى بالكل سلعة، ومضت ستة أشهرٍ أخرى، وباعها بمائة.. فقد تم حول الأصل، وهو عشرون، فقسم الربح عليهما وعلى العشرين الربح الذي نض في أثناء الحول، فيتبع العشرين التي هي أصل نصف هذا الربح الثاني، وهو ثلاثون، فزكي لحوله؛ لأنه لم ينض قبل الحول فيها.
فإذا مضت ستة أشهرٍ أخرى، تم حول العشرين التي هي ربحٌ أولًا، فيلزمه زكاتها، ولا يضم الثلاثين التي هي ربحها إليها؛ لأنها نضت قبل تمام حولها، فإذا تم الحول الثاني.. تم حول هذه الثلاثين، فيزكيها، ويزكي أيضًا عن الخمسين التي زكاها في العام الأول.(3/317)
[فرع: باع نقدًا بنقدٍ]
ٍ] : وإن كان معه دراهم، فباعها بدراهم أو دنانير، أو كان عنده دنانير، فباعها بدنانير أو دراهم، فإن فعل ذلك لغير التجارة.. انقطع الحول فيما باع، واستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وقد مضى الخلاف فيها مع مالكٍ وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. وإن فعل ذلك للتجارة، كما يعمل الصيارف.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبني حول الثاني على حول الأول؛ لأنه إذا بنى حول العرض على حول العرض في التجارة - وإن كان العرض لا تجب الزكاة في عينه - فلأن يبنى ذلك في الدراهم والدنانير في التجارة - والزكاة تجب بعينها - أولى.
والثاني: يستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ، حتى يحول عليه الحول» .
ولأنه مالٌ تجب الزكاة في عينه، فإذا بادل به بجنسه.. استأنف الحول به، كما لو فعله لغير التجارة.
[فرع: التجارة بعرض ستة أشهر]
] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة، فلما مضت ستة أشهرٍ.. استفاد خمسين درهمًا، فلما تم حول العرض.. كانت قيمته مائة وخمسين درهمًا.. لم تجب الزكاة فيه؛ لأن الخمسين الثانية لم يتم حولها، فهي وإن ضمت إليه في النصاب، فلا تضم في الحول؛ لأنها ليست نماء المال، فإذا تم حول الخمسين.. زكى المائتين.
وإن كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة في أول المحرم، ثم استفاد مائة درهمٍ أول صفرٍ، واشترى بها عرضًا آخر، ثم استفاد مائة في أول ربيعٍ، فاشترى(3/318)
بها عرضًا آخر، فإذا تم حول المائة الأولى، فإن كانت قيمة عرضها نصابًا.. زكاه، وإن كان أقل من نصابٍ.. لم تجب عليه زكاته، فإذا تم حول المائة الثانية.. قوم العرض الذي اشتراه بها، فإذا بلغت قيمته مع الأولى نصابًا.. زكاهما، وإن لم يبلغا نصابًا.. ضمهما إلى العرض الثالث عند تمام حوله، فإن كان الجميع نصابًا.. زكى الكل، وإن نقص عن نصابٍ.. لم تجب فيه زكاة.
[مسألة: مرور الحول على عروض التجارة]
] : وإذا حال الحول على عرض التجارة.. وجب تقويمه لإخراج الزكاة.
فإن كان قد اشتراه بجنسٍ من الأثمان.. نظرت:
فإن اشتراه بنصابٍ من الدراهم أو الدنانير.. فمذهب الشافعي: أنه يقوم بالنقد الذي اشتراه به، سواءٌ كان غالب نقد البلد أو غير نقده.
وقال ابن الحداد: يقوم بغالب نقد البلد. حكاه الشيخ أبو حامدٍ؛ لأن الرجل لو أتلف على غيره شيئًا، فإنه يقوم عليه بنقد البد دون ما اشترى به، والصحيح هو الأول؛ لأن العرض فرعٌ لما اشتري به، فإذا أمكن تقويمه بأصله.. كان أولى من تقويمه بغيره، ويخالف المتلف؛ لأنه لا مثل له، فيقوم بنقد البلد.
وإن اشترى العرض بدراهم أو دنانير أقل من نصابٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقوم بما اشتري به، لأنه أصلٌ يمكن التقويم به، فهو كما لو كان نصابًا.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأنه لا يبني حوله على حوله، فهو كما لو اشتراه بعرضٍ، والأول أصح. وإن اشترى سلعة بمائتي درهمٍ وعشرين دينارًا.. قال صاحب " الإبانة " [ق \ 147] : فإنه يقوم من السلعة ما اشترى بالدراهم بالدراهم، وما اشترى بالدنانير بالدنانير، فإن بلغت قيمة كل واحدٍ منهما نصابًا.. زكاهما.(3/319)
وكيفية ذلك: أن تقوم الدراهم بالدنانير، وتقوم الدنانير بالدراهم، فإن كان قيمة الدنانير مائة درهمٍ علمنا أن ثلث السلعة مبيعٌ بالدنانير، وثلثيها مبيعٌ بالدراهم.
فإن اشتراه بعرض للقنية.. فقد قلنا: إنه يجري في الحول من يوم الشراء، ومضى خلاف مالكٍ فيها.
فإذا حال الحول: فإنه يقوم بغالب نقد البلد؛ لأنه لا يمكن تقويمه بما اشتري به.
وإن اشتراه بحلي ذهبٍ أو فضة، أو بقطعة ذهبٍ أو فضة.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن لا يمكن تقويمه بما اشتري به، فأشبه العروض، فإن كان في البلد نقدٌ واحدٌ.. قوم به، وإن كان فيه نقدان أو أكثر.. قوم بالغالب منها، وإن كانت متساوية، فإن كانت قيمة العرض تبلغ بأحدهما نصابًا دون الباقي.. قوم بالذي يبلغ به نصابًا، وإن كان يبلغ بكل واحدٍ منهما نصابًا.. ففيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح -: أنه يقوم بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعضٍ.
والثاني: يقوم بأحظها للمساكين، كما نقول: إذا بلغ بأحدهما نصابًا دون الآخر.. قوم به.
والثالث: يقوم بالدراهم؛ لأنها أكثر استعمالًا؛ لأنها تشترى بها الأشياء المحقرات.
والرابع: يقوم بغالب نقد أقرب البلاد إليه؛ لأن نقود البلد لما تساوت.. صارت كالمعدومة، فعدل إلى نقد أقرب البلاد إليه.
إذا ثبت هذا: فإذا قوم العرض، فبلغت قيمته نصابًا، فإن أخرج الزكاة عنه، ثم باع العرض من بعد ذلك بزيادة على ما قوم العرض به.. فلا شيء عليه في هذه الزيادة؛ لأنها حدثت بعد إخراج الزكاة، فيستأنف بها الحول الثاني.(3/320)
وإن باعها بنقصانٍ.. لم يؤثر ذلك؛ لأن هذا نقصٌ حدث في المال بعد وجوب الزكاة فيه واستقرارها.
وإن قوم العرض، ولم يخرج الزكاة عنه حتى باعه، فإن باعه بما قوم به، وهو ثمن مثله، أو بنقصانٍ يتغابن الناس بمثله.. وجب إخراج الزكاة مما بيع به؛ لأن ذلك قيمته.
وإن باعه بأقل من قيمته بنقصان لا يتغابن الناس بمثله، مثل: أن باع ما يساوي أربعين بخمسة وثلاثين.. أخذت الزكاة من قيمته، وهو أربعون، دون ما بيع به؛ لأن هذا نقصٌ بتفريطٍ من رب المال.
وإن باعه بزيادة، مثل: أن باع ما قومَ بأربعين بخمسين أو بستين.. فعليه أن يخرج الزكاة عن الأربعين، وهل يجب عليه أن يخرج الزكاة عن الزيادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تجب عليه؛ لأن هذه زيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، فلم تجب فيها الزكاة، كالسخال الحادثة بعد الحول.
والثاني: يجب إخراج الزكاة عنها؛ لأن هذه الزيادة حدثت في نفس المال، فينبغي أن يخرج الزكاة منها، كما لو كانت له مواش مهازيل حال عليها الحول، فقبل أن يخرج الزكاة سمنت، وحسنت، فإن الزكاة تخرج منها.
وإن حال الحول على العرض، فقوم، فلم تبلغ قيمته نصابًا.. لم تجب فيه الزكاة.
فإن بلغت قيمته نصابًا قبل الحول الثاني.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا زكاة فيه، حتى يحول الحول الثاني، فيقوم حينئذٍ، فإن كانت قيمته نصابًا.. زكاه؛ لأن وقت التقويم وقت حؤول الحول، والحول حال، ولا نصاب معه، فوجب أن يستأنف الحول.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: إذا بلغت قيمته نصابًا بعد اثني عشر شهرًا.. فذلك وقت حلول حوله؛ لأن حوله حين كمل النصاب، فلا فرق: بين أن تبلغ قيمتها عند مضي اثني عشر شهرًا، أو زيادة على ذلك.(3/321)
[فرع: باع سلعته في الحول]
] : فإن اشترى سلعة بدراهم، ثم باعها في أثناء الحول بعشرين دينارًا، فحال الحول، والعشرون في يده.. قومت العشرون بالدراهم؛ لأنها أصل لها، فإن بلغت قيمة العشرين نصابًا من الدراهم.. ففيها الزكاة، وإن لم تبلغ قيمتها نصابًا من الدراهم، فإن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن الحول لا يسقط.. انتظر، فمتى تمت قيمتها نصابًا من الدراهم.. أخرج عنها الزكاة.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الحول الأول يسقط.. فهل ينتقل وجوب الزكاة من نصاب الدراهم إلى نصاب العشرين دينارًا؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 145] :
أحدهما: لا ينتقل؛ لأن هذه العشرين صارت بمنزلة العرض، بدليل: أنه يجب تقويمها بالدراهم.
والثاني: ينتقل إلى نصاب العشرين؛ لأنها نصابٌ تجب الزكاة في عينها، فكان اعتبارها أولى من اعتبار قيمتها.
فإذا قلنا بهذا: فمن أين يحتسب حول العشرين؟ فيه وجهان:
أحدهما: من وقت التقويم؛ لأن حول الدراهم إنما يبطل عند التقويم، لنقصانه عن النصاب.
والثاني: من وقت ما نضت في يده؛ لأنها في ملكه من ذلك الوقت.
[فرع: ابتداء التجارة بنصاب]
] : ذكر في " الإبانة " [ق \ 146] : لو اشترى سلعة بنصابٍ من الدراهم للتجارة، ثم باع السلعة في أثناء الحول بعشرة دنانير.. لم يسقط حكم الحول، وهذه العشرة الدنانير بمنزلة عرض التجارة، فأما إذا باع السلعة في خلال الحول بأقل من نصابٍ من الدراهم، مثل: أن باعها بمائة درهمٍ.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يسقط حكم الحول، كما لو باعها بعشرة دنانير، وكما لو تناقصت قيمة السلعة في أثناء الحول، حتى بلغت مائة.(3/322)
والثاني: يسقط حكم الحول، فإذا اشترى بالمائة شيئًا آخر.. انعقد حولٌ جديدٌ من وقت ذلك الشراء؛ لأن زكاة التجارة تجب في الدراهم التي هي قيمة العرض، وقد نضت ناقصة عن النصاب، فصار كما لو انعقد الحول على مائتي درهمٍ، فنقصت في أثناء الحول، ويفارق العشرة؛ لأن العشرة لا تجب زكاة التجارة فيها.
وأما نقصان القيمة: فلأنه يشق مراعاة الزيادة والنقصان بالقيمة في أثناء الحول، فلم يعتبر.
[فرع: شراء شقصٍ من عقار]
] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا اشترى شقصًا من عقارٍ للتجارة بعشرين دينارًا، فحال الحول، وجاء الشفيع، والشقص يساوي مائة دينارٍ.. زكى المشتري عن مائة، وأخذه الشفيع بعشرين؛ لأن الاعتبار في الزكاة بقيمته آخر الحول، وفي الأخذ بالشفعة بالثمن الذي انعقد البيع به، فتحصل الزيادة هاهنا للشفيع.
وإن اشترى الشقص بمائة دينارٍ، وحال الحول، وهو يساوي عشرين دينارًا، فجاء الشفيع.. فإن شاء أخذه بمائة دينارٍ، ويجب على المشتري أن يخرج زكاة عشرين لا غير؛ لما ذكرناه.
[مسألة: تجارة الأصباغ ونحوها]
] : قال ابن الصباغ: إذا كان يبتاع النيل؛ ليصبغ به الثياب، أو العصفر، أو ما يبقى له عينٌ في المعمول به، مثل: الشحم للجلود وما أشبه ذلك.. فإنه تجب عليه زكاة التجارة؛ لأنه يستحق عوضها بالصبغ، ويجري مجرى العين في بيعها، ولهذا(3/323)
جعل أصحابنا المفلس إذا اشترى ثوبًا ونيلًا، ثم صبغه به.. رجعا جميعًا فيه.
وإن كان مما لا يكون له عينٌ في المعمول به، كالصابون والأشنان للغسل.. فإن هذا لا تتعلق به الزكاة؛ لأنه لا يقابله بشيء من أجرة العمل.
[مسألة: إخراج الزكاة من نقد العرض]
] : إذا قوم العرض.. فما الذي يخرج في الزكاة؟
قال الشافعي في " المختصر " [1/241] و " الأم " [2/40] : (يخرج الزكاة من الذي قوم به) ، يعني: من الدراهم والدنانير.
وقال في القديم: فيه قولان:
(أحدهما: يخرج ربع العشر من قيمته.
والثاني: يقوم، ويجعل ربع العشر في عرضٍ ينتفع به المساكين، ويخرج العرض) .
وقال في موضع آخر: (ولا يجوز أن يخرج من مال التجارة إلا الدراهم، أو الدنانير، أو عرضًا بعينه) .
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرقٍ:
فـ[الأول] : قال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: يتحتم عليه أن يخرج من قيمته.
والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة.
والثالث: أنه بالخيار، وأيهما أخرج.. أجزأه.
و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة.
والثاني: أنه بالخيار بين إخراج القيمة أو العرض.
و [الطريق الثالث] : قال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان:(3/324)
أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة.
والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة.
وحكى الصيمري طريقة رابعة ليست بمشهورة: أن القول القديم: يجب إخراج العين إذا كانت برًا أو شعيرًا، أو ما ينتفع به المساكين، فأما العقار والرقيق: فلا.
وأما قوله الجديد: فيخرج القيمة بكل حالٍ.
فإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج القيمة، قال المحاملي: وهو الصحيح.. فوجهه: أنها مالٌ وجبت فيه الزكاة، فتحتم الإخراج منها، كالدراهم والدنانير.
وإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج العرض.. فوجهه: حديث سمرة بن جندبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . والعرض من الذي يعد للبيع، فوجب أن نخرج الصدقة منه.
وإذا قلنا: إنه مخيرٌ.. فوجهه: أن الزكاة تتعلق بهما، فخير بينهما.
إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: أن الذي يذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن زكاة التجارة تجب بالقيمة) . وبه قال مالكٌ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: (تجب في العين) .
قال: وهكذا يحكى عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم الذي يوجب فيه إخراج العين.
دليلنا للأول: أن النصاب معتبرٌ بالقيمة، فتعلق الوجوب فيها.
[فرع: يخرج القيمة أو العرض]
إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها مائتي قفيزٍ حنطة للتجارة، فحال الحول، وهي تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت عليه الزكاة، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة..(3/325)
أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما.
فإن أخرج أربعة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لم تجزه الأربعة الأقفزة؛ لأنها من غير جنس ما وجب عليه، فيجب عليه إخراج خمسة دراهم، ولا يرجع بالأقفزة؛ لأن الظاهر أنه تطوع بها. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العرض.. لزمه إخراج قفيزٍ خامسٍ، ولا شيء له لزيادة قيمة الأربعة؛ لأنه متطوعٌ بذلك. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن تأخر إخراج الزكاة، فنقصت قيمة الطعام.. نظرت:
فإن كان النقصان لسعر السوق بأن رخص الطعام، فصارت قيمته مائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء.. بنى على إمكان الأداء. فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. لزمه إخراج زكاة ما بقي. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة، قيمتها درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن كان النقصان بعد إمكان الأداء:
فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم؛ لأنه ضامنٌ للنقصان. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العوض.. أخرج خمسة أقفزة منها، ولا يلزمه ضمان نقصان القيمة؛ لأن نقصان السوق لا يلزمه مع بقاء العين. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن كان نقصان قيمة الطعام، لتغير صفة فيه، فإن كان قبل إمكان الأداء من غير فعله، ولا تفريطه.
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه زكاة. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. وجبت عليه الزكاة لما بقي. فإن قلنا: يلزمه إخراج(3/326)
القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن كان ذلك بعد إمكان الأداء بغير فعله، أو كان قبله بفعله:
فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه أخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها، وما نقص من قيمتها، وهو درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن زادت قيمة الطعام بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فبلغت قيمته أربعمائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء:
فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجبت عليه زكاة أربعمائة للحول الأول. فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. أخرج عشرة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان، أو كانت هذه الزيادة حدثت بعد إمكان الأداء.. فلا يلزمه زكاة الزيادة للحول الأول. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم؛ لأن هذه الزيادة في ماله وفي مال المساكين.
وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أنه يجب عليه خمسة أقفزة، قيمتها خمسة دراهم؛ لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محتسبة في الحول الثاني.
قال ابن الصباغ: وهذا لا وجه له؛ لأن على هذا القول المستحق خمسة أقفزة منها، أو مثلها من غيرها بصفتها.
وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما.
فإن تلفت هذه الحنطة بعد إمكان الأداء، ثم زادت قيمتها بعد تلفها، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. لزمه خمسة أقفزة من مثلها بقيمتها الآن. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما.(3/327)
فإن كان عبدًا للتجارة، فأصابه عورٌ، فنقصت قيمته.. فهو كالطعام إذا تغيرت صفته.
وإن كان بعينه بياضٌ، فزال، فزادت قيمته.. فهو كالطعام إذا زادت قيمته.
[فرع: الحول في مال التجارة]
] : إذا حال الحول على مال التجارة، وقيمته نصابٌ، فباعه رب المال قبل إخراج الزكاة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: الحكم فيه كحكم من باع المال الذي تجب الزكاة في عينه بعد وجوب الزكاة فيه، وقبل إخراجها. وقد مضى الكلام فيه.
ومنهم من قال: يصح البيع هاهنا، قولًا واحدًا.
والفرق بينهما: أن الزكاة هاهنا، لا تجب في العين، وإنما تجب في القيمة، والقيمة موجودة في العرض وفي ثمنه، وما تجب الزكاة في عينه يزول بزوال العين بالبيع، فافترقا.
[مسألة: يدفع ربح المضاربة]
] : إذا دفع رجلٌ إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، على أن الربح بينهما نصفان، واشترى العامل بها سلعة، فحال الحول وقد صار المال ألفي درهمٍ.. فمتى يملك العامل حصته من الربح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يملكه إلا بالمقاسمة.
والثاني: يملكه بالظهور.. ويأتي توجيههما.(3/328)
وأما الكلام في الزكاة: فلا يخلو: إما أن يكونا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا.
فإن كانا مسلمين، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. فزكاة الجميع على رب المال، فإن كانت السلعة باقية إلى حلول الحول.. فإنها تقوم، ويزكى الجميع لحول الأصل، وإن بيعت في أثناء الحول، ونض الربح.. فهل يضم الربح إلى رأس المال في حوله، أو يستأنف له الحول؟ على ما مضى من الطرق الثلاث.
فإن أخرج رب المال الزكاة من غير مال القراض.. جاز، وإن أراد إخراجها من مال القراض.. جاز؛ لأنه ملكه، ومن أين يحتسب؟ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: يحتسب من الربح. قال في " التعليق ": وهو الأصح، كمؤن المال.
والثاني: يحتسب من رأس المال؛ لأن الزكاة دينٌ عليه، وقد ثبت: أن رب المال لو كان عليه دينٌ فقضاه من مال القراض.. لاحتسب من رأس المال، فكذلك هاهنا.
فعلى هذا: إذا أخرج منه خمسين درهمًا.. انفسخ القراض فيها، فيبقى رأس المال تسعمائة وخمسين درهمًا.
والثالث: يحتسب من كل واحدٍ منهما بحصته؛ لأن الزكاة فيهما.
فعلى هذا: يبقى رأس المال تسعمائة وخمسة وسبعين درهمًا.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 147] وجهًا آخر: إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين. احتسب من الربح، كمؤن المال.
وإن قلنا: تتعلق بالذمة.. احتسب من رأس المال، كما لو قضى منه دينًا عليه في ذمته.
وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح قبل المقاسمة.. فإن على رب المال زكاة ألف وخمسمائة، فإن بقيت السلعة إلى آخر الحول.. زكى نصيبه من الربح لحول الأصل، وإن نض الربح قبل الحول.. فهل يضم إلى حول الأصل؟ على الطرق الثلاثة.(3/329)
وإذا أخرج الزكاة من المال.. فمن أين يحتسب؟ على ما مضى من الأوجه.
وأما العامل: فلا يضم حول نصيبه إلى حول الأصل؛ لأنه لا يضم مال الرجل إلى مال غيره في الحول، ومن أين ابتداء حوله؟ فيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها الشيخ أبو حامدٍ:
أحدها: من يوم ظهر الربح ولاح. قال: وهو الأصح؛ لأنه يملك حصته من الربح من حين يظهر.
والثاني: ابتداء حوله من حين يقوم المال على رب المال؛ لإخراج الزكاة، لأنه لا يتحقق الربح إلا بذلك.
والثالث: ابتداء حوله من حين المقاسمة؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه إلا بذلك.
فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين الظهور، أو من حين التقويم، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه من جنسه ما يبلغ به نصابًا، وهو جارٍ في حوله.. فعليه الزكاة.
وإن لم يبلغ نصيبه نصابًا، وليس معه ما يتم به نصابًا.. فهل يضم نصيبه إلى نصيب رب المال في النصاب؟
إن قلنا: إن الخلطة تصح في غير المواشي.. ضم نصيبه إلى نصيب صاحب رأس المال.
وإن قلنا: لا تصح المخالطة في غير المواشي.. فلا زكاة عليه.
وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه ما يبلغ به نصابًا.. زكاه.(3/330)
وإن لم يبلغ نصابا.. فلا يتأتى هاهنا ضمه إلى نصيب رب المال؛ لأنهما لما اقتسما.. زالت الخلطة.
وهل يجب على العامل إخراج زكاة حصته قبل المقاسمة؟ فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة.. لم يجب عليه؛ لأن ماله لم يجر في الحول.
وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين ظهور الربح، أو من حين التقويم.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الإخراج؛ لأن هذا المال قد لا يحصل له، فأحسن أحواله: أن يكون كالمال الغائب الذي ترجى سلامته، ويخاف تلفه.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 148] فيه ثلاث طرقٍ:
أحدها: لا يجب عليه، وهو قول القفال؛ لأن ملكه غير مستقرٍّ على الربح، فهو كمال المكاتب.
والثاني: أنها على قولين، كالمال المغصوب؛ لأنه لا يقدر على التصرف بهذا المال كيف شاء، فهو كالمال المغصوب.
والثالث - وهو قول صاحب " التقريب " -: أن عليه إخراج الزكاة في الحال؛ لأن يده تصل إلى هذا المال، ويملك المقاسمة فيه متى شاء، فهو كدينٍ على مليءٍ مقر، بخلاف المغصوب.
فإذا قلنا: لا يجب عليه الإخراج، وأراد أن يخرج الزكاة من غير مال القراض.. جاز. وإن أراد إخراجها من عين مال القراض.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، ولرب المال منعه من ذلك؛ لأن الربح وقاية لرأس المال.
والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الزكاة وجبت فيه.
وإن كانا كافرين.. فلا زكاة عليهما.
وإن كان أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا.. نظرت:(3/331)
فإن كان رب المال مسلمًا، والعامل كافرًا، فإن قلنا: إن زكاة الجميع على رب المال.. وجب عليه إخراج زكاة الجميع على ما مضى.
وإن قلنا: إنه لا تجب عليه زكاة نصيب العامل.. فعلى رب المال إخراج زكاة رأس المال، وحصته من الربح، على ما مضى، ولا تجب زكاة نصيب العامل على أحدهما.
وإن كان رب المال كافرًا، والعامل مسلمًا، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. لم يجب عليه في هذا المال زكاة قبل المقاسمة.
وإن قلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فلا زكاة على المالك في رأس المال وحصته من الربح، وتجب على العامل زكاة حصته.
وفي وقت ابتداء حوله وجهان:
أحدهما: من يوم الظهور.
والثاني: من وقت المقاسمة، ويسقط الوجه الثالث؛ لأن المال لا يقوم هاهنا على رب المال لإخراج الزكاة.
فإن أراد العامل أن يخرج زكاة نصيبه من الربح - من المال - قبل المقاسمة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأن رب المال يقول: أنا كافرٌ، وأنت تعرف ديني، ودخلت على أن لا تؤخذ الزكاة من مال.
والله أعلم، وبالله التوفيق(3/332)
[باب زكاة المعدن والركاز]
سمي المعدن معدنًا؛ لأنه مقام الجواهر، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ولهذا سميت {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] [التوبة: 72] ؛ لأنها دار الإقامة.
والأصل في وجوب الزكاة فيه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .
والمعدن: مما أخرج من الأرض.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها» . وأخذ منه الزكاة.
سميت: (قبلية) ، نسبة إلى ناحية من نواحي ساحل البحر بينها وبين المدينة مسيرة خمسة أيامٍ. وقوله: (جلسيها) : يعني: نجدتها، ونجدٌ يقال له: جلسٌ. وقوله: (وغوريها) نسبة إلى الغور.(3/333)
وهو إجماعٌ لا خلاف في وجوب الزكاة في المعدن.
[مسألة: زكاة المعدن]
] : فإن استخرج الحر المسلم نصابًا من الذهب أو الفضة من معدنٍ في مواتٍ أو في أرض يملكها.. وجبت عليه الزكاة؛ لما ذكرناه، وإن استخرج ذلك مكاتبٌ أو ذمي.. لم يجب عليه شيءٌ.
وقال أبو حنيفة: (يجب على المكاتب) .
دليلنا: أن ذلك زكاة، فلا تؤخذ من المكاتب والذمي، كزكاة السائمة.
وإن وجده في أرضٍ مملوكة لغيره.. فهو ملكٌ لصاحب الأرض تجب عليه زكاته إذا قبضه.
وإن اشترى أرضًا، فظهر فيها معدنٌ.. كان مملوكًا له، فإن شاء.. عمله، وإن شاء.. تركه، ولا يتعرض له في ذلك أحدٌ.
وإن وجد في المعدن غير الذهب والفضة، كالحديد والرصاص وغيرهما.. لم تجب فيه الزكاة، وبه قال مالكٌ رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (تجب في الذهب والفضة، وفي كل ما ينطبع إذا طبع، مثل: الحديد، والرصاص، والصفر، ولا تجب فيما لا ينطبع، مثل: الفيروزج، والزجاج) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (تجب في كل ما يُستخرج من الأرض) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في حجرٍ» .(3/334)
ولأنه مقومٌ مستفادٌ من المعدن، فلم يتعلق به حق المعدن، كالفيروزج، والطين الأحمر مع أحمد؛ فإنه وافق في أنه لا شيء فيه.
[فرع: وجد دون النصاب]
] : فإن وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة.. فلا شيء عليه. وبه قال مالكٌ، وأحمدُ وإسحاق، وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 149] : إن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. اعتبر فيه النصاب. وإن قلنا: يجب فيه الخمس.. ففيه قولان:
أحدهما: يعتبر النصاب فيه.
والثاني: لا يعتبر.
وقال أبو حنيفة: (لا يعتبر النصاب فيما يؤخذ من المعدن) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون عشرين دينارًا من الذهب صدقة» . ولم يفرق بين أن يكون من المعدن أو غيره.
[فرع: كيفية وجود المعدن]
] : ولا يخلو ما يوجد من المعدن: إما أن يكون مجتمعًا، أو متفرقًا، فإن كان مجتمعًا بأن وجد بدرة واحدة لا غير.. اعتبرت بنفسها، فإن كانت نصابًا.. أخرج(3/335)
عنها الزكاة، وإن نقصت عن النصاب.. لم يجب فيه شيءٌ، وإن كان متفرقًا.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يتصل العمل والنيل، فيضم النيل بعضه إلى بعضٍ في إكمال النصاب، واتصال العمل: هو أن يعمل في الوقت الذي جرت العادة بالعمل فيه، واتصال النيل: هو أن لا يحقد المعدن، وحقد المعدن: هو أن لا ينيل شيئًا، تقول العرب: حقد المعدن: إذا لم ينل، وحقدت السماء: إذا انقطع مطرها، وسمي الحقد: حقدًا؛ لأن من حقد على غيره منعه بره.
المسألة الثانية: أن ينقطع العمل، ولا ينقطع النيل، ومعنى لم ينقطع النيل، أي: لو عمل، لناله، فإن كان انقطاع العمل لعذرٍ، مثل: إصلاح الآلة، أو هرب العبيد، أو مرضهم.. فإنه إذا عمل بعد زوال العذر.. ضم ما وجده بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول.
وإن كان انقطع العمل لغير عذرٍ، بأن قطع العمل باختياره يومًا أو يومين.. لم يضم ما وجد بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول، بل يعتبر كل واحدٍ بنفسه؛ لأنه قطعه باختياره.(3/336)
المسألة الثالثة: أن يتصل العمل، وينقطع النيل اليومين والثالث، ثم يعود النيل، ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يضم ما وجده بعد انقطاع النيل إلى ما وجده قبله) ؛ لأن النيل هو الأصل، فإذا لم يضم ما وجده بعد قطع العمل بغير عذرٍ إلى ما وجده قبله، فلأن لا يضم ما وجده بعد قطع النيل أولى.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يضم) : وهو الصحيح؛ لأن انقطاع النيل لا صنع له فيه، بخلاف قطع العمل، ولأن العادة أن المعدن لا ينيل على الدوام، وإنما ينيل شيئًا بعد شيءٍ، فلو قلنا: لا يضم.. لأدى ذلك إلى إسقاط الزكاة في المعدن.
[مسألة: وجد رجلان معدنًا]
] : إذا وجد رجلان شيئًا من المعدن، فإن وجدا نصابين.. وجبت عليهما الزكاة، وإن وجدا أقل من نصابين، فإن قلنا: تثبت الخلطة في غير المواشي.. زكيا زكاة الخلطة، وإن قلنا: لا تثبت الخلطة في غير الماشية.. فلا زكاة عليهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لم يجد نصابًا.
[مسألة: زكاة المعدن]
] : الحق الواجب في المعدن زكاة عندنا، وبه قال مالكٌ، وأحمدُ.
وقال أبو حنيفة: (ليس بزكاة، ويصرف مصرف الفيء) . وبه قال المزني، وأبو حفص بن الوكيل من أصحابنا.
دليلنا: أنه مستفاد من الأرض، فأشبه الزرع.
إذا ثبت هذا: فاختلف قول الشافعي في القدر الواجب في المعدن [على ثلاثة أقوالٍ] :
[الأول] : قال في " الأم " [2/34] و " الإملاء ": (يجب فيه ربع العشر) . وبه قال أحمد، وإسحاق.(3/337)
قال الشيخ أبو حامد: وبه يفتى، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» .
والقول الثاني: (يجب فيه الخمس) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما رُوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الركاز الخمس، فقيل له: وما الركاز؟ فقال: " الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها» .
والقول الثالث: إن وجد بدرة واحدة.. وجب فيها الخمس، وإن وجده بتعبٍ ومؤنة.. وجب فيه ربع العشر؛ لأنه حقٌ يتعلق بالمستفاد من الأرض، فاختلف بخفة المؤنة وثقلها، كالعشر، وهل يعتبر فيه الحول؟ فيه قولان.
أحدهما: يعتبر فيه الحول، فإذا تم الحول من حين وجده.. أخرج الزكاة عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» .
والثاني - وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم، وهو الصحيح -: (أنه لا يعتبر فيه الحول، بل إذا وجد نصابًا.. أخرج عنه الزكاة في الحال) ؛ لأنه مالٌ مستفادٌ من الأرض، فلم يعتبر فيه الحول، كالحبوب، لأن الحول يراد لتكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه.
وأما الخبر: فمحمولٌ على غير المعدن؛ لأنه لا يتكامل نماؤه إلا بالحول، بخلاف المعدن. هذا نقل الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين، وقال المسعودي(3/338)
[في " الإبانة " ق \ 150] : إن قلنا: إن الواجب في المعدن الخمس.. لم يعتبر فيه الحول كالركاز، وإن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. فهل يعتبر الحول؟ فيه قولان.
[فرع: كمل المعدن نصابًا]
] : قال ابن الحداد: إذا وجد دينارًا من المعدن، وفي يده مما سوى المعدن تسعة عشر دينارًا.. فإنه يلزمه أن يخرج في الحال ربع عشر الدينار المخرج من المعدن.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا إذا قلنا: لا يعتبر الحول في المعدن، إلا أن الشافعي نص على هذه المسألة في (الركاز) ، ونقلها ابن الحداد إلى المعدن، ولا فرق بينهما؛ لأنه يعتبر فيهما النصاب ولا يعتبر فيهما الحول، وذلك: أنه إذا وجد من المعدن أقل من نصاب، وعنده نصابٌ من جنسه يجري في الحول.. فإنه يزكي ما وجده من المعدن في الحال، وإذا تم حول النصاب.. زكاه، ويكونان كـ: مالين في يده، تم حول أحدهما دون الآخر.
فإن كان الذي عنده أقل من النصاب، وتم النصاب بالذي وجده من المعدن.. فإنه يزكي المأخوذ من المعدن، ويستأنف الحول على الذي بيده من حين تم النصاب، فإذا تم الحول.. زكاه.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا كرجلٍ معه عشرون دينارًا أحد عشر شهرًا، ثم بادل بتسعة عشر دينارًا منها تسعة عشر دينارًا، وبقي في ملكه دينارٌ، فإذا إذا مضى شهرٌ.. أخرج زكاة الدينار؛ لأن النصاب والحول قد وجدا فيه، ويستأنف الحول للتسعة عشر، ولا ينقطع الحول في الدينار؛ لأنه لم يخل عن نصابٍ في جميع الحول، كما قال الشافعي - فيمن معه أربعون شاة ستة أشهرٍ، ثم باع نصفها مشاعًا من رجلٍ -: (إنَّ(3/339)
الحول لا يبطل في النصف الذي في يده) ؛ لأنه لم يخل من النصاب.
قال: وقد غلط بعض أصحابنا فيها، فقال: إذا كان معه تسعة عشر دينارًا، فوجد دينارًا مع آخر الحول أو بعده.. وجب حق المعدن في الدينار، ووجب في التسعة عشر ربع العشر؛ لأن الذي في يده قد حال عليه الحول، والذي وجده في حكم ما حال عليه الحول، فكأنه كان موجودًا في جميع الحول.
قال هذا القائل: فأما إذا وجد الدينارَ بعد مضي بعض الحول.. لم يجب عليه شيءٌ في التسعة عشر.
قال القاضي: وهذا خطأٌ؛ لأن الحول لا ينعقد على الذهب والفضة، مع نقصانه عن النصاب.
وأما قوله: إذا وجده بعد مضي بعض الحول على التسعة عشر فلا شيء منها.. فخلاف نص الشافعي في (الركاز) ، فإنه قال: (لو أخرج زكاة ماله في المحرم، ثم وجد الركاز في صفرٍ، وله مالٌ تجب فيه الزكاة.. كان في الركاز الخمس وإن كان الركاز دينارًا) .
[فرع: وقت وجوب زكاة المعدن]
] : ووقت وجوب الزكاة في المأخوذ من المعدن: عند حصوله في يده، وأما وقت إخراجها: فبعد تمييزه وإخلاصه، ومؤنة التمييز والإخلاص في خاص مال رب المال، وقال أبو حنيفة: (المؤنة من المعدن جميعه) .
دليلنا: أنها مؤنة للتخليص والتصفية، فكانت على رب المال، كمؤنة تصفية الطعام.
إذا ثبت هذا: فإذا دفع رب المال زكاة المعدن إلى الساعي قبل تخليصه.. وجب رده على رب المال؛ لأن تخليصه عليه. فإن كان باقيًا.. وجب رده. فإن اختلفا في المردود، فقال رب المال: ليس هذا الذي دفعته إليك، وقال الساعي: بل هو الذي دفعته إلي، أو اختلفا في قدره.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه أمينٌ، فإن ميزه(3/340)
الساعي.. فإن القدر الذي يحصل منه يجزئ في الزكاة، فإن كان أقل مما يجب عليه.. لزم رب المال دفع التمام، ولا شيء للساعي بعمله؛ لأنه متطوع به.
وإن كان المأخوذ تالفًا.. وجب على الساعي قيمته، كما إذا قبض شيئًا بالسوم، فتلف في يده.. وجبت عليه قيمته، فإن كان المدفوع تراب ذهبٍ.. قومه بفضة، وإن كان تراب فضة.. قومه بذهبٍ؛ لئلا يؤدي إلى الربا، فإن اختلفا في قدر القيمة.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه غارمٌ، ولأنه أمينٌ.
[فرع: لا يباع المعدن قبل تخليصه]
] : ولا يجوز بيع تراب المعادن قبل التخليص بذهبٍ ولا فضة ولا بغيرها، وقال مالكٌ: (يجوزُ) .
دليلنا: أن المقصود مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يجز بيعه، كتراب الصاغة الذي فيه برادة الذهب والفضة، وقد وافقنا مالكٌ على ذلك.
قال أبو إسحاق: وأما إذا باع ترابًا بعد أن ميز، وأُخذ منه الذهب والفضة، ثم وجد فيه فتاتٌ يسيرٌ.. جاز ذلك؛ لأن المقصود منه نفس التراب دون ما فيه، فجاز بيعه.
[مسألة: الركاز]
وأما الركاز: فهو المال المدفون في الأرض من زمن الجاهلية، واشتقاقه من قولهم: ركز يركز، يقال: ركز الرمح: إذا غرزه في الأرض، والواجب فيه الخمس، سواءٌ أظهره أو كتمه.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يكتمه ولا شيء عليه، وبين أن يظهره ويخرج منه الخمس) .(3/341)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» ، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل وجد كنزًا في خربة؟ فقال: " إن وجدته في قرية مسكونة، أو في طريقٍ ميتاءٍ.. فعرفه حولًا كاملًا، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة.. ففيه وفي الركاز الخمس» .
[فرع: وجوب حق الركاز]
] : ولا يجب حق الركاز إلا على من يجب عليه حق الزكاة، فإن وجده مكاتبٌ أو ذميٌّ.. لم يجب عليه شيءٌ، وحكى ابن المنذر عن مالكٍ، والثوري، وأهل الرأي، وأصحاب العراق، والأوزاعي، ورواه أبو ثورٍ، عن الشافعي: (أنه يجب على الذمي الخمس فيما يجده من الركاز) .
وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنه زكاة، فلم تجب على الذمي، كسائر الزكوات.
وإن وجدت المرأة أو الصبي ركازًا.. كان لهما.
وقال الثوري: لا يكون لهما.
دليلنا: أنهما يملكان بجميع أسباب التمليك، فملكا الركاز بالوجود، كالرجل البالغ.(3/342)
[فرع: أحوال وجود الركاز]
] إذا وجد ركازًا.. فلا يخلو: إما أن يجده في موضعٍ لم يملك قط، أو في موضعٍ قد ملك:
فإن وجده في موضع لم يملك، وهو الموات الذي لم يحيه أحدٌ قط.. فهو ركازٌ، ولا فرق في ذلك بين موات دار الإسلام أو موات دار أهل العهد، أو موات دار أهل الحرب.
وقال أبو حنيفة: (إن وجده في موات دار الإسلام، أو موات دار أهل العهد.. فهو ركازٌ يجب فيه الخمس، وإن وجده في موات دار أهل الحرب.. ملكه غنيمة له، ولا يخمس) . وقال مالكٌ: (يكون بين الجيش) .
وقال الأوزاعي: (يؤخذ خمسه، والباقي بين الجيش) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق بين موات دار الإسلام وغيرها.
وإن وجده في موضع قد ملك.. نظرت:
فإن لم يعرف مالكه، مثل: مواضع عادٍ وقومه.. فالحكم فيه كالحكم فيما وجد في مواتٍ؛ لأن ما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لم يملك.
وإن وجده في أرض عرف مالكها، فإن كانت في دار الإسلام، أو في دار أهل العهد.. لم يكن ركازًا، ولا يملكه، بل يحفظه إلى أن يجد صاحبه، فإن جاء.. أعطاه، وإلا كان لبيت المال؛ لأنه مالٌ محرزٌ في ملكه، والظاهر: أن صاحبه أحرزه.
وإن كان في دار الحرب.. فإنه يكون غنيمة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو ثورٍ، وأبو يوسف: (ينفرد به الواجد) .(3/343)
دليلنا: أنا حكمنا بأن الموضع ملكٌ للمشركين، فالظاهر: أن ما كان فيه، فهو لهم.
وإن وجد الرجل في داره أو أرضه ركازًا، فإن قال: هو لي كنت دفنته.. قبل قوله من غير يمينٍ؛ لأن الظاهر أنه له، وإن قال: ليس لي.. قال الشافعي: (فالظاهر أنه ملكٌ لمن أخذ منه تلك الدار) . فإن ورثها من أبيه.. قسم المال بين جميع ورثة الأب، إن ادعوا ذلك، وإن ادعاه بعضهم دون بعضٍ.. دفع إلى من ادعاه نصيبه، ووقف نصيب من لم يدعه.
وإن قالوا: ليس بملكٍ لأبينا.. فالظاهر: أنه لمن انتقل منه الدار إلى الأب.
فإن لم يدعه أحدٌ ممن ملك هذه الدار.. قال ابن الصباغ: كان ذلك لقطة.
وإن اكترى من رجلٍ دارًا، فوجد فيها ركازًا، فادعى كل واحدٍ منهما: أنه له.. قال الشافعي: (فالقول قول المكتري) .
وقال المزني: القول قول المكري، وهذا خطأٌ؛ لأن يد المكتري على الدار وما فيها، فكان القول قوله فيما في يده.
ولا يحكم بأنه ركازٌ إلا بأن يكون من مال جاهليٍّ، يعلم أن مثله لم يضرب في الإسلام، بأن يكون عليه اسم أحدٍ من ملوك أهل الشرك أو صورة الصلبان، لأن الظاهر أنه لمشركٍ.
فأما إذا كان عليه آية من كتاب الله، أو اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو أحدٌ من خلفاء المسلمين.. فليس بركازٍ، بل هو لقطة يجب تعريفها.
[فرع: بناء المشرك على كنز]
] : ذكر في " التعليق ": أن أبا إسحاق المروزي قال: إذا بنى المشرك بناءً، وكنز فيه كنزًا، وبلغته الدعوة، فعاند، ولم يسلم، ثم باد وهلك، فوجدنا ذلك الكنز.. فإنه(3/344)
يكون فيئًا، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز إنما هو من أموال الجاهلية العادية الذين لم يعرف هل بلغتهم الدعوة، أم لا؟ فأما إذا علم أن الدعوة بلغتهم: كان مالهم فيئًا، خمسه لأهل الخمس، وأربعة أخماسه لمن وجده، وإن لم تبلغهم الدعوة.. فهو موهبة من الله تعالى أباحه لنا، فكان ركازًا.
[فرع: وجد ركازًا لا علامة تدل عليه]
] : وإن وجد في الموات ركازًا لا علامة عليه لمسلم أو لمشركٍ، كالأواني من الذهب أو الفضة.. فذكر الشيخان أبو حامدٍ، وأبو إسحاق: أن المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لقطة) ؛ لأنه يحتمل أنه لمسلم، ويحتمل أنه لمشركٍ، والظاهر أنه لقطة.
ومن أصحابنا من قال: إنه ركازٌ، وذكر ابن الصباغ: أن هذا قولٌ للشافعي في " الأم " [2/37] ؛ لأن الظاهر منه إذا كان من مواتٍ: أنه ركازٌ.
[فرع: وجد غير الذهب والفضة]
] : وإن وجد غير الذهب والفضة.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وهو الصحيح؛ لأنه مقومٌ استفيد من الأرض، فلم يجب فيه شيءٌ، كما لو استخرج من المعدن.
و [الثاني] : قال في القديم: (يخمس كل ما وجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) .
ولا يعتبر الحول فيما يؤخذ من الركاز، قولًا واحدًا، وهو قول كافة العلماء؛ لأنه مستفادٌ من الأرض، فلا يعتبر فيه الحول، كالحبوب والثمار، والفرق بينه وبين ما يؤخذ من المعدن على القول الضعيف: أن ما يؤخذ من المعدن أخذه بتعبٍ ومؤنة، فلهذا اعتبر فيه الحول، وهذا أخذه بغير تعبٍ ولا مؤنة.(3/345)
[مسألة: اعتبارالنصاب في الركاز]
مسألة: [اعتبار النصاب في الركاز] : وهل يعتبر النصاب في الركاز؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يعتبر فيه النصاب، بل تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) ، ولأنه مال مخموس، فخمس قليله وكثيره، كالغنيمة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب إلا في النصاب) . قال الشافعي: (ولو كنت أنا الواجد، لخمست قليله وكثيره) . وهذا القول هو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون مائتي درهم شيء، وليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شيء» . ولم يفرق بين الركاز وغيره، ولأنه حق مصروف إلى أهل الصدقات، فاعتبر فيه النصاب، كسائر الزكوات) .
وأما الخبر الأول: فهو عام، وهذا خاص، والخاص يقدم على العام.
فعلى هذا: إذا وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة، فإن لم يكن معه شيء من جنسه.. لم يجب عليه شيء.
وإن كان معه شيء من جنسه.. فلا يخلو: إما أن يكون الذي عنده نصابا أو أقل من النصاب:
فإن كان الذي عنده نصابا.. نظرت:
فإن وجد الركاز مع حؤول الحول على النصاب.. أخرج الخمس من الركاز، وعن النصاب ربع العشر، نص الشافعي عليه؛ لأن النصاب قد حال عليه الحول، ووجبت فيه الزكاة، والركاز لا يعتبر فيه الحول، فهو كما لو كان موجودا مع النصاب من أول الحول.
وإن وجد الركاز بعد حؤول الحول على النصاب الذي عنده.. لزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، سواء كان قد زكى النصاب الذي عنده، أو لم يزكه، نص عليه الشافعي أيضا؛ لأن ما معه قد حال عليه الحول، والركاز في حكم ما حال عليه الحول.(3/346)
قال ابن الصباغ: ولا خلاف بين أصحابنا في هاتين المسألتين.
وإن وجد الركاز قبل حؤول الحول على النصاب الذي عنده، مثل: أن يكون عنده مائتا درهم، فأقامت عنده أحد عشر شهرًا، ثم وجد من الركاز مائة درهم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وأبي إسحاق صاحب " المهذب " -: أنه لا يضم المائة من الركاز إلى ما عنده، بل إذا تم حول النصاب.. زكاه، وإذا تم حول المائة من حين وجدها.. أخرج عنها ربع عشرها؛ لأن النصاب الذي عنده لم يحل عليه الحول، والركاز وإن كان في حكم ما حال عليه الحول، إلا أنه كبعض نصاب حال عليه الحول، فلم تجب فيه عليه زكاة.
قال الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذه ليست بمنصوصة للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكنه قد نص على مثلها، فقال: (لو استفاد مائة درهم من الركاز، وليس معه مال سواها.. فلا شيء فيها؛ لأنها دون النصاب، فإن وجد بعدها مائة درهم أخرى ركازًا.. لم يجب فيها شيء) . فلم يوجب في الثانية شيئًا؛ لأن الذي معه لم يحل عليه الحول، ولا هو في حكم مال حال عليه الحول.
والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب في " شرح المولدات "، واختيار ابن الصباغ -: أن المائة تضم إلى النصاب وإن كان قبل الحول، ويخرج الخمس عن المائة، وإذا تم حول النصاب.. أخرج عنه ربع العشر.
واحتجا بنص الشافعي في المسألة قبلها، وهو إذا وجد ما دون النصاب بعد حؤول الحول على النصاب.. أنه يلزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، وإن كان الحول الثاني لم يتم على ماله، ولا حكم للحول الذي انقضى قبل وجود الركاز، ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قال: (إذا كان ماله دينًا أو غائبًا، عرف الوقت الذي أصاب فيه الركاز، فإن كان ماله الغائب في يد من وكله، أو من عليه الدين مليئًا مقرًا به.. فهو كما لو كان المال في يده ويخرج زكاة الركاز) . ولم يعتبر وجوده في آخر جزء من آخر الحول أو بعده.(3/347)
وأما المسألة التي احتج بها الشيخ أبو حامد: فقال القاضي: أراد الشافعي: إذا وجد المائة الثانية بعد تلف الأولى، فأما إذا وجد الثانية مع بقاء الأولى.. فإنه يخرج من الثانية خمسها؛ لأن الشافعي قال فيها: (فكان كمال يفيده في وقت، فتمر عليه سنة، ثم يفيد آخر في وقت، فتمر عليه سنة، فليس فيه الزكاة) . وأراد: إذا كان الأول قد خرج عن ملكه، وإلا فإذا كان باقيًا.. وجبت الزكاة في السنة الثانية.
هذا إذا كان الذي عنده نصابًا، فإن كان الذي عنده أقل من نصاب، بأن كان عنده مائة درهم، ثم وجد مائة درهم من الركاز، فإن وجدها مع آخر الحول على المائة، أو بعد الحول.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المنصوص، وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: (أنه يجب في المائة التي كانت عنده ربع العشر في الحال، ويجب في المائة التي أخذها ركازًا الخمس في الحال) ؛ لأن الذي عنده قد حال عليه الحول، وما وجده في حكم ما حال عليه الحول، فهو كما لو كان في يده مائتا درهم من أول الحول إلى آخره.
والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ -: أنه يجب في المائة المأخوذة من الركاز الخمس؛ لأنه لا يعتبر فيها الحول، وقد انضمت إلى المائة الأخرى في النصاب، ولا يجب في المائة التي كانت عنده شيء، حتى يحول عليها الحول من حين تم النصاب؛ لأن الحول لا ينعقد عليها مع نقصانها عن النصاب.
والوجه الثالث: أنه لا يجب في المائتين شيء في الحال، بل يستأنف بهما الحول من حين تم النصاب، فإذا تم حولهما.. أخرج عنهما ربع العشر؛ لأن ما دون النصاب لا يجري في الحول.
وإن وجد المائة قبل تمام الحول على المائة التي كانت عنده.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق -: أنه لا يجب فيهما في الحال شيء، بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب، فإذا حال الحول عليهما.. وجب فيهما ربع العشر.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يجب في المائة التي(3/348)
وجدها من الركاز الخمس في الحال، ويستأنف الحول في المائة الثانية التي كانت عنده من حين تم النصاب، فإذا تم حولها، أخرج عنها ربع العشر..
ووجههما: ما ذكرناه في المسألة المتقدمة.
[مسألة: إخراج العبد الركاز]
] : إذا أمر السيد عبده بإخراج ركاز، أو يعمل في معدن، فوجد مالًا، أو وجده من غير إذن السيد.. كان ملكًا للسيد، وعليه الزكاة فيه إن كان ممن تجب عليه الزكاة.
وإن قال له السيد: خذه لنفسك، فإن قلنا: يملك العبد إذا ملك.. فهو للعبد، ولا زكاة على أحدهما فيه. وإن قلنا: لا يملك.. فهو للسيد، وزكاته عليه. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد: (إذا وجد العبد ركازًا.. أرضخ له منه) .
وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (هو له بعد الخمس) .
دليلنا: أن كسب العبد ملك للسيد، وذلك من كسبه، فكان للسيد كالصيد.
والله أعلم، وبالله التوفيق(3/349)
[باب زكاة الفطر]
زكاة الفطر مفروضة، والواجب والمفروض عندنا واحد.
وقال أبو حنيفة: (هي واجبة، وليست بمفروضة) ؛ لأن الواجب عنده أقل درجة من المفروض، فالمفروض: ما ثبت بالأخبار المتواترة، كالصلوات الخمس، والواجب: ما ثبت بأخبار الآحاد، مثل: الوتر عنده، وهذا خلاف في التسمية لا غير.
وقال الأصم، وابن عُلية، وقوم من أهل البصرة: لا تجب زكاة الفطر.
وبه قال أبو الحسين ابن اللبان الفرضي من أصحابنا.
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر على الناس في رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين» . فلنا منه دليلان:
أحدهما: قوله: (فرض) بمعنى: ألزم، وحتم، ولا يجوز أن يكون معناه(3/350)
قدر؛ لأنه قال: (على الناس) ولو كان المراد التقدير.. لقال: للناس.
والثاني: أنه قال: (زكاة) ، والزكاة: لا تكون إلا مفروضة لازمة..
[مسألة: الفطرة على المسلم]
] : قال الشافعي: (ولم يفرضها إلا على المسلمين) .
وجملة ذلك: أن من قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين غير مخاطبين بالشرائع.. قال: لا تجب عليهم زكاة الفطر، واحتج بقول الشافعي هاهنا: (إلا على المسلمين) . ومن قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين مخاطبون بالشرائع.. قال زكاة الفطر واجبة عليهم.
ونقول: معنى قوله: (إلا على المسلمين) ، أي: فرض الأداء.
وإن كان الكافر مرتدًا.. فعلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في أول الزكاة.
وأمَّا المكاتب: فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أنه لا تجب زكاة فطرته في ماله ولا على سيده) . وبه قال ابن عمر، وأبو حنيفة.
وروى أبو ثور، عن الشافعي: (أن زكاة فطره تجب على سيده) . وبه قال عطاء، ومالك رحمة الله عليهما، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تجب في كسبه) . وحكاه في " المهذب " وجهًا عن بعض أصحابنا.
دليلنا: أن المكاتب ناقص الملك، بدليل: أنه لا تجب عليه زكاة المال، فلم تجب عليه زكاة الفطر؛ كالذمي، والدليل على أنها لا تجب على سيده: أنه معه كالأجنبي، ولهذا يصح البيع بينهما.
[فرع: وجوب الفطرة]
] : ولا تجب زكاة الفطر إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة الفطر ويومه ما يؤدى في الفطرة، ولا يعتبر ملك النصاب بعد القوت، وبه قال عطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.(3/351)
وقال أبو حنيفة: (لا تجب إلا على من ملك نصابا من الذهب أو الورق أو ما قيمته نصاب)
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس: صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى» . ولم يفرق بين أن يكون واجدا للنصاب أو غير واجد.
وإن فضل معه نصف صاع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه إخراجه، كما لو وجبت عليه رقبة، فلم يجد إلا نصفها.
والثاني: يلزمه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر.. فأتوا منه ما استطعتم» .
ولأنه لو ملك نصف عبد.. للزمه نصف فطرته، فكذلك إذا ملك نصف صاع.. لزمه إخراجه.
وإن كان معسرا حال الوجوب، ثم أيسر بعد ذلك.. لم يلزمه الإخراج، بل يستحب له. وقال مالك رحمة الله عليه: (يلزمه الإخراج إذا أيسر يوم الفطر) .
دليلنا: أنه لم يكن موسرا وقت الوجوب، فلم يلزمه إذا أيسر بعد ذلك، كما لو أيسر بعد يوم الفطر.
[مسألة: وجوب الفطرة على من تجب عليه النفقة]
] الفطرة تابعة للنفقة، فمن وجبت نفقته على شخص.. وجبت فطرته عليه، فإن كان له ابن صغير معسر، والأب موسر.. فنفقة الابن وفطرته على الأب، قال أصحابنا: وهذا إجماع.(3/352)
وإن كان الابن صغيرًا موسرًا.. فنفقته وفطرته في ماله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن: نفقته في ماله، وفطرته على أبيه.
دليلنا: أن نفقته في ماله، فكانت فطرته في ماله، كالأب.
وأما إذا كان له ابن ابن، أو ابن بنت صغير معسر.. لزم الجد نفقته وفطرته.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه) .
دليلنا: أنه يطلق عليه اسم الولد.. فلزم الجد نفقته وفطرته، كولده الصغير من صلبه.
وأما الآباء والأجداد والأمهات والجدات: فمن كان منهم فقيرًا زمنًا.. فإن نفقته وفطرته على ابنه، أو ابن ابنه وإن سفل، وإن كان معسرًا صحيحا.. فهل تجب نفقته وفطرته على ابنه؟ فيه طريقان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: لا يلزمه، قولًا واحدًا، ويأتي توجيه ذلك في (النفقات) .
وأما الولد الكبير: فإن كان معسرًا زمنًا.. وجبت نفقته وفطرته على الأب أيضًا، وإن كان معسرًا صحيحا.. بني على الأقوال في وجوبها على الأب الصحيح:
فإن قلنا: لا تجب نفقته وفطرته، قولًا واحدًا.. فالابن البالغ الصحيح أولى أن لا تجب نفقته ولا فطرته. وإن قلنا: في الأب قولان.. ففي الولد البالغ الصحيح طريقان:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: لا تجب، قولًا واحدًا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه فطرة من لا ولاية له عليه، فلا تجب على الأولاد فطرة الوالدين، ولا تجب على الأب فطرة الابن البالغ بحال) .(3/353)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون ". ولم يفرق، وروي عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: (من جرت عليك نفقته، فأطعم عنه نصف صاع، من بر، أو صاعًا من تمر أو شعير) . ولا يعرف له مخالف.
فإن كان للوالد أو الولد عبد يحتاج إليه للخدمة.. وجبت نفقته وفطرته على من وجبت عليه نفقة مولاه وفطرته؛ لأنه تابع له.
وإن كان مستغنيًا عن خدمته.. كانت نفقة مولاه وزكاة فطرهما في قيمته، فيباع منه بقدر ذلك، فإن تعذر بيع جزء منه.. بيع جميعه.
[فرع: فطرة زوجة الأب]
] : إذا كان له أب يلزمه نفقته، وللأب زوجة.. فهل يلزم الابن فطرة الزوجة.. فيه وجهان، ذكرهما في " الإبانة " [ق \ 151] :
أحدهما: يلزمه كما يلزمه نفقتها.
والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزم الأب. والأول أصح. وإن كان له ابن تلزمه نفقته، وللابن زوجة.. لم يلزم الأب فطرة الزوجة، كما لا يلزمه نفقتها.(3/354)
[فرع: تطوع النفقة لا يلزم زكاة الفطر]
] : وإن تطوع رجل على إنسان بالنفقة.. لم يلزمه زكاة فطرته.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (تلزمه زكاة فطره) .
دليلنا: أن من لا تلزمه نفقته، لا تلزمه فطرته، كما لو لم يتطوع عليه، وعكسه من يلزمه نفقته.
[فرع: وجوب فطرة العبد والأمة]
] : ويجب عليه فطرة عبده وأمته المسلمين.
وقال داود: (لا يجب على السيد، بل يجب على العبد، وعلى السيد أن يتركه ليكتسب ما يؤدي في الفطرة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، إلا صدقة الفطر في الرقيق» . فدل على وجوبها على السيد.
وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نؤدي إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر عن كل حر وعبد، صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب» . فأخبر أنهم كانوا يؤدون عن العبيد، فدل على وجوبها على السيد.(3/355)
وأما الجواب عن قوله: «على كل حر وعبد» : فمن قال من أصحابنا: إن زكاة العبد تجب على السيد.. قال معناه: عن كل حر وعبد، والعرب تستعمل (على) في موضع (عن) .
قال الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وأراد: إذا رضيت عني.
ومن قال من أصحابنا: إن الزكاة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. قال: يحمل هذا على الوجوب على العبد، وأما الأداء: فعلى السيد، بدليل حديث أبي سعيد الخدري.
إذا ثبت هذا: فحكم أم الولد والمدبر والمعتق نصفه.. حكم العبد القن؛ لأنه باق على ملكه.
[مسألة: زكاة العبيد]
] : قال الشافعي: (ويؤدي عن عبيده الحضور والغيب وإن لم يرج وجوعهم إذا علم حياتهم) .
قال الشيخ أبو حامد: إذا غاب له عبد، فأهل شوال، وهو يعلم حياته.. وجبت عليه زكاته، سواء كان آبقا أو غير آبق، وسواء كان يرجو عودته أو لا يرجو؛ لأن الزكاة تجب بسبب الملك، والملك موجود وإن لم يكن فيه منفعة، كالعبد الزمن.
وإن لم يعلم حياته.. فظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (أنه لا يجب على السيد) .(3/356)
وقال في موضع آخر: (يزكي عنهم وإن لم يعلم حياتهم) .
فاختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فمنهم من قال: تجب عليه، قولًا واحدا، ولم يجعل لكلام الشافعي دليل خطاب.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه، كما لا يجب عليه زكاة ماله الغائب الذي لا يعلم سلامته.
والثاني: يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن الأصل فيه الحياة، ويخالف زكاة المال، لأنها لا تجب إلا في الأموال النامية، بدليل: أنها لا تجب في البغال والحمير، وهاهنا: تجب الزكاة لأجل الملك، والملك موجود.
وهكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا أبق له عبد.. فهل تجب زكاة فطرته؟ على طريقين، ولم يفصل بين أن يعلم حياته أو لا يعلم، وهي طريقة المسعودي [في " الإبانة " ق \ 152] .
فإذا قلنا: تجب زكاة عبده الغائب الذي لا يعلم حياته.. فهل يجب عليه إخراجها قبل أن يعود إليه؟ ذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد حكى عن " الإملاء " قولين:
أحدهما: يجب.
والثاني: لا يجب حتى يعود إليه كالمال المغصوب.(3/357)
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن إمكان الأداء شرط في ضمان زكاة المال، والمال الغائب يتعذر فيه الأداء، وزكاة الفطر تجب عما لا يؤدى منه.
[فرع: زكاة المرهون والمغضوب]
فرع: [تؤدى زكاة المرهون والمغضوب] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويؤدي عمن كان مرهونا أو مغصوبا) .
وهذا كما قال: إذا كان له عبد مرهون.. فإنه يجب عليه زكاة فطره؛ لأن ملكه ثابت عليه.
وإن كان له عبد مغصوب.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجب على السيد زكاة فطره، قولا واحدا؛ لبقاء الملك عليه.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 152] : أن من أصحابنا من قال: في زكاته قولان، كالمال المغصوب.
[فرع: فيما لوملك العبد عبدا]
فرع: [فيما لو ملك العبد عبدا] : وإن ملك عبده عبدا، فإن قلنا: إنه يملك.. لم تجب زكاته على السيد، ولا على العبد، وإن قلنا: إن العبد لا يملك.. كانت زكاة فطرهما على السيد.
[فرع: زكاة المملوك لاثنين أو أكثر]
] : وإن كان بين اثنين، أو بين جماعة عبد مملوك.. وجب زكاة فطرته على الموالي، على كل مولى بحصته.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب زكاة العبد المشترك على واحد) .
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب على كل واحد صاع) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» . ولم يفرق بين أن يكون لواحد أو لأكثر، ولأن نفقته تجب عليهم على قدر أملاكهم، فكذلك زكاة فطرته.(3/358)
[فرع: زكاة المبعض]
] : وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا.. وجبت زكاة فطرته عليه وعلى سيده.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه، ولا على سيده) .
وقال مالك رحمة الله عليه: (يجب على السيد نصف فطرته، ولا شيء على العبد) .
وقال عبد الملك بن الماجشون؛ يجب على السيد جميع فطرته.
دليلنا: ما ذكرناه في التي قبلها.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فإن نصف كسبه له، ونصفه لسيده، وكذلك النفقة والفطرة، فإذا أهل شوال، فإن كان العبد يملك نصف صاع فاضلا عن نصف نفقته ليلة الفطر ويومه.. لزمه إخراجه، وإن لم يملك ذلك فاضلا عن نصف نفقته.. لم يجب عليه شيء، ويخرج المولى نصف صاع عنه.
وإن كان بينهما مهايأة.. فإن النفقة والكسب يدخلان فيها.
وأما زكاة الفطر: ففيها طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 152] :
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يدخل فيها، قولا واحدا، وهي طريقة أصحابنا البغداديين؛ لأن المهايأة معاوضة كسب يوم بكسب يوم، والفطرة حق لله تعالى، فلا تصح المعاوضة عليها.
فعلى هذا: إذا أهل شوال في يوم السيد.. فعلى السيد نصف صاع فاضل عن نفقة السيد، وعن جميع نفقة العبد.
فإن كان العبد يملك نصف صاع.. لزمه إخراجه وإن لم يفضل عن نفقته؛ لأن نفقته في هذا اليوم على السيد، وإن كان يوم الفطر في حق العبد.. فعلى السيد نصف(3/359)
صاع فاضل عن جميع نفقة نفسه ليلة الفطر ويومه لا غير؛ لأن نفقة العبد في هذا اليوم على نفسه، وعلى العبد نصف صاع فاضل عن جميع نفقته ليلة الفطر ويومه.
[فرع: فطرة العبد المقارض]
] : وتجب فطرة العبد الذي في يد العامل في القراض.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب) .
دليلنا: أن ملكه ثابت عليه، فهو كما لو كان بيده.
وإن كان بيده عبد للتجارة.. وجبت عليه زكاة فطرته، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه) .
دليلنا: أنه شخص من أهل الفطرة، فوجبت زكاة فطرته، كما لو لم يكن للتجارة.
[فرع: فطرة الزوجة على زوجها]
] : ويجب على الرجل فطرة زوجته المسلمة، وبه قال مالك رحمة الله عليه.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجب على الرجل زكاة زوجته) .
دليلنا: ما روي في حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون "، ولأن كل معنى يتحمل بالملك والنسب.. جاز أن يتحمل بالزوجية، كالنفقة، أو نقول: لأنه ملك يستحق به النفقة، فجاز أن يستحق به الفطرة، كالملك، وفيه احتراز من عقد الإجارة.
وإن كانت الزوجة ممن يخدم مثلها نفسها في العادة.. لم يجب على الزوج أن يخدمها، فإن تطوع وأخدمها بخادم يملكه.. وجبت عليه زكاة فطرته؛ لأنه ملكه،(3/360)
وإن كان لها خادم تملكه، وتراضيا على أنه يخدمها.. لم يجب على الزوج فطرته، ولا نفقته.
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها في العادة.. وجب على الزوج أن يخدمها بخادم، وهو بالخيار: بين أن يشتري خادما ويتركه في خدمتها، وبين أن يكتري لها خادما.
وإن كان لها خادم مملوك لها، واتفقا على أنه يخدمها.. جاز، فإن اشترى خادما، وجعله في خدمتها.. وجب عليه فطرته؛ لأنه مملوكه، وإن اكترى لها خادما.. لم يجب عليه فطرته، وإن اتفقا على أن يخدمها مملوكها.. وجب على الزوج نفقته وفطرته.
وإن نشزت الزوجة.. لم تجب عليه فطرتها، ولا فطرة خادمها؛ لأن نفقتها تسقط، فسقط ما يتبعها.
[فرع: لا تجب الفطرة على غير مسلم]
] : ولا يجب عليه إلا فطرة مسلم، فإن كان لمسلم عبد كافر أو زوجة ذمية.. لم تجب عليه فطرتهما، وكذلك إذا كان له أب كافر، أو ابن كافر، بأن يسلم أحدهما، ويبقى الآخر على الكفر.
وقال أبو حنيفة: (تجب عليه فطرة عبده الكافر اعتبارا بحال المؤدي) .
فأما الزوجة: فلا تجب عليه فطرتها عنده، مسلمة كانت، أو كافرة.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو شعير على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين»
وقد روي في الخبر: «طهرة للصائم» . والكافر لا طهرة له.(3/361)
فأما إذا كان العبد مسلما والسيد كافرا، مثل: أن يكون للكافر عبد كافر، فأسلم العبد، فقبل أن يزال ملكه عنه أهل شوال.. فهل يجب على السيد فطرته؟ إن قلنا: إن زكاة الفطر تجب على السيد.. لم يجب عليه هاهنا؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.
وإن قلنا: إن الفطرة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. وجب على السيد أداؤها هاهنا؛ لأن الوجوب كان على المسلم.
[مسألة: يؤدي الفقير بما زاد عن نفقته]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إلا ما يؤدي عن بعضهم.. أدى عن بعضهم) .
وجملة ذلك: أنه إذا فضل عن قوته وقوتهم ليلة الفطر ويومه ما يؤدي عنهم لزمه أن يؤدي عنهم على ما مضى.
وإن لم يجد إلا ما يؤدي عن بعضهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأنه إذا فضل عنده صاع.. أخرجه عمن شاء منهم؛ لأن زكاة الكل واجبة عليه. قال شيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذا ظاهر المذهب. ومنهم من قال: يخرجه عنهم جميعا. حكاه في " الإبانة " [ق \ 153] ، وهو غريب.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يخرج أولا عن نفسه، ثم هو بالخيار في حق الباقين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» .(3/362)
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يبدأ بفطرة نفسه، ثم بفطرة الزوجة؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة، ثم بابنه الصغير؛ لأن نفقته ثبتت بنص القرآن، ثم بأبيه قبل أمه؛ لأنه لو كان الابن معسرا، لكان الأب ينفق عليه قبل أمه، ثم بأمه قبل الابن الكبير؛ لأن حالها آكد، ثم بالابن الكبير المعسر.
ومن أصحابنا من قال: يقدم الابن الكبير المعسر على الأب والأم؛ لأن النص ورد بنفقة الولد.
ومن أصحابنا من قال: تقدم الأم على الأب؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي قال: من أبر؟ قال: " أمك "، ثم عاد، فقال: " أمك " ثلاث مرات، ثم قال: ومن؟ قال: أباك»
ومن أصحابنا من قال: هما سواء، فيخرج عن أيهما شاء.(3/363)
وقال أبو علي بن أبي هريرة: تقدم فطرة الأقارب على فطرة الزوجة؛ لأنه يقدر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق، ولا يقدر على إزالة سبب القرابة.
ومنهم من قال: تقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة.
[فرع: ممن تطلب الفطرة ابتداء]
] : ومن وجبت فطرته على غيره.. فهل تجب على المؤدي ابتداء، أو على المؤدى عنه، ثم يتحملها المؤدي؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها وجبت على المؤدي ابتداء؛ لأنها تجب في ماله.
والثاني: أنها وجبت على المؤدى عنه؛ لأنها تجب لتطهيره، فإن أخرجها المؤدى عنه، مثل: أن تخرج الزوجة فطرتها من مالها، أو الأب أو الابن إذا كانا فقيرين وقت الوجوب، ثم اقترضا أو اكتسبا مالًا بعد الوجوب، وأخرجاه عن زكاة فطرهما، فإن أخرجوا ذلك بإذن المؤدي.. جاز، كما لو أخرج عنه زكاة ماله بإذنه، وإن كان بغير إذنه، فإن قلنا: إنها وجبت على المؤدي ابتداء.. لم يجز، كما لو أخرج عن غيره زكاة ماله بغير إذنه. وإن قلنا: إنها وجبت على المؤدى عنه ابتداء.. جاز.
[فرع: موسرة وزوجها معسر]
] : وإن كانت له زوجة موسرة، وهو معسر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت لها أن تخرجها، ولا يتبين لي أن يجب عليها) ، وقال في موضع آخر بعدها: (إذا زوج السيد أمته بعبد أو مكاتب أو حر معسر.. أن على السيد فطرتها) .
واختلف أصحابنا فيها:(3/364)
فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين:
أحدهما: لا يجب على الحرة ولا على سيد الأمة، لأن المخاطب بها هو الزوج، فإذا أعسر، وعجز عنها.. لم يجب على غيره.
والثاني: يجب عليهما؛ لأن الفطرة كانت في الأصل واجبة على الحرة، وعلى سيد الأمة، وإنما انتقلت عنهما بالزوجية، فإذا لم يكن من انتقلت إليه عنها بالزوجية من أهل التحمل.. عادت إلى من كانت عليه.
ومن أصحابنا من قال: يُبنى ذلك على: أن الفطرة وجبت ابتداء على الزوج، أو على الزوجة، ثم يتحمل عنها الزوج، فإن قلنا: إنها وجبت ابتداء على الزوج.. لم يجب على الزوجة ولا على سيد الأمة. وإن قلنا: إنها وجبت على الزوجة.. لم يتحملها الزوج، ووجبت على الزوجة وعلى سيد الأمة؛ لأن الوجوب كان عليهما، والزوج يتحمل، فإذا عجز.. بقي الوجوب في محله.
وهذا القول يوافق الأول في الحكم، وإنما خالفه في السبيل؛ لأن الأول يقول: هما قولان أصليان، والثاني يقول: هما مبنيان.
وقال أبو إسحاق: بل المسألتان على ظاهرهما، فيجب على السيد، ولا يجب على الحرة الموسرة؛ لأن الحرة يجب عليها تسليم نفسها ليلًا ونهارًا، فانتقلت فطرتها عنها بغير اختيارها، والسيد لا يجب عليه تسليم الأمة ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه بالليل لا غير، ولا يجب على الزوج نفقتها ولا فطرتها، فإذا تطوع السيد بتسليمها ليلًا ونهارًا.. لم يسقط عنه ما وجب عليه من النفقة والفطرة بذلك.
[مسألة: وقت دفع الفطرة]
] : ومتى تجب زكاة الفطر؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما - قاله في القديم -: (أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر) . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه؛(3/365)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وأراد به: يوم الفطر، فدل على أنه وقت الوجوب.
ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه يكون يوم الفطر.
ولأنه حق يتعلق بمال مخرج في يوم عيد، فتعلق باليوم، كالأضحية.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان) . وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، وهو الرواية الأخرى عن مالك رحمة الله عليه؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث» . فينبغي أن يجب ذلك على من أدرك جزءا من الصوم، ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه إذا غابت الشمس من آخر يوم منه.
وحكى المسعودي في [" الإبانة " ق \ 115] قولا ثالثا غريبا: أنه لا تجب إلا بغروب الشمس، وبطلوع الفجر من يوم الفطر. وقال بعض أصحاب مالك: لا تجب إلا بطلوع الشمس من يوم الفطر. وهذا ليس بشيء؛ لما ذكرناه للقولين.
فإن تزوج امرأة أو رزق ولدا، أو اشترى رقيقا، فغربت الشمس ليلة الفطر، وهم عنده.. وجبت عليه زكاة فطرهم على القول الجديد.(3/366)
وإن لم يطلع الفجر وهم عنده، فإن قلنا بقوله القديم.. لم يجب عليه زكاة فطرهم إلا إذا طلع الفجر، وهم عنده وإن لم يكونوا عنده عند غروب الشمس. وإن قلنا بالقول الثالث.. لم تجب عليه زكاة فطرهم، حتى تغرب الشمس ليلة الفطر، ويطلع الفجر من يوم الفطر وهم عنده.
وإن دخل عليه الوقت، وهم عنده، فماتوا قبل أن يتمكن من أداء الزكاة عنهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تجب عليه زكاة فطرهم، كما لا تجب عليه زكاة المال إذا هلك المال قبل التمكن من أداء زكاته.
والثاني: يجب عليه، كما لو ظاهر من امرأته، ووجبت عليه الكفارة، ثم ماتت قبل أن يتمكن من تحصيل الرقبة، فإنها لا تسقط عنه.
[فرع: تعجيل زكاة الفطر]
] : ويجوز تقديم زكاة الفطر من أول شهر رمضان، ولا يجوز إخراجها قبل دخول شهر رمضان.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
وقال أحمد: (يجوز إخراجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، ولا يجوز قبل ذلك) .
دليلنا: أن الزكاة تتعلق بسببين: الصوم، والإفطار في آخر الشهر، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمها على الآخر، ولا يجوز قبلهما، كزكاة المال: كما لو أراد أن يخرج زكاة المال قبل أن يملك النصاب.
والمستحب: أن يخرجها يوم العيد قبل الصلاة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة» .(3/367)
فإن أخرجها بعد الصلاة يوم العيد وقبل خروج يوم الفطر.. لم يأثم، وإن أخرها عن يوم الفطر.. أثم بذلك، وإذا أخرجها بعد ذلك.. أجزأه.
وحُكي عن ابن سيرين، والنخعي: أنهما كانا يرخصان في تأخيرها عن يوم الفطر.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» .
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة.. فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة.. فهي صدقة من الصدقات» . فدل على ما قلناه.
[مسألة: مات بعد إهلال شوال]
] : وإذا مات رجل، وخلف عبدًا، ولا دين عليه:
فإن مات بعدما أهل شوال.. فإن زكاة فطرهما قد وجبت على السيد، فإن أخرجها الورثة من غيره، أو من أموالهم.. استقر ملكهم على العبد، وإلا بيع جزء من العبد، وأخرجت منه زكاة الفطر. وإن تعذر ذلك.. بيع جميعه، وأُديت زكاة فطرهما منه، وقسم باقي الثمن بين الورثة.
وإن مات بعدما أهل شوال، وعليه دين، وله مال سوى العبد.. فإن فطرة السيد، وفطرة العبد، والدين قد وجبت في ذمة السيد.
فإن اتسع المال للجميع.. قضى الجميع، وإن ضاق المال.. فإن فطرة السيد، والدين على ثلاثة أقوال:
أحدها: تقدم الفطرة؛ لأنها دين لله، فكان أحق بالتقديم.
والثاني: يقدم الدين؛ لأنه دين للآدمي، وهو شحيح.(3/368)
والثالث: أنهما سواء؛ لتساويهما في الوجوب.
وأما فطرة العبد والدين: ففيهما طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: هي كفطرة السيد مع الدين، على هذه الأقوال الثلاثة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تقدم فطرة العبد على الدين، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بالعين، والدين متعلق بالذمة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأن فطرة العبد لا تتعلق أيضاُ بالعين، وإنما هي بالذمة.
فإن مات السيد قبل أن يهل شوال، وعليه دين:
فإن قلنا: إن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة، وهو المذهب.. فإن فطرة العبد تجب على الورثة؛ لأنه ملك لهم، وكونه كالمرهون بالدين لا يمنع وجوب الفطرة، كما لو كان له عبد مرهون.
وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا تجب زكاة فطرة العبد على أحد؛ لأن الميت لا يجب عليه شيء، ولا تملكه الورثة.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: تجب زكاة فطره في تركة الميت؛ لأنه باق على ملكه.
[فرع: فطرة العبد الموصى به على من يملكه وقت الوجوب]
] : إذا أوصى رجل لرجل بعبد يخرج من ثلثه، فأهل شوال، ثم مات الموصى له.. فإن زكاة العبد على الموصي؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب، وإن مات الموصي، ثم قبل الموصى له الوصية، ثم أهل شوال.. فإن زكاة العبد على الموصى له؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب.(3/369)
وإن مات الموصي، ثم أهل شوال قبل أن يقبل الموصى له الوصية:
فإن قلنا: برواية ابن عبد الحكم، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الموصى له يملك الموصى به بنفس الموت) .. فإن فطرة العبد على الموصى له، سواء قبل أو لم يقبل؛ لأن الملك قد حصل له؛ لأنه وإن رد الوصية بعد هذا.. فإن الملك يحصل للورثة بنفس الرد.
وإن قلنا: إن الملك مراعى في الموصى به.. نظرت:
فإن قبل الموصى له بالعبد.. تبينا أنه ملكه بالموت، فيجب عليه زكاة العبد.
وإن لم يقبل.. تبينا أن ملكه انتقل إلى الورثة بالموت، فتكون زكاة العبد عليهم.
وإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالموت والقبول.. ففيه وجهان حكاهما في " الإبانة " [ق \ 153] :
أحدهما - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أن زكاة العبد تجب في تركة الميت؛ لأنه مبقى على ملكه وقت الوجوب.
والثاني: لا يجب على أحد؛ لأن الميت لا يمكن الإيجاب عليه.
فإن مات الموصي، ثم أهل شوال، ثم مات الموصى له قبل القبول:
فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. فزكاة العبد في تركة الموصى له.
وإن قلنا: إنه مراعى، فإن قبل ورثة الموصى له الوصية.. تبينا أن الملك وقع لمورثهم بموت الموصي، فتكون فطرة العبد في تركة الموصى له، وإن ردوا.. تبينا أن الملك وقع لورثة الموصي بموته، فتكون فطرة العبد عليهم.
وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنها في تركة الموصي.
والثاني: لا تجب على أحد.(3/370)
وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، ثم أهل شوال:
فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كانت الفطرة هاهنا على ورثة الموصى له.
وإن قلنا: إن الملك مراعى.. نظرت:
فإن قبل ورثة الموصى له الوصية ... كانت الفطرة عليهم؛ لأن مورثهم ملك العبد بموت الموصي، ثم مات، وجاء وقت الوجوب وهو في ملكهم.
وإن لم يقبلوا، أو ردوا الوصية.. كانت الفطرة على ورثة الموصي.
وإن قلنا: إن الملك يحصل بالقبول.. فعلى الوجهين الأولين:
أحدهما: تجب في تركة الموصي.
والثاني: لا تجب على أحد.
[فرع: الوصية لرجل بالرقبة ولآخر بالمنفعة]
] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في الأم [2/55] : (لو أوصى لرجل برقبة عبد، ولآخر بمنفعته، وقبلا الوصية، ثم أهل شوال.. فإن فطرة العبد على الموصى له بالرقبة؛ لأنها تتعلق بالرقبة، ومالك المنفعة كالمستأجر) .
قال ابن الصباغ: وهكذا ينبغي أن تجب النفقة عليه.
قلت: وقد حكى في " المهذب " في نفقته ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب على الموصى له بالرقبة.
والثاني: أنها على الموصى له بالمنفعة.
والثالث: أنها في كسبه، فينبغي أن تكون زكاة فطره كنفقته.
[فرع: فطرة العبد في مدة الخيار]
] : إذا اشترى عبدًا، فأهل شوال في خيار المجلس أو الشرط:
فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد.. فإن الفطرة تجب عليه، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك.(3/371)
وإن قلنا: لا يملكه إلا بالعقد، وانقضى الخيار.. كانت الفطرة على البائع، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك.
وإن قلنا: إن الملك موقوف.. كانت الفطرة موقوفة أيضًا، فإن اختار البيع.. كانت الفطرة على المشتري، وإن فسخاه.. كانت الفطرة على البائع.
[فرع: وجوب الفطرة على أهل البادية]
] : زكاة الفطر واجبة على أهل البادية، وروي ذلك عن ابن الزبير.
وقال عطاء، والزهري، وربيعة رحمة الله عليهم: لا يجب عليهم.
دليلنا: عموم حديث ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه مسلم موسر بها.. فوجبت عليه، كأهل القرى.
[مسألة: ما يجب في صدقة الفطر]
] : الواجب في الفطرة: صاع من أي جنس كان من الطعام، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والحسن البصري، وأبو العالية، وأبو الشعثاء جابر بن زيد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة: (الواجب من البر نصف صاع) ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
واختلفت الرواية فيه عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن المنذر: لا يثبت ذلك عن أبي بكر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان:
إحداهما: (صاع) .
والثانية: (نصف صاع) .(3/372)
دليلنا: ما روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نخرج إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما تكلم به أن قال: إني أرى مدين من تمر الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، وأنا لا أخرج إلا ذاك» .
ولأنها زكاة تتعلق بالحبوب، فاستوى فيها الحنطة والشعير، كالعشر.
إذا ثبت هذا: فالصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، فصار خمسة أرطال وثلث رطل، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة: (الصاع: أربعة أمداد، إلا أن المد رطلان، فتصير ثمانية أرطال) .
دليلنا: أن الرشيد لما حج.. جمع بين مالك رحمة الله عليه وأبي يوسف، فقال له مالك رحمة الله عليه: كم الصاع؟ فقال: ثمانية أرطال، فأحضر مالك أهل المدينة بصيعانهم، فمنهم من قال: حدثني أبي، عن جدي: أنه قال: دفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطرة بهذا الصاع. ومنهم من يقول: حدثتني أمي، عن جدتي: أنها أخرجت الفطرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الصاع، فعايروها، فوجدوها خمسة أرطال وثلثًا، فرجع أبو يوسف إلى قول مالك رحمة الله عليه.(3/373)
قال ابن الصباغ: والأصل في الطعام الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن، لئلا تختلف المكاييل. ويبطل فيها النقل.
[مسألة: ما يجزئ من الأصناف في الفطرة]
واختلف أصحابنا في جنس المخرج في زكاة الفطر:
فقال عامتهم: لا يجزئه إلا من غالب قوت بلده، وإن كان يقتات دونه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وغناهم إنما يحصل بقوت البلد. قال المحاملي: وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يجوز من كل قوت؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «كنا نخرج صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب» . وأهل المدينة لم يكونوا يقتاتون ذلك كله، فدل على أنه يجوز التخيير.
وقال أبو عبيد بن حرب: الواجب من غالب قوت المخرج. واختاره الشيخ أبو حامد، قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وأي قوت كان الأغلب على رجل.. أدى منه) ، ولأنه لما وجب عليه أداء ما فضل من قوته.. وجب من غالب قوته.
ومن قال بالأول.. قال: أراد الشافعي: إذا كان الرجل يقتات غالب قوت البلد.
إذا ثبت هذا: فإن عدل عن قوت البلد، أو عن قوته، إلى قوت غيره، فإن كان الذي عدل إليه أعلى منه.. أجزأه.(3/374)
وإن كان أدنى.. ففيه قولان:
أحدهما: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، وأبو إسحاق المروزي؛ لأن الخبر ورد بالتخيير.
والثاني: لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . والغنى لا يحصل بدون قوت البلد. ومن قال بهذا.. قال: أراد بالخبر: التمر لمن قوته التمر، والبر لمن قوته البر.
وقد اختلف في البر والتمر:
فقال قوم: البر أفضل.
وقال آخرون: بل التمر أفضل.
وإن كان في بلد قوتهم أجناس مختلفة، وهي كلها غالبة.. فالأفضل أن يخرج من أفضلها، ومن أيها أخرج.. جاز.
وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يجوز إلا من الأجناس الخمسة المنصوص عليها) .
دليلنا: أنه قوت معتاد، فأجزأ، كالخمسة المنصوص عليها.
[فرع: فيمن قوتهم الأقط]
وإن كان في موضع قوتهم الأقط.. فهل يجزئ؟ فيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأقيس؛ لأنه قوت لا تجب فيه الزكاة، فأشبه اللحم.(3/375)
والثاني: يجزئه. قال: وهو الأشبه بالسنة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
فإذا قلنا: لا يجزئه الأقط.. لم يجزئه إخراج اللبن.
وإن قلنا: يجزئه إخراج الأقط.. فهل يجزئه إخراج اللبن؟
قال أصحابنا البغداديون: يجزئه إخراج اللبن مع وجود الأقط، ومع عدمه؛ لأنه أكمل منه، ويجزئه إخراج الجبن؛ لأنه مثله.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 154] : إذا قلنا يجزئه الأقط.. فهل يجزئه اللبن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يدخر، وأما المصل: فلا يجزئه؛ لأنه لبن منزوع الزبد.
[فرع: فاقد القوت]
] : وإن كان في بلد لا قوت فيه.. أخرج من قوت أقرب البلاد إليه، ولا يجوز أن يخرج من جنسين، كما لا يجوز في كفارة اليمين: أن يكسو خمسة، ويطعم خمسة.
وإن كان عبد بين شريكين قوتهما مختلف.. ففيه ثلاثة أوجه:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يخرجان من أدنى القوتين؛ لأنها لا تتبعض.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته؛ لأنه لا يتبعض ما وجب عليه.(3/376)
و [الثالث] : من أصحابنا من قال: يعتبر قوت العبد أو قوت البلد الذي هو فيه؛ لأن ذلك يجب طهرة له، فاعتبر حاله.
[فرع: جواز الحب القديم لا المسوس]
] : ولا يجوز إخراج حب مسوس؛ لأن السوس قد أكل جوفه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أخرج من طعام قديم لم يتغير طعمه، إلا أن قيمته أقل من قيمة الحديث.. أجزأه؛ لأن القدم ليس بعيب) .
ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يجوز) . وبه قال أبو القاسم الأنماطي من أصحابنا، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ناقص المنفعة، فلم يجز، كالخبز.
وبالله التوفيق(3/377)
[باب تعجيل الزكاة]
كل مال وجبت فيه الزكاة بالنصاب والحول، إذا ملك النصاب.. جاز تعجيل الزكاة فيه قبل مضي الحول، وكذلك يجوز تعجيل كفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث، وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال ربيعة، وداود: (لا يجوز التقديم فيهما) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز تقديم الزكاة قبل الحول، ولا يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث) .
وقال مالك: (يجوز تقديم الكفارة، ولا يجوز تقديم الزكاة قبل الحول) . وبه قال أبو عبيد بن حرب.
دليلنا: ما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له» .(3/378)
ولأنه حق مال يجب بسببين يختصان به.. فجاز تقديمه بعد وجود أحد سببيه، ككفارة اليمين عند مالك رحمة الله عليه.
فقولنا: (حق مال) احتراز من حقوق الأبدان.
وقولنا: (يجب بسببين) احتراز من الحقوق التي تجب بسبب واحد، وهي زكاة الركاز.
وقولنا: (يختصان به) احتراز من الحرية والإسلام؛ لأنهما - وإن كانا سببين تجب الزكاة بهما - فلا يختصان بالزكاة؛ لأن ذلك معتبر في غير الزكاة.
وهل يجوز تعجيل الزكاة لعامين، أو أكثر؟ فيه وجهان:
قال أبو إسحاق يجوز، فلو ملك خمسين شاة، فأخرج منها عشرًا زكاة عشر سنين.. جاز ما لم ينقص عن النصاب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسلف من العباس زكاة عامين» .
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه دفع زكاة قبل انعقاد حولها، فلم تصح، كما لو لم يملك النصاب، ومن قال بهذا.. قال: تأويل الخبر: أنه تسلف منه زكاة(3/379)
عامين في وقتين، أو تسلف منه زكاة عامين لمالين، كالماشية والأثمان.
وإن ملك مائتي شاة، فعجل عنها وعما يتوالد منها أربع شياه، فتوالدت، وبلغت أربعمائة.. أجزأته زكاة الأمهات، وفي زكاة السخال وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأن السخال جارية في حول الأمهات.
والثاني: لا يجزئه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأنه تقديم زكاة قبل وجود النصاب. هذه طرق أصحابنا البغداديين.
وقال صاحب " الإبانة " [ق \ 126] : إن قلنا: يجوز تقديم زكاة عامين.. فهاهنا أولى بالجواز. وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان.
وإن عجل زكاة أربعين شاة، فتوالدت أربعين سخلة، ثم ماتت الأمهات، وبقيت السخال.. فهل تجزئ المخرجة عن السخال؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجزئ؛ لأنها جارية في حول الأمهات.
والثاني: لا تجزئ؛ لأنه عجلها قبل ملكها، مع تعلق الزكاة بعينها، فلم تصح.
[مسألة: تعجيل الزكاة]
] : وإن كان معه مائتا درهم للتجارة فعجل عنها زكاة أربعمائة، فحال الحول، وهي أربعمائة درهم.. أجزأه، وجها واحدًا؛ لأن الاعتبار بنصاب زكاة التجارة آخر الحول.
وهكذا لو كان عنده أقل من نصاب للتجارة، فعجل عنه زكاة النصاب، فحال الحول، وعنده نصاب.. أجزأه؛ لما ذكرناه.
وإن عجل زكاته: فإن المساكين يملكونها بالقبض إلا أنها فيحكم ملك رب(3/380)
المال، فتكون عند الحول كما لو كانت في يد رب المال، سواء كانت باقية في يد المساكين أو تالفة، وذلك أنه إذا عجل شاة من أربعين شاة، فحال الحول، وفي يده تسع وثلاثون شاة.. فإنا نجعل المخرجة كما لو كانت في يده في حكمين:
أحدهما: يتم بها نصاب الأربعين.
والثاني: تجزئ عن الزكاة الواجبة عليه عند الحول.
وهكذا: إذا كان معه مائة وعشرون شاة، فعجل منها شاة، ثم ولدت شاة سخلة مما عنده قبل الحول.. فإنا نجعل المخرجة كأنها باقية معه، فيكون معه مائة وإحدى وعشرون شاة، فيجب عليه شاتان، فتجزئ المخرجة عن شاة، ويجب عليه أن يخرج شاة ثانية.
وهكذا: لو كان معه مائتا شاة، فعجل شاتين منها، ثم ولدت شاة سخلة مما عنده.. فإنه يجب عليه إخراج شاة ثالثة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (تكون المخرجة كالتالفة، فلا تعد مع المال، بل تجزئ عند الحول عن الزكاة) .
مثال ذلك: أنه إذا عجل شاة عن أربعين شاة، فإن حال الحول، وهي تسع وثلاثون.. فإنه لا يجب فيها زكاة، وإن ولدت شاة منها، فكانت أربعين عند الحول.. أجزأت المدفوعة عن الزكاة عند الحول.
وكذلك: لو كان معه مائة وعشرون شاة، فعجل منها بشاة، ثم ولدت منها واحدة قبل الحول.. فإن المخرجة لا تضم إلى ما معه، ولا يجب عليه إلا شاة واحدة.
وكذلك: إذا عجل عن مائتي شاة شاتين، ثم ولدت واحدة مما عنده.. لم تضم الشاتين المخرجتين إلى ما عنده في النصاب.
دليلنا: أن تعجيل الزكاة إنما جاز رفقًا بالمساكين، فلو قلنا: إن المعجلة لا تضم إلى المال، لكان في ذلك ضرر على المساكين، ولأن المخرجة لو لم تكن كالباقية على ملك رب المال.. لما أجزأت عن الواجب عليه عند الحول.(3/381)
[مسألة: رجوع المعجل في زكاته]
] : إذا عجل الزكاة عن النصاب قبل الحول، ثم تلف جميع المال أو بعضه قبل الحول.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن وقت الوجوب لا نصاب معه، فإذا كان معه كذلك.. خرج المدفوع عن أن يكون زكاة، وهل يثبت له الرجوع به على المساكين؟ ينظر فيه:
فإن قال عند الدفع: هذه زكاتي عجلتها.. كان له الرجوع بها، وإن قال: هذه زكاة مالي أو صدقة مالي.. لم يكن له أن يرجع؛ لأن الظاهر أنها واجبة عليه، فإن قال رب المال: حلفوا المساكين: أنهم لا يعلمون أنها زكاة معجلة.. فهل يحلفون؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلفون؛ لأن دعوى رب المال تخالف الظاهر، فلم تسمع.
والثاني: يحلفون؛ لأن المدفوع إليه لو أقر بما قاله الدافع.. وجب عليه الرد.
وأصلهما: إذا رهن رهنًا، ثم أقر بالتسليم، ثم قال: لم أكن سلمت، فحلفوا المرتهن.. فهل يحلف؟ فيه وجهان.
وإن كان الذي عجل هو السلطان، أو النائب من قبله، فإن تبين أنها زكاة معجلة.. رجع، وإن لم يبين.. فالمشهور من المذهب: أنه يرجع؛ لأنه لا يسترجعها لنفسه، فلم يتهم.
وذكر في " الشامل " وجهًا آخر، عن الشيخ أبي حامد: أنه لا يرجع إلا بالشرط، كرب المال.
[فرع: إتلاف النصاب]
فرع: [في إتلاف النصاب] : وإن عجل زكاة النصاب، فأتلف رب المال النصاب، أو بعضه قبل الحول.. ففيه وجهان، حكاهما الإصطخري:
أحدهما: لا يرجع؛ لأن التلف جاء بتفريطه.(3/382)
والثاني: له أن يرجع؛ لأن سبب الوجوب قد زال، فلا فرق: بين أن يكون بفعله، أو غير فعله.
وإن كان معه خمس من الإبل، فعجل زكاتها شاة، فهلكت الإبل قبل الحول، وعنده أربعون من الغنم، فإن أراد أن يجعل الشاة المعجلة عن الغنم.. فأومأ ابن الصباغ إلى وجهين:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه قد عينها عن مال، فلا تقع عن غيره.
والثاني: يجزئه؛ لأنها لم تصر زكاة بعد.
[فرع: إرجاع المعجل من الزكاة]
فرع: [في إرجاع المعجل من الزكاة] : وإذا ثبت لرب المال الرجوع فيما دفع، فإن كانت العين المدفوعة باقية بحالها.. رجع فيها، وإن كانت ناقصة.. رجع فيها، وهل يضمن المساكين ما نقص من قيمتها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يضمن) ؛ لأن النقص حدث في ملكه، فلم يضمنه.
والثاني: يضمن؛ لأن من ضمن القيمة عند التلف.. ضمن النقص، كالغاصب.
وإن كانت العين زائدة.. نظرت:
فإن كانت زيادة لا تتميز، كالسمن والكبر.. رجع فيها رب المال مع زيادتها؛ لأنها تابعة لها.
وإن كانت زيادة منفصلة، كالولد واللبن.. رجع فيها دون الزيادة؛ لأنها زيادة تميزت في ملكه.
وإن كانت العين تالفة، فإن كان لها مثل.. رد مثلها، وإن كانت مما لا مثل لها.. رجع بقيمتها، ومتى تعتبر القيمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يوم القبض، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن ما زاد أو نقص كان في ملكه، فلم يعتبر.(3/383)
والثاني: يوم التلف؛ لأن قبضه للعين كان قبضًا جائزًا، فاعتبرت قيمتها يوم التلف، كالعارية.
[مسألة: تبيين الزكاة المعجلة]
] : إذا عجل الزكاة إلى الفقير، فمات الفقير قبل الحول.. خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن لم يبين رب المال عند الدفع أنها زكاة معجلة.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأن الظاهر أنه متطوع بها، وإن بين أنها المعجلة.. رجع. فالزكاة المعجلة تتردد عندنا بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تسترد.
وقال أبو حنيفة: (لا يسترجعها، وتكون نافلة) . فالزكاة المعجلة عنده تتردد بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تكون نافلة.
دليلنا: أن المدفوع إليه خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فثبت له الاسترجاع.
فإذا ثبت له الرجوع.. نظرت:
فإن كان المدفوع ذهبًا أو فضة.. ضمه إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه يجزئ عما وجب عليه عند الحول.
وإن كان حيوانًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يضم إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لما ذكرناه في الذهب والفضة.
والثاني: لا يضم؛ لأن الفقير لما مات.. صار ذلك دينًا في ذمته، والحيوان إذا كان دينًا.. لا تجب فيه الزكاة؛ لأن السوم معتبر فيه، وذلك معدوم فيما في الذمة، بخلاف الذهب والفضة.
[مسألة: اغتناء من عجل له الزكاة]
] : وإن عجل زكاته إلى فقير، فاستغنى الفقير المدفوع إليه قبل الحول.. نظرت:
فإن استغنى بالذي دفع إليه.. جاز؛ لأنه إنما دفع إليه ليستغني به، ولأنه لو استرجعه منه؛ لعاد فقيرًا، وجاز الدفع إليه من الزكاة، فلا يفيد الاسترجاع.(3/384)
وإن استغنى بغير الذي دفع إليه.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن بين رب المال أنها معجلة.. استرجع منه، وإن لم يبين.. لم يسترجع منه.
وإن عجل الزكاة إلى فقير، فاستغنى في أثناء الحول من غير ما دفع إليه، ثم افتقر، فحال الحول، وهو فقير.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئ المدفوع عن الزكاة؛ لأن المدفوع إليه عند الدفع وعند الوجوب من أهل الزكاة، فلا يضر ما بينهما.
والثاني: لا يجزئ المدفوع عن الزكاة، ويجوز له الاسترجاع إذا بين أنها معجلة؛ لأن المسكين قد طرأ عليه حال خرج فيها عن أن يكون من أهل الزكاة. قال الشيخ أبو حامد: والأول أشبه بكلام الشافعي.
وإن عجل زكاته إلى موسر، فحال الحول، وهو فقير.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأن تعجيل الزكاة إنما جاز ليرتفق بها المساكين، ولا رفق في تعجيلها إلى موسر.. فلم يجز.
[مسألة: ضمان الوالي للزكاة]
] : إذا قبض الوالي الزكاة المعجلة من رب المال، فتلفت في يده قبل تسليمها إلى المسكين.. نظرت:
فإن كان أخذها بسؤال رب المال.. تلفت من ضمانه؛ لأن الإمام نائب عنه في الدفع، وعليه أن يخرج الزكاة ثانيًا، فإن كان الإمام قد فرط في حفظها.. وجب عليه ضمان ما قبض لتفريطه، وإن لم يفرط.. فلا ضمان عليه.
وإن قبضها الإمام بغير سؤال من رب المال، ولا من المساكين، فتلفت في يده بتفريط أو بغير تفريط.. وجب عليه الضمان.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الضمان) .
دليلنا: أن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فإذا قبض مالهم بغير إذنهم..(3/385)
وجب عليه الضمان، كالأب إذا قبض مال ابنه الكبير الذي لا ولاية له عليه، بغير إذنه، فتلف في يده.
وإن قبضها الإمام بسؤال المساكين، فتلفت في يده.. تلفت من ضمان المساكين؛ لأن الإمام نائب عنهم، فصار كالوكيل إذا قبض مال موكله، وتلف في يده.
فعلى هذا: يجزئ المدفوع عن الزكاة عند الحول، كما لو قبضها المساكين، فتلفت في أيديهم.
وإن رأى الإمام بالمساكين حاجة، ورأى من المصلحة أن يتسلف لهم الزكاة، فقبضها، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أن عليه الضمان، كما لو لم يكن بهم حاجة.
والثاني: لا ضمان عليه؛ لأن حاجتهم بمنزلة ما لو سألوا أن يتسلف لهم.
وإن قبضها الوالي بمسألة رب المال والمساكين، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما: تتلف من ضمان المساكين، وهو الأصح؛ لأنه قبضها لهم بإذنهم.
والثاني: تتلف من ضمان رب المال؛ لأنه أقوى جنبة، بدليل: أنه يملك المنع والدفع.
[فرع: زكاة الميت تقع عن وارثه]
] : وإن عجل زكاة ماله، ثم مات في أثناء الحول:
فإن قلنا بقوله القديم: (وأن الوارث يبني على حول المورث) .. أجزأتهم المعجلة عند حؤول الحول.(3/386)
وإن قلنا بقوله الجديد - وهو الصحيح -: (إن الوارث لا يبني على حول المورث) .. فهل تجزئهم الزكاة المعجلة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنها تجزئهم) ؛ لأنهم يقومون مقامه فيما له وما عليه.
والثاني: لا تجزئهم؛ لأنه تعجيل زكاة قبل ملك النصاب.
فإن قلنا بهذا: فإن كان قد شرط مورثهم أنها زكاة معجلة.. رجعوا بها، وإن لم يشترط ذلك.. لم يرجعوا؛ لأن الظاهر أنها زكاة واجبة عليه، أو صدقة تطوع.
وإن قلنا بقوله القديم، أو بالمنصوص على الجديد.. نظرت:
فإن كانت حصة كل واحد منهم نصابا.. أجزأت المعجلة عنهم على حسب مواريثهم، سواء اقتسموا قبل الحول، أو لم يقتسموا.
وإن كانت حصة كل واحد منهم دون النصاب: فإن اقتسموا المال قبل الحول.. فلا زكاة عليهم، وكان لهم استرجاعها إن بين مورثهم عند الدفع أنها معجلة.
وإن لم يقتسموا المال حتى حال الحول: فإن كان المال ماشية.. أجزأتهم المعجلة عند الحول. وإن كان غير الماشية:
فإن قلنا: تصح الخلطة في غير الماشية.. وجبت عليهم الزكاة عند الحول، وأجزأتهم المعجلة عند الحول.
وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير الماشية.. لم تجب عليهم الزكاة عند الحول، والكلام في الاسترجاع على ما مضى.
[مسألة: تقديم العشور]
] : وهل يصح تقديم العشر قبل الوجوب؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق؛ لأن وجوب العشر يتعلق بسبب واحد، وهو اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمرة، فإذا أخرج الزكاة قبل ذلك.. فقد أخرجها قبل وجود سببها.(3/387)
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يصح، واختاره ابن الصباغ؛ لأن زكاته تتعلق بسببين: وجود الزرع، وإدراكه، والإدراك بمنزلة حؤول الحول، فجاز تقديمها عليه، ولأن تعلق الوجوب بالإدراك لا يمنع تقديم الزكاة عليه.
ألا ترى أن زكاة الفطر يجوز تقديمها على هلال شوال وإن كان الوجوب متعلقا به.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: يجوز تقديم العشر عنده إذا صار الزرع قصيلا ظهر فيه السنبل أو لم يظهر، وإذا صار التمر بلحا إذا علم أنه يجيء منه النصاب.
وبالله التوفيق(3/388)
[باب قسم الصدقات]
والأموال على ضربين: ظاهرة، وباطنة:
فأما الباطنة: فهي الدراهم والدنانير، والركاز، وعروض التجارة، فيجوز لرب المال أن يفرق زكاتها بنفسه.
قال المحاملي: وهو إجماع، ويجوز أن يوكل من يخرج زكاتها، كما يجوز أن يوكل من يقضي عنه الدين، ويجوز أن يدفعها إلى الإمام؛ لأنه نائب عن أهل الصدقات.
وتفرقته بنفسه أفضل من دفعها إلى وكيله؛ لأنه على ثقة من تفرقته بنفسه، وعلى شك من تفرقة الوكيل.
وأما الأموال الظاهرة: فهي المواشي، والثمار، والزروع، وزكاة المعدن.
وفي زكاة الفطر وجهان:
أحدهما: أنها من الأموال الباطنة، فيكون حكمها ما ذكرناه.
والثاني: أنها من الأموال الظاهرة، وفي زكاة الأموال الظاهرة قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجب دفعها إلى الإمام أو النائب عنه، فإن فرقها بنفسه.. أعاد) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] ، ولأنه مال للإمام ولاية المطالبة فيه، فوجب دفعه إليه، كالجزية والخراج.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه) . وهو(3/389)
الصحيح؛ لأنها زكاة، فجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه، كالأموال الباطنة.
فإذا قلنا بهذا: فهل الأفضل أن يفرق زكاتها وزكاة الأموال الباطنة بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام؟ اختلف في ذلك أصحابنا:
فمنهم من قال: تفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه على يقين من تفرقة نفسه، وعلى شك من تفرقة غيره.
ومنهم من قال: دفعها إلى الإمام أفضل، عادلًا كان أو جائرًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون بعدي أمور تنكرونها "، فقالوا: ما نصنع؟ فقال: " أدوا حقوقهم، واسألوا الله حقكم» .
وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أتيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: عندي مال أريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فقال: (ادفعها إليهم) فأتيت ابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكلهم قال مثل ذلك.
ولأن دفعه إلى الإمام يجزئه بلا خلاف، وتفرقته بنفسه مختلف فيه في إجزائه عنه، ولأن الإمام أعرف بحاجة المساكين.(3/390)
ومن أصحابنا من قال: إن كان الإمام عادلًا.. فالدفع إليه أفضل؛ لأنه على يقين من أدائه إليه، وإن كان جائرًا.. فتفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه ليس على يقين من أدائه.
[مسألة: بعث السعاة]
مسألة: [في بعث السعاة] : وعلى الإمام أن يبعث السعاة لقبض صدقة الثمار والزروع في الوقت الذي يوافي جداد الثمرة، وحصاد الزرع، ويبعث معهم من يخرص الثمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين بعده كانوا يبعثون السعاة لقبض الصدقات.
ولا يبعث إلا حرًا، عدلًا، فقيهًا؛ لأن العبد والفاسق ليسا من أهل الولاية، والفقيه أعلم بما يأخذ.
وهل يجوز أن يكون هاشميًا أو مطلبيًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيما يأخذه العامل، هل هو أجرة أو زكاة؟
فإن قلنا: إنه زكاة.. لم يجز؛ لأن الزكاة لا تحل لهم.
وإن قلنا: إنه أجرة.. جاز، كما يجوز استئجارهم على سائر الأعمال.
قال ابن الصباغ: فأما إذا تبرع الهاشمي أو المطلبي لقبض الصدقة من غير عوض يأخذه، أو دفع إليه الإمام الأجرة من بيت المال.. فيجوز أن يكون هاشميا أو مطلبيا وجهًا واحدا.
وأما مواليهم: فإن قلنا: يجوز للهاشمي والمطلبي أن يأخذ من الصدقة لكونه عاملا.. فمواليهم أولى بالجواز. وإن قلنا: لا يجوز للهاشمي والمطلبي.. ففي مواليهم وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
والثاني: يجوز؛ لأنهم لا يلحقون بشرف مواليهم.(3/391)
[فرع: عطاء جابي الزكاة]
] : وإذا أراد الإمام بعث العامل.. فهو بالخيار بين أن يستأجره بأجرة معلومة، ويعطيه ذلك من الزكاة، وبين أن يجعل له جعلا، فإذا فرغ من العمل.. أعطاه جعله من سهم العامل في الزكاة.
ويبعث الإمام العامل لقبض زكاة غير الثمار والزروع في المحرم؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم) ، ولأنه أول السنة العربية، فكان البعث فيه أولى.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يخرج قبل المحرم بأيام؛ ليكون مع أول المحرم قد وصل إلى أرباب الأموال، وعرف عدد أهل السهمان، وقدر حاجتهم.. فلا يحتاج أن يشتغل بذلك في المحرم) .
وإذا أراد الساعي أن يعد الماشية، فإن كانت تأكل الكلأ، وترد الماء.. فإن الساعي يعدها على الماء؛ لأنه لا يكلف الساعي أن يتبعها المرعى، ولا يكلف رب المال ردها إلى فناء داره، فكان عدها على الماء أولى؛ لأن المشقة تزول عنهما بذلك.
وإن كانت الماشية تجتزئ بالحشيش الرطب عن الماء.. فإن الساعي يعدها في المساكن والموضع الذي تروح إليه ليلًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وأفنيتهم» .(3/392)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب» .
فقيل: معنى قوله: " لا جلب " أي: لا يجب على أرباب المواشي جلبها إلى الساعي، حيث كان ليعدها.
ومعنى: " لا جنب " أي: لا يبعدونها عنهم.
وقيل إنما أراد بذلك في السبق، أي: لا يجلب على خيل السباق، بضرب الشيء اليابس، والصياح يستحث بذلك الفرس، و" لا جنب " أي: لا يكون له جنب في السباق.
وأما كيفية العد: فهو أن يضطر الماشية إلى جدار وجبل، حتى لا يكون لها إلا طريق ضيق ما تمر به شاة أو شاتان، ويزجرها من خلفها آخر، وبيد العاد عصا يعدها، حتى يأتي على آخرها.
فإن عدها وادعى أنه أخطأ.. أعاد. وإن كان رب المال ثقة، فأخبره بعددها.. جاز قبول قوله. وإن أبدل له رب المال الزكاة.. أخذها منه.
والمستحب: أن يدعو له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ، أي: ادع لهم.
والمستحب: أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ لما روي: «أن أبا أوفى(3/393)
حمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على آل أبي أوفى» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا) . وبأي شيء دعا له.. جاز، وإن ترك الدعاء جاز.
وقال داود وأهل الظاهر: (يجب الدعاء) .
دليلنا: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» . ولم يأمره بالدعاء.
قال الشيخ أبو حامد: فإن دفع رب المال الصدقة إلى المسكين.. لم يستحب أن يدعو له؛ لأن ذلك إنما يستحب للساعي دون غيره.
[مسألة: غلول الصدقة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن غل صدقته.. عزر إن كان الإمام عدلا، إلا أن يدعي الجهالة، فلا يعزر) . وهذا كما قال: المنع في الزكاة هو أن يمنع من دفعها.
و (الغل) في الزكاة: هو أن يخفي رب المال شيئا من ماشيته، حتى لا يراها الساعي، فإن أظهر عليه الساعي، فإن كان رب المال جاهلا بتحريم ذلك، مثل: أن كان حديث عهد بالإسلام.. فإنه يأخذ منه الزكاة، وينهاه ألا يعود إلى ذلك، فإن عاد إليه ثانيا.. عزره.(3/394)
وإن لم يدع الجهالة، أو ادعى ولكن هو ممن لا يخفى عليه ذلك، مثل: أن يكون مجالسا للعلماء، أو نشأ في دار الإسلام، فإن كان الإمام جائرا يأخذ أكثر من حقه، أو يضعها في غير موضعها.. لم يعزره؛ لأن غله بتأويل.
فإذا أخذ هذا الإمام الزكاة منه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أكثرهم: إلى أنه تسقط عنه الزكاة، وقد نص الشافعي: (أن الخوارج إذا غلبوا وأخذوا الصدقات.. أجزت) .
وحكى الجويني عن بعض أصحابنا أنها لا تجزئه وذكر في " الفروع ": هل يسقط الفرض عنه فيما بينه وبين الله عز وجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه لم يزل المتغلبون ومن لا يستحق الإمامة يقبضون الصدقات، فيعتد بها.
و [الثاني] : قال: والمذهب: أنها لا تسقط عنه فيما بينه وبين الله في الباطن.
وإن كان الإمام عدلا يأخذ قدر الزكاة، ويضعها في مواضعها.. فإنه يأخذ الزكاة من المانع والغال ويعذره على ذلك، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (تؤخذ من الزكاة وشطر ماله) . وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» . ولم يفرق بين أن يغلَّ أو لا يغلَّ.
[فرع: جواز توكيل الساعي من يقبض الزكاة]
] : فإذا بلغ الساعي إلى الموضع الذي قصده، فإن كان حول رب المال قد تم: قبض منه الزكاة ودعا له على ما مضى وإن كان لم يتم حوله: سأله هل يختار تعجيلها؟ فإن فعل قبض منه، وإن لم يفعل.. وكل الساعي ثقة يقبض منه الزكاة عند حولها ويفرقها في أهلها، وإن رأى أن يكتبها عليه دينا؛ ليأخذها مع زكاة العام القابل.. جاز؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخر الزكاة عن الناس عام الرمادة) .(3/395)
وإن أراد أن يرجع في وقت حلولها ليقبضها.. فعل.
وإن اختلف رب المال والساعي.. نظرت:
فإن كان قول رب المال لا يخالف الظاهر، بأن قال الساعي: قد حال الحول على مالك، وقال رب المال: لم يحل عليه الحول، أو قال الساعي: كانت ماشيتك نصابا، ثم توالدت بعد النصاب، وقال رب المال: بل تمت نصابًا بتوالدها، أو قال الساعي: هذه السخال توالدت من غنمك، فهي في حولها، وقال رب المال: بل استفدتها من غيرها، وهي منفردة بالحول، أو قال الساعي: هذه السخال ولدت قبل الحول، وقال رب المال: بل ولدت بعد الحول.. فالقول قول رب المال في هذه المسائل مع يمينه، واليمين هاهنا مستحبة، فإن حلف.. سقطت عنه الزكاة، فإن نكل.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن قوله لا يخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرفق والمواساة، فلو أوجبنا فيها اليمين.. خرجت عن حد المواساة.
وإن كان قول رب المال يخالف الظاهر، مثل: أن يقول له الساعي: قد مضى على مالك حول، فقال رب المال: كنت قد بعته في أثناء الحول، ثم اشتريته، أو قال: قد أخرجت عنه الزكاة، وقلنا: يجوز له أن يفرق بنفسه.. فالقول قول رب المال مع يمينه، وهل تجب اليمين هاهنا، أو تستحب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة؛ لأنها لو كانت واجبة عليه إذا كان قوله يخالف الظاهر.. لوجبت عليه وإن كان قوله لا يخالف الظاهر، كالمودع.
فعلى هذا: لا تجب عليه الزكاة، حلف أو لم يحلف.
والثانيٍ: أن اليمين واجبة عليه؛ لأن قوله يخالف الظاهر.
فعلى هذا: إن حلف.. سقطت عنه الزكاة، وإن لم يحلف.. أُخذت منه الزكاة لا بنكوله، ولكن بالوجوب المتقدم.(3/396)
وإن قال رب المال: هذا المال الذي في يدي وديعة، وقال الساعي: بل هو مالك ... ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن دعوى رب المال هاهنا تخالف الظاهر، فيحلف، وهل تستحب يمينه أو تجب؟ فيه وجهان.
والثاني: أن قوله لا يخالف الظاهر، فيستحب أن يحلف؛ لأن ما في يده قد يكون له، وقد يكون لغيره. والأول أصح؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.
[فرع: متى يسم الساعي الصدقة]
] : إذا قبض الساعي الماشية في الزكاة، ولم يؤذن له في تفريقها في الحال ... فالمستحب له أن يسمها.
وقال أبو حنيفة: (يكره وسمها) .
دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسم إبل الصدقة» ولأنها تتميز بذلك.
إذا ثبت هذا: فموضع وسم الإبل والبقر في أفخاذها، وموضع وسم الغنم في آذانها؛ لأنه موضع يقل فيه الشعر، ويخف فيه الألم، فيكتب في ماشية الزكاة: زكاة، أو صدقة، وفي ماشية الجزية: جزية، أو صغار؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن.(3/397)
وإن أذن الإمام للساعي في تفرقتها ... فرَّقها على أهلها، ولا يجوز له بيعها؛ لأن أهل الزكاة أهل رشد، إذ لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم.
فإن قبض نصف شاة، ولم يمكن نقلها ... باع ذلك.
وهكذا: إن وقف عليه شيء من الماشية، أو خاف أن تؤخذ منه قبل أن يوصلها إلى أهلها، أو إلى الإمام ... جاز له بيعها، ويوصل الثمن؛ لأن ذلك موضع ضرورة.
وإن تلف في يده شيء منها ... نظرت:
فإن كان بغير تفريط منه ... لم يجب عليه ضمانه، كالوكيل إذا تلف في يده مال موكله بغير تفريط.
وإن كان بتفريط بأن قصر في حفظها، أو عرف أهلها، أو أمكنه التفرقة عليهم، فأخر ذلك من غير عذر ... ضمن؛ لأنه فرط في ذلك.
وإن لم يبعث الإمام لقبض زكاة الأموال الظاهرة من غير عذر، فإن قلنا: بقوله الجديد: (أن لرب المال أن يفرق زكاتها) ... وجب عليه إيصال ذلك إلى أهله، وإن أخر حتى تلف المال
ضمن الزكاة. وإن قلنا: بقوله القديم: (وأنه يجب دفعها إلى الإمام) ... ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه تفرقتها) ؛ لأن ذلك حق وجب صرفه إلى المساكين، والإمام نائب عنهم، فإذا ترك النائب ... لم يترك من عليه الحق، كالدين.
والثاني: لا يجوز له تفرقتها؛ لأن ذلك مال للإمام فيه حق القبض ... فلم يجز لغيره تفرقته، كالجزية والخراج.(3/398)
[مسألة: نية الزكاة عند دفعها]
] : ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الأوزاعي: (لا يفتقر أداؤها إلى النية، كالدين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . فأخبر أن العبادة لا تصح إلا بالإخلاص، و (الإخلاص) : إنما هو النية، والزكاة من العبادات.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» .
ولأنها عبادة تتنوع فرضًا ونفلًا، فكان من شرطها النية، كالصلاة، والصوم، والحج.
إذا ثبت هذا: فالعبادات التي تفتقر إلى النية على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يجوز تقديم النية عليها، ولا تأخيرها عن ابتدائها، وهي: الطهارة، والصلاة، والحج.
وضرب: يجوز تقديم النية على ابتدائها، وهو الصوم، وهل يجب تقديمها على طلوع الفجر، أو يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في (الصوم) .
وضرب: اختلف أصحابنا في جواز تقديم النية على ابتدائها، وهي الزكاة، والكفارات - قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الكفارة) : (وينوي مع التكفير أو قبله) والزكاة مثل الكفارة:
فمن أصحابنا من قال: يجب أن ينوي حال الدفع، وبه قال أصحاب أبي حنيفة؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فلا يجوز تقديم النية على ابتداء الفعل فيها، كالصلاة، وفيه احتراز من الصوم.
وتأول هذا القائل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أو قبله) : أنه أراد: أن ينوي قبله، ويستديم تلك النية إلى وقت الفعل.
ومنهم من قال: يجوز أن تتقدم النية على الدفع؛ لأن التوكيل يجوز في أداء(3/399)
ذلك، وبنية غير مقارنة لأداء الوكيل، فلو قلنا: لا يجوز تقديم النية.. لأدى إلى إبطال التوكيل فيها.
ومحل النية: القلب، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فهو آكد، وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه، وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\126] :
أحدهما: لا يجزئه، كسائر العبادات المفتقرة إلى النية.
والثاني: يجزئه؛ لأنها عبادة يجوز فيها النيابة، بخلاف الصوم والصلاة.
وأما كيفية النية: فإن نوى أن هذا زكاة مالي، أو صدقة مالي، أو فرض تعلق بمالي، أو هذا واجب علي، أو زكاتي.. أجزأه. وإن نوى أن هذا زكاة.. فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\126] : أنه لا يجزئه. وإن نوى أن هذه صدقة.. لم يجزئه؛ لأن الصدقة قد تكون نفلا، وقد تكون فرضا، فلم تصح بنية مطلقة.
وإن تصدق بجميع ماله، ولم ينو بشيء منه الزكاة.. لم يجزئه عن الزكاة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجزئه استحبابا.
دليلنا: أنه لم ينو الفرض، فلم يجزه، كما لو صلى مائة ركعة بنية التطوع، فإنها لا تجزئه عن الفرض.
وإن تصدق ببعضه.. لم يجزه أيضا، وبه قال أبو يوسف.
وقال محمد بن الحسن.. يجزئه عن زكاة ذلك البعض.
دليلنا: ما ذكرناه فيما إذا تصدق بالكل.
وإن أخرج خمسة دراهم، ونوي بها الزكاة والتطوع.. قال ابن الصباغ: لم يجزه عن الزكاة، وكانت تطوعا، وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يجزئه عن الزكاة.
دليلنا: أنه أشرك في النية بين الفرض والنفل، فلم يجزه عن الفرض، كالصلاة.(3/400)
[فرع: دفع زكاة مالين حاضر وغائب]
] : وإن كان له من الدراهم نصاب حاضر، ونصاب غائب، فأخرج خمسة دراهم، ونوى أنها عن الحاضر أو الغائب، أو عن الغائب، إن كان سالما، وإن كان تالفا، فعن الحاضر.. أجزأه؛ لأنه لا يجب عليه تعيين المال المخرج عنه.
وإن نوى أنها عن الغائب، إن كان سالما، ولم ينو غير هذا، فإن كان سالما أجزأه. وإن كان تالفا.. قال في " الأم ": (لم يكن له أن يصرفه إلى زكاة غيره) ؛ لأنه عينها لذلك المال، فهو كما لو كان عليه كفارة، فأعتق عبدا عن كفارة أخرى عينها ليست عليه.. فإنها لا تجزئه عن التي عليه.
قال في " الأم ": (ولو دفع عشرة دراهم إلى الوالي متطوعا بدفعها، فقال: هذه عن مالي الغائب، فبان تالفا قبل الوجوب، فإن كان قد فرقها الوالي.. لم يرجع عليه بها، وإن كانت في يده رجع عليه بها) .
قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأنه إذا استحق الرجوع بها من الوالي.. استحقه من الفقراء، قال: وهذا محمول إذا شرط ذلك في الدفع.
وإن قال: هذه زكاة مالي الغائب، وإن كان سالما، أو تطوع.. لم يجزه عن الفرض وإن كان ماله سالما؛ لأنه لم يخلص النية للفرض.
وإن قال: إن كان مالي الغائب سالما.. فهذا عن زكاته، وإن لم يكن سالما.. فهو تطوع، فإن كان المال سالما.. أجزأه؛ لأنه لم يشرك بين النفل والفرض.
[فرع: الجزم في النية ضروري]
] : إذا كان له من يرثه، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذه زكاة ما ورثت عنه، إن كان قد مات، أو نافلة، فبان أنه قد مات.. لم يجزه؛ لأنه قد أشرك في النية بين الفرض والنفل، ولأنه بناه على غير أصل؛ لأن الأصل فيه الحياة.
وإن قال: هذه زكاة ما ورثت عنه، وكان قد مات.. لم يجزه أيضا؛ لأن الأصل فيه الحياة.(3/401)
ولو باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، فبان أنه كان قد مات.. فهل يصح بيعه؟ فيه قولان:
أحدهم - وهو الصحيح -: أنه لا يصح؛ لأنه باع وهو متلاعب.
والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه باع ما يملكه، والفرق بين الزكاة والبيع على هذا: أن الزكاة تفتقر إلى النية، فلذلك لم يصح، قولا واحدا، والبيع لا يفتقر إلى النية فلذلك صح في أحد القولين.
[فرع: وجوب نية المزكي ووكيله]
] : وإن وكل من يؤدي الزكاة عنه.. نظرت:
فإن نوى رب المال عند الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين.. أجزأه، وإن لم ينو واحد منهما، أو نوى الوكيل دون الموكل.. لم يجزه؛ لأن من عليه الفرض لم ينو، وإن نوى الموكل ولم ينو الوكيل.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لأن التوكيل لما أجيز هاهنا.. أجزأت النية عند الاستنابة.
ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، بناء على الوجهين في جواز تقديم النية. والصحيح: أنه يجوز تقديمها.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يؤدي الزكاة عنه من مال الوكيل.. لم يجزه إلا بنية من الوكيل عند الدفع.
[فرع: كفاية نية المؤدي]
] : وإن دفع رب المال الزكاة إلى الإمام.. نظرت:
فإن نويا جميعا أو نوى رب المال دون الإمام.. أجزأه؛ لأنه قد نوى من وجبت الزكاة عليه.
وإن نوى الإمام دون رب المال، أو لم ينو واحد منهما.. ففيه وجهان:(3/402)
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنها تجزئ عن رب المال) ؛ لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب، فاكتفي بهذا عن النية.
والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب، واختاره -: أنه لا يجزئه؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء، فكما لا يصح الدفع إليهم إلا بالنية من رب المال، فكذلك إذا دفع إلى النائب عنهم.
وإن امتنع رب المال من دفع الزكاة، فأخذها الإمام منه قهرًا.. نظرت:
فإن نوى الإمام عند الأخذ.. سقطت الزكاة عن رب المال في الظاهر، وهل تسقط عنه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان.
وإن أخذها الإمام من غير نية منه.. لم يسقط الفرض عن رب المال فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يسقط عنه في الظاهر؟ فيه وجهان. حكى ذلك المسعودي [في " الإبانة " ق \ 126] .
وإن أخرج ولي اليتيم الزكاة عن اليتيم من ماله بغير نية.. لم يجزه، ووجب على الولي ضمانها؛ لأنه فرط في ذلك.
[مسألة: الصدقة والعشر والزكاة بمعنى]
] : قال الصيمري: كان الشافعي في القديم يذهب إلى: أن ما يؤخذ من المواشي يسمى صدقة لا غير، وما يؤخذ من الثمار والزرع يسمى: عشرا، وما يؤخذ من الذهب والورق يسمى: زكاة قال: فراعى ما عليه الناس في التسمية في الغالب، ثم رجع عنه، وقال: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، والعشر زكاة وصدقة) .
إذا ثبت هذا: فإن كان رب المال هو الذي يفرق زكاة ماله بنفسه.. لم يعط العامل شيئا؛ لأنه لا عمل له.(3/403)
ويجب أن يصرف جميع ما يوقف عليه إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية، الموجودين في البلد، وهم: الفقراء، والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والمكاتبون، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن أخل بصنف منهم.. ضمن نصيبه، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري، وعكرمة.
وذهبت طائفة: إلى أن ذكر الأصناف في الآية ليس للاستحقاق، وإنما هو على وجه التخيير، فإلى أي صنف منهم دفع.. جاز. ذهب إليه الحسن البصري، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك(3/404)
عن حذيفة، وابن عباس، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يدفع إلى أمسهم حاجة) .
وقال النخعي: إن كانت قليلة.. جاز دفعها إلى صنف واحد، وإن كانت كثيرة.. وجب صرفها إلى جميع الأصناف.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز صرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين أو غيرهم من الاصناف؛ لأنه يشق تفرقتها على جميع الأصناف.
وقال المزني، وأبو حفص بن الوكيل: يجوز صرف ما يؤخذ من الركاز إلى أهل الفيء. وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فأضافها إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام.. لم يجز له أن يحرم واحدا من أصناف البلد من زكاة أهل البلد، ولكن له أن يدفع زكاة الرجل الواحد إلى الفقير الواحد، فالإمام في قسم جميع الصدقات كالرجل في قسم زكاة نفسه.
فإن أخذ الإمام من رجل زكاته، وكان الدافع مستحقا لأخذ الزكاة، فدفع الإمام(3/405)
إليه زكاته بعينها.. أجزأه؛ لأن ذمته قد برئت بتسليمها إلى الإمام، وإنما رجعت إليه بسبب آخر.
فإن دفع رب المال زكاته إلى الساعي.. عزل الساعي ما يستحقه من الزكاة، ويفرق الباقي على باقي الأصناف إن كان الإمام قد أذن له في ذلك، وإن لم يأذن له الإمام في تفرقتها.. حملها إلى الإمام، فيقسمها على ثمانية أسهم: سهم للعامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه عوض عمله، وغيره يأخذه مواساة. فإن كان ذلك وفق أجرته.. دفعه إليه، وإن كان أكثر من أجرته.. رد الفضل على باقي الأصناف، وقسمه بينهم. وإن كان أقل من قدر أجرته.. قال الشافعي: (يتمم له من سهم المصالح) .
قال: (ولو تمم له من حق سائر الأصناف.. لم يكن به بأس) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فذهب المزني وغيره من أصحابنا: إلى أنها على قولين:
أحدهما: يتمم من حقوق سائر الأصناف؛ لأنه يعمل لهم كالأجير الذي ينقل المال.
والثاني: يتمم من سهم المصالح؛ لئلا ينقص كل صنف مما قسم الله له.
ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما الإمام بالخيار: بين أن يتممه من سهم المصالح؛ لأن العامل يشبه الحاكم، وبين أن يتممه من حق سائر الأصناف؛ لأنه يشبه الأجير لهم.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يتمم من سهم المصالح) أراد: إذا كان قد فرق على سائر الأصناف، ثم وجد سهم العامل ينقص عن أجرته؛ لأنه يشق استرجاع ذلك منهم.
وحيث قال: (يتمم من حق سائر الأصناف) إذا بدأ بدفع سهم العامل قبل الأصناف.
ومنهم من قال: بل هي على حالين آخرين:(3/406)
فالذي قال: (يتمم من سهم المصالح) إذا كانت أسهم الأصناف لا تفضل عن حاجتهم.
والذي قال: (يتمم من سهم الأصناف) إذا كانت تفضل عن حاجتهم.
والصحيح: أنها على قولين.
ويعطى العريف والحاشر من سهم العامل؛ لأنهم من جملة العمال، و (العريف) : من يعرف العامل إذا دخل البلد أهل الصدقات إن كان غريبا، و (الحاشر) : الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم.
وكذلك: إن احتاج العامل أن ينصب من يجبي الصدقات، ويحصي أهل السهمان، وقدر حاجاتهم.. فله أن ينصب من يقوم بذلك؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك كله بنفسه، ويعطيهم من سهمه.
[فرع: جلب الصدقات على أصحاب الأموال]
] : ومؤنة إحضار الماشية ليعدها على رب المال؛ لأنها للتمكن من الاسيفاء، وأجرة الحافظ للصدقة وناقلها، وأجرة البيت الذي تكون الصدقة فيه على أهل السهام، ويجوز أن يكون الحافظ والناقل هاشميا أو مطلبيا، وجها واحدا؛ لأنه أجير في الحقيقة.(3/407)
وإن وجب على رب المال دراهم، أو طعام، فاحتيج إلى من يزن ذلك، أو يكيله.. فعلى من تجب أجرته؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على رب المال؛ لأن ذلك للإيفاء، والإيفاء واجب عليه.
و [الثاني] قال أبو إسحاق: تجب على أهل السهمان؛ لئلا يزاد على الفرض الذي أوجبه الله تعالى عليه.
فأما أجره من يكيل أو يزن للقسمة بين أهل السهمان: فإنها تجب عليهم، وجها واحدا.
فإن قبض العامل الصدقة، فتلفت في يده من غير تفريط.. قال صاحب الفروع: استحق أجرة عمله في بيت المال.
[مسألة: سهم الفقراء]
] : وسهم للفقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] .
و (الفقير) : إذا أطلق اسمه.. تناول الفقير والمسكين، وكذلك: إذا أطلق اسم المسكين.. تناول المسكين والفقير، وإذا جمع بينهما.. كان معنى أحدهما غير معنى الآخر.
فأما صفة الفقير: فنقل المزني، عن الشافعي في القديم: (الفقير: الزمن الضعيف الذي لا يسأل الناس) .(3/408)
وقال في الجديد: (الفقير: هو الذي لا شيء له، زمنا كان أو غير زمن، سواء سأل أو لم يسأل) .
فقال البغداديون من أصحابنا: (الفقير) : هو الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم، وهو يكتسب كل يوم ثلاثة أو أربعة سواء كان صحيحا أو زمنا، وسواء سأل أو لم يسأل، وإنما اختصر الشافعي العبارة عنه في القديم، وبسطها في الجديد؛ لأنه قد يسأل ولا يعطى، وقد يعطى من غير سؤال، وقد يكتسب الزمن، ولا يكتسب الصحيح.
وحكى المسعودي [في الإبانة \ ق\ 456] : أن من أصحابنا من قال: هل من شرط الفقير أن يكون متعففا عن السؤال؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يشترط؛ لما ذكرناه.
والثاني: يشترط؛ لأن حال المتعفف أشد.
إذا ثبت هذا: فكم يعطى الفقير من الزكاة؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن القاص في " المفتاح " -: أنه يعطى قوت سنة له ولعياله؛ لأن الزكاة تجب في كل سنة، فاعتبر كفايته بها.
والثاني - وهو قول سائر أصحابنا وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يعطى ما يخرجه من حد الفقر إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابت ماله جائحة، فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة أو حاجة، حتى يشهد، أو يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن به فاقة وحاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ثم يمسك» . فأجاز له المسألة إلى أن يصيب ما يسده.(3/409)
وأما قوله: " ثلاثة من قومه " فعلى سبيل الاستظهار لا على سبيل الشرط.
فعلى هذا: إذا كان من عادته التعيش بالخمسة، أو بالعشرة.. أعطي ذلك لا غير، وإن كان من البزازين الذين لا يحسنون التجارة إلا بألف أو ألفين.. أعطي ذلك، وإن كان من أهل الضياع.. أعطي ما يشتري به ضيعة تكفيه غلتها على الدوام.
فإن عرف لرجل مال، فادعى أنه افتفر.. لم يقبل حتى يقيم البينة؛ لأنه قد عرف(3/410)
غناه، وإن لم يعرف له مال، وادعى أنه فقير.. قبل قوله، ولا يكلف إقامة البينة؛ لأن الأصل في الناس الفقر، ثم يرزق الله تعالى.
[فرع: فيمن له كسب يكفيه]
] : إذا كانت له حرفة يكتسب بها ما يمونه ويمون عياله على الدوام.. فإنها تجري مجرى الغنى في المال في أنه لا تحل له الزكاة، وفي إيجاب نفقة قريبه الفقير المعسر عليه، وفي أنه لا تجب على قريبه الموسر نفقته؛ ولكنها لا تجري مجرى الغنى بالمال لإيجاب الحج عليه، ولا لقضاء الدين عليه.
وقال مالك: (يجوز أن يدفع إليه الزكاة، إذا كان فقيرا من المال وإن كان مكتسبا) .
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يملك نصابا من المال.. جاز أخذ الزكاة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب» ، ولأنه قادر على كفايته على الدوام، فأشبه الغنى بالمال.(3/411)
إذا ثبت هذا: وجاء رجل يطلب الزكاة، وادعى أنه لا كسب له، فإن كان شيخا ضعيفا، أو شابا ضعيف البنية.. قبل قوله؛ لأن الظاهر من حاله يشهد له، وإن كان شابا قويا.. فهل يقبل قوله من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب.
والثاني: يقبل؛ لما روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فصعد بصره إليهما، ثم صوبه، وقال: " أعطيكما بعد أن أعلمكما: أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» . ولم يحلفهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والظاهر: أنهما كانا جلدين.
[مسألة: سهم المساكين]
] : وسهم للمساكين؛ للآية.
والمسكين - عندنا -: أحسن حالا من الفقير، وهو الذي له شيء يقع موقعا من كفايته، ولكن لا يكفيه، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة، وليس عنده إلا ثمانية؟ أو تسعة، وبه قال جماعة من أهل اللغة.(3/412)
وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة، وكثير من الفقهاء، وأهل اللغة: المسكين أمس حاجة من الفقير، وهو بصفة الفقير الذي ذكرناه، واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا.
دليلنا: أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فبدأ بالفقراء، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من الفقر» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كاد الفقر أن يكون كفرا» . وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» .(3/413)
ولأن الفقير من لا ظهر له؛ لأن الفقار هو الظهر، ولهذا سمي سيف علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذا الفقار؛ لأنه كان له ظهر.
إذا ثبت هذا فكم يعطى المسكين؟
على قول أبي العباس بن القاص: يعطى ما يتم به قوت السنة.
وعلى المنصوص: (يعطى ما تزول به حاجته، وتحصل به الكفاية على الدوام) .
وقال أبو حنيفة (إذا كان مالكا لنصاب من الأثمان.. لم يجز له أخذ الزكاة، وكذلك: إذا كان مالكا لقيمة نصاب، ويفضل عن مسكنه وخادمه.. لم يجز له أخذ الزكاة) .
وقال عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص: (إذا ملك خمسين درهما.. لم تحل له الزكاة) . وهو قول الثوري، وأحمد، وابن المبارك. وقال الحسن: (لا يعطى من الصدقة من له أربعون درهما) .(3/414)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة ". فذكر: " أو رجل أصابته فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش» . ولم يفرق.
ولأنه غير قادر على كفاية على الدوام، فأشبه من لا يملك شيئًا.
[فرع: دعوى الفقير العيال]
] : وإن ادعى الفقير أو المسكين: أن له عيالا.. فهل يقبل قوله من غير بينة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يقبل، كما يقبل قوله: إنه غير مكتسب.
والثاني: ولم يذكر في " المهذب " غيره: أنه لا يقبل؛ لأنه يمكنه أن يقيم البينة على العيال، بخلاف الاكتساب.
[مسألة: سهم المؤلفة]
] : وسهم للمؤلفة، والمؤلفة: صنف من أهل الصدقات؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] .
وإنما سموا مؤلفة؛ لأنهم يتألفون بالعطاء، وتستمال قلوبهم بذلك.
وهم ضربان: مسلمون وكفار.
فأما الكفار: فضربان:
أحدهما: قوم لهم شرف وسؤدد وطاعة في الناس، وحسن نية في الإسلام، فيعطون استمالة لقلوبهم، وترغيبا لهم على الإسلام، كصفوان بن أمية، وعامر بن الطفيل.
والضرب الثاني: قوم من الكفار لهم قوة وشوكة، وإذا أعطاهم الإمام مالا.. كفوا(3/415)
شرهم عن المسلمين وإذا لم يعطهم.. قاتلوا المسلمين، وأضروا بهم، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي هذين الضربين من خمس الخمس، ولا خلاف أنهم لا يعطون من الزكاة؛ لأنهم كفار، وهل يعطون اليوم من خمس الخمس؟ فيه قولان:
أحدهما: يعطون لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أعطاهم، ولأنه قد يوجد المعنى الذي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم لأجله.
والثاني: لا يعطون؛ لأن عمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعطوهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء.. فليكفر) . وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: فلأن خمس الخمس كان ملكا له، يفعل فيه ما شاء.
وأما مؤلفة المسلمين: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: قوم لهم شرف وسؤدد، ولهم نظراء من قومهم كفار، إذا أعطوا هؤلاء.. رغب نظراؤهم في الإسلام، مثل: الزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم.
والثاني: قوم لهم شرف وطاعة، أسلموا ونياتهم في الإسلام ضعيفة، فيعطون(3/416)
لتقوى نياتهم، و: «قد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أقل من مائة، فاستعتب، فتمم له المائة» . فيحتمل ذلك تأويلين:
أحدهما: أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن نيته أقوى من نيات أصحابه في الإسلام، فنقصه، فلما استعتب.. بان أنه بخلاف ذلك، فتمم له المائة.
والثاني: يحتمل أن يكون العباس خشي أن يلحقه النقص في أعين الناس إذا نقص عن عطية نظرائه، فاستعتب لذلك.
وهل يعطى هذان الفريقان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعطون؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال.
والثاني: يعطون؛ لأنه قد يوجد المعنى الذي أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله.
فإذا قلنا: بهذا: فمن أين يعطون؟ فيه قولان:
أحدهما: من سهم المؤلفة من الزكاة؛ للآية.
والثاني: من سهم المصالح؛ لأن في ذلك مصلحة.(3/417)
والضرب الثالث: قوم من المسلمين في طرف بلاد الإسلام، ويليهم قوم من الكفار، فإن أعطاهم الإمام مالا.. قاتلوهم ودفعوهم عن المسلمين، وإن لم يعطهم.. لم يقاتلوهم، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة في تجهيز الجيوش إليهم.
الضرب الرابع: قوم من المسلمين، ويليهم قوم من المسلمين عليهم صدقات، ولكن لا يؤدونها إلا خوفا ممن يليهم من المسلمين، فإن أعطاهم الإمام شيئا.. جبوا صدقات من يليهم، وأدوها إلى الإمام، وإن لم يعطهم الإمام شيئا.. احتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة ليجهز من يجبيها منهم.
فهذان الضربان يعطون بلا خلاف على المذهب، ومن أين يعطون؟
فيه أربعة أقوال:
أحدها: من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.
والثاني: من سهم المؤلفة في الزكاة؛ للآية.
والثالث: من سهم سبيل الله تعالى؛ لأنهم في معنى المجاهدين.
والرابع: أنهم يعطون من سهم سبيل الله تعالى ومن سهم المؤلفة؛ لأنهم جمعوا معنى الصنفين.
واختلف أصحابنا في هذا القول على ثلاثة أوجه:
ف [الأول] : منهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن الشخص الواحد إذا جمع سببين من أسباب الصدقات.. أعطي بهما، فأما إذا قلنا: لا يعطى إلا بأحدهما.. لم يعط هؤلاء إلا من سهم أحد الصنفين.
و [الثاني] : منهم من قال: يعطون من السهمين على القولين؛ لأن القولين فيمن يأخذ الزكاة لحاجته إلينا. فأما هؤلاء: فإنهم يأخذون لحاجتنا إليهم، فأعطوا منها، قولا واحدا.
و [الثالث] : منهم من قال: لم يرد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجمع لهم من السهمين، وإنما أراد: أن من يقاتل الكفار.. يعطون من سهم سبيل الله، ومن يجبي الصدقات من المسلمين.. يعطون من سهم المؤلفة. هذا مذهبنا.(3/418)
وقال مالك، وأبو حنيفة: (قد سقط سهم المؤلفة، فلا سهم لهم) .
دليلنا: الآية، فإن ادعى رجل: أنه من المؤلفة.. فأمرهم ظاهر، ولا يعطى حتى يثبت أنه منهم.
[مسألة: سهم الرقاب]
] : وسهم للرقاب؛ للآية.
و (الرقاب) : هم المكاتبون، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في الكتابة، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهبت طائفة: إلى أن الرقاب هاهنا العبيد، فيشترى بسهمهم من الصدقات عبيد، ويعتقون. ذهب إليه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: ابن عباس، ومن التابعين: الحسن، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد وأبو عبيد، وأبو ثور رحمة الله عليهم.
وقال الزهري: يقسم ذلك نصفين: نصفا يدفع إلى المكاتبين، ونصفا يشترى به عبيد ممن صلى وصام، وقدم إسلامهم، فيعتقون.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] .(3/419)
فأمر بوضع الصدقة في الرقاب، وهذا إنما يصح على قولنا؛ لأن الصدقة تدفع إليهم، وتوضع فيهم، فأما على قولهم: فإنما تدفع إلى سادتهم لا إليهم.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المكاتب ما يفي بمال الكتابة.. لم يعط شيئا من الزكاة؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وإن لم يكن معه شيء، وقد حل عليه نجم.. أعطي ما يؤدي فيما عليه.
وإن لم يكن معه شيء، ولم يحل عليه نجم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يعطى؛ لأن الدين غير لازم له، فلا حاجة به إلى ما يعطاه.
والثاني: يعطى؛ لأن النجم يحل عليه، والأصل: عدم المال معه.
فإن دفع من عليه الزكاة إلى السيد بإذن المكاتب.. جاز، وإن دفع إليه بغير إذن المكاتب.. لم يجز، وإن دفع إلى المكاتب بإذن السيد، أو بغير إذنه.. جاز.
وإن دفع إلى المكاتب شيء من الزكاة، وأراد أن يصرفه في غير مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: منع منه؛ لأن القصد إعتاقه، فلا يحوز له تفويته، فإن أراد المكاتب أن يتجر به؛ ليحصل بذلك الوفاء بما عليه.. لم يمنع منه؛ لأنه يتوصل به إلى أداء ما عليه، فإن دفع إليه شيئا فأعتقه السيد، أو تبرع عليه أجنبي، فأدى عنه، أو عجز نفسه، فإن كان المال باقيا في يد المكاتب.. قال أصحابنا البغداديون: إن لرب المال أن يسترجع منه ما أعطاه؛ لأن المقصود العتق، ولم يحصل، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] في ذلك قولين:
أحدهما: له أن يسترجع منه؛ لما ذكرناه.
والثاني: ليس له أن يسترجع منه؛ لأنه قد كان مستحقا له حين الأخذ.
وإن قبض السيد منه ذلك، ثم أعتقه.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يسترد من السيد؛ لاحتمال أنه قد كان أعتقه للذي قد قبضه منه، وإن عجزه المولى.. ففيه وجهان:(3/420)
أحدهما: لا يسترد من السيد؛ لأنه كان مستحقا له وقت الأخذ.
والثاني: يسترجع منه؛ لأن العتق لم يحصل له.
وإن ادعى المكاتب أنه مكاتب، وأنكر السيد: فإن أقام بينة.. حكم له بصحة الكتابة، وأعطي من الزكاة؛ لأنه قد ثبت أنه مكاتب، وإن لم يقم بينة.. حلف السيد، ولم يعط من الزكاة؛ لأنه لم تثبت كتابته، وإن صدقه السيد على الكتابة.. ففيه وجهان:
أحدهما يعطى؛ لأن السيد أقر على نفسه، فقبل.
والثاني: لا يعطى؛ لاحتمال أن يكون قد واطأ السيد، ليعطى من الزكاة.
[مسألة: سهم الغارمين]
] : وسهم للغارمين؛ للآية.
والغارمون ضربان: ضرب ادانوا لمصلحة ذات البين، وضرب ادانوا لمصلحة أنفسهم.
فأما الذين ادانوا لمصلحة ذات البين: فضربان:
[الأول] : ضرب تحملوا مالا في دم مقتول بأن يوجد قتيل بين قريتين، فادعى أولياؤه على أهل قرية: أنهم قتلوه، فأنكروا، فخيف إراقة الدماء والشر بينهم بسببه، فجاء رجل، فتحمل ديته لوليه في ذمته، واستدان من غيره، ودفع إليه، فهذا يجوز(3/421)
له أخذ الزكاة من سهم الغارمين مع الغنى أو الفقر.
فأما إذا دفع من ماله: فليس بغارم؛ لأنه لا يسمى بعد القضاء: غارمًا.
والأصل فيه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو غارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» .
فأما إذا تحمل في غير القتل، بل بذهاب المال، قال الشيخ أبو حامد: بأن توجد بهيمة متلفة، فخيف وقوع الفتنة بسببها، فتحمل رجل قيمتها لمالكها، واستدان، ودفع.. فله أن يأخذ من سهم الغارمين مع الفقر، وهل له أن يأخذ منها مع الغنى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يأخذ؛ لأنه إنما أخذ في الدم؛ لحرمة الدم، وهذا لا يوجد في غيره.
والثاني: له أن يأخذ؛ للآية والخبر، ولأنه غرم لإصلاح ذات البين، فأشبه إذا تحمل دية مقتول.(3/422)
وإن جرى بين اثنين خصومة في مال بدين، فبادر رجل، وضمن ذلك الدين عمن هو عليه بإذنه، فإن كان الضامن والمضمون عنه فقيرين.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] : فله أخذ الصدقة. وإن كان المضمون عنه موسرًا.. فليس للضامن أخذ الصدقة، بل يرجع على المضمون عنه. وإن كان المضمون عنه فقيرًا، والضامن موسرًا.. فهل له أخذ الصدقة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] . الأصح: له ذلك.
و [الضرب الثاني] : أما من غرم لمصلحة نفسه: فإن استدان لطاعة الله، أو مباح.. فله أن يأخذ مع الفقر، وهل له أن يأخذ مع الغنى؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يأخذ، وهو الصحيح؛ لأنه يأخذ ذلك لحاجته إلينا، فلم يأخذ مع الغنى، كالفقراء والمساكين.
والثاني: يأخذ مع الغنى؛ لأنه غارم في غير معصية، فأشبه الغارم لذات البين. وإن استدان لمعصية، فإن كان مقيما على المعصية.. لم يعط، غنيًا كان أو فقيرًا؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان قد تاب من المعصية.. لم يعط مع الغنى، وهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعطى؛ لأنه قد تاب منها.(3/423)
والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن أن يعاودها.
إذا ثبت هذا: فكل من ذكرناه من الغارمين: أنه يعطى مع الغنى، فإن كان يملك عروضًا بلا نضوض.. فله أخذ الزكاة مع غناه بالعروض، وإن كان يملك نضوضًا.. فهل له أخذ الزكاة مع غناه بالنضوض؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 458] :
أحدهما: له ذلك، كما له أخذها إذا كان غنيًا بالعروض.
والثاني: ليس له ذلك. والفرق بينهما: أنه يحتاج إلى العروض، وهي الأثاث والضياع للتجمل، إذ هي أملاك ظاهرة، فأما النضوض: فلا يحتاج إليها؛ لأن مروءته لا تذهب بذهابها، وهو غني بها، فلزمه قضاء الدين بها. والأول أصح.
[فرع: ضامن الدية من الغارمين]
] : قال الصيمري: إذا ضمن الرجل دية مقتول عن قاتل غير معروف.. أُعطي مع الفقر والغنى، وإن ضمن الدية عن قاتل معروف.. أُعطي مع الفقر، ولا يعطى مع الغنى، ولا يعطى الغارم إذا كان الدين مؤجلا قبل حلول الأجل.
[فرع: دين الميت من الغارمين]
] : إذا مات رجل، وعليه دين، ولا تركة له.. فهل يجوز قضاؤه من سهم الغارمين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الصيمري -: أنه لا يجوز؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم؛ لأن المزكي يحتاج أن يملك المعطى، ولا يمكن هاهنا.(3/424)
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " -: أنه يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الغارمين [التوبة: 60] . ولم يفرق بين الحي والميت.
ولأنه يجوز التبرع بقضاء دينه فجاز له قضاء دينه من الزكاة، كالحي.
[فرع: دين المعسر زكاة]
] : وإن كان لرجل على معسر دين، فأراد من له الدين أن يحتسب بدينه عليه من زكاته.. ففيه وجهان:
أحدهما - وبه قال القاضي أبو القاسم الصيمري -: أنه لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما؛ لأن ذمته قد اشتغلت بالزكاة، فلا تبرأ ذمته إلا بأن يقبض ذلك منه.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " - أنه يجوز، وهو قول الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم رده إليه.. جاز، فكذلك إذا لم يقبضه منه، كما لو كانت له عنده وديعة، ودفعها عن الزكاة إليه.. فإنه لا فرق: بين أن يقبضها منه، وبين أن يحتسبها من زكاته من غير إقباض. والأول أظهر.
إذا ثبت هذا: فإن دفع الزكاة إلى الفقير بشرط أن يقبضه إياها.. لم يصح الدفع، وإن نويا ذلك بأنفسهما.. لم يضره.
[فرع: ادعاء الغرم]
] : وإن جاء رجل، وادعى: أنه غارم، فإن كان لذات البين.. فأمره ظاهر، فلا يقبل حتى يقيم البينة، وإن كان لمصلحة نفسه، فإن أقام البينة على ذلك.. أُعطي، وإن لم يقم البينة، ولكن صدقة من له الدين.. فهل يعطى؟ فيه وجهان، كالوجهين في المكاتب إذا صدقه سيده.(3/425)
[مسألة: سهم سبيل الله]
] : وسهم في سبيل الله؛ للآية.
وسبيل الله - عندنا -: هم المجاهدون الذين يغزون إذا نشطوا، دون المرتزقة المرتبين في ديوان السلطان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما.
وقال أحمد: (سبيل الله هو الحج) .
دليلنا: أن كل موضع ذكر سبيل الله عز وجل، فإنه يعقل منه المجاهدون، دون الحج، فوجب حمل الآية على ذلك.
فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين أن يصير من أهل الصدقات الذين يغزون إذا نشطوا.. جعل منهم. وإن أراد رجل من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة.. لم يعط من الصدقة، وأُعطي من الفيء، ولا حق للمرتزقة في سهم الصدقات؛ لأن أرزاقهم يأخذونها من الفيء.
فإن كان رجل منهم عاملًا على الصدقة.. فهل يعطى منها؟ فيه وجهان:
[الأول] : إن قلنا: إن ما يأخذه العامل زكاة.. لم يعط.
و [الثاني] : إن قلنا: أجرة.. أعطي.
وإن احتاج المسلمون إلى من يعينهم في أمر الكفار، ولا مال في بيت المال، وفيه الصدقة.. ففيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 458] :
أحدهما: لا يجوز صرف الصدقة إلى المرتزقة؛ لأن أهلها والمرتزقة متغايران.(3/426)
والثاني: يصرف إليهم من سهم سبيل الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعله للغزاة، والمرتزقة غزاة.
إذا ثبت هذا: فإن الغازي يُعطى مع الفقر والغنى، وحكى في " المعتمد ": أن أبا حنيفة قال: (لا يأخذ مع الغنى) . وكذلك قال في الغارم لإصلاح ذات البين.
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» . فذكر: لغارم أو لغاز.
ويُعطى الغازي ما يحتاج إليه للسلاح، والفرس، والخادم إن كان فارسًا، وحمولة له تحمله إن كان سفره تقصر فيه الصلاة، وهل يشترى له السلاح والفرس والحمولة، ويدفع إليه، أو يدفع له ثمنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: - وهو قول المسعودي في " الإبانة " ق\ 459]-: أن الإمام بالخيار: بين أن يشتري له ذلك، ويملكه إياه، وبين ألا يملكه ذلك، بل يسلبه في سبيل الله، وإن شاء استعار له، أو استأجر له.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه لا يشتريه الإمام، ولكن يُعطي الغازي ما يخصه، ويشتري هو بنفسه.
قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا: إن استأذن الإمام الغازي ليشتري له ذلك من الصدقة.. جاز، ويدفع إليه نفقة ذهابه وإقامته في الغزو ورجوعه، وكم يُعطى من النفقة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\458] :
أحدهما: ما زاد على نفقة الحاضر، لأجل السفر؛ لأن نفقة الحاضر تجب في ماله.
والثاني: جميع النفقة.
قلت: وهذان الوجهان كالوجهين في قدر نفقة عامل القراض، إذا قلنا: تجب له(3/427)
النفقة في مال القراض، فإن دفع إلى الغازي مال ولم يغز.. استرجع منه؛ لأنه ليس بغاز. وإن غزا وقتر على نفسه، فرجع ومعه بقية مما دفع إليه.. لم يسترجع منه، كما لو دفع إلى فقير قدر كفايته، فقتر على نفسه حتى حصل فيه فضل.. فإنه لا يسترجع منه.
[مسألة: سهم ابن السبيل]
] : وسهم لابن السبيل؛ للآية.
و (ابن السبيل) : هو المنشئ للسفر من بلده، أو المجتاز بغير بلده. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 459] : هل يُعطى المجتاز بغير بلده؟
إن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. أُعطي، وإلا فلا.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (ابن السبيل: هو المجتاز) .
فأما من ينشئ السفر من بلده: فليس بابن السبيل.
دليلنا: أنه مريد لسفر لا معصية فيه، فهو كالمجتاز.
إذا ثبت هذا: فإن كان سفره لواجب أو طاعة.. أٌعطى، وإن كان لمعصية.. لم يعط؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان لمباح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يُعطى؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
والثاني يُعطى؛ لأنه سفر جائز، فهو كسفر الطاعة.
فإن كان منشئًا للسفر من بلده.. نظرت:
فإن كان غنيًا.. لم يُعط شيئًا.
وإن كان فقيرًا.. أُعطى ما يحتاج إليه لذهابه ورجوعه.(3/428)
وهل يُعطى نفقة إقامته في البلد الذي يقصده.. نظرت:
فإن كانت إقامته أقل من أربعة أيام.. أُعطي؛ لأنه في حكم المسافرين.
وإن كانت أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. لم يُعط نفقة إقامته من سهم ابن السبيل؛ لأنه قد خرج عن أن يكون مسافرًا. وهل يُعطى للحمولة؟ ينظر فيه:
إن كان سفره مما يُقصر فيه الصلاة.. أُعطي للحمولة؛ لأنه يحتاج إليها، وإن كان سفره لا تقصر فيه الصلاة.. لم يعط لها إلا إذا كان عاجزًا عن المشي.. فيعطى لها.
وإن كان ابن السبيل مجتازًا.. نظرت:
فإن كان معه مال يكفيه.. لم يُعط؛ لأنه غني به، وإن كان لا مال معه، أو معه مال لا يكفيه، ولكن له مال في بلده.. دفع إليه ما يبلغه بلده؛ لأنه محتاج إلى ما يأخذه.
وإن احتاج ابن السبيل إلى كسوة في سفره.. أُعطي لها؛ لأنه يحتاج إليها، كالنفقة.
فإن دفع إلى ابن السبيل ما يحتاج إليه، فلم يسافر.. استرجع منه.
وإن سافر وقتر على نفسه في النفقة، فرجع من سفره، وقد بقي معه بقية مما دفع إليه.. استرجع منه.
والفرق بينه وبين الغازي حيث قلنا: إنه لا يسترجع منه: أن الغازي يأخذ ما يأخذه على وجه العوض، وابن السبيل يأخذه لحاجته إليه، وقد زالت حاجته.
فإن جاء رجل، وادعى: أنه يريد الغزو أو السفر.. قبل منه، وأعطي؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته.
[مسألة: تسوية العطاء بين الأصناف]
] : ويجب أن يسوي بين الأصناف، ولا يفضل صنفًا على صنف؛ لأن الله تعالى ساوى بينهم، فما خص الصنف الواحد.. فالمستحب: أنه يعم به جميع الصنف على(3/429)
قدر حاجاتهم إن أمكن، والمستحب: أن يخص قرابته المحتاجين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة على المسلم صدقة، وعلى ذي القرابة صدقة وصلة» .
وأقل ما يجزئ: أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة منهم.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يدفع ذلك كله إلى واحد) .
دليلنا: أن الله تعالى ذكر ذلك بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فلا يجوز الاقتصار على ما دونهم.
ويستحب أن يساوي بين الثلاثة من الصنف، فإن فاضل بين الثلاثة.. جاز، فإن دفع نصيب الصنف إلى واحد أو اثنين.. ضمن نصيب من لم يُعطه من الثلاثة، وفي قدر ما يضمنه للواحد قولان:
أحدهما: القدر المستحب، وهو الثلث؛ لأنه يستحب دفعه إليه.
والثاني: أقل جزء من السهم؛ لأنه لو اقتصر على دفعه في الابتداء.. أجزأه.
[فرع: من اجتمع فيه أسباب يعطى بسبب]
] : وإن اجتمع في شخص واحد سببان، وطلب أن يأخذ بهما.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يعطى بهما، ويخير في أيهما يأخذ) .
وقال فيمن يجبي الصدقات ممن يليه، ويدفع العدو: (يُعطى من سهم سبيل الله، ومن سهم المؤلفة) .(3/430)
واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
ف [الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يُعطى بهما؛ لأنه جمع معناهما.
والثاني: يُعطى بأحدهما؛ لأنه شخص واحد.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعطى بأحدهما، قولا واحدا، والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن يجبي الصدقات، ويقاتل العدو، فإنما أراد: أن يُعطى من يجبي الصدقة من سهم المؤلفة، ومن يدفع العدو من سهم سبيل الله.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: إن كان يستحق بسببين متجانسين، لحاجتنا إليه، أو لحاجته إلينا.. لم يعط بهما، وإنما يعطى بأحدهما، وإن كان يستحق بأحدهما لحاجتنا إليه، وبالآخر لحاجته إلينا أُعطى بهما.
والذين يأخذون لحاجتنا إليهم: المؤلفة، والغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون، والغزاة، والباقون يأخذون لحاجتهم إلينا، وهذا كما نقول فيمن اجتمع فيه جهتا فرض في الميراث: فإنه لا يُعطى بهما، كالأخت للأب والأم، فإنها لو كانت أختًا لأب.. لأخذت النصف، ولو كانت أختا لأم.. لأخذت السدس، ولم تعط بهما.
ولو اجتمع في شخص جهة فرض، وجهة تعصيب، كالزوج إذا كان ابن عم.. فإنه يُعطى بهما، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: نقل الزكاة]
] : قال الشافعي: (ولا تخرج الصدقات من بلد، وفيه أهله) .
وجملة ذلك: أن من وجبت عليه الزكاة.. فإنه يفرقها في أصناف بلد المال، فإن نقلها عنهم إلى أصناف بلد آخر.. ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأبي العالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . ولم يفرق.(3/431)
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومالك، والثوري رحمة الله عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» .
وهكذا: لو أوصى بثلث ماله للمساكين، وأطلق.. فهل يجوز نقلها عن مساكين البلد؟ على هذين القولين:
فمنهم من قال: القولان في جواز النقل، فأما الإجزاء: فإنه يجزئه، قولا ً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الإجزاء، وهو الأصح.
واختلفوا في الموضع الذي ينقل إليه:
فمنهم من قال: القولان إذا نقل عن البلد إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، فأما إذا نقل إلى دون ذلك.. فيجوز، قولًا واحدًا؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح.
إذا ثبت هذا: وقلنا: لا يجوز النقل.. فلا يخلو المزكي: إما أن يكون حضريًا، أو بدويًا.
فإن كان حضريًا، كأهل الأمصار والقرى الذين يستوطنونها على الدوام.. فموضع الصدقة أهل المصر وأهل القرية.(3/432)
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان في سواد البلد من هو من أهله على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كالحاضر في البلد؛ لأن من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو من حاضريه.
فإن كان البلد واسعًا، كالبصرة ومصر.. قال الصيمري: فليس كلهم جيرانه، بل جيرانه من قرب إليه، واتصل به.
وقد اختلف في حد الجوار: فقيل: هم القبيلة. وقيل: هم أهل الدرب. وقيل: هم من يجمعهم المسجد. وقيل: من بينك وبينه أربعون دارًا. قال: ومن أصحابنا من حده بذلك. والصحيح: أنه ليس بتحديد، بل هو على سبيل التقريب، لاختلاف الدور والأماكن.
فإن نقل صدقته من جيرانه إلى أقصى طائفة من بلده، إلا أنه لم يفارق البلد.. جاز، قولًا واحدًا.
قال الصيمري: ويجوز أن يخرج على قولين، ويجوز أن يقال:
إذا قلنا: إذا نقلها إلى بلد آخر أجزأه.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان، والصحيح: أنه يجوز، قولا واحدًا.
[فرع: مكان قسم الزكاة]
] : قال الشيخ أبو حامد: فإن دخل إلى ذلك البلد قبل تفرقة الزكاة في أهله قوم غرباء، وخالطوهم، ونزلوا البلد نزول استيطان.. شاركوا أهل البلد في تلك الزكاة؛ لأنها لم تقسم في الجوار، وقد صار هؤلاء في الجوار.
وإن كان عشر زرع أو ثمرة.. صرف ذلك إلى فقراء البلد الذي فيه الأرض. وإن كان مال تجارة.. صرفت صدقته في فقراء البلد الذي يحول حول التجارة وهو فيه.
وإن كان في بادية حينئذ.. صرفت في فقراء أقرب البلاد إلى ذلك الموضع.
وإن كان له أربعون من الغنم، في كل بلد عشرون، فأخرج شاة في إحدى البلدين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كرهت، وأجزأه) .(3/433)
فمن أصحابنا من قال: يجوز، قولا واحدا؛ لأنه يشق إخراج الشاة في بلدين.
ومنهم من قال: إنما ذلك على القول الذي يجوز نقل الصدقة. فأما على القول الذي يقول: لا يجوز.. فلا يجزئه، قولًا واحدا، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (كرهت، وأجزأه) . فلولا أنه أراد على أحد القولين.. لما قال: (كرهت) .
وإن كان من وجبت عليه الزكاة بدويًا.. نظرت:
فإن كانوا أهل حلل راتبة لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء.. فحكمهم حكم أهل البلد؛ لأنهم لم يخالفوهم إلا في الأبنية.
وإن كانوا أهل نجعة، وهو الذين إذا أخصب موضع رحلوا إليه، فإذا أجدبت رحلوا عنه.. نظرت:
فإن كانت حللهم متفرقة.. اعتبر الجوار بالمال، لا برب المال، وحد الجوار: من كان منهم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة من موضع المال، فهو من أهل صدقة هذا المال المذكور، فيجوز الدفع إليه، قولًا واحدًا.
وإن نقلت الصدقة عنهم إلى أبعد منهم.. كانت على الخلاف المذكور في نقل الصدقة عن أهل الحضر.(3/434)
فإن كان معهم مساكين يتنقلون معهم أينما انتقلوا، وهناك قوم من جيرانهم لا يظعنون بظعنهم، وكانوا يقيمون بإقامتهم.. كان من ينتقل بانتقالهم أولى بالصدقة. فإن أعطى الآخرين.. جاز.
وإن كانت حللهم مجتمعة، وكل حلة متميزة عن الأخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمهم حكم ما لو كانت حللهم متفرقة، على ما ذكرناه؛ لأنهم يجرون مجرى البيوت المتفرقة.
والثاني: أن كل حلة منفردة بمنزلة البلد والقرية، فتفرق الصدقة عليهم؛ لأن أهل كل حلة يتميزون عن الحلة الأًخرى، كما يتميز أهل البلد.
فإن نقلت الصدقة عنهم.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة.
[فرع: وجود بعض الأصناف المستحقة في البلدة]
] : وإن وجد في بلد المال بعض الأصناف.. فهل يُغلب حكم البلد، أو حكم الأصناف؟ فيه وجهان:
أحدهما: يًُغلب حكم البلد، فيدفع إلى من في البلد من الأصناف جميع الزكاة؛ لأن عدم الشيء في موضعه وإن كان موجودًا في غيره، بمنزلة عدمه أصلًا، كما نقول فيمن عدم الماء في موضعه: فإنه يحوز له التيمم وإن كان موجودًا في غيره.
والثاني: يغلب حكم الأصناف، فيدفع إلى أصناف البلد حصتهم، وينقل حصة الباقين إليهم بأقرب البلاد إليه، وهو الأصح؛ لأن استحقاق الأصناف ثابت بنص القرآن، واعتبار البلد ثابت بخبر الواحد والقياس، فكان اعتبار ما ثبت بنص القرآن أولى.
فإذا قلنا: يغلب البلد، فنقلها إلى غيرهم.. فهل يضمن؟ فيه قولان، كما في نقل الصدقة.
وإذا قلنا: يغلب الصنف، ففرقها في البلد.. ضمن، قولًا واحدًا.(3/435)
[فرع: نقل الزكاة إلى القريب في البلد]
فرع: [جواز نقل الزكاة إلى القريب في البلد] : وإذا كان الأجنبي أقرب إلى جواره، وله قريب أبعد منه، ولم يخرج عن البلد.. فالقريب أولى؛ لأنه قد حصل له حق الجوار، وإن كان قريبه في بلد آخر، فنقل الصدقة إليه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نقلها إلى أجنبي.
[مسألة: قسم الزكاة على الأصناف وفاضل]
] : وإن قسم الزكاة على جميع الأصناف في البلد، فكانت حصة كل صنف وفق حاجته، أو دون حاجته، أو كان نصيب بعض الأصناف وفق حاجته، ونصيب بعضهم دون حاجته.. دفع إلى كل صنف ما يخصه من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن كل صنف ملك حصته، فلا ينقص.
وإن كان نصيب بعضهم وفق حاجته، ونصيب بعضهم يفضل عن حاجته.. نقل ما فضل عن نصيب الآخرين إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه.
وإن كان نصيب بعضهم يفضل عن حاجته، ونصيب البعض ينقص عن حاجته: فإن قلنا: المغلب حكم البلد.. نقل الفضل إلى من نقص نصيبه عن حاجته.
وإن قلنا: المغلب حكم الأصناف.. نقل الفضل إلى ذلك الصنف في أقرب البلاد إليه.
[مسألة: تنقل زكاة الفطر]
] : وإن وجبت عليه زكاة الفطر في بلد، وماله فيه فُرقت في ذلك البلد، فإن نقلها عنه.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة، وإن كان ماله في بلد، وهو في بلد آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن موضع تفرقتها بلد المال، كزكاة المال.
الثاني: أن موضع تفرقتها الموضع الذي هو فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بعينه.(3/436)
وإن وجبت عليه نفقة قريب وفطرته، وهما في بلدين.. فالذي يقتضي المذهب: أن يُبنى على الوجهين في أنها وجبت على القريب، ثم تحملها عنه المؤدي، أو وجبت على المؤدي.
فإن قلنا: وجبت على المؤدى عنه.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدى عنه.
وإن قلنا: وجبت على المؤدي.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدي.
[مسألة: استحقاق أهل السهام]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنما يستحق أهل السهمان سواء العاملين يوم يكون القسم) ، وقال في موضع آخر: (إذا مات واحد منهم بعد وجوب الزكاة.. كان حقه لورثته، سواء كانوا أغنياء أو فقراء) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالذي قال: (يعتبر وقت الوجوب، وإذا مات أحدهم نقل حقه إلى وارثه) أراد: إذا كانت الزكاة وجبت في بلد لقوم معينين، مثل: أن يكون في بلد ثلاثة من صنف لا غير.. فإن نصيب ذلك الصنف يتعين لهم، فلا يتغير بحدوث شيء، فلو كان واحد منهم فقيرًا عند الوجوب، وكان غنيًا وقت التفرقة.. لم يسقط حقه بغناه، وكذلك: إن دخل غريب فقير، واستوطن ذلك البلد بعد الوجوب، وقبل القسمة.. لم يشاركهم، وإن مات واحد من الثلاثة.. كان ما يخصه من السهم لوارثه، غنيًا كان أو فقيرًا.
والموضع الذي قال: (يعتبر حال المدفوع إليه وقت القسمة) أراد: إذ وجبت الزكاة لقوم غير معينين، مثل: أن يكون في البلد أكثر من ثلاثة من كل صنف.. فإنها لا تتعين لواحد منهم؛ لأن لرب المال أن يعطي ثلاثة ممن شاء منهم. وإن كان غنيًا وقت الوجوب، وكان فقيرًا وقت القسمة.. أُعطي. وإن كان فقيرًا وقت الوجوب، ثم صار غنيًا وقت القسمة.. لم يعط. وإن دخل غريب قبل تفرقة الزكاة.. كان(3/437)
كالواحد من فقراء البلد. وإن مات واحد من الفقراء قبل القسمة.. لم ينتقل نصيبه إلى وارثه. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 461] : لو كان مساكين القرية محصورين، ووجبت زكاة مال، فمات واحد من المساكين قبل وصول الصدقة إليه:
فإن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة.. دفع نصيبه إلى وارثه، سواء كان وارثه تحل له الصدقة أو لا تحل؛ لأن هذا الميت قد تعين لوجوب صرف بعض الصدقة إليه.
وإن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. لم يدفع إلى وارثه نصيبه.
[مسألة: لا تصح الصدقة للنبي]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله] : كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تحل له الصدقة المفروضة؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى تمرة ملقاة، فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها» .
وأما صدقة التطوع: فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمتنع منها، وهل كان يمتنع منها تنزيهًا، أو تحريما ً؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه كان يمتنع منها لأنها محرمة عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق.
والثاني: أنها كانت لا تحرم عليه؛ لأن الهدية كانت تحل له، فحلت له صدقة التطوع.(3/438)
وأما آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب: فكانت الصدقة المفروضة لا تحل لهم، ولا يجزئ دفعها إليهم؛ لما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - أخذ تمرة من الصدقة، ووضعها في فمه، وهو طفل، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كخٍ كخ، إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» وإن منعوا حقهم من الخمس.. ففيه وجهان:
أحدهما: تحل لهم الصدقة؛ لأنهم إنما حرموا الصدقة المفروضة؛ لما يأخذون من الخمس.
والثاني: لا تحل لهم، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق.
وفي مواليهم وجهان:
أحدهما: لا تحل لهم الصدقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» .
والثاني: تحل لهم؛ لأنهم لا يلحقون بمواليهم في الشرف. هذا مذهبنا.(3/439)
وقال أبو حنيفة: (هذا الحكم يختص ببني هاشم، فأما بنو المطلب: فتحل لهم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» ، ولأنه حكم يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي في استحقاق خمس الخمس.
[فرع: لا حق للإمام في الزكاة]
] : وأما الإمام: فلا حق له في الزكاة، وإن تولى قسمتها بنفسه.. لم يستحق سهم العامل؛ لأنه يستحق رزقه من بيت المال.
والدليل عليه: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرب لبنًا، فقيل له: هو من نعم الصدقة، فاستقاءه) .
فإن قيل: فقد استهلكه، فأي فائدة في ذلك؟
قلنا: لأنه كره بقاء ما ليس له في جوفه، خوفًا من أن يتعود الناس ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك: ينبغي لمن أكل طعامًا حرامًا أو شرب خمرًا أن يتقيأه.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيء بمسك، فوضع يده على أنفه، فقيل له في(3/440)
ذلك، فقال: وهل يراد من المسك إلا ريحه؟!) . وهذا نهاية الورع منه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه.
[مسألة: لا تدفع الزكاة لكافر]
] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى كافر، وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.
قال الزهري، وابن سيرين: يجوز دفعها إلى المشركين.
وقال أبو حنيفة: (يجوز صرف زكاة الفطر خاصة إلى أهل الذمة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة، توخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» . وهذا خطاب للمسلمين.(3/441)
[مسألة: دفع الزكاة للوالد ونحوه]
مسألة: [لا يجوز دفعها للوالد ونحوه] : إذا كان له والد أو ولد يجب عليه نفقته.. فلا يجوز له أن يعطيه من زكاته من سهم الفقراء والمساكين؛ لأن نفقته واجبة عليه، ويجوز أن يعطيه من سهم الغارمين؛ لأنه لا يجب عليه قضاء دينه، ويجوز أن يدفع إليه من سهم الغزاة مع الغنى والفقر، ولا يجوز له أن يدفع إليه من سهم المؤلفة مع الفقر؛ لأن نفعه يعود إليه.
قال أصحابنا المتقدمون: ويجوز أن يعطي ولده ووالده الفقيرين من سهم العامل إذا كانا عاملين.
قال القاضي أبو الفتوح: وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يتصور أن يعطي الإنسان العامل شيئًا من زكاة ماله.
وقال ابن الصباغ: أراد أصحابنا: إذا كان الدافع الإمام فيجوز له أن يعطي ولد رب المال ووالده من سهم العاملين إذا كان عاملًا من زكاة والده أو ولده.
وإن كانا من أبناء السبيل فاختلف أصحابنا فيه:
فقال المحاملي، وغيره من أصحابنا: لا يجوز أن يعطيه نفقته من زكاته؛ لأن نفقته عليه حاضراَ كان أو مسافرًا، ولكن يعطيه للحمولة؛ لأنه لا يجب عليه حمله.
وقال ابن الصباغ، والقاضي أبو الفتوح: لا يعطيه قدر نفقة الحاضر، ويجوز أن يعطيه ما زاد على نفقة الحضر للسفر.
قلت: ويحتمل أن يكون في ما زاد على نفقة الحضر وجهان مأخوذان من الوجهين في قدر نفقة العامل في القراض من مال القراض إذا قلنا: تجب فيه.
وإن كان هذا القريب مكاتبًا.. فلا تجب عليه نفقته، ويجوز أن يعطيه من سهم الرقاب.(3/442)
وإن أراد أجنبي أن يعطي هذا القريب الفقير الذي له من تجب عليه نفقته.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\456] :
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا مال له، ولا كسب، وهذا بصفة من تحل له الصدقة.
والثاني: لا يُعطى؛ لأن غناه بقريبه الذي تجب عليه نفقته، بمنزلة غناه بمال نفسه.
وإن كان لرجل زوجة فقيرة، وهو غني.. فهل يجوز لغير الزوج أن يعطيها من الزكاة؟ على هذين الوجهين.
وإن أراد الزوج أن يعطيها من زكاته لم تخل: إما أن تكون مقيمة، أومسافرة: فإن كانت مقيمة.. لم يجز له أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لأنها إن كانت تحت طاعته.. فهي مستغنية بوجوب النفقة عليه، وإن كانت ناشزة.. فيمكنها الرجوع إلى طاعته.
وإن كانت مسافرة.. نظرت:
فإن كانت سافرت مع الزوج بإذنه.. فنفقتها وحمولتها عليه، وإن سافرت معه بغير إذنه.. فنفقتها عليه؛ لأنها في قبضته، ولا تجب عليه حمولتها، ولا يجوز له أن يعطيها للحمولة من زكاته؛ لأنها عاصية بسفرها. هكذا ذكرها في " المجموع ".
وذكر الشيح أبو حامد في " التعليق ": يجوز له أن يعطيها من زكاته للحمولة، وإن سافرت وحدها بغير إذنه.. لم يجز له أن يعطيها شيئًا من سهم ابن السبيل؛ لأنها عاصية.
قال الشيخ أبو حامد: ويجوز أن يُعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لموضع حاجتها.
وقال ابن الصباغ: يعطيها إذا أرادت الرجوع؛ لأنه طاعة، وإن أرادت السفر.. لم يعطها شيئًا، ويفارق الناشزة إذا كانت حاضرة؛ لأنه يمكنها المعاودة إلى طاعته، وهاهنا: لا يمكنها المعاودة في حال سفرها.(3/443)
وإن خرجت وحدها بإذنه.. فهل تسقط نفقتها؟ فيه قولان:
ف [الأول] : إن قلنا: تسقط.. جاز أن يعطيها للنفقة والحمولة من الزكاة.
و [الثاني] : إن قلنا: لا تسقط.. لم يُعطها للنفقة، ولكن يعطيها للحمولة؛ لأنها لا تجب عليه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 456] هل للزوج صرف زكاته إلى زوجته الفقيرة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غنية به.
والثاني: يجوز؛ لأن نفقتها عليه بمنزلة الأجرة في الإجارة، ولو استأجر أجيرًا فقيرًا.. جاز له صرف زكاته إليه.
وإن أراد الزوج أن يُعطي زوجته من سهم الفقراء والمساكين - ولا يتصور أن تكون عاملة؛ لأن المرأة لا تلي العمالة، ولكن يتصور أن تكون مكاتبة وغارمة - فيعطيها من هذين السهمين.
[فرع: دفع المرأة زكاتها لزوجها]
فرع: [تدفع المرأة زكاتها لزوجها] : وإن كانت الزوجة غنية، والزوج فقيرًا.. فيجوز لها أن تدفع إليه من سهم الفقراء والمساكين، وكذلك: إذا كان من باقي الأصناف.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أن النكاح عقد معاوضة، فلم يمنع من دفع الصدقة، كالبيع والإجارة، ولأن بينهما نسبًا لا تجب به نفقته عليها، فجاز لها أن تدفع إليه من زكاتها، كنسب ابن العم.(3/444)
[مسألة: لا تصرف الزكاة إلى الرقيق]
] : ولا يجوز صرف الزكاة إلى عبد؛ لأن نفقته على مولاه، ولا يحوز دفعها إلى صبي؛ لأنه لا يصح قبضه، بل يدفعها إلى وليه إن كان الصبي محتاجًا.
[مسألة: استرجاع الزكاة]
] : إذا دفع الإمام الزكاة إلى من ظاهره الفقر، فبان غنيا.. استرجع منه إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. أخذ منه البدل، وصرف إلى فقير.
وإن لم يكن له مال.. لم يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؛ لأن الزكاة قد سقطت عنه بدفعها إلى الإمام، ولا يجب على الإمام ضمان؛ لأنه أمين غير مفرط؛ لأن حال الغنى يخفى من حال الفقر.
وإن كان الذي دفع إليه رب المال.. لم يجزه، فإن بين عند الدفع أنها زكاة.. فله أن يرجع. وإن لم يبين.. لم يرجع؛ لأنه قد يدفع الواجب والتطوع، فلم يرجع إلا بالشرط، بخلاف الإمام، فإن له أن يرجع بكل حال. فإن بين أنها زكاة، ولم يجد للمدفوع إليه مالا، أو لم يبين.. فهل يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه دفع الزكاة باجتهاده، فهو كالإمام.
والثاني: يلزمه؛ لأن الإمام لا يتمكن من أكثر مما يعلمه، فلم يكن منه تفريط، ورب المال قد كان يمكنه أن يدفع إلى الإمام. فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان. ولهذه المسألة نظائر قد ذكرناها في (استقبال القبلة) .(3/445)
وإن دفع الزكاة إلى من ظنه مسلمًا، فبان كافرا، أو إلى رجل ظنه حرا، فبان مملوكًا، أو إلى من ظنه عاميًا، فبان هاشميًا أو مطلبيًا.. ففيه طريقان:
أحدهما - وهو ظاهر النص -: إن كان الدافع هو الإمام.. فلا شيء عليه، قولًا واحدًا، وإن كان رب المال.. ففيه قولان، كالأولى.
والطريق الثاني: إن كان الدافع هو رب المال.. لزمه الضمان، قولا واحدًا، وإن كان هو الإمام.. فعلى قولين؛ لأن أمر هؤلاء لا يخفى بحال، بخلاف الفقير.
وإن دفع سهم الغازي، أو سهم المؤلفة، أو سهم العامل، إلى من ظنه رجلًا، فبان أنه امرأة أو خنثى.. قال القاضي أبو الفتوح: فيه طريقان، كالتي قبلها.
[مسألة: لا تسقط الزكاة بالموت]
] : إذا وجبت عليه الزكاة، ثم مات قبل أن يؤديها.. لم تسقط عنه.
وقال أبو حنيفة: (تسقط) .
دليلنا: أنه حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كدين الآدمي، وفيه احتراز من الصلاة، وممن مات قبل الحول.
إذا ثبت هذا: فإن اجتمعت مع دين عليه، فإن اتسعت التركة للجميع.. قضي الجميع. فإن ضاقت التركة.. ففيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها.
وبالله التوفيق(3/446)
[باب صدقة التطوع]
لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع إلا بعد الفضل عما يجب عليه، كنفقة نفسه ونفقة عياله ودينه؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول» . قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه: (عن فضل عياله) .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يقبل الله صدقة رجل، وذو رحمه محتاج» وقال أبو علي الطبري: فيحتمل أن يكون معناه: لا يقبل الله التطوع أصلًا، وعليه فريضة، فيكون فيه دليل على وجوب نفقة ذوي الأرحام، ودليل على أن وجوب الفرض يمنع من قبول النفل، ويحتمل أن يكون معناه: لا يقبلها كقبولها إذا تصدق بها على ذوي الرحم المحتاج، على معنى: «لا إيمان لمن لا أمانة له» ، أي: لا إيمان له كامل.(3/447)
قال الصيمري: وقد قيل: ما أفلح رجل احتاج أهله إلى غيره.
وروي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال: " أنفقه على نفسك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على زوجتك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، فقال: عندي آخر، قال: " أنت أعلم به "، وروي " أنفقه في سبيل الله» .
ولأنه إذا كان عليه نفقة واجبة، أو دين، وتصدق بماله.. ربما تعذر عليه القضاء، وكان مرتهنًا به.
قال ابن الصباغ: فأما إذا فضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام، ولا دين عليه.. فإنه يستحب له أن يتصدق بالفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» .(3/448)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» .
وإذا أراد الرجل أن يتصدق بجميع ماله، إذا كان لا عيال له، ولا دين عليه، فإن كان قوي الإيمان، حسن المعرفة بالله والظن، بحيث إذا فعل ذلك، وأصابته شدة حاجة، صبر عليها.. استحب له ذلك، لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: حث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فقلت في نفسي: لأسبقن أبا بكر غدا إن سبقته يوما، فلما جاء الغد.. جئت بنصف مالي، فوجدت أبا بكر قد سبقني، وقد حمل جميع ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقال الله ورسوله، فقال لي " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقلت: شطر مالي، فقلت في نفسي: لا أسبقك في شيء أبدًا، وروي: والله، لا سابقت أبا بكر أبدًا» .
وإنما قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبي بكر جميع ماله؛ لقوة إيمانه وحسن ظنه بالله تعالى.
وإن كان الرجل ممن لا يصبر على الحاجة.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل البيضة من الذهب، وقال: خذها يا رسول الله صدقة، فوالله ما أصبحت أملك مالًا غيرها، فأخذها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورمى بها إليه، حتى لو أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال: " يأتي أحدكم، فيتصدق بجميع ماله، ثم يجلس يستكف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» .(3/449)
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «دخل رجل المسجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء الرجل، فطرح أحد الثوبين، فصاح به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " خذ ثوبيك» . فيحمل هذا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنهما لا يصبران كصبر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
يدل على ذلك: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن لله عبادا لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأطغاهم، وإن لله عبادًا لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأطغاهم» .
إذا ثبت هذا: فيستحب أن يخص بصدقته قرابته؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لامرأة عبد الله بن مسعود: " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» .(3/450)
قال أبو علي الطبري: ويقصد بصدقته من قرابته أشدهم عداوة له؛ لما فيه من تأليف قلبه، ورده إلى المحبة، ولما فيه من سقوط الرياء، فإن لم يكن له قرابة محتاجون، فالجار القريب إلى داره أولى من البعيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» .(3/451)
قال الصيمري: ولا بأس بصدقة التطوع على المسلم والكافر والذمي والحربي، وإن كان يستحب أن يخص بها خيار الناس، وقد روي: «لا يأكل طعامك إلا مسلم» . ويستحب الإسرار بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» .
قال الصيدلاني: فإن أبداها لا يريد رياء ولا سمعة، ولكن ليقتدى به، فحسن، ولا يستحب التعرض لأخذها؛ لما روي: «أن رجلًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطاه فأسًا،(3/452)
وقال: " احتطب» . ولا يحل للغني أخذها مظهرًا الفاقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» .
وتحل صدقة التطوع لبني هاشم وبني المطلب؛ لما روي عن جعفر بن محمد: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له في ذلك. فقال: (إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة) .
وبالله التوفيق(3/453)
[كتاب الصيام](3/455)
كتاب الصيام الصوم في اللغة: هو الإمساك والكف عن كل شيء، يقال لمن سكت ولم يتكلم: صائم، قال الله تعالى في قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] [مريم: 26] . يعني: صمتا. ويقال: صامت الشمس: إذا وقفت للزوال، وصامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، قال الشاعر النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأُخرى تعلك اللجما
يعني: خيلا واقفة عن السير، وخيلًا غير واقفة، بل في الحرب.
وأما الصوم في الشرع: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
وهو من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع بنقصان.
والأصل في وجوبه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] [البقرة: 183](3/457)
ثم بين ما ذلك الصيام؟ فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] .
وأما السنة: فما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» .
وروى طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام ... إلى أن قال: فما افترض الله علي من صوم؟ قال: "شهر رمضان» .
وهو إجماع لا اختلاف بين الأُمة في وجوبه.
إذا ثبت هذا: فاختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - لم سمي: رمضان؟ فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: سمي بذلك؛ لأنه يرمض الذنوب ويحرقها.
وحُكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: إنما سمي بذلك؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زمنًا حارًا، فكان يرمض فيه الفصيل. يعني: يحترق من شدة الحر.(3/458)
إذا تقرر ما ذكرناه: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان» . وهذا يقتضي أنه يكره أن يقال: جاء رمضان.
ثم روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «جاء رمضان الشهر المبارك» . وهذا بخلاف الخبر الأول.(3/459)
قال أصحابنا: فيحتمل أنه يريد: يكره أن يقال: حاء رمضان من غير قرينة تدل على أنه الشهر، فإن قرنه بقرينة بما يدل على أنه الشهر، من ذكر الصوم، أو الشهر.. لم يكره.
واختلف الناس في أول ما فرض الله تعالى من الصوم:
فقيل: (إن أول ما فرض الله تعالى من الصيام صوم عاشوراء)
وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان تطوعًا.
وحُكي عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر» ، وهي الأيام التي قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 183 - 184] ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان) وكان الناس في أول الإسلام إذا صاموا.. يحل لهم الطعام والشراب والجماع من حين تغيب الشمس إلى أن يصلوا العشاء، أو يناموا، فإن صلوا العشاء، أو ناموا قبل ذلك.. حرم عليهم إلى القابلة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية [البقرة: 187] .
وكانوا في أول الإسلام يخير المطيق منهم للصوم: بين أن يصوم، أو يفطر ويفدي عن كل يوم مدا من طعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .(3/460)
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] وروي عن ابن عباس: (أن قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] إنما نزلت في الشيخ الهم والشيخة الهمة، فأما الشبان الذين يطيقون الصوم: فكان لازمًا لهم) . والصحيح هو الأول.
[مسألة: شروط وجوب الصوم]
] : ويتحتم وجوب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل طاهرٍ قادر مقيم.
فأما الكافر: فإن كان أصليا.. فلا خلاف أنه لا يصح منه في حال كفره، ولا خلاف أنه لا يجب عليه القضاء بعد الإسلام، وهل هو مخاطب به في حال كفره، ويأثم بتركه؟ فيه وجهان لأصحابنا، مضى ذكرهما.
وإن كان مرتدًا.. فلا يصح منه في حال الردة، ولكنه يأثم بتركه، وإذا أسلم.. وجب عليه قضاؤه؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط بالردة.
وأما الصبي: فلا يجب عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه عبادة بدنية،(3/461)
فلم يجب على الصبي كالصلاة، ولا تدخل عليه العدة، فإنها تجب على الصغيرة؛ لأنها ليست من أفعال البدن، وإنما هي مرور الزمان، فإذا بلغ الصبي حد التمييز، وكان يطيق الصوم وجب على الولي أن يأمره بفعله، فإذا قارب البلوغ.. كان له أن يضربه إذا لم يصم، كما قلنا: في الصلاة، فإذا بلغ.. لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر؛ لأن زمان الصغر يطول، فلو أُو لزم بقضائه.. شق وضاق.
وأما المجنون: فلا يجب عليه فعله في حال جنونه؛ للخبر، فإن أفاق بعد مضي رمضان.. لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون.
وقال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما في أحد الروايتين: (يجب عليه قضاؤه) وحكي ذلك عن أبي العباس ابن سريج.
وقيل: لا يصح ذلك عن أبي العباس.
دليلنا: أنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف؛ لنقص، فلم يجب قضاؤه، كما لو فات في حال الصغر.
فقولنا: (لنقص) احتراز من الصوم الفائت في المرض. وإن زال عقله بالإغماء.. لم يجب عليه قضاؤه في الحال؛ لأنه لا يصح منه، وإن أفاق.. وجب عليه القضاء؛ لأن الإغماء ليس بنقص، ولهذا يجوز على الأنبياء، فهو كالمرض. والجنون نقص، ولهذا لا يجوز على الأنبياء، فشابه الصغر والكفر.(3/462)
وإن أسلم الكافر في أثناء نهار رمضان.. استحب له إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولا يجب عليه؛ لأنه أفطر بعذر، وهل يجب عليه قضاء هذا النهار؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب عليه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» ، ولأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصوم، فهو كمن أدرك من الوقت قدر ركعة، ثم جن.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يلزمه قضاؤه، وهو قول أحمد، وإسحاق، والماجشون؛ لأنه أدرك جزءًا من الوقت ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بصوم يوم، فوجب أن يقضيه بيوم، كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد، وأراد الصوم.. فإنه يصوم عنه يومًا
وإن أفاق المجنون في أثناء نهار صوم رمضان.. لم يجب عليه إمساك بقية النهار، وهل يلزمه قضاء هذا اليوم؟ فيه وجهان، كالوجهين اللذين ذكرناهما في الكافر.
والمنصوص: (أنه لا يلزمه) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (يلزمه قضاء ما فاته من الشهر) .
قال أبو العباس: وقد حكى المزني هذا في المأثور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا(3/463)
يصح عنه، وهو يدل أن الحكاية التي حُكيت عن أبي العباس إذا أفاق بعد شهر.. أنه يلزمه قضاؤه، لا تصح عنه.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
ولأن الجنون لو دام جميع الشهر.. يسقط قضاؤه، فكذلك إذا دام في بعضه.
وإن بلغ الصبي في أثناء شهر رمضان ... نظرت:
فإن بلغ بالليل.. لزمه صوم ما بقي منه، وإن بلغ في أثناء النهار، وكان مفطرًا أول النهار.. لم يلزمه إمساك ما بقي من النهار، ولكن يستحب له، وهل يجب عليه قضاؤه؟ فيه وجهان، كالوجهين في الكافر والمجنون. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وأما المسعودي [في " الإبانة "ق\ 160] : فقال: إذا أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان، وكان مفطرًا.. فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يلزمهم ذلك؛ لأن من لم يلزمه الصوم في أول النهار.. لم يلزمه في آخره، كالحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم وقد أكل.
والثاني: يلزمهم إمساك بقية النهار؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فجعل كأنهم خوطبوا في أوله، فيلزمهم التشبه بالصائمين وإن لم يصح صومهم؛ لأنهم لم ينووا الصوم.
والثالث: يلزم الكافر دون المجنون والصبي؛ لأن الكافر غير معذور في كفره، وهما معذوران في إفطارهما.
والرابع: يلزم الكافر والصبي دون المجنون؛ لأن الصبي والكافر كان يصح صومهما إذا أتيا بشرائطه، دون المجنون؛ فلما لم يفعلا في أوله.. لزمهما التشبه بالصائمين في آخره.
وهل يلزمهم قضاء هذا اليوم؟ على هذه الأربعة الأوجه.
وإن بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان وهو صائم.. ففيه وجهان:(3/464)
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه الإتمام، ولا يجب عليه القضاء) ؛ لأنه صار من أهل الوجوب في أثنائه، فلزمه إتمامه، كما لو دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه.
والثاني: يستحب له الإتمام، ويجب عليه القضاء؛ لأنه لم ينو صوم الفرض من أوله.
[مسألة: صوم الحائض والنفساء]
] : وأما الحائض والنفساء: فلا يصح صومهما، ولا يجوز لهما أن يمسكا بنية الصوم، فإن فعلتا.. أثمتا؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصم، ولم تصل، وذلك نقصان دينها» ، فإذا طهرتا.. وجب عليهما قضاء الصوم؛ لما روي «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت في الحيض: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
فإن طهرتا في أثناء شهر رمضان.. لم يجب عليهما إمساك بقية النهار.(3/465)
وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (يلزمهما إمساك بقية النهار) .
دليلنا: أنهما أفطرتا بعذر، فلم يلزمهما إمساك بقية النهار.
[مسألة: صوم الشيخ العجوز]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأما الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة اللذان لا يقدران على الصوم: فيجوز لهما الإفطار) .
قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بذلك: أنه لا يمكنهما أن يمسكا يومهما عن الطعام والشراب؛ لأنه ما من أحد إلا ويمكنه هذا، وإنما يريد به: أنهما تلحقهما بذلك المشقة الشديدة، فلكل واحد منهما أن يفطر، وهل يلزمه أن يفدي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه، وبه قال مالك، وأبو ثور؛ لأنه يسقط عنه فرض الصوم، فلم تجب عليه الفدية، كالصبي والمجنون.
والثاني: يلزمه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهم، إلا أن أبا حنيفة قال: (يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر) .
وقال أحمد رحمة الله عليه: (يطعم مدًا من بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير) .
وعندنا: يطعم عن كل يوم مدًا من طعام.(3/466)
ووجهه: أن الناس كانوا مخيرين في أول الإسلام بين أن يصوموا، وبين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مدًا من طعام، فنسخ ذلك في حق من يطيق الصوم، وبقيت الرخصة في حق من لا يطيقه. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وأما المريض: فإن كان مرضًا لا يرجى زواله، وأجهده الصوم.. فهو كالشيخ الذي يجهده الصوم، وإن كان مرضًا يرجى زواله، فٍإن كان مرضًا يسيرًا لا يشق معه الصوم.. لم يجز له الإفطار
وقال داود: (يجوز له الإفطار) .
دليلنا: أنه لا يخاف المشقة من الصوم، فلم يجز له الإفطار، كالصحيح.
وإن كان يخاف التلف من الصوم، أو زيادة العلة.. جاز له الإفطار، فإذا برئ وجب عليه القضاء.
وقال عطاء، وأحمد: (لا يفطر حتى يغلب) .
وقال الشعبي: لا يفطر حتى يخشى أو يغلب.
وقال الأوزاعي: (إذا خشي على نفسه.. جاز له أن يشرب الماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .
وقد ثبت أن المسافر يجوز له أن يفطر وإن لم يكن مغلوبًا، فكذلك هذا مثله، فإن أصبح صائمًا، وهو صحيح، ثم مرض.. جاز له أن يفطر؛ لأن العذر موجود.(3/467)
[مسألة: الصوم في السفر]
] : وأما المسافر: فإن كان سفره لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي.. لم يجز له أن يفطر، وإن كان يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي في غير معصية.. جاز له أن يفطر؛ للآية.
وقال بعض الناس: يجوز له الإفطار في السفر الطويل والقصير.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام) . وقد مضى ذكر ذلك في (القصر) .
فإن صام المسافر.. صح صومه.
وقال أبو هريرة: (لا يصح صومه) . وبه قال داود وأهل الظاهر، والشيعة.
دليلنا: ما روي: «أن حمزة بن عمرو الأسلمي: قال: يا رسول الله، أصوم في السفر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن شئت.. فصم، وإن شئت.. فأفطر» وروي «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن قال: (سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من(3/468)
صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» .
إذا ثبت هذا: فإن كان ممن لا يجهده الصوم.. فالأفضل أن يصوم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك: عن أنس، وعثمان بن أبي العاص.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (الفطر أفضل) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وحكاه الطبري في " العدة " وجهًا لبعض أصحابنا. والمشهور من المذهب هو الأول.
والدليل عليه: ما روى سلمة بن المحبق: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع.. فليصم رمضان حيث أدركه» ولأن من خير بين الصوم والإفطار.. كان الصوم أفضل، كالمتطوع.
وإن كان يجهده الصوم.. فالأفضل أن يفطر؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر(3/469)
برجل في سفره تحت ظل شجرة يرش عليه الماء، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر» .
[فرع: القضاء في رمضان للمسافر]
] : فإن صام المسافر في رمضان عن غير رمضان، كالنذر والكفارة والقضاء.. لم يصح صومه، ولم يقع عن رمضان، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: (يقع عما نواه) .
دليلنا: أنه يخير بين الإفطار والصوم، فلم يصح صومه فيه عن غير رمضان، كالمريض.
[فرع: السفر بدخول رمضان]
] : وإن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم.. جاز له أن يسافر، ولا يتحتم عليه الصوم.
وقال أبو مجلز: (إذا حضر شهر رمضان.. فلا يسافرن أحد، فإن كان لا بد.. فليصم إذا سافر) .(3/470)
وقال عبيدة السلماني، وسويد بن غفلة: يتحتم عليه الصوم بقية الشهر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولم يفرق بين أن يسافر في رمضان أو قبله.
[فرع: إفطار الصائم في السفر]
] : وإن نوى المسافر الصوم، ثم أراد أن يفطر في أثناء النهار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يفطر، كالصحيح إذا أصبح صائمًا، ثم مرض.
والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له الإفطار في هذا النهار؛ لأنه قد دخل في فرض المقيم، فهو كما لو أحرم المسافر بالصلاة، ونوى الإتمام.. فإنه لا يجوز له قصرها.
وإن أصبح صائمًا في الحضر، ثم سافر.. لم يجز له أن يفطر في هذا النهار، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق، وداود، والمزني: (يجوز له أن يفطر) . واختاره ابن المنذر؛ ل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المدينة عام الفتح حتى أتى كراع الغميم، فأفطر» دليلنا: أن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا، غلب حكم الحضر، كالصلاة.(3/471)
وأما الخبر: فإنما أفطر بكراع الغميم في اليوم الثاني؛ لأن بينه وبين المدينة كثيرًا.
ولو نوى الحاضر الصوم قبل الفجر، ثم سافر، ولا يدري هل سافر قبل الفجر، أو بعده؟ قال الصيمري: لم يجز له أن يفطر.
ولو سافر بعد الفجر، وقبل أن ينوي الصوم.. لزمه إمساك ذلك اليوم؛ لأنه سافر بعد أن تعين عليه الصيام، ولا يجزئه عن الصوم؛ لأنه لم ينوه.
[فرع: زوال العذر في أثناء الصوم]
] : إذا قدم المسافر بلده في أثناء نهار رمضان، وهو مفطر، أو برئ المريض، وقد كان أفطر، أو طهرت الحائض أو النفساء.. لم يلزمهم إمساك بقية النهار.
وقال أبو حنيفة: يلزمهم إمساك بقية النهار)
دليلنا: أن من لم يلزمه الإمساك أول النهار، لا في الظاهر ولا في الباطن.. لم يلزمه إمساك بقيته، كما لو دامت هذه الأعذار.
وإن قدم المسافر، أو أقام وهو صائم، أو برئ المريض وهو صائم.. فهل يلزمهما إتمام الصوم؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي على بن أبي هريرة -: أنه لا يلزمهما؛ لأنه أبيح لهما الفطر أول النهار، ظاهرًا أو باطنًا، فأبيح لهما في آخره، كما لو أفطرا.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو ظاهر النص -: أنه يلزمهما إتمام الصوم؛ لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص، فهو كما لو استفتح الصلاة في السفر، ثم أقام أو اتصل بدار إقامته. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 160] : الوجهان إذا قدم، ولم ينو الصوم من(3/472)
الليل، ولم يفطر. فأما إذا كان قد نوى الصوم من الليل، وقدم قبل أن يأكل.. لزمه إتمام الصوم، وجهًا واحدًا.
[فرع: وطء المسافر المفطر]
وإن قدم المسافر وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم.. جاز له وطؤها.
وقال الأوزاعي: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه أبيح لهما الإفطار، فلا يحرم وطؤها، كما لو كانا مسافرين.
[مسألة: صوم الحامل والمرضع]
] : وإن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، دون الكفارة، كالمريض.
وإن خافتا على ولديهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، وفي الفدية ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الصحيح -: أن عليهما الكفارة لكل يوم مد من طعام، وبه قال أحمد بن حنبل، إلا أنه يقول: (مد من بر، أو مدان من تمر أو شعير) .
والدليل على ما ذكرناه: ما روي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -(3/473)
وأرضاهم: أنهما قالا: (الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.. أفطرتا، وأطعمتا مكان كل يوم مسكينًا) . ولا يعرف لهما مخالف.
والقول الثاني: تجب الفدية على المرضع دون الحامل، وهي إحدى الروايتين عن مالك؛ لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها، فهي كالمريض، بخلاف المرضع.
والثالث - حكاه أبو علي في " الإفصاح "، وليس بمشهور -: أنه لا يجب على واحدة منهما كفارة، وهو قول الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة؛ لأنه إفطار لعذر، فلم تجب به الكفارة، كإفطار المريض.
وروي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أنهما قالا: (لا تجب عليهما الكفارة دون القضاء)
دليلنا: أنه إفطار بعذر يزول، فوجب فيه القضاء، كالمرض.(3/474)
[مسألة: شرط وجوب الصوم]
] : ولا يجب صوم رمضان إلا بدخول الشهر، ودخول الشهر يعلم بأمرين: إما برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، هذا قول كافة الفقهاء.
وقال بعض الناس: يعلم دخوله بذلك، ويعلم بالحساب والنجوم: أن الهلال قد أهل، فيلزمه، وهذا ليس بصحيح، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة ثلاثين» .(3/475)
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» . وهذا يمنع من الرجوع إلى قول المنجمين.
[فرع: معرفة خطأ بداية رمضان]
] : فإن أصبحوا يوم الثلاثين من شعبان وهم يظنون أنه من شعبان، ثم قامت البينة أنه من شهر رمضان.. لزمهم قضاؤه.(3/476)
وقال أبو حنيفة: (إذا نووا الصوم.. أجزأهم) . وبناه على أصله: أن النية تصح من النهار، والكلام عليه يأتي.
دليلنا: أنه لم ينوه من الليل، فلم يجزه، وهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمهم؛ لأنه أبيح لهم الفطر، فلم يجب عليهم الإمساك، كالحائض إذا طهرت.
والثاني: يلزمهم، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره؛ لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان، وقد بان أنه من رمضان.
فإذا قلنا: بهذا: فهل يكون صوما شرعيًا يثابون عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون صومًا شرعيًا، ولا يثابون عليه؛ لأنه لا يعتد به، فهو كما لو أكل عامدًا، ثم أمسك بقية النهار.
والثاني: يكون صومًا شرعيًا، ويثابون عليه، وهو الصحيح؛ لأن ذلك حصل بغير تفريط، بخلاف من أكل عامدًا، فإنه مفرط.
قال ابن الصباغ: ويجب أن يقال: إن في الإمساك الواجب ثوابًا بكل حال، وإن لم يكن ثواب مثل ثواب الصوم. قال: وحكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: أنه إذا لم يأكل، ثم أمسك فإنه يكون صائمًا من حين أمسك.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على مذهب الشافعي؛ لأنه واجب، فلا يصح بنيته من النهار، ولأنه لا يجزئه عن رمضان، ولا يقع نفلًا في رمضان، قال: وينبغي أن يكون ما قاله أبو إسحاق: أنه إمساك شرعي، يثاب عليه خاصة.
[فرع: رؤية الهلال نهارًا]
] : وإن رئي الهلال بالنهار، فهو لليلة المستقبلة، سواء رئي قبل الزوال أو بعده، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.(3/477)
وقال الثوري، وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال.. فهو لليلة الماضية، وإن رئي بعد الزوال.. فهو لليلة المستقبلة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره.
وقال أحمد: (إن كان في أول الشهر، ورئي قبل الزوال.. فهو للماضية، وإن كان رئي بعد الزوال.. فهو للمستقبلة، وإن كان في آخر الشهر، فإن رئي بعد الزوال فهو للمستقبلة وإن رئي في آخر الشهر ورئي قبل الزوال ... ففيه روايتان:
أحدهما: أنه للماضية. والثانية: أنه للمستقبلة.
دليلنا: ما روى أبو وائل شقيق بن سلمة: قال) جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا.. فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس) .
وروي في هذا الخبر (فإذا رأيتم الهلال أول النهار.. فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان ذوا عدل أنهما رأياه بالأمس) . وقد روي ذلك عن علي، وابن مسعود، وأنس، ولا مخالف لهم في ذلك.
[فرع: اختلاف المطالع]
] : وإن رأوا الهلال في بلد، ولم يروه في بلد آخر.. نظرت:
فإن كانا متقاربين.. وجب الصوم على الجميع، وإن كانا متباعدين.. ففيه وجهان:(3/478)
أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار الصيمري -: أنه يلزم الجميع الصوم، وهو قول أحمد ابن حنبل، كما لو كان البلدان متقاربين.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو إسحاق في" المهذب " غيره -: أنه لا يلزم أهل البلد الذين لم يروه، لما روي «عن كريب: أنه قال: (أرسلتني أم الفضل بنت الحارث من المدينة إلى معاوية بالشام، فقدمت الشام، فقضيت حاجتي بها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، وذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
فإذا قلنا: بهذا: ففي اعتبار القرب والبعد وجهان:
أحدهما: وهو قول المسعودي [في الإبانة ق\156] والجويني -: أن البعد مسافة القصر فما زاد، والقرب دون ذلك.
والثاني - حكاه الصيمري -: إن كان إقليما واحدا.. لزم جميع أهله برؤية بعضهم، وإن كانا إقليمين.. لم يلزم أهل أحدهما برؤية أهل الآخر.
وقال ابن الصباغ: إن كانا بلدين لا تختلف المطالع لأجلهما، كبغداد والبصرة.. لزمهم برؤية بعضهم، وإن كانا بلدين تختلف المطالع فيهما، كالعراق(3/479)
والحجاز، والشام وخراسان، وما أشبه ذلك.. لم يلزم أحدهما برؤية الآخر. وحكاه عن الشيخ أبي حامد.
[فرع: انتقال المسافر الصائم لبلد آخر]
] : وإن رأى رجل الهلال في أول رمضان ليلة الجمعة في بلد، فصام ثم سافر إلى بلد بعيد في أثناء الشهر، وأهل ذلك البلد رأوا الهلال ليلة السبت.. قال المسعودي [في الإبانة \ ق\] : فحكمه حكم أهل البلد الذي انتقل إليه، وليس له أن يفطر قبلهم؛ لما روي) أن ابن عباس أمر كريبًا أن لا يفطر إلا بإفطار أهل المدينة) .
[مسألة: الشهادة في الصوم]
] : وفي الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان قولان:
[أحدهما] : قال في البويطي: (لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين) . وبه قال مالك، والليث.
و [الثاني] : قال في القديم والجديد: (يثبت بشهادة واحد) . وبه قال أحمد بن حنبل، وابن المبارك.
وقال أبو حنيفة: (إن كان غيمًا.. قبل فيه شهادة الواحد، وإن كان صحوًا.. لم يقبل فيه شهادة الواحد ولا الاثنين، وإنما يقبل فيه قول الجماعة إذا انتشر واستفاض) .
فإذا قلنا: لا يقبل إلا من اثنين.. فوجهه: ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: أنه قال: صحبنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونقلنا عنهم الأخبار، فكان مما أخبرونا به: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة، وإن شهد على رؤيته ذوا عدل.. فصوموا» .(3/480)
وإذا قلنا: يقبل من واحد.. فوجهه: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «تراءى الناس الهلال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأيته، فأخبرته بذلك، فصام، وأمر الناس بالصيام» وروي عن ابن عباس: «أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله. فقال: نعم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قم يا بلال، فناد في الناس أن يصوموا غدًا» إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال [الإبانة \ ق، 115] : لا تعتبر العدالة الباطنة في الشهادة على رؤية الهلال، وتشترط فيه العدالة الظاهرة.(3/481)
[فرع: الشهادة لغير رمضان]
] : فأما هلال شوال وسائر الشهور: فلا يقبل فيه إلا شهادة شاهدين، قولا ً واحدا، وهو قول كافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال) يقبل في هلال شوال عدل واحد) .
دليلنا: ما روي عن طاووس: أنه قال: دخلت المدينة وبها ابن عباس وابن عمر، فجاء رجل إلى الوالي، فشهد عنده على هلال شهر رمضان، فأرسل إليهما، فقالا «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم بشهادة الواحد، ولا يقبل في الفطر إلا شاهدين» ولأن هذه شهادة يلحق الشاهد فيها التهمة، فكان من شرطها العدد، كسائر الشهادات.
[فرع: شهادة غير الذكر]
] : إذا قلنا: تقبل شهادة الواحد في هلال شهر رمضان.. فهل يقبل قول العبد والخنثى والمرأة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقبل كما يقبلون في الإخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: لا يقبلون، وهو الصحيح؛ لأن طريقه طريق الشهادة، بدليل: أنه لا يقبل من الصبي، ولا من الفرع مع حضور الأصل، وإن كان ذلك مقبولًا في الإخبار.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قول أبي إسحاق: لا يفتقر ذلك إلى سماع الحاكم، بل إذا سمع ذلك ممن يثق به.. وجب عليه الصيام.(3/482)
[فرع: عدم رؤية الهلال آخر رمضان]
] : إذا شهد شاهد واحد برؤيته هلال رمضان، وقلنا: يقبل، فصاموا، وتغيمت السماء في آخر الشهر، ولم يروا الهلال.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص، وبه قال أبو حنيفة -: (أنهم يفطرون) .
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يفطرون؛ لأنه إفطار بشاهد واحد، وهذا لا يصح؛ لأن الصوم قد لزمهم، والفطر ثبت على سبيل التبع له، كما نقول في النسب: لا يقبل فيه شهادة النساء.
ولو شهد أربع نسوة بالولادة.. ثبت النسب تبعًا للولادة.
وإن شهد على هلال رمضان شاهدان، فصاموا، ولم يروا الهلال آخر الشهر، والسماء مصحية.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يفطرون؛ لأن عدم الهلال مع الصحو يقين، والحكم بالشاهدين ظن، واليقين يقدم على الظن.
و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنهم يفطرون) ؛ لأن شهادة الاثنين يثبت بها الصوم، فيثبت بها الفطر.
[فرع: الصيام بخبر الثقة]
] : قال الشافعي: (وإن عقد رجل على أن غدًا عنده من شهر رمضان في يوم شك، وصام ثم بان أنه من رمضان.. أجزأه) .
قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا أخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد، فصدقه، وإن لم يقبل الحاكم شهادتهن فنوى الصوم، فصام، ثم بان أنه من(3/483)
شهر رمضان.. أجزأه؛ لأنه نوى الصوم بضرب من الظن، فأما إذا نوى الصوم جزافًا، وبان أنه من شهر رمضان.. لم يجزئه.
فأما إذا كان عارفًا بحساب المنازل أن غدًا من شهر رمضان، أو أخبره بذلك من هو من أهل المعرفة بذلك، فصدقه، فنوى الصوم.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، وهو قول أبي العباس ابن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ذلك سبب يتعلق به غلبة الظن عنده، فهو كما لو أخبره من يثق بخبره عن مشاهدة.
والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن النجوم والحساب لا مدخل لها في العبادات، فلا يتعلق بها حكم منهما.
إذا ثبت هذا: فهل يلزمه بذلك الصوم؟
قال ابن الصباغ: أما بالحساب: فلا يختلف أصحابنا أنه لا يجب عليه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب: أن الوجهين في الحساب بالوجوب.
وأما إذا أخبره برؤية هلال رمضان من يصدقه، ولم يقبل الحاكم شهادته ... قال ابن الصباغ: فيبنى ذلك على أنه هل يسلك له مسلك الإخبار، أو مسلك الشهادة؟
فإن قلنا: إنه شهادة.. لم يلزمه حتى يثبت عند الحاكم.
وإن قلنا: يسلك به مسلك الإخبار.. لزمه إذا صدقه وإن لم يثبت عند الحاكم، ويفترق الحال بين الوجوب وبين جواز الدخول، فيكفي في الدخول ما لا يتعلق به الوجوب، ألا ترى أنه إذا سمع مؤذنًا.. جاز له أن يقلده ويصلي، ولا يلزمه ذلك حتى يعلم دخول الوقت، وكذلك الملتقط إذا ذكرت له العلامات في اللقطة.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه إلا ببينة.
[فرع: وجوب الصوم برؤية الهلال لمن ردت شهادته]
] : وإن رأى إنسان هلال شهر رمضان وحده، ولم يقبل الحاكم شهادته.. وجب عليه أن يصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عامة الفقهاء.(3/484)
وقال أبو ثور، والحسن، وعطاء، وإسحاق: (لا يلزمه الصوم) .
وقال أبو حنيفة (يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فيه.. لم تلزمه الكفارة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه عنده من شهر رمضان بيقين فلزمه الصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، كما لو قبل الحاكم شهادته.
وإن رأى هلال شوال وحده.. أفطر، ولكنه يستخفي بذلك؛ لئلا يعرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان.
وقال مالك، وأحمد: (لا يجوز له أن يفطر) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأفطروا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه قد تيقن أنه من شوال، فحل له الأكل، كما لو قامت البينة.
[مسألة: صوم الأسير]
] : قال الشافعي (وإن اشتبهت الشهور على أسير، فتحرى شهر رمضان، فوافقه أو ما بعده.. أجزأه) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان أسيرًا في بلاد الشرك، ولم يعلم دخول شهر رمضان، أو كان محبوسًا في مطمورة في بلاد الإسلام، ولم يعلم دخول شهر رمضان، لزمه أن يتحرى؛ لأن عليه فرض الصيام، فلزمه أن يتحرى له.
فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم بنفسه في بعض الأهلة أنه شهر رمضان، فصامه ... نظرت:(3/485)
فإن بان له أن الشهر الذي صامه كان شهر رمضان.. أجزأه، وبه قال عامة الفقهاء، إلا الحسن بن صالح بن يحيى الكوفي، فإنه قال: عليه الإعادة.
دليلنا: أنه أدى العبادة بالاجتهاد، فإذا وافق الفرض. أجزأه، كالقبلة.
وإن وافق شهرًا بعد رمضان.. أجزأه؛ لأن بذهاب الشهر قد استقر في ذمته، فأكثر ما فيه: أنه أتى بالقضاء بينية الأداء. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\ 158] : إذا وافق شهرًا بعد شهر رمضان.. صح، وهل يكون قضاء أم أداء؟ فيه قولان.
فإن وافق صوم شهر شوال.. لم يصح صوم يوم الفطر، فإن كان الشهران تامين.. لزمه أن يقضي صوم يوم الفطر، وكذلك إن كانا ناقصين، وإن كان شهر رمضان ناقصًا وشوال تامًا.. لم يلزمه قضاء يوم الفطر، وإن كان شهر رمضان تامًا، وشوال ناقصًا.. كان عليه أن يقضي يومين، يومًا ليوم الفطر، ويومًا لنقصان الهلال.
وإن كان الشهر الذي صامه ذا الحجة.. فإن يوم النحر لا يصح صومه، وكذلك: لا يصح صوم أيام التشريق، على الصحيح من المذهب. فإن كان هو ورمضان تامين أو ناقصين.. كان عليه أن يقضي صوم أربعة أيام، وإن كان شهر رمضان تامًا وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم خمسة أيام، وإن كان شهر رمضان ناقصًا، وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم ثلاثة أيام.
وإن كان الشهر الذي صامه يصح صوم جميعه، كسائر الشهور، فإن كان شهر رمضان والشهر الذي صامه تامين أو ناقصين. فلا شيء عليه، وإن كان الشهر الذي صامه ناقصا وشهر رمضان تاما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يقضي يوما آخر، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . فأوجب على من لم يصم رمضان مثل عدة أيامه.
والثاني: لا يلزمه أن يقضي صوم يوم آخر؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، تامًا كان أو ناقصًا ولهذا يجزئه في نذر صوم شهر.(3/486)
وذكر ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد ذكر على هذا: إذا صام شهر شوال، وكان هو ورمضان ناقصين. أنه يلزمه قضاء يومين؛ لأنه يلزمه أن يقصي شهرًا بالهلال، أو ثلاثين يوماُ، ولم أجد في التعليق عنه إلا ما ذكرته أولًا. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\158] : إن كان شهر رمضان تامًا، والشهر الذي صامه بعده ناقصًا: فإن قلنا: إن الصوم بعد رمضان يقع قضاء.. لزمه صوم يوم آخر، وإن قلنا: إنه أداء.. أجزأه؛ لأن شهر رمضان لو كان هو الناقص.. أجزأه.
وإن وافق صومه شهرًا قبل شهر رمضان نظرت:
فإن بان له هذا قبل شهر رمضان. وجب عليه أن يصوم شهر رمضان.
وإن بان له ذلك في أثناء رمضان.. لزمه أن يصوم ما بقي منه، والكلام فيما فات منه على ما يأتي إذا فات جميعه.
وإن بان ذلك بعد فوات شهر رمضان. فقد قال الشافعي: (لا يجزئه حتى يوافق شهر رمضان، أو ما بعده) ، ثم قال (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا)
فقال أبو إسحاق: لا يجزئه، قولا واحدًا، وقول الشافعي: (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا) لم يخبر عن نفسه، وإنما أخبر به عن غيره.
وقال سائر أصحابنا، فيه قولان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة، أو تجب في السنة مرة، فإذا أداها قبل وقتها بالاجتهاد.. أجزأه، كالوقوف بعرفة، وفيه احتراز من الصلاة.(3/487)
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 158] . وهذا قد شهده، ولم يصمه، وإنما صام قبله.
ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى قبل الوقت بالاجتهاد، وفيه احتراز من الحج.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق158] : وأصل القولين فيها: القولان إذا وافق ما بعد شهر رمضان:
فإن قلنا: يقع قضاء.. لم يجزه؛ لأن القضاء لا معنى له قبل الأداء.
وإن قلنا: أداء؟ أجزأه؛ لأنا نجعل شهر رمضان منقولا إلى ما أداه إليه اجتهاده. هذا إذا غلب على ظنه دخول الشهر بأمارة.
فإن لم يغلب على ظنه دخوله بأمارة.. قال ابن الصباغ: حكي أن الشيخ أبا حامد قال: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين، ويقضي، كالمصلي إذا لم تغلب على ظنه القبلة.. فإنه لا يلزمه أن يصلي.
[مسألة: وجوب النية]
] : ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام، واجبًا كان أو تطوعًا، إلا بالنية، وبه قال عامة العلماء.
وقال عطاء، ومجاهد، وزفر بن الهذيل: إذا كان الصوم متعينًا، مثل: أن يكون صحيحًا مقيمًا في رمضان.. لم يفتقر إلى النية.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية، وإنما أراد به: لا حكم للأعمال إلا بالنية.(3/488)
إذا ثبت هذا: فإنه يجب أن ينوي لكل يوم نية.
وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (إذا نوى صوم جميع الشهر في أول ليلة منه.. أجزأه لجميعه) .
دليلنا: أن صوم كل يوم عبادة منفردة لا تفسد بفساد ما قبله، ولا بفساد ما بعده، فلم يكفه نية واحدة، كالصلوات، وفيه احتراز من ركعات الصلاة، فإن الصلاة بمجموعها عبادة واحدة، وكل ركعة تفسد بفساد ما قبلها وما بعدها من الركعات، ومن أركان الحج أيضا.
[فرع: تبييت النية]
] : ولا يصح صوم شهر رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل، وروي ذلك عن ابن عمر وحفصة بنت عمر، وبه قال مالك، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (صوم شهر رمضان والنذر المعين يصح بنية من النهار قبل الزوال) .
دليلنا: ما روت حفصة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام من الليل.. فلا صيام له " وروي: "من لم يبت الصيام» ، يعني: من لم يقطع. ذكره الهروي.(3/489)
وروي: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر.. فلا صيام له "، يعني: من لم ينو الصيام.
وروي: "من لم يؤرض الصيام» ، ومعناه: يمهده، وسميت الأرض: أرضًا؛ لتمهيدها، وروي: "يفرضه".
وهل يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءه، كالصلاة، وإنما رخص في تقديمها، للمشقة.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أنه لا يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر.. فلا صيام له» ، ولأنا لو قلنا: يجوز بنية مع طلوع(3/490)
الفجر.. لأدى إلى أن يعرى جزء من الصوم عن النية؛ لأنه لا يعرف الفجر إلا بطلوعه.
قال ابن الصباغ: ولأن من أصحابنا من أوجب إمساك جزء من الليل؛ ليكمل له صوم النهار، فوجب تقديم النية على ذلك.
إذا ثبت هذا: فالمذهب: أن جميع الليل وقت لنية الصوم.
وقال بعض أصحابنا: يجب أن ينوي في النصف الأخير منه، كما نقول في أذان الصبح. وهذا ليس بشيء؛ لحديث حفصة.
فإن نوى في أول الليل، ثم جامع، أو أكل، أو شرب، أو انتبه من نومه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: إذا نوى، ثم نام، ولم ينتبه إلى آخر الليل.. لم يلزمه تجديد النية، وإن انتبه، أو جامع، أو أكل، أو شرب.. لزمه تجديد النية؛ لأن ذلك ينافي النية.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يلزمه تجديد النية، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ولو كان ذلك يمنع صحة النية ... لم يجز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر.
وقيل: إن أبا إسحاق لم يصح منه هذا، ولم يذكره في شرحه.
وقيل: إنه رجع عنه.
وإن أصبح شاكًا في النية، أو تيقن النية، وشك: هل نوى قبل الفجر، أو بعده؟
قال الصيمري: لم يجزه. ولو نوى ثم شك: أطلع الفجر، أم لا؟ أجزأه.(3/491)
[مسألة: تعيين النية]
] : ولا يصح صوم شهر رمضان إلا بتعيين النية، وهو أن ينوي أنه صائم غدًا من شهر رمضان، وهل يفتقر إلى نية الفرض، أو الواجب؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى ذلك؛ لأنه قد يقع نفلًا في حق الصبي.
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن صوم شهر رمضان لا يكون في حق البالغ إلا فرضًا. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى التعيين) . فإن كان حاضرًا في رمضان، فنوى أن يصوم غدًا عن نذر، أو كفارة، أو نافلة.. جاز عن رمضان، وإن نوى أن يصوم مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان أيضا، وإن كان مسافرا، فإن نوى الصوم عن النافلة، أو مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان، وإن نوى أن يصوم عن نذر، أو كفارة.. أجزأه عنهما، وكان عليه أن يقضي عن شهر رمضان.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . وهذا لم ينو، ولأن الصوم عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعيين النية، فافتقر أداؤها إلى تعيينها، كالصلاة، وعكسه الحج، فإنه لا يفتقر أداؤه ولا قضاؤه إلى تعيين النية.
[فرع: نية الصيام لفرض مجهول]
] : قال الصيمري: إذا علم أن عليه صوما واجبا لم يعرفه من شهر رمضان أو نذر، فنوى صوما واجبا.. أجزأه، كمن نسي صلاة من خمس صلوات لم يعرف عينها.. فإنه يصلي الخمس، ولو نوى: أنه يصوم غدا إن شاء زيد، أو عمرو، أو إن نشطت.. لم يجزه. ولو قال: ما كنت صحيحا أو مقيما.. أجزأه. ولو قال: أصوم غدًا إن شاء الله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح؛ لأن الأمور بمشيئة الله تعالى.(3/492)
والثاني - وهو قول الصيمري -: أنه لا يصح؛ لأن قوله: إن شاء الله، يبطل حكم ما اتصل به، كما إذا علق البيع والنكاح والطلاق على مشيئة الله تعالى.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: إن قصد بذلك الشك في فعله.. لم يصح، وإن قصد أن فعل ذلك موقوف على مشيئة الله، وتمكينه، وتوفيقه.. صح صومه؛ لأن ذلك لا يرفع النية.
[فرع: تحديد النية بيوم وسنة]
] : إذا قال: أصوم غدا سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. فذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه لا تصح نيته. قال: وإن نوى أن يصوم غدا في هذه السنة يظنها سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. صحت نيته.
ولو نوى أن يصوم غدا يظنه يوم الاثنين، فكان يوم الثلاثاء.. قال القاضي أبو الطيب: أجزأه.
قال ابن الصباغ: ولا فرق عندي في هذه المسائل، وتعيينه العدد، كتعيينه السنة، وينبغي أن يجزئه في الكل.
[فرع: نية الحائض]
] : قال الجويني: ولو نوت المرأة الصوم بالليل، وهي حائض، فانقطع دمها قبل طلوع الفجر.. أجزأتها تلك النية.
وحكى الشاشي فيها وجها آخر: أنه لا يصح.
[فرع: تعيين النية مع الشك]
] : وإن نوى ليلة الثلاثين من شعبان، فقال: أصوم غدا من شهر رمضان أو تطوع، فإن كان من شهر رمضان.. لم تصح، لأنه لم يخلص النية لرمضان، ولأن الأصل أنه من شعبان.(3/493)
وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا صائم عن تطوع، فكان من شهر رمضان لم يصح، لأن الأصل أنه من شعبان.
وإن قال ليلة الثلاثين من شهر رمضان: إن كان غدا من رمضان.. فأنا صائم عن شهر رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا مفطر، فكان من شهر رمضان صح صومه، لأن الأصل أنه من شهر رمضان.
وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان أو مفطر، فإن كان من رمضان.. لم يصح صومه، لأنه لم يخلص النية للصوم.
وإن كان عليه قضاء يوم من شهر رمضان، فقال في بعض الأيام: أصوم غدا عن قضاء شهر رمضان أو تطوعا.. لم يصح عن القضاء، ووقع تطوعا. وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، لأن التطوع لا يفتقر إلى تعيين النية.
دليلنا: أن زمان القضاء يصلح للتطوع، فإذا سقطت نية الفرض بالتشريك.. بقيت نية التطوع، فوقع.
[فرع: نية الخروج من الصوم]
] : وإن نوى الصائم الخروج من الصوم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل؛ لأنها عبادة تجب الكفارة بجنسها، فلا تبطل بنية الخروج منها، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة.
والثاني: يبطل، وهو الأظهر؛ لأنها عبادة تفتقر إلى تعيين النية، فتبطل منه بنية الخروج منها، كالصلاة، وفيه احتراز من الحج، ولأن الحج لا يخرج منه بما يفسده، والصوم يخرج منه بما يفسده، ومعنى ذلك: أنه إذا أكل في الصوم عامدا، ثم جامع فيه لم تجب عليه الكفارة.
وكذلك: إذا جامع في الصوم عامدا، ثم جامع فيه ثانيا.. لم يتعلق بالثاني(3/494)
كفارة، والحج إذا جامع فيه وفسد، ثم قتل فيه صيدا، أو جامع ثانيا.. وجبت عليه الكفارة.
أما المضي في فاسدهما: فإنه يجب عليه في الحج والصوم.
فإذا قلنا: بهذا: فنوى في خلال نهار صوم النذر نقله إلى صوم الكفارة.. لم ينتقل إلى الكفارة، ويبطل صوم النذر، وهل ينتقل إلى التطوع؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في الإبانة ق\157] بناء على ما لو نوى في حال الصلاة أنه نقلها لصلاة أخرى.. فلا تنتقل إليها، وهل تبطل، أم تبقى نافلة؟ قولان.
قال أصحابنا البغداديون: يبطل الصوم والصلاة، ولا يقعان نافلة.
[مسألة: النية في التطوع]
] : ولا يصح صوم التطوع إلا بالنية، لما ذكرناه في الفرض، ولكن يصح بنية من النهار، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وروي ذلك عن أبي طلحة من الصحابة.
وقال مالك، والمزني، وداود: (لا يصح بنية من النهار) . وروي ذلك عن ابن عمر في الصحابة، وجابر بن زيد من التابعين.
دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل(3/495)
علي، فيقول: "هل من طعام؟ "، فأقول: لا، فيقول: "إني صائم"، وفي بعض الأخبار: أنه قال: "هل من غداء؟ "، فقلت: لا، فقال: "إني إذن صائم» .
ولنا من الخبر أدلة:
منها: أنه إنما طلب الطعام، لأنه كان مفطرا، فلما لم يجد.. صام.
والثاني: أن الظاهر من قوله: "إني صائم" إنما صام؛ لفقد الطعام.
والثالث: قوله: "إني إذا صائم"، وهذه اللفظة في لسان العرب موضوعة لاستئناف الشيء وابتدائه في المستقبل.
إذا ثبت هذا: فهل يجوز بنية بعد الزوال؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأنه جزء من النهار، فصحت نية التطوع فيه، كما قبل الزوال.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النية لم تصحب معظم النهار، فلم يصح، كما لو نوى مع غروب الشمس.
وإذا نوى صوم التطوع من النهار.. فهل يكون صائمًا من أول النهار، ويثاب عليه، أو من وقت النية لا غير. فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار المسعودي [في " الإبانة "ق\ 157]-: أنه يكون صائمًا من وقت النية لا غير؛ لأن ما قبل النية لم يوجد فيه القصد إلى القربة، فلم يثب عليه.
والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يكون صائما من أول(3/496)
النهار؛ لأن الصوم في اليوم لا يتبعض، فلا يجوز أن يكون مفطرًا في أوله صائما في آخره، وقول الأول: أنه لم يوجد فيه القصد منه على القربة من أول النهار.. فغير صحيح؛ لأنه قد وجد منه القصد في معظم النهار، فجعل في الحكم كأنه قصد القربة من أوله، كما نقول فيمن أدرك الركوع مع الإمام.. فإنه يجعل في الحكم كأنه أدرك الركعة معه من أولها.
فإذا قلنا: بهذا: وكان قد أكل قبل نية الصوم.. لم يصح صومه، وجهًا واحدًا.
وإذا قلنا: بالأول: وأنه يكون صائمًا من وقت النية، وكان قد أكل في النهار قبل النية.. فهل يصح صومه؟ فيه وجهان، حكاهما في" الإبانة " [ق\157] :
أحدهما - وإليه ذهب الشيخ أبو زيد، وأبو العباس ابن سريج - أنه يصح صومه؛ لأنا قد حكمنا بأنه صائم من وقت النية، ولا اعتبار بما قبل ذلك.
والثاني: لا يصح صومه، وهو المشهور؛ لأنه وإن لم يحكم بصومه إلا من وقت النية، فلا يمتنع أن يشترط في ذلك تقديم شرط على ذلك، كما أنه إذا أدرك الجمعة.. فجمعته من حين أدرك، ويشترط تقديم الخطبة على ذلك الوقت.
[مسألة: وقت الصوم]
] : ويدخل في الصوم بطلوع الفجر الثاني، ويخرج منه بغروب الشمس، وروي ذلك عن عمر وابن عباس.(3/497)
وروي عن حذيفة: (أنه لما طلع الفجر.. تسحر، ثم صلى) . وروي معنى ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر هذا فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.
وحُكي عن الأعمش، وإسحاق: أنهما قالا: يجوز الأكل إلى طلوع الشمس.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
فإن جامع قبل طلوع الفجر، وأصبح وهو جنب.. صح صومه، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي ذر،(3/498)
وزيد بن ثابت، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال الحسن، وسالم بن عبد الله: يصوم، ويقضي. وروي ذلك عن أبي هريرة.
دليلنا: ما روت عائشة، وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبًا من جماع، لا احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا وأريد الصوم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا أُصبح جنبًا وأريد الصوم، فأغتسل، وأصوم"، فقال: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»(3/499)
وإن طهرت الحائض قبل الفجر، وأخرت الغسل حتى أصبحت.. لم يؤثر في صومها.
وقال الأوزاعي: (عليها القضاء) .
دليلنا: ما ذكرناه في الجنب، فإن طلع عليه الفجر، وفي فمه طعام، فأكله، أو كان مجامعًا، فاستدام، أو تحرك لغير الإخراج.. وجب عليه القضاء.
وإن لفظ الطعام، أو أخرج مع طلوع الفجر ... لم يبطل صومه.
وقال المزني وزفر: إذا أخرج مع طلوع الفجر.. لزمه القضاء.
دليلنا: أن الإخراج ليس بجماع، وإنما هو ترك للجماع، بدليل: أنه لو كان في دار، فحلف لا أقام فيها، فأخذ في الخروج منها.. لم يحنث.
[فرع: الشك بطلوع الفجر]
] : إذا شك هل طلع الفجر، أم لا. فالمستحب له: أن لا يأكل؛ لئلا يغرر بالصوم، فإن أكل، ولم يبن له طلوع الفجر.. لم يجب عليه القضاء.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يفسد صومه، وعليه القضاء) .
دليلنا: أن الأصل بقاء الليل، وجواز الأكل، فلم يجب عليه القضاء بالشك.
وإن شك في غروب الشمس.. لم يحل له أن يأكل فإن أكل، ولم يتبين له أن الشمس كانت قد غربت.. وجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، وتحريم الأكل.(3/500)
[مسألة: الأكل عمدًا نهارًا]
] : إذا أكل الصائم بالنهار وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، وهو إجماع، وإن صب الماء في أنفه، فوصل إلى دماغه.. بطل صومه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، والأوزاعي، وداود: (لا يفطر إلا إن وصل إلى جوفه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» . فلا يستقصي في المبالغة، فيصير سعوطا، فلولا أن الفطر يتعلق بما يصل منه.. لما نهى عنه.
ولأن ما يصل إلى دماغ الإنسان يغذي كما يغذي ما يصل إلى الجوف، فوجب أن يفطر به، كالواصل إلى الجوف.
فإن صب الماء في أذنه، فوصل إلى دماغه.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وأبي علي السنجي -: أنه يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى دماغه، فهو كالسعوط.
والثاني - وهو قول المسعودي [في " الإبانة " ق\ 159]-: أنه لا يبطل صومه؛ لأنه لا ينفذ من الأذن إلى الدماغ، وإنما يصل إليه بالمسام، فهو كما لو وصل الكحل من(3/501)
العين إلى الحلق، وكما لو دهن جلدة بطنه.. فإن جلده يتشرب، ويتحقق أنه يصل إلى البطن ولا يفطر بذلك، بخلاف ما يصل من الأنف، فإنه يصل بمنفذ.
وذكر في " الفروع " إذا دهن بالليل فأحس بالدهن في حلقه بالنهار.. لم يفطر، في قول عامة أصحابنا.
وقال ابن القاص: يفطر؛ لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، فيؤدي على النزول إلى الحلق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الريق لا يفطر الصائم.
[مسألة: دخول شيء بأحد السبيلين]
] : وإن احتقن الصائم، أو قطر في إحليله شيئا، أو أدخل فيه ميلا.. أفطر به، سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل.
وقال الحسن بن صالح، وداود: (لا يفطر بذلك) .
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر بالتقطير في الإحليل) .
وقد حكى الشيخ أبو إسحاق وجها لبعض أصحابنا في التقطير وإدخال الميل بالإحليل: أنه لا يفطر به؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف، فهو كما لو ترك في فمه شيئا.
وقال في " الإبانة " [ق\159] : إن وصل إلى المثانة.. أفطر، وجها واحدا، وإن وصل إلى باطن الذكر، ولم يصل إلى المثانة.. ففيه وجهان. والأول هو المذهب؛ لأنه جوف، فتعلق الفطر بالواصل إليه، كالبطن.(3/502)
[مسألة: وصول شيء للجوف]
] : وإن كان به جائفة أو آمة، فداواها، فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه.. بطل صومه، سواء كان الدواء رطبا أو يابسا.
وقال مالك، وداود: (لا يفطر) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان الدواء رطبا أفطر، وإن كان يابسا لم يفطر) دليلنا: أنه وصل إلى جوفه باختياره، فهو كالبطن.
وإن جرح نفسه، أو جرحه غيره بإذنه، فوصلت السكين إلى دماغه أو جوفه.. أفطر.
فقال أبو حنيفة: (إن نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر.. أفطر، وإن لم تنفذ لم يفطر) .
دليلنا: ما ذكرناه في السعوط والحقنة.
وإن طعن فخذه، فوصل إلى العظم، أو لم يصل.. لم يفطر؛ لأن ذلك ليس بجوف.
[مسألة: دخول شيء لا يفطر عادة]
] : إذا ابتلع الصائم مالا يؤكل في العادة، مثل الحصى والتراب.. أفطر بذلك.
وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بذلك.
وعن أبي طلحة صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان يأكل البرد وهو صائم، ويقول:(3/503)
(ما هو طعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء تطهر به بطوننا) .
دليلنا: أن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا لم يمسك، ولأنه ذاكر لصومه، وأوصل إلى جوفه ما يمكنه الاحتراز منه، فأفطر، كما لو أكل أو شرب معتادًا.
[مسألة: الإفطار بوصول خيط للجوف]
] : لو أخذ بيده خيطًا، وأدخله في حلقة حتى وصل شيء منه إلى جوفه.. أفطر به.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر) .
وحكى صاحب " العدة ": أن ذلك وجه لبعض أصحابنا. وليس بمشهور؛ لأنه ولو وصل إلى جوفه باختياره مع ذكره للصوم، فهو كما لو ابتلعه جميعه.
وإن استاك فدخل إلى جوفه شيء من رطوبة السواك أو خشبه المتشعثة منه.. قال صاحب " الإبانة "ق\ 160] : أفطر بذلك.
[مسألة: دخول ما يجري مع الريق للجوف]
] : إذا أصبح الصائم، وكان بين أسنانه من الطعام ما يجري به الريق، فخرج بنفسه وجرى مع الريق، قال الشيخ أبو حامد: أو أخرجه، فجرى مع الريق إلى جوفه بغير اختياره.. لم يفطر؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز منه، فعفي عنه، كغربلة الدقيق وغبار الطريق إذا دخل فم الإنسان، ونزل في حلقه.(3/504)
وأما إذا خرج بنفسه، أو أخرجه وأمكنه أن يرمي به، فلم يفعل، بل ابتلعه وهو ذاكر للصوم.. بطل صومه.
وقال أبو حنيفة: (لا يفطر به) .
دليلنا: أنه ابتلع طعامًا يمكنه الاحتراز منه باختياره، فهو كما لو أكل بنفسه.
وإن نزل الريق إلى حلقه على ما جرت به العادة.. لم يفطر، وهكذا: لو اجتمع الريق في فمه بغير اختياره، مثل: أن يطيل الكلام، فيجتمع لأجله الريق، فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه إلى جوفه، ولم يمكنه رميها.. لم يفطر بذلك؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز عن ذلك.
وإن أخرج الريق من فيه إلى يده، وابتلعه، أو أخرج نخامة من صدره أو رأسه وأمكنه رميها، فلم يفعل، وابتلعها.. أفطر بذلك؛ لأنه قد أمكنه الاحتراز منه.
وحكى في " العدة " وجهًا آخر: أنه إذا جذب النخامة من رأسه إلى فمه، ثم ازدردها منه.. أنه لا يفطر بذلك.
والأول أصح وإن ابتلع ريق غيره.. أفطر بذلك.
فإن قيل: فقد روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها»
قيل: يحتمل أن يكون مص اللسان في غير الصوم، ويحتمل أن لا يبتلع ذلك وإن جمع في فيه ريقًا كثيرًا، ثم ابتلعه.. ففيه وجهان:(3/505)
أحدهما: يفطر؛ لأنه قد أمكنه أن لا يجمع في فمه ريقًا كثيرًا، فإذا فعل.. صار كما لو شرب ماء.
والثاني: لا يفطر؛ لأنه أوصل إلى جوفه من معدنه، فهو كما لو كان قليلًا.
[مسألة: القيء عمدًا]
] : إذا استدعى القيء فتقيأ.. أفطر، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، وإن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه، وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال عطاء، وأبو ثور: (إذا تقيأ عامدًا.. قضى، وكفر) . وقال أبو ثور: (وإن ذرعه القيء.. قضى، ولا كفارة عليه) .(3/506)
وقال ابن عباس، وابن مسعود: (لا يؤثر القيء في الصوم، سواء كان عامدًا أو غلبه) دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استقاء.. فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه»
وروى زيد بن أسلم، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يفطر من قاء، أو احتجم، أو احتلم»
[مسألة: جماع الصائم]
] : ويحرم على الصائم المباشرة في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] إلى قوله {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] فإن أولج ذكره في الفرج، أو الدبر، وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، سواء أنزل أو لم ينزل؛ لأن ذلك ينافي الصوم فأبطله، كالأكل.
وإن باشرها فيما دون الفرج، بأن قبل، أو لمس، فإن أنزل.. بطل صومه، وإن(3/507)
لم ينزل.. لم يبطل صومه؛ لما روي «عن عمر: أنه قال: قبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمرًا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال: "أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟ "، قلت: لا بأس به، قال: "فمه» فإن قبلها فأمذى.. لم يفطر.
وقال أحمد: (لا يفطر) .
دليلنا: أنه خارج لا يوجب الغسل، فإذا انضم إلى المباشرة.. لم يفسد الصوم، كالبول.
وإن جامع قبل طلوع الفجر، ثم أنزل بعد طلوعه.. لم يفسد صومه؛ لأنه تولد عن مباشرة مباحة، فلم يجب عليه بذلك شيء، كما لو قطع يد رجل قصاصا، فمات المقتص منه.
وإن نظر وتلذذ، فأنزل.. لم يفطر، سواء كرر النظر أو لم يكرره، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن أنزل من النظرة الأولى.. أفطر، ولا كفارة عليه، وإن كرر النظر، فأنزل.. أفطر، وقضى , وكفر) .
ودليلنا: أنه إفطار عن غير مباشرة، فهو كالاحتلام.
وإذا استمنى بكفه، فأنزل.. أفطر، كما لو قبل، فأنزل.
وإن حك ذكره لعارض، فأنزل.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، ويشبه أن يكون ذلك بناء على القولين فيمن سبق الماء إلى حلقه في المضمضة والاستنشاق.(3/508)
وإن احتلم في نهار رمضان.. لم يفطر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام» ، ولأن هذا حصل بغير اختياره، فهو كما لو طارت في حلقه ذبابة، ودخلت جوفه بغير اختياره.
[مسألة: الإفطار ناسيًا]
] : وإن أكل، أو شرب، أو جامع ناسيًا.. لم يبطل صومه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال ربيعة، ومالك: (يفسد صومه، وعليه القضاء في الأكل والجماع)
وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل.
قال أحمد: (يجب في الجماع القضاء والكفارة، ويجب في الأكل القضاء لا غير) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل ناسيًا أو شرب ناسيا.. فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله» فنص على الأكل والشرب، وقسنا عليه غيره.(3/509)
فإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم.. لم يبطل صومه؛ لأنه يأثم بذلك، فهو كالناسي.
وإن أوجر رجل الطعام في حلقة وهو مكره، أو أكره امرأته وهي صائمة حتى وطئها، أو استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يبطل الصوم بشيء من ذلك؛ لأنه حصل بغير اختيار، فهو كما لو ذرعه القيء.
وإن أكره الرجل حتى أكل بنفسه، أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل الصوم؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم مع العلم به، لدفع الضرر عنه، فهو كما لو أكل للجوع.
والثاني: لا يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو أوجر في حلقه.
وإن أكره الرجل حتى وطئ، فإن قلنا: في المرأة: إذا أكرهت حتى مكنت بطل صومها.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: في المرأة: لا يبطل صومها.. فهاهنا وجهان.
والفرق بينهما: أن الوطء من الرجل لا يكون إلا بالانتشار، وذلك يدل على الشهوة والاختيار.
[فرع: الإيجار لمرض]
] : ذكر في " الإبانة " [ق\160\ أ] : لو أغمي عليه، فأوجر دواء.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطر؛ لأنه مغلوب لم يقصده.
والثاني: يفطر؛ لأنه أوجر عامدًا لمداواته، فهو كما لو مرض وتناول دواء.(3/510)
[فرع: سبق الماء لفم الصائم]
] : وإن تمضمض، فسبق الماء إلى حلقه، أو استنشق، فوصل الماء إلى دماغه.. ففيه قولان:
أحدهما: يبطل صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، كما لو قبل.. فأنزل.
والثاني: لا يفطر، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو طارت ذبابة على حلقه، ودخلت جوفه.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يبالغ، فأما إذا بالغ: بطل صومه، قولًا واحدًا، وهو اختيار الشيخين أبي حامد وأبي إسحاق، وابن الصباغ.
ومنهم من قال: القولان في الحالين.
وقال الحسن، والنخعي: إن توضأ للمكتوبة.. لم يفطر، وإن توضأ لنافلة.. أفطر، وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: أنه شرع المضمضة والاستنشاق في الطهارة للنافلة كما شرعا في الطهارة للفريضة، فاستوى حكمهما.(3/511)
[مسألة: المفطر بالظن الخاطىء]
مسألة: [المفطر بالظن الخاطئ] : وإن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت، ولم تكن غابت.. فالمنصوص للشافعي: (أنه يجب القضاء) . وهو قول كافة العلماء.
وقال إسحاق بن راهويه، وداود، والحسن، ومجاهد: (لا يجب عليه القضاء)
وحكي المسعودي [في " الإبانة ق\ 160] : أن من أصحابنا من قال: إن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن كان هذا الظن في غروب الشمس.. وجب عليه القضاء، واحتجوا: بما روي: أن الناس في زمان عمر ظنوا أن الشمس قد غربت، فأفطروا، ولم تكن قد غربت، فقال عمر: (والله لا نقضي ما تجانفنا فيه لإثم) ، يعني: ما ملنا إليه.
دليلنا: أنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى يظن أن الشمس قد زالت، ثم بان أنها لم تزل.(3/512)
وما روي عن عمر. وقد روي عنه: أنه قال: (قضاء يوم سهل) فبتعارض الروايتين عنه يسقطان، ويبقى لنا القياس.
[مسألة: الفطر بغير الجماع]
] : إذا أفطر بغير الجماع عامداً، عالماً بالتحريم، بأن أكل، أو شرب أو باشر فيما دون الفرج، فأنزل.. وجب عليه القضاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استقاء.. فعليه القضاء"، ولأنه إذا وجب القضاء على من أفطر بعذر.. فلأن يجب على غير المعذور أولى، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولكن لا حرمة لهذا الإمساك، فلو جامع فيه.. لم تجب عليه الكفارة.
واختلف العلماء فيه، كم يقضي عن كل يوم؟
فمذهبنا: أنه يقضي عن كل يوم يوماً.
وقال ربيعة: يقضي عن كل يوم اثني عشر يوماً بعدد شهور السنة.(3/513)
وقال سعيد بن المسيب: يقضي عن كل يوم شهراً
وقال النخعي: يصوم عن كل يوم ثلاثة آلاف يوم.
وقال علي وابن مسعود: (لا يقضيه صوم الدهر وإن صامه)
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان أن يقضي يوماً مكانه» ، ولأنها(3/514)
عبادة، فاستوى فيها عدد قضائها وعدد أدائها، كالصلاة،
ولا يجب عليه الكفارة الكبرى، وهي كفارة الجماع.
وقال أبو حنيفة: (تجب الكفارة الكبرى بالجماع التام في نهار شهر رمضان، وهو الوطء في الفرج وبالأكل التام، وهو أن يأكل ما يغتذي به، فإن أكل حصاة أو تراباً.. لم تجب فيه الكفارة) .
وقال مالك: (كل إفطار بمعصية، فإنه يوجب الكفارة) .
دليلنا: أن غير الجماع سبب لا يجب الحد بجنسه، فلم تجب بالإفطار به الكفارة، كما لو تقيأ عامدا، وإن بلغ ذلك السلطان.. عزره؛ لأنه محرم لا يجب فيه حد ولا كفارة، فثبت فيه التعزيز، كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وهل تجب فيه الكفارة الصغرى، وهي: أن يطعم عن كل يوم مداً من طعام؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\164] :
أحدهما: يجب عليه؛ لأن عذره ليس بأقوى من عذر المرضع إذا أكلت لأجل ولدها، وتجب الفدية مع القضاء، فكذلك هذا.
والثاني: لا تجب، كما لا تجب الكبرى.
قال: والأول أصح.
[فرع: الفطر لإنقاذ الغريق]
] : قال في " الإبانة " [ق\164] : ولو رأى الصائم من يغرق في الماء، ولا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر ليتقوى.. فله الفطر، ويلزمه القضاء، وهل يلزمه أن يفدي بالمد عن كل يوم؟ فيه وجهان.(3/515)
[مسألة: إنزال الخنثى لا يفطر]
] : إذا أنزل الخنثى المشكل الماء الدافق في نهار شهر رمضان من آلة الرجال، أو من آلة النساء، لا عن مباشرة، أو رأى الدم من فرج النساء يوما كاملا.. لم يبطل صومه، لاحتمال أن يكون ذلك عضوا زائدا.
وإن أنزل الماء الدافق من فرج الرجال عن مباشرة، ورأى الدم من فرج النساء في ذلك اليوم، واستمر به الدم أقل مدة الحيض.. حكم بفطره؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد أنزل عن مباشرة، وإن كان امرأة.. فقد حاضت.
فإن استمر به الدم بعد ذلك اليوم أياما، ولم ينزل عن مباشرة من آلة الرجال.. لم يبطل الصوم إلا في الأيام التي ينفرد برؤية الدم والإنزال، ولا تجب الكفارة على من حكم ببطلان صومه هاهنا؛ لما ذكرناه على أصلنا.
[مسألة: كفارة الوطء]
] : إذا أولج الصائم ذكره في فرج امرأة في نهار رمضان عامدا، عالما بالتحريم، وهو حاضر.. فقد ذكرنا أنه يفسد صومه، وتجب عليه الكفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال النخعي، والشعبي: لا كفارة عليه، وحكي ذلك عن قتادة، وسعيد بن جبير.(3/516)
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، هلكت؟ فقال: "ما شأنك؟! " فقال: وقعت على امرأتي في نهار شهر رمضان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال: "صم شهرين متتابعين"، فقال: لا أستطيع، قال: "أطعم ستين مسكينا" قال: لا أجده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجلس"، فبينما هو جالس إذ أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر (والعرق) مكتل ضخم". فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذ هذا، وتصدق به"، فقال: يا رسول الله، أعلى أهل بيت أفقر منا؟! والذي بعثك بالحق نبيا، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال: فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه، وقال: "أطعمه عيالك» .
ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال وهو الشيخ إذ لم يطق الصوم: أطعم، فوجب أن يجب بإفسادها الكفارة، كالحج، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لأنه غير معذور في ذلك.
[فرع: وطء المسافر في الصيام]
] : إذا نوى المسافر الصوم، وقلنا: يجوز له الإفطار في ذلك اليوم فإن أفطر بالجماع مترخصا.. قضى الصوم، ولا كفارة عليه.
وقال أحمد: (عليه القضاء والكفارة)
دليلنا: أن كل صوم جاز له الإفطار فيه بالأكل جاز بالجماع، كالتطوع.
وإن أفطر بالجماع غير مترخص: ففيه وجهان، حكاهما فيه " الإبانة " [ق\163] :(3/517)
أحدهما: لا يكفر، كالمترخص.
والثاني: عليه الكفارة؛ لأنه لما لم يترخص.. صار كمقيم جامع، ألا ترى أن المسافر إذا نوى القصر، فقام بنية الإتمام.. جاز، ولو قام متعمداً من غير نية الإتمام.. بطلت صلاته.
[مسألة: الوطء في الدبر]
] : وإن لاط بغلام، أو أتى امرأة في دبرها.. فهو كالوطء في الفرح، وتجب به الكفارة.
وقال أبو حنيفة) لا تجب به الكفارة) .
دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فوجب فيه الكفارة، كالقتل.
وإن وطئ امرأة ناسياً أو جاهلاً بالتحريم.. فالمشهور من المذهب: أنه لا يجب عليه كفارة شيء.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\162] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن وطئ في الحج ناسياً أو جاهلاً؛ لأن كل واحد منهما عبادة يجب بإفسادها الكفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه من محظورات الحج، فاستوى فيه العمد والسهو، وهو كقتل الصيد وإتلاف شجر الحرم والحلق، فجاز أن يلحق به الجماع في أحد القولين، وجميع محظورات الصوم فرق فيها بين العمد والسهو، فكذلك الجماع.
[فرع: إتيان الصائم البهيمة]
] : وأما إتيان البهيمة: ففيه طريقان:
من أصحابنا من قال: إن قلنا: يجب به الحد.. أفسد الصوم، وأوجب الكفارة.
وإن قلنا: لا يجب به الحد.. لم يفسد الصوم، ولو يوجب الكفارة.(3/518)
ومنهم من قال: يفسد الصوم، ويوجب الكفارة، قولاً واحدا؛ لأنه فرج يجب الغسل بالإيلاج فيه، فهو كفرج المرأة.
[فرع: وطء الخنثى]
] : وإن أولج الخنثى المشكل ذكره في دبر رجل، أو في فرج امرأة أو دبرها، أو في فرج خنثى مشكل أو دبره.. لم يفطر الخنثى المولج؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، ويفسد صوم المولج فيه، ولا تجب عليه الكفارة؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، وإنما يكون كما لو أدخل إصبعه في الفرج أو الدبر، وذلك لا يفسد الصوم.
وإن أولج رجل ذكره في دبر خنثى مشكل.. أفطرا، ووجبت الكفارة على كل واحد منهما، إلا أن يكون المولج فيه جارية للمولج، فيكون كزوجته على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وإن أولج الرجل ذكره في فرج خنثى مشكل.. أفطر المولج فيه دون المولج؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة، إلا أن ينزل المولج، فيفطر، وإن أولج الخنثى ذكره في فرج خنثى مثله.. أفطر المولج فيه دون المولج، سواء أنزل المولج أو لم ينزل.
وإن أولج خنثيان كل واحد منهما آلته في فرج صاحبه أو في دبره، أو أولج هذا آلته في فرج صاحبه، وأولج الآخر آلته في دبر الآخر.. أفطرا جميعاً، ولا كفارة على واحد منهما. هكذا ذكره القاضي أبو الفتوح.
[فرع: وجوب القضاء والكفارة]
] : وهل يجب على المجامع قضاء اليوم الذي وطئ فيه مع الكفارة؟ حكى ابن القاص وابن الصباغ فيه قولين - سواء كفر بالعتق، أو الإطعام، أو الصوم-:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في نهار رمضان بالكفارة، دون القضاء.(3/519)
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب عليه القضاء؛ لأنه قد روي في الخبر: «وصم يوماً مكانه» .
وقال الأوزاعي: (إن كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، وإن كفر بالصوم.. لم يقض يوماً) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\163] : أن القولين إذا كفر بالصوم، فأما إذا كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، قولاً واحداً. وليس بشيء.
[مسألة: خصال الكفارة]
] : والكفارة الواجبة بإفساد الصوم بالجماع على الترتيب، فيجب عتق رقبة، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي.
وقال مالك: (هي على التخيير بين العتق، والصيام، والإطعام) .
وقال الحسن: هو مخير بين عتق رقبة، أو نحر بدنة، أو إطعام عشرين صاعاً أربعين مسكيناً.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هريرة.(3/520)
وأما صفة الرقبة والصيام والإطعام: فيأتي ذكره في كفارة الظهار إن شاء الله. إذا ثبت هذا: ووطئ الرجل زوجته في نهار رمضان وطئاً يجب به الكفارة.. فعلى من تجب الكفارة؟ ذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين:
أحدهما: تجب على كل واحد منهما كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان.. فعليه ما على المظاهر» ، يعني: من الكفارة، والزوجة قد أفطرت بالجماع، فوجب أن تكون عليها الكفارة، ولأنها عقوبة تتعلق بالجماع، فاستوى فيها الرجل والمرأة، كحد الزنا، وفيه احتراز من المهر.
والثاني: تجب الكفارة على الرجل وحده، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي جامع في نهار شهر رمضان بالعتق، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، فدل على أن هذا هو ما يجب بالجماع.
فإذا قلنا بهذا: فهل تجب الكفارة عنه وعنها، أو تجب عنه دونها؟ فيه وجهان:
وحكاهما ابن الصباغ قولين:(3/521)
أحدهما: تجب عليه عنه وعنها. وتعلق هذا القائل بقول الشافعي) والكفارة واحدة عنه وعنها) ، ولأنهما اشتركا في المأثم، فاشتركا في الكفارة.
والثاني: تجب عليه عنه دونها؛ لأنها حق مال يتعلق بالوطء، فكان على الزوج، كالمهر، وتأول هذا القائل قول الشافعي: أنه أراد: أنها تجزئ عنهما جميعاً.
فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه، فمن كان من أهل العتق.. أعتق، ومن كان من أهل الصيام.. صام، ومن كان من أهل الإطعام.. أطعم.
وإن قلنا: تجب الكفارة على الزوج، فإن قلنا: تجب عليه دونها.. اعتبر حاله أيضاً، وإن قلنا: يتحمل عنها.. نظرت:
فإن استوى حالهما، فإن كانا من أهل العتق.. أعتق رقبة، وكانت عنهما، والذي يقتضي المذهب: أن ولاءها يكون بينهما؛ لأن العتق فيها وقع عنهما. وإن كانا من أهل الصيام.. صام الزوج عن نفسه شهرين وصامت عن نفسها؛ لأن الصوم لا يتحمل. وإن كانا من أهل الإطعام.. أطعم ستين مسكيناً، وكان ذلك عنهما.
وإن اختلف حالهما، فإن كان الزوج أعلى منها، بأن كان من أهل الإعتاق، وهي من أهل الصيام أو من أهل الإطعام، فإن كانت حرة، وأعتق رقبة.. أجزأت عنهما؛ لأن من فرضه الصيام أو الإطعام.. يجزئ عنه العتق، كالحرة المعسرة، وهذا هو المشهور من المذهب.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق\ 164] وجهاً آخر: أنهما لا يتداخلان إذا كانتا من جنسين.
فعلى هذا: إن كانت من أهل الصيام.. صامت عن نفسها. وإن كانت من أهل الإطعام.. أطعم عنها. وليس بشيء. وإن كان الزوج من أهل الصيام، وهي من أهل الإطعام.. صام عن نفسه شهرين، وأطعم عنها ستين مسكيناً، لأن تحمل الإطعام عنها بالصوم لا يجوز.
وإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً من أهل العتق.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في(3/522)
" المهذب ": أن إعتاق الزوج يجزئ عنها على القول الذي يقول: إن الأمة تملك المال إذا ملكت، فأما على القول الآخر: فلا يجزئ عنها. وذكر الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: أن إعتاق الزوج لا يجزئ عنها؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والأمة لا يثبت لها الولاء. وهذا يدل على صحة ما ذكرته قبل هذا في الحرة، إذا أعتق الزوج، وقلنا: إن العتق عنهما.. أن الولاء بينهما.
وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " في المأذون: أن إعتاق العبد في الكفارة لا يصح على القولين؛ لأنه يتضمن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء.
وإن كانت الزوجة أعلى حالاً من الزوج، بأن كانت من أهل العتق، وهو من أهل الصيام أو الإطعام.. فإنه يصوم عن نفسه، أو يطعم ويتحمل عنها العتق في ذمته إلى أن يجد؛ لأن العتق إنما يسقط عن المعسر إذا كان عن نفسه، وهذا إنما هو تحمل عن الزوجة، وذلك يجري مجرى مؤنتها، فثبت في ذمته.
وإن كانت من أهل الصيام، والزوج من أهل الإطعام.. لم يتحمل عنها الصوم؛ لأنه لا يتحمل، بل تصوم عن نفسها، ويطعم عن نفسه
[فرع: وطء المسافر بعد قدومه]
فإن قدم الرجل من، سفره وهو مفطر، فإن وجد امرأته صائمة فأخبرته: أنها مفطرة، فوطئها.. أفطرت، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت الكفارة عليها دونه. وإن قلنا: تجب عليه الكفارة دونها.. لم يجب على واحد منهما كفارة. وإن قلنا: تجب عليه كفارة عنه وعنها.. وجبت الكفارة في مالها؛ لأنها غرته بأنها مفطرة.
وإن أخبرته بصومها، فوطئها وهي مطاوعة، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت عليها الكفارة دونه، وإن قلنا تجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة، وإن قلنا: يتحمل عنها.. لزمه أن يعتق عنها إن كانت من أهل(3/523)
الإعتاق، أو يطعم إن كانت من أهل الإطعام، وإن كانت من أهل الصوم.. صامت عن نفسها، وإن أكرهها على الوطء.. لم تفطر هي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
ولا يجب في هذا الوطء كفارة على الأقوال كلها؛ لأنه لا يجب عليه الكفارة؛ لكونه مفطراً، ولا يجب بسببها كفارة؛ لأنها مكرهة، وإن أكرهها حتى مكنته من الوطء.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمهما حكم ما لو كانت مطاوعة.
والثاني: حكمهما حكم ما لو كانت مكرهة.
وقد مضى دليلهما.
[فرع: وطء المجنون زوجته]
] : وإن وطئ المجنون امرأته وهي مطاوعة له.. أفطرت؛ لأنه لا عذر لها، ولا يفطر؛ لأنه معذور.
فإن قلنا: يجب على الفاعلين على كل واحد منهما كفارة.. وجب هاهنا على الزوجة في مالها كفارة، ولا يجب على الزوج كفارة؛ لأنه معذور.
وإن قلنا: يجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة.
وإن قلنا: يتحمل عنها.. فهاهنا وجهان:(3/524)
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: تجب الكفارة عنها في مال الزوج؛ لأن وطأه بمنزلة جنايته، وجنايته مضمونة في ماله.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجب عليه شيء؛ لأن المجنون لا قصد له ولا فعل له.
وإن استدخلت المرأة ذكر زوجها وهو نائم.. أفطرت، ولم يفطر الزوج، ولا كفارة عليه.
فإن قلنا: لو وطئها مختارين، يجب على كل واحد منهما كفارة، أو تجب عليه عنه وعنها.. وجبت الكفارة هاهنا في مالها دونه؛ لأنه معذور.
وإن قلنا هناك: يجب عليه الكفارة عنه دونها.. لم يجب بهذا الوطء كفارة.
وإن زنى بامرأة في نهار رمضان.. أفطر.
فإن قلنا في الزوجين: يجب على كل واحد منهما كفارة، أو يجب كفارة عليه عنه وعنها.. وجبت هاهنا على كل واحد منهما كفارة؛ لأن التحمل لحق الزوجية، ولا زوجية هاهنا.
وإن قلنا: يجب عليه كفارة دونها.. وجبت الكفارة هاهنا على الرجل دون المرأة.
[مسألة: الجماع في أيام]
] : وإن جامع في يومين من شهر رمضان أو في أيام.. وجب لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الأول أو لم يكفر.
وقال أبو حنيفة: (إن وطئ في اليوم الثاني قبل أن يكفر عن الأول.. كفاه لهما كفارة واحدة، وإن كان قد كفر عن الأول.. ففيه روايتان، الصحيح: أن عليه كفارة للثاني) .
دليلنا: أنه أفسد صوم يومين من شهر رمضان بالجماع، فلزمه كفارتان، كما لو كانا من شهرين، وإن وطئ في اليوم مرتين.. لزمه للأول كفارة، ولا يلزمه للثاني كفارة.(3/525)
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كفر للأول.. لزمه أن يكفر للثاني، وإن لم يكفر للأول، كفاه كفارة واحدة) .
دليلنا: أن الوطء الثاني لم يصادف صوماً، فلم تجب فيه الكفارة.
وإن لم ينو الصوم بالليل، وأصبح.. وجب عليه الإمساك لحرمة الوقت، فإن وطئ فيه.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن وطأه لم يصادف صوما.
[مسألة: الجماع حال الفجر]
] : وإن طلع الفجر وهو مجامع، فاستدام مع العلم بالفجر.. وجب عليه القضاء والكفارة، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الكفارة) . وبه قال المزني
دليلنا: أنه منع صحة صوم يوم من شهر رمضان بجماع تام أثم فيه، فلزمته الكفارة، كما لو وطئ في أثناء النهار. فقولنا: (منع صحة صوم يوم) حتى لا ينازعونا في الوصف؛ لأنا لو قلنا: إنه أفسد صوم يوم.. ربما قالوا: لا نسلم أنه أفسده، وإنما تركه.
وقولنا: (بجماع تام) احتراز مما لو باشرها فيما دون الفرج، فأنزل.
وقولنا: (أثم فيه) احتراز مما لو ظن أنه ليل، فجامع، ولم يعلم بطلوع الفجر، ثم تبين له بعد النزع أن وطأه صادف النهار.. فإن صومه لا يصح، ويجب عليه القضاء، ولا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تراد لتكفير الإثم، ولا إثم عليه هاهنا.
[مسألة: الجماع بعد الأكل ناسيا]
] : ولو أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك، ثم جامع.. ففيه وجهان:
أحدهما: - وهو المنصوص -: (أنه لا كفارة عليه) ؛ لأنه وطئ وهو يعتقد إباحته، فهو كما لو وطئ في وقت يعتقد أنه ليل، فبان أنه نهار، ويجب عليه القضاء.(3/526)
والثاني - وهو قول القاضي أبو الطيب - إن عليه الكفارة؛ لأن الذي ظنه-وهو كونه مفطرا بأكل الناسي- لا يبيح له الوطء، بخلاف ما لو ظن أنه الليل.
وإن أصبح المقيم صائما، ثم سافر، فجامع في ذلك اليوم.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه الكفارة) .
دليلنا: أن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، فلا تسقط الكفارة، كالسفر القريب.
وإن أصبح الصحيح صائما، ثم مرض وجامع في مرضه.. لم تجب عيه الكفارة؛ لأن المرض يبيح له الفطر.
وإن جامع، ثم سافر.. لم تسقط عنه الكفارة؛ لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، وإن جامع، ثم جن، أو مرض، أو حاضت المرأة في ذلك اليوم.. فهل تسقط الكفارة عن الرجل إذا جن أو مرض، وعن المرأة إذا حاضت؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلا يسقطها، كالسفر.
والثاني: تسقط، وبه قال أبو حنيفة، والثوري؛ لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض، فإذا خرج آخره عن أن يكون صائما فيه بالجنون أو الحيض، أو خرج عن أن يكون الصوم فيه مستحقا بالمرض.. خرج أوله عن أن يكون صوما أو مستحقا، فلم تجب فيه الكفارة.
[فرع: الجماع في قضاء رمضان]
] : إن وطئ في قضاء شهر رمضان.. لم تجب عليه الكفارة.
وقال قتادة: تجب.(3/527)
دليلنا: أنه جماع في غير نهار شهر رمضان.. فلم تجب فيه الكفارة، كما لو جامع في يوم النذر.
[فرع: التأويل في حديث الأعرابي]
مسألة: [التأويل في حديث الأعرابي] :
تكلم الشافعي على خبر الأعرابي الذي جامع في نهار شهر رمضان، وأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الشافعي: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذه فتصدق به " يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنه ما ملكه إياه، ولكنه تطوع عنه بالتكفير، وأمره بدفعه إلى المساكين، فلما أخبره بحاجته إليه.. أذن له في أن يأكله، ويطعمه عياله، فأفاد هذا التأويل أن التطوع عن الغير بالكفارة بإذنه يجوز.
والتأويل الثاني: يحتمل أنه ملكه إياه، وأمره أن يكفر به، فلما أخبره بحاجته.. أذن له في أكله، فأفاد هذا التأويل أن الكفارة لا تجب إلا في الفاضل عن الكفاية.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعمه عيالك» : فيحتمل ثلاث تأويلات:
إحداهن: أنه أذن له في إطعامه عياله، وتكون كفارة عنه، فأفاد هذا التأويل أن من تطوع عن غيره بالتكفير.. جاز له أن يصرفه إلى عيال المكفر عنه إذا كانوا محتاجين؛ لأنهم كغيرهم، وإنما لا يجوز ذلك إذا كان الذي يخرجها هو المكفر.
والتأويل الثاني: أنه أمره بأن يطعمه عياله، وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يجدها.
والتأويل الثالث: أنه أمره أن يطعمه عياله، وتسقط عنه الكفارة)
فخرج من هذين التأويلين الأخيرين للشافعي فيمن وجبت عليه الكفارة بسبب من جهته لا على سبيل البدل، وذلك ككفارة إفساد الصوم، والحج، وكفارة الظهار، والقتل، واليمين، فعجز عنها.. فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط عنه وتكون في ذمته إلى أن يجدها، وهو الصحيح؛ لأن(3/528)
الأعرابي قد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعجزه عن التكفير، فأمر له بعرق فيه تمر، وأمره أن يتصدق به، فلو كانت قد سقطت عنه.. لما احتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دفعها إليه، ولأنها كفارة وجبت بسبب من جهته، فلم تسقط بعجزه، كجزاء الصيد، وفيه احتراز من زكاة الفطر، فإنها لم تجب بسبب من جهته.
والثاني: أنها تسقط عنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن يطعمه عياله، ولم يخبره بأنها في ذمته إلى أن يجدها، ولأنه حق مال يجب لله تعالى لا على وجه البدل، فلم يجب مع العجز، كزكاة الفطر.
فقولنا: (حق مال) احتراز من الصوم على الحائض؛ فإنه ثبت في ذمتها.
وقولنا: (لله) احتراز من دين الآدمي.
وقولنا: (لا على وجه البدل) احتراز من جزاء الصيد.
[مسألة: صوم المغمى عليه]
] : إذا نوى الصوم من الليل، فأصبح، ثم أغمي عليه يومين أو ثلاثاً فإن أفاق بعد اليوم الأول.. لا يصح صومه؛ لأنه لم ينو الصوم فيه، وأما اليوم الأول: فقد قال الشافعي في (الصوم) : (إذا أفاق في بعض النهار.. أجزأه)
وقال في (الظهار) : (إذا كان مفيقاً في أول النهار.. أجزأه) .
وقال في " اختلاف العراقيين ": (إذا حاضت المرأة، أو أغمي عليها.. بطل صومها) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يعتبر أن يكون مفيقاً في أوله لا غير، وهو قول مالك؛ لأن الصوم يفتقر إلى الإفاقة، كما يفتقر إلى النية، والنية معتبرة بأوله، فكذلك الإفاقة.
والثاني: تعتبر الإفاقة في جميع النهار، وإذا أغمي عليه في جزء منه.. بطل صومه؛ لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض.(3/529)
والثالث: تعتبر الإفاقة في جزء من النهار، وهو قول أحمد؛ لأنه إفاقة في جزء من النهار، فأجزأه، كما لو كان مفيقاً في أوله.
وخرج أبو العباس قولاً رابعاً: أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في طرفي النهار لا غير، كما يعتبر في الصلاة النية في أولها وآخرها.
وقال أبو العباس: المسألة على قول واحد، وهو أن الإفاقة تعتبر في أوله لا غير، كما قال في (الظهار) ، وأما الذي ذكره في (الصيام) : فإنه أجمله وبين ذلك في الظهار، وأما الذي ذكره في " اختلاف العراقيين "": فإن ذلك راجع إلى الحيض" لأن من عادة الشافعي أن يجمع بين المسائل، ويعطف بالجواب على بعضها.
وقال المزني: يصح صومه، وإن لم يفق في جزء من النهار، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا نام جميع النهار.. فإن صومه يصح.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا نام جميع النهار.. لم يصح صومه، كما إذا أغمي عليه جميع النهار.
وما قالاه لا يصح؛ لأنه إذا أغمي عليه جميع النهار.. فقد وجدت منه النية، دون الترك، فلم يصح صومه، كما لو انفرد الترك عن النية.
وأما النوم: فلا يبطل الصوم؛ لأن النائم مكلف، والمغمى عليه غير مكلف.
[فرع: طروء الجنون في الصيام]
] : وإن نوى الصوم، ثم جن أياماً، فإن صوم ما بعد اليوم الأول لا يصح؛ لأنه لم ينو فيه الصوم، وأما صوم اليوم الأول: فحكى صاحب " المهذب " فيه قولين، وصاحب " الإبانة " [ق\ 161] حكاهما وجهين:
أحدهما: أنه كالإغماء؛ لأنه يزيل العقل، ويثبت الولاية على المال، فهو كالإغماء.
فعلى هذا: يكون على الاختلاف المذكور في الإغماء.
والثاني - وهو الصحيح، ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره -: أنه إذا(3/530)
طرأ الجنون - وإن قل في الصوم- أبطله؛ لأنه يسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض، ولأنه مناف لجميع العبادات، بخلاف الإغماء.
[مسألة: انغماس الصائم في الماء]
] : يجوز للصائم أن يصب على رأسه الماء وينغمس فيه، ما لم ينزل إلى حلقه؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً، ثم يغتسل، ثم يصوم»
ويجوز للصائم أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. لم يفطر، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي.
وقال أحمد، وإسحاق: (يكره له أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. أفطر) . وحكي عن ابن أبي ليلى، وابن شبرمة: أن الكحل يفطر.
دليلنا: ما روى أبو رافع قال: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ونزلت معه، فدعا بكحل إثمد، فاكتحل به في شهر رمضان وهو صائم» ، وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره للصائم السعوط، ولم يكره له الكحل»(3/531)
ولا يستحب للصائم الحجامة؛ لأنها تضعفه، فربما خرج إلى الإفطار وإن احتجم.. لم يفسد صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وأم سلمة، وابن مسعود، والحسن بن علي.
وذهبت طائفة إلى: أنه يفطر، وروي ذلك عن أبي هريرة، وعائشة، وهو قول الأوزاعي، وعطاء، والحسن.(3/532)
وقال أحمد، وإسحاق: (يفطر الحاجم والمحجوم) . واختاره ابن المنذر.
وعن أحمد في الكفارة روايتان.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم محرم» ، ولأنه دم خارج من ظاهر البدن، فأشبه دم الفصد.
[مسألة: لعلك للصائم]
مسألة: [العلك للصائم] قال الشافعي: (وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم) .
وجملته: أنه يكره للصائم مضغ العلك والكندر الذي إذا أصابه الماء والريق: اشتد؛ لأنه يجلب ريق الفم ويعطشه، فأما الكندر الذي يتهرى ويتفتت، فلا يجوز له(3/533)
مضغه، فإن نزل شيء من ذلك إلى جوفه.. فطره، وإن نزل ريحه.. لم يفطره؛ لأن ذلك ليس بجسم، ويكره للصائم مضغ الخبز، فإن كان معه صبي يحتاج إلى مضغ الخبز له.. لم يكره؛ لأنه موضع ضرورة، فإن نزل إلى حلقه.. أفطر.
[مسألة: القبلة للصائم]
] : ومن حركت القبلة شهوته، وخاف أن ينزل.. كرهت له وقال الشيخ أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: والكراهة كراهة تحريم، وإن لم تحرك شهوته.. لم يكره.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تكره القبلة للصائم بكل حال)
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تكره له بحال)
دليلنا: ما روي عن عائشة أُم المؤمنين: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل، ويباشر بعض نسائه، وهو صائم، وكان أملككم لإربه، فقيل: من هي إلا أنت؟ فضحكت» .
وقد روي: (لإربه) - بالكسر-: وهو العضو، ومنه قولهم: (قطعته إرباً إربا) .
وروي: (لأربه) - بالفتح -: وهو الحاجة.
وروى أبو هريرة: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القبلة للصائم؟ فأباحها له، وسأله آخر عنها، فكرهها له» . فيحمل ذلك على: أن الذي كرهها له شاب، والذي أباحها له شيخ.(3/534)
ولأنه يؤمن الإنزال وإفساد الصوم به في حق الشيخ، والشاب الضعيف، ولا يؤمن ذلك في حق الآخر.
[مسألة: مكروهات الصيام]
] : ويكره للصائم اللفظ القبيح، والمشاتمة، والغيبة أكثر مما تكره لغيره، فإن شاتمه غيره، قال: إني صائم؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه.. فليقل: إني صائم، إني صائم»
وحكى عن بعض الناس: أنه قال: لا يتلفظ به؛ لأنه يكون إظهاراً لعبادته؛ فيكون رياء، وإنما يقول ذلك في نفسه.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يحمل هذا على ظاهره، ويتكلم بذلك، ولا يقصد به الرياء، وإنما يقصد به كف الخصومة وإطفاء الشر بينهما، وإن خالف وشاتم.. لم يفطره، وهو قول كافة العلماء إلا الأوزاعي، فإنه قال: (يفطر بذلك) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يفطرن الصائم» فذكر منها الغيبة والنميمة والكذب.(3/535)
دليلنا: أنه نوع كلام، فلا يفطر به، كسائر أنواع الكلام.
وأما الخبر: فالمراد به: أنه يسقط ثوابه، حتى يصير في معنى المفطر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه والإمام يخطب: أنصت.. فلا جمعة له» . ولم يرد: أن صلاته تبطل، وإنما أراد: أن ثوابه يسقط، حتى يصير في معنى من لم يصل.
[مسألة: الوصال للصائم]
] : يكره الوصال في الصوم، وهو: ترك الأكل والشرب بالليل، وقد كان مباحاً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مكروه في حق غيره، وروي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أنه كان يواصل)
دليلنا: ما روى أنس، قال: «واصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فواصلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لو أن الشهر مد لي لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» فقيل: معنى هذا:(3/536)
أني أعطى قوة الطاعمين والشاربين. وقيل: أطعم وأسقى من طعام الجنة، وإنما يقع الإفطار بطعام الدنيا. وقيل: معناه: أن محبة الله تعالى تشغلني عن الطعام والشراب، والحب البالغ قد يمنع من الطعام والشراب، وهل يكره كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كراهية تحريم؛ لأنه قال: (فرق الله بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم) . وذكر عقيبه حديث الوصال، وكذلك ظاهر الحديث يدل على التحريم.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال يكره كراهية تنزيه؛ لأنه إنما نهى عنه لأجل المشقة بما يلحقه، وذلك غير متحقق، فلم يتعلق به التحريم.
فإن واصل.. كان صومه صحيحاً؛ لأن النهي لا يختص بالصوم، وإن أخر الإفطار، وواصل من سحر إلى سحر.. جاز؛ لما روى ابن المنذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فأيكم أراد أن يواصل.. فليواصل حتى السحر» .(3/537)
[مسألة: سحور الصائم]
] : يستحب للصائم أن يتسحر؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استعينوا بنوم النهار على قيام الليل، وبأكل السحور على صيام النهار»
وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تسحروا، فإن في السحور بركة» .
ويستحب تأخير السحور إذا تحقق بقاء الليل، وتعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس؛ لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسحر هو وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما فرغا.. قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، فقيل لأنس: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية»(3/538)
وروى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أُمتي بخير ما عجلوا الفطر» ، ولأن في ذلك مخالفة لليهود والنصارى؛ لأنهم يؤخرون الفطر، ولأن الفطر يحصل بغروب الشمس، فلا معنى لتأخير الأكل.
ويستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد.. فعلى الماء؛ لما روى سلمان بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فليفطر على التمر، فإنه بركة، فإن لم يجد.. فعلى الماء، فإنه طهور»
وروى أنس قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن.. فعلى تمرات، فإن لم تكن.. حسا حسوات من ماء»
ويكره للصائم إذا شرب الماء أن يتمضمض ويمج ذلك، ويستحب أن يدعو عند إفطاره، فيقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت؛ لما روى أبو هريرة(3/539)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك عند إفطاره)
وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه كان يقول عند إفطاره: (يا واسع المغفرة، اغفر لي)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر.. قال: " ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى»
ويستحب أن يفطر الصائم؛ لما روى زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فطر صائما.. كان له مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء»(3/540)
[مسألة: قضاء الصوم]
إذا كان عليه قضاء من أيام شهر رمضان.. فإن وقت القضاء فيما بينه وبين شهر رمضان الذي بعده، فالمستحب: أن يقضيه في أول ما يمكنه، فإن أخره حتى دخل رمضان آخر، فإن دام عذره بأن كان مسافراً أو مريضا حتى دخل الشهر الثاني.. صام رمضان، ثم يقضي عن الأول بعد رمضان، ولا شيء عليه.
وقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: (يطعم ولا يقضي)
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يسقط إلى الإطعام مع القدرة على فعله، كالأداء.
وإن لم يكن له عذر في التأخير.. فإنه يصوم رمضان، ثم يقضي ما عليه بعده، ويلزمه مع القضاء عن كل يوم مد، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.(3/541)
وقال أبو حنيفة (يقضي، ولا شيء عليه) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان لمرض، ثم لم يقض حتى جاء رمضان آخر.. صام الذي أدرك، ثم قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً»
واعتمد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن هذا الخبر فيه ضعف.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة: أنهم قالوا: (إذا أخر القضاء حتى جاء رمضان آخر.. فعليه الكفارة) . ولا مخالف لهم.
وإن أخره سنتين أو ثلاثاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب لكل سنة مد، قياسا ًعلى السنة الأولى.
والثاني: لا يجب؛ لأن الكفارة وجبت للتأخير فيما بين رمضانين، فلا تجب الفدية بتأخير سنة أخرى.
[مسألة: استحباب التتابع في القضاء]
] : والمستحب: أن يقضي ما عليه متتابعاً.
وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء.(3/542)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان عليه صوم من رمضان.. فليسرده ولا يقطعه» ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض، ولأنه أشبه بالأداء، فإن قضاه متفرقاً.. جاز، وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي.
وقال علي، وابن عمر، وعائشة: (التتابع واجب) وبه قال الحسن البصري،(3/543)
وعروة، والنخعي، وداود، إلا أن داود قال: (التتابع ليس بشرط في القضاء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ولم يفرق.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان عليه شيء من رمضان.. فليصمه إن شاء.. متتابعا، وإن شاء.. متفرقا» .
وإن كان عليه قضاء اليوم الأول من شهر رمضان، ونوى القضاء عن اليوم الثاني.. فقد خرج الشيخ أبو إسحاق فيها وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن تعيين اليوم غير واجب.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه، فهو كما لو كان عليه عتق عن كفارة اليمين، فنوى العتق عن كفارة الظهار.
[فرع: نذر صوم الدهر]
] : إذا نذر صوم الدهر، ثم أفطر في رمضان لعذر، وزال العذر.. كان عليه أن يقضي ما أفطر في رمضان؛ لأنه آكد من النذر.(3/544)
وهل يكون نذره منعقدا في أيام القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ والطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يكون منعقدا؛ لأن ترك القضاء إذا كان معصية.. صارت تلك الأيام كشهر رمضان.
فعلى هذا: يأتي بقضاء رمضان، ولا يلزمه لأجل النذر شيء.
والثاني: يكون النذر فيها منعقدا؛ لأنه كان له أن يصوم فيها عن نذره، فشابهت سائر الأيام.
فعلى هذا: إذا قضى شهر رمضان.. هل يلزمه لأجل القضاء شيء؟ قال أبو العباس: يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يلزمه شيء، كمن أفطر في رمضان بعذر، ودام عذره حتى مات.
والثاني: يلزمه الإطعام؛ لأنه كان يقدر على أن يصومه عن النذر.
فإذا لم يصمه عنه.. لزمه أن يأتي بفدية عنه، وله أن يخرج الفدية في حياته؛ لأنه قد أيس من القدرة عن الإتيان به، فكان كالشيخ الهم.
وهكذا: إذا نذر صوم الدهر، ثم لزمه صوم كفارة.. كان الحكم مثل هذا؛ لأنها تجب عليه شرعاً، وإن كان بسبب من جهته، فكان آكد من النذر الذي يوجبه على نفسه.
[مسألة: القضاء عن الميت]
] : إذا كان عليه قضاء من شهر رمضان، فلم يصم حتى مات.. نظرت:
فإن دام العذر إلى أن مات.. لم يجب أن يطعم عنه، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال قتادة، وطاوس: يطعم عنه لكل يوم مسكين.(3/545)
دليلنا: أنه فرض لم يتمكن من أدائه إلى الموت.. فسقط حكمه، كالحج.
وإن مات بعد أن تمكن من قضائه.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصوم عنه وليه) . وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام.. صام عنه وليه» ، ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال، فدخلتها النيابة بعد الوفاة، كالحج.
فإذا قلنا بهذا: فصام عنه الولي، أو أمر أجنبيا، فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة.. جاز، وإن صام عنه أجنبي بغير إذن الولي.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
والمشهور: أنه لا يصح.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح أن يصام عنه، بل يطعم عنه الولي لكل يوم مسكينا) . وهو الصحيح؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات(3/546)
وعليه صيام.. أطعم عنه وليه عن كل يوم مداً لمسكين» ، ولأن الصوم عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة، فلم تدخلها النيابة بعد الوفاة، كالصلاة، وعكسه الحج.
وأما الخبر: فمعناه: فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام.
فإن مات بعد ما أدركه شهر رمضان آخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مد واحد، وبه قال مالك؛ لأنه إذا أخرج مدا بدل الصوم.. فقد زال التفريط بالتأخير، فلم يجب لأجله شيء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه مدان: مد للصوم، ومد للتأخير؛ لأنه قد وجب عليه مد بالتأخير إلى دخول شهر رمضان، فإذا مات.. وجب عليه مد بدل الصوم.
قال أبو داود في "سننه ": وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله، أو قمته كله» ". قال: فلا أدري أكره التزكية؟ أو قال ذلك؛ لأنه لا بد له من نومة أو رقدة.
والله أعلم(3/547)
[باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها]
وليلة القدر يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال، والمستحب: أن يصومها متتابعة، فإن صامها متفرقة.. جاز، وبه قال أحمد.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك؛ خوف أن يلحق بالفريضة) .
قال مالك: (ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها)
دليلنا: ما روى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال.. فكأنما صام الدهر كله» . قال أصحابنا: وهذا صحيح في الحساب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصوم شهر رمضان يقوم مقام ثلاثمائة يوم، وهو عشرة أشهر، فإذا صام ستة أيام بعده.. قامت مقام ستين يوماً، وذلك شهران، وذلك كله عدد أيام السنة.(3/548)
[مسألة: صوم عرفة]
] : ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين: سنة قبلها ماضية، وسنة بعدها مستقبلة»
قال الصيمري: ومعنى ذلك: أنه يغفر له ذنب ذلك الزمان، أو بمعنى أنه يوفق للعمل الصالح في ذلك الزمان، ولا يستحب ذلك للحاج.
وروي عن عائشة، وابن الزبير: أنهما كانا يصومانه. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وقال عطاء: أصوم في الشتاء، وأفطر في(3/549)
الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة.
وقال أبو حنيفة (يستحب صيامه، إلا أن يضعف عن الدعاء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» ، وروت أم الفضل بنت الحارث: «أن ناساً اختلفوا عندها في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة: هل هو صائم، أو مفطر؟ فأرسلت إليه بقدح من لبن، وهو قائم على بعيره بعرفة، فشربه» .
ولأن الدعاء في هذا اليوم مستحب، والصوم يضعفه عن الدعاء.. فلم يستحب. ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، ومن الناس من قال: يوم عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، واليهود يعظمون يوم عاشوراء، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نحن أحق بموسى منهم "، فصامه، وأمر الناس بصيامه» .(3/550)
واليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون: هو يوم العاشر من المحرم، ولا خلاف أنه ليس بواجب في وقتنا.
واختلف أصحابنا: هل كان واجبا في أول الإسلام؟ [على قولين] :
فـ[الأول] : منهم من قال: إنه لم يكن واجبا، وإنما كان مستحبا؛ لما روي: «أن معاوية قدم إلى المدينة، فخطب الناس، وقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ هذا يوم عاشوراء، سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله لم يكتب علينا صيامه، وأنا صائم، فمن شاء.. صام، ومن شاء.. أفطر» .
والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: (إنه كان واجبا، ثم نسخ) ؛ لما روت عائشة: «أن قريشا كانت تصوم في هذا اليوم، فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان.. ترك صيامه» .
ويستحب أن يصوم اليوم التاسع من المحرم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود» .
وروي في لفظ آخر: «لئن عشت إلى قابل.. لأصومن التاسع والعاشر» .(3/551)
ويستحب أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال «وصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر..» .
وقالت حفصة أم المؤمنين: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأُخرى»
وقالت عائشة: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبالي من أي أيام الشهر يصوم» ، أي: هذه الثلاث.
وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان صائماً.. فليصم الأيام البيض»(3/552)
فقيل هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. هذا هو المشهور.
وقال الصيمري: وقيل: هي الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر.
ويستحب أن يصوم يوم الاثنين والخميس؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومهما) ، ويقول: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» ، وكان يقول: «ولدت في يوم الاثنين، وفيه أنزل علي القرآن»
[مسألة: صوم الدهر]
حال القدرة] ولا يكره صوم الدهر، إذا أفطر في أيام النهي، ولم يخف ضرراً من الصوم، ولو يضيع فيه حقاً عليه.
وقال بعض الناس: يكره(3/553)
وقال أبو يوسف: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه يضعفه عن العبادة، ويشبه التبتل الذي نهي عنه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن صام الدهر؟ فقال: "لا صام ولا أفطر» .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام الدهر.. فقد وهب نفسه من الله تعالى» .
وأما قوله: «لا صام ولا أفطر» : فيحتمل أنه أراد: إذا لم يفطر في أيام النهي، ويحتمل أن يكون: لأن صائم الدهر يعتاد ذلك، فلا تلحقه المشقة بالصيام، فيكون الصوم والفطر عنده سواء.
وإن خاف ضررا يلحقه، أو ضياع حق عليه.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء يزور أبا الدرداء، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟(3/554)
فقالت له: إن أخاك لا حاجة له في شيء من الدنيا، فلقيه سلمان، فقال: إن لربك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فذكر ذلك أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك» .
ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه» . فإن صامت بغير إذنه.. صح صومها، والثواب إلى الله سبحانه وتعالى.
[مسألة: استحباب إتمام الصيام]
] : إذا دخل في صوم تطوع، أو صلاة تطوع.. استحب له إتمامهما، فإن خرج منهما.. جاز، سواء كان بعذر أو بغير عذر، ولا قضاء عليه، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأحمد، وإسحاق.(3/555)
وقال الأوزاعي وأبو حنيفة) إذا أفسدهما، وخرج منهما قبل إتمامهما.. فعليه القضاء. والمنصوص: أنه لا يجوز له الخروج)
ومن أصحابنا من قال: يجوز.
وقال مالك: (إن خرج منها بعذر.. فلا قضاء عليه، وإن كان بغير عذر.. فعليه القضاء)
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله، خبأنا لك حيساً، فقال: "أما إني كنت أريد الصوم، ولكن قربيه» ، فأكل، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر»
«وروت أم هانئ: قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فناولني فضل شرابه فشربته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك؟(3/556)
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان قضاء رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت.. فاقضي، وإن شئت.. فلا تقضيه»
[مسألة: صوم يوم الشك]
] : ولا يجوز صوم يوم الشك عن شهر رمضان، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة.
وقال أحمد: (إن كانت السماء مصحية.. لم يجز صيامه، وإن كانت متغيمة.. وجب صيامه عن شهر رمضان) . وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، ومعاوية، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر(3/557)
وقال الحسن، وابن سيرين: إن صام الإمام ... صامت الرعية، وإن لم يصم الإمام.. لم تصم الرعية.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستقبلوا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يوماً»
فإن صامه عن تطوع.. نظرت:
فإن وافق عادة له، بأن كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فوافق ذلك يوم الشك، أو كان يصوم الدهر.. جاز صومه للخبر، وإن صامه تطوعاً من غير موافقة عادة له.. لم يصح؛ لأنه قربة، فلا يصح بفعل معصية، وإن صامه عن(3/558)
نذر أو قضاء.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان.. فقد عصى أبا القاسم» . ولم يفرق.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب الطبري، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يصح؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب.. كان الفرض أولى، كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه.
إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا انتصف شعبان.. فلا صيام حتى يكون رمضان» . واختلف أصحابنا في معناه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: معناه إذا أراد صوم يوم الشك عن التطوع الذي لا عادة له به، فإن وصله بما قبل النصف.. جاز، وإن وصله بما بعد النصف.. لم يجز.(3/559)
وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يكون ليتقوى به المفطر على صوم رمضان؛ لأن دليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين» يجوز أن يتقدمه بأكثر من ذلك.
إذا تقرر هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة " ق\157] : يوم الشك هو أن يختلف الناس في هلال رمضان، مثل: "أن يقول العبيد والصبيان: رأينا، فلم نقض بقولهم، فأما إذا لم يختلفوا.. فالشك غير متصور.
[مسألة: إفراد يوم الجمعة بالصوم]
] : وهل يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يكره، إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. واختاره صاحب " المهذب ".
وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن أبي هريرة؛ لما روي «عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه قال: (رأيت جابر بن عبد الله، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: هل نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: إي ورب هذا البيت» .(3/560)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "صمت أمس"؟ قالت: لا، قال: "أفتريدين أن تصومي غداً؟ "، قالت: لا، قال: "فأفطري» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده» ، ولأنه إذا صام يوماً قبله، قوي عليه، فلم يجهده يوم الجمعة.
والوجه الثاني: لا يكره، وهو المنصوص في رواية المزني، واختاره ابن الصباغ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه يوم لا يكره صومه إذا صام قبله أو بعده، فلم يكره إفراده بالصوم، كسائر الأيام، وعكسه الأيام التي نهي عن صيامها.
قال ابن الصباغ: وتأول الشافعي هذه الأخبار على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة، يعني: يوم الجمعة.
[مسألة: صوم العيدين]
وأما يوم النحر ويوم الفطر: فيحرم صومهما؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى: فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر: ففطركم عن صيامكم»(3/561)
فإن صام فيهما.. لم يصح صومه، وإن نذر صومهما.. لم ينعقد نذره.
وقال أبو حنيفة: (يحرم صومهما، وإن نذر صومهما.. انعقد نذره، ولزمه أن يصوم غيرهما، وإن صام فيهما.. أجزأه، وإن صام فيهما عن نذر مطلق.. لم يجزه) .
دليلنا: أنه نذر صوماً محرماً، فلم ينعقد نذره، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها.
[مسألة: صوم أيام التمتع]
] : وهل يصح صوم المتمتع في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) لما روي عن ابن عمر، وعائشة: أنهما قالا: (لم يرخص في صوم أيام التشريق، إلا لمتمتع لم يجد الهدي)
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه أنه من شهر رمضان»(3/562)
فإن قلنا بالقول القديم.. فهل يجوز أن يصوم فيها تطوعاً عن غير التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل يوم صح صومه عن التمتع.. صح صومه عن غير التمتع، كسائر الأيام.
والثاني: لا يجوز؛ لما ذكرناه عن ابن عمر، وعائشة: (أنه لم يرخص في صومها، إلا لمتمتع لم يجد الهدي) .
[فرع: الجود في رمضان وغيره]
والجود مستحب في جميع الأوقات لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/563)
قال: «الجنة دار الأسخياء»
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا»
ويستحب الإكثار من الجود والإفضال في شهر رمضان لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، فيعرض عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، فإذا لقيه.. كان أجود من الريح المرسلة بالخير»
[مسألة: فضل ليلة القدر]
] : ليلة القدر ليلة شريفة معظمة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] [القدر: 1] .
قال الشافعي: و (القدر) : الحكم، وسميت: ليلة القدر؛ لأن الله تعالى يقدر(3/564)
فيها ما يكون في تلك السنة، من خير، ومصيبة، ورزق، وغير ذلك) . والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] [القدر: 3] .
قال الشافعي: (معناه: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر) .
وروى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وقام ليلة القدر.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
إذا ثبت هذا: فإن ليلة القدر باقية في شهر رمضان، لم ترفع إلى الآن، وهي في العشر الأواخر منه؛ لما «روى أبو ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ليلة القدر رفعت مع الأنبياء، أم هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي باقية إلى يوم القيامة"، قال: فقلت: أفي رمضان، أم في غيره؟ فقال: "في شهر رمضان"، فقلت: في العشر الأول، أم الثاني، أم الثالث؟ فقال: "بل في العشر الأواخر»
إذا ثبت هذا: فيستحب طلبها في كل ليلة من العشر الأواخر، وهي في الليلة الحادي والعشرين أظهر.
ونقل المزني أو ليلة الثالث والعشرين) .
وقال المزني: أرى أنها تختلف في كل سنة في العشر الأواخر.(3/565)
قال ابن عمر: (هي ليلة ثلاث وعشرين) . وذهب أبي بن كعب إلى: (أنها ليلة الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين)
وقال أبو قلابة: (إنها تتقلب في كل ليلة منها) .
وقال مالك: (هي في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين) .
وقال ابن عباس: (هي ليلة السابع والعشرين) . واحتج: بأن سورة القدر ثلاثون كلمة، وقوله: (هي) تمام السبع والعشرين، فدل على: أنها ليلة السابع والعشرين.
دليلنا أنها تطلب في العشر: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر»(3/566)
وروى أبو سعيد الخدري أيضاً: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أريت هذه الليلة، وأردت أن أخبركم، فتلاحى رجلان، فأنسيتها، لكني سجدت صبيحتها في ماء وطين» .
قال أبو سعيد: «كان المطر في تلك الليلة، وكان المسجد عليه عريش، فوكف، فمر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته أثر الماء والطين صبيحة ليلة إحدى وعشرين»
وقال عبد الله بن أنيس: «مر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين صبيحة ليلة ثلاث وعشرين»
وأما قول ابن عباس: فـ (ليلة القدر) هي الكلمة الخامسة، وهي أصرح من قوله: (هي) ، ولا يدل على وجودها فيها.
وصفتها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء، مثل الطشت لا شعاع لها.
وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/567)
وأما الدعاء فيها: «فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله، إن وافقتها.. بم أدعو؟ فقال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني»
[فرع: تعليق الطلاق ونحوه على ليلة القدر]
] : إذا قال الرجل: امرأته طالق أو عبده حر ليلة القدر، فإن قال ذلك قبل أن تمضي ليلة من العشر الأواخر.. طلقت المرأة، وعتق العبد الليلة الأخيرة منها، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة منها ... لم يقع الطلاق ولا الحرية إلا في مثل تلك الليلة من السنة الثانية، لتيقن حصولها.
وبالله التوفيق(3/568)
[كتاب الاعتكاف](3/569)
كتاب الاعتكاف قال الشافعي: (والاعتكاف لزوم المرء شيئا، وحبس نفسه عليه، براً كان أو إثماً) .
قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] [الأعراف: 138] .
وقَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] [الأنبياء: 52] .
يقال: عكف يعكف ويعكف بكسر الكاف وضمها في المستقبل.
وأما في الشرع: فـ (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد على وجه القربة، وهو اسم منقول من اللغة إلى الشرع بنقصان، وهو عبادة مسنونة لا تجب إلا بالنذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يعتكف.. فليعتكف العشر الأواخر» ، يعني: من شهر رمضان، فعلقه بالإرادة.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلى أن قبضه الله تعالى» .(3/571)
[مسألة: شروط الاعتكاف]
ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل.
فأما الكافر: فلا يصح اعتكافه، أصلياً كان أو مرتداً، كما لا يصح منه الصلاة ولا الصوم.
وأما المجنون والمبرسم: فلا يصح منهما؛ ليسا من أهل العبادات، فلم يصح منهما، كالكافر، ويصح الاعتكاف من الصبي المميز، كما تصح منه الصلاة والصوم.
[مسألة: اعتكاف المرأة]
] : ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها؛ لأن استمتاعه بها في كل وقت ملك له، فلا يجوز تفويته عليه بغير إذنه.
ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه، لأن منافعه ملك لمولاه، فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه.
فإن اعتكفت المرأة بإذن زوجها، أو العبد بإذن مولاه، وكان تطوعاً.. جاز للزوج وللسيد إخراجهما منه.
وقال أبو حنيفة: (للسيد أن يخرج عبده، وليس للزوج أن يخرج زوجته) .
وقال مالك: (ليس للزوج إخراج زوجته، ولا للسيد إخراج عبده) .(3/572)
دليلنا على إخراج الزوجة: ما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لعائشة وحفصة وزينب أمهات المؤمنين في الاعتكاف، ثم منعهن من ذلك بعد أن دخلن فيه» .
ولأن من ملك منع غيره من الاعتكاف، فإذا أذن له في الشروع فيه - وكان تطوعا كان له منعه منه، كما لو لم يشرع فيه.
وإن أذن الزوج لزوجته بنذر الاعتكاف، أو أذن السيد لعبده بنذر الاعتكاف، فنذراه.. نظرت:
فإن كان غير متعلق بزمان بعينه.. لم يجز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج والسيد على الفور.
وإن كان متعلقاً بزمان بعينه.. جاز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه تعين عليه فعله بالإذن.
فإن أذن لأحدهما بالدخول في الاعتكاف في نذر لا يتعلق بزمان بعينه، فدخل فيه.. فهل يجوز له إخراجه منه؟ ينظر فيه:
فإن كان الاعتكاف متتابعاً.. لم يجز له إخراجه منه؛ لأنه لا يجوز له إبطال(3/573)
عبادته الواجبة، وقد صح اعتكافه، فلو جوزنا له إخراجه منه.. لبطل ما قد فعله، وذلك لا يجوز، كما نقول في الصلاة المفروضة.
وإن كان الاعتكاف غير متتابع.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه وجب بإذنه، ودخل فيه بإذنه، فهو كما لو كان متتابعاً.
والثاني: يجوز؛ لأنه يجوز له الخروج منه، فجاز إخراجه منه، كالتطوع، بخلاف المتتابع.
[مسألة: اعتكاف المكاتب]
] : ويجوز للمكاتب أن يعتكف بغير إذن مولاه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن عليه أن يكتسب، ويحصل النجوم، وذلك يبطل بالاعتكاف، وهذا ليس بشيء؛ لأن منافعه غير مملوكة لسيده فجاز له الاعتكاف بغير إذن السيد، كالحر.
وأما من نصفه حر ونصفه مملوك، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. فلا يجوز له أن يعتكف إلا بإذن سيده، لتعلق حق سيده من كل جزء في اليوم، وإن كان بينهما مهايأه.. جاز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لنفسه بغير إذن سيده؛ لأنه لا حق لسيده في منفعته فيه، ولا يجوز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لسيده إلا بإذنه؛ لأن منفعته له.
[مسألة: مكان اعتكاف المرأة]
] : ولا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد، فإن اعتكفت في مسجد بيتها - وهو الذي جعلته لصلاتها من بيتها- ففيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وصاحب " التتمة ":(3/574)
أحدهما - وهو قوله في الجديد - (أنه لا يصح) .
و [الثاني] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه موضع فضيلة صلواتها، فكان موضع اعتكافها، كالمسجد في حق الرجل، والأول أصح؛ لأنه موضع يجوز للجنب اللبث فيه، فلم يصح الاعتكاف فيه، كالصحراء. وأما الرجل: فهل يصح اعتكافه في مسجد بيته الذي جعله لصلاته؟
إذا قلنا في المرأة: لا يصح.. فالرجل أولى ألا يصح، وإن قلنا في المرأة: يصح.. ففي الرجل وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\166] ، الأصح: لا يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يستحب له الاستتار، بخلاف المرأة.
قال ابن الصباغ: فأما إذا جعل الرجل أو المرأة في داره مسجداً.. جاز له الاعتكاف فيه، وعلى سطحه؛ لأن السطح من جملة المسجد، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه.
[مسألة: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة]
] : ويصح الاعتكاف في جميع المساجد
وقال علي بن أبي طالب، وحماد: (لا يصح إلا في المسجد الحرام)(3/575)
وقال عطاء: لا يصح إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة.
وقال حذيفة: (لا يصح إلا في المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى)
وقال الزهري: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة. وحكى الشيخ أبو حامد: أن ذلك قول للشافعي في القديم. وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
فعم المساجد ولم يخص؛ ولأنه مسجد بني للصلاة، فجاز الاعتكاف فيه، كالمنفق عليه.
[فرع: تعيين المسجد للاعتكاف]
] : إذا نذر أن يعتكف في مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة.. لم يتعين عليه ذلك المسجد، وجاز له الاعتكاف في غيره من المساجد؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.(3/576)
ولو نذر أن يصوم في يوم معين.. لم يجز له أن يصوم في غيره من الأيام، والفرق بينهما: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره، فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الاعتكاف، فإنه لم يجب بأصل الشرع في موضع بعينه. هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا في المسجد المعين وجهين:
أحدهما: لا يتعين عليه، كما لو نذر الصلاة فيه.
والثاني: يتعين عليه الاعتكاف بذلك المسجد؛ لأن للمسجد تأثيراً في الاعتكاف، هو: أنه لا يصح إلا في مسجد، فتعين بالنذر، كالصوم بخلاف الصلاة، فإنها تصح في غير مسجد، قال أصحابنا البغداديون: قال ابن القاص: ولا يتعين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة إلا في موضعين:
أحدهما: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً، ثم يشرع فيه في مسجد، فلا يجوز له الانتقال إلى غيره؛ لأن خروجه للانتقال يقطعه، وذلك لا يجوز.
والثاني: أن ينذر اعتكاف سبعة أيام، وما زاد متتابعاً، فلا يجوز، إلا في المسجد الذي تقام فيه الجمعة.
وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام.. تعين عليه الاعتكاف فيه، ولا يسقط هذا النذر بالاعتكاف بغيره من المساجد؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك» ، ولأنه يختص بوقوع النسك فيه، وهو الطواف، فتعين الاعتكاف فيه بالنذر.(3/577)
إذا ثبت هذا: فالذي تبين لي أنه لا يسقط النذر إلا بالاعتكاف في الكعبة، أو فيما في الحجر من البيت، دون مسجد مكة، وقد مضى الدليل عليه في استقبال القبلة.
وإن نذر اعتكافاً في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، فأراد الاعتكاف عن هذا النذر في المسجد الحرام.. صح لأنه أفضل منهما وإن أراد الاعتكاف عن ذلك في غير ذلك من المساجد.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بالنذر، كسائر المساجد: المسجد.
والثاني: لا يصح، وهو قول أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»
[مسألة: الاعتكاف بغير صيام]
] : والمستحب: أن يعتكف وهو صائم؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأواخر من رمضان» فإن اعتكف بغير صوم، أو اعتكف بالليل، أو بالأيام التي لا يصح الصوم فيها.. صح اعتكافه، وبه قال في الصحابة علي، وابن مسعود، وفي التابعين الحسن، وفي الفقهاء أحمد، وإسحاق.(3/578)
وذهبت طائفة إلى: أن من شرط صحة الاعتكاف الصوم، ولا يصح في الأيام التي نهي عن الصوم فيها، ولا بالليل دون النهار، فإن اعتكف وهو صائم، فأفسد صومه.. فسد اعتكافه، ذهب إليه في الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن ابتدأ الاعتكاف ليلا.. جاز، وكان تبعاً للنهار)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أوف بنذرك» .
ولو كان الصوم شرطاً فيه.. لم يصح اعتكافه بالليل.(3/579)
فإن نذر أن يعتكف يوماً بصوم، فاعتكف من غير صوم.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يصح اعتكافه، وعليه أن يصوم يوماً آخر، كما لو نذر أن يعتكف مصلياً، أو قارئاً، فاعتكف بغير صلاة ولا قراءة.
والثاني: لا يصح اعتكافه، وهو المنصوص؛ لأن الصوم صفة مقصودة بالاعتكاف، فإذا أخل به.. لم يصح اعتكافه، كالتتابع.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: فإن نذر أن يعتكف شهراً بصوم، فاعتكف شهراً صائماً عن قضاء لم يجزه خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه التزم بنذره اعتكافه بصفة وهو أن يكون صائما عن نذره فلم يجزه إذا صامه عن القضاء كما لو اعتكف من غير صوم.
وإن نذر أن يعتكف شهر رمضان، فمضى الشهر، ولم يعتكف فيه.. قال الصيدلاني: اعتكف شهراً آخر بغير صوم؛ لأن الصوم لم يلزمه لرمضان من ناحية النذر، لكن من ناحية الشرع.
[مسألة: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان]
] : الأفضل أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف فيهن، فإن اعتكف في غيرها من الزمان.. جاز.
وليس لأقل الاعتكاف حد عندنا، فإن نذر أن يعتكف، وأطلق.. جاز أن يعتكف ما شاء من الزمان.(3/580)
قال الصيدلاني: ولا بد من مكث في المسجد، فأما أن يدخل ويخرج فلا يجزئه. وبه قال أحمد.
وقال مالك: (لا يصح الاعتكاف أقل من يوم) .
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: رواها عنه الحسن، كقول مالك.
والثانية: رواها محمد في " الأصول "، كقولنا.
دليلنا: أنه لبث في مكان مخصوص.. فأجزأ ما يقع عليه الاسم، كالوقوف بعرفة.
فإن دخل المسجد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة.. صح اعتكافه على المذهب.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\166] وجها آخر: أنه لا يصح؛ لأن عادة الإنسان قد جرت هكذا: يدخل المسجد ساعة، ويخرج أُخرى. والصحيح هو الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اعتكف فواق ناقة.. فكأنما أعتق نسمة»(3/581)
قال: وأصل الوجهين هاهنا الوجهان فيمن نذر اعتكاف يوم، ففرقه بساعات من أيام.
[فرع: نذر الاعتكاف]
] : وإن نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان، أو أراد أن يعتكف ذلك من غير نذر.. فإنه يدخل فيها قبل غروب الشمس من يوم العشرين من الشهر بلحظة؛ ليستوفي العشر بيقين، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور: (يدخل فيه أول نهار الحادي والعشرين) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواسط من شهر رمضان، فلما كان عاماً.. أراد أن يعتكف العشر الأواخر، فصعد المنبر في الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه، فخطب، وقال: "من أراد أن يعتكف العشر الأواخر معنا.. فليلبث في معتكفه» ولأن كل ليلة حكمها حكم اليوم الذي يليها.
إذا ثبت هذا: فإنه يخرج من اعتكافه بآخر جزء من الشهر، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأن العشر اسم لما بين العشرين، وأول الشهر.
وإن نذر أن يعتكف عشرة أيام في آخر الشهر.. لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من يوم الحادي والعشرين بلحظة؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، وإنما يدخل الليل بينهما تبعاً، ويفارق العشر، فإنه اسم لليل والنهار، فإن نقص الشهر.. لزمه أن يعتكف يوماً آخر؛ لأنه عبارة أيام آحاد، بخلاف العشر.(3/582)
[مسألة: النذر المعين]
] : إذا نذر اعتكاف شهر بعينه.. لزمه أن يعتكف فيه ليلا ونهاراً، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر ما بين الهلالين، إلا أن ينذر أيام الشهر أو لياليه، فيلزمه ما سماه لا غير، فإن فات.. لزمه قضاؤه.
فإن كان قد نذر اعتكافه متتابعاً.. لزمه التتابع في القضاء، وحكى صاحب " الإبانة " [ق\167] وجهاً آخر: أنه لا يلزمه التتابع في القضاء؛ لأن التتابع في الأداء لتعين الوقت، كما لو فاته أيام من رمضان، فإنه لا يلزمه التتابع في قضائها. وهذا ليس بشيء؛ لأن التتابع لزمه بالنذر. وإن أطلق النذر.. جاز أن يقضيه متتابعاً أو متفرقاً.
وقال أحمد: (يلزمه أن يقضيه متتابعاً، كالأداء) .
دليلنا: أن التتابع في الأداء بحكم الوقت، فإذا فات.. سقط التتابع، كقضاء شهر رمضان.
[فرع: تعيين زمن الاعتكاف عن الماضي]
] : وإن نذر اعتكاف شهر رمضان، بأن قال: عليه لله أن يعتكف شهر رمضان في سنة تسع وعشرين، وكان في سنة ثلاثين.. لم يلزمه؛ لأن الاعتكاف في زمان مضى محال.
فإن نذر اعتكاف شهر غير معين، فإن اعتكف شهراً بالهلال.. جاز، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. جاز، فإن شرط التتابع فيها.. لزمه التتابع بالنذر.
وإن أطلق، أو قال: متفرقا، فإن اعتكف متتابعاً.. أجزأه، وإن اعتكف متفرقاً.. فالمنصوص: (أنه يصح) .
وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . وهو قول متخرج لنا، حكاه أبو العباس بن سريج.(3/583)
دليلنا: أنه نذر علقه بمدة مطلقة، فلم يكن من شرطه التتابع، كما لو نذر أن يصوم شهراً.. فإنه يصح أن يأتي به متفرقاً، ووافقنا عليه أبو حنيفة.
وإن نذر اعتكاف يوم.. دخل فيه قبل طلوع الفجر بلحظة، وخرج منه بعد غروب الشمس؛ ليستوفي الفرض بيقين، فإن فرقه في ساعات من أيام.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والثاني: يجزئه، كما لو نذر اعتكاف شهر.. فإنه يجزئه أن يأتي به من أشهر.
[فرع: نذر الاعتكاف المقيد بزمن]
] : وإن نذر اعتكاف يومين.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه إن شرط التتابع فيهما، أو نوى ذلك.. لزمه اعتكاف اليومين والليلة التي بينهما، وإن أطلق.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه اعتكاف الليلة التي بينهما؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار دون الليل.
والثاني: يلزمه أن يعتكف اليومين والليلة التي بينهما؛ لأنه لو شرط التتابع.. لزمه اعتكاف الليلة التي بينهما، والتتابع صفة لا تقتضي الزيادة، فعلم أنها لزمته بإطلاق النذر.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وجها ثالثاً، واختاره: أنه لا يلزمه اعتكاف تلك الليلة، سواء شرط التتابع أو أطلق؛ لأنه لم يتناولها النذر، فلم يلزمه اعتكافها، كالليلة التي قبل اليومين، والليلة التي بعدهما.
وقال أبو حنيفة: (إذا نذر اعتكاف يومين.. لزمه أن يعتكف يومين وليلتين) .
دليلنا: أن اليوم اسم لبياض النهار، فلا تلزمه الليلة التي بينهما، كسائر الليالي.(3/584)
وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وإن نذر التتابع أو نواه.. لزمه اعتكاف الأيام والليالي، وجهاً واحداً، وإن أطلق.. لزمه اعتكاف الأيام، وفي الليالي وجهان، وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": هل يلزمه اعتكاف الليالي؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه، كليالي العشر.
والثاني: لا يلزمه لأنه لم يسمها.
والثالث: إن شرط التتابع.. لزمه اعتكافها، وإن لم يشرط التتابع.. لم يلزمه اعتكافها.
[مسألة: النية للاعتكاف]
] : ولا يصح الاعتكاف إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة.. فافتقرت إلى النية، كالصلاة،
قال الشيح أبو إسحاق: فإن كان الاعتكاف فرضا.. لزمه تعيين الفرض؛ ليتميز عن التطوع، فإن دخل فيه، ثم نوى الخروج منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل، كما لو نوى الخروج من الصلاة.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه قربة تتعلق بمكان، فلم تبطل بنية الخروج منه، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة، فإنها لا تتعلق بمكان.
[مسألة: خروج المعتكف بغير عذر]
] : وإن خرج المعتكف من المسجد بغير عذر.. بطل اعتكافه؛ لأن الخروج ينافي الاعتكاف، فأبطله بغير عذر، كما لو أكل الصائم، فإن أخرج بعض بدنه.. لم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف.. أدنى إلي رأسه لأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» ، وروي عنها: أنها(3/585)
قالت: «كنت أغسل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حائض» .
ففي هذا الخبر فوائد:
منها: أن إخراج بعض البدن لا يبطل الاعتكاف.
ومنها: أن يد الحائض ليست بنجسة.
ومنها: أن يد المرأة ليست بعورة؛ لأن المسجد لا يخلو من ناسٍ.
ومنها: أن للمعتكف أن يتزين؛ لأن الترجيل من التزين، بخلاف المحرم.
ومنها: أن المسجد شرط في الاعتكاف.
ومنها: أن الخروج لحاجة الإنسان لا يبطل الاعتكاف.
[مسألة: خروج المعتكف لعذر]
] : يجوز للمعتكف أن يخرج إلى منزله للغائط والبول؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإن كان للمسجد سقاية، أو بذل له صديق له ذلك في بيته.. لم يلزمه قضاء الحاجة فيه، بل له أن يمضي إلى منزله، قال المزني: وإن بعد.
قال الشيخ أبو حامد: لا أعرف هذه اللفظة للشافعي، وينبغي أن يراعى بعد لا يتفاحش، فإن كان بعداً يتفاحش.. لم يخرج إليه، وهكذا قال الصيدلاني: إذا كان داره بعيداً.. بطل اعتكافه بالخروج إليه؛ لأن أكثر زمانه في غير الاعتكاف.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\168] وجهاً آخر: أنه لا يبطل، كما لو كان داره قريباً.(3/586)
وإن كان له منزلان، أحدهما أقرب إلى المسجد من الآخر.. فهل له أن يمضي إلى الأبعد لقضاء الحاجة.. فيه وجهان:
أحدهما -وهو الأظهر -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، فهو كما لو خرج إلى غير الغائط والبول.
والثاني: يجوز؛ لأنه خروج لحاجته إلى بيته، فهو كما لو لم يكن له بيت سواه. وهل له أن يخرج إلى البيت للأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج، ومالك، وأبي حنيفة -: (ليس له ذلك) ؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد.
والثاني: -وهو المنصوص -: (أن له أن يأكل في البيت) ؛ لأن عليه مشقة في الأكل بالمسجد؛ لأن الأكل في المسجد ترك مروءة، وقد يحتاج أن يخفي جنس قوته، وقد يكون في المسجد غيره، فيشق عليه الأكل دونه، وقد لا يكفي الطعام لأكل الجميع، فكان ذلك كله عذرا في جواز الأكل في البيت.
[مسألة: اعتكاف المؤذن]
] : وإن كان المعتكف مؤذنا، فصعد المنارة للأذان، فإن كانت المنارة في المسجد أو في رحبة المسجد- و (رحبته) : ما كان مضافا إليه محجرا عليه - جاز، لأن الرحبة من المسجد، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا اعتكف في رحبة المسجد.. صح اعتكافه) .
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا لو لم تكن المنارة في الرحبة، إلا أنها ملصقة بالمسجد، وبابها إلى المسجد.. جاز أن يصعد إليها؛ لأنها من جملة المسجد، وإن كانت المنارة منفصلة عن المسجد ورحبته.. فهل يبطل اعتكافه بالخروج إليها للأذان؟
فيه ثلاثة أقوال:(3/587)
أحدها: يبطل؛ لأنه خروج إلى ما لا حاجة به إليه.
والثاني: لا يبطل، وهو ظاهر النص؛ لأنها بنيت للمسجد وأذانه، فصارت كالملتصقة به.
والثالث - حكاه في " المهذب " عن أبي إسحاق المروزي -: إن كان المؤذن ممن ألف الناس صوته.. لم يبطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، لإعلام الناس بالوقت، وإن لم يألفوا صوته.. بطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
[مسألة: صلاة الجنازة للمعتكف]
] : وإن عرضت صلاة جنازة، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. فالأفضل أن يخرج، ويصلي على الجنازة؛ لأنها من فرائض الكفايات، والاعتكاف تطوع، فكانت أولى، وإن كان اعتكافه منذوراً.. لم يخرج لصلاة الجنازة؛ لأنها إن لم تتعين عليه.. فليست بواجبة عليه، وإن تعينت عليه.. قال ابن الصباغ: فيمكنه أن يصلي عليها في المسجد، ولا حاجة به إلى الخروج، فإن خرج.. بطل اعتكافه.
وأما الخروج لعيادة المريض: فإن كان اعتكافه تطوعاً.. قال ابن الصباغ في " الشامل ": فقد قال بعض أصحابنا: هي والاعتكاف سواء، فيفعل أيهما شاء، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا.
قال ابن الصباغ: وظاهر السنة بخلاف ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرج على المريض، وإنما يسأل عنه، ولا يقف، وكان اعتكافه تطوعاً.
فإن خرج المعتكف لحاجة الإنسان، فسأل عن المريض في طريقه، ولم يقف.. جاز، ولم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى حاجة الإنسان.. يمر بالمريض، ولا يعرج عليه، بل يسأل عنه، ويمضي»(3/588)
وروي عن عائشة أيضاً: قالت «من السنة أن لا يعود المعتكف مريضاً، ولا يشيع جنازة، ولا يباشر امرأة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد له منها»
وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن خرج من الاعتكاف لحاجة الإنسان، ثم مر في طريقه بمسجد، واعتكف فيه.. جاز؛ لأن المساجد غير المساجد الثلاثة سواء.
[مسألة: الخروج للجمعة للمعتكف]
] : وإن اعتكف في غير الجامع، وحضرت الجمعة.. لزمه الخروج إليها؛ لأنها فرض على الأعيان، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. بطل اعتكافه، وإن كان واجباً، فإن كان غير متتابع.. لم يحتسب له مدة مضيه إلى المسجد، فإذا بلغ المسجد.. بنى على الأول.
وإن كان متتابعاً.. ففيه قولان حكاهما في " المهذب ". وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يبطل اعتكافه؛ لأنه قد كان يمكنه الاحتراز منه، بأن يعتكف في الجامع.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
[فرع: خروج المعتكف من المسجد لأداء الشهادة]
] : وإن خرج لأداء شهادة عليه، فإن لم يتعين عليه حال التحمل والأداء، أو تعين عليه التحمل، ولم يتعين عليه الأداء.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وإن(3/589)
تعين عليه التحمل والأداء.. لم يبطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، وإن تعين عليه الأداء، ولم يتعين عليه التحمل.. قال الشافعي (خرج من اعتكافه) .
وقال في المرأة (إذا وجبت عليها العدة، فخرجت.. لا ينقطع اعتكافها) .
فقال أبو العباس: لا فرق بينهما، وخرجهما على قولين:
أحدهما: يبطل؛ لأن السبب باختياره.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه.
وحملهما أبو إسحاق على ظاهرهما، وفرق بينهما؛ لأن بالمرأة حاجة إلى النكاح؛ لأنه جهة معاينتها، وليس لهذا المتحمل حاجة إلى التحمل، ولأن التحمل الذي تطوع به، ألجأه إلى الأداء، وأما النكاح: فلم يلجئها إلى الطلاق؛ لأن النكاح لا يقصد به الطلاق، بخلاف التحمل.
[مسألة: أعذار الخروج للمعتكف]
] : وإذا مرض المعتكف، فخرج.. نظر فيه:
فإن كان مرضا يسيراً، مثل: الحمى الخفيفة، والصداع اليسير، ووجع الضرس.. لم يجز له الخروج، وإن خرج لذلك.. بطل اعتكافه؛ لأنه يمكنه المقام معه في المسجد من غير مشقة.
وإن كان مرضاً لا يمكن معه المقام في المسجد؛ كانطلاق الجوف الذي يخاف منه تلويث المسجد، وما أشبهه.. جاز له الخروج؛ لأنه موضع عذر، فإذا برئ.. رجع، وبنى على اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وإن كان مرضاً يمكن معه المقام في المسجد، ولكن بمشقة، مثل: أن يحتاج إلى الفراش والطبيب والمداواة.. جاز له الخروج، وهل يبطل التتابع بذلك؟ قال ابن(3/590)
الصباغ: ظاهر قول الشافعي: (أنه إذا برئ.. بنى) . قال: ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمرض في الشهرين المتتابعين، هل يبطل. وفيه قولان، ولم يذكر الشيح أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا.
فإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد.. لم يبطل اعتكافه، قولا واحدا؛ لأنه أخرج بغير اختياره.
[مسألة: السكر والردة تبطل الاعتكاف]
] : قال الشافعي: (وإذا شرب المعتكف، فسكر.. بطل اعتكافه) . وقال: (إذا ارتد المعتكف، ثم أسلم.. بنى على اعتكافه) . واختلف أصحابنا فيهما:
فمنهم من قال: لا يبطل الاعتكاف فيهما؛ لأنهما لم يخرجا من المسجد، وما قال الشافعي في السكران أراد: إذا سكر، وأخرج من المسجد، أو أخرج ليقام عليه الحد؛ لأن الذي وجد منه تناول المحرم، وذلك لا يبطل الاعتكاف.
ومنهم من قال: يبطل اعتكافه بنفس السكر والردة وإن لم يخرج من المسجد؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات.
وقيل: إن مسألة المرتد قرئت على الربيع، فقال: اضربوا عليها؛ لأن الشافعي قال في السكران: (يبطل اعتكافه) . والمرتد أسوأ حالاً منه.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، وهو المذهب، فيبطل الاعتكاف بنفس السكر ولا يبطل بنفس الردة؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد من أهل الإقامة في المسجد؛ لأنه يجوز إقراره فيه، ألا ترى: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل الكفار في المسجد) ، و: (ربط ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد) ؟(3/591)
[مسألة: حيض المعتكفة]
] : وإذا حاضت المعتكفة.. خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام فيه، فإن كان اعتكافها تطوعا.. بنت عليه إذا طهرت، وهكذا: إذا كان نذرا غير متتابع، وإن كان نذرا متتابعاً.. نظرت في المدة المنذورة:
فإن كان مدة لا يمكنها حفظها من الحيض.. لم يبطل التتابع بذلك، كما لو حاضت في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن كانت مدة يمكنها حفظها من الحيض.. بطل تتابعها، كما لو حاضت في صوم الثلاث المتتابعة. هذا مذهبنا.
وحكي عن أبي قلابة: أنه قال: (إذا حاضت المعتكفة.. لم تخرج إلى منزلها، بل تضرب خباءها على باب المسجد، فإذا طهرت.. رجعت إلى المسجد) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد لزمها الخروج من المسجد، فلم يؤثر وقوفها على باب المسجد.
[مسألة: إحرام المعتكف بالحج]
] : وإن أحرم المعتكف بالحج.. صح إحرامه، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يقعد للاعتكاف، ثم يحج، وإن كان وقت الحج ضيقاً.. لزمه أن يخرج للحج؛ لأن الحج يجب عليه بالشرع، فإذا خرج.. بطل اعتكافه؛ لأن سببه باختياره.
[مسألة: انهدام المسجد حال الاعتكاف المنذور]
قال في " الأم " [2/90] : (وإذا نذر اعتكافاً، ثم دخل مسجداً، فاعتكف فيه، ثم انهدم المسجد: فإن أمكنه أن يقيم فيه.. أقام حتى يتم اعتكافه، وإن لم يمكنه..(3/592)
خرج، فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم اعتكافه) .
وجملة ذلك: أنه إذا بقي موضع يمكنه أن يقيم فيه.. أقام فيه، وإن لم يتبق منه موضع يقيم فيه.. خرج منه، وتمم ما بقي من اعتكافه في غيره من المساجد، ولا يبطل بالخروج؛ لأنه لحاجة.
وأما قول الشافعي: (فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم) : فتأوله أصحابنا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد: إذا عين أحد المساجد الثلاثة، وقلنا بتعين مسجد المدينة، والمسجد الأقصى.
والتأويل الثاني: إذا نذر اعتكافا غير متتابع، ولا متعلق بزمان بعينه: فإذا انهدم المسجد.. كان بالخيار: إن شاء.. اعتكف في غيره، وإن شاء.. انتظر عمارة المسجد المنهدم.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل تأويلا ثالثاً: وهو أن يكون في موضع ليس فيه إلا مسجد واحد وانهدم.
[مسألة: خروج المعتكف ناسيا]
وإن خرج المعتكف من المسجد ناسيا أو مكرها.. لم يبطل اعتكافه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
وإن أكره حتى خرج بنفسه.. فهل يبطل اعتكافه. فيه قولان، كما لو أكره الصائم حتى أكل بنفسه.
وإن أخرجه السلطان، فإن أخرجه بغير حق، مثل: أن يطالبه بما ليس عليه، أو يطالبه بما عليه إلا أنه مفلس، أو طلبه ليصادره بغير حق، فهرب منه.. لم يبطل اعتكافه، وإذا عاد.. بنى؛ لأنه خروج بغير اختياره، وإن أخرجه بحق، مثل: أن يكون عليه دين وهو قادر على قضائه، فأخرجه السلطان ليقضيه.. بطل اعتكافه؛ لأنه خرج باختياره؛ لأنه كان يمكنه أن يقضيه في المسجد.(3/593)
وإن أخرجه ليقيم عليه حداً.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وابن الصباغ في " الشامل ": أنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه مكره على خروجه، أو لأنه مضطر إليه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان.
وذكر في " المهذب ": إن ثبت بإقراره.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج باختياره، وإن ثبت بالبينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل؛ لأنه اختار سببه.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه لم يشرب، ولم يزن، ولم يسرق ليخرج، فيقام عليه الحد.
[مسألة: رجوع المعتكف بعد زوال العذر]
وإن خرج المعتكف من المسجد لعذر، ثم رجع بعد زوال العذر.. جاز.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\168] : ولا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأن النية الأولى لم تبطل، وإن أقام بعد زوال العذر.. بطل الاعتكاف؛ لأنه تركه من غير عذر، وإذا رجع.. فعليه تجديد نية أخرى؛ لأن الأولى قد بطلت بالإقامة، فإن كان قد نذر اعتكافا غير متتابع في زمان معين، فدخل فيه بنية الاعتكاف، ثم خرج منه لغير حاجة، أو جامع فيه.. فإنه يبطل اعتكافه بذلك، وإذا رجع.. لم يجب عليه تجديد النية؛ لأن الزمان مستحق للاعتكاف، وقد صح دخوله فيه بالنية الأولى.
[مسألة: يحرم على المعتكف المباشرة بشهوة]
] : ويحرم على المعتكف المباشرة بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187](3/594)
فإن وطئها في الفرج، ذاكراً للاعتكاف، عالما بالتحريم.. فسد اعتكافه؛ لأن كل عبادة حرم فيها الوطء أبطلها، كالصوم والحج، ولا تجب عليه الكفارة.
وقال الحسن، والزهري: تجب عليه الكفارة
دليلنا: أنها عبادة لا ينوب فيها المال، فلم يجب بإفسادها كفارة، كالصلاة. وإن قبلها بشهوة، أو وطئها فيما دون الفرج بشهوة.. حرم عليه ذلك كله؛ للآية، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل؛ للآية، والنهي يقتضي الفساد.
والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأنه عبادة تختص بمكان، فلم تبطل بالمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، كالحج.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (إن أنزل.. بطل اعتكافه، وإن لم ينزل.. لم يبطل، كالصوم) . وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا، وهذا لا يصح؛ لأنا لو قلنا يبطل بالإنزال مع المباشرة.. لساوينا بينه وبين الوطء في الفرج، وهذا لا يجوز، بخلاف الصوم، فإنهما يستويان في الإبطال، وللوطء في الفرج مزية بإيجاب الكفارة.
[مسألة: المباشرة بغير شهوة]
] : فإن باشرها بغير شهوة، مثل: أن يعتمد على يدها، أو يقبلها إكراماً لها، فإنه لا يفسد اعتكافه؛ لحديث عائشة: «أنها كانت ترجل شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف» .
وإن جامعها في الفرج ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. فقد قال البغداديون، وبعض الخراسانيين من أصحابنا: لا يبطل اعتكافه، قولا واحداً.
ومن أصحابنا الخرسانيين من قال: في جماع الناسي في الصوم والاعتكاف(3/595)
قولان، كالحج، والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ويخالف الحج، فإن من محظوراته ما سوي فيه بين العمد والخطأ، وهو: قتل الصيد وحلق الشعر، فجعل الوطء من جملتها، بخلاف الصوم والاعتكاف.
[مسألة: التزين للمعتكف]
] : ولا يكره للمعتكف لبس الرفيع من الثياب والطيب.
وقال أحمد: (يكره له ذلك) .
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف ولم يغير شيئاً من ملابسه) ، ولأنها عبادة لا يحرم فيها ترجيل الشعر، فلم يحرم فيها الطيب، كالصوم، وفيه احتراز من الحج.
ويجوز أن يتزوج ويزوج؛ لأنها عبادة لا يحرم فيها الطيب، فلم يحرم فيها النكاح، كالصوم.
ويستحب له دراسة العلم، وتعليمه، وتعليم القرآن. قال أصحابنا: وذلك أفضل من صلاة النافلة.
وقال مالك، وأحمد: (لا يستحب له قراءة القرآن، وتدريس العلم، ودرسه، وإنما يشتغل بذكر الله، والتسبيح، والصلاة) .
دليلنا: أن القراءة وتدريس العلم قربة وطاعة، فاستحب للمعتكف، كالصلاة والذكر،
ويجوز أن يتحدث بما ليس فيه فحش ومعصية؛ لما روي «عن صفية بنت حيي بن أخطب: أنها قالت: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف في المسجد لأزوره، فقعد معي، وتحدثنا، فلما قمت.. قام معي ليقلبني إلى أهلي، فرآه رجلان من الأنصار،(3/596)
فأسرعا، فصاح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال "هذه صفية زوجتي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
وهل يكره البيع والشراء في المسجد؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يكره، ولم يذكر في " التعليق " غيره؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد» ، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال: "أيها الناشد، غيرك الواجد، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» .(3/597)
والثاني: لا يكره؛ لأنه كلام مباح، فلم يكره، كالحديث، والأول أصح.
قال ابن الصباغ: فإن كان محتاجا إلى شراء قوته، وما لا بد منه.. لم يكره، وإن أكثر من ذلك.. لم يبطل اعتكافه.
وقال في القديم: (إن فعل ذلك، والاعتكاف منذور.. رأيت أن يستقبله) .
وهذا قول مرجوع عنه.
وكذلك تكره الخياطة في المسجد، وما أشبهها، إلا أن يخيط ثوبه وما يحتاج إلى لبسه، فلا يكره.
وقال مالك: (إن كانت الخياطة حرفته.. لم يصح اعتكافه؛ لأنه قعد محترفا، لا معتكفا) ؟
دليلنا: أن الاعتكاف: هو اللبث في المسجد بنية القربة، وقد وجد ذلك منه، فهو كما لو كان نائما فيه.
ويكره له السباب، والجدال، والخصومة؛ لأن ذلك يكره لغير المعتكف، فالمعتكف أولى، فإن فعل ذلك.. لم يفسد اعتكافه، كما قلنا في الصوم.(3/598)
[فرع: الأكل والحجامة للمعتكف]
] : ويجوز أن يأكل في المسجد، ويضع فيه المائدة؛ لأنها تقي المسجد من أن يتلوث بما يأكله، أو يتناثر فيه شيء من الطعام، فيجتمع عليه الهوام.
ويجوز أن يغسل يديه فيه، فإن غسلها في الطست.. فهو أولى.
قال ابن الصباغ: وأما الحجامة والفصد في المسجد إذا لم يلوث به المسجد.. فيجوز، والأولى: تركه، فإن أراد الخروج لذلك، فإن كانت الحاجة داعية إلى ذلك، بحيث لا يمكن تأخيرها.. جاز الخروج، وإن أمكن تأخيرها.. لم يجز، فيجري مجرى المرض المحتمل وغير المحتمل.
ولا يخرج من المسجد لتجديد الطهارة، وإن توضأ في المسجد.. جاز، وإن توضأ في الطست.. كان أولى.
وأما البول في المسجد في إناء: قال ابن الصباغ: فيحتمل أن يجري مجرى الحجامة والفصد، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن ذلك مما يستحقان به، ويستقبح، فينزه المسجد عنه.
[مسألة: نذر التبرر للمعتكف]
إذا قال: إذا كلمت فلانا، أو: إن كلمته، فلله علي أن أعتكف شهرا، فإن كان(3/599)
على وجه التبرر والقربة، مثل: أن كان محتاجا إلى كلامه، فقال: إن كلمته-بمعنى: إن رزقني الله كلامه- فلله علي أن أعتكف شهرا.. فإنه إذا رزق كلامه.. لزمه أن يعتكف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله.. فليطعه، ومن نذر أن يعصيه.. فلا يعصه» .
وإن أراد منع نفسه من كلامه.. فهو نذر لجاج وغضب، فإذا كلمه ... كان بالخيار: بين أن يعتكف شهرا، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وهذا معناه.
[مسألة: نذر التتابع للمعتكف]
] : إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط إن عرض له عارض، أو بدت له حاجة، كمرض أو غيره، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، خرج منه.. صح نذره، فإذا عرض له ذلك.. جاز له الخروج له، فإذا قضى حاجته.. رجع، وبنى على اعتكافه) .
وقال مالك، والأوزاعي: (لا يجوز الشرط في الاعتكاف) .
دليلنا: أنه لا يلزمه بأصل الشرع، وإنما لزمه بنذره فجاز له الشرط فيه، كما لو(3/600)
أوجبه على نفسه متفرقا، وأما إذا نذر صوما أو صلاة، وشرط الخروج منه عند العارض.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما - ولم يحك في " التعليق " غيره-: أنه يصح كالاعتكاف.
والثاني: لا يصح؛ لأنهما يلزمان في الشرع، بخلاف الاعتكاف.
[مسألة: مما يبطل به الاعتكاف]
] : وإذا فعل المعتكف ما يبطله، من الإقامة في البيت بعد قضاء الحاجة، أو الخروج من المسجد لما لا يجوز له الخروج له، فإن كان اعتكافه تطوعا.. لم يبطل ما مضى منه، ولا يلزمه العود إليه؛ لأنه لا يلزمه بالدخول، وإن كان منذورا، فإن لم يشترط التتابع فيه.. لم يبطل ما مضى، فإذا رجع.. بنى على الأول. وإن شرط فيه التتابع.. بطل اعتكافه الأول، وكان عليه الاستئناف.
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يبطل حتى تكون إقامته أكثر من نصف يوم.
دليلنا: أنه خرج من معتكفه بغير حاجة، فبطل، كما لو أقام أكثر من نصف يوم.
[مسألة: قضاء الاعتكاف عن الميت]
] : إذا مات وعليه اعتكاف واجب.. لم يعتكف عنه، ولم يطعم عنه.
وقال أبو ثور: (يعتكف عنه) . وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس.
وقال أبو حنيفة: (يطعم عنه لكل يوم نصف صاع) .(3/601)
وقد حكي الصيدلاني: أنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. ولم أجده لغيره من أصحابنا.
دليلنا: أنها عبادة لا يدخلها الجبران بالمال في الحياة.. فلم يدخلها بعد الوفاة، فلا تقضى، كالطهارة والصلاة
والله أعلم بالصواب(3/602)
[كتاب الحج](4/5)
كتاب الحج والحج في اللغة: هو القصد إلى الشيء المعظم، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي: يقصدون، و (السب) العمامة، ويقال: الحج، بفتح الحاء وكسرها، ويسمى الحج: نسكا، بإسكان السين، فـ (النسك) - بإسكان السين ـ: اسم لكل عبادة، وبضم السين: الذبح، قال الله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .(4/7)
و (المنسك) : موضع الذبح، وقد يكون موضع العبادة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] [البقرة: 128] .
والأصل في وجوب الحج: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، وقَوْله تَعَالَى لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] [الحج: 27] .
وروي: «أن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال " يا رب، وأين يبلغ ندائي؟ فقال الله: عليك النداء وعلينا البلاغ، فقيل: إن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صعد المقام، وقال: يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، فأجابه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء»
فقيل: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوته، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
ومن أدلة الكتاب أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
قال الشافعي: (قال مجاهد: ومعنى قوله هاهنا {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] يعني: من إذا حج.. لم يره برا، وإن لم يحج.. لم ير تركه مأثما) .
وروي عن عكرمة: أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] [آل عمران: 85] .. قالت اليهود: نحن المسلمون، «فأوحى الله إلى نبيه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: (مرهم بالحج، فأمرهم بالحج، فقالوا: لم يكتب علينا [وأبوا أن يحجوا] فنزل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] » [آل عمران: 97] .(4/8)
يعني {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] من أهل الكتاب.. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .
وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» فذكر منها الحج، وفيه أخبار كثيرة.
وأجمع المسلمون: على وجوبه.
وقيل: إن أول من حج البيت آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما من نبي إلا وحج البيت.
والدليل على فضله: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» .(4/9)
[مسألة وجوب العمرة]
وأما العمرة: فهل تجب؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب، ولا أرخص بتركها لمن قدر عليها) .
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو قول الشعبي، وروي ذلك عن ابن مسعود من الصحابة؛ لما روى جابر: «أن رجلا سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقال: يا رسول الله، العمرة واجبة؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» وروى سراقة بن مالك أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأراد: أن وجوبها دخل في وجوب الحج.(4/10)
ولأنها نسك لا تختص بوقت معين، فلم تكن واجبة بالشرع، كطواف القدوم.
و [الثاني] : قال في الجديد: (هي وجبة) . وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: عطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .(4/11)
وروي عن ابن عمر، وابن عباس: أنهما كانا يقرآن، (وأقيموا الحج والعمرة لله) ، والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»
ووجه الدلالة منه: أنها سألته عن وجوب الجهاد على النساء؟ فقال: نعم، وفسره بوجوب الحج والعمرة.
وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الحج والعمرة فريضتان، لا تبال بأيهما بدأت» .
ولأنها عبادة من شرطها الطواف، فجاز أن تكون واجبة بالشرع، كالحج.(4/12)
وأما الخبر الأول: فغير صحيح؛ لأنه رواية الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وإن صح ... فيحمل على: أن الرجل سأله عن وجوب العمرة في حق نفسه، فعلم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاله، وأنها لا تجب عليه، بدليل أنه قال له: «وأن تعتمر خير لك» ، ولو كان السؤال على العموم.. لقال: وأن تعتمروا خير لكم.
وأما الخبر الثاني: فلا حجة في ظاهره؛ لأنه يقتضي: أن العمرة قد كانت واجبة، ودخل وجوبها في وجوب الحج، وهذا لا يقوله أحد، وإذا كان ذلك كذلك.. كان له تأويلان:
أحدهما: أن وقت العمرة دخل في وقت الحج إلى يوم القيامة؛ لأن العرب كانت لا ترى العمرة في أشهر الحج، فأمرهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يعتمروا في أشهر الحج، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» .
والثاني: أنه أراد أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج، إذا جمع بينهما القران.
وأما طواف القدوم: فليس من الأفعال الراتبة في الحج، وإنما هو لتعظيم البيت، فلم يجب كتحية المسجد.
إذا ثبت هذا: فإن الحج والعمرة لا يجبان - بالشرع - في العمر إلا مرة واحدة.(4/13)
وقال بعض الناس: يجب في كل سنة. وهذا القائل محجوج بإجماع الأمة، وبما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يخطب فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقام رجل فقال يا رسول الله، الحج واجب في كل سنة؟ فسكت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأعادها ثانيا، فسكت، فأعادها ثالثا، فقال: لو قلت نعم.. لوجب، ولو وجب.. لم تقوموا به»
وروي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله: الحج في الدهر مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما زاد فهو تطوع» .
«وروي أنه قيل له: يا رسول الله، أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد»
[مسألة دخول مكة لغير الحج]
ومن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة ... فهو ينقسم على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يدخلها لقتال، مثال: أن يكون فيها قوم بغاة على الإمام، فيحتاج إلى(4/14)
قتالهم، أو يدخلها خائفا من ظالم، أو يخاف غريما له يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن من أداء حقه، فيجوز له أن يدخلها بغير إحرام؛ لـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر» ، وهذه صفة من ليس بمحرم.
فإن قيل: فهذا كان خاصا له لأنه قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ:
«مكة حرام، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» .
فالجواب: أن معناه: أحلت لي ولمن هو في مثل حالي.
فإن قيل فعندكم: أنه دخلها مصالحا. قلنا: إنما وقع منه الصلح مع أبي سفيان، ولم يك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنا من غدرهم، فلذلك دخلها بغير إحرام.
والضرب الثاني: أن يدخلها لتجارة، أو زيارة، أو كان مكيا، فسافر إلى غيرها، ثم رجع إلى وطنه.. ففيه قولان:
أحدهما: يستحب له الإحرام، ولا يجب عليه، وبه قال ابن عمر، لما روي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، الحج مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما(4/15)
زاد فهو تطوع» ولأنه داخل إلى مكة لغير نسك، فلم بجب عليه الإحرام، كالحطابين.
والثاني ـ هو الأشهر ـ: أنه يجب عليه الإحرام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» .
والضرب الثالث: أن يدخلها لحاجة تتكرر، كالحطابين، والصيادين، ومن ينقل الميرة، فالمنصوص: (أنه يجوز لهم أن يدخلوها بغير إحرام) .
غير أن الشافعي قال: (ينبغي لهم أن يحرموا في كل سنة مرة؛ لكي لا يستخفوا بحرمة الحرم، ولا تلحقهم مشقة في ذلك) .
والأول أصح؛ لأن دخولهم يكثر، فلو أوجبنا عليهم الإحرام.. شق وضاق، ولا معنى لوجوبه في وقت دون وقت.
وهذا نقل الشيخ أبي حامد.
وذكر المسعودي [" في الإبانة " ق \ 180 "] : هل يجب عليهم الإحرام؟ فيه وجهان:
فإن قلنا: يجب الإحرام على من يدخلها لزيارة أو تجارة لا تتكرر، فدخلها بغير إحرام.. لم يجب عليه القضاء.
وقال أبو حنيفة: (عليه أن يقضي، فإن أتى بباقي سنته بحج أو عمرة.. أجزأه عن القضاء) .
دليلنا: حديث الأقرع بن حابس، ولأن الإحرام لدخول مكة مشروع؛ لحرمة المكان، فإذا لم يأت به ... لم يجب قضاؤه، كتحية المسجد.
فإن قلنا: تحية المسجد لا تقضى؛ لأنها سنة، والإحرام لدخول مكة واجب: فالجواب: أن تحية المسجد لم يسقط قضاؤها، لكونها سنة؛ لأن المسنونات(4/16)
تقضى، ألا ترى أن النوافل الراتبة تقضى، وليست بواجبة، وكذلك التكبيرات في الصلاة والتسبيح، وإنما لم تقض؛ لأنها متعلقة بحرمة المكان.
قال ابن الصباغ: وذكر أصحابنا دليلا آخر: وهو أن إيجاب القضاء يؤدي إلى تسلسل القضاء، فإن الدخول الثاني يجب لأجله أيضا إحرام، وما أتى به كان عما تقدم قبله.
وقد فرع ابن القاص على هذا الدليل، فقال: لا يجب القضاء إلا في مسألة واحدة، وهو إذا دخل بغير إحرام، ثم صار حطّابا ... فإنه يجب القضاء؛ لأنه لا يتسلسل القضاء.
قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الدخول إذا كان بإحرام ... كفاه، سواء كان لأجله أو لأجل غيره، كالصوم في الاعتكاف، قال: وهذا كما قلنا - فيمن أفسد القضاء في الحج ـ: لا يجب عليه قضاءان، وإنما يجب عليه قضاء واحد.
والدليل الصحيح: ما تقدم.
[فرع دخول البريد مكة]
] . وأما البريد: فإنه يتكرر دخوله، قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: هم مثل الحطّابين، ومنهم من قال: فيه وجهان.
[مسألة شروط الحج]
] . ولا يجب الحج والعمرة، إلا على مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع.
فأما الكافر: فإن كان أصليا: فلا يصح منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة الإسلام» وأراد بقوله: " هاجر " أي: أسلم. وهل يأثم بتركه(4/17)
في حال كفره؟ فيه وجهان، بناء على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات.
وإن كان مرتدا ... لم يصح منه؛ لأن الكفر ينافي العبادات، فلا يصح فعلها معه، كالصلاة والصوم، ولكنه يأثم بتركه في حالة الردة؛ لأنه قد التزم وجوبه بالإسلام، فلا يسقط بالردة.
وأما المجنون: فلا يصح منه؛ لأنه ليس من أهل العبادات، ولا يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رفع القلم عن ثلاثة " فذكر فيه: " وعن المجنون حتى يفيق» .
[مسألة حج الصبي]
وأما الصبي: فلا يجب عليه الحج؛ للخبر، ولأن الحج من عبادات البدن، فلا يجب عليه، كالصلاة والصوم.
ويصح منه، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الحج من الصبي، وإنما يأذن له الولي في الإحرام؛ ليتعلم أفعال الحج، ويجتنب ما يتجنب المحرم، فإن فعل شيئا من ذلك.. فلا فدية عليه) .(4/18)
دليلنا: ما روى ابن عباس ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قفل من مكة، فلما بلغ الروحاء.. لقيه ركب، فقال: " من القوم؟ " قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: " رسول الله " فرفعت امرأة صبيا من محفتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا الصبي حج؟ فقال: نعم، ولك أجر»
وروي «عن ابن عباس: قال: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فكنا نحرم عن أنفسنا وعن الصبيان»
ولأن الحج عبادة يصح التنفل بها، فصحت من الصبي، كالطهارة.
إذا ثبت هذا: فإن كان الصبي مميزا وأحرم بإذن الولي , صح إحرامه، وإن أحرم بغير إذن الوالي ففيه وجهان:(4/19)
أحدهما: يصح، وهو قول أبي إسحاق؛ لأنه عبادة، فصح إحرامه فيها بغير إذن الولي، كالصلاة والصوم.
والثاني لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن الحج يتعلق أداؤه بإنفاق المال، والصبي لا يملك إنفاق المال بغير إذن الولي، كالبيع والشراء، بخلاف الصلاة والصوم.
وإن كان الصبي غير مميز.. أحرم عنه الولي.
قال الشيخ أبو حامد: فينوي الولي أنه جعله محرما، فيصير الصبي محرما بذلك، سواء كان الولي محلا أو محرما، وسواء كان الولي قد حج عن نفسه أو لم يحج، فإنه يصح؛ لأنه لا يحرم هو، وإنما يعقد الإحرام له.
وأما الولي الذي يحرم عنه: فذكر الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: إن كان الولي أبا أو جدا.. جاز أن يحرم عنه إن كان غير مميز، ويأذن له في الإحرام إن كان مميزا؛ لأنهما يليان على ماله بغير تولية.
فأما غيرهما من العصبات: كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم.. فإن لهم حقا في الحضانة، وتعليم الصبي وتأديبه، ولا يملكون التصرف في ماله بأنفسهم إلا بوصية من الأب أو الجد، أو تولية من الحاكم، فإن جعل لهم التصرف بماله.. كان لهم أن يحرموا عنه، أو يأذنوا له في الإحرام، وإن لم يجعل إليهم التصرف بماله..فلهم أن يحرموا عنه بالحج، أو يأذنوا له في الإحرام؟ فيه وجهان:
أحدهما: لهم ذلك؛ لأنه لما كان لهم تعليمه وتأديبه والإنفاق على تلك الأشياء من ماله، فكذلك الإحرام بالحج.
والثاني: ليس لهم الإحرام عنه، ولا الإذن له بالإحرام، وهو الصحيح؛ لأنهم لا يملكون التصرف في ماله، فلم يكن لهم الإحرام عنه، ولا الإذن بالإحرام كالأجانب، ويخالف النفقة على التأديب والتعليم؛ لأنه نفل، فسومح به.
وأما الأم: فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأنها تلي على ماله بنفسها.. فلها أن تحرم عنه، وقد احتج الإصطخري بهذا الخبر، حيث قال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «نعم، ولك أجر»(4/20)
وإن قلنا بمذهب الشافعي، وأنها لا تلي بنفسها على مال الصبي.. فهي كسائر العصبات: من الإخوة وبينهم، والأعمام وبينهم، وقد ذكرنا حكمهم.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب " أن الأم تحرم عنه؛ للخبر، ويجوز للأب والجد أن يحرما عنه، قياسا على الأم.
قال ابن الصباغ: وليس في الخبر ما يدل على أن الأم أحرمت عنه، ويحتمل أن يكون أحرم عنه وليه، وإنما جعل لها الأجر بحملها له، ومعونتها له على مناسك الحج، والإنفاق عليه.
إذا تقرر ما ذكرناه، وصح إحرام الصبي ... فإنه يفعل بنفسه ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.. يفعله عنه الولي؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نحج بصبياننا، فمن استطاع منهم.. رمى، ومن لم يستطع.. رمي عنه) .
[فرع نفقة الصبي في الحج]
] . وأما نفقة الصبي في الحج: قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب أن القدر الذي يحتاج إليه من النفقة في الحضر يكون في ماله، وما زاد على ذلك لأجل الحج.(4/21)
فيه وجهان. وأما القاضي أبو الطيب: فحكاهما قولين، واختار ذلك الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب " إلا أنه قال: وفي نفقة حج الصبي قولان - ولعله أراد ما زاد لأجل الحج:
أحدهما: يتعلق بمال الصبي؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فهو كأجرة التعليم.
والثاني: في مال الولي، وهو الصحيح؛ لأنه أدخله فيما له منه بد.
قال الشيخ أبو حامد: ويفارق أجرة التأديب والتعليم؛ لأن ذلك نفقة يسيرة ولا تجحف بماله، ونفقة الحج كثيرة. ولأن بالصبي حاجة إلى تعلم القرآن الصلاة قبل البلوغ ليتمرن عليه ولا يكسل عن ذلك بعد البلوغ، ولا حاجة به إلى التطوع بالحج. ولأن الصلاة تجب على الفور إذا بلغ، ومن شرط صحتها القراءة، فإذا لم يتعلم القراءة قبل البلوغ.. احتاج إلى أن يتعلمها بعد البلوغ، وإلى أن يتعلمها تفوته الصلاة، بخلاف الحج، فإنه على التراخي.
[مسألة حج العبد]
وأما العبد: فلا يجب عليه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلم يجب عليه، فإن أحرم بإذن المولى.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل العبادات، وإن أحرم بغير إذن المولى.. صح إحرامه، وللمولى أن يحلله منه؛ لأن عليه ضررا في بقائه على الإحرام.
وقال داود: (لا يصح إحرامه بغير إذن المولى) .
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «وأيما عبد حج ثم أعتق.. فعليه حجة الإسلام» . ولم(4/22)
يفرق بين أن يحرم بإذن سيده أو بغير إذنه، ولأنها عبادة بدنية، فصحت منه بغير إذن سيده، كصلاة النافلة.
فإن إذن له السيد بالإحرام، ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يحرم العبد، وعلم العبد بذلك.. بطل الإذن، فإن أحرم بعد ذلك.. كان له أن يحلله؛ لأن إذنه الأول قد زال، فصار كما لو لم يأذن له. وإن لم يعلم العبد بالرجوع، حتى أحرم.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أحرم بغير إذنه.
والثاني: حكمه حكم من أحرم بإذنه، بناء على القولين في الموكل إذا عزل الوكيل، فتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به.
وإن رجع السيد في الإذن بعد إحرام العبد.. لم يبطل إذنه، ولم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (لا تلزمه الإقامة على الإذن، وله تحليله) .
دليلنا: أنه عقد لازم، عقده بإذن السيد، فلم يكن للسيد منعه منه، كالنكاح.
[فرع ارتكاب العبد لما يوجب الفدية]
وإن ارتكب العبد شيئا من محظورات الإحرام، مثل: أن تطيب أو لبس أو قتل صيدا. وجبت الفدية على العبد؛ لأنها وجبت بجنايته، ويجب الصوم عليه؛ لأنه لا يملك المال، وللسيد منعه من الصوم؛ لأنه وجب عليه بغير إذنه.
وإن ملكه السيد مالا، وأذن له أن يفتدي به، فإن قلنا: إنه لا يملك المال.. لم يكن له أن يفتدي به، وإن قلنا: إنه يملك المال , ... كان له أن يفتدي به.
وإن أذن له في التمتع أو القران، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال إذا ملكه السيد.. ففرضه الصوم، وليس للسيد منعه منه؛ لأنه وجب عليه بإذنه.
وإن قلنا: إنه يملكه إذا ملكه السيد.. فهل يلزم السيد أن يدفع إليه المال ليفتدي به؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه أذن له في سببه.(4/23)
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه أذن له في الإحرام، فلم يلزمه ما يجب بسببه، ألا ترى أن العبد إذا أذن له السيد في النكاح ... فإن النفقة والمهر لا يجبان في مال السيد، وإنما يجبان في كسب العبد.
[فرع حج الصبي والعبد باعتبار كمالهما]
فإن حج الصبي ثم بلغ بعد الفراغ من الحج، أو حج العبد ثم أعتق بعد الفراغ منه.. لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما صبي حج، ثم بلغ.. فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق
فعليه حجة أخرى» .
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد في الإحرام.. نظرت: فإن كان بعد الوقوف بعرفة، وبعد فوات وقته.. لم يجزئهما عن حجة الإسلام؛ لأن معظم الحج قد فات في حال النقصان، فلم يجزئهما، كما لو أدرك الإمام بعد الركوع.. فإنه لا يحتسب له بتلك الركعة.
وإن كان قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف.. أجزأهما عن حجة الإسلام. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجزئهما) .
ولا يتصور الخلاف مع أبي حنيفة، إلا في العبد، فأما الصبي: فلا يصح إحرامه عنده.
دليلنا: أنه وقف بعرفة، وهو كامل في إحرام صحيح، فوجب أن يجزئه عن حجة الإسلام، كما لو كان كاملا حال الإحرام.
وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد بعد الوقوف، وقبل فوات وقته، مثل: أن كان(4/24)
ذلك ليلة النحر بالمزدلفة، ولم يرجعا إلى عرفة.. فهل يجزئهما عن حجة الإسلام؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي عباس بن سريج: أن يجزئهما؛ لأنهما كملا في وقت الوقوف، فأجزأ ما تقدم من وقوفهما، كما لو أحرما، ثم كملا.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: أنه لا يجزئهما؛ لأنهما لم يقفا بعرفة في حال الكمال، فلم يجز عنهما، كما لو كملا بعد مضي وقت الوقوف.
[فرع سعي الصبي والعبد قبل كمالهما]
وإن سعى الصبي أو العبد عقيب طواف القدوم، ثم بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف.. فهل يجزئهما ذلك السعي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] : أحدهما - ولم يذكر في " الإفصاح " غيره: أنه لا يجزئ عنهما؛ لأنهما أديا بعض فرائض الحج في حال النقص، فلم يجزئهما، كما لو وقف بعرفة. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يجزئهما؛ لأنهما قد وقفا بعرفة في حال الكمال، فأجزأهما السعي المتقدم، كالإحرام.
[مسألة شروط الاستطاعة]
] : وأما غير المستطيع: فلا يجب عليه الحج والعمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
والمستطيع اثنان: مستطيع ببدنه، ومستطيع بغيره.
فأما المستطيع ببدنه: فله شروط: أحدها أن يكون صحيح البدن.
الثاني: أن يكون واجدا للزاد والماء بثمن المثل، في المواضع التي جرت العادة بوجوده فيها.(4/25)
الثالث: أن يكون واجدا لراحلة تصلح لمثله، إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة.
الرابع: أن يكون الطريق آمنًا.
الخامس: أن تجتمع هذه الشروط، وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج، فإن كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة في الركوب.. لم يلزمه الحج:
لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فمات ولم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» .
[فرع عدم لزوم الحج لغير واجد الزاد]
وإن لم يجد الزاد.. لم يلزمه الحج، وروي ذلك: عن ابن عباس وابن عمر.
وقال ابن الزبير، وعكرمة، وعطاء: (الاستطاعة صحة البدن) .(4/26)
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل الذي قال الله تعالى؟ قال: الزاد والراحلة»
وإن وجد الزاد، ولم يجد الماء.. لم يجب عليه الحج؛ لأن الحاجة إلى الماء أشد وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن مثلهما في المواضع التي جرت العادة بوجودهما فيه.. لم يجب عليه الحج؛ لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن مثله كعدمه.
[فرع حكم الراحلة]
) : وإن لم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن مثلها أو أجرة مثلها، أو وجد راحلة لا تصلح لمثله، بأن يكون شيخا أو شابا مترفا لا يقدر على الركوب إلا بالمحمل والعمارية ... لم يجب عليه الحج، حتى يجد ذلك.
هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: (الراحلة ليست بشرط، فإذا كان قادرا على المشي، أو عادته(4/27)
المشي.. وجب عليه الحج) ، وكذلك لا يعتبر عنده أن يكون مالكا للزاد، بل إذا كان قادرا على تحصيله بصنعة أو سؤال الناس ومن عادته السؤال.. وجب عليه الحج.
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة»
وروى علي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه، فلم يحج.. فليمت، إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ، وفي بعض الأخبار: «ولا عليه، أن يموت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» .
فلما علق الوعيد في ترك الحج على من وجد الزاد والراحلة.. دل على: أن وجودهما شرط في وجوب الحج، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان من شرط وجوبها الزاد والراحلة، كالجهاد.
فإن وجد الزاد والراحلة لذهابه دون رجوعه، فإن كان له في البلد أهل.. لم يجب عليه الحج، وإن لم يكن له أهل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأن البلاد في حقه سواء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن عليه مشقة في المقام بغير وطنه.(4/28)
[فرع حكم الدائن والمدين في وجوب الحج]
] : وإن كان عليه دين لا يفضل عنه ما يكفيه لحجه.. لم يجب عليه الحج، حالا كان الدين أو مؤجلا، نص عليه في " الإملاء "؛ لأن الحال على الفور، والحج على التراخي. وعليه ضرر في بقاء الدين المؤجل في ذمته، فقدم على الحج.
وكذلك لا يجب عليه الحج إلا بعد أن يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ما يكفيه للحج؛ لأن النفقة على الفور، والحج على التراخي.
وإن كان ماله دينا على غيره، فإن كان حالا على مليء باذل له.. وجب عليه الحج: لأنه قادر على قبضه. وإن كان على مليء جاحد له، ولا بينة له به، أو كان على معسر، أو كان الدين مؤجلا.. لم يجب عليه الحج: لأنه غير قادر على الزاد والراحلة.
[فرع بيع المسكن والخادم للحج]
] : ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان له خادم يخدمه، ومسكن يسكنه، فإن كان، ممن لا يخدم مثله، بل جرت عادته أن يخدم نفسه.. فإن هذا الخادم فضل عن نفقته وكفايته، فإن كان إذا بيع أمكنه أن يحج بثمنه.. لزمه فرض الحج. وإن كان لا يمكنه أن يحج بثمنه.. لم يجب عليه.
وإن كان يحتاج إلى خدمته، بأن يكون شيخا لا يقدر على خدمة نفسه، أو كان يقدر ولكن هو من أهل العلم والشرف والمروءات الذين لم تجر عادتهم بأن يخدموا أنفسهم.. نظرت في الخادم والمسكن: فإن كان وافق قدر حاجته.. لم يجب عليه بيعه.
وإن كان أكثر مما يحتاج إليه؛ مثل: أن يكون له دار كبيرة الثمن ومثله يسكن دون تلك الدار، أو كان الخادم نفيسا له ثمن كبير؛ لنجابة فيه، ومثله يكتفي بدون(4/29)
ذلك الخادم.. نظرت في الفضل: فإن كان يكفي للحج.. وجب عليه بيعه، ويشتري ما يحتاج إليه من المسكن والخادم، ويحج بالفضل. وإن كان الفضل لا يكفي الحج.. لم يجب عليه الحج.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: يجب عليه بيع مسكنه وخادمه وإن كانت حاجته تستغرقه ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه يمكنه أن يكتري مسكنا وخادما، كما نقول في زكاة الفطر: إنه يعتبر الفضل عن كفايته يومه.
والأول أصح؛ لأن حاجته تستغرق ذلك، فهو بمنزلة من وجبت عليه الكفارة.
قال ابن الصباغ: فإن لم يكن معه مسكن ولا خادم، ومعه ما يقوم بهما، فمن قال: يجب عليه أن يبيع المسكن والخادم للحج.. فإنه يقول هاهنا: يحج ولا يشتري المسكن والخادم.
ومن قال: لا يجب عليه بيع المسكن والخادم.. قال هاهنا: لا يجب عليه الحج، بل يجوز له أن يشتري بما في يده المسكن والخادم.
[فرع وجوب الحج لمحتاج النكاح]
] : ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إذا كان معه ما يكفيه للحج، واحتاج إلى التزويج به.. وجب عليه الحج، ولا يقدم النكاح على الحج؛ لأنه من الملاذ التي تصبر النفس عنها، ولأن الحج واجب، والنكاح غير واجب، إلا أنه يجوز له تأخير الحج، فإن كان يخشى العنت.. كان تقديم التزويج أولى، وإن كان لا يخاف العنت.. كان تقديم الحج أولى.
[فرع بيع البضاعة للحج]
إذا كانت له بضاعة يكتسب بها ما يقوته ويقوت عياله إن كان له عيال.. فهل يلزمه صرف البضاعة في الحج؟ فيه وجهان:(4/30)
أحدهما: لا يلزمه، وهو قول أبي العباس بن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن في ذلك مضرة وانقطاع المعاش به، وقد قال الشافعي في المفلس: (إنه يترك له ما يتجر به؛ لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس) ، فإذا جاز أن يقطع من ديون الغرماء؛ ويجعل بضاعة للمفلس؛ ليعيش بها.. فلأن لا يلزم الإنسان صرف بضاعته بالحج أولى.
والثاني ـ وهو قول سائر أصحابنا، وقول أبي حنيفة ـ: أنه يلزمه الحج؛ لأنه واجد للزاد والراحلة، فوجب عليه الحج.
قال الشيخ أبو حامد: ولأنا لو قلنا هذا.. لوجب أن يقول: إن من لا يمكنه أن يتعيش إلا بألف دينار، إذا كان معه ألف دينار.. لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يمكنه أن يتجر بأقل من ذلك، وهذا لا يقوله أحد؛ لأنه واجد لأكثر من الزاد والراحلة.
قال المحاملي: وأما ما ذكره الشافعي في المفلس.. فإنما يترك ذلك برضا الغرماء فأما بغير رضاهم.. فلا.
قال ابن الصباغ: وهل يعتبر وجود الزاد والراحلة فاضلا عن كفايته على الدوام؟ فيه وجهان، ووجههما ما ذكرناه للوجهين في التي قبلها.
[فرع الاقتراض للحج]
] : إذا كان قادرا على أن يستقرض ما يحج به.. لم يجب عليه الحج؛ لأنه غَيْرُ مالك للزاد والراحلة، ولأنه إذا استقرض.. صار ذلك دينا في ذمته، والدين يمنع وجوب الحج عليه.
وإن قدر على أن يؤاجر نفسه.. استحب له أن يحج؛ لأنه يتوصل إلى الحج بوجه مباح، ولا يجب عليه؛ لأنه غير مالك للزاد والراحلة.
فإن أكرى نفسه، فحضر موضع الحج.. لزمه الحج وإن كان التوصل إليه غير واجب عليه؛ لأنه الآن متمكن من فعل الحج بغير مال.(4/31)
وإن غصب مالا فحج به، أو حمولة فركبها وحج.. أثم بذلك، ولزمه ضمان ما غصب، وأجزأه الحج.
وقال أحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن الحج فعل البدن، وقد فعله، فهو كمن ركب المخافة حتى وصل إلى الحج فحج.. فإنه يجزئه.
[فرع الاتجار في الحج]
] : إذا خرج الإنسان بنية الحج والتجارة، فحج واتجر.. صح حجه، ويسقط فرضه: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] .
قال ابن عباس: يعني: أن تحجوا، وتتجروا.
قال الشيخ أبو حامد: فأما الثواب.. فإن ثواب من قصد الحج دون التجارة أكثر ممن قصد الحج والتجارة؛ لأنه قصد القربة دون غيرها، وهذا قصد القربة وغيرها.
قال: وحكي في هذا المعنى: أن رجلا من أهل الخير والصلاح حج، فرأى فيما يرى النائم كأن أعمال الحجيج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقيل: يكتب حاجا، وقيل: فلان، فقيل: يكتب تاجرا، حتى بلغ إليه، فقيل: يكتب تاجرا، قال:(4/32)
فقمت من نومي، وقلت: ولم، ولست بتاجر؟ فقال: بل حملت معك كبة غزل تبيعها على أهل مكة.
فدل على: أن من كانت قربته خالصة لم يشبها بشيء من الدنيا.. فثوابه فيه أكثر.
[فرع ركوب البحر للحج]
وإن كان الطريق غير آمن، ويحتاج فيه إلى خفارة.. لم يجب عليه الحج؛ لأن في ذلك تغريرا بالنفس والمال.
وإن لم يكن له طريق إلا في البحر.. فقد قال الشافعي في " الأم " [2/103] : (لا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر) .
وقال في " الإملاء ": (إذا لم يكن له طريق إلا في البحر.. لا يبين لي أن لا أوجب عليه ركوب البحر للحج) .
واختلف أصحابنا فيه على أربع طرق:
(الأول) : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه؛ لأنه طريق مسلوك، فأشبه البر.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن البحر يخاف فيه الهلاك، فأشبه الطريق المخوف في البر.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يجب عليه ركوبه) .. إذا كان الغالب منه السلامة.
وحيث قال: (لا يجب عليه) .. إذا كان الغالب منه الهلاك، وبهذا قال أبو حنيفة.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:(4/33)
فحيث قال: (يجب عليه) : إذا كان له عادة في ركوب البحر في معيشته؛ لأنه لا يشق عليه ركوبه:
وحيث قال: (لا يجب عليه) ... إذا لم تجر له عادة في ركوب البحر؛ لأنه يشق عليه.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: لا يجب عليه ركوبه بحال، سواء كان جريئا على ركوبه وله عادة بذلك، أو غير جريء على ركوبه، كما لا يجب على الشجاع المقاتل الحج، إذا كان على طريقه لصوص يضطر إلى قتالهم، وحيث قال الشافعي: (يجب عليه) .. أراد: إذا كان قد ركب البحر لغير الحج، ودنا من الشط الذي يلي مكة، فحينئذ: يجب عليه الحج.
فلو توسط في البحر، مثل أن يكون ما قدامه مثل ما وراءه.. فهل يجب عليه الحج على هذا الطريق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن ذلك إيجاب لركوب البحر للحج.
والثاني: يجب عليه؛ لأن الجهات قد استوت في حقه، فهو كما لو استوت الجهات في الأمن.
قال الصيمري: وأما قطع نهر كدجلة.. فيلزمه بلا خلاف.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يجب عليه ركوب البحر.. فإنه يستحب للرجال ركوبه؛ لأنهم يتوصلون بذلك إلى إسقاط الفرض عن ذممهم.
وهل يستحب للنساء ركوبه؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما: يستحب لهن كما يستحب للرجال.
والثاني: لا يستحب؛ لأن المرأة عورة وربما تغرق.. فتنكشف.(4/34)
[فرع حج الأعمى وذوي العاهات]
] : إذا وجد الأعمى زادا وراحلة، ومن يقوده ويهديه عند النزول، ومن يركبه وينزله، وكان قادرا على الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة.. وجب عليه الحج. وكذلك مقطوع اليدين والرجلين. ولا يجوز له أن يستأجر من يحج عنه، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة ـ في أصح الروايتين عنه ـ: (يجوز له الاستئجار على الحج، ولا يلزمه الحج بنفسه) . وحكاه الصيمري عن بعض أصحابنا.
دليلنا: أنه يتمكن من الثبوت على الراحلة بغير مشقة شديدة، فلزمه الحج بنفسه، كالبصير.
[فرع حكم المحرم مع المرأة]
وإن كانت امرأة.. فهل يشترط في حقها وجود المحرم معها؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الخراسانيون من أصحابنا: وجوده شرط - وبه قال أبو حنيفة، والنخعي، وأحمد، وإسحاق - لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» .(4/35)
وقال البغداديون من أصحابنا: وجوده ليس بشرط؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعدي بن حاتم، وهو يصف استظهار الإسلام إلى أن قال: «حتى لتوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة» . فلو لم يجز ذلك.. لما مدح به الإسلام، ومن قال بهذا.. حمل الخبر الأول إذا كان السفر غير واجب.
فإذا قلنا: يشترط وجود المحرم، واجتمع نسوة.. فهل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: يقمن مقام المحرم.. فهل يشترط أن يكون معهن، أو مع واحدة منهن محرم لها أو زوج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشترط ذلك؛ ليتقوين به، وليتكلم عنهن.
والثاني: لا يشترط ذلك؛ لأن أطماع الرجال تنقطع عنهن إذا كثرن وصرن جماعة.
[فرع الخنثى المشكل]
] : وأما الخنثى المشكل: فإنه يجب عليه الحج، ويشترط في حقه من المحرم ما يشترط في حق المرأة. فإن كان معه نسوة، فإن كن أخواته، أو أمهاته، أو بنات أخيه، أو بنات أخته، أو عماته، أو خالاته.. جاز ذلك. وإن كن أجنبيات عنه.. لم يجز؛ لأنه لا يجوز له الخلوة بهن.(4/36)
[فرع يشترط للحج إمكان السير]
وأما إمكان السير: فهو شرط في وجوب الحج، فإن وجدت فيه هذه الشرائط، ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج.. لم يجب عليه الحج.
وقال أحمد: (إمكان السير له ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الأداء) وكذلك أمن الطريق عنده.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] .
وهذا غير مستطيع، ولأنه معنى يتعذر معه فعل الحج، فمنع من وجوبه، كالزاد والراحلة.
[مسألة وجوب الحج لمن هو دون مسافة القصر]
فأما أهل مكة، ومن كان داره من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فإن كان صحيحا يقدر على المشي.. لم يكن من شرط وجوب الحج عليه، وجود الراحلة؛ لأنه ما من أحد إلا ويقدر على قطع مثل هذه المسافة من غير أن يناله مشقة كثيرة، فلم يمنع ذلك من وجوب الحج عليه، كما لا يمنع قطع المسافة من بيته إلى الجامع من وجوب الجمعة عليه. ولأن أهل الآفاق ينالهم من المشقة بالركوب إلى الحج أكثر مما ينال أهل مكة بالمشي إلى الحج، وذلك لا يمنع من وجوب الحج عليهم، فكذلك هذا مثله.
وإن كان زمنا.. فلا حج عليه إلا بوجود الراحلة، ولا يجب عليه الحبو؛ لأن المشقة بالحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة بالسير في المسافة البعيدة.
وأما الزاد، وما يحتاج إليه من النفقة في أيام شغله بالنسك: فلا بد من وجوده، فإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم، مثل: أن يكون صانعا يكتسب كل يوم ما يقوته إن لم(4/37)
يكن له عيال، أو يقوته ويقوت عياله، ولا يفضل عنه شيء.. فلا يجب عليه الحج؛ لأنه غير واجد للزاد.
[مسألة أفضلية الركوب للحج]
] : قال الشافعي: (الركوب في الحج أفضل من المشي فيه) ، ثم قال الشافعي في موضع آخر: (إن أوصى أن يحج عنه ماشيا.. حج عنه ماشيا، ولو نذر الحج ماشيا.. لزمه المشي فيه) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أن الركوب أفضل؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حج راكبا» ، ولأنه أعون على قضاء المناسك، كما قلنا: إن الإفطار يوم عرفة للحاج أفضل.
والثاني: أن المشي أفضل من الركوب؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا) ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] [الحج: 27] و: (كان الحسين بن علي يمشي في الحج) .(4/38)
ومن أصحابنا من قال: الركوب أفضل، قولا واحدا ـ وهي طريقة البغداديين من أصحابنا ـ لما ذكرناه. وأما نصه في (الوصية) : فلا يدل على أن ذلك الأفضل من مذهبه؛ لأنه يجب عليه في الوصية ما وصى به وإن كان غيره أفضل منه، ألا ترى أنه لو أوصى: أن يتصدق بدرهم.. لم يجزه أن يتصدق عنه بدينار، وإن كان أفضل منه. وأما ما روي عن ابن عباس: ففعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أولى بالاتباع.
[مسألة المستطيع بغيره]
وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون معضوبا في بدنه لا يقدر على أن يثبت على مركب إلا بمشقة غير محتملة، أو بلغ من الكبر ما لا يمكنه الاستمساك على المركب، أو كان شابا نضو الخلق لا يستمسك على الراحلة، فإن لم يكن له مال، ولا من يطيعه.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال يمكنه أن يدفعه إلى من يحج عنه، ولم يجد من يستأجره به.. لم يجب عليه الحج؛ للآية.
وإن كان له مال، ووجد من يستأجره بأجرة المثل للحج.. وجب عليه أن يستأجره، فإن فعل ذلك، وإلا.. استقر فرض الحج في ذمته. وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.(4/39)
وقال مالك: (لا يجب عليه أن يستأجر) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقالت:
يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه.. نفعه»
وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شيخ يجد الاستطاعة؟ فقال: (يجهز من يحج عنه) . ولأنها عبادة يجب عليه بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غير فعله مقام فعله فيها، كالصوم إذا عجز عنه.. فإنه يفتدي.
وإن لم يكن للمعضوب مال، ولكن له من يطيعه بالحج.. فإنه يجب عليه الحج بذلك.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يجب عليه الحج بطاعة غيره له) .
دليلنا: ما روي «عن أبي رزين العقيلي: أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أبا شيخا كبيرا لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، أفأحج عنه؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أبيك واعتمر» ، وروى أبو هريرة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن(4/40)
أمي أسلمت، ولا تكاد أن تثبت على مركب، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أمك» ، وهذا صيغته صيغة الأمر، والأمر إذا تجرد عن القرائن.. اقتضى الوجوب، فدل على: أنه وجب الحج على المحجوج عنه بوجود من يطيعه، ولهذا أمر المطيع بالحج، ولأنه يمكنه أن يحصل الحج عن نفسه، فلزمه الحج، كما لو قدر على المال.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإنما نريد بقولنا: (يجب على المعضوب الحج ببذل الطاعة) : وهو أن يكون للمعضوب من يطيعه، ويثق بطاعته إذا أمره بذلك.. فيجب على المعضوب الحج بذلك، سواء بذل له المطيع أو لم يبذل له.
وقولنا: (بذل له الطاعة) توسع في الكلام ومجاز فيه؛ لأن الشافعي قال: (متى قدر على من يطيعه في الحج عنه.. لزمه الفرض) .
ولا يجب عليه الحج، إلا أن يكون في المطاع ثلاثة شرائط، وفي المطيع ثلاثة شرائط.(4/41)
فأما الشرائط في المطاع: فأن يكون لم يحج عن نفسه، وأن يكون ميؤسا من حجه بنفسه بزمانة أو كبر، وأن يكون فقيرا، فأما إذا كان له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه.. وجب عليه الحج بماله.
وأما الشرائط في المطيع: فأن لا يكون عليه حج واجب: إما فرض أو نذر، وأن يكون المطيع موثوقا بطاعته في أنه يفي بما بذل، فأما إذا كان مشكوكا في طاعته.. فلا يجب عليه؛ لأن العبادة لا تجب بالشك، وأن يكون الباذل ممن يجب عليه الحج بنفسه، بأن تكون الشرائط التسع موجودة فيه.
فإن كان فقيرا.. فهل يجب على المطاع الحج إذا كان واثقا بطاعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الحج؛ لأنه واجد لمن يطيعه وإن كان بمشقة، فوجب عليه الحج، كما لو زمن ومعه دراهم لا تقوم بأجرة المثل للحج، فرضي رجل بأن يحج بها عنه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المطاع لو كان فقيرا يقدر على المشي بنفسه، لم يجب عليه الحج.. فلأن لا يجب عليه الحج بقدرة غيره على المشي أولى.
[فرع وجوب الحج على المطاع]
فإن كان هذا المطيع ولدا للمطاع، أو ولد ولده وإن سفل.. وجب على المطاع الحج بذلك، بلا خلاف على المذهب.(4/42)
وإن كان أخا له، أو ابن أخ، ومن أشبههما من العصبات، أو أجنبيا عنه ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحج بطاعته؛ لأن الحج إنما وجب عليه بطاعة الولد؛ لأن ماله كماله؛ بدليل: أن نفقته تجب عليه، ولا يقطع بسرقة ماله، وغير ذلك من الأحكام، وهذا لا يوجد لغير الابن.
والثاني: يجب عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي أطلق ذلك، ولأنه واجد لمن يطيعه في الحج، فأشبه الولد.
[فرع وجود المطيع بلا علم المطاع]
وإن كان له من يطيعه، وهو لا يعلم به.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن ذلك بمنزلة أن يكون له مال لا يعلم به، بأن يموت مورثه. ولم يذكر حكمه.
قال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": يجري ذلك مجرى من نسي الماء في رحله وتيمم وصلى.. هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان.
[فرع استئذان المطيع]
] : وإذا كان له من يطيعه.. فإنه يجب على المطاع أن يأمره بالحج، وإن استأذنه المطيع بالحج عنه.. وجب عليه أن يأذن له. فإن حج عنه بغير إذنه.. لم يجزه.
وإن استأذنه، فلم يأذن له.. فإن الحاكم يأمره بأن يأذن له، فإن لم يفعل، وأقام على الامتناع.. فهل يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع بالحج عن المطاع؟ فيه وجهان:(4/43)
أحدهما: يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع، فإذا حج عن المطاع.. وقع عنه، كما إذا كان عليه زكاة أو دين، وامتنع من أدائه.. فإن الحاكم ينوب عنه في ذلك.
والثاني: لا يجوز إذن الحاكم بذلك، وهو الصحيح؛ لأن الحج عن الغير بغير إذنه لا يجوز، فلو جوزنا إذن الحاكم في ذلك.. لوقع الحج عنه بغير إذنه مع إمكانه، فلم يجز، ويخالف الزكاة والدين؛ لأن ذلك يتعلق به حق الآدمي، بخلاف الحج عنه.
وإن كان للمعضوب مال، ولم يستأجر من يحج عنه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا ينوب عنه الحاكم في الاستئجار وجها واحدا. والفرق بينه وبين الإذن للمطيع: أن له غرضا في تأخير الاستئجار، بأن ينتفع بماله.
وأما المسعودي [في " الإبانة " ق 173] : فحكى فيه وجهين:
أحدهما: هذا؛ لأن الحج لا يستأجر عنه؛ لأنه على التراخي.
والثاني: يستأجر عنه، قال: وهو الأصح؛ لأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة، فأما إذا زمن.. فقد يضيق وقته، فلم يكن له التأخير.
[فرع رجوع الباذل ببذله]
وهل يجوز للباذل الرجوع عنه بعد البذل؟ ينظر فيه:
فإن كان قد أحرم عن المبذول عنه.. لم يجز له الرجوع؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه. وإن كان لم يحرم عنه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له الرجوع؛ لأنه قد لزم المبذول له الحج ببذله، فلزم الباذل.
والثاني: يجوز له الرجوع، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجب عليه البذل، فلم يلزمه بالبذل حكم.
[فرع وجوب الحج على المطاع بيسار ولده أو ببذل الأجنبي]
] : فإن كان الولد المطيع معضوبا، لا يقدر على الحج عن والده بنفسه، ولكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وبذل له ذلك.. فذكر الشيخ أبو حامد،(4/44)
والمحاملي، وابن الصباغ في " التعليق " و " المجموع " و " الشامل ": أنه يجب الحج على المبذول له بذلك وجها واحدا؛ لأنا قد أقمنا المطيع مقام المطاع، وقد ثبت أن اليسار الذي في المطيع لو كان في المطاع.. لوجب عليه الحج به، فكذلك إذا كان فيمن أقمناه مقامه.. وجب عليه الحج بذلك.
فأما إذا بذل الولد لوالده المال ليستأجر هو به عن نفسه من يحج عنه، أو كان الوالد صحيحا معسرا فبذل له الولد المال ليحج عن نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحج بذلك، كما يلزمه الحج إذا بذل الحج لا بنفسه.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه لا يصير قادرا على الحج إلا بعد تملك المال، وتملك المال اكتساب، والاكتساب لا يجب عليه. والفرق بينه وبين بذل الحج بالبدن: أن الإنسان لا يلحقه كثير منة بعمل البدن، وتلحقه المنة العظيمة بقبول قليل المال.
وأما إذا بذل له الأجنبي المال؛ ليستأجر به عن نفسه، أو يحج به عن نفسه.. قال صاحب " الفروع ":
فإن قلنا في الولد: لا يلزمه.. ففي الأجنبي أولى أن لا يلزمه.
وإن قلنا: يلزمه ببذل الولد له ذلك.. ففي الأجنبي وجهان، الصحيح: أنه لا يلزمه؛ لأن مال ولده كماله في النفقة وغيرها، بخلاف مال الأجنبي.
[مسألة الحج على التراخي]
] : إذا وجدت شرائط وجوب الحج.. وجب عليه الحج، ويجوز له أداؤه على التراخي.
والمستحب له: أن يقدمه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] [البقرة: 148] .(4/45)
هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: الحج يجب على الفور، فمتى أخر الحج عن أول سنة يمكنه الحج فيها.. أثم، وبه قال مالك، وأحمد، والمزني، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وليس بمشهور عنه.
واحتجوا بقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه الحج، فلم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، أو نصرانيا» ، فلو كان على التراخي.. لما توعده.
دليلنا: ما روي: أن فريضة الحج أنزلت سنة ست من الهجرة، وحكى الطبري وجها آخر: أنه كان واجبا قبل الهجرة، وليس بشيء.
وبالإجماع: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يحج إلا سنة عشر من الهجرة ومعه مياسير الصحابة، مثل: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما، فلو كان الحج على الفور.. لما جاز لهم التأخير مع إمكانه.
فإن قيل: إنما أخره النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى سنة عشر؛ لأن المشركين صدوه عن المسجد الحرام، أو كان غير واجد للزاد والراحلة إلى سنة عشر.
فالجواب: أن هذا غلط؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحصر بالحديبية سنة ست، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فخرج إليه سهيل بن عمرو، وصالحه على: أن يرجع إلى المدينة تلك السنة، ثم يرجع إلى مكة العام المقبل، فرجع إلى المدينة، ثم دخل مكة في العام المقبل معتمرا، ولهذا سميت عمرة القضاء، وقد كان يمكنه أن يجعل بدل العمرة الحج.(4/46)
وأيضا: فإنه قد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وصارت دار الإسلام وقد بقي بينه وبين الحج مدة قريبة، ولا يكاد يعدم النفقة لتلك المدة، فلم يقم بمكة، بل أمر عليها عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة، وأمر أبا بكر على الحج سنة تسع، وأردفه بعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسار بعد ذلك إلى قتال هوازن، فلما فرغ منهم اعتمر من الجعرانة، وقد كان بقي بينه وبين الحج عشرون يوما، فلم يقف بل رجع إلى المدينة، ولم يكن عادما للزاد، لأنه روي: «أنه أهدى في عمرته سبعين(4/47)
بدنة» فلما كان سنة عشر، حج من المدينة، وحج معه مياسير الصحابة، فدل على: أن الحج على التراخي.
وأما الخبر الذي احتجوا به: فلا يدل على أن الحج على الفور؛ لأن من وجد الزاد والراحلة فلم يحج حتى مات.. فهو متوعد، ونحن نقول: إنه يأثم.
ولأن التعلق بظاهر الخبر لا يمكن؛ لأنه يقتضي: أن من وجب عليه الحج، وأمكنه الحج، فلم يفعل حتى مات.. إن موته كموت اليهودي والنصراني، ولا يقول بهذا أحد؛ لأن الإنسان لا يكفر بترك الحج، فعلم: أن المراد بالخبر إذا تركه ولم يعتقد وجوبه.. فإنه يموت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
إذا ثبت ما ذكرناه: ووجب عليه الحج، فلم يحج حتى مات.. فهل يأثم بذلك؟
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ حكاه القفال ـ: أنه لا يأثم بذلك؟ لأنا جاوزنا التأخير، فلم يفعل شيئا محظورا.
والثاني ـ حكاه ابن الصباغ: إن خاف الكبر والفقر والضعف، فلم يحج حتى مات.. أثم بذلك. وإن اخترمته المنية قبل خوف الفوات.. لم يأثم؛ لأنه لا يمتنع أن يعلق الحكم على غلبة ظنه، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] . وأراد: إذا غلب على ظنه.
والثالث ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يأثم؛ لأنه إنما جاوزنا له التأخير بشرط السلامة، كما جوز للمعلم ضرب الصبي، وللزوج ضرب زوجته بشرط السلامة، فأما إذا أفضى ضربهما إلى التلف.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.(4/48)
فإذا قلنا بهذا: فمتى يأثم؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه يأثم بتأخيره عن السنة الأخيرة التي فاته الحج بتأخيره عنها؛ لأن الفوات حصل بها.
والثاني: يأثم بتأخيره عن السنة الأولى؛ لأنه إنما جوز له التأخير عنها، بشرط أن يفعله بعدها، فإذا لم يفعل.. تبين أنه أثم بتأخيره عنها.
والثالث: أنه يأثم لا في وقت بعينه، وإنما يحكم عليه بالموت قبل الحج بالإثم.
والرابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الضعف والكبر؛ لأنه كان من سبيله أن يحج قبل ذلك.
فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فلم يصل حتى مات.. فهل يكون عاصيا؟
إن قلنا: لا يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة أولى أن لا يكون عاصيا.
وإن قلنا: يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة وجهان.
والفرق بينهما: أن لوقت الصلاة آخرا معلوما، فلا يكون عاصيا مفرطا بالتأخير إليه، وليس لوقت الحج آخر معلوم؛ لأن آخر وقته العمر، وذلك غير معلوم، فكان من سبيله التعجيل، فإذا لم يفعل.. كان عاصيا.
[مسألة الحج عن الميت]
) : إذا وجدت في الإنسان الشرائط التي يجب عليه بها الحج، فمات قبل أن يتمكن من الأداء.. لم يجب عليه القضاء.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن أبا يحيى البلخي قال: يجب القضاء من ماله.
وليس بشيء؛ لأنه مات قبل أن يتمكن من أدائه، فلم يجب عليه القضاء، كما لو هلك المال بعد الحول، وقبل التمكن من أداء الزكاة(4/49)
فإن وجدت فيه الشرائط، وتمكن من فعل الحج، فمات.. لم يسقط عنه الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يسقط عنه بموته، ولا يجوز الحج عنه، إلا إذا أوصى، ويكون تطوعا) .
دليلنا: «أن المرأة الخثعمية قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته.. نفعه» ، فأذن لها بالحج عن أبيها، ولم يسأل عنه: أحي هو أم ميت؟ ولم يفرق بين أن يوصي أو لم يوص، ولأنه شبهه بقضاء الدين، وقضاء الدين يجوز بعد الموت بغير وصية، فكذلك الحج.
«وروى ابن عباس: أن امرأة سألته أن يسأل لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن أمها ماتت ولم تحج، فهل يجزئها أن تحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: لو كان على أمها دين فقضته عنها.. أما كان يجزئ عنها؟»(4/50)
ولأنه حق تدخله النيابة، استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.
فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الصلاة والصوم.
وقولنا: (استقر وجوبه في حال الحياة) احتراز منه إذا مات قبل أن يتمكن منه، ومن مال الكتابة؛ لأنه يسقط بموت المكاتب.
إذا ثبت هذا: فإن كان له مال.. قضي عنه من رأس المال، وذكر الشافعي في موضع: (أنه لو قيل: إن أوصى بحج.. حج له من الثلث، وإن لم يوص.. لم يحج) .
قال صاحب " الإبانة " [ق\ 174] فمن أصحابنا من جعل هذا قولا آخر.
ومنهم من قال: يحج عنه من رأس المال قولا واحدا، وهو الصحيح.
وحيث قال: (يحج عنه من ثلثه) إنما قاله حكاية لمذهب أبي حنيفة؛ لأنه مذهبه.
وإن اجتمع الحج والدين، وضاقت التركة عنهما.. ففيه ثلاثة أقوال، ذكرناها في الزكاة.
وإن لم يكن له مال.. لم يجب على وارثه أن يحج عنه، فإن تطوع عنه وارثه جاز، ويكون بالخيار: بين أن يحج عن نفسه بنفسه، أو يستأجر من يحج عنه من ماله، وإذا فعل ذلك.. سقط الفرض عنه، ولا يفتقر إلى إذنه؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن.
[مسألة النيابة في الحج]
] : الحج تدخله النيابة، ويقع الحج عن المحجوج عنه، وهي رواية الأصول عن أبي حنيفة.(4/51)
وروي عنه رواية شاذة، رواها عنه محمد: أن الحج لا يدخله النيابة، وإذا استناب.. وقع الحج عن الحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة.
دليلنا: ما ذكرناه من خبر الخثعمية، وخبر ابن عباس، ولأنها عبادة تدخلها الاستنابة، فدخلتها النيابة، كالزكاة.
والمراد بقولنا: (الاستنابة) : هو أنه يلزمه أن يدفع المال إلى من يحج عنه.
إذا ثبت هذا: فيجوز للرجل أن يحج عن الرجل والمرأة، ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل والمرأة.
وقال الحسن بن صالح: يكره أن تحج المرأة عن الرجل.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الخثعمية.
[فرع مواضع الإنابة في الحج]
] : ويجوز النيابة في حج الفرض في موضعين:
أحدهما: في حق الميت: لحديث ابن عباس الذي تقدم.
والثاني: في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة؛ لما ذكرناه من حديث الخثعمية.
فأما إذا أراد الصحيح أن يستأجر من يحج عنه حجا واجبا أو تطوعا، أو أراد إنسان أن يحج عن المعضوب بغير إذنه، أو أراد إنسان أن يحج عن الميت حجا ليس بواجب عليه ولم يوص به.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب: أنه لا يجوز النيابة في هذه المسائل.
وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز للصحيح القادر أن يستنيب في حج التطوع) .
دليلنا: أنه قادر على أداء الحج بنفسه، فلم تجزه الاستنابة فيه، كالفرض.(4/52)
فإذا أراد المعضوب أن يستأجر من يحج عنه تطوعا، أو أوصى الميت أن يحج عنه تطوعا.. فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن كل عبادة دخلت النيابة في فرضها.. دخلت النيابة في نفلها، كالزكاة، وعكسه الصلاة والصوم.
والثاني: لا يجوز، وهو اختيار المحاملي؛ لأنه من عبادة البدن، وإنما دخلت النيابة في الفرض منه لموضع الضرورة، ولا ضرورة إلى التطوع.
ودليل هذا القول: ينكسر بالتيمم.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: تجوز النيابة في حج التطوع.. جاز للمعضوب أن يستأجر من يحج عنه حجتين وثلاثا وأكثر، وكذلك تجوز الوصية بحجتين وثلاث وأكثر، ويستحق الأجير الأجرة المسماة.
وإن قلنا: لا تجوز النيابة في حج التطوع، فخالف المعضوب واستأجر من يحج عنه أو أوصى بذلك، وحج الأجير عنه.. كانت الإجارة فاسدة، ووقع الحج عن الأجير، ولا يستحق الأجير المسمى قولا واحدا، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن الإحرام انعقد له، فلم يستحق أجرة، كما لو استأجر صرورة.
والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأنه لم يبذل له منافعه إلا بعوض يحصل له، وقد تلفت عليه تلك المنافع؛ لأنه لم يحصل له بالحج فائدة؛ لأن فرضه لم يسقط به، فاستحق أجره، ولا يحصل له ثواب؛ لأن الثواب إنما يكون على القصد، ولم(4/53)
يقصد التطوع عن نفسه، فاستحق أجرة المثل، كما لو غصب من رجل شيئا، واستأجر من ينقله من مكان إلى مكان.. فإن الناقل يستحق عليه الأجرة، ويخالف الصرورة؛ فإن الفرض يسقط عنه، فحصل له الثواب.
[فرع استحقاق الأجير أجره بصرفه الإحرام لنفسه]
] : إذا أحرم الأجير عن المستأجر في موضع يصح إحرامه عنه فيه، ثم بعد ذلك صرف الأجير الإحرام إلى نفسه، وأتى بالأفعال معتقدا أنها عن نفسه.. لم ينصرف إليه؛ لأن الإحرام إذا انعقد عن شخص.. لم ينتقل إلى غيره، وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا أجرة له؛ لأنه قد اعتقد أن الأفعال لنفسه، فلم يستحق أجرتها على غيره.
والثاني: يستحق الأجرة، وهو الصحيح؛ لأن النسك حصل للمحجوج عنه، ولا تأثير لما اعتقده الأجير، كما لو استأجره لبناء، فبناه معتقدا أنه لنفسه.
[فرع استنابة المريض]
وأما المرض: فضربان:
ضرب: خفيف لا يخشى منه التلف، كالصداع، ووجع العين والضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز أن يحج الغير عنه فيه بلا خلاف؛ لأنه متمكن منه بنفسه.
و [الضرب الثاني] : إن كان المرض مخوفا، فإن كان غير ميؤس من برئه.. لم يجز له أن يستنيب الغير، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز) .
دليلنا: أنه غير ميؤس من حجه بنفسه، فلا يجوز له الاستنابة، كالفقير.(4/54)
إذا ثبت هذا: فإن خالف، فاستناب عن نفسه من حج عنه.. نظرت: فإن برئ من مرضه.. وجب عليه إعادة الحج بنفسه؛ لأن الأول لم يقع عنه. وإن مات من ذلك المرض أو صار ميؤسا منه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان:
أحدهما: يجزئه لأنا تبينا أن المريض كان ميؤسا منه، حيث اتصل به الموت.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه استناب وهو غير ميؤس منه، فأشبه إذا برئ.
فأما إذا كان ميؤسا من برئه.. جاز له أن يستنيب.
فإن حج عنه.. نظرت: فإن مات.. فقد أجزأه. وإن برئ من مرضه.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالأولى:
[أحدهما] إن قلنا ثَمَّ: يجزئه اعتبارا بما آل إليه.. لم يجزئه هاهنا؛ لأنه آل إلى الصحة.
و [الثاني] : إن قلنا ثَمَّ: لا يجزئه اعتبارا بحال الاستنابة.. فهاهنا يجزئه؛ لأن حال الاستنابة كان محكوما بإياس البرء منه.
[والطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه قولا واحدا؛ لأنا تبينا أنه لم يكن ميؤسا منه، وإنما أخطأنا في ظننا، فيجب عليه أن يحج بنفسه.
فكل موضع قلنا: يصح الحج عن المريض.. استحق الأجير الأجرة المسماة. وكل موضع قلنا: لا يقع الحج عن المريض.. فقد وقع عن الأجير، ولم يستحق الأجرة المسماة، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان، كما قلنا في الأجير، إذا صرف الإحرام إلى نفسه.(4/55)
[فرع الاستنابة عن المجنون]
] : الجنون غَيْر ميؤس من زواله، فإذا وجب عليه الحج، ثم جن.. لم يجز أن يستنيب من يحج عنه.
قال ابن الصباغ: فإذا استنيب عنه في حال جنونه من يحج عنه، ثم أفاق.. لزمته الإعادة قولا واحدا. فإن مات فيه.. فينبغي أن يكون على القولين، مثل التي قبلها.
[مسألة الاستنابة لمن عليه الحج]
لا يجوز لمن عليه حجة الإسلام، أو حجة نذر أو قضاء أن يحج عن غيره، وكذلك في العمرة.
فإن أحرم عن غيره.. وقع الحج عن الحاج، لا عن المحجوج عنه، وبه قال ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: (أنه لا ينعقد عنه، ولا عن غيره) .
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يحج عن غيره، وعليه فرض الحج، أو نذره أو قضاؤه) .
وقال الثوري: إن كان قادرا على الحج عن نفسه.. لم يجز أن يحج عن غيره، وإن كان غير قادر لعدم الزاد والراحلة. جاز أن يحج عن غيره.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا يلبي عن شبرمة، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ومن شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحججت عن نفسك؟ " فقال: لا، قال: فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»(4/56)
ومعنى قوله: «حج عن نفسك» أي: استدم هذا الحج عن نفسك؛ لأن المتلبس بالشيء إذا خوطب بفعله.. فمعناه الاستدامة له، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] [النساء: 136] أي استديموا الإيمان.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] [الأحزاب: 1] وأراد استدام التقى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفارقه التقى.
وقد روي عنه: أنه قال له: «هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة،» وهذا نص.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فلم يقع فعله عن غيره وعليه فرضه، كطواف الزيارة.
ولا يجوز أن يحج العبد عن غيره وإن كان بإذن سيده؛ لأنه لم يحج عن نفسه حجة الإسلام، فلم يصح أن يحج عن غيره، كالصبي والكافر.(4/57)
[فرع إحرام التطوع والنذر لمن عليه حجة الإسلام]
وحكم تسمية الصرورة] : ولا يجوز أن يحرم بتطوع الحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك لا يجوز أن يحرم بهما عن النذر وعليه فرضهما.
فإن أحرم عن النذر، أو عن التطوع وعليه حجة الإسلام.. انصرف إلى فرض حجة الإسلام.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يتطوع بالحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك يأتي بالنذر عنهما وعليه فرضهما) .
دليلنا: أنه أحرم بالحج وعليه فرضه، فوقع عن الفرض، كما لو أحرم مطلقا.
فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن التطوع، أو عن النذر، وعليه فرضه.. انعقد عن الفرض؛ لأنه قائم مقامه، وحكمه في نفسه هكذا، فكذلك من يقوم مقامه.
قال الشافعي: (وأكره أن يسمى من لم يحج صرورة) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «لا صرورة في الإسلام» وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم ليس بصرورة» . والكراهية كراهية تنزيه لا تحريم، و (الصرورة) ـ عند العرب ـ: من لم يحج، أومن لم يتزوج، قال النابغة:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة المتعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد(4/58)
[مسألة الاستنابة لحجتين في عام واحد]
] : إذا كان على المعضوب حجتان: حجة الإسلام، وحجة نذر، فأحرم عنه رجلان بإذنه، في سنة واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجرئه عن حجة الإسلام دون حجة النذر؛ لأنه لا يجوز أن يحج عن نفسه في سنة واحدة حجتين، فكذلك من يقوم مقامه عنه.
والثاني: يجزئه عنهما، وهو المنصوص؛ لأنه لا يؤدي إلى وقوع المنذورة قبل حجة الإسلام، بل يقعان معًا.
[مسألة وجوب الحج في أشهره]
ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر.(4/59)
وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة: (يصح إحرامه بالحج، ولكن لا يأتي بشيء، من الأفعال قبل أشهر الحج) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
وتقدير الآية: وقت إحرام الحج أشهر، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون تقديرها: وقت أفعال الحج أشهر؛ لأن أفعال الحج تقع في يومين أو ثلاثة، فلا تفتقر إلى الأشهر.
ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] و (الفرض) : هو النية، فثبت أنه: أراد الإحرام.
ولأن الحج عبادة أفعالها مؤقتة، فكان الإحرام به مؤقتا، كالصلاة.
ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فكان مؤقتا، كالوقوف والطواف.
إذا ثبت هذا: فأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وبه قال ابن الزبير، وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن علي وابن عباس.(4/60)
وقال أبو حنيفة: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، ويوم النحر) ، فخالفنا في يوم النحر.
وقال مالك: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وجميع ذي الحجة) وهو قول الشافعي في " الإملاء "، والرواية الأخرى عن علي وابن عباس.
والصحيح هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] .
و (الرفث) : الجماع، والمحرم بالحج يحل له الجماع يوم النحر: لأنه يمكنه أن يطوف ويسعى، ثم يجامع فيه، فثبت أنه: ليس من أشهر الحج؛ ولأن يوم النحر يوم يسن فيه الرمي، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام التشريق. وهذا على أبي حنيفة.
وعلى مالك: أن أيام ذي الحجة زمان لو اعتمر فيه مضافا إلى حجه.. لم يكن متمتعا، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام رمضان، وعكسه: ما قبل يوم النحر.
فإن قيل: الأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة؟
فالجواب: أنه قد يعبر بالجمع عن الاثنين وبعض الثالث، ألا ترى أن الناس يقولون في كتبهم: لثلاث خلون، والمراد به اثنان وبعض الثالثة.
[فرع الإحرام بالحج في غير وقته]
] : فإن أحرم بالحج في غير أشهر الحج.. فالمشهور من المذهب - وهو نقل أصحابنا(4/61)
البغداديين ـ: أن إحرامه ينعقد بعمرة.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 178 و 179] : أن الشافعي قال في القديم: (يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة) .
فمن أصحابنا من قال: المراد ـ بنصه هذا في القديم ـ: أن إحرامه لا ينعقد بحج ولا عمرة، ولكن يتحلل كما يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة.
ومنهم من قال: بل المراد به: إن شاء صرف إحرامه إلى عمرة.
والصحيح: أنه ينعقد بعمرة.
وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد: (ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يكون مكروها) .
دليلنا: أن الحج عبادة مؤقتة، فإذا أحرم به في غير وقته.. لم ينعقد إحرامه، وانعقد ما هو من جنسه، كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال.. فإن إحرامه ينعقد بنافلة.
ولا يصح له الإحرام في الحج في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن الوقت يستغرق أفعاله.(4/62)
[مسألة الإحرام بالعمرة في جميع السنة]
] : وأما العمرة: فيجوز فعلها في جميع السنة، ولا يكره فعلها في وقت من السنة.
وقال أبو حنيفة: (يكره فعلها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاث) .
وقال أبو يوسف: يكره فعلها يوم النحر، وأيام التشريق.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق، ولأن كل وقت لم يكره فيه استدامة العمرة.. لم يكره فيه ابتداؤها، كسائر الأوقات.
[فرع تكرار العمرة في السنة]
ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثا، وأكثر. ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة) . وبه قال النخعي، وابن سيرين.
دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق بين أن تكونا في سنة أو سنتين.
وروي: «أن عائشة ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» .(4/63)
وروي عن علي: (أنه كان يعتمر في كل يوم) ، وعن ابن عمر: (أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير) ، ولأن الحج عبادة تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار، كالصوم، ولأن العمرة إنما سميت عمرة؛ لأنها تفعل في جميع العمر.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفعل في موضع عامر.
وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد.
ويستحب أن يكثر من العمرة في رمضان؛ لما روي: «أن أم معقل الأسدية قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وجملي أعجف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: اعتمري في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة»(4/64)
[فرع الشك في الإحرام بحج أو عمرة]
وإن أحرم قبل أشهر الحج، ثم شك: هل أحرم بحج أم بعمرة؟ حكم بإحرامه بعمرة، ولا شك فيها.
وإن أحرم بالحج، ثم شك في أشهر الحج: هل كان إحرامه قبل أشهر الحج، أو في أشهر الحج؟ قال الصيمري: فهو في حج؛ لأنه على يقين من هذا الزمان، وفي شك من تقدمه.
[مسألة التخيير في كيفية أداء الحج والعمرة]
ومن أراد الحج والعمرة في سنة واحدة.. فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يفرد، أو يتمتع، أو يقرُِن؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عام حجة الوداع، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج العمرة ... » .(4/65)
إذا ثبت هذا: فالمشهور من المذهب: أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، وفي الإفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفضل.
والثاني: أن التمتع أفضل.
وقال أبو حنيفة والثوري: (القران أفضل من الإفراد والتمتع) ، واختاره المزني، وأبو إسحاق المروزي، وابن المنذر.
وحكى صاحب " الفروع ": أنه قول ثالث للشافعي، ذكره في " أحكام القرآن "، وإنما اختلف في ذلك، لاختلاف الرواية في أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قرن أو تمتع أو أفرد، فمن قال: إن القران أفضل.. احتج بما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لبيك بحجة وعمرة»(4/66)
وكذلك رواه عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين.
وإذا قلنا: إن التمتع أفضل ـ وبه قال أحمد بن حنبل ـ فوجهه: ما روي عن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: تمتع بالحج» ، وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة، فقالت: يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» .(4/67)
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ، فتأسف على ترك التمتع، فعلم أنه أفضل، ولأنه أتى بالعبادتين في وقت شريف، وهو أشهر الحج، فكان أولى.
وإذا قلنا: إن الإفراد أفضل.. فإنما نريد به: إذا أتى بالحج، ثم أتى بالعمرة بعده، فأما إذا أتى بالحج دون العمرة.. فالتمتع أفضل. وهذا هو الصحيح.
ووجهه: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في حجة الودع، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل، وأما أنا: فأهل بالحج»(4/68)
وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر عن حج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فقال: (أفرد الحج، ولم يقرن، ولم يتمتع) ثم سأله في العام الثاني؟ فقال: أليس قد سألتني في العام الأول، فأخبرتك؟ فقال: إن أنسا يقول: (إنه قد قرن بين الحج والعمرة) فقال ابن عمر (إن أنسا كان يتولج على النساء، وهن متكشفات لصغره لا يستترن منه، وأنا تحت ناقة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمسني لعابها، أسمعه يقول: " لبيك بحج» .
وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم إحراما موقوفا لا بحج ولا بعمرة، فلما كان بين الصفا والمروة.. انتظر القضاء، فنزل القضاء، وجعل إحرامه حجا) ، وفي بعض الروايات: (أمر بالحج» .
وأما أخبار من روى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قارنا) ..» فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن من روى الإفراد أعرف بالقصة، وأكثر ضبطا لها؛ لأن عائشة(4/69)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي معه في الليل والنهار، فهي أعرف بأموره، وابن عمر كان بالقرب منه، وتحت ناقته، وجابر بن عبد الله اهتم بنقل المناسك أكثر مما اهتم بها سواهُ، ولهذا وصف: أن إحرام النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان موقوفا، وأنه انتظر القضاء، وأنس كان صغيرا، كما قال ابن عمر.
والجواب الثاني: أن نتأولها، فنقول: خبر أنس: أنه سمعه يقول: «لبيك بحجة وعمرة» أي: لبيك بحجة حين كان محرما بالحج، ولبيك بعمرة حين كان محرما بعمرة، فجمع بينهما في الرواية، وهذا كما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن استقبال القبلتين» يعني: الكعبة وبيت المقدس، وأراد: أن ذلك كان في وقتين.
وأما حديث علي وابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تمتع بالحج» .. فنحمله على أنه تمتع بالطيب واللباس والحلاق والنساء بعد الفراغ من الحج وقبل العمرة؛ لأنه يسمى تمتعا.
وأما حديث حفصة: فليس على ظاهره؛ لأن أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكونوا محرمين بالعمرة، وإنما كانوا محرمين بالحج، فكانوا يكرهون الاعتمار في أشهر الحج، فلما قدم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مكة.. أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ إحرام الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، فقولها: «حلوا من عمرتهم» تريد: أنهم حلوا من حجتهم بعمل عمرة، وقولها: «وأنت لم تحل من عمرتك» أي: وأنت لم تحل من إحرامك بعمل عمرة. فقال: «لأني لبدت رأسي، وسقت الهدي، وإنما أمرت بفسخ الحج من لم يسق الهدي» ، ولهذا قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ؛ لأن لا أكون في نسك، وهم في نسك غيره؛ لأن التمتع أفضل، ولأن الإفراد مجمع على إباحته، والتمتع والقران مختلف في إباحتهما.
فروي عن عمر وعثمان: (أنهما كرها التمتع) ، وكره سلمان بن ربيعة،(4/70)
وزيد بن صوحان القران، فكان ما أجمع عليه أولى من المختلف فيه.
[مسألة معنى الإفراد والتمتع والقران وإدخال الحج على العمرة]
و (الإفراد) : هو أن يحرم بالحج، وبعد التحلل منه يأتي بعمرة.
و (التمتع) : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد التحلل منها يأتي بالحج في سنته.
و (القران) : هو أن يحرم بحجة وعمرة معا.
فإن أحرم بعمرة، ثم أدخل الحج في أشهر الحج قبل التلبس بالطواف ... صح ذلك، وكان قارنا؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرمت بالعمرة، فلما حصلت بسرف حاضت، فدخل عليها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي تبكي، فقال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ". وفي رواية أخرى: أنه قال لها: " ارفضي عمرتك، وأهلي(4/71)
بالحج» ، والمراد بذلك: ارفضي أفعال عمرتك؛ لأن الحيض يمنعها من الطواف دون الإحرام. يدل على ذلك: أنه قال: «طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة.. يكفيك بحجك وعمرتك» .
فأما إذا طاف للعمرة، أو أخذ في الطواف، وأراد أن يدخل عليها الحج.. لم يصح إحرامه بالحج، نص عليه الشافعي، واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: العلة فيه: أنه إذا طاف.. فقد أخذ في التحلل، وقرب أن يخرج من عمرته، وإنما يدخل عليها الحج ما دام زمنها تاما.
ومنهم من قال: العلة فيه: أنه قد أتى بمعظم العمرة وأكثر أفعالها، فلم يجز إدخال نسك آخر عليها.
وإن استلم الركن للطواف ولم يمش خطوة في الطواف.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يصح له الإحرام بالحج؛ لأن الاستلام مقدمة للطواف، وليس منه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه أول أبعاض الطواف.(4/72)
[فرع إدخال الحج على العمرة]
] : وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، أو في غير أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج في غير أشهر الحج.. لم يصر قارنا، وإنما يتعين إحرامه بالعمرة؛ لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا يصح.
وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأدخل عليها الحج في أشهر الحج قبل الطواف.. صح ذلك، وكان قارنا قولا واحدا؛ لأن إحرامه في كل واحد منهما في وقته صحيح.
[فرع إدخال العمرة على الحج]
] : وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة.. فهل يصح؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يصح ويكون قارنا) . وبه قال أبو حنيفة: لأنه أحد النسكين، فصح إدخال الآخر عليه، كالعمرة.
[الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح إحرامه بالعمرة) . وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن الحج أقوى من العمرة؛ لأن فيه وقوفا ورميا، فلم يصح إدخال الأضعف عليه وإن صح دخوله على العمرة، كما أن الفراش بالنكاح، لما كان أقوى من الفراش بملك اليمين؛ لأنه يتعلق به أحكام كالطلاق والظهار والإيلاء.. صح أن يدخل فراش النكاح على فراش ملك اليمين، وهو إذا كان تحته أمة يطؤها بملك اليمين ثم تزوج أختها.. فإنه يصح النكاح، ويحرم عليه المملوكة، فإن كان عنده زوجة، ثم ملك أختها.. لم يجز له وطء المملوكة.(4/73)
إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالجديد.. فلا تفريع عليه، وإن قلنا بالقديم.. جاز إدخال العمرة على الحج قبل الوقوف بعرفة.
وأما إذا وقف بعرفة، ولم يرم، ولم يطف.. فهل يصح إدخال العمرة هاهنا؟ فيه وجهان مبنيان على التعليلين في أنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف:
[أحدهما] : فإن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أتى بمعظم العمرة.. لم يجز هاهنا أيضا؛ لأنه قد أتى بمعظم الحج.
و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أخذ في التحلل.. جاز إدخال العمرة هاهنا على الحج؛ لأنه لا يأخذ في التحلل من الحج إلا بالرمي والطواف.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز له أن يعتمر وقد بقي عليه شيء من أفعال الحج. فلا يصح له أن يعتمر يوم النحر، ولا في اليوم الأول من أيام التشريق؛ لأن عليه الرمي وهو من أفعال الحج.
وأما في اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن كان قبل الزوال.. لم يصح؛ لما ذكرناه. وأما بعد الزوال والرمي.. فينظر فيه: فإن نفر وخرج من منى قبل الغروب.. صح له أن يعتمر؛ لأنه بنفره قد سقط عنه رمي يوم الثالث، وإن لم ينفر حتى غابت الشمس.. لزمه رمي يوم الثالث، فلا يجوز له أن يعتمر حتى يرمي في اليوم الثالث.(4/74)
[فرع إدخال الحج على عمرة فاسدة]
] : وإن أحرم بالعمرة فأفسدها، ثم أدخل عليها الحج.. ففيه وجهان:
أحدهما: ينعقد الحج، ويكون فاسدا؛ لأنه إدخال حج على عمرة، فأشبه إذا كانا صحيحين.
والثاني: لا ينعقد الحج، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن إحرامه بالحج يقع صحيحا؛ لأنه مقارن لفاسد، ولا يجوز أن يقال: إنه ينعقد ويكون فاسدا؛ لأنه لم يطرأ على إحرامه ما يفسده، ولا يفسد بالوطء قبله، فلم يبق إلا أن يقال: لا ينعقد أصلا.
[مسألة جواز التمتع وشروط وجوب الدم]
] : قد ذكرنا أن التمتع جائز، وهو قول كافة أهل العلم، إلا ما روي عن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ: (أنه كان ينهى عنه) ، فروي عنه: أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنا أنهى عنهما، بل أعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأباح التمتع، وأوجب فيه الهدي.(4/75)
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل» .
وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالشام: أيجوز التمتع؟ فقال: يجوز، فقال: إن أباك كان ينهى عنه، فقال: أرأيت لو فعل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شيئا، ونهى عنه أبي.. أكنت تأخذ بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أو بنهي أبي؟ فقال: بل بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: (تمتع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وتمتعنا معه»
قال الشيخ أبو حامد: وما روي عن عمر، فله تأويلان:
أحدهما: أنه كان ينهى عن التمتع الذي فعله أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهو: أن يحرم بالحج، ثم يفسخه إلى عمرة؛ لأن ذلك كان خاصا لهم؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز الاعتمار في أشهر الحج، ففسخ النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حجهم إلى عمرة؛ ليبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج.
والثاني: أن عمر كان ينهى عن التمتع اختيارا منه للإفراد؛ لكي يزيل الإنسان شعره وشعثه في الحج لا في العمرة.
إذا ثبت هذا: فإنه يجب على المتمتع دم؛ للآية، وإنما يجب عليه الدم بشروط:
الشرط الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج في أشهره.. لم يلزمه الدم.(4/76)
وقال طاووس: بل يلزمه الدم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فأقام (إِلَى) مقام (في) ؛ لأن حروف الصفات ينوب بعضها مناب بعض، وهذا يقتضي: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج. ولأنه لم يأت بالعمرة في أشهر الحج. فلم يجب عليه الدم، كالمفرد.
فإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بأفعالها في أشهر الحج ... ففيه قولان:
أحدهما: لا دم عليه، وهو قول قتادة، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن جابر؛ لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فهو كما لو فرغ من العمرة قبل أشهر الحج.
والثاني: عليه الدم، وهو قول الحسن، والحكم، وابن شبرمة؛ لأنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج.
فإن طاف للعمرة في غير أشهر الحج.. قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الدم قولا واحدا.
وقال القفال: إذا أتى بالحلاق في أشهر الحج وحده، وقلنا: إنه نسك، وأتى بباقي أفعالها في غير أشهر الحج.. فهل يكون متمتعا؟ فيه قولان، كما لو أحرم بها(4/77)
في غير أشهر الحج، وأتى بباقي أفعالها في أشهر الحج. وهذا يوافق قول مالك، وعطاء، والحسن.
دليلنا عليهم: أنه أتى بأفعال العمرة في غير أشهر الحج، فهو كما لو تحلل منها في غير أشهر الحج.
فإذا قلنا: يجب عليه الدم.. فلا كلام.
وإن قلنا: لا يجب عليه الدم.. فقال أبو العباس بن سريج: إنما لا يجب عليه الدم، إذا مر بالميقات قبل أشهر الحج، فأما إذا مر بالميقات في أشهر الحج.. لزمه الدم؛ لأنه مر بالميقات في أشهر الحج، وهو مريد للحج.
والشرط الثاني: أن يحج من سنته، وهل يشترط أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط.
و [الثاني] : قال أحمد وأبو علي بن خيران: (يشترط) .
فأما إذا اعتمر في سنة، ثم حج في عام آخر.. لم يجب عليه الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه الدم، كالمفرد.
والشرط الثالث: أن لا يعود لإحرام الحج إلى ميقات بلده، فإن عاد إلى ميقات(4/78)
بلده، وأحرم منه بالحج.. لم يجب عليه الدم؛ لأنه إنما وجب عليه الدم لأجل ترك الميقات للحج، وهذا لم يتركه.
قال الطبري: وهكذا لو لم يرجع إلى ميقات بلده الذي مر به، لكن رجع إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى، وأحرم بالحج منها.. لم يجب عليه الدم.
وذكر صاحب " الإبانة " (ق\187) : أنه إذا سافر بعد عمرته سفرا تقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته.. أنه لا دم عليه.
فعلى قياس ما ذكره الطبري، وصاحب " الإبانة ": إذا أحرم الأفقي بالعمرة في أشهر الحج من ميقات بلده، وتحلل منها، ثم خرج إلى مدينة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحرم بالحج من ذي الحليفة، ثم حج من سنته.. فإنه لا يجب عليه دم التمتع.
قال ابن الصباغ: ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في القديم: (إذا مر بالميقات، ولم يحرم بالعمرة منه حتى صار بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فأحرم بالعمرة من هناك.. لم يلزمه دم التمتع) ؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام، وإنما يجب عليه دم لترك الميقات.
[فرع إحرام المتمتع والتعريف بحاضري المسجد الحرام]
فرع: [إحرام المتمتع من مكة أو من خارجها والتعريف بحاضري المسجد الحرام] : إذا لم يرد المتمتع العود إلى ميقات بلده.. فإنه يحرم بالحج من مكة، وفي موضع استحباب الإحرام منها قولان، حكاهما في " العدة ":(4/79)
أحدهما: أن الأفضل أن يطوف بالبيت سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يحرم.
والثاني: أن الأفضل أن يحرم من جوف منزله، ثم يطوف بالبيت بعد ذلك محرما.
فإن أحرم بالحج من مكة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرما بالحج قبل التلبس بشيء من أفعال الحج.. فهل يسقط عنه دم التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه مر بالميقات محرما بالحج قبل الوقوف، فهو كما لو أحرم منه.
والثاني: لا يسقط، وبه قال مالك؛ لأن له ميقاتين يجب عليه الدم بالإحرام من أحدهما فإن أحرم منه.. لم يسقط عنه الدم بالعود إلى الآخر، كما لو عاد بعد الوقوف.
وقال أبو حنيفة: (لا يسقط عنه الدم حتى يعود إلى بلده) .
دليلنا: أن بلده موضع لا يجب عليه الإحرام منه بابتداء الشرع، فلا يسقط عنه الدم بالعود إليه، كسائر البلاد.
وإن خرج من مكة إلى الحل، وأحرم بالحج من هنالك.. فقد ترك ميقاته، فإن عاد إلى مكة محرما قبل الوقوف.. كان كما لو أحرم من مكة. وإن مضى إلى عرفات قبل أن يعود إلى مكة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه دمان: دم التمتع، ودم لترك الإحرام من مكة.(4/80)
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجب عليه إلا دم واحد؛ لأن دم التمتع إنما وجب لترك الإحرام بالحج من ميقات بلده، ولا فرق بين أن يترك من الميقات مسافة قليلة أو كثيرة، فإنه لا يجب عليه إلا دم واحد.
وإن أحرم بالحج من موضع من الحرم خارج مكة، ولم يعد إلى مكة قبل الوقوف.. فهل هو كمن أحرم من مكة؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: فيه وجهان:
أحدهما: أنه كمن أحرم من مكة؛ لأن مكة والحرم في الحرمة سواء، كما نقول في ذبح الهدي، وتحريم الصيد والشجر.
والثاني: أنه كمن أحرم من الحل؛ لأن مكة صارت ميقاتا له، فهو كمن لزمه الإحرام من قرية، فخرج عنها وأحرم.
والشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
إذا ثبت هذا: في (حاضروا المسجد الحرام) : من كان بالحرم، أو كان في موضع بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
وقال ابن عباس: (حاضروا المسجد الحرام: من كان بالحرم خاصة لا غير) وبه قال مجاهد، والثوري.(4/81)
وقال مالك: (حاضرو المسجد الحرام: أهل مكة، ومن كان بذي طوى لا غير) .
وقال أبو حنيفة، ومكحول: (حاضرو المسجد الحرام: من كان داره دون الميقات) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فكل موضع ذكر الله تعالى المسجد، فإنما أراد به الحرم كله لا المسجد بنفسه، وذلك كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ،
وأراد به بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وقَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] [الفتح: 25] وأراد به الحرم.
وقَوْله تَعَالَى في المشركين: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] .
ولا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يجوز للمشرك دخول الحرم، وإذا كان كذلك.. فحاضرو الشيء من كان مجاورا له وبالقرب منه، بدليل أنه يقال: فلان بحضرة دار فلان، وإنما يراد به: أنه بالقرب منه، ويقال: فلان بحضرة الأمير، وإنما يراد: بالقرب منه.(4/82)
[مسألة تمتع وقران حاضري المسجد الحرام]
] : فإن تمتع من كان من حاضري المسجد الحرام، أو قرن ... صح تمتعه وقرانه، ولكن لا يجب عليه دم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح منه تمتع ولا قران، فإن أحرم بهما.. ارتفضت عمرته، فإن أحرم بالحج بعدما فعل شوطا من الطواف للعمرة.. ارتفض حجه) في قول أبي حنيفة، و (ارتفضت عمرته) في قول أبي يوسف ومحمد، (فإن أحرم بعد ما أتى بأكثر الطواف.. مضى فيهما، ولزمه دم جبران) .
دليلنا: أن من لا يكره له الإفراد.. لم يكره له التمتع والقران، كالأفقي.
[فرع تمتع المكي من خارج مكة]
] : وإن خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة، ثم رجع وأحرم بالعمرة منها، أو من ميقاتها في أشهر الحج، وحج من عامه.. لم يلزمه الدم.
وقال طاووس: يلزمه الدم.
دليلنا: أن من لا يلزمه الدم إذا تمتع من بلده.. لم يلزمه الدم وإن تمتع من غير بلده، كما لو لم يحج من سنته.
وإن كان مولده ومنشؤه مكة، فانتقل عنها إلى غيرها، ثم عاد إلى مكة متمتعا أو قارنا ... لزمه الدم؛ لأنه خرج بالانتقال عن أن يكون من أهلها.
وإن كان من غير حاضري المسجد الحرام، فخرج من بيته يقصد مكة متمتعا ناويا للمقام بمكة بعد فراغه من الحج، فتمتع أو قرن.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه لا يصير مقيما إلا بالنية والفعل.(4/83)
فإذا استوطنها ثم تمتع بعد ذلك، أو قرن.. فلا دم عليه؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام.
[فرع تعدد المنزل للمتمتع]
إذا كان للرجل منزلان، أحدهما من الحرم على مسافة تقتصر فيها الصلاة، والآخر منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فتمتع بالعمرة إلى الحج.. قال الشافعي: (فأحب إلي أن يهرق دما بكل حال، فإن أبى إلا ما يلزمه.. نظر في مقامه: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون حكمه حكم ذلك المنزل، فإن استوى مقامه فيهما.. نظر إلى ماله: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون الحكم له فإن استويا في ذلك.. نظر إلى بيته في الإقامة بعد فراغه من الحج، فيكون الحكم له) ، فإن استويا في ذلك.. قال أصحابنا: ينظر إلى الموضع الذي أنشأ منه العمرة، فيكون الحكم له.
[فرع نية التمتع]
وهل يشترط نية التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها ليست بشرط؛ لأن الدم إنما وجب عليه لتركه الإحرام بالحج من(4/84)
ميقات بلده، وهذا المعنى موجود وإن لم ينو التمتع.
والثاني: أنها شرط في وجود الدم؛ لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما، فافتقرت إلى النية، كالجمع بين الصلاتين.
فإذا قلنا بهذا: فهل من شرط هذه النية أن تكون عند الإحرام بالعمرة، أو يكفي أن ينوي ذلك في نية الجمع قبل الفراغ من أفعال العمرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نية الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى.
وهل يشترط أن تكون العمرة والحج من شخص واحد؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط ذلك.
و [الثاني] : قال الخضري: يشترط ذلك. والأول أصح.
[فرع العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره]
] : قال الشافعي في القديم: (إذا حج الإنسان عن نفسه من الميقات في أشهر الحج فلما تحلل منه اعتمر عن نفسه من أدنى الحل، أو تمتع أو قرن عن نفسه من الميقات فلما فرغ أحرم بالعمرة عن نفسه من أدنى الحل.. فلا دم عليه في ذلك كله؛ لإحرامه بالعمرة المتأخرة عن الحج من أدنى الحل) .
وكذلك لو أفرد عن غيره الحج من الميقات ثم اعتمر عنه من أدنى الحل، أو(4/85)
تمتع أو قرن عنه من الميقات ثم أحرم عنه بالعمرة من أدنى الحل.. لم يجب عليه غير دم التمتع أو القران؛ لأن عمل الأجير كعمل المستأجر.
فأما إذا اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج عن غيره من مكة، أو حج عن نفسه من الميقات ثم اعتمر عن غيره من أدنى الحل.. فعليه الدم في هاتين المسألتين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أن الإحرامين إذا كانا عن شخصين.. فإنه يستحق فعلهما جميعا من الميقات، فإذا ترك الميقات لأحدهما.. وجب عليه الدم لأجله، كمن مر بالميقات مريدا للنسك، فلم يحرم منه، وأحرم من دونه، ولم يعد إليه قبل التلبس بنسك.
قلت: وعلى قياس هذا: ما يفعل الأجير في وقتنا: أنه يحرم بالعمرة عن المستأجر من الميقات، فإذا تحلل منها أقام يعتمر عن نفسه من أدنى الحل، ثم يحرم(4/86)
بالحج عن المستأجر من مكة.. فيجب عليه للعمرة الأولى عن نفسه من أدنى الحل دم؛ لما ذكرناه فيما قبلها، ولا يجب عليه الدم لأجل ما بعدها من العمر؛ لأن المأجور عليه أن يحرم عن نفسه من الميقات بنسك واحد لا غير.
[فرع فقد بعض شروط التمتع المعتبرة في وجوب الدم]
] : ذكر الطبري في " العدة ": إذا عدمت بعض الشرائط المعتبرة في وجوب الدم في التمتع. فهل يقع عليه اسم المتمتع؟ اختلف أصحابنا فيه:
قال الشيخ أبو حامد: يقع عليه اسم المتمتع، إلا أنه لا يجب عليه الدم، لفقد الشرائط.
وقال القفال: لا يسمى متمتعا، وهذه الشرائط معتبرة في استحقاق هذا الاسم. وحكي: أن الشافعي نص على هذا.
[مسألة حل محظورات الإحرام لتحلل المتمتع]
] : إذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة.. فله أن يتحلل ويتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، سواء ساق الهدي أو لم يسق، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إن لم يكن معه الهدي.. فله أن يتحلل، وإن كان معه هدي.. لم يجز له أن يتحلل، بل يقيم حتى يحرم بالحج، ثم يتحلل منهما جميعا) .
واحتجوا بما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة في حجة الوداع، فقالت له: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل من عمرتك؟ فقال:(4/87)
إني لبدت رأسي، وقلدت هديي.. فلا أحل حتى أنحر» .
دليلنا: أنه متمتع أكمل أفعال العمرة، فكان له التحلل، كما لو لم يكن معه هدي.
وأما حديث حفصة: فلا حجة فيه؛ لأنه كان مفردا عندنا، وقارنا عندهم، ولم يكن متمتعا، بدليل ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» ومحال أن يكون متمتعا، ويتأسف على العمرة.
وأما معنى قول حفصة: «ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك» فمعناه: لم يحل بعمرة، كما حل الناس من حجهم بعمرة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قد فسخ الحج على من لم يكن معه هدي من الصحابة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الاعتمار في أشهر الحج لا يجوز، فأمرهم بالفسخ؛ ليبين لهم الجواز.
[فرع فسخ الحج إلى العمرة]
) : ومن أحرم بالحج.. لم يجز له فسخه إلى العمرة، وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: (يجوز ذلك لمن لم يكن معه هدي) ، واحتج بما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي، إلا النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وطلحة،
فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من لم يكن معه هدي أن يفسخ الحج، ويحرم بالعمرة» .
دليلنا: ما «روى بلال بن الحارث، قال: قلت: يا رسول الله، الفسخ لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ فقال: بل لنا خاصة» ، ولأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالفسخ، كالعمرة.(4/88)
وأما الحديث المذكور في الفسخ: فأومأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [2/109] إلى: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأصحابه أحرموا إحراما موقوفا، فلما انتظر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ القضاء بين الصفا والمروة.. نزل عليه القضاء: «من ساق الهدي.. فليجعله حجا، ومن لم يسق الهدي.. فليجعله عمرة» ، وروي ذلك عن طاووس.
فإن كان على هذا التأويل.. فهو جائز في وقتنا هذا.
قال الشيخ أبو حامد: والمشهور في الأخبار خلاف هذا، وأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم هو وأصحابه بالحج، فلما دخل مكة.. فسخ الحج على من لم يكن معه هدي، وأمرهم بالإحرام بالعمرة، وإنما فعل ذلك؛ ليبين جواز الاعتمار في أشهر الحج؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يرون ذلك، ويقولون: (هو من أفجر الفجور، ويقولون: إذا عفا الأثر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر.. حلت العمرة لمن اعتمر) فأحب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يبين الجواز بأظهر ما يكون، ففسخ عليهم الحج، وإنما خص بالفسخ من لم يكن معه هدي؛ لأنه فرضهم الصوم، ولا ضرر عليهم في الصوم بمكة، ولو فسخها على الذين معهم هدي.. لاحتاجوا إلى ذبح هديهم بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنهم يحرمون بالحج من مكة، والمتمتع يذبح هديه إذا أحرم بالحج، فكان يصير سنة الذبح بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنها تتلوث بالدم، فتركهم على إحرامهم لكي يذبحوا بمنى، وتكون سنة الذبح بها، ولا تتلوث مكة بالدم.(4/89)
فإذا كان على هذا التأويل.. فإن الفسخ يكون خاصا لأصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من حديث بلال بن الحارث.
[مسألة وقت إحرام المتمتع بالحج]
إذا تحلل المتمتع من عمرته، وكان واجدا للهدي.. فالمستحب له أن يحرم بالحج يوم التروية: وهو اليوم الثامن، فيحرم بعد الزوال متوجها إلى منى.
وقال مالك: (يستحب له الإحرام عنه إهلال ذي الحجة) .
دليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا بالحج» .
وإن كان عادما للهدي.. ففرضه الصوم، ويستحب له أن يفرغ من صوم الثالث يوم التروية، ولا يجوز الصوم قبل الإحرام بالحج على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.(4/90)
[مسألة وقت وجوب دم التمتع]
وأما وقت وجوب دم التمتع على من وجدت فيه شرائطه ... فيجب - عندنا - إذا أحرم بالحج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة.
وقال مالك: (لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة) ، فاعتبر كمال الحج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وهذا قد فعل ذلك؛ لأن ما جعل غاية.. فوجود أوله كاف، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
ولأن الشرائط توجد بوجود الإحرام بالحج، فتعلق الوجوب فيه.
وأما وقت نحره: فالأفضل أن لا يذبح إلا يوم النحر، فإن ذبح بعد الإحرام بالحج، وقبل يوم النحر.. جاز عندنا.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه دم يتعلق بالإحرام، فجاز إخراجه قبل يوم النحر، كدم الطيب واللباس.
وإن ذبح بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج.. ففيه قولان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 184] وجهين:
أحدهما: لا يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وما لم يحرم بالحج.. فلم يوجد التمتع. ولأن للهدي عملا يتعلق به عمل البدن، وهو تفرقة الهدي، فلم يجز تقديمه على وجوبه، كالصوم.(4/91)
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه حق مال يتعلق بأسباب، فإذا وجد شرطها أو أكثرها.. جاز تقديمه على ما بقي منها، كالزكاة بعد ملك النصاب، وقبل الحول، وككفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث.
وإن أراد أن يذبح بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الفراغ منها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجزئه وجها واحدا.
وأما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 185] ، فقال: إذا قلنا: يجوز أن يذبح بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج.. فهل يجوز له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له؛ لأنه قد وجد بعض أسباب وجوبه، وهو الشروع في العمرة، فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن أحد سببي الوجوب بكماله - وهو العمرة ـ لم يوجد، فصار كما لو ذبح قبل الإحرام بالعمرة.
[مسألة انتقال المتمتع من الهدي إلى الصوم]
] : وإذا كان المتمتع واجدا للهدي في موضعه.. لم يجز له الانتقال إلى الصوم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فنقله إلى الصوم، بشرط عدم الهدي.
وإن كان عادما للهدي في موضعه، وفي بلده.. جاز له الانتقال إلى الصوم،(4/92)
وهو: صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ للآية، وهكذا إذا كان عادما له في موضع.
وإن كان واجدا له في بلده.. كان له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأنا لو لم نجوز له الصوم.. فاته الدم والصوم؛ لأن وقت الدم يوم النحر وأيام التشريق، ووقت صوم الثلاث قبل يوم النحر، وبالتأخير يفوتان جميعا.
إذا ثبت هذا: فلا يجوز له أن يصوم الثلاث قبل الإحرام بالحج، وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له صوم الثلاث بعد الإحرام بالعمرة، وقبل التحلل منها) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الأخرى عنه: (يصومها بعد الفراغ منها) وهو قول عطاء.
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه، كسائر الصوم(4/93)
الواجب، ولأنه وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، فلم يجز فيه فعل البدل، كما قبل الإحرام بالعمرة.
إذا تقرر ما ذكرناه: وأراد المتمتع أن يصوم الثلاث بعد الإحرام بالحج.. فالأفضل: أن يفرغ منها قبل يوم عرفة؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون مفطرا يوم عرفة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان مفطرا فيه؛ ولأن ذلك أقوى له على الدعاء.
وإن صام يوم عرفة منها.. جاز؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يصوم المتمتع إذا لم يجد الهدي ثلاثة أيام إلى يوم النحر» ، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن صيامه) .
وهل يجوز صوم الثلاث في أيام التشريق؟ فيه قولان، ذكرناهما في الصيام.
[فرع لا يفوت صوم الثلاث بفوات عرفة]
صوم الثلاث لا يفوت بفوات يوم عرفة.
فإن قلنا: يجوز صوم أيام التشريق.. صام فيها، ويكون مؤديا للصوم، لا قاضيا.(4/94)
وإن قلنا: لا يجوز صوم أيام التشريق.. صام بعدها، ويكون قاضيا.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يصم الثلاث قبل يوم النحر.. سقط الصوم، ولم يقض، ولكن استقر عليه الهدي في ذمته، ويلزمه دم آخر؛ لتأخير الصوم عن وقته) .
وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا إسحاق خرج قولا آخر: أن الصوم يسقط، ولا يقضى، ولكن يجب في ذمته دم تمتع إلى أن يقدر، وحكاه في، " المجموع " و " الشامل " عن أبي العباس.
ووجهه: أن الله تعالى أمر بالهدي مطلقا، وأمر بالصوم عند عدم الهدي مقيدا بوقت، فإذا فات وقت الصوم.. وجب أن يرجع إلى الهدي المطلق.(4/95)
دليلنا - على أبي حنيفة ـ: أنه صوم واجب، فلا يسقط بفوات وقته، كصوم رمضان.
ودليلنا - على بطلان القول المخرج ـ: أن الصوم بدل عن الهدي، فإذا فات الصوم.. وجب قضاؤه بالصوم لا بالهدي، ولأنا لو ألزمناه الهدي ... لأدى إلى أن يكون المبدل بدلا، وهذا لا يجوز.
[فرع موت المتمتع قبل التمكن من الصوم]
] : فإن أحرم المتمتع بالحج وهو عادم للهدي.. فإن فرضه الصوم، فلو مات قبل أن يتمكن من الصوم.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط عنه الصوم، ويهدى عنه من ماله؛ لأن الصوم قد فات بموته، ولا يمكن أن يصام عنه، ويمكن أن يهدى عنه.
والثاني: لا يجب عليه الهدي من ماله؛ لأنه لم يجب في حياته، فلم يجب بعد(4/96)
موته، ولا يصام عنه؛ لأن النيابة في الصوم لا تجوز، ولا يجب أن يطعم عنه؛ لأن الإطعام إنما يجب عن صوم تمكن منه.
[فرع الصوم بدل عن الهدي وبيان وقته]
] : ويصوم سبعة أيام إذا رجع، والعشر كلها بدل عن الهدي.
وقال أبو حنيفة: (الثلاثة وحدها بدل عن الهدي، وأما السبع: فليست ببدل) .
دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
فعلق وجوبها بعدم الهدي، فكان الجميع بدلا منه، كالثلاثة الأيام.
وللشافعي في الرجوع - الذي هو وقت لجواز صوم السبع - قولان:
أحدهما - نقله المزني وحرملة ـ: (أنه الرجوع إلى الأهل والوطن) .
وهو الصحيح.
واختلف أصحابنا: في القول الثاني:
فمنهم من قال: هو إذا فرغ من أفعال الحج، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
والرجوع يجب أن يكون رجوعا عن المذكور، وهو الحج، ولأنه متمتع فرغ من أفعال الحج، فجاز له صوم السبع، كما لو أقام بمكة.
ومن أصحابنا من قال: القول الثاني: هو إذا أخذ في السير خارجا من مكة، وبه قال مالك، وهو المذكور في " المهذب "؛ لأن ابتداء الرجوع هو الابتداء بالسير(4/97)
من مكة. ووجه - ما نقل المزني وحرملة -: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
ولا يجوز أن يكون المراد به الفراغ من أفعال الحج؛ لأنه لا يصح أن يقال: رجعت عن فعل كذا، ولو أراد ذلك.. لقال: وسبعة إذا فرغتم، وإنما يقال ذلك لمن رجع إلى وطنه. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان معه هدي.. فليهد، ومن لم يكن معه هدي.. فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . فإذا قلنا بهذا، فصام السبع قبل أن يرجع إلى وطنه.. لم يجزه. وإذا قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو إذا أخذ في السير، فأخره حتى رجع إلى أهله، ثم صامها.. أجزأه. وإن صامها في ابتداء السير.. أجزأه، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن تقديمه أفضل؛ لأن فعل العبادة في أول وقتها أفضل. والثاني: أن تأخيره إلى الوطن أفضل - وبه قال مالك - ليخرج بذلك من الخلاف.
[فرع تأخير صوم الثلاثة عن وقتها وتتابع العشر]
] : إذا أخر صوم الثلاثة إلى أن رجع إلى وطنه، أو إلى أن فرغ من أفعال الحج، أو أخذ في السير.. فقد ذكرنا: أن صوم الثلاثة لا يفوت، على المشهور من المذهب، ولكن يصومها قضاء، وقد اجتمعت عليه مع صوم السبعة الأيام، وهل يجب عليه(4/98)
التفريق بينهما؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\186] قولين:
أحدهما: لا يجب التفريق بينهما، ويجوز أن يوالي بينهما ـ وبه قال أحمد - لأن التفريق بينهما إنما كان في الأداء لأجل الوقت، وقد فات الوقت، فسقط التفريق، كالتفريق بين الظهر والعصر.
والثاني: يجب التفريق بينهما في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن التفريق بينهما وجب من حيث الفعل؛ لأنه أمر أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، والرجوع فعل، وما وجب الترتيب فيه من ناحية الفعل.. لم يسقط الترتيب فيه بفوات الوقت، كترتيب أفعال الصلاة.
فإذا قلنا بالأول.. صام العشرة، كيف شاء.
وإن قلنا بالثاني.. فلا يجب عليه التفريق بين الثلاثة بنفسها، ولا بين السبعة بنفسها، بل: إن شاء صام الثلاثة متتابعا، وإن شاء متفرقا، وكذلك السبعة.
وإنما يجب التفريق بين السبعة والثلاثة. قال الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب ": والفرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء.
ومعنى هذا: أنه يبنى على أصلين:
أحدهما: في صوم أيام التشريق، هل يصح عن المتمتع؟(4/99)
والثاني: الرجوع المذكور في الآية.
وفي كل واحد من الأصلين قولان، مضى بيان ذلك.
فإذا قلنا بالقول القديم، وأن صوم أيام التشريق يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع المذكور في الآية.
فإن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو الأخذ في السير.. لم يلزمه هاهنا تفريق؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يصوم الثلاثة في أيام التشريق، ثم يصوم بعدها السبعة؛ لأنه يفرغ من أفعال الحج في أيام التشريق، ويبتدئ بالسير فيها إلى بلده.
وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. قال أصحابنا: فإنه يفرق بينهما هاهنا بقدر مسافة السفر إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاثة الأيام في أيام التشريق، ثم يسير إلى وطنه.
قلت: وينبغي أن يقال على هذا: يلزمه التفريق بقدر مسافة السفر إلى وطنه إلا يوما؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاث في أيام التشريق، وينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الرمي وطواف الوداع، فيجتمع في اليوم الثالث من أيام التشريق الصوم عن الثلاث، والسفر إلى بلده.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن صوم أيام التشريق لا يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع.
فإن قلنا: إنه بالفراغ من أفعال الحج أو الابتداء في السير إلى بلده.. لزمه أن يفرق بينهما هاهنا بأربعة أيام؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق ثلاثا، وفيها يفرغ من الحج، أو يبتدئ السير.
وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لزمه أن يفرق بينهما بأربعة أيام، وقدر مسافة سفره إلى بلده؛ لأن أقل ما يمكنه على هذا أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق، ثم يرجع إلى وطنه، وتعتبر مدة السير المعتاد، هكذا ذكر أصحابنا.(4/100)
قلت: ويحتمل على هذا القول، أن يقال: لا يجب عليه التفريق إلا بثلاثة أيام ومدة سيره إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يقف بمنى يوم النحر واليومين الأولين من أيام التشريق، ثم ينفر في النفر الأول، وهو بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق، ويروح إلى مكة ويودع، ثم يبتدئ بالسير إلى بلده آخر الثاني من أيام التشريق.
إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي في " الإملاء ": (أن أقل ما يفرق بينهما بيوم) ، واختلف أصحابنا: من أي معنى أخذه الشافعي؟
فقال أبو إسحاق: إنما قال الشافعي هذا، إذا قلنا: يجوز صوم أيام التشريق عن الثلاث.. جاز أن يصام فيها كل صوم له سبب؛ لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر، ثم يصوم أيام التشريق عن السبع.
ومنهم من قال: لم يأخذه الشافعي من هذا؛ لأن صوم السبع لا يصح في أيام التشريق؛ لأنا إن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج.. فلا يمكنه أن يفرغ من أفعاله أول يوم من أيام التشريق، فيكون التفريق بيوم. وإن قلنا: الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لم يمكنه ذلك إلى أول يوم من أيام التشريق. وإنما قال الشافعي: (يفرق بينهما بيوم) ؛ لأن الله - تعالى - أمر بالتفريق بينهما، وأقله يوم، لا كما ذكره أبو إسحاق.
فإن صام العشر متتابعة.. أجزأته الثلاثة الأولى. فإن قلنا: يجب التفريق(4/101)
بيوم ... لم يجزه صوم يوم الرابع، وهل يجزئه ما بعد الرابع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 186 ـ 187] :
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه إذا صام اليوم الخامس.. كان عنده هو الثاني من السبع، فلم يجزه عن الأول منها، وكذلك ما بعده.
والثاني: يجزئه، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وعليه التفريع.
فعلى هذا: يصوم يوما بعد العشر.
وإن قلنا: يجب التفريق بينهما بأربعة أيام.. لم يجزه الرابع والخامس والسادس والسابع، ويجزئه الثامن والتاسع والعاشر عن السبع، ثم يصوم أربعة أيام بعد ذلك.
وإن قلنا: يفرق بينهما بأربعة أيام، وبمسافة السفر إلى بلده.. قضى صوم السبع إذا مر هذا القدر من الزمان.
[فرع موت المتمتع قبل الصوم وبعد التمكن]
وإن مات بعدما تمكن من صوم العشرة الأيام، فإن قلنا بقوله القديم: (إن النيابة تدخل في الصوم) .. صام عنه وليه. وإن قلنا بقوله بالجديد: (إن النيابة لا تدخل في الصوم) ، وهو الصحيح.. تُصُدِّقَ عنه عن كل يوم مد من طعام.
قال الشيخ أبو إسحاق في " الشرح ": وهذا أولى من قول الشافعي: إنه يتصدق عنه عن كل يوم بدرهم، أو ثلث شاة. يومئ إلى: أن في ذلك ثلاثة أقوال. قال أصحابنا: وهذه الأقوال إنما هي في إتلاف شعره أو ظفره، وليست هاهنا.(4/102)
[مسألة وجود الهدي بعد الشروع بالصيام]
] : إذا دخل في صوم الثلاث، ثم وجد الهدي.. لم يلزمه الانتقال إليه.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه الانتقال إليه) ، ووافقنا أبو حنيفة: أنه إذا وجد الهدي بعد صوم الثلاث.. لا يلزمه الانتقال إليه، وإنما يستحب له الانتقال إليه.
دليلنا: أن صوم الثلاث لزمه عند عدم الهدي، فلا يلزمه الانتقال إليه بعد الدخول فيه لوجود الهدي، كصوم السبع.
فأما إذا أحرم بالحج، وهو عادم للهدي، فقبل أن يدخل في الصوم وجد الهدي.. فهل يلزمه الانتقال إليه؟ يبنى على: أن الاعتبار بالكفارة حال الوجوب، أو حال الأداء، أو أغلظ الحالين، وفي ذلك ثلاثة أقوال، يأتي ذكرها في (الظهار) إن شاء الله تعالى.
[مسألة وجوب الدم على القارن]
] : ويجب على القارن دم، وهو شاة، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشعبي: عليه بدنة.
وقال داود: (لا دم عليه) وحكي: أن ابن داود دخل مكة، فسئل: هل على(4/103)
القارن دم؟ فقال: لا دم عليه، فجروه برجله، وهذا لشهرة الأمر بينهم في وجوب الدم عليه.
دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من قرن بين الحج والعمرة.. فليهرق دما» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أهدى عن نسائه بقرة وكن قارنات» . وهذا يرد قول الشعبي وداود.
قال الشافعي: (والقارن أخف حالا من المتمتع) .
قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون أراد بهذا ردا على الشعبي، حيث قال: عليه بدنة؛ لأن القارن أحرم بالنسكين من الميقات، والمتمتع أحرم من الميقات بأحد النسكين، ولأن المتمتع إذا فرغ من عمرته، يتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، والقارن لا يكون له ذلك، فإذا لم يجب على المتمتع بدنة.. فلأن لا يجب على القارن بدنة أولى.(4/104)
ويحتمل أن يكون أراد بذلك ردا على داود؛ لأن أفعال القارن أخف من أفعال المتمتع؛ لأنه يكتفي بإحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد. بخلاف المتمتع، فإذا وجب الدم على المتمتع.. فالقارن أولى بالإيجاب عليه.
[وبالله التوفيق](4/105)
[باب المواقيت]
وهي خمسة:
منها: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة.
الثاني: الجحفة، وهو ميقات أهل الشام والمغرب. الثالث: يلملم. وروي: ألملم. وهو ميقات أهل تهامة واليمن.
الرابع: قرن المنازل، وهو ميقات نجد اليمن وسائر النجدات. الخامس: ذات عرق، وهو ميقات أهل العراق وجميع أهل المشرق. ولا خلاف: أن المواقيت الأربعة الأولى وقتها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «وقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: " هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان من دونهن..
فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها»(4/106)
وأما ذات عرق: فاختلف أهل العلم فيه:
فقال طاووس: لم يوقته رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وإنما قاسه المسلمون على قرن.
قال الشافعي: (ولا أحسبه إلا ما قال طاووس) .
ووجهه: ما روي: (أنه قيل لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يوقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المشرق شيئا؟ فقال: انظروا ما حاذى طريقهم فقيسوه عليه. فقيل: قرن، قال قيسوه على قرن، فقال بعضهم: ذات عرق، وقال بعضهم العقيق، قال: فوقت لهم عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ ذات عرق) .
وقال عطاء: (بل وقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لأهل المشرق ذات عرق) .
ووجهه: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لأهل المشرق ذات عرق» ،(4/107)
«وروى الحارث بن عمرو بن الحارث قال: أتيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو بمنى، وقد أطاف به الناس، وكانت العرب تحبه، وتقول إذا رأته: هذا وجه مبارك، فسمعته وقت لأهل المشرق ذات عرق» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لأهل العراق ذات عرق» .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو الصحيح، ولعل الشافعي لم تبلغه هذه الأخبار.
فإن قيل: فأهل المشرق لم يكونوا مسلمين يومئذ.
قيل: لأنه قد عرف أنها تفتح وتصير دار إسلام، ولهذا قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» .(4/108)
قال الشافعي: (ولو أهل أهل المشرق من العقيق.. كان أحب إلي) ؛ لأنه لم يثبت عنده: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لهم ذات عرق، وإنما أخذ قياسا، والعقيق أبعد منه فكان أولى.
إذا ثبت هذا: فأبعد المواقيت ذو الحليفة؛ لأنه على عشر مراحل من مكة، وعلى [ستة] أميال من المدينة، وتاليه في البعد الجحفة.
وأما المواقيت الثلاثة الأخرى: فهي على مسافة واحدة، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.
وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة، فإذا جاء الشامي من طريق أهل العراق.. فميقاته ميقات أهل العراق، وكذلك إن جاء العراقي من طريق الشام.. فميقاته ميقاتهم؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس.
وإن سلك طريقا لا ميقات فيه.. اجتهد، وأحرم من حذو الميقات الذي يحاذي تلك الطريق؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أهل المشرق بذلك.
فإن كان في حذو طريقه ميقاتان: أحدهما أبعد من مكة، والآخر أقرب إليها ... فالمستحب له: أن يحرم من حذو أبعدهما من مكة؛ لكي لا يجاوز حذو الميقات بغير إحرام. وإن أحرم من حذو أقربهما إلى مكة.. جاز.(4/109)
[مسألة من داره بين مكة والميقات]
] : ومن كان داره بين مكة وبين الميقات.. فميقاته من قريته، فإن كان يسكن قرية أو محلة.. فالمستحب له: أن يحرم من أبعد طرفيها من مكة، فإن أحرم من أقرب طرفيها إلى مكة.. جاز، هذا مذهبنا. وقال مجاهد: إن كان داره بين مكة والميقات.. أهل من مكة.
وقال أبو حنيفة: (يحرم من موضعه، فإن لم يفعل.. لم يدخل الحرم إلا محرما، فإن دخله غير محرم.. خرج من الحرم، وأحرم من حيث شاء) .
دليلنا: حديث ابن عباس.
[فرع زوال معالم الميقات]
] : إذا كان الميقات قرية، فخربت، وانتقل أهلها عنها.. كان الميقات موضع القرية الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية، سواء انتقلوا إلى أقرب من الأولى إلى مكة، أو إلى أبعد منها؛ لما روي: أن سعيد بن جبير رأى رجلا يحرم من ذات عرق، فأخذ بيده، وقطع به الوادي حتى بلغ به المقابر، وقال له: أحرم من هاهنا؛ فإن هذه ذات عرق الأولى، وإنما انتقل الناس عنها.
[فرع الإحرام من ميقات بعد مجاوزته ميقاتا]
ولا يجوز لمن مر بذي الحليفة، وهو مريد للنسك أن يجاوزه بغير إحرام.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور: (الأولى أن يحرم من ذي الحليفة، فإن ترك الإحرام منها، وأحرم من الجحفة.... جاز ولا دم عليه) ، وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:(4/110)
(أنها كانت إذا أرادت الحج.. أحرمت به من ذي الحليفة، وإن أرادت العمرة أحرمت بها من الجحفة) .
دليلنا: حديث ابن عباس.
[مسألة جواز الإحرام من داره أو ميقاته]
] : ومن كان داره فوق الميقات.. جاز له أن يحرم من داره، وجاز له أن يحرم من الميقات، وفي الأفضل قولان:
أحدهما: أن الأفضل أن يحرم من بلده ـ وبه قال أبو حنيفة. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
وروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك) ولأنه إذا أحرم بهما من داره.. كان أكثر عملا، ولهذا روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنه قال: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحجة أو عمرة.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة»(4/111)
والثاني: أن الأفضل أن يحرم من الميقات؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم من الميقات، ولا يفعل إلا الأفضل، ولأنه أقل تغريرا بالعبادة، ولهذا روي: أنه سئل ابن عباس عن رجلين: أحدهما كثير الطاعة كثير المعصية، والآخر قليل الطاعة قليل المعصية، أيهما أفضل؟ فقال: (السلامة لا يعدلها عندي شيء) . هذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال القفال: الأفضل أن يحرم من دويرة أهله قولا واحدا، وإنما كره الشافعي للرجل أن يتشبه بالمحرمين، فيتجرد عن ثيابه قبل الإحرام، وقد يفعله بعض الناس.
[فرع ترك الإحرام من الميقات ودخول مكة لحاجة]
] : ومن مر على الميقات، فإن كان يريد النسك.. لم يجز له أن يتجاوزه حتى يحرم؛ لما ذكرناه.
فإن أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر.. فهل يلزمه الإحرام؟ في قولان، مضى ذكرهما.
وإن أراد دخول مكة لحاجة تتكرر، أو أراد دخول موضع دون الحرم.. لم يلزمه الإحرام.
فإن بدا له بعد مجاوزته الميقات، وأراد النسك.. لزمه الإحرام من موضعه، كمن داره دون الميقات.
وقال أحمد وإسحاق: (يلزمه أن يعود إلى الميقات، ويحرم منه) .
دليلنا: أنه مر بالميقات، وهو غير مريد للنسك.. فلم يلزمه الرجوع إليه، كما لو لم يرد النسك بعد ذلك.(4/112)
قال الشافعي: (وروي: أن ابن عمر أهل من الفرع) ، والفرع دون الميقات إلى مكة، وله تأويلان:
أحدهما: يحتمل أن يكون جاء إلى الفرع في حاجة له، ثم بدا له النسك ... فإن ميقاته مكانه.
والثاني: أن ابن عمر كان بمكة، فرجع بنية أن يذهب إلى بيته، فلما بلغ الفرع، بدا له أن يرجع إلى مكة.. فميقاته مكانه؛ لأنه موضع نيته.
[فرع تجاوز الميقات من غير إحرام والرجوع إليه]
] : إذا بلغ إلى الميقات وهو مريد للنسك، فلم يحرم منه، وجاوزه.. نظرت: فإن رجع إليه وهو محل، ثم أحرم منه.. فلا دم عليه بلا خلاف. وإن أحرم دون الميقات.. صح إحرامه.
وهل يجب عليه الرجوع إليه بعد إحرامه أو قبل إحرامه؟ ينظر فيه:
فإن كان له عذر بأن يخاف فوات الحج، أو به مرض شاق، أو يخاف على نفسه أو ماله.. لم يجب عليه الرجوع؛ لوجود العذر، وقد أثم بالمجاوزة، ولا يأثم بترك الرجوع. وإن أمكنه الرجوع.. وجب عليه الرجوع؛ لما روي: (أن ابن عباس كان يرد من جاوز الميقات غير محرم) فإن لم يرجع.. فقد أثم بالمجاوزة وبترك الرجوع.
وأما وجوب الدم عليه: فإن لم يرجع أصلا، أو رجع وقد تلبس بالوقوف، أو(4/113)
بطواف القدوم.. استقر عليه الدم، ولم يسقط عنه. وإن عاد قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك.. فهل يسقط عنه الدم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ حكاه ابن الصباغ، والشيخ أبو حامد ـ: أنه لا يسقط عنه الدم ـ وهو قول مالك، وأحمد، وزفر ـ لأنه أحرم دون الميقات، فلم يسقط عنه الدم بالرجوع إليه، كما لو رجع بعدما تلبس بنسك.
والثاني ـ حكاه في " الإبانة " [ق\179]-: إن عاد قبل أن يبلغ مسافة القصر من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه قريب، وإن عاد بعدما بلغ مسافة القصر من الميقات.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه بعيد.
والثالث. وهو المشهور.: أنه لا دم عليه؛ لأنه حصل في الميقات محرما، فلم يجب عليه الدم، كما لو أحرم منه.
وهل يكون مسيئا بالمجاوزة، إذا عاد إلى الميقات؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
الظاهر: أنه لا يكون مسيئا؛ لأنه قد حصل فيه محرما.
والثاني: يصير مسيئا؛ لأن الإساءة قد حصلت بنفس المجاوزة، فلا تسقط عنه بالعود.
وقال أبو حنيفة: (إن عاد إلى الميقات ملبيا.. سقط عنه الدم، وإن لم يلب.. لم يسقط عنه الدم) .
وقال عطاء، والحسن، والنخعي: لا شيء على من ترك الإحرام من الميقات.
وقال ابن الزبير: (يقضي حجه، ثم يعود إلى الميقات، فيهل منه بعمرة) .
وقال سعيد بن جبير: لا حج له(4/114)
دليلنا ـ على أبي حنيفة ـ: أنه عاد إلى الميقات محرما قبل التلبس بنسك، فسقط عنه الدم، كما لو لبى.
وعلى الآخرين: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» .
[فرع الإحرام من موضع فوق الميقات]
] : ومن نذر الإحرام من موضع فوق الميقات، أو استأجر أجيرا ليحرم من موضع فوق الميقات.. كان حكمه حكم الميقات في حقه في جميع ما ذكرناه؛ لأنه لزمه الإحرام منه، فأشبه ميقات البلد.
[فرع دخول مكة من غير إحرام والإحرام من غير ميقاته]
] : سمعت الشريف العثماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحابنا يقول: المدني إذا جاوز ذا الحليفة غير محرم، وهو مريد للنسك، فبلغ مكة من غير إحرام، ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر، مثل ذات عرق أو يلملم أو الجحفة، وأحرم منه.. فإنه لا دم عليه لمجاوزته ذا الحليفة؛ لأنه لا حكم لإرادته النسك لمَّا بلغ مكة غير محرم، فصار كمن دخل مكة غير محرم.. فإنه لا دم عليه.(4/115)
[فرع حكم المار من الميقات من غير المكلفين]
] : وإن مر كافر بالميقات، وهو مريد للنسك، فجاوزه، ثم أسلم وأحرم دونه، ولم يعد إليه.. فعليه دم.
وقال أبو حنيفة والمزني: (لا دم عليه) .
دليلنا: أنه جاوز الميقات مريدا للنسك، وأحرم دونه، ولم يعد إليه، فوجب عليه الدم، كالمسلم.
وإن أحرم الصبي أو العبد من الميقات وجاوزه، ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف بعرفة.. فقد ذكرنا: أنه يجزئهما عن حجة الإسلام.
فإن لم يرجعا إلى الميقات قبل التلبس بنسك.. فهل يجب عليهما الدم؟ طريقان:
[أحدهما] : قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب عليهما الدم قولا واحدا؛ لأنهما أتيا بحجة الإسلام من الميقات، فلم يجب عليهما الدم، كما لو كانا كاملين في حال الإحرام.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان ـ ولم يذكر في (المهذب) غير هذا ـ:
أحدهما: لا يجب عليهما الدم، وقال القاضي أبو حامد وهو الصحيح؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجب عليهما الدم؛ لأن الإحرام من الميقات كان نافلة، وإنما وقع الإحرام عن فرضهما من حين كملا، فكأن الإحرام من الميقات لم يكن.(4/116)
[مسألة ميقات المكي]
] : وأما المكي: فميقاته للحج مكة؛ لما روي في حديث ابن عباس، ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة، فإن خرج من مكة إلى الحل وأحرم بالحج منه.. كان كغير المكي إذا جاوز الميقات وأحرم دونه، وقد بيناه.
وإن أحرم من موضع من الحرم خارج مكة.. فهل هو كمكة؟ فيه قولان، وقيل وجهان، وقد مضى ذكرهما.
وأما إذا أراد الإحرام بالعمرة.. فميقاته أدنى الحل.
والأفضل: أن يحرم من الجعرانة؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر منها في السنة التي قاتل أهل حنين) .
فإن أخطأه ذلك.. فمن التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أعمر عائشة منها) .
فإن أخطأه ذلك.. فمن الحديبية؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: صلى بها، وأراد المدخل في عمرته منها) . هذا الذي ذكره المزني في " المختصر " [2/51] .
وقال الشيخ أبو حامد: والذي يقتضيه المذهب: أن الاعتمار بعد الجعرانة، من الحديبية أفضل من التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نزل بها، وصلى بها، وأراد أن يدخل منها بعمرة) ، ولأنها أبعد من الحرم من التنعيم، وكلما بعد الإنسان.. كان أفضل.(4/117)
فإن أحرم المكي بالعمرة من مكة.. نظرت:
فإن خرج إلى الحل قبل الطواف، ثم رجع وطاف وسعى.. صحت عمرته، ولا شيء عليه؛ لأنه قد زاد خيرا.
وإن طاف وسعى قبل أن يخرج إلى الحل.. فقد قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا البغداديين: يصح إحرامه بالعمرة بلا خلاف، ولكن هل يعتد بطوافه وسعيه؟
فيه قولان:
أحدهما: يعتد بهما، ولكن عليه دم لترك الميقات، كغير المكي إذا جاوز الميقات، وأحرم دونه، ولم يعد إليه.
فعلى هذا: الحل ليس بشرط في العمرة.
والثاني: لا يعتد بالطواف والسعي؛ لأن العمرة نسك من شرطها الطواف، فكان من شرطها الجمع بين الحل والحرم، كالحج.
فعلى هذا: يكون باقيا على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحل، ثم يرجع ويطوف ويسعى.
وأما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 181] فقال هل يصح إحرامه بالعمرة؟ فيه قولان، ووجهه: ما قاله.
والله أعلم(4/118)
[باب الإحرام وما يحرم فيه]
ينبغي لمن أراد أن يحرم: أن يتجرد عن ثيابه، فيغتسل؛ لما روى زيد بن ثابت «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تجرد عن ثيابه لإحرامه، واغتسل» .
قال الشافعي: (لم أترك الغسل للإحرام قط، ولقد اغتسلت وأنا مريض أخاف من الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به ترك الغسل للإحرام) .
ويستحب الغسل للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء؛ لما روى جابر قال: «ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذي الحليفة، فأمرها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تغتسل وتحرم» ، وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «النفساء(4/119)
والحائض إذا أتتا على المواقيت.. تغتسلان وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها، غير الطواف بالبيت» .
ولأن الحيض والنفاس لا ينافيان هذه العبادة، فلا يمنعان الاغتسال لها.
قال الشافعي: (ومتى حاضت المرأة، أو نفست في الميقات أو قبله، فإن أمكنها أن تقف حتى تطهر فتغتسل وتحرم.. أحببت لها أن تقف لتدخل في الإحرام على أكمل أحوالها، فإن لم يمكنها ذلك.. اغتسلت وأحرمت) ؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أذن لعائشة أن تحرم بالحج وهي حائض» و: «أذن لأسماء بنت عميس أن تحرم وهي نفساء» .
إذا ثبت هذا: فإن الغسل للإحرام ليس بواجب.
وقال الحسن البصري: إذا نسي الغسل عند إحرامه.. اغتسل إذا ذكره.
فإن أراد: أن ذلك مستحب.. فهو وفاق، وإن أراد: أنه واجب.. فالدليل عليه: أنه لو كان واجبا.. لما أمر به من لا يصح منه الغسل، وهو الحائض والنفساء كغسل الجنابة. ولأنه غسل لأمر مستقبل، فلم يكن واجبا، كغسل الجمعة والعيدين.
فإن لم يجد الماء.. تيمم؛ لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فناب عن المسنون.
[فرع الأماكن التي يستحب لها الغسل]
] : قال الشافعي في الجديد: (ويستحب الاغتسال للحج في سبعة مواطن:
للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة، وللوقوف بالمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق، ولا يستحب ذلك لرمي جمرة العقبة؛ لأن الناس لا يجتمعون لها)(4/120)
وزاد في القديم ثلاث اغتسالات: (لطواف الزيارة، ولطواف الوداع، وللحلق) ولم يحك الشيخ أبو حامد الغسل للحلق، وإنما حكاه القاضي أبو الطيب.
[مسألة ما يلبسه المحرم]
] : فإذا فرغ المريد للإحرام من الاغتسال.. فإنه يلبس إزارا ورداء، ويكشف رأسه، ويخلع خفيه، ويلبس نعلين، لما روى ابن عمر أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» .
والمستحب: أن يكون ثوباه أبيضين؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خير ثيابك البياض فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم» والمحرم على أكمل أحواله، فاستحب له أفضل الثياب.
والجديد أحب إلينا من المغسول، فإن لم يجد جديدا.. لبس مغسولا.(4/121)
[فرع الطيب للمحرم]
] : فإذا فرغ من الاغتسال، ولبس الثوبين.. فالمستحب له: أن يتطيب قبل إحرامه، ولا فرق بين أن يتطيب بطيب تبقى عينه أو أثره، كالمسك والغالية والعود، وبين أن يتطيب بطيب لا تبقى عينه أو أثره، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأبي يوسف.
وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر لبعض أصحابنا: أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه. وليس بشيء.(4/122)
وقال مالك وعطاء: (يكره له أن يتطيب بطيب تبقى رائحته بعد الإحرام) .
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب.
واحتجوا: بما «روى يعلى بن أمية قال: (كنا عند رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه رجل أعرابي، وعليه مقطعة ـ يعني: جبة وهو متضمخ بالخلوق. وفي بعض الروايات: عليه ردع من زعفران ـ فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة، وعلي هذه وأنا متضمخ بالخلوق، فقال رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع عني هذه المقطعة، وأغسل عني هذا الخلوق، فقال له ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت صانعا في حجك.. فاصنعه في عمرتك» .
ودليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وروي عنها: أنها قالت: «رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعد ثلاث من إحرامه» .
ولأن الطيب معنى يراد للاستدامة والبقاء، فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح.(4/123)
وأما حديث يعلى بن أمية: فإنما ذلك لأن الخلوق فيه الزعفران، والرجل ممنوع من لبس المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى الرجل عن لبس المزعفر» .
قال أبو علي الطبري في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد: ويستوي في النهي عن المزعفر الرجل الحلال والمحرم؛ للخبر المذكور.
وأيضا: فإن خبرنا متأخر عن خبر يعلى بن أمية، فكان ناسخا له.
[فرع انتشار الطيب بالعرق وتطييب الثوب]
] : فإن تطيب قبل الإحرام، ثم عرق بعد الإحرام، وسال الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الفدية: لأنه حصل الطيب على موضع من بدنه بعد الإحرام بعد أن لم يكن عليه بسبب فعله، فوجبت عليه الفدية به، كما لو طيبه ابتداء.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا فدية عليه: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنا إذا أردنا الإحرام.. نضمد جباهنا بالسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا، سال ذلك على وجهها.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلا ينكر عليها» . ولأنه ليس بتطيب من جهته بعد الإحرام، فهو كما لو ثبت مكانه.(4/124)
فإن نقل الطيب من موضع في بدنه إلى موضع غيره، أو تعمد مسه، أو نحاه من موضعه ورده إليه.. وجبت عليه الفدية، كما لو تطيب ابتداء.
وإن طيب ثوبا ولبسه، ثم أحرم.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\191] :
أحدها: يجوز، كما لو طيب بدنه.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الطيب يبقى على الثوب، ولا يستهلك بخلاف البدن.
والثالث ـ وهي طريقة أصحابنا البغداديين ـ: إن استدام لبسه.. فلا شيء عليه، كما لو طيب بدنه واستدام الطيب عليه.
وإن نزع الثوب في الإحرام، ثم رده.. فعليه الفدية، كما لو ابتدأ الطيب في بدنه أوثيابه.
[مسألة من يستحب له الحناء والطيب]
] : وأما المرأة: فإذا أرادت الإحرام.. فيستحب لها أن تختضب بالحناء قبل الإحرام؛ لما روي «عن عبد الله بن دينار: أنه قال: (من السنة أن تختضب المرأة إذا أرادت الإحرام» وإذا قال الصحابي أو التابعي: (من السنة كذا) .. اقتضى سنة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ.(4/125)
وأما الخنثى المشكل: فقال القاضي أبو الفتوح في كتاب (الخناثى) : لا يسن له الخضاب للإحرام، كالرجل.
ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء في كل وقت إذا كانت ذات زوج؛ لأن هذا زينة وجمال، وقد استحب لها التجمل للزوج. وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مدت إليه امرأة يدها لتبايعه، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يد رجل أم يد امرأة؟ " فقالت: بل يد امرأة، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما أدري، فأين الخضاب؟!» .
وإن كانت غير ذات زوج، ولم ترد الإحرام.. لم يستحب لها الخضاب، بل يكره لها ذلك؛ لأنه لا زوج لها تتزين له، وربما غرت الناس، فافتتنوا بها.
ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام أن تتطيب، كما يستحب ذلك للرجل؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى مكة، فلما كان عند الإحرام.. ضمدنا جباهنا بالسك، فكنا إذا عرقنا، سال على وجوهنا.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولا ينكره» .
إذا ثبت هذا: فيستحب ذلك للشابة والعجوز.
والفرق بينه وبين الجمعة، حيث قلنا: لا يستحب ذلك في حقها إذا أرادت حضور الجمعة؛ لأن موضع حضور الجمعة أضيق؛ لأنها تقعد بالقرب من الرجال، ولهذا لم(4/126)
يسن للشابة حضور الجمعة، وليس كذلك الإحرام؛ لأن موضعه واسع لا يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، ولهذا لم يفرق في حضوره بين العجوز والشابة.
[مسألة ركعتا الإحرام وأفضلية وقته]
إذا فرغ المريد للنسك مما ذكرناه.. فالمستحب له: أن يصلي ركعتين، ثم يحرم؛ لما روى ابن عباس، وجابر بن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم» .
قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يحرم في وقت لا يجوز فيه الصلاة، وهو بعد صلاة الصبح، وقبل طلوع الشمس، أو عند غروبها، وما أشبه ذلك من الأوقات المنهي عنها.. نظرت: فإن أمكنه أن يقف حتى تطلع الشمس، وتحل الصلاة، ثم يصلي ويحرم.. فعل ذلك؛ لأن الركعتين زيادة قربة وطاعة. وإن لم يمكنه ذلك.. فإنه يحرم بغير صلاة؛ لأن ابتداء النافلة في ذلك الوقت لا يجوز. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 78] : ولأن سبب الصلاة متأخر عنها.
فإذا فرغ من الركعتين.. فهل الأفضل أن يحرم عقيبهما، أو حتى تنبعث به راحلته، أو يبتدئ بالسير إن كان ماشيا؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين) . وبه قال أبو حنيفة.(4/127)
و [الثاني] : قال في الجديد: (الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا، أو إذا ابتدأ بالسير إن كان ماشيا) .
وقال مالك: (يحرم إذا أشرف على البيداء) .
فإذا قلنا بالقديم.. فوجهه: ما روي «عن سعيد بن جبير: أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في إحرامه حين أوجب! فقال بعضهم: أهل حين فرغ من الصلاة، وقال بعضهم: أهل حين انبعثت به راحلته، وقال بعضهم: أهل حين أشرف على البيداء. فقال ابن عباس: (أنا أعلم الناس بذلك: إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى مسجده بذي الحليفة.. صلى ركعتين، ثم أوجب في مجلسه، فحفظه قوم، وقالوا: أهل حين فرغ من الصلاة، فلما ركب وانبعثت به راحلته.. أهل، فأدركه قوم، وقالوا: أهل حين انبعثت به راحلته، فلما أشرف على البيداء.. أهل، فأدركه قوم، فقالوا: أهل حين أشرف على البيداء» .
وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: ما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكن يهل حتى تنبعث به راحلته» ، وهذا نفي وإثبات. وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال:
«إذا رحتم إلى منى متوجهين.. فأهلوا بالحج» .(4/128)
[فرع انعقاد الإحرام بغير تلبية ولا بد من النية]
وينوي الإحرام، ويستحب له أن يلبي، فإن نوى الإحرام، ولم يلب.... انعقد إحرامه.
وقال أبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية. قال في " الإفصاح ": وبه قال ابن خيران.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية، أو بالنية وسوق الهدي) .
دليلنا: أنها عبادة لا يجب النطق في آخرها، فلم يجب في أولها، كالصوم والطهارة، وعكسه الصلاة.
فإن لبى ولم ينو.. لم ينعقد إحرامه.
وقال داود: (ينعقد إحرامه بالتلبية دون النية) ، وحكي أن أبا العباس ابن سريج قال لداود: صف لنا تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرها، فقال له: صرت محرما، فقال: لقد تزببت حصرما.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية، كالصلاة والصوم.
[فرع تعيين النسك بالنية]
] : وله أن يعين ما يحرم به من إفراد أو تمتع أو قران.
فإن لبى بحج ونوى عمرة، أو لبى بعمرة ونوى حجا.. انعقد إحرامه بما نواه، لا بما لبى به؛ لأن النسك ينعقد بالنية دون التلبية.
وإن أحرم إحراما مطلقا، ولم ينو حجا ولا عمرة ولا قرانا.. صح إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أي وجوه الإحرام شاء.(4/129)
والدليل عليه: ما روى طاووس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسم حجا ولا عمرة حتى وقف بين الصفا والمروة، ينتظر القضاء.. فأمر أن يهل بالحج» ، وروي: «أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم من اليمن، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم أهللت؟ " قال: قلت: أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " فأقم على إحرامك "، وفي رواية أخرى: أنه قال: " أما إني سقت الهدي.. فلا أحل حتى أنحر» ، وكذلك روي: أن أبا موسى الأشعري فعل كذلك.
وهي الأفضل أن يطلق إحرامه، أو يعين ما أحرم به؟ فيه قولان:
أحدهما: أن الإطلاق أفضل؛ لما ذكرناه من حديث طاووس، ولأنه أقل غررا؛ لأنه يصرفه إلى الأسهل.
والثاني: أن التعيين أفضل؛ لأن جابرًا روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا بالحج» وهذا أولى؛ لأن حديث طاووس مرسل، ولأنه يكون عالما بما يدخل به من العبادة.(4/130)
وهل الأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته، أو يقتصر على النية فقط؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: أن الأفضل أن لا ينطق بما أحرم به.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: الأفضل أن ينطق بما أحرم به - وبه قال أحمد - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو بالعقيق -: " أتاني الليلة آت من عند ربي عز وجل، فقال لي: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة في عمرة» ولأن ذلك أبعد عن النسيان.
ووجه الأول: حديث طاووس، وما حكي: أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لبيك بحجة، فدفع في صدره، وقال: (هو يعلم ما في نفسك) ، ولأن التلبية ذكر لله تعالى، وتسمية النسك ليست بذكر لله عز وجل، فلم يستحب أن يشوب ذكر الله عز وجل بما ليس بذكر له.
[فرع إطلاق النية في الإحرام]
فإن أحرم إحراما مطلقا.. فله أن يصرفه إلى الحج، أو العمرة، أو إليهما.
فإن طاف، أو وقف بعرفة قبل أن يصرف إحرامه إلى شيء ... لم ينصرف إحرامه بنفس الطواف أو الوقوف، بل لو صرف إحرامه بعد الطواف إلى الحج.. وقع الطواف عن طواف القدوم.(4/131)
وقال أبو حنيفة: (إذا طاف.. انصرف إحرامه إلى العمرة، وإن وقف بعرفة.. انصرف إلى الحج) .
دليلنا: أن نية التعيين شرط، ولم يوجد منه ذلك، فلم يتعين عليه بفعل النسك، كما لو طاف أو وقف قبل الإحرام.
[فرع تعليق الإحرام بإحرام الغير]
وإن أحرم كإحرام زيد.. صح؛ لما ذكرناه من حديث علي: أنه قال: «أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) ، ثم ينظر فيه: فإن كان زيد قد أحرم بنسك معين.. انصرف إحرام هذا الذي علق إحرامه عليه إلى النسك الذي أحرم به زيد. وإن أحرم زيد إحراما موقوفا.. كان إحرام هذا الرجل موقوفا أيضا، ولكل واحد منهما أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين على هذا أن يصرف إحرامه إلى ما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن أحرم زيد إحراما موقوفا، ثم صرف إحرامه إلى نسك معين، ثم علق رجل إحرامه بإحرام زيد بعد ذلك، فإن قال: أحرمت بإحرام كابتداء إحرام زيد.. انعقد إحرامه موقوفا، وله أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين عليه بما صرف زيد إليه إحرامه. وإن قال: كإحرام زيد الآن.. انعقد إحرامه بما صرف زيد إحرامه إليه.
وإن بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا؛ لأنه قد عقد الإحرام،(4/132)
وإنما علق التعيين على إحرام زيد، فإذا بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا.
وإن لم يعلم ما أحرم به زيد، بأن مات أو جن أو عاد وتعذر العلم بإحرامه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لزمه أن يقرن؛ لأنه اليقين، والفرق بينه وبين من أحرم بنسك معين، ثم نسيه، حيث جوزنا له التحري في أحد القولين؛ لأنه يمكنه أن يتحرى في فعل نفسه، ولا يمكنه ذلك في فعل غيره.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\183] : هي على قولين، كمن شك في تعيين ما أحرم به، على ما يأتي ذكرهما.
[مسألة الإحرام بنسكين متفقين]
إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، أو أحرم بحجة ثم أدخل عليها حجا، أو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها عمرة.. لم ينعقد إحرامه إلا بواحد من النسكين.
وقال أبو حنيفة: (ينعقد إحرامه بهما، [ولا يمكنه] المضي فيهما، فترتفض إحداهما) ، واختلفوا متى ترتفض؟.
فقال أبو يوسف: تنتقض في الحال.
وقال أبو حنيفة ومحمد: (ترتفض إذا أخذ في السير، فلو أحصر مكانه.. تحلل منهما) .
دليلنا: أنه لا يمكنه المضي فيهما، فلم يصح الدخول فيهما، قياسا على صوم النذر وصوم رمضان.
[فرع الإحرام عن رجلين]
فإن استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما جميعا.. انعقد الإحرام للأجير؛ لأن الإحرام الواحد لا ينعقد عن اثنين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فانعقد الإحرام لنفسه دونهما.(4/133)
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه.. قال ابن الصباغ: انعقد إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أيهما شاء قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: يقع عن نفسه.
دليلنا: أن ما ملك تعيينه في الابتداء.. ملك الإحرام به مطلقا، ثم يعينه، كالإحرام عن نفسه.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن المستأجر، وعن نفسه بحج.. انعقد الإحرام بالحج عن نفسه؛ لأن الإحرام انعقد، ولم يصح عن غيره، فوقع عن نفسه، كالصرورة.
وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم بالعمرة عن نفسه وبالحج عن المستأجر، وقرن بينهما.. فقد قال الشافعي في " المنسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن الأجير؛ لأن الإحرام واحد، فلا يجوز أن يقع عن اثنين، ولا يجوز أن يقع عن غيره مع نيته له عن نفسه) . قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وقد أومأ الشافعي في القديم إلى: أنهما يقعان على ما نوى، العمرة عن نفسه، والحج عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: يقعان معا عي المستأجر؛ لأن العمرة تتبع الحج، والحج لا يتبعها.
والأول أصح.
[مسألة الشك في النسك]
إذا أحرم بنسك معين، ثم شك بماذا أحرم؟ ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (إنه يتحرى، ويبني على ما يغلب على ظنه أنه أحرم به) ؛ لأن هذا اشتباه في شرط من شرائط العبادة، فكان له الاجتهاد فيه، كالإناءين والقبلة.(4/134)
فعلى هذا: يعمل على ما يغلب على ظنه، والمستحب له: أن يقرن.
و [الثاني] : قال في الجديد: (إنه يلزمه أن يقرن) ، وهو الصحيح؛ لأنه شك لحقه في فعله بعد التلبس بالعبادة، فلم يكن له الاجتهاد، وإنما يلزمه اليقين، كمن شك في عدد الركعات، ويخالف الإناءين والقبلة؛ لأن له على ذلك هناك أمارات يرجع إليها عند الاشتباه، وهاهنا لا أمارة له على نفسه يرجع إليها.
فعلى هذا: يلزمه أن ينوي القران.
ونقل المزني: (أنه يصير قارنا) ، وليس هذا على ظاهره، بل أراد: أنه يلزمه نية القران.
وهل يجزئه ما يأتي به عن فرض الحج والعمرة؟ ينظر فيه:
فإن طرأ عليه هذا الشك قبل أن يفعل شيئا من المناسك بعد الإحرام، ونوى القران.. أجزأه الحج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه إن كان قد أحرم به.. فقد انعقد، وإن كان قد أحرم بعمرة.. فقد أدخل عليها الحج قبل الطواف، وذلك جائز.
وأما العمرة: فإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج.. سقط عنه فرض العمرة أيضا ووجب عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. فهل تجزئه: العمرة هاهنا؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": تجزئه العمرة أيضا؛ لأن إدخال(4/135)
العمرة على الحج إنما لا يجوز من غير حاجة، وهاهنا به حاجة إلى إدخالها.
فعلى هذا: يجب عليه دم القران أيضا.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا تجزئه العمرة؛ لجواز أن يكون قد أحرم بالحج، والفرض لا يسقط بالشك.
فعلى هذا: هل يجب عليه دم القران؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يجب عليه؛ لأنا لم نحكم له بالقران، والأصل براءة ذمته منه.
والثاني: يجب عليه: لجواز أن يكون قارنا.
وإن طرأ عليه هذا الشك قبل طواف القدوم، وبعد أن وقف بعرفة، وكان وقت الوقوف باقيا.. فإنه ينوي القران، ويقف بعرفة، ويجزئه الحج، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " بقوله: إذا نسي بعد الوقوف، وقبل طواف القدوم.
وأما العمرة.. فهل يسقط عنه فرضها؟ إن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. سقط عنه فرضها، وكان عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف، أو لا يجوز إدخالها عليه أصلا.. لم يسقط عنه فرضها، وفي دم القران وجهان، مضى توجيههما.
وإن طرأ عليه هذا الشك بعد الوقوف بعرفة وبعد فوات وقته، وقبل طواف القدوم، ونوى القران.. لم يجزه عن الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد فات الوقوف.
وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها عليه قبل الوقوف لا غير، ولا يجوز بعده.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة.(4/136)
وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وبعد الوقوف بعرفة.. لم يجزه الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد طاف للعمرة.
وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها قبل الوقوف لا غير.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة.
وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وقبل الوقوف بعرفة. فإن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، أو نوى القران.. صحت له العمرة، ولا يصح له الحج؛ لأنه لا يجوز له إدخال الحج على العمرة بعد الطواف. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. لم يصح له الحج ولا العمرة؛ لأنه يحتمل أنه كان معتمرا، فلا يصح إدخال الحج عليها بعد الطواف، ويحتمل أنه كان حاجا، وإدخال العمرة على الحج لا يجوز.
قال ابن الحداد: فإن أراد أن يجزئه الحج.. فإنه لا ينوي القران، ولكن يسعى، بين الصفا والمروة، ويحلق رأسه، ثم يحرم بالحج؛ لأنه إن كان معتمرا.. فهذا وقت الحلاق والتحلل، وإن كان حاجا أو قارنا.. فلا يضره تجديد إحرام آخر.
وذكر في " المهذب ": أنه يعيد الطواف. ولا معنى له؛ لأنه قد طاف.
وقال أبو زيد المروزي: إن كان الرجل فقيها، وفعل ما قال ابن الحداد باجتهاده.. فلا كلام، وأما إذا استفتى.. فإنا لا نفتي بجواز الحلاق؛ لأنه يحتمل أن يكون محرما بالحج، فلا يجوز له الحلق قبل وقته.
قال القاضي أبو الطيب: ويمكن ابن الحداد أن يجيب، فيقول: الحلق يستباح للحاجة إليه، وبه هاهنا حاجة إليه لئلا يلغو عمله، فلا يحتسب له بحجة ولا عمرة.
فإذا قلنا بقول ابن الحداد.. وجب عليه دم؛ لأنه إن كان معتمرا.. فعليه دم التمتع، وإن كان حاجا أو قارنا.. فقد حلق في غير وقته.(4/137)
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان؛ لجواز أن يكون قارنا، فيجب عليه: دم القران، ودم الحلاق. وهذا ليس بشيء؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دم واحد.
[مسألة أحوال التلبية]
قال الشافعي: (ويلبي المحرم قائما وقاعدا، وراكبا ونازلا، وجنبا ومتطهرا) .
وهذا صحيح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أهل مهل قط ... إلا بشر، ولا كبر مكبر قط
إلا بشر " قيل: يا رسول الله، بالجنة؟ قال: " نعم» ، وروي عن ابن عباس: أنه قال: (التلبية زينة الحج) .
وسئل محمد ابن الحنفية عن الجنب يلبي؟ فقال: نعم.
ويستحب ذلك للحائض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - وقد حاضت وهي محرمة -: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» ، والحاج يلبي، فكذلك الحائض.
ويستحب أن يلبي عند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط؛ لما روي:(4/138)
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي إذا رأى ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا» .
ويستحب أن يلبي في أدبار المكتوبة، وفي إقبال الليل والنهار؛ لأنه روي ذلك عن بعض السلف، ولأنه وقت صعود ملائكة النهار، ونزول ملائكة الليل.
ويستحب أن يلبي في مسجد مكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعرفات، وفيما عدا هذا من المساجد قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يلبي) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يلبي) ، وهو الأصح؛ لعموم الأمر بالتلبية ولأنه مسجد بني للجماعة، فاستحب فيه التلبية، كالمساجد الثلاثة.
وأما التلبية في حال الطواف: فقال في القديم: (لا يلبي، وإن لبى.. لم يجهر به) لما روي عن ابن عمر: (أنه كان لا يلبي في الطواف) ، وروي عن(4/139)
سفيان: أنه قال: ما علمت أن أحدا كان يلبي في الطواف إلا عطاء بن السائب، فأخبر: أن هذا إجماع، ولأن للطواف ذكرا يختص به.
وقال في " الإملاء ": (وأحب ترك التلبية في الطواف للأثر، فإن لبى.. فلا بأس) . والأثر هو: ما ذكرناه عن ابن عمر وسفيان.
وأما التلبية في السعي: فقال الشافعي في " الإملاء ": (فلا بأس أن يلبي المحرم على الصفا والمروة، وبينهما، غير أني أحب له تركها؛ لأن الذي روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عليهما والتكبير والدعاء، فكذلك بينهما، فأحب له من ذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن أكره التلبية) .
وهاتان المسألتان إنما تتصوران في المحرم بالحج، إذا طاف طواف القدوم، وسعى بعده للحج. فأما في طواف الفرض في الحج، أو في طواف العمرة وسعيها.. فلا يتصور له ذلك.
ويستحب له رفع الصوت بالتلبية؛ لما روى زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني جبريل، فقال: يا محمد، مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعائر الحج» ، وروى أبو بكر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الحج(4/140)
أفضل؟ فقال: " العج والثج» ، ومعنى (العج) : رفع الصوت بالتلبية، و (الثج) : إسالة دم الهدي، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] [النبأ: 14] ، وروي: «أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا لا يبلغون الروحاء.. حتى تبح حلوقهم» يعني: من رفع الصوت في التلبية.
وإن كانت امرأة ... لا ترفع صوتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها.
وإن كان خنثى.. لم يرفع الصوت: لجواز أن يكون امرأة.
[مسألة صفة التلبية وما يقول إذا فرغ منها]
] : والتلبية أن يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي هكذا) .(4/141)
وهل تكره الزيادة على ذلك؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 182] : يكره؛ لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنه يلبي ويقول: (لبيك يا ذا المعارج) ، فقال: (يا بني، أما إنه ذو المعارج، ولكنا لم نقل هكذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
وقال الشيخ أبو حامد: وذكر أهل العراق عن الشافعي: (أنه تكره الزيادة على ذلك) وغلطوا، بل لا يكره ذلك، ولا يستحب ذلك؛ لما روي في بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في تلبيته: " لبيك حقا حقا، عبودية ورقا» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمع عليه الناس، فلما تفرقوا عنه.. أعجبه ذلك، فقال: «لبيك إن(4/142)
العيش عيش الآخرة» وروي: أن ابن عمر كان يزيد في تلبيته: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل) ، فدل على: أنه لا يكره الزيادة.
إذا ثبت هذا: فيجوز كسر الهمزة من قوله: " إن الحمد " وفتحها، فالكسر على معنى الابتداء وهو أولى، والفتح بمعنى؛ لأن الحمد والنعمة لك.
و (التلبية) : مأخوذة من قولهم: ألب بالمكان، إذا لزمه وأقام فيه، ومعناه: أنا مقيم عند طاعتك، وعلى أمرك، غير خارج عن ذلك، ولا شارد عنه، ثم ثنوه للتأكيد.
قال الهروي: ومعنى " وسعديك "؛ أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة.
فإذا فرغ من التلبية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح: 4] ، يقول: «لا أذكر إلا وتذكر معي» .(4/143)
ثم يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار؛ لما روى خزيمة بن ثابت: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل الله ذلك بعد التلبية) .
[فرع التكلم أثناء التلبية وترجمتها]
قال الشافعي: (ولا بأس أن يرد الملبي السلام، ويأمر ببعض حاجته، غير أني لا أحب له أن يأمر بحاجته. ويرد السلام؛ لأن الرد فرض، والتلبية سنة) .
قال: (والأعجمي أن أحسن التلبية بالعربية، وإلا.. لبى بها بلسانه) .
وقال أبو حنيفة: (يلبي بأي لغة شاء) ، كما قال في التكبير، وقد مضى الدليل عليه في الصلاة.
[مسألة حلق الشعر للمحرم]
وإذا أحرم.. حرم عليه حلق رأسه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196](4/144)
[البقرة: 196] . ويحرم عليه حلق شعر البدن.
وقال أهل الظاهر: (لا يحرم عليه غير حلق شعر الرأس) .
دليلنا: أنه شعر يتنظف به ويترفه، فلم يجز للمحرم حلقه، كشعر الرأس، وتجب به الفدية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .
قال ابن عباس: (معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] أي: برأسه قروح [أو] فيه أذى) ، ومعني الآية: فحلق.. ففدية.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بكعب بن عجرة وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت برمة له - والقمل ينحدر من رأسه - فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتوذيك هوام رأسك يا كعب؟ " فقال: نعم، قال: " احلقه، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين» .(4/145)
[فرع حلق المحرم شعر الحلال]
ويجوز للمحرم حلق شعر الحلال، ولا شيء عليه بذلك.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له ذلك، فإن فعل.. لزمه أن يتصدق بصدقة) .
وقال مالك في إحدى الروايتين: (تلزمه الفدية) .
ودليلنا: أنه شعر لا يتعلق به حرمة الإحرام، فلم يمنع من إزالته، ولا يجب عليه بإزالته شيء، كشعر البهيمة.
[مسألة تقليم الأظافر للمحرم وإبانة أحد أعضائه]
ويحرم عليه تقليم شيء من أظفاره؛ لأنه يقع به الترفه والنظافة، وهو مما ينمو، فحرم عليه، كالشعر، وتجب به الفدية قياسا على الشعر.
فإن قطع المحرم يده، وعليها شعر وأظفار.. لم تجب عليه الفدية؛ لأن الشعر والظفر تابع لليد، فلا تنفرد بضمان، واليد لا يضمنها بالفدية، كذلك الشعر والظفر، بدليل: أنه لو كانت له زوجة صغيرة، فأرضعتها أمه.. انفسخ النكاح، وضمنت له المهر، ولو قتلتها.. انفسخ النكاح، ولم تضمن المهر.
[مسألة غطاء رأس ووجه المحرم]
ولا يجوز للرجل المحرم أن يغطي رأسه بمخيط ولا بغير مخيط، ويجوز له أن يغطي وجهه بغير المخيط.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز له أن يغطي وجهه، فإن فعل.. كان عليه الفدية) .(4/146)
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم الذي خر من بعيره فمات: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تقربوه طيبا، ولا تخمروا رأسه وخمروا وجهه» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم: «لا يلبس عمامة ولا برنسا» ، والعمامة ليست بمخيطة، والبرنس مخيط، ولأن الوجه عضو لا يتعلق النسك بحلق شعره، فوجب أن يجوز للمحرم ستره، كسائر البدن.
فإن غطى رأسه ... وجبت فيه الفدية؛ لأنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت به الفدية، كحلق الرأس.
[فرع عصابة المحرم]
وإن عصب رأسه بخيط.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 188] : فلا بأس به؛ لأنه لا يقصد به الستر. وإن تعصب بعصابة.. فعليه الفدية؛ لأنه يقصد بها الستر.(4/147)
[فرع الحمل أو وضع اليد على الرأس للمحرم]
] : وإن حمل المحرم على رأسه مكتلا.. فهل يلزمه الفدية؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق -: أنه لا فدية عليه؛ لأنه لا يقصد به ستر الرأس، وإنما يقصد حمله، فلم يمنع منه، كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في جملة القماش للنقل.
والثاني: أن عليه الفدية، وحكى ابن المنذر والشيخ أبو حامد: أن الشافعي نص على هذا. ووجهه: أنه ستر رأسه، فأشبه ما لو طلاه بالطين أو الحناء.
وإن ترك المحرم يده على رأسه.. فلا شيء عليه؛ لأن ذلك ليس بتغطية في العادة، ولأنه ستره بما هو متصل به، ولهذا لا يجوز أن يستر عورته بيده.
[فرع الطلي بالحناء وغيره للمحرم]
وإن طلا رأسه بحناء أو طين أو نورة، فإن كان ثخينا بحيث يمنع النظر إلى الرأس.. وجبت عليه الفدية، كما لو غطاه بثوب. وإن كان رقيقا.. لم تجب عليه الفدية، كما لو غسله بماء وسدر.
قال الشافعي: (ولو طلاه بعسل أو لبن.. فلا فدية عليه) .
[فرع ما يحرم لبسه للمحرم]
ولا يجوز للرجل المحرم ستر بدنه بما عمل على قدره، كالقميص والجبة، ولا بما عمل على قدر عضو من أعضائه، كالسراويل والخفين والساعدين والقفازين،(4/148)
سواء كان معمولا بالخياطة، أو منسوجا على هيئته، أو ملزقا بلزاق؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يلبسه المحرم؟ فقال: " لا يلبس قميصا، ولا جبة، ولا عمامة، ولا برنسا، ولا سراويل، ولا خفين، إلا أن لا يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» .
فإن لبس شيئا مما ذكرناه.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كحلق الرأس.
وإن لبس القباء.. وجبت عليه الفدية، سواء أدخل يديه في الكمين أو لم يدخلهما، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الفدية إلا إذا أدخل يده في الكمين) .
دليلنا: أنه لبس مخيطا على ما جرت العادة بلبسه، فوجبت عليه الفدية، كالقميص ولأن من لبس القباء.. فمن عادته أن يدخل كفيه فيه، ولا يخرج يديه من كميه في غالب الأحوال، ولا يكاد يخرج يده من كميه إلا لحاجة أو ركوب، فجرى مجرى القميص.
[فرع الجراحة ببدن المحرم أو رأسه]
وإن كان على المحرم جراحة، فشد عليها خرقة، فإن كانت في غير الرأس فلا شيء عليه؛ لأنه لا يمنع من تغطية بدنه بغير المخيط.
وإن كانت على الرأس.. لزمته الفدية؛ لأنه يمنع من تغطية رأسه بالمخيط وغيره.(4/149)
[فرع ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار للمحرم]
فرع: [ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار] :
والتبان والران كالسراويل؛ لأنه في معناه، فإن شق إزارا وجعل على كل ساق قطعة، وشد كل خرقة على ساق.. لم يجز؛ لأنه كالسراويل.
وله أن يعقد إزاره؛ لأنه من مصلحته، ويجوز أن يعقد على الإزار تكة أو خيطا، ويجوز أن يجعل له حجزة ويدخل التكة فيها ويعقده؛ لأن كل هذا من مصلحته، ولا بأس أن يتوشح بالرداء، ويغرز أطرافه في أطراف إزاره. ولا يزره ولا يشوكه، ولا يعقده عليه.
قال الشيخ أبو حامد: فإن فعل شيئا من ذلك.. وجبت عليه الفدية.
وذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": أنه إذا عقد عليه رداءه.. لم تجب عليه الفدية؛ لأنه ليس بمخيط، فهو كما لو التحف به.(4/150)
[فرع لبس السراويل لفاقد الإزار]
إذا لم يجد إزارا.. جاز أن يلبس السراويل، ولا فدية عليه، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\189] : إذا كان يمكنه فتق السراويل والائتزار به فلبسه قبل الفتق ... كان عليه الفدية.
وقال مالك: (لا يجوز له لبسه، فإن فعل.. فعليه الفدية) .
وقال أبو حنيفة: (يفتقه ويلبسه، فإن لبسه من غير فتق.. فعليه الفدية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يجد الإزار.. فليلبس السراويل» .
وإن لم يجد الإزار.. لم يجز له لبس القميص؛ لأنه يمكنه لبسه على صفته، كالمئزر، بخلاف السراويل.(4/151)
فإن لبس السراويل مع عدم الإزار، ثم وجد الإزار.. لزمه خلع السراويل، فإن لم يفعل مع العلم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه إنما جاز له لبس السراويل بشرط عدم الإزار، وقد وجده.
[فرع لبس المنطقة وما أشبهها للمحرم]
فرع: [لبس المنطقة وما أشبهها] :
ويجوز للمحرم أن يلبس المنطقة، ويشدها على وسطه.
وأصحابنا يحكون عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك) . وأصحابه يحكون عنه: (أنه يجوز) .
دليلنا: ما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سئلت عن المحرم يشد الهميان في وسطه؟ فقالت: نعم) .
وله أن يتقلد السيف، ويتنكب المصحف؛ لـ: (أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا المسجد متقلدين السيوف، وهم محرمون) .(4/152)
[فرع لبس الخفين عند فقد النعلين للمحرم]
فرع: [لبس الخفين عند فقد النعلين] :
ولا يجوز للمحرم لبس الخفين؛ للخبر، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية، قياسا على الحلق. فإن لم يجد نعلين.. جاز له أن يلبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين، ويجعلهما شمشكين.
فإن لبسهما قبل القطع مع عدم النعلين.. لزمته الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال عطاء، وسعيد بن سالم القداح، وأحمد بن حنبل: (لا فدية عليه) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» .
فإن وجد النعلين.. فهل يجوز له استدامة لبس الخفين المقطوعين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المنصوص -: أنه لا يجوز له، كما قلنا في لبس السراويل بعد وجود الإزار.
والثاني: يجوز - وبه قال أبو حنيفة - لأنهما في معنى النعلين، بدليل: أنه(4/153)
لا يجوز المسح عليهما. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الخف المخرق لا يجوز المسح عليه، ولا يجوز للمحرم لبسه.
[فرع إدخال إحدى الرجلين بالخف أو كليهما إلى الساق]
ذكر الصيمري إذا أدخل الرجلين إلى ساق الخفين، أو أدخل إحدى الرجلين إلى قرار الخف دون الأخرى.. فلا فدية عليه؛ لأنه ليس بلابس الخفين.
[مسألة إحرام المرأة]
وإذا أحرمت المرأة.. فإنه لا يجب عليها كشف رأسها، ولكن لا يجوز لها تغطية وجهها، ولسنا نريد بذلك أنها تبرزه للناس، وإنما نريد أنها لا تغطيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إحرام المرأة في وجهها» فدل: على أن حكمه لا يتعلق بالرأس.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى المرأة المحرمة عن النقاب» . ولأن رأسها عورة وكشف العورة لا يجوز.(4/154)
إذا ثبت هذا: فلها أن تستر من وجهها ما لا يمكنها ستر الرأس إلا به، كما نقول في المتوضئ: إنه يغسل جزءا من رأسه؛ لاستيفاء غسل الوجه.
فإن أرادت المرأة أن تستر وجهها عن الناس.. عقدت الثوب على رأسها، وسدلته على وجهها، وجافته عن الوجه بعود حتى لا يقع على وجهها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن محرمات، فكان إذا مر بنا الركبان وحاذوا بنا.. سدلت إحدانا جلبابها من فوق رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا.. رفعته» . فإن وقع الثوب على وجهها بغير اختيارها، فإن رفعته في الحال.. فلا شيء عليها. وإن أقرته مع القدرة على رفعه، وهي ذاكرة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها الفدية.
ويجوز لها لبس القميص والسراويل والخفين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب والقفازين وما مسه الورس والزعفران، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف» .(4/155)