[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[مقدمة المؤلف] :
الحمد لله الذي أوجدنا بقدرته، وأرشدنا بخلقه إلى معرفته، وتعبدنا بما شاء من عبادته، وصلواته على محمد المصطفى نبيه خير بريته، وعلى أهله وذريته وصحابته.
أما بعد: فلما كان مذهب الشافعي رحمة الله عليه اعتقادي، وفي " المهذب " درسي، وعليه اعتمادي، ثم طالعت في غيره من مصنفات أئمتنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مسائل غير مذكورة فيه، يصعب علي استخراجها وانتزاعها من معانيه، فأشار علي بعض شيوخي رحمة الله عليهم بمطالعة الشروح وجمعها، والتقاط هذه المسائل ونزعها، لأستعين بمطالعته مع " المهذب "، على المسائل المنصوص عليها في المذهب.. فجمعت كتابًا قبل هذا، سلكت فيه هذا السبيل، لكني أغفلت البروز فيه وأقوال المخالفين، خشية التطويل، ثم نظرت، فإذا لي حاجة إلى ذكر ما أغفلته، واستيفاء ما تركته وأهملته، فجمعت هذا الكتاب مشتملًا من ذلك على ما قصدته، وعلى ترتيب " المهذب " رتبته، والله أسأل العون على ما أردته، والتوفيق في ما نويته، وهو حسبي ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.(1/3)
ذكر نسب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينبغي لمن انتحل مذهب إمام أن يجهل نسبه.
وهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وكان لعبد مناف خمسة أولاد: هاشم بن عبد مناف جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمطلب بن عبد مناف جد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعبد شمس بن عبد مناف جد بني أمية، وعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - منهم، ونوفل بن عبد مناف جد بني نوفل، وجبير بن مطعم منهم، وأبو عمرو بن عبد مناف ولا عقب له.
وكان المطلب جد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كفل عبد المطلب بن هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه ولد بالمدينة، ومات أبوه، فمضى له المطلب، وقدم به مكة وهو رديفه، وعليه ثياب رثة، فإذا سئل عنه.. استحيا أن يقول: إنه ابن أخي، فكان يقول: عبد لي، فلما وصل منزله.. ألبسه ثم أخرجه، وقال: هذا ابن أخي، فسمي بذلك: عبد المطلب، وكان اسمه المطلب، وكان يسمى شيبة الحمد؛ لأنه ولد وفي رأسه شعرة بيضاء، وقيل: إن شافعا لقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مراهق للبلوغ.
وأما مولد الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإنه ولد بـ (غزة) - قرية من قرى الشام - سنه خمسين ومائة، فمكث بها سنتين، ثم حمل إلى مكة، فنشأ بها، وتعلم بها القرآن،(1/4)
على سفيان بن عيينة، وغيره، ثم خرج إلى المدينة، فقرأ على مالك بن أنس " الموطأ " وحفظه، ثم دخل بغداد، وأقام به سنين، وصنف بها كتبه القديمة، ثم عاد إلى مكة، وأقام بها سنة تسع وسبعين، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها أشهرًا، ولم يصنف بها شيئًا، ثم خرج إلى مصر، فصنف بها كتبه الجديدة، وأقام بها إلى أن مات بها ودفن هنالك، وكان موته ليلة الجمعة، وقد صلى العشاء الآخرة آخر ليلة من شهر رجب، ودفن في يوم الجمعة. رحمة الله عليه.
قال الربيع: انصرفنا من دفن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرأينا هلال شعبان، وكان ذلك في سنة أربعة ومائتين، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة.
وأصحابه البغداديون: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأحمد بن حنبل، وهم الذين يروون عنه الكتب القديمة.
وأما أصحابه المصريون الذين يروون عنه الكتب الجديدة: فإسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، ويوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، ويونس بن عبد الأعلى.
وإنما اخترنا مذهبه؛ لموافقته الكتاب والسنة والقياس. وأمرنا المتعلم أن(1/5)
يتعلم مذهبه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأئمة من قريش» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعلموا من قريش ولا تعلموها» ، وروي: «ولا تعالموها، فإن عالمها يملأ الأرض علمًا» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في هذا الشأن تبع لقريش، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» .
وليس في الأئمة المشهورين قرشي غير الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فكان اتباعه أولى من اتباع غيره.
وأما تخريج الأئمة المسألة على قولين وأكثر، فعلى معنى: أن كل قول سوى ذلك باطل، وليس على سبيل الجمع، ولا على سبيل التخيير، وقد يقوم للمجتهد الدليل على إبطال كل قول سوى قولين، فلم يظهر له الدليل في تقديم أحدهما على الآخر، فيخرجهما على قولين، وهذا كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: (الخلافة بعدى في هؤلاء الستة) ؛ ليدل على أن الخلافة ليست في غيرهم.
وقد قيل: إن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يمت حتى بين الصحيح من أقواله إلا في ست عشرة مسألة، أو سبع عشرة مسألة.(1/6)
[كتاب الطهارة] [باب ما يجوز به الطهارة من المياه وما لا يجوز به](1/9)
كتاب الطهارة
باب ما يجوز به الطهارة من المياه، وما لا يجوز به قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] [الفرقان: 48] .
إذا الطهور عندنا: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره، وهو اسم متعد، وتعديته: تطهيره لغيره من الحدث والنجس.
وقال أبو حنيفة، والأصم: (هو اسم لازم غير متعد يعم جميع الطاهرات) .
وأجاز أبو حنيفة إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، كالخل. وأجاز الأصم رفع الحدث بالمائعات الطاهرة غير الماء: كاللبن، والخل.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خلق الله الماء طهورًا» .(1/11)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . فخص الماء باسم الطهور، فدل ذلك على أنه لا يسمى غيره بهذا الاسم.
إذا ثبت هذا: فيجوز رفع الحدث، وإزالة النجس بالماء المطلق، كماء المطر، وذوب الثلج والبرد، وماء الآبار والأنهار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] [الأنفال: 11] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ من بئر بضاعة» .
وأما الثلج والبرد قبل أن يذوبا: فيجوز مسح الرأس والخف بهما لا غير.
وقال الأوزاعي (إذا أمره على العضو المغسول.. أجزأه) .
والدليل على أنه لا يجوز: أن أقل الطهارة جري الماء بطبعه على العضو المغسول، وهذا لا يوجد فيهما قبل أن يذوبا.
وتجوز الطهارة بماء البحر مع وجود غيره من الماء، ومع عدمه، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو: أنهما قالا: (التيمم أعجب إلينا منه) .(1/12)
وقال ابن المسيب: إن كان واجدًا لغيره من الماء.. لم يجز الوضوء به، وإن لم يجد غيره.. جاز الوضوء به.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وماء البحر يسمى ماءً. وروى أبو هريرة: «أن رجلًا قال: يا رسول الله إنا نركب في البحر أرماثًا، ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يطهره البحر، فلا طهره الله» .
[مسألة: الماء المشمس]
وأما الماء المشمس: فإن لم يقصد إلى تشميسه.. لم تكره الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن الشمس، وإن قصد إلى تشميسه.. فهل تكره الطهارة به؟ فيه خمسة أوجه:
أحدهما - وهو المنصوص - (أنه يكره) ؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سخنت ماء بالشمس، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا حميراء، لا تفعلي هذا، فإنه يورث البرص» ، تقول العرب: امرأة حميراء أي: بيضاء. وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ينهى عن الماء المشمس، وقال: (إنه يورث البرص) ، فذكر أن رجلًا عانده في ذلك، وكان يتطهر به، فما مات حتى أصابه البرص.(1/13)
وسواء شمس بالحجارة أو النحاس أو الزجاج، وفي الإناء المغطى والمكشوف.. فإنه يكره.
والوجه الثاني: لا يكره بحال، وهو قول أبو حنيفة، كما لا يكره ما تشمس بنفسه في البرك والأنهار.
والثالث: إن شمس في البلاد الحارة في آنية الصفر.. كره؛ لأنه يورث البرص، وإن شمس بغير ذلك.. لم يكره؛ لأنه لا يورث البرص.
والرابع - حكاه الشاشي - يكره في البدن، دون الثوب.
والخامس - حكاه أيضًا - إن قال عدلان من أهل الطب: إنه لا يورث البرص.. فلا يكره، وإن قال يورث.. كره، وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أنه يورث البرص، فلا معنى للرجوع إلى قول أهل الطب.
فإن قلنا: يكره، فبرد الماء المشمس.. فهل تزول كراهة الطهارة به؟
سمعت بعض شيوخي يحكي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تزول الكراهة، لزوال التشميس.
والثاني: لا تزول الكراهة؛ لأنه لا يزول عنه اسم التشميس.
والثالث: يرجع إلى عدلين من أطباء المسلمين، فإن قالا: لا يورث البرص.. زالت الكراهة، وإن قال: يورث.. كره؛ لأن العلة في كراهته خوف البرص، فرجع إليهم في ذلك بعد التبريد.
فإن توضأ بالماء المشمس.. ارتفع حدثه؛ لأن المنع منه لخوف البرص، فلم يمنع صحة الطهارة، كما لو توضأ بماء حار أو بارد يخاف منه.
[فرع: الماء المسخن]
وإن سخن الماء بالنار.. لم تكره الطهارة به، سواء سخن بالوقود الطاهر أو(1/14)
النجس. وقال مجاهد: تكره الطهارة به بكل حال. وقال أحمد: (إن سخن بالوقود النجس.. كرهت الطهارة به، وإن سخن بالوقود الطاهر.. لم تكره) .
دليلنا: (أنه كان يسخن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ماء في قمقم، فكان يتوضأ به) .
وروى « [الأسلع بن] شريك قال: (أجنبت وأنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فجمعت أحجارًا، وسخنت ماء، فاغتسلت به، فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فلم ينكر علي» .
وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل حمامًا بالجحفة، فاغتسل منه» .
ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم. وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه:(1/15)
(يكره) ؛ لما روي عن العباس بن عبد المطلب: أنه قال في ماء زمزم: (لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وهذا ماء؛ ولأن الناس يفعلون ذلك من لدن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وقتنا هذا من غير إنكار.
وأما ما روي عن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فيتحمل أنه نهى عن ذلك في وقت قل الماء فيها، وكثر من يطلب الشرب منها.
[مسألة: الماء غير المطلق]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وما عدا ذلك من ماء ورد، أو شجر، أو عصفر، أو ماء زعفران، أو عرق.. فلا يجوز التطهر به) .
وهذا كما قال: لا يجوز رفع الحدث بغير الماء المطلق من المائعات الطاهرة، كـ (ماء الورد) : وهو الماء الذي يعتصر من الورد. و (ماء الشجر) : وهو أن يقطع الشجر رطبًا، فيجري منه الماء، و (ماء العصفر والزعفران) : وهو ما اعتصر منهما.
وبه قال عامة أهل العلم، إلا الأصم، فإنه قال: يجوز رفع الحدث بكل مائع طاهر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، فنقلهم من الماء عند عدمه إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الطهارة بغيره.
وأيضًا: فإن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قد كانوا يسافرون، فيعدمون الماء، فيتيممون، وما روي أن أحدًا منهم توضأ بمائع غير الماء.
وأما (العرق) : ففيه ثلاث روايات:(1/16)
(الأولى) : قيل: عرق - بفتح العين والراء - وهو عرق الآدميين وغيرهم.
و (الثانية) : قيل: عرق - بكسر العين وسكون الراء - وهو ماء عروق الشجر.
و (الثالثة) : قيل: عرق - بفتح العين وسكون الراء - وهو الماء الذي يعتصر من أكراش الإبل، كانت العرب تفعله في المفاوز.
والجميع لا تجوز الطهارة به.
أما الأولان: فلما قدمناه. وأما الثالث: فلأنه نجس.
[مسألة: الطهارة بشيء من الأنبذة]
مسألة: [في الأنبذة] :
ولا تجوز الطهارة بشيء من الأنبذة.
وقال أبو حنيفة: (يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ في السفر عند عدم الماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فنقلهم عند عدم الماء إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره من المائعات. إذ لو جاز الوضوء بغيره من المائعات.. لكان النقل إليه أقرب من التراب؛ لأنه أقرب إلى صفة الماء.
[فرع: إزالة النجاسة بالمائعات]
ولا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات.
وقال أبو حنيفة: (تجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيل للعين، كالخل) .(1/17)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] [الأنفال: 11] . فخص الماء بالتطهير.
وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء بنت أبي بكر في دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه واقرصيه، ثم اغسليه بالماء» . فخص الماء بالغسل به، فدل على أنه لا يجوز بغيره.
و (الحت) : هو أن تحكه بضلع أو جريدة. و (القرص) : أن يفرك باليد، يراد بذلك المعونة للماء.
وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم قيس بنت محصن: حكيه بضلع، ثم اغسليه بماء وسدر» .
وبالله التوفيق(1/18)
[باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده]
إذا اختلط بالماء شيء طاهر، ولم يتغير به الماء لقلة المخالط.. لم تمنع الطهارة بالماء؛ لأن الماء باق على إطلاقه. وإن لم يتغير الماء بما خالطه من الطاهرات التي تسلب تطهير الماء إذا غيرته لا لقلة المخالط، ولكن لموافقته الماء في صفاته، كالعرق، وماء الورد إذا انقطعت رائحته.. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لا بد أن ينفرد عنه بطعم، فإن اتفق ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر هذا المخالط بغيره من الطاهرات التي تغير صفته صفة الماء، فيقال: لو كان هذا المخالط من الطاهرات التي تخالف صفتها صفة الماء.. هل كانت تتغير صفة هذا الماء به؟
فإن قيل: نعم.. قيل: فهذا أيضًا يمنع الطهارة به وإن لم يتغير الماء.
وإن قيل: لا يتغير صفة هذا الماء.. قيل: فكذا هذا أيضًا لا تمنع الطهارة به؛ لأنه لما لم يمكن اعتبار هذا المخالط بنفسه، لموافقته الماء في الصفة.. اعتبر بغيره مما يخالف الماء، كما نقول - في الجناية على الحر التي ليس لها أرش مقدر -: لما لم يتمكن اعتبارها بنفسها.. اعتبرت بالجناية على العبيد.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن الأشياء تختلف في ذلك، فبأيها تعتبر؟ فإن قال: بأدناها صفة إلى الماء.. قيل: فاعتبر هذا المخالط بنفسه، فإن له صفة ينفرد بها عن الماء.
والوجه الثاني - وهو الصحيح -: إن كان الماء أكثر من المخالط له.. جازت الطهارة به؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه. وإن كان المخالط له أكثر من الماء.. لم تجز الطهارة به؛ لأن إطلاق اسم الماء يزول بذلك.
وإن كان المخالط للماء المطلق ماء مستعملًا في الحدث، وقلنا: إنه ليس بمطهر.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصباغ قالا: يكون الاعتبار هاهنا بالكثرة وجهًا(1/19)
واحدًا. وقال القاضي أبو الطيب: هي على وجهين، كما لو خالطه ماء ورد انقطعت رائحته، أو عرق.
إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ماء، ومعه أربعة أرطال ماء، فكمله برطل من مائع لم يتغير به، كماء ورد انقطعت رائحته.. فهل تجوز الطهارة به؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، وأبي حنيفة -: (أنه لا تصح الطهارة به) ؛ لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع، فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء، وبعضها بالمائع.
والثاني: تصح الطهارة به. قال أصحابنا: وهو الصحيح؛ لأن المائع استهلك في الماء، فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه.
والذي تبين لي في هذه المسألة: أنها مبنية على الوجهين في المائع إذا وقع في الماء ولم يغيره، لموافقته الماء في الصفة:
فإن قلنا: إن المائع الذي توافق صفته صفة الماء يعتبر بغيره من الطاهرات التي تخالف صفته صفة الماء.. لم تجز الطهارة به هاهنا بشيء من هذه الخمسة الأرطال وجهًا واحدًا؛ لأنا لو قدرنا في عقولنا أن رطلًا من قطران، أو زعفران، وقع في أربعة أرطال من الماء.. لغيره.
وإن قلنا: إن الاعتبار بكثرة الماء، أو بكثرة المخالط.. فهاهنا وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: لا تجوز الطهارة به.
والثاني: قال سائر أصحابنا: تجوز.
فكان أبو علي الطبري يقول: إن المائع الطاهر إذا خلط بماء يكفي للطهارة، ولم يغير صفة الماء، وكان الماء أكثر.. تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يكفي للطهارة إلا بالذي خالطه من المائعات الطاهرات.. لم تصح الطهارة به.(1/20)
ويأتي على قول أبي علي: لو احتاج في الغسل عن الجنابة إلى عشرة أرطال ماء وليس معه إلا تسع أرطال ماء، فطرح فيه رطلًا من ماء ورد انقطعت رائحته، ولم يتغير به الماء، فإن اغتسل بجميعه عن الجنابة.. لم تصح. وإن توضأ بجميعه عن الحدث.. صح. وهذا ظاهر الفساد.
وغيره من أصحابنا قالوا: لا فرق بينهما؛ ولهذا قاسوا ما يكفي للطهارة إلا بالمائع على ما يكفي بنفسه للطهارة، فهي وإن كانت مقدمة في " المهذب " في الباب الأول، إلا أنها مبنية على الوجه الأول في الباب الثاني. ولعله فرعها على الصحيح.
وإن تغيرت إحدى صفات الماء من طعم، أو لون، أو رائحة بشيء مما خالطه من الطاهرات.. نظرت:
فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه، كالطحلب - وهو نبت ينبت في الماء - وما يجري عليه الماء من الملح، والكحل، والزرنيخ، والنورة، وما أشبه ذلك.. جازت الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن ذلك.
وإن جرى الماء على التراب، فتغير الماء به.. لم يمنع الطهارة به، واختلف أصحابنا الخراسانيون في علته:
فمنهم من قال: لأنه لا يمكن صون الماء عنه، فهو كالطحلب إذا تغير به الماء.
ومنهم من قال: لأن التراب يوافق الماء في التطهير.(1/21)
وإن تناثرت أوراق الشجر في الماء، فتغيرت بعض صفاته.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في الماء إذا جرى عليه التراب، فغيره.. أنه لا يمكن صون الماء عنه؛ لأن هذا لا يمكن أيضًا صون الماء عنه.
والوجه الثاني: لا تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في التراب: أنه يوافق الماء في التطهير؛ لأن هذا لا يوافق الماء في التطهير.
والثالث: إن كان الورق خريفيا.. لم يمنع الطهارة بالماء. وإن كان ربيعيا.. منع، والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الربيعي يخرج منه رطوبة تختلط بالماء. والخريفي يابس لا يخرج منه شيء.
والثاني: أن الربيعي قلما يتناثر، فيمكن صون الماء عنه، والخريفي يتناثر غالبًا، فلا يمكن صون الماء عنه.
والأول أصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره.
وإن طرح في الماء ملح، فغير إحدى صفات الماء.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: إن كان الملح انعقد من الماء.. لم يمنع الطهارة به؛ لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب في الماء. وإن كان الملح جبليا.. منع الطهارة بالماء، كما لو طرح فيه دقيقًا، فغيره.(1/22)
والثاني - وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 2]-: أنه لا تمنع الطهارة بالماء، سواء كان الملح انعقد من الماء، أو كان جبليا؛ لأن كل ملح أصله الماء.
والثالث - يحكى عن ابن القاص -: أن كل واحد من المحلين يمنع؛ لأنه قد خرج عن صفة الماء، فهو كالطحلب. والأول هو المشهور.
وإن طرح التراب في الماء، فغير صفته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: تجوز الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في التطهير، فهو كما لو صب ماء ملح على ماء عذب، فتغير به.
وأما الخراسانيون فقالوا: إن قلنا: إن الماء إذا جرى عليه فتغير به، أن العلة فيه: أنه يوافق الماء في التطهير.. لم تمنع الطهارة بالماء هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة هناك: أنه لا يمكن صون الماء عنه.. منع الطهارة به.
وإن أخذ الطحلب، أو ورق الشجر، ودق وطرح في الماء، فغيره.. فهل تصح الطهارة به؟ فيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد:
أحدهما: تصح الطهارة به، كما لو تغير بالطحلب الذي نبت فيه.
والثاني: لا تصح الطهارة به، وهو المشهور؛ لأنه زال عن أصله بصنعة آدمي، بخلاف النابتة فيه، فإنه لا يمكن صون الماء عنه.(1/23)
[فرع: حكم ما غير الماء كزعفران]
] : وإن وقع في الماء زعفران، أو كافور، أو دقيق، أو ثمر، أو ما أشبه ذلك، فغير إحدى صفاته.. لم تسلب طهارته، فيجوز شربه، ولكن يسلب تطهيره، فلا تصح الطهارة به.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الماء يجري بطبعه، صحت الطهارة به، إلا ماء اللحم وماء الباقلاء، فلا تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يجري بطبعه.. لم تصح الطهارة به) .
دليلنا: أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر، والماء مستغن عنه، فلم تصح الطهارة به، كماء اللحم، وماء الباقلاء. وإذا شدد (الباقلا) .. قصر، وإذا خفف.. مُدَّ.
فقولنا: (زال عنه إطلاق اسم الماء) احتراز من هذه الأشياء الطاهرة إذا وقعت في الماء، ولم تغير صفاته.
وقولنا: (بمخالطة) احترازٌ من الماء إذا تروح بجيفة بقربه.
وقولنا: (ما ليس بمطهر) احتراز من التراب، على المشهور من المذهب.
وقولنا: (والماء مستغن عنه) احتراز من الماء إذا جرى على الكُحل، أو نبت فيه الطحلب، فتغير به.
وإن حلف: لا يشرب الماء، فشرب من هذا الماء، قال القاضي في " التحقيق ": لا يحنث.
وإن وكل من يشتري له الماء، فاشترى له الوكيل هذا الماء، لم يصح الشراء في حق هذا الموكل؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الماء.(1/24)
[فرع: تغير رائحة الماء بمجاور]
وإن وقع في الماء دُهن طيب، أو عود، فتغير به ريح الماء، ففيه قولان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنه لا يمنع الطهارة بالماء؛ لأن تغيره عن مجاورة، فهو كما لو تغير ريحه بجيفة بقربه.
والثاني: يمنع الطهارة به، كما لو طرح فيه زعفران فتغير به.
وإن وقع في الماء قطران فغير ريح الماء.. فقد قال الشافعي في " الأم " [1/6] : (لا يجوز الوضوء به) ، وقال بعده بأسطر: (إن وقع به قطران، أو بان، فتغير به ريح الماء، لم يمنع الوضوء به) .
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال: (لا يجوز الوضوء به) ، أراد: إذا اختلط بأجزاء الماء، وحيث قال: (يجوز) ، أراد: إذا لم يختلط بالماء، وإنما تغير به عن مجاورة.
قال أبو علي الطبري: وقيل: إن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء، وضرب لا يختلط به.
[فرع: حكم ما لا يختلط بالماء كالكافور]
وإن وقع في الماء قليل كافور، وهو مما لا يختلط بجميع أجزاء الماء، وإنما يختلط باليسير منه، فتغير به ريح الماء.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجوز الطهارة به؛ لأن تغيره عن مجاورة.
والثاني: لا تجوز، كما لو وقع فيه زعفران، فتغير به.
وبالله التوفيق(1/25)
[باب ما يُفسِدُ الماء من النجاسة]
، وما لا يُفسِدُهُ
إذا وقعت في الماء نجاسة، فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، نجس الماء، سواء كان الماء قليلًا، أو كثيرًا.
والدليل عليه: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر في المدينة - فقيل: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وإنه يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خُلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه، أو ريحه» . فنص على (الطعم، والريح) ، وقسنا اللون عليهما؛ لأنه أدل على غلبة الماء منهما، وقد روي: «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» .
(والمحائض) : خرق الحيض، و (ما ينجي الناس) : الغائط، يقال: أنجى الرجل إذا تغوط.
فإن قيل: كيف يطرح ذلك في بئر يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قلنا: يحتمل أن البئر في متسفل من الأرض، فتكون هذه الأشياء بقربها، ثم يحملها السيل إليها، ويحتمل أن يكون طرحوا ذلك إليها قبل أن يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أن يكون طرحها المنافقون.
وإن تغير بعض الماء دون بعض.. فقد ذكر في " المهذب "، و" المقنع ": أنه ينجس الجميع؛ لأنه ماء واحد، فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين: أراد إذا كان الماء الذي لم يتغير أقل من قلتين. فأما إذا كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. لم ينجس ما لم يتغير منه؛ لأنه(1/26)
قد يتغير موضع من البحر بالنجاسة، فكيف يحكم بنجاسة جميعه؟!
وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا فرق بين أن يكون ما لم يتغير أقل من قلتين، أو قلتين، أو أكثر، فإنه ينجس الجميع؛ لأنه قال: لأنه ماء واحد، وهذه العلة موجودة. وإن كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. فقد ذكر ابن الصباغ ما يدل على صحة ذلك، فقال: إذا كان هناك ماء راكد متغير بالنجاسة، وبجنبه قلتان تمران براكد غير متغير.. فقياس المذهب: أن كل جرية تنجس به؛ لأنه كالماء الواحد، فكان الكل نجسًا وإن كثر، ولأنه ماء واحد فلا يتبعض حكمه، فإذا انفصلتا عنه.. زال حكم النجاسة؛ لأنه قلتان غير متغير بالنجاسة، فجعل ابن الصباغ القلتين نجستين وإن كانتا غير متغيرتين، لاتصالهما بالماء المتغير بالنجاسة.
ومن قال بهذا: يمكنه أن ينفصل عما ذكروه في البحر بأن يقول: المتغير لا يستقيم فيه، فلا ينجس بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يطهره البحر.. فلا طهره الله» .
ولم يفرق بين أن يتغير بالنجاسة، أو لا يتغير؛ لأن التغير في جميعه لا يتصور، وفي بعضه لا يستقيم.
[مسألة: النجاسة المعفو عنها]
وإن وقعت في الماء نجاسة يدركها الطرف، من بول، أو خمر، أو ميتة لها نفس سائلة ولم تغيره، فإن كان راكدًا.. نظرت:
فإن كان الماء أقل من قلتين.. نجس، وإن كان قلتين، أو أكثر.. لم ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق.
وذهبت طائفة: إلى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، سواء كان قليلًا، أو كثيرًا. ذهب إليه من الصحابة: ابن عباس، وحذيفة، وأبو هريرة. وبه قال الحسن(1/27)
البصري، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وابن أبي ليلى، وجابر بن زيد، ومالك، والأوزاعي، وداود، والثوري، والنخعي، واختاره ابن المنذر، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور، لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه، أو ريحه» ، ولم يفرق بين القليل والكثير.
وقال أبو حنيفة: (كل ما وصلت إليه النجاسة، أو غلب على الظن وصول النجاسة إليه.. حكم بنجاسته وإن لم يتغير، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، والطريق إلى معرفة وصولها إليه: إن كان الماء إذا حرك أحد جانبيه، تحرك الجانب الآخر، فإن النجاسة إذا حصلت بأحد جانبيه.. غلب على الظن أنها وصلت إلى الجانب الآخر، وإن كان لا يتحرك الجانب الآخر.. لم يغلب على الظن وصول النجاسة من أحد جانبيه إلى الآخر) .
واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد» ، فلم يفرق بين القليل والكثير، ولا بين المتغير وغير المتغير.
ودليلنا: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر.. لم يحمل الخبث» أي: لا يقبل حكمه ولا يلتزمه. فدل على أنه إذا كان أقل من قلتين.. حمل الخبث. فإن قيل: فلعله أراد بقوله: " لم يحمل الخبث "، أي: أنه يضعف عن حمله، كما يقال: فلان لا يحمل هذه الخشبة، أي: أنه يضعف عن حملها.. قلنا: الشيء إذا كان عينًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه ضعيف عن حمله،(1/28)
والخشبة عين. وإذا كان الشيء حكمًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه لا يقبل حكمه، ولا يلتزمه، كما قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] [الجمعة: 5] . فأراد: أنهم حملوا أحكامها، فلم يقبلوها، ولم يلتزموها، لا أنهم يضعفون عن حملها؛ لأن المراد به الحكم، وكذلك النجاسة هي حكم لا عين.
وأما الخبر الذي احتج به مالك: فيحمله على الماء الكثير، بدليل ما ذكرناه.
وأما الخبر الذي احتج به أبو حنيفة: فيحمله على الماء القليل، بدليل خبرنا، فاستعمل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأخبار الثلاثة، وأخذ مالك بواحد من الأخبار الثلاثة، وأسقط اثنين، وكذلك أبو حنيفة أخذ بواحد منها، وأسقط اثنين.
إذا ثبت هذا: فإن هجر - التي تنسب القلال إليها - موضع بقرب المدينة، كان ابتداء عمل القلال بها، فنسبت إليها، ثم عملت بعد بالمدينة.
و (القلة) : حب يسع جرارا من الماء، وجمعها: قلال. قال الشاعر:
يمشون حول مكدم قد كدحت ... متنيه حمل حناتم وقلال
و (الحناتم) - جمع حنتم - وهي: الجرة الكبيرة، ذات عروتين، وهو يصف الحمار.
واختلف أصحابنا في حد القلتين.
فمنهم من قال: هما خمسمائة منًا، وهو ألف رطل بالبغدادي.
وقال أبو عبد الله الزبيري: هما ثلاثمائة منًا، وهو ستمائة رطل بالبغدادي.(1/29)
وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في الإبانة: ق \ 7] .
وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: هما خمسمائة رطل بالبغدادي، وهو المنصوص؛ لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئًا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والاحتياط أن تجعل قربتين ونصفًا) .
قال الشافعي: (والقربة بالحجاز، تسعمائة رطل) ، فصار ذلك خمسمائة رطل، وهل ذلك تحديد أو تقريب؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: هو تقريب، فإن نقص منه رطلان أو ثلاثة أو ما أشبه ذلك، لم يؤثر نقصانه؛ لأن الشيء قد يستعمل فيما دون النصف في العادة، ولهذا يقال في الشيئين وأكثر من نصف الثالث: ثلاثة إلا شيئًا.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: هو تحديد، فإن نقص منه نصف رطل، وما أشبهه.. فينجس بوقوع النجاسة فيه؛ لأن الحكم قد يجب للاحتياط، واستيفاء الواجب، كما يجب أن يصوم جزءًا من الليل لاستيفاء النهار، وكما يجب غسل شيء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه.
إذا ثبت هذا: فنقول: إن داود قال: (إذا بال الإنسان في الماء الراكد، ولم يجز له أن يتوضأ منه وإن كان كثيرًا لم يتغير، ولا يحكم بنجاسته، فيجوز لغيره أن يتوضأ منه، وكذلك إذا تغوط الإنسان في الماء.. جاز له ولغيره الوضوء به إذا لم يتغير به) . وهذا خطأ بين لا يحتاج إلى الاستدلال عليه، وإنما قال هذا لتركه القياس.(1/30)
[فرع: الشك في قدر القلتين]
قال الصيمري: وإن وقعت في الماء نجاسة ولم تغيره، وشك في الماء، هل هو قلتان، أو أقل.. حكم بنجاسته؛ لأن الأصل فيه القلة.
وإن وقعت في الماء الكثير نجاسة ولم تغيره، لكون صفة النجاسة موافقة لصفة الماء، قال القاضي حسين: يعتبر بالنجاسة التي تخالف صفتها صفة الماء، وقد استعبد ابن الصباغ ذلك في الطاهر المخالط للماء، وهو في النجاسة أبعد.
وإن كان الماء قلتين إلا كوزًا، فصب فيه كوزًا من ماء ورد، ثم وقعت فيه نجاسة.. نجس الماء وإن لم يتغير، وإن كمل القلتين بكوز من ماء تغير بالزعفران، ثم وقعت فيه نجاسة، لم ينجس الماء من غير تغيير.
والفرق بينهما: أن ماء الورد عرق، وماء الزعفران كان مطهرًا.
فإن صب على القلتين الناقصتين كوزًا من خمر، أو بولٍ.. حكم بنجاسة الماء.
وهكذا إن صب عليه ماء نجسًا ولم يبلغا قلتين.. حكم بنجاسة الماء. وإن صب القلتين الناقصتين، على البول، أو الخمر، أو على الماء النجس، فاستهلك ذلك في الماء.. حكم بطهارته؛ لأن النجاسة إذا وردت على الماء القليل، نجسته، وإذا ورد الماء على النجاسة فاستهلكها، طهرها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا» .
فنهى عن إيراد اليد النجسة على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها.
وإن كان الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة لم تغيره، والذي فيه النجاسة متميز عن الذي لا نجاسة فيه، مثل أن يكون أحدهما كدرًا، والآخر صافيًا، حكم بطهارة الجميع؛ لأن الاعتبار بالكثرة لا بالمخالطة.(1/31)
[فرع: نجاسة ما لا يدركه الطرف]
] : وإن وقع في الماء القليل نجاسة لا يدركها الطرف، أو كان ذلك في الثوب، ففيه خمس طرق مشهورة:
أحدها: يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها.
والثانية: لا يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنها نجاسة متيقنة، فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف.
والثالثة: أن فيها قولين: أحدهما: يعفى عنها فيهما.
والثاني: لا يعفى عنها فيهما، ووجههما ما ذكرناه.
والرابعة: ينجس الماء ولا ينجس الثوب؛ لأن الثوب أخف حكمًا في النجاسة، بدليل أنه يعفى عن قليل الدم والقيح فيه، بخلاف الماء.
والخامسة: ينجس الثوب ولا ينجس الماء؛ لأن الماء يزيل النجاسة عن غيره، فدفع النجاسة عن نفسه، بخلاف الثوب.
وحكى الشاشي طريقة سادسة: عن أبي علي بن أبي هريرة -: أنه ينجس الثوب قولًا واحدًا، وفي الماء قولان.
[فرع: ما لا نفس له سائلة إذا وقع في المائعات]
الحيوان الذي له نفس سائلة: هو الذي إذا ذبح سال دمه عن موضعه، كالدجاج، والحمام، وما أشبههما؛ لأن النفس هي الدم.
والحيوان الذي لا نفس له سائلة: هو الذي إذا ذبح لم يسل دمه عن موضعه، كالذباب والزنبور. وفي الحية والوزغ وجهان، حكاهما الشاشي:(1/32)
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لهما نفس سائلة.
و [الثاني] : قال أبو العباس بن القاص والصيمري: ليس لهما نفس سائلة.
وإذا مات ما لا نفس له سائلة، ووقع في ماء ولم يغيره، أو في طعام أو شراب.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: ينجس الحيوان نفسه قولًا واحدًا.
وهل ينجس ما وقع فيه من الماء القليل والطعام والشراب؟
فيه قولان: وقال القفال: القولان في الحيوان نفسه، هل ينجس بالموت؟
فإذا قلنا: لا ينجس ما وقع فيه؛ وهو قول عامة الفقهاء، قال أصحابنا: وهو
الأصلح
للناس.
فوجهه: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وقع الذباب في الطعام، فامقلوه، ثم انقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنما يقدم السم، ويؤخر الشفاء» .
و (المقل) : الغمس، وقد يكون الطعام حارا، فيموت بالمقل فيه، فلو كان ينجسه.. لما أمر بمقله.
وروى سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما طعام أو شراب وقعت فيه ذبابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله، وشربه، ووضوؤه» ولأنه لا يمكن الاحتراز منه، فلو لم يعف عنه، لم يؤكل الباقلاء المطبوخ، والجبن؛ لأنه لا ينفك من وقوع الذباب فيه.
وإذا قلنا: ينجس ما وقع فيه، وحكي ذلك عن ابن المنذر، ويحيى بن أبي كثير.. قال في " الإفصاح " و" التنبيه " وهو الأقيس.
فوجهه: أنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته، فأشبه ما له نفس سائلة.(1/33)
فقولنا: (حيوان لا يؤكل بعد موته) احتراز من الحوت، والجراد.
وقولنا: (لا لحرمته) احتراز من الآدمي إذا مات، وقلنا: إنه طاهر.
وأما ابن المنذر فقال: لا أعلم أحدا قال: إنه ينجس ما وقع فيه غير الشافعي.
إذا ثبت هذا: فنقول: فإن كثر من ذلك ما غير الماء، فإن قلنا: إن الماء ينجس بوقوع ذلك فيه وإن لم يغير صفته.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا ينجس.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: ينجسه؛ لأنه ماء تغير بالنجاسة.
والثاني: لا ينجسه؛ لأن ما لا ينجس الماء القليل، إذا وقع فيه ولم يغيره.. لم ينجسه وإن غيره، كالسمك والجراد.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر، وكذلك إذا تغير الماء بالسمك والجراد.. كان طاهرًا غير مطهر. ذكره الصيدلاني.
هذا إذا كان الحيوان غير متولد في نفس الشيء. فأما إذا كان متولدا في نفس الشيء، كدود الخل، والجبن، ودواب الباقلاء، فإن مات فيما تولد فيه.. لم ينجسه قولا واحدا؛ لأنه لا ينفك منه، وإن نقل منه إلى غيره ومات فيه.. فهل ينجسه؟ على القولين في الذباب إذا وقع في ماء قليل، وما له نفس سائلة مما لا يعيش إلا في الماء كالسلحفاة إذا قلنا: لا يحل أكله، والضفدع إذا مات في ماء قليل.. فإنه ينجسه قولًا واحدًا.
وقال أبو حنيفة: (لا ينجسه، كالسمك) .
دليلنا: أنه حيوان له نفس سائلة لا يحل أكله، فينجس الماء القليل بوقوع ميتته فيه، كحيوان البر.
قال الصيدلاني: ودود الميتة نجس العين؛ كولد الكلب، وأراد بذلك: الدود المتولد في نفس الميتة، أنه نجس العين لا يطهر بالغسل، كولد الكلب، وكذلك عند البقلة النابتة في العذرة وسائر النجاسات.(1/34)
[مسألة: تطهير الماء النجس]
إذا وقعت في الماء نجاسة، وحكم بنجاسته.. نظرت:
فإن كان الماء أكثر من قلتين وتغير بالنجاسة، وأراد تطهيره، طهر بأن يزول التغير بنفسه، بهبوب الريح، أو بطلوع الشمس، أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو ينبع فيه، فيزول التغير. أو بأن يؤخذ بعض الماء، فيزول التغير قبل أن ينقص عن قلتين؛ لأن النجاسة بالتغيير، وقد زال.
فإن طرح فيه شيئًا غير الماء، فزال التغير.. نظرت:
فإن تغير طعم الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له طعم، فغلب طعمه طعم النجاسة.
أو تغير لون الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له لون، فغلب لونه لون الماء. أو تغير ريح الماء، فطرح فيه ما له ريح، فغلب ريحه ريح الماء، لم يحكم بطهارة الماء؛ لأنه يجوز أن تكون صفة الماء المتغير بالنجاسة باقية، وإنما لم يطهر؛ لغلبة ما طرح فيه.
وإن طرح فيه تراب، فأزال تغير الماء، ففيه قولان:
أحدهما: لا يطهر - وهو اختيار المحاملي، وصاحب " المذهب " - لأنه زال تغيره بوارد عليه لا يزيل النجاسة، فأشبه ما إذا طرح فيه كافورًا أو مسكًا، فزالت رائحة النجاسة.
والثاني: يطهر - وهو اختيار القاضي أبي حامد، والشيخ أبي إسحاق - لأنه قد زال التغيير، فأشبه إذا زال بنفسه، أو بماء، ويخالف إذا طرح فيه الكافور والمسك؛ لأن لهما رائحة زكية، فربما غلبت رائحتها رائحة النجاسة.
وإن طرح فيه غير التراب من الجامدات التي ليس لها ريح، ولا طعم، ولا لون، ينحل في الماء، كالجص، والحجارة، فزال التغيير، فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يطهر بذلك قولًا واحدًا، بخلاف التراب؛ لأن التراب يوافق الماء في التطهير، بخلاف غيره من الجامدات. وقال سائر أصحابنا: فيه قولان، كالتراب.(1/35)
وإن كان الماء قلتين فقط، وتغير بالنجاسة.. طهر بجميع ما ذكرناه، إلا بأخذ بعضه، فإنه لا يطهر؛ لأنه ينقص عن قلتين، وفيه نجاسة.
وإن كان الماء أقل من قلتين، وقعت فيه نجاسة، فحكم بنجاسة، وأراد تطهيره، فإن صب عليه ماء آخر، فبلغ قلتين، وهو غير متغير.. حكم بطهارته؛ لأنه لو وقعت فيه نجاسة، وهو قلتان، ولم تغيره.. لم يؤثر وقوعها فيه، فكذلك إذا بلغ هذا الحد، وهو غير متغير بالنجاسة.
وهكذا: لو كان هناك قلتان منفردتان في كل واحدة منهما نجاسة، فخلطتا، وهما غير متغيرتين، أو كانتا متغيرتين وهما منفردتان، فخلطتا وزال التغير.. حكم بطهارتهما.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم بطهاتهما؛ لأن كل واحدة منهما نجسة فلا تطهران بالاجتماع، كالمتولد بين الكلب والخنزير.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء قلتين.. لم يحمل خبثًا» . وهذا قد بلغ قلتين.
فإذا فصلت إحدى القلتين عن الأخرى، فإذا كانت النجاسة مائعة.. كانتا طاهرتين. وإن كانت جامدة.. حكم بنجاسة ما حصلت فيه منهما بعد ذلك.
وإن كاثره بالماء، ولم يبلغ الجميع قلتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يطهر؛ لأنه دون القلتين، وفيه نجاسة.
والثاني: يطهر - وهو الأصح - كالأرض النجسة إذا كوثرت بالماء.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر؛ لأن الغلبة للماء الذي أزيلت به النجاسة، وهو غير مطهر على الأصح.
وإن أراد الطهارة بالماء الذي هو أكثر من قلتين، وفيه نجاسة زال حكمها، فإن كانت النجاسة جامدة مثل: جلد الميتة ولحمها، وكان الماء راكدًا، فإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، أو أكثر.. جاز بلا خلاف على المذهب. وإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين.. ففيه وجهان:(1/36)
[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص: لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إلى استعمال ما فيه نجاسة قائمة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز، وهو المذهب؛ لأن هذا الماء محكوم بطهارة جميعه، والمعنى الذي ذكراه موجود فيه.
وإن كان بينه وبين النجاسة قلتان، فإن كان الماء قلتين لا غير، وفيه نجاسة جامدة ولم تغيره.. ففيه وجهان:
[الوجه الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز أن يستعمل شيئًا منه؛ لأن النجاسة إن كانت في وسط الماء؛ فلأنه يستعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين، وهذا لا يجوز على أصله في الأولى. وإن كانت النجاسة في طرف الماء؛ فلأنه ماء واحد، فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف منه نجسًا.. وجب أن يكون الذي غرفة نجسًا.
والوجه الثاني: أنه يجوز أن يستعمل من أي موضع شاء منه، حتى لو أصاب بيده عين النجاسة، كما لو لم يقع فيه نجاسة.. صح، وهو الأصح؛ لأنا قد حكمنا بطهارة هذا الماء، والماء الطاهر يجوز استعماله.
فعلى هذا: إذا أخذ منه بدلو أو إناء.. نظرت: فإن بقيت النجاسة في البئر.. فإن الماء الذي في الدلو طاهر؛ لأنه ينفصل عنه قبل أن يحكم بنجاسته، ويكون باطن الدلو طاهرًا، وظاهره نجسًا.
وإن خرجت النجاسة في الماء الذي في الدلو.. كان الماء الذي في الدلو نجسًا، وما بقي في البئر طاهرًا، ويكون باطن الدلو نجسًا، وظاهره طاهرًا.
فإن قطر مما في الدلو قطرة إلى الماء الباقي في البئر.. نجس أيضًا. فإن أراد تطهيره.. رد الماء الذي في الدلو إلى البئر، والأولى أن يخرج النجاسة من الدلو، ثم(1/37)
يرد الماء الذي في الدلو إلى الماء الذي في البئر، ثم يغترف، ليخرج من خلاف أبي إسحاق، وابن القاص.
وإن كان الماء قلتين، أو أكثر، وفيه نجاسة ذائبة لم تغيره.. جاز الاستعمال منه، وهل يجوز استعمال جميعه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجوز استعمال جميعه، بل يبقى منه قدر النجاسة؛ لأنه إذا لم يترك قدر النجاسة كان مستعملا للنجاسة بيقين.. فوجب ترك قدرها، كما لو حلف لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير ولم تتميز، فأكل الجميع إلا تمرة.. فإنه لا يحنث.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز استعمال الجميع، وهو الصحيح؛ لأن كل ما جاز استعمال بعضه.. جاز استعمال جميعه، كما لو لم تقع فيه نجاسة؛ ولأنه إذا ترك قدر النجاسة، فإنه لا يجوز أن يكون المتروك هو عين النجاسة؛ لأن النجاسة قد اختلطت بالماء، ولم تتميز عنه، بخلاف التمرة، فإنه يجوز أن تكون هي المحلوف عليها.. فلا تلزمه الكفارة، ويجوز أن تكون المحلوف عليها قد أكلها، وهذه غيرها، فتجب عليه الكفارة، وإذا احتمل الأمرين احتمالًا واحدًا.. لم نوجب عليه الكفارة؛ لأن الأصل براءة ذمته منها. والله أعلم.
[مسألة: أحكام الماء الجاري]
وأما الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة: ففيه ثلاث مسائل:
الأولى: إذا كانت النجاسة تجري مع الماء بجرية لا تنفك عنه، فإن الماء الذي قبل النجاسة طاهر؛ لأنه لم يصل إلى النجاسة، والماء الذي بعد النجاسة طاهر أيضًا؛ لأن النجاسة لم تصل إليه.(1/38)
وأما الجرية التي فيها النجاسة - وهي ما بين حافتي النهر في العرض عن يمينها وشمالها مما يحيط بها -: فإن كان متغيرًا بالنجاسة.. فهو نجس، قليلًا كان أو كثيرًا لتغيره بالنجاسة.
وإن كان غير متغير بها، فإن كان الماء قلتين، أو أكثر.. فهو طاهر كالراكد، هكذا نقل أصحابنا البغداديون، وقال الخراسانيون: هي على قولين:
أحدهما: أنه طاهر.
والثاني: أنه نجس.
والفرق بين الراكد والجاري في أحد القولين: أن الراكد يتراد بعضه على بعض، فيدفع النجاسة عن نفسه عند الكثرة، والجاري لا يتراد بعضه على بعض، فلم يكن للكثرة حكم، والأول هو المشهور، وعليه التفريع.
وإن كانت الجرية أقل من قلتين.. ففيه قولان، حكاهما ابن القاص، والقاضي أبو الطيب:
[أحدهما] : قال في القديم: (هو طاهر؛ لأنه ماء وارد على النجاسة، فلم ينجس من غير تغيير، كالماء المزال به النجاسة) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (هو نجس، وهو الأصح؛ لأنه ماء قليل لاقى نجاسة لا حاجة إلى ملاقاته لها، فحكم بنجاسته كالراكد) . وفيه احتراز من الماء المزال به النجاسة.
المسألة الثانية: إذا كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها.. فالماء الذي قبل النجاسة طاهر، والماء الذي بعد النجاسة مما لم يمر على النجاسة طاهر أيضًا؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
وأما الجرية التي فوق النجاسة: فإن كانت متغيرة بالنجاسة.. فهي نجسة.(1/39)
وإن كانت غير متغيرة، فإن كان الماء قلتين فأكثر.. فهو طاهر قولًا واحدًا، على طريقة البغداديين، وعلى طريقة الخراسانيين على قولين.
وإن كان الماء أقل من قلتين.. فعلى القولين اللذين حكاهما ابن القاص والقاضي أبو الطيب.
فإن كانت الجرية أقل من قلتين وقلنا: إنها نجسة، لم تطهر حتى تركد في موضع وتبلغ قلتين.
قال ابن سريج: فإن مرت هذه الجرية على ماء راكد، وكانت الجرية كدرة، والراكد صافيًا، فبلغا قلتين، كان الجميع طاهرًا؛ لأن الاعتبار باجتماع الماء الكثير في موضع واحد، ولا اعتبار باختلاطه بحيث لا يتميز.
فإن تباعد رجل عن موضع النجاسة الراكدة، واستعمل من هذه الجرية من ماء قد مر على النجاسة الراكدة قبل أن يبلغ القلتين في عرض النهر؛ إلا أنه يبلغ قلتين بطول النهر من حيث استعمل إلى موضع النجاسة، ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص، والقاضي أبو حامد: يجوز؛ لأن بينه وبين النجاسة قلتين.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأنه استعمل من ماء قد مر على النجاسة قبل أن يبلغ قلتين، وكل جرية لها حكم نفسها.
المسألة الثالثة: إذا كان في الماء الجاري موضع منخفض زائل عن سمت الجري، فركد فيه الماء، فوقع في الراكد نجاسة قائمة.. فإن الماء الذي قبل الموضع المنخفض طاهر، وكذلك الماء الجاري بعد الموضع المنخفض قبل وصول ماء النجاسة إليه، طاهر.(1/40)
وأما الماء الذي في الموضع المنخفض، والجرية التي تجري بجنبه: فإن كانا متغيرين بالنجاسة.. فهما نجسان، وإن كانا غير متغيرين فإن بلغا جميعًا قلتين.. فهما طاهران، وإن كانا دون القلتين.. فهما نجسان، هكذا ذكره جماعة من أصحابنا.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان الماء الراكد أقل من قلتين، وفيه نجاسة ولم يتغير.. نظرت في الماء الجاري:
فإن دخل على الراكد وخرج منه من الجانب الآخر، فإن بلغا قلتين.. فهما طاهران وإن كانا دون القلتين.. فهما نجسان.
وإن كان الجاري لا يدخل إلى الراكد، ولكن يجري على سمته، فإن كان الجاري أقل من قلتين.. نجس؛ لأنه ملاصق ماء نجسًا، وإن كان قلتين.. لم ينجس؛ لأنه ماء كثير.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يطهر به ذلك الراكد؛ لأنه يفارقه، وما فارق الشيء.. فليس معه) .
وإن كان الراكد متغيرًا بالنجاسة، والجاري بجنبه قلتان غير متغير.. فقد تقدم ذكره عن ابن الصباغ: أن الجرية تنجس ما دامت محاذية للراكد، فإذا انفصلتا عنه.. حكم بطهارتهما.
[فرع: الجرية إذا كانت قلتين]
إذا كانت الجرية تبلغ قلتين وفيها نجاسة جارية معها، أو كانت النجاسة واقفة والجرية عليها تبلغ قلتين، أو كان في الموضع المنخفض من النهر نجاسة واقفة والراكد فيها مع الجرية بجنبه يبلغ قلتين، وهو غير متغير في ذلك كله.. فقد ذكرنا: أن الماء طاهر في هذه المسائل الثلاثة قولًا واحدًا، على طريقة البغداديين.
فإن أراد أن يستعمل من هذه الجرية، فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وابن القاص في الماء الراكد: إنه لا يجوز له أن يستعمل إلا من موضع بينه وبين النجاسة قلتان.. فهاهنا أولى.(1/41)
وإن قلنا هناك: يجوز له أن يستعمل من أي موضع شاء، فهاهنا وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد عن أبي العباس:
أحدهما: يجوز أن يستعمل من أي موضع شاء، حتى لو أصاب بيده عين النجاسة، كما قلنا في الماء الراكد.
والثاني: لا يجوز أن يستعمل إلا من موضع بينه وبين النجاسة قلتان في عرض النهر، قال صاحب " الفروع " وهو الأقيس؛ لأن الماء الراكد ماء واحد، فحكم ما بعد من النجاسة حكم ما قرب منها، فلا يمكنه أن يستعمل من شيء لم تحله النجاسة، فلذلك جاز أن يستعمل من أي موضع شاء منه، والماء الجاري ذو أجزاء، فلا يكون حكم ما قرب منها حكم ما بعد.
[فرع: تغير وصف الماء بالمكث]
إذا تغيرت صفة الماء بالمكث.. لم يكره استعماله.
وقال ابن سيرين: يكره.
دليلنا: أنه تغير من غير شيء خالطه، فلم يكره استعماله، كالبحر.
[فرع: حلول النجاسة في المائع]
وإن وقعت نجاسة في مائع غير الماء، كاللبن والخل والدهن.. حكم بنجاسته سواء كان قليلًا أو كثيرًا وسواء تغير أو لم يتغير؛ لأنه لا قوة له في دفع النجاسة عن غيره، فلا يدفعها عن نفسه بخلاف الماء.
وبالله التوفيق.(1/42)
[باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده]
الماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث، ومستعمل في طهارة النجس.
فالماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر عندنا، يجوز شربه واستعماله في غير الطهارة.
وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: كقولنا، والثانية: (أنه نجس) .
دليلنا: أنه ماء طاهر لاقى محلًا طاهرًا، فكان طاهرًا كما لو غسل به ثوب طاهر، وهل هو مطهر؟ المنصوص للشافعي: (أنه غير مطهر) .
وقال أبو ثور: (توقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الماء المستعمل) .
وحكى عيسى بن أبان: أن الشافعي قال: (هو طاهر مطهر) .
فقال القاضي أبو حامد: المسألة على قولين:
أحدهما: أنه مطهر، وبه قال الحسن البصري، والزهري، والنخعي، وداود؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح رأسه بفضل ماء كان في يده» ؛ ولأنه ماء يؤدي الغرض، فلا يخرج عن حكمه بتأدية الغرض فيه، كالثوب يصلى به مرارًا.
الثاني: أنه غير مطهر، وهو الصحيح، وبه قال الليث، وأحمد، ومالك، والأوزاعي، وهو المشهور عن أبي حنيفة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوضأ أحدكم بفضل وضوء المرأة» .(1/43)
وإذا ثبت أنه لم يرد ما بقى في الإناء.. ثبت أنه أراد ما استعملت. ولأن الصحابة والتابعين - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ومن بعدهم كانوا يسافرون ويعدمون الماء فيتيممون وما روي عن أحد منهم: أنه توضأ بالماء المستعمل، وقد اختلفوا فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء الطهارة:
فمنهم من قال: لا يجب عليه أن يتوضأ بما معه من الماء، بل يتيمم.
ومنهم من قال: يجب عليه أن يتوضأ بما معه من الماء ثم يتيمم.
ولم يقل أحد منهم: يغسل بما معه من الماء ما قدر عليه من أعضائه إلى إناء، ثم يتم به وضوءه، ولو كان الماء المستعمل في رفع الحدث مطهرًا لقالوا ذلك.
ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وأنه غير مطهر؛ لأن رواية أبي ثور - أن الشافعي توقف فيه - لا تدل على أنه مطهر عنده، ورواية عيسى بن أبان: لا يعتد بها؛ لأنه رجل مخالف.
قال المحاملي: والأول أصح؛ لأنه ثقة، فقبلت روايته وإن كان مخالفًا.
فإذا قلنا: إنه مطهر.. جاز رفع الحدث به ثانيًا، وجاز إزالة النجس به.
وإذا قلنا: إنه ليس بمطهر.. لم يجز رفع الحدث به ثانيًا، وهل يجوز إزالة النجس به؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن للماء حكمين: رفع حدث، وإزالة نجس، فإذا رفع الحدث.. بقي عليه إزالة النجس.(1/44)
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأن كل ما لا يجوز رفع الحدث به.. لم يجز إزالة النجس به كالماء النجس.
وقول من قال: له حكمان، غير صحيح؛ لأنه لو كان كما ذكر، لجاز رفع الحدث الأكبر بالماء الذي رفع به الحدث الأصغر؛ لأن له حكمين: رفع حدث أصغر، ورفع حدث أكبر، وقد رفع أحدهما، فبقي عليه الآخر، فلما لم يقل ذلك فيهما، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: الماء المستعمل إذا كثر]
وإن جمع الماء المستعمل في الحدث فبلغ قلتين، وقلنا بالأصح: إنه غير مطهر وعليه التفريع.. فهل يصير هنا مطهرًا؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن سريج -: إنه يصير مطهرًا كالماء النجس، إذا جمع فبلغ قلتين.
والثاني: أنه لا يصير مطهرًا؛ لأنه لا يقع عليه اسم الماء المطلق، وإنما يسمى ماء مستعملًا، وإن كان كثيرًا بخلاف الماء النجس.
[فرع الانغماس في قلتين]
وإن انغمس الجنب في قلتين من الماء بنية الغسل من الجنابة، أو أدخل يده فيه بنية غسلها من الجنابة، ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:(1/45)
أحدهما: يصير مستعملًا، ويخرج من جنابته؛ لأن الاستعمال حصل بجميعه، والاستعمال مانع من طريق الحكم، فلا تؤثر فيه الكثرة.
والثاني - وهو الأصح -: أنه يخرج من جنابته ولا يصير الماء مستعملًا؛ لأن حكم النجاسة أقوى من حكم الاستعمال. ولو وقعت فيه نجاسة لم تزل حكمه من غير تغيير، فالاستعمال بذلك أولى.
قلت: ولو أن جنبًا انغمس في البحر بنية الغسل من الجنابة، لم يكن لأحد أن يقول: إنه صار مستعملًا، فكذلك ما دونه مما دخل في حد الكثرة، إذ لا فرق بينهما في الحكم.
وإن أدخل الجنب يده في ماء قليل بنية الاغتراف، لم يصر الماء مستعملًا؛ لأن النية شرط في صحة الغسل عندنا، ولم توجد. وإن أدخلها فيه بنية رفع الجنابة، صار الماء مستعملًا، وخرج من جنابته في اليد، كما لو أفاض الماء عليها بنية غسل الجنابة.
وإن انغمس الجنب في ماء قليل بنية غسل الجنابة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي عبد الله الخضري من أصحابنا -: أن الماء يصير مستعملًا، ولا يخرج من جنابته.
ووجهه: أنه لما لاقى أول جزء من بدنه أول جزء من الماء.. صار الماء مستعملًا بأول الملاقاة، فإذا انغمس فيه.. صار منغمسًا في ماء مستعمل.
والوجه الثاني: أنه يخرج من جنابته، ولا يصير الماء مستعملًا إلا بالانفصال عنه، فلو توضأ منه رجل، أو اغتسل قبل أن ينفصل الأول عنه.. صح، وهو المنصوص.
ووجهه: أنا لو قلنا: إنه يصير مستعملًا بأول ملاقاته لجزء من بدنه.. لوجب أن يصير الماء الذي يفيضه على عضو من أعضاء الطهارة مستعملًا بأول ملاقاته لأول العضو، وهذا لا يقوله أحد.(1/46)
فعلى هذا: إذا صب الجنب على رأسه ماء، فإن نزل الماء عن رأسه متصلًا على ظهره، أو على عنقه.. أجزأه النازل من رأسه عما مر عليه بعد رأسه.
وإن كان له شعر كثير، فوقع الماء على الشعر، ثم تقاطر من أعلى طبقات الشعر ماء، ومر في الهواء إلى ظهره، أو بطنه.. لم يجزئه عما وقع عليه بعد انفصاله من الرأس في الهواء؛ لأن بنفس الانفصال عنه في الهواء قد صار مستعملًا.
[فرع: وضوء الحنفي بماء قليل]
وإن توضأ الحنفي بماء قليل.. فهل يصير مستعملًا؟ فيه ثلاثة أوجه، بناء على جواز الائتمام به:
أحدها: إن نوى الطهارة به.. صار مستعملًا؛ لأنه ارتفع به حدثه، وإن لم ينو به الطهارة.. لم يصر مستعملًا؛ كما لو توضأ به الشافعي من غير نية.
والثاني: أنه لا يصير مستعملًا بحال؛ لأنه يتوضأ من غير نية، وإن أتى بالنية.. اعتقدها غير واجبة، فلم يزل الماء عن حكمه.
والثالث: أنه يصير مستعملًا وإن لم ينو الطهارة؛ لأنه يحكم بصحة صلاته، بدليل أنه لا يباح قتله، ولو كانت صلاته غير صحيحة.. لكان بمنزلة من لم يصل، أو بمنزلة من صلى بغير طهارة في إباحة قتله، وهذا لا يقوله أحد.
[فرع: ماء وضوء الكافر والمرتد]
وإن توضأ الكافر الأصلي، أو المرتد، أو اغتسلا من الجنابة، أو اغتسلت الذمية من غير حيض، ولا نفاس.. فإن الشيخ أبا حامد، والمسعودي [في " الإبانة ": ق \ 3] قالا: لا يصير الماء المنفصل عنهم مستعملًا وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يجوز لهم تأدية الصلاة بتلك الطهارة.
وإن اغتسلت الذمية من الحيض، أو النفاس.. فهل يصير الماء المنفصل عن أعضائها الطاهرة مستعملًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في وجوب إعادة غسلها بعد إسلامها.(1/47)
[فرع: ماء تجديد الطهارة]
وإذا صلى الرجل بطهارة صلاة فرض.. استحب له أن يجدد الطهارة؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة، طاهرًا كان أو غير طاهر» ، وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ على طهر.. كتب الله له به عشر حسنات» .
فإذا كان على طهارة، ثم جدد الطهارة ثانيًا.. فهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي: إن أدى بالطهارة الأولى صلاة فرض.. استحب له أن يجدد الطهارة ثانيا، وهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ وجهان:
وإن لم يصل بالأول.. لم يستحب له تجديد الطهارة، وإن جدد.. لم يصر الماء المجدد به مستعملًا وجهًا واحدًا.
فعلى هذا: إن صلى بالأولى صلاة نفل.. فهل يستحب له تجديد الطهارة، ويصير الماء المجدد به مستعملًا؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
وقال أكثر أصحابنا: إذا جدد الطهارة.. فهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ فيه وجهان من غير تفصيل، وكذلك الوجهان في الماء المستعمل، في الدفعة الثانية والثالثة في الطهارة:(1/48)
أحدهما: يصير مستعملا؛ لأنه ماء استعمله في طهارة، فهو كالدفعة الأولى في الطهارة الأولى.
والثاني: لا يصير ماء مستعملًا؛ لأنه لم يرفع به حدث ولا نجس، فهو كالدفعة الرابعة في الطهارة.
وهكذا الوجهان في الماء المستعمل في كل غسل مستحب، كغسل العيدين، وما أشبههما.
وإن قام من النوم، فغسل كفيه في ماء قليل للطهارة قبل إفاضة الماء عليه.. فهل يصير الماء مستعملًا؟
قال أبو علي في " الإفصاح " فيه وجهان، كالماء المستعمل في نفل الطهارة.
ومنهم من قال: لا يصير مستعملا وجهًا واحدًا؛ لأن غسلهما لخوف النجاسة فيهما.
وإن غسل رأسه مكان مسحه.. فهل يصير مستعملا؟ فيه وجهان، ذكرهما في " الإفصاح ".
[مسألة: الماء المستعمل في إزالة النجاسة]
] : وأما الماء المستعمل في إزالة النجاسة: فإن انفصل متغيرًا بالنجاسة، فهو نجس، وإن انفصل غير متغير فإن كان لم يحكم بطهارة المحل، كالغسلات الست الأولى من ولوغ الكلب ففيه وجهان:
أحدهما: أنه طاهر؛ لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة، فلم ينجس من غير تغيير، كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه نجس؛ لأنه لما لم يزل النجاسة عن محلها.. كانت النجاسة غالبة له، ولأن البلل الباقي في المحل نجس، وهو جزء منه، ولهذا لو زيد في العصر، نزل منه من بقيته.
وإن انفصل الماء، وقد طهر المحل، كالغسلة السابعة من ولوغ الكلب.. ففيه وجهان:(1/49)
أحدهما - وهو قول الأنماطي وأبي حنيفة -: (إنه نجس) ؛ لأن النجاسة انتقلت إليه، فوجب أن نحكم بنجاسته.
والثاني - وهو المذهب -: أنه طاهر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في بول الأعرابي: «صبوا عليه ذنوبًا من ماء» . ولو كان ما صب عليه ينجس.. لكان قد أمر بزيادة النجاسة في المسجد، ولأنه من جملة البلل الباقي، وهو طاهر، فكذلك ما انفصل عنه، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي في [" الإبانة ": ق \ 8] : الماء المزال به النجاسة إذا لم يتغير.. على قولين:
[الأول] : قال في الجديد: (حكمه حكم المحل بعد الغسل) .
و [الثاني] : قال في القديم: (هو طاهر بكل حال ما لم يتغير) .
وخرج الأنماطي قولًا ثالثًا، وهو: أن حكمه حكم المحل قبل ورود الماء عليه. فكل موضع قلنا: إنه نجس فلا كلام. وكل موضع قلنا: إنه طاهر هو غير مطهر للنجس ثانيًا، على أصح الطريقين، وهل يكون مطهرًا للحدث؟ على الوجهين في الماء المزال به الحدث، هل يرفع به النجس؟
وإن أصاب الإناء نجاسة من غير الكلب، فغسله أربع مرات، فإن انفصلت الأولى غير متغيرة وقد حكم بطهارة المحل.. فإنها مستعملة وجهًا واحدًا، وهل هي طاهرة، أو نجسة؟ على وجهين، الصحيح: أنها طاهرة.
أما الثانية والثالثة: فهما طاهرتان وجهًا واحدًا، وهل هما مستعملتان؟ فيه(1/50)
وجهان، كالوجهين في الدفعة الثانية والثالثة في رفع الحدث:
أحدهما: أنهما غير مستعملتين، فيجوز إزالة النجاسة بهما ثانيًا؛ لأنه ماء لم يرفع به حدث ولا نجس.
فعلى هذا: يجوز رفع الحدث به أيضًا.
والثاني: أنهما مستعملتان، فلا تجوز إزالة النجاسة بهما؛ لأنه ماء مستعمل في نفل الطهارة في النجس فهو كالمستعمل في فرضها.
فعلى هذا: يجوز رفع الحدث بهما، على الوجهين في الماء المزال به الحدث هل يزال به النجس؟
وأما الدفعة الرابعة: فهي طاهرة مطهرة وجهًا واحدًا؛ لأنها غير واجبة، ولا مستحبة في الغسل.
وبالله التوفيق(1/51)
[باب الشك في نجاسة الماء والتحري]
فيه إذا تيقن طهارة الماء أو نجاسته، وشك فيما يضاد ما تيقنه.. فالأصل بقاؤه على ما تيقنه. وإن لم يتيقن طهارته ولا نجاسته.. فهو طاهر؛ لأن الله تعالى خلق الماء طهورًا، والأصل بقاؤه على خلقته.
وإن وجد الماء متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغير.. توضأ به؛ لجواز أن يكون تغير بطول المكث.
وإن رأى حيوانًا يبول في ماء كثير، ووجده متغيرًا، فإن جوز أن تغيره بالبول.. لم يتوضأ به؛ لأن الظاهر أن التغير من البول. وإن كان الماء كثيرًا، وبول الحيوان قليلًا مما لا يجوز أن يتغير به.. توضأ به؛ لأن ذلك مما لا يتغير به في العادة.
[مسألة: في ولوغ الهرة بالماء القليل]
وإن ولغت هرة في ماء قليل، فإن لم يرها قبل ذلك أكلت نجاسة.. جاز الوضوء بسؤرها، ولا يكره. وقال أبو حنيفة: (يكره) .(1/52)
دليلنا: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصغي لها الإناء لتشرب منه، وقال: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات» . و (الطوافون) : الخدم.
وإن رآها أكلت نجاسة، ثم ولغت في ماء قليل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تنجسه؛ لأنا تيقنا نجاسة فيها.
والثاني: لا تنجسه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها.
والثالث: إن غابت، ثم رجعت.. لم تنجسه؛ لجواز طريان الطهارة على فيها. وإن لم تغب.. نجسته؛ لأن الأصل بقاء نجاسة فيها.
[فرع: سؤر غير مأكول اللحم]
سؤر الحمار طاهر يجوز أن يتوضأ منه، وعرقه طاهر.
وقال أبو حنيفة: (سؤر الحمار مشكوك فيه، لا يجوز أن يتوضأ به عند وجود غيره، وعرقه نجس) .
دليلنا على سؤره: أنه ماء يتوضأ به عند عدم غيره، فيتوضأ به عند وجود غيره، كسائر المياه.
وعلى عرقه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب حمار معروريًا وصلى» .(1/53)
والظاهر: أنه أصابه من عرقه، ولأنه لا يجب غسل الإناء من ولوغه سبعًا، فكان عرقه طاهرًا، كالشاة.
ولا يكره سؤر الفرس.
وقال أبو حنيفة: (يكره) .
دليلنا: أنه ذو سهم في الغنيمة، فلم يكره سؤره، كالآدمي.
[مسألة: الإخبار عن نجاسة الماء]
إذا ورد على ماء قليل، فأخبره رجل بنجاسته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: أنه لا يلزمه قبول خبره حتى يبين بأي شيء نجس، لجواز أن يكون رأى سبعًا ولغ فيه، فاعتقد أنه نجس بذلك.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا علم بأن المخبر ممن(1/54)
يرى أن الماء بلغ قلتين لم يحمل نجسًا.. لزمه قبول خبره مطلقًا) ؛ لأن من يقول هذا.. لا يرى أن سؤر السباع نجس.
فإن بين النجاسة.. قبل منه ولم يجتهد، كما يقبل ممن يخبره بالقبلة عن علم، ويقبل فيه قول الرجل والمرأة والحر والعبد، كما تقبل منهم أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقبل فيه قول الأعمى؛ لأن له طريقًا إلى العلم به بالمحس والخبرة، ولا يقبل فيه قول كافر ولا فاسق؛ لأن أخبارهما غير مقبولة.
وهل يقبل فيه قول الصبي المراهق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله؛ لأنه من أهل الإخبار.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.
[فرع: الإخبار بولوغ الكلب]
وإن كان معه إناءان، فأخبره رجل أن الكلب ولغ في أحدهما بعينه.. قبل قوله ولم يجتهد، كما نقول في القبلة.
وإن أخبره رجل: أن الكلب ولغ في هذا دون ذاك، وقال آخر: بل ولغ في ذاك دون هذا، فإن لم يعينا الوقت.. حكم بنجاستهما؛ لجواز أن يكون قد ولغ فيهما في وقتين، وإن عينا وقتًا واحدًا.. فهما كالبينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان:
أحدهما: يسقطان، والثاني يستعملان.
فإن قلنا: إنهما يسقطان.. توضأ بما شاء منهما؛ لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما. وقال الصيدلاني: يجتهد فيهما، وليس بشيء.
وإن قلنا: إنهما يستعملان.. ففي استعمال البينتين ثلاثة أقوال:
أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة.
والإناءان لا يمكن القسمة فيهما؛ لأنه يؤدي إلى استعمال النجس منهما، فسقط هذا القول فيهما.(1/55)
وأما القولان الآخران: فاختلف أصحابنا فيهما:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يريقهما، أو يصب أحدهما في الآخر، ثم يتيمم.
وقال ابن الصباغ: يوقفان، فيدعهما، ويتيمم، ويصلي ويعيد.
وقال صاحب " المذهب ": هل يقرع بينهما، على قول القرعة؟ فيه وجهان. ولا فرق بين أن يستوي المخبرون في الإناءين، أو يكون في أحد الإناءين واحد، وفي الآخر أكثر، فالكل واحد.
وإن قال رجل: إن هذا الكلب ولغ في هذا الإناء في وقت بعينه، وقال آخر: هذا الكلب كان في ذلك الوقت في مكان آخر.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما: أنه طاهر؛ لتعارض الخبرين.
والثاني: أنه نجس؛ لأن الكلاب تشتبه.
وإن قال: أدخل الكلب رأسه في الإناء، ولم أعلم بولوغه.. لم يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ.
وإن قال: أدخل رأسه، وأخرجه وعلى فيه رطوبة، ولم أعلم بولوغه.. فهل يحكم بنجاسته؟.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ.
والثاني: يحكم بنجاسته؛ لأن الظاهر: أنه ولغ فيه لخروج الرطوبة التي على فيه.
[مسألة: اشتباه الطاهر بالنجس]
] : وإن اشتبه عليه الماء الطاهر بالماء النجس، أو اشتبه الثوب الطاهر بالثوب النجس.. جاز له التحري في ذلك، ولا فرق بين أن يكون عدد الطاهر أكثر، أو النجس أكثر، أو كانوا سواء.
وقال المزني، وأبو ثور: (لا يتحرى في الماء ولا في الثياب) .(1/56)
وقال ابن الماجشون، وابن أبي سلمة: يتوضأ بأحدهما ويصلي، ثم يتوضأ بالثاني ويصلي، وكذلك في الثياب يصلي بكل واحد منهما.
وقال أبو حنيفة: (يتحرى في الثياب) كما قلنا.
وأما المياه: فإن كان عدد الطاهر أكثر، تحرى فيهما، وإن كانا سواء، أو عدد النجس أكثر.. لم يتحر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] [الحشر: 2] ، وهذا من الاعتبار، ولأنه سبب من أسباب الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاستدلال، فجاز له التحري فيه عند الاشتباه، كالقبلة.
فقولنا: (سبب من أسباب الصلاة) بمعنى: شرط من شروط الصلاة، وفيه احتراز ممن شك في صلاته، هل صلى ثلاثًا أم أربعا؟ فإنه لا يتحرى.
وقولنا: (يمكنه التوصل إليه بالاستدلال) احتراز من الأعمى في الاجتهاد في القبلة، أو في الإناءين، في أحد القولين.
ولأن كل ماء دخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر.. دخله التحري وإن كان عدد المحرم أكثر، كالثياب.
إذا ثبت هذا: فيكفيه التحري عند البغداديين من أصحابنا: هو أن ينظر إلى الإناءين، ويميز الطاهر منهما من النجس بتغير اللون، أو الرائحة، أو الاضطراب، أو الترشش حوله، أو بأن يرى أثر الكلب إلى أحدهما أقرب، فإذا عرف ذلك.. غلب على ظنه نجاسة الإناء بهذه الأمارات، وطهارة الآخر لعدمها.(1/57)
فأما ذوق الماء: فلا يجوز؛ لأنه ربما كان نجسًا، فلا يحل له ذوقه قبل أن يغلب على ظنه طهارته.
وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يحتاج المجتهد إلى نوع دليل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحتاج، كما يحتاج المجتهد في الأحكام.
والثاني: لا يحتاج، بل يكفيه أن يبني أمره على الطهارة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ظن المؤمن لا يخطئ» وهذا ليس بشيء؛ لأن الظن لا يكون إلا عن أمارة.
[فرع: اشتباه نجاسة أحد الإناءين]
وإن وقعت نجاسة في أحد الإناءين واشتبها عليه، فانقلب أحدهما قبل الاجتهاد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يتحرى في الباقي منهما؛ لأن جواز الاجتهاد قد ثبت فيه، فلم يسقط بالانقلاب.
والثاني: لا يتحرى فيه، ولكن يتيمم ويصلي؛ لأن الاجتهاد يكون بين أمرين.
والثالث: أنه يتوضأ بالثاني من غير اجتهاد؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة.
[فرع: الاجتهاد في الإناءين المتضادين]
وإن اجتهد في الإناءين، فلم يغلب على ظنه طهارة أحدهما، فإن أراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، ثم تيمم، وصلى.. صح، ولا إعادة عليه، بخلاف ما لو صب الماء من غير عذر، وتيمم.. فإن عليه الإعادة في أحد الوجهين؛ لأن هناك لا عذر له، وهاهنا له عذر.
وإن صب أحدهما، وترك الثاني.. فهل له أن يتوضأ بالثاني؟ فيه وجهان - حكاهما(1/58)
في " الفروع " - قال: وهكذا الوجهان لو أصابت النجاسة موضعًا من ثوبه وخفي عليه موضعها، فغسل موضعًا منه:
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: يجوز أن يتوضأ بالثاني، ويصلي بالثوب؛ لأنه إذا أراق أحد الإناءين، وغسل موضعًا من الثوب.. جاز أن يكون الذي أراقه هو النجس، والذي غسله هو الذي أصابته النجاسة، فكان الباقي كالماء والثوب المشكوك في نجاستهما.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز له أن يتوضأ بالثاني، ولا يصلي بالثوب؛ لأنه كان ممنوعًا من استعمالهما للنجاسة، وصار يشك في زوالها، والأصل بقاؤها.
وإن لم يرقهما ولا أحدهما، قال ابن الصباغ: فإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. فإن الشافعي قال: (لا يتيمم بل يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي) ، ولم يذكر الإعادة.
وقال القاضي أبو الطيب: يعيد؛ لأن الماء الذي توضأ به، لم تثبت طهارته عنده بأمارة.
وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم، ويصلي، ويعيد. قال في " الإفصاح ": إن خاف خروج الوقت قبل فراغه من التحري.. تأخى وصلى على غالب ظنه، وأعاد؛ لأنه توضأ به على تخمين.
وإن تيمم وصلى قبل إراقة الإناءين، أو صب أحدهما في الآخر.. فهل عليه إعادة ما صلى بالتيمم؟.. فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما - وهو الأصح -: أنه يعيد؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين.
والثاني: لا يلزمه أن يعيد؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله في الشرع، فهو كما لو لم يكن معه ماء.(1/59)
[فرع: استحباب إراقة أحد الإناءين]
وإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الإناءين.. فالمستحب له: أن يريق الآخر؛ حتى لا يتغير اجتهاده فيما بعد.
فإن لم يرقه وبقيت من الأول بقية، ثم حضرت صلاة أخرى وهو محدث.. قال ابن الصباغ، والمحاملي: فعليه أن يعيد الاجتهاد ثانيًا، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولعلهما أرادا على أحد الوجهين.
فإن أداه اجتهاده إلى طهارة الأول.. فلا كلام، فيستحب له أن يريق الماء النجس لكي لا يشتبه عليه ثانيًا.
وإن تيقن أن الذي توضأ به هو الطاهر.. لم يستحب له أن يريق النجس؛ لأنه ربما احتاج إليه لعطشه.
وإن تيقن أن الذي استعمله هو النجس.. غسل ما أصابه من الماء الأول في ثيابه وبدنه، وأعاد ما صلى بالطهارة الأولى؛ لأنه تعين له يقين الخطأ، فهو كالحاكم إذا أخطأ النص.
وإن أداه اجتهاده إلى طهارة الثاني، ونجاسة الذي توضأ به.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أنه لا يتوضأ بالثاني، ولكن يتيمم، ويصلي، ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم) واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو العباس: هذا الذي نقله المزني لا يعرف للشافعي، والذي يجيء على قياس قول الشافعي: أنه يتوضأ بالثاني، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم حضرت صلاة أخرى، وأداه اجتهاده إلى أن القبلة في غير تلك الجهة.. فإنه يصلي الصلاة الثانية إليها، ثم كذلك الثالثة والرابعة.
وقال سائر أصحابنا: بل المذهب ما رواه المزني، وقد رواه حرملة أيضًا عن الشافعي؛ لأنا إذا أمرناه أن يتوضأ بالثاني.. لم يخل: إما أن نأمره أن يغسل ما أصابه(1/60)
من الماء الأول، أو لا نأمره.
فإن لم نأمره بذلك.. أمرناه أن يصلي وعليه نجاسة بيقين.
وإن أمرناه أن يغسل ما أصابه من الماء الأول.. نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وهذا لا يجوز ويخالف القبلة، فإنا إذا أمرناه أن يصلي إلى الجهة الثانية.. لم يتيقن الخطأ في الثانية، فلا يؤدي إلى نقض الاجتهاد في الأولى بالاجتهاد.
فإن قلنا بقول أبي العباس.. توضأ بالثاني، وصلى، ولا إعادة عليه.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يغسل ما أصابه من الأول في غير مواضع الوضوء؛ لأن مواضع الوضوء يطهرها الماء عن الحدث والنجس، ولا يكون ذلك نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ لأنا لسنا نحكم ببطلان طهارته الأولى وصلاته فيها، وإنما أمرناه بغسل ما غلب على ظنه نجاسته، كما أمرناه باجتناب بقية الأول، وحكمنا بنجاسته، ولا يقال: هو نقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وإن قلنا بالمنصوص.. فإنه يتيمم ويصلي، وهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ ينظر فيه:
فإن كان قد بقي معه من الأول بقية يلزمه استعمالها في الطهارة أن لو كان طاهرًا.. لزمته الإعادة على المنصوص.
ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه الإعادة؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين.
وإن لم يبق معه من الأول شيء، أو بقي منه بقية لا يلزمه استعمالها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا إعادة عليه؛ لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين، بل الشرع قد منعه من استعماله.
والثاني: يلزمه الإعادة؛ لأنه صلى بالتيمم، وعنده ماء يعتقد طهارته.(1/61)
[فرع: اشتباه الإناء الطاهر بالنجس ومعه آخر بيقين]
] : وإن اشتبه عليه ماءان: طاهر ونجس، ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته.. فهل يجوز له الاجتهاد في المشتبهين؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له؛ لأنه يمكنه إسقاط الفرض بيقين، بأن يتوضأ بما يتيقن طهارته، فلم يجز الرجوع إلى غلبة الظن، كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة إذا أمكنه الرجوع إلى اليقين فيها.
والثاني - وهو قو عامة أصحابنا، وهو الأصح -: أنه يجوز له الاجتهاد؛ لأنه ليس فيه أكثر من العدول عن الماء المتيقن طهارته إلى الماء المحكوم بطهارته في الظاهر، وذلك غير ممتنع في الطهارة، كما يجوز له أن يتوضأ من الماء القليل بحضرة البحر، ويفارق القبلة، فإنه إذا تيقن كونها في جهة.. لم يجز أن تكون في جهة أخرى، وهاهنا يجوز أن يكون الماءان طاهرين.
ولهذه المسألة نظائر:
منها: إذا اشتبه عليه ماء طاهر مطهر، وماء مستعمل.. هل يجوز له أن يتحرى فيهما، أو يلزمه أن يتوضأ بهما؟ على وجهين:
فإذا أمرناه: أن يتوضأ بهما، أو اختار فعل ذلك، واحتاج إلى الاستنجاء.. فإنه يستنجي بأحدهما، ثم يستنجي بالثاني، ثم يتوضأ بكل واحد منهما على الانفراد.
ومثلها: إذا اشتبه عليه ماءان، في أحدهما نجاسة، وكان يعلم أنه إذا خلط أحدهما بالآخر بلغ قلتين، وأمكنه خلطهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يخلطهما؟ على وجهين:
فإن كان يعلم أنهما لا يبلغان قلتين، فخلطهما بعد دخول الوقت، وإمكان التحري، وتيمم وصلى.. قال الصيمري: لزمته الإعادة؛ لأنه فرط.
ويحتمل عندي وجه آخر: أنه لا إعادة عليه، مأخوذ من أحد الوجهين ممن أراق الماء بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.(1/62)
ومثلها: إذا اشتبه عليه ثوبان: طاهر ونجس ومعه من الماء ما يمكنه أن يغسل به أحدهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يغسل أحدهما؟ فيه وجهان، وعلة الوجهين ما تقدم في الأولى.
وإن اشتبه عليه ماء طهور، وماء ورد، أو ماء شجر.. لم يتحر فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن ماء الورد، وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما، ليسقط الفرض بيقين، هذا قول أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان، كالماء المطلق والمستعمل.
وإن اشتبه عليه ماء، وبول انقطعت رائحته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجوز له التحري فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن البول لا أصل له في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد.
والخراسانيون قالوا: هي على وجهين.
أحدهما: هذا.
والثاني: يتحرى فيهما، كما يتحرى في الماء الطاهر، والماء النجس.
[فرع: التحري في الإناءين وقت العطش]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/9] : (إذا كان مع الرجل في السفر إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، فاشتبها عليه وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء.. فإنه يتحرى فيهما، ويتوضأ بالذي يغلب على ظنه منهما، ويمسك الآخر، حتى إن احتاج إليه؛ لعطشه.. شربه) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا صحيح؛ لأن ترك التوضؤ بالماء والعدول إلى التيمم؛ لخوف العطش فيما بعد.. لا يجوز، وإنما يجوز ذلك إذا خاف العطش في الحال، وأما شربه للماء النجس إذا خاف على نفسه.. فيجوز، كما يجوز أكل الميتة.
[فرع: اشتباه الأطعمة]
وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس.. جاز له التحري فيهما؛ لأن أصلهما على الإباحة، فإذا طرأت النجاسة على أحدهما، واشتبها عليه.. جاز له التحري(1/63)
فيهما، كما لو اشتبه عليه ماء طاهر، وماء نجس.
وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس، ومعه طعام ثالث من ذلك الجنس، يتيقن طهارته.. فهل يجوز له التحري في المشتبهين؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه وجهان، كما قلنا في الماء.
وإن اشتبه عليه شاة ميتة بشاة مذبوحة.. فهو كما لو اشتبه عليه ماء وبول: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يتحرى فيهما وجهًا واحدًا.
والخراسانيون قالوا: فيه وجهان، وتعليلهما ما تقدم.
[فرع: الاشتباه على الأعمى]
وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يتحرى كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة.
فعلى هذا: يقلد بصيرًا.
والثاني: يتحرى، كما يجتهد في وقت الصلاة.
فإذا قلنا بهذا، فلم يكن له دلالة على الطاهر.. فهل له أن يقلد بصيرًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنا قد قلنا: إنه من أهل الاجتهاد، ومن كان من أهل الاجتهاد في شيء.. لم يقلد فيه غيره، كالحاكم في الأحكام، والبصير في القبلة.
والثاني: يقلد غيره؛ لأن الأمارة على الطاهر والنجس تتعلق بالبصر وبغيره، فإذا غلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالاجتهاد في الوقت، وإذا لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالقبلة.
فإذا قلنا: ليس له أن يقلد بصيرًا، ولم تكن له دلالة، أو قلنا: له أن يقلد البصير، ولم يكن للبصير دلالة.. فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يتيمم، ولكن يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي) ولم يذكر الإعادة،(1/64)
فقال القاضي أبو الطيب: عندي أن الإعادة واجبة عليه؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بأمارة.
وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم ويصلي ويعيد؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بعلم، ولا بغلبة ظن.
قال ابن الصباغ: وما قاله القاضي أشبه بأصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما قاله الشيخ أبو حامد أقيس.
[فرع: الاشتباه على رجلين]
إذا كان مع رجلين إناءان فيهما ماء: أحدهما طاهر، والآخر نجس، واشتبها عليهما، فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى طهارة أحدهما.. توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده، ولم يجز لأحدهما أن يأتم بالآخر.
وقال أبو ثور: (يجوز؛ لأن كل واحد منهما صلاته صحيحة) وهذا خطأ؛ لأن كل واحد منهما يعتقد أن إمامه توضأ بالنجس، فصلاته باطلة، ولا يجوز له أن يعلق صلاته بصلاة يعتقدها باطلة.
وإن كان هناك ثلاثة أوان، وثلاثة رجال، فإن كان فيها طاهر ونجسان، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء، وتوضأ به.. لم يأتم أحدهم بالآخر على المذهب، وعليه التفريع. وإن كان فيها نجس وطاهران، وأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به.. فهل يجوز لبعضهم أن يأتم بالبعض؟ فيه وجهان:
أحدهما - حكاه المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 10] عن ابن القاص -: أنه لا يجوز؛ لأن كل واحد منهم يقول: يحتمل أن إمامي استعمل النجس.
والثاني - وهو قول ابن الحداد وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لأنه قد بقي هناك طاهر غير الذي استعمله هو، فيجوز أن يكون إمامه هو الذي استعمل الطاهر، وأن النجس استعمله غيرهما.
فعلى هذا: إذا تقدم أحدهم فصلى بهم الصبح، وتقدم آخر وصلى بهم الظهر، وتقدم الثالث وصلى بهم العصر.. فإن صلاة الصبح صحيحة في حق جميعهم.
وأما صلاة الظهر: فصحيحة في حق إمامها وإمام الصبح، باطلة في حق إمام(1/65)
العصر؛ لأن كل إمام يقول: أنا توضأت بالطاهر، وإمام الظهر وإمام العصر لا يخطئان إما الصبح في الاجتهاد، وكذلك إمام الصبح لا يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد، وأما إمام العصر فإنه يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر، وتوضأ إمام الصبح بطاهر، فتعين النجس في حقه لإمام الظهر.
وأما صلاة العصر: فباطلة في حق إمام الصبح وإمام الظهر؛ لما ذكرناه من التعليل، وهل تصح في حق إمامها؟ فيها وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أنها صحيحة له؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر وأحدهما بالطاهر الثاني.
والثاني - حكاه في الفروع -: أنها باطلة في حقه؛ لأنه لما صلى خلف إمام الصبح، وإمام الظهر.. جرى ذلك منه مجرى الشهادة لهما بالطاهرين، فتعين النجس في حقه.
وإن كان هناك أربعة أوان، وأربعة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم، وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر وثلاثة أنجاس.. لم تصح صلاة واحد منهم خلف واحد منهم على المذهب، خلافًا لأبي ثور.
وإن كان فيها طاهران ونجسان.. لم تصح صلاة أحدهم خلف صاحبه، على قول ابن القاص. وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح في حق الجميع منهم، وتصح صلاة الظهر في حق إمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق إمام العصر وإمام المغرب. وأما(1/66)
صلاة العصر والمغرب: فيبطلان في حق المؤتمين بهما، وهل تصح صلاة كل واحدة منهما لإمامهما؟
المشهور: أنها تصح له، وعلى ما حكاه في " الفروع " لا تصح له.
وإن كان فيها نجس وثلاثة طواهر.. لم تصح صلاة المؤتمين فيهن على قول ابن القاص وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح والظهر في حق جميعهم وتصح صلاة العصر في حق إمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب، وأما صلاة المغرب: فتبطل في حق إمام الصبح والظهر والعصر، وهل تصح في حق إمامها؟
المشهور: أنها تصح وعلى ما حكاه في " الفروع ": لا تصح له.
وإن كان هناك خمسة أوان، وخمسة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء فتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر واحد، وأربعة أنجاس.. لم تصح صلاة المأمومين هاهنا فيما ائتموا به على المذهب، خلافًا لأبي ثور.
وإن كان فيها طاهران، وثلاثة أنجاس، وقلنا بقول ابن الحداد.. صحت صلاة الصبح للجميع، وصحت الظهر لإمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق الباقين.
وأما صلاة العصر والمغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟
المشهور: أنها تصح، وعلى ما حكاه في " الفروع ": لا تصح.
وإن كان فيها ثلاثة طواهر، ونجسان.. صحت صلاة الصبح والظهر للجميع.
وتصح صلاة العصر لإمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب والعشاء، وأما صلاة المغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟(1/67)
المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في " الفروع ": تبطل.
وإن كان فيها أربعة طواهر، ونجس.. صحت صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وصحت صلاة المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء، فإنها باطلة في حقه. وأما صلاة العشاء فإنها باطلة في حق المؤتمين بها. وهل تبطل في حق إمامها؟
المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في " الفروع ": تبطل.
[فرع: الاشتباه في خروج الحدث]
وإن كان هناك خمسة رجال، فظهر من بينهم حدث لا يدرى ممن ظهر، ولا يتحقق كل واحد منهم ذلك من نفسه، فتقدم كل واحد منهم فصلى بالباقين صلاة.. فحكى القاضي أبو الطيب: أن ابن القاص قال: لا يجوز لأحدهم أن يأتم بواحد منهم؛ لأن المحدث منهم لا يصح الاجتهاد فيه لغيره؛ لأنه لا أمارة تدل عليه، بخلاف الآنية والثياب، فإن عليها أمارة يعرف بها الطاهر من النجس.
وقال ابن الحداد: يجوز لبعضهم أن يصلي خلف بعض؛ لأنه قد يغلب على ظنه من خرج منه الحدث بأمارة عنده من حال من يخرج منه بعادة يعرفها منه، وبسبب يقتضيه يدله عليه.
فعلى هذا: حكمهم حكم خمسة أوان، إذا كان فيها نجس وأربعة طواهر، فتصح صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وتصح المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء. وتبطل العشاء في حق الجميع إلا في حق إمامها.
وإن خرج الحدث من بين رجلين.. لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر وإن خرج الحدث من بين ثلاثة أو أربعة.. فمقيسه على الخمسة.
وبالله التوفيق(1/68)
[باب الآنية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويتوضأ في جلود الميتة، إذا دبغت) وهذا كما قال.
اختلف العلماء في جلود الميتة، هل تطهر بالدباغ؟ على ستة مذاهب.
فـ[الأول] : ذهب الشافعي: إلى أن جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وبه قال علي، وابن مسعود. وهل يطهر جلد الآدمي بالدباغ؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: لا يتأتى فيه الدباغ.
و [الثاني] : قال أبو حنيفة: (تطهر جميع الجلود. وجلد الكلب، وفي جلد الخنزير ثلاث روايات:
إحداهن: يطهر، والثانية: لا يطهر، والثالثة: لا جلد له، وإنما ينبت شعره على لحمه) .
و [الثالث] : قال داود: (يطهر الجميع، وجلد الكلب والخنزير) .
و [الرابع] : قال أحمد: (لا يطهر شيء من الجلود) .
و [الخامس] : قال الأوزاعي، وأبو ثور: (يطهر جلد كل ما يؤكل لحمه، ولا يطهر جلد ما لا يؤكل لحمه) .(1/69)
و [السادس] : قال مالك: (يطهر ظاهر الجلد بالدباغ، ولا يطهر باطنه، فتجوز الصلاة عليه، ولا تجوز الصلاة فيه، ويجوز الانتفاع به بعد الدباغ في الأشياء اليابسة دون الرطبة) .
دليلنا: ما وري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بشاة ميتة ملقاة لميمونة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: "إنما حرم من الميتة أكلها» .
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما إهاب دبغ.. فقد طهر» . وهذا عام في جميع الحيوان.
وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما.. فمخصوص بالقياس، وهو أن الدباغ ليس بأقوى من الحياة، ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير، فالدباغ بذلك أولى.
قال صاحب " الفروع ": ولا يطهر من الجلود إلا ما يندبغ ولا يتمزق عند الدباغ.
[مسألة: ما يدبغ به]
قال الشافعي في " الأم " [1/8] : (والدباغ بكل ما دبغت به العرب من قرظ، وشث، وما عمل عمله مما يمكث فيه الإهاب، حتى ينشف فضوله، ويطيبه، ويمنعه الفساد إذا أصابه الماء) . وهذا كما قال.(1/70)
وأما (القرظ) : فمعروف.
وأما الشث -بثلاث نقط -: فشجر مر الطعم، وروي: شب، وهو يشبه الزاج.
والأصل فيه ما روي: أن رجالًا من قريش كانوا يجزون شاة ميتة، كالحمار، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به"؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يطهره الماء، والقرظ» فنص على القرظ، وقسنا عليه ما عمل عمله مثل العفص، وقشور الرمان.
قال ابن الصباغ: وإن كان الرمان، يصلح الجلد.. جاز الدباغ به.
قال الصيمري: وإنما يحكم بطهارته إذا عمل فيه الدباغ ثلاثة أشياء: إذا نشف الفضول، وطيب الريح، وبقي على ذلك في حال ما لا يستعمل.
[فرع: الدباغ بالشمس والتراب]
] : وإن دبغه بالتراب أو بالشمس، حتى استحجر.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول القاضي أبي الطيب وأبي حنيفة -: (أنه يحكم بطهارته؛ لأنه يجففه، ويطيب فضوله فهو كالقرظ) .
والثاني - وهو المنصوص، واختيار الشيخ أبي حامد -: (أنه لا يطهر؛ لأنه لا يصلحه، فهو كما لو جفف في الهواء) .(1/71)
قال الصيدلاني: قال الشيخ أبو إسحاق: ليس في ذلك خلاف بينهم بل أراد الشيخ أبو حامد: إذا كان التراب أو الشمس لا يزيلان فضول هذا الجلد. وأراد القاضي: إذا أزال فضوله، وعمل عمل القرظ.
قال ابن الصباغ: هذا يرفع الخلاف؛ لأنه لا يعمل عمل الدباغ.
[فرع: الدباغ بالنجس]
فإن دبغ بماء نجس.. فهل يطهر الجلد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يطهر؛ لأن الطهارة لا تحصل بالنجس، كالطهارة عن الحدث.
والثاني: يطهر. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنا لو قلنا: لا يطهر، لأدى إلى ألا يكون له سبيل إلى تطهيره؛ لأنه لا يمكن رده غير مدبوغ.
فإذا قلنا بهذا: افتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ وجهًا واحدًا.
وإن دبغه بشيء طاهر.. فهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يطهر، حتى يغسل؛ لأن ما يدبغ به.. ينجس بملاقاة الجلد، فإذا زالت نجاسة الجلد.. بقيت نجاسة ما دبغ به، فوجب أن يغسل ليطهر.
والثاني: لا يفتقر إلى غسله؛ لأن طهارته تتعلق بالاستحالة، وقد حصلت، فوجب أن يحكم بطهارته، كالخمر إذا استحالت خلا.
قال ابن الصباغ: والأول أقيس.
[مسألة: الانتفاع بجلد الميتة]
] : ولا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ ولا بيعه.
وقال الزهري: يجوز الانتفاع به قبل الدباغ.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيعه قبل الدباغ) .(1/72)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فعلق الانتفاع به بالدباغ، فدل على أنه لا يجوز قبله.
وأما إذا دبغ الجلد.. جاز الانتفاع به في الأشياء الرطبة واليابسة، خلافًا لمالك في الأشياء الرطبة.
ودليلنا عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهذا عام في البيع وغيره، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الشاة الميتة: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» وهذا عام في الانتفاع بالأشياء اليابسة والرطبة.
وهل يجوز بيعه؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يجوز) . وبه قال مالك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص الانتفاع، ولم يذكر البيع.
و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن البيع من جملة الانتفاع، ولأنه طاهر منتفع به ليس في بيعه إبطال حق فجاز بيعه، كجلد الشاة المذكاة.
فقولنا: (طاهر) احتراز منه قبل الدباغ.
وقولنا: (منتفع به) احتراز مما لا يؤكل من [نحو] الغراب، وما لا ينتفع به من الأعيان الطاهرة.
وقولنا: (ليس في بيعه إبطال حق) احتراز من أم الولد والوقف.
[فرع: أكل جلد الميتة بعد الدبغ]
وأما أكله بعد الدباغ، فإن كان من حيوان مأكول.. ففيه قولان:(1/73)
قال في الجديد: (يجوز؛ لأنه طاهر لا يخاف من أكله، فجاز أكله، كجلد الشاة المذكاة) .
وقال في القديم: (لا يجوز) . قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في شاة ميمونة: «إنما حرام من الميتة أكلها» . مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع، ولأن الدباغ لو أفاد الإباحة.. لم يصح فيما لا يؤكل لحمه، كما لا تصح الذكاة فيه، ولم يطهر بها جلده.
وإن كان من حيوان لا يؤكل لحمه، كالبغل، والحمار.. فإن الشيخ أبا حامد، والبغداديين من أصحابنا قالوا: لا يحل أكله قولًا واحدًا؛ لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة، ثم الذكاة فيه لا تبيح أكل جلده فكذلك الدباغ.
وقال القفال، والقاضي أبو القاسم بن كج: هو على قولين، كجلد ما يؤكل لحمه؛ لأن الدباغ قد طهره، كما طهر جلد ما يؤكل لحمه، فكان مثله في جواز أكله بخلاف الذكاة؛ فإنها لا تؤثر في تطهيره فلم تؤثر في إباحته.
[مسألة: الانتفاع بأجزاء الميتة]
روى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة والبويطي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الصوف، والشعر، والقرن، والعظم، والظلف، والظفر.. فيها روح، وتلحقها نجاسة الموت) .
وأما شعر الآدمي: فإن قلنا: إن ابن آدم لا ينجس بالموت.. فشعره طاهر بكل حال.
وإن قلنا: إنه ينجس بالموت.. فعلى هذه الرواية: ينجس شعر ابن آدم بموته، وكذلك ما ينفصل من شعره في حياته.(1/74)
وروى إبراهيم البلدي، عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس شعور بني آدم.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم: من لم يثبت هذه الرواية، وقال: ينجس الشعر بالموت قولًا واحدًا.
ومنهم: من أثبتها، وهو الصحيح. واختلفوا فيها:
فمنهم من قال: إنما رجع الشافعي عن تنجيس شعر بني آدم؛ لأنه ثبت عنده أن الشعر والصوف والوبر لا روح فيه، فيكون في الشعور قولان:
أحدهما: لا روح فيها، ولا تنجس بالموت، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، والثوري، والمزني، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأي بصوفها وشعرها إذا غسل بالماء» ؛ ولأنه لو كان فيه روح.. لكان نجس بالقطع، كالأعضاء.
فعلى هذا: لا يوجد شعر نجس العين إلا شعر الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وقد حكى فيه بعض أصحابنا الخراسانيين وجهًا آخر: أنه كسائر الشعور في الطهارة على هذا.
والقول الثاني: أن الشعور تحلها الروح، وتنجس بالموت. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي به نفتي، وعليه نناظر، وبه قال عطاء، والحسن، والأوزاعي، والليث.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شاة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فلو جاز الانتفاع بالشعر.. لبين، كما بين في الجلد؛(1/75)
لأنه متصل بالحيوان اتصال خلقة، فينجس بالموت كالأعضاء.
فقولنا: (اتصال خلقة) احتراز من الحمل والبيض.
وأما الخبر الأول: فرواه يوسف بن السفر، وهو ضعيف.
وقولهم: إنه لا يحس.. يبطل بما غلظ من العقب؛ ولأن النعامة تبتلع الصنجة المحماة، ولا تحس بذلك. وفيها روح.
فعلى هذا: إذا دبغ جلد الميتة، وعليه شعر، ولم ينفصل الشعر عنه.. فهل يحكم بطهارته؟ فيه قولان:
أحدهما: قاله في " الأم " [1/8] : (لا يطهر؛ لأن الدباغ لا يؤثر فيه، فلم يؤثر في تطهيره) .
والثاني - رواه الربيع بن سليمان الجيزي عنه -: (أنه يطهر؛ لأنه شعر نابت على جلد طاهر، فكان طاهرًا؛ كشعر الحيوان الطاهر في حال الحياة، أو بعد الذكاة) .
ومن أصحابنا من جعل رجوع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تنجيس شعر بني آدم رجوعًا عن تنجيس شعر بني آدم لا غير، فقال: ينجس شعر غير بني آدم بالموت قولًا واحدًا، وفي شعر الآدمي، قولان:
أحدهما: ينجس بموته، كما ينجس شعر غيره بموته.
فعلى هذا: ينجس منه ما انفصل عنه في حياته أيضًا.
والثاني: لا ينجس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] [الإسراء: 70] .
ومن تكريمه ألا ينجس شعره، ولهذا أحل لبن ابن آدم، وإن كان غير مأكول اللحم.(1/76)
فعلى هذا: يحكم بطهارته بعد موته، وبطهارة ما انفصل من شعره في حياته.
وأما شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم طاهر.. فشعره أولى بالطهارة، وإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم نجس.. ففي شعره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجهان:
أحدهما - وهو اختيار صاحب " الفروع " -: أنه ليس بنجس؛ (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق شعره بـ: منى.. ناوله أبا طلحة، ففرقه على الصحابة) . فلو كان نجسًا.. لم يفرقه عليهم.
والثاني: أنه نجس!! وهو اختيار المحاملي؛ لأنه شعر آدمي، فكان نجسًا، كشعر غيره من الآدميين.
وأما بول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وغائطه، ودمه: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: هو نجس وجهًا واحدًا، والخراسانيون قالوا: هو على وجهين كشعره لـ: (أن أبا طيبة شرب دم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . و (حسا ابن الزبير دمه تبركًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، ولم ينكر عليه.(1/77)
و (شربت أم أيمن بوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجع كان في بطنها فبرئت) .
فإذا قلنا: إن شعر ابن آدم نجس.. فإنه يعفى عن قليله؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فهو كدم البراغيث. قال ابن الصباغ: من أصحابنا من فسر ذلك بالشعرة والشعرتين في الماء والثوب.
[فرع: الشعر المنفصل]
إذا قلنا: إن الشعر تحله الروح، وتلحقه نجاسة الموت، فإن جز الشعر من الحيوان في حال الحياة، فإن كان من حيوان غير مأكول.. نجس الشعر بالانفصال؛ لأن الجز للشعر كالذبح للحيوان، وما لا يؤكل لحمه ينجس بذبحه فكذلك شعره. وإن كان الحيوان مأكولًا.. لم ينجس الشعر بالجز، كما لا ينجس الحيوان نفسه بالذبح.
وإن نتف الشعر منه، فهل ينجس بذلك؟ فيه وجهان. حكاهما الشاشي. الصحيح: أنه لا ينجس.
[فرع: القرن والعظم]
وأما العظم، والقرن، والظلف، والسن، والظفر.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أبو إسحاق: إلى أنه كالشعر والصوف والوبر، على ما ذكرناه؛ لأنه لا يحس ولا يألم، كالشعر.
وقال أكثر أصحابنا: تحلها الروح، وينجس بالموت قولًا واحدًا؛ وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] [يس: 78 - 79] .(1/78)
و (الإحياء) : لا يكون إلا لما كان فيه الروح، ثم فارقه؛ ولأن العظم يحس، وأطراف الأسنان يلحقها الضرس.
إذا ثبت هذا: فسئل فقيه العرب: أيتوضأ من إناء معوج؟
فقال: إن كان الماء يصيب تعويجه.. لم يجز، وإن كان لا يصيب تعويجه.. جاز.
و (الإناء المعوج) : هو الإناء الذي جعل فيه العاج، وهو عظم الفيل.
وعظم الفيل نجس.. لا يجوز بيعه، ولا استعماله في الأشياء الرطبة، ويكره استعماله في الأشياء الجامدة، مثل الامتشاط بمشط العاج من غير رطوبة.
[مسألة: اللبن في ضرع الميتة]
وإن ماتت شاة، وفي ضرعها لبن.. نجس اللبن بموتها، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا ينجس) وبه قال داود.
دليلنا: أنه مائع غير الماء في وعاء نجس، فكان نجسًا، كما لو حلبت في وعاء نجس.
وإن ماتت دجاجة، وفي جوفها بيضة، فإن لم يتصلب قشرها، فهي نجسة، كاللبن، وإن كان قد تصلب قشرها، نجس ظاهر القشر، فإذا غسلت.. طهرت، وحل أكلها. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يحل أكلها) .
دليلنا: أن البيضة مودعة في الحيوان، فلم تنجس بموت الحيوان، كالحمل إذا خرج حيًا.(1/79)
[مسألة: حكم أجزاء الحيوان بالذكاة]
] : وإن ذبح حيوان يؤكل لحمه.. لم ينجس بالذبح شيء من أعضائه، وجاز الانتفاع بلحمه، وعظمه، وشعره، وعصبه، ما لم يكن عليه نجاسة، فإن رأى شعر حيوان مأكول اللحم، وعظمه، ولم يعلم أنه أخذ منه في حال حياته، أو بعد ذكاته، أو بعد موته.. قال في " الفروع ": حكم بطهارته؛ لأن الأصل فيه الطهارة.
وإن ذبح حيوان لا يؤكل لحمه.. نجس بذبحه، كما ينجس بموته.
وقال أبو حنيفة: (يطهر جلده بذكاته، وأما لحمه: فلا يباح) . واختلف أصحابه في طهارته.
دليلنا: أنها ذكاة لا تبيح أكل اللحم، فلا يطهر بها الجلد، كذكاة المجوسي.
[مسألة: أواني الذهب والفضة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في [" الأم 1/8"] : (ولا أكره في الأواني إلا الذهب والفضة) .
وجملة ذلك: أن الأواني على ضربين: متخذة من جنس الأثمان، ومتخذة من غير جنس الأثمان.
فأما المتخذة من جنس الأثمان: وهي آنية الذهب والفضة.. فيكره استعمالها للرجال والنساء في الشراب والأكل والبخور والوضوء، وغير ذلك من وجوه الاستعمال وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يكره غير الشرب وحده) .
دليلنا: ما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استعمال أواني الذهب والفضة» . ولم يفرق بين الشرب وغيره.(1/80)
إذا ثبت هذا: فهل هو كراهة تنزيه، أو تحريم؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يكره كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأنه إنما نهى عن ذلك، لما يلحق من ذلك من السرف والخيلاء وإغاظة الفقراء، وهذا لا يوجب التحريم) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يكره كراهة تحريم) ، وهو الصحيح؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يشرب في آنية الفضة.. إنما يجرجر في جوفه نار جهنم» . وهذا وعيد يقتضي التحريم.
و (الجرجرة) : حكاية الصوت، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه: إذا جرعه جرعًا متتابعًا يسمع له صوت، وجرجر الفحل في هديره: إذا ردده في شقشقته، قال الشاعر:
وهو إذا جرجر بعد الهب ... جرجر من حنجرة كالخب
وهامة كالمجل المنكب
قال أصحابنا الخراسانيون: وهل يحرم استعمال آنية الذهب والفضة للزينة والفخر، أو لعين الذهب والفضة؟ فيه قولان.
وفائدة ذلك: لو اتخذ إناء من ذهب أو فضة، وغشاه رصاصًا، فإن قلنا: حرم(1/81)
لأجل الزينة والفخر.. جاز، وإن قلنا: حرم لأجل الذهب والفضة.. لم يجز.
وإن اتخذ إناء من رصاص أو نحاس وموهه بذهب أو فضة فإن قلنا: حرم لأجل الزينة والفخر.. لم يجز استعماله وإن قلنا: حرم لعين الذهب والفضة جاز هاهنا.
فإن أكل من آنية الذهب والفضة، أو شرب منها، أو توضأ.. لم يحرم المأكول والمشروب، وصح وضوؤه؛ لأن المنع لمعنى يعود إلى الإناء لا إلى ما في الإناء، فهو كما لو توضأ بماء مغصوب، أو صلى في دار مغصوبة، بخلاف ما لو توضأ بماء نجس، أو صلى في ثوب نجس.. فإن ذلك لا يصح؛ لأن النهي يرجع إلى معنى في الماء والثوب.
فإن قلنا: لا يحرم استعمال أواني الذهب والفضة.. جاز اتخاذها. وإن قلنا: يحرم استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان.
ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه إحراز المال، ولأن الشرع إنما ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، كالملاهي.
قال المحاملي: ولأنه لا خلاف - على مذهبنا - أن الزكاة تجب فيها، فلو كان اتخاذها مباحًا.. لسقطت عنها في أحد القولين، كالحلي المباح.
فإذا قلنا: يجوز اتخاذها.. جاز الاستئجار على عملها. وإن كسر على غيره إناء من ذهب أو فضة.. وجب عليه ما نقصت قيمته بالكسر.
وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تصح الإجارة على عملها، وإن كسر على غيره إناء منها.. لم يجب عليه ضمان ما نقص بالكسر.(1/82)
وأما الآنية المتخذة من غير الأثمان: فضربان: نفيس، وغير نفيس.
فأما النفيس: فما اتخذ من البلور والفيروزج، فإن قلنا: لا يحرم استعمال آنية الذهب وآنية الفضة.. فهذه أولى.
وإن قلنا: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة.. ففي هذه قولان:
[الأول] روى حرملة: (أنه لا يجوز؛ لأن فيه سرفًا، فأشبه آنية الذهب والفضة) .
و [الثاني] روى الربيع، والمزني: (أنه يجوز؛ لأن السرف فيها غير ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، فلا يؤدي استعمالها إلى افتتان الناس، بخلاف آنية الذهب والفضة) .
وأما الأواني المتخذة من العود الطيب المرتفع، والكافور، والمصاعد، والعنبر.. فهل يجوز استعمالها؟
قال الشاشي: فيه قولان، كالبلور، والفيروزج.
فإذا قلنا: يجوز استعمال هذه الآنية.. جاز اتخاذها، وإن قلنا: لا يجوز استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟ فيه وجهان، بناء على ما ذكرناه في آنية الذهب والفضة.(1/83)
أما الآنية المتخذة مما ليس بنفيس: فإن كانت صنعتها نفيسة، كالآنية المخروطة من الزجاج، وأواني الصفر المنقوش.. فهل يجوز استعمالها؟
أومأ صاحب " الفروع " فيها إلى وجهين، الصحيح: أنه يجوز.
وإن كانت صنعتها غير نفيسة، أو كان ذلك من المدر، أو ما أشبهه.. جاز استعمالها واتخاذها؛ لأنه لا سرف في ذلك.
[مسألة: التضبيب بالذهب والفضة]
قال الشافعي: (وأكره المضبب بالفضة؛ لئلا يكون شاربًا على فضة) .
وجملة ذلك: أن التضبيب بالذهب والفضة يبنى على استعمال آنية الذهب والفضة، فإن قلنا بالقول القديم: (إنه لا يحرم استعمالها) .. فالتضبيب بهما أولى بالجواز. وإن قلنا بالجديد: (وأنه يحرم استعمال آنيتهما) .. فهل يجوز التضبيب بهما؟
أما الذهب: فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يحرم التضبيب به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذهب والحرير: «هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» .(1/84)
وإن اضطر إلى الذهب.. جاز؛ لما روي: «أن عرفجة بن أسعد أصيبت أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا ً من فضة، فأنتن، (فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذ أنفًا من ذهب» .
وذكر المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 13] ، والجويني: أنه كالتضبيب بالفضة.
وقد اختلف أصحابنا في التضبيب بالفضة، على ثلاثة أوجه:
فـ[الوجه] الأول: قال أبو إسحاق: إن كان التضبيب في غير شفة الإناء.. جاز؛ لأنه لا يقع عليه الشرب، وإن كان في شفة الإناء.. لم يجز؛ لأنه يكون شاربًا عليه.
والوجه الثاني - وهو المشهور -: أن التضبيب على أربعة أضرب:
ضرب يسير لحاجة، كحلقة القصعة، وشعيرة السكين، وضبة القصعة، وما أشبهه.. فهذا مباح غير مكروه؛ لما روي: «أنه كان حلقة قصعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» ، و «قبيعة سيفه من فضة» ، وكذلك ما ذكرناه من(1/85)
«حديث عرفجة بن أسعد: (حيث أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذ أنفًا من ذهب»
ومعني قولنا: (لحاجة) أي: في موضع الحاجة، وإن قام غيرها مقامها في ذلك؛ لأن الحاجة داعية إلى الفضة نفسها.
والضرب الثاني: كثير للحاجة.. فتكره لكثرته، ولا تحرم للحاجة. وحد الكثير: أن يكون جزءا من الإناء كاملًا من الفضة؛ كأسفله أو جميع شفته.
والضرب الثالث: قليل لغير الحاجة.. فلا يحرم لقلته، ويكره لعدم الحاجة.
والضرب الرابع: كثير لغير حاجة.. فيحرم لعدم الحاجة.
والوجه الثالث: أنه مكروه غير محرم بحال، وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب من إناء الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء من ذلك.. فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم» .
ولأن هذا فيه سرف وخيلاء، فأشبه الإناء.
[فرع: فيما يتخذ من الذهب والفضة]
قال المسعودي [في" الإبانة ": ق \ 13] : إذا اتخذ شيئًا من ذهب أو فضة، أو ربط سنة بذلك، أو اتخذ أنفًا منهما.. جاز، والذهب أولى بالجواز؛ لأنه لا يصدأ ولا يبلى.
فإن اتخذ إصبعًا منهما.. لم يجز؛ لأنها لا تعمل، فلم يكن إلا مجرد الزينة. ولو اتخذ منهما أنملة.. جاز؛ لأنها تعمل بعمل الإصبع، فيمكن تحريكها بالقبض والبسط.(1/86)
[مسألة: استعمال أمتعة المشركين]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بالتوضؤ من ماء مشرك، وبفضل وضوئه) .
وجملة ذلك: أن المشركين على ضربين:
ضرب: لا يتدينون باستعمال النجاسة. وضرب: يتدينون باستعمال النجاسة.
فأما الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود والنصارى: فما تحقق طهارته من ثيابهم وأوانيهم.. فيجوز استعماله ولا يكره. وما تحقق نجاسته.. فلا يجوز استعماله. وما شك فيه من أوانيهم وثيابهم.. فيكره استعماله؛ لما «روى أبو ثعلبة قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض أهل الكتاب، ونأكل في آنيتهم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تأكلوا في آنيتهم، إلا إن لم تجدوا عنها بدًا.. فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنا لسراويلاتهم، وما يلي أسافلهم أشد كراهية) .
فإن توضأ بشيء من آنيتهم، أو صلى في شيء من ثيابهم، مما لم يتحقق نجاسته قبل الغسل.. صح.
وقال أحمد: (لا يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من مزادة مشركة» . و (المزادة) : الراوية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه وثني، فسقاه لبنًا فشربه، ولم يأمر بغسل ما سقاه فيه» .
و: (توضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ماء في جرة نصرانية) .(1/87)
وأما قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . فأراد: نجس الأديان، لا الأبدان والثياب والأواني.
وأما الذين يتدينون باستعمال النجاسة، وهم المجوس؛ لأنهم يتطهرون بالبول، ويتقربون بأرواث البقر.. فهل يجوز استعمال أوانيهم وثيابهم، التي لم تعلم طهارتها، ولا نجاستها قبل غسلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يجوز قبل غسلها. وهو قول أحمد، وإسحاق؛ لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة، فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة.
والثاني: قال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز، وهو المذهب، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأن الأصل فيها الطهارة.
قال ابن الصباغ: وهكذا الوجهان في الطين في الطرق.
وهذا إنما هو في آنيتهم وثيابهم التي يستعملونها. فأما أوانيهم وثيابهم التي لا يستعملونها.. فإنها كآنية اليهود والنصارى، وقد مضى ذكرها.
ويستحب تغطية الإناء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتغطية الوضوء، وإيكاء السقاء» . ولأنه أحوط.
وبالله التوفيق.(1/88)
[باب السواك]
السواك غير واجب، وهو قول كافة العلماء. وقال داود وأهل الظاهر: (هو واجب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو كان واجبًا لأمرهم به، سواء شق أو لم يشق) .
إذا ثبت أنه ليس بواجب.. فهو سنة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أوصاني جبريل بالسواك حتى خفت أن يدردني» .
وروي عن ابن عباس أنه قال: (في السواك عشر خصال: مطهرة للفم، مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، مسخطة للشيطان، يذهب الحفر ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويقلل البلغم، ويطيب الفم، وهو من السنة، ويزيد في الحسنات) .(1/89)
قال أبو علي في " الإفصاح " وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " السواك يزيد في الفصاحة» وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (السواك يجلب الرزق) .
وقيل: إن السواك من الكلمات التي قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] [البقرة: 124] . وهي عشر: (خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فاللواتي في الرأس: السواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الشعر، واللواتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبطين) . وروي: (أن السواك كان في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة(1/90)
القلم من أذن الكاتب) .
قال المسعودي: [في " الإبانة: ق \ 16"] وهل هو من سنن الوضوء؟ فيه وجهان. ويستحب عند ثلاثة أحوال:
أحدها: عند القيام إلى الصلاة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك» . ومعناه: أن ثواب صلاة بسواك أكثر من ثواب سبعين صلاة بغير سواك.
والثاني: عند اصفرار الأسنان، لما روى العباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استاكوا لا تدخلوا علي قلحًا» ، و (القلح) : جمع أقلح، والقلح: صفرة الأسنان، قال الشاعر:(1/91)
قد بنى اللؤم عليهم بينه ... وفشا فيهم مع اللؤم القلح
والثالث: عند تغير الفم، وقد يتغير بالنوم، ويتغير بأكل الثوم والبصل والكراث ويتغير بالأزم، واختلفوا في الأزم:
فقيل: هو طول السكوت، ولهذا يقال: أزم الفرس على اللجام.
وقيل: هو من الجوع؛ ولهذا يقال: (نعم الدواء الأزم) يعني: الجوع.
وذكر بعض أصحابنا: أن السواك يستحب في حالين آخرين:
أحدهما: عند القيام إلى الوضوء.
والثاني: عند قراءة القرآن.
ولا يكره إلا في موضع واحد، وهو للصائم بعد الزوال.
وقال أبو حنيفة: (لا يكره) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» .
قال [ابن] الصفار: ومعنى الخبر: أن ثواب خلوف فم الصائم أفضل عند الله من ريح المسك؛ لأن الأشياء عند الله على خلاف حقائقها، والسواك يقطع ذلك فكره.(1/92)
ويستحب أن يعود ذلك الصبيان، ليعتادوه عند بلوغهم. ويستحب أن يستاك بالأراك.
قال الصيمري: ولا بأس بالخلال قبل السواك وبعده.
ويستحب أن يكون عود الخلال من عود السواك، ولا يجوز السواك بما كان من المشمومات.
وبأي شيء استاك مما يزيل القلح والتغيير، كالخرقة الخشنة، أجزأه، فإن أمر أصبعه على أسنانه.. لم يجزئه.
وقال مالك: (يجزئه) .
دليلنا: أن ذلك لا يسمى سواكًا، فلم يجزئه.
قال الصيمري: ويكره أن يدخل سواكه في وضوئه.
ويستحب إذا أراد السواك ثانيًا: أن يغسله. والمستحب إذا أراد السواك: أن يبدأ بالجانب الأيمن، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في كل شيء» ، ويستحب أن يستاك عرضًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استاكوا عرضًا، وادهنوا غبا، واكتحلوا وترًا» .
و (الدهان الغب) : أن يدهن يومًا ثم يتركه حتى يجف رأسه، ثم يدهن؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإرفاه» . قال أبو عبيد: هو كثرة التدهن.(1/93)
و (اكتحال الوتر) : هو أن يكتحل في كل عين ثلاثة أطراف؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكحلة يكتحل منها كل ليلة - في كل عين - ثلاثة أطراف» .
[مسألة: ذكر خصال الفطرة]
قال الصيمري: وإن كانت له لحية.. فينبغي له أن يسرحها، ولا يتركها مشعانة، فإذا شابت.. غيرها بالحناء والكتم.
ويستحب أن يقلم الأظفار، ويقص الشارب، ويغسل البراجم - وهي عقد اليدين - وينتف الإبط، ويحلق العانة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] [البقرة: 124] ، وقد تقدم تفسيرها.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والانتضاح بالماء، والختان، والاستحداد» .(1/94)
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جاءني جبريل، فقال: يا محمد، إذا توضأت فانتضح» .
واختلف في (الانتضاح) .
فقيل: هو الاستنجاء بالماء.
وقد روي: " الانتقاص بالماء " لأنه ينتقص البول، أي: يقطعه.
وقيل: هو أن ينضح فرجه بالماء بعد فراغه من الطهارة.
[فرع: حكم الختان]
ويجب الختان في حق الرجال والنساء.
وقال أبو حنيفة: (هو سنة في حق الجميع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] [النحل: 123] ، فأمر الله نبيه باتباع ملة إبراهيم.
وروي: «أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختتن بالقدوم» . وهو مقيل له، أي: كان ينزل به. وقيل: هي قرية بالشام، وقيل: هو الفأس.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم عطية - وكانت تختن النساء -: «أشمي، ولا(1/95)
تنهكي» ، وروي: «اخفضي ولا تنهكي.. فإنه أسرى لوجهها، وأحظى لها عند زوجها» .
فقوله: " أشمي " أي: خذي قليلًا، وقوله: " لا تنهكي "، أي يعني: ولا تستقصي في القطع.
والختان في الرجل: هو أن تقطع الجلدة التي فوق الحشفة، حتى تنكشف جميعها. وفي المرأة: أن تقطع الجلدة التي فوق مدخل الذكر.
ويستحب أن يفعل ذلك يوم السابع من ولادته، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ختن الحسن والحسين يوم السابع» ، ولأنه أسهل.
وأما وقت وجوبه: فلا يجب على الصبي حتى يبلغ؛ لأنها عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي، كالصلاة، فإذا بلغ.. أُمر بالختان، فإن امتنع.. أجبره السلطان.
وهل يجب ذلك على الولي، أن يفعله بالصبي قبل بلوغه؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الفتوح:
[أحدهما] : قال الصيدلاني، وأبو سليمان المروزي: يجب عليه، فإذا لم يفعله الولي حتى بلغ الصبي.. عصى الولي.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يجب على الولي.
فإن كان هناك خنثى مشكل: قال القاضي أبو الفتوح: وجب عليه ختان الفرجين؛ لأن أحدهما أصلي يجب ختانه، والآخر زائد لا يجب ختانه، فوجب ختانهما ليسقط الفرض باليقين.(1/96)
فإن قلتم: كيف أوجبتم قطعها، وإنما يجب عليه قطع أحدهما؟
قلنا: لأنه لما لم يتمكن من الوصول إلى قطع المستحق منهما إلا بقطعها.. وجب قطعهما، كما أن من تزوج بكرًا، لما لم يتمكن من وصوله إلى حقه إلا بإتلاف البكارة - وهي جزء منها - كان له ذلك، ولم يلزمه لأجله ضمان، وكما أنه إذا جبر عظمه بعظم نجس، والتحم اللحم عليه.. فإنه عليه شق الجلد واللحم؛ ليصل إلى العظم ويخرجه.
وذكر أبو المعالي الجويني: أن رجلًا لو توسط قومًا، ولم يجد سبيلًا إلى الخروج لكثرة الناس، فخاف أن يموت جوعًا أو عطشًا أو ضيق نفس، ولا يجد السبيل إلى الخروج إلا بوطء بعضهم وإتلافه.. كان له ذلك!.
إذا ثبت هذا: فإن كان الخنثى صغيرًا.. ختنه الرجال والنساء إذا قلنا: يجب ختان الصغير.
وإن قلنا: لا يجب ختان الصغير.. لا يختن الخنثى الصغير؛ لأنه لا يتعين المحل فإذا بلغ.. وجب عليه الختان بلا خلاف على المذهب.
ومن الذي يتولى ذلك منه؟ ينظر فيه:
فإن كان يحسن ذلك بنفسه.. تولاه، وإن لم يقدر على ذلك لجبنه أو لقلة إحسانه.. اشترى له جارية تتولى ذلك منه.
وإن لم توجد جارية تحسن ذلك.. جاز أن يتولاه الرجال والنساء منه؛ لأن هذا موضع ضرورة، فجاز للرجال والنساء، كالطبيب.(1/97)
وإن كان لرجل ذكران، فإن عرف الأصلي منهما.. وجب ختانه دون غيره.
قال صاحب " الإبانة " [ق 25 - 26] : ويعرف الأصلي بالبول.
وقال غيره من أصحابنا: يعرف بالعمل، فإن كانا عاملين، أو كان يبول منهما، وكانا على منبت الذكر على حد السواء.. وجب ختانهما، كما قلنا في الخنثى المشكل.
وبالله التوفيق(1/98)
[باب نية الطهارة]
الطهارة ضربان: طهارة عن نجس، وطهارة عن حدث.
فأما الطهارة عن النجس: فلا تفتقر إلى النية في قول عامة أصحابنا.
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 13] : أن أبا العباس بن سريج قال: لا تصح من غير نية، كطهارة الحدث.
والأول هو المشهور؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك، فلا تفتقر إلى النية، كما لا يفتقر ترك الزنا والغصب إلى النية، ولا يلزم الصوم حيث افتقر إلى النية وإن كان من باب التروك؛ لأنه ترك معتاد، فافتقر إلى النية ليتميز الترك الشرعي عن غيره.
وأما الطهارة عن الحدث - وهو الوضوء، والغسل والتيمم -: فلا يصح شيء من ذلك إلا بالنية. وبه قال ربيعة، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وداود. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبو حنيفة: (يصح الوضوء، والغسل بغير نية، ولا يصح التيمم إلا بالنية) .
وقال الحسن بن صالح بن حي: يصح الوضوء، والغسل، والتيمم بغير نية.(1/99)
وعن الأوزاعي روايتان: إحداهما: كقول الحسن بن صالح. والأخرى: كقول أبي حنيفة.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها.. فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة:
أحدها: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية؛ لأن صورها قد توجد من غير نية، وإنما أراد: أن حكم الأعمال لا توجد إلا بالنية.
والثاني: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» دليل خطابه: أن من لم ينو.. فليس له.
والثالث: أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك: أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها: أم قيس، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «إنما الأعمال بالنيات» .. " الخبر إلى آخره. فأخبر: أن الأعمال لا تكون قربة وطاعة إلى بالقصد إلى الطاعة والقربة؛ ولأنها عبادة محضة، وطريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية كالصلاة.
فقولنا: (محضة) احترازًا من العدة، ومن غسل الذمية.
وقولنا: (طريقها الأفعال) احترازًا من الخطبة، والقراءة في الصلاة.(1/100)
[مسألة: لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام]
فرع: [لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام] :
إذا توضأ الكافر أو تيمم، ثم أسلم.. لم يصح وضوؤه، ولا تيممه.
وقال أبو حنيفة: (يصح وضوؤه، دون تيممه) بناءً على أصله: أن الوضوء يصح من غير نية.
دليلنا: أن الوضوء طهارة، تستباح بها الصلاة، لم تصح من غير نية تنظر من الكافر، كالتيمم.
[مسألة: النية ومحلها وزمنها وكيفيتها]
مسألة: [في النية ومحلها وزمنها وكيفيتها] :
إذا ثبت وجوب النية: فالكلام فيها في أربعة فصول:
في محلها، وفي وقت استحبابها، وفي وقت وجوبها، وفي صفتها.
فأما محلها: فالواجب أن ينوي بقلبه وهو: أن يقصد فعل ذلك بقلبه؛ لأن النية هي القصد - تقول العرب: نواك الله بخير، أي: قصدك الله بخير، وتقول: نويت بلد كذا، أي: قصدت إليه - إلا أن المستحب أن يقصد ذلك بقلبه، ويتلفظ به بلسانه؛ ليكون اللفظ به أعون له على خلوص القصد، فإن تلفظ به بلسانه من غير قصد في القلب.. لم يجزئه؛ لأنه قد يتلفظ بذلك عادة، وإن قصده بقلبه، ولم يتلفظ به.. أجزأه.
وأما وقت استحبابها: فيستحب أن ينوي ذلك أول الطهارة وهي: عند غسل كفيه، ويستصحب ذكرها إلى آخر الوضوء؛ لتشتمل نيته على الفرائض والسنن.
وأما وقت وجوبها: فإنه ينوي مع غسل أول جزء من الوجه، ثم يستصحب حكم النية في باقي أعضائه، وهو: ألا ينوي قطعها ولا ما ينافيها؛ لأن الوجه أول أعضاء الطهارة الواجبة، فأجزأه ذكر النية عنده، كالصلاة.
قال الطبري: إذا غسل كفيه، وتمضمض، واستنشق من غير نية.. لم يحصل له ثواب ذلك.(1/101)
[فرع: ذهاب النية]
وإن نوى الطهارة عند المضمضة والاستنشاق، ثم عزبت نيته - أي: انقطعت - فإن كان قد غسل شيئًا من وجهه مع المضمضة والاستنشاق، مثل: رأس أنفه، أو ظاهر شفتيه.. نظرت:
فإن غسل ذلك بنية غسل الوجه.. لم يؤثر انقطاع النية بعد ذلك؛ لأنها قد وجدت مع غسل أول فرض من فروض الطهارة.
وإن غسل ذلك من وجهه لا بنية غسل الوجه.. فهل يكون حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه، أو حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أحدهما: حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه؛ لأنه قد وجد منه غسل جزء من الوجه بنية الطهارة.
والثاني: حكمه حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؛ لأنه لم يغسل ذلك بنية غسل الوجه.
وإن عزبت نيته قبل أن يغسل شيئًا من وجهه.. فهل يجزئه شيء من ذلك؟ فيه وجهان، وحكاهما في " الفروع " قولين:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، فإذا عزبت النية عنده.. أجزأه كغسل الوجه.
وقولنا: (فعل) احتراز من التسمية، فإنها لو عزبت النية عندها.. لم يجزئه.
وقولنا: (راتب في الوضوء) احتراز من الاستنجاء، فإنه ليس براتب في الوضوء، بل لو استنجى بعد الوضوء.. كان كما لو استنجى قبله؛ ولأن الطهارة قد تخلو من الاستنجاء.
وقولنا: (لم يتقدمه فرض) احتراز من غسل اليدين؛ لأنه لو لم ينو إلا عندهما.. لم يجزئه.(1/102)
والوجه الثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن نيته عزبت قبل الفرض، فلم يجزئه، كما لو عزبت عند غسل الكف.
وما قاله الأول ينتقض بغسل الكف، فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، وإن عزبت النية عنده.. لم يجزئه.
وهذه طريقة أكثر البغداديين من أصحابنا: أن نيته إن انقطعت عند غسل الكف.. لم يجزئه.
وأما المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 16] ، وصاحب " الفروع " فقالا: إذا عزبت نيته عند غسل الكف.. هل يجزئه؟ على وجهين أيضًا، كالمضمضة والاستنشاق.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 16] : وكذلك إذا عزبت نيته عند الاستنجاء، أو عند السواك - إذا قلنا: إنهما من سنن الوضوء - فهل يجزئه ذلك؟ على وجهين، كما لو عزبت عند المضمضة والاستنشاق.
[فرع: صفة النية]
وأما صفة النية: فإن نوى رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث، أو الطهارة لأجل الحدث.. أجزأه؛ لأنه قد نوى المقصود.
وإن نوى الطهارة وأطلق.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " مختصر البويطي ": (أجزأه) .
قال أصحابنا: أراد: إذا نوى الطهارة عن الحدث، فأما مع الإطلاق: فلا تجزئه الطهارة؛ لأن الطهارة قد تقع عن حدث، أو عن نجس، فلا بد من النية لتميز بينهما.
وإن نوى المحدث رفع الجنابة.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ":
أصحهما: أنه لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه.
وإن نوى الجنب رفع الحدث عن جميع بدنه.. أجزأه، وإن نوى الحدث الأصغر.. أجزأه عن أعضاء الطهارة.(1/103)
وقال في " الفروع ": وقد قيل: لا معنى لهذه النية.
[فرع: النية وسبب الطهارة]
وإن نوى الطهارة لأمر لا يصح من غير طهارة، بأن ينوي الطهارة للصلاة، أو الطواف، أو سجود التلاوة أو الشكر، أو مس المصحف.. ارتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء لا يصح من غير طهارة، فإذا نوى الطهارة لها.. تضمنت نيته رفع الحدث.
وإن نوى الطهارة لفعل يصح من غير طهارة، ولا تستحب له فيه الطهارة، كأكل الطعام، ولبس الثوب، والدخول إلى السلطان.. لم يرتفع حدثه؛ لأنه يستبيح فعل هذه الأشياء من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث.
وإن نوى الطهارة لأمر يصح من غير طهارة، ولكن يستحب له فيه الطهارة كقراءة القرآن، ورواية الحديث وتدريس الفقه والاعتكاف.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء يصح من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة لأكل الطعام.
والثاني: يرتفع حدثه؛ لأنه يستحب له ألا يفعل هذه الأشياء إلا وهو طاهر، فتضمنت نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة للصلاة، بخلاف ما لو نوى الطهارة لأكل الطعام.
وإن نوى غسل الجمعة.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يجزئه عن الوضوء؛ لأنه مأمور به للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة.. فبها ونعمت، ومن اغتسل.. فالغسل أفضل» . فدل على: أن الغسل ينوب مناب الوضوء.(1/104)
وإن نوى رفع الحدث، والتبرد، والتنظيف.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه أشرك في النية بين القربة وغيرها.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يصح) ؛ لأنه قد نوى رفع الحدث، وضم إليه ما لو لم ينوه.. لحصل له، فوزانه من الصلاة: أن ينوي الصلاة، ودفع خصمه باشتغاله بها.. فتصح، أو ينوي صلاة الظهر، وتحية المسجد.. فتصح، كما لو نوى الإحرام بالحج عن الفرض، وعن دخول الحرم.
وإن فرق النية على أعضائه.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنها عبادة واحدة، فلم يصح تفريق النية على أبعاضها، كالصلاة والصوم.
والثاني: يجزئه؛ لأن تعيين النية في أثنائها لا يبطله حكم ما فعله منها.
[فرع: نية رفع جملة الأحداث]
وإن أحدث أحداثًا، ونوى رفع بعضها.. قال صاحب " الفروع ": ارتفع الجميع.
وإن نوى رفع واحد منها، وإبقاء غيره.. فهل يصح؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها: لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث.
والثاني: أنه يصح وضوؤه، وهو الصحيح؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى رفع واحدٍ منها.. ارتفع الجميع.
والثالث: إن نوى رفع الحدث الأول.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح وضوؤه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول فإذا نواه.. ارتفع الجميع.(1/105)
والرابع - حكاه ابن الصباغ -: إن نوى رفع الحدث الأخير.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها.
وإن نوى رفع حدث بعينه ثم بان أنه غيره.. قال الصيدلاني: فالمذهب: أنه يجزئه؛ لأنه من جنسه.
[فرع: نية الوضوء لصلاة بعينها]
وإن نوى بطهارته أن يصلي بها صلاة بعينها، أو أطلق.. ارتفع حدثه، واستباح به جميع الصلوات؛ لأن ذلك يتضمن رفع حدثه. وإن نوى أن يصلي به صلاة، وألا يصليها.. قال في " الفروع ": كان ذلك متناقضًا، ولا يرتفع حدثه.
وإن نوى أن يصلي به صلاة بعينها، ولا يصلي به غيرها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لم يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو نية صحيحة.
والثاني: يرتفع حدثه للصلاة التي عينها دون غيرها، اعتبارا بنيته.
والثالث: يرتفع حدثه في حق جميع الصلوات، وهو الصحيح؛ لأنه لما نوى ليصلي به صلاة بعينها.. ارتفع حدثه في حق الجميع، ونيته: ألا يصلي غيرها.. لا حكم لها، فتصير كما لو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها.
[فرع: نية قطع الطهارة بعد الفراغ منها]
إذا فرغ من الطهارة ثم نوى قطعها.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو المشهور -: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها.
والثاني - حكاه الصيدلاني -: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد.
وإن غسل بعض أعضائه، ثم نوى قطع الطهارة، فإن قلنا بما حكاه الصيدلاني: أنها تبطل، إذا نوى قطعها بعد الفراغ.. فهاهنا أولى. وإن قلنا بالمشهور: وأنها لا تبطل فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:(1/106)
أحدهما: تبطل طهارته، كما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يبطل ما مضى منها قبل نية القطع؛ لأنه قد صح، فلا يبطل إلا بالحدث، كما لو فرغ منها ثم نوى قطعها.
فعلى هذا: إن أراد تمام الطهارة قبل تطاول الفصل.. فلا بد من تجديد النية لما بقي من أعضائه؛ لأن حكم الأولى.. قد بطل بما بقي، وإن طال الفصل.. فعلى القولين في تفريق الوضوء.
فإن نوى رفع الحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم غسل رجليه بنية التنظيف والتبرد.. لم يصح غسله لهما، وإن نوى بغسله لهما التبرد والتنظيف ورفع الحدث.. فعلى ما مضى من الوجهين.
وبالله التوفيق(1/107)
[باب صفة الوضوء]
المستحب: ألا يستعين على الوضوء بغيره، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعين على الوضوء بأحد» .
وإن استعان بغيره نظرت:
فإن كان بتقريب الوضوء إليه، وما أشبه ذلك.. لم يكره، وإن استعان بغيره بصب الماء عليه جاز..؛ لما روي «أن أسامة، والمغيرة، والربيع بنت معوذ بن عفراء: (صبوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء، فتوضأ» .
وإن وضأه غيره، ولم يوجد منه غير النية.. أجزأه عندنا.
وقال داود: (لا يجزئه) .
دليلنا: أن فعله غير مستحق في الطهارة، ولهذا لو وقف تحت ميزاب أو مطر، ونوى الطهارة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة أجزأه.
وأما قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فالمراد به: تحصيل الغسل.
[مسألة: استحباب التسمية عند ابتداء الوضوء]
ويسمي الله تعالى عند ابتداء الطهارة؛ لأن التسمية مشروعة في جميع الأعمال، فالطهارة بذلك أولى.(1/108)
إذا ثبت هذا: فإنها مستحبة وغير واجبة، وهو قول ربيعة، ومالك، وأبي حنيفة.
وقال إسحاق بن راهويه: هي واجبة في الطهارة، إن تركها عامدًا.. لم تصح طهارته، وإن تركها ناسيًا.. صحت وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال داود، وأهل الظاهر: (هي واجبة وشرط في الطهارة، فإن تركها عامدًا أو ناسيًا.. لم تصح طهارته) .
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه.. كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه.. كان طهورًا لما مر عليه الماء» .
فصحح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطهارتين: وإنما جعل الطهارة التي ذكر اسم الله عليها.. طهارة لجميع بدنه من الذنوب والتي لم يذكر اسم الله عليها.. طهارة لما مر عليه الماء من الذنوب؛ لأن رفع الحدث لا يتبعض.
فإن نسي التسمية في أول الطهارة.. أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله تعالى.
[مسألة: سنية غسل الكفين]
ثم يغسل كفيه ثلاثًا؛ لأن عثمان وعليا وعبد الله بن زيد وصفوا وضوء رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكلهم قالوا: «غسل كفيه ثلاثًا» .(1/109)
ثم ينظر فإن قام من النوم، أو شك في نجاسة يده.. فالمستحب: ألا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا. وإن لم يقم من النوم، ولم يشك في نجاسة يده.. فهو بالخيار بين أن يغمس يده في الإناء، وبين أن يفرغ الماء من الإناء على يده.
وهذا كله مستحب غير واجب عندنا.
وقال الحسن: هو واجب؛ لأجل النجاسة، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. نجس الماء.
وقال داود: (هو واجب تعبدًا، فإن خالف وغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. صار الماء مهجورًا، وليس بنجس) .
وقال أحمد: (إن قام من نوم النهار.. فهو مستحب، وإن قام من نوم الليل.. فهو واجب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
فمن قال: يجب غسل اليدين قبل الوجه.. فقد خالف ظاهر القرآن.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده منه. وروي: أين طافت منه» .
وإنما قال: «أين باتت يده منه» ؛ لأن القوم كانوا يستنجون بالحجارة، وكانت بلادهم حارة، فإذا ناموا.. لم يأمنوا أن تطوف أيديهم على الآثار التي لم تقلعها الحجارة، وفي هذا الخبر فوائد:
منها: أن اليد تغسل ثلاثًا قبل الطهارة.
الثانية: أن ذلك مستحب؛ لأنه قال: «أين باتت يده منه» فتبين أنه احتياط للنجاسة.(1/110)
الثالثة: أن النجاسة إذا وردت على ماء قليل نجسته.
الرابعة: أن الماء القليل، إذا ورد على النجاسة.. أزالها؛ لأنه حكم بطهارة اليد بإيراد بعض ماء الإناء عليها.
[مسألة: استحباب المضمضة والاستنشاق]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ثم يغرف بيده اليمنى غرفة لفيه وأنفه) .
وإنما قال: (بيمينه) ؛ لأن اليمين مما يرجى أن يؤخذ بها الكتاب يوم القيامة، فقدمت في أعمال البر.
و (الغرفة) - بضم الغين - اسم للماء الذي يكون بكفه، وبفتح الغين: مصدر غرف، يغرف، غرفة.
وجملة ذلك: أن المضمضة والاستنشاق.. مشروعان في الطهارة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يستنثر.. إلا خرجت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء» .
قال الشافعي: (والمضمضة: أن يأخذ الماء في فمه، ويديره فيه، ثم يمجه، فإن مجه ولم يدره في الفم.. لم يعتد به) ؛ لأن القصد قطع الرائحة من الفم، وإزالة تغيره، وهذا لا يوجد من غير إدارة. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
و (الاستنشاق) : أن يجعل الماء في أنفه، ويجذبه بنفسه إلى خياشيمه، ويستنثره. والمستحب: أن يبالغ فيهما إلا أن يكون صائمًا.. فيرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» .(1/111)
وهل يسن الجمع بينهما، أو الفصل؟ فيه قولان:
[أحدهما] : روى المزني: (أنه يجمع بينهما) وقد نص عليه في " الأم " [1/21] ؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد» .
و [الثاني] : قال في " البويطي ": (يفصل بينهما) قال المحاملي: وهو الأصح؛ لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين المضمضة والاستنشاق» ؛ ولأنه أبلغ في النظافة، وأشبه بأعضاء الطهارة، فكان أولى.
واختلف أصحابنا في كيفية الجمع، والفصل:
فقال الشيخ أبو حامد: (الجمع) : هو أن يغرف غرفة واحدة، فيتمضمض ويستنشق منها ثلاثًا، يجمع في كل مرة بينهما.
وأما (الفصل) : فيغرف غرفة، فيتمضمض منها ثلاثًا، ثم يأخذ غرفة ثانية، فيستنشق منها ثلاثًا.
قال القاضي أبو حامد المروروذي، وأبو يعقوب الأبيوردي: (الجمع) هو: أن يأخذ غرفة فيتمضمض منها ويستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم يأخذ غرفة ثالثة يفعل بها كذلك.
و (الفصل) : أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق.(1/112)
وما قاله الشيخ أبو حامد أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه قال في الجمع: (يغرف غرفة لفيه وأنفه) ، وهذا لا يوجد إلا على ما قاله الشيخ أبو حامد، إلا أن ما ذكره القاضي أبو حامد أمكن وأثبت.
إذا ثبت هذا: فإن المضمضة والاستنشاق.. سنة في الوضوء وغسل الجنابة، وهو قول مالك.
وقال ابن أبي ليلى، وإسحاق: هما واجبان في الوضوء، والغسل.
وقال أحمد، وداود: (الاستنشاق واجب فيهما دون المضمضة) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (هما واجبان في الغسل، سنتان في الوضوء) .
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» .
فجعل المضمضة والاستنشاق مع هذه المسنونات، فدل على أن حكم الجميع واحد، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . وليس فيما أمره الله: المضمضة والاستنشاق.
وعلى أبي حنيفة -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء» . ولأنه عضو باطن دونه حائل معتاد، فلم يجب غسله كالعين.(1/113)
[مسألة: فرضية غسل الوجه]
ثم يغسل وجهه، وهو واجب؛ لنص الكتاب، والسنة والإجماع.
وكيف يأخذ الماء؟:
روى المزني، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يغرف الماء بيده) .
وقال الصيمري في " الإيضاح ": يأخذ الماء بكفيه؛ اتباعًا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه لا يتمكن من غسل وجهه إلا هكذا. قال: ويبدأ بأعلاه؛ اتباعًا للسنة، ولأنه أشرف، فبدأ به.
إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: حد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى أصول أذنيه ومنتهى اللحية، إلى ما أقبل من وجهه وذقنه.
وذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/21] حد الوجه، فقال: (حده: من دون منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين إلى الذقن. وهو مجتمع اللحيين) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو الحد الصحيح، وما ذكره المزني فاسد من وجوه:
أحدها: أنه قال: (من منابت شعر الرأس) . والوجه: إنما هو ما دون منابت شعر الرأس.
والثاني: أنه قال: (إلى منتهى اللحية) ، فإن أراد منتهى النبات.. فمنتهاه تحت الحلق، وليس ذلك من الوجه. وإن أراد منتهى النبات طولا.. فعلى أحد القولين: لا يجب غسله، وعلى الثاني: يجب، وليس من الوجه، وإنما هو في حكمه.
والثالث أنه قال: (إلى ما أقبل من وجهه وذقنه) . فحد الوجه بالوجه، وإنما يحد الشيء بغيره.
والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل الشعر(1/114)
إلى جبهته. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وذكر المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 17] : إذا نبت الشعر على بعض جبهته كالأغم.. فمن أين يجب الغسل؟ فيه وجهان:
أحدهما: من المنبت، وهو الأصح.
والثاني: من منحدر الرأس.
وأما تفصيل الوجه: فـ (الجبهة) من الوجه، وهي: موضع السجود، قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] [الفتح: 29] .
و (الجبينان) من الوجه، وهما: العظمان المشرفان على الجبهة.
و (النزعتان) من الرأس، وهما، البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال: نزع الرجل، فهو أنزع، وتسمى أيضًا: الجلحة، يقال: رجل أجلح.
و (الناصية) : من الرأس.
و (الصدغان) من الرأس، وهو: الشعر الذي يتجاوز موضع الأذن، المتصل بشعر الرأس.
و (العذاران) : من الوجه، وهو: الشعر الخفيف المقابل للأذن. و (البياض الذي بين العذار والأذن) : من الوجه. وقال مالك: (هو من الرأس) .
و (العارضان) من الوجه، وهو: الشعر الكثيف تحن العذار.
وفي موضع (التحذيف) ، وهو: الشعر الذي بين ابتداء العذار والنزعة، وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه.. وجهان:(1/115)
[أحدهما] : قال أبو العباس: هو من الوجه؛ لأن العادة تحذيفه، فقد جعلوه وجهًا.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: هو من الرأس وهو الصحيح؛ لأنه متصل بشعر الرأس؛ ولأن الله تعالى خلقه رأسًا، فلا يصير وجهًا بفعل الناس له.
[فرع: غسل اللحية والعارض]
إذا كان لا شعر على لحيته أو عارضيه، بأن كان أمرد، أو (أثط) : وهو الذي لم تخلق له لحية.. فإنه يجب عليه غسل جميع الوجه الذي تقدم حده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذه المواضع تقع بها المواجهة.
وإن كان قد نبتت على لحيته وعارضيه شعر، فإن كان الشعر خفيفًا.. وجب تخليل الشعر، وإيصال الماء إلى البشرة؛ لأن الواجهة تقع بذلك. وإن كان شعر لحيته وعارضيه كثيفًا.. فالمستحب له: أن يخلل الشعر، ويوصل الماء إلى البشرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخلل لحيته» .
ولا يجب عليه التخليل.
وقال المزني: وأبو ثور: (يجب عليه التخليل، وإيصال الماء إلى البشرة) .
دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغرف غرفة، فغسل به وجهه» . ومعلوم أنه بغرفة واحدة لا يصل الماء إلى باطن الشعر من(1/116)
اللحية مع كثافته، وقد «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيف شعر اللحية» ، رواه علي بن أبى طالب في وصف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن كان بعض لحيته خفيفًا، وبعضها كثيفًا.. وجب عليه إيصال الماء إلى ما تحت الخفيف، ولا يجبُ إلى ما تحت الكثيف اعتبارًا بكل واحد منهما. واختلف أصحابنا في حد الكثيف:
فمنهم من قال (الكثيف) : هو الشعر الذي لا يصل الماء إلى باطنه إلا بمشقة.
ومنهم من قال: (الكثيف) : هو الشعر الذي يستر بشرة اللحية أن ترى، وهذا هو المشهور.
[فرع: غسل شعور الوجه]
قال الشيخ أبو حامد: فإن نبت له شعر تحت محاجر عينيه.. وجب عليه: إيصال الماء إلى بشرته؛ لأنه نادر، وكذا إن نبت للمرأة لحية.. وجب: إيصال الماء إلى بشرتها وإن كان الشعر كثيفًا؛ لأنه نادر.
ويجب إيصال الماء إلى باطن الأهداب، والحاجبين، والعذارين، والشارب، وإن كان شعرها كثيفًا. واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأن الشعر يخف في هذه الموضوع في الغالب، فإذا كثف.. كان نادرًا، فيلحق بالغالب. وهذا هو الصحيح.
ومنهم من قال: يجب؛ لإحاطة بياض الوجه بهذه الشعور.
وأما (العنفقة) : وهو الشعر الذي على الشفة السفلى إلى اللحية، فإن كانت منفرجة عن اللحية.. وجب إيصال الماء إلى بشرتها وإن كانت كثيفة، كما قلنا في هذه الشعور.(1/117)
وإن كانت العنفقة متصلة بشعر اللحية، فإن قلنا: العلة في تلك الشعور أنها خفيفة في الغالب.. وجب هاهنا أيضًا؛ لهذه العلة. وإن قلنا: إن العلة هناك إحاطة بياض الوجه بهن.. لم يجب إيصال الماء إلى باطنها؛ لفقد هذه العلة. قال الصيدلاني: ولو خرجت سباله عن حد الوجه.. فالمذهب: أنه يجب غسلها، وكذلك لو كان بوجهه سلعة وخرجت عن حد الوجه.. وجب غسلها.
[فرع: استرسال اللحية]
وإن نبتت له لحيه واسترسلت، ونزلت عن حد الوجه.. وجب غسل ظاهر الشعر الذي لم ينزل عن الوجه. وفيما نزل عن حد الوجه طولًا وعرضًا.. قولان:
أحدهما: لا يجب إفاضة الماء على ظاهره؛ لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض، فلم يكن محلا للفرض، كطرف شعر الذؤابة.
والثاني: يجب؛ لأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه، فأشبه شعر الحاجب.
[فرع: غسل داخل العينين]
فرع: [لا يجب غسل داخل العينين] :
وأما إدخال الماء في العينين: فلا يجب؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولًا، ولا فعلًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو هيئة في الوضوء، وليس بسنة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إنما ذكرت المضمضة والاستنشاق دون غسل العين؛ للسنة، ولأنهما يتغيران، فيزيل الماء تغيرهما، والعين لا تتغير) .(1/118)
ومن أصحابنا من قال: يستحب ذلك؛ لما روي: أن ابن عمر كان يغسل عينيه حتى عمي. والأول أصح.
قال ابن الصباغ: إلا أنه يستحب أن يمسح (مآقي العينين) ، وهو: مخصرهما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح المأقين» ، واحدهما: مأق، ويسمى: المؤق أيضًا، ولأنه قد يجتمع فيهما كحل أو رمص، فيزيل ذلك، ويصل الماء إليه.
[مسألة: فرضية غسل اليدين]
ثم يغسل يديه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
وروي: «أن النبي لما توضأ.. غسل يديه» ، وقال لأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» .
وأجمعت الأمة على وجوب غسلهما.
ويستحب أن يبدأ بيده اليمنى، ثم باليسرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم.. فابدؤوا بميامنكم» .(1/119)
فإن بدأ باليسرى قبل اليمنى.. أجزاه، وبه قال عامة أهل العلم. وقال الفقهاء السبعة: لا يجزئه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولم يفرق.
قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل.. أخذ الماء بكفه، ثم أحدره إلى مرفقه مجريًا له بكفه، وكذلك يفعل باليسرى. وإن كان غيره يصب الماء عليه.. أمره بالصب من مرفقه إلى أطراف أصابعه، ويكون مجلس الصاب عن يساره.
ويجب إدخال المرفقين في الغسل، وهو قول كافة العلماء.
وقال زفر، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل.
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. أمر الماء على مرفقيه» . وهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج مخرج البيان؛ لما ورد به القرآن مجملًا.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 18] : وفي (المرفق) قولان:
أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد.
والثاني: أنه عظم الساعد، وإنما يغسل عظم العضد تبعًا.
ومن أصحابنا من قال: المرفق: مجتمع العظمين قولًا واحدًا.
وفي المرفق لغتان: [يقال] : مرفق، بكسر الميم وفتح الفاء. ويقال مرفق، بفتح الميم وكسر الفاء.(1/120)
[فرع: ما طال من الأظفار]
وإن كانت له أظفار قد طالت، وخرجت عن حد اليد.. فهل يجب غسل ما خرج منها من حد اليد؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كاللحية المسترسلة.
ومنهم من قال: يجب غسل ذلك قولًا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، بخلاف اللحية.
[فرع: غسل العضو الزائد]
] : إذا كانت له أصبع زائدة، أو كف زائد في كفة أو ذراعه.. وجب غسلهما؛ لأنهما في محال الفرض.
وإن كانت له يد زائدة، فإن كان أصلها في محال الفرض.. وجب غسلها مع اليد؛ لأنها في محل الفرض.. وإن كان أصلها في منكبه أو عضده، فإن كانت قصيرة لم تحاذ شيئًا من محال الفرض.. لم يجب غسلها. وإن كان فيها شيء قد حاذى محل الفرض.. فهل يجب غسل ما حاذى منها محل الفرض مع اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو المشهور -: أنه يجب؛ لأنه يقع عليها اسم اليد.
والثاني: لا يجب؛ لأن أصلها في غير محل الفرض، وهي تابعة له.
وما قاله الأول من: أنه يقع عليها اسم اليد؛ يبطل بها إذا كانت قصيرة لم تحاذ من محال الفرض، فإنه يقع عليها اسم اليد، ومع هذا فلا يجب غسلها.
وإن كان لها يدان متساويان على منكب أو مرفق.. وجب غسلهما؛ لوقوع اسم اليد عليهما.(1/121)
[فرع: الجلد المنكشط]
وإن انكشطت منه جلدة، وتدلت من محل الفرض في اليد.. وجب غسلها مع اليد، سواء انكشطت من محل الفرض وتدلت منه، أو انكشطت من العضد، وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلت منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه.
وإن تدلت من العضد.. لم يجب غسلها، سواء انكشطت من العضد وتدلت منه، أو انكشطت من محل الفرض وبلغت إلى العضد؛ لأنها صارت تابعة للعضد.
وهكذا إن انكشطت من الساعد أو العضد، والتزقت بالآخر.. وجب غسل ما حاذى منها محل الفرض، ولا يجب غسل ما علا العضد؛ لأن ما علا محل الفرض تابع له، فوجب غسله، وما علا العضد تابع له، فلم يجب غسله.
وإن سقط طرفها من أحدهما والتحم بالأخرى، وبقي ما تحتها متجافيا.. وجب غسل ما تحتها متجافيا من محل الفرض، ووجب غسل ما حاذى محل الفرض من الجلدة وإن كان متجافيا؛ لأنه تابع له.
[فرع: العضو المبان بعضه]
وإن كان أقطع اليد، فإن كان مقطوعًا من دون المرفق.. وجب غسل ما بقي من الساعد مع المرفق. وإن كان مقطوعًا من فوق المرفق.. فلا فرض عليه، ويستحب له أن يمس ما بقي.. من العضد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة.
وإن كان مقطوعًا من المرفقين.. فنقل المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا فرض عليه) ، ونقل الربيع: (أنه يجب عليه غسل ما بقي من المرفقين) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أكثر البغداديين من أصحابنا: غلط المزني في نقله، وأجاب في هذه المسألة بجواب المسألة قبلها.(1/122)
ومنهم من قال: بل ما نقله المزني صحيح أيضًا، وأراد بقوله: (من المرفقين) ، أي: مع المرفقين.
وقال الخراسانيون: في المسألة قولان، واختلفوا في أصل القولين:
فمنهم من قال: أصلهما القولان في المرفق:
أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد، وهو المشهور.
فعلى هذا: يجب عليه غسل عظم العضد.
والثاني: أن المرفق عظم الساعد.
فعلى هذا: لا يجب غسل عظم العضد.
ومنهم من قال: المرفق: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعًا، أو قصدًا؟ وفيه قولان:
فإن قلنا: يجب غسله قصدًا.. وجب غسله هاهنا.
وإن قلنا: يجب غسله تبعًا.. لم يجب غسله هاهنا. وكل موضع قلنا: لا يجب غسله.. استحب له أن يمسه ماء؛ حتى لا يخلوا العضو من الطهارة.
[فرع: شرعية استعانة الأقطع]
فإن وجد الأقطع من يوضئه بأجرة المثل، وهو قادر عليها.. لزمه ذلك، كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل. وإن بذل له غيره توضيئه بغير أجرة.. قال الصيدلاني: لزمه ذلك؛ لأن عليه التسبب إلى أداء الصلاة.
وإن لم يجد من يوضئه بأجرة، ولا بغير أجرة.. صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر، كما لو لم يجد ماء ولا ترابًا. وإن كان معسرًا بالأجرة.. صلى على حسب حاله وأعاد؛ لأنه نادر.
وإن توضأ، ثم قطعت يده.. لم يلزمه غسل ما ظهر عن الحدث. وكذلك لو مسح رأسه، ثم حلقه.. لم يلزمه مسح ما ظهر.(1/123)
وقال محمد بن جرير الطبري: يبطل مسح الرأس، كما يبطل مسح الخف. دليلنا: أن الطهارة لم تتعلق بموضوع القطع، وإنما كانت متعلقة بما ظهر من اليد، وقد غسله؛ ولأن ما ظهر ليس ببدل عما تحته، فهو كما لو غسل يده، ثم كشط جلدها.
فإن أحدث بعد ذلك.. لزمه غسل ما ظهر بالقطع. وكذلك إن حصل في بعض أعضاء الطهارة ثقب.. لزمه غسل باطنه؛ لأنه صار ظاهرًا.
[فرع: سنية تحريك الخاتم]
] : قال ابن الصباغ: وإذا كان في إصبعه خاتم.. فيستحب أن يحركه مع علمه بوصول الماء إلى ما تحته، إلا أن يكون الخاتم واسعًا، فلا يحتاج إلى التحريك؛ لما روى أبو رافع: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. حرك خاتمه في أصبعه» .
[مسألة: فرضية مسح الرأس]
ثم يمسح رأسه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: [مسح رأسه] .
وأجمعت الأمة على وجوبه. ثم الكلام فيه في ثلاثة فصول: في قدر الواجب، والمستحب، والتكرار.
فأما قدر الواجب منه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: الواجب مسح ثلاث شعرات، كما قلنا في الحلق في التحلل من الإحرام.
والمذهب: أنه لا يتقدر، بل لو مسح ما يقع عليه اسم المسح ولو بعض شعره..(1/124)
أجزأه؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وأقله ما يقع عليه الاسم. هذا مذهبنا.
وقال مالك، والمزني، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (يجب مسح جميعه) .
وقال محمد بن مسلمه: إن ترك الثلث.. جاز. وهي الرواية الثانية عن أحمد. وقال بعض أصحاب مالك: إن ترك اليسير منه ناسيًا.. جاز.
وعن أبى حنيفة ثلاث روايات: إحداهن: (الواجب مسح قدر ربعه) . والثانية: (الواجب مسح قدر الناصية) . والثالثة: (الواجب مسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والباء: للتبعيض.
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» .
وهذا يبطل قول من أوجب مسح الكل، ويبطل التقدير الذي قدره أبو حنيفة بالربع، فإن الناصية ما بين النزعتين، وهو ما دون الربع.
أما المستحب: فهو أن يمسح جميعه، ويجعل الماء في كفيه، ثم يرسله، ثم يضع إبهاميه على صدغيه، وسبابتيه على مقدم رأسه، ثم يذهب بيده إلى قفاه، ثم(1/125)
يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه؛ لما روي: (أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوصف: أنه مسح رأسه كما ذكرنا) ؛ ولأن منابت الشعر مختلفة، ففي ذهابه يقع المسح على باطن شعر مقدم رأسه وعلى ظاهر مؤخره، وفي رد يديه يقع على باطن مؤخره وظاهر مقدمه.
[فرع: ما يقوم بدل المسح]
وإن وضع إصبعه على رأسه ولم يمرها عليه، أو قطر على رأسه ماء، أو غسل رأسه مكان المسح.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه، وهو اختيار القفال؛ لأنه لم يمسح.
والثاني: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد حصل فيه المسح وزيادة في الغسل.
[فرع مسح المحلوق والأصلع]
فإن كان محلوقا أو أصلع، فمسح على البشرة.. أجزأه؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس.
وإن كان له شعر قد نزل عن حد الرأس، فمسح على ما نزل عن حد الرأس منه.. لم يجزئه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الرأس.
وإن رد الشعر النازل عن حد الرأس إلى وسط الرأس، ومسح عليه هناك.. لم يجزئه أيضًا؛ لأنه كالعمامة.
وإن كان له شعر قد زايل منبته، إلا أنه لم ينزل عن حد الرأس، فمسح على ما زايل منبته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه مسح على شعر في غير منبته، فهو كما لو مسح على الشعر النازل عن حد الرأس.(1/126)
والثاني: يجزئه، وهو المذهب؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس، فهو كما لو مسح على رؤوس الشعر الذي لم يزايل منبته.
فإذا قلنا بهذا، ولم يمسح على الشعر، بل مسح على البشرة التي تحت هذا الشعر.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجزئه؛ لأنه لم يمسح على ما برأس.
قال ابن الصباغ: وإنما هذا يتصور أن يمسح أصول الشعر دون أعلاه، وإلا فمتى كان تحت الشعر بشرة لا شعر عليها، وإنما عليها شعر غيرها.. جاز المسح عليها، كما لو كانت مكشوفة.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يجزئه؛ لأنه محل للمسح، بدليل أنه لو لم يكن عليه شعر، فمسح عليه.. أجزأه.
وإن كان بعض رأسه محلوقًا، أو أصلع وعلى بعضه شعر لم ينزل عن منبته، فإن مسح على المحلوق أو الأصلع.. أجزأه، وإن مسح على الشعر الذي لم ينزل عن منبته.. أجزأه؛ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فيخير بينهما.
[فرع: المسح على العمامة]
فرع: [ندب المسح على العمامة] :
فإن كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها.. فالمستحب: أن يمسح بناصيته، ويتم المسح على العمامة؛ لما روى المغيرة بن شعبة: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» .
فإن اقتصر على مسح العمامة.. لم يجزئه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وداود: (يجوز) ، إلا أن أحمد والأوزاعي قالا: (إنما يجوز إذا لبسها على طهارة، كالخف) .
وقال بعض أصحاب أحمد: إنما يجوز إذا كانت تحت الحنك.(1/127)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والعمامة لا يقع عليها اسم الرأس؛ ولأنه عضو لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه.. فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه، كالوجه واليد.
فقولنا: (لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه) احتراز من الخف والجبيرة.
وقولنا: (على حائل منفصل عنه) احتراز من مسح الشعر النابت على الرأس.
[فرع: استحباب تكرار مسح الرأس]
وأما تكرار مسح الرأس: فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلى أن السنة: أن يمسحه ثلاثًا، كل مرة بماء جديد) . وروى ذلك عن أنس، وهو قول عطاء.
و [الثاني] : قال الحسن، ومجاهد، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد وأبو ثور: (السنة: أن يمسحه مرة واحدة) . وهو اختيار الشيخ أبي نصر البندنيجي صاحب " المعتمد ".
و [الثالث] : قال ابن سيرين: يمسحه مرتين، مرة فرضًا، ومرة سنة.
دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "من توضأ مرتين مرتين.. آتاه الله أجره مرتين"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم» . ولم يفرق بين الرأس وغيره؛ ولأنه أحد أعضاء الطهارة، فسن فيه التكرار، كسائر الأعضاء.(1/128)
[مسألة: سنية مسح الأذنين]
] : ثم يمسح أذنيه ظاهرهما، وباطنهما.
قال الصيمري: وظاهرهما: مما يلي الرأس، وباطنهما: مما يلي الوجه ليس الصماخين؛ لما روى المقدام بن معدي كرب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه» قال صاحب " الفروع ": ويدخل أصبعيه في صماخي أذنيه، ويمر اليد مع تلك البلة على عنقه، وقد قيل: يعود إلى الصماخين بماء.
وقد اختلف الناس في الأذنين، على خمسة مذاهب:
فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنهما ليستا من الوجه فلا يغسلان معه، ولا من الرأس فلا يمسحان معه، وإنما هما عضوان منفردان، فيأخذ لهما ماء جديدا غير الذي مسح به الرأس) . وروي ذلك عن ابن عمر، والحسن، وعطاء.
و [الثاني] : ذهب مالك، وأحمد: (إلى أنهما من الرأس، إلا أنه يأخذ لهما ماء غير الماء الذي مسح به الرأس) . فوافقانا في الحكم دون الاسم.
و [الثالث] : ذهب أبو حنيفة، وأصحابه: (إلى أنهما من الرأس ... فيمسحان بالماء الذي مسح به الرأس) . فخالفونا في الاسم والحكم.(1/129)
و [الرابع] : قال الزهري: هما من الوجه، فيجب غسلهما مع الوجه. وحكى الشاشي: أن أبا العباس بن سريج كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس احتياطًا. وهذا ليس بمشهور عنه.
و [الخامس] : قال الشعبي، والحسن بن صالح، وإسحاق: ما أقبل منهما من الوجه فيغسل مع الوجه، وما أدبر منهما مع الرأس فيمسح معه.
دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد بن عاصم ـ وليس بصاحب الأذان ـ من " التعليقة " لعطاء: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ، فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه» ؛ ولأن كل ما لم يجز مسحه عن مسح الرأس، انفرد بحكمه، كالجبهة.
ومسحهما: سنة غير واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . ولم يأمر الله بمسحهما.
[مسألة: فرضية غسل الرجلين]
] : ثم يغسل رجليه ـ وهو واجب ـ في قول أكثر العلماء.
وقالت الإمامية ـ من الرافضة ـ: يجب مسحهما، ولا يجزئ غسلهما.
وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين أن يغسلهما، وبين أن يمسحهما.
وقال بعض أهل الظاهر: يجب عليه أن يجمع بين غسلهما ومسحهما.
دليلنا قولة تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] بنصب قوله: (وأرجلكم) ، فتكون عطفًا على الغسل.(1/130)
وقراءة من قرأ بخفض (وأرجلكم) ، فإنما هو جر بالجوار، لا بحكم العطف. [كما] قال الشاعر:
فظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
فجر: أو (قديرٍ) بالجوار مع واو العطف. وتقول العرب: (هذا جحر ضب خربٍ) .(1/131)
ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: غسل رجليه، ولم يذكر أحد منهم: أنه مسحهما. وقال جابر: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا» .
قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل بنفسه، بدأ بصب الماء من أطراف أصابعه إلى كعبيه. وإن كان غيره هو الغاسل له، صب الماء من كعبيه إلى أطراف أصابعه.
[فرع: الكعبان من الرجلين]
] : ويجب إدخال الكعبين في الغسل.
وقال زفر بن الهذيل، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل.
دليلنا قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . قال أهل التفسير: مع الكعبين.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ويل للأعقاب من النار» يعني: التي لم يصبها الماء.
و (الكعبان) : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم.
وقال محمد بن الحسن، وبعض أصحاب الحديث: الكعبان: هما العظمان الناتئان في ظهر القدم موضع الشراك.(1/132)
دليلنا: قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، ولم يرد به حد جميعهما؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: إلى الكعاب، كما قال تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فدل على: أنه أراد حد الرجل الواحدة، وليس للرجل الواحدة كعبان إلا على ما قلنا، وعلى قولهم لا يكون لها إلا كعب واحد.
وروى النعمان بن بشير قال: «أقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، وقال: " أقيموا صفوفكم ". فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه» . وهذا لا يكون إلا على ما قلناه.
[فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية]
] : فإن كانت أصابعه ملتفة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل ... وجب عليه إيصال الماء إلى باطنها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خللوا بين أصابعكم، لا يخلل الله بينها النار» . وإن كانت منفرجة يصل الماء إليها من غير تخليل.. استحب له التخليل بينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبره: «وخلل بين الأصابع» .
وكيفية استحباب التخليل: أن يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختمها بإبهامها، ويبدأ بإبهام رجله اليسرى، ويختمها بخنصرها، ويكون ذلك من أسفل الرجل في باطن القدم.(1/133)
وإن خلقت أصابعه مرتتقة، فلا يجب عليه أن يفتقها.
ويستحب له أن يغسل فوق المرفقين، وفوق الكعبين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تأتي أمتي يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» .
[مسألة: تكرار الغسل في الوضوء]
مسألة: [تكرار الغسل] : والواجب في الوضوء الغسل والمسح مرة مرة، والمرتان فضيلة، والثلاث سنة، والزيادة على ذلك مكروهة.
وقال بعض الناس: الثلاث واجبة.
وقال مالك: (السنة: مرة مرة) .
دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء، لا يقبل الله الصلاة إلا به " ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: " من توضأ مرتين.. آتاه الله أجره مرتين "، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» ففي الخبر دليل على الفريقين. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: " هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» .(1/134)
فمعنى قوله: (فقد أساء) : لمخالفته السنة إذا نقص عن الثلاث.
ومعنى قوله: (ظلم) : إذا زاد عليها، يعني جاوز الحد؛ لأن الظلم: مجاوزة الحد، وهي إساءة وظلم لا تقتضي العصيان والإثم.
[مسألة: وجوب الترتيب في الوضوء]
] : ويجب الترتيب في الوضوء مع الذكر، وهو: أن يبدأ بغسل وجهه، ثم بيديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
فإن نسي الترتيب فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نسي الفاتحة حتى ركع، الصحيح: لا يجزئه.
وذهبت طائفة إلى: أن الترتيب ليس بواجب، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومكحول. والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، والمزني. وهو اختيار الشيخ أبي نصر في " المعتمد ".
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6]
قلنا: من هذه الآية أدلة:
منها قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، والفاء: للتعقيب، فمن قال: إنه يبدأ بغسل اليد، فقد خالف ظاهر القرآن.
والثاني: أن الله تعالى، بدأ بالوجه، ثم باليد بعده، والرأس أقرب إلى الوجه، فلو جازت البداية بالرأس لذكره بعد الوجه؛ لأنه أقرب إليه.
والثالث: أنه أدخل مسح الرأس بين غسل اليدين، وغسل الرجلين، وقطع النظير عن نظيره، فدل على: أنه قصد إيجاب الترتيب.(1/135)
وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرتبًا مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.» ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة في أصل وضعها، يرتبط بعضها ببعض، فوجب فيها الترتيب، كالصلاة والحج.
فقولنا: (تشتمل على أفعال) احتراز من الخطبة، فإنها تشتمل على أقوال متغايرة، ولا يجب فيها الترتيب.
وقولنا: (متغايرة) ـ يعني: نفلا وفرضًا، ومغسولا وممسوحًا ـ احتراز من غسل الجنابة والنجاسة، والعضو الواحد في الوضوء.
وقولنا: (في أصل وضعها) احتراز ممن وضع الجبيرة على بعض العضو، فإنه لا يجب عليه الترتيب بين المسح على الجبيرة، وغسل الصحيح من العضو؛ لأن المسح لم يجب في أصل وضع الطهارة على جميع الناس.
وقولنا: (يرتبط بعضها ببعضٍ) احتراز من جلد البكر وتغريبه في الزنا؛ فإنه لو تقدم التغريب على الجلد أجزأه.
[مسألة: استحباب الولاء]
] : ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقًا يسيرًا لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.(1/136)
وإن فرق تفريقًا كثيرًا فهل تصح طهارته؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تصح طهارته) . وبه قال عمر؛ لما روى خالد بن معدان، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا على قدمه لمعة قدر درهم، لم يصبها الماء، فأمره بإعادة الوضوء، والصلاة» .
ولأنها عبادة يبطلها الحدث، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة. أو عبادة يرجع إلى شطرها مع العذر، فكانت الموالاة شرطًا فيها، كالصلاة، وفيها احتراز من تفرقة الزكاة.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح طهارته) . وبه قال ابن عمر، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فأمر بغسل هذه الأعضاء، والأمر يقتضي إيجاد المأمور به، سواء أوجده متواليًا أو متفرقًا.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد، فدعا بماء، فمسح على خفيه وصلى عليها» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير) ؛ ولأنها عبادة لا يبطلها التفريق اليسير، فلم يبطلها التفريق الكثير، كالحج، وتفرقة الزكاة. وفيه احتراز من أفعال الصلاة.(1/137)
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا فرق لغير عذر، فأما إذا فرق لعذر، بأن ينقلب الوضوء، فيمضي في طلبه، أو ما أشبه ذلك، فيجوز قولا واحدًا. وهو قول مالك، والليث، وأحمد، واختاره المسعودي [" في الإبانة " ق\19] .
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو نقل البغداديين من أصحابنا.
واختلف أصحابنا في حد التفريق الكثير:
فذهب أكثرهم إلى: أن حده هو: أن يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده، في زمان معتدل، مع استواء الحال، ولا اعتبار بشدة الحر والريح، فإن الجفاف يسارع فيهما، ولا بشدة البرد، فإن الجفاف يبطئ فيه. ويعتبر: استواء حال المتوضئ، فإنه إذا كان محموما، فإن الجفاف يسارع إليه لأجل الحمى.
ومنهم من قال: التفريق الكثير: هو التطاول المتفاحش.
[فرع: عدم الموالاة بين الغسل والتيمم]
] : وإن فرق في الغسل والتيمم تفريقًا كثيرًا، فهل يبطل؟
قال ابن الحداد، وابن القاص: لا يبطل قولا واحدًا.
وقال أكثر أصحابنا: هو على قولين: كالوضوء، وهو الأصح.
فإذا فرق تفريقًا كثيرًا، وقلنا بقوله القديم، لزمه استئناف الطهارة، ولا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد، لم يلزمه استئناف الطهارة، ولكن هل يلزمه استئناف النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، لأن النية قد انقطعت بطول الزمان.
والثاني: لا يلزمه.(1/138)
قال ابن الصباغ: وهو الأظهر، لأن التفريق إذا جاز، لم ينقطع حكم الأول.
[مسألة: ما يقال عقب الوضوء]
] : والمستحب: لمن فرغ من الوضوء: أن يستقبل القبلة، ويقول ما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ـ صادقًا من قلبه ـ اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أي باب شاء» .
ويقول ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، وطبع عليها بطابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي: ختم بخاتم.
قال أبو علي في " الإفصاح ": ويستحب له ألا ينفض يده، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان» .(1/139)
قال ابن الصباغ: وقد روت ميمونة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل، فجعل ينفض يديه» .
ولما فرغ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذكر الوضوء، قال: (وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله) .
فإن قيل: أفتراه كان شاكا فيما ذكر؟ والمشيئة تكون في المستقبل لا في الماضي، لا يقول الرجل: قمت إن شاء الله، وإنما يقول: أقوم إن شاء الله.
فعن ذلك جوابات:
[الأول] : قيل: أي ذلك أكمل الوضوء بمشيئة الله تعالى، أي: إن شاء الله تعالى أن يكون هذا أكمل الوضوء.
و [الثاني] : قيل: هذه الجملة مشتملة على المفروضات والمسنونات، وليس يقطع على الله بصحة جميعها، ولا أنه على يقين من سائرها، فلهذا حسُن أن يقول: إن شاء الله.
و [الثالث] : قيل: لأن من الناس من خالفه في أكمل الوضوء، لأن بعضهم يرى أن يجعل شيء من الماء فيما يلي حلقه ومؤخر الرأس، وكان ابن عمر يدخل الماء في عينيه.(1/140)
و [الرابع] : قيل: ليس يعود إلى الأكمل، لكن تقدير الكلام: وذلك أكمل الوضوء الذي من فعله.. حاز الفضل ورجا الثواب من الله إن شاء الله تعالى.
و [الخامس] : قيل: معناه المستقبل لا الماضي، أي: الذي وصفته هو الكمال فتوضؤوا كذلك إن شاء الله.
[مسألة: القول في تنشيف الأعضاء]
] : وأما تنشيف الأعضاء من بلل الوضوء والغسل: قال أصحابنا البغداديون: فلا خلاف أنه جائز، ولا خلاف أنه ليس بمستحب، ولكن هل يكره؟ اختلف الصحابة فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : روي عن عثمان، وأنس وبشير بن أبي مسعود، والحسن بن علي، أنهم قالوا: (لا بأس به في الوضوء والغسل) ، وهو قول مالك، والثوري، لما روى قيس بن سعد، قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فرأيت أثر الورس على عكنه» ، وروي «على كتفه» .
و [الثاني] : روي عن عمر: أنه كرهه في الوضوء والغسل، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روت ميمونة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت له غسلا فاغتسل، فلما فرغ ناولته المنديل، فلم يأخذه، وجعل ينفض يديه» .(1/141)
و [الثالث] : قال ابن عباس: (لا بأس به في الغسل دون الوضوء) .
قال أصحابنا: وليس للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه نص، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يحرم فعله، لحديث قيس بن سعد، والأولى أن يتركه، لحديث ميمونة، ولأنه أثر عبادة، فاستحب تركها، كخلوف فم الصائم.
وقال المسعودي [في الإبانة: ق\19] : هل يستحب المسح بالخرقة؟ فيه وجهان.
[مسألة: واجبات وسنن الطهارة]
] : قال أصحابنا: الطهارة تشتمل على واجبات، ومسنونات، وهيئات.
فالواجبات: ما كان شرطًا في الطهارة، وذلك ستة أشياء، لا خلاف فيها على المذهب، وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وفي السابع ـ وهو الموالاة ـ قولان.
وأما المسنونات: فكل ما كان ليس بشرط في الطهارة، ولكنه راتب فيها، وهي أشياء:
المضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية، واستيعاب مسح الرأس، ومسح الأذنين والعنق، والدفعة الثانية والثالثة، والبداية باليمين، وفي التسمية وغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء وجهان:
أحدهما: أنهما سُنَّة، والثاني: أنهما هيئة.
وأما الهيئات: فرتبتها دون رتبة المسنونات، وذلك كتخليل الأصابع، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتطويل الغرة.(1/142)
ويدعو عند غسل الوجه، فيقول: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه.
وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني.
وعند غسل اليد اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، ولا تغلل يدي إلى عنقي.
وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار.
وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم.
[مسألة: الشك بعد انتهاء الوضوء]
] : إذا فرغ من الطهارة، ثم شك: هل مسح رأسه، أو غسل عضوًا من أعضاء الطهارة؟ ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا تأثير لهذا الشك، لأن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا تأثير له، كما لو فرغ من الصلاة، ثم شك: هل ترك رُكنًا منها؟
و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لهذا الشك تأثير، كما لو طرأ عليه الشك في أثناء الطهارة، ولأن الطهارة تقصد للصلاة، ولهذا: ظهور أصلها بعد الفراغ منها،(1/143)
كظهوره قبل الفراغ منها، وهو الماء، ولأنا لو لم نجعل لهذا الشك تأثيرًا لأدى إلى أن يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
ومن قال بالأول، قال: لا يمتنع ذلك، كما لو توضأ وشك: هل أحدث أم لا؟ فإنه يجوز له الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
[فرع: الشك في الطهارتين]
] : وإن توضأ عن حدث فصلى به الظهر، ثم أحدث وتوضأ، فصلى به العصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس، في إحدى الطهارتين، ولا يعلم عينها، وجب عليه إعادة الصلاتين، لأنه تيقن أن إحداهما لم تسقط عنه فلزمه إعادتهما، ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز التفريق في الطهارة، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق استأنف الطهارة.
فلو لم يحدث بعد الظهر، ولكن جدد الطهارة للعصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارتين، قال الشيخ أبو حامد: لزمه إعادة الظهر، لأنه يشك: هل صلاها بطهارة صحيحة أو فاسدة، فلا يسقط عنه بالشك.
وأما العصر: فإن قلنا: إن من توضأ لمندوب، مثل: قراءة القرآن، والجلوس في المسجد، أو لتجديد الطهارة، يرتفع حدثه، لم يلزمه إعادة العصر.
وإن قلنا: لا يرتفع حدثه، أعاد العصر أيضًا، وما حكم الطهارة على هذا الوجه؟
إن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه وغسل رجليه.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.(1/144)
[فرع: رفع الحدث بتجديد الوضوء]
] : وإن توضأ للصبح عن حدث فصلاها، ثم جدد الطهارة للظهر فصلاها، ثم أحدث فتوضأ للعصر فصلاها، ثم جدد الطهارة للمغرب فصلاها، ثم أحدث وتوضأ للعشاء فصلاها، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارات ولا يعرف عينها.
فإن قلنا: إن تجديد الطهارة يرفع الحدث، صحت له صلاة الظهر والمغرب، ووجب عليه إعادة الصبح والعصر والعشاء.
وإن قلنا: إن التجديد لا يرفع الحدث، أعاد جميع الصلوات.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.
وبالله التوفيق.(1/145)
[باب المسح على الخفين]
يجوز المسح على الخفين في الوضوء، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وقالت الشيعة، والخوارج:(1/146)
لا يجوز المسح على الخفين، وهو قول أبي بكر بن داود.
وروي عن مالك في ذلك روايات:
إحداهن: (يجوز المسح عليه مؤقتًا) كقول الشافعي الجديد.
الثانية: (أنه أجاز المسح عليه أبدًا) كقول الشافعي القديم.
الثالثة: (أنه يمسح عليه في الحضر دون السفر) .
الرابعة: (أنه يمسح عليه في السفر دون الحضر) وهي الصحيحة عنه.
والخامسة: (أنه كره المسح على الخفين) .
السادسة: رواية رواها ابن أبي ذئب عنه: (أنه أبطل المسح في آخر أيامه) . كقول الشيعة.
دليلنا: ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه ومسح على خفيه» .
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله، أنسيت، لم تخلع الخفين؟ فقال: " بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل» . وهذا أمر اختيار، لا أمر إلزام.(1/147)
وروي عن الحسن البصري، أنه قال: «حدثني سبعون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه مسح على الخفين» .
ولأن الحاجة تدعو إلي لبسه، وتلحقه المشقة في نزعه، فجاز المسح عليه، كالجبائر.
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا نصر قال في " المعتمد ": غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين، على قياس قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الشعبي، والحكم، وحماد: المسح على الخفين أفضل من الغسل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه» .
دليلنا: أن الغسل أصل، والمسح بدل منه، فكان أفضل منه.
وأما الخبر: فإنما هو حث على ألا يترك الرخصة رغبة عنها.
ولا يجوز مسح الخفين في الغسل الواجب، كغسل الجنابة، والحيض، لما روى صفوان بن عسال المرادي: قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو سفرًا ـ ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول، أو نوم ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا» ، ولأن الغسل يندر، فلم تدع الحاجة إلى مسح الخفين فيه.(1/148)
ولا يجوز المسح على الخفين في الغسل المسنون، كغسل الجمعة والعيدين، أي: لا يحكم له بصحة الغسل، لأنه يندر، فهو كغسل الجنابة.
[مسألة: توقيت المسح]
مسألة: [في توقيت المسح] : روى الزعفراني: أن الشافعي قال في العراق: (يجوز المسح على الخفين من غير توقيت) ، وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الليث.
ووجهه: ما «روي عن أُبي بن عمارة بكسر العين، من " المؤتلف والمختلف "، وقال في " الاستيعاب ": هو بضم العين عُمارة: أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخف؟ قال: " نعم "، قلت: يومًا، قال: " نعم "، إلى أن بلغ سبعًا، قال: " نعم وما بدا لك» .
ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الرأس.
قال الزعفراني: ورجع الشافعي عن هذا قبل رحلته من عندنا إلى مصر، وقال: (يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) ، وبه قال علي بن أبي(1/149)
طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول عطاء، وشريح، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، وهو الأصح، لما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» ، ولأن المسح على الخفين إنما أجيز لتترفه رجله، ولا حاجة بالمقيم إلى ترك رجله في الخف فيما زاد على يوم وليلة، ولا بالمسافر فيما زاد على ثلاثة أيام ولياليهن، بل الحاجة تدعو إلى كشفها، لتسوية لفائفه وإراحة رجله.
[مسألة: ابتداء مدة المسح]
] : وابتداء المدة من حين بعد لبس الخفين، لا من حين اللبس، ولا من حين الطهارة بعد الحدث.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: (ابتداء المدة من حين المسح) .
دليلنا: ما روي في حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من الحدث إلى الحدث» .
ولأن زمان الحدث زمان يستباح به المسح، فكان من وقته كبعد المسح.
إذا ثبت هذا: فأكثر ما يصلي المقيم بالمسح في الوقت خمس صلوات بغير حيلة ولا عذر، وبالحيلة ست صلوات وهو: أن يحدث بعد اللبس بعد أن توسط وقت الظهر ويصليها، ثم يصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويمكنه أن يصلي سبع صلوات مع الحيلة والعذر، وهو: أن يصلي في اليوم الأول الظهر في آخر وقتها حين أحدث، ويصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويقدم إليها العصر في المطر.(1/150)
وأكثر ما يمكن للمسافر أن يصلي بالمسح من صلوات في وقتها: خمس عشرة صلاة من غير حيلة، ولا عذر، ومع الحيلة ست عشرة صلاة، وبالحيلة والعذر: سبع عشرة صلاة، كما ذكرنا في المقيم.
وإن كان السفر معصية، لم يجز له أن يمسح ما زاد على يوم وليلة، لأنه مستفاد بالسفر، والعاصي لا يجوز له الترخص برخص المسافرين.
وهل له أن يمسح يومًا وليلة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع "، المشهور: أنه يستبيح ذلك.
[مسألة: شأن من مسح حضرًا ثم سافر]
] : وإن لبس الخف في الحضر، ثم سافر قبل أن يحدث، ثم أحدث في السفر، فله أن يسمح مسح مسافر، بلا خلاف، لأن ابتداء مدة المسح وابتداء فعله وجد في السفر.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل أن يمسح، وقبل أن يخرج وقت الصلاة، ثم مسح في السفر، فإنه يمسح مسح مسافر.
وقال المزني: لا يجوز له أن يمسح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم؛ لأنه قد اجتمع السفر والحضر في وقت المسح.
دليلنا: أنه سافر قبل أن يتلبس بالعبادة في وقتها، فكان الاعتبار بفعلها لا بدخول وقتها، كالصلاة.
وإن أحدث في الحضر وخرج وقت الصلاة، ثم سافر ومسح في السفر ... ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يستبيح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم لا غير؛ لأن المقيم لو خرج عنه وقت الصلاة في الحضر، ثم سافر، فإنه يلزمه إتمام الصلاة، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر فإنه يلزمه أن يتم، فإذا كان خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة التلبس بالصلاة في الحضر في وجوب إتمامها، فكذلك خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزله تلبسه بالمسح في الحضر.(1/151)
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: له أن يمسح مسح مسافر. وهو الصحيح؛ لأنه سافر قبل التلبس بالمسح، فكان له أن يمسح مسح مسافر، كما لو سافر قبل خروج وقت الصلاة. ويخالف الصلاة، فإنه يأتي بها بعد الوقت قضاء، والمسح يأتي به أداء في وقته.
وإن أحدث في الحضر ومسح، ثم سافر، أتم مسح مقيم لا غير، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (له أن يمسح مسح مسافر) .
دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا تلبس بها في الحضر، ثم سافر كان الاعتبار بحكم الحضر، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر.
وإن أحدث في السفر ومسح، ثم أقام، أتم مسح مقيم لا غير، فإن أقام بعد استكمال مدة مسح المقيم، نزع الخفين. وإن أقام قبل استكماله، كان له أن يتم مسح مقيم لا غير.
وقال المزني: يمسح ثلث ما بقي له من المدة من حين الإقامة.
دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر، كالصلاة.
[فرع: نية الإقامة في الصلاة]
] : قال في " الأم " [1/30] : (ولو مسح المسافر يوما وليلة، ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة في الصلاة، بطلت صلاته) ؛ لأنه قد استكمل مسح المقيم، فإذا نوى الإقامة بطل مسحه، فبطلت صلاته.
[فرع: الشك في ابتداء المسح]
] : وإذا سافر، ثم شك: هل ابتدأ المسح في السفر، أو في الحضر؟
بنى الأمر على أنه بدأ في الحضر؛ لتكون طهارته صحيحة بيقين، ولا يجوز له(1/152)
المسح بعد ذلك؛ لأنه شك في إباحته. فإن ذكر بعد ذلك أنه كان ابتداء المسح في السفر، أتم مسح مسافر.
فإن صلى بالمسح بعد يوم وليلة مع شكه، ثم تيقن بعد ذلك أن ابتداء المسح كان في السفر، لزمه إعادة ما صلى بالشك؛ لأنه صلاها وهو يعتقد أنه على غير طهارة، فلم يصح.
وإن شك: هل كان حدثه وقت الظهر أو وقت العصر؟
بنى الأمر على أنه كان حدثه وقت الظهر؛ ليرجع إلى اليقين.
[فرع: لا يمسح في مدة الشك]
] : قال الشافعي رحمة الله: (فإن تيقن أنه صلى بالمسح ثلاث صلوات، وشك: هل صلى الرابعة أم لا؟ أعاد الرابعة، وأخذ في المسح بالأكثر) .
وصورتها: أن يتيقن لابس الخف: أنه صلى العصر والمغرب والعشاء بطهارة المسح، وشك: هل أحدث وقت الظهر، وتوضأ للظهر ومسح وصلاها أم أغفلها ولم يصلها؟
فإن عليه إعادة الظهر؛ لأنه شك: هل صلاها أم لا؟ والأصل: أنه ما صلاها حتى يعلم أنه صلاها بيقين.
وأما المسح: فإنه يحتسب على أنه أحدث في وقت الظهر، فيكون له المسح إلى مثله من الغد، لأن هذا يقين، وما ذاد عليه شك: هل له فيه المسح أم لا؟ والأصل: أنه لا مسح حتى يعلم جوازه.
[مسألة: وصف خف المسح]
] : ويجوز المسح على كل خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، وهو: التردد عليه لحوائجه، سواء كان من جلد، أو لبد ثخين، أو خرق طبق بعضها فوق بعض، لأن الحاجة تدعو إلى لبسه.(1/153)
قال الطبري: فإن لبس خفًا من زجاج، جاز المسح عليه، وإن بدا منه لون الرجل، وليس كمن يستر عورته بشيء من الزجاج يبدو منه لون العورة، فإنه لا يصح؛ لأن القصد ستر العورة، وأن لا تراها أعين الناس، وذلك لا يحصل في الزجاج. والقصد في الخف: لبس ما يمكن متابعة المشي عليه، وذلك يمكن في الزجاج.
قال الجويني: الواجب في الخف ستر الرجل مع الكعب من الجوانب، ومن أسفلها، ولا يجب سترها من أعلاها؛ لأن ذلك يتعذر، والواجب في العورة سترها من أعلاها ومن الجوانب لا من أسفل؛ لأن ذلك يتعذر.
وإن لبس خفًا لا يمكنه التردد عليه في حوائجه، إما: لرقته، أو لثقله، لم يجز المسح عليه؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.
[فرع: المسح على الخف المخرق]
] : وهل يجوز المسح على الخف المخرق؟ ينظر فيه:
فإن كان الخرق فوق الكعب.. جاز المسح عليه، لأن عدم ساق الخف لا يمنع من جواز المسح على الخف، فكذلك خرقه.
وإن كان الخرق في محل الفرض، فإن كان الخرق يمنع متابعة المشي عليه، لم يجز المسح عليه، لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.
وإن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يجوز) لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فأشبه الصحيح.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وهو الصحيح، لأن ما بدا من الرجل فحكمه حكم الغسل، وما استتر، حكمه حكم المسح، والجمع بينهما لا يجوز، كما لو بدت إحدى الرجلين، واستترت الأخرى.(1/154)
وقال مالك: (إن كبر الخرق وتفاحش، لم يجز المسح عليه، وإن كان دون ذلك، جاز المسح عليه) .
وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القديم، والأول حكاه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ.
وقال أبو حنيفة: (إن تخرق قدر ثلاثة أصابع، لم يجز المسح عليه، وإن كان دونها، جاز المسح عليه، لأن الثلاث أكثر أصابع اليد) .
دليلنا: أنه خف غير ساتر لجميع قدميه، فلم يجز المسح عليه، كما لو تخرق منه قدر ثلاثة أصابع.
وإن بقي في الخف مخارق الإشفى ومنافذ الإبر، فإن لم يبن شيء من الرجل، أو اللفافة، جاز المسح عليه، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن كان يبين شيء من محل الفرض من الرجل، أو من اللفافة عليها، قال صاحب " الفروع ": لم يجز المسح عليه.
قلت: وهذا إنما يكون على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيجوز إذا كان يمكن متابعة المشي عليه.
[فرع: خرق الظهارة]
فرع: [في خرق الظهارة] : قال في " الأم " [1/29] : (وإن تخرقت ظهارة الخف وبقيت بطانته، جاز المسح عليه) .
قال أصحابنا: أراد: إذا كانت البطانة صفيقة يمكن متابعة المشي عليها، فأما إذا كانت رقيقة بحيث لا يمكن متابعة المشي عليها، فإن المسح عليها لا يجوز.
وقال في " الأم " [1/31] : (وإن كان في الخف شرج ـ بفتح الراء وبعده جيم ـ العرى، فوق الكعب، لم يمنع جواز المسح عليه، وإن كان الشرج تحت الكعب،(1/155)
فإن كان محلولا، لم يجز المسح على الخف، سواء بانت منه الرجل، أو لم تبن، لأنه إذا مشى بانت منه الرجل، وإن كان مشدودًا، فإن كان في الشد خلل، بحيث إذا مشى بان شيء من الرجل أو اللفافة، لم يجز المسح عليه، وإن لم يكن فيه خلل، جاز المسح عليه) .
[فرع: المسح على الجورب]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يمسح على جوربين، إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين، حتى يقوم مقام الخف) .
قال أصحابنا: والجوارب على ضربين:
فـ[الأول] : منه ما يمكن متابعة المشي عليه، بأن يكون ساترًا لمحل الفرض صفيقًا، ويكون له نعل، فيجوز المسح عليه.(1/156)
قال ابن الصباغ: فأما تجليد القدمين: فليس بشرط، إلا أن يكون الجورب رقيقًا.. فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته، وإنما ذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التجليد لأن الغالب من الجوارب الرقة.
و [الثاني] : إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه.
هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: (يجوز المسح على الجورب الصفيق، وإن لم يكن له نعل) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وداود.
دليلنا: أنه لا يمكن متابعة المشي عليه، فلم يجز المسح عليه، كالرقيق.
[فرع: لبس الجرموق]
] : وإن لبس الجرموق فوق الخف، قال صاحب " المذهب ": وهو خف كبير فوق خف صغير ـ فإن كان الأسفل مخرقًا والأعلى صحيحًا، جاز المسح على الأعلى، لأن الأسفل بمنزلة اللفافة تحت الخف.
وإن كان الأعلى مخرقًا، والأسفل صحيحًا.. لم يجز المسح على الأعلى؛ لأن الأعلى بمنزله اللفافة فوق الخف.
وإن كانا صحيحين بحيث إذا انفرد كل واحد منهما، جاز المسح عليه، فهل يجوز المسح على الأعلى؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم، و " الإملاء ": (يجوز المسح عليه) ، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والمزني، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الموق» .(1/157)
و (الموق) : الجرموق، ولأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كالمنفرد.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز المسح عليه) وبه قال مالك، وهو الصحيح، لأن حاجة عامة الناس لا تدعو إلى لبسهما، وإنما تدعو إليها حاجة خواص الناس، في مواضع مخصوصة، وهي: المواضع التي يكثر فيها المطر والوحل، والبرد الشديد، فلم تتعلق به رخصة عامة، كما لو لبس جبيرة فوق جبيرة، فإنه لا يجوز المسح على العليا.
وأما الخبر: فالمراد به الخف المنفرد، ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبس الجرموق. فإذا قلنا: يجوز المسح على الجرموق، فعن ماذا يكون بدلا؟
فيه ثلاثة أوجه، خرجها أبو العباس ابن سريج:
أحدها: يكون بدلا عن الخف، والخف يكون بدلا عن الرجل.
والثاني: يكون الجرموق بدلا من الخف، ويكون الخف بدلا من اللفافة.
والثالث: أن الجرموق بمنزلة طاقات الخف، وتأتي فوائد ذلك.
فإن لبس الجرموق في رجل واحدة، فهل يجوز المسح عليه؟
على القول القديم، فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\39] .
[فرع: المسح على الخف تحت الجرموق]
] : فإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموق، فأدخل يده في ساقه، ومسح على الخف، فهل يصح؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (نزع(1/158)
الجرموقين، ومسح على الخفين) ؛ ولأن الخف بدل ضعيف، فلم يجز مسحه مع استتاره.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، واختاره ابن الصباغ، كما لو أدخل يده تحت العمامة، ومسح على الرأس، ولأنه لو غسل رجله، وهي في الخف، صح، فكذلك إذا مسح على الخف، وهو في الجرموق، وما ذكره الشافعي، فليس ذلك على سبيل الشرط.
وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فهل له أن يدخل يده في ساقه ويمسح على الخف؟ قال القاضي أبو الطيب: يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يجوز، لأنه إذا جاز المسح على الظاهر، لم يجز المسح على الباطن، كما لو أدخل يده في الخف ومسح على الجلد الذي يلي رجله.
والثاني: يجوز المسح ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فجاز المسح على ما شاء منهما، كما لو مسح بشرة الرأس تحت الشعر.
[فرع: الجبيرة تحت الخف]
] : وإن احتاج إلى وضع الجبيرة على رجليه فوضعها، ثم لبس فوقها الخف، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه لا يجوز، لأنه ملبوس فوق ممسوح، فلم يجز المسح عليه، كالعمامة.
والثاني: يجوز. وبه قال أبو حنيفة، لأنه خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كما لو لبسه على رجليه ولا جبيرة عليهما.
فإن لبس الخف في إحدى الرجلين، والأخرى مريضة لا يجب غسلها، لم يجز المسح على الخف في الرجل الصحيحة.
إن قطعت إحدى الرجلين، جاز أن يلبس الخف في الرجل الباقية، ويمسح(1/159)
عليه إذا لم يبق من محل الفرض المقطوع شيء، وإن بقى شيء من محل الفرض، لم يجز المسح حتى يخففهما، لأن الرخصة إنما تتعلق بلبس الخفين في الرجلين مع وجودهما، لا يلبسه في إحداهما.
[فرع: المسح على الخف المغصوب]
] : وإن لبس خفًا مغصوبًا، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] قال ابن القاص: لا يجوز، لأن لبسه معصية، فلم يجز المسح عليه، كما لو لبس خفًا من جلد كلب.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأنه خف طاهر يمكن متابعة المشي عليه، فهو كما لو كان ملكه.
وأما المعصية: فلا تختص باللبس، فلم تمنع صحة العبادة، كالصلاة في الدار المغصوبة، ويخالف الخف من جلد الكلب، لأن المعصية هنالك لمعنى في الخف، فهو كالصلاة في ثوب نجس.
[مسألة: الطهارة شرط لمسح الخف]
] : ولا يجوز المسح على الخف، إلا أن يلبسه على طهارة كاملة.
فإن غسل إحدى الرجلين، وأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل الأخرى، وأدخلها في الخف، لم يجز المسح حتى ينزع الخف الذي لبسه قبل كمال الطهارة.
وهل يشترط نزع خف الرجل الأخرى فيه وجهان:
الصحيح: أنه لا يشترط، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو ثور، وداود: (يجوز المسح) .(1/160)
دليلنا: ما روى أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، إذا تطهر، فلبس خفيه أن يمسح عليهما» . وهذا يقتضي تقدم الطهارة على اللبس.
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، فأهويت لأنزع خفية، فقال: " دعهما، فإني لبستهما وهما طاهرتان» ، ومسح عليهما. فعلل بأنه لبس خفيه، ورجلاه طاهرتان، فعلم أن المسح يتعلق بهذا التعليل.
[فرع: يشترط لبس الجرموقين على طهارة]
] : وإن لبس الخفين على طهارة، ثم لبس الجرموقين عليهما من غير حدث بينهما، وقلنا: يجوز المسح عليهما، جاز المسح هاهنا عليهما.
وإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث، ثم لبس الجرموقين قبل المسح، لم يجز المسح عليهما قولا واحدًا؛ لأنه لبسهما على حدث.
وإن لبس الخفين على طهارة، فأحدث، ومسح عليهما، ثم لبس الجرموقين، فهل يجوز المسح عليهما هاهنا؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المسح على الخف هل يرفع الحدث؟
فإن قلنا: إنه يرفع الحدث، جاز المسح هاهنا. وإن قلنا: لا يرفع الحدث، لم يجز المسح هاهنا.(1/161)
[مسألة: لبس المستحاضة ونحوها الخف]
] : إذا دخل على المستحاضة وقت الصلاة المفروضة، فتوضأت، لبست الخفين، وصلت تلك الفريضة، جاز لها أن تصلي بتلك الطهارة ما شاءت من النوافل. فإن أحدثت بغائط أو بول أو نوم بعد أداء الفريضة، جاز لها أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به ما شاءت من النوافل. فإن دخل عليها وقت الفريضة الثانية، فأرادت أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة الثانية، لم يكن لها ذلك.
والفرق بين النافلة والفريضة الثانية: أنها حين توضأت للفريضة الأولى، استباحت بذلك الوضوء الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فكانت في حكم الطاهرات في حق الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فلذلك: استباحت النافلة بالمسح، ولا تستبيح أن تصلي بالطهارة الأولى الفريضة الثانية، فكانت في حكمها محدثة، فكذلك لم تستبحها بطهارة المسح.
وأما إذا توضأت للفريضة الأولى بعد دخول وقتها، ولبست الخفين، فقبل أن تصليها طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، كالغائط والبول والنوم والمس واللمس، فلها أن تتوضأ وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، ولا تصلي به فريضة أخرى.
وقال زفر: لها أن تصلي به يومًا وليلة.
دليلنا: أن الطهارة التي لبست عليها الخفين لا تستبيح بها أكثر من فريضة واحدة، فلم تستبح بالمسح عليها أكثر منها، وإنما استباحت تلك الفريضة؛ لأنها كانت في حقها حين لبست الخف في حكم الطاهرات.
فإن انقطع دمها قبل أن تصلي تلك الفريضة، أو بعد ما صلتها وقبل أن تصلي النوافل، بطلت طهارتها، ووجب عليها نزع الخفين، واستئناف الطهارة؛ لأنها طهارة ضرورية، فإذا زالت الضرورة قبل التلبس بالصلاة، بطلت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.(1/162)
وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق\39] : إذا توضأت للفريضة، ولبست الخفين قبل أن تصليها، طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، فهل لها أن تمسح على الخف لهذه الفريضة؟ فيه وجهان، بناء على أن طهارة المستحاضة: هل ترفع الحدث السابق؟
فإن قلنا: ترفعه، استباحتها بطهارة المسح. وإن قلنا: لا ترفعه، لم تستبحها بطهارة المسح.
وإن تيمم للفريضة لعدم الماء، ولبس الخفين، ثم وجد الماء قبل الصلاة، ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يجوز له أن يتوضأ ويمسح على الخفين، ويصلي به فريضة، كما قلنا في المستحاضة.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز المسح على الخفين) ؛ لأنه لبسهما من غير غسل الرجلين؛ ولأن برؤيته للماء، بطل التيمم، فصار كالمستحاضة إذا انقطع دمها.
[مسألة: هيئة مسح الخف]
] : وإذا أراد أن يمسح على الخف، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه) . وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، وابن المبارك.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد: (المستحب: أن يمسح أعلى الخف، دون أسفلة) . وروي ذلك عن أنس، وجابر.(1/163)
دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة: قال: «وضأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخف وأسفله» ؛ ولأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فكان المسح عليه مسنونًا كأعلى الخف.
[فرع: ما يسن مسحه من الخف]
] : وهل يسن له أن يمسح على عقب الخف، وهو: الموضع الصقيل؟
ظاهر ما نقله المزني: أنه يسن له ذلك. وقال القاضي أبو حامد: نص الشافعي في " البويطي ": أنه يمسح على العقب.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: لا يسن له أن يمسح عليه؛ لأنه موضع صقيل يضر به المسح.
والثاني: يمسح عليه، وهو الأصح؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض؛ فهو كأعلاه.
ومنهم من قال: يمسح عليه قولا واحدًا؛ لما ذكرناه. وما نقله المزني، يحتمل أن يريد به: أن يضع باطن أصابع يده اليسرى تحت عقب الخف، فتكون راحته على عقبه.(1/164)
[فرع: ما يكفي من المسح]
] : وكيفما أتى بالمسح على الخف، أجزأه، سواء كان بيده، أو ببعضها، أو بخشبة، أو بخرقة. وسواء مسح قليلا أو كثيرًا فإنه يجزئه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه، إلا أن يمسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع) ، فقدر الممسوح وعين الممسوح به، حتى إن عنده: لو مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة لم يجزئه.
وقال زفر: إذا مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة أجزأه، وقال أحمد: (لا يجزئه، إلا أن يسمح أكثر القدم) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلة» ، ولم يفرق.
فإن أصاب الخف بلل المطر، أو نضح عليه الماء، قال الشيخ أبو نصر: فليس للشافعي فيه نص، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا يجزئه عن المسح.
وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه ذلك عن المسح.
وقال إسحاق: إن نوى به المسح، أجزأه.
وقال أهل الرأي: إذا خاض الماء، وأصاب ظاهر الخف، أجزأه.(1/165)
واحتج الشيخ أبو نصر: بأن ما فرضه المسح لم يجز فيه الغسل، كمسح الرأس.
وعندي: أنها على وجهين، كما ذكر أصحابنا فيمن غسل رأسه مكان المسح.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن اقتصر على مسح القليل من أعلى قدم الخف، أجزأه؛ لأنه يقع عليه اسم المسح.
وإن اقتصر على مسح القليل من أسفله، ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجزئه؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فهو كأعلى الخف.
و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجزئه، وهو المنصوص؛ لأنه موضع لا يرى من الخف غالبًا، فلم يجز الاقتصار عليه، كمسح باطن الخف الذي يلي الرجل.
وإن اقتصر على مسح القليل من عقب الخف فهل يجزئه؟
من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، جاز الاقتصار عليه.
وإن قلنا: ليس بمحل لمسنون المسح فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان.
وقال الشاشي: بل هو بالعكس، فإن قلنا: إنه ليس بمحل لمسنون المسح، لم يجز الاقتصار عليه وجهًا واحدًا، كساق الخف.
وإن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان، كأسفله.
[مسألة: انقضاء مدة المسح]
] : إذا انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح، أو خلع خفه في أثناء المدة وهو على طهارة المسح، لم يجز له أن يصلي بتلك الطهارة.
وقال الحسن البصري: لا يبطل المسح، ويجوز له أن يصلي إلى أن يحدث، فإذا أحدث، لم يمسح.(1/166)
وقال داود: (يجب عليه نزع الخفين، إذا انقضت مدة المسح، ولا يصلي فيهما، فإذا نزعهما، صلى بطهارته إلى أن يحدث) .
دليلنا: أنها طهارة انتهت إلى حال لا يجوز ابتداؤها فلم يجز استدامتها، كالتيمم إذا رأى الماء.
وما الذي يصنع في الطهارة؟
قال الشافعي في موضع: (يعيد الوضوء) ، وقال في موضع: (يجزئه غسل رجليه) .
واختلف أصحابنا: على أي أصل بناها الشافعي؟
فقال أبو إسحاق: بناها على القولين في تفريق الوضوء:
فإن قلنا: يجوز التفريق، كفاه غسل الرجلين.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق، فعليه استئناف الوضوء.
ومنهم من قال: بناها على هذا، لأنه ذكر في " الأم " [1/31] ، وفي (كتاب ابن أبي ليلى) : (أنه يستأنف الوضوء) . ومذهبه فيهما: أن تفريق الوضوء جائز، وإنما بناها على أن مسح الخف هل يرفع الحدث عن الرجلين؟ وفيه قولان:
[الأول] : فإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث كفاه غسل الرجلين.
و [الثاني] : إن قلنا: إنه يرفعه لزمه استئناف الطهارة، لأن نزع الخف ينقض الطهارة في الرجلين، فإذا انتقضت الطهارة في بعض الأعضاء، انتقضت في جميعها.
ووجه قوله: (إنه لا يرفع الحدث) : أنه مسح، فلم يرفع الحدث كالتيمم.
ووجه قوله: (إنه يرفع الحدث) : أنه مسح بالماء، فرفع الحدث، كمسح الرأس.
ومنهم من قال: القولان أصل بأنفسهما، غير مبنيين على غيرهما، وهو اختيار ابن الصباغ:(1/167)
أحدهما: يلزمه استئناف الطهارة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لأن الطهارة لما بطلت في الرجلين، بطلت في جميع الأعضاء، لأنها لا تتبعض، كما لو أحدث.
والثاني: يكفيه غسل الرجلين. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، والمزني، لأن مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة، فظهورهما، يبطل به ما ناب عنهما دون غيرهما، كما يبطل التيمم برؤية الماء.
[فرع: لا يمسح قبل استقرار القدم في الخف]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " [1/28] : (إذا أكمل الوضوء، ثم أدخل إحدى الرجلين في الخف، ثم أدخل الرجل الأخرى في ساق الخف، فقبل أن تستقر الرجل في قدم الخف أحدث، لم يكن له أن يمسح، لأنه لا يكون متخففًا حتى تقر قدمه في قدم الخف) .
وإن أخرج رجله من قدم الخف إلى ساق الخف، ولم يبن شيء من محل الفرض فنص الشافعي في " الأم " [1/31] ، والقديم: (أن المسح لا يبطل) .
وقال القاضي أبو حامد: يبطل المسح. وهو اختيار القاضي أبو الطيب، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وإسحاق، لأن استقرار الرجل في الخف شرط في جواز المسح، فإذا تغير بطل، كما لو أحدث قبل أن تستقر في الخف.
فإذا قلنا بالأول فالفرق بين ابتداء اللبس وبين استدامته: أن في الابتداء يستبيح به المسح، فلم يستبحه إلا بلبس تام، وليس كذلك في الاستدامة؛ فإنه مستبيح للمسح، فلا يزول إلا بنزع تام.(1/168)
فإن كان الخف طويلا خارجًا عن العادة، فأخرج رجليه إلى موضع لو كان عليه الخف المعتاد، لبان شيء من محل الفرض، بطل مسحه.
[فرع: حكم الجرموق في المدة]
] : وإن مسح على الجرموقين، وقلنا: يجوز المسح عليهما، ثم نزعهما في أثناء المدة، فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من الرجل، فله أن يمسح على الخفين. وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ فيه قولان.
وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة نزع الخف أيضًا، وهل يلزمه استئناف الطهارة، أو يقتصر على غسل الرجلين؟ فيه قولان.
وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع الجرموق هاهنا.
وإن نزع الجرموق من إحدى الرجلين:
فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل عن الرجل، بنى على أحد الوجهين: هل له أن يمسح الجرموق في إحدى الرجلين؟
فإن قلنا: له ذلك، كان له هاهنا أن يمسح على الجرموق الآخر، وعلى الخف في الرجل الأخرى.
وإن قلنا: ليس له ذلك نزع الجرموق الآخر، ومسح على الخفين.
وهل يستأنف الطهارة، أو يقتصر على المسح؟ على قولين.
وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة، نزع الخف من الرجل التي بقي عليها، ونزع الجرموق والخف من الرجل الأخرى، وغسل الرجلين.
وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ على قولين.
وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع هذه الجرموق.
والله أعلم، وبالله التوفيق.(1/169)
[باب الأحداث التي تنقض الوضوء] [مسألة: الخارج من السبيلين]
وهي أربعة: الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل بنوم أو جنون أو إغماء، ولمس النساء، ومس الفرج.
فأما الخارج من السبيلين: فضربان: معتاد ونادر.
فأما المعتاد فهو: الغائط، والبول، والريح، والصوت، والمذي، والودي، فجيمع ذلك ينقض الضوء.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6) .
وأصل الغائط: الموضع المطمئن من الأرض، وسمي ما يخرج من الإنسان: غائطًا؛ لأن العادة أن من يريد إخراج ذلك، يتحرى الموضع المطمئن من الأرض، فسمي الخارج باسم ذلك الموضع.
ومن السُنَّة: ما روي عن صفوان بن عسال المرادي: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/170)
يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو: سفرًا ـ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا» .
والدليل على أن الريح والصوت ينقضان الوضوء: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان في جماعة، فشم ريحًا، فقال: (عزمت على من خرج منه هذا أن يقوم ويتوضأ، فقال العباس بن عبد المطلب: كلنا نقوم ونتوضأ، فقاموا وتوضؤوا) فدل على أنهم مجمعون على ذلك.
والدليل على أن المذي ينقض الوضوء: ما روي «عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنما يكفيك أن تنضح الماء على فرجك، وتتوضأ للصلاة» .(1/171)
وأما النادر فهو: كالحصى، والدود، وسلس البول، ودم الاستحاضة، وهو ينقض الوضوء عندنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال ربيعة: لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك،
وقال مالك: (لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك، إلا دم الاستحاضة) .
وقال داود: (لا ينتقض الوضوء إلا بالدود والدم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ، ولم يفرق بين أن يخرج معتادًا أو غير معتادٍ، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فأشبه البول والغائط.
قال الصيمري: وأما دم البواسير: فإنه لا ينتقض الوضوء بخروجه، لأنه ليس من نفس الجوف، إلا أن يكون من باسور باطن، فينقض الوضوء.
قال في " الأم " [1/14] : (إذا خرج ريح من فرج المرأة، أو ذكر الرجل فإنه ينقض الوضوء) .
وقال أبو حنيفة: (لا ينقض الوضوء) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» ، ولم يفرق، ولأنه أحد السبيلين، فانتقض الوضوء بالريح الخارج منه كالدبر.
وكذلك إذا أدخل في فرجه مسبارًا ـ وهو الميل ـ أو قطنًا فخرج منه، أو صب فيه ماء فخرج منه، انتقض الوضوء، لأنه خارج من مخرج الحدث، فهو كالغائط والبول.
قال الشاشي: وإن أطلعت دودة رأسها من أحد السبيلين، ثم رجعت فهل ينتقض الوضوء؟ فيه وجهان.(1/172)
[فرع: انسداد المخرج المعتاد]
فرع: [انسداد المخرج] : فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح له مخرج من بدنه، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة انتقض الوضوء بالخارج منه، لأن الله تعالى أجرى العادة: أنه لا بد للإنسان من موضع يخرج منه الغائط والبول. فإذا اسند المعتاد وانفتح له موضع آخر كان ذلك بمنزلة الأصلي.
وإن كان المنفتح فوق المعدة ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض الوضوء بالخارج منه، للمعنى الذي ذكرناه، إذا كان دون المعدة.
والثاني: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأن ما فوق المعدة يكون الخارج منه قيئًا، و (الغائط) : ما أحالته المعدة ونزل عنها.
وإن لم ينسد المخرج الأصلي، وانفتح له موضع آخر فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط انسداد الموضع الأصلي؛ ولأن الأصلي إذا كان مفتوحًا كان هذا بمعنى الجائفة، فلم ينتقض الوضوء بالخارج منه.
والثاني: ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأنه مخرج يخرج منه البول والغائط، فهو كالمعتاد.(1/173)
وإن كان المنفتح فوق المعدة.. فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين، فيما لو انفتح له مخرج فوق المعدة مع انسداد المعتاد:
فإن قلنا هناك: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا أولى.
وإن قلنا هناك: ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا وجهان، كما لو انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح الأصلي.
وأما صاحب " المهذب " فذكر: أنه إذا انفتح له مخرج فوق المعدة، مع انفتاح الأصلي لم ينتقض الوضوء بالخارج منه، من غير تفصيل، ولعله بنى ذلك على الأصح.
[فرع: الخنثى المشكل إذا بال من فرجيه]
فرع: [الخنثى المشكل] : وأما الخنثى المشكل: إذا بال من فرجيه انتقض وضوؤه. وإن بال من أحدهما، ومن عادته أن يبول منهما في بعض الحالات فقد قال الشيخ أبو علي السنجي: ينتقض وضوؤه ببوله من أحدهما.
وقال القاضي أبو الفتوح: يبنى ذلك عندي على من انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي:
فإن قلنا في أحد القولين: إن وضوءه ينتقض بالخارج منه انتقض هاهنا.
وإن قلنا ثم: لا ينتقض فهاهنا مثله.
ولعل السنجي بناه على الأصح عنده.(1/174)
[مسألة: أحكام النوم]
] : وأما النوم: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: أن ينام زائلا عن مستوى الجلوس في غير الصلاة، بأن ينام مضطجعًا على جنبه، أو مستلقيًا على قفاه ـ قال الشيخ أبو حامد: وهو نوم الأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أو مكبوبًا على وجهه ـ قال: وهو نوم الشياطين ـ أو متكئًا على أحد جنبيه. أو مستندًا على حائط أو غيره، فينتقض وضوؤه في هذه الحالات، سواء تحقق خروج شيء منه، أو لم يتحقق، وهو قول عامة العلماء.
وقال أبو موسى الأشعري، وأبو مجلز، وحميد الأعرج، وعمرو بن دينار: (النوم لا ينقض الوضوء، حتى يتحقق خروج الخارج منه) . وبه قالت الشيعة الإمامية.
وقال مالك: (النوم اليسير في القعود لا ينقض، والكثير ينقض) .
وقال أبو حنيفة: (إذا نام على حالة من أحوال الصلاة في حال الاختيار: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا لم ينتقض وضوؤه وإن لم يكن في الصلاة. وإن نام مضطجعًا انتقض وضوؤه؛ لأنه لا يصلي مضطجعًا في حال الاختيار) . وبه قال داود.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\24 ـ 25] : وقد نقل البويطي مثل مذهب أبي حنيفة عن الشافعي، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر له، ومنهم من قال: غلط البويطي في النقل.
دليلنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .(1/175)
قال بعض أهل التفسير: أراد إذا قمتم من النوم، ولأن الآية وردت على سبب، وهو: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزاة، ففقدت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عقدها، فأقاموا يطلبونه، فناموا، فأصبحوا ولا ماء معهم، فجاء إليها أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: حبست القوم ولا ماء معهم؟! فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] » .
والخطاب إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب داخلا فيه، فكان النوم مضمرًا فيها. ويدل على أن النوم ينقض: حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أو نوم ".
وروى علي، ومعاوية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» .
و (السه) : حلقة الدبر.
قال الشاعر:
ادع فعيلا باسمها لا تنسه ... إن فعيلا هي صئبان السه(1/176)
وقال آخر:
شأتك قعين غثها وسمينها ... وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر
والضرب الثاني: أن ينام قاعدًا متمكنًا من القعود، متربعًا كان أو غير متربع، فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " البويطي ": (ينتقض وضوؤه) . وهو قول المزني، وإسحاق، وأبي عبيد، لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صفوان: " أو نوم "، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» . ولم يفرق؛ ولأن ما نقض الوضوء في غير حال القعود، نقضه في حال القعود، كسائر الأحداث.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا ينتقض وضوؤه؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام قاعدًا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء» . وهذا أخص من الخبرين الأولين، فقضى به عليهما.
وروى أنس: قال: «كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون العشاء، فينامون قعودًا، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون» . ومثل هذا لا يخفى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/177)
وإن نام جالسًا، ثم زال عن حالته، نظرت، فإن زالت أليتاه، أو إحداهما، قبل الانتباه بطلت طهارته. وإن انتبه بزوالهما لم تبطل طهارته. فإن تيقن النوم، وشك هل نام قاعدًا، أو زائلا عن مستوى الجلوس لم ينتقض وضوؤه؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة.
الضرب الثالث: إذا نام في حال الصلاة: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : روى الزعفراني: أن الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول ابن المبارك؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به ملائكته، يقول: عبدي روحه عندي، وجسده ساجد بين يدي» . فسماه: ساجدًا، فدل على أن وضوءه لم ينتقض.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ينتقض وضوؤه) . وهو الصحيح؛ لما ذكرناه في حديث علي، وصفوان بن عسال، ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس، فهو كما لو نام في غير الصلاة. وأما الخبر فالمقصود به: مدحه على الاجتهاد، ومكابرته النوم؛ لأن النائم لا يمدح على فعله.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فحد النوم الذي ينقض الوضوء: هو الذي يغلب على العقل، قليلا كان أو كثيرًا. فأما ما لا يغلب على العقل، مثل: طرق النعاس، وحديث النفس فلا ينقض الوضوء. فإن تيقن الرؤيا، وشك في(1/178)
النوم، انتقض وضوؤه؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في نوم. وإن خطر بباله شيء، فلم يدر أكان ذلك في حديث نفس، أو رؤيا؟ لم يلزمه الوضوء؛ لأن الأصل الطهارة، ولا يزول ذلك الأصل بالشك) .
[فرع: زوال العقل]
] : وأما زوال العقل بالجنون والإغماء فينقض الوضوء على أي حال كان؛ لأن حسه أبعد من حس النائم؛ لأن النائم إذا نبه انتبه.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/32 ـ 33] : وقد قيل: (ما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا، اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له أن يغتسل احتياطًا) .
قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: إن كان الغالب من المجنون الإنزال لزمه أن يغتسل بمجرد الجنون، كالنائم مضطجعًا. وإن لم يكن الغالب من حاله الإنزال لم يجب عليه الاغتسال، إلا أن يتحقق الإنزال، كما قلنا فيمن نام قاعدًا.
وأما من زال عقله بالسكر، فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يجب عليه الوضوء؛ لما ذكرناه في المجنون والمغمى عليه.
وقال المسعودي: [في " الإبانة ": ق\24] : لا يجب عليه الوضوء؛ لأنه كالصاحي في ظاهر المذهب، إلا أن يغشى عليه، فحينئذٍ يجبُ عليه الوضوء. وقال: وعلى هذين الوجهين: هل ينعزل وكيله؟
[مسألة: لمس الأنثى]
] : وأما لمس النساء: فإذا وقعت الملامسة بين رجل وامرأة ـ يحل له الاستمتاع بها بحال ـ بأي عضو كان من أبدانهما لا حائل بينهما، انتقض وضوء اللامس منهما،(1/179)
سواء كان بشهوة أو بغير شهوة. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر. والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا تنتقض الطهارة بذلك) . وبه قال ابن عباس، وعطاء، وطاووس، إلا أن أبا حنيفة، وأبا يوسف قالا: (إذا وطئها فيما دون الفرج وانتشر، انتقضت الطهارة، وكذلك إذا وضع فرجه على فرجها، وإن لم يولج) .
وقال مالك وإسحاق: (وإن لمسها بشهوة انتقض وضوؤه. وإن لمسها بغير شهوة لم ينتقض وضوؤه) .
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\25] : وخرج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولا مثل هذا من لمس ذوات المحارم؛ لأنه لا شهوة فيه.
وقال داود: (إن قصد لمسها، انتقض الوضوء. وإن لم يقصد، لم ينتقض) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وحقيقة اللمس: باليد، ولهذا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة» .
وقال الشاعر:
لمست بكفي كفه طلب الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي(1/180)
وإن لمسها من وراء حائل لم ينتقض الوضوء، سواء كان الحائل صفيقًا أو رقيقًا، بشهوة أم بغير شهوة.
وقال مالك: (إن لمسها بشهوة من وراء حائل رقيق انتقض وضوؤه، وإن كان صفيقًا لم ينتقض) .
وقال ربيعة: إذا لمسها بشهوة انتقض وضوؤه وإن كان بينهما حائل، سواء كان صفيقًا أو رقيقًا.
دليلنا: أن اللمس من وراء حائل لا يقع عليه اسم اللمس، ولهذا: لو حلف لا يلمسها، فلمسها من وراء حائل لم يحنث.
[فرع: بيان طهارة الملموس]
] : وإذا لمس أحدهما الآخر من غير حائل فهل ينتقض طهر الملموس؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] [النساء: 43] فخصهم بذلك.
«وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: افتقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة في الفراش، فظننت أنه قد ذهب إلى بعض نسائه، فقمت أطلبه، فوقعت يدي على أخمص قدمه، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: " أتاك شيطانك» . فلو انتقض طهره لقطع الصلاة.(1/181)
و (الأخمص) : الموضع المنخفض في باطن القدم.
والثاني: ينتقض وضوؤه؛ لأن ما نقض بالتقاء البشرتين استوى فيه اللامس والملموس، كالجماع.
وأما الخبر: فيحتمل أنها لمسته من وراء حائل.
وإن لمس شعرها أو ظفرها أو سنها فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا ينتقض الوضوء بذلك؛ لأنه لا يلتذ بمسه.
والخراسانيون قالوا: هو على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض وضوؤه لأنه لمس جزءًا منها.
وإن لمس يدًا مقطوعة من امرأة، لم ينتقض وضوؤه عند البغداديين من أصحابنا؛ لأنها بالانفصال زال عنها اسم النساء.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض، كما لو كانت متصلة.
وإن لمس امرأة لا يحل له الاستمتاع بها، بنسب أو رضاع ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض وضوؤه. وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق\25] ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وهذه من النساء.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنها ليست بمحل لشهوته، فهو كما لو لمس رجلا.
وإن لمس امرأة كانت حلالا له، ثم حرمت عليه على التأبيد، كأم زوجته، وربيبته، فقد اختلف أصحابنا فيه:(1/182)
فمنهم من قال: فيه قولان، كذوات المحارم.
ومنهم من قال: ينتقض وضوؤه قولا واحدًا؛ لأنها كانت تحل له، فهي كأم من وطئها بشبهة.
وإن لمس صغيرة لا تُشتهى، أو عجوزًا لا تُشتهى، فإن كانت أجنبية منه، قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا يحكون فيها قولين. قال: ولا أعرف للشافعي نصًا في هذا، ولكن أظنهم بنوا ذلك على القولين في ذوات المحارم. وأما الصغائر والعجائز من المحارم، فمبني على القولين في الكبار منهن.
فإن قلنا: لا ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن، فالصغار والعجائز منهن أولى.
وإن قلنا: ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن فهل ينتقض بلمس الصغائر منهن والعجائز؟ على قولين، كالصغائر والعجائز الأجنبيات.
[فرع: لمس الميتة]
] : وإن لمس امرأة ميتة، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تنتقض طهارته بذلك؛ لأن اللمس إذا نقض الوضوء استوى فيه الحي والميت، كما لو مس فرج ميت.
ومنهم من قال: فيه قولان، كلمس الصغائر والعجائز الأجنبيات. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الميتة لا تشتهى في العادة.
[فرع: لمس الخنثى المشكل]
] : وإن لمس الخنثى المشكل رجلا أو امرأة، أو خنثى مثله لم ينتقض وضوء أحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى على صفة من لامسه.
فإن لمس الخنثى رجلا وامرأة في حالة واحدة، أو في حالتين من غير أن يحدث بينهما وضوء، انتقض وضوؤه، ولم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لأنا نتيقن أنه لمس(1/183)
من ليس كمثله، ولم نتيقن في حق أحدهما أنه لمس من ليس كمثله.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا يجوز لهذه المرأة أن تأتم بهذا الرجل؛ لأن طهارة أحدهما منتقضة بيقين، فهما كالمجتهدين في إناءين: أحدهما طاهر، والآخر نجس.
وإن لمس الخنثى رجلا وخنثى، أو امرأة وخنثى، لم ينتقض وضوء واحد منهم؛ لجواز أن يكون اللامس مثل الملموس.
وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم لمس امرأة، فصلى العصر، قال القاضي: وجب عليه قضاء العصر دون الظهر؛ لأنا نتيقن أن طهره قد انتقض في العصر بيقين.
وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم جدد الطهارة، ثم لمس امرأة، ثم صلى العصر فلا يلزمه إعادة الظهر. وأما العصر:
فإن قلنا: إن تجديد الوضوء يرفع الحدث لم يلزمه إعادتها.
وإن قلنا: لا يرفع الحدث لزمه إعادتها.
[مسألة: مس الفرج]
] : وأما مس الفرج: فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب الشافعي إلى: (أن الرجل إذا مس ذكره ببطن كفه، أو مست المرأة فرجها ببطن كفها، انتقض وضوؤهما بذلك) . وهو قول عمر، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس. وبه قال عطاء، وابن المسيب، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والزهري، ومجاهد. وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (ينتقض وضوء الرجل، ولا ينتقض وضوء المرأة) .
وذهبت طائفة إلى: (أنه لا ينتقض الوضوء بذلك) . ذهب إليه علي، وابن مسعود،(1/184)
وعمار بن ياسر، والحسن البصري، وربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال جابر بن زيد: إن تعمد مسه انتقض وضوؤه، وإن لم يتعمد مسه لم ينتقض وضوؤه.
دليلنا: ما روت بسرة بنت صفون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون ". قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بأبي وأمي، هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: " إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ» .
ورواه بضعة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعمل به أصحاب الحديث.
[فرع: أي مس ينقض الطهارة]
؟] : وإن مس فرجه بظهر كفه، أو ساعده لم ينتقض وضوؤه.(1/185)
وقال عطاء، والأوزاعي: ينتقض.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» .
و (الإفضاء) ـ عند أهل اللغة ـ: بباطن الكف، تقول العرب: أفضيت بيدي مبايعًا، وأفضيت بيدي ساجدًا.
وإن مسه بحرف يده، أو بما بين الأصابع، أو برؤوس الأصابع، ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أنه لا ينتقض لأنه ليس بآلة لمسه، فهو كما لو مس بظهر الكف.
والثاني: ينتقض؛ لأن خلقته كخلقة الباطن.
وإن كان له أصبع زائدة، أو كف زائدة في محل الفرض، فمس الفرج بباطنها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن الخبر ورد في المس، وذلك ينصرف إلى اليد المعهودة، وهي الأصلية.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه ينتقض؛ لأن الزائدة تدخل في اسم اليد، ولهذا يجب غسلها في الوضوء مع الأصلية.(1/186)
[فرع: من له ذكران]
] : وإن خلق له ذكران، فمس أحدهما قال المسعودي [في " الإبانة " ق\25 ـ 26] : فإن كانا عاملين انتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر. وإن كان أحدهما غير عامل، فمس غير العامل لم ينتقض وضوؤه.
وإن مس ذكرًا مسدودًا لا يخرج منه مني، ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أصحهما: أنه ينتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأنه لا يخرج منه مني، فهو كسائر الأعضاء. وهذا يبطل بذكر الصبي والعنين.
[فرع: مس حلقة الدبر]
] : وإن مس حلقة دبره، أو دبر غيره انتقض وضوؤه.
وحكى ابن القاص: أن الشافعي قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول مالك، وداود؛ لأنه لا يقصد إلى مسه بشهوة.
قال أصحابنا: لم يوجد هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قديم ولا جديد.
والدليل على أنه ينقض: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل مس فرجه، فليتوضأ» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والدبر في معنى الفرج، فوجب أن يقاس عليه) .
قال ابن الصباغ: وإن مس بذكره دبر غيره انتقض وضوؤه؛ لأنه آلة مسه.
مس المخرج غير الأصلي(1/187)
فرع: [مس المخرج غير الأصلي] : وإن انفتح له مخرج غير الأصلي فهل ينتقض الوضوء بمسه؟
كل موضع قلنا: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه، لم ينتقض الوضوء بمسه.
وكل موضع قلنا: ينتقض الوضوء بالخارج منه، فهل ينتقض الوضوء بمسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينتقض الوضوء بمسه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الفرج.
والثاني: ينتقض؛ لأنه مخرج ينتقض الوضوء بالخارج منه، فأشبه الأصلي.
وهكذا الوجهان: في وجوب الغسل من الإيلاج فيه، وفي جواز استنجائه منه بالأحجار، وفي وجوب ستره من الرجل إذا كان فوق السرة، وفي وجوب المهر بالإيلاج فيه، وفي حصول الإحلال بالإيلاج فيه.
[فرع: انتقاض الوضوء بمس الفرج]
] : وإن مس فرج غيره من كبير، أو صغير، أو حي، أو ميت، انتقض وضوء الماس.
وقال داود: (لا ينتقض وضوؤه بمس ذلك من غيره) .
وقال الزهري، والأوزاعي، ومالك: (لا ينتقض الوضوء بمس ذلك من الصغير) .
وقال إسحاق بن راهويه: لا ينتقض بمس ذلك من ميت.
دليلنا: ما روي في بعض ألفاظ حديث بسرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فعليه الوضوء» ، ولأنه مس فرج آدمي متصل به، فانتقض وضوؤه، كما(1/188)
لو مس ذلك بنفسه، ولأنه إذا انتقض وضوؤه بمسه ذلك من نفسه، ولم يهتك به حرمة، فلأن ينتقض بمسه لذلك من غيره، وقد هتك به حرمة ذلك الغير أولى.
وهل ينتقض وضوء الممسوس؟
من أصحابنا الخراسانيين من قال: فيه قولان، كالملموس.
وأكثرهم قالوا: لا ينتقض وضوؤه قولا واحدًا. وهو الأصح؛ لأنه علق الطهارة على المماسة، ولم تحصل هاهنا إلا من واحد، بخلاف الملامسة، فإنها تحصل بين اثنين، وإن كانت من واحد.
وإن مس ذكرًا مقطوعًا ففيه وجهان:
أحدهما: ينتقض وضوؤه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مس الذكر فعليه الوضوء» . ولأنه يقع عليه اسم الذكر، وإن كان مقطوعًا.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن المقطوع لا يقصد مسه في العادة، فهو كما لو مسه بظهر كفه.
[فرع: مس الخصيتين]
] : وإن مس أنثييه، وأليته، أو عانته لم ينتقض وضوؤه.
وحكي عن عروة بن الزبير: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفضى منكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» . فخص الذكر بذلك، ولأنه مس من بدنه غير السبيلين، فلم ينتقض وضوؤه، كما لو مس فخذه.
وإن مس فرج بهيمة لم ينتقض وضوؤه.
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) . وهو قول(1/189)
الليث؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس الفرج الوضوء» ووجه القول المشهور: أنه لما لم ينتقض الوضوء بمس الأنثى من البهائم، لم ينتقض بمس فرج البهيمة، ولأن البهيمة لا حرمة لها، ولا تعبد عليها.
وأما الخبر: فلا يعرف هذا اللفظ فيه، وإن صح فإن إطلاق ذلك لا ينصرف إلى البهيمة.
[فرع: مس الخنثى أحد فرجيه]
] : وأما الخنثى المشكل: إذا مس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة.
فإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم مس الآخر، وصلى العصر، لزمه إعادة العصر دون صلاة الظهر؛ لأن بمسه الثاني انتقضت طهارته بيقين.
وإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم توضأ، ومس الثاني، وصلى العصر ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\26] :
أحدهما: يلزمه إعادة الصلاتين؛ لأنه قد صلى إحداهما بغير طهارة بيقين، فإذا أشكل عينها لزمه إعادتهما، كما لو نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا يلزمه قضاء واحدة منها؛ لأنهما حادثتان لم يتعين الخطأ في واحدة منهما، فهما كرجلين قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فنسائي طوالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فنسائي طوالق، فطار ولم يعرف فإنه لا يطلق نساء واحد منهما.
وإن مس الخنثى ببطن كفه ذكر رجل، أو فرج امرأة انتقض وضوء الخنثى، سواء كان الممسوس أجنبيًا منه، أو من ذوي محارمه؛ لأنه قد وجد منه المس لا اللمس. ولا ينتقض وضوء الممسوس؛ لجواز أن يكون الخنثى مثل من مسه.
وإن وضع الخنثى ذكره على فرج امرأة، أو دبرها، لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيه.(1/190)
[فرع: مس الخنثى]
] : وإن مس رجل ذكر خنثى مشكل انتقض وضوء الرجل؛ لأنه إن كان الخنثى رجلا فقد وجد المس، وإن كان امرأة فقد وجد اللمس. ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون رجلا.
وإن مس رجل فرج خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه.
وإن مست امرأة فرج خنثى انتقض وضوء المرأة؛ لأنه قد وجد: إما المس، وإما اللمس، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن تكون امرأة.
وإن مست امرأة ذكر خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيها.
وإن مس ماس فرجي الخنثى انتقض وضوء الماس؛ لأنه قد وجد مس الفرج الأصلي بيقين، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون كمن مسه.
وإن كان هناك خنثيان مشكلان، فمس أحدهما أحد فرجي الآخر لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكونا على صفة واحدة، والفرج الممسوس خلقة زائدة.
وإن مس هذا ذكر هذا، ومس هذا فرج هذا، فإنا لا نوجب الطهارة على أحدهما؛ لأنهما إن كانا رجلين، فقد انتقض وضوء ماس الذكر. وإن كانا امرأتين، انتقض وضوء ماس الفرج. وإن كان أحدهما رجلا، والآخر امرأة انتقض وضوؤهما.
فإذا احتمل هذه الاحتمالات فإنا نتيقن أن أحدهما قد انتقض طهره، ولكنا لا نعرفه بعينه، فلم نوجب على أحدهما الطهارة، وهذا مراد صاحب " المهذب " [1/23] بقوله: و (كذا) لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما، ولم نعرفه بعينه.(1/191)
[فرع: السهو كالعمد في النقض]
] : وما أوجب الطهارة فعمده وسهوه سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الطهارة من النوم، والنائم لا يحس بما يخرج منه، ولا يقصد إليه.
«وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، وكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فاستحييت أن أسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته مني، فسألت المقداد أن يسأله، فسأله، فقال: " ينضح فرجه بالماء، ويتوضأ» . وقال: «كل فحل مذاء» ، فأوجب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوضوء من المذي، وإن كان يخرج بغير اختياره.
[مسألة: أمور لا تنقض الوضوء]
] : وأما دم الفصد، والحجامة، والرعاف، والقيح، والقيء، فلا ينقض الوضوء، سواء كان قليلا أو كثيرًا.
وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وابن عباس، وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر بن زيد، وبه قال سعيد بن المسيب، ومكحول، وربيعة، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (كل نجس خرج من البدن فإنه ينقض الوضوء إذا سال. وإن وقف على رأس الجرح لم ينقض) . وقال في القيء: (إن ملأ الفم نقض(1/192)
الوضوء، وإن كان دونه لم ينقض) . وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وصلى، ولم يزد على غسل محاجمه» .
وروى أبو الدرداء، قال: «قاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفطر» ، وقال ثوبان: «وأنا صببت له وضوءًا» ، فقلت: يجب الوضوء من القيء؟ فقال: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) .
ولأنه لو انتقض الوضوء بالكثير من ذلك لانتقض باليسير منه، كالغائط. ولما لم ينتقض باليسير منه لم ينتقض بالكثير منه، كالبصاق والمخاط.
[فرع: لا يجب الوضوء مما مست النار]
] : ولا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار، وهو قول الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وأبي أمامة، وأبي الدرداء.
وذهب الحسن البصري، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز، وأبو قلابة إلى: (أنه يجب الوضوء من ذلك) . وروي ذلك: عن ابن عمر، وأبي(1/193)
طلحة، وأنس، وأبي موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا مما مسته النار، أو مما غيرته النار» .
دليلنا: ما روي عن جابر: أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مسته النار» ، وهذا يدل على أن الأول منسوخ بهذا.
ولا ينتقض الوضوء بأكل لحم الجزور.
وقال أحمد بن حنبل: (ينتقض الوضوء بذلك) . وحكى ابن القاص في " التلخيص ": أن هذا قول الشافعي في القديم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: أنتوضأ من لحم الغنم؟ فقال: " لا "، فقيل له: أنتوضأ من لحم الإبل، فقال: " نعم» .(1/194)
والأول هو المشهور: لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل» .
وما رووه محمول على غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى ذلك غسل اليد، لما روي عن بعض الصحابة: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بالوضوء قبل الطعام وبعده» ، وإنما فرق بين لحوم الإبل والغنم؛ لأن لحوم الغنم في الحجاز لا زهومة لها، بخلاف لحوم الإبل.
[فرع: القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء]
] : ولا ينتقض الوضوء بقهقهة المصلي، وبه قال جابر، وأبو موسى، وعطاء، وعروة، والزهري، ومكحول، ومالك.
وقال الشعبي، والنخعي، والثوري وأبو حنيفة: (ينتقض الوضوء به، ويبطل الصلاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قهقه في صلاته فليعد الوضوء والصلاة» .(1/195)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بقوم من أصحابه، فأتى ضرير فتردى في بئر، فقهقه بعض من كان خلفه، فلما فرغ أمره بإعادة الوضوء والصلاة» .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقهقه في الصلاة يعيد الصلاة، ولا يعيد الوضوء» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الضاحك في الصلاة كالمتكلم» .
ولأن كل ما لا ينقض الوضوء خارج الصلاة، لم ينقضه داخل الصلاة، كالكلام.
وأما خبرهم الأول: فنحمله على أنه يعيد الصلاة وجوبًا، والوضوء استحبابًا، بدليل ما رويناه. وخبرهم الثاني: مرسل على أنه لا يظن ذلك بالصحابة؛ لأنهم كانوا خيار الأمة، ووصفهم الله بالرحمة والرأفة، فكيف يضحكون من رجل وقع في بئر؟.
وإن صح حملناه على الاستحباب، بدليل ما ذكرناه.
[فرع: لا وضوء من فحش الكلام]
] : قال في " الأم " [1/18] : (ولا وضوء من الكلام، وإن عظم، ولا في إيذاء أحدٍ، ولا في قذف) .(1/196)
قال ابن الصباغ: وهذا إجماع، غير أنه قد روي عن ابن مسعود: أنه قال: (لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب) .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء؟!) .
وقال ابن عباس: (الحدث حدثان: حدث الفرج، وحدث اللسان، وأشدهما: حدث اللسان) .
فقال ابن الصباغ: الأشبه بذلك: أنهم أرادوا غسل الفم. وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، والشيخ أبي نصر: أنهم أرادوا به الوضوء الكامل.
[مسألة: لا يؤثر الشك في الحدث]
] : ومن تيقن بحدث، وشك في الطهارة بنى على تيقن الحدث، بلا خلاف؛ لأن الحدث يقين، فلا يرتفع بالشك.
وإن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة عندنا، سواء كان في الصلاة أو خارجًا منها.
وقال مالك: (يبني على الحدث، سواء كان في الصلاة، أو خارجًا منها) .
وقال الحسن: إن كان في الصلاة بنى على يقين الطهارة، وإن كان في غير الصلاة بنى على يقين الحدث، وتوضأ.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئل عن الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة؟(1/197)
فقال: " لا ينفتل حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فينفخ بين أليتيه، فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .
وإن تيقن الطهارة والحدث، وشك في السابق منهما، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب عليه الوضوء؛ لأنه قد تيقنهما، وليس لأحدهما مزية على الآخر، فلم يجز له دخول الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
والثاني: ذكره ابن القاص، وهو المشهور: أنه ينظر إلى الحال التي يتيقنها من نفسه قبلهما: فإن كانت حالة حدث فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن أن الطهارة وردت على الحدث السابق فأزالته، وهو يشك في ارتفاع هذه الطهارة بحدث، والأصل: بقاؤها.
وإن كانت حالته قبلهما حالة طهر فهو الآن محدث؛ لأنه قد تيقن أن الحدث ورد على الطهارة فأزالها، ثم صار يشك: هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده؟ والأصل: أنه لم يرتفع.
والوجه الثالث: حكاه الطبري في " العدة ": أنه ينظر إلى الحالة التي تيقنها من نفسه قبلهما فيبني الأمر عليها؛ لأنه يتعارض اليقينان بعده بالطهارة والحدث فيسقطان، ويبقى على الحالة الأولى، وهذا أضعف الوجوه.
[فرع: طهارة المرتد]
] : وإن توضأ أو تيمم، ثم ارتد ففيه ثلاثة أوجه:(1/198)
أحدها: يبطلان؛ لأن ذلك أعظم من الحدث.
والثاني: لا يبطلان؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «إلا من غائط، أو بول، أو نوم» فاقتضى أن جميع ذلك نواقض الوضوء.
والثالث: يبطل التيمم، ولا يبطل الوضوء؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، فضعف أمره، فبطل بالردة، والوضوء يرفع الحدث فقوي أمره، فلم يبطل بالردة.
[مسألة: لا صلاة ونحوها إلا بطهارة]
] : لا يجوز للمحدث فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» .
ولا يصح له الطواف، خلافًا لأبي حنيفة، ويأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.(1/199)
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة» .
ولا يجوز للمحدث مس المصحف، ولا مس حواشيه، ولا مس جلده المتصل به.
ولا يجوز له حمله بعلاقة، ولا بغير علاقة.
وقال داود: (يجوز له مسه) .
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة الخراسانيين: يجوز له مس حواشيه التي لا كتاب فيها، ويجوز له مس جلده.
وقال أحمد: (يجوز له حمله بعلاقة، أو بغير علاقة) .
وقال أبو حنيفة: (يجوز له حمله بعلاقة، ولا يجوز له حمله بغير علاقة) . وبه قال حماد، وعطاء، والحسن.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] [الواقعة: 79] .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» .(1/200)
وأما الدليل على أنه لا يجوز مس حواشيه، ودفتيه؛ فلأنه جزء من المصحف فلم يجز للمحدث مسه، كموضع الكتابة.
وأما الدليل على من أجاز حمله؛ فلأن الحمل أعظم في الهتك من المس، فإذا منع المحدث من مسه، فلأن يمنع من حمله أولى.
[فرع: حكم ما زين بآيات القرآن]
] ويجوز للمحدث: أن يمس ثوبا أو بساطا نقش عليه القرآن؛ لأن القصد منه التزين، دون القرآن.
وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز. وليس بشيءٍ.
وهل يجوز للمحدث: أن يقلب أوراق المصحف بين يديه بخشبة من غير أن يحمله، أو يكتب القرآن علي شيء غير حامل له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. وهو اختيار المسعودي في [" الإبانة " ق\20] ؛ لأن ما بيده منسوب إليه، فلم يجز له مس القرآن به، كما لا يجوز له مسه بيده.
والثاني: يجوز. وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأنه غير ماس له، ولا حامل.
وهل يجوز للصبيان حمل الألواح التي فيها القرآن وهم محدثون؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. كما لا يجوز ذلك لغيرهم.(1/201)
فعلى هذا: على الولي والمعلم أن يأمرهم بالطهارة لذلك، فإن لم يفعل ـ أثم بذلك هو دون الصبي.
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم إلي ذلك كثيرة، وطهارتهم لا تنحفظ، فلو اشترطنا طهارتهم، لأدى ذلك إلى تنفيرهم.
وإن حمل متاعًا وفي جملته مصحف، فهل يجوز؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\20] :
أحدهما: لا يجوز. لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز. وهو قول أصحابنا البغداديين؛ لأن المقصود منه حمل المتاع، فعفي عما فيه من القرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى المشركين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64] [آل عمران: 64] .
وإن حمل كتابا من كتب الفقه، وفيه شيء من القرآن، أو حمل دنانير أو دراهم عليها نقش القرآن، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يحمل القرآن.
والثاني: يجوز؛ لأن المقصود بها غير القرآن، ولأن ذلك يشق.
وهل يجوز للمحدث حمل تفسير القرآن؟
قال الشاشي: اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن كان القرآن أكثر، لم يجز. وإن كان التفسير أكثر، ففيه وجهان، ككتب الفقه التي فيها آيات من القرآن.(1/202)
ومنهم من قال: إن كان القرآن متميزًا عن التفسير، بأن كتب القرآن صدرا في خط غليظ، وتفسيره تحته بخط أدق منه، لم يجز حمله. وإن لم يتميز عنه في الخط، كره له حمله.
قال الشاشي: وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يترك شيئا من القرآن، فهو مصحف أودع فيه، فلم يجز للمحدث حمله.
وإن كان في موضع من بدنه نجاسة، فمس المصحف بغيره من بدنه وهو متطهر، فهل يجوز؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو القاسم الصيمري: لا يجوز، كما لا يجوز للمحدث مس المصحف بظهره.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز. وهو الصحيح؛ لأن النجاسة لا تتعدى محلها، بخلاف الحدث.
وبالله التوفيق(1/203)
[باب الاستطابة]
إذا أراد قضاء الحاجة، ومعه شيء عليه اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فالمستحب له: أن ينحيه عنه؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء، وضع خاتمه» . وإنما وضعه؛ لأنه كان مكتوبا عليه: محمد رسول الله. ثلاثة أسطر.
وهل يختص ذلك بالبنيان، أو يشترك فيه البنيان والصحراء؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يختص ذلك بالبنيان.
وقال المحاملي، وصاحب " المذهب ": يشترك فيه البنيان والصحراء.
وقال الشيخ أبو حامد: ومما يختص به البنيان دون الصحراء، إذا أراد دخول الخلاء: أن يقول عند دخوله: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ستر ما بين عورات أمتي، وأعين الجن: بسم الله» .
وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» .(1/204)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث، الرجس النجس الشيطان الرجيم» .
قال أبو عبيد: (الخبث) : الشر، و (الخبائث) : الشياطين، وأما (الخبيث) : فهو الخبيث بنفسه، و (المخبث) : هو المخبث لغيره.
ويستحب إذا خرج أن يقول: «الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك لي ما ينفعني» . لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) . ويستحب أن يقول مع ذلك: «غفرانك، غفرانك» . لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك.
ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج رجله اليمنى؛ لأن الدخول أدنى فقدمت فيه اليسار، والخروج أعلى فقدمت فيه اليمنى.
ويستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يبعد في المذهب؛ لما روى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذهب إلى الغائط، أبعد، بحيث لا يراه أحد» .(1/205)
ويستحب أن يستتر عن العيون بشيء؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتي الغائط فليستتر» .
«وروى جابر قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى شجرتين بينهما نحو أربعة أزرع، فقال: " يا جابر، اذهب إلى تلك الشجرة، فقل لها: قال لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي بصاحبتك؛ فإنه يريد أن يجلس وراءكما "، فقلت لها ذلك، فلحقت بصاحبتها، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءهما، فلما قضى حاجته وقام، عادت إلى مكانها» .
[مسألة: حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة]
] : وأما استقبال القبلة بالغائط والبول، فاختلف العلماء في جواز ذلك.
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان، ولا يجوز ذلك في الصحراء، فإن فعل ذلك ذاكرا عالما بتحريمه أثم) . وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر، وبه قال مالك وإسحاق.
وذهب أبو حنيفة إلى: (أن ذلك لا يجوز في البنيان، ولا في الصحراء) . وبه قال أبو أيوب الأنصاري، والنخعي.
وذهب عروة بن الزبير، وربيعة، وداود إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان والصحراء) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة لغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار» .(1/206)
ونهى عن الروث والرمة، وهذا دليل على منع ذلك في الصحراء.
وأما الدليل على جواز ذلك في البنيان: فما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أوقد فعلوا ذلك؟ استقبلوا بمقعدتي إلى القبلة» . وكان ذلك في البنيان.
وروى ابن عمر، قال: «اطلعت على إجار ببيت حفصة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته قاعدا على لبنتين، مستقبل الشام، مستدبرا القبلة» . فإن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تلك الحال؟.
قلنا: يحتمل أنه لم يقصد النظر، ولكن فاجأته النظرة، ويحتمل أنه رأى ظهره وأعالي بدنه.
وإذا ثبت هذا: فروى معقل بن أبي معقل الأسدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استقبال القبلتين» . فتأول أصحابنا ذلك بتأويلين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهى عن استقبال بيت المقدس، حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال الكعبة، حين صارت قبلة، فجمع الراوي بينهما.(1/207)
والثاني أن هذا ورد على أهل المدينة، ومن كان في سمتهم من البلدان؛ لأن من هناك إذا استقبل الكعبة، استدبر بيت المقدس، وإذا استدبر الكعبة، استقبل بيت المقدس. وسمي بيت المقدس قبلة؛ لأنه كان قبلة على عادة العرب في استصحاب الاسم بعد زواله.
[فرع: حكم استقبال القبلة في الأبنية]
] : البنيان الذي يجوز فيه استقبال القبلة واستدبارها.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\21] : يجب ألا يكون البناء أقل من مؤخرة الرحل، ويشترط أن يكون بقرب البناء، فإن كان بينه وبين البناء أكثر مما بين الصفين، كان كالصحراء.
ولا يشترط البناء والتسقيف، بل لو كان بينه وبين القبلة دابة، أو أرسل ثوبه من خلفه، كان كالبناء؛ لأن ذلك يستره عن القبلة.
فإن كان في وهدة من الأرض، وبينه وبين القبلة شيء يستره من الأرض، أو كان بينهما شجرة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون ذلك كالبنيان، لأنه يقع عليه اسم الصحراء.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكون كالبنيان؛ لأن ذلك يستره عن القبلة، فهو كالبنيان.
ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع ثوبه، حين رآه من فوق سطح بيت حفصة حتى دنا من الأرض» .(1/208)
[فرع: تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور]
[تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور] : وإذا أراد أن يبول، ارتاد لبوله موضعا لينا؛ لا يترشش عليه البول: إما رملا، أو ترابا لينا، فإن كان الموضع صلبا، دقه بحجر؛ لما «روى أبو موسى الأشعري، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال فيه، ثم قال: " إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله، ولا يستقبل الريح؛ فإنها ترده عليه» . و (الدمث) : الموضع اللين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتمخر الريح إذا أراد أن يبول» .
ويستحب أن يجلس إذا أراد أن يبول، ويكره أن يبول قائما من غير عذر؛ لما روي عن عمر: أنه قال: (ما بلت قائما منذ أسلمت) .
وقال ابن مسعود: (من الجفاء أن تبول وأنت قائم) . ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه.
وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يبول تفاج؛ حتى إنا لنأوي له» .(1/209)
فإن كان له عذر عن الجلوس، لم يكره له البول قائما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال قائما لعلة بمأبضه» و (المأبض) : ما تحت الركبة من كل حيوان.
ويكره أن يبول في جحر من الأرض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الجحر، قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ فقال: يقال: إنها مساكن الجن» .
وقيل: إن سعد بن عبادة خرج إلى الشام، فسمع أهله هاتفا يهتف في داره ويقول:
نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده
قد رميناه بسهمي ... ن فلم نخط فؤاده
ففزع أهله من ذلك، وتعارفوا خبره، فكان قد مات في تلك الليلة.
وقيل: إنه قد كان جلس يبول في جحر، فاستلقى ميتا.
ولأنه لا يؤمن أن يخرج من الجحر بالبول شيء يلسعه، أو يرد عليه بوله.
ويكره أن يبول في الماء الراكد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد» ؛ لأنه ربما أفسده.
ويكره أن يبول في الظل، والطريق، والموارد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(1/210)
«اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل المقصود» .
قال أبو عبيد: فسميت ملاعن؛ لأن من رأى ذلك، قال: من فعل هذا، لعنه الله؟!
ويكره أن يبول في مساقط الثمار؛ لأنه يقع عليه فينجس.
ويكره أن يبول في موضع ويتوضأ فيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه» .
ولا بأس أن يبول في الإناء؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدح يبول فيه بالليل يوضع تحت سريره» .
[فرع: كراهة استقبال النيرين]
] : قال الصيمري: ويكره له استقبال الشمس والقمر، واستدبارهما بفرجه، ولا يحرم.
ويستحب لمن كان في قضاء حاجته أن يقنع رأسه، ولا ينظر إلى فرجه، ولا إلى(1/211)
ما يخرج منه، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا يعبث بيده.
ويكره أن يتكلم على الخلاء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» .
ويكره له أن يرد السلام؛ لما روي: «أن المهاجر بن قنفذ سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد عليه، وقال: " كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» .
ويكره أن يحمد الله تعالى إذا عطس، أو يجيب المؤذن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» .
ويستحب أن يتكئ على رجله اليسرى، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد أحدكم لحاجته، فليعتمد على رجله اليسرى» . ولأنه أسهل في قضاء الحاجة.
ويستحب له ألا يطيل الجلوس على قضاء الحاجة؛ لما روي عن لقمان أنه قال: (إن طول القعود على الحاجة، تتجع منه الكبد، ويأخذ منه الباسور، فاقعد هوينا واخرج) .(1/212)
وإذا بال، تنحنح ومسح ذكره من مجامع عروقه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات» . ولأنه يخرج إن كان هناك بقية.
[مسألة: حكم الاستنجاء]
] : الاستنجاء واجب من الغائط، فإن صلى قبل أن يستنجي لم تصح صلاته، وبه قال مالك في إحدى الروايتين، وأحمد، وإسحاق، وداود.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل هو مستحب) . وهي الرواية الثانية عن مالك، وحكي ذلك عن المزني. وقدر أبو حنيفة النجاسة التي تصيب البدن والثوب بموضع الاستنجاء، وقال: (لا يجب إزالتها) . وقدرها أيضًا بالدرهم الأسود البغلي.
وإنما يعتبر هذا القدر في المساحة دون السمك، فلو علت أيضًا شبرًا أو أكثر، ولم تزد مساحتها على قدر الدرهم لم يجب إزالتها.
دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليستنج بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبًا، فلم تصح الصلاة معها، كما لو زادت على قدر الدرهم.
ويجب الاستنجاء من البول، كما يجب من الغائط.(1/213)
وقال أبو حنيفة: (لا يجب الاستنجاء منه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس رضى الله عنهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول» . وروي «لا يستبرئ من البول»
وروي أن عبد الله بن عمر خرج في سفر، قال: فدفع بي الطريق إلى مقبرة، فأويت إلى امرأة، فلما جنني الليل سمعت صوتًا من المقبرة وهو يقول: شن وما شن، بول وما بول، فجزعت من ذلك، فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم صائف شديد الحر، فاستسقى ماء، فقال ولدي: قم إلى الشن، فاشرب منه، ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب، فلم ير فيه شيئًا، فوقع فمات، وكان لا يستبرئ من البول، وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه المقبرة، فكلما جن الليل يصيح: شن وما شن، بول وما بول. فحدث ابن عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فـ: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسافر الرجل وحده» .
قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون نهى عن ذلك؛ لأن ابن عمر جزع مما أصابه، ويحتمل أن يكون لأجل ما أصاب الرجل من العطش.
[فرع: حكم الخارج غير البول والغائط]
] : قال ابن الصباغ: ولا يجب الاستنجاء من المني، ولا من الريح؛ لأنهما طاهران، فلا يجب منهما الاستنجاء.(1/214)
وإن خرج منه حصاة أو دودة، عليها رطوبة وجب منها الاستنجاء. وإن كان لا رطوبة عليها، فهل يجب منها الاستنجاء؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه لا بلل معه، فهو كالريح.
والثاني: يجب؛ لأنه لا يخلو من بلل. والأول أصح. قال ابن الصباغ: وإن خرجت منه بعرة، لا بلل عليها، فهي كالدودة والحصاة التي لا رطوبة معها.
[مسألة: تقديم الاستنجاء على الوضوء]
] : والمستحب: أن يستنجي أولا، ثم يتوضأ إن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله. وإن كان عاجزًا عن الماء، أو عن استعماله، تيمم بعد الاستنجاء. فإن توضأ ثم استنجى، أو تيمم ثم استنجى، ولم يمس شيئًا من عورته فهل يصح؟ اختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أبو علي في " الإفصاح " قولان.
و [الثاني] : قال أبو العباس ابن القاص: يصح الوضوء قولا واحدًا، وفي التيمم قولان.
و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: يصح الوضوء، ولا يصح التيمم قولا واحدًا. والفرق بينهما: أن الوضوء يرفع الحدث، وذلك يصح مع بقاء النجاسة. والتيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به فعل الصلاة، فلم يصح مع بقاء النجاسة.
فإذا قلنا: لا يصح تيممه قبل أن يستنجي، فكان على بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء، فتيمم قبل إزالتها فهل يصح تيممه؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص في " الأم " ـ: (أنه لا يصح؛ لما ذكرناه في النجاسة في موضع الاستنجاء) .
والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يصح. والفرق ـ بين النجاسة على موضع الاستنجاء، وبين غيره من البدن ـ: أن خروج النجاسة إلى موضع الاستنجاء(1/215)
توجب الطهارة، فجاز أن يكون بقاؤها فيه يمنع صحة الطهارة. وليس كذلك النجاسة في غير موضع الاستنجاء، فإن خروجها إليه لا يوجب الطهارة، فكان بقاؤها فيه لا يمنع صحة الطهارة.
[مسألة: أفضلية استعمال الحجر والماء معًا]
] : وإذا أراد الاستنجاء، وكان الخارج غائطًا أو بولا، ولم يجاوز الموضع المعتاد، فالأفضل أن يستنجي بالأحجار أولا، ثم بالماء بعده.
وحكى ابن المنذر، عن سعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وحذيفة: أنهم كانوا لا يرون استعمال الماء.
وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء. وقال عطاءٌ: غسل الدبر محدث.
وكان الحسن لا يغسل بالماء.
دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: أنه قال: (إن هذه الآية نزلت في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] [التوبة: 108] . قال: وكانوا يستنجون بالماء) .
وقال جابر، وأنس: لما نزلت هذه الآية دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنصار، فقال: «إن الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء، فما تصنعون؟ " فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: " هل غير هذا؟ " فقالوا: لا، إلا أن أحدنا إذا خرج من الخلاء أحب أن يستنجي بالماء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو ذاك، فعليكم به» .(1/216)
وهذا يدل على: أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولا؛ لأنهم لا يخرجون إلا بعد استعمال الحجارة. وقد روي: أنهم قالوا: (نتبع الحجارة الماء) .
فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالأفضل: أن يقتصر على الماء؛ لأنه أبلغ في الإنقاء.
وإن أراد الاقتصار على الأحجار جاز، سواء كان الماء موجودًا أو معدومًا.
وقال قوم من الزيدية، والقاسمية: لا يجوز الاقتصار على الأحجار، مع وجود الماء.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار، يستطيب بها، فإنها تجزئ عنه» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: " ما هذا يا عمر؟ "، فقال: ماء تتوضأ به، فقال: " ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت ذلك لكان سنة» . وهذا يبطل ما قالوه.(1/217)
[فرع: كيفية الإنقاء]
] : إذا استنجى بالماء لزمه إذهاب الأجزاء، وإذهاب الرائحة، لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء الأجزاء.
وإذا استنجى بالأحجار لزمه أبعد الأمرين من الإنقاء، واستيفاء ثلاثة أحجار، فإن لم ينق بالثالث لزمه أن يزيد رابعًا. فإن أنقى بالرابع أجزأه، ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار.
وحكى في " الفروع ": أن ابن خيران قال: يلزمه ذلك. وليس بشيء؛ لأن المقصود قد حصل.
وإن أنقى بحجر أو بحجرين لزمه استيفاء الثلاثة.
وقال مالك، وداود: (لا يلزمه ذلك) ، وحكي ذلك عن بعض أصحابنا، وليس بمشهور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار» .(1/218)
فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، فمسح بكل حرف مرة، وأنقى أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل، وهو المسح والإنقاء، فصار كما لو مسح بثلاثة أحجار وأنقى.
و (الإنقاء) ـ في الأحجار ـ هو: أن لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء، فيعفى عن ذلك الأثر؛ لأنا قد بينا أن استعمال الماء غير واجب.
قال الصيدلاني: فلو عرق محل النجو وجاوزه، نجسه، ووجب عليه غسله بالماء. وإن لم يجاوزه عفي عنه، على الأصح.
قال الصيمري: وإن بقيت بعد الأحجار بقية يخرجها حجر صغير، أو ما صغرَ من الخزف ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه إخراجها، كما لو بقيت بقية يخرجها حجر كبير.
والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزمه إخراج الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء.
[فرع: كيفية الاستجمار]
] : قال أصحابنا: وأما كيفية الاستنجاء بالأحجار: فليس فيه تقدير واجب، وإنما يجب أن يمر كل حجر من الأحجار الثلاثة على كل موضع من مواضع الاستنجاء.
وأما كيفية الاستنجاء: ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يأخذ حجرًا فيمره على الصفحة اليمنى ويرمي به، ثم يأخذ حجرا آخر فيمره على الصفحة اليسرى ويرمي به، ثم يأخذ حجرًا فيمره من مقدم على المسربة ويرمي به، لما روى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجر للمسربة» .(1/219)
و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يأخذ حجرًا فيمره من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يديره إلى اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثانيًا فيمره من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها، ويديره من مؤخر صفحته اليمنى إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثالثًا فيمره على جميعهما وعلى المسربة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقبل بحجر، ويدبر بحجر، ويحلق بالثالث» . وهذا أصح؛ لأنه يستعمل جميع الأحجار، في جميع مواضع الاستنجاء.
[فرع: كيفية استنجاء غير الرجل]
] : واستنجاء المرأة في الدبر كاستنجاء الرجل.
وأما استنجاؤها من البول: فإن كانت بكرًا فإنها تستنجي في مواضع البول بالأحجار والماء كالرجل.
وأما موضع البكارة: فلا تعلق للبول فيه؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول، ولا يصل إليه البول، ولكن يستحب لها: أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج، فإن لم تفعل لم يلزمها شيء.
وأما الثيب: فإنها إذا جلست للبول انفرج ذلك الموضع، فربما ينزل إليه البول، فإن تحققت وصول البول إلى موضع البكارة ـ وهو مدخل الذكر، ومخرج الحيض،(1/220)
والمني، والولد ـ وجب غسله بالماء. وإن لم يتحقق وصول البول إليه استحب لها: أن تغسله، ولا يجب عليها.
وحكى في " الفروع " وجهًا آخر: أن الثيب لا يجزئها الاستنجاء بالحجر. وليس بشيء.
وأما الخنثى المشكل: فحكمه في الاستنجاء في الدبر حكم غيره.
وإن خرج البول من أحد فرجيه، ومن عادته أن يبول منهما فقد مضى ذكره في الحدث. وإن بال منهما وجب عليه الاستنجاء فيهما؛ لأن أحدهما أصلي بيقين، ولكن لا نعرفه بعينه، فلزمه الاستنجاء فيهما؛ ليسقط الفرض بيقين.
فإن أراد الاستنجاء بالماء فيهما جاز.
وإن أراد الاقتصار فيهما على الحجر فهل يجزئه؟ فيه وجهان ـ بناء على من انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح المعتاد ـ:
إذا قلنا: ينتقض الوضوء بمسه فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإذا قلنا: يجزئه فيه الحجر وجب لكل واحد منهما أبعد الأمرين من ثلاثة أحجار، أو الإنقاء، كما قلنا في الأصلي.
[فرع: النهي عن استعمال اليمين في الاستنجاء]
] : ويكره أن يستنجي بيمينه؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا خلا فلا يستنجي بيمينه» .
وروي عن عائشة: أنها قالت: «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطعامه وشرابه(1/221)
وطهوره، ويده اليسرى للاستنجاء» .
ويستحب أن لا يستعين بيمينه في الاستنجاء على شيء يمكنه فعله بغيرها، فإن كان يستنجي بالحجر من الغائط أخذها بيساره ومسح بها.
وإن كان يستنجي بالحجر من البول، فإن كان يستنجي على حائط أو أرض أو حجر كبير أخذ ذكره بيساره ومسحه بها.
وإن كان يستنجي بحجر صغير ترك الحجر بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ومسح عليه ذكره بيساره، وإن لم يمكنه، أمسكه بيمينه ومسحه بها. وهكذا إن كان يستنجي بالماء فإنه يصب الماء بيمينه على موضع الاستنجاء، ويدلكه بيساره؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك.
وإن كان أقطع اليسار لم يكره له أن يستنجي بيمينه؛ لأنه موضع ضرورة.
فإن استنجى بيمينه مع تمكنه من فعله بيساره أجزأه؛ لأن الاستنجاء يقع بما يأخذه بها، لا بها.
[مسألة: ما يقوم مقام الحجر]
] : وإن استنجى بما يقوم مقام الحجر أجزأه.
وقال داود وأهل الظاهر، وزفر، وأحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو بثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من تراب» . ذكره الدارقطني.
إذا ثبت هذا: فإن ما يقوم مقام الحجر ما اجتمع فيه ستة شروط:(1/222)
الشرط الأول: أن يكون جامدًا، فإن استنجى بمائع غير الماء، كالخل، واللبن وما أشبههما لم يجز؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا بغير الماء، وقد مضى ذكره.
الشرط الثاني: أن يكون الجامد طاهرًا؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث، والرمة» . وإنما نهى عنهما لنجاستهما؛ بدليل ما روي: «عن ابن مسعود: أنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثة ليستنجي به، فأخذ الحجرين، ورمى بالروثة، وقال: " إنها ركس» . ولأن الماء النجس لا يجوز إزالة النجاسة به، فكذلك الجامد النجس.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " المختصر " [1/12] : (فإن استطاب بما يقوم مقام الحجر من الخزف والآجر وأنقى ما هنالك أجزأه) .
وذكر أيضًا في " الأم " [1/19] : (أن الاستنجاء بالآجر يجوز) .
قال الشيخ أبو حامد: فيحتمل أن يكون الآجر عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطرح فيه روث، وقد قيل: إن طرح الروث فيه لم يكن قبل، ثم حدث، ويحتمل أن يكون علم أن فيه روثًا، ولكنه حكم بأن النار أكلته، فإذا غسل طهر ظاهره، فيجوز الاستنجاء به. فإن كسر موضع منه فموضع الكسر نجس، لا يجوز الاستنجاء به وإن غسله؛ لأن الأعيان قائمة فيه لم تحرقها النار.
ولا يستنجي بحجر قد استنجى به هو، أو غيره قبل أن يغسل الحجر بالماء.
فإن غسل بشيء من المائعات، كالخل، وماء الورد فالمشهور من المذهب: أنه لا يحكم بطهارته، ولا يجوز الاستنجاء به؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز بغير الماء.(1/223)
وحكى الصيمري قولا آخر: أنه يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأرض يطهر بعضها بعضًا» . ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وقد زالت. وهذا قول أبي حنيفة.
فإن جفت النجاسة بالشمس، وذهبت عينها فهل يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يحكم بطهارته بالشمس فهل يحكم بطهارته إذا ذهبت عين النجاسة بالظل والرياح؟ فيه قولان.
وإن استنجى بحجر، ثم وجده وشك: هل جرى عليه ماء طهره أم لا؟ لم يستنج به؛ لأن الأصل بقاؤه على النجاسة.
وإن رأى حجرا وشك: هل استنجى به هو، أو غيره؟
قال الشافعي: (كرهت له أن يستنجي به، فإن فعل به أجزأه؛ لأن الأصل أنه لم يستنج به) .
فإن استنجى بشيء نجس، أو بمائع غير الماء فهل يجزئه الاستنجاء بالأحجار من ذلك؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأن هذه النجاسة من غير الخارج من السبيلين، فلم يجزئه إلا الماء، كما لو وقعت نجاسة على موضع من بدنه غير موضع الاستنجاء.
والثاني: تجزئه الأحجار؛ لأن هذه النجاسة تابعة للنجاسة التي على المحل، فزالت بزوالها.
الشرط الثالث: أن يكون الجامد منقيًا، فإن كان غير منقٍ، كالزجاج، والحديد الصقيل، وما أشبه ذلك لم يجزه الاستنجاء به، لأن المقصود إزالة عين النجو،(1/224)
وهي لا تزول بذلك. وكذلك اللزج الذي لا يجري على موضع الاستنجاء لا يصح الاستنجاء به، لأن عين النجاسة لا تزول به.
وأما الفحم: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح الاستنجاء به؛ لأنه لا يزيل العين، فهو كالزجاج.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\23] : قد اختلف نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه، والصحيح: إن كان صلبًا صح الاستنجاء به، وإن كان رخوًا لم يصح الاستنجاء به.
وإن استنجى بحجر فيه رطوبة فهل يصح؟ فيه وجهان.
قال الصيمري: ويمكن أن يقال: إن كانت الرطوبة يسيرة صح، وإن كانت كثيرة لم يصح.
فإن استنجى بشيء أملس، كالزجاج الأملس، والحديد الصقيل، فهل يصح الاستنجاء بعده بالحجر؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: لا يصح.
و [الثاني] : قال غيره: يصح.
الشرط الرابع: أن لا يكون الجامد مطعومًا، فإن استنجى بمطعوم، كالخبز والعظم لم يجز.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز الاستنجاء بالعظم) .
فأما مالك: فلأنه مزيل عنده للعين.
وأما أبو حنيفة: فلأن الاستنجاء عنده غير واجب.
ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرويفع بن ثابت الأنصاري: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من استنجى بعظم، أو رجيع فقد برئ من محمد» .(1/225)
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث والرمة» : وهي العظم البالي.
وروى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظام، وقال: " هي زاد إخوانكم من الجن» .
إذا ثبت هذا: فإن استنجى بالخبز وأنقى، أو بعظم طاهر وأنقى، فقد فعل فعلا محرمًا، ويأثم به إذا علم تحريمه. وهل يصح استنجاؤه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، فصح استنجاؤه، وإنما منع منه للحرمة، كما لو صلى في ثوب حرير.
والثاني: لا يصح، وهو صحيح؛ لأن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي. فإذا قلنا بهذا. أجزأه الاستنجاء بالأحجار وجهًا واحدًا، هكذا ذكره في " الفروع ".
الشرط الخامس: أن لا يكون للجامد حرمة. فإن كان له حرمة، بأن استنجى بما فيه قرآن، أو حديث، أو فقه لم يجز؛ لأن فيه استخفافًا بالشريعة. فإن استنجى بشيء من ذلك وأنقى فهل يصح؟ فيه وجهان، كما ذكرنا في الخبز والعظم. فإذا قلنا: لا يصح، أجزأه الإعادة بالأحجار وجهًا واحدًا.
وإن استنجى بقطعة خشنة من ذهب، أو فضة، فهل يصح؟ فيه وجهان:(1/226)
أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأجزأه كالحجر.
والثاني: لا يصح؛ لأن فيه سرفًا.
فعلى هذا: يصح إعادة الاستنجاء بالحجر وجهًا واحدًا.
وإن استنجى بقطعة ديباج أجزأه؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، لا حرمة له، فأجزأه كالحجر.
قال في " حرملة ": (وإن استنجى بخرقة من أحد جانبيها، وكانت رقيقة بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر، لم يجز الاستنجاء في الجانب الآخر؛ لأنها تتندى بالرطوبة النجسة، فتصير نجسة، إلا أن تلف الخرقة بعضها على بعض، بحيث لا تتندى النجاسة إلى الجانب الآخر، أو تكون ثخينة لا تصل النجاسة إلى الجانب الآخر منها، فيجوز حينئذ أن يستنجي بالجانب الآخر؛ لأن النجاسة من الجانب الآخر لا تصل إليه) .
الشرط السادس: أن لا يكون جزءًا من حيوان متصل به؛ لأن له حرمة.
فإن استنجى بشيء طاهر من ذلك، مثل أن يستنجي بيده، أو عقبه، أو بيد غيره، أو بذنب حمار متصل به، فهل يصح؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يصح؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فأجزأه كالحجر.
و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح؛ لأن له حرمة، فلم يصح الاستنجاء به، كالعظم.
[فرع: الاستنجاء بالصوف]
] : قال في " حرملة ": (وإذا نتف الصوف من ظهر الحيوان المأكول، واستنجى به، كرهته، وأجزأه) .
قال أصحابنا: إنما كره النتف؛ لأن فيه تعذيب الحيوان. فأما الاستنجاء بالصوف من الحيوان المأكول: فلا يكره؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فهو كالحجر.(1/227)
[فرع: الاستنجاء بالجلد]
] : وهل يجوز الاستنجاء بالجلد بعد الدباغ؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في " البويطي "، و" حرملة ": (لا يجوز) ؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالرمة» . وهذا الجلد في معنى الرمة.
والثاني: يجوز؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأشبه الحجر.
فإن قيل: هلا قلتم: لا يجوز؛ لأنه مأكول؟
قلنا: هو في العادة لا يقصد أكله، ولهذا يجوز بيع جلدين بجلد.
وإن استنجى بجلد حيوان مأكول مذكى، غير مدبوغ، فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح، كما يصح بالخرق.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يقلع النجو للزوجته.
[مسألة: تجاوز الخارج المخرج]
] : وإذا خرج منه الغائط، فكان على المخرج وما حوله مما ينتشر إليه في العادة، أجزأه فيه الحجر، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذا هو المعتاد في عموم الناس، فحمل لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
قال أصحابنا: وقد روى المزني: (إذا عدى المخرج لم يجزئه إلا الماء) . وهذا غير صحيح، بل الصحيح: ما نقله عن القديم: (أنه يستطيب بالأحجار، إذا لم ينتشر منه إلا ما ينتشر في العادة من العامة، في ذلك الموضع وحوله) .(1/228)
فإن تغوط وقام، أو جف الغائط لم يجزئه إلا الماء؛ لأن بقيامه يزول الغائط الخارج عن موضعه بفعله. وبجفافه لا يزول بالحجر، فانحتم الماء فيه.
وإن انتشر الغائط إلى باطن الأليتين، ولم يخرج شيء منه إلى ظاهرهما فهل يجزئه الحجر؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القدم: (لا يجزئه إلا الماء؛ لأن ذلك يندر ويقل، فلا حاجة به إلى استعمال الأحجار فيه) .
و [الثاني] : قال في " الأم " [1/19] : يجزئه الأحجار؛ لأن المهاجرين لما قدموا المدينة أكلوا التمر - وكانت أقواتهم الحنطة والشعير - والتمر يرق بطن من لا يعتاد أكله.
ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهم في الاستنجاء بالأحجار. ولأن ذلك يتعذر ضبطه، فجعل الباطن كله حدًا.
وإن خرج الغائط إلى ظاهر الأليتين لم يجزئه فيما خرج عن الأليتين إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، فلم يجزئه إلا الماء، كالنجاسة على سائر بدنه.
فإن قلنا بقوله في " الأم "، وأن المنتشر إلى باطن الألية يجزئ فيه الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه استعمال الماء فيما ظهر على ظاهر الأليتين، وأجزأه الحجر في المخرج وفي باطن الأليتين.
وإن قلنا بقوله القديم، وأنه لا يجزئه الحجر في باطن الأليتين، فلا يمكن ـ هاهنا ـ أن يقال: يستعمل الحجر في المخرج وما حوله، والماء فيما زاد على ذلك؛ لأنه لا يتأتى الفصل بينهما، فإن أمكنه ذلك أجزأه.
[فرع: حكم انتشار البول فوق المعتاد]
] : وأما البول: فإن كان على ثقب الذكر وما حوله، مما جرت العادة بانتشار البول إليه، أجزأه الحجر قولا واحدًا؛ لأنه هو المعتاد في عموم الناس.(1/229)
وإن جاوز البول موضع الطوق من باطن الذكر، أو ظاهره، لم يجزئه فيما جاوز الطوق إلا الماء؛ لأن ذلك نادر.
وإن جاوز البول الثقب وما حوله، ولم يتجاوز الطوق، فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الغائط إذا جاوز المخرج وما حوله إلى باطن الأليتين:
أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأنه يندر.
والثاني: يجزئه الحجر؛ لأنه قد ينتشر إليه في العادة، فجعل الطوق كله حدًا، ووجب الماء فيما زاد.
و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجزئه إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ما ينتشر من البول نادر بخلاف الغائط.
[فرع: حكم الخارج غير المعتاد]
] : وإن كان الخارج من السبيلين غير الغائط والبول، فإن كان دم حيض، أو نفاس، أو منيًا، فإن هذا لا مدخل لاستعمال الأحجار فيه؛ لأن ذلك يوجب الطهارة الكبرى.
وإن كان دما غير الحيض والنفاس، أو قيحًا، أو صديدًا، فإن ذلك يوجب الاستنجاء؛ لأنه مائع نجس، فأوجب الاستنجاء كالغائط والبول. وهل يجزئ فيه الأحجار؟ فيه قولان.
وكذلك إذا خرج منه دودة أو حصاة لا رطوبة معها، وقلنا: يجب منها الاستنجاء، ففيه قولان:(1/230)
أحدهما: يجزئ فيه الحجر؛ لأنه نجس خارج من السبيلين، فأشبه البول والغائط.
والثاني: لا يجزئ فيه الحجر؛ لأن الأحجار إنما أجزأت في الغائط والبول؛ لتكررهما ولخوف المشقة باعتياد الماء فيهما، وهذا لا يوجد في هذه الأشياء النادرة، فانحتم فيها الماء.
وبالله التوفيق(1/231)
[باب ما يوجب الغسل] [مسألة: إيلاج الحشفة في الفرج]
والذي يوجب الغسل: إيلاج الحشفة في الفرج، وخروج المني، والحيض، والنفاس.
فأما إيلاج الحشفة في الفرج: فإنه يوجب الغسل، سواء أنزل أو لم ينزل، وهو قول كافة العلماء.
وقال سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، ورافع بن خديج: (لا غسل عليه، ما لم ينزل) . وبه قال عروة، وداود. وقيل: إن أبيًا، وزيد بن أرقم رجعا عن ذلك.(1/232)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والجنابة عند العرب: الجماع، وإن لم يكن معه إنزال) .
وروي عن عائشة: أنها قالت: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» ، فعلته أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاغتسلنا.(1/233)
وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع، وألصق ختانه بختانها فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل» . وهذه نص.
قال الزهري: وشعبها الأربع: هي شعبتا رجليها، وشعبتا شفري فرجها.
وإلصاق الختان بالختان لا يوجب الغسل، وإنما عبر به عن إيلاج الحشفة؛ لأن (ختان المرأة) هو: أن يقطع منها جلدة فوق ثقبة البول في أعلى الفرج. و (مدخل الذكر) هو ثقبة في أسفل الفرج. فإذا غيب الحشفة فيه تحاذى (ختانه) ـ وهو: موضع القطع من ذكره المنحسر عن الحشفة ـ وختانها.
قال الشافعي: (والعرب تقول: التقى الفارسان: إذا تحاذيا، وإن لم يتضاما) .
فعبر عن الإيلاج بالتقائهما لتقاربهما.
وإن أولج بعض الحشفة لم يجب الغسل؛ لأن التقاء الختانين لا يحصل بذلك.
فإن كان مقطعوع الحشفة ففيه وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما: لا يجب عليهما الغسل، إلا بتغييب ما بقي من الذكر؛ لأنه لم يبق حد يعتبر، فاعتبر الجميع.
والثاني: يجب عليهما الغسل، إذا غيب من الباقي قدر الحشفة.
فإن أولج ذكره في دبر امرأة، أو دبر رجل، أو دبر خنثى مشكل، وجب عليهما الغسل، لأنه أحد السبيلين، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه كالفرج.(1/234)
وإن أولج ذكره في دبر بهيمة أو فرجها، أو فرج امرأة ميتة أو في دبرها وجب عليه الغسل.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب) .
دليلنا: أنه يقع عليه اسم الفرج، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه، كفرج المرأة الحية.
وهل يجب غسل المرأة الميتة بذلك؟ فيه وجهان.
وهل يجب الحد على المولج فيها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب؛ لأنه فرج محرم، فوجب بالإيلاج فيه الحد، كالمرأة الأجنبية الحية.
والثاني: لا يجب؛ لأنه فرج غير مقصود.
والثالث: إن كانت زوجته أو جاريته فلا حد عليه؛ للشبهة. وإن كانت أجنبية منه وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيه.
[فرع: الإيلاج في الخنثى]
] : وإن أولج رجل ذكره في فرج خنثى مشكل لم يجب عليهما الغسل ولا الوضوء؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه.
وإن أولج الخنثى ذكره في دبر رجل لم يجب الغسل على واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة، فلا يجب بإيلاجها الغسل.
قال القاضي: وأما الوضوء: فإنه يجب على الرجل بالإخراج لا بالإيلاج، ويجب الوضوء أيضًا على الخنثى؛ لأن الخنثى إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالملامسة، فوجوب غسل أعضاء الوضوء متيقن.
وهل يجب الترتيب في الوضوء؟(1/235)
قال القاضي أبو الفتوح: أما وضوء الرجل: فيجب فيه الترتيب بلا خلاف.
وأما الخنثى: فهل يجب عليه الترتيب في الوضوء؟ فيه وجهان.
والذي يقتضي المذهب: أن الوضوء إنما يجب عليهما بالإيلاج لا بالإخراج؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليه الغسل بالإيلاج، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالتقاء بشرة الذكر وبشرة الدبر.
ولا يجب الترتيب في وضوء الرجل؛ لأن له حالتين: حالة يجب عليه فيها الغسل دون الترتيب، وهو: إذا كان الخنثى رجلا. وحالة يجب عليه فيها الوضوء مرتبًا، وهو: إذا كان الخنثى امرأة، فأوجبنا المتيقن من ذلك، وهو: غسل أعضاء الطهارة، وأسقطنا المشكوك فيه، وهو: غسل ما زاد على أعضاء الطهارة، والترتيب في أعضاء الطهارة.
وإن أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو دبرها لم يجب على واحد منهما الغسل؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه بضعة زائدة فيه.
وأما الوضوء: فلا يجب على الخنثى؛ لجواز أن يكون امرأة. ويجب على المرأة؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة فهذا عضو زائد فيهما، فيجب على المرأة الوضوء بإخراج ذلك منها، كما لو أدخلت في(1/236)
فرجها مسبارًا، وأخرجته. وهل يجب عليها الترتيب في الوضوء؟ يحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما القاضي أبو الفتوح في الأولى.
وإن أولج الخنثى ذكره في قبل خنثى مثله لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان زائدان.
وإن أولج الخنثى ذكره في دبر خنثى مثله لم يجب على المولج غسل ولا وضوء؛ لجواز أن يكونا امرأتين.
قال القاضي: ويجب على المولج فيه الوضوء مرتبًا؛ لأن المولج إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة صار ذلك خلقة زائدة فيه، فصار كما لو أدخل في دبره مسبارًا وأخرجه فيجب الوضوء بالإخراج لا بالإيلاج.
وإن كان هناك خنثيان، فأولج كل واحد منهما ذكره في فرج صاحبه لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان عضوين زائدين، فلا يجب بإيلاجهما شيء.
وإن أولج كل واحد منهما ذكره في دبر صاحبه، قال القاضي: وجب على كل واحد منهما الوضوء مرتبًا؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا، وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين صار الذكران كالمسبارين، فيجب الوضوء بإخراجهما لا بإيلاجهما على المولج فيه، وكل واحد منهما مولج فيه، فوجب عليهما الوضوء؛ لأنه متيقن.
وإن أولج أحدهما ذكره في فرج صاحبه، وأولج الآخر ذكره في دبر الذي أولج فيه، فذكر القاضي أبو الفتوح: أنه لا يجب على واحد منهما غسل.
وأما الوضوء: فإنه يجب على المولج في دبره بالإخراج لا بالإيلاج، ولا يجب الوضوء على المولج في قبله.(1/237)
والذي يقتضي المذهب: أنه يجب الوضوء أيضًا على المولج في قبله؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين كان الذكران كالمسبارين يجب الوضوء بإخراجهما على المولج في دبره، وعلى المولج في قبله، فعلى أي تنزيل نزلتهما فلا بد من غسل أعضاء الوضوء، فوجب غسلهما.
[مسألة: وجوب الغسل من خروج المني]
] : وأما خروج المني: فإنه يوجب الغسل، سواء خرج بشهوة أو بغير شهوة.
وقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد: (لا يوجب الغسل، إلا إذا خرج بدفق وشهوة) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق. ولأنه آدمي خرج المني من مخرجه المعتاد، فأوجب الغسل، كما لو خرج بدفق وشهوة.
[فرع: خروج المني من فرج المرأة]
] : وإن خرج المني من فرج المرأة وجب عليها الغسل.
وقال النخعي: لا يجب عليها.
دليلنا: ما روت أم سلمة، «أن أم سليم، قالت: يا رسول الله: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال: " نعم، إذا رأت الماء» .(1/238)
قال أبو العباس بن القاص: وإن استدخلت المرأة المني، ثم خرج منها لم يجب عليها الغسل، وإنما يجب الوضوء عليها.
[فرع: خروج مني المشكل]
] : وإن خرج المني من قبلي الخنثى المشكل وجب عليه الغسل؛ لأنه قد خرج من الفرج الأصلي بيقين.
وإن خرج من أحدهما، فقد قال أبو علي السنجي: يجب عليه الغسل.
قال القاضي أبو الفتوح: وعندي أنها تكون على وجهين، كما لو خرج المني من دبره، وهذا ـ من قول القاضي ـ يدل على: أن المني إذا خرج من دبر الرجل أو المرأة هل يجب عليه الغسل منه؟ فيه وجهان.
[فرع: تكرار خروج المني]
] : إذا خرج من الإنسان المني فاغتسل، ثم خرج منه المني ثانيًا وجب عليه الغسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (إن خرج قبل البول وجب عليه إعادة الغسل؛ لأنه بقية ماء خرج بدفق وشهوة. وإن خرج بعد البول لم يجب عليه؛ لأنه خرج بغير دفق وشهوة) .
وقال مالك، والزهري، والليث، وعطاء، وأحمد، وإسحاق: (لا غسل عليه، وإنما عليه الوضوء، سواء خرج قبل البول أو بعده) .(1/239)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق.
ولأنه مني آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداءً.
وإن أحس الإنسان بانتقال المني منه، ولم يخرج فلا غسل عليه.
وقال أحمد: (يجب عليه الغسل) .
دليلنا: أن ما أوجب الطهارة، كان الاعتبار فيه بالظهور لا بالانتقال كالحدث.
[فرع: تيقن وجود المني]
] : وإن وجد المني على فخذه، أو في ثوب لا ينام فيه غيره، ولم يتيقن خروجه منه ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال صاحب " الفروع "، وأبو المحاسن: لا يجب عليه الغسل؛ لأنه لم يتيقن خروجه منه، فلم يجب عليه الغسل.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه الغسل؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سئل عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر الاحتلام؟ فقال: " يغتسل ". وسئل عن الرجل يرى أنه احتلم، ولم يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه» .(1/240)
ولأن الظاهر: أنه خرج منه.
فعلى هذا: يجب عليه إعادة كل صلاة صلاها قبل الاغتسال بعد أقرب نومة نامها؛ لأنه اليقين. والمستحب: أن يعيد كل صلاة صلاها من الوقت الذي تيقن أنه لم يكن معه المني إلى أن رآه.
وإن احتلم، ولم يجد البلل، أو شك: هل خرج منه المني؟ لم يجب عليه الاغتسال؛ لما ذكرناه من الخبر.
وإن رأى المني على فراش، أو ثوب يبتذله هو، وغيره، لم يجب عليه الغسل؛ لجواز أن يكون من غيره، والمستحب له: أن يغتسل؛ لجواز أن يكون منه.
وإن تحقق أن المني خرج منه في النوم، ولم يعلم متى خرج منه وجب عليه أن يغتسل، ووجب عليه أن يعيد كل صلاة صلاها بعد أقرب نومة نامها. ويستحب له أن يعيد ما صلى من الوقت الذي تيقن أنه حدث بعده.
قال في " المذهب ": وإن تقدمت منه رؤيا فنسيها، ثم ذكرها عند وجود المني فعليه إعادة ما صلى بعد ذلك؛ لأن معه علامة ودليلا.
و (مني الرجل) : هو الأبيض الثخين الذي تشبه رائحته رائحة طلع النخل في حال رطوبته، وتشبه رائحته رائحة البيض في حال يبوسته، وقد يجهد الرجل نفسه في الجماع فيخرج منيه أحمر وقد تصيب الرجل علة فيخرج منيه أصفر رقيقًا.
وأما (مني المرأة) : فهو أصفر رقيق.(1/241)
والمني: مشدد لا غير، قال الله تعالى {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] [القيامة: 37] .
وسمي المني منيًا؛ لأنه يمنى، أي: يراق، ولهذا سميت البلد: منى بهذا الاسم؛ لما يراق فيها من الدماء، يقال: منى الرجل وأمنى.
[فرع: لا غسل من المذي]
] : ولا يجب الغسل من المذي) ـ وهو: ماء أصفر رقيق، يخرج بأدنى شهوة من غير دفق، وهو مخفف، يقال: أمذى الرجل يمذي ـ ويجب منه الوضوء، وغسل الموضع الذي يصيبه لا غير.
وقال مالك: (يجب عليه غسل جميع الذكر) .
وقال أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ: (يجب عليه غسل جميع الذكر، والأنثيين مع الوضوء؛ لما روي في بعض ألفاظ حديث علي: «يغسل ذكره وأنثييه» .
دليلنا: أنه قد روي في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ينضح الماء على فرجه ويتوضأ» .
ولأن هذا خارج لا يوجب غسل جميع البدن، فلا يوجب غسل ما لم يصبه من الذكر والأنثيين، كالبول.
[فرع: لا غسل من الودي]
] : ولا يجب الغسل من خروج الودي) ـ وهو: ماء كدر ثخين، يخرج عقيب البول ـ لأن الغسل إذا لم يجب لخروج المذي، وهو أقرب إلى صفة المني، فلأن لا يجب بخروج الودي ـ وهو أقرب إلى البول ـ أولى.
والودي بالتخفيف: هو ما يخرج بعد البول، وبالتشديد: صغار النخل.(1/242)
فإن خرج منه شيء يشبه المذي، أو المني، أو الودي، ولم يتميز له ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يجب منه الوضوء لا غير؛ لأن غسل أعضاء الوضوء متيقن، فوجب. وما زاد على ذلك مشكوك فيه، فلم يجب.
والثاني: أنه مخير بين أن يجعل حكمه حكم المني، فيجب الغسل منه، ولا يجب غسل الثوب منه. وبين أن يجعل حكمه حكم المذي، فيجب منه الوضوء مرتبًا، ويجب غسل الثوب منه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
والثالث ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يجب عليه أن يجعل حكمه حكم المني وحكم المذي، فيجب عليه غسل جميع بدنه، ويجب عليه الترتيب في الوضوء، ويجب غسل الثوب؛ لأنه ليس لأحدهما مزية على الآخر، فوجب عليه أن يجمع بين حكميهما؛ ليسقط الفرض عنه بيقين.
[مسألة: الغسل من الحيض]
] : وأما الحيض: فإنه يوجب الغسل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] .
فموضع الدليل: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]ـ بالتشديد ـ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] .
والمراد به: الاغتسال.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» .(1/243)
وهل وجب الغسل برؤية الدم، أو بانقطاعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه وجب بانقطاعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» . فأمر بالاغتسال عند الإدبار، فدل على: أنه وجب بذلك.
والثاني: أنه وجب برؤية الدم، لأن ما أوجب الطهارة، وجب بالخروج لا بالانقطاع، كخروج البول والمني. وأما الخبر: فإنما أمر بالغسل في الوقت الذي يصح فيه الغسل.
وإن خرج الدم من أحد قبلي الخنثى المشكل، أو منهما، لم يجب عليه الغسل، سواء استمر يومًا وليلة، أو لم يستمر؛ لأنه إن خرج الدم من فرج الرجال فهو دم خرج من غير محل الحيض. وإن خرج من فرج النساء أو منهما فيجوز أن يكون الخنثى رجلا، وهذا عضو زائد خرج منه الدم فلم يجب عليه الغسل، كما لو خرج الدم من جروح في بدنه.
وأما دم النفاس: فإنه يوجب الغسل؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الولد.
وهل يجب الغسل برؤيته أو بانقطاعه؟
يحتمل أن يكون على الوجهين في دم الحيض.
وإن ولدت المرأة ولدًا، ولم تر دمًا فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليها الغسل؛ لأن خروج المني منها يوجب الغسل، والولد من المني.
والثاني: لا يجب عليها الغسل؛ لأنه لا يقع عليه اسم المني.
فعلى هذا: يجب عليها الوضوء، كما لو خرج من فرجها قطنة أو مسبار.(1/244)
[فرع: إيلاج الصغير]
] : وإن أولج صبي ذكره في فرج امرأة فلا أعرف فيه نصًا، والذي يقتضي المذهب: أنه يصير جنبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
و (الجنابة) ـ عند العرب ـ: الجماع، وهذا جماع؛ بدليل أنه يجب على المرأة المولج فيها الغسل؛ ولأنه حدث، فصح من الصبي، كخروج البول، ولكن لا يجب على الصبي الغسل إلا بعد البلوغ؛ لأنها عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصلاة. فإن اغتسل في حال صغره، وهو مميز صح غسله، ولم يجب عليه إعادته بعد البلوغ، كما لو توضأ وهو مميز، ثم بلغ.
[مسألة: غسل الكافر للإسلام]
] : إذا أسلم الكافر، ولم يكن وجب عليه الغسل في حال كفره، فالمستحب له: أن يغتسل؛ لما «روي أنه أسلم قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسلا» . ولا يجب عليه الغسل.
وقال أحمد، وأبو ثور، وابن المنذر: (يجب عليه الغسل؛ لحديث قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال) .(1/245)
دليلنا: أنه أسلم خلق كثير من الناس، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل، ولو أمرهم بذلك لنقل نقلا ظاهرًا.
وأما أمره لقيس وثمامة بن أثال: محمول على الاستحباب، ويحتمل: أنه علم أن عليهما غسلا من جنابة لم يغتسلا منه.
وإن كان قد وجب على الكافر غسل في حال كفره، ثم أسلم قبل أن يغتسل وجب عليه الغسل.
وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجب عليه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
وإن كان قد اغتسل في حال كفره فهل يجب عليه إعادته بعد الإسلام؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب عليه الإعادة؛ لأن غسل الكافر غسل صحيح، بدليل: أن المسلم إذا تزوج ذمية، فاغتسلت من الحيض حل له وطؤها، فلولا أن غسلها صحيح لم يحل له وطؤها.
و [الثاني] : يجب عليه الإعادة، وهو المنصوص؛ لأن الغسل عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فلم يصح من الكافر، كالصلاة والصوم؛ ولأن وضوء الكافر لا يصح، فكذلك غسله.
وأما غسل الذمية من الحيض: فقد اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: يصح في حق الآدمي، ولا يصح في حق الله تعالى، فيجب عليها إعادته بعد الإسلام؛ لأن غسلها يتعلق به حقان:
حق الآدمي لاستباحة الوطء، فصح منها؛ لأنه لا يفتقر إلى النية.
وحق الله تعالى، وذلك قربة يفتقر إلى النية، ولا تصح منها النية، فإذا أسلمت لزمها إعادته لحق الله تعالى، كما تقول فيمن وجبت عليه الزكاة فامتنع من بذلها، فإن الإمام يأخذها منه قهرًا، فإذا أخذها منه سقط بها حق الآدمي، ولا يجب عليه الدفع(1/246)
إليهم ثانيًا، ولا يسقط بذلك حق الله تعالى، وهو القربة.
وقال ابن الصباغ: لا يجب على الذمية إعادة الغسل لحق الله تعالى؛ لأنه لا حق للآدمي في غسلها، وإنما حقه في الوطء، ومن شرط استباحة الوطء صحة الغسل لحق الله تعالى، فلو لم يصح غسلها في حق الله تعالى لما استباح وطأها، ولأنه لو كان للآدمي حق في غسلها لسقط عنها بترك الزوج له، وإنما صح غسلها في حال كفرها لموضع الحاجة إليه، كما أن من شرط دفع الزكاة النية، وإذا امتنع من عليه الزكاة أخذها منه الإمام قهرًا من غير نية لموضع الحاجة.
قال الشافعي: (وينبغي أن يقال: إن الذمية إذا اغتسلت، ولم تنو أنه للحيض لم يستبح الزوج وطأها، كالذمي إذا وجبت عليه الكفارة في الظاهر، فأعتق من غير نية لم يجزئه. وإن نوى العتق عن الظهار أجزأه عنه، واستباح وطء المظاهر منها) .
[مسألة: فيما يحرم بالجنابة]
] : ولا يجوز للجنب: أن يصلي، ولا أن يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف، ولا يحمله؛ لأنه إذا لم يجز ذلك للمحدث فالجنب بذلك أولى.
ولا يجوز له: أن يقرأ شيئًا من القرآن.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يقرأ صدر الآية، ولا يقرأ إتمامها، ولا يكون المقصود من ذلك القراءة، وإنما هو بمنزلة التسبيح والذكر) .
وقال مالك: (يقرأ الجنب الآية والآيتين، على سبيل التعوذ) .
وقال داود: (يقرأ الجنب ما شاء من القرآن) .
وحكي عن ابن عباس: (أنه كان يقرأ ورده وهو جنب) .
وقال ابن المسيب لابن عباس: أيقرأ الجنب القرآن؟(1/247)
فقال: (نعم، أليس هو في صدره) .
وقال الأوزاعي: (لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب والنزول، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] [الزخرف: 13] ، وكقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] الآية [المؤمنون: 29] .
دليلنا: ما «روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت: يا رسول الله، إنك تأكل وتشرب، وأنت جنب؟! فقال: " أنا آكل وأشرب وأنام وأنا جنب، ولا أقرأ وأنا جنب» .
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحجزه عن قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة» .
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئًا من القرآن» .(1/248)
وروى ابن عباس قال: (كان عبد الله بن رواحة نائمًا مع امرأته في الفراش، فقام إلى جارية له في جانب البيت فأتاها، فانتبهت امرأته، فطلبته فلم تجده، فقامت تطلبه، فوجدته مع الجارية، فرجعت وأخذت الشفرة، فتلقاها فقال: ما هذه الشفرة؟! فقالت له: لو وجدتك في الموضع الذي رأيتك لوجأتك بها بين كتفيك، فقال: وأين كنت؟! فقالت: مع الجارية. فقال: ما كنت معها، أليس قد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجنب عن القراءة؟ فقالت: اقرأ، فأنشدها:
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من النجم طالع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو المشهور. وذكر بعضهم: أنه أنشدها:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت زوجته: صدق الله وكذب بصري. ثم غدا عبد الله بن رواحة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فضحك حتى بدت نواجذه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك) .(1/249)
وإن لم يجد الجنب ماء ولا ترابًا فإنه يصلى على حسب حاله، ويقرأ ما لا بدَّ له منه من القرآن؛ لموضع الحاجة والضرورة.
[فرع: ما يكره في الحمَّام]
] : ولا تكره قراءة القرآن في الحمَّام، وبه قال محمَّد.
وقال أبو حنيفة: (تكره) .
دليلنا: أنه موضعٌ نظيفٌ ' فلم تكره فيه قراءة القرآن، كغير الحمَّام.
وإن نجس فوه ولسانه بدم أو غيره كره له قراءة القرآن، وهل يحرم؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن من أصحابنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكره) .
دليلنا: أن فيه استهانة بالقرآن، فأشبه القراءة على الخلاء، وعلى الجنابة.
[فرع: اللبث في المسجد]
] : ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد، ويجوز له العبور فيه. وبه قال ابن عباسٍ، وابن مسعودٍ.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز له اللبث فيه، ولا العبور، إلا أن يحتلم في المسجد فيعبر فيه ليخرج) .
وقال الثوري: يتيمَّم، ثمَّ يخرج منه.
وقال أحمد، وإسحاق: (إذا توضأ الجنب جاز له اللبث في المسجد) .(1/250)
وقال المزني، وداود: (يجوز له اللبث فيه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: موضع الصلاة ـ فعبّر بـ (الصَّلاةِ) عن موضعها، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] [الحج: 40] . والصلوات: لا تهدّم، وإنما أراد به: مواضع الصلوات، وهي المساجد ـ لأن العبور لا يمكن في الصلاة، فثبت أنه أراد موضعها.
وقال جابٌر: (كان أحدنا يمرُّ في المسجد، وهو جنبٌ مجتازًا) . ولا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه.
والدليل ـ على من جوز اللبث ـ: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل المسجد لجنب، ولا لحائض» .
[فرع: النوم مع الجنابة]
] : ويجوز للجنب: أن ينام قبل أن يغتسل؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنَّها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جنبٌ لا يمس ماء» .
والمستحبُّ له: أن يتوضَّأ، ثمَّ ينام؛ لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدنا وهو جنبٌ؟ فقال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» .(1/251)
قال أبو عليّ الطبريُّ: وكذلك يستحبُّ له: أن يتوضأ إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو يطأ ثانيًا؛ لأن هذه الأسباب في معنى النوم. ولا يستحب ذلك للحائض؛ لأن حدثها لا يتخفَّف بالوضوء، بخلاف الجنب.
ولا يكره للجنب: أن يصافح غيره؛ لما روي «عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنبٌ، قال: (فانخنست) ـ يعنى: تنحَّيت ـ فاغتسلت ثم جئت، فقال: " أين كنت "؟ قلت: كنت نجسًا، فقال: " إن المسلم لا ينجس» .
وبالله التوفيق(1/252)
[باب صفة الغُسلِ] [مسألة: كيفية الغسل ومستحباته]
ِ إذا أراد أن يغتسل من الجنابة فالمستحبُّ أن يقول: بسم الله، على جهة الذكر، ولا ينوي بذلك التلاوة، وينوي الغسل من الجنابة، أو الغسل لأمر لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، أو الجلوس في المسجد، ثمَّ يغسل كفَّيه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى، ثمَّ يصبَّ الماء بيمينه على شماله، فيغسل ما بها من أذى، ثمّ يتمضمض ويستنشق ثلاثًا، ثمّ يتوضأ وضوءه للصّلاة، ثمّ يدخل أصابعه العشر في الماء، ويشرب بها أصول شعر رأسه ولحيته؛ ليكون أسهل لدخول الماء، ثمّ يحثي على رأسه ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ يفيض الماء على سائر جسده، ويدلك ما قدر عليه من بدنه بيديه.
والأصل فيه: ما روي «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وميمونة، وصفتا غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما وصفنا» .(1/253)
وهل يندب إلى غسل الرجلين بعد فراغه من الاغتسال؟
فيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\27] .
أحدهما: يندب إليه؛ لما روي في حديث ميمونة: «ثمّ تحوَّل عن مكانه، فغسل قدميه» .
والثاني: لا يندب، كسائر أعضاء الوضوء.
إذا ثبت هذا: فالواجب منه ثلاثة أشياء: النّيّة، وإزالة النجاسة، وإيصال الماء إلى البشرة الظاهرة وما عليها من الشّعر. وما زاد على ذلك سنّةٌ.
وقال أبو ثورٍ، وداود: (يجب الوضوء) .
وقال مالكٌ، والمزنيُّ: (إمرار اليد على ما تناله من البدن واجبٌ) .
وقال أبو حنيفة: (المضمضة والاستنشاق في الجنابة، واجبان) .
دليلنا: ما روي: «أنّ أمّ سلمة قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغسل من الجنابة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي الماء على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت» .
ولم يأمرها بالوضوء، ولا بالتدليك، ولا بالمضمضة والاستنشاق.
«وروى جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما أنا: فيكفيني أن أصب الماء على رأسي ثلاثًا، ثمّ أفيض الماء بعد ذلك على سائر جسدي» .(1/254)
قال في " الأمّ " [1/35-36] : (ويغسل ظاهر أذنيه وباطنهما؛ لأنهما ظاهرتان، ويدخل الماء فيما ظهر من صماخيه، وليس عليه غسل ما بطن) .
قال الصيدلاني: وإن كان داخل عينيه شعرٌ لم يلزمه غسله.
[فرع: غسل المرأة]
] : وإن كانت المرأة تغتسل كان غسلها كغسل الرجل. فإن كان لها ضفائر، فإن كان الماء يصل إليها من غير نقضها لم يجب عليها نقضها. وإن كان لا يصل إليها إلا بنقضها وجب عليها نقضها.
وقال النّخعيّ: يجب عليها نقضها بكل حالٍ.
وقال الحسن، وطاووسٌ: يجب عليها نقضها في غسل الجنابة دون الحيض.
دليلنا: ما روي «أنّ أم سلمة، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للغسل من الجنابة؟ فقال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت» .
وإنما لم يأمرها بنقضها، لعلمه أنّ شعرها خفيف يصل الماء إليه من غير نقضٍ؛ لأنّ شعور العرب خفيفةٌ.
فإن كان في رأسها حشوٌ، فإن كان رقيقًا لا يمنع من وصول الماء إلى باطنه لم يلزمها إزالته، ولا اعتبار بأن يصل الماء إلى ما تحته صافيًا؛ لأن تغيّر الماء على العضو غير مؤثرٍ. وإن كان الحشو ثخينًا يمنع من وصول الماء إلى باطنه وجب إزالته ليصل الماء إلى باطن الشعر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحت كل شعرةٍ جنابةٌ» .(1/255)
وإن كان على الرجل شعرٌ فحكمه حكم شعر المرأة.
وإن كانت المرأة تغتسل من الحيض أو النفاس فالمستحبّ: أن تأخذ قطعة من مسكٍ فتتبع بها أثر الدّم؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذي فرصةً من مسكٍ فتطهري بها "، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: " سبحان الله! تطهري بها " قالت عائشة: فاجتذبتها، وعرَّفتها الذي أراد، فقلت: تتبعي بها أثر الدّم» .
و (الفرصة) : القطعة، و (الفرص) : القطع.
قال المزني: فإن لم تجد مسكًا فطيبًا غيره، فإن لم تجد فالماء كافٍ.
فمن أصحابنا من صحّف ذلك، وقال: فطينًا بالنون، والصحيح: أنه أراد الطيب، وقد بيَّنه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/39] ، فقال: (وإن لم يكن مسكٌ فطيب ما كان، اتباعا للسنّة) .
قال ابن الصبّاغ: فإن تتبعته بالطين فلا بأس.
[فرع: قدر ماء الغسل]
] : ويستحبّ: أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مدّ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يَغْتَسِلُ بِصَاعٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ» .(1/256)
وروي: أنه «سئل جابرٌ عن الغسل؟ فقال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصّاع، ويتوضأ بالمدّ. فقال رجلٌ: إنه لا يكفيني، قال جابرٌ: قد كان يكفي من هو خيرٌ منك، وأوفر منك شعرًا» .
فإن أسبغ دون ذلك، وأقله: أن يجري الماء على ما أمر بغسله.. أجزأه.
وقال أبو حنيفة ومحمّدٌ: (لا يجزئه) . وروي ذلك عن عمر في الغسل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولم يفرق.
وروى عبد الله بن زيد: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بثلثي مدّ» .
ولأن ذلك يختلف باختلاف الأبدان وبالخرق والرّفق.(1/257)
[مسألة: وضوء الجماعة من إناء]
] : ويجوز أن يتوضأ الاثنان والثلاثة من إناء واحد؛ لما روى أنسٌ قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بوضوء في إناء؛ فوضع يده في ذلك الإناء، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وأمر النّاس أن يتوضؤوا، فتوضأ الناس من عند آخرهم، وكانوا نحوا من سبعين رجلاً» .
وهذا من معجزات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أبلغ في الإعجاز من انفجار الماء لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصخرة؛ لأن العادة جرت أنّ الماء يخرج من الحجر، ولم تجر العادة أنّ الماء يخرج من اليد.
ويجوز: أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» .
وروى «ابن عمر: قال: (كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناءٍ واحدٍ» .(1/258)
ويجوز أن يتوضأ أحدهما، ويغتسل بفضل الآخر في الإناء.
وقال أحمد: (يجوز للمرأة أن تتوضأ وتغتسل بفضل الرجل وبفضل المرأة، ولا يجوز للرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل المرأة، إذا خلت به) .
دليلنا: ما روي عن ميمونة: أنها قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل منها، فقلت: إني اغتسلت منه، فقال: "إن الماء ليس عليه جنابةٌ" واغتسل منه» .
ولأن ما جاز للمرأة أن تتوضأ به.. جاز للرجل أن يتوضأ به، كفضل الرّجل، وعكسه الماء النجس.
[مسألة: ليس في الغسل ترتيب الأعضاء]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما بدأ به الرجل والمرأة في الغسل.. أجزأهما) .
وهذا صحيح؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بواجب؛ لأنه فعل واحد في جميع البدن فهو كالعضو الواحد في الوضوء، إلا أنّ المستحبّ: أن يبدأ بما قدمناه.
قال في " البويطي ": (وأكره للجنب أن يغتسل في البئر، معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد قليلاً كان أو كثيرا، وكذلك التوضؤ فيه) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة» .(1/259)
و (الدائم) : هو الراكد، و (المعين) : السائل.
فإن انغمس في بئر، أو نهر، أو وقف تحت ميزاب ماءٍ أو مطرٍ، فأتى الماء على جميع بشرته الظاهرة، وما عليها من الشعر، ونوى الغسل من الجنابة.. أجزأه، كما لو غسل ذلك بنفسه.
[فرع: حكم وجود الحائل على الذّكر حال الجماع]
] : إذا لفّ على ذكره خرقةً، وأولجه في فرج امرأةٍ ولم ينزل.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه لا يجب عليهما الغسل؛ لأن ما أوجب الطهارة من الملامسة من غير حائل لم يوجب الغسل مع الحائل، كالطهارة الصّغرى.
والثاني: يجب عليهما الغسل؛ لأنه يسمّى مولجًا.
والثالث ـ وهو اختيار الصّيمري ـ: إن كانت الخرقة رقيقة..وجب عليهما الغسل؛ لأنّ وجودها كعدمها. وإن كانت صفيقةً.. لم يجب عليهما الغسل.
وإذا قلنا بالوجه الثاني، أو كانت الخرقة رقيقة في الثالث، ولم يباشر بدنه بدنها.. فإنه يكون جنبًا غير محدث.
وإن نظر إلى امرأة وهو على طهارةٍ، فأنزل، أو باشرها من وراء حائل وهو على طهارة، فأنزل، أو نام قاعدًا وهو على طهارة، فاحتلم.. فقد قال الشيخ أبو حامدٍ: إنه يكون جنبًا غير محدثٍ؛ لأنه يقال له: جنبٌ، ولا يقال له: محدثٌ.
وقال القاضي أبو الطيب: هو محدثٌ جنبٌ؛ لأنّ الحدث يحصل بخروج الخارج من أحد السبيلين، والجنابة تحصل بخروج المنيّ، فاجتمع فيه العلتان.(1/260)
وإن كان الرجل جنبًا غير محدثٍ.. فإنه يجب عليه غسل جميع بدنه مرةً واحدةً من غير ترتيب، ويستبيح به ما يستبيح بالوضوء. وإن كان الرجل جنبًا محدثًا، بأن يولج ذكره في فرجها من غير حائل، أو ينام مضطجعًا فيحتلم، وما أشبه ذلك.. فقد وجب عليه الوضوء والغسل، وفيما يجزئه من ذلك من خمسة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المنصوص عليه ـ: (أنه إذا اغتسل بنية الجنابة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة مرّةً واحدة من غير ترتيبٍ.. أجزأه عنهما) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولم يفرّق؛ ولأنهما طهارتان فتداخلتا، كغسل الجنابة والحيض.
والوجه الثاني: يجب عليه الوضوء مرتبًا والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة.
فعلى هذا: يجب عليه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرتين، ويجب عليه الترتيب في أعضاء الطهارة، ويحتمل: أن تجب عليه نيّة الوضوء مع نيّة الجنابة. ولا فرق بين أن يتوضأ أولا ثمّ يغتسل، أو يغتسل أولا ثمّ يتوضأ.
والثالث: يجب عليه الوضوء مرتبًا، ويجب عليه غسل سائر بدنه؛ لأنهما متفقان في الغسل مختلفان في الترتيب، فتداخلا فيما اتفقا فيه.
فعلى هذا: يجزئه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرّة واحدة لهما، ويحتمل: أن تجزئه نيّة الجنابة عن نيّة الوضوء، على هذا.
والرابع: أنه يقتصر على غسل واحد، ولا يجب عليه الترتيب؛ إلاّ أنه يجب عليه أن ينويهما، كما نقول فيمن جمع بين الحج والعمرة.
والخامس ـ حكاه في " الفروع " ـ: إن أحدث ثمّ أجنب، فعليه الوضوء والغسل. وإن أجنب ثمّ أحدث، كفاه الغسل.(1/261)
فإذا قلنا بالمنصوص: فغسل الجنب جميع بدنه عن الجنابة إلا أعضاء الوضوء، ثمّ أحدث.. لم يلزمه الوضوء؛ لأن حكم الجنابة باقٍ فيها، فلا يؤثر فيها الحدث، ويجزئه غسل أعضاء الطهارة من غير ترتيب.
وإن غسل الجنب أعضاء الوضوء دون بقية بدنه، ثم أحدث.. لزمه أن يتوضأ مرتبًا وجهًا واحدًا؛ لأن حدثه صادف أعضاء الوضوء، وقد زال حكم الجنابة منها، فلزمه الوضوء مرتبًا.
وإن غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، ثمّ أحدث.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها ـ وهو قول ابن الحداد، وهو المشهورـ: أنه لا يتعلق حكم الحدث في الرجلين؛ لوجود حدث الجنابة فيهما، فيغسلهما عن الجنابة، ويغسل باقي أعضاء الطهارة مرتبًا.
قال القاضي أبو الطيب على هذا: فهذا وضوءٌ ليس فيه غسل الرجلين، وإن شئت.. قلت: هذا وضوءٌ يبدأ فيه بغسل الرجلين، ولا نظير له.
والثاني ـ حكاه في " الفروع " ـ وهو: أنه يجب عليه الترتيب في الرجلين؛ تبعًا لوجوب الترتيب في باقي الأعضاء.
والثالث ـ حكاه أيضًا ـ: أنه يسقط الترتيب في باقي الأعضاء أيضًا؛ لسقوطه في الرجلين.
قال القاضي أبو الطيب: فإن كان محدثًا، فاعتقد أنه جنبٌ، فاغتسل من غير ترتيب، فإن قلنا بالمنصوص ـ في الجنب إذا كان محدثًا ـ: أنه يكفيه غسلٌ واحدٌ من غير ترتيب.. فهل يجزئه ها هنا الغسل في أعضاء الوضوء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الغسل يجزئ عن الحدثين معًا وإن لم يرتب، فلأن يجزئ عن الأصغر أولى.
والثاني: لا يجزئه ـ وهو الصحيح ـ لأنه أسقط الواجب بالتطوع، ويخالف إذا كانا واجبين؛ لأن حكم الحدث يسقط مع الجنابة، فكان الحكم لها.(1/262)
[فرع: الجنب إذا اغتسل للحدث]
] : وإن كان جنبًا، فنسي الجنابة واغتسل عن الحدث.. أجزأه ذلك في أعضاء الوضوء دون غيرها.
وكذلك إذا توضأ عن الحدث.. أجزأه ما غسله من أعضاء الطهارة عن الجنابة. وكذلك لو غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، فنسي الجنابة وغسلهما بنيّة الوضوء.. أجزأه عن الجنابة؛ لأن فرض الطهارة في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحدٌ، فأجزأه غسلهما، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ فيمن نسي الجنابة، فتيمّم عن الحدث ـ: (أجزأه؛ لأنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر ممّا فعل) . وكما لو توضأ ينوي: أنّ حدثه ريحٌ، فكان بولاً. أو اغتسلت المرأة بنيّة الغسل عن الحيض، وكانت نفساء أو جنبًا.
[فرع: قطع ما ترك من الشعر بلا غُسلٍ]
ٍ] : إذا غسل الجنب جميع بدنه إلا طرف شعره، فقطع ما بقي من الشعر ممّا لم يغسله.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها:
فمنهم من قال: يجب عليه غسل ما ظهر من الشعر بالقطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . والقطع لا يسمى غسلا.
ومنهم من قال: لا يجب عليه شيء؛ لأنه زال ما وجب غسله، فهو كما لو توضأ وترك رجله، ثم قطعت من فوق الكعب.. فإنه لا يجب عليه غسل ما ظهر بالقطع عن الحدث.
وبالله التوفيق(1/263)
[باب التيمُّم]
الأصل في جواز التيمّم: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] .
[المائدة: 6]
والتيمّم في اللغة: هو القصد، تقول العرب: تيممت فلانًا، أي: قصدته. قال امرؤ القيس:
فلما رأت أنّ الشّريعة همها ... وأنّ البياض من فرائضها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وكذلك التيمّم في الشرع، هو القصد إلى الصعيد.
وقد اختلف في قدر الممسوح، وعدد المسح:
فذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: أنّ التيمّم هو مسح الوجه واليدين إلى المرفقين، بضربتين أو أكثر. وروي ذلك عن ابن عمر، وجابر وإحدى الروايتين(1/264)
عن عليّ، وهو قول الشعبي، والحسن، ومالكٍ، والثوري، وأبي حنيفة.
وذهب الزهري إلى: أنه يمسح وجهه بضربةٍ، ويمسح يديه بضربةٍ إلى المنكبين.
وقال ابن المسيب، وابن سيرين: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربة للذراعين.
وقال عطاءٌ، ومكحولٌ، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جريرٍ: (ضربةٌ واحدةٌ للوجه، واليدين إلى الكفين) وهو اختيار ابن المنذر.
وروي عن علي: أنه قال: (ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى الكفّين) .(1/265)
وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وليس بصحيح؛ وإنما قال في القديم: (والتيمّم: أن تضرب ضربة فتمسح بها وجهك، ثمّ تضرب أخرى فتمسح بها يديك إلى المرفقين، وقد روي فيه شيء لم يثبت، ولم ثبت لم أعده) . فخرجوا ذلك قولاً، وليس بشيء.
ودليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمّم فمسح وجهه وذراعيه» . وروى ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» . ولأنه بدل يؤتى به في محلّ(1/266)
مبدله، فكان حده فيهما واحدًا، كالوجه.
إذا ثبت هذا: فيجوز التيمّم عن الحدث الأصغر، وهو: حدث الغائط، والبول، والريح، ولمس النساء، ومسّ الفرج. وعن الحدث الأكبر وهو: الجنابة، والحيض، والنّفاس. وبه قال علي، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري. وروي عن عمر، وابن مسعود: أنهما قالا: (لا يجوز للجنب أن يتيمّم) . وبه قال النخعي. وقيل: إنهما رجعا عن ذلك.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
قال زيد بن أسلم: وترتيبها: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]ـ يعني: من النوم ـ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى آخر الكلام، ثمّ بيّن حكم الجنب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] يعني: فاغتسلوا، ثمّ بيّن حكم(1/267)
المحدث والجنب معًا، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فاشتملت الآية عليهما) .
«وروى عمّارٌ قال: أجنبت فتمعّكت بالتراب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما كان يكفيك هكذا": (وضرب بيديه على الأرض، ومسح بها وجهه وكفيه» .
«وروى عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انفتل من الصلاة رأى رجلا لم يصل.. فقال له: " لم لم تصل؟ "فقال: كنت جنبا، ولم أجد الماء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيد يكفيك» .
«وروى أبو ذرّ قال: اجتويت المدينة ـ يعني: كرهت المقام فيها ـ فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذود وبغنم، وقال لي: "ابد ابد" يعني: اخرج إلى البادية ـ فخرجت بأهلي إلى الربذة، فكنت أعدم الماء الخمسة الأيام والستة وأنا جنب، فأصلي بغير طهور، ثم قدمت المدينة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أبو ذر؟ " قلت: نعم، هلكت يا رسول الله، قال: "وما أهلكك؟ "، فقصصت عليه القصّة،(1/268)
وقلت: إني كنت أصلي بغير طهورٍ، فأمر لي بماء، فاستترت براحلته واغتسلت، ثمّ أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أبا ذرّ، الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» .
فإن وجد الجنب الماء بعد التيمّم.. لزمه استعمال الماء، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لا يلزمه استعمال الماء؛ بل له أن يصلي بتيمّمه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» .
ولا يصح التيمّم عن إزالة النجاسة.
وقال أحمد: (يصح) .
دليلنا: أن التيمّم مسح الوجه واليدين، وقد تكون النجاسة في غير الوجه واليدين، فكيف يؤمر بمسح الوجه واليدين عن نجاسة في غيرهما؟! كما لا يجوز أن يغسل وجهه ويديه لنجاسة في غيرهما، ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وذلك لا يزول بالتيمّم.
[مسألة: فيما يتيمّم به]
] : ولا يجوز التيمّم إلا بالتراب الذي له غبارٌ يعلق في العضو، وبه قال أحمد، وداود.
وقال أبو حنيفة: (يجوز التيمّم بالتراب، وبكل ما كان من جنس الأرض، كالكحل، والنّورة، والزرنيخ، والجصّ) . والغبار عنده ليس بشرط، بل لو ضرب يده على صخرة ملساء، أو حائطٍ أملس.. أجزأه. وأما الشجر والذهب، والفضة(1/269)
والحديد، والرصاص..فلا يجوز التيمّم به.
وقال مالكٌ: (يجوز التيمّم بالأرض، وبما كان متصلاً بالأرض، كالأشجار) ويجوز التيمّم عنده بالملح.
وقال الثوري، والأوزاعي: (يجوز التيمّم بالأرض، وبكل ما كان عليها، سواءٌ كان متصلاً بها، أو غير متَّصلٍ) . وهذا أعمُّ المذاهب.
دليلنا: ما روى حذيفة بن اليمان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فضلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت الأرض لنا مسجدًا، وترابها لنا طهورًا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» . فخصَّ ترابها بجواز التيمّم، فدلّ على: أنه لا يجوز بغيره؛ ولأنه طهارةٌ عن حدثٍ فاختصّت بجنسٍ طاهرٍ، كالوضوء، وفيه احترازٌ من الاستنجاء والدّباغ.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجوز التيمّم بالتراب من كلّ أرضٍ: سبخها، ومدرها، وبطحائها) .
فأما (السّبخ) : فهي الأرض المالحة.
وحكي عن بعضهم: أنه قال: لا يصح التيمّم به. وهذا ليس بصحيح؛ لـ: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتيمّم بتراب المدينة» ، وهي أرضٌ مالحةٌ.
وأما (المدر) : فهو التراب الذي أصابه الماء، فاستحجر وخفّ، فإذا سحق.. صار ترابًا.
وأمّا (البطحاء) : ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه القضّ من الأرض.(1/270)
والثاني: أنه التراب المستحجر.
وهل يجوز التيمّم بالطين الأرمنيّ، والتراب المأكول؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه يجوز التيمّم؛ لأنه ترابٌ.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه مأكولٌ.
[فرع: التيمّم بالرمل]
قال في " الأمّ " [1/43] : (ولا يجوز التيمّم بالكثيب الغليظ) ، وقال في " الإملاء ": (يجوز التيمم بالتراب، والرّمل) . وقال في القديم: (يجوز التيمّم بالرّمل) .
واختلف أصحابنا في التيمّم بالرمل: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على الحالين:
والذي قاله في " الأم " في الكثيب الغليظ، أراد به: الرّمل الذي لا يخالطه التراب.
والذي قاله في " الإملاء " والقديم أراد به: الرّمل الذي يخالطه التراب.
وقال ابن القاصّ: بل في الرّمل قولان:
أحدهما: يجوز التيمّم به؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنا نكون بأرض الرّمل، وتصيبنا الجنابة، والحيض، والنفاس، ولا نجد الماء أربعة(1/271)
أشهر، أو خمسة أشهر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالأرض» .
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، فأشبه الحجارة المدقوقة، وأما حديث أبي هريرة: فمحمول على رمل يخالطه تراب؛ لأن العرب لا تغرب إلا إلى أرض بها نبات، والرّمل لا ينبت إذا كان لا تراب فيه.
وإن أحرق الطين وتيمّم بمدقوقه.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه يقع عليه اسم التراب.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح بالخزف المدقوق.
[فرع: التيمّم بالطين والتراب النجس]
] : قال في " الأم " [1/43] : (ولو لطخ على وجهه الطين.. لم يجزه) ؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، ولما روى عكرمة: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن رجل في طين، لا يستطيع أن يخرج منه؟ فقال: (يأخذ من الطين، فيطلي به بعض جسده، فإذا جفّ.. تيمّم به) . ولا يعرف له مخالف. فإن خاف فوت الوقت قبل أن يجفّ.. كان بمنزلة من لم يجد ماءً ولا ترابًا، ويأتي حكمه.
ولا يجوز التيمّم بتراب نجس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
و (الطيب) : يقع على ما تستطيبه النفس؛ كقولهم: هذا طعام طيب.
ويقع على الحلال، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] [المؤمنون: 51] يعني: الحلال. ويقع على الطاهر.(1/272)
ولا يجوز أن يكون المراد بالآية ها هنا: ما تستطيبه النفس، ولا الحلال؛ لأن التراب لا يوصف بذلك، فثبت أنه أراد به الطاهر. ولأنه طهارةٌ، فلا تصح بنجس، كالوضوء.
ولا فرق بين أن يكون التراب الذي خالطته النجاسة قليلاً أو كثيرًا، بخلاف الماء؛ لأن للماء قوة تدفع النجاسة عن نفسه.
وإن خالط التراب ذريرةٌ أو نورةٌ أو دقيقٌ، فإن استهلك التراب في هذه الأشياء، وغلبت عليه.. لم يجز التيمّم به بلا خلاف على المذهب. وإن استهلكت هذه الأشياء في التراب، وغلب عليها.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز التيمّم به، كما تجوز الطهارة بالماء الذي خالطه مائعٌ واستهلك المائع فيه.
والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأن المخالط للتراب يمنع من وصول التراب إلى العضو، والمخالط للماء لا يمنع من وصول الماء إلى العضو؛ لأن الماء يجري بطبعه.
[فرع: تيمّم الجماعة في مكان وصورٌ أخرى]
] : ويجوز أن يتيمّم الجماعة من موضعٍ واحد، كما يجوز أن يتوضأ الجماعة من ماء في إناءٍ واحدٍ.
وإن ضرب يديه على بدنه، أو ثيابه، أو آذانه، أو رأسه، أو ظهره، فعلق بهما غبارٌ، فتيمّم به.. صحّ.
وقال أبو يوسف: لا يصحّ.
دليلنا: أنه يقع عليه اسم التراب، وهو طاهرٌ غير مستعمل، فصحٌ تيمّمه به، كما لو أخذه من الأرض.(1/273)
وإن تيمّم، فبقي على أعضاء التيمّم غبارٌ من التيمّم، فتيمّم هو به، أو غيره.. لم يصح تيمّمه؛ لأنه مستعمل في التيمّم، فلم يصح التيمّم به، كما لو أخذ الماء من وجهه أو يديه، ومسح به رأسه.
ولو علق على وجهه ترابٌ من غير التيمّم، فمسح به وجهه من غير أن ينقله عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لم يصح تيمّمه.
وإن أخذه من وجهه، ثمّ أعاده إليه.. فهل يصح تيمّمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو مسحه عليه من غير أن ينقله.
والثاني: أنه يصح، كما لو وقع على غير الوجه، فنقله منه إلى وجهه.
وإذا قلنا بالأول، وعلق على يديه ترابٌ من غير التيمّم، فأخذه ومسح به وجهه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه نقله من موضع الفرض، فهو كما لو نقل منه ما بقي عليه من التيمّم.
والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه غبار ترابٍ طاهرٍ غير مستعملٍ، فهو كما لو أخذه من بطنه أو ظهره.
وإن تيمّم بما يتناثر من أعضاء المتيمّم من الغبار من التيمّم، أو تيمّم به غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن المستعمل من التراب ما بقي على أعضاء التيمّم، دون ما تناثر.
والثاني: لا يصح، كما لا يصح الوضوء بما تساقط من الماء عن أعضاء الطهارة؛ ولأنه لو مسح يديه بالضربة التي مسح بها وجهه..لم يصح وإن كان قد بقي فيهما غبارٌ، فلأن لا يصح فيما تناثر من الوجه أولى.(1/274)
[مسألة: هل يرفع التيمّم الحدث]
؟] : التيمّم لا يرفع الحدث.
وقال داود وشيعته، وبعض أصحاب مالك: (التيمّم يرفع الحدث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأنها طهارةٌ عن حدث تستباح بها الصلاة، فوجب أن يرفع الحدث، كالطهارة بالماء.
ودليلنا: ما «روى عمرو بن العاص قال: (كنت في غزوة ذات السّلاسل، فأجنبت في ليلةٍ باردةٍ، فأشفقت على نفسي، إن اغتسلت بالماء.. هلكت، فتيمّمت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا عمرو: صلّيت بأصحابك وأنت جنبٌ؟ " فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئًا» .
ففي هذا الخبر فوائد.
منها: أنّ التيمّم يجوز لخوف التّلف من البرد.
ومنها: أنّ الجنب يجوز له التيمّم.
ومنها: أنّ الجنب إذا صلى بالتيمّم في السفر.. لا إعادة عليه.(1/275)
ومنها: أنّ من تيمّم لأجل البرد في السفر.. لا إعادة عليه.
ومنها: أنّ التيمّم لا يرفع الحدث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جنبًا مع علمه أنه قد تيمّم.
ومنها: أنه يجوز للمتيمّم أن يؤم المتوضئين؛ لأن أصحابه كانوا متوضئين.
ومنها: أنّ هذا المتلو كلام الله؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول، ولم يسمع إلا المتلوّ.
ومنها: أنّ الجنب إذا تيمّم.. يجوز له أن يقرأ في غير الصلاة؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن الدليل على أن التيمّم لا يرفع الحدث: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذرّ: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، وإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . فلو ارتفع حدثه..لم يجب عليه استعمال الماء.
[مسألة: نية التيمّم]
] : ولا يصح التيمّم إلا بالنية.
وقال الأوزاعي، والحسن بن صالح: (يصح من غير نية) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والتيمّم في اللغة: القصد. والنية: هي القصد أيضًا.
إذا ثبت هذا: فإن نوى بتيمّمه: رفع الحدث، وقلنا: إن التيمّم لا يرفع الحدث.. ففيه وجهان:(1/276)
أحدهما: ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، فقد نوى ما لا يفيده.
والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يصح؛ لأنه يتضمن استباحة الصلاة.
وإن نوى بتيمّمه استباحة الصلاة المفروضة، أو نوت الحائض إذا انقطع دمها: استباحة الوطء.. صح التيمّم؛ لأن التيمّم يراد لذلك.
وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاةٍ نافلة.. صح تيمّمه على المذهب؛ لأن كلّ طهارة صحت بنية استباحة الفرض.. صحت بنية استباحة النفل، كالطهارة بالماء.
وحكى الطبري: أن ابن القاص قال: لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم طهارة ضرورة، ولا ضرورة به إلى النفل.
فإذا قلنا بالأول، ونوى بتيمّمه استباحة الصلاة، ولم ينو الفريضة، أو نوى صلاة نفلٍ..استباح به النّفل. وهل يستبيح بذلك التيمّم صلاة الفرض؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يستبيح به الفريضة قولاً واحدًا.
و [الثاني] : قال
المسعودي [في " الإبانة " ق\15] ، وأبو حاتم القزويني: هي على قولين:
أحدهما: يستبيح به الفرض، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن كل طهارة استباح بها النّفل.. استباح بها الفرض، كالطهارة بالماء.
والثاني: لا يستبيح به الفرض، وبه قال مالك؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، وإن استباح به الصلاة.. فلم يستبح به ما لم ينوه، بخلاف الطهارة بالماء.
فإذا قلنا بهذا: أنه لا يصح تيمّمه للفرض حتى ينويه.. فهل يفتقر إلى تعيين الفريضة بنية التيمّم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك، لأن كل موضع افتقر إلى نية الفرض.. افتقر إلى تعيين الفرض، كالإحرام في الصلاة، ونّية الصّوم.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو ظاهر النّصّ؛ لأن الشافعي قال: (وينوي(1/277)
بتيممه الفريضة) . وأطلق، ولم يشترط التعيين. وقال في " البويطي ": (فلو تيمّم ونوى المكتوبتين.. لم تجزه إلا لصلاةٍ واحدةٍ) . ولو كان التعيين شرطًا.. لم تجزئه لواحدةٍ منهما، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة لا يحتاج إلى تعيينها، فلم يفتقر إلى تعيين المستباح.
وإذا نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ ونافلةٍ.. جاز له أن يصلي به الفريضة التي نواها، ويصلي به ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها، في وقتها وفي غير وقتها؛ لأنه قد نوى استباحة النّفل بتيمّمه، والنفل لا ينحصر.
وإن نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ، ولم ينو النفل..فهل يستبيح به النفل؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق\15] : فيه قولان.
وقال البغداديون من أصحابنا: يستبيح به النفل قولاً واحدًا؛ لأن الفرض أعلى من النفل، فإذا استباح الفرض بتيمّمه.. استباح به النفل.
فعلى هذا: له أن يصلي به النفل بعد الفريضة، ما دام وقتها فيها باقيًا على سبيل التبع لها. وإن خرج وقت الفريضة..فهل له أن يصلي النّفل بذلك التيمّم؟
فيه وجهان؛ حكاهما المحاملي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النافلة من أتباع الفريضة، فلم تصح له النافلة بذلك التيمّم بعد ذهاب وقت المتبوع.
والثاني: يجوز؛ لأنها طهارة استباح بها النفل في وقت الفريضة، فاستباح بها النفل بعد خروج وقت الفرض، كالوضوء.
وهل له أن يتنفل بذلك التيمّم قبل صلاة الفريضة؟ فيه قولان:
أحدهما: يجوز؛ لأن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة.. جاز له قبلها، كالوضوء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إنما استباح النافلة بهذا التيمّم تبعًا للفرض، فلا يجوز أن يتقدم التابع على المتبوع.(1/278)
[فرع: ما يفعل بنّية النفل]
] : وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاة النفل.. جاز له أن يصلي به على الجنازة إذا لم تتعيّن عليه؛ لأنها كالنافلة. ويستبيح به مسّ المصحف وحمله.
وإن كان جنبًا، أو حائضًا، ونوى التيمّم للنافلة.. استباح به قراءة القرآن، واللبث في المسجد، والوطء؛ لأن النافلة أكد من هذه الأشياء، لأن الطهارة شرط فيها بالإجماع، والطهارة مختلف فيها لهذه الأشياء، فإذا استباح النافلة.. استباح ما دونها.
وإن نوى بتيمّمه استباحة هذه الأشياء.. فهل له أن يصلي به النفل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يستبيح به النفل؛ لأن هذه الأشياء نوافل، فاستباح صلاة النفل بالتيمّم لهذه الأشياء.
والثاني: لا يستبيح به صلاة النفل؛ لأنها آكد في باب الطهارة، على ما تقدم.
[مسألة: كمال كيفية التيمم]
وإذا أراد التيمّم.. فإنه يسمي الله تعالى، كما قلنا في الوضوء، وينوي على ما مضى، ثمّ يتيمّم.
والكلام فيه في فصلين: في الاستحباب، وفي المجزئ منه.
فأما الاستحباب: فإن المزني روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " (1/28) قال: (يضرب على التراب ضربةً، ويفرق بين أصابعه) . وقال في موضعٍ آخر: (يضع يديه على التراب) .
قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما أراد بقوله (يضع يديه) : إذا كان التراب ناعمًا دقيقًا؛ لأنه يعلق غباره من غير ضربٍ.(1/279)
وأما إذا كان التراب غير ناعمٍ.. فإنه يضرب ويفرق بين أصابعه؛ لأنه لا يعلق الغبار بكفيه إلا بالضرب.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لا يفرق بين أصابعه في الضربة الأولى؛ لئلا يحصل التراب بين أصابعه في الأولى، فيكون ماسحًا لجزء من يديه قبل وجهه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن حصل على كفّيه تراب كثير.. نفخ التراب؛ ليخففه من على يديه، ويبقي عليهما أثره) ؛ لما «روى أسلع، قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا جنب، فنزلت آية التيمّم، فقال: "يكفيك هكذا": (فضرب بكفيه الأرض، ثمّ نفضهما، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ أمرهما على اللحية، ثمّ أعادهما إلى الأرض، فمسح بهما الأرض، ثمّ دلك إحداهما بالأخرى، ثمّ مسح ذراعيه: ظاهرهما وباطنهما» .
وإنما نفضهما؛ لأنه علق بهما غبار أكثر مما يحتاج إليه فخففهما، ثمّ يمسح بيديه على وجهه الذي وصفناه في الوضوء، ويمرهما، على ظاهر شعر الوجه.
وهل يجب عليه إيصال التراب إلى باطن الشعر في الوجه الذي يجب إيصال الماء إليه في الوضوء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه ذلك، كما قلنا في الوضوء.
والثاني: لا يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف التيمّم، ومسح وجهه بضربة، وبذلك لا يصل التراب إلى باطن شعر الشارب، والعذار، والعنفقة وإن كان خفيفا. ويخالف الوضوء؛ لأنه لا مشقة عليه في إيصال الماء إلى باطن هذه الشعور، فوجب، وعليه مشقة في إيصال التراب إلى باطنها، فلم يجب.(1/280)
ثم يضرب ضربة ثانية، ويفرق بين أصابعه. وإن كان عليه خاتم.. نزعه قبل الضربة الثانية؛ لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحتها، فإذا فعل ذلك.. فقد سقط الفرض عن الراحتين، وعما بين الأصابع بما وصل إليها من التراب.
فإن قيل: إذا سقط الفرض به.. فقد صار مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به، وعندكم: لا يجوز نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى؟
فالجواب: أنه لو انفصل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى، لكان في صحة ذلك وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنهما كالعضو الواحد، ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، كما لو انفصل الماء من وجهه إلى يديه.
فعلى هذا: الفرق بين الماء والتراب: أن الماء ينفصل من إحدى اليدين إلى الأخرى، والتراب لا ينفصل من إحداهما إلى الأخرى، ولأن هاهنا به حاجة إلى ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعا من يد بكفها، بل لا بد من كف أخرى، فصار ذلك بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضه إلى بعض.
وأما مسح إحدى اليدين بالأخرى.. فذكر المزني [في " المختصر " 1/28-29] فيها ترتيبا، فقال: يضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعهما، ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن كف الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه فيمرها على ظهر إبهامه، ويكون باطن كفه اليمنى لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وخلل بين أصابعهما.(1/281)
وإنما قال: يضع [ذراعه اليمنى في بطن] كفه اليسرى؛ لأنها هي الماسحة، فاستحب له أن يضع الماسح على الممسوح.
وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/42] ترتيبا آخر، فقال: (يضع ذراعه اليمنى في باطن كفه اليسرى على ظاهر أصابعه اليمنى، ويضم إبهامه إلى أصابعه، ثم يمر بطن يده، فإذا بلغ الكوع أدار إبهامه على ذراعه، وقبض بإبهامه وأصابعه على باطن ذراعه، ثم يمر ذلك إلى المرفق، فإن بقي شيء من ذراعه لم يمر التراب عليه.. أدار يده عليه حتى يصل التراب إلى جميعه) .
قال أصحابنا: وما ذكره المزني أحسن.
و (الكوع) : هو العظم الناتئ الذي في معصم اليد تحت الإبهام.
و (الكرسوع) : هو العظم المقابل له تحت الخنصر.
قال الجويني: ويستحب أن لا يفصل يديه، بل تكونان متصلتين حين يمسحهما إلى أن يفرغ. والأصل في ذلك: ما ذكرناه من حديث الأسلع.
وأما المجزئ من ذلك: فأن ينوي، ويوصل التراب إلى وجهه ويديه إلى المرفقين بضربتين أو أكثر - وسواء أوصل ذلك بيديه أو بخشبة أو بغير ذلك ـ وتقديم الوجه على اليدين. وما زاد على ذلك سنة.
[مسألة: فيمن ييممه آخر]
وإن أمر غيره فيممه، ونوى هو.. فالمنصوص: (أنه يجزئه، كما يجزئه في الوضوء) .
وقال ابن القاص: لا يجزئه، قلته: تخريجا.
هذا نقل البغداديين من أصحابنا.(1/282)
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : إذا يممه غيره، فإن كان لعجز.. صح، وإن كان لغير عجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.
[فرع: الوقوف في مهب الريح]
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/42] : (وإن سفت الريح عليه ترابا ناعما، فأمر يده على وجهه.. لم يجزئه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه..أجزأه) . واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال القاضي أبو حامد: هذا إذا لم يعمد الريح وينو التيمّم، فأما إذا عمد الريح، ونوى التيمم..أجزأه، كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ماء، فنوى الوضوء، وجرى الماء على أعضاء الطهارة.
وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل هذا على: أنه لم يتيقن وصول التراب إلى جميع أعضاء التيمم، فأما إذا تيقن ذلك.. أجزأه، ولم يحتج إلى إمرار اليد.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأن الشافعي لم يفصل.
قال ابن الصباغ: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى الوجه من غير مسح، ولأن الله تعالى أمر بالمسح، وهذا لم يمسح، ولا يدخل عليه: إذا غسل رأسه مكان المسح.. فإنه يجزئه وإن لم يمر يده عليه لقيام الدليل على ذلك؛ لأنه إذا أجزأه ذلك عن(1/283)
الجنابة.. فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى، بخلاف التيمم.
قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\35] : وإن أدنى وجهه من الأرض، أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز.. صح. وإن كان لا لعجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان.
[فرع: استيعاب المسح لأعضاء التيمم]
إذا بقي لمعة من الوجه لم يمر عليها التراب..لم يجزئه.
وحكى الحسن بن زياد الوضاحي عن أبي حنيفة: (أنه إذا مسح أكثر وجهه..أجزأه) .
دليلنا: أن أكثر العضو لا يقوم مقام جميعه في الوضوء في الماء القليل، فكذلك في التيمم.
فعلى هذا: إن كان قد مسح يديه..لم يجزئه مسحهما، فيعيد اللمعة وحدها، ثم اليدين إن لم يتطاول الفصل. وإن تطاول الفصل.. فهل الفصل يبطل ما مسحه من وجهه؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الوضوء.
[مسألة: للمسافر والراعي أن يتيمما]
قال في " الأم " [1/39] : (وللمسافر الذي لا ماء معه، وللمعزب في إبله أن يجامع أهله، وإن لم يكن معه ماء) . وروي ذلك عن ابن عباس.(1/284)
وروي عن علي، وابن عمر، وابن مسعود: أنهم قالوا: (ليس له أن يصيب أهله) .
وقال مالك: (أحب أن لا يصيب أهله إلا ومعه الماء) .
وقال الزهري: المسافر لا يصيب أهله، والمعزب يصيب أهله.
دليلنا: أنا قد دللنا على: أنه يجوز للجنب التيمم، فلم يمنع من أهله، كما لو وجد الماء.
قال الشافعي: (ويجزئه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها) . وهذا نص الشافعي [في " الأم " 1/39] : على أن رطوبة فرج المرأة نجسة.
ومن أصحابنا من قال: إنها طاهرة، ويأتي ذكر ذلك.
[فرع: تيمم عن حدث فبان جنبا]
فإن تيمم للفريضة، معتقدا: أنه محدث، ثم ذكر: أنه كان جنبا.. أجزأه.
وقال مالك وأحمد: (لا يجزئه) .
دليلنا: أنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر مما فعل، وهو: نية استباحة(1/285)
الصلاة، فأجزأه، كما لو اغتسلت المرأة عن الحيض، ثم بان: أنها كانت جنبا، أو توضأ عن حدث البول، فبان: أنه كان ريحا.
[فرع: التيمم في السفر والحضر]
يجوز التيمم في السفر الطويل، بلا خلاف على المذهب.
وأما في الحضر والسفر القصير: فأكثر أصحابنا قالوا: يجوز قولا واحدا.
وحكى ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: أن فيه قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن استباحة الصلاة بالتيمم رخصة، فاختص بالسفر الطويل، كالقصر، والفطر.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] .
ولم يفرق بين الحضر والسفر، ولا بين السفر القصير والسفر الطويل، وإنما يختلف الحكم في الإعادة.
مسألة: [يتيمم بعد دخول الوقت] :
ولا يصح التيمم للصلاة إلا بعد دخول الوقت. وبه قال مالك، وأحمد، وداود.
وقال أبو حنيفة: (يصح التيمم لها قبل دخول وقتها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .
فأجاز التيمم للقائم إلى الصلاة، وإنما يصح القيام إليها بعد دخول وقتها.(1/286)
وأما الطهارة بالماء: فظاهر الآية يدل على: أنه لا يجوز قبل دخول الوقت، إلا أنا تركناه بالسنة والإجماع، وبقي التيمم على ظاهر الآية. ولأن التيمم طهارة ضرورة، فلم يصح للصلاة قبل دخول وقتها، كطهارة المستحاضة.
إذا ثبت هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة ": ق\29] : وقت التيمم لصلاة الخسوف: عند الخسوف. ولصلاة الاستسقاء: عند خروج الناس إلى الصحراء. وللصلاة على الميت: إذا غسل. ولتحية المسجد: بعد الدخول. وللفوائت: عند تذكرها.
وإن تيمم لنافلة لا سبب لها في الوقت المنهي عن الصلاة فيه.. لم يصح تيممه، ولم يستبح به النافلة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم لفريضة قبل دخول وقتها.
[فرع: تيمم لفائتة وصلى حاضرة]
وإن تيمم لفائتة عليه قبل دخول وقت الفريضة، فلم يصل الفائتة حتى وقت الفريضة.. فهل له أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت؟ ينظر فيه:
فإن كانت الصلاتان مختلفتين، بأن كانت الفائتة عليه الصبح، والتي دخل وقتها الظهر، أو العصر، فإن قلنا: إن تعيين الصلاة التي تيمم لها شرط في صحة التيمم(1/287)
لها.. لم يصح له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؛ لأنه لم يعينها في التيمم.
وإن قلنا: إن تعيين الصلاة لا يشترط في نية التيمم لها، أو كانت الفائتة عليه موافقة للداخل وقتها، بأن كانت الفائتة ظهر أمسه، والتي دخل وقتها ظهر يومه.. فهل له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال ابن الحداد: يجوز. وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه يجوز له أن يصلي به الفائتة بعد دخول وقت الحاضرة، فجاز له أن يصلي به الحاضرة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها، فأراد أن يصلي به مكانها فائتة عليه، ولأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم، فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها، فهو كما لو تيمم للحاضرة قبل دخول وقتها.
[مسألة: من يحق له التيمم]
ولا يصح التيمم للصلاة بعد دخول وقتها إلا لعادم للماء، أو لخائف من استعماله.
فأما الواجد للماء، القادر على استعماله.. فلا يصح تيممه، سواء خاف فوت وقت الصلاة، أو لم يخف.
وقال أبو حنيفة: (إذا خاف فوت وقت صلاة العيد أو الجنازة.. جاز له أن يتيمم لهما، وإن كان واجدا للماء) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .(1/288)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . وهذا واجد للماء.
وإن وجد ماء يحتاج إليه للشرب، ويخاف إن استعمله في الطهارة التلف من العطش؛ لأنه يقطع مفازة لا يكون فيها ماء.. جاز له أن يتيمم؛ لأن المريض الذي يخاف من استعمال الماء يجوز له تركه وإن كان لا يتلف في الحال، فكذلك هذا مثله.
[مسألة: حكم طلب الماء]
ولا يصح التيمم للعادم للماء إلا بعد الطلب وإعواز الماء.
وقال أبو حنيفة: (لا يحتاج إلى الطلب، بل إذا كان مسافرا لا يعلم وجود الماء.. جاز له أن يتيمم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولا يثبت له أنه غير واجد إلا بعد الطلب.
ولا يجزئه الطلب إلا بعد دخول الوقت؛ لأنه وقت جواز التيمم. فإن طلب قبل دخول الوقت..أعاد الطلب بعد دخول الوقت.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: فإذا كان قد طلب قبل دخول الوقت، ثم دخل الوقت ولم يتجدد حدوث ماء.. كان طلبه عبثا؟
فالجواب: أنه إنما يتحقق أنه لم يحدث ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء.. فهذا يجزئه بعد دخول الوقت؛ لأن هذا هو الطلب. وأما إذا غابت عنه.. جاز له أن يتجدد فيها حدوث ماء، فيحتاج إلى الطلب.(1/289)
فأما إذا طلب بعد دخول الوقت، ولم يتيمم عقبه..جاز له أن يتيمم بعد ذلك، ولا يلزمه إعادة الطلب، إلا أن يتجدد أمر؛ لأنه لما طلبه في وقته.. لم يكلف تجديد الطلب؛ لما فيه من المشقة. وإذا طلب قبل الوقت.. كلف إعادته؛ لتفريطه.
وإن كان في مفازة لا يوجد في مثلها الماء غالبا.. فهل يلزمه الطلب؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\30] :
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه غير مفيد.
والثاني: يلزمه تعبدا.
[فرع: من تيمم وأخر الصلاة]
قال في" البويطي ": (فإن تيمم بعد الطلب في أول الوقت، وأخر الصلاة إلى آخر الوقت..أجزأه؛ لأنه تيمم في وقت يمكنه فعل الصلاة فيه) .
قال ابن الصباغ: فإن سار بعد تيممه إلى موضع آخر، وطلع عليه ركب يجوز أن يكون معهم ماء بتفتيش ما.. احتاج إلى تجديد الطلب.
وأما كيفية الطلب: فهو أن يبدأ بتفتيش رحله؛ لأنه أقرب الأشياء إليه، ثم ينظر في الناحية التي هو فيها يمينا وشمالا، وأماما وخلفا، وهذا إذا كان في سهل من الأرض لا يحول دون نظره شيء. فإن كان دونه حائل صعد إليه ونظر حواليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " البويطي ": (وليس عليه أن يدور في طلب الماء؛ لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد) .
فإذا نظر ولم ير الماء..قال ابن الصباغ: سأل واستخبر من يظن أن عنده علما من الماء، فإن دل على ماء.. لزمه أن يأتيه بثلاث شرائط:
إحداهن: أن لا ينقطع عن رفقته.
الثانية: أن لا يخاف على نفسه، أو ثيابه، أو رحله.
الثالثة: أن لا يخاف فوت وقت الصلاة.(1/290)
وإن وجد بئرا ولا حبل معه، فإن كان يقدر أن يوصل إليها ثيابا حتى يصل إلى أن يأخذ الماء بإناء أو دلو به، أو قدر على ثوب يبله بالماء ثم يعصره ويتوضأ به..لم يكن له أن يتيمم، وسواء قدر على ذلك بنفسه أو بغيره.
وإن قدر على نزول البئر بأمر ليس عليه خوف.. نزلها، وإن كان عليه ضرر.. تيمم.
[فرع: لا يتيمم لخوف فوات الوقت وبقربه ماء]
قال في " الإبانة " [ق\30] : وإن كان بقربه ماء، وهو يخاف فوت وقت الصلاة لو اشتغل به.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز له التيمم) ، وقال في العراة ـ إذا كان بينهم ثوب يتداولونه، فخاف بعضهم فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (إنه يصبر حتى تنتهي النوبة إليه) .
وقال ـ في جماعة معهم دلو ينزحون به الماء، وخاف فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (يصبر ولا يتيمم) .
وهذه نصوص متفقة.
وقال ـ في جماعة في سفينة، فيها موضع واحد يمكن أن يصلي فيه واحد قائما، وخاف أن يفوته الوقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه-: (إنه يصلي قاعدا، ولا يلزمه الصبر) .
وهذا نص مخالف للنصوص الأولى.
فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق، وجعل الجميع على قولين.
ومنهم من حمل الجميع على ما نص عليه، وفرق بينهما: بأن القيام أخف؛ لأنه يسقط في النافلة مع القدرة، بخلاف الطهارة بالماء، والسترة، فإنه لا يجوز تركها بحال.(1/291)
[فرع: حكم قبول الماء أو ثمنه]
وإن بذل له غيره الماء، فإن كان بغير عوض.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يلزمه قبوله، كما لا يلزمه قبول الرقبة في الكفارة.
والثاني: يلزمه قبوله، وهو المشهور؛ لأنه لا منة عليه في قبوله؛ لأن العادة جرت أن الفقير يبذله للغني، بخلاف الرقبة.
وإن بذل له ثمن الماء.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه منة في قبول الماء.
وإن بذل له الماء بثمن مثله، وهو واجد للثمن غير محتاج إليه في سفره.. لزمه شراؤه، ولا يجوز له التيمم. وإن كان غير واجد لثمن مثله، أو كان واجدا له إلا أنه محتاج إليه لسفره..جاز له أن يتيمم؛ لأن المال الذي معه هو محتاج إليه لإحياء نفسه، فهو كما لو كان معه ماء يحتاج إليه للعطش.
فإن بيع الماء منه بثمن المثل، وأنظره البائع إلى بلده، وكان له في بلده مال.. وجب عليه شراؤه ولم يجز له التيمم؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن كان مع غيره ماء، وهو غير محتاج إليه، ولم يبذله له..لم يجز له أن يكابده على أخذه منه؛ لأن له بدلا، وهو التيمم.
وفى كيفية اعتبار ثمن مثل الماء، ثلاثة أوجه، حكاها في " الإبانة " [ق\32] :(1/292)
أحدها ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يعتبر ثمنه في موضعه الذي هو فيه، مع وجود العذر.
والثاني: يعتبر ثمنه عند السلامة، ووجود الماء غالبا.
والثالث: لا ثمن له، ولكن يراعي أجرة مثل من يأتي به إلى ذلك الموضع.
وإن وهب له الماء هبة فاسدة، فقبضه.. لم يملكه بذلك. فإن توضأ به.. صح وضوؤه، ولا يجب عليه ضمانه؛ لأن الهبة الفاسدة تجري مجرى الصحيحة في باب الضمان، كما في البيع.
[فرع: إعادة طلب الماء]
فإن طلب الماء للصلاة الحاضرة، فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى.. قال الشيخ أبو حامد: فعليه أن يعيد الطلب، ولا يلزمه الطلب في رحله؛ لأنه قد علم بالطلب الأول أنه لا ماء فيه، ولا يجوز حدوثه بعد ذلك فيه، ويفارق خارج الرحل؛ لأنه قد يجوز حدوث الماء فيه بعد الطلب.
وعلى قياس ما حكيناه عن ابن الصباغ -قبل هذا-: لا يلزمه الطلب فيما لم يغب عن عينه من الموضع الذي طلب فيه للصلاة الأولى.
[فرع: هبة فضل الماء]
قال الصيدلاني: ولا يلزمه أن يهب فضل مائه لمن لا يجده ـ خلافا لأبي عبيد بن حربويه ـ لأنه ماء يحتاج إليه لإحياء نفسه.(1/293)
[فرع: تعجيل الصلاة بتيمم]
وإذا طلب الماء بعد دخول الوقت فلم يجده.. جاز له أن يتيمم ويصلي، سواء علم أنه يجد الماء من آخر الوقت، أو لا يجده.
وقال الزهري: لا يجوز له التيمم، إلا إذا خاف فوت الوقت قبل وجود الماء.
دليلنا: أن الله تعالى أجاز التيمم لمن قام إلى الصلاة عند عدم الماء، وهذا موجود فيمن قام إليها في أول وقتها.
وهل الأفضل أن يقدم الصلاة بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؟
فيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يتيقن أنه يجد الماء في آخر الوقت.. فالأفضل أن يؤخر الصلاة ليصليها بالوضوء في آخر الوقت؛ لأن الصلاة في أول الوقت فضيلة، والطهارة بالماء فريضة، فكان مراعاة الفريضة أولى.
الثانية: إذا كان على إياس من وجود الماء.. فتقديم الصلاة في أول وقتها بالتيمم أفضل؛ لأن الظاهر أنه لا يجد الماء.
الثالثة: إذا كان يرجو وجود الماء.. ففيه قولان:
أحدهما: التأخير أفضل؛ لأن مراعاة الفريضة ـ وهي الطهارة بالماء ـ أولى من مراعاة الفضيلة، وهي الصلاة في أول الوقت.
والثاني: أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل، وهو الأصح؛ لأنه فضيلة متيقنة، فلا يجوز تركها لأمر مشكوك فيه.
قال أصحابنا: وهكذا المريض العاجز عن القيام، إذا رجا القيام في آخر الوقت. أو رجا العريان وجود السترة في آخر الوقت. أو رجا المنفرد وجود الجماعة في آخر الوقت.. هل الأفضل لهم تقديم الصلاة في أول وقتها، على حالتهم التي هم عليها، أو تأخيرها لما يرجونه؟ فيه وجهان مبنيان على هذين القولين.(1/294)
ولا يترك الترخص بالقصر في السفر وإن علم إقامته في آخر الوقت، وجها واحدا؛ لأن ترك الرخصة غير مستحب.
قال صاحب " الفروع ": فإن خاف فوات الجماعة لو أسبغ الوضوء.. فإدراك الجماعة أولى من الاحتباس على إسباغ الوضوء وإكماله.
[مسألة: التيمم حالة نسيان الماء]
إذا نسي الماء في رحله، فتيمم وصلى، ثم علم به فيه.. فالمنصوص ـ في عامة كتبه ـ: (أن عليه الإعادة) .
وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عمن نسي الماء في رحله، فتيمم، وصلى؟ فقال: (لا يعيد) .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: هي على قولين، كما قال فيمن ترك فاتحة الكتاب ناسيا.
ومنهم: من لم يثبت رواية أبي ثور عن الشافعي في هذا، وقال: يحتمل أنه أراد بذلك مالكا أو أحمد.
ومنهم: من تأول رواية أبي ثور على: أنه قد فتش رحله فلم يجد، وكان قد خبأه غيره.
والطريقة الأولى أصح؛ فإن أبا ثور لم يلق مالكا، وهو يروي عن أحمد، فيكون على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه الإعادة. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد؛ لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء، فصار كما لو حال بينه وبين الماء سبع.
والثاني: يجب عليه الإعادة. وبه قال أحمد، وأبو يوسف، وهو الأصح؛ لقوله(1/295)
تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذا لا يقال له: غير واجد، وإنما يقال له: غير ذاكر. ولأنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط مع النسيان، كما لو نسي بعض أعضائه فلم يغسلها.
[فرع: إذا كان حائل عن الماء أو أخطأ رحله]
قال في " الأم " [1/40] : (فإن كان في رحله ماء، فحال العدو بينه وبين رحله، أو حال بينهما سبع، أو حريق؛ حتى لا يصل إليه.. تيمم وصلى، وهذا غير واجد للماء) .
قال أصحابنا: معناه: أنه لا قضاء عليه؛ لأنه فيه في حكم العادم.
وإن كان في رحله ماء، فأخطأ رحله وضل عنه، فحضرت الصلاة، فطلبه فلم يجده.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تيمم وصلى) . ولم يذكر الإعادة.
فاختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير عادم، وإنما هو ناس.
ومنهم من قال: لا تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير منسوب إلى التفريط في طلب الماء، بخلاف الناسي، فإنه مفرط.
فأما إن ضل هو عن القافلة، أو عن الماء.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه.
[فرع: علم بوجود الماء بعد الصلاة]
] : قال في " البويطي ": (وكذلك يكون إلى جنب المسافر بئر أو بركة في الموضع الذي عليه أن يطلب الماء فيه، فتيمم، ثم علم.. فعليه الإعادة) .
وقال في " الأم " [1/40] : (لا إعادة عليه؛ لأنه كلف ـ فيما ليس معه ـ الطلب المؤدي على الظاهر، وغلبة الظن دون الإحاطة به) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.(1/296)
قال: ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين؛ وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: (لا إعادة عليه) ؛ إذا كانت البئر خفية، مثل أن كانت في بسيط من الأرض لا علامة عليها.
والموضع الذي قال: (عليه الإعادة) ؛ إذا كانت علامتها ظاهرة، فيكون قد فرط في طلبها.
[مسألة: وجد ماء لا يكفيه]
إذا وجد من الماء ما لا يكفيه: بأن كان محدثا، فوجد ماء لا يكفيه لأعضاء الوضوء، أو كان جنبا، فوجد ماء لا يكفيه لغسل جميع بدنه.. جاز له استعمال ما وجد من الماء، بلا خلاف.
وهل يلزمه استعماله، أو يجوز له الاقتصار على التيمم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه استعماله، ولكن يستحب له. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وداود، والمزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: الماء الذي تغسل به الأعضاء، وهذا غير واجد له. ولأن هذا ماء لا يطهره، فلم يلزمه استعماله، كالماء المستعمل. ولأنه لو وجد بعض الرقبة في الكفارة.. جعل كالعاجز في جواز الاقتصار على البدل، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يلزمه استعماله. وبه قال معمر بن راشد، وعطاء، والحسن بن صالح، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . فمنها دليلان:
أحدهما: أنه أمر بغسل هذه الأعضاء، فإذا قدر على غسل بعضها..لزمه ذلك بظاهر الآية.(1/297)
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] . فذكر الماء منكرا، فاقتضى: أنه إذا وجد ماء ما..لم يجز له التيمم؛ لأنه لو أراد ما يغسل به جميع الأعضاء.. لقال: (فلم تجدوا الماء) .
فاختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين.
فمنهم من قال: هما مأخوذان من القولين في جواز تفريق الوضوء:
فإن قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يلزمه استعمال ما معه من الماء.
وإن قلنا: يجوز التفريق.. لزمه استعماله.
ومنهم من قال: القولان أصل في أنفسهما، وهو الأصح.
فإذا قلنا: يلزمه استعماله.. نظرت: فإن كان محدثا.. فإنه يلزمه استعمال الماء في وجهه، ثم في يديه، إلى حيث بلغ، على الترتيب في أعضاء الوضوء. وإن كان جنبا.. فالمستحب: أن يستعمل الماء في رأسه، وفي أعالي بدنه. هكذا قال أصحابنا. ولو قيل: المستحب أن يستعمله في أعضاء الطهارة؛ لأنه هو المستحب في ابتداء غسل الجنابة..كان محتملا.
وفي أي موضع من بدنه استعمله.. جاز؛ لأن الترتيب غير مستحق في الغسل. ويجب أن يستعمل الماء أولا، ثم يتيمم بعده، بخلاف الجريح؛ لأن التيمم هاهنا لعدم الماء، فلا يصح مع وجوده.
وإن كان على بدنه نجاسة.. لزمه استعمال ما معه من الماء في إزالتها، أو في إزالة ما قدر عليه منها، قولا واحدا؛ لأن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة.
[فرع: تيمم ثم وجد ماء لا يكفي]
إذا لم يجد الجنب والمحدث ماء، فتيمم، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه:(1/298)
فإن قلنا: إن من وجد من الماء ما لا يكفيه، لا يلزمه استعماله.. فتيممه باق بحاله.
وإن قلنا يلزمه استعماله.. بطل تيممه.
وإن أجنب ولم يجد الماء، فتيمم وصلى به فريضة، ثم أحدث.. لم يجز له: أن يصلي فريضة ولا نافلة. فإن وجد من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع بدنه، ولكن يكفيه لأعضاء الوضوء: فإن قلنا: يلزمه استعماله لو وجده للجنابة.. بطل تيممه؛ لوجوده، ولم يجز له أن يصلي بالتيمم الأول نافلة، ولا فريضة، بل يجب عليه أن يستعمله، ثم يتيمم.
وإن قلنا: لا يجب عليه استعماله للجنابة.. فإن أبا عباس بن سريج قال: إن توضأ به.. ارتفع حدثه، وجاز له أن يصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح له فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، فلما أحدث.. حرم عليه أن يصلي النوافل. فإذا توضأ.. ارتفع تحريم النوافل فاستباحها، ولم يستبح الفريضة؛ لأن هذا الوضوء لا ينوب عن الجنابة، وهذا وضوء تستباح به النافلة دون الفريضة.
وإن أراد أن يتيمم للفريضة الثانية بعد دخول وقتها.. صح تيممه لها، واستباح به الفريضة، ويستبيح به النافلة أيضا؛ لأنه إذا استباح به الفريضة.. فلأن يستبيح به النافلة أولى.
وإن أراد أن يتيمم للنافلة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يصح؛ لأنه يصح أن يتيمم به للفريضة، ويستبيح به النافلة، فصح تيممه للنافلة مفردة.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح تيممه للنافلة؛ لأنه يقدر على الوضوء لها، فلا يستبيحها بالتيمم. ويفارق الفريضة؛ لأنه لا يقدر على استباحتها بالوضوء؛ ولأن تيممه للفريضة ينوب عن الجنابة، فاستباح به النافلة، وتيممه للنافلة ينوب عن الوضوء، فلم يصح مع قدرته على الوضوء.(1/299)
فيقال في هذه المسألة: هل تعلم على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وضوءًا يصح بنيته رفع الحدث، ولم تستبح به الفريضة، واستبيح به النافلة؟ فقل: نعم، وهو هذا على هذا القول.
فإن قيل: هل تعلم وضوءًا لا يصح بنية استباحة الفرض، ويصح بنية استباحة النفل؟ فقل: نعم، وهو هذا الوضوء؛ لأنه لا يصح أن يستبيح به الفرض، فلا يصح أن ينوي به استباحته. ويستبيح به النقل، فصح بنية استباحته.
فإن قيل: هل تعلم محدثًا ممنوعًا من الفرض والنفل، لحدثه، فإن تيمم للفرض.. صح، وإن تيمم للنقل ... لم يصح؟ فقل: نعم، وهو هذا، على قول القاضي أبي الطيب.
فإن قيل: هل تعلم جنبًا يجوز له: أن يقعد في المسجد ويقرأ القرآن، ولا يجوز له مس المصحف، وفعل الصلاة؟ فقل: نعم، وهو هذا.
وكذلك الجنب: إذا عدم الماء، فتيمم، وأحدث، ولم يجد ماء، فإنه يجوز له: أن يقعد في المسجد، ويقرأ القرآن، ولا يجوز له: مس المصحف، ولا فعل الصلاة.
[مسألة: فيمن أولى بالماء]
وإذا اجتمع ميت، وجنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ما يكفي أحدهم ... فإن كان لأحد الحيين
كان أحق به، ولا يجب عليه بذله للميت.
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من أصحابنا من قال: فيه قول آخر، إن عليه أن يقدم الميت به، ويأخذ ثمنه من مال الميت.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه محتاج إليه لنفسه، فلا يجب عليه أن يبذله لغيره.
فإن خالف مالك الماء، فبذله للميت، أو للحي الآخر ... فحكى المحاملي في(1/300)
" المجموع "، عن أبي إسحاق: أنه لا يزول ملكه عن الماء، وهكذا ذكره الصيدلاني.
فإن تيمم وصلى ... نظرت: فإن تيمم مع بقاء الماء
لم يصح تيممه؛ لأنه تيمم مع وجود الماء.
وإن تيمم بعد أن غسل الميت بالماء، أو اغتسل به الحي الآخر ... فهل يلزم باذل الماء إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.
فإذا قلنا: يلزمه الإعادة، فكم يعيد من الصلوات؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\32] :
أحدهما: يعيد صلاة واحدة.
والثاني: يعيد من الصلوات التي صلاها بالتيمم ما كان يصليها في غالب أحواله بالطهارة لو تطهر.
وهكذا لو بذل له غيره الماء بغير عوض، أو بعوض مثله وهو واجد له غير محتاج إليه، فلم يقبل، وتيمم وصلى ... فإنه يعيد، وفي القدر الذي يعيده هذان الوجهان.
وإن كان الماء للميت ... كان أحق به منهما؛ لأنه ملكه، إلا أن يحتاج إليه الحيان لعطش يخافان منه التلف
فلهما أن يشربا ذلك وييمما الميت؛ لأن حفظ الحي آكد من تطهير الميت.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: ويجب عليهما قيمة الماء للوارث في ذلك الموضع.
وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق\33] ، غير أنه قال: لأن الماء وإن كان من ذوات الأمثال، إلا أنه لا قيمة للماء في البلد.(1/301)
قال: فإذا رجع الورثة بقيمة الماء، ثم عادوا يومًا إلى ذلك المكان ... فهل لهم أن يردوا قيمة ما أخذوه من الماء، ويطالبوا بمثل الماء؟
فيه وجهان، بناء على ما لو أتلف عليه شيء من ذوات الأمثال، ففقد المثل فانتقل إلى قيمة، ثم وجد المثال ... هل له أن يرد القيمة، ويأخذ المثل؟ فيه وجهان.
وكذلك: لو وجد بالمبيع عيبًا بعدما حدث عنده عيب آخر، ثم زال العيب الجديد ... هل له أن يرد بالعيب الأول؟ فيه وجهان.
وإن كان الماء مباحًا أو لغيرهم، وأراد أن يجود به على أحدهم ... فالميت أولى؛ وعلله الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأن هذا خاتمة أمر الميت، ولا يرجى له طهارة بعدها، والحيان يرجى لهما طهارة بعد هذا.
ومن أصحابنا من علله بعلة أخرى، وقال: لأن غسل الميت لا يراد لرفع الحدث والصلاة به، وإنما يراد للتنظيف، وذلك لا يحصل بالتراب. والقصد من طهارة الحيين استباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقام الماء في استباحة الصلاة.
فإن اجتمع حي على بدنه نجاسة، وميت، والماء يكفي أحدهما:
فإن قلنا بتعليل الشافعي في الأولى ... فالميت أولى.
وإن قلنا بتعليل غيره فيها ... فصاحب النجاسة أولى.
وإن اجتمع جنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ماء يكفي أحدهما ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لأن وجوب غسله معلوم بنص القرآن، وغسل الحائض مستفاد بخبر الآحاد، والاجتهاد.
والثاني: أن الحائض أولى، لأنها تستبيح بالغسل أكثر مما يستبيحه الجنب، وهو إباحة الوطء، ولأن الحائض لا تخلو من نجاسة، والجنب قد يخلو منها، ولأن(1/302)
غسلها قد ورد به القرآن، وثبت به الإجماع.
والثالث: أنهما سواء لأن التيمم بدل عن غسل كل واحد منهما، فاستويا.
وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء فإن كان يكفي المحدث، ولا يكفي الجنب ... فالمحدث أولى؛ لأنه يرفع حدثه، ويسقط به فرضه، والجنب لا يرفع حدثه، ولا يسقط به عنه فرضه على قول بعض الناس.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ويفضل عنه ما يغسل به المحدث بعض أعضائه، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما لا يكفي الجنب ... فالجنب أولى؛ لأن حدث الجنب أغلظ؛ لأنه لا يقدر على اللبث في المسجد، ولا على قراءة القرآن.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ولا يفضل عنه شيء، ويكفي المحدث، ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض أعضائه ... ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها من أن حدثه أغلظ.
والثاني: أن المحدث أولى؛ لأن فيه تشريكًا بينهما.
والثالث: أنهما سواء؛ لأنه يرتفع به حدث كل واحد منهما.
وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث ومعه من الماء ما يكفي أحدهما ... فإنه يغسل النجاسة بالماء، ويتيمم للحدث؛ لأنا قد بينا: أن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة، ولا بدل لها، والتيمم ينوب عن الحدث، فوجب استعمال الماء فيما لا يقوم غيره مقامه.
[مسألة: فاقد الطهورين]
وإن عدم الماء والتراب، بأن حبس في موضع لا يجدهما، أو لم يجد إلا ترابًا نجسًا ... فالمشهور من المذهب: أنه يجب عليه أن يصلي على حسب حاله. وبه قال الليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.(1/303)
وقال أبو حنيفة: (يحرم عليه أن يصلي، ولكن يقضي) :
وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (يعجبني أن يصلي حتى لا يخلو الوقت من الصلاة، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يفيد، ولكن يقضي) .
وقال مالك، وداود: (لا يجب عليه أن يصلي، ولا يقضي) .
ودليلنا للأول: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أسيد بن حضير، وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فحضرت الصلاة ولا ماء معهم، فصلوا بغير طهارة، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بذلك، فنزلت آية التيمم» ، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم بغير طهارة. ولأن الصلاة لا تسقط عن المكلف بتعذر شرط من شرائطها، كتعذر السترة، وإزالة النجاسة.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه القضاء؟.
وقال البغداديون من أصحابنا: تجب عليه الإعادة؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط فرض الصلاة معه؛ كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين فيها قولين:
أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر أسيد بن حضير وأصحابه بالإعادة.
والأول أصح؛ لأن الإعادة على التراخي، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وإن انقطع دم الحائض، ولم تجد ماء، ولا ترابًا ... فحكمها في الصلاة حكم غيرها، على ما بينا.(1/304)
قال الصيدلاني: ولا يباح وطؤها على الأصح؛ لأنها ما أتت على حدثها بأصل، ولا بدل.
[مسألة: تيمم المريض]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتيمم مريض في شتاء ولا صيف، إلا من به قرح له غور، أو به ضنى من مرض، يخاف إن مس الماء أن يكون منه التلف) . وجملته: أن المرض على ثلاثة أضرب.
ضرب: لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف نفس، ولا عضو، ولا حدوث مرض مخوف، ولا إبطاء البرء، مثل: الصداع، ووجع الضرس، والحمى ... فهذا لا يجوز التيمم لأجله، وهو قول كافة العلماء.
وقال داود، وبعض أصحاب مالك: (يجوز) .
واستدلوا: بعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه» .
وهذا عموم يعارض عمومهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» ، وروي: «فأبردوها بالماء» . فندب إلى إطفاء حرها بالماء، فلا يجوز أن يكون ذلك سببًا لترك استعمال الماء؛ لأن هذا واجد للماء(1/305)
لا يخاف التلف من استعماله، فأشبه الصحيح. وأما الآية: فالمراد بها: إذا خاف التلف من استعمال الماء.
الضرب الثاني ـ من الأمراض ـ: هو أن يخاف من استعمال الماء تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو.. فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء.
وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن، وعطاء، أنهما قالا: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، واحتجا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فأباح للمريض التيمم عند عدم الماء.
ودليلنا: ما ذكرناه من حديث عمرو بن العاص: (أنه تيمم لخوف التلف من البرد، مع وجود الماء، فعلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك، فلم ينكر عليه) .
وروي: أن رجلاً أصابته شجة في رأسه في بعض الغزوات، ثم أجنب، فسأل الناس، فقالوا: لا بد لك من الغسل، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه» . وهذا نص.
وأما الآية: ففيها إضمار، وتقديرها: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال(1/306)
الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء.. فتيمموا.
وإن سلمنا: أنه لا إضمار فيها.. فالمراد بها: المرض الذي يخاف من استعمال الماء فيه التلف، بدليل ما رويناه.
والضرب الثالث: ـ من الأمراض ـ: أن لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف النفس، ولا تلف عضو، ولكن يخاف منه إبطاء البرء، أو زيادة الألم.. فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/38] ، و" المختصر " [1/34] : (أنه لا يجوز له التيمم) .
وقال في القديم، في " الإملاء "، و" البويطي ": (يجوز له التيمم) .
واختلف أصحابنا على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: لا يجوز له التيمم، وبه قال أحمد، وعطاء، والحسن.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . [النساء: 43]
قال ابن عباس، في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] : (إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله، أو قروح، أو جدري، فيجنب، ويخاف إن اغتسل أن يموت.. فإنه يتيمم بالصعيد) . بشرط خوف الموت.
والقول الثاني: أنه يجوز له أن يتيمم. وبه قال مالك، وأبو حنيفة.(1/307)
قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] [النساء: 43] . فعم ولم يخص. ولأنه يستضر باستعمال الماء، فأشبه إذا خاف منه التلف.
وما روي عن ابن عباس.. فليس بتفسير، بدليل: أن من كانت به جراحة في غير سبيل الله يخاف منها التلف.. جاز له أن يتيمم، بلا خلاف.
و [الطريق الثاني] : قال أبو العباس، وأبو سعيد الإصطخري: يجوز له التيمم، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه على ما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء "، وما قاله في " الأم "، و" المختصر " محمول عليه: إذا كان لا يخاف التلف، ولا الزيادة في العلة.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: لا يجوز التيمم، قولاً واحدًا، وما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء " محمول عليه: إذا خاف زيادة يكون منها التلف.
[مسألة: حصول عيب على عضو ظاهر]
فرع: [حصول عيب على عضو ظاهر] :
وإن كان يخاف من استعمال الماء لحوق الشين لا غير.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له أن يتيمم لأجل ذلك بحال؛ لأنه لا يخاف التلف، ولا الألم، ولا إبطاء البرء، فهو كما لو خاف وجود البرد.
وقال أكثر أصحابنا: إن كان شينًا يسيرًا لا يشوه خلقة الإنسان، ولا يقبحها، مثل آثار الجدري، أو قليل حمرة، أو خُضرة.. لم يجز له: أن يتيمم قولاً واحدًا؛ لأنه لا يستضر بذلك. وإن كان يحصل به شينٌ كبيراٌ، مثل: أن يسود بعض وجهه،(1/308)
أو يخضر، أو يحصل به آثار يقبح منظرها.. فهو كما لو خاف الزيادة في المرض، على ما مضى من الخلاف؛ لأنه يألم قلبه بذلك، كما يألم بزيادة المرض.
[فرع: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح]
] : لو كان بعض بدنه صحيحًا، وبعضه جريحًا.. غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح.
وقال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: يحتمل أن يكون فيه قول آخر: أنه يقتصر على التيمم، كما لو وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة.
وقال عامة أصحابنا: بل هي على قول واحدٍ، وهذا التخريج لا يصح؛ لأن عدم بعض الأصل يجري مجرى عدم جميعه، كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة، بخلاف عجزه في نفسه، فإنه لو كان بعضه حرًا، وبعضه عبدًا، ووجبت عليه الكفارة في اليمين.. فإنه يكفر بالمال هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (عن كان أكثر بدنه صحيحًا.. اقتصر على غسل الصحيح، ولا يلزمه التيمم. وإن كان أكثر بدنه جريحًا.. اقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح) .
ودليلنا: ما روى جابر، في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه فاحتلم، فاغتسل فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما كان يكفيه أن يعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويتيمم، ويغسل سائر بدنه» .
إذا ثبت هذا: فإن كان جنبًا.. فهو بالخيار؛ إن شاء تيمم عن الجريح، ثم غسل(1/309)
الصحيح، وإن شاء غسل الصحيح، ثم تيمم عن الجريح؛ لأن الترتيب لا يجب في الغسل.
فإن كانت الجراحة في وجهه وقال: إن غسلت رأسي فاض الماء على وجهي.. لم يكن له ترك غسل الرأس، بل يجب عليه أن يستلقي، أو يقنع رأسه، فيمر عليه الماء.
فإن خاف إذا صب عليه الماء أن ينتشر الماء إلى القرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أمسه الماء إمساسًا، وناب التيمم عما تركه) .
وإن كان الجرح في ظهره، ومعه من يضبطه منه. فعليه أن يأمره بذلك، ويغسل الصحيح. وكذلك إن كان أعمى.. أمر بصيرا بذلك.
فإن كان في موضع لا يجد فيه من يضبطه منه.. غسل ما يقدر عليه من بدنه، وتيمم، وأعاد إذا قدر؛ لأن ذلك نادر، كما نقول في الأقطع إذا لم يجد من يوضئه. ولا يلزمه أن يعصب على الجراحة، ويمسح على العصابة، إلا إن كان محتاجًا إلى العصابة؛ لشد الدواء على الجراحة، أو يخشى انبعاث الدم.. فإنه يعصب على الجراحة، وعلى ما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح.
فإن خاف من حل العصابة.. لم يلزمه حلها، ويلزمه المسح على العصابة؛ لأجل ما تحتها من الصحيح الذي لا بد أن يكون عليه، لا لأجل موضع الجراحة، كما قلنا في الجبيرة.
وإن كان القرح على موضع التيمم.. أمر التراب على موضع القرح؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.(1/310)
وإن كان للقرح هناك أفواه منفتحة.. لزمه أن يمر التراب على ما انفتح منها؛ لأنه صار ظاهرًا، ثم يغسل الصحيح.
وبدأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا بالتيمم؛ ليكون الغسل بعده، فيزيل التراب عن صحيح الوجه واليدين. وإن بدأ بالغسل قبل التيمم.. جاز.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فهل يلزمه الترتيب بين الطهارة بالماء، والتيمم؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " الإبانة " [ق\34] :
أحدها: يجب الترتيب. فعلى هذا: يغسل، ثم يتيمم.
والثاني: لا يجب الترتيب. فعلى هذا: لا يجوز له التيمم أولاً، ثم الغسل.
والثالث: ـ وهو الأصح ـ ولم يذكر المحاملي، وابن الصباغ غيره: أنه لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته.
فعلى هذا: إن كانت الجراحة في بعض وجهه، فإن شاء.. غسل صحيح وجهه، ثم تيمم عن جريحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه. وإن شاء.. تيمم عن جريح وجهه أولاً، ثم غسل صحيحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه.
وإن كانت الجراحة في إحدى يديه.. فعليه أن يغسل وجهه أولاً، ثم هو بالخيار: إن شاء تيمم عن جريح يده، ثم غسل صحيحها والأخرى، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه. وإن شاء غسل صحيح يده بعد غسل وجهه، ثم تيمم عن جريحها.
وإن كانت الجراحة في يديه.. فالمستحب: أن يجعل كل يد بمنزلة عضو منفرد، فيغسل وجهه، ثم يغسل صحيح يده اليمنى، ثم يتيمم عن جريحها، ثم يغسل صحيح يده اليسرى، ثم يتيمم عن جريحها. وإن شاء قدم التيمم لكل يد على غسل صحيحها. وإن شاء جعل اليدين كالعضو الواحد، فيتيمم لجريحيهما تيممًا واحدًا، ثم يغسل صحيحيهما. أو يغسل صحيحيهما ثم يتيمم عن جريحيهما تيممًا واحدًا، وعلى هذا التنزيل في رجليه.
فإن كان في بعض وجهه جراحة، وفي يده جراحة، وفي رجله جراحة.. فهو بالخيار: إن شاء غسل صحيح وجهه، ثم يتيمم عن جريحه. وإن شاء تيمم عن(1/311)
جريحه، ثم غسل صحيحه، ثم ينتقل إلى اليدين، كما ذكرنا في الوجه، ثم يمسح برأسه ثم ينتقل إلى الرجلين، كما ذكرنا في الوجه واليدين. فيلزمه هاهنا ثلاثة تيممات.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: فهلا قلتم: إذا غسل صحيح وجهه أولاً، ثم تيمم عن جريحه.. أجزأه هذا التيمم عن جريح وجهه، وعن جريح يديه، بدليل: أنه لو أراد أن يوالي بين التيممين ـ على ما قلتم ـ لصح؟!
فالجواب: أنَّا لا نقول ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه، وجزءٍ من اليد في حالة واحدة، وذلك يبطل الترتيب.
فإن قيل: أليس التيمم يقع عن جميع الأعضاء، فيسقط به الفرض مرة واحدة، ولا يحصل الترتيب؟!
فالجواب: أنه إذا وقع عن جملة الطهارة.. كان الحكم له دونها، وهاهنا وقع عن بعضها، فاعتبر ـ فيما يفعله من ذلك ـ الترتيب.
فإذا دخل عليه وقت فريضة أخرى، فإن كان جنبًا.. أعاد التيمم دون الغسل.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فقد قال ابن الحداد: أعاد التيمم.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل:
فإن كانت الجراحة في رجله.. أعاد التيمم وأجزأه.
وإن كانت في وجهه أو يديه.. فينبغي على الأصل الذي قدمناه أن يعيد التيمم، وما بعد موضع الجراحة من الغسل؛ ليحصل الترتيب.
فإن قيل: فبحضور الفريضة الثانية، لم يعد حدث إلى موضع الجرح، وحكم التيمم باقٍ فيه، ولهذا يصلي به النافلة؟(1/312)
فالجواب: أن حكم الحدث عاد إليه في حق الفريضة الثانية، ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها. تيمم لها، فينوب هذا التيمم عن غسل العضو المجروح في حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده ليحصل الترتيب.
فإذا برئ موضع الجراحة.. بطل حكم التيمم فيه، ووجب غسله.
وهل يحتاج إلى إعادة ما غسله من الصحيح؟ نظرت:
فإن كان في الوضوء.. غسل ما بعد ذلك العضو.
فأما ما قبله من أعضاء الطهارة.. ففيه، وفي غسل بقية بدنه إن كان جنبًا قولان، كما قلنا في ماسح الخفين: إذا نزعهما، أو انقضت مدة المسح، وهو على طهارة.. فإنه يبطل مسحه، وهل يحتاج إلى استئناف الطهارة؟. فيه قولان.
[فرع: من لا يستطيع الطهارة بنفسه لا يتيمم]
] : إذا لم يجد المريض من يناوله الماء.. صلى على حسب حاله، وأعاد ولا يتيمم!
فإذا لم يستطع أن يتوضأ بنفسه.. وضأه غيره. فإن لم يجد من يوضئه.. صلى وأعاد، ولا يتيمم.
وقال مالك: (إذا لم يجد من يناوله الماء.. تيمم) .
وقال الحسن: إذا لم يجد من يوضئه، وخاف خروج الوقت.. تيمم.(1/313)
وقال إسحاق: إذا لم يستطع المريض الوضوء بنفسه.. تيمم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] وهذا واجد للماء لا يخاف الضرر من استعماله، فأشبه إذا كان قادرًا على استعماله.
[مسألة: جمع فرضين بتيمم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجمع بين صلاتي فرض) .
وجملة ذلك: أنه لا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد فريضتين من فرائض الأعيان، سواء كان ذلك في وقت أو وقتين. وقد روي ذلك عن علي، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ومالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والمزني: (يجوز له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض إلى أن يحدث، كالطهارة بالماء) .
وقال أبو ثور: (له أن يجمع بين فوائت في وقتٍ، ولا يجمع بين فرائض في أوقات) .(1/314)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] الآية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكان الظاهر من هذا يقتضي: أن كل من قام إلى الصلاة، فعليه الغسل إن كان واجدًا للماء، أو التيمم إن كان عادمًا للماء أو خائفًا من استعماله كلما قام إليه، وإنما تركنا هذا الظاهر بالوضوء؛ بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين صلوات عام الفتح بطهارة» . فخرج هذا من مقتضى دليل الآية، وبقي التيمم على ما اقتضته الآية) .
وروي «عن ابن عباس: أنه قال: (من السُنَّة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن التيمم طهارة ضرورية، فلا يجمع فيها بين فريضتين من فرائض الأعيان، كطهارة المستحاضة.
[فرع: لا يجمع بين واجبين بتيمم]
ولا يجوز أن يجمع فيها بين صلاة فريضة وطواف واجب بتيمم، ولا بين طوافين واجبين.
وهل يجوز أن يجمع بين صلاة فريضة وبين صلاة منذورة، أو بين صلاتين منذورتين بتيمم واحدٍ؟
فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\36] ، بناءً على أنه: هل يسلك(1/315)
بالمنذور مسلك المفروض، أو مسلك المندوب؟ فيه قولان.
فإن أراد أن يجمع بين صلاة مفروضة وبين ركعتي الطواف، أو بين طوافٍ واجبٍ وبين ركعتي الطواف بتيمم.. فيه قولان:
[أحدهما] : إن قلنا: إن ركعتي الطواف واجبتان.. لم يكن له ذلك.
و [الثاني] : إن قلنا: إنهما سُنَّة.. كان له ذلك.
[فرع: التيمم للفوائت]
وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتيمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية.. أعاد الطلب لها، ثم يتيمم وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحدٍ، لأن ذلك شرط في التيمم.
[فرع: حكم نسيان صلاة من يوم]
] : وإن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عنها.. لزمه أن يصلي صلوات اليوم والليلة ليسقط الفرض عنه بيقين.
فإن كان عادما للماء، فأراد فرض القضاء بالتيمم.. فكم يلزمه أن يتيمم؟
فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الخضري ـ من أصحابنا ـ يلزمه أن يتيمم لكل صلاة تيممًا؛ لأن كل صلاة قد صارت فرضًا.(1/316)
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يلزمه إلا تيمم واحد، وهو الأصح؛ لأن وجوب ما زاد على المنسية؛ ليتوصل به إلى تأدية المنسية، فهي كالتابعة للمنسية، فلم تفتقر إلى تيمم تنفرد به.
وأما إذا نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عينها.. فإنه يلزمه أن يصلي خمس صلوات أيضًا.
فإن كان عادمًا للماء، وأراد أن يصليهما بالتيمم، فإن قلنا بقول الخضري في الأولى.. لزمه هاهنا أن يتيمم لكل صلاة، على ما مضى.
وإن قلنا بقول الأكثرين في الأولى.. فإن ابن القاص قال: يتيمم لكل صلاة من الخمس؛ لأنه ما من صلاة من الخمس يصليها بالتيمم الأول، إلا ويجوز أن تكون هي المنسية، ويجوز أن تكون المنسية الثانية هي التي تليها، وقد زال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلا يجوز أداء الثانية بتيمم مشكوك في صحته.
وقال ابن الحداد: يكفيه أن يصلي ثماني صلوات بتيممين: فيتيمم، ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم، ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فعلى أي تنزيل نزلت المنسيتين.. فإنه قد أدى إحداهما بالتيمم الأول، والثانية بالتيمم الثاني.
قال أصحابنا: وما قاله ابن القاص وابن الحداد صحيح كله على قول الأكثرين من أصحابنا في المسألة الأولى.
وأما على قول الخضري: فلا يصح هاهنا إلا قول ابن القاص، غير أن ابن القاص اجتهد في تقليل الصلوات وتكثير التيممات، وابن الحداد اجتهد في تكثير الصلوات وتقليل التيممات.
فإن غير هذا الترتيب الذي ذكره ابن الحداد، فصلى بالتيمم الأول الظهر والعصر(1/317)
والمغرب والعشاء، ثم تيمم وصلى الصبح والظهر والعصر والمغرب.. لم يجزئ؛ لاحتمال: أن عليه العشاء مع الظهر، أو مع العصر، أو مع المغرب، فزال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلم تصح له العشاء. فإن أراد أن يجزئه. صلى العشاء بالتيمم الثاني.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: العشاء والمغرب والعصر والظهر، ثم تيمم، فصلى المغرب والعصر والظهر والصبح.. أجزأه.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: المغرب والعصر والظهر والصبح، ثم تيمم، وصلى: العشاء والمغرب والعصر والظهر.. لم يجز له إلا أن يعيد الصبح بهذا التيمم الثاني.
وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول من الصبح إلى المغرب، ثم صلى بالثاني من العشاء إلى الظهر.. فذلك جائز.
وقد ذكر بعض أصحابنا لما قال ابن الحداد أصلاً في الحساب، وهو: أنك تضرب المنسي في عدد المنسي منه، ثم تزيد المنسي على ما صح لك من الضرب، فتحفظ مبلغ ذلك كله، ثم تضرب المنسي في نفسه، فما بلغ من ضربه.. نزعته من الجملة التي حفظتها، فما بقي بعد ذلك.. فهو عدد الصلوات التي يصليها، وعدد التيمم بقدر عدد المنسي.
مثال ذلك في مسألتنا: أنك تضرب اثنين في خمسة، فذلك عشرة، ثم تزيد عدد المنسيتين على ذلك، فتجتمع لك اثنا عشر، ثم تضرب اثنين في اثنين، فذلك أربعة، فإذا نزعت ذلك من اثني عشر.. بقي لك ثمانية، وهو عدد ما تصلي به، بتيممين عدد المنسيتين.
وإن نسي ثلاث صلوات من خمس صلوات، ولم يعرف عينها.. فالعمل فيه على ذلك: أن تضرب ثلاثة في خمسة، فذلك خمسة عشر، ثم تزيد عليها ثلاثة، فذلك ثمانية عشر، ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة، فذلك تسعة، فتنزعه من ثمانية عشر.. فيبقى لك تسعة، وهو عدد ما يصلي بثلاث تيممات.(1/318)
فعلى هذا: يتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب والعشاء.
وإن نسي أربع صلوات من خمس.. فالعمل فيه: أنك تضرب أربعة في خمسة، فذلك عشرون، ثم تزيد عليها أربعة، فتجتمع لك أربعة وعشرون، ثم تضرب أربعة في أربعة، فذلك ستة عشر، فتنزع ذلك من أربعة وعشرين.. ويبقى لك ثمانية، وهي عدد ما تصلي من الصلوات بأربع تيممات، فيتيمم ويصلي الصبح والظهر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي المغرب والعشاء، وعلى هذا: التنزيل.
فإن نسي صلاتين من صلوات يومين وليلتين، فإن كانتا مختلفتين، بأن قال: هما صبح وظهر، أو ظهر وعصر، أو صبح ومغرب، أو ما أشبه ذلك.. فهو كما لو نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة على ما مضى.
وإن كانتا متفقتين، بأن قال: هما صبحان، أو ظهران، أو عصران، أو مغربان، أو عشاءان.. لزمه أن يصلي عشر صلوات. وفي التيمم وجهان:
[أحدهما] : ـ على قول الخضري ـ: يتيمم لكل صلاة من العشر.
و [الثاني] : ـ على قول الأكثرين من أصحابنا ـ: يصلي صلوات يوم وليلة بتيمم، وصلوات يوم وليلة بتيمم.
فإن شك: هل هما متفقان، أو مختلفان.. لزمه أن يأخذ بالأشد، وهو: أنهما متفقان؛ لأنه أغلظ.
[فرع: صلوات الجنائز والنوافل بتيمم]
وإن أراد أن يصلي على جنائز صلوات بتيمم واحدٍ، فإن لم يتعين عليه.. جاز؛ لأنها كالنافلة في حقه، بدليل: أنه يجوز له تركها.
وإن تعينت عليه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها إذا تعينت عليه.. صارت كفرائض الأعيان.(1/319)
والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأنها لو كانت كفرائض الأعيان.. لم يكن له أن يصلي بتيمم على جنائز وإن لم تتعين عليه؛ لأنها بالفعل تتعين وتقع فريضة. هكذا ذكر ابن الصباغ.
ويجوز له أن يصلي بتيمم ما شاء من النوافل؛ لأن أمرها أخف؛ بدليل: أنه يجوز له تركها، ويجوز ترك القيام فيها مع القدرة عليه، بخلاف الفرائض.
[مسألة: تيمم ثم أحدث]
إذا تيمم عن الحدث الأصغر.. استباح به ما كان يستبيحه بالوضوء. فإن أحدث.. مُنع مما كان يمنع منه قبل التيمم، كالمتوضئ إذا أحدث.
وإن تيمم الجنب.. استباح الصلاة وقراءة القرآن، وجميع ما يستبيحه بالغسل.
فإن أحدث الحدث الأصغر.. لم يجز له أن يصلي، ولا يمس المصحف، وجاز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد، كما لو اغتسل ثم أحدث.
فإن قيل: هلا قلتم لا يجوز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد؛ لأن الحدث أبطل التيمم، فإذا بطل التيمم، عاد حكم الجنابة؟.
قلنا: التيمم هاهنا نائب عن الغسل، والحدث لا يبطل الغسل، فلا يبطل ما ناب عنه.
[مسألة: رأى الماء بعد تيمم وقبل الصلاة]
إذا تيمم لعدم الماء، ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة.. بطل تيممه، خلافًا لأبي سلمة بن عبد الرحمن.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء، ولو عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . ولأن التيمم لا يراد لنفسه، وإنما يراد لاستباحة الصلاة. فإذا قدر على الأصل قبل الشروع في المقصود منه.. لزمه العود إليه، كالحاكم إذا اجتهد، فتغير اجتهاده قبل تنفيذ الحكم.(1/320)
وإن عدم الماء في الحضر.. تيمم وصلى، وبه قال أبو يوسف، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.
وقال زفر: لا يصلي. وروي ذلك عن أبي حنيفة، وهو قول مخرج لنا، قد مضى.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . ولم يفرق بين السفر والحضر.
فإذا وجد الماء بعد ذلك.. لزمه أن يعيد الصلاة.
وقال مالك: (لا إعادة عليه) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\33] : أنه أحد قولي الشافعي.
والأول أصح؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط عنه فرض الإعادة، كما لو صلى بنجاسة نسيها.
فقولنا: (نادر) احتراز من عدم الماء في السفر.
وقولنا: (غير متصل) احتراز من الاستحاضة، ومن سلس البول؛ لأن الأعذار على ثلاثة أضرب:
[الأول] : عذر معتاد: وهو السفر، والمرض.
و [الثاني] : عذر نادر متصل: وهو الاستحاضة، وسلس البول.. فهذان العذران يسقط معهما فرض الإعادة.
و [الثالث] : عذر نادر منقطع: وهو عدم الماء في الحضر، وخوف البرد في الحضر، ومثل أن يحبس في موضع لا يمكنه فيه القيام.. فيصلي قاعدًا. أو يجبر على الصلاة قاعدًا، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يسقط معه فرض إعادة الصلاة.
[فرع: وجد المسافر الماء بعد صلاته بتيمم]
وإن تيمم في السفر لعدم الماء وصلى، ثم وجد الماء، فإن كان السفر طويلاً.. لم يجب عليه إعادة الصلاة.(1/321)
وبه قال عامة العلماء، إلا ما حكي عن طاووس، فإنه قال: عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة.
دليلنا: ما روي: «أن رجلين كانا في سفر، فعدما الماء، فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه بذلك، فقال للذي لم يعد: "أصبت السُنَّة"، وقال للذي أعاد: "لك أجران» .
ولأن عدم الماء في السفر عذر عام، فهو كما لو صلى مع سلس البول.
وإن كان السفر قصيرًا.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه قولان:
أحدهما: يلزمه الإعادة؛ لأنه سفر لا يجوز له فيه القصر والفطر، فهو كالحضر.
والثاني: ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبًا، فهو كالسفر الطويل.
وقال الشيخ أبو حامد: وإذا خرج الرجل إلى ضيعته وبستانه، فعدم الماء.. كان له أن يتيمم، وينتفل على الراحلة، ويأكل الميتة إذا اضطر إليها.
فعلى مقتضى ما قاله: يكون سفرًا قصيرًا، وفي إعادة ما صلى فيه بالتيمم القولان.
[فرع: التيمم في سفر المعصية]
وإن كان في سفر معصية فعدم الماء.. فهل يستبيح الصلاة بالتيمم؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يستبيحها، ولكن يقال له: تب(1/322)
واستبح الصلاة بالتيمم، كما يقال له: تب وكل الميتة، إن كنت مضطرًا إليها.
والثاني: يستبيحها، وهو المشهور؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] ولم يفرق.
فعلى هذا: هل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تختص بالسفر، فلم يستبح ذلك في سفر المعصية، كالفطر والقصر.
والثاني: لا يلزمه الإعادة، لأنه صلى صلاة صحيحة بتيمم في سفر، فلم يلزمه الإعادة، كما لو كان السفر مباحًا.
[فرع: تيمم لفقد الماء فجاء ركبٌ]
ٌ] : قال في " الأم " [1/41] : (فإن تيمم، فلم يدخل في الصلاة، حتى طلع عليه ركبٌ.. لزمه أن يسألهم عن الماء، سواء علم أن معهم ماء أو لم يعلم، فإن كان معهم ماء، فلم يبذلوه له، أو وجد ماء فحيل بينه وبين الماء.. بطل تيممه الأول) .
قال في " الأم " [1/41] : (ولو ركب البحر، ولم يكن معه ماء في مركبه، ولم يقدر على استعمال ماء البحر لشدة.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه؛ لأنه غير قادر على الماء) .(1/323)
[فرع: إعادة طلب الماء إذا تيمم وثم حائل]
] : ذكر في " العدة ": ولو تيمم لعدم الماء، ثم رأى الماء ودونه سبع، فإن رآهما معًا، أو عرف مكان السبع أولاً، ثم رأى الماء.. فتيممه باقٍ.
وإن رأى الماء، ثم عرف أنه محول دونه.. أعاد الطلب والتيمم؛ لأن الطلب والمصير إليه قد لزمه.
وكذلك لو رأى ماء في قعر بئر، وليس معه رشاء ولا دلو، فإن علم مكان الماء، وهو عالم بأنه لا آلة معه ذاكرٌ لذلك.. لم يبطل تيممه.
وإن رأى الماء وعنده أن معه آلة النزح، فلا طلب، أو تأمل [و] لم يجد.. أعاد التيمم.
قال في " المذهب ": وإن تيمم، ثم وجد الماء وهو محتاج إليه لعطشه، أو لبهائمه.. لم يبطل تيممه؛ لأنه لو كان موجودًا معه.. لم يلزمه استعماله.
[فرع: إراقة ما معه من الماء]
وإن كان معه ماء فأراقه، وتيمم وصلى، فإن أراقه قبل دخول الوقت.. لم يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؛ لأنه أراقه قبل توجه فرض الطهارة عليه.
وإن أراقه بعد دخول الوقت.. فهل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لأنه فرط في إتلاف الماء، وترك الطهارة به مع القدرة عليها.
والثاني: لا يجب عليه الإعادة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه بعد الإراقة عادم للماء إن كان قد عصى بالإراقة.. فهو كمن قطع رجله، فإنه يعصي بذلك، وإذا صلى جالسًا ... أجزأه.(1/324)
[فرع: رأى الماء أثناء الصلاة]
وإن تيمم لعدم الماء، ودخل في الصلاة، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة، فإن كان ذلك في الحضر، أو في سفر قصير وقلنا: يلزمه الإعادة.. بطلت صلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة.
وإن كان سفرٍ طويلٍ، أو في سفر قصير وقلنا: لا تلزمه الإعادة.. لم تبطل صلاته. وبه قال مالك، وداود.
وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تبطل صلاته) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (لا تبطل صلاة الجنازة والعيدين، ولا تبطل أيضًا الصلاة برؤية سؤر البغل والحمار) .
وقال الأوزاعي: (تصير نفلاً) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته، فينفخ بين أليتيه، ويقول: أحدثت، أحدثت.. فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .(1/325)
فمن قال: ينصرف إذا رأى الماء.. خالف ظاهر الخبر. ولأنه دخل في صلاة معتد بها، فلم تبطل برؤية الماء، كصلاة الجنازة والعيد.
فقولنا: (معتد بها) احترازًا منه إذا رأى الماء في صلاة الحضر.
إذا ثبت هذا: فهل له الخروج منها؟
من أصحابنا من قال: الأفضل له أن يخرج منها؛ لأن الشافعي قال في (الكفارات) : (إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم.. الأفضل أن يرجع إلى العتق) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف.
ومنهم من قال: لا يجوز له الخروج منها؛ لأنها صلاة فريضة صحيحة، فلا ينصرف عنها.
والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحب لمن دخل في الصلاة منفردًا، ثم رأى الجماعة يصلون ... أن يخرج منها؛ ليصلي مع الجماعة. والخروج إلى الطهارة أولى.
[فرع: تيمم ورعف في الفرض]
قال في " الأم " [1/41] : (وإن تيمم، فدخل في المكتوبة، ثم رعف.. انصرف، فإن وجد الماء.. لزمه أن يغسل الدم ويتوضأ. وإن لم يجد من الماء إلا ما يغسل به الدم عنه.. غسله واستأنف تيممًا؛ لأنه لما لزمه طلب الماء.. بطل تيممه) .
وإن صلى متيمم بمتوضئين، ومتيممين، فرأى المتوضئ الماء في أثناء الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأن رؤية المأموم المتوضئ للماء ليست برؤية للإمام المتيمم، فلم تبطل به صلاة المتوضئ، كما لو كان منفردًا.(1/326)
[فرع: صلى بتيمم فرأى الماء ونوى الإقامة]
وإن دخل المسافر في الصلاة المفروضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها، ثم نوى الإقامة بعد ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن تيممه يبطل، وتبطل صلاته؛ لأنه صحيح مقيمٌ واجد للماء، فبطلت صلاته، كما لو عدم الماء في الحضر، فتيمم وصلى، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة.
والثاني ـ حكاه في " العدة " ـ: لا تبطل صلاته؛ لأنه افتتحها مع عدم الماء، فكان مأذونًا فيه، فوجود الماء لا يؤثر في إبطال الصلاة، وجواز التيمم يفترق في الحضر والسفر، وإنما يختلفان في الإعادة.
وأما إذا نوى الإقامة دون رؤية الماء.. لم تبطل صلاته.
وقال القفال: إن كان في موضع لا يوجد فيه الماء غالبًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان في بلد أو قرية.. بطلت صلاته.
فإذا قلنا: لا تبطل صلاته.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تلزمه؛ لأنه يصير في حكم المتيمم للصلاة حال الإقامة لعدم الماء، فلزمته الإعادة.
والثاني: لا تلزمه الإعادة، وهو قول ابن الصباغ؛ لأن الاعتبار في التيمم بالموضع الذي يوجد فيه الماء نادرًا أو معتادًا، وهذا لا يقف على النية.(1/327)
[فرع: رأى الماء حال صلاته بتيمم]
وإن دخل في الفريضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلم يفرغ من الصلاة حتى فني الماء.. فهل يجوز له أن يتنفل بذلك التيمم؟ فيه طرق:
أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يجوز له؛ لأنه إذا رأى الماء، لم يكن له استفتاح الصلاة، كما لو رآه قبل الدخول.
والثاني: ـ وإليه أشار ابن الصباغ ـ: أنه يجوز له التنفل؛ لأن هذا الماء لم يلزمه استعماله لهذه الصلاة، ولا قدر على استعماله، فلم يبطل تيممه.
قال: ويلزم من قال: لا يصلي النافلة بالتيمم، أن يقول: إذا مر عليه ركب، وهو في الصلاة، ففرغ منها، وقد ذهب الركب.. لا يجوز له أن يصلي النافلة.
والثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن لم يعلم بتلفه قبل الفراغ.. لم يتنفل به، وإن علم بتلفه قبل الفراغ فوجهان.
[فرع: رؤية الماء أثناء النافلة]
وإن دخل في صلاة نافلة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها.. ففيه خمسة أوجهٍ:
أحدها ـ وهو المشهور ـ: إن كان قد نوى عددًا.. أتمه كالفريضة، وإن لم ينو عددًا.. سلم من ركعتين، ولم يزد عليهما؛ لأن هذا هو الشرع في النافلة.
والثاني: ـ وهو قول أبي علي السنجي، وأبي زيد المروزي ـ: أنه لا يزيد على ركعتين، وإن نوى أكثر منهما.
والثالث ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه يقتصر على ما صلى منها؛ لأن ما مضى من النافلة يثاب عليه، والفريضة لا يثاب عليها إلا بإكمالها.(1/328)
والرابع ـ وهو قول القفال ـ: أنه يزيد ما يشاء من عدد الركعات بعد رؤية الماء؛ لأنه قد صح دخوله فيها.
والخامس ـ وهو قول صاحب " الفروع " و" المذهب " ـ: إن نوى عددًا.. أتمه، وإن لم ينو.. بنى على القولين فيمن نذر صلاة: فإن قلنا: يلزمه ركعتان.. صلى ركعتين، وإن قلنا: يلزمه ركعة.. لم يزد عليها.
[فرع: لا يلزم المتيمم المريض إعادة صلاته]
وإن تيمم للمرض، وصلى.. لم تلزمه الإعادة؛ لأنا قد قلنا: إنه من الأعذار العامة، فهو كمن يصلي مع سلس البول.
وإن خاف من استعمال الماء في البرد تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يكون منه ذلك، فإن كان في موضع يمكنه تسخين الماء، وأمكنه أن يغسل من بدنه عضوًا ويدثره حتى يأتي على الكل.. لم يجز له التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء.
وإن لم يمكنه ذلك، بأن لم يجد ما يسخنه به، أو كانت الرفقة سائرة، أو كان الماء في موضع لا يمكنه الانغماس فيه.. جاز له التيمم؛ لحديث عمرو بن العاص.
وهل يلزمه الإعادة؟
إن كان ذلك في الحضر.. لزمته الإعادة قولاً واحدًا؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وإن كان ذلك في السفر.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تلزمه الإعادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة.
والثاني: تلزمه الإعادة؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر، وأما الخبر: فيجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ويجوز أنه لم يأمره بذلك؛ لعلمه أن عمرًا يعلم ذلك.(1/329)
[مسألة: حكم الجبيرة على عضو التيمم]
قال الشافعي: (ولو ألصق على موضع التيمم لصوقًا.. نزع اللصوق وأعاد) .
واختلف أصحابنا في مراد الشافعي بذلك:
فمنهم من قال: أراد إذا كان على موضع التيمم قرح أو جرح، فألصق عليه الدواء بخرق أو غيرها، ولا يخاف الضرر من نزعها.. فإنه يلزمه نزع اللصوق، وغسل الصحيح الذي تحتها، والتيمم في موضع القرح، فيصلي ولا يعيد الصلاة.
ومعنى قول الشافعي: (وأعاد) يرجع إلى اللصوق، أي: إذا نزع اللصوق، وغسل الصحيح.. تيمم، وأعاد اللصوق على موضعها.
ومنهم من قال: بل يراد أن يكون القرح على موضع التيمم، وعليه اللصوق، ويخاف من نزعه الضرر.. فإنه يمسح عليه. فإذا نزع اللصوق.. تيمم على القرح، وأعاد الصلاة؛ لأن التيمم لا يجزئ على حائل دون العضو.
وقوله: (أعاد) يرجع إلى الصلاة.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح.
وقال ابن الصباغ: أي المسألتين أراد.. فالحكم على ما ذكرناه.
[مسألة: حكم الجبيرة]
مسألة أخرى: [حكم الجبيرة] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعدو بالجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلا على وضوء) .(1/330)
وجملة ذلك: أن (الجبائر) هي الخشب التي توضع على الكسر.
وقوله: (لا يعدو موضع الكسر) يريد: لا يتجاوز. وليس هذا على ظاهره؛ لأن الكسر لا توضع عليه الجبائر خاصة، بل لا بد أن يضعها على شيء من الصحيح معه للحاجة إليه. أراد: أي: أن لا يضع على شيء من الصحيح لا حاجة به إليه.
فإذا وضع الجبيرة، ثم أراد الغسل أو الوضوء، فإن كان لا يخاف من نزعها ضررًا.. نزعها وغسل ما يقدر عليه من ذلك، وتيمم عما لا يقدر عليه.
وإن خاف من نزعها تلف النفس، أو تلف عضو، أو إبطاء البرء أو الزيادة في الألم إذا قلنا: إنه كخوف التلف.. لم يلزمه حلها، ولزمه غسل ما جاوز موضع الشد، والمسح على الجبيرة.
والأصل فيه: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (انكسر زندي، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرني أن أمسح على الجبائر» .
وهل يلزمه أن يمسح جميعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسح الجميع؛ لأنه لا ضرر عليه في استيعاب مسحها، فلزمه كالتيمم.
والثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم المسح؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
وهل يتقدر المسح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\35] :(1/331)
أحدهما: أنه يتقدر؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف.
والثاني: لا يتقدر، بل يمسح عليه إلى أن يبرأ، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو الصحيح؛ لأن الحاجة تدعو إلى استدامة اللبس والمسح إلى البرء، بخلاف الخفين، فإنه إذا استدام لبسهما.. تشوشت لفائفه وحميت رجلاه، فكان به حاجة إلى نزعهما.
وواضع الجبيرة ما لم ينجبر.. حاجته باقية إلى اللبس، ويجوز لواضع الجبيرة المسح عليها مع الجنابة، بخلاف لابس الخف؛ لما ذكرناه من الفرق.
وهل يجب عليه أن يتيمم مع المسح؟ ذكر أصحابنا البغداديون فيها قولين:
[الأول] قال في القديم: (لا يتيمم؛ لأنه لا يجب عليه بدلان من مبدل، كما لا يلزم ماسح الخف) .
و [الثاني] قال في الجديد: (يتيمم؛ «لحديث جابر في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويغسل سائر بدنه» .
ولأن واضع الجبيرة أخذ شبهًا من الجريح؛ لأنه يخاف الضرر من غسل العضو، كما يخافه الجريح، وأخذ شبهًا من لابس الخف؛ لأن المشقة تلحقة في نزع الجبيرة، كلابس الخف، فلما أشبههما.. وجب عليه أن يجمع بين حكميهما، وهما المسح والتيمم.
وأما صاحب " الإبانة " فقال [في ق\35] : هل يلزمه التيمم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه.
والثاني: لا يلزمه.(1/332)
والثالث: إن كان تحت الجبيرة جراحة. لزمه، وإن لم يكن تحتها جراحه.. لم يلزمه.
فإن برئ الموضع.. لزمه حل الجبيرة، وغسل الموضع.
وإن سقطت عنه الجبيرة في الصلاة.. بطلت الصلاة في مدة المسح، كالخف إذا سقط عنه في الصلاة في مدة المسح.
وهل يلزمه إعادة ما صلى بالمسح؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وضع الجبيرة على طهر.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الأشبه بالسنة ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر علينا بالإعادة.
والثاني: عليه الإعادة. قال أصحابنا: وهو الأحوط؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء الحضر.
وأما حديث علي: فلا يصححه أهل النقل.
وإن كان قد وضعها على غير طهر.. مسح عليها، وصلى، وأعاد قولاً واحدًا، كما لو لبس الخف على غير طهارة.(1/333)
قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: في الإعادة قولان، وليس بشيء.
قال ابن الصباغ: وهكذا الحكم فيه إذا كان على جرحه عصابة يخاف من نزعها.
وإن كانت الجبيرة على موضع التيمم.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: يكفيه المسح بالماء.. أجزأه. وإن قلنا: يحتاج إلى التيمم.. فإنه يمسح بالماء ويتيمم، ويمسح بالتراب على الجبيرة وتلزمه الإعادة قولاً واحدًا؛ لأن الجبائر لا يجزئ مسحها في التيمم؛ لأن البدل لا يكون على بدل.
وأما تجديد الطهارة لكل صلاة: فإن قلنا: لا يتيمم.. كفته طهارة من الحدث إلى الحدث. وإن قلنا: يتيمم.. احتاج إلى الطهارة عند كل صلاة مفروضة، ولا يجوز أن يجمع بين فرضين بتيمم.
وبالله التوفيق(1/334)
[باب الحيض] [مسألة: المراد بالحيض والأحكام المترتبة عليه]
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] .
واختلف الناس في المحيض المراد بالآية:
فقال قوم: هو موضع الحيض، وهو الفرج، كما يقال: مبيت لموضع البيتوتة.
وقال قوم: هو زمن الحيض.
وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه هو الحيض، وهو الدم؛ فكأنه قال: اعتزلوا النساء في حال وجود الدم؛ لأنه قال: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . ولا يوصف الفرج والزمان: أنه أذى، وإنما يوصف به الدم) .
وروي: «أن أسماء قالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا من المحيض؟» .
فإذا حاضت المرأة.. تعلق بها أربعة عشر حكمًا:
أحدها: أنه يحرم فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة.. فدعي الصلاة» .
والثاني: أنه يسقط وجوبها؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نقضي الصلاة، ولا نؤمر بقضائها» .(1/335)
الثالث: أنه يحرم عليها الصوم؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصل، ولم تصم» .
ولا يسقط وجوبه؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
الرابع: أنه يحرم الطواف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة رضوان الله عليها وقد حاضت وهي محرمة: «اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» .
الخامس: يحرم عليها قراءة القرآن.
وقال مالك: (لا يحرم عليها قراءة القرآن؛ لأنها إذا لم تقرأ.. نسيت القرآن) .(1/336)
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\21] : أن هذا قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
ووجه الأول: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقرأ الجنب، ولا تقرأ الحائض شيئًا من القرآن» . ولأنها يمكنها أن تستذكر القرآن في نفسها، فلا تنسى.
السادس: يحرم عليها مس المصحف وحمله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] [الواقعة: 79] .
السابع: يحرم عليها اللبث في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» .
الثامن: يمنع صحة الاعتكاف؛ لأنه إذا حرم عليها اللبث في المسجد من غير عبادة.. فلأن يحرم ذلك عليها مع نية العبادة أولى.
وأما العبور في المسجد: فإن لم تستوثق في الشد والتلجم.. حرم عليها؛ لأنه لا يؤمن أن تلوث المسجد.
وإن استوثقت بالشد.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ناوليني الخمرة من المسجد"، فقلت: إني(1/337)
حائض، فقال: "ليست حيضتك في يدك» و (الخمرة) : الحصير الصغير.
ولأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، فلم يمنع العبور فيه، كالجنابة.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز؛ لأن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، بدليل: أنه يمنع صحة الصوم، ويسقط الصلاة، بخلاف حدث الجنابة.
التاسع: يتعلق به وجوب الغسل. وهل يجب برؤية الدم، أو بانقطاعه؟
فيه وجهان، قد مضى ذكرهما. الصحيح: أنه يجب برؤيته.
فعلى هذا: إذا أجنبت المرأة، وحاضت قبل أن تغتسل، وأرادت أن تغتسل؛ لتقرأ القرآن: إذا قلنا بالقول القديم.. لم يصح غسلها؛ لأن ما أوجب الطهارة منع صحتها، كخروج البول.
وإن قلنا: إن الغسل لا يجب عليها إلا بانقطاع الدم.. صح غسلها عن الجنابة قبل انقطاعه.
العاشر: أنه يحكم ببلوغ المرأة به.
الحادي عشر: أنه يمنع من الاعتداد بالشهور.
الثاني عشر: أنه يمنع من الدخول في العدة وهو إذا طلقها حائضًا.
الثالث عشر: أنه يحرم طلاق المدخول بها، ونحن نذكر أدلة هذه الأحكام في مواضعها، إن شاء الله تعالى.(1/338)
الرابع عشر: أنه يحرم وطؤها في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] .
فأما مباشرتها فيما بين السرة والركبة.. فالمنصوص: (أنه لا يجوز) .
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ومحمد بن الحسن: (يجوز) . وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «اصنعوا كل شيء غير النكاح» .
ودليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إحدانا إذا حاضت أن تأتزر، ثم يباشرها» .
وفي رواية عنها: «كان يباشر نساءه فوق الإزار، وهن حيض» .
وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يحل للرجل من(1/339)
امرأته، وهي حائض؟ فقال: "ما فوق الإزار» .
وأما مباشرتها فيما فوق السرة، وفيما دون الركبة: فإن لم يكن عليه شيء من دم الحيض.. جاز له مباشرتها فيه بالإجماع، ولما رويناه عن عمر، وعائشة.
وإن كان عليه شيء من دم الحيض.. فهل يجوز له مباشرتها؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن به أذى الحيض.
والثاني: يجوز؛ لحديث عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق.
فإن خالف ووطئ امرأته في فرجها وهي حائض، فإن كان جاهلاً بحيضها، أو جاهلاً بتحريمه.. فلا شيء عليه.
وإن كان عالمًا بحيضها، عالمًا بتحريم وطئها.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (إن كان في أول الدم.. لزمه أن يتصدق بدينار. وإن كان في آخره.. لزمه أن يتصدق بنصف دينار) . وبه قال الأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى امرأته حائضًا.. فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم ولم يقبل.. فليتصدق بنصف دينار» . وفي رواية: «في الذي يأتي امرأته وهي حائض.. يتصدق بدينار، أو بنصف دينار» ولهذا خيره أحمد بينهما.(1/340)
و [الثاني] : قال في الجديد: (يأثم بذلك، وقد أتى كبيرة، فليستغفر الله ويتوب إليه، ولا كفارة عليه) ؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقوله، أو أتى امرأته في دبرها، أو حائضًا.. فقد كفر بما أنزل على محمد» ولم يأمره بالكفارة.
ولأنه وطء محرم؛ للأذى، فلم تتعلق به الكفارة، كالوطء في الدبر.
وفيه احتراز ممن وطئ في رمضان، أو محرمًا بالحج أو العمرة.
وأما حديث ابن عباس: فقيل: إنه موقوف عليه.
فإذا قلنا بالقول القديم.. فاختلف أصحابنا في إقبال الدم الذي يجب بالوطء فيه دينار، وفي إدباره نصف دينار:
فقال أكثرهم: (إقباله) : هو أول الدم، وأيام كونه قويًا، و (آخره) : هو انتقاله من القوة إلى الضعف، كانتقال الأسود إلى الأحمر، وانتقال الأحمر إلى الأصفر؛ لما روي في حديث ابن عباس: أنه قال: (إن كان الدم أحمر.. فدينار، وإن كان أصفر.. فنصف دينار) .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: (أول الدم) : هو قبل انقطاعه، و (آخره) : هو إذا انقطع، ولم تغتسل.(1/341)
و (الدينار) الذي يجب في ذلك: هو مثقال الإسلام.
وقال الحسن البصري، وعطاء: يجب فيه ما يجب على المجامع في رمضان.
ودليلنا: ما ذكرناه من الخبر.
قال صاحب " الفروع ": ويجب ذلك على الزوج دون الزوجة، على ظاهر المذهب، ومصرفه مصرف الكفارات.
[فرع: إخبارها بالحيض]
] إذا أراد الرجل وطء امرأته فقالت: أنا حائض، ولم يعلم بحيضها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن كانت فاسقة.. لم يقبل قولها. وإن كانت عفيفة.. قبل قولها.
وقال الشاشي: إن كانت بحيث يمكن صدقها.. قبل كلامها. وإن كانت فاسقة.. فكما نقول في العدة.
[فرع: غسل الحائض بعد الانقطاع]
وإذا انقطع دم الحائض.. حل لها: أن تصوم، وتغتسل؛ لأن تحريمهما بالحيض، وقد زال.(1/342)
ولا يحل لها: الصلاة، والطواف، واللبث في المسجد، والاعتكاف، وقراءة القرآن؛ لأن المنع منه؛ لحدثها، وهو باق.
ولا يحل وطؤها حتى تغتسل، وبه قال الزهري، وربيعة، والثوري، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (إن انقطع دمها لأكثر الحيض.. حل وطؤها قبل الاغتسال، وإن انقطع لدون ذلك.. لم يحل حتى تغتسل) .
وقال داود: (إذا غسلت فرجها.. حل وطؤها) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . فشرط الطهر والطهارة.
فإن عدمت الماء فتيممت.. حل وطؤها.
وقال مكحول: لا يحل وطؤها بالتيمم.
وقال أبو حنيفة: (لا يحل وطؤها حتى تصلي به) .
دليلنا: أن التيمم طهارة تبيح الصلاة، فأباحت الوطء، كطهارة الماء.
فإن صلت بالتيمم فريضة.. فهل يحل وطؤها؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يحل، كما لا يحل لها فعل فريضة ثانية.
والثاني: يحل، وهو الأصح؛ لأن هذا التيمم قام مقام غسلها، ولهذا يجوز لها فعل النافلة.
[مسألة: سن الحيض]
] الحيض له سن مخصوص، وقدر مخصوص، فإذا وجد ذلك.. تعلق به أحكام الحيض. والمرجع في إثبات ذلك إلى الوجود، وهو ما يوجد عادة مستمرة، فإذا وجد ذلك.. صار أصلاً.
ومن الناس من قال: لا يرجع في ذلك إلى الوجود.
ودليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا بد من تقديره، ولم يكن له أصل في(1/343)
الشرع، ولا في اللغة.. رجع فيه إلى العرف والعادة، كالتفرق في البيع، والقبض، والحرز في السرقة.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (أعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة، يحضن لتسع سنين) .
وقال في بعض كتبه: (رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة) .
قال أصحابنا: ويجيء على أصله أن تكون جدة لها تسع عشرة سنة؛ لأنها تحبل لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، ثم تحبل ابنتها لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، فذلك تسع عشرة سنة.
[فرع: أقل الحيض]
وأما أقل الحيض: فاختلف العلماء فيه:
فقال أبو حنيفة، والثوري: (أقله ثلاثة أيام) .
وقال أبو يوسف: أقله يومان وأكثر اليوم الثالث.
وقال مالك: (ليس لأقله حد، ويجوز أن يكون لحظة واحدة) .
وأما الشافعي: فذكر في " المختصر " [1/55] : (أن أقله يوم وليلة) . وقال في كتاب (العدد) : (أقله يوم) .
واختلف أصحابنا فيها، على ثلاث طرق:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان.(1/344)
و [الثاني] : منهم من قال: أقله يوم، قولاً واحدًا، وإنما قال: يوم وليلة، قبل أن يثبت عنده اليوم وحدة، فلما ثبت عنده اليوم.. رجع إليه.
و [الثالث] : منهم من قال: هو يوم وليلة، قولاً واحدًا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي فرعنا عليه، وبه نفتي، وعليه نناظر، ولا يجوز أن يكون للشافعي فيها قولان؛ لأنه رجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود عنده بذلك. وقوله: (يوم) أراد: بليلته؛ لأن العرب إذا أطلقت الأيام.. فالمراد بها: بلياليها، وإذا أطلقت الليالي.. فالمراد بها: بأيامها.
قال الله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] [الحاقة: 7] .
وأما الوجود في ذلك: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت امرأة أثبت لي عنها: أنها لم تزل تحيض يومًا لا تزيد عليه، وأثبت لي عن نساء: أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام) .
وقال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا.
وقال أبو عبد الله الزبيري: كان من نسائنا من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا.
وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا. وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (أكثره عشرة أيام) .(1/345)
وقال سعيد بن جبير: أكثره ثلاثة عشر يومًا.
وروي عن مالك ثلاث روايات:
إحداهن: كقولنا. والثانية: (لا حد لأكثره) . والثالثة: (أكثره سبعة عشر يومًا) .
دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد روينا عن عطاء، وأبي عبد الله الزبيري: أن من النساء من تحيض خمسة عشر يومًا.
وقال شريك بن عبد الله: عندنا امرأة تحيض من الشهر خمسة عشر يومًا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت نساء أثبت لي عنهن: أنهن لم يزلن يحضن ثلاثة عشر يومًا) .
وغالب الحيض: ست أو سبع؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام، كما تحيض النساء ويطهرن؛ لميقات حيضهن وطهرهن» .(1/346)
[فرع: حد الطهر]
وليس لأكثر الطهر حد بلا خلاف. وأما أقله.. فاختلف العلماء فيه:
فذهب الشافعي إلى: أن أقله خمسة عشر يومًا.
وقال عبد الملك بن الماجشون: أقله خمسة أيام.
وقال أحمد: (أقله ثلاثة أيام) .
وقال يحيى بن أكثم: أقله تسعة عشر يومًا.
وقال بعضهم: أقله عشرة أيام.
وقال بعضهم: أقله ثمانية أيام.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النساء: «نقصان دينهن: أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي» . ولأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المعتدة بالأقراء ثلاثة أقراء، وأوجب على الآيسة ثلاثة أشهر، فبطل أن يكون أقام الشهر مقام أكثر الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأقل(1/347)
الطهر؛ لأن أقلهما ستة عشر يومًا. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له، فثبت: أنه أقامه مقام أقل الطهر وأكثر الحيض، وذلك ثلاثون يومًا.
[فرع: دم الحامل]
وأما الدم الذي تراه الحامل.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه ليس بحيض، بل هو دم فساد. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها لا تحبل، فلا تحيض كالصغيرة. ولأنه لو كان حيضًا.. لحرم الطلاق، ولانقضت العدة بثلاثة أطهار منه.
والثاني: أنه حيض، وهو الصحيح؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخصف نعله، وأسارير وجهه تبرق، فقلت: يا رسول الله، أنت أحق بما قال أبو كبير الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنت مبرأة من أن تكون أمك حملت بك في غبر الحيض» . و (الغبر) : البقية.(1/348)
وإذا ثبت أن المرأة تحمل على الحيض.. ثبت أنها تحيض على الحمل. ولأن الحمل عارض لا يمنع دم العلة، وهو دم الاستحاضة، فلم يمنع دم الحبلة، وهو: دم الحيض، كالرضاع، أو لأنه دم لا يمنعه الرضاع، فلا يمنعه الحمل، كالاستحاضة.
[فرع: أيام النقاء]
إذا رأت المرأة يومًا وليلة دمًا، ويومًا وليلة طهرًا، ولم يعبر ذلك الخمسة عشر يومًا.. فلا خلاف على المذهب: أن أيام الدم حيض، ولا خلاف أنها إذا رأت النقاء.. يجب عليها أن تغتسل، وتصلي، وتصوم. ويجوز للزوج وطؤها؛ لأن الظاهر بقاء الطهر، وعدم معاودة الدم.
فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث.. فما حكم ذلك النقاء؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه حيض ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ولأن الدم يسيل مرة وينقطع أخرى.
فعلى هذا: لا يجزئها الصوم إن كان فرضًا، ويجب عليها قضاؤه، ولا ثواب لها فيه إن كان نفلا، ولا إثم على الزوج ولا عليها بالوطء، ولا إثم عليها بفعل الصلاة، ولا يجب عليها إعادتها؛ لأن الحائض لا يجب عليها الصلاة.
والقول الثاني: أن أيام النقاء طهر، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف الحيض بأنه: أذى [البقرة: 222] . وأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، وليس هناك ما يستدل به على الحيض إلا وجود الدم، ولا ما يستدل به على الطهر إلا النقاء.
فعلى هذا: قد وقع ما فعلت في أيام النقاء من الصلاة والصوم والوطء موقعه.
فإذا رأت النقاء في اليوم الرابع، والسادس، والثامن، وما بعدها.. كان حكمه حكم اليوم الثاني.
فإن قيل: هلا قلتم ـ على القول الذي يجعل أيام النقاء حيضًا، إذا تكرر ذلك(1/349)
منها ـ: أن تؤمر فيه بما تؤمر الحائض، كما قلتم في المستحاضة في الشهر الثاني، إذا جاوز الدم عادتها؟
فالجواب: أن المستحاضة انضمت عادتها في الشهر الأول إلى الظاهر في الشهر الثاني، وهو بقاء الدم الذي تراه، ومجاوزته أكثر الحيض، فثبت على ذلك. وليس كذلك هاهنا؛ فإن الظاهر بقاء الطهر، فلم ينتقل عن هذا الظاهر بمجرد العادة.
[مسألة: الصفرة والكدرة]
إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيها.. أمسكت عما تمسك عنه الحائض؛ لأن الظاهر أنه حيض. فإن انقطع لدون اليوم والليلة.. علمنا أنه دم فساد، ولم تأثم بخروج وقت الصلاة عنها؛ لأنا قد أمرنا بتركها، ووجب عليها قضاؤها لأنا قد تبينا أنه لم يكن حيضًا، ولا يفسد صومها.
وإن انقطع ليوم وليلة، أو لخمسة عشر يوما، أو لما بينهما، وهو أسود أو أحمر.. فهو حيض.
وإن كان في الدم صفرة أو كدورة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الصفرة والكدورة في أيام الحيض حيض) .
واختلف أصحابنا فيه، على ثلاثة أوجه:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق، وأكثر أصحابنا ـ: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام العادة، وفي غيرها من الأيام التي يمكن أن تكون أيام الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] .
وهذا يتناول الصفرة، والكدرة.(1/350)
و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا تكون الصفرة والكدرة حيضا، إلا إذا رأت ذلك في أيام العادة، بأن تكون قد حاضت في أيام من الشهر دمًا أسود، أو أحمر، ثم رأت ـ في الشهر الثاني في مثل تلك الأيام ـ صفرة أو كدرة. فأما إذا رأت المبتدأة صفرة، أو كدرة، أو رأت المعتادة في غير أيام العادة الصفرة أو الكدرة.. لم يكن ذلك حيضًا؛ لما روي «عن أم عطية، وكانت قد بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا» ولأنه ليس فيه أمارة الحيض، فلم يكن حيضًا.
والثالث ـ وهو اختيار أبي علي الطبري ـ: إن تقدمهما دم قوي، كالأسود، والأحمر، ولو بعض يوم؛ كانا حيضًا.
وإن لم يتقدمها دم قوي.. فليسا بحيض. وهو قول أبي ثور.
وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليست حيض، إلا أن يتقدمها دم.
والأول أصح: لأنه دم في زمان الإمكان، ولم يجاوز الأكثر، فكان حيضًا، كالأسود، وكما لو كان في أيام العادة.
وما روي عن أم عطية يعارضه ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنا نعد الصفرة والكدرة حيضًا» وقولها أولى؛ لأنها أعلم.(1/351)
فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دما أسود، ثم رأت خمسة أيام دما أصفر أو كدرة، ثم رأت خمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فعلى قول أبي سعيد الإصطخري: أن الصفرة والكدرة هاهنا ليست بحيض.
وعلى الوجه الذي اختاره أبو علي الطبري: الجميع هاهنا حيض.
وأما على قول عامة أصحابنا: فإن أبا العباس ابن سريج قال: تكون الصفرة والكدرة هاهنا طهرًا واقعا بين الدمين. فتكون على قولين في التلفيق؛ لأن عادة دم الحيض، كلما تطاول به الأيام.. رق وضعف، وتغيرت صفته.
فإذا رأت في الابتداء دما أسود، ثم رأت بعده صفرة، أو كدرة.. حمل على: أن الصفرة والكدرة بقية ذلك الدم.
فإذا رأت بعده دم أسود، علم أنه ليس ببقيته، بل هو بحكم الطهر.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي العباس؛ لأن عندهما: أن الصفرة والكدرة في زمان الإمكان حيض. وإنما يجيء على قول أبي سعيد الإصطخري.
وإن رأت الدم، وعبر على خمسة عشر يوما.. فقد اختلط الحيض بالاستحاضة؛ لأنا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض، ولا يزيد الحيض على خمسة عشر يوما، ويجوز أن يكون قد وردت الاستحاضة على الحيض، لأن الحيض في النساء جبلة وعادة وصحة، لا تنقطع إلا من علة أو كبر، والاستحاضة مرض وسقم، والمرض يطرأ على الصحة، والصحة تطرأ على المرض، وأحدهما لا ينفي الآخر، فكذلك الحيض(1/352)
يطرأ على الاستحاضة، والاستحاضة تطرأ على الحيض، ولا بد من التمييز بينهما.
إذا ثبت هذا: فالمستحاضات على ثلاثة أضرب:
مبتدأة، ومميزة، ومعتادة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحيض ثلاثة أخبار، جعلها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصولا في المستحاضات، ونحن نذكر كل واحدة منهن على ما ينقسم عليه أمرها، وما يتفرع عليها.
[مسألة: أحكام المستحاضة المبتدأه غير المميزة]
فأما المستحاضة المبتدأة: فصفتها أن ترى المرأة أول ما طرقها الحيض دما بصفة واحدة، وعبر خمسة عشر يومًا.
فالخبر الذي جعله الشافعي أصلا فيها ما روي: «أن حمنة بنت جحش ـ وقيل: أم حبيبة بنت جحش ـ قالت: (كنت أحيض حيضة كثيرة شديدة) . وروي: (أنها استحيضت سبع سنين) . قالت: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته في بيت أختي زينب، فقلت يا رسول الله، إن لي حاجة، وإنه لحديث لا بد منه وإني لأستحيي منه. فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ما هو يا هنتاه؟) فقلت: إني أحيض حيضة كثيرة شديدة، فقد منعتني الصلاة والصوم، فما ترى؟ قال: (أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم، فاحتشي به) فقلت: هو أشد من ذلك، فقال: (تلجمي) ، فقلت: هو أشد من ذلك، فقال (اتخذي ثوبا) فقلت: هو أشد من ذلك؛ إنما أثج ثجًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنها ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي في علم الله ستا أو سبعا، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي أربعًا وعشرين ليلة، أو ثلاثًا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإنها تجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن» .(1/353)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيحتمل أن تكون حمنة مبتدأة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عادات النساء، فيكون هذا الخبر أصلا للمبتدأة. ويحتمل أن تكون حمنة معتادة، فردها إلى عادتها، فترد المبتدأة إلى اليقين، ولا يكون هذا الخبر أصلا لها) .
فيخرج من بين هذين التأويلين في المبتدأة وغير المميزة قولان:
أحدهما: ترد إلى يوم وليلة؛ لأنه هو اليقين، وما زاد مشكوك فيه.
وعلى هذا: إلى ماذا ترد إليه من الطهر؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ".
أحدهما: إلى أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما، كما ردت إلى أقل الحيض.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنها ترد إلى غالب طهر النساء، وهو ما بقي من الشهر، فيكون لها على هذا القول ثلاثة أحوال:
حيض بيقين، وهو اليوم والليلة.
وطهر بيقين، وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا.
وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا.
وعلى هذا ـ القول ـ: تكون حمنة معتادة، فيكون تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بين الست والسبع يحتمل: أن تكون شاكة في أن عادتها كانت ستا أو سبعًا، فقال لها: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعا» . أي: فيما علمك الله، ومعناه: فيما تحفظين من عادتك.(1/354)
ويكون تأويل قوله ـ على هذا ـ: «وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن» ؛ أي: أنك إذا حيضت نفسك ستًا أو سبعًا.. صرت بمنزلة سائر النساء اللواتي يحضن ستا أو سبعا، فذكر ذلك لها على وجه التشبية بغيرها من النساء؛ لأنه جعل عادتها كعادة غيرها.
والقول الثاني ـ في أصل المسألة ـ: أنها ترد إلى ست أو سبع، وهو إذا قلنا: إن حمنة كانت مبتدأة، وهو الأصح؛ لأنه لم ينقل: أنه سألها عن حيضها قبل ذلك، ولو كانت معتادة.. لسألها عن عادتها، وردها إليها.
فعلى هذا: يكون لها أربعة أحوال:
حيض بيقين، وهو الليلة واليوم.
وطهر بيقين؛ وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا.
وحيض مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى الست أو السبع.
وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على الست أو السبع إلى تمام خمسة عشر يومًا.
وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة ـ على هذا القول ـ بين الست أو السبع.. فقال أصحابنا: يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنه خيرها في ذلك، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الست عادة غالبة في النساء، والسبع عادة غالبة فيهن، وقد روي: أنه قال لها: «فأيهما قعدت.. فلا حرج؛ لأنك لم تخرجي عن عادة النساء» .
والثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شك في العادة الغالبة، فردها إلى اجتهادها في ذلك، وهو اختيار الطبري، فيكون معنى قوله: "تحيضي في علم الله تعالى". يعني: إن كانت العادة في علم الله ستًا.. فتحيضي ستًا، وإن كانت سبعًا.. فتحيضي سبعًا.
فإذا قلنا بهذا التأويل.. فهل تعتبر نساء الناس. أو نساء أهلها وأقربائها وأهل بلدها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تعتبر نساء العالم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كما تحيض النساء". والعموم يقتضي نساء العالم.(1/355)
والثاني: تعتبر نساء أهلها وأهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن.
إذا ثبت هذا: فإن حال هذه المستحاضة في الشهر الأول بالصلاة والصوم: أن تؤمر بالإمساك عن ذلك من حين رأت الدم، فإذا جاوز الدم الخمسة عشر.. فإنا نأمرها بالاغتسال وبالصلاة والصوم، وتقضي ما تركت فيه الصوم في مدة الخمسة عشر. وأما الصلاة:
فإذا قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة.. قضت صلاة ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا.
وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع.. قضت صلاة ما زاد على ذلك إلى خمسة عشر يومًا.
وأما في الشهر الثاني: فإنا نأمرها بالاغتسال والصوم والصلاة، عند انقضاء اليوم والليلة ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ أو عند انقضاء الست أو السبع ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول.
فإن انقطع الدم في هذا الشهر لخمسة عشر يومًا أو لدونها.. علمنا أنها إنما كانت مستحاضة في الشهر الأول دون الثاني.
فعلى هذا: يلزمها إعادة ما صامت فيه، ولا إثم عليها بفعلها الصلاة والصوم والوطء؛ لأنا قد حكمنا لها بالطهر في الظاهر. فإذا انقطع الدم لخمسة عشر يومًا.. تيقنا أنه كان حيضًا.
وإن زاد الدم في هذا الشهر على خمسة عشر يومًا.. فإنها لا تقضي ما أتت به من الصلاة بعد الخمسة عشر؛ لأنه طهر بيقين. ولا تقضي ما أتت به من الصلاة في الطهر المشكوك فيه، وهو ما بعد اليوم والليلة إلى تمام خمسة عشر يوما في أحد القولين، أو ما بعد الست أو السبع في الثاني؛ لأنها إن كانت حائضا فيه.. فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرا فيه.. فقد صلت.
وهل تقضي ما أتت به من الصوم؟(1/356)
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وعامة أصحابنا: فيه قولان، وحكاهما صاحب " المهذب " وجهين:
أحدهما: يجب عليها قضاء ذلك؛ لأنا نتيقن وجوب ذلك عليها، ونشك في سقوط ذلك عنها؛ لجواز أن تكون حائضًا فيه، فلم يسقط الفرض عنها بالشك.
والثاني: لا يجب عليها قضاؤه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «فإذا علمت أنك قد طهرت.. فصلى ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي؛ فإنها تجزئك» . فأخبر: أن صومها يجزئها، وما أجزأها.. فلا يجب قضاؤه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا استحاضت المبتدأة.. ردت إلى أكثر الحيض، وهو عشرة أيام) .
وقال أبو يوسف: يؤخذ بالصوم والصلاة بأقل الحيض. وبتحريم الوطء بأكثر الحيض.
وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات:
إحداهن: (ترد إلى عادة لداتها) .
والثانية: (إلى عادة نسائها، ويستظهر بعد ذلك بثلاثة أيام، ما لم يجاوز خمسة عشر يوما) .
والثالثة: (أنها تقعد خمسة عشر يوما) .
ودليلنا ـ عليهم ـ: ما مضى من القولين.
[مسألة: المستحاضة المبتدأة المميزة]
وأما المستحاضة المميزة: فهي المرأة إذا ابتدأها الحيض، وعبر الخمسة عشر، إلا أن الدم على لونين: قوي، وضعيف، بأن يكون الدم في بعض الأيام ثخينا محتدما قانيا، وفي بعضها أحمر مشرقًا.(1/357)
فـ (المحتدم) : الحار، يقال: احتدم النهار: إذا اشتد حره.
و (القاني) : هو الذي يضرب إلى السواد من شدة حمرته.
فالقوي هاهنا: هو الأسود.
وإن رأت بعض الأيام الدم أحمر مشرقًا، وفي بعضها أصفر.. فالقوي هاهنا: هو الأحمر.
إذا ثبت هذا: فإنها لا تغتسل عند تغير صفة الدم في الشهر الأول؛ لجواز أن لا يجاوز الدم خمسة عشر يومًا، فيكون الجميع حيضًا.
فإذا جاوز الدم خمسة عشر يومًا.. علمنا أنها مستحاضة، فيكون حيضها أيام الأسود مع الأحمر، أو أيام الأحمر مع الأصفر، بشرط أن لا ينقص القوي عن أقل الحيض ولا يزيد على أكثره. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا اعتبار بالتمييز، وإنما الاعتبار بالعادة. فإن لم يكن لها عادة.. ردت إلى أكثر الحيض) .
دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اأ: "إنما ذلك عرق، وليست بحيضة، إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك.. فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر.. فتوضئي وصلي» .
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (إن دم الحيض بحراني) .(1/358)
و (البحراني) : الأحمر، يريد: شديد الحمرة. وقيل: إنه يخرج من قعر الرحم.
ولأنه خارج يوجب الغسل، فجاز الرجوع إلى صفته عند الإشكال، كالمني.
فإن رأت السواد أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوما.. لم تكن مميزة؛ لأن الحيض لا ينقص عن يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر يومًا.
وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فالكل حيض؛ لأنه لم يزد على أكثر الحيض، بخلاف ما لو كانت الخمس الثانية كدرة، أو صفرة على قول أبي العباس؛ لأن الأحمر أشبه بصفة دم الحيض.
إذا ثبت هذا: فإن المبتدأة إذا رأت يومًا وليلة دما أسود، ثم احمر الدم أو اصفر، وجاوز الخمسة عشر مع السواد.. فإنا نأمرها بالغسل عند انقضاء الخمسة عشر، وبالصلاة والصوم؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضًا، ثم نأمرها بقضاء صوم الخمسة عشر يومًا، وبقضاء صلاة ما زاد على يوم وليلة.
فإن رأت السواد في الشهر الثاني يوما وليلة، أو ثلاثا، أو أربعًا، ثم احمر الدم أو اصفر.. فإنا نأمرها بالاغتسال عند تغير الدم، وبالصلاة والصوم؛ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول. فإن لم يجاوز الدم الخمسة عشر في هذا الشهر.. علمنا أن الكل حيض، وعلمنا أنها إنما استحيضت بالأول دون الثاني.
[فرع: المبتدأة المميزة]
وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام طهرًا، وعشرة أيام دمًا أحمر.. فحيضها أيام الأسود، وأما أيام الأحمر: فاستحاضة؛ لأن الدم الأحمر لو زاد مع(1/359)
الأسود على خمسة عشر يومًا، ولم يفصل بينهما طهر.. لكان استحاضة، فإذا فصل بينهما طهر أولى.
قال أبو العباس: فإن رأت نصف يوم دمًا أسود، ونصف يوم دما أحمر، وكذلك فيما بعده، فلما كان يوم الخامس، رأت في جميعه دمًا أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر يومًا.. فالدم الأحمر الذي وجد بعد الخامس استحاضة، وأما السواد في الخامس، وما قبله: فهو حيض، وأما الأحمر الذي وجد بين السواد: فهو في حكم الطهر، فيكون على قولين في التفليق.
قال أبو العباس: والأشبه هاهنا أن يكون حيضا ـ وإن كان الصحيح من القولين في الطهر الموجود بين الدمين: أنه طهر ـ لأن الأحمر هاهنا بصفة دم الحيض، فكان إلى الحيض أقرب.
[فرع: ومن صور المستحاضة غير المميزة]
وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم رأت نصف يوم دما أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر.. فهذه مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأنها لم تر السواد في يوم كامل، فيكون على القولين في المبتدأة.
[فرع: ومن صور الاستحاضة]
وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دما أسود؛ ثم احمر الدم، وعبر مع ما قبله الخمسة عشر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن حيضها أيام السواد، وما قبله وبعده استحاضة؛ لأن السواد بصفة دم الحيض، فكان حيضًا، كما لو كان متقدمًا.
والثاني: أنها مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأن الأحمر الأول له قوة السبق، والأسود له قوة الصفة، وما بعدهما مثل الأول في الصفة.
فعلى هذا: يكون على قولين، كالمبتدأة.(1/360)
والثالث: أن حيضها العشر الأولى؛ لأن الأول له قوة السبق، والثاني له قوة الصفة، فتساويا، وما بعدهما استحاضة.
والأول أصح؛ لأن الصفة أقوى من الزمان.
فإن رأت خمسة أيام دمًا أحمر، وعشرة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر.. فعلى الوجه الأول: حيضها العشر الأسود، وما قبله وبعده استحاضة.
وعلى الثاني: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع من أول الأحمر.
وعلى الثالث: حيضها الخمس التي قبل العشر مع العشر، وما بعد العشر استحاضة.
وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم أسود الدم إلى آخر الشهر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع في الثاني، ويجعل ابتداء ذلك من أول الأحمر؛ لأن له قوة بالسبق، ولا حكم للأسود؛ لأنه زاد على أكثر الحيض.
والثاني: أن الأسود يرفع الأحمر ـ ومعنى قولنا: (يرفعه) ، أي يسقط حكمه ـ ويكون ابتداء حيضها من أول الأسود يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الآخر؛ لأنه بصفة دم الحيض. والأول أصح.
وإن رأت خمسة عشر يوما دما أحمر، وخمسة عشر يوما دما أسود، وانقطع.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: فيه وجهان، كالتي قبلها:
أحدهما: لا تمييز لها، فحيضها من أول الدم الأحمر يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الثاني.
والثاني: أن حيضها الأسود؛ لأنه لم يزد على خمسة عشر يومًا.
وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: يكون حيضها الأسود وجها واحدًا.(1/361)
[فرع: من صور المبتدأة]
فإن رأت المبتدأة ستة عشر يوما دما أحمر، ثم رأت دما أسود، وزاد على خمسة عشر يوما.. فإن أبا العباس قال: يبنى على الوجهين في الأسود إذا وجد بعد الأحمر، وزاد على خمسة عشر.. هل يرفع حكمه؟
فإن قلنا بالأول: إن الأسود لا يرفع حكم الأحمر.. فهي كالمبتدأة التي لا تمييز لها.
فإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة.. حيضناها من أول الأحمر يوما وليلة، وجعلنا باقيه، وهو خمسة عشر يوما طهرًا، ثم حيضناها من أول الأسود حيضا آخر يوما وليلة.
وإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى ست أو سبع.. فإنا نحيض هذه من أول الأحمر ستًا أو سبعا، ولا يمكننا أن نحيضها من أول الأسود حيضا آخر؛ لأنه يوجد في اليوم السابع عشر، اللهم إلا أن يستمر بها الدم الأحمر إلى آخر الحادي والعشرين، أو إلى آخر الثاني والعشرين. ثم ابتدأها الأسود بعد ذلك.. فإنا نحيضها من أول الأسود حيضًا آخر؛ لأنا إذا حيضناها من أول الأحمر ستًا أو سبعا، وكان باقي الأحمر خمسة عشر يومًا، وبعده الأسود.. كان ابتداء الحيض الثاني بعد استكمال طهر صحيح بعد الحيضة الأولى. وإذا ابتدأ الأسود قبل استكمال طهر صحيح.. لم يمكن أن نجعل ابتداء الأسود حيضًا.
وإن قلنا: إن الأسود يرفع الأحمر ويبطل حكمه.. فلا حاجة بنا إلى إسقاط حكم الأحمر، بل نحيضها من أول الأحمر يومًا وليلة قولاً واحدا، ويكون باقية طهرا، وهو خمسة عشر يومًا، ثم نبتدئ لها حيضًا آخر من أول الأسود، إلا أن يستمر بها الأحمر اثنين وعشرين يوما، ثم يبتدئها الأسود.. فإن في القدر الذي نحيضها من أول الأحمر قولين:
أحدهما: يوما وليلة.(1/362)
والثاني: ست أو سبع؛ لأنه يمكن الجمع بينهما.
قال القاضي أبو الطيب: الصحيح عندي أن نحيضها من أول الأحمر، إما يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الثاني. ولا نحيضها من أول الأسود؛ لأنه قد بطلت دلالته؛ لزيادته على أكثر الحيض.
قال: وقد ناقض أبو العباس ابن سريج في هذا الفرع؛ لأنه إذا قال: إن الأسود يرفع الأحمر.. فكان ينبغي أن يحيضها من أول الأسود، ويكون الأحمر استحاضة؛ لأن معنى قولنا: (يرفعه) أي: يدل على أنه استحاضة، وقوله: (لأنه يمكن الجمع بينهما) ليس بصحيح؛ لأن المميزة لو رأت يومًا وليلة دما أسود، وباقي الشهر أحمر.. حيضناها الأسود، وكان الأحمر كله استحاضة، وإن كان يمكن أن يكون السابع عشر حيضًا، ولا يمنعه الأسود.
[مسألة: المستحاضة المعتادة غير المميزة]
مسألة: [في المستحاضة المعتادة غير المميزة] :
وأما المستحاضة المعتادة: فلا تخلو: إما أن تكون ذاكرة لوقت عادتها وعددها، أو ناسية.
فإن كانت ذاكرة.. نظرت: فإن كانت غير مميزة، بأن تكون قد ثبت لها حيض صحيح، ثم عبر الدم عادتها، وعبر على الخمسة عشر، والدم على لون واحد.. فإنها لا تغتسل في الشهر الأول عند مجاوزة الدم عادتها إن كانت عادتها دون الخمسة عشر لجواز أن تنقطع لخمسة عشر.
فإذا جاوز الدم الخمسة عشر.. علمنا أنها مستحاضة، فتغتسل عند ذلك، وتقضي(1/363)
صلاة ما زاد على أيام عادتها. وفي الشهر الثاني تغتسل عند مجاوزة الدم أيام العادة، ويكون حيضها أيام عادتها.
وقال مالك: (لا اعتبار بالعادة) .
ودليلنا: ما روي: «أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتت لها أم سلمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك، فإذا خلفت ذلك.. فلتغتسل، ولتستثفر بثوب وتصلي» .
فإن رأت الدم في خمسة أيام من كل شهر مرتين، ثم استحيضت في الشهر الثالث.. فإنها ترد إلى الخمس، بلا خلاف على المذهب.
وإن رأت الدم في خمسة أيام مرة، ثم استحيضت في الشهر الثاني.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تكون معتادة؛ لأن العادة مأخوذة من العود، وذلك لا يستعمل في أقل من مرتين.
والثاني: أنها تكون معتادة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك» . ولم يفرق بين أن تحيض فيه مرة أو مرتين.(1/364)
[فرع: ثبوت العادة]
وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم. فإن كانت عادتها أن ترى ثلاثة أيام أو أربعا من أول الشهر دما أسود، وباقي الشهر أحمر، فلما كان بعض الشهور رأت الدم من أوله مبهما، وجاوز الخمسة عشر.. جعل حيضها أيام السواد.
ويثبت الطهر بالعادة، كما يثبت الحيض. فإن كانت عادتها أن ترى الدم خمسة أيام من أول الشهر، وتطهر باقي الشهر، والشهر الذي بعده، فرأت في بعض الشهور الدم مناول الشهر، وعبر على خمسة عشر.. فإن شهر حيضها يكون ستين يومًا: حيضها خمسة أيام، وطهرها خمسة وخمسون يومًا.
[فرع: تلون دم المبتدأة]
فإن رأت المبتدأة دما أحمر، واتصل في شهر، ثم رأت في الشهر الثاني خمسة أيام دما أسود، ثم أحمر إلى آخر الشهر، ثم رأت الشهر الثالث دما مبهما.. فإنها في الشهر الأول: مبتدأة غير مميزة، إلى ماذا ترد؟ على قولين.
وفي الشهر الثاني: هي مميزة، فترد إلى أيام السواد.
وفي الشهر الثالث: إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة.. كان حيضها خمسة أيام.
وإن قلنا: لا تثبت إلا بمرتين.. كانت كالمبتدأة التي لا تمييز لها، إلى ماذا ترد؟
فيه قولان.
[فرع: تغير العادة]
وقد تنتقل العادة، فتتقدم وتتأخر، وتزيد وتنقص، فترد إلى آخر ما رأت.
فإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت الخمس المعتادة من أول الشهر، ثم طهرت عشرين يومًا، ثم رأت الدم في الخمس الأخيرة من الشهر وانقطع.. فهذه قد تقدمت عادتها.(1/365)
وإن رأت الطهر في الخمسة الأولى من الشهر، ثم رأت الدم في الخمسة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة وانقطع.. فهذه تأخرت عادتها.
وإن رأت الدم من أول الشهر، واستمر بها إلى آخر العاشر وانقطع.. فهذه زادت عادتها.
وكذلك لو رأت الدم في خمس قبل عادتها، واستمر بها الدم إلى آخر عادتها وانقطع.. فهذه زادت عادتها.
وإن رأت الدم في ثلاثة أيام، أو أربع من أول الشهر، وانقطع.. فهذه نقصت عادتها، ولم تنتقل.
وإن رأت الدم في أيام عادتها، وفي خمس قبلها، وخمس بعدها.. فقد صار حيضها خمسة عشر يوما.
وقال أبو حنيفة: (إذا رأت الدم في خمس قبل عادتها، وفي أيام عادتها.. كان حيضها في زمان عادتها، وما قبل ذلك استحاضة وإن رأت مع عادتها خمسا بعدها.. كان الجميع حيضًا؛ لأن الذي بعد عادتها تبع لها) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأنه دم رأته في زمان إمكانة، ولم يجاوز أكثر الحيض، فكان حيضًا، كما لو رأته بعد أيام العادة.
[فرع: أحوال العادة]
وإن كانت عادتها الخمسة الأولى من الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت الدم في الخمسة الأولى وانقطع، ثم رأت الدم في الخمسة الأخيرة واتصل، أو طهرت في الخمسة الأولى، ورأت الدم من أول الخمس الثانية، واتصل الدم.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن حيضها: خمسة أيام من أول الدم؛ لأنه دم رأته في زمان إمكانه، فكان حيضًا.(1/366)
والثاني: أن حيضها: الخمس الأولى من الشهر، وهو الصحيح؛ لأنه قد ثبتت عادتها فيها، فلا تنتقل عنها إلا بحيض صحيح، وهذا دم قد زاد على أكثر الحيض، فلم يكن له حكم.
[فرع: صور في اختلاف عادة غير المميزة]
وإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، ثم رأت في شهر خمسة أيام من أوله دمًا أحمر، ثم اسود الدم إلى آخر الشهر:
فإن قلنا: إن الأسود لا يرفع الأحمر.. كان حيضها الخمسة الأولى، وهي أيام الدم الأحمر.
وإن قلنا: إن الأسود يرفع الأحمر.. كان حيضها خمسة أيام من أول الأسود، وقد انتقلت عادتها.
فإن كانت بحالها، ورأت خمسة أيام من أول الشهر دمًا أحمر، وخمسًا بعدها أسود، ثم احمر الدم، وعبر.. بنيت على الثلاثة الأوجه ـ لأبي العباس في المبتدأة ـ:
فإن قلنا: ـ في المبتدأة أن لو رأت كذلك ـ: إن حيضها أيام السواد.. كان حيضها هاهنا الخمس الثانية، وقد انتقلت عادتها.
وإن قلنا: ـ في المبتدأة أن لو رأت ذلك ـ: إنها غير مميزة.. كان حيضها هاهنا الخمس الأولى، وهي أيام عادتها.
وإن قلنا: ـ في المبتدأة ـ: إن حيضها العشر الأولى.. كان حيضها هاهنا الخمس الأولى، والخمس الثانية، وقد زادت عادتها.(1/367)
[فرع: اختلاف عادة غير المميزة]
وإن كانت عادتها تختلف.. نظرت:
فإن كانت على نسق واحد، مثل أن كانت عادتها أن تحيض في الشهر الأول ثلاثة أيام، وفي الثاني أربعة أيام، وفي الثالث خمسة أيام، وفي الرابع ستة أيام، ثم تعود في الشهر الخامس إلى الثلاث، وفي السادس إلى أربع، وفي السابع إلى خمس، وفي الثامن إلى ست، فاستحيضت في شهر.. قيل لها: ما كانت عادتك في هذا الشهر؟
فإن قالت: ثلاثًا.. حيضناها فيه ثلاثا، وفي الذي بعده أربعا، وفي الذي بعده خمسًا، وعلى هذا على ترتيب عادتها؛ لأن ذلك قد ثبت عادة لها، هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\43] : فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: ترد إلى أيام حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة؛ لأنا لا نقول: إن ذلك لها عادة دائرة، ولكنها منتقلة، والعادة تنتقل بمرة.
وإن قالت: عادتي على نسق، ولكني لا أدري ما كانت عادتي في هذا الشهر، ولا في الذي قبله.. حيضناها ثلاثة أيام في هذا الشهر؛ لأنه يقين، ثم نأمرها أن تغتسل في آخرها؛ لجواز أن يكون هذا وقت انقطاع حيضها، ثم تصلي اليوم الرابع، وتغتسل في آخره؛ لجواز أن يكون حيضها أربعا، ثم تصلي الخامس، فتغتسل في آخره، ثم في آخر السادس.
وإن كانت عادتها على غير نسق.. نظرت:
فإن كانت أوائل أيامها متفقة، لكنها غير دائرة، مثل أن كانت عادتها أن ترى من أول الشهر ثلاثة أيام، وفي الشهر بعده خمسًا، ثم في شهر بعده أربعا، ثم في شهر(1/368)
بعده ستًا، ثم استحيضت.. فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: ننظر إلى الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة:
فإن كانت قد حاضت فيه ذلك القدر مرتين.. كان حيضها في شهر الاستحاضة ذلك القدر.
وإن لم تحض فيه إلا مرة، فإن قلنا: العادة تثبت بمرة.. كان حيضها ذلك القدر.
وإن قلنا: لا تثبت إلا بمرتين، أو كانت ناسية لحيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة.. كان حيضها في هذا الشهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل؛ لأنه اليقين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة ": ق\49] ، عن المزني فيها قولين:
أحدهما: ترد إلى أقل عادتها، وهي ثلاثة أيام، ثم تغتسل في آخرها، ثم لها ما للطواهر، وعليها ما عليهن إلى آخر الشهر.
والثاني: تحيض ثلاثة أيام من أول الشهر، ثم تغتسل في آخره، وتصلي اليوم الرابع بالوضوء، ثم تغتسل في آخره، ثم كذلك في الخامس والسادس، ثم تدخل في طهر بيقين إلى آخر الشهر.
وإن اختلفت أوائلها، وأواخرها، ومقدارها، مثل: أن ترى في شهر ثلاثة أيام دمًا من أول الشهر، وفي الثاني خمسًا من آخره، ثم استحيضت، فإن كانت تحفظ أيام حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة، وكانت قد حاضت ذلك القدر فيه مرتين أو مرة ـ إذا قلنا: تثبت العادة بمرة ـ حيضناها ذلك القدر.
وإن كانت لا تحفظ حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\49ـ50] : ففيه وجهان، بناء على القولين في المسألة قبلها:(1/369)
أحدهما: يحكم لها بالحيض في ثلاثة أيام، ثم تغتسل في آخرها، ثم لها ما للطواهر، وعليها ما عليهن إلى آخر الشهر.
والثاني: تصلي بالوضوء ثلاثًا من أول الشهر، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الشهر.
ووجه البناء: أن جميع الشهر في حق هذه، كالخمس والأربع والست في حق تلك.
[فرع: المعتادة المميزة]
وإن كانت معتادة مميزة، بأن تكون عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت من أول الشهر عشرة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر. ففيه وجهان:
أحدهما ـ هو قول ابن خيران، والإصطخري، وأبي حنيفة ـ: (أن العادة أولى) . فيكون حيضها الخمسة الأولى؛ لأنه قد ثبتت عادتها في ذلك، فلا تنتقل عنها إلا بحيض صحيح.
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أن التمييز أولى. فيكون حيضها هاهنا العشرة الأولى؛ لأن التمييز علامة قائمة في شهر الاستحاضة، فكان الرد إليه أولى من الرد إلى عادة قد انقضت.
[مسألة: نسيان عادة المميزة]
وإن كان لها عادة فنسيت أيام عادتها، واستحيضت. نظرت:
فإن كانت مميزة في شهر الاستحاضة:
فإن قلنا: التمييز مقدم على العادة إذا ذكرتها.. ردت هاهنا إلى التمييز.
وإن قلنا: إن العادة مقدمة على التمييز. كانت كمن لا تمييز لها.(1/370)
[مسألة: نسيان عادة غير المميزة والمتحيرة]
وإن كانت لها عادة فنسيتها، ثم استحيضت ولا تمييز لها، فلا يخلو: إما أن تكون ناسية للوقت والعدد، أو ناسية للوقت ذاكرة للعدد، أو ناسية للعدد ذاكرة للوقت.
فإن كانت ناسية للوقت والعدد وهي المتحيرة ـ قال ابن الصباغ ويتصور وجود ذلك بأن يصيبها الجنون سنينا كثيرة، ثم أفاقت واستحيضت، ولا تذكر عدد أيام حيضها ولا وقتها ـ:
فقال الشافعي في (العدد) : (إنها تحيض من أول كل هلال يومًا وليلة) .
وقال في كتاب (الحيض) : (لا حيض لها في زمان بعينة، ويكون زمانها مشكوكًا فيه، فتغتسل لكل صلاة وتصوم، ولا يأتيها زوجها) .
واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه لا طهر لها ولا حيض بيقين، كما قال في كتاب (الحيض) ، وتأولوا ما ذكره في (العدد) على أنه أراد: في حكم العدة، حتى لا يحصل لها في كل شهر إلا قرء واحد.(1/371)
وقال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: أنها تحيض يومًا وليلة؛ لأنه أقل الحيض. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وسليم، وابن الصباغ، قالوا: وهذا يدل على ضعف هذا القول؛ إذ لم يردها إلى ست أو سبع في أحد القولين، كالمبتدأة.
وأما الشيخ أبو إسحاق، وصاحب " العدة "، والمسعودي [في " الإبانة " ق\44] فقالوا: هي ـ على هذا ـ على قولين، كالمبتدأة.
فإذا قلنا بهذا القول.. فمن أين يعتبر ابتداء ذلك؟
المنصوص ـ للشافعي في (العدد) ـ: (أن ابتداء ذلك من أول كل هلال) .
وقال أبو العباس: يحتمل وجهًا آخر، أن يقال لها: هل تذكرين ابتداء حيضك؟ فإن ذكرت ذلك.. كان ابتداء حيضها من ذلك الوقت. وإن لم تذكر ذلك.. قيل لها: أتذكرين وقتا كنت فيه طاهرًا؟ فإن ذكرت ذلك.. جعل ابتداء حيضها عقيب ذلك الوقت.
فعلى هذا: نأمرها باجتناب ما تجتنبه الحائض يومًا وليلة، أو ستًا أو سبعًا في أحد القولين في طريقة صاحب " المهذب "، ثم تغتسل بعد ذلك، وتصلي، وتصوم إلى آخر الشهر. ولا يلزمها قضاء الصلاة. وأما الصوم: فلا تقضي ما صامت بعد الخمسة عشر. وهل تقضي ما صامت بعد اليوم والليلة إلى الخمسة عشر؟ على القولين، أو الوجهين المذكورين في المبتدأة.
والقول الثاني ـ في أصل المسألة، وهو المنصوص في (الحيض) ، وهو الصحيح ـ: (أنه لا حيض لها ولا طهر لها بيقين) ؛ لأن كل وقت يمكن أن تكون فيه حائضًا، ويمكن أن تكون فيه طاهرًا، وقول الأول: نحيضها اليقين.. فليس بصحيح؛ لأنا لا نعلم ذلك الوقت من أيام الشهر.
فعلى هذا: يجعل زمانها زمان الطاهرات في إيجاب العبادات عليها، ويحرم عليها ما يحرم على الحائض، ولا يطؤها الزوج احتياطًا. وهل يجوز لها أن تصلي النوافل؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.(1/372)
وأما الصلوات المفروضة: فيجب عليها أن تصليها، ولكن يلزمها أن تغتسل لكل صلاة؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع حيضها، وهل يلزمها قضاؤها؟
فيه وجهان:
[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: لا يلزمها قضاؤها؛ لأنها إن كانت طاهرة وقت الصلاة.. فقد صحت صلاتها، وإن كانت حائضًا.. فلا صلاة عليها.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو زيد المروزي: يلزمها أن تعيد كل صلاة، وهو الأقيس؛ لأنه يحتمل أن ينقطع دمها في حال الصلاة أو بعد فراغها، وقد بقي من الوقت قدر ركعة، أو تكبيرة.. فيجب عليها إعادة تلك الصلاة. ويحتمل أيضًا: أن ينقطع دمها قبل غروب الشمس.. فيلزمها فرض الظهر والعصر، أو قبل طلوع الفجر.. فيلزمها فرض صلاة العشاء والمغرب.
فعلى هذا: يلزمها أن تعيد الظهر والعصر بعد غروب الشمس؛ لما ذكرناه.
فإن أرادت قضاءهما قبل المغرب. اغتسلت للأولى منهما، وكفاها الوضوء للثانية؛ لأنه إن كان دمها قد انقطع قبل أن تصلي الظهر لم يلزمها إعادة واحدة منهما. وإن انقطع دمها قبل الغروب.. فقد اغتسلت بعده. ثم يلزمها أن تغتسل للمغرب؛ لجواز أن ينقطع دمها في حال قضائها لها بين الصلاتين.
وإن أرادت أن تؤدي المغرب قبل قضاء الظهر والعصر.. كفاها غسل واحد لهذه الصلوات الثلاث؛ لما ذكرناه، ولكن يلزمها الوضوء لكل واحدة من الظهر والعصر. فإذا طلع الفجر.. لزمها أن تعيد المغرب والعشاء، والكلام في الغسل لهما مع الصبح على ما مضى في الظهر والعصر مع المغرب. فإذا طلعت الشمس.. لزمها أن تعيد الصبح، ويلزمها أن تغتسل له؛ لما ذكرناه.
وأما الصوم: فإنها تصوم شهر رمضان؛ لأنه لا يجوز لها أن تفطر إلا في الوقت الذي يتيقن حيضها فيه، وليس لها وقت يتيقن حيضها فيه، فإذا صامت رمضان:
قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وأبو علي في " الإفصاح ": يصح لها منه(1/373)
خمسة عشر يوما؛ لأن ذلك أقل الطهر، ويبقى عليها منه خمسة عشر يومًا.
وقال الشيخ أبو زيد المروزي: هذا إذا عرفت أن انقطاع دمها كان ليلا.. فإنه لا يفسد عليها من الصوم إلا خمسة عشر يومًا، فأما إذا لم تعرف متى كان ينقطع دمها، أو عرفت أن دمها كان ينقطع نهارًا، فإنها إذا صامت شهر رمضان وكان تامًا.. لم يصح لها منه إلا أربعة عشر يومًا ـ ولم يذكر في " المهذب " و" الشامل " غير هذا ـ لأنه يجوز أن يكون حيضها أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوما، ويجوز أن يكون ابتداء ذلك من بعض اليوم الأول من الشهر.. فيفسد عليها صوم ذلك اليوم؛ لوجود الحيض في آخره. ثم تنتهي مدة الحيض إلى مثل ذلك الوقت من اليوم السادس عشر.. فيفسد عليها صوم ستة عشر يومًا، ويبقى لها أربعة عشر يومًا.
فإذا أرادت قضاء ذلك..صامت ثلاثين يومًا متوالية، وصح لها منها أربعة عشر يومًا؛ لما ذكرناه في شهر رمضان. ويبقى عليها قضاء يومين.
وإن كان شهر رمضان الذي صامه الناس ناقصًا فصامته، وصامت بعده ثلاثين يومًا.. فقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": بقي عليها قضاء يوم.
فقال بعض أصحابنا: بل يجب على هذا التنزيل أن يبقى عليها قضاء يومين؛ لأن الناقص تسعة وعشرون يومًا، وإذا صامته.. فسد عليها صوم ستة عشر يوما، وصح لها ثلاثة عشر يومًا فإذا صامت بعده ثلاثين يوما..صح لها منه أربعة عشر يومًا، فذلك سبعة وعشرون يومًا، فيبقى عليها من الشهر الذي صامه الناس يومان.
وما قاله هذا القائل ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الشهر لا يخلو من طهر صحيح، سواء كان متفرقًا أو متتابعًا، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن إحداكن(1/374)
تمكث شطر دهرها لا تصلي» . والشهر يقع على ما بين الهلالين، فإذا كان ناقصا.. لم يجز أن ينقص طهرها فيه عن أقله، وهو خمسة عشر، ويجوز أن ينقص الحيض فيه عن أكثره. فإذا كان كذلك.. كان حيضها من الناقص أربعة عشر يومًا، لكن يفسد عليها في الصوم خمسة عشر يومًا؛ لجواز تفرق الحيض في يوم، ويصبح لها منه صوم أربعة عشر يومًا، كالتام. فإذا صامت بعد ذلك ثلاثين يومًا.. صح لها صوم أربعة عشر يومًا، وبقي عليها صوم يوم.
إذا ثبت هذا: وأرادت قضاء صوم هذا اليوم، أو كان عليها صوم يوم عن نذر.. فإن الشيخ أبا حامد، ومن قال بطريقته، قال: يمكنها ذلك، بأن تصوم يومين بينهما أربعة عشر يومًا.
وهذا صحيح إذا علمت أن دمها كان ينقطع ليلاً. فأما إذا علمت أن دمها كان ينقطع نهارًا، أو لم تعلم متى كان ينقطع.. فلا يصح لها صوم يوم من هذا القدر، لجواز أن يبتدئها الحيض في بعض اليوم الأول، ثم ينتهي إلى مثل ذلك الوقت من اليوم السادس عشر، فيفسد عليها صوم اليومين.
فعلى هذا: هي بالخيار في قضاء اليوم بين ثلاثة أشياء:
إن شاءت صامت ثلاثة أيام، في كل عشرة أيام يومًا.
وإن شاءت صامت أربعة أيام من سبعة عشر يومًا: يومين في أولها، ويومين في آخرها؛ لأنه إن كان بدأ بها الحيض في بعض اليوم الأول.. كان انتهاؤه يوم السادس عشر، فيصح لها السابع عشر.
وإن كان ابتدأها في بعض الثاني من الشهر.. انتهى إلى بعض السابع عشر، فيصح لها اليوم الأول.
وإن بدأ بها بعض اليوم السادس عشر من الشهر الذي قبل الشهر الذي صامت فيه هذه الأيام.. انتهى حيضها إلى بعض اليوم الأول من الشهر الذي صامت فيه هذه الأيام، ولم يصح لها منه إلا الثاني.(1/375)
وإن ابتدأها الحيض من بعض اليوم السابع عشر من الشهر الذي قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى اليوم الثاني من شهر القضاء، وصح لها صوم السادس عشر.
وإن شاءت قضت صوم اليوم بصوم ثلاثة أيام من سبعة عشر يومًا، لكنها تصوم اليوم الأول، ثم تصوم يومًا من الثالث إلى الخامس عشر، أي يوم شاءت منها، بشرط أن لا تصومه في اليوم الثاني، ولا في السادس عشر، ثم تصوم الثالث يوم السابع عشر، فيصح لها قضاء اليوم، لأن حيضها إن كان ابتداؤه من بعض اليوم الأول من شهر القضاء.. كان انتهاؤه بعض السادس عشر، فيصح لها صوم السابع عشر.
وإن كان ابتداؤها من بعض الثاني منه.. كان انتهاؤه بعض السابع عشر، فصح لها منه صوم اليوم الأول.
وإن كان ابتداء حيضها من يوم السادس عشر من الشهر الذي كان قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى بعض اليوم الأول من شهر القضاء، وصح لها اليوم الأوسط، وفسد عليها السابع عشر من شهر القضاء؛ لأنها تكون فيه حائضًا أيضًا.
وإن كان ابتداء حيضها من بعض اليوم السابع عشر من الشهر الذي قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى بعض الثاني من شهر القضاء، وصح لها الأوسط، فكان ابتداء حيضها من شهر القضاء كالذي قبله أيضًا.
وإن أرادت أن تقضي صوم اليومين عليها في الشهر التام، أو لزمها صوم يومين بنذر.. فهي بالخيار:
إن شاءت صامت ستة أيام من ثمانية عشر يومًا، ثلاثًا في أولها، وثلاثًا في آخرها.
وإن شاءت صامت أربعًا في أولها، ويومين في آخرها.
وإن شاءت صامت يومين في أولها، وأربعًا في آخرها.
وإن شاءت صامت يومين في أولها، ويومين في وسطها، ويومين في آخرها؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. فإنه يصح لها صوم اليومين.(1/376)
وإن لزمها صوم ثلاثة أيام.. صامت ثمانية أيام من تسعة عشر يوما، على ما ذكرناه في قضاء اليومين، وعلى هذا التنزيل.
[فرع: طواف المتحيرة]
وإن لزمها طواف، وأرادت أن تؤديه، أو كان عليها صلاة فرض، فأرادت أن تقضيها.. فهي بالخيار بين ثلاثة أشياء:
إن شاءت طافت ثلاث مرات، في كل عشرة أيام طوافًا.
وإن شاءت طافت أربع مرات، فتطوف في اليوم الأول طوافًا، ثم تطوف بعد فراغها منه طوافًا آخر، ثم تترك خمسة عشر يومًا، ابتداؤها من ابتداء الطواف الثاني من الأول، ثم تطوف طوافًا ثالثا، ثم تفرغ منه آخر هذه الخمسة عشر، ثم تطوف عقيبه طوافًا رابعًا.
وإن شاءت طافت ثلاث مرات، فتطوف طوافًا، ثم تترك من بعد فراغها منه خمسة عشر يومًا، ثم تطوف في وسط الخمسة عشر طوافًا ثانيًا، بشرط أن تترك منه ـ مثل أول الخمسة عشر ـ ساعة بقدر الطواف، ومن آخرها مثل ذلك لا تطوف الطواف الثاني فيه، ثم تطوف الطواف الثالث عقيب خمسة عشر يومًا؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. صح لها الطواف.
فإذا فرغت من الطواف.. فهل تفتقر إلى إعادة الوضوء لركعتي الطواف؟
إن قلنا: إنهما واجبتان.. افتقرت إلى وضوء ثان لهما.
وإن قلنا: إنهما سنتان.. كفاها لهما الغسل للطواف.(1/377)
فأما إعادة الغسل لهما: فلا يجب قولا واحدًا؛ لأن الطواف إن صح.. فلا يكون عقيبه توهم انقطاع الحيض، فتحتاج إلى الاغتسال له.
وإن لم يصح الطواف؛ لوقوعه في الحيض.. فلا حاجة بها إلى الركعتين.
[مسألة: الناسية لوقت حيضها الذاكرة لعدده]
] : وإن كانت ناسية لوقت الحيض، ذاكرة لعدد أيامه.. نظرت ـ في الأيام المنسية ـ:
فإن كانت مثل نصف الأيام المنسي منها، أو أقل.. فلا حيض لها بيقين.
وإن كانت أزيد من نصفها بيوم.. فلها فيها يومان: حيض بيقين.
وإن كانت أكثر من نصفها بيومين.. فلها فيها أربعة أيام حيض بيقين.
وإن كانت أزيد من نصفها بثلاث.. فلها فيها ستة أيام حيض بيقين. وعلى هذا التنزيل.
فكل زمان تيقنا فيه حيضها.. لزمها أحكام الحيض فيه.
وكل زمان تيقنا فيه طهرها.. وجب عليها فيه ما يجب على الطاهر، وأبيح لها ما يباح للطاهر.
وكل زمان شككنا في طهرها.. حرمنا عليها ما يحرم على الحائض، وأوجبنا عليها ما يجب على الطاهر احتياطًا، وأوجبنا فيه الوضوء لكل صلاة.
وكل زمان جوزنا انقطاع الدم فيه.. أوجبنا عليها فيه الغسل.
فإذا قالت: كان حيضي عشرة أيام من هذا الشهر، لا أعلم وقتها.. فهذه ليس لها في الشهر حيض ولا طهر بيقين؛ لأن عدد الأيام المنسية لا تزيد على نصف عدد الأيام المنسي فيها، فيجب عليها ما يجب على الطاهر، ويحرم عليها ما يحرم على الحائض احتياطًا، إلا أنها تتوضأ لكل صلاة في العشر الأولى؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، ثم تغتسل عقيبها؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع حيضها. فإن علمت وقتًا من اليوم كان ينقطع دمها فيه.. اغتسلت فيه دون غيره، وإن لم تعلم ذلك.. لزمها أن(1/378)
تغتسل لكل صلاة. ولا يلزمها أن تعيد الصلاة في العشر الأولى؛ لأنه يحتمل أن ينقطع فيها الدم.
وأما فيما بعدها: فيأتي على قياس ما قاله الشيخ أبو زيد: أن تعيد كل صلاة ـ على ما مضى في المتحيرة ـ لأنه يجوز أن ينقطع دمها بعد الصلاة.
وإذا صامت رمضان.. فسد عليها أحد عشر يومًا، إذا لم تعلم متى كان ينقطع حيضها، أو علمت أنه كان ينقطع نهارًا. وإن علمت أنه كان ينقطع ليلاً.. لم يفسد عليها إلا صوم عشرة أيام، كما ذكرنا في المتحيرة.
وإن قالت: كان حيضي إحدى عشرات الشهر.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين فتصلي جميع الشهر، وتتوضأ لكل صلاة، ولا يلزمها الاغتسال إلا في آخر كل عشر من عشرات الشهر؛ لأنه يحتمل أن ينقطع فيه الدم دون غيره.
وإن قالت: كان حيضي ثلاثة أيام من العشر الأولى، أو أربعًا، أو خمسًا.. فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين في العشر الأولى؛ لأن عدد الأيام المنسية لا تزيد على نصف المنسي منها. فتتوضأ لكل صلاة في الأيام المنسية من العشر؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم. وتغتسل بعدها لكل صلاة إلى آخر العشر؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع الحيض، إلا أن تعلم وقتًا من اليوم كان ينقطع فيه الدم.. فتغتسل فيه دون غيره. فإذا مضت العشر الأولى.. دخلت في طهر بيقين، تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر.
وإن قالت: كان حيضي ستة أيام من العشر الأولى.. فإنها في أربعة أيام من أول العشر الأولى في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ لكل صلاة. وفي اليوم الخامس والسادس في حيض بيقين؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. لم يخرجا عن الحيض، فتترك فيهما ما تترك الحائض، ثم تغتسل في آخر السادس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر.
وإن قالت: كان حيضي سبعة أيام من العشر الأولى.. فهي في ثلاثة أيام من أول العشر في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. ومن الرابع إلى آخر السابع في(1/379)
حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع إلى آخر العشر لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم فيه.
وإن قالت: كان حيضي ثمانية أيام من العشر الأولى.. فاليومان الأولان في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيهما لكل صلاة، وتدخل من أول الثالث إلى آخر الثامن في حيض بيقين، ومن آخر الثامن إلى آخر العاشر في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيهما لكل صلاة.
وإن قالت: كان حيضي تسعة أيام من العشر الأولى.. فاليوم الأول منها في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن آخر الأول إلى آخر التاسع، في حيض بيقين، فتغتسل في آخر التاسع، وفي العاشر لكل صلاة.
إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب ": إذا قالت: كان حيضي ثلاثة أيام، أو أربعة أيام من العشر الأولى.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشر، ثم قال: وعلى هذا التنزيل في الخمس، والست، والسبع، والثمان، والتسع.
فحمل بعض أصحابنا كلامه هذا على أنه أراد: إذا قالت: كان حيضي ستة أيام، أو سبعًا أو ثمانيًا، أو تسعًا من العشر.. فإنه لا حيض لها بيقين. وأخطأ من حمل كلامه على هذا؛ لأنه أجل قدرًا من أن يذهب عليه هذا ـ وأنها إذا قالت: كان حيضي تسعة أيام في العشر الأولى.. لا حيض لها قبلها بيقين ـ بل يحمل كلامه على أنه أراد: إذا قالت: كان حيضي في الخمس، أو الست، أو السبع، أو الثمان، أو التسع أيامًا، لا تزيد على نصفها.. فإنه لا حيض لها فيها بيقين؛ لأنه عطف ذلك على من قالت: كان حيضي ثلاثًا، أو أربعا في العشر.(1/380)
[فرع: تيقن الطهر أثناء الشهر]
] : وإن علمت بيقين الطهر في بعض الشهر، بأن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، إلا أني أعلم أني كنت طاهرًا في العشر الأولى.. فإنها في العشر الأولى في طهر بيقين. وفي العشر الثانية في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي العشر الثالثة في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيها، فتغتسل فيها لكل صلاة.
وهكذا إن قالت: كنت أحيض عشرا من الشهر، لا أعلم وقتها، إلا أني كنت طاهرًا في العشر الأخيرة.. فهي في العشر الأولى في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي العشر الثانية في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيها، فتغتسل فيها لكل صلاة. وفي العشر الأخيرة في طهر بيقين.
وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت في اليوم الأول من الشهر طاهرًا.. فهي في اليوم الأول في طهر بيقين. وقد زاد عدد الأيام المنسية هاهنا على نصف الأيام المنسي فيها بنصف يوم، فيكون لها فيها حيض بيقين يومًا.
فعلى هذا: هي في اليوم الأول في طهر بيقين. ومن الثاني من الشهر إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي السادس في حيض بيقين. وتغتسل من آخر السادس إلى آخر العشر لكل صلاة لجواز انقطاع الدم فيه.
وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت طاهرا في اليوم الثاني من الشهر.. فلا يجوز لها أن تكون حائضًا في اليوم الأول أيضًا، فتكون طاهرا في اليومين الأولين، وتصير كما لو قالت: كان حيضي خمسة أيام من ثمانية أيام، فيكون لها يومان حيضًا بيقين؛ لأن عدد الأيام المنسية زاد على نصف المنسي منها بيوم،(1/381)
فتكون في الثالث، والرابع، والخامس، في طهر مشكوك فيه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي السادس والسابع في حيض بيقين. وتغتسل في آخر السابع، وفيما بقي من العشر لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم فيها.
وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت طاهرا في اليوم الرابع منها.. فإنها في طهر بيقين من أول الشهر إلى آخر الرابع. وفي اليوم الخامس في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن السادس إلى آخر التاسع في حيض بيقين، فتغتسل في آخره إلى آخر العاشر لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه.
وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم وقتها، إلا أني كنت أعلم أني كنت طاهرا في السادس من الشهر. أو تيقنت طهرها في اليوم العاشر، أو فيما بينهما.. فإنها تكون في طهر بيقين من أول الشهر إلى آخر اليوم الذي تيقنت طهرها فيه من العشر؛ لأنه لا يجوز أن تكون حائضًا في ذلك. وتصير كما لو قالت: كان حيضي عشرة أيام مما بقي من الشهر.. فلا حيض لها فيها ولا طهر بيقين؛ لأنه لا يزيد عدد الأيام المنسية على نصف المنسي منها، فتصلي عشرة أيام من أول ما بقي من الشهر بالوضوء، وتغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الشهر.
وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وأعلم أني كنت طاهرًا يوم الحادي عشر.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين في العشر الأولى، بل يحتمل أن تكون حائضًا فيها، ويحتمل أن تكون فيها طاهرًا، فتتوضأ فيها لكل صلاة، وتغتسل في آخرها، لجواز انقطاع الدم فيها. وفي اليوم الحادي عشر في طهر بيقين. ومن أول الثاني عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وتغتسل من آخر الحادي والعشرين إلى آخر الشهر لكل صلاة، لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه.
وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، إلا أني أعلم أني كنت طاهرًا في الخمس الأخيرة من الشهر، وأعلم أن لي طهرًا صحيحًا غيرها.. فإنه يحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الأولى، والباقي من الشهر طهرًا. ويحتمل(1/382)
أن يكون حيضها في الخمس الثانيه، والباقي طهرًا، ولا يحتمل أن يكون حيضها في الخمس الثالثه؛ لأن قبلها أقل من الطهر، وبعدها أقل من الطهر غير الخمس الأخيرة. ويحتمل أيضًا أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة. ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة. فتكون في الخمس الأولى في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة، وتغتسل في آخرها.
وفي الخمس الثانية تغتسل لكل صلاة؛ لأنها في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيها الدم. وفي الخمس الثالثة في طهر بيقين. وفي الخمس الرابعة في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيها. وفي الخمس الخامسة في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيها فتغتسل فيها لكل صلاة. وفي الخمس الأخيرة في طهر بيقين.
وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت في الثاني عشر طاهرًا.. فهي من أول الشهر إلى آخر الثاني عشر في طهر بيقين، فتتوضأ فيه لكل صلاة.
وفي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة.
ومن السادس عشر إلى آخر السابع والعشرين في حيض بيقين. وفي الثلاث الأخر من الشهر في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فيها لكل صلاة.
[فرع: تيقنت العدد وعينت يومًا من الحيض]
وإن علمت يقين الحيض في وقت من الشهر، بأن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، غير أني أعلم أني كنت حائضًا في اليوم السادس من الشهر.. فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من أول يوم من الشهر، وآخره العاشر. ويحتمل بأن يكون ابتداؤه من السادس، وآخره يوم الخامس عشر. ويحتمل بأن يكون ابتداؤه ما بين اليوم من الشهر والسادس. ولا يحتمل ابتداؤه في غير ذلك.(1/383)
فتكون من أول يوم من الشهر إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، ولا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ لكل صلاة.
ومن أول السادس إلى آخر العاشر في حيض بيقين، ثم تغتسل في آخره، وفيما بعده إلى آخر الخامس عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه يحتمل انقطاع الدم فيه. ومن السادس عشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين.
وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت حائضًا في اليوم العاشر.. فإنها من أول الشهر إلى آخر التاسع في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي اليوم العاشر في حيض بيقين. ومن الحادي عشر إلى آخر التاسع عشر في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن أوائل العشرين إلى آخر الشهر في طهر بيقين.
وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت حائضًا في اليوم الثاني عشر من الشهر.. فإنها في اليومين الأولين من الشهر في طهر بيقين.
ومن الثالث إلى آخر الحادي عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي الثاني عشر في حيض بيقين.
ومن الثالث عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيها لكل صلاة. وبعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر.
وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت في الثاني عشر حائضًا، ولي طهر صحيح في الشهر.. فإنها في اليومين الأولين من الشهر في طهر بيقين. ومن الثالث إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة.
ومن أول السادس إلى آخر الثاني عشر في حيض بيقين. ومن الثالث عشر إلى آخر الخامس عشر في طهر مسكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن أول السادس عشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين.(1/384)
[فرع: من لها حيضان في شهر]
] : وإن قالت: كان لي في كل شهر حيضتان، لا أعلم قدريهما، ولا وقتيهما.. ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا يحصل لها في الشهر حيضتان، إلا إن كان بينهما طهر كامل.
وأقل ما يحتمل أن يكون حيضها يومًا وليلة من أول الشهر، ويومًا وليلة من آخره، ويكون ما بينهما طهر.
وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها يومًا وليلة من أول الشهر، وبعده خمسة عشر يوما طهرًا، وأربعة عشر يوما من آخره حيضًا. أو أربعة عشر يومًا من أوله حيضًا، وبعده خمسة عشر يومًا طهرًا، ويومًا وليلة من آخره حيضًا. ويحتمل ما بين ذلك.
فعلى هذا: هي في يوم وليلة من أول الشهر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر، لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. وفي الخامس عشر والسادس عشر في طهر بيقين. وفي اليوم السابع عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ثم بعد ذلك تحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الشهر، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة.
و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هي كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقته ـ على ما مضى ـ لأنا إذا نزلنا هذا التنزيل في شهر.. لم يمكنا ذلك في الشهر الثاني.(1/385)
[فرع: من حيضها خمسة أيام في الشهر]
] : وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من الشهر، لا أعلم وقتها غير أني أعلم أني إذا كنت يوم السادس طاهرًا، كنت في اليوم السادس والعشرين حائضًا. وإن كنت في اليوم السادس من الشهر حائضًا، كنت في اليوم السادس والعشرين طاهرًا.
وتحقيق هذا: أني كنت حائضًا، في أحد هذين اليومين، ولا يحصل لي الحيض، ولا الطهر فيهما معًا.
فإن كانت حائضًا في اليوم السادس.. احتمل أن يكون ابتداؤه من اليوم الثاني من الشهر، وآخره السادس. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من السادس، وآخره العاشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه ما بين اليوم الثاني والسادس.
وإن كانت حائضًا يوم السادس والعشرين.. احتمل أن يكون ابتداء حيضها من اليوم الثاني والعشرين، وآخره يوم السادس والعشرين. ويحتمل أن يكون ابتداؤه يوم السادس والعشرين، وآخره يوم الثلاثين. ويحتمل أن يكون ابتداؤه ما بين اليوم الثاني والعشرين، والسادس والعشرين. فلا يكون لها في هذا الشهر حيض بيقين.
فعلى هذا: تكون في اليوم الأول من الشهر في طهر بيقين. ومن الثاني إلى آخر السادس في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، وتغتسل في آخر السادس؛ لجواز انقطاع الدم فيه. ثم تغتسل من السابع إلى آخر العاشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. ومن الحادي عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر بيقين، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الثاني والعشرين إلى آخر السادس والعشرين في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل من آخر السادس والعشرين إلى آخر الشهر لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه.
وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشر الأولى لا أعلم وقتها، إلا أني كنت في اليوم الثاني من الشهر طاهرًا، وفي اليوم الخامس حائضًا. فإنها في اليومين(1/386)
الأولين من الشهر في طهر بيقين. وفي الثالث والرابع في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيهما لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وفي اليوم الخامس والسادس والسابع في حيض بيقين. وفي الثامن والتاسع في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن العاشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين.
[فرع: المعتادة غير المميزة الناسية للعدد لا الوقت]
] : وإن كانت ناسية لعدد أيام الحيض، ذاكرة لوقته.. نظرت: فإن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه، بأن قالت: كان ابتداء حيضي أول الشهر، ولا أعلم عدده.. فإنا نحيضها يوما وليلة من أول الشهر؛ لأنه اليقين، ثم نأمرها بالاغتسال لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيه. وفي النصف الأخير من الشهر هي في طهر بيقين.
وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاع الدم، بأن قالت: كان حيضي ينقطع آخر ساعة من الشهر.. فإنها في النصف الأول من الشهر في طهر بيقين، ومن أول السادس عشر إلى آخر التاسع والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي يوم وليلة من آخر الشهر في حيض بيقين.
[فرع: خلط أحد النصفين بيوم أو أكثر]
] : وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه.
فتحقيق هذا: أن الحيض أربعة عشر يومًا من أحد النصفين، ويوم وليلة من أحدهما، ولكن وقع شكها: هل الأربعة عشر من النصف الأول، واليوم والليلة من النصف الثاني. أو اليوم والليلة من الأول، والأربعة عشر من الثاني؟ فيحتمل أن تكون الأربعة عشر من النصف الأول، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الثاني من الشهر، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن تكون الأربعة عشر من النصف الثاني، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الخامس عشر، وآخره التاسع والعشرون.(1/387)
فاليوم الأول والآخر من الشهر طهر بيقين. ومن اليوم الثاني إلى آخر الرابع عشر طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، فتغتسل في آخر السادس عشر؛ لجواز أن تكون الأربعة عشر من النصف الأول، واليوم والليلة من النصف الثاني، فيكون هذا وقت انقطاع حيضها. ومن السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل فيه انقطاع الدم. فإذا انتهى التاسع والعشرون.. اغتسلت في آخره؛ لجواز أن تكون يكون اليوم والليلة من النصف الأول، والأربعة عشر من النصف الثاني، فيكون هذا وقت انقطاع الحيض.
وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيومين، ولا أدري: هل اليومان من النصف الأول، أو من الثاني؟
فهي في اليومين الأولين والآخرين من الشهر في طهر بيقين. أما الثالث إلى آخر الثالث عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الرابع عشر إلى آخر السابع عشر في حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع عشر. ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى الثامن والعشرين، وتغتسل في آخر الثامن والعشرين.
وإن قالت: كان حيضي أربعة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أدري: أن اليوم من النصف الأول، أو من الثاني؟ فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من اليوم الثالث، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من اليوم الخامس عشر، وآخره الثامن والعشرين.
فهي في اليومين الأولين والآخرين من الشهر في طهر بيقين. ومن الثالث إلى آخر الرابع عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي الخامس عشر والسادس عشر في حيض بيقين، فتغتسل في آخره. ومن السابع عشر إلى آخر الثامن والعشرين في طهر مشكوك فيه، ولا يحتمل أن ينقطع الدم فيه، إلا في آخر الثامن والعشرين، فتغتسل فيه، وتتوضأ في غيره.(1/388)
وإن قالت: كان حيضي ثلاثة أيام من الشهر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم.. فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من الرابع عشر، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من الخامس عشر، وآخره السابع عشر.
فهي من أول الشهر إلى آخر الثالث عشر في طهر بيقين. وفي الرابع عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، فتغتسل في آخره. وفي السابع عشر في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم في آخره، فتتوضأ فيه لكل صلاة، وتغتسل في آخره. ثم تدخل في طهر بيقين إلى آخر الشهر.
وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، وأشك: هل كنت أخلط بأكثر؟
فحكمها حكم من تيقنت الخلط بيوم غير، في يقين الطهر والحيض، إلا في شيء واحد، وهو: أن هذه يلزمها أن تغتسل بعد السادس عشر لكل صلاة إلى آخر التاسع والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم.
[فرع: الخلط بجزء من يوم]
] : وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بجزء، ولا أدري: هل كان الجزء من النصف الأول، أو من الثاني؟ ولا أخلط بأكثر من ذلك.. فيحتمل أن يكون الجزء من النصف الأخير، فيكون ابتداء الحيض بعد مضي جزء من الليلة التي يرى فيها الهلال من أول الشهر، وآخره بعد مضي جزء من النصف الأخير: وهو بعد غروب الشمس من اليوم الخامس عشر.
ويحتمل أن يكون الجزء من النصف الأول، فيكون ابتداء الحيض قبل غروب الشمس من اليوم الخامس عشر، وآخره إذا بقي جزء من يوم الثلاثين، قبل غروب الشمس.
إذا ثبت هذا فإنها في جزء من أول الشهر: وهو بعد غروب الشمس من الليلة(1/389)
التي يرى فيها الهلال، وفي جزء من آخر الشهر: وهو قبل غروب الشمس يوم الثلاثين في طهر بيقين.
ويحصل لها الحيض بيقين في جزء من آخر اليوم الخامس عشر: وهو قبل غروب الشمس، وفي جزء من أول ليلة السادس عشر. ولا يفوتها في هذين الجزءين صلاة إلا أن صوم يوم الخامس عشر يبطل، ولا يجب عليها الغسل إلا بعد جزء من أول ليلة السادس عشر، وإذا بقي جزء من آخر الشهر. وتتوضأ في غير ذلك لكل صلاة.
فإن كانت بحالها وقالت: لا أدري هل كنت أخلط بجزء أو بأكثر منه؟
فالحكم في هذه كالحكم في التي قبلها إلا في الغسل، فإنه يلزمها أن تغتسل لكل صلاة، بعد مضي جزء من ليلة السادس عشر إلى أن يبقى جزء من الشهر؛ لجواز أن يكون الخلط بأكثر من جزء.
[فرع: من أحكامها خلط يوم وكسر]
] وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وأكسر في أول حيضي بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم من الشهر.. فإنها تكون طاهرا في اليوم الأول من الشهر، وفي نصف اليوم الثاني من الشهر. وتكون حائضًا من نصف اليوم الثاني من الشهر إلى آخر السادس عشر، فيكون حيضها أربعة عشر يومًا ونصفًا. ويكون باقي شهرها طهرًا بيقين.
وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا، وأكسر في آخر حيضي بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه.. فإنها تكون طاهرًا من أول الشهر إلى آخر الرابع عشر. ويكون ابتداء حيضها من أول الخامس عشر إلى نصف اليوم التاسع والعشرين. وباقيه واليوم الأخير طهر بيقين؛ لأنها قد أخبرت: أنها تخلط بيوم، وأن الكسر في آخر حيضها. فيكون حيضها أربعة عشر يوما ونصفًا؛ لأنه لا يحتمل غير ذلك.
وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا، وأكسر في أول حيضي بنصف يوم،(1/390)
وفي آخره بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه.. فهذه مستحيلة؛ لأنه إن كان اليوم الذي يقع به الخلط من النصف الأول.. فأول حيضها يكون من الخامس عشر، فلا يحصل في ابتداء حيضها كسر بنصف يوم.
وإن كان من النصف الثاني.. فآخر حيضها يكون السادس عشر، فلا يكون في آخر حيضها كسر بنصف يوم.
[فرع: من صور الشك تخلط بين الخمسين الأول]
] : وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى: ثلاثًا من إحدى الخمسين، ويومين من الخمس الأخرى، ولا أدري: هل الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس الثانية. أو اليومان من الخمس الأولى، والثلاث من الخمس الثانية؟ فيحتمل أن تكون الثلاث من الخمس الأولى، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الثالث، وآخره السابع. ويحتمل أن تكون الثلاث من الخمس الثانية، واليومان من الخمس الأولى، فيكون ابتداء حيضها من الرابع، وآخره الثامن.
فاليومان الأولان من الشهر طهر بيقين. والثالث طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الرابع إلى آخر السابع حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الأولى.. فيكون هذا وقت انقطاع الدم. واليوم الثامن طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل صلاة، وتغتسل في آخره؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الثانية.. فيكون هذا وقت انقطاع الحيض. ومن التاسع إلى آخر الشهر في طهر بيقين.
وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشرة الأولى، وكنت أخلط أحد الخمسين بالأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر من ذلك، ولا أدري من أي الخمسين كان الجزء؟
فإنها في طهر بيقين بجزء من أول الخمس الأولى، وهو: لحظة بعد غروب الشمس من الليلة التي يرى فيها الهلال.(1/391)
وكذلك هي في طهر بيقين بجزء من آخر الخمس الثانية، وهي لحظة قبل غروب الشمس من اليوم العاشر.
وتحصل في طهر مشكوك فيه بعد اللحظة الأولى من العشر؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة إلى أن تبقى لحظة من الخمس الأولى، وهي: قبل غروب الشمس من اليوم الخامس. فتكون في تلك اللحظة مع لحظة تليها من أول الخمس الأخيرة ـ وهي: بعد غروب الشمس من ليلة السادس ـ في حيض بيقين، وتغتسل عقيب تلك اللحظة من ليلة السادس؛ لاحتمال انقطاع الدم فيه. ولا يفوتها في هاتين اللحظتين صلاة، ولكن يبطل صوم اليوم الخامس. ثم تتوضأ لكل صلاة إلى أن تدخل في اللحظة التي في آخر العشر، فتغتسل أيضا؛ لاحتمال انقطاع الدم فيها.
[فرع: اختلاط الحيض]
فرع: [في اختلاط حيضها] : وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام في الشهر، وأخلط إحدى الخمسين بالتي بعدها بثلاثة أيام من إحدى الخمسين، ويومين من الخمس الأخرى، ولا أدري: هل الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس التي بعدها؟ أو اليومان من الخمس الأولى، والثلاث من الخمس التي بعدها؟ ثم لا أدري ـ مع ذلك ـ في أي الخمسات وقع الخلط: هل في الخمس الأولى مع الثانية، أو في الثانية مع الثالثة، أو في الثالثة مع الرابعة، أو في الرابعة مع الخامسة، أو في الخامسة مع السادسة؟
فإنه ليس لها حيض بيقين في الشهر. ولكن لها اليومان الأولان من الشهر، والآخران منه طهر بيقين. وباقي شهرها طهر مشكوك فيه:
فمن الثالث إلى السابع تتوضأ لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع الدم في شيء من ذلك. وتغتسل في آخر السابع؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس الثانية. ثم تغتسل في آخر الثامن؛ لجواز أن يكون اليومان من الأولى، والثلاث من الثانية.
ومن التاسع إلى الثاني عشر تتوضأ لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه(1/392)
وتغتسل في آخر الثاني عشر؛ لجواز أن يكون الخلط في الخمس الثانية مع الثالثة، وتكون الثلاث من الثانية، واليومان من الثالثة. ثم تغتسل أيضا في آخر الثالث عشر؛ لجواز أن يكون اليومان من الخمس الثانية، والثلاث من الخمس الثالثة.
وتتوضأ لكل صلاة من الرابع عشر إلى السابع عشر؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. ثم تغتسل في آخر السابع عشر؛ لجواز أن يكون الخلط في الخمس الثالثة والرابعة، وتكون الثلاث من الثالثة، واليومان من الرابعة. ثم تغتسل في آخر الثامن عشر؛ لجواز أن يكون اليومان من الثالثة، والثلاث من الرابعة.
ثم تتوضأ لكل صلاة من التاسع عشر إلى الثاني والعشرين؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل في آخر الثاني والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط في الرابعة والخامسة، وتكون الثلاث من الرابعة، واليومان من الخامسة، فيكون هذا وقت انقطاع الدم فيها. ثم تغتسل أيضا في آخر الثالث والعشرين؛ لجواز أن يكون اليومان من الرابعة، والثلاث من الخامسة.
ثم تتوضأ لكل صلاة من الرابع والعشرين إلى السابع والعشرين؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل في آخر السابع والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط في الخامسة والسادسة، وتكون الثلاث من الخامسة، واليومان من السادسة. ثم تغتسل أيضًا في آخر الثامن والعشرين؛ لجواز أن يكون اليومان من الخامسة، والثلاث من السادسة، فيكون هذا وقت انقطاع الدم. فيلزمها في هذا الشهر عشرة اغتسالات في المواضع التي ذكرنا ويلزمها الوضوء لكل صلاة في غير ذلك.
[فرع: خلط جزء من نهارين]
فروع ثلاثة: [في خلط جزء من نهارين] : فرعها ابن بنت الشافعي، وهو أحمد بن محمد:
الأول: إذا قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشرة الأولى، وكنت أخلط نهار إحدى الخمسين بنهار الخمس الأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر، ولا أدري: من أي الخمسين كان الجزء؟(1/393)
فإن كان الجزء من نهار الخمس الثانية.. فإن أول حيضها بعد مضي جزء من نهار اليوم الأول من الشهر، وآخره إذا مضى جزء من نهار يوم السادس. وإن كان الجزء من نهار الخمس الأولى: فإن أول حيضها قبل غروب الشمس من اليوم الخامس بجزء إلى قبل غروب الشمس من اليوم العاشر.
فعلى هذا التنزيل: هي من الليلة الأولى، وفي جزء من نهار اليوم الأول من الشهر في طهر بيقين، ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة، إلى أن يبقى من اليوم الخامس جزء قبل غروب الشمس. فيحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، ويجب عليها أن تغتسل بعد ذلك الجزء من اليوم السادس؛ لجواز أن يكون ذلك في وقت انقطاع حيضها. ولا يسقط عنها في هذين الجزأين من النهارين صلاة، ولكن لا تجب عليها صلاة المغرب والعشاء ليلة السادس ولم يذكر الصوم. والذي يقتضي المذهب: أنه يفسد عليها يوم الخامس والسادس ـ ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، إلى أن يبقى من اليوم العاشر جزء.. فيجب عليها أن تغتسل؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه.
الفرع الثاني: إذا قالت: كان حيضي يومين من العشر الأولى، لا أعلم موضعها، ولكني كنت أخلط نهار إحدى الخمسين بالأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر منه، ولا أدري: من أين كان الجزء؟
فيحتمل أن يكون الجزء من نهار الخمس الثانية.. فيكون ابتداء حيضها بعد مضي جزء من اليوم الرابع، وآخره إذا مضى جزء من اليوم السادس. وإن كان الجزء من الخمس الأولى.. كان ابتداء حيضها إذا بقي جزء من اليوم الخامس قبل غروب الشمس، وآخره إذا بقي جزء من اليوم السابع، وهو قبل غروب الشمس.(1/394)
فهي من أول الشهر إلى أن يمضي جزء من اليوم الرابع في طهر بيقين. ثم تدخل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة إلى أن يبقى جزء من اليوم الخامس.
ثم تحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، ولا تفوتها إلا صلاة المغرب والعشاء ـ ولم يذكر الصوم، والذي يقتضي المذهب: أن صوم يوم الخامس والسادس يبطل ـ ثم يجب عليها أن تغتسل إذا مضى جزء من أول اليوم السادس؛ لجواز أن ينقطع فيه دمها. وتحصل في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة، إلى أن يبقى جزء من السابع فتغتسل فيه؛ لجواز انقطاع الدم فيه. وبعد ذلك تحصل في طهر بيقين إلى آخر الشهر.
الفرع الثالث: إذا قالت: كنت أحيض يومًا من العشر الأولى، وكنت أخلط نهار إحدى الخمسين بنهار الخمس الأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر منه، ولا أدري: من أين كان الجزء؟ فإن كان الجزء من نهار الخمس الثانية.. فأول حيضها إذا مضى جزء من أول اليوم الخامس، وآخره بعد مضي جزء من اليوم السادس. وإن كان الجزء من الخمسة الأولى.. فأول حيضها إذا بقي جزء من اليوم الخامس قبل غروب الشمس، وآخره إذا بقي جزء من اليوم السادس قبل غروب الشمس.
فهي من أول الشهر إلى أن يمضي جزء من اليوم الخامس بعد طلوع الفجر في طهر بيقين.
ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى أن يبقى جزء من اليوم الخامس. فتحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، فتغتسل عقيب ذلك الجزء؛ لجواز انقطاع دمها فيه. ولا تفوتها إلا صلاة المغرب والعشاء ليلة السادس ـ والذي يقتضي المذهب: أن يبطل(1/395)
صوم اليوم الخامس، والسادس ـ ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى أن يبقى جزء من اليوم السادس، فيجب عليها الغسل فيه أيضًا؛ لجواز انقطاع الدم فيه. وتحصل في طهر بيقين إلى آخر الشهر.
[مسألة: بيان حكم النقاء]
] : وإن رأت يومًا دمًا، ويوما نقاء.. فقد تقدم ذكر الحكم في يوم النقاء في العبادات والمباحات، إذا لم يجاوز ما رأت من ذلك على خمسة عشر يوما.
فأما إذا جاوز ذلك خمسة عشر يومًا.. فالمنصوص ـ في كتاب (الحيض) ـ: (أن هذه مستحاضة، اختلط حيضها بالاستحاضة) .
وقال ابن بنت الشافعي: الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض والاستحاضة. وفي النقاء الذي وجد في مدة الخمسة عشر القولان في التلفيق.
قال أصحابنا: وهذا خطأ مذهبا وحجاجا:
أما المذهب: فلأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على ما ذكرناه.
وأما الحجاج: فلأن الطهر لو كان يفصل في اليوم السادس عشر.. لفصل في الخمسة عشر كالمميزة.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو إما أن تكون مميزة، أو معتادة، أو مبتدأة.
فإن كانت مميزة، بأن ترى يومًا وليلة دمًا أسود، ويومًا وليلة طهرًا إلى اليوم التاسع، ثم رأت اليوم العاشر طهرًا، ثم رأت الحادي عشر دما أحمر، ثم رأت يوما وليلة طهرًا إلى أن عبر الخمسة عشر.. فإن الدم الأسود الذي رأته في اليوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع حيض. وفيما بين ذلك من النقاء القولان في التلفيق. والدم الأحمر الذي رأته بعد الأسود استحاضة.(1/396)
وإن كانت معتادة غير مميزة، بأن رأت يومًا وليلة دمًا، ويومًا وليلة طهرًا، والدم على صفة واحدة إلى أن جاوز الخمسة عشر، وقالت: كانت عادتي خمسة أيام.
فإن قلنا: لا يلفق الدم إلى الدم.. كانت الخمسة كلها حيضًا، وما زاد عليها من الدم استحاضة.
وإن قلنا: يلفق لها.. فمن أين يلفق؟
حكى الشيخ أبو حامد فيه قولين، وحكاهما القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق وجهين:
أحدهما: يلفق لها من أيام عادتها فحسب؛ لأن النقاء من أيام العادة، وإنما انقطع دمها فيه، فنقص من عادتها.
فعلى هذا: يكون حيضها ثلاثة أيام، ونقص من عادتها يومان.
والثاني: يلفق لها من مدة الخمسة عشر؛ لأن عادتها تفرقت فيها.
فعلى هذا: يلفق لها خمسة أيام من تسعة أيام.
وإن قالت: كانت عادتي ستة أيام:
فإن قلنا: لا يلفق لها.. كان حيضها هاهنا خمسة أيام، ونقص من عادتها يوم؛ لأن يوم السادس نقاء، والنقاء إنما يجعل حيضا على هذا القول، إذا كان واقعا بين دمي حيض.
وإن قلنا: يلفق لها من أيام عادتها.. كان حيضها ثلاثة أيام لا غير.
وإن قلنا: يلفق لها من عدة الخمسة عشر.. لفقنا لها بستة أيام من أحد عشر يومًا.
وإن كانت عادتها سبعة أيام، فإن قلنا: لا يلفق لها.. كانت السبع كلها حيضًا، ولا ينقص من عادتها هاهنا شيء؛ لأن الدم في اليوم السابع، فيمكن استيفاء عادتها.
وإن قلنا: يلفق لها، فإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. كان حيضها هاهنا أربعة أيام، ونقص ثلاث من عادتها.(1/397)
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يومًا.
وإن كانت عادتها ثمانية أيام، فإن قلنا: لا يلفق لها.. كان حيضها سبعة أيام ونقص عليها يوم.
وإن قلنا: يلفق لها، فإن قلنا: يلفق من أيام العادة.. كان حيضها أربعة أيام.
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها ثمانية أيام من خمسة عشر يومًا.
وإن كانت عادتها تسعة أيام، فإن قلنا: لا يلفق.. كان حيضها تسعة أيام، من غير نقص.
وإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. لفقنا لها من التسع خمسة أيام، ونقصت عادتها أربعا.
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها من الخمسة عشر ثمانية أيام، ونقصت عادتها يوما؛ لأنه لا يمكن التلفيق مما زاد عليها.
وإن كانت مبتداة غير مميزة ولا معتادة، فإن قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة.. كان حيضها يومًا وليلة من أول ما رأت.
وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع.. كانت كمن عادتها ست أو سبع، وقد مضى.
[فرع: نقاء المبتدأة غير المميزة]
] : إذا رأت ثلاثة أيام دمًا، واثني عشر يومًا نقاء، ثم رأت ثلاثة أيام دمًا.. فالأول حيض، والثاني دم فساد؛ لأنه لا يمكن تلفيقه إلى الأول؛ لأنه خارج عن الخمسة عشر. ولا يمكن أن يجعل حيضًا آخر؛ لأنه ليس بينهما طهر كامل.
فإن رأت يوما بلا ليلة دمًا، وأربعة عشر يومًا طهرًا، وثلاثة أيام دمًا.. فالدم الثاني حيض. والأول دم فساد؛ لأنه لا يمكن ضم الأول إلى الثاني؛ لأنه وجد بعد الخمسة عشر، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه. والثاني يمكن أن يكون حيضًا بنفسه. والأول لا يمكن أن يكون حيضًا بنفسه.(1/398)
وإن رأت يومًا بلا ليلة دمًا، وأربعة عشر يوما طهرًا، وربما بلا ليلة دمًا.. فاليومان دم فساد على القولين؛ لأنا:
إن قلنا: لا يلفق.. فلا يمكن أن يضم الدم في اليوم الأول إلى الدم في اليوم السادس عشر.
وإن قلنا: يلفق.. لم يمكن؛ لأن الدم في اليوم وجد بعد الخمسة عشر، فلم يمكن ضمه إلى الأول.
وإن رأت يومًا دمًا، وثلاثة عشر يومًا طهرًا، وثلاثة أيام دمًا.. فقد رأت في الخمسة عشر يومين دمًا.
فإن قلنا لا يلفق.. جعلنا الدم الثاني حيضًا، والأول دم فساد؛ لأنه لا يمكن أن يضم الثاني إلى الأول ويجعلا مع ما بينهما حيضا ً لأنه يزيد على خمسة عشر فأسقطنا الأول.
وإن قلنا: يلفق من وقت العادة فحسب.. فهذه مبتدأة لا عادة لها.
وإلى ماذا ترد المبتدأة؟ على قولين:
أحدهما: ترد إلى يوم وليلة. والثاني: إلى ست أو سبع.
وما وجد في هذين الوقتين إلا يوم لا يمكن أن يكون حيضًا بنفسه، فحكم بأنه دم فساد، والثاني بأنه حيض.
وإن قلنا: يلفق لها من مدة الخمسة عشر، فإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة.. حيضناها اليوم الأول، ومن اليوم الخامس عشر بمقدار ليلة.
وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع.. حيضناها اليوم الأول، والخامس عشر بكماله.
[فرع: نقاء المعتادة غير المميزة]
] : إذا كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول كل شهر، فلما كان بعض الشهور رأت اليوم الأول من الشهر طهرًا، ثم رأت من اليوم الثاني يوما وليلة دمًا، ويوما وليلة طهرًا، إلى أن عبر الخمسة عشر.(1/399)
فإن قلنا: يلفَقُ لها من زمان العادة لا غير.. كان لها يومان حيضًا، وهما الثاني والرابع لا غير.
وإن قلنا: يلفَقُ لها من مدة الخمسة عشر.. لفقنا لها خمسًا، أوَلها الثاني، وآخرها العاشر.
وإن قلنا: لا يلفق لها.. قال أبو العباس: فهل الاعتبار بزمان العادة، أو بعددها؟ فيه قولان ـ يعني: وجهين ـ:
أحدهما: أن الاعتبار بزمان العادة؛ لأنه اعتبر عددها، فوجب اعتبار زمانها.
فعلى هذا: يكون حيضها ثلاثة أيام، وهي: الثاني، والثالث، والرابع لا غير.
وأما الأول والخامس: فطهر. وما بعد الخامس من الدم استحاضة.
والوجه الثاني: أن الاعتبار بعد العادة دون زمانها؛ لأن الحيض انتقل، بدليل: أن الطهر وجد في أول زمان العادة. فيكون حيضها خمسة أيام، أولها الثاني من الشهر، وآخرها السادس.
ولو كانت بحالها، فحاضت قبل عادتها يومًا، وطهرت اليوم الأول من الشهر، ثمَ رأت يومًا دمًا، ويوما طهرًا إلى أن عبر الخمسة عشر:
فإن قلنا: إنه يلفق لها، وقلنا: يلفق لها من زمان العادة لا غير.. فليس لها في زمان العادة إلا يومان: الثاني، والرابع، فيكون ذلك حيضها.
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. قال أبو العباس: احتمل أن يكون أول الحيض اليوم الذي سبق العادة، واحتمل أن يكون أوله الثاني من الشهر. والأول أظهر؛ لأنه دم وجد في زمان الإمكان:
فإن قلنا: أوله اليوم الذي سبق العادة.. لفقنا لها خمسًا، آخرها الثامن من الشهر.
وإن قلنا: أوله الثاني من الشهر.. لفقنا لها خمسًا، آخرها العاشر من الشهر.
وإذا قلنا: لا يلفق، فإن قلنا: إن الاعتبار بزمان العادة.. حيَضناها ثلاثًا من الشهر، وهي، الثاني، والثالث، والرابع.(1/400)
وإن قلنا: الاعتبار بعدد أيام العادة.. حيَضناها خمسا، أولها اليوم الذي سبق العادة، وآخرها الرابع من الشهر.
[فرع: التلفيق للمعتادة غير المميزة في أيام الحيض]
] : قال أبو العباس: إذا كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول كل شهر، فلما كان في بعض الشهور رأت أربعة أيام من أول الشهر دمًا، وخمسة أيام طهرًا، ويومًا دمًا:
فإن قلنا: لا تلفق.. كانت العشرة كلها حيضًا.
وإن قلنا: تلفق.. حيضناها خمسة أيام وهي: الأربعة الأولى، واليوم العاشر.
فإن كانت بحالها، فرأت من أول الشهر يومًا دمًا، وسبعة أيام طهرًا، ويومين دمًا:
فإن قلنا: لا تلفق.. حيضناها العشر كلها، فتزيد عادتها خمسة أيامٍ.
وإن قلنا: تلفق.. حيضناها ثلاثة أيام فنقصت عادتها.
[فرع: رؤية الدم نصف يوم]
] : وإن رأت نصف يومٍ دمًا، ونصف يوم نقاءً، فإن لم يجاوز الخمسة عشر.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا إلى أنها على القولين في التلفيق:
فإن قلنا: لا يلفق.. كان لها أربعة عشر يوما، ونصف يوم حيضًا.
وإن قلنا: يلفق.. كان حيضها سبعة أيام ونصفًا.
وقال بعض أصحابنا: هي مستحاضة إلا أن يتقدم لها أقل الحيض متصلاً.
وقال بعضهم: هي مستحاضة إلا أن يتقدم لها أقل الحيض متصلاً، وينعقب لها أقل الحيض متصلاً. والأول أصح.(1/401)
قال أبو العباس: وهل يلزمها الاغتسال عندما ترى الطهر؟
إن قلنا: لا يلفق لها.. لم يلزمها الاغتسال؛ لأن الدم إن عاد.. فالنقاء حيض، وإن لم يعد.. فالنصف الأول دم فسادٍ، فلا يجب الغسل بانقطاعه؛ لأنه أقل من أقل الحيض.
وإن قلنا: يلفق.. وجب عليها الاغتسال؛ لأن الدم إن عاد.. كان انتقالاً من بعض الحيض إلى بعض الطهر، فوجب الاغتسال، كما إذا انتقلت من جميع الحيض إلى بعض الطهر.
قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا يجب عليها الاغتسال على هذا القول أيضا؛ لأن الدم لم يحكم بكونه حيضا، ولا يعلم معاودة الدم، والظاهر بقاء الطهر، كما إذا كان الدم يومًا وليلةً.. فإنه يلزمها الاغتسال إذا رأت الطهر، ويأتيها زوجها؛ لأن الظاهر بقاؤه، وإنما يتصور ما ذكره في اليوم الثاني، وما بعده.
وإن رأت نصف يوما دمًا، ونصف يوم نقاءً، وجاوز الخمسة عشر.. فقد اختلط حيضها بالاستحاضة، فترد إلى التمييز إن كانت مميزة، بأن ترى نصف يوم دمًا أسود، ونصف يوم نقاء، ثم ترى في اليوم الثاني نصف يوم دما أسود، ونصف يوم نقاء، ثم كذلك في الثالث والرابع، ثم ترى في اليوم الخامس نصف يوم دمًا أحمر، ونصف يومٍ نقاء، ثم كذلك إلى أن عبر الخمسة عشر يومًا.. فإن حيضها: هو الأسود. وفيما بينه من النقاء القولان في التلفيق. وإن كانت معتادة، بأن كانت عادتها خمسة أيام من الشهر، فرأت في بعض الشهور نصف يوم دمًا، ونصف يوم نقاء إلى أن جاوزت الخمسة عشر، والدم بصفة واحدة:
فإن قلنا: لا يلفق.. كان حيضها أربعة أيام ونصف يوم ونقص من عادتها نصف يوم.
وإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. كان حيضها يومين ونصفًا، ونقص يومان ونصف.
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقت الخمس لها من عشرة أيام.(1/402)
وإن كانت مبتدئة، فإن قلنا: ترد إلى ست أو سبعٍ.. كانت كمن عادتها ست أو سبعٌ.
وإن قلنا: تردُ إلى يوم وليلة، فإن قلنا: لا يلفق، أو قلنا: يلفق من أيام العادة لا غير.. فلا حيض لها؛ لأنه لا يحصل لها أقل الحيض من ذلك.
وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفق لها يوم وليلة من أربعة أيام.
[فرع: رؤية الدم ساعة وساعة]
وإن رأت ساعة دمًا، وساعة نقاءً، ولم تجاوز الخمسة عشر.. نظرت ـ في الساعات ـ: فإن كانت تبلغ بمجموعها أقل الحيض.. كانت كالاتصاف على ما مضى. وإن كانت الساعات لا تبلغ بمجموعها أقل الحيض ـ بأن رأت في أول الخمسة عشر ساعة دمًا، وفي آخرها ساعة دمًا، وما بينهما طهرٌ ـ:
فإن قلنا: يلفق لها.. كان دم فساد؛ لأنه لا يتلفق منه أقل الحيض.
وإن قلنا: لا يلفق.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أن الدمين وما بينهما من النقاء حيض؛ لأنا نجعل النقاء حيضا على هذا.
والثاني: أنه دم فساد؛ لأن النقاء إنما يجعل حيضا ـ على هذا القول ـ على سبيل التبع للدم، والدم لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض، فلم يجعل النقاء تابعا له.
[مسألة: حكم النفاس]
مسألة: [في حكم النفاس] : وأما دم النفاس: فإنه يحرم ما يحرم الحيض، ويسقط ما يسقط الحيض؛ لأنه حيض مجتمع لأجل الحمل. فإذا ولدت المرأة، وخرج منها دم بعد الولادة.. كان(1/403)
نفاسًا بلا خوف. وإن خرج قبل الولادة.. لم يكن نفاسًا.
وإن كان خرج مع الولد.. فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص: هو نفاس؛ لأنه دم خرج بخروج الولد، فأشبه الدم الخارج بعده.
والثاني: ليس بنفاس؛ لأنه دم انفصل قبل انفصال الولد، فأشبه ما خرج قبله.
[فرع: رؤية الحامل الدم]
وإن رأت المرأة الحامل الدم قبل ولادتها خمسة أيام، ثم ولدت قبل مضي أقل الطهر.. فإن الدم الذي رأته قبل الولادة ليس بنفاس، وهل هو حيض، أو دم فساد؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إنه دم فساد قولاً واحدًا؛ لأنه لما لم يكن بينه وبين النفاس طهرٌ صحيح.. كان دم فساد.
ومنهم من قال: هو على القولين ـ في أن الحامل تحيض ـ:
فإن قلنا: إنها تحيض.. كان حيضًا؛ لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل.
[فرع: مدة النفاس]
أكثر مدة النفاس: ستون يوما، وغالبه: أربعون يومًا. وبه قال مالك، وداود، وعطاءً، والشعبي.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وأبو عبيد، والمزني: (أكثره أربعون يومًا) .(1/404)
وقال الحسن: أكثره خمسون يومًا.
ومن الناس من قال: أكثره سبعون يومًا.
دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود.
وقد قال الأوزاعي: (عندنا امرأة ترى النفاس شهرين) .
وليس لأقل النفاس حد، وقد تلد المرأة ولا ترى دمًا.
وقال الثوري: أقله ثلاثة أيام.
وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يومًا؛ ليزيد أقله على أكثر الحيض.
دليلنا: أن المرجع فيه إلى الوجود. وقد روي: «أن امرأة ولدت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تر دمًا، فسميت: ذات الجفوف» .
وروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا طهرت المرأة حين تضع.. صلت» .
وإن ولدت ولدين توأمين، ورأت بينهما الدم.. فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالولد الأول. وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأنه يقع عليه اسم الولد، فأشبه إذا كان وحده.(1/405)
والثاني: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالثاني.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الولدين في حكم الولد، ألا ترى أن الزوج لا يملك نفي أحدهما دون الآخر، ولا تنقضي عدتها إلا بوضعهما؟
والثالث: أنه يعتبر ابتداء المدة من الأول، ثم تستأنف المدة من الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب في إثبات حكم النفاس إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. ثبت لكل واحد منهما نفاس، وتدخلا فيما اجتمعا فيه، كالوطء بالشبهة في العدة.
[فرع: رؤية دم النفاس ساعة بعد ساعة]
] : إذا ولدت المرأة ورأت ساعةً دمًا، وساعةً طهرًا، ولم تجاوز الستين. أو رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، ولم تجاوز الستين.. فإن الدَم نفاسٌ، وفيما بينهما من النَقاء القولان في التَلفيق.
وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت أربعة عشر يومًا، ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. فالدَمان: نفاسٌ، وفي ما بينهما من النَقاء القولان في التلفيق.
وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الدَم الأول نفاسٌ، والثاني حيضٌ، وما بينهما طهرٌ. وبه قال أبو يوسف، ومحمَدٌ؛ لأن الدمين قد فصل بينهما طهرٌ صحيحٌ، فلم يضمَ أحدهما إلى الآخر، كالحيضتين.
والثاني ـ وبه أبو حنيفة ـ: أن الدمين نفاسٌ، وما بينهما من النَقاء على القولين في التلفيق؛ لأنهما وجدا في زمان إمكان النفاس، فهو كما لو كان بينهما أقل من خمسة عشر يومًا. ويفارق الحيضتين؛ لأن الثاني لا يمكن ضمه إلى الأول.(1/406)
وقال أحمد: (الأول نفاسٌ. والثاني مشكوكٌ فيه، فتصوم وتصلي، ولا يأتيها زوجها، وتقضي الصوم والصلاة؛ لأنه يحتمل أنه نفاسٌ، ويحتمل أنه دم فسادٍ) وهذا ليس بصحيح؛ لأنه دم في زمان الإمكان، فكان نفاسًا. وإن رأت ساعة دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت ساعةً دمًا:
فإن قلنا في الأولى: إنهما نفاسٌ.. فها هنا مثله.
وإن قلنا في الأولى: إن الثاني حيضٌ.. فخرج أبو العباس في هذه وجهين:
أحدهما: أنه نفاسٌ ـ وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ـ لأنه ينقص عن أقل الحيض.
والثاني: أنه دم فساد ـ وهو قول زفر، ومحمد ـ لأنه لا يمكن أن يكون حيضًا؛ لأنه دون أقله، ولا يمكن أن يكون نفاسًا؛ لأن بينهما طهرًا صحيحًا.
قال أبو العباس: فإذا قال لامرأته الحامل: إذا ولدت فأنت طالقٌ. فولدت.. طلقت. فإذا أخبرت بانقضاء العدة.. فكم القدر الذي يقبل قولها فيه؟
إن قلنا: إن الدم إذا عاودها بعد الطهر يكون حيضًا.. فأقل مدة تنقضي عدتها فيها سبعة وأربعون يومًا وجزءان؛ لأنه يمكن أن تضع قبل المغرب بجزء ترى فيه الدم، فيكون نفاسًا، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعن في الحيض، فتنقضي عدَتها.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يقبل قولها ـ على هذا ـ في سبعة وأربعين يومًا وجزء؛ لأنها قد تلد ولا ترى دمًا، فتكون في القُرءِ الأول عقيب الولادة.
وإن قلنا: إن الدم إذا عاودها في مدة الستين كان نفاسًا.. فأقل مدة تنقضي بها عدتها اثنان وتسعون يومًا وجزءٌ؛ لأن الستين لا يمكن أن يحصل فيها إلا طهرٌ واحدٌ ثم تحيض بعد الستين يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تحيضُ يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعنُ في الحيض، فتنقضي به عدتها.(1/407)
[فرع: انقطاع النفاس لدون أربعين]
] : وإذا انقطع دم النفاس لدون أربعين يومًا.. لم يكره وطؤها.
وقال أحمد) يكره وطؤها) . وروي ذلك عن علي، وابن عباس.
دليلنا: أنها حالة يجب عليها الصلاة، فلم يكره وطؤها فيها كما لو انقطع لأربعين يومًا.
[فرع: جاوز النفاس الستين]
إن جاوز النفاس الستين فرعٌ: [إن جاوز النفاس الستين] : وإذا جاوز دم النفاس ستين يومًا.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أن الاستحاضة قد دخلت في النفاس.
فعلى هذا: تُردُ إلى التمييز إن كانت مميزة، أو إلى العادة إن كانت معتادةً.
وإن كانت مبتدئة لا تمييز لها.. فاختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: نردُها إلى أقل النفاس، وهو: لحظة.
وقال سائر أصحابنا: هي على قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: تردُ إلى غالب النفاس، وهو: أربعون يومًا، كما قلنا في الحيض إن جاوز أكثره.
والوجه الثاني: أن الستين تكون نفاسًا، وما زاد عليها استحاضةً.
والفرق بين النفاس والحيض: أن النفاس يُعلم وجوده قطعًا؛ لأنه يخرجُ عقيب الولد، فلم يجز أن ينتقل عن النفاس إلى الاستحاضة إلا باليقين، وهو: مجاوزة الدَم(1/408)
الستين، بخلاف الحيض؛ لأنا إنما نحكم بكونه حيضًا من حيث الظاهر، لا بالقطع واليقين، فجاز أن ينتقل عنه من غير قطع.
والوجه الثالث ـ ذكره ابن القطان ـ: أن الستين نفاسٌ، وما زاد عليها حيضٌ؛ لأنهما لا يتنافيان. والأول أصح.
[فرع: ولدت في وقت حيضها ولم تتغير عادتها]
] : ذكر أبو إسحاق المروزي في (النفاس) مسألتين:
إحداهما: إذا كانت المرأة تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يومًا.. فهذه شهرها عشرونَ يومًا، فلما كانت في بعض الشهور ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دمًا، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت الدم بعد ذلك، وعبر الخمسة عشر.. فهذه لم تتغير عادتها في حيضها وطهرها. فتكون نفاسًا في مدة العشرين، وطاهرًا في مدة الخمسة عشر، ونحيضها بعد ذلك خمسة أيام، وتكون طاهرًا خمسة عشر يومًا، وعلى هذا أبدًا.
الثانية: إذا كانت عادتها أن تحيض عشرة أيامٍ، وتطهر عشرين يومًا.. فهذه شهرها ثلاثون يومًا.
فإن ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دما وانقطع، وطهرت شهرين، ثم رأت الدم بعد ذلك، وزاد على خمسة عشر يومًا.. فهذه لم تتغير عادتها في الحيض، ولكن زاد الطهر فصار شهرين، بعد أن كان عشرين يومًا، وتكون نفساء في مدة العشرين الأولى، وطاهرًا في الشهرين بعدها، وحائضًا عشرة أيام بعدها، ويكون طهرها بعد ذلك شهرين.
قال ابن الصباغ: وهذا يجيء على قول من لا يعتبر تكرار العادة.
[مسألة: فيما يجب على المستحاضة]
] : يجب على المستحاضة ـ إذا أرادت أن تصلي ـ: أن تغسل فرجها، وتحتشي؛ لترد الدم.(1/409)
فإن كان الدمُ يسيرًا، وإذا أدخلت قطنةً أو خِرقةً حبستهُ.. فعلت ذلك.
وإن لم ينقطع بذلك.. (تلجَمت) : وهو أن تأخذ قطنةً أو خرقةً وتسدَ بها فرجها، وتأخذ خرقةً مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها، وتشدها على تلك القطنة، وتخرج أحد طرفيها إلى بطنها، والآخر إلى صلبها، ثم تشدَ أحد الطرفين بالآخر إلى خاصرتها اليمنى، وأحد الطرفين المشقوقين بالآخر إلى خاصرتها اليسرى.
وهذا هو الاستثفار المذكور في الخبر، مأخوذ من: ثفر الدابة تحت ذنبها. وهكذا يفعل بالميت إذا غُسل.
والدليل على هذا: ما روي في «حديث حمنة بنت جحش: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم"، فقالت: هو أشد من ذلك، فقال: "اتخذي ثوبًا"، فقالت: هو أشد من ذلك، إنما أثج ثجًا، فقال: تلجمي»
ولا يجب على المستحاضة غير المتحيرة إلا غسل واحد، عندما يحكم لها بانقطاع دم الحيض، وإنما يجب عليها الوضوء. وروي ذلك عن علي، وعائشة وابن مسعود، وابن عباسٍ.
وروي عن ابن عمر، وابن الزبير: أنهما قالا: (يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة) . وقد روي ذلك أيضًا عن عليٍ، وابن عباس.
وروي ـ أيضًا ـ عن عائشة: أنها قالت: (تغتسل لكل يومٍ غسلاً واحدًا) .
وقال ابن المسيب، والحسن: تغتسل من طهرٍ إلى طهرٍ، وتتوضأ لكل صلاةٍ.(1/410)
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن فاطمة بنت أبي حبيس استحيضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت، وإن قطر الدم على الحصير» .
وإذا استوثقت بالشد على ما ذكرناه وتوضأت، فخرج منها الدم قبل الدخول في الصلاة، أو في حال الصلاة، فإن كان لرخاوةٍ في الشد.. وجب إعادة الشد والطهارة. وإن كان ذلك لغلبة الدم وقوته.. لم يجب عليها إعادة الشد والطهارة، ولا تبطل الصلاة؛ لما ذكرناه في حديث فاطمة ابنة أبي حبيشٍ، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن توضأت المستحاضة.. ارتفع حدثها السابق. وأما حدثها الموجود حال الطهارة والطارئ.. فلا يرتفع ذلك، ولكن يعفى عنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في " الإبانة" ق \ 15] : هل يرتفع حدثها؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: لا يرتفع حدثها.. فكيف تنوي بطهارتها؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنها تنوي استباحة الصلاة، ولا تنوي رفع الحدث؛ لأنه لا يرتفع.(1/411)
و [الثاني] : قال الخضريُ: تجمع في نيتها بين رفع الحدث، واستباحة الصلاة.
[فرع: لا تجمع المستحاضة بالوضوء أكثر من فرض]
] : ولا يجوز للمستحاضة أن تصلي بالوضوء أكثر من فريضةٍ واحدةٍ، وما شاءت من النوافل، سواء كان ذلك في وقت، أو في وقتين.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يجوز لها أن تجمع بين فريضتين في وقت واحد، وتبطل طهارتها بخروج وقت الصلاة) .
وقال ربيعة، ومالك: (لا وضوء على المستحاضة) .
وقال الأوزاعي، والليث: (تجمع في طهاراتها بين الظهر والعصر) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث فاطمة ابنة أبي حبيش.
ولا تصح طهارتها إلا بعد دخول الوقت.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: أنها طهارة ضرورةٍ، ولا ضرورة بها إلى الطهارة قبل دخول الوقت.
وهل يجب عليها حل العصابة، وغسل الفرج عند الصلاة الثانية؟
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 44] : ينظر فيها: فإن كانت العصابة قد تحركت من موضعها.. وجب غسلها، وإن لم تتحرك من موضعها.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنه يجب عليها ذلك، كما يجب عليها الوضوء.
والثاني: لا يجب. والفرق بينهما: أنه قد تؤمر بالطهارة عن الحدث وإن لم يرتفع، ولا تؤمر بإزالة النجاسة إذا لم تزل بالغسل.(1/412)
[فرع: حكم الولاء بين الطهارة والصلاة]
] : إذا توضأت المستحاضة بعد دخول الوقت.. فالأولى: أن تصلي عقيب الطهارة.
فإن أخرت الصلاة إلى آخر الوقت أو وسطه، فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة، كانتظار الجماعة، وستر العورة، وما أشبهه.. جاز ذلك.
وإن أخرتها لغير ذلك.. فهل تصح صلاتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وعليها أن تستأنف الطهارة؛ لأنه لا حاجة بها إلى ذلك.
والثاني: يجوز؛ لأنه قد جوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت، فلا يضيق عليها.
وإن خرج الوقت قبل أن تصلي به الفرض.. فهل لها أن تصلي الفرض بتلك الطهارة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غير معذورة في ذلك.
والثاني: يجوز، لأن طهارتها لا تبطل ـ عندنا ـ بخروج الوقت.
فإذا صلت الفريضة بوقتها.. فلها أن تتنفل بها ما شاءت؛ لأن النوافل تكثر، فلو ألزمناها: أن تتوضأ لكل صلاة نافلة.. شق وأدى إلى قطعها.
فإذا خرج وقت الفريضة.. فهل لها أن تتنفل بتلك الطهارة؟ فيه وجهان.
[فرع: انقطاع دم المستحاضة]
] : إذا انقطع دم المستحاضة.. نظرت: فإن كان قبل الدخول في الصلاة:
فإن كان انقطاعًا غير معتاد، بأن كان أول ما استحيضت، فتوضأت ودمها سائل، ثم انقطع.. قال الشيخ أبو حامد: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليها إعادة الوضوء إذا أرادت أن تصلي؛ لأن هذا الانقطاع يجوز أن يكون لزوال الاستحاضة، فتبطل لذلك طهارتها. ويجوز أن يكون ليعود، فلا تبطل، إلا أن الظاهر أنه لا يعود.
فإن خالفت ودخلت في الصلاة من غير تجديد طهارة، فإن اتصل الطهر.. لم تصح صلاتها.(1/413)
وإن عاودها الدم، فإن كان بين معاودة الدم وانقطاعه مدة يمكن فيها فعل الصلاة.. لم تصح صلاتها؛ لأنه قد أمكنها فعل الصلاة من غير نجاسةٍ.
وإن كان بينهما مدة لا يمكن فيها فعل الصلاة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليها إعادة الصلاة؛ لأنا تيقنا بعود الدم أن الانقطاع لا حكم له.
والثاني: يجب عليها الإعادة، وهو الأصح؛ لأنها حال ما دخلت في الصلاة، دخلت بطهارة مشكوك فيها، فيلزمها إعادتها، وإن تيقنت أن طهارتها كانت صحيحة، كما لو استفتح لابس الخف الصلاة بعد أن مسح يومًا وليلة، وهو يشك: هل ابتدأ المسح في الحضر أو في السفر، ثم بان له أنه ابتدأ المسح في السفر.
وإن كان انقطاع دمها معتادًا، مثل: أن تستمر عادتها بأن ينقطع دمها ساعةً، ثم يعود، ثم ينقطع، فإن كانت مدة الانقطاع في عادتها مما يمكن فيها فعل الطهارة والصلاة.. فعليها: أن تعيد الطهارة والصلاة.
قال ابن الصباغ: وليس لها أن تتوضأ في حال جريان الدم، بل عليها أن تنتظر حال انقطاعه، ما لم يخرج الوقت. فإن توضأت في المدة التي جرت عادتها أن الانقطاع يتسع لفعل الطهارة والصلاة، ثم دخلت في الصلاة، ثم عاد الدم في حال الصلاة.. قال أبو العباس: فهذا حدث ثانٍ، فتبطل طهارتها بوجوده، ويلزمها الخروج من الصلاة، واستئناف الطهارة. وهل يلزمها استئناف الصلاة؟
فيه قولان كالقولين فيمن يسبقه الحدث في الصلاة؛ لأن خروج الدم عنها بغير اختيارها، كالصحيح إذا سبقه الحدث في الصلاة.
وإن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تتمكن فيها من فعل الصلاة والطهارة.. فهو كما لو كان الدم متصلاً.
قال أبو العباس: وهكذا إذا كانت مبتدأة وانقطع دمها، وعلمت أن هذا الانقطاع لا يتصل، لكنه يعود الدم. أو كان به جرح يسيل منه الدم فانقطع، فأخبره أهل البصر(1/414)
بالطب: بأن هذا الانقطاع لا يتصل، بل يعود.. فهو كما لو لم ينقطع. ولها أن تصلي مع هذا الانقطاع.
فإن اتصل بها الطهر.. فإنه يجب عليها إعادة الصلاة وجهًا واحدًا؛ لأنا إنما أجزنا الصلاة بالطهر الأول ظنا أن الدم يعود، فإذا لم يعد.. تيقنا الخطأ فيما ظنناه.
وإن توضأت المستحاضة، ودخلت في الصلاة، فانقطع دمها في حال الصلاة، فإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع ويعود، وبين وقت انقطاعه وعوده مدة لا تتمكن فيها من الطهارة والصلاة.. لم تبطل صلاتها بهذا الانقطاع؛ لأن وجوده كعدمه.
وإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع، ويعود بعد مضي مدة تتمكن فيها من فعل الطهارة والصلاة. أو كان هذا الانقطاع لم تجر لها به عادةٌ، والظاهر أنه لا يعود الدم.. فهل تبطل صلاتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل صلاتها، كالمسافر إذا عدم الماء فتيمم، ثم وجد الماء بعد الدخول في الصلاة.
والثاني: تبطل صلاتها، وهو الصحيح؛ لأن عليها طهارة حدث، وطهارة نجس، ولم تأت عن طهارة النجس بشيء، وقد قدرت عليها، فلزمها الإتيان بها.
وتفارق المتيمم؛ لأنه قد أتى عن الطهارة بالماء بما هو بدل عنها، فجاز له استدامة التيمم مع وجود الماء. وطهارة المستحاضة قد بطلت بانقطاع الدم، وإذا بطلت الطهارة.. بطلت الصلاة.
[فرع: وطء المستحاضة]
] : يجوز للزوج وطء زوجته المستحاضة وإن كان الدم جاريًا.
وقال الحكم، وابن سيرين، والنخعي: لا يجوز له وطؤها.(1/415)
وبه قال أحمد، إلا أن يخاف على نفسه العنت.
دليلنا: ما روي: (أن حمنة بنت جحش كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وأم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن، وكانتا مستحاضتين، وكانا يجامعان) .
والظاهر أنه لا يخفى ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه قد بين سائر أحكامها ولم يذكر الوطء، فدل على جوازه.
[فرع: صاحب السلس]
] : ومن به سلس البول والمذي.. حكمه حكم المستحاضة في الشد، والوضوء لكل صلاة؛ لأن ذلك من نواقض الوضوء، فهو كالاستحاضة.
وأما من به جرح لا ينقطع منه الدم أو القيح.. فإنه بمنزلة المستحاضة في وجوب غسله، وشده عند كل صلاةٍ؛ لأنها نجاسة متصلة لعلة، فهو كالمستحاضة.
وأما الوضوء لكل صلاة: فلا يجب عليه.
وبالله التوفيق(1/416)
[باب إزالة النجاسة]
أبوال بني آدم وذروقهم نجسةٌ، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن داود: أنه قال: (بول الغلام الذي لم يطعم الطعام طاهرٌ) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» . ولم يفرق.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبيرةٍ، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمارٍ: «إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء» .(1/417)
وأجمعت الأمة على نجاسة الغائط.
وأما أبوال البهائم وأرواثها: فهي نجسةٌ ـ عندنا ـ سواءٌ في ذلك ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه. وبه قال ابن عمر، والأوزاعي، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال صاحب " الإبانة " [ق \ 68] : في بول ما لا نفس له سائلةٌ، وروثه وجهان، بناء على الوجهين في: أنه هل ينجس بالموت؟
وقال النخعي: أبوال البهائم كلها طاهرةٌ.
وقال مالكٌ والزهري، والثوري، وأحمد: (بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهرٌ) .
وحكى صاحب " الفروع ": أن هذا وجه لبعض أصحابنا؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على الجمل) فلولا أن بوله وروثه طاهرٌ.. لما طاف عليه خشية أن ينجس المسجد.
وقال أبو حنيفة: (الكل نجسٌ، إلا ذرق الحمام، والعصافير، وما لا يمكن الاحتراز منه.. فإنه طاهرٌ؛ لأن العسل ذرق النحل، وهو طاهرٌ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] [النحل: 66] . فامتن الله علينا بأن أخرج لنا لبنًا طاهرًا يحل شربه من بين نجسين: الفرث، والدم.(1/418)
وروي: «أن ابن مسعود أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثةٍ؛ ليستنجي بذلك، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: "إنها ركسٌ» .
و (الركس) : الرجيع وهذه العلة تعم جميع ما ذكرناه.
وأما طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجمل؛ فلأنه حمل أمره: على السلامة، وأنه لا يبول ولا يبعر. كما حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة وحمل أمرها على: أنها لا تبول ولا تتغوط. ثم لا يدل ذلك على: أن بولها وغائطها طاهرٌ.
وأما قوله: إن العسل ذرق النحل.. فغير صحيح؛ لأنه قد قيل: إن النحل تعسل بأفواهها، وقيل: لا يكاد يعرف منها حقيقة؛ لما روي: أن سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أراد أن يعرف حقيقة ذلك، فاتخذ آنية من زجاج، وجعلها فيها؛ ليعرف كيف تعسل.. فلطخت وجه الآنية بالطين حتى لم يرها كيف تعسل.
والقيء نجس؛ لحديث عمار، ولأنه طعام استحال في الجوف، فكان نجسًا، كالغائط.
والبلغم الخارج من المعدة نجسٌ.
وقال أبو حنيفة: (هو طاهرٌ) .
دليلنا: أنه طعام أحالته الطبيعة فكان نجسًا، كالسوداء والصفراء.
[مسألة: القول في المذي والمني]
] : والمذي نجسٌ؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل ذكره منه) .
والودي نجسٌ؛ لأنه في معناه.
وأما مني الآدمي: فالمشهور من مذهب الشافعي أنه طاهر ما لم تصبه نجاسةٌ. وبه(1/419)
قال من الصحابة: ابن عباس، وسعد بن أبي وقاصٍ وعائشة.
وقال مالك، والأوزاعي: (هو نجس يجب غسله رطبًا ويابسًا) . وخرج صاحب " التلخيص " قولاً للشافعي مثل هذا.
وقال أبو حنيفةَ: (هو نجس يجب غسله إن كان رطبًا، وإن كان يابسًا.. أجزأه الفرك) .
وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين في مني المرأة قولين. ومنهم من يقول: فيه وجهان، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرجها.
دليلنا: ما روى ابن عباسٍ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المني يصيب الثوب؟
فقال: "أمطه عنك بإذخرةٍ؛ فإنما هو كبصاقٍ أو مخاطٍ» .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي فيه» ولو كان نجسًا.. لما انعقدت معه الصلاة. ولأنه خارجٌ من حيوانٍ طاهرٍ، يخلق منه، مثل أصله، فكان طاهرًا، كالبيض.
فقولنا: (من حيوانٍ طاهرٍ) احترازٌ من مني الكلب والخنزير.
وقولنا: (يخلق منه، مثل أصله) احتراز من البول والمذي والودي.
وأما مني سائر الحيوانات غير الكلب، والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:(1/420)
أحدها: أنه طاهرٌ، كعرقه ولعابه.
والثاني: أنه نجسٌ؛ لأنه من فضول الطعام المستحيل، وإنما حكم بطهارته من الآدمي؛ لكرامته.
والثالث: أن كل ما أكل لحمه.. فمنيه طاهرٌ، كلبنه. وما لا يؤكل لحمه.. فمنيه نجسٌ، كلبنه.
فكل موضع قلنا: إن المني طاهرٌ.. فهل يحل أكله؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يحل أكله.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو زيد المروزي: يحل أكله.
وفي نجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه وجهان، كمنيه:
فإذا قلنا: إنه طاهرٌ.. فهل يجب غسل ظاهره؟ فيه وجهان، بناء على نجاسة رطوبة الفرج.
قال المسعودي [في" الإبانة " ق \ 68] : وإذا قلنا ماتت الدجاجة وفي جوفها بيضٌ.. فهل يحكم بنجاستها؟ فيه وجهان.
[مسألة: حكم الدماء]
مسألةٌ: [في الدماء] : وجميع الدماء نجسةٌ. وفي دم السمك وجهان:
أحدهما: أنه نجسٌ، كغيره.
والثاني: أنه طاهرٌ، كميتته.
وقال أبو حنيفة: (دم ما لا نفس له سائلةٌ طاهرٌ) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . وحديث عمارٍ. ولم يفرق.(1/421)
[فرع: القيح والصديد والعلقة]
فرعٌ: [في القيح والصديد والعلقة] :
وأما القيح والصديد: فهو نجسٌ؛ لأنه أسوأ حالاً من الدَم.
وأما ماء القروح: فإن كان له رائحةٌ.. فهو كالقيح نجسٌ وإن لم يكن له رائحةٌ.. ففيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه نجس، كالقيح.
والثاني: أنه طاهرٌ، كالعرق.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هو طاهرٌ قولاً واحدًا، كالعرق.
واختلف أصحابنا في العلقة والمضغة التي هي مبتدأ خلق الآدمي، وفي البيضة إذا صارت دمًا.
فقال الصيرفي: الكل طاهرٌ؛ لأنه مبتدأ خلق حيوان طاهرٍ، فكان طاهرًا، كالمني.
وقال أبو إسحاق: هو نجسٌ؛ لأنه دمٌ خارجٌ من الرحم، فهو كالحيض.
[مسألة: ميتة الحيوان الطاهر]
] : الحيوان الطاهر إذا مات.. ينظر فيه: فإن كان من غير السمك، والجراد، والآدمي.. فهو نجسٌ، سواءٌ كانت له نفسٌ سائلةٌ، أو لا نفس له سائلةٌ. هذا نقل أصحابنا البغداديين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولم يفرق. وحكى الخراسانيون في طهارة ميتة ما لا نفس له سائلةٌ، وجهين.(1/422)
وأما السمك والجراد: فميتتهما طاهرةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان؛ أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» .
فإن قطع من السمكة قطعةٌ، وبقيت السمكة حيةً.. فهل يحكم بطهارة تلك القطعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها نجسةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ» .
والثاني: أنها طاهرةٌ؛ لأن ميتة السمك طاهرةٌ.(1/423)
قلت: وينبغي أن يكون فيما أخذ من الجرادة، وبقيت الجرادة حيةً وجهان، كالسمكة.
وكذلك ينبغي أن يكون في ذرق الجراد وجهان، كدم السمك وذرقه.
[فرع: ميتة الآدمي]
] : وأما الآدمي إذا مات.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه نجسٌ؛ لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته، فكانت ميتته نجسةً، كسائر الميتات.
والثاني: أنه طاهرٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] [الإسراء: 70] .
ومن كرامته أن لا يكون نجسًا بعد موته.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتًا» .
وإن انفصل شيء من جسد ابن آدم في حياته.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الصيرفي: فيه قولان، كميتته.
وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ قولاً واحدًا. وهو الأصح؛ لأن الحرمة إنما تثبت لجملته لا لأبعاضه.(1/424)
قال ابن الصباغ: والمشيمة - التي يكون فيها الولد - نجسةٌ إذا انفصلت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ» .
[فرع: حكم الخمر]
فرعٌ: [في الخمر] : الخمر نجسةٌ.
وقال ربيعة، وداود: (هي طاهرةٌ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] [المائدة: 90] . فسماه: رجسًا، و (الرجس) ـ عند العرب ـ: النجس. وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وهذا عمومٌ.
وأما النبيذ: فالمذهب: أنه نجسٌ؛ لأنه مسكرٌ، فكان نجسًا، كالخمر.
ومن أصحابنا من قال: إنه طاهرٌ؛ لاختلاف الناس فيه. وليس بشيءٍ.
[فرع: نجاسة الكلب والخنزير]
] : الكلب نجس الذات، نجس السؤر. وبه قال ابن عباسٍ، وأبو هريرة، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو حنيفة.
وذهب الزهري، ومالك، وداود إلى: (أنه طاهرٌ، وسؤره طاهرٌ، إلا أنه يجب الغسل من ولوغه تعبدًا، لا للنجاسة) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه، واغسلوه سبعًا، أولاهن بالتراب» .(1/425)
فأمر بإراقة ما فيه وقد يكون عسلاً أو سمنًا، فلولا أنه نجس الذات والسؤر.. لما أمر بإراقة سؤره، مع (نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال) .
والخنزير نجس الذات نجس السؤر؛ لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ بدليل: أنه يندب إلى قتله وإن كان لا ضرر به، فإذا كان الكلب نجسًا.. فهذا أولى.
وينجس ما تولد من الكلب والخنزير؛ لأنه مخلوق من أصل نجس، فكان نجسًا.
[فرع: ألبان غير المأكول]
] : واختلف أصحابنا في ألبان الحيوانات التي لا يؤكل لحمها غير الآدمي:
فقال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهرٌ؛ لأنه حيوانٌ طاهرٌ، فكان لبنه طاهرًا، كالشاة والبقرة.
وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ ـ وهو المنصوص ـ كلحمه.
[فرع: رطوبة فرج المرأة]
واختلف أصحابنا في رطوبة فرج المرأة:
فمنهم من قال: إنها طاهرةٌ، كعرقها.
ومنهم من قال: إنها نجسة. وهو المنصوص؛ لأنها متولدة في محل النجاسة.
وكل عين طاهرةٍ إذا أصابها شيءٌ من هذه النجاسات، وأحدهما رطبٌ.. نجست العين الطاهرة بذلك.(1/426)
[مسألة: تخليل الخمر]
] : لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت بخل، أو ملح، أو ما أشبهه.. لم تطهر.
وقال أبو حنيفة: (يستحب تخليلها، وتطهر إذا خللت فتخللت) .
وقال مالك: (يكره تخليلها، إلا أنها إذا خللت فتخللت.. طهرت) .
دليلنا: ما روي: «أن أبا طلحة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرًا؟
فقال: "أهرقها" قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» فنهاه عن التخليل.
فإن تخللت الخمر بنفسها.. طهرت؛ لأنا إنما حكمنا بنجاستها للشدة المطربة فيها، وقد زالت من غير نجاسة خلفتها، فحكم بطهارتها.
وهل يطهر الدن الذي هي فيه؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الداركي: إن كان مما لا يقبل جزءًا منها، كالزجاج، ونحوه.. طهر. وإن كان مما يقبل جزءًا منها.. لم يطهر.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يطهر بكل حال، على سبيل التبع للخمر. وهو الأصح.(1/427)
وإن نقل الخمر من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس، فتخللت.. فيه وجهان:
أحدهما: لا تطهر؛ لأنها إنما تخللت بفعله، وهو فعل محظورٌ، فلم تطهر.
والثاني: أنها تطهر؛ لأنها قد زالت الشدة المطربة فيها، من غير نجاسةٍ خلفتها.
ولا يجوز إمساك الخمر لكي تتخلل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة وحاملها» . فإن أمسكها حتى تخللت بنفسها من طول الإمساك.. فهل يحكم بطهارتها؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
[فرع: السرجين والعظام المحروقة]
] : وإن أحرق العذرة أو السرجين أو عظام الميتة فصار رمادًا، أو طرح كلبًا ميتًا في مملحةٍ فصار ملحًا، أو طرح السرجين في التراب فصار ترابًا.. لم يطهر شي من ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يطهر جميع ذلك) .
وحكى صاحب " الإبانة " [في ق \ 70] : أن هذا وجه لبعض أصحابنا. والمذهب الأول. دليلنا: أن نجاسة هذه الأشياء لعينها، والرماد هو عينها، فلم يحكم بطهارته، كالدَبس المتنجس إذا صار خلاً.
وفي دخان النجاسة وجهان:(1/428)
أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ليس هو النجاسة، ولا تولد منها، وإنما هو شيءٌ يحدثه الله عند التقاء جسم النار والعين النجسة، فلا معنى لتنجيسه.
فعلى هذا: إذا علق بالثوب.. لم يمنع من الصلاة فيه. وإذا حصل على حائط تنورٍ.. لم يمنع الخبز عليه.
والثاني: أنه نجسٌ. قال في " الفروع ": وهو الأصح؛ لأنه حادث من العين النجسة، فأشبه الرماد.
قال أصحابنا: فعلى هذا: إذا علق بالثوب، فإن كان قليلاً.. عفي عنه. وإن كان كثيرًا.. لم يطهر إلا بالغسل. وإن سود التنور، فإن مسحه بخرقة وزال.. جاز الخبز عليه؛ لأن التنور والدخان يابسان. وإن ألصق عليه الخبز قبل الإزالة.. نجس ظاهر الرغيف، ووجب غسله. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد.
وقال الشاشي: إذا قلنا: إن دخان النجاسة نجسٌ.. فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان.
[مسألة: ولوغ الكلب]
] : إذا ولغ الكلب في إناء فيه مائعٌ، أو ماءٌ دون القلتين، أو أدخل فيه منه عضوًا، أو وقع فيه شيءٌ من دمه، أو بوله، أو ذرقه.. وجب غسله سبع مرات، إحداهنَ بالتراب. وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (يجب غسله إلا أن السبع لا تجب، بل يغسل حتى يغلب على الظن طهارته، فلو غلب على الظن طهارته بمرة أو مرتين.. حكم بطهارته) .
وقال مالك، وداود: (يغسل من الولوغ ـ كما قلنا ـ فأما إذا أدخل عضوًا منه فيه، أو بال فيه، أو وقع فيه شيءٌ من دمه أو روثه.. فلا يجب غسله سبعًا من ذلك) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعًا أولاهنَ(1/429)
بالتراب» فعلق طهارته بالسبع، فمن قال: إنه يطهر بدون ذلك.. فقد خالف مقتضى الخبر.
والاستدلال على داود ومالك: أنه نص على الولوغ، ونبه به على ما سواه.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ، بل في أي السبع جعل التراب.. جاز.
والأفضل أن يجعل التراب فيما قبل السابعة؛ ليرد عليه ما ينظفه.
وقال الحسن، وأحمد: (يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إحداهن بالتراب» . وهذا نصٌ في موضع الخلاف.
وفي قدر التراب وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي ":
أحدهما: ما يقع عليه الاسم.
والثاني: ما يستوعب محل الولوغ.
قال الشاشيُ: فإن أصاب بول الكلب أو دمه ثوبًا، فلم تزل عين البول والدم إلا بمرتين.. فهل يحتسب بهما من السبع، أو يحتاج إلى استئناف السبع بعد زوال العين؟(1/430)
فيه وجهان.
ولا فرق بين أن يصب الماء على التراب، أو يصب التراب على الماء.. فإنه يجزئ؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
وإن خلط التراب بخل، أو بماء ورد، وغسل به.. فهل يصحُ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 6] :
أحدهما: لا يجزئ؛ لأن المقصود هو التراب.
والثاني: لا يجزئ. قال: وهو الأصح؛ لأن الخل وماء الورد ليس بطهورٍ.
وإن كان التراب نجسًا.. فهل يجزئ؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة" [ق \ 6] .
وإن أصاب بول الكلب أرضًا، وجرى الماء عليه سبع مراتٍ.. فهل يحتاج إلى تراب آخر؟
فيه وجهان، حكاهما في" الإبانة " [ق \ 5] . الأصح: لا يحتاج؛ لأن نفس الأرض ترابٌ.
وإن غسل الإناء ثماني مرات بالماء من غير تراب.. فهل يحكم بطهارته؟
فيه وجهان، بناء على الوجهين في أن التراب شرع تعبدًا لا بد منه، أو للتنظيف؟
قال أبو العباس ابن سريج: شرع لتنظيف النجاسة.
فعلى هذا: تقوم الثامنة مقام التراب في التنظيف؛ لأن كل موضع يجوز التطهر بالتراب.. فالماء أجوز.
وقال غيره من أصحابنا: شرع التراب تعبدًا لا بد منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد تقوية الماء بالتراب؛ لتغلظ النجاسة، والتراب مع الماء ينقي ما لا ينقي تكرار الماء.
هكذا ذكر أصحابنا.
وذكر في " المهذب ": إذا غسل بالماء وحده.. فهل يجزئ؟(1/431)
فيه وجهان، وأطلق، ولعله أراد: إذا أقام الثامنة مقام التراب، كما ذكر غيره.
[فرعٌ: وقوع ما نجسه الكلب في قليل الماء]
] : وإن وقع الإناء ـ الذي ولغ فيه الكلب ـ في ماء قليل.. نجس الماء، ولم يطهر الإناء.
وإن وقع الإناء في ماء كثير.. لم ينجس الماء، وهل يطهر الإناء؟
فيه خمسة أوجه:
أحدها: يحكم بطهارته؛ لأنه قد بلغ إلى حالة لو ولغ فيه الكلب.. لم ينجس، فحكم بطهارته. وهذا قول من يقيم الثامنة مقام التراب.
والثاني: يحتسب بذلك مرةً واحدةً، ولا بد من أن يغسل سبع مراتٍ، إحداهن بالتراب؛ لأن الإناء ما لم ينفصل عن الماء.. فهو في حكم الغسلة الواحدة.
والثالث: يحتسب بذلك ست مراتٍ؛ لأن ذلك أبلغ من ورود الماء عليه ست مرات، ولا بد من غسلةٍ سابعةٍ بالتراب. وهذا قول من لا يقيم الثامنة مقام التراب.
والرابع ـ ذكره في " العدة " ـ: إن أصاب الكلب الإناء نفسه.. احتسب بذلك غسلةً. وإن أصاب الكلب الماء الذي في الإناء، ونجس الإناء تبعًا للماء.. احتسب به ـ ها هنا ـ سبعًا؛ لأنه لما نجس الإناء تبعًا لغيره.. حكم بطهارته تبعًا لغيره.
والخامس ـ ذكره في " الفروع " ـ: إن كان الإناء ضيق الرأس.. لم يطهر؛ لأن الماء لا يجول فيه إلا مرةً. وإن كان واسعًا.. طهر؛ لأنه يجول فيه مرارًا.
[فرع: فقد التراب]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان في بحر لا يجد ترابًا، فغسله بما يقوم مقام التراب في التنظيف، من الأشنان، والنخالة، وما أشبه ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه؛ للخبر. ولأنه تطهير نص فيه على التراب، فاختص به، كالتيمم. وفيه احتراز من الاستنجاء، والدباغ.(1/432)
والثاني: يجزئه؛ لأنه تطهير نص فيه على جامد، فلم يختص به، كالاستنجاء والدباغ) . وفيه احتراز من إزالة النجاسة بالماء.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان في حال عدم التراب، فأما مع وجود التراب: فلا يجوز بغيره قولاً واحدا. وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على القولين، إذا كان في البحر حيث يعدم التراب، فعلم أن مع وجوده لا يقوم مقامه غيره قولاً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه على القول الذي يقول: لا يجوز بغير التراب.. شبهه بالتراب ًفي التيمم، وجعل التيمم بالتراب أصلاً له، وعندنا: لا يجوز التيمم بغير التراب، مع وجود التراب، ولا مع عدمه.. فيجب أن يكون الغسل بغير التراب لا يجوز ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ولا مع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه.
وعلى القول الذي قال: يجوز الغسل بغير التراب.. شبهه بالاستنجاء والدباغ، وجعل الأحجار في الاستنجاء، والدباغ في القرظ أصلا له. والاستنجاء يجوز بغير الأحجار، مع وجود الأحجار ومع عدمها. والدباغ يجوز بغير القرظ مع وجود القرظ ومع عدمه.. فيجب أن يجوز غسل الإناء بغير التراب ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ومع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه.
وأما كلام الشافعي ـ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البحر ـ: فلم يذكر البحر على سبيل الشرط، وإنما ذكر الموضع الذي تدعو الحاجة إلى العدول إلى غير التراب؛ لأنه مع وجود التراب.. لا غرض له في العدول عنه.
إذا ثبت هذا: فذكر في " الإبانة " [ق \ 5 و6] :
إذا قلنا: يقوم غير التراب مقامة في الإناء.. ففي الثوب أولى.(1/433)
وإن قلنا: لا يقوم غير التراب مقامه في الإناء.. ففي الثوب وجهان.
والفرق بينهما: أن التراب يفسد الثوب ويقطعه ـ وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال ـ بخلاف الإناء.
[فرع: في ولوغ الكلاب]
] : قال في " حرملة ": (إذا ولغ في الإناء كلابٌ.. أجزأه أن يغسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب) .
ومن أصحابنا من قال: يجب أن يغسل لكل كلبٍ سبع مراتٍ، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بال رجلٌ.. صب عليه ذنوبٌ وإن بال رجلان.. صب عليه ذنوبان) .
والأول أصح؛ لأن البول يحتاج إلى زيادة ماء ليزيله. ولم يرد الشافعي بما ذكره التقدير، وإنما ذكره على حكم الغالب. وليس كذلك ولوغ الكلب الثاني؛ فإنه لا يزيد النجاسة، ولا يؤثر فيها، فجرى الكلب الواحد إذا كرر الولوغ. وإن ولغ الكلب في إناء، ووقعت فيه نجاسةٌ.. أجزأه للجميع غسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب؛ لأن النجاسة تتداخل. ولهذا لو أصابه بولٌ ودمٌ، وغسله مرةً زال الجميع.. أجزأه.
[فرع: غسالة الولوغ]
إذا ولغ الكلب في إناء فغسل، وانفصل الماء عن الإناء، وهو غير متغيرٍ.. فهل يحكم بطهارة الماء؟ فيه ثلاثة أوجهٍ:(1/434)
أحدها: أن جميع الغسلات طاهرةٌ.
والثاني: أن جميعها نجسةٌ.
والثالث: أن السابعة طاهرةٌ، وما قبلها نجسةٌ. وهو الصحيح، وقد مضت دلالة الوجوه.
فإذا قلنا بهذا: فجمعت السابعة إلى الست، ولم يبلغ قلتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ماءٌ انفصل عن الإناء وهو طاهرٌ، فأشبه السابعة.
والثاني: أن الكل نجسٌ. وهو الصحيح؛ لأن السابعة هي الطاهرة، والست نجساتٌ، وهن الغالبات على السابعة، فكان الكل نجسًا.
فأما إذا قلنا: إن الكل نجسٌ.. فلا يفيد الجمع، إذا لم يبلغ الجميع حد الكثرة.
وإن أصاب الثوب شيء من ماء إحدى الغسلات، فإن قلنا: إن الجميع طاهرٌ.. فلا تفريع عليه.
وإن أصابه مما حكم بنجاسته منها.. نجس الثوب. وكم القدر الذي يجب غسل الثوب منه؟ ينظر فيه:
فإن أصابه من السادسة، أو من السابعة إذا قلنا: إنها نجسةٌ.. حكم بطهارته بغسل مرة واحدةٍ، وجهًا واحدًا.
وإن أصابه مما قبلهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكفيه غسل مرةٍ واحدةٍ؛ لأن كل غسلةٍ تزيل سبع النجاسة، فيغسل منها مرةً.
والثاني: إن أصابه من الغسلة الأولى.. لم يطهر ما أصابه منها إلا بغسل ست مراتٍ. وإن أصابه من الثانية.. غسل منها خمس مراتٍ. وإن أصابه من الثالثة.. غسل منها أربع مراتٍ، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء.
فعلى هذا: ينظر: فإن أصاب الثوب من الغسلة التي غسل الإناء فيها بالتراب، أو(1/435)
مما بعدها.. لم يجب أن يغسل الثوب بالتراب. وإن أصابه من غسلة في الإناء قبل التراب.. لم يطهر الثوب إلا بالغسل بالتراب، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء.
[فرع: أكل الكلب الطعام الجامد]
] : إذا أكل الكلب من طعامٍ جامدٍ.. فإنه يزال ما أصاب منه، أو يغسل سبعًا إحداهن بالتراب، وينتفع بالباقي من غير غسل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفأرة تقع في السمن: «إن كان ذائبًا.. فأريقوه، وإن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها» .
[مسألة: حكم الخنزير]
مسألة: [في حكم الخنزير] : حكم الخنزير حكم الكلب، في جميع ما ذكرناه من الغسل.
وقال أبو العباس ابن القاص في " المفتاح ": قال الشافعي في القديم: (يغسل منه مرةً واحدةً) .
وقال سائر أصحابنا: يغسل منه كالكلب، قولاً واحدًا. والذي قاله في القديم مطلقٌ، وأراد به: السبع؛ لأنه حيوانٌ نجسٌ في حياته، فهو كالكلب.(1/436)
[مسألة: بول الغلام الصغير]
] : بول الصبي والصبية اللذين لم يطعما الطعام نجسٌ، كبول الذي يطعم الطعام، خلافًا لداود في بول الصبي، وقد مضى.
إذا ثبت هذا: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب الغسل منهما، ولكنهما مختلفان في كيفية الغسل: فيجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو: أن يبل موضعه بالماء، وإن لم ينزل عنه.
وفي بول الصبية وجهان، ومنهم من يقول: هما قولان:
أحدهما: يجزئ فيه النضح، كبول الغلام.
والثاني: يجب غسله، كسائر الأبوال. وهو المشهور.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجب غسل بول الصبي، كسائر الأبوال) .
دليلنا: ما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بال على ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرشه، فقيل له: ألا تغسل ثوبك؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
"إنما يغسل بول الجارية، ويرش بول الغلام» .
وروي عن علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام» .(1/437)
قال أصحابنا: ولأن الغلام يبلغ بطاهر وهو: المني والجارية تبلغ بنجس ـ وهو: الحيض ـ فاختلفا في تطهير بولهما. وأيضًا: فإن البول يختلف في الإزالة والتطهير: فمنه ما يحتاج في تطهيره إلى ماء كثير، وهو: بول المحرور فإن بوله ثخين أصفر، له رائحة، فلا يزول إلا بماء كثير.
وبول المرطوب: أبيض رقيق، لا رائحة له، يزول بماء قليل.
وإذا كان كذلك.. فقيل: إن بول الجارية أصفر ثخينٌ، وبول الغلام أبيض رقيق، فاختلفا في باب الإزالة.
[مسألة: أنواع النجاسات]
وما سوى ذلك من النجاسات.. ينظر فيها:
فإن كانت ذائبة.. غسل موضعها.
وإن كانت جامدة.. أزيلت، ثم غسل موضعها.
والمستحب: أن يغسل ذلك ثلاث مراتٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا» .
فإذا شرع ذلك في النجاسة التي يشك فيها.. فلأن يشرع في النجاسة المتيقنة أولى.
والواجب من ذلك: مرةٌ واحدةٌ.
وقال أحمد: (يجب في جميع النجاسات سبع مراتٍ) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: «حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء» . ولم يعتبر العدد.(1/438)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام» . ولم يعتبر العدد.
وروي عن ابن عمر: أنه قال: «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة والبول سبع مراتٍ، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يراجع ربه ليلة أسري به، حتى جعلت الصلاة خمسًا، والغسل من الجنابة والبول من الثوب مرةً» .
[فرع: نجاسة الأرض]
فإن أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ وكاثرها بالماء.. أجزأه.
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الأرض رخوة ينزل فيها الماء، وصب عليها الماء.. أجزأه. وإن كانت صلبة.. لم يجزئه إلا حفرها، ونقل التراب) .
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيًا دخل المسجد، فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تحجرت واسعًا". فما لبث أن قام إلى زاوية من المسجد، فبال فيها، فابتدره أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوه"، ثم دعا بذنوب من ماءٍ، فأراقه عليه، وقال: "علموا، ويسروا ولا تعسروا» و (الذنوب) : هو الدلو الكبير، قال الشاعر:
لنا ذنوبٌ ولكم ذنوبُ ... فإن أبيتم فلنا القليب(1/439)
والسجل: مثله، والغرب: دونه، والقليب: البئر.
وفي قدر المكاثرة وجهان:
أحدهما: لا يطهر حتى يصب على النجاسة سبعة أضعافها من الماء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ويصب الماء على البول سبعة أضعافه) .
والثاني ـ وهو المذهب ـ: أن قدر المكاثرة: هو أن يصب على النجاسة ماءٌ يغمرها ويستهلكها، مما يذهب بلونها ورائحتها، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في " الأم " [1/44] . وأما قوله: (يصب الماء على البول سبعة أضعافه) : فليس على سبيل التقدير، بل أراد على حكم الغالب، وأن البول لا يذهب برائحته ولونه إلا هذا القدر.
وإن بال في الأرض اثنان.. ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يجب لبول كل واحد ذنوبٌ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن بال اثنان.. لم يطهره إلا ذنوبان) .
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكفي فيه المكاثرة، على ما ذكرناه؛ لأن ذلك يؤدي إلى التناقض، بأن يطهر البول الكثير من واحد بذنوب، وما دون ذلك من اثنين لا يطهر إلا بذنوبين. وكلام الشافعي محمول على حكم الغالب في العادة، وأن بول الواحد لا يغمره إلا ذنوبٌ، وبول الاثنين لا يغمره إلا ذنوبان.
وإن أصابت الأرض نجاسةٌ مستحسةٌ، كالعذرة، والسرجين، ولحم الميتة، وفي أحدهما رطوبةٌ.. فتطهير الأرض يحصل بأن تزال عنها الأعيان النجسة، ثم يطهر موضعها، إما بأن يقلع التراب الذي بلغت إليه رطوبة النجاسة، أو بأن يغسل على ما ذكرناه في الذائبة.
وإن طين على النجاسة بطينٍ طاهرٍ، أو بترابٍ طاهر، وصلى فوق ذلك.. صح مع الكراهة، كالمقبرة التي لم تنبش.
وإن اختلطت العذرة بالتراب، ولم تتميز.. فإنها لا تطهر بصب الماء عليها؛ لأن أعيان النجاسة لا تطهر بالماء، وإنما تطهر بأن يزال ذلك التراب الذي بلغت إليه رطوبة(1/440)
العذرةِ. أو بأن يطرح عليها ما يغطيها من التراب أو الطين، فإذا صلى فوقها.. كره، وصحت صلاته، كالمقبرة التي لم تنبش.
[فرع: مكاثرة النجاسة بالماء]
] : وإن كانت النجاسة على الأرض، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارتها قبل أن ينشفها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحكم بطهارتها؛ لأن الطهارة تتعلق بالمكاثرة، وقد وجدت.
والثاني: لا يحكم بطهارتها حتى تنشف؛ لأنه لا يتحقق ذهاب النجاسة إلا بذلكٍ. والأول أصحُ. وإن كانت على ثوبٍ، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارته قبل العصر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحكم بطهارته، كالأرض إذا كوثرت.
والثاني: لا يحكم بطهارته حتى يعصر؛ لأن العصر ممكن فيه، بخلاف الأرض. والأول أصح. وإن كانت النجاسة في إناء، فصب عليها ماء غمر النجاسة.. فهل يحكم بطهارته قبل أن يصب ما فيه؟ أو كان في الإناء شيءٌ، وفيه نجاسةٌ.. فهل تجزيء فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه؟ على وجهين:
أحدهما: يحكم بطهارته قبل إراقة ما كاثره به، وتجزئ فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه، كالأرض النجسة إذا كاثرها بالماء.
والثاني: لا يحكم بطهارته قبل الصب والإراقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكلب يلغ في(1/441)
الإناء: «فليهرقه، ثم ليغسله سبع مراتٍ» . ولأنه يمكن إراقة ما في الإناء، فلم يحكم بطهارته قبل ذلك. والأول أصح.
[فرع: التلوث بنجاسة الخمر]
] : وإن كانت النجاسة خمرًا، فغسل ما أصابته، وبقي لونها.. لم يحكم بطهارة ما أصابته؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء عين الخمر.
وإن ذهب لونها، وبقي ريحها.. ففيه قولان ـ قال صاحب " العدة ": وقاس أصحابنا بول المبرسم على الخمر إذا بقي ريحه؛ لأن له رائحةً كريهةً ـ:
أحدهما: لا يحكم بطهارة الموضع؛ لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء شيءٍ من عينها، فهو كما لو بقي اللون.
والثاني: يحكم بطهارته؛ لأن رائحته قد تعبق وإن لم يبق شيء من العين، بخلاف اللون.
فإن بقي ريح غير الخمر.. فسائر أصحابنا قالوا: لا يحكم بطهارة المحل، قولاً واحدًا.
وقال صاحب " الفروع "، و" التلخيص ": هي على قولين، كالخمر.
وإن أصاب الثوب دم الحيض، أو غيره من الدماء.. فالمستحب: أن يحته بعود أو عظم، ثم يقرصه بين إصبعيه، ثم يغسله؛ لما ذكرناه في حديث أسماء.(1/442)
فإن غسله من غير قرصٍ ولا حتً.. أجزأه.
وقال أهل الظاهر: لا يجزئه.
دليلنا: أن المقصود غسله وإزالة عينه، وقد وجد.
فإن غسله، وبقي له أثر لم يزله الماء، ولا يزول إلا بالقطع.. عفي عنه، وكذلك الحكم في كل نجاسة غسلت، وبقي لها أثر لا يزول إلا بالقطع.. فإنه يعفى عنها.
وروي عن ابن عمر: (أنه كان يدعو بالجلم فيقطعه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخولة بنت يسار: «الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» .
وروي: أن معاذة العدوية سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن ذلك؟ فقالت: «اغسليه بالماء، فإن لم يذهب فغيريه بالصفرة، ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيضٍ، ولا أغسل لي ثوبًا» .
وروي: أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: (كنا نغسل الثوب من دم الحيض، فيبقى لونه، فنلطخه بالحناء) .
وإن غمس الثوب النجس في إناء فيه ماءٌ دون القلتين.. نجس الماء، ولم يطهر الثوب فيه.
ومن أصحابنا من قال: إن قصد إلى إزالة النجاسة بذلك.. طهر الثوب.(1/443)
والأول أصح؛ لأنه ماءٌ قليلٌ قد وردت عليه النجاسة، والقصد غير معتبر في إزالة النجاسة، ولهذا يطهر الثوب بغسل المجنون، وبماء المطر.
[فرع: غسل بعض الثوب النجس]
] : حكى الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب " الإفصاح ": أن أبا العباس ابن القاص قال: إذا كان الثوب كله نجسًا، فغسل نصفه، ثم عاد إلى ما بقي، فغسله.. فإنه لا يطهر حتى يغسله كله. قال: لأنه إذا غسل نصفه.. فالجزء الرطب الذي يلاصق الجزء اليابس النجس ينجس به؛ لأنه يلاصق ما هو نجسٌ، ثم الجزء الذي بعده ينجس بملاصقته الجزء الأول، ثم الذي بعده ينجس بملاصقته، حتى تنجس الأجزاء بعضها ببعض إلى آخر الثوب.
وقال الشيخ أبو حامدٍ: غلط أبو العباس، بل يطهر الثوب؛ لأن الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء النجس من الثوب ينجس به؛ لأنه لاقى عين النجاسة. فأما الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء: فإنه لا ينجس به؛ لأنه لاقى ما هو نجسٌ حكمًا لا عينًا، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«إن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها» .
فحكم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بنجاسة الجزء الذي يلاصق الفأرة من السمن، دون سائر الأجزاء، فعلم بهذا: أن الجزء الذي يلاصق عين النجاسة ينجس به، وما لاقى ذلك الجزء لا ينجس. ولو كان الحكم كما ذكر ابن القاصَ.. لوجب أن ينجس السمن كله.
وأما ابن الصباغ: فحكى: أن ابن القاص قال: إذا غسل نصفه في جفنةٍ، ثم عاد إلى ما بقي فغسله.. لم يطهر حتى يغسله كله. وحكى عن أبي العباس العلة التي حكاها عنه الشيخ أبو حامدٍ.
قال ابن الصباغ: والأمر على ما قاله أبو العباس، إلا أنه أخطأ في الدليل، بل الدليل على صحة ما ذهب إليه: أن الثوب إذا وضع نصفه في الجفنة، وصب عليه ماءٌ يغمره.. فلا بد أن يكون هذا الماء ملاقيًا لجزء مما يغسله من الثوب، وذلك الجزء(1/444)
نجسٌ واردٌ على ماءٍ قليلٍ فينجسه، وإذا نجس الماء.. نجس الثوب.
والذي يتبين لي من هذا: أنهما مسألتان:
فإن غسل نصفه في جفنةٍ.. فالأمر على ما قاله ابن الصباغ.
وإن غسل نصفه بصب الماء عليه من غير جفنةٍ.. فكما قال الشيخ أبو حامدٍ.
[مسألة: طهارة المصقول]
] : إذا أصابت النجاسة الأشياء الصقيلة، كالمرآة والسكين، والسيف.. لم تطهر بالمسح، وإنما تطهر بالغسل.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (تطهر بالمسح) .
دليلنا: أنه محلٌ نجسٌ، فلم يطهر بالمسح، كالثوب.
وإن بل خضابًا ببول أو خمرٍ أو دمٍ، وخضب به شعره أو بدنه، فغسله وبقي اللون.. فإن كان الباقي لون النجاسة.. لم يطهر.
وإن كان لون الخضاب.. فيه وجهان، حكاهما الشاشي.
قال: فإذا قلنا: إنه نجسٌ، وكان الخضاب في الشعر.. لم يلزمه حلقه. ويصلي، فإذا ذهب الخضاب.. أعاد الصلاة. وإن كان في بدنه، وكان لا يذهب، كالوشم، وخاف التلف من إزالته.. ففيه وجهان.
وإن سقى سكينًا بماءٍ نجسٍ ثم غسله.. طهر ظاهره. وهل يطهر باطنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يطهر إلا أن يسقيه مرةً ثانيةً بماءٍ طاهرٍ.(1/445)
والثاني: يطهر بغسل ظاهره؛ لأن الماء هو المطهر دون النار.
وإن طبخ لحمًا بماءٍ نجسٍ.. صار ظاهره وباطنه نجسًا. وكيف يطهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يطهر بأن يغليه مرةً أخرى بماءٍ طاهرٍ.
والثاني: يكاثره، ثم يعصره، كالبساط.
وإن ابتلعت بهيمةٌ حباتٍ من طعامٍ، فألقتها.. فقد قال بعض أصحابنا: إن كانت بحيث إذا زرعت نبتت.. غسل ظاهرها. وإن كانت بحيث إذا زرعت لم تنبت.. لم تطهر. قال الشاشي: وهذا فيه نظرٌ بل هو بمنزلة ما طبخ بماءٍ نجسٍ.
[مسألة: النجاسة الذائبة إذا أصابت الأرض]
] : إذا أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ، فطلعت عليها الشمس، وهبت عليها الريح حتى ذهب لونها وأثرها وريحها.. ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (تطهر) . وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأن الأرض مع الشمس والريح يحيلان الشيء عن طبعه، فكان تأثيرها أكثر من تأثير الماء. ولأنها إذا جفت.. لم يبق شيء من النجاسة، أو يبقى الشيء القليل، فعفي عنه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تطهر) . وبه قال مالك، وهو الصحيح؛ لأنه محل نجسٌ، فلا يطهر بالشمس، كالثوب.
وأما إذا ذهب لون النجاسة وريحها بالظل.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا تطهر الأرض، قولاً واحدًا؛ لأنه ليس للظل قوة كقوة الشمس.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن الأرض لا تطهر بالشمس.. فالظل أولى أن لا تطهر به.
وإن قلنا: تطهر بالشمس.. ففي الظل وجهان.(1/446)
[فرع: حكم ضرب اللبن بتراب نجس]
] : إذا ضرب لبن من تراب فيه نجاسةٌ ذائبةٌ، مثل: البول، والخمر.. فإن اللبن نجسٌ. فإن أراد تطهيره قبل الطبخ، فإن كاثر ظاهره بالماء.. طهر ظاهره، ولا يطهر باطنه إلا بأن يفت، ثم يكاثره بالماء، أو يصب عليه من الماء ما يغمره ويتهرى في الماء.
وإن طبخ هذا اللبن، فإذا كاثر ظاهره بالماء.. طهر، فإن خرج البذاء من الجانب الآخر.. طهر باطنه أيضًا.
فإن خلط بطينه نجاسةً مستجسدةً مثل: السرجين، والعذرة، فما دام لبنًا لم يطبخ.. فإنه لا يطهر بالغسل؛ لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل.
فإن طبخ هذا اللبن.. فهل يطهر بذلك من غير غسل؟
المشهور من المذهب: أنه لا يطهر.
وخرج الخضري قولاً آخر: أنه يطهر قبل أن يغسل. وأخذه من أحد قولي الشافعي في الشمس إذا طلعت على الأرض التي أصابتها نجاسةٌ ذائبةٌ، وأذهبت لونها وأثرها وريحها.
فإذا قلنا: لا يطهر بالطبخ، فغسل ظاهر هذا اللبن.. فهل يحكم بطهارة ظاهره؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول القفال، وابن المرزبان، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يطهر؛ لأن النار أحرقت النجاسة، وإنما يبقى أثرها، فإذا مر عليها الماء.. طهرها.(1/447)
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يطهر؛ لأن النار لا تطهر النجاسة عندنا.
فإذا قلنا: إنه طاهرٌ، وكسر موضعٌ منه.. فما ظهر بالكسر نجسٌ، فلا يطهر بالغسل، وتصحُ الصلاة على ما لم يكسر منه، ولكنها مكروهةٌ، كما لو صلى على مقبرة لم تنبش. ويكره أن يبنى به المسجد.
وإن حمله المصلي.. فهل تصح صلاته؟
فيه وجهان، كما لو حمل قارورة فيها نجاسةٌ، وقد سد رأسها بصفرٍ أو نحاسٍ.
[مسألة: حكم الخف الذي تصيبه النجاسة]
] : إذا أصاب أسفل الخف نجاسةٌ، فدلكه على الأرض، فأزال عينها وبقي أثرها، فإن كانت رطبةً.. لم يجز؛ لأنها تزول بالدلك في حال رطوبتها عن محلها إلى غيره من الخف.
وإن أصابت الخف وهي رطبةٌ، فجفت عليه، ثم دلكها عن الخف، فأزال عينها وبقي الأثر.. فإنه لا يحكم بطهارة الخف قولاً واحدًا. وهل يعفي عن ذلك الأثر؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يعفى عنه، وتصحُ صلاتهُ وهو لابسٌ لهُ) .
وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد.. فلينظر نعليه: فإن كان فيهما خبثٌ.. فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما» . ولأنه موضع تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كموضع الاستنجاء.(1/448)
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يعفى عنه) . وهو الصحيح؛ لأنه ملبوسٌ نجسٌ، فلا يطهر إلا بالغسل، كالثوب. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق.
وأما الشيخ أبو حامد، والمحاملي.. فقالا: إذا أصاب أسفل الخفَ نجاسةٌ، فدلكه بالأرض، حتى ذهبت عينها.. فهل تصح الصلاة به؟ فيه قولان:
الصحيح: لا تصحُ. ولم يفصلا.
والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق.(1/449)
[كتاب الصلاة]
الصلاة في اللغة: عبارة عن الدعاء، قال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ؛ أي: ادع لهم.
وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي ... يومًا فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول: عليكِ مثل الذي دعوت.
وأما في الشرع: فقد نقل هذا الاسم إلى أقوال وأفعال مخصوصة، وهي: التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والتشهد، وغير ذلك. فإذا وردت الصلاة في الشرع.. فإنما تنصرف إلى الصلاة الشرعية دون اللغوية.
إذا ثبت هذا: فإن الصلاة واجبة، والأصل - في وجوبها -: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] [البقرة: 110] .
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] [البينة: 5] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] . وغير ذلك من الآيات.(2/7)
وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» . وغير ذلك من الأخبار.
وأجمعت الأمة على وجوب الصلاة.
إذا ثبت هذا: فإن أول ما افترض الله تعالى من الصلاة قيام نصف الليل، أو دونه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] [المزمل: 1 - 4] . ثم نسخ ذلك، وخففه بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: 20] . يريد: صلوا ما تيسر.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (كان بين أول السورة وآخرها سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس) . وقيل نسخ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] . واستقر الفرض على الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
والدليل عليه: ما روي - في حديث المعراج -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فرض الله تعالى على أمتي خمسين صلاة، فلما لقيت موسى بن عمران - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. فقال: ما فعل معك ربك؟ فقلت: فرض على أمتي خمسين صلاة، فقال: ارجع، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته، فنقصني خمسًا - وفي رواية: فوضع شطرها - فما زلت أتردد بين ربي وموسى، حتى جعلها خمس صلوات، فقال موسى: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقلت: أستحيي، فإذا النداء - من عند الله تعالى -: ألا إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت الحسنة بعشر أمثالها، هي خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد» .(2/8)
وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «افترض الله تعالى على عباده خمس صلوات، فمن جاء بهن، فأحسن وضوءهن، وأتم ركوعهن وخضوعهن وخشوعهن ... كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن، وضيّع حقوقهن.. لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» .
وروي: «أن أعرابيًا دخل المسجد، وسأل عن الإسلام؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: " لا، إلا أن تطوع» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تُغْشَ الكبائر» .
[مسألة في شروط وجوب الصلاة]
] : ولا تجب الصلاة إلا على مسلم، بالغ، عاقل، طاهر.
فأما الكافر: فإن كان أصليًا. . فلا خلاف أنه مخاطب بالتوحيد. وهل هو مخاطب بالأعمال الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أكثر أصحابنا: هو مخاطب بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] [المدثر: 42 - 44] .(2/9)
وقَوْله تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6] {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] [فصلت: 6 - 7] .
فعلى هذا: يعاقبون على ترك ذلك في الآخرة، إذا ماتوا على الكفر، ولا خلاف أنهم لا يعاقبون على تركها في الدنيا، ولا يصح منهم فعلها قبل الإسلام.
والوجه الثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أنهم غير مخاطبين بذلك، ولا يأثمون بتركها؛ لأنهم لو كانوا مخاطبين بذلك. . لعوقبوا على تركها في الدنيا، ولصح منهم فعلها، ولوجب عليهم قضاؤها.
ومن الناس من قال: إنهم مخاطبون بالمنهيات، مثل: ترك الزنا، والقتل، وغير مخاطبين بالمأمورات.
وإذا أسلم الكافر. . لم يجب عليه قضاء ما تركه من الصلوات في حال الكفر، سواء قلنا: إنه مخاطب بفعلها، أو غير مخاطب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] .
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» .
ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيرًا عن الإسلام.(2/10)
وإن كان الكافر مرتدًا. . فإنه مخاطب بالصلاة؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، ولا تصح منه في حال الردة؛ لأن الردة تنافي الصلاة، فلم تصح معها.
فإذا أسلم. . وجب عليه قضاء ما تركه في حال الردة.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب) .
دليلنا: أنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم تسقط عنه بالردة، كحقوق الآدميين. وأما الصبي: فلا تجب عليه الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
إلا أنه يجب على الولي: أن يعلمه فرض الطهارة والصلاة؛ ليبلغ وهو يحسن ذلك. ويستحب للولي: أن يأمره بفعل الطهارة والصلاة إذا صار ابن سبع سنين وكان مميزًا، ويضربه على ترك ذلك إذا صار ابن عشر سنين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» . ولا يلزم الصبي ذلك.(2/11)
وقال أحمد: (يلزمه ذلك) . وقال الطبري: وإليه أشار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض كتبه. وليس بشيء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» . فذكر فيه: «عن الصبي حتى يبلغ» .
[فرع زوال العقل بجنون]
] : ومن زال عقله بجنون، أو إغماء. . لم تجب عليه الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعن المجنون حتى يفيق» .
وإن شرب دواء ولم يكن الغالب منه ذهاب العقل، فزال عقله. . لم يجب عليه فرض الصلاة؛ لأنه زال عقله بسبب مباح، فهو كما لو زال بالجنون.
وإن أراد أن يتناول دواء فيه سم. . فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب (الصلاة) : (إن غلب على ظنه، أنه يسلم منه. . جاز له تناوله، وإن غلب على ظنه أنه لا يسلم منه. . لم يجز له تناوله) .
وذكر في (الأطعمة) : (إذا كان الغالب منه السلامة. . هل له تناوله؟ فيه قولان) .
قال الشافعي: (وأقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا، فيعزب عنه الشيء وإن قل، ثم يثوب إليه عقله) .(2/12)
وإذا أفاق المجنون، أو المغمى عليه، أو من زال عقله بمباح. . لم يجب عليهم قضاء ما فاتهم من الصلوات، في حال زوال العقل.
وقال أبو حنيفة: (إذا أغمي عليه أكثر من يوم وليلة، حتى دخلت الصلاة في حد التكرار.. سقط عنه فرض الصلاة. وإن أغمي عليه دون ذلك.. وجب عليه القضاء) .
وفي المجنون: عنه روايتان، المعروف عنه: أنه كمذهبنا.
دليلنا: أن كل معنى أسقط فرض الصلاة إذا دخل في حد التكرار. . أسقطها وإن لم يدخل في حد التكرار، كالجنون.
[فرع زوال العقل بسكر]
] : وإن شرب مسكرًا فزال عقله، أو شرب دواء من غير حاجة فزال عقله. . فإن فرض الخطاب بالصلاة متوجه عليه؛ لأنه مفرط فيما فعل، ولكن لا يصح منه فعل الصلاة؛ لأنه لا يمكنه ذلك؛ فإذا أفاق.. لزمه قضاء ما فاته في حال السكر؛ لأنه غير معذور بزوال عقله.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " [1/60] : (وأقل السكر: أن يغلب عليه؛ فيذهب عنه بعض ما لم يكن يذهب عنه) .
ولا يجب فرض الصلاة على الحائض والنفساء، وقد مضى ذلك في كتاب (الحيض) .
[فرع الجنون في حال الردة والسكر]
] : وإن سكر أو ارتد، ثم جن في حال سكره، أو في حال ردته. . وجب عليه القضاء.
وإن حاضت المرأة في حال الردة.. لم يجب عليها قضاء ما فاتها في حال الحيض.(2/13)
والفرق بينهما: أن سقوط الصلاة عن المجنون للتخفيف، والمرتد والسكران ليسا من أهل التخفيف. وسقوط الصلاة عن الحائض عزيمة، والمرتد من أهل العزائم.
قال في " الإبانة " [ق \ 57] : وكم القدر الذي يجب قضاؤه على المجنون في حال سكره من الصلوات؟ فيه وجهان:
أحدهما: قدر ما يدوم السكر.
والثاني: ما فاته في أيام جنونه.
وأما إذا جن في حال الردة. . فيلزمه إعادة جميع ما فاته في حال الجنون.
[مسألة في إتمام وإعادة ما صُلِّيَ قبل البلوغ]
قال الشافعي: (ولو دخل غلام في الصلاة، فلم يكملها، حتى استكمل خمس عشرة سنة.. أحببت أن يتم ويعيد، ولا يبين لي أن عليه الإعادة) .
واختلف أصحابنا فيها.
فقال أبو إسحاق: يلزمه أن يتم الصلاة؛ لأن صلاته صحيحة، وقد أدركه الوجوب وهو فيها، فلزمه إتمامها، كمن دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، ويستحب له أن يعيد؛ ليكون مؤديًا للصلاة في حال الكمال. وهذا: ظاهر نص الشافعي؛ لأن سقوط الإعادة عنه معلوم بقوله: (ولا يبين لي أن عليه الإعادة) .
وقوله: (أحببت أن يتم ويعيد) الاستحباب: عائد إلى الإعادة، مع وجوب الإتمام.
فعلى هذا: إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره. . لم تلزمه الإعادة، بل يستحب.
قال الشيخ أبو حامد: ورأيت في كتاب " الانتصار " لأبي العباس مثل قول أبي إسحاق.
وحُكِيَ عن أبي العباس: أنه قال: يستحب له الإتمام، وتلزمه الإعادة؛ لأن(2/14)
ما صلى قبل البلوغ نفل، فاستحب له إتمامه. ويلزمه أن يعيد؛ لأنه لا يصح أداء الصلوات الواجبة إلا بعد البلوغ.
فعلى هذا: إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره. . لزمه أن يعيد.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إن بلغ وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصلاة. . لزمه أن يعيد، وإن لم يبق في الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصلاة. . لم يلزمه أن يعيد.
وهذا ليس بشيء؛ لأنه لو لزمته الإعادة إذا بقي من الوقت قدر الصلاة. . لكانت الإعادة لازمة له وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ركعة. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا بلغ الصبي في حال الصلاة، أو بعد الصلاة. . لزمه أن يعيد) . وأصل الخلاف - بيننا وبينه -: يعود إلى أن للصبي صلاة شرعية أم لا؟
فعندنا: له صلاة شرعية.
وعنده: إنما يؤمر بالصلاة؛ ليتمرن على فعلها، وليست بصلاة شرعية.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» .
فلولا أن ما يفعلونه عبادة.. لما أمر بضربهم عليها؛ ولأنها عبادة يرجع إلى شرطها في حال العذر، فجاز أن يعتد بفعلها في حال الصغر، كالطهارة.
[مسألة حكم تارك الصلاة]
مسألة: [حكم ترك الصلاة] : ومن وجبت عليه الصلاة، فلم يصل حتى خرج الوقت. . سئل: لم تركها؟ فإن قال: لأني أعتقد أنها غير واجبة علي. . نظرت:
فإن كان ناشئًا في بلد قاصية من المسلمين، أو أسلم ولم يختلط بالمسلمين. .(2/15)
قيل له: هي واجبة عليك. وإن كان ممن تقدم إسلامه، وهو مخالط للمسلمين. . حكم بكفره؛ لأن وجوبها معلوم من دين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق يوجب العلم الضروري. ويجب قتله لذلك.
وإذا قتل. . كان ماله فيئًا للمسلمين، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ولا يدفن في مقابرهم.
وإن قال لما سئل عنها: نسيتها. . قيل له: اقضها، فإن قال: لا أستطيع. . قيل له: صل كيفما استطعت.
قال صاحب " الفروع ": وهل يتعين فعل القضاء في أول وقت التذكر، حتى يقتل إن أخره عن ذلك الوقت؟ فيه وجهان.
المذهب: أنه لا يتعين، ولا يقتل.
وإن قال: أنا أعتقد وجوبها، ولكني لا أصلي كسلاً وتهاونًا. . فهذا يجب قتله عندنا.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والمزني: (لا يقتل) .
فمنهم من يقول: (يحبس، حتى يصلي) .
ومنهم من يقول: يضرب، وهو اختيار المزني.
ومنهم من قال: لا يتعرض له؛ لأنها أمانة في عنقه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] . فأمر الله تعالى بدفع القتل عنهم بالتوبة، وإقامة الصلاة، فمن قال: إنه إذا تاب وآمن، ولم يصل، سقط عنه القتل. . فقد ترك أحد الشرطين في الكتاب.(2/16)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الصلاة. . فقد برئت منه الذمة» .
وهذا يدل على: إباحة دمه.
وروي: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهيت عن قتل المصلين» فدل على: أنه لم ينه عن قتل غير المصلين.
ولأن الصلاة عبادة محضة، تجب لا بقوله، لا تدخلها النيابة ببدن ولا مال، فوجب: أن يقتل تاركها، كالشهادتين.
فقولنا: (عبادة محضة) احتراز من العدة.
وقولنا: (تجب لا بقوله) احتراز من الصلاة المنذورة.
وقولنا: (لا تدخلها النيابة ببدن) احتراز من الحج.
وقولنا: (ولا مال) احتراز من الزكاة، ومن الصوم؛ لأن الشيخ الهرم إذا عجز. . أفطر وفدى.
إذا ثبت هذا - أنه يقتل -: فمتى يقتل؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:
أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يقتل إذا ضاق الوقت عن الصلاة الرابعة، فيقتل بها لا بما مضى؛ لأنه إذا ترك ثلاث صلوات. . علم تهاونه بها، وإذا ترك دونها. . جاز أن يكون تركها لعذر، أو تأويل.(2/17)
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يقتل إذا ضاق وقت الصلاة الثانية، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن الأولى مختلف في جواز تأخيرها، فإذا ترك الثانية. . علم أنه قد عزم على الترك مداومة.
والثالث: أنه يقتل إذا خرج وقت الأولى.
قال ابن الصباغ: وهذا ظاهر مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومتى وجب قتله. . فهل يجب استتابته ثلاثة أيام، أو في الحال؟ فيه قولان، كالمرتد:
فإذا قلنا: يجب استتابته ثلاثة أيام، فقتله قبل الثلاث. . أثم قاتله، ولا يجب ضمانه، كالمرتد.
وكيف يقتل؟
المنصوص: (أنه تحز رقبته) .
ومن أصحابنا من قال: لا تحز رقبته، بل يضرب بالخشب حتى يصلي، أو يموت.
فإذا قتل. . فإنه يقتل حدًا، كما يقتل الزاني المحصن، فيدفن في مقابر المسلمين، وترثه ورثته من المسلمين.
وقال صاحب " التلخيص ": يسوى عليه التراب بحيث لا يعلم أن هناك قبرًا؛ عقوبة له.
ولا يحكم بكفره في هذا القسم.
وقال أحمد، وإسحاق، وبعض أصحابنا: (يكفر بذلك) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«بين العبد والكفر ترك الصلاة، فمن تركها. . فقد كفر» .(2/18)
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات في اليوم والليلة كتبهن الله تعالى على عباده، فمن فعلهن. . كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن تركهن. لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» .
ولو كان كافرًا. . لم يغفر له؛ لأن الكافر لا يغفر له.
وأما الخبر: فمحمول على أنه يتعلق عليه بعض أحكام الكفر، وهو القتل، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قتال المسلم كفر» . قال الصيمري: ومن كذب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببعض ما جاء به، أو قال: أصلي الفرض قاعدًا مع القدرة على القيام، أو عريانًا مع السترة، أو أصلي بغير وضوء. . كفر بذلك.
وبالله التوفيق.
* * *(2/19)
[باب المواقيت]
. الصلاة مؤقتة، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: 103] . وقَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] [الروم: 17 - 18] .
قال ابن عباس: (والمراد بالتسبيح - هاهنا -: الصلاة، والمراد بقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] : المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] : الصبح، {وَعَشِيًّا} [الروم: 18] : العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] : الظهر) .
وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] .
فـ (الدلوك) : الزوال، و (غسق الليل) : الظلام. فتضمن ذلك: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. و (قرآن الفجر) : يعني الصبح.
[مسألة وقت الصلاة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والوقت للصلاة وقتان: وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة) .
ولا خلاف بين أصحابنا أن (وقت المقام والرفاهية) : هو وقت المقيم المترفه، الذي ليس بممطور؛ لأن (المقام) - بضم الميم -: من الإقامة، و - بفتحها -: هو الموضع الذي يقام فيه.(2/20)
و (الرفاهية) : هي الخفض والدعة.
وأما وقت العذر والضرورة: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: (وقت العذر) : هو وقت المسافرين، والممطورين في الحضر.
وأما (وقت الضرورة) : فهو وقت أهل الضرورات، وهم: الكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والحائض والنفساء إذا طهرتا.
فعلى قول هذا القائل: الوقت ثلاثة أوقات.
وذهب أبو إسحاق، وسائر أصحابنا إلى: أن وقت العذر والضرورة، هو وقت واحد، وهو وقت أهل الضرورات الذين ذكرناهم، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والوقت وقتان) .
[مسألة في وقت الظهر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/62] : (إذا زالت الشمس. . فهو أول وقت الظهر والأذان) . وإنما بدأ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بوقت الظهر؛ لـ: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلاة في يومين متواليين، عند باب البيت، فبدأ بصلاة الظهر» .(2/21)
وقيل: إنها أول ما افترض الله من الصلوات.
والدليل على أن أول وقت الظهر يدخل بالزوال: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن للصلاة أولا وآخرًا، فإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» .
وروي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند باب البيت مرتين: فصلى بي الظهر في المرة الأولى، حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك. وصلى بي الظهر في المرة الثانية، حين صار ظل كل شيء مثله» .
وهو إجماع لا خلاف فيه.
إذا ثبت هذا: فالزوال: هو زوال الشمس من الارتفاع إلى الانخفاض؛ لأن السماء(2/22)
مثل القبة: وسطها عال، وأطرافها نازلة. والشمس تطلع في أطرافها، فيكون ظل الشخص - حين الطلوع - طويلاً إلى قدام الشخص؛ لدنو الشمس من الأرض، فكلما ارتفعت الشمس. . تناقص ظل الشخص، ودار حتى إذا حصلت الشمس في كبد السماء. . تناهى نقصانه، فيعلم - حينئذ - على ظل الشخص بعلامة، فإذا أخذت الشمس في الانحطاط. . زاد الظل، وذلك هو الزوال.
وظل الشخص الذي يكون عند الزوال يختلف باختلاف الأزمان والبلدان:
فأما (الأزمان) : فإنه يكون بالصيف قليلاً، وفي الشتاء أكثر منه؛ لأن الشمس بالصيف تسير في وسط السماء، فإذا حصلت في وسط الفلك. . لم يبق للشخص إلا ظل قليل. وتسير في الشتاء في جانب الفلك في عرض السماء، ولا تبلغ إلى وسطها، فتكون أقرب إلى الأرض، فيطول الظل لذلك قبل الزوال.
وأما (اختلاف ذلك في البلدان) : فكل بلد قرب من المشرق، أو المغرب. . بعد عن وسط الفلك، فيكون ظل الشخص عند الزوال أكثر منه في البلاد التي تحت وسط الفلك.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقيل: إن الشخص قد لا يبقى له عند زوال الشمس في بعض الأوقات ظل) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا إنما يكون بمكة في السنة يومًا واحدًا، وهو أطول يوم في السنة؛ لأنه يقال: إن مكة أوسط الدنيا. وقيل: إن الكعبة سرة الأرض.
إذا تقرر هذا: فإنه لا يجوز افتتاح صلاة الظهر قبل الزوال، وهو قول كافة العلماء.
وروي عن ابن عباس رواية ضعيفة: (أنه يجوز) . وليس بشيء.
فإذا زالت الشمس. . فقد وجبت الصلاة. ويستحب: إقامتها، ولا ينتظر بها حتى يصير الفيء مثل الشراك.
وحكى الساجي: عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه قال: (يستحب ذلك، ولا يجب) . وليس بشيء.(2/23)
ومن الناس من قال: لا يجوز أن تصلي، حتى يصير الفيء مثل الشراك؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر في المرة الأولى، إلا حين صار الفيء مثل الشراك.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وقت الظهر حين تزول الشمس» .
وروي: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نزل، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زالت الشمس: " يا محمد قم فصل الظهر» .
وأما ما روي: «أنه صلى به حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك» : فالمراد به: أنه حين زالت الشمس. . كان الفيء مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار الظل مثل الشراك.
فرع: [في الدلوك] : و (الدلوك) : هو الزوال وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة.
وقال أبو حنيفة: (الدلوك: هو الغروب) . وبه قال علي، وابن مسعود.
دليلنا: ما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فصلى بي الظهر حين دلكت الشمس» وأراد: حين زالت؛ لأنه وقت الظهر.(2/24)
وأما آخر وقت الظهر: فهو إذا صار ظل كل شيء مثله من غير الزيادة، لا من ظل أصل الشخص. وإن لم يكن للشخص ظل وقت الزوال، فمن أصل الشخص. ويدخل وقت العصر، ولا فاصل بينهما.
وقد أوهم المزني: أن بينهما فصلا، حيث قال: ثم لا يزال وقتها قائما حتى يصير ظل الشيء مثله، فإذا جاوز ذلك بأقل زيادة. . فقد دخل وقت العصر.
فيقتضي ظاهر هذا الكلام: أن تلك الزيادة ليست من وقت الظهر، ولا من وقت العصر، غير أن المذهب: ما ذكرناه.
وقد بينه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/63] فقال: (إذا جاوز ذلك بأقل زيادة. . فقد خرج وقت الظهر، وذلك حين ينفصل وقت الظهر من وقت العصر) . ويكون تأويل ما ذكره المزني: أن يعلم بتلك الزيادة دخول وقت العصر. وبهذا قال الأوزاعي والليث والثوري.
وذهب عطاء، وطاوس، ومالك إلى: أنه يدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، ولا يذهب وقت الظهر، بل يمتزج الوقتان إلى غروب الشمس.
وقال ابن جرير الطبري، والمزني، وأبو ثور، وإسحاق: يمتزج الوقتان بقدر أربع ركعات، من حين يصير ظل كل شيء مثله، ثم يصير الوقت بعد ذلك للعصر وحده.
وعن أبي حنيفة ثلاث روايات:
إحداهن: - وعليها يعتمدون - (أن وقت الظهر باق إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه) .
والثانية: (أن وقت الظهر باق إلى أن يصير ظل كل شيء دون مثليه) .
والثالثة: (أن آخره إذا صار ظل كل شيء مثله. ويدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه، وما بينهما يكون فصلا بين الوقتين) .(2/25)
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان كل شيء بقدر ظله وقت العصر بالأمس، ثم التفت، وقال: يا محمد، الوقت ما بين هذين الوقتين» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» . وهذا ينفي أن يكون بينهما فاصل.
[مسألة وقت العصر]
] : وأول وقت العصر: إذا صار ظل كل شيء مثله، غير الظل الذي يكون له وقت الزوال، وزاد أنى زيادة.
وآخر وقتها المختار: إذا صار ظل كل شيء مثليه. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة (أول وقت العصر: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وآخره: إذا اصفرت الشمس) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلى بي جبريل الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي الظهر في المرة الثانية حين كان ظل كل شيء مثله، وقت العصر بالأمس، ثم صلى بي العصر في المرة الثانية حين كان ظل كل شيء مثليه» .
ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله» أي: بدأ بالصلاة.
وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، وقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه» أي: فرغ؛ لأنه جاء ليبين أول الوقت وآخره.(2/26)
فإذا صار ظل كل شيء مثليه. . ذهب وقت العصر المختار، وبقي وقت الجواز فيها إلى غروب الشمس.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه. . ذهب وقت العصر الجائز، وكان ما بعده وقت القضاء.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» .
[مسألة وقت المغرب]
] : وأول وقت المغرب: إذا غابت الشمس، وتم غروبها لما روي في حديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وصلى بي جبريل المغرب في اليوم الأول، حين وجبت الشمس وأفطر الصائم» . و (وجوب الشمس) : سقوطها، ولا يفطر الصائم إلا بعد غروب الشمس، ولا خلاف بين أهل العلم في أول وقت المغرب.
إذا ثبت هذا: فليس لابتدائها إلا وقت واحد، وهو: إذا غابت الشمس، وتطهر، وستر عورته، وأذن، وأقام، ودخل في الصلاة.
فإذا فاته الابتداء في هذا الوقت. . أثم وكان قاضيًا. وبه قال الأوزاعي.(2/27)
وقال مالك: (يمتد وقت المغرب إلى أن يطلع الفجر الثاني) .
وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود:
(يمتد وقت المغرب إلى غيبوبة الشفق) . وحكى ذلك أبو ثور عن الشافعي في القديم، وهو اختيار ابن المنذر، والزبيري من أصحابنا.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يعرف هذا للشافعي.
ودليلنا: ما روي في حديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل المغرب في المرة الثانية لوقتها الأول» .
وقال الشيخ أبو حامد: وعبارة أصحابنا: إن للمغرب وقتًا واحدًا، ولسائر الصلوات وقتين. . خطأ، بل الصلوات كلها لها وقت واحد، وإنما سائر الصلوات يمتد وقتها ويطول، ووقت المغرب قصير غير ممتد.
وإذا دخل في المغرب في وقتها. . فكم القدر الذي يجوز له استدامتها؟
فيه ثلاثة أوجه:
[الأول] : قال أبو إسحاق: له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الأعراف في صلاة المغرب» . ولا يفرغ منها إلا بعد غيبوبة الشفق.
والثاني: يجوز له أن يستديمها قدر ثلاث ركعات، لا طويلات، ولا قصيرات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها ثلاث ركعات.
والثالث: أن له أن يستديمها بمقدار أول الوقت من سائر الصلوات، وذلك ما لا يبلغ نصف وقتها؛ قياسًا على غيرها. هكذا ذكره عامة أصحابنا.
وذكر ابن الصباغ: أن الوجهين الآخرين في وقت ابتدائها أيضًا.(2/28)
فرع: [الحفاظ على اسم المغرب] : روى البخاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، إنها المغرب، وإن العرب تسميها العشاء» .
[مسألة وقت العشاء]
وأول وقت العشاء: إذا غاب الشفق، بلا خلاف بين أهل العلم؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل العشاء حين غاب الشفق» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أول وقت العشاء إذا غاب الشفق» .
واختلف العلماء: أي شفق هو؟
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: أنه الشفق الأحمر. وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، ومن الفقهاء: مالك، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، والمزني: (بل هو الشفق الأبيض) .
وقال أحمد: (إن كان في الصحراء. . فحين يغيب الأحمر، وإن كان في البنيان. . فحين يغيب الأبيض) .(2/29)
دليلنا: ما روي عن جابر: «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواقيت الصلاة؛ فقال: " لو صليت معنا» . . " فذكر الحديث، إلى أن قال: «فصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق» .
ولا يجوز أنه أراد به: الأحمر؛ لأن ذلك لا يجوز بالإجماع، فثبت أنه أراد به: الأبيض.
وروى النعمان بن بشير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة» .
وهذا يكون قبل غيبوبة الشفق الأبيض. ولأنها صلاة تجب بعلم يشاركه غيره في اسمه، فوجبت بأظهرهما، كالصبح.
واختلف قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر وقتها المختار:
فقال في الجديد: (إلى ثلث الليل) . وبه قال عمر بن الخطاب، وأبو هريرة. وعمر بن عبد العزيز؛ لما روي في حديث ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثم صلى بي العشاء في المرة الثانية حين ذهب ثلث الليل» .
وقال في القديم و " الإملاء ": (إلى نصف الليل) .(2/30)
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل» .
فإذا ذهب ثلث الليل، أو نصفه. . ذهب وقتها المختار، وبقي وقت الجواز إلى طلوع الفجر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يفوت وقتها، ويكون ما بعده وقتا للقضاء.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال:
إذا قلنا بالقول الجديد: وأن آخر وقتها إذا ذهب ثلث الليل. . كان ما بعد ذلك قاضيًا؛ لأن الشافعي قال: (فإذا ذهب ثلث الليل. . فلا أراها إلا فائتة) .
والأول أصح؛ لما روى أبو موسى الأشعري: قال: «أعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ابهار الليل» أي: تهور.
وروي عن بعض الصحابة: أنه قال: «بقينا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح» ومعنى قوله: (بقينا) أي: انتظرنا. و (الفلاح) : السحور. والفلاح لا يخاف فوته إلا بطلوع الفجر.
[فرع كراهية تسمية العشاء عتمة]
فرع: [كراهة تسمية العشاء عتمة] : قال في " الأم " [1/64] : (ولا أحب أن تسمى صلاة العشاء بالعتمة؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، هي العشاء،(2/31)
ألا إنهم يعتمون بالإبل» لأنهم كانوا يؤخرون الحلب إلى أن يعتم الليل، ويسمون الحلبة: العتمة) .
ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك) .
[مسألة وقت الفجر]
ويدخل أول وقت الصبح بطلوع (الفجر الثاني) : وهو الفجر الصادق المنتشر عرضًا، وسمي: صادقا؛ لأنه صدقك عن الصبح.
وأما (الفجر الأول) : فهو المستدق المتنفس صعدًا، كذنب السرحان، وهو: الذئب، وسمي: الفجر الكاذب؛ لأنه يضيء، ثم يسود، ويسمى: الخيط الأسود، ولا يتعلق به شيء من الأحكام.
والدليل عليه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفجر فجران: فأما الذي هو كذنب السرحان: فلا يحل الصلاة، ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، وأما المستطير في الأفق: فإنه يحرم الطعام والشراب على الصائم، ويحل الصلاة» .(2/32)
وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم، ولكن الفجر المستطير في الأفق» .
ثم لا يزال الوقت المختار باقيًا إلى أن يسفر؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلى بي جبريل الصبح في اليوم الأول حين طلع الفجر، ثم صلى بي الصبح في اليوم الثاني حين أسفر، ثم قال: فيما بين هذين الوقت» .
ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا أسفر. . ذهب الوقت، وكان قاضيًا فيما بعده.
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» كذا في البخاري.
ويكره أن تسمى صلاة الغداة؛ لأن الله تعالى سماها صلاة الفجر بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] . وسماها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الصبح ".
إذا ثبت هذا: فإن صلاة الصبح من صلاة النهار. وبه قال كافة العلماء.
وقال بعض الناس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ليس من الليل، ولا من النهار.
وقال حذيفة، والأعمش: (الليل من غروب الشمس إلى طلوعها) . فصلاة الصبح عندهما من صلاة الليل، ولا يحرم على الصائم الطعام والشراب، حتى تطلع(2/33)
الشمس، واحتجا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة النهار عجماء» وصلاة الصبح مما يجهر فيها.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] .
ولأن الأمة أجمعت على تحريم الطعام والشراب على الصائم بطلوع الفجر.
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] [هود: 114] . وقال أهل التفسير: أراد الصبح والعصر.
وأما قوله: «صلاة النهار عجماء» : فلا يصح ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو من قول بعض الفقهاء، فإن صح. . فالمراد به: معظم صلاة النهار عجماء، بدليل: أن الجمعة والعيدين من صلاة النهار، ويجهر فيهما.
والدليل على من قال: إن بين الليل والنهار فصلاً. . قَوْله تَعَالَى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] [آل عمران: 27] . فدل على: أنه لا فاصل بينهما.
[مسألة وجود الغيم في السماء]
إذا كان في السماء غيم راعى فرجة الشمس، فإن بان له منها ما يدله على الوقت. . عمل عليه، وإن لم يرها. . استدل على دخول الوقت بمرور ما يعتاده من: قراءة القرآن، أو درس، أو عمل، فإذا غلب على ظنه. . عمل عليه.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما جاز له الصلاة بغلبة الظن؛ لأن السماء لو كانت مصحية، فغلب على ظنه دخول الوقت من غير أن يراعي الشمس. . جاز له أن يصلي، فبأن يجوز له في يوم الغيم أولى.(2/34)
قال: وكان ابن المرزبان من أصحابنا يقول: لا يجوز له أن يصلي، حتى يعرف دخول الوقت بيقين. وهذا خطأ.
فإذا صلى بالاجتهاد، وبان له أنه صلى في الوقت، أو فيما بعده أجزأه. وإن بان له أنه صلى قبل الوقت. . لم يجزئه، سواء علم ذلك بنفسه، أو أخبره غيره عن ذلك عن علم، لا عن اجتهاد، كالحاكم إذا حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص بخلافه.
[فرع الإخبار بالوقت]
] : وأما الأعمى والمحبوس في ظلمة - إذا أخبرهما غيرهما عن الوقت -: فإن أخبرهما عن مشاهدة، وكان مصدقًا. . لزمهما قبول قوله، كما يلزم المجتهد قبول الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن أخبرهما عن اجتهاد، فإن كان لهما طريق إلى الاجتهاد بالوقت: بقراءة أو درس، أو عمل. . لم يجز لهما العمل بقول من يجتهد لهما، كما لا يجوز للحاكم أن يحكم باجتهاد غيره.
وإن لم يكن لهما طريق إلى الاجتهاد بالوقت. . فهل يجوز لهما تقليد من يجتهد لهما؟
فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو ظاهر النص؛ لأن في أمارات الوقت ما يدرك بالنظر، ومنها ما يدرك بالعمل، فإذا تعذر الأمران. . لم يبق غير اجتهاد غيره.
والثاني: لا يجوز لهما؛ لأنهما من أهل الاجتهاد، فهما كالبصر الذي ليس بمحبوس.
[فرع سماع المؤذن]
] : وهل يجوز الرجوع إلى سماع المؤذن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد -: أنه يجوز ذلك للبصير والأعمى؛ لأن المؤذن لا يؤذن في العادة إلا بعد دخول الوقت.(2/35)
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يجوز للأعمى الرجوع إلى قوله، ولا يجوز ذلك للبصير؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خص الأعمى بذلك. ولأنه يجوز أن يكون قد أذن عن اجتهاد، لا عن مشاهدة.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: إن كان في الصحو. . جاز الرجوع إلى قوله للبصير والأعمى؛ لأنه إذا كان ثقة. . فالظاهر: أنه لا يؤذن في الصحو إلا بعد العلم بدخول الوقت من طريق المشاهدة، فيكون ذلك خبرًا.
وإن كان غيم. . جاز للأعمى تقليده إن لم يغلب على ظنه دخول الوقت. ولا يجوز للبصير؛ لأنه يحتمل أن يكون أذن عن اجتهاد، والبصير من أهل الاجتهاد.
قال في " الفروع ": فإن كان منجمًا، فعلم دخول الوقت بالحساب. . فهل يقبل قوله فيه، وفي شهر رمضان؟ فيه وجهان:
المذهب: أنه يعمل عليه بنفسه، وأما غيره: فلا يعمل عليه.
[فرع الصلاة من غير تأكد]
فإن صلى المحبوس في ظلمة، أو الأعمى، أو البصير من غير توخ، فوافقوا الوقت. . أعادوا الصلاة؛ لأنهم صلوا من غير خبر، ولا غلبة ظن.
[مسألة في وجوب الصلاة بأول وقتها]
الصلاة تجب عندنا بأول الوقت، ويستقر الوجوب بإمكان الأداء.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تجب الصلاة بآخر الوقت، وإنما أول الوقت وقت؛ لجواز فعل الصلاة فيه) . وقد اختلفوا في وقت الوجوب:
فذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد إلى: (أنها تجب إذا بقي من آخر الوقت قدر تكبيرة) .
وذهب زفر إلى: أنها تجب إذا بقي مقدار ما يصلى فيه صلاة الوقت.
فأما إذا صلى في أوله: فذهب أكثرهم إلى: أنها تقع مراعاة، فإن بقي إلى آخر الوقت، وهو على صفة تلزمه الصلاة. . تبين بذلك أنها كانت فريضة. وإن خرج عن(2/36)
أن يكون من أهل وجوب الصلاة في آخر الوقت. . تبين أنها كانت نفلاً.
وذهب الكرخي إلى: أنه إذا صلى في أول الوقت. . كانت نفلاً. فإن بقي إلى آخر الوقت، وهو من أهل الوجوب. . منع ذلك النفل وجوب الفرض عليه.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] الآية [الإسراء: 78] . والأمر إذا تجرد. . اقتضى الوجوب، وذلك يتناول أول الوقت.
ولأنها عبادة بدنية، ليس من شرط وجوبها المال، فوجب أن يكون أول وقت جواز فعلها متبوعة وقتًا لوجوبها، كالصوم.
فقولنا: (عبادة بدنية) احتراز من الزكاة؛ لأنه يجوز تقديم فعلها على وقت وجوبها.
وقولنا: (ليس من شرط وجوبها المال) احتراز من الحج.
وقولنا: (متبوعة) احتراز من العصر، إذا فعلها في وقت الظهر، على سبيل الجمع؛ لأنها لا تفعل متبوعة، بل تفعل تابعة للظهر.
[فرع أفضل وقت الصبح]
] : والأفضل: أن يصلي الصبح في (أول وقتها) : وهو إذا تحقق طلوع الفجر. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن الزبير، وأنس، وأبي موسى، وأبي هريرة. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.(2/37)
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أن الإسفار بها أفضل، إلا أن يخشى طلوع الشمس. . فيكره تأخيرها) . وروي ذلك عن ابن مسعود.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] .
ومن المحافظة عليها فعلها في أول وقتها.
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كن نساء من المؤمنات ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس» . وهذا إخبار عن مداومة.
وروى أبو مسعود البدري قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلاها مرة أخرى بعد ما أسفر، ثم لم يصليها بغلس، إلى أن مات، ولم يعد إلى الإسفار» .
[فرع أفضل وقت الظهر]
وأما صلاة الظهر: فإن كانت في غير وقت الحر. . فتقديمها في أول وقتها أفضل.(2/38)
وقال مالك: (الأفضل أن يؤخرها، حتى يصير الفيء قدر ذراع) .
وقال أبو حنيفة: (تعجيلها في الشتاء أفضل، وتأخيرها في الصيف أفضل) . ولا يراعي الإبراد.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة لأول وقتها» .
وإن كان في وقت الحر. . فتأخيرها أفضل بأربع شروط:
إحداهن: أن تكون الصلاة تصلى جماعة في مسجد الجماعات.
الثانية: أن يكون ذلك في شدة الحر.
الثالثة: أن يكون في البلاد الحارة.
الرابعة: أن ينتاب الناس الصلاة من البعد.
قال ابن الصباغ: وله قول آخر في " البويطي ": (إن القريب والبعيد في ذلك سواء) .
ووجهه: أن القريب يلحقه حر المسجد، ويشق عليه ذلك، فيتأذى به، كما يتأذى البعيد.
والدليل على ما ذكرناه: ما روى أبو ذر قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال: " أبرد " ثم أراد أن يؤذن ثانيًا، فقال: " أبرد " مرتين أو(2/39)
ثلاثًا، حتى رأينا فيء التلول، ثم قال: " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر. . فأبردوا بالصلاة» .
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يؤخرها إلى القدر الذي إذا صلاها فيه. . كان بين فراغه منها، وبين آخر الوقت فصل) .
وفي الجمعة وجهان:
أحدهما: يبرد بها، كما يبرد في الظهر، إذا وجدت فيه الشرائط الأربع، كما ذكرناه في الظهر.
والثاني: لا يبرد بها؛ لأن الناس قد ندبوا إلى التبكير لها، ويشق عليهم الانتظار، بل يؤذيهم حر المسجد.
وهل الإبراد بالصلاة عند وجود هذه الشرائط سنة، أو رخصة؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه سنة؛ لأن شدة الحر تذهب الخشوع، فجرى مجرى الذي به حاجة إلى الطعام عند حضور الصلاة. . فإنه يستحب له البداية به.
والثاني: أنه رخصة؛ لأن الشافعي قال في " البويطي ": (أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتأخيرها في الحر توسعة، ورفقًا بالذين ينتابونه) .
والأول أصح؛ لأن أقل أحوال الأمر الندب(2/40)
[فرع أفضل وقت العصر]
وأما العصر: فتعجيلها أفضل. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر.
وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (يؤخرها يسيرًا) . كما قال في الظهر.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل، ما دامت الشمس بيضاء نقية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة في أول وقتها» .
وروي عن أنس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس بيضاء نقية، ثم يذهب إلى العوالي، فيأتيها والشمس مرتفعة» . وبين العوالي والمدينة ستة أميال.
[فرع أفضل وقت المغرب]
وأما المغرب: فتقديمها في أول وقتها أفضل. وبه قال أهل العلم كافة.
وقالت الروافض: تأخيرها إلى اشتباك النجوم أفضل.
ودليلنا: ما روى جابر قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة المغرب، ثم نخرج فنتناضل، حتى نبلغ دور بني سلمة، ونبصر مواقع النبل من الإسفار» .(2/41)
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بادروا بصلاة المغرب طلوع النجم» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صلوا هذه الصلاة - يعني: المغرب - والفجاج مسفرة) . (مسفرة) يعني: مضيئة.
[فرع أفضل وقت العشاء]
] : وأما العشاء الآخرة: ففيها قولان:
[الأول] : قال في القديم، و " الإملاء ": (تقديمها في أول وقتها أفضل) .
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة لأول وقتها» .
وروي عن النعمان بن بشير: أنه قال: أنه قال: «أنا أعلمكم بوقت هذه الصلاة، صلاة العشاء الآخرة: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها، لسقوط القمر لثالثة» .(2/42)
وهذا إخبار عن دوام فعله.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تأخيرها أفضل) - وبه قال أبو حنيفة - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي. . لأمرتهم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل» .
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الوقت الذي إذا صلى فيه. . صار مدركًا لفضيلة أول الوقت:
فمنهم من قال: هو أن يفتتحها عقيب دخول الوقت، من غير فصل.
فعلى هذا: المتيمم لا يمكنه أن يحوز فضيلة أول الوقت؛ لأنه لا يتيمم إلا بعد دخول أول الوقت، ويشتغل بعد الدخول بالطلب.
ومنهم من قال: إذا أداها في النصف الأول من الوقت. . فقد حاز فضيلة أول الوقت. وهذا هو المشهور؛ لأن النصف الأول من جملة الأول، والنصف الثاني من جملة الآخر. ولأن اجتماع الجماعة لا يحصل إلا بذلك.
[فرع تأخير الصلاة للغيم]
] : وإن كان في يوم غيم. . فالمستحب: أن يؤخر الصلاة، إلا أن يخشى إن أخرها عن ذلك، خرج وقت الصلاة.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال - في الغيم -: (يؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء) .
وقال ابن مسعود: (يعجل الظهر والعصر، ويؤخر المغرب) .(2/43)
وقال أبو حنيفة: (يؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء، وينور بالفجر) .
دليلنا: أن فيما ذكرناه احتياطًا للصلاة، وفيما ذكروه من التعجيل تغرير بالصلاة.
[فرع تأخير الصلاة]
ويجوز تأخير الصلاة عن أول وقتها؛ لـ: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات في المرة الثانية في آخر وقتها» . فدل على جواز التأخير.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والرضوان: إنما يكون للمحسنين، والعفو: يشبه أن يكون للمقصرين) . فسماه مقصرًا.
قال أصحابنا: وله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد أنه مقصر بإضافته إلى من صلى في أول الوقت وإن لم يكن(2/44)
مقصرًا في نفسه، كما أن من تنفل بعشر ركعات مقصر عند من تنفل بعشرين ركعة.
والثاني: أنه أراد أنه مقصر في تأخير الصلاة عن أول الوقت؛ لأن الله تعالى وسع عليه في ذلك، ولا يأثم به.
فإن صلى ركعة في الوقت، ثم خرج الوقت. . ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروجه، كما لو صلى جميع الصلاة بعد الوقت.
والثاني: أنه يكون مؤديًا للجميع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» .
[مسألة الصلاة الوسطى]
قال الله سبحانه وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: 238] .
واختلف العلماء في الصلاة الوسطى التي خصها الله تعالى بالذكر:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: أنها الصبح. وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر.
ورواه مالك، عن علي كرم الله وجهه.(2/45)
وقالت عائشة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد. وعبد الله بن شداد: (هي صلاة الظهر) . وحكي ذلك عن أبي حنيفة.
وقال أبو هريرة، وأبو أيوب، وأبو سعيد الخدري: (إنها العصر) . وهي الرواية الثانية عن علي. وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة.
وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: 238] .
قال الشافعي: (وسياق الآية يدل على أنها الصبح، لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] . فذكر القنوت فيها، ولا قنوت إلا في الصبح) .
وروي عن ابن عباس: أنه صلى الصبح، وقنت فيها، وقال: (هذه هي الصلاة التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين) .(2/46)
وروي «عن أبي يونس - مولى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه قال: (أمرتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] فآذني. فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر، والصلاة الوسطى، ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ولأن صلاة الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم، فخصت بالذكر، حتى لا يتغافل عنها.
[مسألة وقت أهل العذر والضرورة]
قد مضى الكلام على وقت المقام والرفاهية، والكلام هاهنا في وقت أهل العذر والضرورة، وهم: الصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والحائض والنفساء إذا طهرتا. سموا بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا معذورين عن الفرض، مضطرين إلى تركه. وفي معناهم: الكافر إذا أسلم، وإنما جعلناه من المعذورين؛ لأن بإسلامه سقطت عنه المؤاخذة بما تركه في حال الكفر.
فإذا زالت أعذارهم، أو عذر واحد منهم، وقد بقي من الوقت قدر ركعة. . لزمه فرض الوقت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» .
وإن أدرك من الوقت دون الركعة. . ففيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه - وهو قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واختيار أبي إسحاق المروزي - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح» . فدل على: أنه لا يكون مدركًا بما دونها.(2/47)
والثاني: يلزمه - وهو قول أبي حنيفة، واختيار القاضي أبي حامد - لأن الإدراك إذا تعلق به الإيجاب. . استوى فيه الركعة وما دونها، كما لو أتم المسافر خلف المقيم بجزء من الصلاة.
وأما الصلاة التي قبلها: فننظر فيها:
فإن كان ذلك في وقت الصبح، أو الظهر، أو المغرب. . لم يلزمه ما قبلها؛ لأن ذلك ليس بوقت لها بحال.
وإن كان ذلك في وقت العصر، أو العشاء. . ففيه ستة أقوال:
أحدها: يلزمه الظهر، إذا أدرك من وقت العصر قدر تكبيرة. ويلزمه المغرب، إذا أدرك من وقت العشاء قدر تكبيرة.
والثاني: لا تلزمه الصلاة الأولى، إلا إذا أدرك من وقت الصلاة الثانية قدر ركعة، وهو الأصح؛ لأنه لما كان وقت العصر وقتًا للظهر، ووقت العشاء وقتًا للمغرب في حق المسافر. . وجب أن يكون ذلك وقتًا لها في حق هؤلاء؛ لأنهم معذورون كالمسافر.
والثالث: لا تلزمه الصلاة الأولى، إلا إذا أدرك من وقت الثانية قدر ركعة وطهارة؛ لأنه لما اعتبر إدراك ركعة. . اعتبر قدر الطهارة؛ لأن الركعة لا تصح إلا بها.
والرابع: أن الظهر لا يلزمه، إلا إذا أدرك من وقت العصر قدر خمس ركعات؛ لأنه لما اعتبر الوقت للصلاتين. . اعتبر وقتًا يفرغ من إحداهما، ويشرع في الأخرى.
وهل يعتبر مع الخمس قدر الطهارة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ".
فإذا قلنا بهذا. . فهل الأربع منها للعصر، أو للظهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الأربع منها للعصر، والخامسة للظهر.
فعلى هذا: لا يلزمه المغرب مع العشاء، إلا إذا أدرك من وقت العشاء قدر خمس ركعات: أربع للعشاء، وركعة للمغرب.(2/48)
والثاني: أن الأربع للظهر، والخامسة للعصر، وهو الأصح؛ لأن العصر يلزمه بقدر ركعة، قولاً واحدًا، فدل على: أن الأربع للظهر.
فعلى هذا: يلزمه المغرب إذا أدرك من وقت العشاء قدر أربع ركعات.
والخامس - خرجه أبو إسحاق -: أن الظهر يلزمه إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات وتكبيرة. ويلزمه المغرب مع العشاء، إذا أدرك من وقت العشاء قدر ثلاث ركعات وتكبيرة؛ لأن الشافعي قال في الجديد: (يلزمه العصر بقدر تكبيرة، فتكون الأربع للظهر) .
والسادس - ذكره في " الإفصاح " -: يلزمه الظهر إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات. ويلزمه المغرب إذا أدرك من وقت العشاء قدر أربع ركعات؛ لأنه إذا أدرك من الوقت قدر صلاة الوقت. . لزمته الأولى تبعًا للثانية.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الأولى بإدراك وقت الثانية) .
دليلنا: ما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبا على الحائض تطهر قبل الفجر بركعة المغرب والعشاء) . ولا مخالف لهما.
ولأنه لما كان وقت الثانية وقتًا للأولى في حق المسافر. . كان وقتًا لهما في حق هؤلاء.
[مسألة فيمن طرأ عليه مانع بعد الوقت]
] : وإن كان مفيقًا في أول الوقت، ثم طرأ عليه الجنون أو الإغماء، إلى أن خرج الوقت، أو كانت طاهرًا في أول الوقت، ثم طرأ عليها الحيض أو النفاس. . نظرت:
فإن لم تدرك من الوقت ما تتمكن فيه من فعل جميع الصلاة. . لم يلزمها قضاؤها.(2/49)
وقال أبو يحيى البلخي من أصحابنا: إذا أدرك من أول الوقت قدر ركعة أو تكبيرة في أحد القولين. . لزمه قضاؤها، كما إذا أدرك ذلك من آخر الوقت.
وهذا خطأ؛ لأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الفرض، فلم يجب عليه، كما لو ملك نصابًا من المال، فهلك بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.
وإن طرأ عليه العذر بعد أن أدرك ما يتمكن فيه من فعل الفرض. . وجب عليه القضاء عند زوال العذر.
وقال مالك: (لا يجب عليه، حتى يدرك آخر الوقت من غير عذر) . وبه قال أبو العباس ابن سريج.
وهذا خطأ؛ لأنه قد أدرك ما يتمكن فيه من فعل الفرض، فلم يسقط، كما لو هلك النصاب بعد الحول، وبعد إمكان الأداء.
وأما الصلاة التي بعدها: فلا تلزمه.
وحكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأبو علي في " الإفصاح ": أن أبا يحيى البلخي قال: إذا أدرك من وقت الظهر قدر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر. . لزمه الظهر والعصر، كما إذا أدرك ذلك من وقت العصر. . لزمه الظهر.
وهذا خطأ؛ لأن وقت الظهر إنما يكون وقتًا للعصر، على سبيل التبع لفعل الظهر؛ ولهذا يشترط تقديمها، بخلاف وقت العصر، فإنه وقت للظهر لا على سبيل التبع لها؛ ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما.
[مسألة قضاء الصلاة]
] : ومن وجبت عليه الصلاة، فلم يصلها، حتى خرج وقتها. . وجب عليه قضاؤها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها. . فليصلها إذا ذكرها» .(2/50)
فإذا وجب القضاء على النائم والناسي. . فلأن يجب على من تركها عامدًا أولى.
ولا يجب عليه القضاء على الفور.
وقال أبو إسحاق: إن تركها بغير عذر. . وجب عليه القضاء على الفور.
والأول أصح؛ لأن وقتها قد فات، فصار الزمان كله في حقها واحدًا.
وإن فاتته صلوات. . فالمستحب: أن يقضيهن على الترتيب؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك أربع صلوات يوم الخندق، حتى خرج وقتها. . فقضاها على الترتيب» .
وكان ذلك جائزًا في أول الإسلام، ثم نسخ، وأمر أن يصلي كيف أمكنه.
فإن قضاهن من غير ترتيب. . جاز؛ لأن الترتيب استحق للوقت، وقد فات الوقت، فسقط الترتيب.
وإن ذكر الفائتة في وقت صلاة حاضرة، فإن كان قد ضاق وقت الحاضرة. . لزمه أن يبدأ بالحاضرة، ثم يصلي الفائتة. وإن كان وقت الحاضرة واسعًا. . فالمستحب: أن يبدأ بالفائتة، ثم بالحاضرة. وإن بدأ بالحاضرة قبل الفائتة. . صح.
وذهب النخعي، والزهري، وربيعة إلى: أن من نسي صلاة فذكرها، وقد دخل وقت غيرها، وأحرم بالحاضرة. . فإن صلاته تبطل، فيصلي الفائتة، ثم يصلي الحاضرة.
وذهب مالك، والليث إلى: أنه إن نسي صلاة، حتى دخل وقت صلاة أخرى، فإن ذكر ذلك، وقد أحرم بالحاضرة. . فيستحب له أن يتم التي هو فيها، ثم يقضي(2/51)
الفائتة، ثم يجب عليه: أن يصلي الحاضرة، إلا أن تكون الفوائت ستًا، فيسقط الترتيب.
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أنه إن نسي صلاة، حتى دخل وقت صلاة أخرى، ثم ذكرها، فإن ذكرها بعد فراغه من الحاضرة. . أجزأته، ويقضي الفائتة، سواء كان الوقت واسعًا، أو ضيقًا. وإن ذكرها وقد أحرم بصلاة وقته، فإن كان الوقت واسعًا. . بطلت، فيصلي الفائتة، ثم يصلي الحاضرة، وإن كان الوقت ضيقًا. . مضى عليها، ولم تبطل، ثم يقضي الفائتة. وإن كن الفوائت ستًا. . سقط الترتيب.
وفي الخمس روايتان: إحداهما: أنهن كالست. والثانية: أنهن كالأربع.
وذهب أحمد، وإسحاق إلى: أنه إن ذكر الفائتة وهو مع الإمام في الحاضرة. . مضى فيها واجبًا، ثم قضى الفائتة، ثم أعاد الحاضرة.
وقال أحمد: (إذا ترك الرجل صلاة في شبابه إلى أن شاخ. . فعليه أن يقضي الفائتة، ثم يعيد كل صلاة صلاها قبل قضائها) .
ودليلنا: ما روى الدارقطني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة. . فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ منها. . صلى التي نسي» .
[فرع نسيان صلاة غير معينة]
] : وإن نسي صلاة من خمس صلوات، ولا يعرف عينها. . لزمه أن يصلي خمس صلوات.
وقال المزني: يجوز أن ينوي الفائتة، ويصلي أربع ركعات، فيجلس في ركعتين، ويجلس في الثالثة، ويجلس في الرابعة، ويسجد للسهو، ويسلم؛ لجواز أن يكون قد زاد في صلاته.(2/52)
وهذا خطأ؛ لأن تعيين الصلاة واجب وذلك لا يحصل إلا بخمس صلوات.
وإن كان عليه فوائت لا يعرف عددها، ولكن يعرف مدتها. . ففيه وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما - وهو قول القفال -: أن يقال له: كم تحقق أنك تركت من الصلوات؟ فإن قال: عشرًا، قلنا: اقضها دون ما زاد.
والثاني - وهو قول القاضي حسين -: أن يقال له: كم تتحقق أنك صليت في هذه المدة؟ .
فإن قال: عشرًا. . أمرناه بقضاء ما زاد؛ لأن الأصل اشتغال ذمته بالصلاة، فلا يسقط عنه إلا ما يتحقق أداؤه.
وبالله التوفيق.
* * *(2/53)
[باب الأذان]
الأذان: إعلام بدخول وقت الصلاة، يقال: أذن يؤذن تأذينًا وأذانًا، أي: أعلم الناس. قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] . أي: إعلام. وإنما قيل: أذن - بالتشديد - مبالغة وتكثيرًا.
وإنما سمي الإعلام بوقت الصلاة أذانًا، اشتقاقًا من الأذن؛ لأنها بها يسمع الأذان. هكذا قاله الزجاج.
والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية [الجمعة: 9] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] [المائدة: 58] .
وأما السنة: فما «روى أبو عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قال: اهتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فاستشار المسلمين في ذلك، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس آذن بعضهم بعضًا. . فلم يعجبه ذلك؛ فذكروا له البوق، فقال: " هو مزمار اليهود "، وذكروا له الناقوس، فقال: " هو مزمار النصارى "، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لاهتمام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأري الأذان في منامه، فغدا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، وقال: يا رسول الله، إني لبين النائم واليقظان، إذ أتاني آت، فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فقال: " ما منعك أن تخبرنا " فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قم يا بلال،(2/54)
فانظر ماذا يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله ". قال: فأذن بلال.
قال أبو عمير عن عمومته: وإنما لم يأمر عبد الله بن زيد أن يؤذن؛ لأنه كان يومئذ مريضًا» .
وأجمعت الأمة: على أنه مشروع للصلاة.
إذا ثبت هذا: فالأذان مستحب؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن اثني عشرة سنة. . وجبت له الجنة، وكتب له بكل أذان ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة» .
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن سبع سنين محتسبًا. . كتب له براءة من النار» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» .
ولهذا الخبر خمس تأويلات:
[إحداهن] : قيل: أطول الناس رجاء؛ لأنه يقال: طال عنقي إلى وعدك، أي: إلى رجائك.(2/55)
و [الثانية] : قيل: إن المؤذنين أكثر الناس أتباعًا يوم القيامة؛ لأنه يتبعهم كل من صلى بأذانهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي: جماعة.
و [الثالثة] : قيل: إن أعناقهم تطول، حتى لا ينالهم العرق يوم القيامة؛ لأنه روي: «أن العرق يلجم الناس يوم القيامة» .
و [الرابعة] : قيل: أطول الناس أصواتًا، وعبر بالعنق عن الصوت؛ لأنه منه يخرج.
و [الخامسة] : قيل: إعناقًا - بكسر الهمزة - أي: أشد الناس إسراعًا في السير.
إذا ثبت هذا: فهل هو أفضل، أو الإمامة في الصلاة؟ فيه أربعة أوجه:
أحدها - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن الأذان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤذنون أمناء، والأئمة ضمناء، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين» .
والأمين أحسن حالاً من الضمين. ولأنه دعا للأئمة بالرشد، وللمؤذنين بالمغفرة، والغفران أفضل من الرشد.
ومعنى قوله: (أمناء) أي: على المواقيت، فلا يؤذنون قبل دخول الوقت.
وقيل: لأنهم يشرفون على موضع عال، فيكونون أمناء على الحرم.
وقيل: أمناء في تبرعهم بالقيام بالأذان وليس بفرض.
فأما الأئمة: فإنهم (ضمناء) إذا قاموا بفرض الصلاة، فيسقط فرض الكفاية عن سائر الناس.(2/56)
وقيل: إنهم ضمناء، أي: أنهم يتحملون سهو المأمومين إن وقع عليهم، ويتحملون القيام والقراءة، إذا أدركهم المأمومون في الركوع.
قال أبو إسحاق المروزي: الإمامة مكروهة.
والوجه الثاني: أن الإمامة أفضل. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا أئمة، ولم يكونوا مؤذنين.
والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنهما سواء.
والرابع - وهو اختيار أبي علي الطبري، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 60] : إن كان الإمام يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، وما ينوب فيها. . فالإمامة أفضل. وإن كان يعلم أنه لا يقوم بذلك. . فالأذان أفضل؛ لأنه أقل خطرًا.
قال الجويني: ويكون المؤذن غير الإمام؛ لنهي ورد فيه، إن صح.
[مسألة حكم الأذان والإقامة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب لأحد أن يصلي في جماعة، ولا وحده، إلا بأذان وإقامة، فإن لم يفعل. . أجزأه) .
وجملة ذلك: أن الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان، فإن تركهما. . كان تاركًا لسنة، وصلاته صحيحة. وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه.
وقال أبو سعيد الإصطخري: الأذان فرض من فرائض الكفايات، فإذا كان الرجل. . سقط بذلك الفرض عمن يبلغه الصوت وينتشر إليه، ولا يسقط ذلك عمن لم يظهر ذلك فيه.
فإن كانت قرية صغيرة، أو رفقة في سفر، فأذن واحد منهم. . سقط الفرض عن جميعهم.(2/57)
وإن كان بلد كبير. . فلا بد أن يؤذن في كل ناحية؛ لينتشر الأذان في جميعهم.
فعلى هذا: إن أجمع أهل بلد على تركه. . قوتلوا. وهذا قول أحمد.
وقال ابن خيران: هو سنة في الصلوات، إلا في صلاة الجمعة، فإنه من فرائض الكفايات فيها؛ لأنها لما اختصت بوجوب الجماعة فيها. . اختصت بوجوب الدعاء إليها.
وقال الأوزاعي: (الأذان ليس بواجب. والإقامة واجبة، فإن تركها، فإن كان الوقت باقيًا. . أعاد الصلاة، وإن خرج الوقت. . لم يعدها) .
وقال أهل الظاهر: (الأذان والإقامة واجبان لكل صلاة) .
فمنهم من قال: هما شرط في صحة الصلاة. ومنهم من قال: ليسا بشرط.
وقال مالك: (هو واجب في مساجد الجماعات) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء صلاته: «إذا أدركت الصلاة. . فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة، وكبر» . ولم يأمره بالأذان والإقامة.
فإذا قلنا: إنه سنة، فاتفق أهل بلد على تركه. . فهل يقاتلون على تركه؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 59] :
أحدهما: أنهم يقاتلون؛ لأنه من شعائر الإسلام، فلا يجوز تعطيله.
والثاني: لا يقاتلون؛ لأنه سنة، فلا يقاتلون عليه، كسائر السنن.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/72] : (فلا أحب ترك الأذان والإقامة في سفر، ولا حضر، ولا منفرد، ولا في جماعة، وأنا له في المساجد العظام أشد استحبابًا، وهو في السفر أخف حالاً منه في الحضر) .
وقال في القديم: (وأما الرجل يصلي وحده في المصر. . فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له) .
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.(2/58)
[فرع فيما لا يشرع له الأذان والإقامة]
] : والأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس، فأما صلاة الجنازة، والعيدين، والخسوف، والاستسقاء، والتراويح. . فليس ذلك بسنة فيها.
وحكي عن معاوية، وعمر بن عبد العزيز: (أنهما أمرا بالأذان لصلاة العيد) .
دليلنا: ما روى جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عيد. . فلم يؤذن، ولم يقم» .
إلا أن السنة في صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء، والتراويح، أن يقال لها: الصلاة جامعة.
فأما صلاة الجنازة: فليس ذلك سنة فيها؛ لأنها ليست من النوافل، فليس لها: الصلاة جامعة. ولا من فرائض الأعيان، فيسن لها الأذان.
[فرع الأذان والإقامة للفوائت]
] : وإن كان عليه فوائت، فأراد قضاءها في وقت واحد. . فلا خلاف على المذهب: أنه يسن له أن يقيم لكل صلاة منهن. ولا خلاف على المذهب: أنه لا يسن له أن يؤذن لغير الأولى. وهل يسن له أن يؤذن للأولى؟ فيه ثلاثة أقوال:(2/59)
[الأول] : قال في الجديد: (لا يسن له أن يؤذن لها) . وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى أبو سعيد الخدري، قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل. . فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا، فأمره، فأقام صلاة الظهر فصلاها، ثم أقام العصر فصلاها، ثم أقام المغرب فصلاها، ثم أقام العشاء فصلاها» .
و [الثاني] : قال في القديم: (يؤذن لها) . وبه قال أحمد، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر؛ لما روى عمران بن الحصين قال: «سرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، أو قال: في سرية، فلما كان من آخر الليل. . عرسنا، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فأمرنا فارتحلنا، ثم سرنا، حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمر بلالا فأقام، ثم صلى الغداة» .
وروى ابن مسعود: «أن المشركين شغلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن، وأقام للظهر، ثم أقام للتي بعدها» .
و [الثالث] : قال في " الإملاء ": (إن رجا اجتماع الناس. . أذن، وإن لم يرج اجتماعهم. . لم يؤذن) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤذن للعصر بعرفات، ولا للعشاء بمزدلفة» ؛ لاجتماع الناس هنالك.
قال أبو إسحاق: ولا فرق على هذا القول بين الفائتة، والحاضرة في وقتها، إذا صلى في موضع يرجو اجتماع الناس لها. . أذن وأقام، وإن لم يرج اجتماعًا. . أقام،(2/60)
ولم يؤذن. فكان عنده: هل يسن الأذان للصلاة الحاضرة، إذا لم يرج اجتماع الناس لها؟ قولان.
قال ابن الصباغ: ولعل هذا لا يصح عنه.
وقال أبو حنيفة: (إذا فاتته صلوات. . أذن وأقام لكل واحد منهن) .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بالأذان لغير الأولى.
[فرع الأذان والإقامة لمريد الجمع]
] : وإن جمع بين الصلاتين في السفر، أو في المطر، فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما. . أذن وأقام للأولى؛ لأنها مؤداة في وقتها، ويقيم للثانية من غير أذان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك بعرفة.
وإن جمع بينهما في وقت الثانية. . فإنه يقيم لكل واحدة منهما.
وهل يسن له الأذان للأولى؟ على الأقوال الثلاثة.
وأما الثانية: فلا يسن لها الأذان، قولاً واحدًا.
وقال أبو حنيفة: (لا يؤذن، ولا يقيم للعشاء بمزدلفة) .
دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد، وإقامتين» . ولأن الأولى قد فات وقتها.
وأما الثانية: وإن كان يصليها في وقتها، إلا أنها تابعة للأولى، بدليل: أنه يستحب له أن يقدم الأولى قبل الثانية.
[مسألة الأذان قبل الوقت]
] : ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول وقتها؛ لأنه يراد للإعلام بدخول الوقت، فلا معنى له قبل دخول وقت الصلاة.(2/61)
وأما الصبح: فيجوز أن يؤذن لها قبل دخول وقتها. وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأهل الشام.
وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يجوز الأذان لها قبل دخول وقتها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا يؤذن بليل. . فكلوا واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم» .
فإن كان للمسجد مؤذنان. . فالمستحب: أن يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والثاني بعد طلوعه؛ لأن بلالا كان يؤذن قبل طلوع الفجر، وابن أم مكتوم كان يؤذن بعد طلوعه.
وذكر بعض أصحابنا: إن كان في بلد قد جرت عادتهم بالأذان لها بعد طلوع الفجر. . لم يسع أحدًا أن يؤذن لها في ذلك البلد قبل طلوع الفجر؛ لئلا يغرهم بأذانه.
وفي أول وقت أذان الصبح خمسة أوجه:
أحدها - وهو المشهور - أنه بعد نصف الليل، كالدفع من المزدلفة.
والثاني: إن كان في الشتاء. . فلسبع يبقى من الليل، وإن كان في الصيف. . فلنصف سبع يبقى من الليل. قال الجويني: وذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثالث - ذكره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 60]-: قبيل الصبح لوقت السحر.(2/62)
والرابع - حكاه في " العدة " -: أن الليل كله وقت لأذان الصبح.
وهذا ضعيف جدًا.
والخامس - ذكره في " الفروع " -: أن ذلك يبنى على آخر وقت العشاء المختار:
فإن قلنا: إنه إلى ثلث الليل. . أذن للصبح، إذا ذهب ثلث الليل.
وإن قلنا: إنه إلى نصف الليل. . أذن، إذا ذهب نصف الليل.
وأما الإقامة: فإنه لا يعتد بها قبل دخول الوقت؛ لأنها تراد لاستفتاح الصلاة، ولا يجوز استفتاحها قبل دخول الوقت.
[مسألة كلمات الأذان]
] : والأذان تسع عشرة كلمة في غير الصبح، وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله - يخفض صوته بهؤلاء الأربع الكلمات من الشهادة - ثم يرجع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقال مالك: (الأذان سبع عشرة كلمة) . وأسقط من التكبير في أول الأذان تكبيرتين.
وقال أبو حنيفة: (الأذان خمس عشرة كلمة) . فأسقط (الترجيع) : وهو الأربع الكلمات، التي يخفض بها صوته.
وقال أبو يوسف: الأذان ثلاث عشرة كلمة. فأسقط تكبيرتين في أول الأذان، كمالك، وأسقط الترجيع.
دليلنا: ما روى أبو داود، «عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني(2/63)
سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي، وقال: " قل: الله أكبر، الله أكبر» وذكر ما قلناه.
فإن ترك الترجيع في أذانه. . فهل يحتسب بأذانه؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 58] :
أحدهما: يحتسب به، كما لو ترك التثويب.
والثاني: لا يحتسب له، كما لو ترك التكبير.
فإن كان في أذان الصبح. . زاد التثويب بعد الفلاح، وهو أن يقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في القديم، وعلقه في الجديد على صحة حديث أبي محذورة فيه.
قال الشيخ أبو حامد: يسن ذلك، قولاً واحدًا؛ لأن الحديث قد صح فيه.
وبه قال مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وأما أبو حنيفة: فحكى عنه الطحاوي في التثويب، مثل قولنا. وحكى عنه محمد بن شجاع الثلجي التثويب الأول في نفس الأذان، والثاني بين الأذان والإقامة.
وقال محمد بن الحسن: كان التثويب الأول بين الأذان والإقامة: الصلاة خير من النوم - مرتين - ثم أحدث الناس بالكوفة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو حسن.
واختلف أصحابه فيه:
فمنهم من اختار ما ذكره محمد بن شجاع.
ومنهم من اختار ما ذكره الطحاوي.(2/64)
وروى الحسن بن زياد: أنه ينتظر بعد الأذان بقدر عشرين آية، ثم يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مرتين.
ومنهم من لم يقدره.
وقال النخعي: يستحب التثويب لكل صلاة.
وقال الحسن: يثوب للعشاء وللصبح مرتين.
دليلنا: ما روى أبو محذورة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «حي على الفلاح، وإن كان في صلاة الصبح. . قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» .
وروي: «أن بلالا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمه بالصلاة، فقيل له: إنه نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فقال له: " اجعلها في تأذينك» .
والدليل على أنه لا يثوب في غير الصبح: ما روى سويد بن غفلة، «عن بلال قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في أذان الصبح، ولا أثوب في غيرها» .(2/65)
إذا ثبت هذا: فـ (التثويب) في اللغة هو: الرجوع إلى الشيء بعد الخروج منه، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] [البقر: 125] . أي: يرجعون إليه.
وأنشدوا:
وكل حي وإن طالت سلامته ... يومًا له من دواعي الموت تثويب
وإنما سمي هذا تثويبًا؛ لأنه يرجع إلى ذكر الصلاة بعد الفلاح.
والسنة: أن يقف المؤذن على أواخر الكلمات في الأذان؛ لأنه روي موقوفًا.
وقال أبو عبيد الهروي: وعوام الناس يضمون الراء من قوله: الله أكبر، وكان أبو العباس المبرد يفتح الراء، ويقول: الله أكبر الله أكبر، فيفتحها في الكلمة الأولى، ويقف في الثانية، واحتج بأن الأذان سمع موقوفًا، غير معرب في مقاطعه، كقولهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكان الأصل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، بتسكين الراء، فحولت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية على الراء قبلها.
[فرع عدد كلمات الإقامة]
وأما الإقامة: فإنها إحدى عشر كلمة في القول الجديد: التكبير مرتان، والشهادة مرتان، والدعاء إلى الصلاة مرة، والدعاء إلى الفلاح مرة، ولفظ الإقامة مرتان، والتكبير مرتان، والتهليل مرة. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال في القديم: (لفظ الإقامة مرة) . وبه قال مالك، وداود.(2/66)
وقال أبو حنيفة: (والإقامة مثل الأذان، ويزيد لفظ الإقامة مرتين) .
والإقامة عنده: سبع عشرة كلمة أكثر من الأذان الأول.
دليلنا: ما روى البخاري، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» .
[مسألة أذان الكافر وغير المكلف]
] : ولا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
فإن أذن. . فهل يكون إسلامًا منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إسلامًا؛ لجواز أن يأتي بذلك على سبيل الحكاية، وقد كان أبو محذورة، وأبو سامعة مؤذنين قبل إسلامهما، على سبيل الحكاية.
والثاني: يحكم بإسلامه، وهو الصحيح؛ لأن هذا صريح في الإسلام، فهو كما لو أتى بالشهادتين باستدعاء غيره منه.
ولا يصح الأذان من المجنون؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
قال الجويني: وإن نظم الشارب كلمات الأذان. . فليس بسكران.
ويصح أذان الصبي إذا كان مميزًا.
وقال داود: (لا يعتد به) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله بن أبي بكر: أنه قال: (كان عمومتي أمروني أن أؤذن لهم، وأنا غلام لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد لم ينكره) .
ولأنه من أهل العبادة، بدليل: أن إمامته صحيحة، فكذلك أذانه.(2/67)
[فرع أذان المرأة والخنثى]
] : قال الشافعي في " الأم " [1/73] : (وليس على المرأة أذان، وأحب لها أن تقيم فإن أذنت. . فلا بأس) .
قال قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: الأذان غير مسنون للمرأة، سواء صلت بانفرادها، أو كن جماعة نساء، فصلين جماعة.
فإن أذنت. . كان ذكرًا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على المرأة أذان، فإن أذنت. . كان ذكرًا) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يكره للمرأة أن تؤذن، ويستحب لها أن تقيم.
ولعله أراد بذلك: رفع الصوت؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها. فأما الأذان من غير رفع الصوت. . فلا يكره؛ لأنه ذكر الله تعالى.
فإن أذنت للرجال. . لم يعتد بأذانها لهم، كما لا تصح إمامتها لهم.
قال القاضي في " كتاب الخناثى ": والخنثى كالمرأة.
لا يستحب له أن يؤذن، ويستحب له أن يقيم. فإن أذن. . لم يعتد بأذانه، كالمرأة.
[مسألة صفات المؤذن]
] : والمستحب: أن يكون المؤذن حرًا بالغًا عدلاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤذن لكم خياركم»(2/68)
والعبد، والصبي، والفاسق ليسوا من الخيار. ولأنه أمين على المواقيت، وقد يؤذن في موضع عال.
فإذا لم يكن عدلا. . لم يؤمن أن يؤذن في غير الوقت، ولم يؤمن أن ينظر إلى حرم الناس.
وينبغي أن يكون عارفًا بالمواقيت؛ لئلا يغر الناس بأذانه.
ويستحب أن يكون المؤذن من أولاد من جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان فيهم، مثل: أولاد أبي محذورة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل إليه الأذان بمكة. أو أولاد بلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان إليه في المدينة. أو أولاد سعد القرظ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل إليه الأذان بعد بلال. فإن انقرضوا، أو لم يكونوا عدولاً. . ففي أولاد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فإن لم يوجدوا. . جعله الإمام إلى من يراه من خيار المسلمين.
فإن تنازع جماعة فيه مع تساويهم. . أقرع بينهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون، إلا أن يستهموا عليه. . لاستهموا» .
وروي: أن الناس تشاجروا يوم القادسية في الأذان، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص. . فأقرع بينهم) .(2/69)
وروي: (أنه اختصم إلى عمر جماعة في الأذان. . فقضى لكل واحد بأذان صلاة) .
[فرع حسن صوت المؤذن وأذان الأعمى]
] : ويستحب أن يكون المؤذن صبيًا؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن زيد أن يعلم بلالا الأذان، وقال: " إنه أندى منك صوتًا» ، و (اختار أبا محذورة لعلو صوته) .
ويستحب أن يكون مع علو صوته حسن الصوت؛ لأنه ذكر لله تعالى ولرسوله.
فإذا كان صوته حسنًا. . رقت قلوب الناس، ورغبوا في استماعه.(2/70)
ويكره أن يكون المؤذن أعمى؛ لأنه ربما غر الناس بأذانه. فإن كان معه بصير. . لم يكره؛ لأن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان يؤذن مع بلال.
[فرع أذان المحدث والجنب]
] : ويكره أن يؤذن وهو محدث؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» . ولأنه إذا لم يكن متوضئًا. . انصرف لأجل الطهارة، فإذا جاء غيره، لا يرى أحدًا. . فيظن أن ذلك ليس بأذان. فإن أذن وهو محدث. . صح؛ لأن المقصود يحصل به. وإن أذن وهو جنب، فإن كان خارج المسجد. . صح أذانه ولا يأثم، وإن كان في المسجد أو في رحبته. . أثم بلبثه فيه وصح أذانه.
وقال مجاهد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يعتد بأذان المحدث والجنب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق وسنة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر» . فأخبر أن ذلك سنة، وهذا ينفي أن يكون واجبًا.(2/71)
فإن أحدث في أثناء الأذان. . فالمستحب: أن يمضي على أذانه، ولا يخرج منه للطهارة؛ لأنه إذا خرج للطهارة، وقطع الأذان. . ظن السامع أنه متلاعب.
فإن خرج للطهارة. . فالمستحب له: أن يستأنف الأذان؛ لما ذكرناه. وإن بنى على أذانه، فإن لم يطل الفصل. . جاز، وإن طال الفصل، ففيه طريقان، يأتي ذكرهما.
[فرع إقامة غير المتطهر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/74] : (وإذا كرهت الأذان على غير طهر. . فأنا للإقامة على غير طهر، أكره) .
وجملة ذلك: أنه يستحب أن يكون متطهرًا حال الإقامة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إذا لم يكن على طهارة. . فأقل ما في ذلك: أنه يعرض نفسه للتهمة، ويستهزئ الناس به) .
وعلل أصحابنا بغير هذا، وقالوا: لأن الإقامة تراد لاستفتاح الصلاة، فاحتاج أن يكون على صفة يمكنه استفتاحها.
[فرع ومما يستحب للمؤذن]
] : ويستحب أن يؤذن المؤذن على موضع عال؛ لما روي في «حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رجلاً قائمًا، عليه ثوبان أخضران على جذم حائط يؤذن» .(2/72)
و (جذم الحائط) : أصله.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كان بين أذان بلال، وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا ويرقى هذا» . فأخبرت أنهما يرقيان إلى موضع عند أذانهما.
ولأن ذلك أبلغ في الإعلام.
والمستحب: أن يؤذن قائمًا، مستقبل القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: " قم فأذن» . ولأنه إذا لم يكن بد من جهة. . فجهة القبلة أولى.
وقال الجويني: القيام مع القدرة، واستقبال القبلة شرط في الأذان.
والأول هو المشهور؛ لأن الأذان ليس بأعلى حالاً من صلاة النفل، وصلاة النفل تصح مع ترك القيام فيها مع القدرة عليه. ولأن المقصود بالأذان: الإعلام بدخول الوقت، وذلك يحصل وإن كان قاعدًا، أو إلى غير القبلة.
[فرع الالتفات في الحيعلتين]
وإذا أذن إلى القبلة، فبلغ إلى الحيعلة. . لوى عنقه ورأسه يمينًا وشمالاً.
فأما سائر بدنه وقدماه: فلا يلتوي بذلك، سواء كان على الأرض، أو على المنارة.(2/73)
وقال ابن سيرين: لا يستحب ذلك.
وقال أحمد: (إن كان على المنارة. . فعل ذلك) .
وقال أبو حنيفة: (إن كان فوق المنارة. . استدار بجميع بدنه. وإن كان على الأرض. . لوى عنقه لا غير) .
دليلنا: ما «روى أبو جحيفة قال: (أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . لوى عنقه يمينًا وشمالاً ولم يستدر، وأصبعاه في أذنيه، وخرج بلال بين يديه بالعنزة، فركزها بالبطحاء، فصلى إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر بين يديه الكلب والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه» .
وفي كيفية الالتواء وجهان:
أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ويلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
وفي كيفية التوائه على هذا أيضًا وجهان:
أحدهما: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، ويقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
والثاني: أنه يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد(2/74)
وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ويتم أذانه.
والوجه الثاني - في أصل المسألة، وهو قول القفال -: أنه يكون عنقه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح.
وإنما خصت الحيعلة بالالتواء دون سائر ألفاظ الأذان؛ لأن سائر ألفاظ الأذان ذكر لله ولرسوله، فكان الاستقبال بها أولى. والحيعلة: تراد للإعلام بدخول الوقت، فكان الالتواء بهما أشبه.
وهل يلتوي في حال الإقامة بالحيعلة؟ فيه وجهان، خرجهما القفال:
أحدهما: يلتوي، كالأذان.
والثاني: لا يلتوي؛ لأن الإقامة للحاضرين، فلا يحتاج إلى الالتواء. بخلاف الأذان، فإنه للغائبين، فاستحب الالتواء فيه؛ ليحصل الإعلام لجميع أهل الجهات.
[فرع ومما يستحب للمؤذن]
] : ويستحب أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه؛ لما ذكرناه في حديث أبي جحيفة. ولأن الصوت من مخارج النفس، فإذا سدهما. . اجتمع النفس في الفم، وخرج الصوت عاليًا.
ولأنه قد يكون هناك من لا يسمع صوته، فيحصل له العلم بالأذان بمشاهدته له بذلك.
ويستحب له أن (يترسل في الأذان) وهو: الترتيل. و (يدرج الإقامة) وهو:(2/75)
القطع لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «يا بلال، إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني» .
ذكره الترمذي.
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للمؤذن: (إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحذم) .
قال أبو عبيد: والرواية بالحاء، وهو القطع، وكذلك الجذم - بالجيم - أيضًا: القطع.
ولأن الأذان للغائبين، فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الحدر فيها أولى.
[فرع يستحب رفع الصوت]
] : ويستحب أن يرفع صوته إن كان يؤذن للجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغفر للمؤذن مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» .(2/76)
ولا يرفع، بحيث يخاف انشقاق حلقه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي محذورة - وقد بالغ في رفع صوته -: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك) . و (المريطاء) : ما بين السرة والعانة، والغالب عليها المد، وبذلك وردت الرواية، ويجوز قصرها.
قال الشافعي: (والأذان بغير تمطيط، ولا بغي) . وقيل: (ولا تغن) .
فمن أصحابنا من قال: (التمطيط) : التمديد، ولهذا يقال: مطط حاجبه، إذا مده.
و (البغي) : هو أن يرفع صوته، حتى يجاوز المقدار.
ومنهم من قال: (التمطيط) : التقطيع. و (البغي) : أن يتشدق في كلامه، ويتشبه في كلامه بالجبارين.
وأما (التغني) : فهو التطريب والتلحين، وأيهما كان. . فهو مكروه.
وإن كان يؤذن لنفسه وحده. . لم يرفع صوته؛ لأنه لا يعلم غيره.
وأما في الإقامة: فلا يرفع صوته، كما يرفع في الأذان؛ لأنها للحاضرين.
[فرع الجهر والمخافتة في الأذان]
] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن جهر بشيء من الأذان، وخافت بالباقي. . لم يكن عليه إعادة ما خافت به) ؛ لأنه قد أتى بلفظ الأذان كاملاً، فهو كما لو خافت بالقراءة في موضع الجهر.
قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا كان يؤذن لنفسه، فأما إذا كان يؤذن في مسجد الجماعات. . فإنه يجهر به، ولا يخافت في شيء؛ ليحصل به الإعلام.(2/77)
قال: فإن خافت ببعضه. . فإن شاء أعاد ما خافت به، وإن شاء استأنف.
وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يريد الشافعي بذلك: إذا خافت بشيء، لا يخرجه ذلك من حصول الإعلام، كتكبيرة، أو شهادة، فيكون الباقي كافيًا.
[فرع الأذان والإقامة للمتأخر عن الجماعة]
] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن دخل مسجد جماعة، وقد أقيمت فيه الصلاة. . أحببت له: أن يؤذن، ويقيم في نفسه، ولا يجهر؛ لئلا يظن أن هذا لصلاة أخرى، أو أن الأول كان قبل دخول الوقت، فيفسد قلب الإمام) .
قال ابن الصباغ: وإنما قال هكذا في " الأم "؛ لأن الأذان مسنون في " الأم " سواء رجا اجتماع جماعة، أو لم يرج.
[فرع ترتيب الأذان]
] : ويجب أن يرتب الأذان، فإن نكس الأذان أو ترك شيئًا منه. . عاد إليه ورتبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أبا محذورة الأذان مرتبًا، ولأن الأذان متميز عن جميع الأذكار بترتيبه، فإذا لم يرتبه. . لم يعلم السامع أن ذلك أذان.
[فرع كراهة الكلام حال الأذان]
] : والمستحب له: أن لا يتكلم في أذانه بمصلحته، ولا بمصلحة غيره.
فإن تكلم فيه. . لم يبطل؛ لما روي عن سليمان بن صرد: (أنه كان يتكلم في أذانه بحوائجه) . وكانت له صحبة.
وروى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمر مؤذنه - في ليلة باردة ذات ريح - أن(2/78)
يقول: ألا صلوا في رحالكم» . وظاهر هذا: أنه كان في حال الأذان.
وروي عن ابن عباس: (أنه أمر مؤذنه في يوم الجمعة وكان مطيرًا أن يقول - بعد الفلاح -: صلوا في رحالكم، وقال: قد فعله من هو خير مني) .
فإن تكلم كلامًا يسيرًا. . لم يبطل أذانه. وهل يستحب له الاستئناف؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: أنه لا يستحب له الاستئناف، كما لو سكت سكوتًا يسيرًا.
والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يستحب له الاستئناف؛ لأنه مستغن عن يسير الكلام، غير مستغن عن يسير السكوت.
وإن تكلم كلامًا كثيرًا، أو سكت سكوتًا كثيرًا، أو نام أو أغمي عليه في حال أذانه. . فهل يبطل أذانه؟ فيه طريقان:
[الأول] : قال البغداديون من أصحابنا: لا يبطل أذانه.
و [الثاني] : قال الخراسانيون: يبنى على من سبقه الحدث في الصلاة، فإن قلنا: لا تبطل صلاته. . فهاهنا أولى، وإن قلنا: تبطل صلاته. . ففي الأذان قولان.
والفرق بينهما: أن الكلام اليسير يجوز في الأذان، بخلاف الصلاة.(2/79)
فإذا قلنا: لا يبطل. . فهل لغيره أن يبني على أذان الأول؟
قال البغداديون من أصحابنا: لا يجوز؛ لأن ذلك لا يحصل به الإعلام؛ لأن السامع يظن أن ذلك على وجه التلاعب.
وقال الخراسانيون:
إن قلنا: يجوز الاستخلاف في الصلاة. . ففي الأذان أولى أن يجوز.
وإن قلنا: لا يجوز الاستخلاف في الصلاة. ففي الأذان قولان.
والفرق بينهما ما قدمناه.
[فرع المؤذن يرتد]
] : فإن أذن، ثم ارتد. . فالمستحب: أن لا يصلى بأذانه؛ لأن حصول الردة بعد الأذان يوقع شبهة في حاله.
وإن ارتد في حال الأذان. . لم يصح إتمامه منه في حال ردته؛ لأن الكافر لا يعتد بأذانه. ولا يجوز لغيره أن يبني عليه، على طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور.
فإن رجع إلى الإسلام عن قرب. . فهل يجوز له البناء عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد بطل بالردة.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن الردة لا تبطل العمل - عندنا - ما لم تتصل بالموت.
[فرع الكلام حال الإقامة]
] : وإن تكلم في الإقامة. . لم تبطل. وهو قول كافة العلماء.
وقال الزهري: تبطل الإقامة.(2/80)
دليلنا: أن الخطبة أعلى من الإقامة؛ لأنها شرط في الصلاة، ويشترط فيها الطهارة والستارة في قول. فإذا لم تبطل بالكلام. . فلأن لا تبطل الإقامة بذلك أولى.
[مسألة ما يقوله مستمع الأذان]
] : ويستحب لغير المصلي - إذا سمع المؤذن - أن يقول مثل ما يقول، إلا في الحيعلة، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لما روى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال - حين يسمع النداء - ذلك خالصًا من قلبه. . دخل الجنة» . وروى «عن عبد الله بن علقمة: أنه قال: (إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه. . فقال معاوية كما قال مؤذنه، حتى إذا قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك» .
وإنما سن له أن يقول كما يقول المؤذن في غير الحيعلة؛ ليدل على رضاه بقوله، وأما (الحيعلة) : فمعناها الدعاء؛ لأن معنى: (حي على الصلاة) أي: هلم إلى الصلاة، ومعنى (حي على الفلاح) أي: هلم إلى العمل الذي يوجب (الفلاح) ، وهو: البقاء في الجنة.
وهذا المعنى لا يصلح لغير المؤذن، فاستحب له أن يأتي بذكر لله غيره.
وخص قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة؛ لأن معناها: لا حول عن معصية الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله. والصلاة من أعمال الطاعات.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : ويقول المتابع عند تثويب المؤذن: صدقت وبررت.(2/81)
إذا ثبت هذا: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. . حلت له الشفاعة يوم القيامة» .
وروى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً. . غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
وهذا يدل على: أنه يقول ذلك في أثناء أذانه.
وروى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم المؤذن. . فقولوا: مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة. . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عشرًا، ثم اسألوا الله لي الوسيلة والفضيلة؛ فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن يكون أنا، فمن سأل الله لي الوسيلة. . حلت له الشفاعة» .(2/82)
وهذا يدل على: أنه يقول ذلك بعد الأذان.
قال ابن الصباغ: ويحتمل أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يدعو في حال تطويل المؤذن صوته، وأي ذلك فعل. . جاز.
وإن كان في أذان المغرب. . قال: «اللهم: إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي» ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة أن تقول ذلك.
قال أصحابنا: وإن كان في أذان الصبح. . قال: اللهم هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي.
[فرع سماع الأذان حال القراءة والذكر]
] : وإن سمع المؤذن، وهو في قراءة، أو ذكر لله. . قطع القراءة والذكر، وتابع المؤذن؛ لأن الأذان يفوت، والقراءة والذكر لا يفوتان.
فإن سمع المؤذن، وهو في الصلاة. . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يتابعه، فإذا فرغ منها. . قاله) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : هل يسن للمصلي متابعة المؤذن؟ فيه قولان:
ولا فرق - عندنا - بين صلاة الفرض والنفل.
وقال مالك، والليث: (إن كان في النفل. . تابعه، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك يقطعه عن الصلاة، ويشتغل بغيرها.(2/83)
فإن خالف المصلي، وتابع المؤذن، فإن قال مثل ما قال المؤذن، وقال عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. . لم تبطل صلاته بذلك؛ لأن ذلك ذكر لله، وذكر الله لا يبطل الصلاة.
وإن قال في الحيعلة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإن لم يعلم أن هذا دعاء إلى الصلاة. . لم تبطل صلاته. وإن علم. . بطلت صلاته؛ لأنه خطاب آدمي.
قال الصيمري: إن تابعه، وأراد به الأذان. . بطلت صلاته. وإن قال ذلك على سبيل الذكر. . لم تبطل صلاته، إذا لم يقل: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مع العلم بتحريمه.
[فرع الدعاء بين الأذانين والخروج من المسجد]
ويستحب أن يدعو الله بين الأذان والإقامة؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، فادعوا» .
ويكره الخروج من المسجد بعد الأذان، وقبل الصلاة إلا لعذر؛ لما «روى أبو الشعثاء قال: (خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه بالعصر، فقال أبو هريرة: أما هذا: فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وبه قال عثمان.(2/84)
وقال النخعي: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة.
ودليلنا عليه: ما تقدم.
[فرع انتظار المؤذن للجماعة]
] : ويستحب - إذا أذن المؤذن - أن ينتظر في غير المغرب حضور الجماعة؛ لأنه إذا وصل الأذان بالإقامة. . لم يحصل المقصود.
قال في " الأم " [1/72] : (وإذا أذن المؤذن الأول. . خرج الإمام، ولم ينتظر أذان غيره، فإذا خرج الإمام. . قطع الأذان وصلى) .
قال الشيخ أبو حامد: إذا كان للمسجد جماعة مؤذنين، فأذن واحد منهم في أول الوقت. . فإن الإمام يخرج، ولا ينتظر أذان غيره. فإذا خرج. . قطع المؤذنون، ولم يؤذنوا، وصلى؛ لأنه إذا صلى في ذلك الوقت. . أدرك الناس فضيلة أول الوقت.
وإذا أخره وانتظر أذان الباقين. . فاتهم فضيلة أول الوقت، فكان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى.
[مسألة ما يستحب للمقيم]
] : وإذا أراد المؤذن الإقامة. . فالمستحب له: أن يتحول من موضع الأذان إلى غيره؛ لما روى عبد الله بن زيد - في الرجل الذي رآه -: (أنه استأخر عن موضع الأذان غير كثير، ثم قال مثل ما قال في الأذان، وجعلها وترًا) .
ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان؛ لما روي «عن زياد بن الحارث الصدائي: قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنت، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخا صداء أذن، ومن أذن. . فهو يقيم» .(2/85)
قال الجويني: ولا يقيم إلا واحد، فإن أذن جماعة واحد بعد واحد. . أقام من أذن أولاً. وإن أذنوا في حالة واحدة. . اقترعوا للإقامة، أو رضوا بواحد منهم يقيم.
فإن أذن واحد، وأقام غيره. . قال البغداديون من أصحابنا: صح؛ لـ: (أن بلالا أذن، وأقام عبد الله بن زيد بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
وقال الخراسانيون: هل يعتد بالإقامة؟
فيه قولان، بناء على القولين، إذا خطب واحد، وصلى آخر.
ويؤذن المؤذن عند دخول الوقت من غير أمر.
وأما الإقامة: فلا يقيم إلا بأمر الإمام؛ لما روي في حديث أبي جحيفة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقوموا حتى تروني» .
وروي عن جابر بن سمرة: قال: «كان مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمهل فلا يقيم، حتى إذا رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج. . أقام الصلاة حين يراه» .
ويستحب - لمن سمع الإقامة - أن يقول كقوله، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول في لفظ الإقامة لفظ: «أقامها الله وأدامها» ؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك.(2/86)
[مسألة عدد المؤذنين]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يكون المؤذنون اثنين) ؛ لأن الذي حفظ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال، وابن أم مكتوم. فإن اقتصر على واحد. . جاز؛ لأن مسجد مكة كان فيه مؤذن واحد.
ولا يضر أن يكون أكثر من اثنين.
وقال أبو علي الطبري، وعامة أصحابنا: لا يجاوز أربعة؛ لأن أكثر ما روي عن الصحابة في ذلك، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه اتخذ أربعة) .
ولأنهم إذا زادوا على ذلك، وأذنوا واحدًا بعد واحدٍ. . فوتوا على الناس فضيلة أول الوقت.
وقال ابن الصباغ: هذا التقدير لا يصح، بل على حسب ما تدعو إليه الحاجة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يحدد ذلك بحد.
فإن كانوا أكثر من واحد. . لم يتراسلوا بالأذان، بل يؤذن واحد بعد واحد إن كان الوقت متسعًا؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا، ويرقى هذا» .
قال الجويني: فإن ضاق الوقت. . أذنوا دفعة واحدة. وهكذا إن كان المسجد كبيرًا. . فلا بأس أن يؤذن كل واحد منهم في منارة، أو ناحية منه؛ ليسمع من يليه من أهل البلد.(2/87)
[فرع أذان الجمعة]
] : قال المحاملي: قال الشافعي: (وأحب أن يؤذن للجمعة أذانًا واحدًا عند المنبر؛ لما «روى السائب بن يزيد قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر - إذا جلس الإمام على المنبر - أذانًا واحدًا، فلما كان في زمن عثمان، وكثر الناس. . أمر بالأذان الثاني، فأذن به، فكان يؤذن به على الزوراء لأهل السوق والناس» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب ما كان يفعل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر) .
ويستحب أن يكون المؤذن واحدًا؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بلال.
[فرع استدعاء الأئمة إلى الصلاة]
] : يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة؛ لما روي: (أن بلالا كان يفعل ذلك في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، و: (في زمن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) .(2/88)
[مسألة التطوع بالأذان]
] : إذا لم يوجد من يتطوع بالأذان. . رزق الإمام من سهم المصالح من يؤذن.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحسب بلدًا تخلو من متطوع بالأذان) .
فإن أراد أن يستأجر رجلا للأذان. . فهل يصح عقد الإجارة عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار الشيخ أبو حامد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعثمان بن أبي العاص: " اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» .
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لا تصح الإجارة على القضاء، والإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد.
والوجه الثاني: يصح الاستئجار على الأذان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن الصباغ.
وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، فيصح الاستئجار عليه، كالمواقيتي.
فإذا قلنا بهذا. . فهل يختص عقد الإجارة عليه بالإمام، أو يصح منه ومن غيره من الناس؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 60] .
وبالله التوفيق * *(2/89)
[باب طهارة البدن وما يصلى فيه وعليه]
الطهارة ضربان: طهارة عن حدث، وطهارة عن نجس.
فأما الطهارة عن الحدث: فهي شرط في صحة الصلاة، وذلك إجماع لا خلاف فيه وقد مضى ذكر ذلك.
وأما الطهارة عن النجس في البدن، والثوب، والبقعة التي يصلي عليها:
فهي شرط في صحة الصلاة عندنا، وهو قول كافة العلماء.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا صلى وعليه نجاسة. . أعاد في الوقت) .
وهذا من قوله يدل على الاستحباب وروي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على الثوب جنابة) .
وروي: أن رجلاً سأل سعيد بن جبير عمن صلى وفي ثوبه نجاسة؟ فقال: اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثوب من النجس.(2/90)
وروي عن ابن مسعود: (أنه نحر جزورًا، فأصاب ثوبه من دمه وفرثه، فصلى ولم يغسله) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [المدثر: 4] والمراد به: عن النجس؛ لأن الثوب لا يتأتى فيه الطهارة عن الحدث.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» . ولم يفرق.
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم» .
إذا ثبت هذا: فالنجاسة على ضربين: دم، وغير دم.
فأما غير الدم، كالخمر، والبول، والعذرة: فإن كانت يدركها الطرف. . لم يعف عنها؛ لأنه يمكن الاحتراز منها. وإن كانت لا يدركها الطرف. . ففيها طرق مضى ذكرها في المياه.
وإن كانت دمًا: فإن كان دم ما لا نفس له سائلة، كالبق، والبرغوث. . فقد ذكرنا فيما قبل: أنه نجس - خلافًا لأبي حنيفة - وإذا ثبت: أنه نجس. . فإنه يعفى عن قليله في الثوب والبدن؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وهل يعفى عن كثيره؟ فيه وجهان:
[الأول] قال أبو سعيد الإصطخري: لا يعفى عنه؛ لأنه لا يشق الاحتراز منه.
و [الثاني] قال عامة أصحابنا: يعفى عنه. وهو الأصح؛ لأن هذا الجنس يشق الاحتراز منه في الغالب، فألحق نادره بغالبه.(2/91)
وإن كان دم ما له نفس سائلة من الحيوان غير الكلب، والخنزير، وما توالد منهما، أو من أحدهما. . ففيه ثلاثة أقوال:
[الأول] : قال في " الإملاء ": (لا يعفى عن قليله، ولا عن كثيره، كالبول، والعذرة) .
و [الثاني] : قال في القديم: (يعفى عما دون الكف، ولا يعفى عن الكف؛ لأن ما دون الكف قليل فيعفى عنه، والكف فما زاد كثير، فلم يعف عنه) .
و [الثالث] : قال في " الأم " [1/47] : (يعفى عن القليل منه، وهو: ما يتعافاه الناس في العادة) . وهو الأصح، وقدره بعض أصحابنا بلمعة؛ لأنه يشق الاحتراز من ذلك، ولا يشق الاحتراز عما زاد.
وهل يفرق بين الدم الذي يخرج منه، وبين ما يخرج من غيره؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا فرق بينهما؛ لأنه دم.
والثاني: أن الأقوال إنما هي في الدم الذي يخرج من غيره، فأما الدم الذي يخرج منه: فهو كدم البراغيث - يعفى عن القليل منه، قولاً واحدًا. وفي الكثير وجهان - لأنه يمكنه الاحتراز من الدم الذي يخرج من غيره، ولا يمكنه الاحتراز من الدم الذي يخرج منه.
[مسألة حكم النجاسة التي لا يعفى عنها]
] : إذا كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، ولم يجد ماء يغسله به. . صلى، وأعاد، كما قلنا فيمن لم يجد ماء ولا ترابًا.
وإن كان على قرحه دم يخاف من غسله تلف النفس، أو تلف عضو، أو الزيادة في العلة أو إبطاء البرء إذا قلنا: إنه كخوف التلف. . فإنه يغسل ما قدر عليه، ويتيمم(2/92)
لأجل الجراحة، إن كان جنبًا، أو كان محدثًا، والقرح في أعضاء الطهارة.
وهل يلزمه إعادة الصلاة، إذا قدر على الغسل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تلزمه الإعادة إذا قدر - وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني - لأنه صلى على حسب حاله.
والثاني: تلزمه الإعادة، وهو الصحيح؛ لأنه صلى بنجس نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها.
فقولنا: (بنجس نادر) احتراز من أثر الاستنجاء.
وقولنا: (غير متصل) احتراز من الاستحاضة، ومن سلس البول.
[فرع تبديل العظم والسن بنجس]
] : إذا انكسر عظمه وبان، أو سقطت سنه، فأراد أن يبدل مكانها عظمًا آخر، فإن كان عظمًا طاهرًا، كعظم الحيوان المأكول بعد الذكاة. . جاز.
وإن كان عظمًا نجسًا، كعظم الميتة - إذا قلنا: تحله الروح - أو عظم الكلب والخنزير. . لم يجز، فإن فعل ذلك، فإن لم يلتحم عليه اللحم. . لزمه قلعه بلا خلاف.
وإن التحم عليه اللحم، فإن لم يخف التلف من قلعه. . لزمه قلعه.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه قلعه) .
دليلنا: أنها نجاسة غير معفو عنها، أوصلها إلى موضع، يلحقه حكم التطهير، لا يخاف التلف من قلعه، فلزمه قلعه، كما لو كانت نجاسة على ظاهر بدنه.
فقولنا: (نجاسة غير معفو عنها) احتراز من النجاسة التي لا يدركها الطرف.
وقولنا: (إلى موضع يلحقه حكم التطهير) احتراز ممن شرب الخمر، في أحد الوجهين.(2/93)
وقولنا: (لا يخاف التلف من قلعه) احتراز من أحد الوجهين.
وإن خاف تلف النفس من قلعه، أو تلف عضو. . فهل يلزمه قلعه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قلعه، وإن أدى إلى التلف، كما يقتل الممتنع من الصلاة.
والثاني - وهو المذهب - أنه لا يلزمه قلعه؛ لأن حكم النجاسة يسقط مع خوف التلف.
وكل موضع قلنا: يلزمه القلع، فصلى قبل القلع. . لم تصح صلاته؛ لأنه صلى بنجس نادر غير متصل، فهو كما لو حمل نجاسة في كمه.
وإن مات قبل أن يقلع. . ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقلع، حتى لا يلقى الله تعالى حاملاً للنجاسة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يقلع؛ لأن قلعه للتعبد، وقد سقطت عنه العبادة بالموت.
[فرع حقن الدم وابتلاع النجاسة]
] : قال في " الأم " [1/46] : (فإن أدخل تحت جلده دمًا، فنبت عليه اللحم. . فعليه أن يخرج ذلك الدم، ويعيد كل صلاة صلاها مع ذلك الدم) ؛ لما ذكرناه في العظم.
وإن شرب خمرًا، أو أكل ميتة من غير ضرورة. . فالمنصوص: (أنه يلزمه أن يتقيأ) ؛ لما ذكرناه في العظم.
ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه؛ لأن المعدة معدن النجاسة. والأول أصح؛ لأن هذا لما كان شربه محرمًا. . كانت استدامته محرمة. ولهذا روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرب لبنًا، فقيل له: إنه من إبل الصدقة. . فتقيأه) .(2/94)
[فرع وصل الشعر]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا تصل المرأة شعرها بشعر إنسان، ولا بشعر ما لا يؤكل لحمه بحال) .
وهذا كما قال: لا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر نجس.
والدليل عليه: ما روت أسماء: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها حصبة فتمزق شعرها، أفأصله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمفلجة للحسن، والمغيرة خلق الله، والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» .
فأما (الواصلة) : فهي المرأة التي تصل الشعر لغيرها.
وأما (المستوصلة) : فهي التي يوصل لها الشعر.
قال في " الإفصاح ": وقيل: إن الواصلة: هي التي تصل بين الرجال والنساء. والأول أشهر.
وأما (الواشمة والمستوشمة) : فهي المرأة التي تجعل في وجهها، أو في بدنها خالاً للحسن بالنؤور.
وأما (النامصة والمتنمصة) : فهي التي تنتف الشعر من وجهها، وتدقق(2/95)
حاجبيها، مأخوذ من (المنماص) ، وهو: الملقاط.
وأما (المفلجة) فهي: الواشرة، وقد روي: " الواشرة والموتشرة ". وهي: التي تشر أسنانها وتدققها، يفعل ذلك الكبار؛ تشبهًا بالصغار.
إذا ثبت هذا: فإن أرادت أن تصل شعرها بشعر طاهر، كشعر ما يؤكل لحمه بعد الذكاة أو الجز في حال الحياة، أو أرادت وصله بشيء طاهر غير الشعر، فإن كانت غير ذات زوج ولا سيد. . فهل يحرم عليها فعله؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يكره ذلك لها؛ لأنها تغر غيرها بكثرة الشعر، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر» والتدليس. ولا يحرم عليها ذلك؛ لأنه زينة بطاهر.
و [الثاني] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 69] ، والطبري: يحرم عليها ذلك؛(2/96)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» .
وإن كان لها زوج أو سيد. . ففيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: يجوز، ولا يكره؛ لأن لها أن تتزين له، وهذا من الزينة المباحة.
والثاني: لا يجوز. وإليه أشار في " الإفصاح "؛ لعموم الخبر.
قال الطبري: وهكذا الحكم في النقوش بالحناء، وتحمير الوجه، إن كانت غير ذات زوج أو سيد. . لم يجز.
وإن كان لها زوج، أو سيد. . فهل يجوز بإذنه؟
فيه وجهان، ولم يشترط الشيخ أبو حامد إذنه في ذلك.
[مسألة طهارة الثوب]
] : قد ذكرنا أن طهارة الثوب الذي يصلى فيه شرط في صحة الصلاة، ومضى الخلاف فيه، والدليل.
فإذا ثبت هذا: وكان معه ثوب عليه نجاسة غير معفو عنها، ولا يجد ماء يغسله به، ولم يجد سترة غيره. . فهل يصلي فيه؟ قولان:
أحدهما: يصلي في الثوب النجس، ويعيد، كما قلنا فيمن لم يجد ماء، ولا ترابًا.
والثاني - وهو الأصح -: إنه يجب عليه أن يصلي عريانًا، ولا يعيد؛ لأن الصلاة تصح مع العري، إذا لم يجد سترة، ووجود هذا الثوب كعدمه.
وإن اضطر إلى لبسه؛ لحر أو برد. . صلى فيه، وأعاد، كما قلنا فيمن لم يجد ماءً ولا ترابًا.(2/97)
وإن وجد من الماء ما يغسله به، فإن عرف موضع النجاسة. . لزمه غسلها دون غيرها. وإن خفي عليه موضع النجاسة من الثوب. . لم يجز له أن يتحرى في موضع النجاسة؛ لأن التحري إنما يكون بين عينين، والثوب عين واحدة.
وما الذي يلزمه؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو العباس: يغسل موضعًا منه؛ لأنه إذا غسل موضعًا منه. . تحقق طهارة ما غسله، وصار يشك في باقيه: هل هو نجس أم لا؟ والأصل بقاؤه على الطهارة.
والثاني - وهو الأصح - أنه يلزمه غسل الثوب كله، كما لو نسي صلاة من خمس صلوات. . فإنه يلزمه أن يصلي الخمس؛ ليسقط الفرض عنه بيقين.
ولا يطهر بغسل بعضه؛ لأنه قد تحقق حصول النجاسة فيه، وهو يشك: هل ارتفعت بغسل بعضه؟ والأصل بقاؤها.
فإن شقه نصفين، فأراد أن يتحرى في القطعتين. . لم يجز؛ لجواز أن يكون الشق في وسط النجاسة، فتكون القطعتان نجستين.
[فرع اشتباه أحد الثوبين بالنجاسة]
] : وإن كان معه ثوبان، وفي أحدهما نجاسة، واشتبها عليه. . جاز له التحري فيهما، وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك، والدليل.
فإن كان معه ثوب ثالث يتيقن طهارته، أو كان معه ماء يمكنه أن يغسل به أحد الثوبين. . فهل يجوز له التحري في الثوبين المشتبهين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له التحري؛ لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين.(2/98)
والثاني: يجوز له؛ لأنه يجوز إسقاط الفرض في الظاهر، مع القدرة على اليقين.
وإن أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، ونجاسة الآخر، فغسل النجس عنده. . جاز له أن يصلي بكل واحد منهما على الانفراد.
فإن جمع بينهما، وصلى بهما. . ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يتيقن حصول النجاسة فيهما، ويشك في زوالها بالغسل، فلم يصح، كما لو أصابت النجاسة موضعًا من الثوب، واشتبه عليه، فغسل موضعًا منه.
و [الثاني] : قال أبو العباس: تصح صلاته. وهو الأصح؛ لأن أحدهما طاهر بيقين، والآخر طاهر في الظاهر، فجاز له أن يجمع بينهما.
وإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما، ولا ماء معه. . ففيه وجهان:
[الأول] : قال صاحب " الفروع ": يصلي بكل واحد منهما على الانفراد، إذا اتسع الوقت؛ ليسقط عنه الفرض بيقين.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يصلي عريانًا ويعيد؛ لأنه لا يجوز أن يستفتح الصلاة بثوب غير محكوم بطهارته باليقين، ولا في الظاهر.
[فرع في القميص أصابته نجاسة وخفيت عليه]
] : وإن أصابت النجاسة موضعًا من القميص، وخفي عليه موضعها، ففصل أحد الكمين. . لم يجز له التحري فيه وجهًا واحدًا؛ لأن أصله على المنع.
وإن أصابت النجاسة أحد الكمين، أو أحد شقي الثوب، واشتبها عليه. . فهل يجوز له أن يتحرى فيه قبل أن يفصله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنهما عينان متميزتان، فهما كالثوبين.(2/99)
والثاني: لا يجوز؛ لأنه ثوب واحد.
فإن فصل أحدهما عن الآخر. . جاز له التحري فيهما وجهًا واحدًا.
[فرع ما اتصل بالمصلي ولم يتحرك بحركته]
] : وإن كان معه ثوب، بعضه طاهر، وبعضه نجس، فلبسه وصلى فيه، والموضع النجس منه موضوع في الأرض. . لم تصح صلاته.
وقال أبو ثور: (تصح صلاته) .
وقال أبو حنيفة: (إن لم يتحرك بحركته. . صحت صلاته) .
دليلنا: أنه حامل لما هو متصل بالنجاسة، فلم تصح صلاته، كما لو كان يرتفع معه، أو يتحرك بحركته.
وإن صلى وعلى رأسه عمامة، وطرفها على نجاسة. . لم تصح صلاته، سواء كانت متضاعفة فوق النجاسة، أو غير متضاعفة.
وقال أبو حنيفة: (إن لم تتحرك بحركته. . صح) .
دليلنا: أنه حامل لما هو متصل بالنجاسة، فلم تصح صلاته، كما لو كان حاملاً للنجاسة.
[فرع ثوب الحائض والجنب والصبي والصلاة في الصوف]
] : وتجوز الصلاة في ثوب الحائض، إذا لم تتحقق عليه النجاسة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيض، ولا أغسل لي ثوبًا» . وإنما أرادت: إذا لم تتحقق أنه أصابه من دمها شيء.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: " ناوليني الخمرة من المسجد " فقالت: إني حائض، فقال: " ليست الحيضة في يدك، والمؤمن لا ينجس» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجوز للرجل أن يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله، إذا لم يصبه شيء من النجاسة) ؛ لما روي: «أن معاوية سأل أخته أم حبيبة(2/100)
زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله؟ فقالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتجوز الصلاة في ثوب الصبي، ما لم يعلم عليه نجاسة؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة ابنة أبي العاص، وهو يصلي، وعليها ثيابها) .
وتجوز الصلاة في الصوف، والشعر، والوبر، إذا كان طاهرًا، وهو قول كافة العلماء.
وقالت الشيعة والروافض: لا تصح الصلاة إلا على ما تخرجه الأرض.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على نمرة» .
و (النمرة) : هي الشملة المخططة من الصوف.
[فرع في الكلب المشدود بحبل]
] : وإن شد حبلاً في كلب، أو خنزير، وتركه تحت رجله وصلى. . صحت صلاته؛ لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها.
وإن كان الحبل في يده، أو وسطه. . فذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن كان الكلب صغيرًا. . لم تصح صلاته، وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وإن كان الكلب كبيرًا. . ففيه وجهان:(2/101)
أحدهما: تصح صلاته؛ لأن للكلب اختيارًا.
والثاني: لا تصح، وهو الأصح؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة.
وذكر ابن الصباغ الوجهين من غير تفصيل بين الكبير والصغير.
وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 68] ثلاثة أوجه، ولم يفرق بين الصغير، والكبير أيضًا:
أحدها: يصح.
والثاني: لا يصح.
والثالث: إن كان الحبل مشدودًا على خرقة، أو شيء طاهر فوق الكلب. . صحت صلاته، وإن كان الحبل مشدودًا على الكلب. . لم تصح صلاته.
[فرع الصلاة بسفينة مشدودة بحبل]
نجس] : وإن شد حبلاً على سفينة فيها نجاسة، فإن كان الشد في موضع نجس من السفينة. . نظرت:
فإن كان الحبل تحت قدمه، وصلى. . صحت صلاته؛ لأنه غير حامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها.
وإن كان الحبل مشدودًا في وسطه، أو يده. . لم تصح صلاته وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة.
وإن كان الحبل مشدودًا في موضع طاهر من السفينة، وطرفه في يده. . فذكر الشيخان أبو حامد، وأبو إسحاق: إن كانت السفينة صغيرة. . لم تصح صلاته وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وإن كانت كبيرة. . ففيه وجهان:
أحدهما: لا تصح، كالصغيرة.
والثاني: تصح. وهو المذهب؛ لأنه ليس بحامل لها، ولا لما هو متصل بالنجاسة.
وذكر ابن الصباغ وجهين، من غير تفصيل بين الصغيرة، والكبيرة.(2/102)
[فرع حمل الحيوان في الصلاة]
] : وإن حمل المصلي حيوانًا نجسًا، كالكلب والخنزير. . لم تصح صلاته؛ لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها.
وإن كان الحيوان طاهرًا، ولا نجاسة عليه. . صحت صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة ابنة أبي العاص، وهو يصلي» .
ولأن النجاسة في جوف الحيوان لا حكم لها، كالنجاسة التي في جوف المصلي.
وإن حمل المصلي رجلا استنجى بالأحجار. . ففيه وجهان:
[الأول] : قال أبو علي السنجي: تصح صلاة الحامل، كما لو حمل حيوانًا في بطنه نجاسة. ولأنه لما عفي عن ذلك في حق المستنجي. . عفي عنه في حق من حمله.
و [الثاني] : قال القفال: لا تصح صلاة الحامل. وهو الأصح؛ لأنه حامل لنجاسة لا حاجة به إليها، فلم تصح، كما لو حمل نجاسة في كمه. ويخالف نجاسة الحيوان التي في بطنه؛ لأنه لا حكم لها. ويخالف أيضًا أثر الاستنجاء في حق المستنجي بنفسه؛ لأنه مضطر إلى ذلك.
قال الطبري: فهو كدم البراغيث، يعفى عنه في الثوب، فلو لبس ذلك الثوب، وبدنه رطب. . لم يعف عنه؛ لأنه لا ضرورة به إلى ذلك.
وإن حمل المصلي حيوانًا طاهرًا مذبوحًا، وقد غسل الدم عن موضع الذبح. . قال ابن الصباغ: لم تصح صلاة الحامل؛ لأن باطن الحيوان لا حكم له ما دام حيًا، فإذا زالت الحياة. . صار حكم الظاهر والباطن سواء، وجرى ذلك مجرى من حمل نجاسة في كمه.
وإن حمل المصلي قارورة فيها نجاسة، وقد سد رأسها بصفر أو نحاس، أو حديد. . ففيه وجهان:(2/103)
[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تصح صلاته؛ لأن النجاسة لا تخرج منها، فهي كالنجاسة التي في جوف الحيوان.
والثاني: لا تصح، وهو المذهب؛ لأنها نجاسة غير معفو عنها في غير محلها، فهي كما لو كانت ظاهرة.
فأما إذا سدها بخرقة، أو شمع، وما أشبهه. . قال أكثر أصحابنا: لا تصح صلاته، وجهًا واحدًا.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا سدها. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، من غير تفصيل، ولعله أراد ما قالوا.
[مسألة طهارة المكان]
] : طهارة الموضع الذي يصلى عليه شرط في صحة الصلاة، خلافًا لمالك، وقد ذكرناه.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان موضع قدميه طاهرًا. . صحت صلاته وإن كان موضع ركبتيه نجسًا) . وفي موضع الجبهة: روايتان.
دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها: المجزرة، والمقبرة، والمزبلة، ومعاطن الإبل، والحمام، وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» .(2/104)
وإنما منع من الصلاة في المجزرة والمزبلة؛ لنجاستها، ولأنه موضع يلاقيه بدن المصلي، فلم تصح، كموضع القدم.
وإن كان بحذاء صدر المصلي على الأرض، أو البساط نجاسة، ولم يصبها في ثيابه، ولا بدنه. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 68] و " الفروع ":
أحدهما: لا تصح صلاته؛ لأنه إذا لم تصح صلاة من على رأسه عمامة، وطرفها على النجاسة. . فلأن لا تصح صلاة هذا أولى.
والثاني: تصح. وهو الأصح؛ لأنه غر مباشر للنجاسة، ولا حامل لما هو متصل بها.
وإن صلى على موضع طاهر من البساط، وفي موضع منه نجاسة لا تحاذيه. . صحت صلاته.
وقال أبو حنيفة: (إن كان البساط لا يتحرك بحركته. . صحت صلاته، وإن كان يتحرك بحركته. . لم تصح) .
دليلنا: أنه غير حامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها، فهو كما لو صلى على أرض طاهرة وفي طرف منها نجاسة.
[فرع إصابة النجاسة للأرض]
] : وإن أصابت الأرض نجاسة، فإن عرف موضعها. . تجنبها، وصلى في غيره.(2/105)
وإن فرش عليها بساطًا طاهرًا، وصلى عليه. . صحت صلاته.
وقال أبو حنيفة: (إن كان البساط يتحرك بحركته. . لم تصح صلاته) . وقد مضى الدليل عليه.
وإن خفي عليه موضع النجاسة. . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت أن يتباعد إلى موضع يتحقق أن النجاسة لم تبلغ إليه احتياطًا) .
فإن لم يفعل، وصلى في موضع منها، فإن كان ذلك في الصحراء. . صحت صلاته؛ لأنه لا يمكن غسلها. وإن كان ذلك في بيت. . ففيه وجهان:
أحدهما: أنه كالصحراء؛ لأنه يشق عليه غسل جميعه، فهو كالصحراء.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز، حتى يغسله كله؛ لأن البيت يمكن غسله، فهو كالبساط إذا أصابت النجاسة موضعًا منه، وخفي عليه. ويخالف الصحراء؛ فإنه لا يمكن حفظها من النجاسة، وإذا نجس موضع منها. . لم يمكن غسل جميعها.
[فرع الشبهة في نجاسة أحد البيتين]
] : وإن كانت النجاسة في أحد البيتين، واشتبها عليه. . تحرى فيهما، كما يتحرى في الثوبين.
وإن كان هناك بيت ثالث يتيقن طهارته، أو معه من الماء ما يمكنه أن يغسل به أحدهما. . فهل له التحري في البيتين؟ على الوجهين في الثوبين.
[فرع من حبس بمكان نجس]
] : وإن كان مربوطًا على خشبة، أو محبوسًا في حش أو موضع نجس، وهو(2/106)
متوضئ. . فلا خلاف على المذهب: أنه يلزمه أن يصلي على حسب حاله. وهو قول كافة العلماء.
وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: (أنه لا يلزمه أن يصلي) .
دليلنا: أن من لزمه فرض الوقت. . لزمه الإتيان به على حسب حاله، كالمريض.
إذا ثبت هذا: فإنه يحرم بالصلاة، ويأتي بالقيام إن قدر عليه، وبالقراءة، والركوع، فإذا أراد أن يسجد. . فإنه يدني رأسه من الأرض إلى القدر الذي لو زاد عليه. . لاقى النجاسة، ولا يضع جبهته وأنفه، ولا يديه ولا ركبتيه على الموضع النجس.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يسجد على النجاسة واشترط في " الفروع " على هذا: إذا كانت النجاسة يابسة.
والمذهب الأول؛ لأنه إذا سجد على النجاسة. . حصلت النجاسة على جبهته وكفيه، فكانت مباشرته للنجاسة بعضو واحد - وهو قدماه - أولى من مباشرته لها بثلاثة أعضاء.
إذا ثبت هذا: فصلى على حسب حاله، ثم إذا قدر. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تلزمه الإعادة) ؛ لأنه صلى على حسب حاله، فهو كالمريض.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تلزمه الإعادة) . وهو الأصح؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط معه الفرض.
وإذا أعاد. . ففي فرضه أقوال:(2/107)
قال في " الأم " [1/80] : (الفرض هو الثانية) ؛ لأنا إنما أمرناه بفعل الأولى؛ لحرمة الوقت، كمن لم يجد ماء ولا ترابًا.
وقال في القديم: (الفرض هو الأولى) ؛ لأن الإعادة غير واجبة في القديم.
وقال في " الإملاء ": (الجميع فرض عليه) ؛ لأنه يجب عليه فعل الجميع. وهو اختيار ابن الصباغ. قال: والأول أشهر.
وخرج أبو إسحاق قولاً رابعًا: إن الله تعالى يحتسب له بأيتهما شاء، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم فيمن صلى الظهر في بيته، ثم صلى الجمعة: (إن الله تعالى يحتسب له بأيتهما شاء) .
وإن صلى الأولى بغير طهارة. . قال الشيخ أبو حامد: فالفرض هو الثانية، قولاً واحدًا.
[مسألة رأى نجاسة في ثوبه بعد الصلاة]
] : إذا فرغ من الصلاة، فرأى على بدنه، أو على ثوبه، أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها، فإن كان قد علم بها قبل الصلاة، ونسيها. . لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط في ذلك.
وإن لم يعلم بها. . نظرت.
فإن جوز أن تكون وقعت عليه بعد الصلاة. . لم تلزمه الإعادة؛ لأن الأصل عدم كونها معه في الصلاة، إلا أن المستحب له: أن يعيدها؛ لجواز أن تكون معه في الصلاة.
وإن كانت مما لا يجوز حدوثها عليه بعد الصلاة. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان:
أحدهما: (لا تلزمه الإعادة) . وهو قوله القديم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف. . قال: " ما لكم خلعتم نعالكم؟ " فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا. فقال: " إنما خلعتها؛(2/108)
لأن جبريل أتاني فأخبرني: أن فيها قذرًا. أو قال: دم حلمة» .
فلو لم تصح الصلاة. . لاستأنفها.
وقال في الجديد: (تلزمه الإعادة) . وهو الأصح؛ لأنها طهارة واجبة، فلا تسقط بالجهل، كالوضوء.
وأما الخبر: فيحتمل أن القذر الذي أصابه من المستقذرات الطاهرة، كالنخامة، وغيرها. وأما دم الحلمة: فيحتمل أنه كان قذرًا يعفى عنه.
[مسألة الصلاة في المقبرة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن صلى فوق قبر، أو إلى جنبه، ولم ينبش. . أجزأه) .
وجملة ذلك: أن القبور على ثلاثة أضرب:
[الضرب الأول] : مقبرة قد تحقق أنه قد نبشت، وجعل أسفلها أعلاها، فهذه لا تصح الصلاة فوقها؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» .
ولأنها قد اختلط بتربتها صديد الموتى، ولحومهم.
الضرب الثاني: مقبرة تحقق بأنها لم تنبش، فهذه تكره الصلاة عليها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المقبرة. ولأنها مدفن النجاسة.
فإن صلى عليها. . صحت صلاته.(2/109)
وقال أحمد: (لا تصح) . وفي كراهية استقبالها روايتان.
دليلنا: ما «روى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أول مسجد وضع في الأرض؟ فقال: " المسجد الحرام "، قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الأقصى "، فقلت: كم بينهما؟ قال: " أربعون عامًا، وحيثما أدركتك الصلاة. . فصل» .
ولأن النجاسة تحت الأرض، وأجزاء الأرض تحول بين النجاسة وبين المصلي، فصحت الصلاة، كما لو فرش حصيرًا فوق النجاسة، وصلى عليه.
الضرب الثالث: مقبرة شك فيها: هل هي جديدة، أم قد نبشت. . فهل تصح الصلاة عليها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تصح؛ لعموم الخبر. ولأن الظاهر تكرار النبش فيها.
والثاني: تصح الصلاة؛ لأن الأصل عدم النبش، وبقاء طهارة الأرض.
[مسألة الصلاة في الحمام]
] : (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الحمام) .
واختلف أصحابنا: لأي معنى نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فيه؟
فمنهم من قال: نهى عن ذلك؛ لأجل النجاسة التي فيه.
فعلى هذا: يكون كالمقبرة على الأضرب الثلاثة، وأما المسلخ: فلا يدخل في النهي على هذا.
ومنهم من قال: إنما نهى عن الصلاة فيه؛ لأنه مأوى الشياطين؛ لما يكشف فيه(2/110)
من العورات، كما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس هو وأصحابه في واد، فناموا حتى لم يوقظهم إلا حر الشمس، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارتفعوا عن هذا الوادي؛ فإن فيه شيطانًا» ، ولم يصل فيه.
فعلى هذا: تكره الصلاة في جميع بيوته.
وإن تحقق طهارتها، فإن صلى في موضع طاهر منه. . صحت صلاته.
وقال أحمد: (لا تصح الصلاة فيه، ولا على سطحه؛ لعموم الخبر) .
دليلنا: أنه موضع طاهر، فصحت الصلاة فيه، كسائر المواضع، والخبر نحمله: على الاستحباب، بدليل رواية أبي ذر الغفاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وحيث ما أدركتك الصلاة. . فصل» .
[مسألة الصلاة في أعطان الإبل]
] : ورد النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، وهو ما روى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة» فذكر فيها معاطن الإبل.
«وروى عبد الله بن المغفل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أدركتك الصلاة وأنت في مراح الغنم. . فصل فيه؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتك الصلاة وأنت في معاطن(2/111)
الإبل. . . فاخرج منها وصل، فإنها جِنٌّ، من جن خُلقت، ألا تراها إذا نفرت. . كيف تشمخ بآنافها» ؟ ".
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، (ومراح الغنم هو: الموضع الذي تأوي إليه) . وأراد: الطاهر الذي لا بَعْرَ فيه.
(ومعاطن الإبل: موضع قرب البئر، تنحى إليه الإبل، حتى يرد غيرها للشرب) .
وقال غير الشافعي: (أعطان الإبل) : هو الموضع الذي تناخ فيه الإبل في الصيف، إذا شربت المرة الأولى، ثم يملأ الحوض مرة أخرى، ثم ترد إليه، فتعلل، قال لبيد:
تكره الشرب فلا تعطنها ... إنما يعطين من يرجو العلل
فجعل ذك عطنا إذا كان يرجو أن يشرب مرة ثانية.
واختلف في الفرق بين مراح الغنم، وأعطان الإبل من طريق المعنى:
فقال بعضهم: لأن الإبل جن من جن خلقت، والصلاة بقرب الشياطين مكروهة، والغنم فيها سكينة وبركة. وقيل: إنها من دواب الجنة.(2/112)
وقيل إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لما يخاف من نفورها، وذلك يقطع الخشوع، ولا يخاف ذلك من الغنم.
وقيل: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأنها مأوى الجن والشياطين.
وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأن أعطان الإبل وسخة في العادة، ومراح الغنم طيب في العادة؛ لأن الغنم إنما تراح إلى ما استعلت أرضه، وطابت تربته، ودنا من الشمال موضعه، ولا تصلح إلا على ذلك، والإبل لا تراح إلى أدقع الأرض؛ لأنها لا تصلح إلا على ذلك.
و (الدقعاء) : التراب الكثير.
[مسألة الصلاة في قارعة الطريق]
] . وتكره الصلاة في قارعة الطريق؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا يتمكن من الخشوع في الصلاة؛ لممر الناس فيها، ولأنها تداس بالنجاسات.
فإن صلى في موضع منها، فإن تحقق طهارته، صحت صلاته، وإن تحقق نجاسته، لم تصح صلاته، وإن شك فيها، ففيه وجهان مضى ذكرهما في المياه.
ولا يجوز له: أن يصلي في أرض مغصوبة؛ لأنه لا يجوز له: دخولها في غير الصلاة، ففي الصلاة أولى.
فإن صلى فيها. . صحت صلاته خلافا لداود.
دليلنا: أنها أرض طاهرة، وإنما المنع فيها لمعنى في غيرها، وهو حق المالك، وذلك لا يمنع صحة الصلاة.(2/113)
[فرع كراهة الزروع في المسجد]
] . قال الصيمري: ويكره غرس النخل والشجر، وحفر الآبار في المساجد، لأنه ليس من فعل السلف.
قال: ولا بأس بإغلاق المساجد في غير أوقات الصلاة، صيانة لها، وحفظا لما فيها.
والله أعلم.(2/114)
[باب ستر العورة]
يجب ستر العورة عمن ينظر إليها في غير الصلاة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي، ولا ميت» .
فإن اضطر إلى كشفها للمداواة. . . جاز؛ لأنه موضع حاجة.
وهل يجب سترها في حالة الخلوة في غير الصلاة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه ليس هناك من ينظر إليه.
والثاني: يجب، وهو المذهب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبرز فخذك» ولم يفرق بين أن يكون هناك من ينظر، أو لا ينظر.
[مسألة ستر العورة من شروط الصلاة]
] . ستر العورة شرط من صحة الصلاة، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (ليس بشرط في الصلاة، بل هو واجب في الصلاة، وفي غيرها فإن صلى مكشوف العورة، صحت صلاته) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . [الأعراف: 31] .(2/115)
قال ابن عباس: يعني: (الثياب عند الصلاة) .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرأة حائض إلا بخمار» .
وقد روي: " امرأة تحيض " (تحيض) أي: التي وجبت عليها الصلاة.
[فرع انكشاف جزء من العورة]
] . فإن انكشف شيء من العورة مع القدرة على السترة ... لم تصح صلاته.
وقال أبو حنيفة (إن بان من العورة المغلظة، وهي: القبل والدبر قدر الدرهم في الصلاة.. لم تبطل الصلاة، وإن بان منها أكثر من ذلك ... بطلت. وإن بان من العورة المخففة، وهي: ما عداهما، -أقل من الربع.. لم تبطل -هذا في الرجل- وأما المرأة: فإن انكشف ربع شعرها، أو ربع فخذها، أو ربع بطنها.. بطلت صلاتها، وإن كان أقل من ذلك. . لم تبطل) .
وقال أبو يوسف: إن انكشف من ذلك أقل من النصف ... لم تبطل.
دليلنا: أن هذا حكم يتعلق بالعورة، فاستوى فيه القليل، والكثير، كالنظر.(2/116)
[مسألة حد العورة]
] وعورة الرجل: ما بين السرة والركبة بلا خلاف على المذهب، وبه قال مالك.
وفي السرة والركبة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهما من العورة.
والثاني: حكاه في " الفروع ": أن السرة من العورة، دون الركبة.
والثالث: وهو الأصح، أنهما ليستا من العورة.
وقال أبو حنيفة، وعطاء: (الركبة من العورة، دون السرة) .
وقال داود، وأحمد: (العورة هي: القبل والدبر لا غير) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عورة الرجل ما بين سرته وركبته» .(2/117)
[فرع عورة المرأة]
] . وأما المرأة الحرة: فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكفين. وبه قال مالك.
وفي أخمص قدميها وجهان عند الخراسانيين.
وقال الثوري: وأبو حنيفة (قدمها ليس بعورة) .
وقال داود، وأحمد: (جميع بدنها عورة، إلا الوجه) .
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل بدنها عورة، حتى ظفرها.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] [النور: 31] . قال ابن عباس: (وجهها وكفاها) .
«وروت أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، تصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ فقال " نعم إذا كان سابغا، يغطي ظُهُور قدميها» .
[فرع عورة الأمة]
] . وأما الأمة: فلا يجب تغطية رأسها، بلا خلاف على المذهب.(2/118)
وقال الحسن: إذا تزوجت الأمة، أو تسراها سيدها؛ أو ولدت. . وجب عليها تغطية رأسها.
دليلنا: ما روي: أن عمر رأى أمة لآل أنس، قد قنعت رأسها، فجذب قناعها، وضربها بالدرة، وقال: (يا لكعاء، اكشفي رأسك، لا تتشبهي بالحرائر) .
إذا ثبت هذا: ففي عورتها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن جميع بدنها عورة، إلا مواضع التقليب عند شرائها، وهو: ما يبدو منها عند العمل، مثل الكفين والذارعين، والساقين، والرأس، لأن ذلك تدعو الحاجة إلى كشفه، وما سواه لا تدعو الحاجة إلى كشفه.
والثاني: وهو قول أبي علي الطبري، أن عورتها كعورة الحرة، إلا أن لها كشف رأسها، لحديث عمر.
والثالث: هو الأصح، أن عورتها ما بين السرة والركبة، لما روي: أن أبا موسى الأشعري، قال على المنبر: (ألا لا أعرفن أحدا أراد أن يشتري أمة، فينظر إلى ما بين السرة والركبة، لا يفعلن ذلك أحد، إلا عاقبته) . ولم ينكر عليه أحد.(2/119)
ولأن من لم يكن رأسه عورة. . لم يكن صدره عورة، كالرجل.
وحكم المكاتبة والمدبرة، ومن بعضها حر، وأم الولد حكم الأمة فيما ذكرناه.
وقال ابن سيرين: تتقنع أم الولد، لثبوت سبب الحرية لها، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: أنها مضمونة بالقيمة، فكانت كالأمة.
[فرع عورة الخنثى والصبي]
وأما الخنثى المشكل: فإن كان رقيقا، وقلنا: إن عورة الأمة ما بين السرة والركبة، كان ذلك عورة للخثنى، وإن كان حرًا، أو كان رقيقا وقلنا: إن عورة الأمة أكثر مما بين السرة والركبة. وكشف ما عداهما، وصلى. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ولم يذكر القاضي: غيره، أنه لا تلزمه الإعادة، لجواز أن يكون رجلا.
والثاني: تلزمه الإعادة، لأن ذمته قد اشتغلت بفرض الصلاة، وهو يشك في إسقاطها، والأصل بقاؤها في ذمته.
قال الصيمري: وأما عورة الصبي، والصبية، قبل سبع سنين. . فالقبل والدبر، ثم تتغلظ بعد السبع. . . فأما بعد العشر: فكعورة البالغين؛ لأن ذلك زمان يمكن البلوغ فيه.
[مسألة الثوب الشفاف]
] . ويجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة، وهو: صفة جلده: أنه أسود، أو أبيض، وذلك يحصل بالثوب، والجلد، وما أشبههما.
قال في " الفروع " وإن وصف الثوب خلقته على التفصيل، لم يجز، وإن صفها على الجملة. . جاز.(2/120)
وإن صلى في الماء. . . قال في " الإبانة " [ق\ 71] : فإن كان كدرًا، صحت صلاته، وإن كان صافيا. . لم تصح؛ لأن الكدر لا يمكن أن يوصف معه لون البشرة، ويمكن ذلك مع الصافي.
[مسألة ما تلبس المرأة لصلاتها]
] . قال في " الأم " [1/78] : (وتصلي المرأة في الدرع والخمار، وأحب إلي ألا تصلي إلا في جلباب، فوق ذلك تجافيه عنها؛ لئلا يصفها الدرع) .
وجملة ذلك: أنه يستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: قميص سابغ: تغطي به، بدنها وقدميها، وخمار: تغطي به رأسها وعنقها، وإزار غليظ: فوق القميص والخمار.
وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتكثف جلبابها) .
قال أبو عبيد: (الجلباب) الخمار والإزار.
وقال الخليل: (الجلباب) أوسع من الخمار، وألطف من الإزار.
وقوله: (تكثف جلبابها) ، أي: تجعله كثيفا، حتى لا يصفها.
وقيل (تكثف جلبابها) ، أي: تعقده.
وقيل: تكفت، أي تجمع، مأخوذ من (الكفات) ، وهو: الجمع قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] ، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] [المرسلات 25 - 26] يعني: تجمع الأحياء في ظهرها، والموتى في بطنها.
وأقل ما يجزئ في سترها: الدرع إذا كان سابغا، والخمار، لما ذكرناه في حديث أم سلمة.(2/121)
[مسألة لباس الرجل في الصلاة]
] . وأما الرجل: فالمستحب له: أن يصلي في ثوبين: قميص ورداء: أو قميص وإزار، أو قميص وسراويل، أو إزار ورداء.
والأصل فيه: ما روي ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له، فإن لم يكن له ثوبان. . . فليأتزر إذا صلى، ولا يشتمل اشتمال اليهود» فإن أراد أن يصلي بثوب واحد. . . فالقميص أولى من غيره؛ لما روي: (أنه «كان أحب الثياب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القميص» .
ولأنه أعم في الستر من غيره.
فإن كان ضيق الجيب لا ترى منه العورة إذا ركع. . . جاز.
وإن كان واسع الجيب، ترى منه العورة، لم يجز إلا أن يزره، فإن لم يزره، ولكن شد وسطه بحبل. . جاز؛ لما «روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله، إنا نكون في الصيد، أفيصلي أحدنا بالقميص الواحد؟ قال: (نعم، وليزره، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة» .(2/122)
فإن كانت لحيته طويلة، فسدت الجيب، أو كان في ثوبه خرق مقابل لعورته، فستره بيده. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأن ذلك بعض منه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح، لأن ذلك سترة ظاهرة، فأشبهت الثوب.
فإن لم يكن قميص. . فالرداء أولى من الإزار والسراويل؛ لأنه يستر العورة، ويبقى منه شيء على الكتف، فإن كان الرداء واسعا. . التحف به، وخالف بين طرفيه على عاتقيه. وإن كان ضيقا. . ائتزر به؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعا. . فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقا,. . فاشدده على حقويك» .
وروى سلمة بن الأكوع قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد ملتحفا به، مخالفا بين طرفيه على منكبيه» .
فإن اجتمع إزار وسراويل. . فأيهما أولى؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول المحاملي،: أن السراويل أولى؛ لأنه أجمع في الستر.
والثاني: وهو المنصوص في " الأم " [1/77] : (أن الإزار أولى) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن له ثوب. . فليأتزر» ، ولم يقل: فليتسرول. ولأن الإزار يتجافى عنه، فلا يصف الأعضاء، والسراويل تصف الأعضاء.(2/123)
فإن لم يكن معه إلا إزار أو سراويل. . فالمستحب: أن يطرح على منكبيه شيئا. . . فإن لم يجد شيئا. . طرح عليه حبلا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يصلين أحدكم في ثوب ليس على عاتقه منه شيء» . .
وأقل ما يجزئ الرجل في الستر: مئزر أو سراويل.
وقال أحمد: (لا يجزئه، حتى يطرح على عاتقه منه شيئًا؛ للخبر.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن له ثوبان. . فليأتزر إذا صلى» .
والخبر نحمله: على الاستحباب.
[مسألة كراهة اشتمال الصماء وغير ذلك]
] . يكره اشتمال الصماء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن اشتمال الصماء» .
واختلف في صفتها:
فذهب أهل اللغة إلى أن صفتها: أن يشتمل الرجل بثوب واحد فيجلل به جسده، ولا يرفع منه جانبا يخرج منه يده، وربما اضطجع على هذه الحال؛ لأنه لا يدري لعله يصيبه شيء، يريد الاحتراز منه، ويقيه بيديه، فلا يمكنه ذلك، وإنما سميت: صماء، لأنه يسد على يديه المنافذ، كالصخرة الصماء، ليس فيها صدع، ولم يذكر ابن الصباغ غير هذا.
قال أبو عبيد: وذهب الفقهاء إلى أن صفتها: هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه إلى أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه.(2/124)
قال أبو عبيد: والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، الأول أصح في الكلام.
ويكره أن يسدل في الصلاة وفي غيرها، وأن يغطى فاه في الصلاة، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي فاه» .
قال أبو عبيد: و (السدل) أن يسدل الرجل إزاره من جانبيه، ولا يضم طرفيه بيديه، كما يقال لإرخاء الستر: سدل.
ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة؛ لأن وجهها ليس بعورة.
[مسألة الصلاة في ثوب الحرير أو المغصوب أو ما فيه صور]
] . ولا يجوز للرجل: أن يصلى في ثوب حرير ولا عليه، لأنه يحرم عليه لبسه في غير الصلاة، ففي الصلاة أولى.
فإن صلى فيه، صحت صلاته؛ لأن النهي لا يختص بالصلاة.
فإن لم يجد العريان غير ثوب الحرير، قال ابن الصباغ: فعندي أنه يجوز له: أن يصلى فيه، ولا يصلي عريانا. . . لأنه موضع عذر.
فإن صلى عريانا. . قال القاضي أبو الفتوح بطلت صلاته.
وقال أحمد بن حنبل: (تصح صلاته) ، وليس بصحيح، لأن معه سترة طاهرة.
وقال الصيمري: وإن صلى في ثوب مغصوب، أو دار مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب. . فصلاته في ذلك كله صحيحة، وأما ثوابها: فإلى الله سبحانه.(2/125)
وأما المرأة: فيجوز لها أن تصلي بالثوب من الحرير وعليه؛ لأنه لا يحرم عليها لبسه في غير الصلاة، فلم يحرم في الصلاة.
ويكره أن يصلي في ثوب عليه صور؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كان لي ثوب فيه صورة، وكنت أبسطه؛ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي عليه، فقال لي: " أخريه عني "، فجعلت منه وسادتين» .
[مسألة السترة بورق الشجر أو الطين]
] . إذا لم يجد ما يستر به عورته، إلا ورق الشجر، لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة طاهرة، يمكنه الستر بها.
وإن لم يجد إلا طينا طاهرًا. . فهل يلزمه أن يستتر به" فيه وجهان؟
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يلزمه الاستتار به، لأنه يلوث به نفسه، ولأنه يجف فيتناثر عنه.
والثاني: يلزمه الاستتار به، قال المحاملي: وهو المذهب، لأنه سترة طاهرة، فأشبه الثوب.
فعلى هذا: إذا كان ثخينا، وأمكنه أن يستر نفسه به، من غير أن يمس عورته. . تولى ذلك بنفسه، وإن كان رقيقا لا يمكنه الاستتار به، إلا بمس عورته، أمر غيره أن يتولى ذلك عنه؛ لئلا يمس عورته، فتبطل طهارته.
وإن لم يجد إلا ما يستر به بعض العورة. ستر به القبل والدبر، لأنهما أغلظ من غيرهما.(2/126)
وإن لم يجد إلا ما يستر به أحدهما. . ففيه وجهان.
أحدهما: أن الدبر أولى؛ لأنه أفحش في حال الركوع والسجود.
والثاني: أن القبل أولى، وهو المنصوص، لأنه لا يستتر بغيره، والدبر يستتر بالأليتين، ولأنه يستقبل به القبلة.
قال في " الفروع ": وقيل: هما سواء.
فإن خالف، وستر بذلك فخذه، أو سائر عورته غير الفرجين، جاز؛ لأن حكم الجميع واحد، وإن كن قد خالف المستحب.
[فرع الصلاة عريانًا]
] . فإن لم يجد سترة. . صلى عريانا، ويلزمه أن يصلى قائما.
وقال الأوزاعي، ومالك، والمزني: (يلزمه أن يصلي قاعدًا) وحكاه المسعودي في " الإبانة " [ق \ 71] قولا للشافعي، وهو ليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار بين: أن يصلي قائما، وبين أن يصلي قاعدا) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صل قائما، فإن لم تستطع. . فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» ولم يفرق بين العريان وغيره.(2/127)
ولأنه مستطيع للقيام، فلا يجوز له تركه، كما لو كان مستترًا.
فإن صلى عريانا، مع عدم السترة. . فهل تلزمه الإعادة؟
قال الشيخ أبو زيد: إن كان في الحضر. . ففي الإعادة قولان، وإن كان في السفر. . لم يلزمه الإعادة، قولا وحدا.
وقال سائر أصحابنا: لا تلزمه الإعادة قولا واحدا، في سفر ولا في حضرٍ؛ لأن العري عذر عام، وربما اتصل ودام، وقد يعدم ذلك في الحضر، كما يعدمه في السفر، فلو ألزمناه الإعادة. . . لشق ذلك.
[فرع من وجد السترة حال الصلاة]
] . إذا لم يجد سترة، فدخل في الصلاة، وهو عريان، ثم وجد السترة في أثناء الصلاة، أو صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، ووجدت ما تستر به رأسها، فإن كانت قريبة منهما تناولاها، واستترا، وأتما صلاتهما، لأن ذلك عمل قليل.
وإن كانت السترة بعيدة منهما، يحتاج إلى أن يمشي إليها خطوات، فإن كان هناك من يناولهما السترة فإن ناولهما سريعا. . صح.(2/128)
وإن طال الانتظار، فصبرا إلى أن ناولهما الغير.. فهل تبطل صلاتها؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال أبو إسحاق: لا تبطل؛ لأنه انتظار واحد، فلم تبطل به الصلاة، كالإمام إذا انتظر المأموم في الركوع.
والثاني: تبطل؛ لأنهما تركا السترة، مع القدرة عليها.
قال في " الإبانة " [ق\71] : وهذان الوجهان، بناء على الوجهين فيمن سكت في صلاته سكوتا طويلًا، ولم يعمل فيه شيئا من أعمال الصلاة.
وإن لم يكن هناك من يناول السترة.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: تبطل صلاتهما؛ لأنهما يحتاجان إلى عمل كثير.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\71] : يلزمهما المشي إلى السترة، ويستتران، وهل تبطل صلاتهما، أو يجوز لهما البناء عليها؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن سبقه الحدث في الصلاة.
وإن عتقت الأمة في الصلاة، ولم تعلم بعتقها، حتى فرغت من الصلاة، وكان لها سترة يمكنها الاستتار بها: إما قريبة أو بعيدة، أو علمت بالعتق، وجهلت وجود السترة، فهل يلزمها الإعادة؟ فيه طريقان، حكاهما ابن الصباغ.
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن صلى، ثم وجد على ثوبه نجاسة، كانت معه في الصلاة، ولم يعلم بها قبل دخوله. ولم يذكر في " المهذب " غير هذا.
و [الثاني] منهم من قال: تجب عليها الإعادة، قولا واحدًا - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - والفرق بينهما: أن الأمة قد كان يمكنها أن تستتر قبل الدخول في الصلاة، فإذا تركت السترة. . فقد فرطت. ومن عليه نجاسة لا يعلم بها.. غير مفرط في تركها.(2/129)
[فرع صلاة مكشوفة الرأس]
] . قال ابن الصباغ: إذا قال الرجل لأمته: إن صليت مكشوفة الرأس فأنت حرة من الآن فصلت مكشوفة الرأس. . صحت صلاتها، ولم تعتق قبل الصلاة؛ لأن هذه صفة باطلة؛ لأن تقدم المشروط على الشرط محال، فيكون بمنزلة إيقاع العتق في الزمان الماضي.
[مسألة عراة الرجال والنساء]
] . وإن اجتمع جماعة عراة رجال ونساء. . فإن النساء لا يصلين مع الرجال؛ لأنا: إن قلنا: يقفن مع الرجال في صفهم. . خالفن السنة في موقفهن.
وإن قلنا: يقفن في صف خلف الرجال. . أبصرن عورات الرجال؛ لأنهن لا يمكنهن غض أبصارهن.
فإن كان هناك حائل. . دخله النساء، وصلين وحدهن، وصلى الرجال وحدهم. وإن لم يكن حائل، وكان الموضع ضيقا، كالسفينة. . فإن النساء يولين الرجال ظهورهن، ويستدبرن القبلة، فيصلي الرجال، ثم يولونهن ظهورهم، ويصلين أيضا.
وهل يصلي الرجال جماعة، أو فرادى؟
قال الشافعي في الجديد (إن شاؤوا. . صلوا جماعة، وإن شاؤوا. . صلوا فرادى) .
وقال في القديم: (أحببت أن يصلوا فرادى، فإن صلوا جماعة. . فلا بأس به) .
فخيرهم في الجديد؛ لأنه تقابل أمران: فضيلة الجماعة، وترك نظر بعضهم إلى عورة بعض، فخيرهم.(2/130)
واستحب في القديم الفرادى؛ لأن الجماعة فضيلة، وترك النظر واجب، فقدم الواجب على الفضيلة.
فإن صلوا جماعة. . وقف الإمام وسطهم، وكانوا صفا واحدًا؛ لأن ذلك أغض لأبصارهم.
فإن لم يمكن إلا صفين. . صلوا صفين، وغضوا أبصارهم.
وأما النساء فإنهن يصلين جماعة؛ لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري.
[فرع عراة ومعهم من وجد السترة]
] . وإن كان مع الرجال رجل يصلح للإمامة، معه سترة. . . فالأولى أن يصلوا جماعة، قولا واحدًا؛ لأنهم يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وسنة الموقف، بأن يقدموه.
وإن كان مع رجل سترة، تزيد على ستر عورته. . استحب له أن يعير العراة، فإن أعار واحدا منهم. . . فالمذهب: أنه يلزمه قبول العارية؛ لأنه لا منة عليه في ذلك، فإن صلى عريانًا. . . بطلت صلاته؛ لأنه صلى عريانًا، مع وجود السترة الطاهرة.
وحكى صاحب " العدة " وجها آخر: أنه لا يلزمه قبول العارية، كما لا يلزمه قبول هبته، وليس بشيء.
وإن وهب له السترة، فهل يلزمه قبولها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما - هو المشهور - أنه لا يلزمه قبول الهبة؛ لأن في قبول ذلك التزام منة، فلم يلزمه، كما لا يلزمه قبول الرقبة، إذا كان عليه كفارة.(2/131)
فعلى هذا: إذا صلى عريانا. . . صحت صلاته.
والثاني: حكاه في " الفروع ": أنه يلزمه قبول الهبة، كما يلزمه قبول العارية.
الثالث - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه يلزمه قبول هبته، فيصلي به، ثم يرده إن شاء؛ لأن عليه: أن يتسبب إلى ستر عورته، بما أمكنه من ورق الشجر وغيره، وقد أمكنه ذلك، فلزمه. ولأن الهبة تضمنت تمليك العين والمنافع، فإذا لم يلزمه قبول ملك العين لزمه قبول المنافع، فيكون في التقدير: كأنه إعارة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بصحيح؛ لأن صاحب الثوب ملكه العين، فلا يملك قبول المنافع، وإذا قبل العين وقبضها.. فلا يملك ردها، إلا برضا الواهب.
وإن اجتمع رجل وامرأة عاريان، ومع رجل سترة، تكفي أحدهما. . فالمرأة أولى؛ لأن عورتها أغلظ.
وإن أعار صاحب السترة جميع العراة. . صلوا فيها واحدا بعد واحد، فإن خافوا فوت الوقت. . قال الشافعي: (لزمهم انتظار السترة وإن فات الوقت) . وقال في قوم في سفينة ليس فيها موضع يقوم فيه إلا واحد: (إنهم يصلون من قعود) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منها إلى الأخرى، وخرجهما على قولين.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما؛ فقال في السترة: يلزمهم الانتظار، وفي القيام: لا يجوز لهم الانتظار؛ لأن السترة لا يجوز تركها مع القدرة عليها بحال؛ والقيام يجوز تركه مع القدرة عليه في صلاة النفل.
فإن امتنع صاحب السترة من الإعارة.. لم يجبر؛ لأن صلاة العريان صحيحة.
والله أعلم وبالله التوفيق.(2/132)
[باب استقبال القبلة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز لأحد: أن يصلي فريضة، ولا نافلة، ولا سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجها إلى البيت الحرام) .
وجملة ذلك: أن القبلة كانت في أول الإسلام إلى بيت المقدس، وقد استقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجه إلى الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه: إبراهيم وإسماعيل، وبيت المقدس: قبلة اليهود. وكان من شدة حبه لذلك يصلي من ناحية الصفا؛ ليستقبل الكعبة وبيت المقدس. فلما تحول إلى المدينة. . . تعذر عليه استقبالهما؛ لأن من استقبل بيت المقدس بها. . استدبر الكعبة، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالمدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، يسأل الله: أن يحول قبلته إلى الكعبة، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبره: أنه يحب استقبال الكعبة، فعرج جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره، ويقلب طرفه نحو السماء، ينتظر نزول الوحي بذلك، فنزل عليه قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] .
و (المسجد الحرام) هاهنا: الكعبة، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] [المائدة: 97] يعني: مقاما لهم، ولصلاتهم.(2/133)
وقال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] [الحج: 26] يعني: المصلين.
ومعنى قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أي نحوه: وتلقاءه.
قال الشاعر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي: نحو عمرو.
إذا ثبت هذا: فهل استقبال القبلة ركن في الصلاة، أو شرط فيها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 62] : الظاهر: أنها شرط.
فإن كان بحضرة البيت. . لزمه التوجه إليه؛ لما روى أسامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، فلم يصل فيها، ثم خرج وصلى إليها ركعتين، وقال: هذه القبلة» .
فإن استقبل القبلة ببعض وجهه. . ففيه وجهان حكاهما المسعودي.(2/134)
[في" الإبانة " ق\61\أ] ، بناء على القولين في الطائف، إذا استقبل الحجر ببعض بدنه.
وإن دخل الكعبة، وصلى فيها. . صحت الصلاة، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلًا.
وقال ابن جرير: لا يصح فيها فرض ولا نفل.
وقال مالك: (يصح فيها النفل دون الفرض) .
دليلنا، - على ابن جرير - ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، وصلى فيها ركعتين» .
وعلى مالك: أنه متوجه إلى جزء من البيت، فجازت فيه صلاة الفرض، كما لو كان خارج البيت.
إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف(2/135)
صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
فسألت الشيخ الشريف محمد بن أحمد العثماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما المراد بالمسجد الحرام بهذا الخبر؟ فقال: المراد به: الكعبة، والمسجد حولها، وسائر بقاع الحرم لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ومعلوم: أنه أسري به من بيت خديجة، وكل موضع أطلق: المسجد الحرام. . فالمراد به: جميع الحرم.
والذي تبين لي أن المراد بهذا الخبر: الكعبة، وما في الحجر من البيت، وهو ظاهر كلام صاحب " المهذب "؛ لأنه قال: الأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت؛ لأنه يكثر فيه الجمع، والأفضل أن يصلي النفل في البيت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
ومن الدليل على ما ذكرته، ما وري: أن عائشة قالت: «يا رسول الله، إن نذرت أن أصلي في البيت، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلي في الحجر، فإنه من البيت» .
فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم يساوي الكعبة بذلك. . لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى، ولأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصلي في سائر بقاع الحرم.
ولا فرق بين أن يقول: عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام، أو في البيت الحرام.
إذا ثبت أن: البيت الحرام: إنما هو الكعبة، فكذلك المسجد الحرام.(2/136)
وأما الآية: فإنما سمي بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالمسجد الحرام، على سبيل المجاورة.
وإذا صلى في البيت. نظرت.
فإن استقبل شيئا من جدرانه، أو أساطينه. . صح؛ لأنه متوجه إلى جزء منه.
وإن صلى إلى باب البيت، فإن كان مردودا إلى خارج. . صح؛ لأن الباب من البيت.
وإن كان الباب مفتوحا. . . قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، فإن كان للباب عتبة شاخصة وإن قلت. . . صحت صلاته؛ لأنه متوجه إلى جزء من البيت.
وإن لم يكن له عتبة شاخصة. . . لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتوجه إلى جزء من البيت.
[مسألة الصلاة فوق الكعبة]
وإن صلى على ظهر الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة متصلة بالبيت. . لم تصح صلاته.
وقال أبو حنيفة: (تصح) .
دليلنا: ما روي عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة فذكر فيها: فوق بيت الله العتيق» .
ولأنه صلى عليها، ولم يصل إليها من غير عذر، فأشبه إذا نزل واستدبرها.
فقولنا: (من غير عذر) احتراز من صلاة الخوف، ومن صلاة النفل في السفر.(2/137)
وإن كان بين يديه سترة غير متصلة بالبيت، كالأحجار التي ليست بمبنية. . لم تصح صلاته؛ لأنها ليست من جملة البيت.
وإن كانت مبنية عليه، أو مسمرة. . صحت صلاته؛ لأنها صارت من البيت.
وإن كانت فيه عصا مغروزة. . ففيه وجهان:
أحدهما: يصح استقبالها؛ لأن المغروز من البيت، ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع البيت.
والثاني: لا يصح؛ لأنها غير متصلة بالبيت.
وإن نبتت شجرة في البيت، وعلت على ظهره، فاستقبلها على ظهره. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
وهل يعتبر أن تكون السترة فوق ظهر الكعبة مقدرة؟
فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
أحدهما: أنه يعتبر أن تكون بقدر قامة المصلي ليكون مستقبلا لها بجميع بدنه.
والثاني: - وهو قول القفال -: يكفيه أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، وإن كان دونها. . لم يصح.
وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن عتبة الباب إذا كانت شاخصة وإن قلت. . . صح استقبالها ولا فرق بين الجميع.
وإن هدمت الكعبة - وأسال الله الكفاية -وبقت عرصة، لا بناء فيها، فإن خرج عن العرصة، وصلى إليها. . جاز، وإن وقف في العرصة، وصلى إلى ما بين يديه منها. . ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت، فهو كما لو خرج من العرصة، وصلى إليها.(2/138)
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يصح. وهو المنصوص، كما لو صلى على سطحه، ولا سترة قدامه.
[مسألة صلاة من ليس بحضرة البيت]
] . ومن لم يكن بحضرة البيت. . ينقسم على أربعة أضرب:
ضرب: يتيقن إصابة الكعبة وإن لم يكن مشاهدا لها، كمن نشأ بمكة. . . فإنه يعلم - بجري العادة - القبلة، ويتيقنها وإن غاب عنها في بيته. وكذا من صلى إلى محراب مسجد المدينة، أو إلى محراب مسجد صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يقر على الخطأ.
وضرب: يرجع إلى إخبار غيره، فإن أخبره غيره عن علم، بأن يكون على رأس جبل، ويشاهد الكعبة منه. . . فيلزمه قبول خبره ولا يجتهُد؛ لأن الخبر مقدم على الاجتهاد.
قال الشافعي رحمة الله: (وكذلك، إذا ورد رجل على مياه قوم، فأخبروه: بأن القبلة في هذه الجهة. . . رجع إلى قولهم وإخبارهم) .
فإن أخبره صبي عن القبلة. . فحكى الخضري عن الشافعي: (أنه لا يقبل) . وحكى الشيخ أبو زيد: (أنه يقبل) .
فمن أصحابنا من قال: هي على حالين: فحيث قال: (لا يقبل) إذا كان عن اجتهاد. وحيث قال: (يقبل) . . . إذا كان عن مشاهدة.
وقال القفال: في قبول إخباره بذلك، وبالخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجهان.
وأما دلالة المشرك على القبلة: فلا تقبل، وإنما تقبل في الإذن في دخول الدار، وفي قبول الهدية؛ لأن ذلك يقبل من الصبي، فكذلك من الكافر.
وقال القاضي أبو الطيب: وكذلك الفاسق عندي يقبل في هذين؛ لأنه أحسن حالا من الكافر.
والضرب الثالث: من يرجع إلى اجتهاد غيره، وهم العميان، ومن لا بصيرة له ويأتي ذكرهم.(2/139)
والضرب الرابع: من يرجع إلى استدلاله واجتهاده، وهو إذا لم يتيقن القبلة، ولم يجد من يخبره، وهو ممن يعرف دلائل القبلة. . . فينظر فيه: فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي، كالجبل. . جاز له الاجتهاد، والاستدلال على القبلة بالشمس، والقمر، والنجوم والرياح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] [النحل: 16] .
ولا يلزمه صعود الجبل؛ لأن في تكليف ذلك مشقة. ولأنا لو ألزمناه ذلك. . للزم من كان بينه وبين الكعبة ميل أو ميلان: أن يمضي إليها ويشاهدها، ولو ألزمناه ذلك. . لم ينفصل عمن بينه وبين [الكعبة] مسيرة يوم أو أكثر: أن يمضي إليها، فسقط ذلك عن الجميع.
وإن كان بينه وبين الكعبة حائل طارئ، كالبناء. . . ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز له الاجتهاد - ولم يذكر في " التعليق " و" المجموع " غيره - لأن الاجتهاد كان لا يجوز في هذا الموضع قبل حدوث البناء، فلم يتغير الحكم بحدوثه.
والثاني: يجوز. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنه لا يرى البيت، فهو كما لو كان الحائل أصليا.
وإذا ثبت هذا: ففي فرض المجتهد قولان:
أحدهما: (أن فرضه إصابة الجهة دون العين) وهو قول أبي حنيفة.
وروي عنه: أن قال (قبلة العراق ما بين مطلع الشمس ومغربها) .
لأنه لو كان الفرض هو إصابة العين. . . لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين.(2/140)
والثاني: (أن الفرض هو إصابة العين) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ولم يفرق.
ولأن من لزمه فرض القبلة.. لزمه إصابة العين، كالمشاهد للكعبة.
وأما صلاة أهل الصف: فإنما صحت؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي، ألا ترى أن الناس إذا صلوا ملاصقين للكعبة. . فإن المستقبل لها عدد يسير، فإذا بعدوا، فصلوا في آخر المسجد. . . استقبلها أكثر؟ وكذلك النقطة إذا دور حولها دائرة. . . كانت صغيرة؛ لقربها من النقطة، فإذا زاد خلف الأولى دائرة ثانية. . . كانت أكبر من الأولى؛ لبعدها من النقطة، وجميع الدائرة في الحالتين مستقبل للنقطة؟
[فرع المجتهدان في القبلة]
وإن اجتهد رجلان في القبلة. . . نظرت: فإن أداهما اجتهادهما: أن القبلة في جهة واحدة. . . استحب لهما: أن يصلي أحدهما بالآخر؛ لأن صلاة الجماعة مندوب إليها.
وإن اختلف اجتهادهما، فأدى اجتهاد أحدهما: أن القبلة في غير الجهة التي أدى اجتهاد الآخر إليها. . صلى كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، ولا يأتم أحدهما بالآخر.
وقال أبو ثور: (يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر، ويصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، كمن يصلي حول الكعبة. . فإنه يجوز لمن يصلي إلى جهة منها: أن يأتم بمن يصلي إلى الجهة الأخرى.
دليلنا: أن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته، فلا يجوز أن يعلق صلاته بصلاة باطلة، بخلاف من يصلي إلى جهتي الكعبة. . فإن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة صاحبه.(2/141)
[فرع الاجتهاد في القبلة لصلاتين أو صلى شاكا]
] . وإن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولم يتغير اجتهاده الأول. . فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه أن يعيد الاجتهاد، بل يصلي إلى الجهة الأولى؛ لأنه قد عرف القبلة بالاجتهاد الأول.
والثاني: يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية، كما لو حكم الحاكم بقضية بحكم، ثم حضرت مرة أخرى. . . فإنه يعيد الاجتهاد لها ثانيًا.
فإن أداه اجتهاده: إلى الجهة الأولى. . . صلى إليها، ولا كلام.
وإن أداه اجتهاده: أن القبلة في غير تلك الجهة. . صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الإعادة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الخضري.
أحدهما - وهو المذهب -: أن لا يلزمه إعادة واحدة منهما؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولأنه لا يؤمن أن يؤديه الاجتهاد إلى القبلة في جهة ثالثة ورابعة، أو أن القبلة في الجهة الأولى.
والثاني: يلزمه أن يعيد الصلاتين؛ لأنه يتيقن أنه صلى إحداهما إلى غير القبلة فلزمه إعادتهما، كمن نسي صلاة من صلاتين، لا يعرف عينها منهما.
والثالث أنه يعيد الأولى؛ لأن الاجتهاد الثاني هو المعول عليه في هذه الحالة، والأول هو المشهور.
وإن اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة، فصلى إلى غيرها، ثم بان أنها القبلة. . لم تصح صلاته. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: تصح.
دليلنا: أنه ترك التوجه إلى ما أداه إليه اجتهاده، وصلى إلى ما ليس بقبله عنده،(2/142)
فلم يصح بالتبين، كما لو استفتح الصلاة وهو يشك: أنه توضأ، أم لا؟ ثم بان أنه كان متوضئًا.
[فرع التيقن بعد الاجتهاد أو كان له اجتهادان]
إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه صلى إلى غير جهة القبلة. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان.
أحدهما: لا تلزمه الإعادة. وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأراد: حكم الخطأ.
وروى جابر قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، وكنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نبصر معها القبلة، فقالت طائفة منها: قد عرفنا القبلة: قبل الشمال، وصلوا إليها، وخطوا خطا. وقال بعضهم: هكذا القبلة: نحو الجنوب، وصلوا إليها، وخطوا خطا. فلما أصبحنا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من السفر. . . سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسكت، ولم يقل شيئا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » [البقرة: 115] .
وفي بعض الروايات: قال لهم: " قد أجزأتكم صلاتكم ".(2/143)
ولأنها جهة مأمور بالصلاة إليها، فسقط الفرض بالصلاة إليها، كما لو صلى إلى غير جهة القبلة في شدة الخوف.
والقول الثاني: تلزمه الإعادة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] .
ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فوجب أن لا يعتد بما فعله، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه.
فقولنا: (تعين له) احتراز منه إذا صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين. . فإنه تيقن الخطأ في إحداهما، ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يتعين الخطأ في إحداهما.
وقولنا: (يقين الخطأ) احتراز منه إذا صلى إلى جهة، ثم أداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة أخرى. . فإنه قد تعين له الخطأ، ولا تلزمه الإعادة؛ لأنه لم يتيقن ذلك، وإنما ذلك من طريق الاجتهاد.
وقولنا: (فيما يؤمن مثله في القضاء) احتراز من الأكل في الصوم ناسيا، ومن الوقوف بعرفة يوم الثامن، أو يوم العاشر، على وجه الخطأ؛ لأنه لا يؤمن مثله - في القضاء - الخطأ.
وأما حديث جابر: فلا حجة فيه؛ لأن القوم كانوا صلوا تطوعا، هكذا روي عن ابن عمر: أنه قال: (نزلت هذه الآية في التطوع) .
ولنا مثل هذه المسألة مسائل على قولين.
منها: إذا صلى، ثم بان أنه كان في ثوبه نجاسة لم يعلم بها حتى فرغ منها.
ومنها: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، وبقربها سترة، ولم تعلم بالعتق أو بالسترة إلا بعد الفراغ من الصلاة.
ومنها: إذا ترك فاتحة الكتاب ناسيا. . هل تلزمه الإعادة؟ على قولين.
ومنها: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني. . فهل يلزمه الضمان؟ قولان.(2/144)
ومنها: إذا صام الأسير شهرًا بالاجتهاد، ثم بان بعد رمضان أنه صام شعبان. . . هل يجزئه؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون في موضع القولين في القبلة.
فمنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ مع يقين الصواب، فأما إذا بان له يقين الخطأ دون يقين الصواب: فلا يعيد، قولا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ، دون يقين الصواب، فأما إذا بان له اليقينان معا: فيعيد قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو قول الشيخ أبي حامد.
وإن بان له يقين الخطأ، وهو في أثناء الصلاة. . نظرت.
فإن كان ذلك في جهتين، مثل: أن كان قد استفتح الصلاة إلى جهة الغرب، فبان أن القبلة في الشرق. . . بنى ذلك على القولين - فيمن بان له اليقين بعد الفراغ من الصلاة -.
فإن قلنا: يعيد بعد الفراغ.. استأنف هاهنا الصلاة.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . فهاهنا وجهان:
أحدهما: ينحرف إلى الجهة الثانية، ويبني على صلاته؛ لأن ما فعله قد صح.
والثاني: يلزمه أن يستأنف الصلاة؛ لأن الصلاة بعد الفراغ منها كالقضية المبرمة وقبل الفراغ منها كغير المبرمة.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان حين بان له الخطأ، بانت له جهة القبلة لوقته. . تحول إليها، وهل يبني، أو يستأنف؟ على ما مضى.
وإن لم يتبين له جهة القبلة، بل يحتاج إلى اجتهاد. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يستديم الصلاة إلى غير القبلة.(2/145)
وإن كان ذلك في جهة واحدة - مثل: أن كان قد صلى إلى جهة الغرب بالاجتهاد، ثم بان له بعد ذلك أن الكعبة في غير السمت الذي صلى إليه، وإنما هي في غيره في تلك الجهة:
قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي يذهب إلى: أنه لا يتيقن أحد بالاجتهاد عين الكعبة في بعض الجهة دون بعضها، وإنما يتيقن ذلك بالمشاهدة.
فعلى هذا: يلزمه الانحراف إلى الثانية؛ لأنها هي القبلة عند المجتهد في هذه الحالة، ولا يلزمه استئناف الصلاة؛ لأنه لا يتيقن أن الأولى ليست بقبلة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يمكن أن يتيقن بالاجتهاد أن عين الكعبة في بعض الجهة دون بعض، فيلزمه الانحراف إلى الثانية، وهل يبني، أو يستأنف؟ .
على القولين في أن فرض المجتهد: هل هو إصابة العين، أو الجهة؟
فإن قلنا: فرضه الجهة. . . لم يلزمه الاستئناف، قولا واحدًا.
وإن قلنا: إن فرضه إصابة العين. . كان على قولين - كما لو صلى إلى جهة، ثم تيقن أنها ليست بجهة القبلة -:
فإن قلنا - هناك -: يعيد.. لزمه هاهنا أن يستأنف.
وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . . فهاهنا وجهان، مضى ذكرهما.
وأما إذا أداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة، ثم بان له باجتهاد ثان أن القبلة في غير تلك الجهة: فإن بان له ذلك قبل الدخول في الصلاة. . . لزمه أن ينحرف إلى الثانية، ويصلي إليها.
وإن بان له ذلك في أثناء التكبيرة. . لزمه أن يستأنف التكبيرة أيضا إلى الجهة الثانية؛ لأنه لم يأت بما يُسمى صلاة.(2/146)
وإن بان له بعد فراغه من تكبيرة الإحرام. . . فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وهل يستأنف الصلاة، أو يبني على إحرامه؟ فيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يستأنف؛ لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى باجتهادين، كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين.
والثاني - وهو المنصوص -: أنه يبني على إحرامه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، ويخالف حكم الحاكم؛ لأن حكم الحاكم هو قوله: حكمت، وأمضيت. ولا يتصور تبعيض ذلك؛ لأن اجتهاده إن تغير قبله. . . فإنه يحكم بالثاني، وإن تغير بعده. . فإنه لا ينقض الأول، وليس كذلك ما فعل من الصلاة؛ لأنه كالحكم الذي نفذ، فلا ينقض باجتهاد ثان.
[فرع تغير الاجتهاد للجماعة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/82] : (وإذا اجتهد جماعة في القبلة، فأداهم اجتهادهم إلى جهة واحدة، فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد بعضهم في أثناء الصلاة، فإن تغير اجتهاد الإمام. . . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية، ولا يلزم المأمومين اتباعه، بل ينوون مفارقته؛ لأن اعتقادهم بطلان اجتهاده، وإن تغير اجتهاد المأمومين.. فعليهم أن ينووا مفارقته، وينحرفوا إلى الثانية) .
وهل يبنون، أو يستأنفون على ما مضى.
فإذا قلنا: يبنون. . لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم فارقوه بعذر.
[فرع لو شك أثناء الصلاة أو دخل بلدًا فيها محاريب]
] : قال في " الأم " [1/82] : (وإذا دخل في الصلاة بالاجتهاد، ثم شك في أثناء الصلاة: أن تلك جهة القبلة، أم لا؟ فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لأنه دخل في الصلاة بالاجتهاد، والاجتهاد إنما يتغير باجتهاد، أو يقين، فأما الشك: فلا يؤثر فيه) .(2/147)
قال في " الفروع " إذا دخل بلدا، ووجد فيها محاريب، فإن لم يعرف أن تلك المحاريب مما بناها المسلمون. . . فلا يجوز له استقبالها، ويجتهد.
وإن عرف أنها من بناء المسلمين، فإن كان ذلك البلد من البلاد التي صلى فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.. وجب اتباعهم.
وإن كانوا لم يصلوا فيها، فإن كان القوم الذين بنوها في الكثرة بحيث يقع التواتر في خبرهم، ويصير إجماعهم قاطعا لوجوه الاجتهاد. . صلى إليها.
وإن كان عددهم قليلًا، أو كانت في بلد مختلفة. . فعلى المصلي أن يجتهد فيها.
[مسألة تقليد الأعمى ونحوه لجهة القبلة]
] . وإن كان ممن لا يعرف الدلائل، ولا يعرفها إذا عرف بها. . فهو كالأعمى، وفرضهما: التقليد؛ لأنه لا فرق في ذلك بين أن يعدم البصر، أو يعدم البصيرة.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقلد من يصدقه: من حر، وعبد، وامرأة؛ لأنهم من أهل الاجتهاد) .
فإن كان هناك جماعة، واتفقوا على جهة واحدة. . . كان له أن يقلد أيهم شاء.
وإن اختلفوا في الجهات. . . استحب أن يقلد أوثقهم وأعلمهم، وأيهم قلد.. جاز؛ لأنه قلد من يجوز له تقليده.
وإن لم يجد - من فرضه: التقليد - من يقلده. . صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر وإن كان قد أصاب القبلة؛ لأنه استفتح الصلاة وهو شاك في القبلة.(2/148)
[فرع اختلاف قول المقلد أو خطأه غيره]
] : وإن دخل المقلد في الصلاة بالتقليد وفرغ منها، ثم قال له من قلده: القبلة في غير الجهة التي صليت إليها، فإن بان له ذلك باجتهاد. . . لم يجب على المصلي الإعادة؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن بان له بيقين. . كان في وجوب الإعادة عليه قولان.
وإن قال له آخر - في أثناء الصلاة -: قد أخطأ بك الأول، والقبلة في جهة أخرى - وكان قول الثاني عن اجتهاد - فإن كان الثاني كاذبا عنده. . لم يجز له الرجوع إلى قوله.
وإن كان الثاني أصدق من الأول عنده. . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية؛ لأن الثاني أولى من الأول عنده، ولا يستأنف الإحرام؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
وإن كان الثاني عنده مثل الأول في الصدق. . . فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لان الاجتهاد لا ينقص بمثله.
وإن قال الثاني ذلك له على وجه الإخبار عن مشاهدة. . . لزمه الانحراف إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الاستئناف؟
على القولين في البصير إذا تيقن الخطأ.
[فرع معرفة الأعمى القبلة]
] . وإن عرف الأعمى القبلة باللمس، فصلى إليها. . . أجزأه؛ لأن ذلك بمنزلة الخبر.
وإن دخل الأعمى في الصلاة بالتقليد، ثم أبصر في حال الصلاة، فإن بان له حين أبصر: أن الجهة التي يصلي إليها جهة القبلة.. أتم صلاته.
وإن احتاج إلى الاجتهاد. . بطلت صلاته؛ لأنه صار من أهل الاجتهاد.
وإن دخل البصير باجتهاده في الصلاة، ثم عمي في أثنائها. . . مضى على صلاته؛ لأن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فإن تحول عنها. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يمكنه الرجوع إليها، ويحتاج أن يقلد، وذلك لا يمكنه في الصلاة.(2/149)
[مسألة خفاء دلائل القبلة بغيم وحكم تعلم ذلك]
] : وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه؛ لظلمة، أو غيم. . فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فهو كالأعمى) وظاهر هذا أنه يجوز له التقليد.
وقال في موضع: (ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل أن يقلد غيره) .
واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو إسحاق: لا يقلد، قولا واحدًا، بل عليه أن يتعلم ويجتهد؛ لأنه يمكنه ذلك. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كالأعمى) أراد: في وجوب الإعادة، إذا ضاق الوقت عن الاجتهاد. . فإنه يصلي ويعيد، كالأعمى إذا لم يجد من يقلده.
وقال أبو العباس: هي على حالين: إن ضاق الوقت. . قلد غيره، وإن اتسع. . تعلم واجتهد.
وقال أكثر أصحابنا: هي على قولين - وهو الصحيح -.
أحدهما: يقلد لأنه خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى.
والثاني: لا يقلد؛ لأنه من أهل الاجتهاد.
وإن كان من ممن لا يعرف الدلائل، ولكن إذا عرفها عرف، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يتعرفها، ولا يقال: إن ذلك تقليد، كما أن العامي إذا أخبر العالم بخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدل به.. لا يقال: قلده فيما حكم به.
فإن أمكنه التعلم، فأخره حتى ضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد. . . صلى بالتقليد، وهل يعيد؟ فيه وجهان، كمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت وتيمم.(2/150)
وإن لم يجد من يتعلم منه إلا في آخر الوقت، وضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد، أو كان محبوسا في موضع لا يتمكن فيه من الاجتهاد. . فهل يجزئه أن يقلد غيره؟ على الطرق الثلاث في المسألة قبلها.
إذا ثبت هذا: فإن تعلم ما يكفي من دلائل القبلة فرض من الفرائض الأعيان؛ لأنه لا يمكنه أداء الصلاة إلا بذلك.
[فرع الغريق والمريض]
] . قال في " الإبانة " [ق\60] : إذا بقي الغريق على خشبة في البحر. . فإن يصلي على حسب حاله، وهل يعيد؟ فيه قولان.
وإن لم يجد المريض من يوجهه إلى القبلة. . صلى كيف أمكنه، فمن أصحابنا من قال في وجوب الإعادة عليه القولان في الغريق.
ومنهم من قال: يعيد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نادر.
[مسألة في التنفل على الراحلة]
] : يجوز التنفل في السفر على الراحلة حيثما توجه إلى جهة مقصده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] [البقرة: 115] ، قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع.
وروى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حماره متوجها إلى خيبر» .
ومن توجه إلى خيبر من المدينة. . فإنه يستدبر القبلة.
ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير.(2/151)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصر البويطي ": (وقد قيل: لا يتنفل أحد على ظهر دابة، إلا في سفر تقصر فيه الصلاة) .
فقال البغداديون من أصحابنا: هذا على قول مالك، وليس بقول له.
والخراسانيون من أصحابنا: جعلوه قولا ثانيا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ودليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلى على راحلته، حيثما توجهت به» . ولم يفرق بين: الطويل والقصير.
ولأنه إنما جوز له ذلك في السفر؛ حتى لا ينقطع عن النافلة، وهذا المعنى موجود في السفر الطويل والقصير.
إذا ثبت هذا: فإن كان راكبًا في كنيسة واسعة أو عمارية يمكنه أن يدور فيها. . . فإنه يصلي إلى جهة القبلة، ويركع، ويسجد، كما يفعل بالسفينة، ولا يومئ.
فإن أمكنه القيام فيها، وأراد أن يصلي عليها الفريضة. . . ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز - وهو المنصوص في " الأم " - لأن البهيمة لها اختيار بنفسها، ولا تكاد تثبت على حالة واحدة، فيؤدي ذلك إلى تغيره عن القبلة، بخلاف السفينة؛ لأنها لا تسير بنفسها وإنما يسيرها مسير إلى جهة واحدة لا تختلف.
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح، كما لو صلى على سرير يحمله أربعة.
قال ابن الصباغ: وهذا إنما يكون إذا كانت راحلته واقفة، أو كان لها من يسيرها فتتبعه.(2/152)
فأما إذا كان راكبا في كنيسة ضيقة، أو على: قتب، أو زاملة، أو سرج، وأراد أن يصلي عليها النافلة، وكانت الدابة واقفة، فإن كانت مقطرة. . . فله، أن يصلي حيثما توجه. وإن كانت منفردة. . . لزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة؛ لأنه يمكنه ذلك.
قال ابن الصباغ: والذي يقتضيه القياس: أنه ما دام واقفا. . فإنه لا يصلي إلا إلى القبلة، فإذا أراد السير.. انحرف إلى طريقه.
وإن كانت الدابة سائرة، فإن كانت مقطرة. . افتتح الصلاة، وأتمها إلى جهة مقصده.
وإن كانت منفردة، فإن كانت صعبة يشق إدارتها. . لم يلزمه إدارتها.
وإن كانت سهلة. . ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه إدارتها إلى القبلة، لافتتاح الصلاة، والركوع، والسجود؛ لأن ذلك يمكنه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن ذلك يقطعه عن سفره.
فإذا أراد أن يركع ويسجد. . أومأ إيماء إلا أنه يجعل السجود أخفض من الركوع.
فإن سجد على مقدمة سرجه أو رحله. . . جاز، ولا يلزمه ذلك.
وإذا استفتح الصلاة إلى جهة مقصده، ثم انحرف عنها إلى جهة ثانية، وثالثة، وكل ذلك جهات مقصده. . صحت صلاته.(2/153)
وإن انحرف إلى غير جهة مقصده، فإن كان جهة القبلة.. صحت صلاته؛ لأن القبلة هي الأصل. وإن كانت غير جهة القبلة، فإن كان عالما بذلك.. بطلت صلاته؛ لأنه عدل عن القبلة بما لا حاجة به إليه.
وإن كان مخطئا، بأن نسي أنه في الصلاة، أو ظن أنها جهة مقصده، أو غلبته الدابة. . قال الشافعي رحمه: (فإن رجع عن قريب. . بنى على صلاته، ولم يسجد للسهو، وإن تمادى ساهيا، ثم ذكر. . عاد وبنى على صلاته، وسجد للسهو) .
[فرع المسافر يدخل بلدًا مصليًا]
] . وإذا دخل الراكب بلدا وهو في الصلاة، فإن كان بلد إقامته، أو نوى الإقامة فيه. . . فعليه أن ينزل، ويتم صلاته إلى القبلة، ولا يؤثر النزول في الصلاة؛ لأنه عمل يسير.
وإن كان مجتازا فيه.. فإنه يتم صلاته إلى جهة مقصده، ولا تأثير للبنيان.
وإن دخله لينزل فيه، ثم يرتحل. . فإنه يمضي على صلاته، ما دام سائرًا، فإذا نزل. . صلى إلى القبلة.
وإن كان له فيه أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيه.. ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\أ] :
أحدهما: حكمها حكم دار إقامته؛ تغليبا لأهله وماله.
والثاني: حكمها حكم الصحراء؛ لأنه مسافر فيها.
[فرع تنفل المسافر الماشي]
] : وإن كان المسافر ماشيا. . . جاز له أن يتنفل إلى جهة مقصده.(2/154)
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز) .
دليلنا: أنه إحدى حالتي مسير السفر، فجاز فيه التنفل، كحالة الركوب.
إذا ثبت هذا: فإن الماشي يلزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع والسجود؛ لأن ذلك لا يقطعه عن السير. وهل يلزمه السجود على الأرض، أو يكفيه الإيماء، كالركب؟ فيه وجهان، حكاها في " الإبانة " [ق\61\أ] :
الصحيح: يلزمه ذلك على الأرض. وهل يلزمه استقبال القبلة في السلام؟
فيه وجهان.
ويجوز له القراءة والتشهد، وهو يمشي إلى جهة مقصده؛ لأن مدته تطول.
[فرع حكم غير الفرائض في السفر]
ويجوز سجود التلاوة والشكر، والسنن الرواتب في السفر في حال السير؛ لأنها نوافل.
وهل تصح فيه صلاة النذر؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يسلك به مسلك النفل، أو الفرض؟
وفي ركعتي الطواف قولان، بناء على القولين في وجوبهما.
قال الصيدلاني: ولا تصح صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء في حال السير في السفر؛ لأنها تندر.
وأما صلاة الجنازة، فإن تعينت عليه.. لم يجز فعلها في السير في السفر؛ لأنها واجبة عليه، فهي كفرائض الأعيان.
وإن لم تتعين عليه.. فوجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: تصح؛ لأنها غير واجبة عليه، فهي كسائر النوافل.
والثاني: لا تصح - وهو المنصوص - لأنها وإن لم تتعين عليه، فإنها تقع واجبة، وليست بتطوع.(2/155)
[فرع تنفل الحاضر]
فأما إذا أراد الحاضر أن يتنفل، فإن كان واقفا. . . لم يجز له ترك الاستقبال.
وإن كان سائرًا.. فهل يجوز له ترك الاستقبال في النفل؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له؛ لأن عادة الناس في الحضر المشي في حوائجهم أكثر النهار، فجوز لهم ترك الاستقبال في النفل، لئلا ينقطعوا عنه، كما قلنا في السفر.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يجوز؛ لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام.
[مسألة سترة المصلي]
المستحب لمن يصلي إلى السترة أن يدنو منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم إلى السترة. . . فليدن منها» .
قال الشافعي: (والمستحب أن يكون بينه وبينها ثلاثة أذرع، أو أقل) ؛ لما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بينه وبين قبلته قدر ممر العنز» : وهي الشاة.
وقد يكون ثلاثة أذرع أو أقل، ولا يتباعد منها أكثر من ذلك؛ لما روى ابن المنذر: أن مالكا كان يصلي مباينا عن السترة، فمر به رجل لا يعرفه، فقال: أيها المصلي، ادن من سترتك، فجعل مالك يتقدم، ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] [النساء: 113] .(2/156)
فإن كان يصلي في الصحراء.. فالمستحب: أن ينصب بين يديه عصا، ويكون طولها ذراعا، لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل. . فلا يبالي من مر وراء ذلك» .
قال عطاء: مؤخرة الرحل ذراع.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى العيد. . تنصب له الحربة، فيصلي إليها، وكذلك كان يفعل في السفر» .
قال الشيخ أبو حامد: ومن هناك اتخذ الولاة ينصبون الحربة في العيد.
قال في " مختصر البويطي ": (ولا يستتر بامرأة، ولا دابة) .
وقد ذكر ابن المنذر، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بعير» .
قال في " البويطي ": (ولا يخط المصلي بين يديه خطا، إلا أن يكون فيه حديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . فيتبع) .
وكرهه مالك، وأبو حنيفة.
وقال الشافعي في القديم: (أستحب له أن يخط بين يديه خطا) لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يكن معه عصا. . فليخط خطًا» .(2/157)
قال أصحابنا: يسن ذلك، قولا واحدًا؛ لهذا الحديث.
قال أبو داود: ويكون الخط كهيئة الهلال.
[فرع المرور بين يدي المصلي والتوجه لوجه آدمي]
] . قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكره المرور بين يدي المصلي، إذا كان يصلي إلى سترة أو عصا أو خط، وكان بينهما ثلاثة أذرع، أو ذراعان. فإن مر بين يديه مار في هذه الحالة. . فله منعه.
وإن لم يجعل المصلي تلقاءه شيئا من ذلك. لم يكره المرور بين يديه؛ لأن المصلي فرط في حق نفسه.
وإن مر بين يدي المصلي مار. . لم تبطل صلاته.
وقال أحمد، وإسحاق: (إن مر بين يديه كلب أسود، أو امرأة حائض، أو أتان. . بطلت صلاته) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقطع صلاة المرء شيء، فادرؤوا ما استطعتم» .
ويكره أن يجلس رجل مستقبل القبلة للمصلي، لما روي: " أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب رجلين فعلا ذلك ".
وبالله التوفيق.(2/158)
[باب صفة الصلاة]
إذا أراد الرجل أن يصلي في جماعة. . لم يقم، حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.
وقال أبو حنيفة: (يقوم إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، ويكبر إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة) .
دليلنا: ما روي: أن بلالا لما أخذ في الإقامة. . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقامها الله وأدامها» وقال في سائر الإقامة كقوله، وهذا يبطل قول أبي حنيفة.
ولأن قبل الفراغ من الإقامة ليس بوقت للدخول، فلا معنى للقيام.
والقيام فرض في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] ، قال الشافعي: (مطيعين) .
وروى عمران بن الحصين قال: «كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة؟ فقال: " صل قائمًا، فإن لم تستطع.. فقاعدًا، فإن لم تستطع.. فعلى جنب» .
وأما النفل: فيصح قاعدا مع القدرة على القيام؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتنفل قاعدًا على راحلته في السفر» .
وهل له أن يتنفل مضطجعا، أو مومئا مع القدرة على القعود؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\64] .
[مسألة النية في الصلاة]
ثم ينوي، والنية واجبة في الصلاة، لا خلاف في وجوبها.(2/159)
والأصل في وجوبها قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . و (الإخلاص) : هو النية.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
إذا ثبت هذا: فالكلام في محل النية، ووقتها، وكيفيتها.
فأما (محلها) : فالقلب؛ لأن النية الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب.
فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فقد أتى بالأكمل. وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. لم يجزه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لأن الشافعي قال: (وليس الصلاة كالحج؛ لأن الصلاة في أولها نطق واجب) .
وهذا غلط؛ لأن النية هي القصد، وقد وجد منه ذلك، وما قاله الشافعي.. فإنما أراد به: النطق بالتكبير، لا بالنية.
وأما (وقتها) : فإن الشافعي قال: (وإذا أحرم إماما كان أو وحده.. نوى صلاته في حال التكبير لا قبله، ولا بعده) .
قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أنه لا يجوز أن تتقدم النية على التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: (لا قبله) : أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير.
وكذلك لم يرد بقوله: (ولا بعده) : أنه لا يجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد به لو ابتدأ بالنية بعد التكبير.. لم يجزه، فإن نوى قبل التكبير واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام ذكرها بعد الفراغ من التكبير.. أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره ذلك.
وإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها في أول التكبير لا غير.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ".
أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه عري حرف من التكبير عن ذكر النية، فلم يجزئه، كما لو عري أول حرف منها.(2/160)
والثاني: يجزئه - وهو اختيار صاحب " الفروع " - لأنه يشق استصحاب ذكر النية في جميع التكبير.
ويجب أن يستصحب حكم النية لا ذكرها في جميع الصلاة، كما قلنا في الطهارة. هذا مذهبنا.
وقال داود: (يجب أن تتقدم النية على التكبير، فإن نوى مع التكبير. . لم يجزئه؛ لأنه إذا نوى مع التكبير، فإلى أن تتكامل نيته، يمضي جزء من التكبير عاريا عن النية) .
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إذا تقدمت النية على التكبير بزمان يسير. . جاز) .
دليلنا على داود: أن النية ليست بلفظ يحتاج أن يأتي بها حرفا بعد حرف، فيتكامل ذلك في أزمنة متراخية، وإنما هي اعتقاد، والاعتقاد يمكن في جزء يسير.
وعلى أبي حنيفة، وأحمد: أنها تحريمة عريت عن النية، فلم تصح، كما لو تقدمت على التكبير بزمان طويل.
وأما (كيفية النية) : فإن كانت الصلاة فرضا. . فلا بد أن ينوي: أنها الظهر، أو العصر؛ لتتميز عن غيرها. وهل يجب عليه أن ينوي: أنها فريضة عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يجب عليه ذلك؛ ليتميز عن ظهر الصبي، وظهر من صلى وحده، ثم أدرك جماعة يصلون فصلاها معهم.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي حنيفة -: أنه لا يجب عليه ذلك؛ لأنها لا تكون على هذا إلا فرضا.
ولأن الصبي إذا صلى صلاة الوقت في أول الوقت، ثم بلغ في آخره.. أجزأه عند الشافعي وإن لم ينو الفريضة.
ولأن الشافعي قال: (إذا صلى وحده، ثم أعادها في جماعة. . . إن الله يحتسب له بأيتهما شاء) ، هذا يدل على: أن نية الفرض لا تجب عليه.
وهل يلزمه نية أعداد الركعات، ونية استقبال القبلة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\ب] والصحيح: لا يلزمه.(2/161)
وهل يلزمه أن ينوي: لله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الصلاة لا تكون إلا لله.
الثاني: يلزمه؛ ليتميز عن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء.
[فرع نية القضاء]
] . وإذا أراد أن يصلي الفائتة. . . فهل تلزمه نية القضاء؟ فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبو حامد قولين.
أحدهما - قاله في القديم -: (أنه لا بد من نية القضاء؛ ليتميز عن صلاة الوقت) .
والثاني -وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه لا يفتقر إلى نية القضاء؛ لأن الشافعي نص فيمن صلى يوم الغيم، وبان أنه صلى بعد الوقت: (أنه يجزئه) ، ونص في الأسير، إذا تحرى، فوافق صومه ما بعد رمضان: (أنه يجزئه) ، وكذلك لو اعتقد أن وقت الصلاة قد فات، فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت باق.. أجزأه، فبان: أن نية القضاء ليست بواجبة.
قال ابن الصباغ: ويمكن أن يجاب القاضي عن هذا، فيقال له: هاهنا نوى صلاة وقت بعينه، وهو ظهر هذا اليوم، فكيف وقعت. .أجزأه؛ لأنه قد عين وقت وجوبها، كمن نوى صلاة أمس فاتته. . فإن يجزئه وإن لم ينو القضاء. وإنما يتصور الخلاف فيمن عليه فائتة الظهر، فصلى في وقت الظهر، ينوي: صلاة الظهر الفريضة، فإن هذه الصلاة تقع بحكم الوقت.
وإذا كان نسى أنه صلى، فصلى ثانيا، ينوي: الظهر الفريضة، فيجيء على ما حكاه الشيخ أبو حامد عن القديم: أنه لا يجزئه عن القضاء، ويقع نافلة، وعلى قول القاضي.. يجزئه.
ولا يشبه هذا ما ذكره الشافعي لما مضى، ويلزم القاضي أن يقول: في رجل صلى قبل الظهر صلاة الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل ولم يكن دخل -: إنها تجزئه عن(2/162)
فائتة الظهر. وأما من صلى في غير وقت الظهر، ونوى: الظهر الفريضة، وهو عالم بالوقت.. فلا بد أن يكون عالما بسبب الوجوب، وهو فوت الظهر في وقتها، فقد تضمنت نيته القضاء. ومثل ما صورته في الصلاة لا يتصور في الصوم؛ لأنه لا يقضيه. إلا في غير زمانه، فإذا نواه في غير رمضان. . فقد تضمنت نيته القضاء.
[فرع النية لأكثر من صلاة فائتة]
قال في " الأم " [1/186] : (ولو فاتته الظهر والعصر، فدخل في الصلاة ينويهما جميعا.. لم تجزئه) ؛ لأن التعيين واجب، وتشريكه بين الصلاتين يمنع وقوعها لإحداهما.
قال: (ولو دخل بنية إحداهما، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى.. لم يجزئه هذا عن إحداهما، حتى يتيقن أيتهما نوى) .
[فرع الاستثناء وتشريك النية بين فرض وسنة]
قال الصيدلاني: إذا زاد في النية: إن شاء الله. فإن أراد الاستثناء. . . لم تصح؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ينافيها ويرفعها.
وإن أراد إيقاع الصلاة بمشيئة الله. . أجزأه؛ لأن الأفعال لا تقع إلا بمشيئة الله. وإن نوى الفرض والنفل. . لم تنعقد صلاته. وبه قال محمد.
وقال أبو حنيفة: (تنعقد بالفرض) .
دليلنا: أنه نوى صلاتين مختلفتين، فلم تصح، كما لو نوى الفرض والجنازة. ذكره أبو المحاسن.
[فرع نية الإمام والمأموم]
إذا كان إماما. . . فيسن له: أن ينوي الإمامة، فإن لم ينو ذلك. . لم تحصل له فضيلة الجماعة، هكذا ذكره الجويني. وتجوز نية الإمامة بعد التكبيرة.(2/163)
وإن كان مأمومًا.. قال الجويني، والمسعودي [في " الإبانة " ق\61\ب] : فعليه أن ينوي الاقتداء، فإن لم ينو ذلك، وتابع الإمام. . بطلت صلاته.
[فرع التكبير بغير نية]
إذا كبر مع النية، ثم كبر من غير نية.. لم تبطل الأولى؛ لأن التكبير لا يبطل الصلاة. وإن كبر ثانيًا، ونوى افتتاح الصلاة.. قال ابن القاص: بطلت الأولى، ولا تصح الثانية؛ لأن الشروع لا يتكرر. فإذا نوى الافتتاح ... فلا يكون إلا بعد الخروج من الأولى فتضمنت نيته الخروج من الأولى، ولم تصح له الثانية؛ لأن الشيء الواحد لا يصير به خارجًا من الصلاة، داخلاً به فيها.
فإن كبر ثالثًا: صحت له، فإن كبر رابعا مع النية. . . بطلت الثالثة.
وحكى الصيدلاني وجها آخر: أن الأولى لا تبطل بالثانية؛ لأنه تكرار تكبير لم ينو به الإبطال.
والأول هو المشهور.
فلو قطع نيته الأولى قبل التكبيرة الثانية.. انعقدت الصلاة بالثانية.
قال الطبري: فإن نوى الشروع قبل التكبيرة الثانية، ثم كبر الثانية مستديما لهذه النية. . فهل يصير شارعا بالصلاة في التكبيرة الثانية؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إذا لقيت فلانا.. فقد خرجت من الصلاة.. فهل تبطل في الحال، أو حتى يلقاه؟ على جهين:
فإن قلنا: تبطل في الحال. . . صح له الشروع هاهنا بالتكبيرة الثانية؛ لأنه لما نوى الشروع. . صار كأنه نوى قطع الصلاة؛ فإذا كبر مستديما لهذه النية. . انعقدت صلاته.
وإن قلنا: لا تبطل صلاته حتى يلقى فلانا، لم يصر شارعا هاهنا بالتكبيرة الثانية، فإن كبر ثالثا. . انعقدت.(2/164)
[فرع نية الرواتب وغيرها]
] . وإن كانت الصلاة نافلة، فإن كانت غير راتبة.. أجزأته نية الصلاة، وإن كانت راتبة.. فلا بد أن ينوي سنة الظهر أو الصبح، أو صلاة العيد وما أشبهها، لتتميز بذلك عن النوافل التي ليست براتبة.
[فرع الشك في النية]
] . قال الشافعي: (وإذا شك هل عين النية للفريضة؟ ثم ذكر بعد ذلك، أنه كان قد عين، فإن كان ذلك قبل أن يفعل شيئا من الصلاة.. مضى على صلاته وأجزأه وإن تذكر بعد ما فعل شيئا من الصلاة في حال الشك. . . بطلت) .
وإن كان هذا الشك في أصل النية. . . ففيه وجهان:
أحدهما: أن حكمه حكم ما لو شك في التعيين، وهو الأصح؛ لأن التعيين يجب كما يجب أصل النية.
والثاني: تبطل الصلاة بنفس الشك؛ لأنه لم يتيقن الدخول في الصلاة.
إذا ثبت هذا: فإن قرأ الفاتحة، أو ركع، أو رفع منه، أو سجد، أو رفع منه في حال الشك.. بطلت صلاته؛ لأن فعل الصلاة في حال الشك، لا يصح.
وإن وقف، ولم يفعل شيئا من ذلك، أو سبح في حال الشك إلى أن ذكر. . لم تبطل صلاته؛ لأن الصلاة لو خلت من ذلك الجزء. . . لجازت، بخلاف القراءة، والأفعال التي ذكرناها.
[فرع الشك في نية القصر]
] . ولو كان مسافرًا فشك: هل نوى القصر؟
فإن تذكر في الحال أنه كان قد نواه. . لزمه الإتمام؛ لأنه حصل في جزء من صلاته من غير نية القصر، فيصير في تلك الحال كأنه نوى الإتمام.(2/165)
وإن صلى الظهر والعصر، ثم تيقن أنه نسي النية في إحداهما.. وجب عليه إعادتهما.
[فرع نية الخروج]
وإن نوى الخروج من الصلاة، أو شك: هل يخرج أم لا. . بطلت صلاته.
وقال أبو حنيفة: (لا تبطل) .
دليلنا: أن استدامة حكم النية واجب في الصلاة، فإذا قطعها.. بطلت، كما لو أحدث فيها عامدًا.
وإن دخل صلاة الظهر، ثم صرفها إلى العصر.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يبطل الظهر؛ لأنه قطع نيته، ولا تصح له العصر؛ لأنه لم ينوها عند الإحرام.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\62] : لا تصح له الظهر والعصر، وهل تصح له نفلا؟ فيه قولان.
قال: وكذا لو كبر للظهر قاعدا مع القدرة على القيام، أو أحرم بالظهر قبل الزوال، أو اقتدى بإمام مريض يصلي قاعدًا، فقدر على القيام، فلم يقم، وعلم بحاله، فلم يخالفه.. فهل تنعقد له نفلا؟ فيه قولان.
قال: ومثله لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج. . لم ينعقد له الحج، وهل تنعقد له العمرة؟ فيه قولان.
وإن صرف الظهر إلى النفل. . قال أصحابنا البغداديون: فإن الظهر لا يصح له؛ لأنه قطع نيته.
وهل يصح له النفل؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يصح له، كما لا تصح العصر إذا انتقل إليه من الظهر.
والثاني: يصح لأن نية الفرض تتضمن النفل، ولهذا لو أحرم بالظهر قبل وقته وهو يظن أن الوقت قد دخل. . . أنها تنعقد له نافلة.(2/166)
[مسألة تكبيرة الإحرام]
وتكبيرة الإحرام واجبة لا تنعقد الصلاة إلا بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريهما التكبير، وتحليلها التسليم» .
قال الصيمري: والإمام يدخل في الصلاة بفرضين وسنتين:
فالفرضان: النية والتكبير، والسنتان: رفع اليدين، والجهر بالتكبير.
والمأموم يدخل بفرضين وسنة؛ لأنه لا يسن له الجهر بالتكبير، بل يسمع نفسه.
قال الشافعي: (ولا يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله الأكبر) .
وقال مالك: (لا تنعقد بقوله الله الأكبر) .
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (تنعقد بكل اسم لله على وجه التعظيم، كقوله: الله العظيم، أو: الله الجليل، وكقوله: الحمد لله، أو: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، فأما الدعاء، كقوله: اللهم اغفر لي وارحمني. . فلا تنعقد به الصلاة) .
وقال الزهري: لا تفتقر الصلاة إلى التكبير، بل إذا نوى الصلاة. . انعقدت وإن لم يكبر، كسائر العبادات.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير» . وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بقوله: " الله أكبر "، وما روي عنه: أنه عدل إلى غيره، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .(2/167)
وقوله: الله الأكبر، هو كقوله: الله أكبر، وفيه زيادة لا تحيل المعنى، فإن قال: الله العظيم الخالق أكبر. . أجزأه، وإن قال: الله أكبر وأجل وأعظم وأعز. . . أجزأه؛ لأنه أتى بقوله: الله أكبر، وزاد زيادة لا تحيل المعنى، فهو كقوله: الله أكبر كبيرًا.
قال الشافعي: (وإن قال: الله أكبر من كل شي وأعظم، ونوى به التكبير. . . دخل في الصلاة بقوله: الله أكبر، وكان ما زاد عليه نافلة، وإن قال: الله الكبير، أو الكبير الله. . لم يجزئه؛ لأن ذلك ليس بتكبير) .
وإن قال: أكبر الله، أو الأكبر الله. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما لو قال: عليكم السلام في آخر الصلاة.
والثاني: لا يجوز، كما لو غير الترتيب في الفاتحة.
وقال المسعودي في [" الإبانة " ق\63] : نص الشافعي: (أنه لو قال: الأكبر الله.. لا يجزئه) ، ونص: (لو قال: عليكم السلام. . . أجزأه) .
فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في التكبير: لا يجزئه، وفي السلام: يجزئه؛ لأنه يسمى مسلما وإن عكسه، ولا يسمى مكبرا إذا عكسه.
[فرع التكبير بالعربية]
] : ولا يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية - وبه قال محمد، وأبو يوسف - وكذلك سائر الأذكار فيها مثل التسبيح والتشهد.
وهل يجوز أن يأتي بالشهادتين في غير الصلاة بالفارسية مع قدرته على العربية؟ وهل يحكم بإسلامه بذلك؟ فيه وجهان.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .(2/168)
فإن لم يحسن العربية. . فعليه أن يتعلم. فإن اتسع الوقت للتعلم، فلم يفعل، وكبر بالفارسية. . لم تصح صلاته؛ لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه.
[فرع تكبير الأخرس ونحوه]
فإن كان بلسانه اضطراب، لا يمكنه أن يفصح بالتكبير، أو كان أخرس، أو مقطوع اللسان. . فإنه يجب عليه أن ينوي التكبير، ويحرك لسانه وشفتيه بقدر ما يمكنه، وكذلك في القراءة والأذكار الواجبة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . . فأتوا منه ما استطعتم» .
[فرع الجهر بالتكبير]
] . قال في " الأم " [1/88] : (وأحب للإمام أن يجهر بالتكبير ويبينه، ولا يمططه، وإنما يجهر؛ ليسمع المأموم) .
و (التمطيط) : هو المد، وذلك مثل أن يقول: أكبار، فيزيد ألفا. . فلا يجوز؛ لأن (الأكبار) : جمع كبر، وهو الطبل.
وكذلك إن مد الهمزة التي في قوله: آلله. . . لا يجزئه؛ لأنه يصير استفهامًا.
ولا يقصره أيضا، بحيث ينقص حروفه.
وأما المأموم: فلا يستحب له الجهر به؛ لأنه لا يتعبه غيره، بل يأتي بالواجب، وأقله: أن يسمع نفسه، وإن كان أقل من ذلك. . لم يعتد به؛ لأن ذلك ليس بتكبير، بل هو حديث نفس.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنساء يسمعن أنفسهن بالتكبير، فإن أمتهن إحداهن. . جهرت بالتكبير؛ لأنه يقتدى بها، وتخفض من صوتها، ليكون دون صوت الرجال)(2/169)
[فرع نقص لفظ التكبير]
قال في " الأم " [2/87-88] : (فإن بقي من التكبير حرف، فأتى به وهو منحن للركوع. . لم يكن داخلا في الصلاة المكتوبة، وكان في نافلة) .
قال القاضي أبو الطيب: هذا إذا كان جاهلًا بأن ذلك لا يجوز، فأما إذا كان عالما بأن ذلك لا يجوز: فإنها لا تنعقد صلاته بفرض ولا نفل، كما قلنا - فيمن صلى الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل، ولم يكن دخل -: إنها تنعقد له نفلا، وإن صلى الظهر قبل وقتها مع علمه بذلك. . لم تنعقد صلاته.
هذا نقل أصحابنا البغدادين، وقد تقدمت طريقة الخراسانيين.
[فرع التكبير والتسليم من الصلاة]
التكبير من الصلاة - إلا أنه لا يدخل في الصلاة إلا باستكمال التكبير - وهو أول الصلاة، والتسليم من الصلاة وهو آخرها.
وقال أبو حنيفة: (التكبير ليس من الصلاة، وإنما يدخل به فيها، والتسليم ليس من الصلاة، وإنما يخرج به منها) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والقراءة والتسبيح» فدل على: أن التكبير من جملتها.
ولأنه ذكر من شرط صحة كل صلاة، فوجب أن يكون منها، كالقراءة.
فقولنا: (من شرط صحة كل صلاة) احتراز من الخطبة، فإنها شرط في الجمعة لا غير.(2/170)
[فرع تكبير المأموم عقب تكبير الإمام]
] : ولا يكبر المأموم، حتى يفرغ الإمام وبه قال مالك، وأبو يوسف.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (يكبر مع الإمام، كما يركع مع ركوعه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا كبر الإمام. . فكبروا» .
فإن سبق المأموم الإمام بالتكبيرة. . فإنه ينوي قطعها، ثم يكبر، وينوي الاقتداء بالإمام.
قال ابن الصباغ: وهذا يتصور عندي، إذا اعتقد أنه قد كبر، ولم يكن قد كبر. وإن ألحق صلاته بصلاة الإمام من غير أن ينوي القطع. . ففيه قولان، كما نقول في المنفرد إذا ألحق صلاته بصلاة الإمام، ويأتي توجيههما.
وإن أدرك الإمام في الركوع، فكبر تكبيرة واحدة، نوى بها الافتتاح، وتكبيرة الركوع.. لم تجزئه عن الفرض؛ لأنه أشرك بين الفرض والنفل، وهل تجزئه عن النفل؟ فيه وجهان:
أحدهما: تنعقد نفلا، كما لو أخرج رجل خمسة دراهم، ودفعها إلى المساكين، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، فإنها لا تجزئه عن الزكاة، وتقع له تطوعا.
والثاني: لا تنعقد نفلًا، كما لو أحرم بصلاة ونواها عن الفرض والنفل. . فإن صلاته لا تنعقد.
[مسألة رفع اليدين]
ويستحب أن يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، وعند الركوع، والرفع منه، وبه قال(2/171)
الأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك.
وقالت الزيدية: لا يرفع يديه في شيء من الصلاة.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: (يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، ولا يرفع في الركوع، ولا في الرفع منه) .
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين» .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (روى هذا اثنا عشر رجلا من الصحابة، ورواه أبو حميد في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهم: أبو قتادة) .
إذا ثبت هذا: فإنه يرفع يديه، حتى تحاذي كفاه منكبيه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (يرفعهما، حتى تحاذي الكفان الأذنين) .
واحتج بما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه، حتى حاذتا أذنيه» .
ودليلنا: ما روي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما قدم العراق المرة الأولى، جاءه أبو ثور، والكرابيسي - وكانا شيخي العراق - فأرادا أن يستعلما ما عنده، فقالا له:(2/172)
تكلم، فقال: تكلما، فقالا: ما تقول في رجلين اصطدما، ومع كل واحد منهما بيضة، فانكسرت البيضتان؟ فقال: (هذا سهل، على كل واحد منهما نصف قيمة بيضة صاحبه. ولكن ما تقولان في رفع اليدين عند الافتتاح؟) فقالا: يرفع اليدين إلى المنكبين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذو منكبيه» . فقال: (ما تقولان فيما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى حاذتا أذنيه» ؟ . فقالا: نرفع اليدين إلى الأذنين، فقال: (فما تقولان فيما روى وائل بن حجر في خبر آخر: فرجعت إليهم - يعني: الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم؟) فقالا: لا نعلم.
فقال الشافعي: (أما رواية ابن عمر: فأراد أنه رفع الكف إلى المنكب، وأما رواية وائل بن حجر: فأراد أنه رفع أطراف الأصابع إلى أذنيه، وأما روايته الأخرى: أنه رجع إليهم وهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم: فإنما كان رجع إليهم في الشتاء، وكانت عليهم برانس وثياب الصوف الثقال، فلم يمكنهم أن يرفعوا أيدهم إلى المناكب؛ لثقل ما عليهم، فرفعوا إلى صدورهم) . فاستعمل الأخبار الثلاثة.
ومتى يرفع يديه؟
حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين:
أحدهما - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه لا يقدم رفع يديه على التكبير؛ لأن الرفع من هيئات الصلاة، والتكبير أول الصلاة، فلا تتقدم هيئته عليه، بل يرفع يديه عند ابتداء التكبير، فيفرغ من الرفع قبل فراغه من التكبير، فيتركهما مرفوعتين، حتى يفرغ من التكبير، ثم يرسلهما. فإن ترك يديه مرفوعتين بعد التكبير. . قال الشافعي: (لم يضره ذلك، ولا آمره به) .
والثاني: وهو قول الشيخ أبي إسحاق المروزي، وأبي علي الطبري، أنه يبتدئ(2/173)
بالرفع مع ابتداء التكبير، ويفرغ منه مع فراغه من التكبير.
وليس بشيء؛ لأن من سنة التكبير: أن يأتي به مبنيا مرتلا، ولا يمكنه أن يأتي به على هذه الصفة في حال الرفع؛ لأن الرفع يحصل في وقت يسير لا يتمكن فيه من بيان التكبير وترتيله.
وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\63] فيه وجهين آخرين.
أحدهما: أنه يرفع يديه من غير تكبير، ثم يرسلهما بتكبير. واستدل بأن أبا حميد الساعدي روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يرفع يديه، ثم يكبر وهما مرفوعتان، ثم يرسلهما بعد التكبير، واستدل بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فرع في رفع اليدين]
قال الشافعي في " الأم " [1/90] : (ويرفع يديه في كل فريضة ونافلة، ولا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، ولا فرق بين أن يصلي قائما أو قاعدا) .
قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين، حيث أمر به. . كرهت ذلك، ولا إعادة عليه، ولا سجود) .
وقال في " الأم ": (وينشر أصابع يديه للتكبير) ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا كبر في الصلاة. . نشر أصابعه» .
فإن نسي الرفع حتى فرغ من التكبير. . . لم يسن له الإتيان به؛ لأن محله فات وإن ذكره في أثناء التكبير. . أتى به؛ لأن محله باق.
وإن كان بيديه علة لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين. . رفعهما إلى حيث أمكنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . فأتوا منه ما استطعتم» .(2/174)
وإن كانتا قائمتين لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين إلا بأن يعلوا على المنكبين. . رفعهما إلى أعلى المنكبين. وكذلك إن كان يمكنه الرفع إلى ما دون المنكبين، ويمكنه الرفع إلى أعلى المنكبين ولا يمكنه الرفع إلى المنكبين. . فإنه يرفعهما إلى أعلى المنكبين؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها.
وإن كانت إحدى يديه صحيحة، والأخرى عليلة. . رفع الصحيحة إلى المنكبين، ورفع العليلة إلى حيث أمكنه؛ لما مضى.
[مسألة موضع اليدين عقب التكبير]
فإذا فرغ من التكبير، وحط يديه. . . فالمستحب: أن يقبض بكفه اليمنى كوعه الأيسر مع الرسغ وبعض الساعد، ويضعهما تحت صدره، وفوق سرته.
وحكى أبو إسحاق في " الشرح ": أن الشافعي قال في " الأم ": (القصد تسكين يديه، فإن أرسل يديه، ولم يعبث بهما. . فلا بأس) . وروي ذلك عن ابن الزبير.
وقال الليث: (إن أعيا في الصلاة. . فعله، وإلا. . لم يفعله) .
وقال الأوزاعي: (من شاء. . فعل، ومن شاء. . ترك) .
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": إذا وضع يديه إحداهما على الأخرى. . جعلهما تحت سرته. وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه.
دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] قال: (وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت النحر) . وهذا لا يقوله إلا لغة، أو توقيفا.
وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نؤخر السحور،(2/175)
ونعجل الفطر، ونأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة» .
«وروى وائل بن حجر: (أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) » .
[فرع موضع نظر المصلي]
ويتسحب أن يكون نظره في جميع صلاته إلى موضع سجوده، وبه قال أبو حنيفة والثوري.
وقال مالك: (ينظر أمام قبلته) .
وقال شريك بن عبد الله: ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود على حجره.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة. . . لم ينظر إلا إلى موضع سجوده» .
ولأنه أبلغ في الخشوع، فكان أولى.
[مسألة دعاء الإفتتاح]
] : وأول ما يأتي به من الذكر - في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام - دعاء الاستفتاح في الفريضة والنافلة.
وقال مالك: (لا يأتي به، بل يبتدئ بالقراءة) .
والذي استحبه الشافعي أن يقول: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استفتح الصلاة. . قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات(2/176)
والأرض حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ورب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين» .
وأما المنقول في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنا أول المسلمين» ولكن لا يقوله غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان أول المسلمين من هذه الأمة.
ثم يقول: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهديني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها إنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، إنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» .(2/177)
فقوله: «والخير بيديك، والشر ليس إليك» يقتضي: أن الخير من فعل الله، والشر ليس من فعله، ولم يفرق أحد من الأئمة بينهما؛ لأن أصحاب الحديث يقولون: الخير والشر من فعل الله، والمعتزلة يقولون: هما من فعل العبد.
إلا أن للخير تأويلين:
أحدهما - ذكره المزني -: وهو أن معنى: " والشر ليس إليك " أي: لا يضاف إليك وإن كنت خلقته؛ لأنه لا يضاف إليه إلا الحسن من أفعاله، فيقال: يا خالق النور والشمس والقمر، ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالقها، كذا لا يضاف إليه الشر وإن كان خالقه.
والتأويل الثاني - ذكره ابن خزيمة - أنه أراد أن الشر لا يُتقرب به إليك، وإنما يتقرب إليك بالخير.
قال ابن الصباغ: فإن كان منفردًا. . أتى بجميع ذلك. وإن كان إماما. . أتى به، إلا أن يكون في ذلك مشقة على المأمومين.
قال الطبري في " العدة ": والمستحب أن يقول: (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا) ، وجهت وجهي. .إلى آخره.
وقال أبو حنيفة: (يستحب أن يقول عقيب التكبيرة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك) . روته عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقرأ.(2/178)
وقد استحب جماعة من أصحابنا أن يجمع بين هذا. وبين ما رواه الشافعي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو مذهب أبي يوسف.
[مسألة استحباب التعوذ]
ثم يتعوذ قبل القراءة، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وقال النخعي، وابن سرين: يتعوذ بعد القراءة. وبه قال أبو هريرة.
وقال مالك: (لا يتعوذ إلا في قيام رمضان بعد القراءة) .
وقال الثوري: يتعوذ قبل القراءة، ولكن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم.
وقال الحسن بن صالح: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) .(2/179)
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر بالتعوذ. وإن كان في صلاة يجهر بها. . فقال الشافعي في " الأم " [1/93] : (كان أبو هريرة يجهر به، وابن عمر يسر به. وأيهما فعل. . جاز) وظاهر هذا: أنهما سواء.
وقال في " الإملاء ": (السنة: أن يجهر به.) .
فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان.
أحدهما: أنه مخير فيه بين الجهر والإسرار.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجهر به؛ لما روي في الخبر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة» . فلولا أنه جهر به.. لما سمع منه.
وقال أبو علي الطبري: السنة: أن يسر به؛ لأن السنة: الجهر للقراءة أو التأمين، دون غيره من الأذكار.
ويستحب ذلك في الركعة الأولى، وهل يستحب فيما سواها؟ فيه طريقان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يستحب في كل ركعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] [النحل: 98] وهذا يريد القراءة.
والثاني: لا يستحب إلا في الركعة الأولى؛ لأنه ذكر شرع قبل القراءة، وبعد الافتتاح، فلم يسن في غير الأولى، كدعاء الاستفتاح.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يستحب في كل ركعة، قولا واحدًا، وإنما في الأولى أشد استحبابا.
فإن قلنا: يستحب في الأولى لا غير، فنسيه فيها. . أتى به في الثانية، ومتى ذكره. .(2/180)
أتى به في ابتداء القراءة، فمتى تركه ناسيا، أو جاهلًا أو عامدًا. . لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو.
[مسألة قراءة الفاتحة]
ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وهي فرض في الصلاة، فإن تركها عامدا مع القدرة عليها. . لم تصح صلاته، وإن تركها ناسيا. . ففيه قولان:
[أحدهما] قال في القديم: (يجزئه) لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ترك القراءة في الصلاة، فقيل له في ذلك، فقال: (كيف كان الركوع والسجود؟) قالوا: حسنا قال: (فلا بأس به) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه) وهو الأصح؛ لأن ما كان واجبًا في الصلاة.. لم يسقط بالنسيان، كالركوع والسجود.
هذا مذهبنا.
وقال الحسن بن صالح، والأصم: لا تجب القراءة في الصلاة.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (القراءة واجبة في الصلاة، إلا أنها لا تتعين) .
واختلفوا فيما يجزئه منها، فالمشهور من مذهبه: أن الواجب آية، إما طويلة، أو قصيرة، وروي عنه: (ما يقع عليه اسم القراءة) .
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن قرأ آية طويلة، كآية الكرسي، أو آية الدَّيْن. . أجزأه، وإن كانت قصيرة.. لم تجزئه إلا ثلاث آيات.
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيقرأ في الصلاة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أو تكون صلاة بلا قراءة؟!» .(2/181)
وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» .
وروى الشافعي بإسناده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تجزئ صلاة لم يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب» .
[فرع قراءة البسملة]
ويجب أن يبتدئها بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وهي آية منها، بلا خلاف على المذهب.
وهل هي آية من أول كل سورة غير براءة؟
الظاهر من المذهب: أنها آية من أول كل سورة غير براءة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أثبتوها في أول كل سورة غير براءة، ولم يثبتوا بين الدفتين غير القرآن.
ومن أصحابنا من يحكي فيها قولا آخر للشافعي، وبعضهم يحكيه وجهًا لبعض أصحابنا: أنها ليست بآية من أول كل سورة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سورة ثلاثون آية شفعت(2/182)
لقارئها، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » . ومعلوم أنها ثلاثون آية غير البسملة.
وهل هي آية من أول الفاتحة وغيرها على سبيل القطع، أو على سبيل الحكم؟
فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنها آية من أول كل سورة قطعًا، كسائر القرآن.
وهذا القائل لا يقبل في إثباتها خبر الواحد، وإنما يثبتها بالنقل المستفيض؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نقلت إلينا هذه المصاحف، وأثبتوا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، ولم يكونوا يثبتون في المصحف شيئًا إلا ما يقطعون على كونه قرآنًا. ألا ترى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أن يقال: إن عمر زاد في كتاب الله. . لكتبت آية الرجم على حاشية المصحف: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله ") .
و [الثاني] : منهم من قال: إني أثبتها قرآنًا، حكمًا على معنى: أنه يجب قراءتها في الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بها، ولا أقطع على كونها قرآنًا في أول كل سورة.
وهذا القائل يقبل في إثباتها خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يوجب العمل، ولا يوجب العلم، وهذا مثل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس» .(2/183)
ولا خلاف على الوجهين: أن رادها ومثبتها. . لا يكفر، وأن تاركها. . لا يفسق؛ لحصول الشبهة في الاختلاف فيها. هذا مذهبنا.
وذهب مالك، والأوزاعي إلى: (أنها ليست من القرآن، إلا في سورة (النمل) ، فإنها بعض آية منها، وفي سائر السور إنما ذكرت تبركًا بها. ولا تقرأ في الصلاة إلا في قيام رمضان، فإنها تقرأ في ابتداء السورة بعد الفاتحة، ولا تقرأ في ابتداء الفاتحة) .
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أنها ليست بآية من فاتحة الكتاب، وليست بشرط في صحة الصلاة؛ لأن القراءة لا تتعين عندهم، إلا أنه يستحب له قراءتها في نفسه سرًا.
واختلف أصحابه في مذهبه: فقال بعضهم: مذهبه كمذهب مالك، وأنها ليست من القرآن، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية، وهو الظاهر من مذهبه.
وقال بعضهم: مذهبه: أنها آية في كل موضع ذكرت فيه، إلا أنها ليست بآية من السورة. ويختارون هذا، ويناظرون عليه.
دليلنا - أنها آية من فاتحة الكتاب وغيرها -: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قرأتم فاتحة الكتاب. . فاقرؤوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فإنها أم القرآن، والسبع المثاني، وإن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إحدى آياتها» .
وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنزل علي آنفًا سورة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] » .(2/184)
[فرع الجهر بالبسملة]
واختلف أهل العلم في الجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فيما يجهر به من الصلوات:
فذهب الشافعي إلى: أنه يجهر بها - بأول الفاتحة، وفي أول السورة - فيما يجهر به من القراءة في الصلاة، ويسر بها فيما يسر بالقراءة في الصلاة.
وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؛ وهي إحدى الروايتين عن عمر. وبه قال من التابعين: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير.
وذهبت طائفة إلى: أنه يسر بها في كل صلاة.
وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وهي إحدى الروايتين عن عمر، وبه قال(2/185)
الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أحمد يقول: (هي من القرآن، ولكن يسر بها) .
وقال مالك، والأوزاعي: (لا تقرأ في الصلاة) ؛ لأنها ليست من القرآن عندهما، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية.
دليلنا: ما روى علي وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر بها في الصلاة، وبين السورتين» .
وروى نافع، عن ابن عمر قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكانوا يجهرون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » .
[فرع كيفية القراءة]
] : والمستحب: أن يقرأ قراءة مرتلة، من غير عجلة، ولا تمطيط. ويستحب ذلك لكل قارئ في الصلاة وغيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} [المزمل: 4] [المزمل: 3] . إلا أنه في الصلاة أشد استحبابًا؛ لأن القراءة تجب فيها دون غيرها.(2/186)
قال الشافعي: (فإن أخل ببعض الفاتحة، أو بحرف من حروفها: إما ألف، أو لام، أو غير ذلك. . لم تجزئه صلاته) .
قال أصحابنا: وكذلك إذا ترك بعض التشديد الذي فيها. . لم تصح صلاته. ولم ينص عليه الشافعي، ولكن أهل اللغة والعربية قالوا: التشديد يقوم مقام حرف؛ لأن كل موضع ذكر فيه التشديد، فإنه قد أدغم مكانه حرفًا، فإذا ترك التشديد. . فكأنه قد ترك حرفًا.
وفي الفاتحة أربع عشرة تشديدة:
الأولى: تشديدة اللام في: بسم الله.
الثانية: تشديدة الراء من: الرحمن.
الثالثة: تشديدة الراء من: الرحيم.
الرابعة: تشديدة اللام من: لله.
الخامسة: تشديدة الباء من: رب.
السادسة: تشديدة الراء من: الرحمن.
السابعة: تشديدة الراء من: الرحيم.
الثامنة: تشديدة الدال من: الدين.
التاسعة: تشديدة الياء من: إياك.
العاشرة: تشديدة الياء من: وإياك.
الحادية عشرة: تشديدة الصاد من: الصراط.
الثانية عشرة: تشديدة اللام من: الذين.
الثالثة عشرة: تشديدة الضاد من: الضالين.
الرابعة عشرة: تشديدة اللام الأخيرة من: الضالين.(2/187)
[فرع ترتيب الفاتحة]
ويجب أن يقرأ الفاتحة على الترتيب، كما أنزلت. فإن بدأ فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . . لم تجزئه حتى يبتدئ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاقرؤوا، كما علمتم» .
فإن قرأ آية على آية، أو حرفًا على حرف، أو قرأ في أثنائها من غيرها، فإن كان فعل ذلك عامدًا. . بطلت قراءته، واستأنفها، ولا تبطل صلاته، وإن كان ساهيًا. . لم تبطل قراءته، وعاد إلى الموضع الذي أخل بالترتيب فيه.
فإن قرأ آية منها مرتين، فإن كانت أول آية منها، أو آخر آية منها. . لم يؤثر ذلك. وإن كان في وسطها. . فالذي يقتضيه القياس: أنه كما لو قرأ في خلالها غيرها، فإن كان عمدًا. . بطلت قراءته، وإن كان ساهيًا. . بنى عليها.
[فرع من قدم على الفاتحة السورة أو سكت أثنائها]
] : فإن ابتدأ، فقرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة. . قال الشافعي في " الأم " [1/95] : (أجزأته) . وإنما أراد: أن فاتحة الكتاب تجزئه دون السورة؛ لأنه قرأ السورة في غير موضعها، فكأنه لم يقرأها.
قال في " الأم " [1/95] : (وإن سكت سكوتًا طويلاً ساهيًا، أو تعايا فقطع القراءة. . لم تبطل قراءته. وإن تعمد ذلك. . بطلت قراءته) .
وإن نوى قطع القراءة، فإن سكت مع النية. . بطلت قراءته. وإن لم يسكت،(2/188)
ومضى على قراءته. . لم تبطل؛ لأنه لو سكت عن القراءة عامدًا ولم ينو قطعها. . بطلت، فإذا نوى القطع مع السكوت. . أولى: أن تبطل. أما إذا نوى قطع القراءة، ولم يسكت. . لم تبطل؛ لأن الواجب عليه الإتيان بها، وقد أتى بها.
والفرق بينها، وبين الصلاة: أن الصلاة يجب في أولها القصد إلى فعلها، ثم يستديم حكم ذلك القصد، فإذا نوى قطعها. . بطلت. والقراءة لا يجب عليه القصد إلى فعلها، فلم تبطل بنية القطع من غير قطع.
[فرع قطع القراءة بتأمين ونحوه]
فإن فتح المأموم على غير الإمام، أو أجاب مؤذنًا في أثناء الفاتحة. . انقطعت قراءته. وإن فتح المأموم على الإمام، أو أمن بتأمينه، أو سجد للتلاوة في أثناء الفاتحة. . فهل تنقطع قراءته؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال القفال، وأبو علي الطبري، والقاضي أبو الطيب: لا تنقطع قراءته بذلك؛ لأن هذا مأمور به، فلم يقطع القراءة.
قال ابن الصباغ: وكذلك إذا مرت به آية رحمة فسأل، أو آية عذاب فاستعاذ، أو قال الإمام: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] [القيامة: 40] . فيقول المأموم: بلى. . لم تنقطع قراءته بذلك.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تنقطع قراءته ويستأنفها، إذا أمن بتأمين الإمام؛ لأن الشافعي قال: (لو عمد فقرأ فيها من غيرها. . استأنفها) .
[فرع النطق في غير اللسان]
] : قال في " الأم " [1/95] : (ولا يجزئه أن ينطق بصدره، ولا ينطلق به لسانه) ؛ لأن عليه: أن يحرك بالقراءة لسانه، ويسمع نفسه. فإن لم يسمع نفسه لشغل قلبه. . أجزأه؛ لأنه قد قرأ بحيث يسمع نفسه.(2/189)
[مسألة حكم التأمين]
فإذا فرغ من الفاتحة. . أمن، وهو سنة لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة وغيرها، وهو أن يقول: (آمين) ؛ لما روي عن وائل بن حجر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقال: " آمين "، ومد بها صوته» ومعناها: اللهم استجب، وفيها لغتان: أمين: بقصر الألف، وآمين: بمدها، والتخفيف فيهما.
وأنشدوا في المقصور:
تباعد عني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدوا في الممدود:
يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا
وأما بتشديد الميم: فإنهم: القاصدون، قال الله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . أي: قاصدين.(2/190)
وأما الجهر به: فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر به المنفرد، والإمام، والمأموم؛ لأنه تابع للقراءة.
وإن كان في صلاة يجهر بها، فإن كان منفردًا، أو إمامًا. . جهر به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا» .
قال الصيمري: أي لا تتقدموا عليه بالتأمين.
وإن كان مأمومًا. . فهل يجهر به؟
ينظر فيه: فإن نسي الإمام التأمين، أو الجهر به. . جهر المأموم به؛ لينبه الإمام وغيره.
وإن جهر به الإمام. . فهل يجهر به المأموم؟
قال في الجديد: (لا يجهر به، بل يسمع نفسه) .
وقال في القديم: (يجهر) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجهر به؛ لما روي: (أنهم كانوا يؤمنون خلف ابن الزبير، حتى إن للمسجد للجة) .
والثاني: لا يجهر به، كالتكبيرات.
ومنهم من قال: إن كان المسجد ضيقًا يبلغهم تأمين الإمام. . لم يجهر به المأموم، وإن كان كبيرًا لا يبلغهم تأمين الإمام. . جهر به المأموم. وحمل القولين على هذين الحالين. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (يؤمن الإمام والمأموم، ولكن يسران به) .(2/191)
وعن مالك روايتان:
إحداهما: (لا يؤمن الإمام، ويؤمن المأموم) .
والثانية: (يخفيها الإمام) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن بتأمين الإمام، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة. . غفر له ما تقدم من ذنبه» .
[فرع تأخير التأمين وفصله والدعاء بما شاء]
قال الشافعي: (وإذا أخر التأمين عن موضعه. . لم يأت به فيما بعد) .
وهذا كما قال: إذا قال المصلي: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ولم يأت بالتأمين، ودخل في غيره. . لم يأت بالتأمين؛ لأنه سنة مرتبة في مكان، فإذا فات موضعها. . لم يقض؛ كالتشهد الأول إذا حصل في القيام.
قال الشافعي: (والإذن بالتأمين يدل على: أن لكل مصل أن يدعو في صلاته بما شاء وأحب من دين ودنيا، مع ما فيه من الأخبار والآثار) ؛ لأن معناه: اللهم: افعل لي ما سألتك. فدل على: جواز الدعاء فيها.
والمستحب: أن لا يصل: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بـ: " آمين "، بل يفصل بينهما بسكتة يسيرة؛ ليعلم أنه ليس من كلام الله تعالى.
[مسألة وجوب القراءة]
وتجب القراءة في كل ركعة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك: (تجب القراءة في معظم الصلاة، فإن كانت رباعية. . قرأ في ثلاث منها، وإن كانت ثلاثية. . قرأ في ركعتين، وإن كانت ركعتين. . قرأ فيهما) .
وقال أبو حنيفة، والثوري: (القراءة إنما تجب في الركعتين الأوليين، فأما الأخريان: فهو فيهما بالخيار، إن شاء. . قرأ، وإن شاء.. سبح، أو سكت. فإن لم يقرأ في الأوليين. . قرأ في الأخريين) .(2/192)
وقال الحسن، وبعض أهل الظاهر: تجب القراءة في الصلاة دفعة واحدة. وروي ذلك عن أحمد.
دليلنا: ما روي عن عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري: أنهما قالا: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة» .
وروى رفاعة بن [رافع بن] مالك قال: «دخل رجل المسجد، فصلى بقرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم جاء فسلم عليه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل " فصلى لنحو ما صلى أولاً، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل "، فقال: يا رسول الله، علمني كيف أصلي، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة. . فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا. . . " وذكر الخبر، إلى أن قال: " وهكذا فاصنع في كل ركعة» .(2/193)
ولأنها ركعة يجب فيها القيام، فوجبت فيها القراءة مع القدرة، كالركعة الأولى، وفيه احتراز ممن أدرك الإمام راكعًا.
وهل يقرأ المأموم؟ ينظر فيه:
فإن كان في صلاة يسر فيها. . قرأ المأموم.
وإن كان في صلاة يجهر فيها. . فهل تجب على المأموم قراءة الفاتحة؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه القراءة) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه القراءة) .
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على المأموم القراءة، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية) . وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس.
فمن قال بالقديم: احتج بما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة يجهر فيها بالقراءة، فلما فرغ من صلاته. . قال: " هل فيكم من قرأ معي؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، فقال: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ ! " قال: فانتهى الناس عن القراءة في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ سمعوا ذلك منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ودليلنا - للقول الجديد -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» .
وروى عبادة بن الصامت قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف. . قال: " إنكم تقرؤون خلفي إذا جهرت؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، فقال: " لا تقرؤوا خلفي إذا جهرت، إلا بفاتحة الكتاب» .(2/194)
وأما الخبر الأول: فقيل: إن قوله: (فانتهى الناس. . .) من كلام الزهري، فلا حجة فيه. على أنه وإن صح. . فإنما أراد: انتهى الناس عن المنازعة بالجهر بالقراءة. وخبر عبادة أولى؛ لأنه أزيد ومثبت، والإثبات أولى.
فإذا قلنا: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة. . فهل يسن له: أن يتعوذ؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":
أحدهما: لا يأتي به، وبه قال أبو حنيفة كما لا يأتي بالفاتحة.
والثاني: يأتي به؛ لأنه شارك الإمام في الذكر الذي يسر به.
[فرع تفسير القراءة بغير العربية]
] : ولا يقوم تفسير القراءة، ولا العبارة عنها بالفارسية مقامها، ولا يجزئ في الصلاة. وبه قال مالك، وعامة الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: (المصلي بالخيار، إن شاء. . قرأ القرآن، وإن شاء. . قرأ معنى القرآن، وتفسيره بالفارسية أو العربية، وغير ذلك، سواء كان يحسن قراءة القرآن، أو لا يحسنها) .
واختلف أصحابه، إذا قرأ المصلي معنى القرآن، وتفسيره: هل يكون قد قرأ القرآن؟
فمنهم من قال: إذا قرأ معنى القرآن. . فقد قرأ القرآن. وعلى هذا يناظرون.
ومنهم من قال: لا يكون قد قرأ القرآن، وإنما يكون في الحكم: يقوم مقامه.
وقال محمد بن الحسن، وأبو يوسف: إن كان هذا المصلي يحسن القرآن. . لم يجز أن يقرأ معنى القرآن. وإن كان لا يحسن القرآن. . جاز أن يقرأ معنى القرآن،(2/195)
ويعبر عن القراءة بعبارة. كما قالا في التكبير.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: 20] .
وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» :
[مسألة فيمن لا يحسن الفاتحة أو بعضها]
وإن كان لا يحسن الفاتحة، وضاق الوقت عن التعلم، فإن كان يحسن غيرها من القرآن. . فإنه يقرأ سبع آيات من غيرها، سواء كن من سورة، أو من سور.
وهل يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة؟
منهم من يقول: فيه قولان. ومنهم من يقول: وجهان:
أحدهما: يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة، كما يعتبر عدد الآيات.
والثاني: لا يعتبر، كما لا يعتبر في قضاء الصوم عدد الساعات.
وإن كان يحسن آية من الفاتحة. . أتى بها. وهل يلزمه تكرارها، أو يقرؤها مرة، ثم يأتي بغيرها من القرآن إن كان يحسنه، أو من الذكر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكررها؛ لأنها أقرب إلى الفاتحة من غيرها.
والثاني: يأتي ببقية الآيات من غيرها؛ لأن هذه الآية قد سقط فرضها بقراءتها، فينبغي أن لا يعيدها، ويأتي بغيرها؛ كما إذا وجد بعض الماء. . فإنه يغتسل به، ويتيمم.
قال ابن الصباغ: وهذا الوجه يدل على صحة السنة، في الرجل الذي قال: لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي بالذكر، وفيه: " الحمد لله ".(2/196)
ولا يتعذر عليه أن يقول: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكرارها.
وإن كان يحسن أقل من الفاتحة من غيرها من القرآن. . فهل يلزمه تكراره، أو يلزمه أن يأتي بتمامه من الذكر؟ على الوجهين فيمن يحسن آية من الفاتحة.
قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين نص عليهما في " الأم ".
فإن كان يحسن النصف الأول من الفاتحة لا غير، وقلنا: " لا يلزمه تكراره. . فإنه يأتي به أولا، ثم يأتي بالبدل بعده.
وإن كان يحسن النصف الأخير منها. . فإنه يأتي بالبدل أولاً، ثم بالنصف الذي يحسنه؛ لأن الترتيب شرط في القراءة.
ولو تعلم الفاتحة في إتيانه بالبدل. . ففيه وجهان:
الصحيح: أنه يترك البدل، ويشتغل بالفاتحة.
والثاني: يمضي في البدل، ولا يشتغل بالفاتحة.
ولو تعلم الفاتحة بعد فراغه من البدل، وقبل الركوع. . فمنهم من قال: فيه وجهان، كالأولى.
ومنهم من قال: لا يلزمه قراءة الفاتحة، وجهًا واحدًا.
وإن كان لا يحسن شيئًا من الفاتحة، ولا من غيرها. . فإنه يأتي مكانها بالذكر.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه، ويقوم ساكتًا) .
وقال مالك: (لا يلزمه الذكر، ولا القيام) .
دليلنا: ما روى رفاعة [بن رافع] بن مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة. . فليتوضأ كما أمره الله، ثم ليكبر، فإن كان معه شيء من القرآن. . قرأ به، وإن لم يكن معه شيء. . فليحمد الله، وليكبر» .(2/197)
وروى عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في الصلاة. فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
وهل يتعين عليه هذا الذكر؟
فيه ثلاثة أوجه:
[الأول] : منهم من قال: يتعين عليه هذا الذكر، ولكن يضيف إليه كلمتين أخريين؛ ليكون بقدر سبع آيات، والأولى أن يضيف إليه ما روي في بعض الأخبار: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) . ولا يعتبر - على هذا -: عدد الحروف.
و [الثاني]- وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يتعين عليه هذا الذكر، بل يجب عليه أن يأتي من ذكر الله تعالى ما شاء، ويعتبر أن تكون حروفه بقدر حروف الفاتحة، ويسقط اعتبار الآيات؛ لأنه لا يمكن اعتبارها من الذكر.
و [الثالث] : وهو قول أبي علي في " الإفصاح " -: إنما يجب الذكر الذي نص عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الخمس الكلمات، ولا تجب الزيادة عليه. وهو الصحيح؛ لأن الرجل قال: يا رسول الله، علمني ما يجزئني في الصلاة، فعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا، ولم يأمره بالزيادة:
وقد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من الخمس الكلمات. . قال الرجل: هذا لله تعالى، فما لي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل: اللهم ارحمني، وعافني، وارزقني» .
وإن لم يحسن شيئًا من القرآن، ولا من الذكر. . وجب عليه أن يقوم بقدر قراءة الفاتحة، وعليه أن يتعلم.(2/198)
[مسألة القراءة بعد الفاتحة]
ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة، وذلك سنة.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ثلاث آيات) .
وقال عثمان بن أبي العاص: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ما يقع عليه الاسم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» . فنفى الصلاة بعدمها، وأثبتها بوجودها، فدل على: أنه لا يجب غيرها.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «كل صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب. . فهي خداج» .
و (الخداج) : الناقص، فدل على: أن الصلاة التي يقرأ فيها بفاتحة الكتاب تمام.
إذا ثبت هذا: فإن المستحب عندنا - إن كان في صلاة الصبح -: أن يقرأ بـ: (طوال المفصل) ؛ وهو: السبع الأخير من القرآن، مثل: (الحجرات) ، و (ق) ، و (الواقعة) .(2/199)
وقال أبو حنيفة: (يقرأ في الأولى من: ثلاثين آية، إلى ستين آية. وفي الثانية من: عشرين آية، إلى ثلاثين آية) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] » [ق: 10] يعني: سورة ق.)
وإن كان يوم جمعة. . قرأ فيها: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] [الدهر] ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ ذلك فيها يوم الجمعة» .
فإن قرأ فيها أوساط المفصل، أو قصاره. . جاز؛ لما روى عمرو بن حريث أنه قال: «كأني اسمع صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة الغداة: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] » [التكوير: 15] ) .(2/200)
وروى أبو داود: «أن رجلاً من جهينة سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] » [الزلزلة] .
قال الشافعي: (ويقرأ في الظهر شبيهًا مما يقرأ في الصبح) - وحكى الكرخي مثل ذلك عن أبي حنيفة - لما روى أبو سعيد الخدري قال: «حزرنا قيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، قدر: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، وحزرنا قيامه في الأخريين منها على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك» .
ومعنى قوله: (حزرنا) أي: قدرنا.
فإن قرأ غيرها. . جاز؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان يقرأ في الظهر، والعصر بـ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ، و {الطَّارِقُ} [الطارق: 2] وما أشبههما، ويقرأ في العصر، والعشاء بأوساط المفصل، كسورة (الجمعة) و (المنافقين) ، وما أشبههما» .
وقال أبو حنيفة: (يقرأ في العصر في الأوليين في كل ركعة بعد الفاتحة عشرين آية، وكذلك في العشاء) .
دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء سورة الجمعة والمنافقين» .(2/201)
فإن قرأ غيرهما. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء الآخرة بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] و {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] » .
ويستحب أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيها بقصار المفصل» .
وروى: (أن ابن مسعود كان يقرأ فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [الإخلاص: 1] ) .
فإن قرأ فيها غيرها. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها بـ: الأعراف» .
وروى جبير بن مطعم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالطُّورِ} [الطور: 1] » .(2/202)
وروت أم الفضل قالت: «خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، فقرأ بـ: {وَالْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1] فما صلاها بعد، حتى لقي الله تعالى» .
[فرع قراءة السورة للمأموم وفيما زاد على الركعتين]
والتسوية بين الأوليين ويوجز في الأخرين] : وهل يسن قراءة السورة للمأموم؟ ينظر فيه:
فإن كان في صلاة جهرية، تسمع فيها قراءة الإمام. . فلا يسن له؛ لما مضى في حديث عبادة.
وإن كان في صلاة سرية، أو جهرية لا يسمع فيها قراءة الإمام. . فوجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 65] . وكذا الوجهان فيمن تباعد عن الخطيب، بحيث لا يسمع الخطبة: هل الأولى له أن يقرأ القرآن، أو يسكت؟
وهل تستحب قراءة السورة فيما زاد على ركعتين؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا يستحب)
قال أبو إسحاق المروزي: وهو الصحيح - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لما روى أبو قتادة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ السورة في الأوليين دون الأخريين» .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب أن يقرأ السورة فيهما) .
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لحديث أبي سعيد الخدري.(2/203)
إذا ثبت هذا: فيستحب عندنا أن يسوي بين الركعات في القراءة، ولا يفضل أوله على ثانيه، وأما الأخريان: فالمستحب فيهما: الحذف والإيجاز، على القولين.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (يستحب أن تفضل الأولى على الثانية في الفجر خاصة) .
وقال الثوري، ومحمد: يستحب في جميع الصلوات أن يطيل الركعة الأولى على التي بعدها. وبه قال الماسرجسي، من أصحابنا.
دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري: «أنه كان يقرأ في الظهر في كل ركعة ثلاثين آية» .
[فرع قراءة المسبوق]
] : قال الشافعي: (وإن فات رجلاً ركعتان مع الإمام من الظهر. . قضاهما بأم القرآن وسورة) . واختلف أصحابنا في صورة ذلك:
فقال أبو إسحاق: إنما قال ذلك؛ لأنه لم يقرأها في الأوليين، ولا أدرك قراءة الإمام لها، فاستحب له أن يأتي بها؛ لتحصل له فضيلتها.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": إنما قال هذا على القول الذي يقول: إنه يقرأ السورة في جميع الركعات. فأما على القول الآخر: فلا يقرأ. وإلى هذا ذهب القاضي أبو حامد.
قال ابن الصباغ: والأول أصح.
فإن كان ذلك في صلاة جهرية. . فهل يجهر المأموم، أو يسر في الأخريين؟
فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يجهر؛ لأن سنة القراءة في الأخريين الإسرار.
والثاني: يجهر؛ ليدرك ما فاته من الجهر بالقراءة.(2/204)
[فرع ما يجهر به من الصلوات للرجل والمرأة وتلقين الإمام]
] : والسنة: أن يجهر الإمام، والمنفرد في: الصبح، والأوليين من المغرب، والأوليين من العشاء، ويسر فيما سوى ذلك من الصلوات الخمس؛ لأنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا، وهو إجماع لا خلاف فيه.
فإن فاتته في صلاة سرية، فقضاها. . أسر بها القضاء، سواء قضى في وقت الجهرية، أو في وقت السرية.
وإن فاتته صلاة جهرية، فإن قضاها في وقت الجهرية. . جهر بها. وإن قضاها في وقت السرية. . ففيه وجهان:
أحدهما: يسن له الجهر في القضاء، كما لو قضى السرية في وقت الجهرية.
والثاني: لا يسن له الجهر بها؛ لأنه يقال: صلاة النهار عجماء.
ولا تجهر المرأة في موضع فيه رجال أجانب؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها.
قال في " الأم ": (ولا بأس بتلقين الإمام إذا أحصر) ؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام. . فأطعموه) و (استطعامه) : سكوته.
[مسألة تكبيرات الانتقال ورفع اليدين]
] : فإذا فرغ من السورة. . ركع، ولا يصل تكبيرة الركوع بآخر السورة؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسكت سكتة إذا افتتح القراءة، وسكتة إذا فرغ(2/205)
من القراءة، فرآه، فأنكر عليه عمران بن الحصين هذه الرواية، فكتبوا بذلك إلى أبي بن كعب، فقال: صدق سمرة بن جندب» .
والركوع واجب بنص الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] .
وأما السنة: فإنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا.
وأجمعت الأمة على وجوبه.
ويستحب أن يكبر للركوع، فيبتدئ التكبير قائمًا، ويرفع يديه، ويأتي بهما في حالة واحدة، فيكون ابتداء رفع يديه - وهو قائم - مع ابتداء التكبيرة، فإذا حاذى كفاه منكبيه. . انحنى - حينئذ - للركوع، ومد تكبيره، حتى يكون انقضاؤه مع ركوعه؛ لأن الرفع هيئة للتكبير، فلهذا قلنا: يأتي به مع التكبير.
وقال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير: لا يكبر المصلي، إلا عند افتتاح الصلاة.(2/206)
وقال أبو حنيفة: (لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح، وإذا كبر للركوع. . فإنه يكبر قائمًا، فإذا فرغ من التكبير. . انحنى للركوع) .
دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر إذا افتتح الصلاة، وفي كل خفض، ورفع، وقيام، وقعود. وكذلك أبو بكر، وعمر» .
وروي عن عكرمة: أنه قال: «صليت خلف شيخ بـ: مكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فأتيت ابن عباس، فقلت له: إني صليت خلف شيخ أحمق، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقال: (ثكلتك أمك، تلك صلاة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ودليلنا - على أبي حنيفة -: حديث ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند الرفع منه» .
فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، ثم ذكر. . لم يرفع يديه؛ لأنه هيئة في محل، فإذا فات. . لم يؤت به. وإن ذكر ذلك قبل الفراغ من التكبير. . فإنه يرفع؛ لأن محله باق.
قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين. . فلا سجود عليه للسهو؛ لأنه هيئة) .
[فرع كيفية الركوع]
وأقل ما يجزئ في الركوع: أن ينحني إلى حد لو أراد أن يقبض بيديه على ركبتيه. . أمكنه ذلك. ويطمئن، وهو أن يلبث - بعد أن يبلغ حد الإجزاء - لبثا ما.(2/207)
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الطمأنينة) ؟
دليلنا: ما روي في خبر الأعرابي المسيء صلاته: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «ثم اركع، حتى تطمئن " إلى أن قال في آخر الخبر: " فإذا فعلت ذلك. . فقد تمت صلاتك» .
فإذا رفع رأسه من الركوع، وشك: هل بلغ ركوعه إلى حد الإجزاء. . لم يجزئه ذلك، وعليه أن يرجع إلى حد الإجزاء؛ لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته.
وأما الكمال في الركوع: فهو أن يقبض على ركبتيه بيديه، ويفرق بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد ظهره وعنقه، ولا يقنع رأسه، ولا يخفضه، ولا يطبق يديه بين ركبتيه.
وقال ابن مسعود: (يطبق يديه، ويجعلهما بين ركبتيه) . وروي ذلك عن صاحبيه: الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن الأسود.
دليلنا: ما روي: (أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمحضر جماعة من الصحابة) - فذكر نحو ما قلناه - فقالوا: (صدقت) .(2/208)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يذبح الرجل في الصلاة كما يذبح الحمار» .
و (التذبيح) : هو أن يخفض رأسه في الركوع، كما يخفض الحمار رأسه، وقد روي بالدال والذال.
وروي «عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: (صليت إلى جنب أبي، فطبقت يدي، وجعلتهما بين ركبتي، فضرب أبي في يدي، فلما انصرف، قال: يا بني: إنا كنا نفعل هذا، فنهينا عنه، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب» وهذا يدل على النسخ.
وإن كان المصلي امرأة. . لم تجاف، بل تضم المرفقين إلى الجنبين؛ لأن ذلك أستر لها.
وإن كان خنثى مشكلاً. . قال القاضي: لم نأمره بالضم، كما نأمر المرأة، ولا نأمره بالتجافي، بل أيهما فعل. . فهو مجزئ؛ لأنه ليس أمرنا له بأحدهما، بأولى من الآخر.
قال: وكذلك لا يجهر الخنثى بالقراءة في الصلاة الجهرية، بل من سنته الإسرار؛ خوف الافتتان بصوته، إن كان امرأة.
ويستحب أن يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، ثلاث مرات، وذلك أدنى الكمال؛ لما روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. . فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد(2/209)
فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات. . فقد تم سجوده، وذلك أدناه» .
وقيل لأحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هل يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: (أما أنا: فلا أقول: وبحمده) .
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: الأولى أن يقوله؛ وقد رواه حذيفة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن فيه زيادة حمد.
قال الشيخ أبو حامد: وقد غلط بعض أصحابنا، وقال: أكمل الكمال أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، خمسًا، أو سبعًا، وهو قول الحسن البصري، واختاره صاحب " الفروع "، وليس بشيء، بل أكمل الكمال أن يقول في ركوعه - مع التسبيح ثلاث مرات - ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، خشع سمعي وبصري، وعظامي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح» .(2/210)
قال الشافعي: (وأستحب ذلك كله؛ لأنه يخف، ولا يثقل) .
ولا يجب التسبيح في الركوع والسجود، وهو قول كافة أهل العلم.
وقال بعض أهل الظاهر: (هو واجب فيهما) . وحكي ذلك، عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وليس بصحيح عنه.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] . ولم يذكر التسبيح، وكذلك المسيء صلاته، لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسبيح فيهما.
[فرع قصد فعل الأركان]
قال الشافعي: (فإن ركع رجل، وبلغ الموضع الذي لو أراد أن يقبض بيديه على ركبته أمكنه، ثم أراد أن يرفع رأسه، فسقط على وجهه. . أجزأه ركوعه، وكان عليه أن ينتصب قائمًا، ثم يهوي ساجدًا) .
[مسألة الرفع من الركوع]
ثم يرفع رأسه من الركوع، ويعتدل، وذلك واجب.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود. . أجزأه) .
واختلف أصحاب مالك في مذهبه:
فمنهم من قال: هو واجب عنده. كقولنا.
ومنهم من قال: مذهبه: أنه ليس بواجب عنده. كقول أبي حنيفة.
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا» .
وروى أبو مسعود الأنصاري البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم(2/211)
الرجل فيها صلبه من الركوع والسجود» .
إذا ثبت هذا: فإن السنة عندنا أن يجمع بين ثلاثة أشياء:
أن يبتدئ مع الرفع بقول: سمع الله لمن حمده، وأن يرفع يديه مع رفع صلبه، حتى يحاذي بهما منكبيه.
فإذا استوى قائمًا. . قال: ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملئ ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء، والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.(2/212)
وإن قال: (ربنا ولك الحمد) . . فقد روي ذلك، وذكر الشيخ أبو حامد: ما يقوله العبد حق، وكل لك عبد.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو الحمد لربنا، أو قال: من حمد الله سمع له. . جاز) ؛ لأن معنى الجميع واحد، إلا أن الأولى أن يأتي بالأول؛ لما روى أبو سعيد الخدري: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) .
ومعنى قوله: (سمع الله لمن حمده) أي: تقبل الله منه حمده، وأجاب حمده. تقول العرب: اسمع دعائي، أي: أجب دعائي.
ومعنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح.
[فرع الذكر في الإعتدال]
ويستحب للإمام والمأموم أن يأتي بجميع هذا الذكر.
وقال أبو حنيفة: (الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يزيد عليه، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده) .
واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» .
وقال مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: (يأتي الإمام بهما، والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك كله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
ولأنه ذكر مسنون في الانتقال للإمام، فسن للمأموم، كالتكبيرات.(2/213)
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. . قولوا: ربنا لك الحمد» . . فيحتمل: أن يكون قال لهم ذلك؛ لأنهم لا يسمعون الإمام يقولها، وإنما يجهر بقوله: سمع الله لمن حمده. ولم يأمرهم بها؛ لأن المأمومين مقتدون بالإمام في جميع الأذكار، فاقتصر على تعريفهم ما لا يجهر به، دون ما يجهر به.
ويجب أن يطمئن قائمًا: فلو سجد، ثم شك، هل رفع رأسه من الركوع أم لا؟ وجب عليه أن ينتصب، فإذا انتصب. . سجد.
وإن أتى بقدر الركوع الواجب، فاعترضته علة منعته عن الانتصاب. . فإنه يسجد من ركوعه، ويسقط عنه الرفع؛ لتعذره.
فإن زالت العلة. . نظرت:
فإن زالت قبل أن يبلغ بجبهته إلى الأرض. . فإنه يرتفع، وينتصب، ويسجد؛ لأن العلة زالت قبل فعله لركن، أو فعل مقصود.
وإن زالت بعد ما حصلت جبهته على الأرض ساجدًا. . فإنه لا ينتصب، ويسقط عنه؛ لأن السجود قد صح، فسقط ما قبله.
فإن خالف، وانتصب من السجود قبل تمامه، فإن كان عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً. . لم تبطل، ويعود ويجلس للفصل بين السجدتين، ويسجد للسهو.
[مسألة فرضية السجود]
ثم يسجد، وهو فرض.
والدليل عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع الذي ذكرناه في الركوع.(2/214)
ويكبر؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء انحنائه إلى السجود، حتى يكون آخر التكبيرة مع أول السجود، هذا نقل أصحابنا البغداديين، وهو المشهور، وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 65] فيه قولين:
أحدهما: هذا، وهو قوله الجديد.
والثاني: لا يمده، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أن الهوي إلى السجود فعل في الصلاة، فاستحب مد التكبير فيه؛ لئلا يخلو من ذكر، كسائر أفعال الصلاة.
والمستحب: أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في السجود: ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، وبهذا قال عمر بن الخطاب، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال الأوزاعي: (المستحب أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في سجوده: يداه، ثم ركبتاه) .
وقال مالك: (إن شاء وضع اليدين أولا، وإن شاء وضع الركبتين أولاً) .
دليلنا: ما روى مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين» .
وروى وائل بن حجر، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه» .(2/215)
والأكمل في السجود: أن يسجد على جبهته، وأنفه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» .
وروى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، ومكن جبهته وأنفه من الأرض» .
والواجب عندنا: هو السجود على الجبهة، دون الأنف، وبه قال الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وإسحاق: يجب السجود عليهما، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما.(2/216)
وحكاه أبو زيد المروزي قولاً لنا، وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة: (إذا اقتصر في السجود على أحدهما. . أجزأه) .
قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا سبقه بهذا القول.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» ، ولم يذكر الأنف، وما كان مأمورًا به لا يجوز تركه.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر الأنف.
وروي عن جابر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر» .
ومعلوم: أنه إذا سجد كذلك. . لم يسجد على الأنف.
فإن كان بجبهته جراحة، فعصبها بعصابة، وسجد على العصابة. . أجزأه؛ لأنه لما جاز ترك أصل السجود؛ لعذر. . فلأن يجوز ترك مباشرة الجبهة لعذر أولى.
والمستحب: أن يسجد على جميع جبهته؛ لحديث أبي حميد، فإن سجد على بعض الجبهة. . أجزأه؛ لحديث جابر.
وكذلك لو عصب على جبهته بعصابة مشقوقة، وسجد عليها، وماس بعض جبهته الأرض من شق العصابة. . أجزأه، كما لو سجد بأعلى جبهته.
وإن سجد على حائل متصل به، مثل كور عمامته، أو طرف منديله، أو ذيله، أو بسط كفه، فسجد عليه. . لم يجزئه ذلك، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل.(2/217)
وقال أبو حنيفة: (يصح سجوده على ذلك كله) .
دليلنا: ما روى رفاعة بن رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ، حتى يضع الوضوء مواضعه. . .» ، إلى أن قال: «ثم يسجد، فيمكن جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله» .
وهل يجب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء. قال في " المهذب ": وهو الأشهر.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سجد وجهي» ، فأضاف السجود إلى الوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر ما عداها، فدل على أنه لا يجب السجود على ما عداها.
ولأنه لا يجب الإيماء بباقي الأعضاء في السجود عند العجز، فدل على أنه لا يجب السجود عليها.
والثاني: يجب السجود عليها. قال الشافعي: (وهذا قول يوافق الحديث) .
ووجهه: حديث ابن عباس: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة. . .» الخبر.
فإذا قلنا: لا يجب السجود عليها، إلا أنه لا يمكنه أن يسجد، إلا بأن يعتمد على بعض هذه الأعضاء. . فله أن يعتمد على أيها شاء، ويرفع أيها شاء.
وإذا قلنا: يجب السجود عليها. . . قال الشافعي في " الأم " [1/99] : (فإن سجد على ظهر كفيه. . لم يجزئه، وكذلك إن سجد على حرف راحته، مما يلي ظهر كفه. .(2/218)
لم يجزئه، وإن سجد على بعض كفيه. . جاز، كما يجزئ بعض جبهته) .
قال في " الفروع ": وإن سجد على ظاهر قدميه. . أجزأه.
وأما كشف هذه الأعضاء في السجود: فلا يجب كشف القدمين والركبتين؛ لأن كشف ذلك يؤدي إلى بطلان الصلاة، وذلك أن الركبتين من العورة، وقد يكون لابسًا للخف. . فتبطل الطهارة بكشف القدم، فتبطل الصلاة بذلك.
وهل يجب كشف الكفين؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب؛ لما روي عن خباب بن الأرت: أنه قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» .
ولأنه عضو له مدخل في التيمم. . فوجب كشفه في السجود، كالوجه.
والثاني: لا يجب؛ لأنه عضو لا يبرز في العادة إلا لحاجة، فلم يجب كشفه في السجود، كالركبتين والقدمين.
وأما الخبر: فيرجع إلى الجباه، دون الأكف.
قال في " الأم " [1/99] : (فإن هوى الرجل ليسجد، فسقط على جنبه، ثم انقلب، فماست جبهته الأرض، فإن كان بانقلابه نوى السجود. . أجزأه، وإن لم ينوه. . لم يجزئه) ؛ لأنه إذا سقط على جنبه ... فقد خرج عن سمت السجود، فلا يرجع إليه إلا بفعل، أو نية.
فالفعل: هو أن يعود جالسًا، ثم يسجد. والنية: أن ينوي بانقلابه السجود.(2/219)
وتجب الطمأنينة في السجود، وهو أن يلبث لبثا ما.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم اسجد، حتى تطمئن ساجدًا» .
والكمال في السجود: أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، حتى لو لم يكن عليه ثوب رؤيت عفرة إبطيه؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جافى عضديه عن جنبيه، حتى يرى بياض إبطيه» .
ويقل بطنه عن فخذيه؛ لما روى البراء بن عازب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جخ» ، وروي: (جخى) . و (الجخ) : الخاوي.
وروي عن ميمونة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد. . جافى يديه، حتى لو أرادت بهمة أن تمر تحته. . لمرت» .(2/220)
وإن كانت امرأة. . ضمت بطنها إلى فخذيها؛ لأن ذلك أستر لها.
ويضع يديه حذو منكبيه، ويضم أصابعهما، ويضم إبهامه إليها، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع أصابعه تجاه القبلة» .
والفرق بين الركوع والسجود في ضم الأصابع: أنه إذا فرق أصابع يديه في الركوع على ركبتيه. . كان أمكن لركوعه، وأمن من السقوط، وفي السجود لا يخاف السقوط.
ولأنه إذا ضم أصابعه في السجود. . استقبل بها القبلة، ولو فرقها.. لم يستقبل بها القبلة، وفي الركوع لا يستقبل بها القبلة، سواء ضمها، أو فرقها.
ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لما روى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فضم كفيك، وارفع مرفقيك» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجد أحدكم. . فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب» .(2/221)
ويفرج بين رجليه؛ لما روى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . فرج بين رجليه» .
وينصب قدميه؛ لما روى سعد بن أبي وقاص: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين» ، يعني: في السجود.
ولا يكف شعره، ولا ثوبه عن الأرض؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة، وألا يكف شعرًا ولا ثوبًا» . وروى: (ولا يكفت) ، والكفت: الجمع.
ويستحب أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
وروى عن عقبة بن عامر: أنه قال: «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] [الواقعة: 96] : قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلوها في ركوعكم "، ولما نزل قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى: 1] . . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في سجودكم» .
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ويزيد: (وبحمده) ؛ لما مضى في الركوع.
وأكمل الكمال: أن يقول مع ذلك، ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين» .(2/222)
ويستحب أن يدعو في سجوده بما أحب من أمر دينه ودنياه؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو في سجوده، فيقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته وسره» .
قال الشافعي في بعض كتبه: (يقول في سجوده: سجد وجهي حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا) .
قال الشافعي في " الأم " [1/100] : (ويجتهد في الدعاء، رجاء الإجابة، ما لم يكن إمامًا، فيثقل على من خلفه، أو مأمومًا، فيخالف إمامه) .
وقال في " الإملاء ": لا يزيد على الدعاء الذي ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» .
ومعنى قوله: " فقمن "، أي: جدير، وحقيق، وحري أن يستجاب لكم، وقد روي بفتح الميم وكسرها.
ويكره أن يقرأ في الركوع أو السجود؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني نهيت أن أقرأ راكعًا، أو ساجدًا» .
[مسألة الرفع من السجود]
ثم يرفع رأسه مكبرًا؛ لحديث أبي هريرة، ويكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع،(2/223)
ويمده، حتى ينتهي إلى آخره مع انتهاء الرفع؛ لئلا يخلو فعل من ذكر. ويجب عليه أن يطمئن في هذا الاعتدال.
وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يجب عليه الطمأنينة فيه، فمتى رفع رأسه رفعًا ما. . أجزأه) ، حتى حكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لو رفع جبهته بقدر ما يدخل بين جبهته والأرض سمك سيف. . أجزأه) . وقال مالك: (يعتبر ما كان أقربه إلى الجلوس) ، وكذلك يقول في الاعتدال عن الركوع: (ما كان أقربه إلى القيام) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يرفع رأسه من السجود، حتى يطمئن جالسًا» .
وأما الكلام في صفة هذا الجلوس: فقال الشافعي: (هو أن يثني رجله اليسرى، ويقعد عليها، وينصب قدمه اليمنى) .
وحكى أبو علي في " الإفصاح "، عن الشافعي قولاً آخر: (أنه يجلس على صدور قدميه) ، والأول هو المشهور؛ لما روي: أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأولى. . ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» .
[فرع كراهة الإقعاء]
ويكره الإقعاء في الجلوس، وروي عن العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير: أنهم قالوا: (هو من السنة) ، وبه قال نافع، وطاوس، ومجاهد.(2/224)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإقعاء في الصلاة» ، وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: يا علي، أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين» .
واختلف في تأويله: فقال أبو عبيدة: هو أن ينصب ساقيه معًا على الأرض، ويجلس على أليتيه.
وقال أبو عبيد: وسمعت أهل العلم يقولون: (الإقعاء) : هو أن يفترش رجليه، ويجلس على عقبيه.
هكذا ذكر في " التعليق "، وذكر في " المهذب " تأويلاً آخر، فقال: هو أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه.
وأما الذكر في الجلوس بين السجدتين: فلم يذكر الشافعي فيه شيئًا، ولكن قد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وارزقني» ،(2/225)
وفي رواية أم سلمة: «واهدني للسبيل الأقوم، وعافني» .
والمستحب: أن يقول ذلك.
وقال أبو حنيفة: (ليس فيه ذكر مسنون) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولأن أفعال الصلاة مبنية على أن لا ينفك شيء منها من ذكر الله.
[مسألة السجدة الثانية]
ثم يسجد سجدة ثانية على ما ذكرناه في الأولى من التكبير وغيره.
فإذا رفع رأسه منها. . فروى المزني: (أنه يستوي قاعدًا، ثم ينهض) ، وقال في " الأم " [1/101] : (يقوم من السجدة الثانية) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجلس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من السجود. . استوى قائمًا بتكبيرة» .
والثاني: يجلس؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي عن مالك بن الحويرث: «أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فكان إذا كان في وتر من صلاته. . لم ينهض، حتى يستوي جالسًا» .(2/226)
وقال أبو إسحاق: هي على حالين: فإن كان ضعيفًا.. جلس؛ لأنه يحتاج إليها للاستراحة، وإن كان قويًا. . لم يجلس؛ لأنه لا يحتاج إليها.
فإذا قلنا: لا يجلس. . فإنه يبتدئ بالتكبير مع ابتداء الرفع، وينتهي به مع انتهاء الرفع، وذلك عند أول حالة القيام.
وإذا قلنا يجلس للاستراحة. . فإنه يجلس مفترشًا؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومتى يبتدئ بالتكبير؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يبتدئ بالتكبير عند ابتداء رفع رأسه من السجود، وينتهي به إلى حالة الجلوس، ثم يقوم من غير تكبير؛ لأن التكبير - هاهنا - للرفع من السجود، لا للقيام.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يطيل التكبير، ولا يطيل الجلوس، ويتم التكبير في حال النهوض إلى القيام، وهذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن أفعالها لا تخلو من ذكر.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 66] : أن القفال كان يقول: لا يكبر عند رفع الرأس من السجود، بل عند الرفع من الجلسة، ثم رجع عنه.
وهل تكون هذه الجلسة فصلاً بين الأولى والثانية؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول ابن الصباغ -: أنها لا تكون من الأولى، ولا من الثانية، بل تكون فضلا بينهما، كالتشهد الأول.
والثاني - يحكى عن الشيخ أبي حامد -: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ بالتكبير بعد الفراغ من الأولى، وهذا مخالف لأصل الصلاة؛ لأنه ليس في الصلاة الواجبة جلوس في ابتداء ركعة، فثبت أنها فصل بينهما.
وإذا أراد القيام إلى الركعة الثانية، إما من السجدة الثانية، أو من جلسة الاستراحة. .(2/227)
فإنه يقوم معتمدًا على الأرض بيديه، وحكي ذلك عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يعتمد على الأرض بيديه، وإنما يعتمد على صدور قدميه) . وروي ذلك عن علي، وابن مسعود.
دليلنا: ما روي عن مالك بن الحويرث، في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، واستوى قاعدًا. . قام، واعتمد على الأرض بيديه» .
قال الشافعي: (ولأن ذلك أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي) .
قال ابن الصباغ: ويرفع يديه من الأرض قبل ركبتيه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض. . رفع يديه قبل ركبتيه» .
ولأن اليدين، لما تأخر وضعهما. . تقدم رفعهما، كالجبهة.
ولا يرفع يديه إلا في المواضع الثلاثة التي ذكرناها، وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند تكبيرة الركوع، وعند الرفع منه.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يستحب ذلك كلما قام إلى الصلاة من سجود، أو تشهد. وهو قول ابن المنذر.
قال ابن المنذر: هذا باب أغفله كثير من أصحابنا، وقد ثبت فيه حديث أبي حميد(2/228)
الساعدي، وروي في حديث علي أمير المؤمنين أيضًا.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين» ، ولأنها تكبيرة يتصل طرفها بسجود أو قعود، فلم يرفع فيها يديه، كتكبيرة السجود من القيام.
فإن ركع، أو سجد في الفرض بنية النفل. . لم يجزئه عن الفرض، وتبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (يقع عن فرضه) .
دليلنا: أنه ركن في الصلاة، فإذا أداه بنية النفل. . لم تجزئه، كتكبيرة الإحرام.
[مسألة عن أحكام الركعة الثانية]
ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فيصليها مثل الأولى، إلا في النية، ودعاء الاستفتاح؛ لأن ذلك يراد للدخول، فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين. . جلس، وتشهد، وهذا الجلوس والتشهد فيه سنتان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.
وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبو ثور: (هما واجبان) .
دليلنا: ما روي عن ابن بحينة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من اثنتين من الظهر، أو العصر ولم يجلس، فلما قضى صلاته. . سجد سجدتين للسهو، ثم سلم» ، ولو كانتا واجبتين. . لما جبرهما بالسجود، كالركوع.(2/229)
والجلسات في الصلاة أربع: الجلسة بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير.
والسنة عندنا: أن يجلس في الجلسات الثلاث الأول مفترشًا، وهو أن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب قدمه اليمنى.
قال الشافعي: (ويفضي ببطون أصابعه إلى الأرض) .
وفي الجلسة الأخيرة يجلس متوركا، وهو أن يخرج رجله اليسرى من تحت وركه، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، وينصب قدمه اليمنى.
وقال مالك: (السنة: أن يتورك في جميعها) .
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (السنة: أن يفترش في جميعها) .
دليلنا: أن أبا حميد وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «لما جلس في الأوليين، وبين السجدتين. . ثنى رجله اليسرى، وجلس عليها، ونصب اليمنى، فلما جلس في الرابعة. . أماط رجله من تحت وركه، وأفضى بمقعدته إلى الأرض، ونصب قدمه اليمنى» .
وإن كانت الصلاة صبحًا، فإنه إذا جلس للتشهد. . تورك فيه؛ لأنها الجلسة الأخيرة فيها.
قال الشافعي: (فإن أدرك المأموم الإمام في الركعة الأخيرة من الصبح. . فإنه يجلس مع الإمام تبعًا له، ويفترش رجله اليسرى؛ لأن عليه أن يتبع الإمام في فعله، لا في صفته، ألا ترى أنه يتبع الإمام في القراءة، ولا يتبعه بالجهر بها) .
وكذلك إذا أدركه في الثانية من المغرب بعد الركوع. . فإن هذا المأموم يجلس أربع جلسات للتشهد، يفترش في ثلاث منها، ويتورك في الأخيرة منها؛ لما ذكرناه.(2/230)
[مسألة الجلوس للتشهد]
وإذا جلس للتشهد. . فإنه يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويبسط أصابعه.
قال المحاملي: ويضمها.
وقال ابن الصباغ: ويفرقها.
وأما اليد اليمنى: ففي كيفية وضعها ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو المشهور -: أنه يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع، إلا المسبحة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قعد للتشهد. . وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة» .
وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس للتشهد. . افترش رجله اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع إبهامه عند الوسطى، وأشار بالسبابة، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى» . ذكره البغوي.
وكيف يصنع بالإبهام على هذا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضعها في وسط كفه، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين؛ لما ذكرناه في رواية ابن عمر.
والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين؛ لما ذكرناه في رواية ابن الزبير.(2/231)
والقول الثاني: أنه يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة؛ لما روى وائل بن حجر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا.
والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويبسط الإبهام والسبابة، ويشير بها؛ لما روى أبو حميد الساعدي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا.
قال ابن الصباغ: وهذه الأخبار تدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضعها تارة كذا، وتارة كذا، فكيفما وضع يده من ذلك. . أتى بالسنة، ويشير بالسبابة، على الأقوال كلها عند الشهادة؛ لما ذكرناه من الأخبار، ولكن يشير بها عند كلمة الإثبات، وهو قوله: (إلا الله) ، لا عند كلمة النفي.
قال ابن الصباغ: ولا يجاوز طرفه إشارته.
وهل يحركها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يحركها، وإنما يشير بها فقط؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، ولا يحركها، ولا يجاوز بصره إشارته» .
والثاني: يحركها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، وقال: «إنها مذعرة للشيطان» .(2/232)
قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا بهذا: فإنه يحركها في جميع التشهد، ولا تبطل صلاته بذلك؛ لأنه عمل قليل، فهو كما لو غمض عينيه وفتحهما.
وحكى الصيدلاني، عن أبي علي بن أبي هريرة: أن صلاته تبطل بذلك؛ لأنه عمل كثير، وليس بشيء.
[مسألة ألفاظ التشهد]
ويتشهد، وأفضل التشهد عندنا: ما رواه ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» .
وهذه رواية الشافعي، عن ابن عباس، ورواه عنه أبو داود، وقال: " السلام ". بزيادة الألف واللام فيهما.(2/233)
قال الشيخ أبو حامد: والجميع واحد؛ لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام.
وقال أبو حنيفة: (الأفضل: أن يتشهد بما رواه ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو: «التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله» ، وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن المنذر.
وقال مالك: (الأفضل: أن يتشهد بما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه علم الناس التشهد على المنبر، وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ".(2/234)
وإنما اختار الشافعي رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن» ، وذكر ما قلناه، وهذا يدل على حفظه وضبطه، وكل موضع ذكر الله التحية، فإنه قال: " سلام " من غير ألف ولام.
إذا ثبت هذا: فإن أبا علي الطبري، حكى عن بعض أصحابنا: أن الأفضل أن يقول: بسم الله وبالله، التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ليجمع بذلك بين الروايات، وليس بشيء؛ لأن التسمية غير ثابتة في الحديث، والواجب من ذلك خمس كلمات وهي: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن كل من روى التشهد روى هؤلاء الكلمات.
وفي قوله: (ورحمة الله) وجهان:
[الأول] : قال ابن سريج: لا تجب.
و [الثاني - وهو] المذهب -: أنه يجب.
وفي قوله: (وبركاته) وجهان:
[الأول] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب.
و [الثاني] : أنه واجب. حكاه الصيدلاني، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 66] .
قال الشافعي: (ويقول: وصلى الله على محمد) . فيكون ستًا.
قال الشيخ أبو حامد: أو يقول: اللهم صل على محمدٍ.(2/235)
وأما قوله: (المباركات) فلا يجب؛ لأنه نعت للتحيات.
وقوله: (الصلوات الطيبات) لا يجب؛ لأن قوله: التحيات يقوم مقامه.
قال في " الأم ": (ولو قدم بعض ألفاظها على بعض. . أجزأه، كما يجزئه في الخطبة) .
وأما تفسير (التحيات لله) : فروي عن ابن عباس، وابن مسعود: أنهما قالا: أنهما قالا: (معنى: (التحيات لله) : العظمة لله) .
وقال أبو عمر: (التحيات لله) : الملك لله. وأنشد قول زهير:
ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية
يعني: إلا الملك.
وقال بعضهم: (التحيات لله) ، يعني: سلام الخلق لله. مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] [يونس: 10] . وأما (الصلوات) : فيريد: الصلوات الخمس. (والطيبات) يريد: الأعمال الصالحة.
وقيل: (الطيبات) الثناء على الله.
وأما (السلام) : فقيل: معناه: اسم السلام، والسلام هو الله، كما يقال: اسم الله عليك. وقيل: معناه: سلم الله عليك تسليمًا وسلامًا.
وهل تسن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسن؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في التشهد الأول. . كأنما يجلس على الرضف» . يعني: الحجارة المحماة، وهذا يدل على أنه كان لا يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.(2/236)
والثاني: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يسن فيه الدعاء؛ لأنه تشهد، فسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالأخير، وقال مالك: (يصلي فيه ويدعو) .
دليلنا عليه: حديث ابن مسعود.
وهل يسن الصلاة على آله في هذا التشهد؟
قال أكثر أصحابنا: لا يسن ذلك، كما لا يسن الدعاء فيه.
وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا: لا تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . لم تسن الصلاة فيه على آله.
وإن قلنا: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . فهل تسن فيه الصلاة على آله؟ فيه وجهان.
[مسألة حكم الصلاة غير الثنائية]
ثم يقوم إلى الثالثة معتمدًا على الأرض بيديه؛ لما ذكرناه من رواية مالك بن الحويرث، ويكره أن يقدم إحدى رجليه على الأخرى عند النهوض في الصلاة.
وقال مالك: (لا بأس به) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (هذه الخطوة الملعونة) .
ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الثانية، إلا في الجهر بالقراءة، فإذا بلغ إلى آخر صلاته. . جلس، وتشهد فيه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجب، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو مسعود البدري.
وذهب علي بن أبي طالب، والزهري، ومالك، والثوري إلى: (أن هذا(2/237)
الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجب شيء من ذلك، بل إذا فرغ من الركعة الأخيرة. . فقد تمت صلاته) .
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أن التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجبان، وأما الجلوس: فيجب منه بقدر قراءة التشهد) .
دليلنا: ما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات» . . . ". فموضع الدليل: أنه قال: قبل أن يفرض علينا التشهد، فدل على أنه قد فرض عليهم، ولأنه أمرهم بالتشهد، والأمر يقتضي الوجوب.
وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] [الأحزاب: 56] .
قال الشافعي: (أمر الله بالصلاة على نبيه، وظاهره يقتضي الوجوب، ولا موضع تجب فيه الصلاة عليه أولى من الصلاة) .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور، وبالصلاة علي» .
وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .(2/238)
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ لما روى أبو حميد: «أنه قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
والواجب: اللهم صل على محمد.
وهل تجب الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه وجهان:
أحدهما: تجب، وبه قال أحمد؛ لحديث أبي حميد.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب) ؛ لأن من لم يكن ذكره شرطًا في صحة الأذان. . لم يكن شرطًا في صحة الصلاة، كالصحابة.
وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا. تسن الصلاة عليهم في الأول. . وجبت هاهنا.(2/239)
قال: وكذلك الوجهان في الصلاة على إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
واختلف الناس في آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمنهم من قال: هم بنو هاشم، وبنو المطلب؛ لأنهم أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآل: منقلب من: أهل.
ومنهم من قال: آله من كان على دينه، كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] [غافر: 46] . وأراد: من كان على دينه.
وسئل الشافعي عن أفضل الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؟ فقال: (نبينا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ، فقيل له: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم ". فسأل الله تعالى أن يصلي عليه، كما صلى على إبراهيم، وهذا يدل على أن إبراهيم كان أفضل منه؟ ! فقال: (لا؛ لأن قوله: " اللهم صل على محمد " كلام تام، " وعلى آل محمد " كلام مبتدأ، " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم "، فيكون معناه: وصل على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) .
[مسألة الدعاء آخر الصلاة]
فإذا فرغ من التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله. . فله أن يدعو بما شاء من دين ودنيا، والأفضل أن يدعو بما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع: من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» ، وبما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان(2/240)
يقول بين التشهد والسلام: اللهم اغفر لي ما قدم وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» .
وروى أبو داود، عن ابن مسعود: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا كلمات، ولم يكن يعلمناهن كما يعلمنا التشهد: اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أن التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا» .
ويجوز أن يقول: اللهم ارزقني جارية حسنة، وزوجة صالحة، وضيعة،(2/241)
وخلص فلانا من الحبس، وأهلك فلانًا، وغير ذلك مما يجوز أن يدعو به خارج الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (لا يدعو إلا بالأدعية المأثورة، أو ما أشبه ألفاظ القرآن) .
ومن أصحابه من قال: ما لا يطلب إلا من الله، يجوز أن يدعو به في الصلاة، وما يجوز أن يطلب من المخلوقين، إذا سأله الله في الصلاة. . أفسدها.
دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد إلى قوله: " وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، ثم قال: وليدع بعد ذلك بما شاء» .
وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع رأسه من الركوع الأخير في الصبح، وقال: اللهم نج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأهلك رعل وذكوان، واجعل سنيهم كسني يوسف» .
وروى عن أبي الدرداء: أنه قال: (إني لأدعو لسبعين صديقًا في كل صلاة بأسمائهم، وأسماء آبائهم) .
قال الشافعي: (ويدعو قدر أقل التشهد) .
وقال في " الإملاء ": (ويدعو بقدر التشهد) .
قال أصحابنا: وليس بينهما اختلاف؛ لأن أقل التشهد مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأكثر التشهد بغير الصلاة.
فقوله: (بقدر أقل التشهد) ، يعني: مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (بقدر التشهد) ، يعني: بغير صلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(2/242)
فإن كان إمامًا. . فإنه يدعو بقدر التشهد؛ لكي لا يثقل على من وراءه، وإن كان منفردًا. . فيطيل ما شاء. ويكره أن يقرأ القرآن في التشهد؛ لأنها حالة في الصلاة، لم تشرع فيها القراءة، فكرهت فيها، كالركوع، والسجود.
قال الشافعي: (وأحب للإمام أن يرتل القراءة والتشهد، ويزيد عليها، حتى لو كان خلفه من في لسانه ثقل. . أدركه، وأحب له أن يتمكن في الركوع والسجود؛ لكي يلحقه الكبير والضعيف) .
[مسألة في السلام]
ثم يسلم، والسلام واجب في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، وهو من الصلاة، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (السلام ليس بواجب، وإنما على المصلي إذا قعد قدر التشهد. . أن يخرج من الصلاة بما ينافيها من قيام، أو كلام، أو حدث، أو سلام) .
دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . فجعل تحليلها التسليم، فدل على أنه لا تحليل إلا به، ولأنه أضافه إليها، فدل على أنه منها.
وروى جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم في الصلاة، أومأ أحدنا بيده يمينًا وشمالاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لي أراكم تؤمنون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم وشمالكم: السلام عليكم ورحمة الله» .(2/243)
فإن كان المسجد كبيرًا مثل الجوامع، والناس كثيرًا، وهناك ضجة وكلام حول المسجد. . فإن المستحب أن يسلم الإمام تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، هي من الصلاة، والأخرى: عن شماله، وليست من الصلاة.
وإن كان المسجد صغيرًا، ولا لغط هناك، أو كان منفردًا. . ففيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (السنة أن يسلم تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، والأخرى: عن شماله) .
وروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمتين: عن يمينه، وشماله» .
و [الثاني] : قال في القديم: (السنة أن يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» .(2/244)
وروي عن ابن عمر، وأنس، وسلمة بن الأكوع، وعائشة: (أن السنة أن يسلم تسليمة واحدة بكل حال) . وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي.
ودليلنا عليهم: حديث ابن مسعود.
والواجب: تسليمة واحدة، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال الحسن بن صالح، وأحمد - في أصح الروايتين عنه -: (الواجب تسليمتان) .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحليلها التسليم» . وهذا يقع على تسليمة واحدة.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» .
والسلام هو أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله؛ لما ذكرناه من حديث جابر بن سمرة.
وروى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم هكذا) .(2/245)
فإن قال: السلام عليكم. . أجزأه. وإن قال: السلام، ولم يقل: عليكم. . لم يجزئه.
فإن قال: سلام عليكم. . ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أنه لا يجزئه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال في السلام: (السلام عليكم) .
فإن نقص من هذا حرفًا. . أعاد، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم، وعن شمائلكم: السلام عليكم ورحمة الله» .
والثاني: يجزئه، وهو اختيار ابن الصباغ، كما يجزئه في التشهد.
ومن قال بالأول. . قال: قد روي في التشهد بغير ألف ولام، وهاهنا لم يرو إلا بالألف واللام.
وإن قال: عليكم السلام. . فإن الشافعي قال: (كرهته، ولم يقطع صلاته) ؛ لأن ذكر الله لا يقطع الصلاة.
فمن أصحابنا من قال: لا تجزئه؛ لأن الشافعي قال: (ولم يقطع صلاته) . فثبت: أنه لم يخرج به من الصلاة، ولأن الخبر لم يرد به.
ومنهم من قال: يجزئه، وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد؛ لأنه ذكر ليس في جنسه إعجاز، فلم يجب فيه الترتيب، كالتشهد، ولو لم يجزئه عند الشافعي. . لقطع ذلك صلاته.
[فرع نية السلام]
وأما النية في السلام: فلا يخلو: إما أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا:
فإن كان إمامًا. . فإنه ينوي بالتسليمة الأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وهم الملائكة، والسلام على المأمومين عن يمينه.
وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين.(2/246)
وإن كان مأمومًا عن يسار الإمام. . نوى بالتسليمة الأولى أربعة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والرد على الإمام، والسلام على المأمومين عن يمينه.
وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين.
وإن كان عن يمين الإمام. . نوى بالأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وعلى المأمومين عن يمينه.
ونوى بالثانية ثلاثة أشياء: السلام على الحفظة، والسلام على المأمومين عن يساره، والرد على الإمام. .
وإن كان الإمام محاذيًا له. . نوى الرد عليه في أي التسليمتين شاء.
وإن كان منفردًا. . نوى بالتسليمة الأولى شيئين: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة.
ونوى بالثانية: السلام على الحفظة، لا غير.
والدليل عليه: ما روى سمرة قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نسلم على أنفسنا، وأن يسلم بعضنا على بعض» .
وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعًا، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين، ومن معهم من المؤمنين» .(2/247)
قال الجويني: وتكون نية الخروج ممتزجة بالسلام، ولا يجب ما سوى نية الخروج.
وفي نية الخروج وجهان:
أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر النص -: أنها واجبة؛ لأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فوجبت مقارنة النية له، كتكبيرة الإحرام.
والثاني - وهو قول أبي حفص بن الوكيل، وأبي عبد الله ختن الإسماعيلي -: أنها غير واجبة، وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن نية الصلاة قد اشتملت على جميع أفعالها، وأقوالها، فلا معنى لإعادة النية، ولأن نية الخروج لو وجبت. . لوجب تعيين الصلاة التي يخرج منها، كنية الإحرام.
[فرع نية التسليم]
] : إذا سلم من الظهر، ونوى الخروج من العصر، فإن قلنا: إن نية الخروج واجبة. . بطلت صلاته، وإن قلنا: لا تجب. . لم يضره ذلك، كما لو شرع في الظهر، وظن في الركعة الثانية أنه في العصر، ثم تذكر في الثالثة أنه في الظهر. . لم يضره ذلك.
[مسألة الدعاء بعد الصلاة]
ويستحب للإمام وغيره إذا فرغ من الصلاة أن يدعو.
قال الشافعي: (وأحب أن يخفت صوته، ويسمع به نفسه، ولا يجهر، إلا أن يكون إماما، فيريد أن يتعلم الناس منه، فيجهر به حتى يعلم أنهم تعلموا، ثم يخفت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] [الإسراء: 110] . يعني: لا تجهر بدعائك، ولا تخفت حتى لا تسمع نفسك) .(2/248)
وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من صلاته مكث قليلاً، وانصرف» .
وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» .
وروى معاوية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بعد السلام: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» .
وروى ثوبان: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن ينصرف من الصلاة.. استغفر ثلاث مرات، ثم قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .(2/249)
وروي: «أنه كان يقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» .
فتحمل رواية من روى أنه دعا وجهر: على أنه أراد بذلك ليتعلم الناس، وتحمل رواية من روى أنه مكث قليلاً، ثم انصرف: على أنه دعا سرًا، بحيث يُسمع نفسه.
[فرع انتظار خروج النساء]
قال الشافعي: (ويَثْبُتُ ساعةَ يُسَلِّم، إلا أن يكون معه نساء فيلبث؛ لينصرفن قبل الرجال) .
وجملة ذلك: أنه إذا كان خلف الإمام رجال ونساء. . فالمستحب له إذا سلم: أن يقف في مكانه ساعة، بقدر ما لو خرج سرعان الرجال. . لم يلحقوا النساء؛ لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة.. انصرف النساء حين يقضي سلامه، ويمكث في مكانه يسيرًا» . قال الزهري: أرى ذلك؛ لئلا يلحق الرجال بالنساء.
وإن كان خلفه رجال، ولا نساء معهم.. استحب له أن يثبت ساعة يسلم، ولا يقف؛ لمعنيين:(2/250)
أحدهما: أنه إذا ثبت في مكانه، ربما وقع عليه السهو أنه سلم أم لا؟
والثاني: ربما دخل داخل، فيظن أنه في السلام، فيدخل معه في الصلاة، فإن لم يثبت.. فالأولى للمأمومين أن يقفوا معه؛ لكي يتذكر سهوًا، فيتبعونه.
قال أصحابنا: ويستحب للإمام والمأموم إذا قضى فرضه، أن يصلي النافلة في بيته؛ لما روى أسامة بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة» . وهذا مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» .
وروى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا» .
[فرع الانصراف من الصلاة]
فإذا أراد أن ينصرف، فإن كانت له حاجة.. توجه في جهتها، سواء كانت يمينًا أو شمالاً؛ لما روى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوجه يمينًا وشمالاً) .(2/251)
وروى ابن مسعود: (أن أكثر انصراف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات الشمال؛ لأن منازله كانت ذات الشمال) .
وإن لم يكن للمصلي غرض ولا حاجة.. فالمستحب له: أن ينصرف ذات اليمين؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في كل شيء، حتى في طهوره، وانتعاله» . هكذا ذكر أصحابنا البغداديون، ويريدون بذلك: الانصراف في الجهات، عند الخروج من المسجد.
وأما صاحب " الإبانة " [ق \ 67] : فقال: تفسير الانصراف عن اليمين عند أكثر أصحابنا: أن يفتل يده اليسرى، ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب.
وقال القفال: الانصراف عن اليمين هو: أن يفتل يده اليمنى، ويجلس على الجانب الأيسر من المحراب، كما قلنا في الطائف: أنه يبتدئ من الحجر، وتكون يده اليسرى إلى الكعبة، واليمنى إلى الناس.
[مسألة القنوت في الصلاة]
والسنة: أن يقنت في صلاة الصبح عندنا في جميع الدهر، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ورواه الشافعي عن الخلفاء الأربعة، وأنس.(2/252)
وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أنه غير مسنون في الصبح) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي الدرداء.
وقال أبو يوسف: إذا قنت الإمام. . فاقنت معه.
وقال الإمام أحمد: (القنوت للأئمة، يدعون للجيوش، فإن ذهب إليه ذاهب. . فلا بأس) .
ودليلنا: ما روى أبو داود في " سننه "، «عن أنس: أنه سئل: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟ فقال: بل بعد الركوع» .
وفي رواية عن أنس: «ما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في صلاة الصبح، حتى فارق الدنيا» . أخرجه الدارقطني.
إذا ثبت هذا: فإن محل القنوت في الصبح عندنا، بعد الركوع في الثانية، وبعد ما يقول: سمع الله لمن حمده. . . . إلى آخره.
وذهب مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، إلى: (أن محله قبل الركوع) .(2/253)
ودليلنا: حديث أنس الذي مضى.
وأما صفة القنوت: قال الشافعي: فأحب أن يقنت بالثمان الكلمات المنقولة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت» ؛ لما روي عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت» . . . . ". وذكر الكلمات الثمان. وإن كان إمامًا. . قال: اللهم اهدنا. . . إلى آخره.
قال أصحابنا: وقد زاد بعض أهل العلم: ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك.
قال الشيخ أبو حامد: وهو حسن.
وقال القاضي أبو الطيب: قوله: ولا يعز من عاديت. ليس بحسن؛ لأنه لا يضاف العداوة إلى الله تعالى.
قال ابن الصباغ: ومثل ما قالوه قد جاء في القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . ولا بأس بهذه الألفاظ.
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قنت بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. . كان حسنًا.
وذكر الشيخ أبو نصر: أن مالكًا اختار القنوت في الصبح بالمروي عن عمر، وهو(2/254)
ما روى أبو رافع: أن عمر قنت في الصبح بعد الركوع، فسمعته يقول: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك - أي: يعصيك، ويخالفك - اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكفار ملحق. اللهم عذِّب الكفرة كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم: إله الحق، واجعلنا منهم) .
قوله: (نحفد) أي: نخدم، والحفد: الخدمة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] [النحل: 72] . قيل: الحفدة: الخدم.
وقوله: (ملحق) أي: لاحق.
ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد القنوت؛ لما روي في حديث الحسن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تباركت وتعاليت، وصلى الله على النبي وسلم» .(2/255)
وهل يستحب رفع اليدين في القنوت؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ذلك غير مستحب؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلا في الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة) .
والثاني: أن ذلك مستحب، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف بعرفة، وعند الجمرتين» .
وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يرفع يديه حتى يبدو ضبعاه) .(2/256)
وعن ابن مسعود، وابن عباس: (أنهما كانا يرفعان أيديهما إلى صدورهما) .
فعلى هذا: يستحب أن يمسح يديه على وجهه عند الفراغ من الدعاء؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعوت. . فادع الله ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت. . فامسح راحتيك على وجهك» .
قال ابن الصباغ: ولا يمسح بيديه على غير وجهه من جميع بدنه، فإن فعل ذلك كان مكروهًا.
قال في " الإبانة " [ق 77] : وهل يجهر بالقنوت، أو يسر به؟ فيه وجهان.
وقال البغداديون من أصحابنا: يجهر به.
وإذا قنت الإمام. . فهل يقنت المأموم، أو يؤمن؟
قال ابن الصباغ: لا يحفظ فيه نص للشافعي، غير أنه قال: (إذا مرت به آية رحمة، سألها، وكذلك المأموم) . فشرك بينهما في الدعاء، فينبغي ها هنا مثله.
وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو، ويؤمن من خلفه» وهذا يدل على أنه يؤمن، ولا يدعو.
قال: فينبغي أن يكون المأموم - ها هنا - بالخيار بين أن يدعو، وبين أن يؤمن؛ لأن التأمين دعاء.(2/257)
قال: وقد قال بعض أصحابنا: يؤمن المأموم على الدعاء، ويشاركه في الثناء. ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا.
وأما سائر الصلوات غير الصبح: فإن نزل بالمسلمين نازلة. . جاز القنوت فيها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت، إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد» .
وإن لم تنزل بالمسلمين نازلة. . فهل يجوز القنوت فيها؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لأنه قد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في جميع الصلوات» .
والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قنت فيها لنازلة) ، وهي: أن قومًا قتلوا أصحابه، أهل بئر معونة، فكان يدعو عليهم، ثم أسلموا فترك مسألة ذلك.
إذا ثبت ما ذكرناه: فالصلاة تشتمل على أركان، ومسنونات، وهيئات، وشرائط.
فالشرائط: ما تتقدم الصلاة، وهي خمس متفق عليها، والسادسة مختلف فيها.(2/258)
فأما الخمس المتفق عليها: فهي: الطهارة عن حدث، وستر العورة، والطهارة عن النجس: في الثوب، والبدن، والمكان، والعلم بدخول الوقت بيقين، أو غلبة الظن، واستقبال القبلة.
والسادسة: النية، وفيها وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: إنها من الشرائط.
و [الثاني] : منهم من قال: إنها من الأركان، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: في استقبال القبلة أيضًا وجهان، كالنية.
الصحيح: أن النية من الأركان، وأن استقبال القبلة من الشرائط.
وأما الأركان: فكل ما كان واجبًا في أثناء الصلاة.
وكل ركن شرط؛ لأن الصلاة لا تصح إلا به. وليس كل شرط ركنًا؛ لأن الشرائط ما وجبت خارج الصلاة.
قال أصحابنا: ففي الركعة الأولى من كل صلاة واجبة أربعة عشر ركنًا:
تكبيرة الإحرام، والنية على قول من يجعلها ركنًا، والقيام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والطمأنينة فيه، والسجدة الأولى، والطمأنينة فيها، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه، والسجدة الثانية، والطمأنينة فيها، هذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: في السجدة الثانية وجهان:
الصحيح: أنها ليست بركن؛ لأنها متكررة.
وأما الركعة الثانية: ففيها اثنا عشر ركنًا على طريقة البغداديين؛ لأنه تسقط منها النية، وتكبيرة الإحرام، وكذلك في الثالثة والرابعة.(2/259)
وفي الجلوس الأخير خمسة أركان: الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، والتسليمة الأولى، ونية الخروج من الصلاة، على قول من يوجبها.
وزاد الشيخ أبو إسحاق ركنًا مع ذلك كله، وهو: ترتيب أفعالها، على ما ذكرناه. فيكون في الصلاة الرباعية: ستة وخمسون ركنًا، وفي الثلاثية: أربعة وأربعون ركنًا، وفي الصبح: اثنان وثلاثون ركنًا.
فإن قلنا: إن الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجبة. . زاد في عدد أركان كل صلاة ركناً، وقد يختصر، فيقال: في الركعة الأولى تسعة أركان، وتجعل الطمأنينة صفة للركن.
وأما المسنونات في الصلاة - وقد يسميها بعض أصحابنا: الأبعاض - وهي التي تجبر بالسجود: فهي أربعة:
الجلوس الأول، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، على القول الذي يقول: إنه سنة فيه، والقنوت في الصبح.
وأما الهيئات: فهي ما عدا ذلك، والفرق بين المسنونات والهيئات: أنه إذا أتى بالهيئات. . أكمل صلاته، وإن تركها. . لم يسجد للسهو.
وإذا ترك شيئًا من المسنونات. . نقصت صلاته، وجبرها بسجود السهو. هذه عبارة أكثر أصحابنا.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فعد ما ليس بركن في الصلاة من المسنونات.
ولا فائدة في هذا الاختلاف إلا في التسمية.
وبالله التوفيق
* * *(2/260)
[باب صلاة التطوع]
أفضل أعمال البدن - بعد الشهادة -: الصلاة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» فجعل الصلاة بعد الشهادة، فدل على أنها أفضل من غيرها.
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استقيموا، واعلموا: أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .
وتطوعها أفضل التطوع، كما أن فرائضها أفضل الفرائض.
وتطوعها ضربان: ضرب تسن له الجماعة، وضرب لا تسن له الجماعة.
فما تسن له الجماعة: صلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء، وهذا الضرب أفضل مما لم تسن له الجماعة؛ لأن ما تسن له الجماعة أشبه بالفرائض، وأفضل ذلك صلاة العيدين؛ لأنها راتبة بوقت، فهي بالفرائض أشبه، ولأنه مختلف في وجوبها، ثم تليها صلاة الكسوف، لأن القرآن دل عليها، ولأنها أكثر عملاً من صلاة الاستسقاء، ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدع صلاة الكسوف عند وجود سببها، وقد كان(2/261)
يستسقي تارة، ويدع أخرى، ولأن صلاة الكسوف خالصة لله تعالى، وصلاة الاستسقاء لطلب الرزق، وأجمع المسلمون على كون صلاة الكسوف سنة، واختلفوا في كون صلاة الاستسقاء سنة.
وأما ما لا تسن له الجماعة فضربان: راتبة بوقت، وغير راتبة بوقت.
فأما الراتبة بوقت: فمنها: السنن الرواتب مع الفرائض.
واختلف أصحابنا في عددها: فمنهم من قال: هي عشر ركعات غير الوتر.
قال الشيخ أبو إسحاق: وذلك أدنى الكمال، وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لما روي «عن ابن عمر: أنه قال: (صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين» ، وحدثتني حفصة بنت عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي سجدتين خفيفتين، إذا طلع الفجر» .
ومنهم من قال: هي ثمان ركعات غير الوتر، وهو المنصوص في " البويطي "، فنقص مما قال في الأول سنة العشاء، وهو اختيار الخضري من أصحابنا، أنه لا سنة للعشاء.
ومنهم من قال: هي اثنتا عشرة ركعة غير الوتر، وزاد على ما قال الأول ركعتين قبل الظهر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من(2/262)
ثابر على اثنتي عشرة ركعة. . بنى الله له بيتًا في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» .
ومنهم من قال: هي ثمان عشرة ركعة غير الوتر، وهو قول أبي علي في " الإفصاح ".
قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأكمل، وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لحديث ابن عمر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعدها؛ لما روت أم حبيبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حافظ على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها. . حرم على النار» . وأربع قبل العصر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» .
وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين، ومن معهم من المؤمنين» .(2/263)
وأما قبل المغرب: قال أبو علي في " الإفصاح ": وروى عبد الله بن بريدة، عن عبد الله المزني، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء؛ خشية أن يتخذها الناس سنة» ، فدل على أن ذلك جائز.
قال ابن الصباغ: وروي عن أنس: أنه قال: «صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قيل لأنس: رآكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: (نعم، رآنا، فلم يأمرنا، ولم ينهنا» .
وقال طاووس: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: (ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما) .
والسنة في الأربع قبل الظهر وبعدها، وفي الأربع قبل العصر: أن يسلم من كل ركعتين؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ويدخل وقت هذه السنن - التي تفعل قبل الفرض - بدخول وقت الفرض، ويكون ذلك وقت الاختيار لها، فإذا فعل الفرض. . ذهب وقت الاختيار لها، وبقي وقت الجواز لها إلى خروج وقت الفرض.
ومن أصحابنا من قال: يبقى وقت سنة الفجر إلى الزوال، وهو ظاهر النص، والأول أظهر.(2/264)
وما يفعل من هذه السنن بعد الفرض، يدخل وقتها بالفراغ من الفرض، ولأنها تابعة للفرض.
[مسألة صلاة الوتر]
] : الوتر سنة، وليس بواجب ولا فرض.
وبه قال مالك، والثوري، والليث، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وحده: (هو واجب، وليس بفرض) ؛ لأن الواجب عنده ما ثبت بدليل غير مقطوع به، والفرض ما ثبت بدليل مقطوع به.
دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث هي على فرض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي، ولم تكتب عليكم: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» .
وروى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب» .
إذا ثبت هذا: فأقل الوتر: ركعة، وأكثره: إحدى عشرة ركعة، وأدنى الكمال منه: ثلاث ركعات.(2/265)
وقال مالك: (أقل الوتر: ركعة، وليس لما بعدها من الشفع حد، وأقله: ركعتان، ويكره أن يوتر بثلاث ركعات بتسليمة، إلا أن يكون مع الإمام، فيوتر بوتره، ولا يخالفه) .
وقال أبو حنيفة: (الوتر: ثلاث ركعات، ولا تجوز الزيادة عليها، ولا النقصان عنها) .
دليلنا: ما روى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب، فمن أحب أن يوتر بخمس. . فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث. . فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة. . فليفعل» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بإحدى عشرة ركعة» .
وبهذا: يبطل مذهب مالك، وأبي حنيفة.(2/266)
[فرع ما يقرأ في الوتر]
] : وإذا أوتر بثلاث، فالأفضل - عندنا - أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين.
وقال أبو حنيفة: (لا يقرأ المعوذتين، بل يقتصر على سورة الإخلاص) .
ودليلنا: ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ ما ذكرناه.
ويجوز أن يجمع بين جميع ركعات الوتر بتسليمة واحدة.
قال أصحابنا ببغداد: والأفضل أن يسلم من كل ركعتين، ويفرد ركعة الوتر وحدها بتسليمة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفصل بين الشفع والوتر» .
وروي عن ابن عمر: (أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين، حتى يأمر بحاجته، فإن لم تكن له حاجة، قال: يا جارية، اعلفي الناضح) ، ولا يعرف له مخالف(2/267)
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق 77] : في الأفضل أربعة أوجه:
أحدها: الأفضل أن يفصل بين الشفع والوتر بالتسليم؛ لما ذكرناه.
والثاني: الأفضل أن يجمع بين الثلاث بتسليمة، وهو اختيار الشيخ أبي زيد.
والثالث - وهو اختيار القفال -: أن الأفضل أن يجمع بين الجميع بتسليمة، إلا أن تكون ركعتان لصلاة، وركعة للوتر، فالأفضل أن يفصل الركعة وحدها.
والرابع: إن كان يصلي في جماعة، فالأفضل ألا يفصل؛ خشية الفرقة والفتنة بين الناس، وإن كان يصلي وحده. . فالأفضل أن يفصل.
[فرع قنوت الوتر]
] : والسنة أن يقنت في الركعة الأخيرة في الوتر، في النصف الأخير من شهر رمضان لا غير، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يستحب القنوت في الوتر في جميع السنة) ، وبه قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا؛ لما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بثلاث ركعات، ويقنت قبل الركوع» .
وحكي عن بعض أصحابنا أنه قال: يستحب القنوت في الوتر في جميع شهر رمضان لا غير، والمذهب الأول.(2/268)
ودليلنا: إجماع الصحابة، وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يلي بهم التراويح عشرين ليلة، ولا يقنت إلا في النصف الثاني، ثم ينفرد في بيته، فيقال: أبق أبي) ، وهذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد.
وروي «عن عمر: أنه قال: (السنة إذا انتصف الشهر من رمضان: أن يلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم قاتل الكفرة» ، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديث أبي غير ثابت عند أصحاب الحديث.
وفي محل القنوت من الوتر وجهان:
أحدهما: بعد الركوع، وهو المنصوص في " حرملة "، ووجهه: حديث عمر، وأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع» ، فكان هذا مثله، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر.
والثاني: قبل الركوع، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع» ، و (في الوتر قبل الركوع) ، والقياس يقتضي المخالفة بين النفل والفرض، كما خولف بين الخطبتين في الفرض والنفل، فكانت في الجمعة قبل الصلاة، وفي العيدين والخسوف والاستسقاء بعد الصلاة.
وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ". عندي: أنه أيهما فعل أجزأه؛ لأنه ورد الأثر بهما.(2/269)
قال: وإذا قنت قبل الركوع. . فليس لأصحابنا فيه قول. وقد روي عن عمر وعلي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (أنهم كانوا يكبرون إذا فرغوا من القراءة قبل القنوت، ثم يقنتون) ، وهو قول أبي حنيفة.
وقال الشيخ أبو نصر: وبفعل عمر، وعلي، وابن مسعود، أقول.
قيل للشيخ أبي حامد: هل يرفع يديه في دعاء القنوت؟ فقال: لم يذكر في الخبر، وليس يبعد أن يجوز فعله.
قال أصحابنا: ولم يذكر الشافعي ما يقنت به في الوتر، وإنما لم يذكره؛ لأنه نص عليه في قنوت الصبح، وهو الثمان الكلمات: «اللهم اهدني فيمن هديت. .» . إلى آخره.
قال القاضي أبو الطيب: وكان شيوخنا يدعون بعد الثمان الكلمات بالدعاء المروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القنوت، وقد مضى ذكره في قنوت الصبح.
قال ابن الصباغ: وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» .(2/270)
قال ابن الصباغ: فإذا فرغ من القنوت. . فالمستحب أن يقول: «سبحان الله الملك القدوس، رب الملائكة والروح» ؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول ذلك ثلاثًا، ويمد صوته بـ: «رب الملائكة والروح» . فإذا فرغ. . مسح وجهه بيديه.
[فرع وقت الوتر]
] : ووقت الوتر بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر» .
فإن كان ممن تهجد له. . فالأفضل أن يوتر بعد صلاة العشاء، وإن كان له تهجد. . فالأفضل أن يوتر بعد التهجد؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل. . فليوتر من أول الليل، ثم ليرقد، ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل. فليوتر آخر الليل» .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: "متى توتر؟ "، فقال: أوتر، ثم أنام،(2/271)
ثم أقوم، فقال: "أخذت بالحزم"، وقال لعمر: "متى توتر؟ "، فقال: أنام، ثم أقوم، ثم أوتر، فقال: أخذ هذا بالقوة» . وهذا أفضل.
فإن أوتر أول الليل: ثم نام، ثم قام للتهجد، فإنه لا ينتقض وتره عندنا.
وروي عن علي، وابن عمر: (أنه ينتقض الوتر) ، فيصلي ركعة، ويضيفها إلى الوتر؛ ليصير شفعًا، ثم يتهجد، ثم يوتر بركعة بعد التهجد.
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وتران في ليلة» ، ولـ: (أن ابن عباس كره لابن عمر أن يشفع وتره) ، وروي عن ابن عمر، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (ألَّا يشفع الرجل وتره) .(2/272)
فإن اعتقد أنه صلى العشاء فأوتر، ثم ذكر أنه لم يكن صلى العشاء. . لم يعتد بالوتر. وبه قال أبو يوسف، ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (يعتد بما قد أوتره) .
دليلنا: أن وقت فعله بعد العشاء، فإذا فعله قبله. . لم يجزئه وإن كان مخطئًا، كما لو ظن أن وقت الفريضة قد دخل. . فصلاها، ثم بان أنه لم يدخل.
وأوكد هذه السنن الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر؛ لأنه ورد فيهما من الأخبار، ما لم يرد في غيرهما.
وأيهما آكد؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (ركعتا الفجر آكد) ، وبه قال أحمد، ومالك؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوها ولو طردتكم الخيل» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» .
ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فكانت بالفرائض أشبه.
فإذا قلنا بهذا، فيليها في التأكيد الوتر.
و [الثاني] : قال في الجديد: (الوتر آكد) ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(2/273)
«إن الله زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن» . وهذا أمر، وأقل أحواله: الاستحباب والتأكيد.
ولأنه مختلف في وجوبها، وركعتا الفجر مجمع على كونهما سنة.
قال في "الفروع": وقيل: هما سواء.
فإذا قلنا بالجديد، فاختلف أصحابنا فيما يلي الوتر في التأكيد:
فقال أبو إسحاق: يليها التهجد، ثم ركعتا الفجر بعد التهجد؛ لأن المزني [في " المختصر " (1 106) ] نقل عن الشافعي: (والوتر آكد، ويشبه أن يكون صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر) ، ولأن التهجد كان واجبًا، ثم نسخ.
وقال أكثر أصحابنا: يلي الوتر في التأكيد: ركعتا الفجر، وهو الأصح؛ لما ذكرناه من الأخبار في ركعتي الفجر.
وما حكاه المزني في التهجد، فإنما أراد به الشافعي: الوتر لا التهجد، وقد بينه في " الأم " [1 125] ، فقال: (وكذلك الوتر، وهو يشبه أن يكون صلاة التهجد) . فأسقط المزني: (وهو) .
وقد قيل في قَوْله تَعَالَى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] [الإسراء: 79] : والمراد به: الوتر.
[مسألة قيام رمضان]
] : ومن السنن الرواتب: قيام شهر رمضان، وهو عشرون ركعة، بعشر تسليمات بعد العشاء، وأول من سنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(2/274)
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا. . غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر» .
فقوله: (إيمانًا) أي: مصدقًا بثواب الله. وقوله: (احتسابًا) أي: طالبًا لثواب الله. يقال: فلان يحتسب الأخبار، أي: يطلبها ويتوقعها.
قال أبو علي في " الإفصاح ": وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم عشرين ركعة في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثانية خرج، فاجتمع الناس إليه، وكثروا، فلما كان في الليلة الثالثة. . اجتمع الناس، فلم يخرج إليهم، فلما كان من الغد. قال: قد عرفت اجتماعكم، ولكن لم يمنعني من الخروج إلا مخافة أن يفرض عليكم في رمضان، فتعجزوا عنها» .
وفي حديث أبي هريرة: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ناس يصلون في ناحية من المسجد، فقال: "من هؤلاء؟ "، فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن(2/275)
كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصابوا، ونعم ما صنعوا» .
فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر كذلك، وفي زمن أبي بكر، وصدر من خلافه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ثم جعل الناس يصلون جماعة وفرادى، ويتبعون القراء والصوت الحسن، فخاف عمر الفتنة والافتراق، فقال: (أجعلتم القرآن أغاني؟ !) ، فجمعهم على أبي بن كعب؛ لأنه كان آخر من أخذ القرآن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه عرض عليه القرآن في السنة التي مات فيها، فأخرج عمر القناديل إلى المسجد، وجعلهم جماعة واحدة، فكان أبي يصلي بهم عشرين ليلة، ثم ينفرد في بيته، فيقال: ابق أبي، ويتم بهم تميم الداري.
فعمر إنما كان منه إخراج القناديل، وجمع الناس جماعة واحدة، ولهذا روي: أن عمر خرج ذات ليلة، فرأى الناس يصلون جماعة واحدة، فقال: (إنها بدعة، ونعمت البدعة) .(2/276)
ورأى علي القناديل في المسجد، فقال: (رحم الله عمر، ونور قبره كما نور مساجدنا) .
وقد روي عن علي: (أنه صلى بهم في شهر رمضان، وكان يسلم بهم من كل ركعتين، يقرأ في كل ركعة بخمس آيات) .
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي: (فأما قيام رمضان: فصلاة المنفرد أحب إلي منه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهره، وإن صلاة التراويح على الانفراد أفضل بكل حال؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها في جماعة، ثم صلاها بعد ذلك منفردًا) .
وقال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل فعلها جماعة أفضل؛ لما ذكرناه من إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يرد الشافعي بهذا: أن التراويح على الانفراد، أفضل من فعلها في الجماعة، وإنما أراد: أن صلاة التراويح، وإن سن لها الجماعة، فإن صلاة المنفرد - وهي الوتر، وركعتا الفجر - أحب إلي منه؛ للأخبار التي وردت بها، وقد اختلف في وجوب الوتر، وواظب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها في الحضر والسفر، ولو أراد: الانفراد في التراويح أفضل. . لكان يقول: وأما قيام رمضان: فصلاتها على الانفراد أحب إلي من صلاتها في جماعة.
وأما انفراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه قال: «خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» .
ومن أصحابنا من قال: إن كان الرجل يحفظ القرآن، وكان إذا تخلف عن المسجد(2/277)
والجماعة، لم تختل الجماعة بتخلفه، ولم يتعطل المسجد. . فصلاته في بيته أفضل من صلاته في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة المرء في بيته، أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة» .
ولم يذكر في " الإبانة " [ق 76] غير هذا، والصحيح: أن صلاتها في الجماعة أفضل؛ لإجماع الصحابة على ذلك، وإجماع أهل الأعصار بعدهم.
وأما الخبر: فأراد النوافل التي ليس لها سبب، ولا وقت معين.
[فرع عدة قيام رمضان وميزة أهل المدينة]
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وهو أحب إلي) .
وجملة ذلك: أن التراويح عندنا عشرون ركعة، بعشر تسليمات. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد.
وقال مالك: (هو ست وثلاثون) . وتعلق بفعل أهل المدينة.
ودليلنا: ما ذكرناه من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وأما أهل المدينة: فإنما فعلوا هذا؛ لأنهم أرادوا أن يساووا أهل مكة، وذلك: أن أهل مكة كلما صلوا ترويحة: وهي أربع ركعات. . طافوا بالبيت سبعًا، فتحصل عنهم أربع طوفات، ولا بيت لأهل المدينة يطوفون به، فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة، أربع ركعات، فزادوا أربع ترويحات، وهي ست عشرة ركعة مع التراويح، وهي عشرون ركعة، والوتر ثلاث ركعات، فحصل معهم: تسع وثلاثون ركعة.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا ذلك؛ لأن أهل المدينة شرفوا بمهاجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلهذا أرادوا مساواة أهل مكة.(2/278)
وقال الشيخ أبو حامد: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. . أحب إلينا من فعل أهل المدينة.
[مسألة صلاة الضحى]
قال الشيخ أبو إسحاق: ومن السنن الراتبة صلاة الضحى، وأفضلها ثمان ركعات؛ لما روت أم هانئ بنت أبي طالب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها ثمان ركعات» .
وأقلها: ركعتان؛ لما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل سلامى من أحدكم صدقة، وتجزئ من ذلك ركعتان يصليها من الضحى» .
قال أبو عبيد: و (السلامى) : قصب اليدين والرجلين، قال الشاعر:
لا يشتكين عملاً ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين
ووقتها: إذا أشرقت الشمس إلى الزوال، ولم يذكر أحد من أصحابنا: أن الضحى من السنن الرواتب.(2/279)
[فرع قضاء الرواتب]
] : ومن فاته شيء من هذه السنن الراتبة في وقتها. . ففيه قولان:
أحدهما: لا يقضي. وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنها صلاة نفل، فإذا فات وقتها. . لم تقض، كصلاة الخسوف، والاستسقاء.
فعلى هذا: إذا صلاها في غير وقتها. . لم تكن سنة راتبة، وإنما تكون نافلة لا سبب لها، ولا يجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
والثاني: تقضى، وهو الصحيح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها. . فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقت لها» .
وقد ينام عن الفريضة والنافلة.
ولأنها صلاة راتبة بوقت، فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل، كالفرائض.
فقولنا: (راتبة بوقتٍ) ، احتراز من الخسوف والاستسقاء؛ لأنها راتبة، لكن في غير وقت معين.
وقولنا: (إلى غير بدل) احتراز من الجمعة؛ فإنها صلاة راتبة بوقت، وإذا فاتت. . لم تقض، لكن تسقط إلى بدل، وهو الظهر.
فعلى هذا: يجوز قضاء السنن الراتبة، ويجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
وقال أبو إسحاق المروزي: يجوز قضاؤها، قولاً واحدًا.
والموضع الذي قال الشافعي فيه: (لا تقضى) ، أراد به: لا تقضى على التأكيد الذي يصليها في وقتها. وهذا اختيار القاضي أبي الطيب.
[مسألة النوافل غير المؤقتة]
وأما النوافل التي ليست بأتباع للفرائض: فكل وقت ليس بمنهي عن الصلاة فيه، فهو وقت لها، إلا أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.(2/280)
والدليل ليه: قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] [السجدة: 16] ، وهذا ورد في صلاة الليل؛ لأن تجافي الجنب عن المضجع، إنما يكون بالليل، ثم قال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] [السجدة: 17] . فدل على أن ثواب من يقوم بالليل غير محصور.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أطال قيام الليل. . خفف الله عنه يوم القيامة» .
وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كثرت صلاته بالليل. . حسن الله وجهه بالنهار» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله امرأ أيقظ زوجته، فإن أبت. . نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى. . نضحت الماء في وجهه» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» .(2/281)
فإن اختار أن يجزئ الليل جزأين. . فالجزء الأخير أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] [آل عمران: 17] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] [الذاريات: 18] .
ولأن آخر الليل ينقطع فيه الذكر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذاكر الله في الغافلين، كشجرة خضراء بين أشجار يابسة» .
وإن اختار أن يجزئ الليل أثلاثا. . فالجزء الأوسط أفضل.
وقال مالك: (الجزء الأخير أفضل) .
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى، صلاة داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» ، ولأن الذاكرين الله في ذلك الوقت أقل، فكانت الصلاة فيه أفضل.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويكره أن يقوم الليل كله؛ لما «روى عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "أتصوم النهار؟ ". قلت: نعم. قال: "وتقوم الليل؟ ". قلت: نعم. قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي. . فليس مني» .
وأفضل التطوع في البيت؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا» .(2/282)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» ، ولأنه أبعد من الرياء.
[فرع كيفية صلاة الليل]
والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى» .
ويجوز أن يصلي ثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا، وستًا وأكثر، بسلام واحد، إلى أن قال الشافعي: (ويجوز أن يصلي النوافل، أي عدد شاء، سواء علم عدد ما صلى، أو لم يعلم، فإذا أراد أن يسلم. . تشهد وسلم) .
وقد قيل: إن رجلاً من السلف كان يصلي النوافل بلا عدد، فقيل له في ذلك؟ فقال: الذي أصلي له يعرف العدد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة " ق 77] : يجوز له أن يصلي ثلاث عشرة ركعة بتسليمة، وهل يجوز له الزيادة على ذلك؟ فيه وجهان.
قال: وهو بالخيار بين أن يجلس في كل ركعتين، ويتشهد ولا يسلم، وبين أن لا يجلس إلا في الأخيرة منها، وقد وردت الأخبار في جميع ذلك.
قال: ومن أصحابنا من قال: لا يجلس إلا في الأخيرة، والذي روي عنه: أنه كان يجلس في كل ركعتين، فإنما كان يسلم عند كل جلسة، والأول أصح. هذا مذهبنا.(2/283)
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي نوافل النهار مثنى مثنى، وأربعًا أربعًا، فإن زاد على ذلك. . بطلت صلاته، والأربع أفضل) .
وأما نوافل الليل: فتجوز مثنى، وأربعًا، وستًا، وثمانيًا، ولا يجوز الزيادة على ذلك، والأربع أفضل.
وقال مالك، وأحمد: (لا يزيد على ركعتين، ليلاً كان، أو نهارًا) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى» .
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات» . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . وهذا إخبارٌ عن دوامٍ.
ويجوز أن يتطوع بركعةٍ لا غير.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أحب أن يوتر بواحدة. . فليفعل» .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، فصلى ركعة لا غير، فقيل له في(2/284)
ذلك؟ فقال: إنما هو تطوع، فمن شاء. زاد، ومن شاء. . نقص) .
[فرع السهو في النافلة]
فإن احرم بركعتين نافلة، ثم قام إلى الثالثة ساهيًا. . عاد إلى التشهد، كما في الفرض، وإن نوى أن يكملها أربعًا. . جاز.
وهل يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ".
وإن قام عامدًا من غير أن ينوي زيادة. . بطلت صلاته.
وإن نوى أربع ركعات في إحرامه، ثم سلَّمَ عن اثنتين. . فإن سلَّمَ ساهيًا. . قام، وأتم أربعًا، وسجد للسهو في آخرها، وإن نوى الاقتصار على اثنتين وسلَّم منهما. . فوجهان حكاهما في " العدة ": الأصحُّ: أنه يصحُّ.
وإن نذر أن يصلي التطوعات قائمًا. . لم يلزمه ذلك؛ لأن القعود في النافلة رخصة، ونذره أن لا يقبل الرخصة لا يلزمه، كما لو نذر أن لا يفطر، أو لا يقصر في السفر، أو لا يمسح على الخف.
ولو نذر أن يصلي ركعتين قائمًا. . لزمه ذلك؛ لأنه نذر صلاة بصفةٍ مخصوصةٍ. . فلزمه.
[فرع النوافل في السفر]
يجوز التنفل وفعل الرواتب مع الفرائض في السفر.
وروي عن ابن عمر، وعلي بن الحسين: (أنهما كانا لا يتطوعان في السفر قبل الفريضة، ولا بعدها) .(2/285)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتطوع في السفر» ، وكذلك روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال الحسن البصري: كان أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسافرون، فيتطوعون قبل المكتوبة، وبعدها.
[مسألة تحية المسجد]
] : يستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين من قبل أن يجلس، تحية للمسجد؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم المسجد. . فليركع ركعتين من قبل أن يجلس» .
فإن دخل وقد أقيمت الصلاة، أو أقيمت بعد دخوله، وقبل أن يصلي. . لم يصل التحية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة. . فلا صلاة إلا المكتوبة» ؛ ولأن التحية تحصل له بالصلاة المفروضة، فإن صلَّى الفريضة أو شيئًا من الرواتب، ونوى به الفريضة وتحية المسجد، أو السُّنَّة الراتبة وتحية المسجد. . جاز؛ لأن التحية تحصل له من غير أن ينويها، فكانت نيته لها صحيحة.
وبالله التوفيق(2/286)
[باب سجود التلاوة]
سجود التلاوة مشروع للقارئ والمستمع إليه، لما روي عن ابن عمر: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن فإذا مرَّ بسجدةٍ. . كبَّر، وسَجَدَ، وسَجَدْنا معه» .
فأما السامع من غير أن يقصد الاستماع: فقال الشافعي في " مختصر البويطي ": (لا أُؤَكِّدُ عليه، كما أُؤَكِّدُ على المستمع، فإن سجد. . فحسنٌ) .
وقال أبو حنيفة: (التَّالي، والمستمع، والسامع: سواءٌ) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين.
ودليلنا: ما روي عن عثمان: (أنه مرَّ بقاصٍّ، فقرأ ألفاظ سجدة؛ ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: ما استمعنا لها) .(2/287)
وكذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعمران بن الحصين، ولا يعرف لهم مخالفٌ.
فإن لم يسجد القارئُ. . فهل يسجد المستمع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: يسجد المستمع؛ لأنه قد سُنُّ لهما، فلا يترك أحدهما بترك الآخر.
وقال القفال: لا يسجد؛ لأنه تابع له.
فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع مؤتم به، فلم يسجد القارئ. . لم يسجد المستمع، بلا خلافٍ بين أصحابنا؛ لأن عليه متابعته في أفعال الصلاة.
فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع في غير الصلاة. . قال الطبرانيُّ: لم يسجد المستمع معه.
وقال أبو حنيفة: (يسجد) .
دليلنا: أنه غير مؤتمٍّ به، فلا يتبعه في السجود، كالتَّأمين.
وإن كان القارئ في غير الصلاة، والسامع في الصَّلاة. . قال ابن الصبَّاغ: فإنه لا يسجد، ولا ينبغي له أن يستمع القارئ، بل يشتغل بصلاته، فإن استمع.. لم يسجد؛ لأن سببها لم يوجد في الصلاة، ولا يسجد بعد فراغه من الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (يسجد إذا فرغ من الصلاة) . وبناه على أصله: أن السامع يلزمه السجود، ولا يمكنه أن يسجد في صلاته، فيسجد إذا فرغ.
وإن استمع المتطهر القراءة من المحدث، فمرَّ بآية سجدةٍ. . لم يسجد المستمع وقال أبو حنيفة: (يسجد) .(2/288)
دليلنا: أن القارئ لم يُسن له السجود، فلم يُسن للمستمع إليه، كالمأموم إذا لم يسجد الإمام.
[مسألة سجود التلاوة]
وسجود التلاوة سُنَّةٌ، وليس بواجب، وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (هو واجبٌ على القارئ والمستمع، إلا أنه إذا تكرر في مجلس. . لم تجب إلا الأولى، دون ما بعدها) .
دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت: أنه قال: «عرضت والنجم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يسجد منا أحدُ» .
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ على المنبر سورة فيها سجدة، فنزل، وسجد، وسجد الناس معه، فلما كان في الجُمُعَةِ الثانية. . قرأها، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلاَّ أن نشاء) . وهذا بمجمع من الصحابة، ولم ينكر ذلك عليه أحد، فدل على أنه إجماع.
قال ابن الصباغ: فإن لم يسجد في موضع السجود. . لم يسجد بعد ذلك، لأنها تتعلق بسببٍ، فإذا فات. . سقطت.(2/289)
فإن أخر السجود، وهو في مجلسه، فإن لم يطل الفصل. . سجد، وإن طال الفصل. . لم يسجد بعد ذلك؛ لأنه ليس بأعظم ممَّن ترك ركعة، وذكرها بعد السلام.
وإن سجد للتلاوة في مجلس، ثم أعاد تلك السجدة في ذلك المجلس. . سجد في أصح الوجهين.
وقال أبو حنيفة: (لا يسجد) .
دليلنا: أن ما اقتضى السجود في مجلسين. . اقتضاه في مجلسٍ واحد، كالآيتين المختلفتين.
[فرع من سجود التلاوة]
قال الطبري في " العُدَّة ": إذا قرأ صبي، أو كافرٌ آية سجدةٍ. . لم يسجد المستمع.
وقال أبو حنيفة: (يسجد) .
دليلنا: أن كل تلاوةٍ لا تقتضي السجود على التالي، لم تقتض السجود على المستمع، كقراءة المأموم في الصلاة.
قال: وإذا قرأ آية سجدةٍ في الصلاة، فلم يسجد حتى خرج منها. . قضى السجود.
وقال أبو حنيفة: (لا يقضيه) .
دليلنا: أنه سجود زائد، مقتضاه كان في صلاة، فلم يسقط بالخروج من الصلاة كسجود السهو.
[فرع آية السجدة في الصلاة]
] : ولا تكره قراءة السجدة في الصلاة.
وقال مالك: (تكره) .(2/290)
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (تكره في السِّرِّيَّة، ولا تكره في الجهريَّة) .
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ آية سجدة، فسجد» .
[مسألة سجدات التلاوة]
وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة، في القول الجديد: سجدةٌ في آخر (الأعراف) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] [الأعراف: 206] .
وسجدة في (الرعد) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] [الرعد: 15] .
وسجدة في (النحل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] [النحل: 50] .
وسجدة في (بني إسرائيل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] [الإسراء: 109] .
وسجدة في (مريم) ، عند قَوْله تَعَالَى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] [مريم: 58] .
وسجدتان في (الحج) : سجدة عند قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] [الحج: 18] ، وسجدة عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الحج: 77] .
وسجدة في (تبارك: الفرقان) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] [الفرقان: 60] .
وسجدة في (النمل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] [النمل: 15] .
وسجدة في (الم تنزيل) [السجدة] ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] [السجدة: 15] .
وسجدة في (حم تنزيل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] [فصلت: 38] .(2/291)
وثلاث سجدات في المفصَّل:
سجدة في آخر (النجم) ، عند قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] [النجم: 62] .
وسجدة في (الانشقاق) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] [الانشقاق: 21] .
وسجدة في آخر اقرأ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] [العلق: 19] .
وقال في القديم: (عزائم السجود إحدى عشرة سجدة) . وأسقط ثلاث سجدات في المفصل، وبه قال مالك، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في شيء من المُفَصَّلِ، منذ تحول إلى المدينة» .
قال أبو حنيفة: (ليس في الحج إلا سجدة واحدة) . وهي الأولى، وأسقط الثانية.
دليلنا: ما روي عن عمرو بن العاص: أنه قال: «أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن: منها ثلاث في المُفَصَّلِ، وفي الحج: سجدتان» .
وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «قلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في (الحج)(2/292)
سجدتان؟ قال: نعم. من لم يسجدهما. . فلا يقرأهما» .
وروي عن عمر: أنه سجد في (الحج) سجدتين، وقال: (فضلت بسجدتين) . وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس: (أنهم سجدوا في (الحج) سجدتين) .
وليس في شيء من مواضع السجود خلاف إلا سجدة حم؛ فإن الثوري - قال في إحدى الروايتين عنه- وأبا حنيفة، وأحمد: (إنها عند قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] [فصلت: 27] ) . وروي ذلك عن ابن عباس.
ودليلنا: أن الكلام إنما يتم عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] [فصلت: 38] ، فكان ذلك موضع السجود، كما قلنا في السجدة في: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] [النحل: 50] ، إنها عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] .
ولأن هذا إن كان موضع السجود. . فقد أتى به في موضعه، وإن كان قبلهُ. . فتأخيره لا يضر، وإذا قدَّمَهُ. . لم يقع موقعه.
[فرع السجود عند منتهى السجدة]
قال الشيخ أبو حامد: وإذا سجد قبل منتهى السجدة. . لم يصحَّ، وإن سجد بعد الزيادة على موضع السجود. . جاز.(2/293)
[فرع سجدة ص]
] : وأما السجدة التي في ص: فهي عندنا سجدة شكر، وليست من عزائم السجود.
وقال أبو حنيفة: (هي من عزائم السجود) . وعزائم السجود عنده أربع عشرة سجدة، فأسقط الثانية في (الحج) ، وجعل هذه من عزائم السجود، ووافقه أبو العباس بن سريج، على أن سجدة ص من عزائم السجود؛ لما روي «عن عمرو بن العاص: أنه قال: (أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن» . ولا تكون خمس عشرة سجدة، إلا بسجدة ص.
ودليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا» .
وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقرأ على المنبر ص، فلما بلغ السجود. . تشزَّنَّا للسجود.
وروي: تشزَّن الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن قد استعددتم للسجود. فنزل، وسجد» . فبين أنها توبة، وليست بسجدةٍ، و (التَّشَزُّنُ) : التحرُّفُ، والتهيُّؤُ للشيء.(2/294)
ومنه ما روي: أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل أن يحضر مجلس المذاكرة، فقال: (حتى أتشزَّن) ، أي: حتى أستعد للاحتجاج.
ومنه: ما روي: (أن أبا سعيد الخدري أتى جنازة، فلما رآه القوم. . تشزَّنوا ليوسعوا له) .
وأسمعنيه بعض شيوخي: تيسَّرنا للسجود، و (التيسُّر) أيضًا: التهيٌّؤ، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] و {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] [الليل: 7 و 10] ، أي: سَنُهَيِّؤُهُ.
وأما حديث عمرو: فإنما عدَّها سجدةً، على أنها سجدة شكر، بدليل ما ذكرناه، وسجدة الشكر تسمى: سجدةً.
إذا ثبت أنها سجدةُ شكرٍ: فإن سجدها في غير الصلاة على وجه الشكر. . جاز، وإن فعلها في الصلاة، فإن كان جاهلاً أو ناسيًا. . لم تبطل صلاته، وإن كان عالمًا بأنها ليست من عزائم السجود. . ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنها سجدة شكر، فإذا فعلها في الصلاة عالمًا ذاكرًا. . أبطلها، كما لو بلغهُ شيءٌ يُسرُّ به، وهو في الصلاة. فسجد.
والثاني: لا تبطل صلاتهُ؛ لأنها سجدةٌ متعلقةٌ بالتلاوة، فلم تبطل بها الصلاة، كسائر السجدات.
قال صاحب " الإبانة " [ق 75] : وإذا كان الإمام حنفيًّا، فسجد فيها. . لم يتابعه المأموم، ولكن ينتظره، حتى يفرغ.
[فرع شروط سجدة التلاوة]
] : ويشترط في صحة سجود التلاوة ما يشترط في الصلاة، من الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة؛ لأنها صلاةٌ في الحقيقة.
وقال ابن المسيب: (الحائض تومئ برأسها إلى السجود، وتقول: اللهم لك سجدت) . وروي ذلك عن عثمان.(2/295)
دليلنا: أن ما نافى الصلاة نافى السجود، كالكفر، فإن قرأ آية سجدةٍ، أو سمع آية سجدةٍ، وهو محدث. . قال الشيخ أبو نصر: توضَّأَ وسجد.
وقال النخعي: يتيمم ويسجد.
دليلنا: أنه قادر على الطهارة بالماء، فلم يجز له التيمم، كالنفل.
[مسألة سجود التلاوة في الصلاة]
] : فإن كان سجود التلاوة في أثناء الصلاة. . فالمستحب أن يكبر تكبيرة للسجود، ثم يكبر للرفع منه.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يسجد من غير تكبيرة، ويرفع من غير تكبير؛ لأنه ليس بسجود ثابت. والمذهب الأوَّل؛ لأنَّ التكبير مسنون في كل خفض ورفع، ولا يُسنُّ رفع اليدين في ذلك؛ لأن ذلك ليس بتكبير افتتاح.
ثم يقوم من السجود، فإذا استوى قائمًا. . فالمستحب أن يقرأ شيئًا من الذي بعد السجدة، ثم يركع، فإن لم يقرأ شيئًا، وركع من القيام. . صح، وإن قام من السجود إلى الركوع، ولم ينتصب قبل الركوع. . لم يصح الركوع.
وحكى صاحب " الإبانة " وجهًا آخر: أنه يصح!
والمذهب الأول؛ لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام.
وإن كان السجود خارج الصلاة. . قال الطبري: فإنه ينوي، ويكبر رافعًا يديه؛ لأنها تكبيرة افتتاح، ثم يكبر تكبيرة ثانية للسجود، لا يرفع فيها يديه.
وقال أبو جعفر الترمذي - من أصحابنا -: يكبر تكبيرة واحدة للسجود لا غير.
والمذهب الأول؛ لأن هذا افتتاح للصلاة، فافتقر إلى التكبير، كسائر الصلوات.
والمستحب أن يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق(2/296)
سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين» ؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك في سجود القرآن.
ويستحب أن يقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود؛ لما «روى ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى النائم، كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت سجدة، فسجدت، فرأيت الشجرة سجدت لسجودي، فسمعتها وهي ساجدة تقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قال ابن عباس: (فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ السجدة، فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة» .
وهل يسلم ويتشهد؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يسلم منه، كما لا يسلم منه في الصلاة.
والثاني: يسلم منه؛ لأنها صلاة افتقرت إلى الإحرام، فافتقرت إلى السلام، كسائر الصلوات.
فإذا قلنا بهذا: فهل يتشهد؟ فيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: يتشهد؛ لأنه سجود يفتقر على الإحرام(2/297)
والسلام، فافتقر إلى التشهد، كسجود الصلاة.
و [الثاني] : منهم من قال: لا يتشهد. وهو المذهب؛ لأنه لا قيام فيه.
ومن أصحابنا من قال: في السلام والتشهد ثلاثة أوجه:
أحدهما: يفتقر إليهما.
والثاني: لا يفتقر إليهما.
والثالث يفتقر إلى السلام دون التشهد.
[فرع السجود حال السفر]
فإن كان القارئ ماشيًا في السفر. . فهل يكفيه الإيماء، أم يحتاج إلى وضع جبهته على الأرض؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ".
ولا يقوم الركوع مقام السجود.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار، إن شاء. . ركع، وإن شاء سجد) .
دليلنا: قوله تعلى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] [العلق: 19] ، ولأنه مستطيع للسجود، فلم ينب عنه الركوع، كسائر السجود.
[مسألة سجود الشكر]
ومن تجددت عليه نعمة ظاهرة، مثل: أن رزقه الله ولدًا، ومالاً، أو وجد ضالة له، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، مثل: أن كان محبوسًا، فخلي، أو مريضًا، فشفي، أو هناك عدوٌ، فهزم. . فالمستحب له أن يسجد شكرًا لله، وبه قال أحمد.
وقال مالك: (يكره سجود الشكر) . وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وروي عنه: أنه قال: (لا أعرف سجود الشكر) .
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدة ص: «سجدها نبي الله داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا» .
وروى عبد الرحمن بن عوف الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، فأطال السجود، فلما(2/298)
رفع. . قلنا: يا رسول الله، سجدت، فأطلت السجود؟ قال: نعم، أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الله تعالى يقول: من صلى عليَّ مرةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عشرًا فسجدت شكرًا لله» .
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ برجل به زمانة، فنزل وسجد شكرًا لله» ، و: «مرَّ برجل أعمى، فنزل، وسجد شكرًا لله» .
فإن كان هذا خارج الصلاة. . فإنه ينوي، ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه، ثم يكبر للسجود، كما قلنا في سجود التلاوة، وإن كان في الصلاة. . لم يسجد؛ لأن سبب السجدة ليس منها.
فإن قرأ سورة ص. . فهل يسجد بها للشكر؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يسجد؛ لأن سببها وجد في الصلاة، وهو التلاوة.
والثاني: لا يسجد؛ لأنها سجدة شكر، وليست بمتعلقة بالتلاوة، وإنما تجدد سببها عند التلاوة، فلم يسجد فيها في الصلاة، كسائر سجود الشكر.(2/299)
وهل يظهر سجود الشكر، أو يخفيه؟ قال في " الإبانة ": إن كان لتجدد نعمة. . أظهره، وإن كان لدفع بليَّةٍ. . نظرت: فإن رأى فاسقًا، فسجد شكرًا لله حين عصمه من فسقه. . فإنه يظهره، وإن كان رأى مبتلى، فسجد شكرًا لله حين عافاه الله. . فإنه يخفيه، لئلا يراه المُبْتَلَى، فيسخط.
[مسألة ما يستحب في الصلاة لأجل التلاوة]
] : المستحب للمصلي إذا مرت به آية رحمةٍ: أن يسألها، وإن مرَّت به آية عذاب أن يتعوذ منه، سواء كان إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا.
وقال أبو حنيفة: (يستحب ذلك في النفل دون الفرض) .
دليلنا: ما روي عن حذيفة: أنه قال: «صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ (البقرة) ، فما مرَّت به آية رحمة، إلا سألها، ولا آية عذاب، إلا استعاذ منه، وكذلك سورة: (آل عمران) ، و: (النساء) ، حتى هممت بأمر سوءٍ، فقيل له: وما هو؟ فقال: أردت أن أقطع الصلاة» ، ولأن ما لا يكره في النفل، لا يكره في الفرض، كسائر الأذكار.
وبالله التوفيق(2/300)
[باب ما يفسد الصلاة ويكره فيها]
إذا أحدث في الصلاة عامدًا، مثل أن يقصد إلى الحدث، مع علمه أنه في الصلاة، أو أحدث ناسيًا، مثل: أن ينسى أنه في الصلاة، فيقصد إلى الحدث. . فإن طهارته وصلاته تبطلان، وهو إجماع؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فينفخ بين أليَتَيْهِ، ويقول: أحدثت، فلا ينصرف، حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .
وهذا قد سمع الصوت، أو وجد الريح.
وإن سبقه الحدث، وهو في الصلاة، مثل: أن يخرج منه الريح، أو الغائط، أو البول بغير اختياره، أو يكره على الحدث. . فإن طهارته تبطل بلا خلاف، وهل تبطل صلاته؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (لا تبطل صلاته، فيتوضأ ويبني على صلاته) . وروي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن عمر.
وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وداود، إلا أن أبا حنيفة قال: (إذا غلبه المنيُّ، أو شجه آدمي، فخرج منه الدَّم. . بطلت صلاته) .
وقال الثوري: إن كان حدثه من رعافٍ، أو قيءٍ. . توضأ وبنى، وإن كان من بولٍ، أو ريحٍ، أو ضحكٍ. . أعاد الوضوء والصلاة.
ووجه قوله القديم ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاء أو رعف. . فليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم» . وفي روايةٍ: «إذا قاء أحدكم، أو قلس. . فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على ما مضى، ما لم يتكلم» .(2/301)
ولأنه حدث حصل بغير اختياره، فهو كسلس البول.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تبطل صلاته) . وبه قال ابن سيرين، وهو الأصح؛ لما روى أبو داود في "سننه": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قاء أحدكم في صلاته. . فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته» .
ولأن هذا الحدث يمنع المضيَّ في الصلاة، فمنع البناء عليها، كحدث العمد، والخبر الأول مرسل.
فإذا قلنا بقوله القديم، وأخرج بقية الحدث، وتوضأ. . كان له أن يبني على صلاته.
واختلف أصحابنا في علته:
فمنهم من قال: لأن الحدث لا يؤثر بعد نقض الطهارة.
ومنهم من قال: لأن به حاجة إلى إخراج بقية الأول؛ ليكمل طهارته، ولم يذكر في " المهذب " غير هذا.
فإن أحدث حدثًا آخر، فإن قلنا بالتعليل الأول. . لا تبطل صلاته، وإن قلنا بالثاني. . بطلت.
وإن كشفت الريح الثوب عن عورته، فرده. . لم تبطل صلاته، لأنه معذورٌ في ذلك، فهو كما لو غُصب منه الثوب في الصلاة.
فإن ترك رُكنًا من أركان الصلاة، كالركوع، والسجود عامدًا. . بطلت(2/302)
صلاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي حين ترك شيئًا من الأركان: «أعد صلاتك، فإنك لم تصل» .
وإن ترك قراءة الفاتحة ناسيًا. . ففيه قولان، مضى ذكرهما.
[مسألة الكلام حال الصلاة]
وإن تكلم في الصلاة. . نظرت: فإن كان بالتسبيح، أو التهليل، أو غير ذلك، من ذكر الله ورسوله. . لم تبطل صلاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» .
وإن تكلم بكلام يصلح لخطاب الآدميين. . فهذا على أضربٍ:
أحدها: أن يقصد إلى الكلام وهو عالم بأن هذا يبطل الصلاة، وكان ذلك لغير مصلحة الصلاة، غير مجيب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير منذرٍ لأعمى، فهذا تبطل الصلاة به، وهو إجماع لا خلاف فيه، والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين» ، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء» .
الضرب الثاني: أن يتكلم عامدًا عالمًا بتحريمه لمصلحة الصلاة، فهذا يبطل الصلاة عندنا، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والأوزاعي: (لا تبطل به الصلاة) .(2/303)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نابكم شيء في الصلاة. . فليسبح الرِّجال، وليصفق النساء» .
فلو كان الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها. . لما عدل عنه إلى التسبيح والتصفيق.
ولأنه خطاب لآدمي غير واجب على وجه العمد، مع العلم بتحريمه، فأبطل الصلاة، كما لو كان لغير مصلحة الصلاة.
الضرب الثالث: كلام الناسي، مثل: أن يعتقد أنه سلم، أو أنه ليس في الصلاة، فتكلم، ولا يطيل الكلام، فهذا لا تبطل به الصلاة عندنا، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: (تبطل به الصلاة، إلا أن يسلم من اثنتين ناسيًا فلا تبطل به الصلاة) .
دليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» .
ومعلوم: أنه لم يرد رفع نفس الخطأ والنسيان والاستكراه؛ لأن ذلك لا يرفع، وإنما أراد رفع حكمه.
وروى مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة: أنه قال: «صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العصر، فسلم في الركعتين الأوليين، فقام ذو اليدين، وقال: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلُّ ذلك لم يكن"، ثم أقبل على القوم، فقال: "أصدق ذو اليدين؟ ". فقالوا: نعم. فقام(2/304)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتمم ما بقي من صلاته، وسجد سجدتي السهو وهو جالس بعد السلام» , فموضع الدليل من الخبر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم من اثنتين ساهيًا، وعنده أنه آخر الصلاة، فلمَّا قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) . . لم يتذكر سهوه، وقال: «كل ذلك لم يكن» ، ثم كلَّم القوم، وقال: «أصدق ذو اليدين؟» ، وعنده أنه خارج من الصلاة، فلمَّا قيل له: نعم. . تذكر السهو، فرجع، وبنى على صلاته، وسجد للسهو.
فإن قيل: فلم لم يبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة ذي اليدين؟
قلنا: لأنه تكلم وعنده أنه قد خرج من الصلاة، لأن النسخ يومئذ كان جائزًا، ولكن جوِّز أيضًا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سها في صلاته، فلمَّا احتمل الأمران عنده حمل أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصواب، وقال: "أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ ".
فإن قيل: فلِمَ لم يبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة القوم الذين أجابوه، وقد كان عندهم أنهم في الصلاة؟ قلنا: قد روى جماعةٌ عن أبي هريرة: أنهم لم يقولوا: نعم، وإنما أومؤوا برؤوسهم، أي: نعم.
وروى جماعةٌ عنه: أنهم قالوا: نعم، فتحمل رواية من روى أنهم قالوا: نعم،(2/305)
على أنهم رووه على المعنى، وعلى أنه: وإن صحَّ أنهم قالوا: نعم. . فإن صلاتهم لا تبطل بذلك، لأن ذلك جوابٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك لا يبطل الصلاة.
والدليل عليه: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على أبيٌّ بن كعبٍ، وهو يصلي في المسجد، فسلَّم عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالتفت إليه أبيٌّ، ولم يجبه، ثم إن أُبيًّا خفَّف الصلاة، وانصرف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: السلام عليك يا نبي الله، قال: "وعليك السلام، ما منعك أن تجيبني إذ دعوْتك؟ " فقال: كُنت أُصلي يا رسول الله، قال: ألم تجد فيما أوحي إليَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] [الأنفال: 24] ، فقال: بلى يا رسول الله، لا أعود» .
فإن قيل: فما معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلُّ ذلك لم يكن» . وقد علم أن أحدهما قد كان؟
فالجواب: أن القصر والنسيان لم يكونا، وإنما كان أحدهما.
وقيل: بل قال ذلك على مبلغ علمه؛ لأنه كان عنده أنه قد خرج من الصلاة، وفرغ(2/306)
منها، فقال: «كل ذلك لم يكن» ، أي: ما قصرت الصلاة ولا نسيت، والسهو يجوز عليه، ولكنه لا يقرُّ عليه.
فإن قيل: أفيجوز للإمام أن يرجع إلى قول المأمومين، كما رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قول المأمومين؟
فاختلف أصحابنا في الجواب عنه: فقال الشيخ أبو حامد: لم يرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قولهم تقليدًا لهم، وإنَّما تذكَّر سهوهُ بقولهم، وبنى صلاته على يقين نفسه، لا بقولهم.
ومنهم من قال: إنَّما رجع إلى قولهم؛ لأنهم كانوا جماعة عظيمة، لا يجوز اجتماعهم على الخطأ. وهذا قول أبي عليٍّ في " الإفصاح ".
قال الشيخ أبو حامد: وحدُّ الكلام اليسير الذي لا تبطل صلاة الناسي به، هو الكلمة والكلمتان والثلاث ونحوها.
قال ابن الصباغ: حدُّ اليسير منه: مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذي اليدين.
فإن كثر كلام الناسي. . ففيه وجهان:
[الأول] : من أصحابنا من قال: تبطل صلاته. وزعم هذا القائل أن هذا مذهب الشافعي؛ لأنه قال: (ومن تكلم في الصلاة ساهيًا، أو ترك شيئًا من صلب الصلاة. . بنى، ما لم يتطاول الفصل) .
قال ابن الصباغ: وهو الأصحُّ، ووجهه: أن الفصل إذا طال. . أبطل الصلاة، فكذلك الكلام.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا تبطل صلاته.
قال المحاملي: وهو القياس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان..» . ولم يفرق بين القليل والكثير.
وأنه خطاب آدمي على وجه السهو. . فلم يبطل الصلاة، كاليسير، ويفارق القول الفعل، فإن الفعل آكد، أنه ينفذ إحبال المجنون، ولا ينفذ عتقه.(2/307)
وأما قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإنما أراد: إذا سلَّم. . بنى على صلاته، ما لم يتطاول الفصل.
الضرب الرابع: أن يقصد إلى الكلام، وهو يجهل أن الكلام يبطل الصلاة، فلا تبطل صلاته بذلك.
وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق ,، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، والشعبيُّ.
وقال أبو حنيفة: (تبطل صلاته) .
دليلنا: ما روي عن معاوية بن الحكم: «أنه قال: بينا أنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فحدَّقني القوم بأبصارهم، فلمَّا رأيتهم ينكرون عليَّ. . قُلت: واثكل أمَّاه! ما لكم تنظرون إليَّ، فأخذوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يُسكتُونني، فلمَّا علمت أنهم يسكتونني. . سكت، فلمَّا انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته. . دعاني - بأبي وأمي ما رأيت معلِّمًا أحسن تعليمًا منه، والله ما كهرني، ولا شتمني، ولا ضربني - وقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والتسبيح، والقراءة". وروي: "وتلاوة القرآن» . ولم يأمره بالإعادة.
و (الكهر) : الانتهار. وقد روي في قراءة عبد الله بن مسعود: (وأما السائل فلا تكهر) .(2/308)
[فرع سبق الكلام ونحوه في الصلاة]
] : وإن سبق لسانه إلى الكلام من غير قصد إليه، أو غلبه الضحك. . لم تبطل صلاته؛ لأنه معذورٌ في ذلك، فلم تبطل به الصلاة، كالناسي.
وإن طال الكلام، وهو جاهل، أو مغلوبٌ. . فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، كالوجهين في كلام الناسي إذا طال.
[فرع الحزن والبكاء في الصلاة]
وإن حزن في الصلاة، ففاضت عيناه. . لم تبطل صلاته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] [مريم: 58] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» . (والأزيز) : غليان صدره، وحركته بالبكاء.
فإن تنحنح، أو أَنَّ، أو تنفس، أو نفخ، فإن تبين منه حرفان، مثل أن يقولك آه، أو واه، أو أف. . بطلت صلاته؛ لأن ذلك يُعدُّ كلامًا. وإن لم يتبين منه حرفان، مثل أن يقول: فٍ، ومدَّ بها صوته. . لم تبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (إذا نفخ. . بطلت صلاته بكل حالٍ، وإن تأوَّه، أو أَنَّ لمرضٍ. . بطلت صلاته، وإن كان لخوف الله تعالى. . لم تبطل صلاته وإن بان منه حرفان) .
دليلنا: ما روي عن عبد الله بن عمرو: أنه قال: «كُسِفَتِ الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى آضت كالتنومة، فصلَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف، فلمَّا كان في آخر سجدةٍ. . جعل ينفخ، ويبكي، وقال: اللَّهم لم تعدني وأنا فيهم، اللهم لم(2/309)
تعدني هذا ونحن نستغفرك. فلمَّا قضى صلاته. . قال: والذي نفسي بيده، لقد عرضت علي النار، حتى إني لأطفئها؛ خشية أن تغشاكم» . فلولا أنه نفخ، ورفع صوته. . لما سمع.
ولأنَّ ما بان حرفان. . يعدُّ كلامًا، فبطلت به الصلاة، كما لو كان لمرض.
قال الشيخ أبو حامدٍ: والقهقهة في الصلاة، كالأنين والنفخ، إن تبيَّن منها حرفان. . أبطلت الصلاة، وإن لم يتبيَّن منها حرفان. . لم تبطل الصلاة.
[فرع إنذار الأعمى ونحوه]
فإن رأى المصلِّي أعمى أو صغيرًا يريد الوقوع في بئر، أو من شاهقٍ، أو رأى حيةً أو عقربًا تدب إليه. . فإنه يجب عليه أن ينذره، فإن أنذره بالقول. . فهل تبطل صلاته بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تبطل صلاته بذلك؛ لأنه واجب عليه، فلم تبطل به صلاته، كإجابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: تبطل صلاته؛ لأن ذلك ليس بمُتحقَّقٍ؛ لأنه قد لا يقع في البئر والشاهق، ولا تبلغهُ الحيَّةُ والعقربُ.(2/310)
[فرع القراءة في النفس]
] : قال القاضي أبو الفتوح بن أبي عمامة في " التحقيق ": إذا قال الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فقال المأموم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ، فإن أراد التلاوة. . لم تبطل صلاته، وإن لم يرد التلاوة. . بطلت صلاته، وكذلك إذا قال: استعنَّا بالله، أو: نستعين بالله. وإن قرأ المصلّي كتابًا بين يديه، فيه شعرٌ، أو غيره من الكلام، في نفسه، ولم ينطق به لسانه. . كره له ذلك، ولم تبطل به صلاته؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تجاوز الله لأُمتي عما حدَّثت به نفوسها، ما لم يتكلّموا به» .
وإن قرأ في المصحف في الصلاة. . لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: (تبطل، إلا أن تكون آية قصيرة) .
دليلنا: أنه قراءةٌ، فلم تبطل به الصلاة، كالآية القصيرة.
[فرع إيجاز الصلاة لحاجة]
] : إذا ناب المصلِّي شيءٌ في صلاته. . فله أن يوجز في صلاته، سواء ناب الإمام أو المأموم، مثل: أن يكون مسافرًا، فترحل القافلة، أو يقع الحريق في متاع رجل، وما أشبه ذلك؛ لما روى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأدخل في الصلاة أريد أن أُطيلها، فاستمع بكاء الصبي من روائي، فأتجوَّز في صلاتي؛ لما تجد أمُّهُ في قلبها من بكائه» , فأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يتجوَّز لما ينوبُ الأمَّهات من بكاء أولادهنَّ، فدل على جواز ذلك.
وإن أراد المصلِّي أن يعلم غيره، مثل: أن سها إمامه، فأراد أن يعلمه بسهوه، أو غير ذلك. . فيستحبُّ للرجل أن يسبح، وللمرأة أن (تصفِّق) وهو: أن تضرب ببطن كفِّها الأيمن على ظهر كفِّها الأيسر.(2/311)
وقيل: تضرب بأصبع يمينها على ظهر كفِّها الأيسر.
وقال مالك: (يسبح الرجل والمرأة) .
دليلنا: ما روى أبو داود، عن سهل بن سعدٍ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نابكم شيء في الصلاة. . فليسبح الرِّجال، وليصفق النساء» .
فإن صفَّق الرجل، وسبحت المرأة. . لم تبطل صلاتهما، إلا أنهما خالفا السُّنَّة.
فإن صفَّق الرجل أو المرأة على وجه اللهو، لا الإعلام، قال ابن الصباغ: بطلت صلاتهما؛ لأن اللَّعب ينافي الصلاة.
وإن أفهم غير إمامه بالتسبيح، أو التكبير، أو التهليل، أو القرآن. . لم تبطل صلاته.
قال أبو حنيفة: (إن نبَّه إمامه أو المارَّ بين يديه. . لم تبطل صلاته، وإن نبَّه غيرهما , بطلت صلاته) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولم يفرق. لأن هذا تنبيه بذكر الله تعالى، فلم تبطل به صلاته، كما لو نبَّه به إمامه.
وإن أراد الإذن لرجل بالدخول، فقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] [الحجر: 46] ، فإن لم يقصد بذلك التلاوة. . بطلت صلاته؛ لأنه من كلام الآدميين. وإن قصد التلاوة والإعلام. . لم تبطل صلاته؛ لأن قراءة القرآن لا تبطل الصلاة.
وحكى الطبري وجهًا آخر في " العُدّة ": أن صلاته تبطل. قال: وكذلك إذا سبَّح، أو كبَّر، وقصد به الذكر والإعلام. . بطلت صلاته. وليس بشيءٍ؛ لما ذكرناه من الخبر.
وإن شمَّت المصلِّي عاطسًا، بأن قال له: يرحمُك الله، أو: رحمك الله، وهو عالمٌ بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأن الصحابة أنكرت على معاوية بن الحكم تشميت(2/312)
العاطس في الصلاة، واقرَّهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فلو كان لا يبطل الصلاة، لما كان لإنكارهم معنى.
وروى يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: أنه قال: (لا تبطل صلاته، لأنه دعاءٌ بالرحمة، فهو كالدعاء لأبويه بالرَّحمة) .
والمشهور من المذهب هو الأوَّل؛ لأنه كلامٌ وُضع لمخاطبة الآدمي، فهو كردِّ السلام.
[مسألة أكل المصلي]
وإن أكل المصلِّي، أو شرب عامدًا عالما بالتحريم. . بطلت صلاته، وحكي عن سعيد بن جبير: أنه شرب الماء في صلاة النفل.
وقال طاووس: لا بأس بشرب الماء في النافلة.
دليلنا: أن الأكل والشرب أعظم أثرًا في العبادة من الكلام، فلمَّا ثبت أن الكلام على وجه العمد يبطل الصلاة. . فلأن تبطل الصلاة بالأكل والشرب على وجه العمد أولى.
وإن كان بين أسنانه طعامٌ، فنزل الريقٌ به إلى جوفه. . لم تبطل صلاته بذلك؛ لأن الاحتراز منه لا يمكن، ولهذا لا يبطل به الصوم.
وإن ترك في فمه سُكَّرةً، ولم ينزل منها إلى جوفه شيءٌ. . لم تبطل صلاته؛ لأن ذلك لا يبطل الصوم، وإن نزل منها شيءٌ إلى جوفه. . فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: لا تبطل صلاته بذلك لأنه لم يبتلعه باختياره، ولا ازدرده، وإنما جرى ذلك مع ريقه، فأشبه الريق.(2/313)
وقال صاحب " الإبانة ": تبطل صلاته؛ لأنه يبطل بذلك صومه؛ ولأن الصوم شرط في الصلاة.
وإن أكل ناسيًا أو جاهلاً، ولم يطل الأكل. . لم تبطل صلاته، كما لا يبطل الصوم بذلك.
وإن كان كثيرًا , فهل تبطل الصلاة به؟ فيه وجهان، حكاهما صاحب " الإبانة ".
[مسألة العمل اليسير في الصلاة]
] : وإن عمل في الصلاة عملاً ليس منها. . فلا يخلو: إما أن يكون من جنس أفعالها، أو من غير جنس أفعالها:
فإن كان من جنس أفعالها، مثل: أن يركع، أو يسجد في غير موضعه، فإن كان عامدًا عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب في الصلاة، وإن كان ناسيًا. . لم تبطل صلاته، سواء كان قللاً أو كثيرًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمس ركعات ساهيًا.
وإن فعل ذلك جاهلاً. . لم تبطل صلاته؛ لأنه معذور، فلم تبطل به صلاته، كالناسي.
وإن قام في الرابعة من الظهر قبل السلام، وأحرم بالعصر، فإن كان عامدًا عالمًا بتحريمه. . صحَّ إحرامه بالعصر؛ لأن بقيامه عمدًا قبل السلام، بطل ظُهرهُ، فصحَّ شروعه في العصر، وإن قام ناسيًا أو جاهلاً. . لم يبطل الظهر، ولم يصحَّ إحرامًه بالعصر.
وإن قرأ فاتحة الكتاب في الركعة مرتين عامدًا. . ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنه زاد ركنًا في الصلاة عامدًا، فبطلت به الصلاة، كما لو زاد ركوعًا، أو سجودًا.
والثاني: لا تبطل صلاته، وهو المنصوص في صلاة المريض؛ لأنه زيادة ذكر، فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين.(2/314)
وإن عمل في الصلاة عملاً ليس من جنسها. . نظرت: فإن كان قليلاً، مثل: دفع المارِّ بين يديه، وفتح الباب، وخلع النعل، وإصلاح الرداء عليه، والحمل، أو الوضع، أو الإشارة، وما أشبه ذلك. . لم تبطل صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المصلِّي بدفع المارِّ بين يديه» ، و: «خلع نعليه في الصلاة» ، و: «حمل ابنة ابنته، وهي أمامةُ بنت أبي العاص، وهو يصلي، فكان إذا سجد.. وضعها , وإذا قام. . رفعها» ، و: «سلم عليه الأنصار وهو يصلي، فردَّ عليهم بالإشارة» ، وهو إجماع لا خلاف فيه. ولأن المصلِّي لا يخلو من عمل قليلٍ، فعُفي عنه.
وإن عمل عملاً كثيرًا متواليًا. . بطلت صلاته، لأنه لا حاجة به إليه، فأبطل الصلاة، كالكلام، ولا فرق في العمل الكثير، بين أن يفعله عامدًا عالمًا بتحريمه، أو ناسيًا، أو جاهلاً؛ فإنه يبطل الصلاة.
والفرق بينه وبين القول: أن الفعل أقوى من القول، ولهذا ينفذ إحبال المجنون؛ لكونه فعلاً، ولا ينفذ إعتاقه؛ لكونه قولاً.
فإن قيل: فلم قلتم: إن الفعل أقوى من القول، وقد قلتم: إنه يجوز للمصلي أن يفعل فعلاً قليلاً قاصدًا له، ولا تبطل به صلاته، ولا يجوز أن يتكلم بالكلام اليسير قاصدًا إليه؟
فالجواب: أنا إنما قلنا: الكثير أقوى في إبطال الصلاة من القول؛ لأنه لا حاجة(2/315)
به إلى الفعل الكثير المتوالي، وبالمصلي حاجةٌ إلى القليل من الفعل، ولا حاجة به إلى الكلام القليل، فلذلك أبطل عمده الصلاة.
فإن عمل في الصلاة عملاً كثيرًا متفرقًا. . لم تبطل به صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة، فكان إذا قام. . رفعها، وإذا سجد. . وضعها» . ولم تبطل الصلاة بذلك، لتفرُّقه، ولأن الكثير إذا تفرَّق. . فكلُّ جزءٍ منه قليل بنفسه.
واختلف أصحابنا في حدِّ العمل القليل والكثير:
فقال الشيخ أبو حامد: المرجع في ذلك إلى العُرف والعادة، إلا أن الشافعيَّ نصَّ على: (أن الفعلة الواحدة عملٌ قليلٌ، والثلاث فعلاتٌ) .
قال أصحابنا: وفي الخطوتين والضربتين إذا توالتا. . وجهان:
أحدهما: لا تبطلان الصلاة؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه» . وهذان فعلان.
والثاني: تبطلان الصلاة؛ لأنهما عمل متكرِّرٌ، فهما كالثلاث.
وقال القفَّال: الكثير ما لو نظر إليه الناظر. . تصور عنده أنه ليس في الصلاة، وما دون ذلك يكون قليلاً.
ومن أصحابنا مَنْ قال: حدُّ القليل: كل عمل لا يحتاج فيه إلى اليدين، مثل: حكَّ الجربان، والكثير: ما يحتاج فيه إلى اليدين، مثل: كور العمامة. وهذا ليس بصحيح.
[فرع قتل الأسودين]
] : يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة، ولا يكره، وقال النخعي: يكره.(2/316)
دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين: الحيَّة، والعقرب، في الصلاة» .
[مسألة مكروهات الصلاة]
] : ويكره أن يترك شيئًا من سنن الصلاة، ويكره أن يلتفت في الصلاة، من غير حاجة؛ لما روي عن عائشة: أنها قالت: «سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا التفت العبد في صلاته، يقول الله تعالى: عبدي، إلى من تلتفت؟! أنا خيرٌ ممَّنْ تلتفت إليه» .
وروى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزال الله مُقبلاً على عبده في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت. . صرف وجهه عنه» .(2/317)
فإن التفت يمينًا، أو شمالاً لحاجة. لم يكره؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» ، ولا تبطل به الصلاة؛ للخبر، ولأنه عملٌ قليلٌ.
وإن استدبر القبلة. . بطلت صلاته؛ لأنه ترك شرطًا من شروط الصلاة.
ويكره أن يرفع بصره إلى السماء، لما روى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة» ، حتى اشتد قوله في ذلك: «لينتهن عن ذلك، أو لتخطفنَّ أبصارهم» .
ويكره أن ينظر في صلاته إلى شيء يُلهيه من ثوب أو غيره؛ لما روي عن عائشة: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وعليه خميصةٌ ذات أعلام، فلما فرغ. . قال: ألهتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي الجهم، فليبعها، وأتوني بأنبجانيَّةٍ» .
فإن فعل ذلك. . لم تبطل صلاته؛ لأنه لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد الصلاة.(2/318)
ويكره الاختصار في الصلاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل مختصرًا» .
قال أبو داود: وهو أن يضع الرجل يده على خاصرته في الصلاة.
وقيل: إنها راحة أهل النار.
وقيل: (الاختصار) : هو أن يأخذ الرجل بيده عصًا، يتكئ عليها في الصلاة، وهي المِخْصَرَةُ.
وقيل: الاختصار المنهيُّ عنه: هو أن يقرأ الرجل من آخر السورة آية، أو اثنتين، ولا يقرأ السورة بكاملها.
ويكره أن يكف شعره، وثوبه في الصلاة؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعظم، ونُهي أن يكفَّ شعرهُ وثوبه في الصلاة» .
ويكره أن يمسح المصلّي الحصى في الصلاة؛ لما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرَّحمة تواجهه. . فلا يمسح الحصى» .
وروى مُعيقيبٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمسح الحصى، وأنت تُصلي، فإن كنت لا بُدَّ فاعلاً. . فواحدةٌ تسوية الحصى» .(2/319)
[فرع عد الآيات]
] : قال الشافعي: (وإذا عدَّ الآيات في الصلاة عقدًا، ولم يتلفظ به. . لم تبطل صلاته، وتركه أحبُّ إليَّ) . وبه قال أبو حنيفة، ومحمد.
وقال مالك: (لا بأس به) . وبه قال الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وابن أبي ليلى، والنخعي.
وقال أبو يوسف: لا بأس به في التطوع.
دليلنا: أن هذا ليس من عمل الصلاة، فكان تركه أولى، كمسح الوجه، ولأنه يشغل قلبه، ويمنعه من الخشوع.
ويكره التثاؤب في الصلاة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة. . ليرد ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ها. . ضحك الشيطان منه» .
ويكره البصاق في المسجد، في الصلاة، وفي غير الصلاة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المسجد لينزوي من النخامة، كما تنزوي الجلدة من النار» .(2/320)
قال أبو عبيد: و (الانزواء) : الاجتماع، والتقبض.
وروى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُحب العراجين، فدخل يومًا المسجد وبيده عرجون، فرأى نخامات في قبلة المسجد، فحكَّهنَّ، وقال: أيحب أحدكم أن يستقبله الرجل يبزق في وجهه؟! إن أحدكم إذا كان في الصلاة. . فإنه يستقبل ربه بوجهه، والملك عن يمينه، فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، وليبزق في نعله اليسرى» .
فإن بدره بادرةٌ، فليأخذ بثوبه، وليحك بعضه ببعض.
فإن خالف، وبزق في المسجد. . دفنه؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارته دفنه» .
وإن كان المصلِّي في غير المسجد، وأراد أن يبزق. . فإنه لا يبصق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن يبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة. . بصق في ثوبه، وحكَّ بعضه ببعضٍ؛ لما ذكرناه في الخبر.
والله ولي التوفيق.(2/321)
[باب سجود السَّهو]
إذا شكَّ المصلِّي، وهو في الصلاة: هل صلَّى ركعةً، أو ركعتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا؟ فإنه يأخذ بالأقل، ويبني على صلاته، ويسجد للسهو.
وبه قال مالك، وربيعة، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعليٍّ، وابن مسعود.
وقال الشعبي، وشريح، وعطاء والأوزاعي: (تبطل صلاته) . وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس.
وقال الحسن البصري: يذهب على وهمه، ويسجد للسهو. وبه قال أبو هريرة، وأنس.
وقال أبو حنيفة: (إن لحقه ذلك أوَّل دفعة. . بطلت صلاته، وإن تكرر ذلك(2/322)
منه. . اجتهد، وعمل على ما يؤديه اجتهاده إليه، فإن لم يؤده اجتهاده إلى شيء. . عمل على اليقين) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شك أحدكم في صلاته. . فليلق الشَّكَّ، وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام. . سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة. . كانت الرَّكعة نافلة له والسَّجدتان، وإن كانت صلاته ناقصة. . كانت الرَّكعة تمامًا لصلاته، والسَّجدتان تُرغِمان أنف الشيطان» .
[مسألة السهو في الصلاة]
] : قال الشافعي: (ومن سلَّم، أو تكلَّم ساهيًا، أو نسي شيئًا من صُلب صلاته. . بنى، ما لم يتطاول الفصل) . وهذا كما قال: إذا نسي شيئًا من أركان الصلاة. . نظرت: فإن نسي النية، أو تكبيرة الافتتاح. . لم تنعقد صلاته. وإن نسي قراءة الفاتحة. . ففيه قولان، مضى ذكرهما.
وإن نسي غير ذلك من الأركان، كالركوع والسجود، وذكره بعد السلام، فإن ذكره قبل أن يتطاول الفصل بعد السلام. . بنى على صلاته، سواءٌ تكلَّم، أو لم يتكلَّم، خرج من المسجد، أو لم يخرج. وإن ذكر ذلك بعد السلام، وتطاول الفصل. . استأنف الصلاة.
واختلف أصحابنا في حدِّ التطاول: فقال أبو إسحاق: هو أن يمضي قدر ركعةٍ(2/323)
تامَّةٍ. نص عليه الشافعي في " البويطيِّ ".
وقال أبو عليّ بن أبي هريرة: هو أن يمضي قدرُ الصلاة التي هو فيها؛ لأن آخر الصلاة يُبنى على أولها، وما زاد على ذلك لا يُبنى عليه.
وقال أبو عليٍّ الطبري: يُرجعُ فيه إلى العُرفِ والعادةِ. وهو ظاهرُ النَّصِّ؛ لأنه ليس له حد في الشرع، فرُجع فيه إلى العرف والعادة. وما قاله أبو عليِّ بن أبي هريرة ليس بشيءٍ؛ لأنه يؤدي إلى اختلاف حدِّ التطاول، لاختلاف عدد ركعات الصلوات.
وإن شكَّ بعد السلام: هل صلَّى ثلاثًا، أو أربعًا؟ فنقل أصحابنا البغداديون أنه لا يلزمه شيءٌ؛ لأن الظاهر أنه أداها تامة، ولأنا لو اعتبرنا الشك الطارئ بعد الفراغ منها. . لشق ذلك، وضاق.
وحكى أصحابنا الخراسانيون في ذلك قولين:
أحدهما: هذا. والثاني: حكمه حكم الشك الطارئ عليه في أثناء الصلاة.
[مسألة ما تركه المصلي أو شك في تركه]
إذا قام من الركعة الأولى إلى الثانية، ثم تيقَّن أنه ترك سجدةً من الأولى، أو شكَّ في تركها. . لم تُحسب له بما فعل من الثانية، حتى يتمِّ الأولى.
وقال مالك: (إذا قام إلى الثانية، ثم ذكر أنه ترك سجدة من الأولى، فإن ذكر ذلك بعد أن اطمأن في الركوع في الثانية، أو بعدما سجد فيها. . لم يعد إلى إتمام الأولى، بل تبطل الأولى، وتصحُّ الثانية) .
وقال أحمد: (إن ذكر بعد القراءة في الثانية. . حصلت له الثانية، وبطلت الأولى، وإن كان قبل القراءة الثانية. . سجد لتمام الأولى) . كقولنا.
دليلنا: أن ما فعله من الأولى. . قد صحَّ، فلا يبطل بترك ما بعده، كما إذا ذكر(2/324)
ذلك قبل الركوع عند مالك، وقبل القراءة عند أحمد.
إذا ثبت هذا: نظرت: فإن سجد في الأولى السجدة الأولى، وترك الجلوس بين السجدتين، والسجدة الثانية، فذكر ذلك، وهو قائم في الثانية. . فإنه يلزمه أن يجلس، ثم يسجد.
ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الجلوس؛ لأن الجلوس يراد للفصل بين السجدتين، وقد قام القيام مقام الجلوس في الفصل. والمذهب الأوَّل؛ لأن الجلوس بين السجدتين فرضٌ، فلا يقوم القيام مقامه، كما لو قصد إلى القيام بين السجدتين للفصل.
وإن كان قد جلس بعد السجدة الأولى للفصل، ثم قام، ولم يسجد الثانية، فمن قال من أصحابنا: لا يلزمه الجلوس في الأولى. . فها هنا أولى ألا يلزمه، ومن قال في الأولى: يلزمه الجلوس. . اختلفوا ها هنا على وجهين:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق - أنه يلزمه أن يجلس، قال: ولست أقول: إن الجلسة الأولى قد بطلت، ولكن ليكون السجود عقيب الجلوس.
والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المتروك هو السجود، فلا يلزمه إعادة ما قبله، كما لو ترك الجلسة. . فإنه لا تلزمه إعادة السجدة قبلها.
قال ابن الصباغ: ولأن أبا إسحاق قد سلَّم أنه إذا ترك أربع سجدات من أربع ركعات. . فإنه تحصل له ركعتان، ونحن نعلم أن السجدة التي في الثانية وقعت من قيام.
وإن سجد في الأولى سجدة، فظن أنها الثانية، وجلس عقيبها معتقدًا أنها جلسة الاستراحة، ثم قام إلى الثانية، وذكر ذلك في القيام، فمن قال: إن القيام يقوم مقام الجلسة بين السجدتين، ولا يوجب عليه الجلوس. . فها هنا قال: لا يلزمه الجلوس أيضًا.
ومن قال بقول أبي إسحاق: إنه يحتاج إلى الجلوس في التي قبلها؛ ليقع السجود عقيبه. . فإنه يقول ها هنا: يجب عليه الجلوس أيضًا.(2/325)
ومن قال بالمذهب في الأولى. . اختلفوا ها هنا على وجهين:
أحدهما- وهو قول أبي العباس -: يلزمه أن يجلس؛ لأن الأولى فعلها على وجه النفل، فلا تقع عن الفرض.
والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الأصحُّ - أنه يلزمه أن يجلس؛ لأن الواجب عليه أن يجلس بعد السجدة الأولى، وقد فعله، ولا يضره اعتقاده أنها عن جلسة الاستراحة، كما لو جلس في التشهد يعتقد أنه الأول، ثم بان أنه الأخير. . فإنه يعتد به، وهذان الوجهان يشبهان الوجهين في التجديد: هل يرفع الحدث أم لا؟
وإن ذكر أنه ترك سجدة من الأولى، بعدما سجد في الثانية السجدة الأولى، فإن قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلوس بين السجدتين. . فقد تمَّت الركعة الأولى بهذه السجدة، سواءٌ جلس عقيب السجدة الأولى في الركعة الأولى أو لم يجلس في الركعة الأولى.
وإن قلنا بقول أبي إسحاق في الأولى، وأنه لا بدَّ من الجلسة لتكون السجدة عقيبها. . لم تتم الركعة الأولى بهذه السجدة؛ لأنها لم تقع عقيب الجلوس.
وإن قلنا بالمذهب. . نظرت: فإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى في الركعة الأولى. . تمَّت له الركعة الأولى بهذه السجدة، وإن كان لم يجلس بعد السجدة الأولى. . لم تتم الركعة الأولى بهذه السجدة.
وإن ذكر أنه ترك السجدة الثانية من الأولى، بعدما أتى بسجدتين وجلسةٍ بينهما في الثانية. . فقد تمت الركعة الأولى بلا خلافٍ بين أصحابنا.
وبماذا تمت؟ على قول أبي إسحاق: تمت بالسجدة الثانية، سواء جلس عقيب السجدة الأولى في الأولى، أو لم يجلس. وعلى قول أكثر أصحابنا: إن كان لم يجلس بعد السجدة في الأولى. . فإنها تمت بالسجدة الثانية من الركعة الثانية، وإن كان قد جلس بعد السجدة في الأولى. . فإنها تمت بالسجدة الأولى من الركعة الثانية.
ومن قال: إن القيام يقوم مقام الجلوس في الفصل. . فإنها تمت بالسجدة الأولى من الركعة الثانية بكل حال.(2/326)
وإن كان قد جلس عقيب السجدة في الركعة الأولى، وهو يظن أنها جلسة الاستراحة. . فعلى قول أبي إسحاق: تمت بالثانية ها هنا. وكذلك على قول أبي العباس - حيث قال: لا يقوم مقام الجلسة بين السجدتين - تمت الأولى ها هنا بالسجدة الثانية.
وعلى قول سائر أصحابنا - الذين قالوا: يقوم مقام الجلسة بين السجدتين في الفصل - تمت بالسجدة الأولى من الثانية.
[فرع تذكر أنه لم يسجد إلا مرة في كل ركعة]
] : وإن صلَّى صلاة أربع ركعات، ثم ذكر في آخرها أنه ترك من كل ركعة سجدة، فإن تيقن أنه قد أتى بالجلسة بين كل سجدتين في كل ركعة. . فقد صحَّ له ركعتان، وبقي عليه ركعتان ووافق أبو إسحاق على هذا، وهو المنصوص للشافعي؛ لأنَّ الركعة الأولى تتم بالثانية، والثالثة تتمم بالرابعة.
فإن كان قد تشهد في الرابعة، يظن أنه الأخير. . فإنه يُعتد بهذا التشهد عن الأوَّل، ثم يأتي بركعتين، ويتشهد ويسلِّم.
وإن كان قد ترك سجدة من كل ركعة، والجلسة بين السجدتين. . فعلى قول أبي إسحاق - حيث قال: لا بد من الجلوس؛ لتقع السجدة عقيب الجلوس - يحصل له ركعة إلا سجدة.
وعلى قول من قال من أصحابنا: القيام يقوم مقام الجلوس في الفصل. . تحصل له ركعتان، وتبقى عليه ركعتان.
وعلى قول سائر أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان تشهد في الثانية. . حصل له ركعتان إلا سجدة؛ لأن التشهد الأول يقوم مقام الفصل بين السجدتين في الأولى، وتمت له الركعة الأولى بالسجدة الأولى من الركعة الثالثة، واحتسب له بالقيام، والقراءة، والركوع، والسجدة الأولى من الركعة الرابعة، فيجلس، ويسجد الثانية، وتصحُّ له ركعتان، وإن لم يتشهد الأوَّل. . حصل له ركعة إلا سجدة لا غير. هذا مذهبنا.(2/327)
وقال أبو حنيفة: (يأتي في آخر صلاته بأربع سجدات، وتتم صلاته) . . وبه قال الحسن البصري، والثوري، والأوزاعي.
وقال الحسن بن صالح: لو نسي ثمانية سجدات. . أتى بهن متواليات.
دليلنا: أن السجود فعل واجب في الصلاة، فوجب أن يكون الترتيب بينه وبين ما بعده مستحقًا، كسائر أفعال الصلاة.
[فرع صلى أربعًا وتذكر ترك سجدة]
فأما إذا صلى صلاة أربع ركعات، ثم تذكر قبل أن يسلم أنه ترك سجدة منها، أو شكَّ في تركها، ولم يعلم من أي موضع تركها. . لزمه أن يأتي بركعة؛ لأن أحسن أحواله أن يكون تركها من الرابعة، فيأتي بسجدة، وأسوأ أحواله أن يكون تركها ممَّا قبلها، فيتم المتروك منها بسجدة من التي بعدها، فلزمه أن يأخذ بأسوأ أحواله؛ ليسقط الفرض بيقين.
وإن ترك منها سجدتين، ولم يعلم موضعهما. . لزمه ركعتان؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، فيتمم الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، والكلام: بماذا حصل التمام؟ على ما مضى.
وإن ترك ثلاث سجدات. . لزمه ركعتان أيضًا؛ لجاوز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، ومن الرابعة سجدة، أو ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، ومن الثالثة سجدة، أو من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، فيتم الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة.
وإن ترك أربع سجدات، ولم يعلم موضعها. . لزمه سجدة، ثم ركعتان بعدها؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، أو من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدة، ومن الرابعة سجدتين. . فيتم الأولى بالثانية، ويبقى له ركعة إلا سجدة، فيضيف إليها سجدة، ثم يأتي بركعتين.
وإن قال: تركت مع أربع سجدات أربع جلسات. . فقياس(2/328)
المذهب: أنه تحصل له ركعة إلا سجدة، وإن كان لم يتشهد التشهد الأول، فيلزمه أن يجلس، ثم يسجد سجدة، فتتمم له ركعة.
وإن قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلوس. . فهو كما لو جلس بين كل سجدتين.
وإن ترك خمس سجدات من أربع ركعات، ولم يعلم موضعها. . فقد قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": يلزمه سجدتان وركعتان، ويجعل المتروك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدتين.
وقال أبو عليٍّ في " الإفصاح "، وابن الصباغ: يلزمه ثلاث ركعات؛ لأن أسوأ أحواله أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدتين، ومن الثالثة سجدتين، وأتى بالسجدتين في الرابعة، فتتمم الأولى بالرابعة، ويبقى عليه ثلاث ركعات، وهذا هو الأصحُّ.
وإن ترك ستَّ سجدات. . لزمه ثلاث ركعات أيضًا؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدتين، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، فيتم الأولى بالرابعة.
وإن ترك سبع سجدات. . حصل له ركعةٌ إلا سجدة، فيأتي بسجدة، وثلاث ركعات بعدها.
وإن ترك ثمان سجدات. . لزمه سجدتان، وثلاث ركعات بعدهما. وإن ذكر أنه ترك ذلك بعد السلام، فإن ذكره بعد تطاول الفصل. . استأنف الصلاة، وإن ذكره قبل تطاول الفصل. . بنى على صلاته.
وإن شكَّ في تركه بعد السلام. . لم يؤثر هذا الشكُّ، على طريقة أصحابنا البغداديين، وعلى طريقة الخراسانيين: يكون على قولين، كما مضى في الركعة.
[مسألة ترك التشهد الأول]
] : إذا قام من الثانية ناسيًا إلى الثالثة، وترك التشهد ثم ذكر. . نظرت: فإن ذكر بعد أن انتصب قائمًا. . لم يعد إليه، وإن ذكر قبل أن ينتصب قائمًا. . عاد إليه.(2/329)
وقال مالك: (إن قام أكثر القيام. . لم يرجع، وإن قام أقل القيام. . رجع) .
وحكى ابن المنذر عنه أنه قال: (إذا فارقت أليتاه الأرض. . لم يرجع) .
وقال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة.
وقال الحسن: يرجع ما لم يركع.
وقال أحمد: (يرجع قبل أن يستوي قائمًا، وإن استوى قائمًا. . فهو بالخيار: إن شاء. . رجع، وإن شاء. . لم يرجع) .
دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الرَّكعتين، فلم يستتم قائمًا. . فليجلس، وإذا استتم قائمًا. . فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو» .
ولأنه إذا استتم قائمًا. . فقد حصل في فرض، فلم يجز أن يرجع منه إلى سُنَّة.
إذا ثبت هذا، وانتصب قائمًا، فإنه يمضي في صلاته، ويسجد للسهو؛ للنقصان. فإن خالف ورجع إلى القعود، فإن كان قاصدًا عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأنه قعد في موضع القيام، وإن كان ناسيًا أو جاهلاً. . لم تبطل صلاته؛ لأنها زيادة من جنس الصلاة، فإن علم تحريم ما جهله، أو ذكر ما نسيه في القعود. . فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه أن يقوم، ولا يتشهد؛ لأن التشهد قد سقط عنه بالقيام، وصار القيام فرضه، ويسجد للسهو، للزيادة والنقصان.
أما الزيادة: فجلوسه بعد القيام، وأما النقصان: فتركه القعود والتشهد فيه.(2/330)
وإن كان إمامًا لغيره. . نظرت: فإن انتصبوا معه. . لم يعودوا؛ لأنهم صاروا في فرضٍ، وإن لم ينتصبوا، بل انتصب الإمام وحده، ثم رجع. . قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن المأموم يقوم، ولا يتابعه في الجلوس؛ لأن المأموم، وإن لم يكن انتصب. . فقد وجب عليه الانتصاب، لانتصاب الإمام، فإذا رجع الإمام. . لم يسقط عن المأموم ما وجب عليه من الانتصاب. فإن خالفوا ورجعوا. . نظرت: فإن كانوا عالمين بتحريمه. . بطلت صلاتهم، وإن كانوا جاهلين. . لم تبطل صلاتهم.
وإن ذكر قبل أن ينتصب، ورجع إلى القعود. . فهل يسجد للسهو؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان:
أحدهما: يسجد، وبه قال أحمد بن حنبل؛ لما روى يحيى بن سعيد قال: (رأيت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يتحرك للقيام في الركعتين من العصر، فسبَّحوا له، فجلس، ثم سجد للسهو) ، وهو في الصلاة.
ولأنه زاد في الصلاة زيادة من جنسها ساهيًا، فأشبه إذا زاد ركوعًا.
والثاني: لا يسجد، وبه قال الأوزاعي، وعلقمة، والأسود؛ لما روي في حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شكَّ أحدكم، فقام من اثنتين، فإن ذكر، وقد استتم قائمًا. . فلا يجلس، وإن ذكر قبل أن يستتم قائمًا. . جلس، ولا سهو عليه» .
ولأنه عمل قليل، فلم يقتض سجود السهو، كالخطوة، والالتفات.(2/331)
وقال القفال: إن كان أقربه إلى القيام. . سجد للسهو، وإن كان أقربه إلى القعود. . لم يسجد للسهو.
فإن ذكر قبل أن ينتصب، فخالف، وقام. . لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك سُنَّة، ويسجد للسهو.
فإن رجع الإمام قبل أن ينتصب، وكان قد سبقه المأموم بالانتصاب. . فهل يجب عليه أن يرجع إلى القعود؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يرجع، وهو الأصح؛ لأن متابعة الإمام فرض.
والثاني: لا يلزمه أن يرجع؛ لأنه قد حصل في فرض.
[فرع ترك دعاء الاستفتاح]
] : فإن ترك دعاء الاستفتاح، فذكره وقد تلبَّس بالتعوذ، أو ترك التعوذ، فذكره، وقد استفتح القراءة. . لم يعد إليه، وإن ترك تكبيرات العيد، فذكرها، وقد استفتح القراءة ففيه قولان:
[الأول] : قال في القديم: (يأتي بها) ؛ لأن محلَّها باقٍ، وهو القيام.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يأتي بها) ، وهو الصحيح؛ لأنه ذكر مسنون فاته محلُّه، فلم يأت به، كما لو ترك دعاء الاستفتاح، فذكره بعد استفتاح القراءة.
[مسألة من ترك ركعة]
وإن قام من الرابعة إلى الخامسة ساهيًا، ثم ذكر ذلك في القيام، أو في الركوع، أو في السجود. . فإنه يلزمه العود إلى الجلوس، وبه قال الحسن، وعطاء، والزهري، ومالك، والليث.(2/332)
وقال أبو حنيفة: (ينظر فيه: فإن ذكر قبل أن يسجد في الخامسة. . فإنه يعود إلى الجلوس، كما قلنا. وإن ذكر بعدما سجد في الخامسة، فإن كان قد قعد في الرابعة قدر التشهد. . فقد تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه غير الخروج منها، وقيامه إلى الخامسة خروج، فيضيف إلى هذه الخامسة ركعة ثانية، فيحصل له ركعتان نافلة؛ لأنه لا يجبر التنفل بأقل من ركعتين، وإن قام إلى الخامسة قبل أن يقعد في الرابعة قدر التشهد. . فقد بطلت صلاته بالقيام) .
دليلنا: ما روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: "وما ذاك؟ "، فقيل له: صليت الظهر خمسًا، فسجد سجدتين، وهو جالس بعد السلام» . قال ابن مسعود: (ولم يكن قعد في الرابعة) .
إذا ثبت ما ذكرناه: نظرت: فإن ذكر في الخامسة بعد أن تشهد، وسلَّم. . فإنه يسجد للسهو، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن ذكر بعدما تشهد، وقبل أن يسلِّم. . فإنه يسجد للسهو، ويسلم.
وإن ذكر قبل أن يتشهد في الخامسة، فإن كان لم يتشهد في الرابعة. . فإنه يعود إلى الجلوس، ويتشهد، ثم يسجد للسهو، ويسلِّم، وإن كان قد تشهد في الرابعة. . فهل يعيد التشهد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يعيد التشهد، بل يجلس، ويسجد للسهو، ويسلِّم، وهو الأصحُّ؛ لأنَّ ما فعله من التشهد قد صح، فلا يبطل بسهوه إلى القيام.
والثاني- وهو قول أبي العباس -: أنه يلزمه أن يعيد التشهد. والعلة فيه - عند(2/333)
أصحابنا ببغداد: ليكون السلام عقيب التشهد؛ لأن ترتيب الصلاة هكذا.
وقال أصحابنا بخراسان: في علته معنيان:
أحدهما: لأن الموالاة شرط بين الأركان.
والثاني: لأنه لا يجوز إفراد ركن.
قالوا: وفائدة هذا تظهر فيما لو ترك الركوع ناسيًا، وذكره وهو في السجود، فإن قلنا: يجب عليه لأجل الموالاة. . فإنه يجب عليه ها هنا أن يقوم من السجود مستويًا، ثم يركع.
وإن قلنا هناك: يجب عليه؛ لأنه لا يجوز إفراد ركن. . جاز ها هنا أن يقوم من السجود إلى الركوع.
[مسألة سجود السهو للزيادة والنقصان]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا سجود إلا في عمل البدن) .
وجملة ذلك: أن سجود السهو يقع تارة للزيادة، وتارة للنقصان، فأما الزيادة: فضربان: أفعال، وأقوال.
فأما الأفعال: فهي كل فعل إذا أتى به في الصلاة عامدًا. . أبطل الصلاة، فإذا أتى به ساهيًا. . سجد للسهو لأجله، وهي على ضربين:
ضرب: من غير جنس أفعال الصلاة، وضرب: من جنس أفعالها.
فأما زيادة الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة: فإنها لا تقتضي سجود السهو بحال؛ لأنها إن كانت قليلاً، كالخطوة والضربة. . فإن الصلاة لا تبطل بفعلها عامدًا ففعلها في السهو لا يقتضي السجود.
وإن كانت كثيرة. . فإن الصلاة تبطل بفعلها في العمد والسهو، فلا معنى لسجود السهو لأجله.(2/334)
وأما ما كان من جنس أفعال الصلاة. . فضربان: متحقَّقَةٌ، ومتوهَّمَةٌ.
فأما (المتحققة) : فهو أن يزيد ركعة.
والدليل عليه: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له في ذلك، فسجد سجدتين، وهو جالس بعد السلام» .
وهكذا: إذا سجد في موضع الركوع، أو ركع في موضع السجود. . فإنه يسجد للسهو؛ لأنه في معنى زيادة ركعة.
وإن طال القيام بنية القنوت، في غير موضع القنوت. . قال الشيخ أبو إسحاق: يسجد للسهو.
وإن جلس عقيب السجدة الثانية في الركعة الأولى، أو الثالثة في الصلاة الرباعيَّة، فإن ابتدأ بالتشهد ساهيًا. . سجد للسهو؛ لأنها زيادة في الصلاة، فهو كما لو قام في موضع القعود. وإن لم يتشهد. . قال المحامليُّ: فإن كان قعد بقدر جلسة الاستراحة. . فلا سجود عليه، وإن كان أكثر من ذلك. . سجد للسهو.
وأما (المتوهمة) : فهو أن يشكَّ: هل صلَّى ثلاثًا، أم أربعًا؟ فيأتي بركعة، ويسجد للسهو؛ لحديث أبي سعيد في أوَّل الباب.
وأما زيادة الكلام: فهو أن يسلم في غير موضع السلام ناسيًا، أو يتكلم ناسيًا. . فيسجد للسهو؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم في العصر من اثنتين، وكلَّم ذا اليدين، وأتمَّ صلاته، وسجد للسهو» .
قال ابن الصباغ: فإن قام قبل الركوع وبعد القراءة، فدعا، فإن نوى به القنوت. . سجد؛ لأنه أتى به في غير موضعه، وإن لم ينو القنوت. . لم يسجد للسهو، وكان تابعًا للقراءة.
وإن قرأ في الركوع أو القعود ناسيًا. . سجد للسهو؛ لأنه قرأ في غير موضعه، فهو كما لو سلَّم في غير موضعه، وهذا نادرٌ، لأن عمده لا يبطل الصلاة، وسهوه يقتضي سجود السهو.
وحكى في "الفروع" وجهًا آخر: أنه لا يسجد للسهو، ولعل قائل هذا يقول:(2/335)
لأن عمد ذلك لا يبطل الصلاة، فسهوه لا يقتضي سجود السهو. والأول هو المشهور.
وأما النقصان: فإن ترك ركنًا من أركان الصلاة. لم يحكم بصحة صلاته حتى يأتي به، ولا ينجبر بسجود السهو.
وإن ترك سُنَّة يقصد لها عمل البدن، مثل الجلوس للتشهد الأول، أو التشهد فيه، أو الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه - إذا قلنا: إنها سُنن- أو القنوت في الصبح، أو الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، فمتى ترك شيئًا من ذلك ناسيًا. . سجد للسهو؛ لما روى عبد الله بن بحينة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الظهر من اثنتين، فلما جلس من أربع. . انتظر الناس تسليمه، فسجد قبل أن يسلم» .
وقول الشافعي: (لا سجود إلا في عمل البدن) ليس على ظاهره، وإنما أراد فيما يقصد له عمل البدن، وهي هذه الأذكار التي ذكرناها؛ لأنها ليست بهيئة لغيرها، وإنما يقصد بعمل البدن الإتيان بها.
وإن ترك شيئًا من هيئات الصلاة ناسيًا، كدعاء الاستفتاح، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والتكبيرات في الصلاة للركوع، والسجود، والرفع، وتكبيرات العيد، والجهر، والإسرار، وغير ذلك من الهيئات. . فإنه لا يسجد للسهو؛ لأن هذه الأشياء يؤتى بها هيئة، وتابعة لغيرها؛ لأن دعاء الاستفتاح يراد لاستفتاح الصلاة، وقراءة السورة تبع للفاتحة، والتكبيرات هيئات للخفض والرفع، والتسبيح هيئة للركوع والسجود، بخلاف القنوت والتشهد؛ فإنهما لا يفعلان على وجه الهيئة والتبع لغيرهما، بل يقصدان بأنفسهما، ولهذا شرع لهما محل غير مفروض، يختص بهما.(2/336)
قال ابن الصباغ: وحكى أبو إسحاق: أن الشافعي قال في القديم: (يسجد لترك كل مسنون في الصلاة، سواء كان ذكرًا، أو عملاً) .
وهكذا: إذا جهر بما يسر به، أو أسر بما يهجر به. قال: وهذا مرجوع عنه، وبه قال مالك، وهذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا ترك تكبيرات العيد. . سجد للسهو، ولا يسجد لترك سائر التكبيرات، وإن ترك الجهر أو الإسرار. . سجد إذا كان إمامًا) .
وقال ابن أبي ليلى: إذا جهر في موضع الإسرار، أو أسر في موضع الجهر. . بطلت صلاته.
دليلنا: ما روي: (أن أنسًا جهر في صلاة العصر، فلم يعدها، ولم يسجد للسهو) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، لأن هذه هيئات. . فلم تقتض الجبران، كالرمل والاضطباع في الحج.
[فرع ترك السنة في الصلاة]
] : وإن ترك السنن المقصودة في موضعها عامدًا. . فهل يسجد للسهو؟ فيه وجهان، ومن أصحابنا من يحكيهما قولين:
أحدهما: لا يسجد، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذا السجود يسمَّى: سجود السهو، وإذا ترك هذه الأشياء عامدًا. . لم يسم بهذا الاسم.
والثاني: يسجد، وهو الأصح؛ لأنه إذا سجد لتركها ساهيًا. . فلأن يسجد لتركها(2/337)
عامدًا أوْلى، ولأن ما اقتضى الجبران إذا فعله ناسيا. . اقتضى الجبران إذا فعله عامدًا، كفدية الأذى، وقتل الصيد في الحج.
[فرع الشك في السهو]
قال الشافعي: (ومن شكَّ: هل سها، أو لا؟ فلا سهو عليه) .
قال أصحابنا: إذا شكَّ هل زاد في الصلاة، أم لا؟ لم يسجد؛ لأن الأصل أنه لم يزد. وهذا مراد الشافعي.
وحُكي: أن الكسائي، ومحمد بن الحسن اجتمعا عند هارون الرشيد، فقال الكسائي: العلوم كلها جنس يُستدل ببعضها على بعض، فقال محمد بن الحسن: ليست بجنس، ولا يستدل ببعضها على بعض، فقال الكسائي: بلى، فقال محمد: ما تقول في رجل شكَّ هل سها، أم لا؟ هل عليه سجود السهو؟
فقال الكسائي: لا سجود عليه، فقال محمد بن الحسن: لم؟ قال: لأن العرب لا تصغر التصغير، كذا لا سهو عليه للسهو.
فإن قيل: أليس إذا شك: هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا، فإنه يأتي بركعة ويسجد للسهو، وإن كانت هذه الزيادة مشكوكًا فيها، والأصل عدمها؟
فالجواب: أنه إذا شكَّ في هذه الركعة: هل هي من أصل الصلاة، أم لا؟ فإن هذه الركعة قد دخل عليها النقص في ذلك، فجبرها بالسجود، وإن كان الشك في النقصان: هل أتى بالتشهد الأول، أو القنوت؟ سجد للسهو؛ لأن الأصل أنه لم يأت به.
[مسألة من لزمه سهوان]
وإن اجتمع عليه في صلاته سهوان، أو أكثر. . كفاه للجميع سجدتان، وبه قال أكثر أهل العلم.(2/338)
وقال الأوزاعي: (إن كانا من جنس واحد. . تداخلا، وإن كانا من جنسين. . لم يتداخلا) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم من اثنتين، وكلَّم ذا اليدين، واقتصر على سجدتين» . ولأن سجود السهو إنما أخر إلى آخر الصلاة؛ ليجبر كل سهو وقع فيها.
وإن سجد للسهو، ثم سها قبل أن يسلم. . فهل يسجد لسهوه ثانيًا؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس بن القاص -: أنه يسجد، وبه قال قتادة؛ لأن سجود السهو لا يجبر ما بعده.
والثاني- وهو قول أبي عبد الله الختن، والمسعودي [في " الإبانة " ق 72] ، واختيار الشيخ أبي نصر -: أنه لا يسجد، لأنه لو لم يجبر كل سهو. . لما أُخر إلى آخر الصلاة.
قال المسعودي [في " الإبانة " ق 72] : ولأنه لو لزمه السجود. . لم يؤمن أن يسهو ثانيًا وثالثًا، فيؤدي إلى ما لا نهاية له، والتصغير لا يصغر.
[مسألة السهو خلف الإمام]
] : إذا سها خلف الإمام. . فلا سجود عليه، وإن سها إمامه. . سجد معه، وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حُكي عن مكحول: أنه قام عن قعود الإمام، فسجد سجدتي السهو.
دليلنا: ما روى الدارقطني، عن عبد الله بن عمر [عن عمر] : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام. . فعليه وعلى من خلفه» .(2/339)
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأئمة ضمناء» .
قيل في تفسيره: إنهم يتحملون السهو عن المأمومين. وقيل: قراءة الفاتحة. وقيل: قراءة السورة.
ولـ: (أن معاوية بن الحكم شمَّت العاطس خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسجود) .
فإن سها الإمام فسجد. . سجد معه المأموم.
قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع.
والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» . و (الائتمام به) هو: الاقتداء في جميع أفعاله، ومن أفعاله أيضًا إذا سها. . سجد سجود السهو، ولأنه قال: «فإذا سجد. . فاسجدوا» . ولم يفرِّق.
فإن لم يتابعه المأموم في سجود السهو. . قال صاحب " الإبانة " [ق 72] : بطلت صلاته.
فإن لم يسجد الإمام. . سجد المأموم، وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث.
وقال أبو حنيفة والنخعي: (لا يسجد) . وبه قال المزني، وأبو حفص من أصحابنا؛ لأنه إنما يسجد تبعًا للإمام، وقد ترك الإمام، فلم يسجد المأموم.
ودليلنا: أن صلاة المأموم قد نقصت بنقصان صلاة إمامه، فإذا لم يجبر الإمام صلاته. . جبر المأموم صلاته.(2/340)
[فرع سهو الإمام حال اقتدائه]
] : فلو سبقه الإمام بركعة، فلمَّا كان في آخر التشهد. . سمع المأموم صوتًا، فظن أن الإمام قد سلم، فقام، فقضى ما فاته، فلمَّا فرغ من القضاء. . بان أن إمامه سلَّم بعدما جلس هو. . لم يعتد له بتلك الركعة التي قضاها؛ لأنه أتى بها في غير موضعها، فيقوم، ويأتي بها، ولا سجود عليه للسهو؛ لأنه كان في حكم صلاة الإمام عند السهو.
وإن سلَّم الإمام وهو قائم. . فهل يجب عليه أن يمضي في القيام، ويستأنف القراءة؟ أو يجب أن يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القعود، ولا يجوز له؛ لأن الواجب عليه القيام، وقد صار قائمًا.
والثاني: يجب عليه القعود؛ لأنه قام في غير محله، فلم يحتسب له به، كما لو أتى بالركعة.
[فرع سها الإمام قبل الائتمام]
] : وإن سها الإمام، ثم أدركه المأموم. . فإنه يلزم المأموم حكم سهو الإمام.
ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه، كما لا يحمل عنه الإمام سهوه بعد انفراده عنه. والمذهب الأول؛ لأن المأموم دخل في صلاة ناقصة، فنقصت بها صلاته.
فإذا قلنا بهذا، فسجد الإمام لسهوه قبل السلام. . لزم المأموم متابعته في السجود، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن سيرين: لا يلزمه أن يسجد معه، وحكاه الطبري عن بعض أصحابنا؛(2/341)
لأن محل سجود السهو آخر الصلاة، وليس هذا آخر صلاة المأموم، والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد. . فاسجدوا» .
وإن سلم الإمام قبل أن يسجد، ثم سجد الإمام بعد السلام. . قام المأموم على ما بقي من صلاته، ولم يتابع الإمام في سجود السهو.
وقال أبو حنيفة: (عليه متابعته) .
دليلنا: أن المأموم إنما يلزمه متابعة الإمام ما دام في الصلاة، وبالسلام قد خرج عن الصلاة، فلم يلزمه متابعته.
فإن سجد الإمام للسهو قبل السلام، فسجد معه المسبوق، ثم قضى ما عليه. . فهل يعيد سجود السهو في آخر صلاته؟ فيه قولان:
أحدهما: يعيد؛ لأن هذا موضع سجوده.
والثاني: لا يعيد؛ لأن النقص قد انجبر بسجوده مع الإمام.
وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم سها الإمام فيما أدرك معه المأموم، وسجد الإمام في آخر صلاته، فسجد معه المسبوق، ثم قضى المسبوق ما فاته مع الإمام. . فهل يلزمه أن يعيد السجود؟ على القولين في التي قبلها.
وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم سها الإمام فيما أدرك معه المأموم، وسجد الإمام لسهوه، فسجد معه المأموم، ثم قام المسبوق إلى قضاء ما فاته، فسها فيما قضاه، فإن قلنا في الأولى: لا يلزمه أن يعيد ما سجد مع الإمام. . سجد المأموم ها هنا في آخر صلاته سجدتين للسهو الذي سهاه في انفراده.
وإن لم يسجد الإمام، أو سجد وسجد معه المسبوق، وقلنا: يلزمه أن يعيد سجود السهو في آخر صلاته. . فكم يسجد ها هنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه أن يسجد أربع سجدات؛ لأنه يسجد لسهوين مختلفين: أحدهما من جهة الإمام، والآخر من جهته.
والثاني- وهو المنصوص -: تكفيه سجدتان؛ لأن السجدتين تجبران كلَّ سهو وقع في الصلاة.(2/342)
فإذا قلنا بهذا، فعما يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها في "الفروع":
أحدها: يقعان عن سهو إمامه، وسهوه تابعٌ:
والثاني: يقعان عن سهوه، وسهو إمامه تابعٌ.
والثالث: يقعان عنهما.
قال: وفائدة هذا تظهر فيه إذا نوى به خلاف ما جعل مقصودًا بهما.
[فرع المنفرد والساهي بعد صلاة الإمام]
] : وإن صلَّى ركعة منفردا، فسها فيها، ثم أحرم إمامٌ، فضم المنفرد بركعة صلاته على صلاة الإمام، وقلنا: يصح، فسَها الإمام، فإن تمت صلاة المأموم قبل أن تتم صلاة الإمام. . كان المأموم بالخيار بين أن يقعد، وينتظر الإمام إلى أن يتم صلاته، ويسجد للسهو معه، وبين أن ينوي مفارقته، فإن نوى مفارقته. . سجد للسهوين، وكم يسجد؟ على الوجهين في التي قبلها:
أحدهما: أربع سجدات.
والثاني: يكفيه سجدتان.
فإذا قلنا بهذا، فعمَّا يقعان؟ يحتمل الأوجه الثلاثة التي حكاها صاحب "الفروع".
وإن كانت صلاة المأموم أطول، بأن كانت صلاته رباعية، فصلى منها ركعة منفردًا، فسها فيها ثم ألحق صلاته بصلاة من يصلِّي ركعتين، فسها الإمام، ثم قام المأموم إلى ما بقي عليه من صلاته، فسها فيها. . فكم يسجد في آخر صلاته؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يسجد ست سجدات؛ لأنه سها في ثلاث حالات.(2/343)
والثاني: يسجد أربع سجدات؛ لأن سهوه جنسان: سهو في جماعة، وسهو في انفراد.
والثالث- وهو الأصح -: تكفيه سجدتان؛ لأنهما يجبران كل سهوٍ وقع في الصلاة.
فإذا قلنا بهذا، فعما يقعان؟ يحتمل أن يكون فيه الأوجه الثلاثة التي حكاها صاحب "الفروع" في الأولى.
[فرع سها في الجمعة]
] : إذا سها في صلاة الجمعة، فسجد سجدتي السهو، ثم دخل وقت العصر قبل أن يسلِّم منها. . فإنه يجب عليه أن يتمها ظهرًا، ويعيد سجدتي السهو في آخر صلاته؛ لأن الأوليين حصلتا في وسط صلاته.
[فرع سهو المسافر القاصر]
] : إذا نوى المسافر القصر، وسجد للسهو، ثم نوى الإقامة قبل أن يسلّم، أو اتَّصلت السفينة بدار إقامته، وهو في الصلاة، أو نوى الإتمام. . وجب عليه أن يتمها أربعًا، ويعيد سجود السهو؛ لأن الأوليين حصلتا في وسط الصلاة.
[فرع من زاد ركعة سهواً]
ً] : إذا صلَّى المغرب أربع كلمات ساهيًا. . سجد للسهو، وأجزأته صلاته.
وقال قتادة والأوزاعي: (يضيف إليها أخرى، ويسجد للسهو) ؛ لأنه إذا لم يضف إليها ركعة، كانت شفعًا.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فلمَّا قيل له في ذلك. .(2/344)
سجد للسهو» . ولم يضف إليها أخرى، لتصير شفعًا.
وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة. . فإنه يقضي ما فاته مع الإمام بعد سلام الإمام، ولا يسجد للسهو.
وحُكي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي سعيد الخدري: أنهم قالوا: (يسجد للسهو في آخر صلاته) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم مع الإمام فصلوا، وما فاتكم. . فاقضوا» .
ولم يأمر بالسجود.
[مسألة استحباب سجود السهو]
] : سجود السهو مستحب، وليس بواجب.
وقال الكرخي: ليس لأبي حنيفة فيه نص، والذي يقتضيه مذهبه: أنه واجب.
وقال مالك: (إن كان لنقصان. . فهو واجب، وإن كان لزيادة. . فليس لواجب) .
دليلنا على أبي حنيفة: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي سعيد: «كانت الركعة نافلة له والسجدتان» .
وعلى مالك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن كانت صلاته ناقصة، كانت الركعة تمامًا لصلاته، والسجدتان ترْغمان أنف الشيطان» .
وما يرغم أنف الشيطان، فليس بواجب.
ولأنه سجود لا تبطل الصلاة بتركه، فلم يكن واجبًا، كسجود التلاوة.(2/345)
[مسألة محل سجود السهو]
] : قال الشافعي: (فإذا فرغ من صلاته بعد التشهد. . سجد سجدتي السهو) .
واختلف الناس في محل سجود السهو: فذهب الشافعي في عامة كتبه إلى: (أن محلَّه قبل السلام) سواءٌ كان لزيادة، أو نقصان، وروي ذلك عن أبي هريرة , وأبي سعيد الخدري، والزهري، وربيعة، والليث، والأوزاعي.
ومن أصحابنا من حكى للشافعي قولاً في القديم: (أنه إن كان السهو لنقصان. . كان محل سجود السهو قبل السلام، وإن كان لزيادة. . فمحله بعد السلام) . وهو مذهب مالك، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والمزني.
وحكى الطبري في "العدة": أن من أصحابنا من حكى أن الشافعي أشار في القديم: (أنه مخير بين أن يسجد قبل السلام، أو بعده) . والمشهور من المذهب هو الأول.
وقال الحسن البصري، والنخعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة: (محله بعد السلام، سواءٌ كان لزيادة، أو نقصان) ، وروي ذلك عن عليٍّ، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمار.(2/346)
دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري في أول الباب، وروي عن عبد الله ابن بحينة: أنه قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشاء، فقام من اثنتين، فقام الناس معه، فلما جلس. . انتظر الناس تسليمه، فسجد قبل أن يسلم» .
وكذلك: رواه عمر، وابن عباس.
وروي عن أبي هريرة: أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود قبل السلام» .
ولأنه يفعل لتكمل الصلاة به، فكان محله قبل السلام، كما لو نسي سجدة من صلب الصلاة.
فإذا قلنا: محله قبل السلام، فسلم قبل سجود السهو عامدًا، وأراد السجود من قريب. . ففيه وجهان، حكاهما بعض أصحابنا المتأخرين:
أحدهما: لا يسجد؛ لأنه قد قطع الصلاة بالتسليم.
والثاني: حكمه حكم ما لو سلَّم ناسيًا، فيسجد.
فإن سلَّم ناسيًا لسجود السهو، ثم ذكر من قريب. . سجد للسهو؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمسًا وسلّم، فقيل له في ذلك، فسجد بعد السلام» .
وما حكم سلامه؟ فيه وجهان:
أحدهما - وإليه ذهب أبو زيد المروزي، والجويني -: أنه يسقط، كما لو سلَّم ناسيًا في غير موضعه.
فعلى هذا: لا يحتاج إلى إعادة التشهد؛ لأنه قد عاد إلى أصل صلاته، فلو أحدث في هذه الحالة. . بطلت صلاته.
والثاني: أن السلام قد وقع موقعه، وتحلل من الصلاة.(2/347)
فعلى هذا: إذا أحدث في هذه الحالة. . لم تبطل صلاته؛ لأن السلام لو لم يقع موقعه، لزمه الرجوع إليه.
فعلى هذا: هل يعيد التشهد؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يتشهد ويسلم، وهو ظاهر كلام الشافعي، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن هذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن من حكم الصلاة أن يكون السلام عقيب التشهد.
والثاني - وهو اختيار ابن الصباغ، والطبري في " العدة " -: أنه لا يتشهد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له في ذلك، فسجد سجدتين بعدما سلَّم» . ولم يذكروا أنه تشهد.
ولأنه إنما ترك السجود وحده، فلا يعيد ما قبله، كما إذا نسي شيئًا من صلب الصلاة، فإنه لا يعيد ما قبله.
قال الطبري: فإذا قلنا يتشهد. . ففيه وجهان.
أحدهما: أنه يسجد للسهو، ثم يتشهد، ثم يسلم، وبه قال أبو حنيفة؛ ليكون السلام عقيب التشهد.
والثاني: يتشهد، ثم يسجد للسهو، ثم يسلم، وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراييني؛ لأن سنَّة سجود السهو أن يكون عقيب التشهد.
وإن سلم ناسيًا لسجود السهو، ثم ذكر بعد تطاول الفصل. . فيه قولان:
[الأول] : قال في القديم (يسجد) ؛ لأنه جبران للعبادة، فجاز الإتيان به بعد تطاول الفصل، كالجبران في الحج.
فعلى هذا: حكمه حكم ما لو لم يتطاول الفصل.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يسجد) ، وهو الأصح؛ لأنه يفعل لتكميل(2/348)
الصلاة، فلم يفعله بعد تطاول الفصل، كما لو ترك سجدة من الصلاة، فذكرها بعد السلام، وبعد تطاول الفصل.
وأما حد القرب والبعد في ذلك: فحكى المحاملي فيه قولين:
[الأول] : قال في الجديد: (المرجع فيه إلى العرف والعادة) .
و [الثاني] : قال في القديم: (القرب: ما لم يقم من مجلسه، والبعد هو: إذا قام من مجلسه) .
وقال الحسن البصري، وابن سيرين: يسجد، ما لم يلتفت من محرابه.
وقال أبو حنيفة: (يسجد ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد) .
دليلنا للأول - وهو الأصح -: أنه لا حد لهذا في لغة، ولا في الشرع، فرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض، والحرز.
وأما إذا قلنا: إن محل سجود السهو بعد السلام للزيادة. . قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: فإنه يكبر، ويسجد سجدتي السهو، ويتشهد، ويسلم، بلا خلاف، على المذهب؛ لما روي عن عمران بن الحصين: أنه قال: «صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، فسها فيها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم» ، ولأن هذا أشبه بترتيب الصلاة.
[فرع السهو في النوافل]
] : إذا سها في صلاة النفل. . سجد للسهو، ومن أصحابنا من حكى فيه قولاً آخر: أنه(2/349)
لا يسجد للسهو في صلاة النفل. وبه قال ابن سيرين.
والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» . ولم يفرق بين الفرض والنفل.
ولأنها عبادة يدخل الجبران في فرضها، فدخل في نفلها، كالحج، ويسلم بعد سجود السهو تسليمتين.
وقال النخعي: لا يسلم فيه إلا تسليمة واحدة. وكذلك قال في صلاة الجنازة.
دليلنا: أنه سجود مشروع، فشرع فيه تسليمتان، كسجود التلاوة.
وبالله التوفيق(2/350)
[باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها]
وهي خمس ساعات: ثلاث منها نهي عن الصلاة فيها لأجل الوقت، وهي: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين، وعند استواء الشمس في كبد السماء، حتى نزول، وعند ابتدائها في المغيب حتى تغرب.
وساعتان منها نهي عن الصلاة فيهما لأجل الفعل، وهما: بعد الصبح، وبعد العصر، فمن صلَّى صلاة الصبح في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن ترتفع الشمس، ومن صلَّى صلاة العصر في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن تغرب الشمس، وروي عن عليَّ: (أنه دخل فسطاطه بعد العصر، فصلَّى ركعتين) .
وقال ابن المنذر: لا يكره فعل النوافل بعد العصر، ما لم تصفر الشمس.
وقال داود: (يجوز فعل النوافل إلى غروب الشمس) .
دليلنا: ما روي «عن ابن عباس: أنه قال: (شهد عندي رجالٌ مرضيون أرضاهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس» .
وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلّي فيها، أو نقبر أمواتنا: إذا طلعت الشمس، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» .(2/351)
وقوله: (تضيف) أي: تميل، ومنه قولهم: ضفت فلانًا: إذا ملت إليه.
وروى الشافعي بإسناده، عن الصنابحي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن الشمس تطلع، ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها» . فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في تلك الأوقات.
وقد اختلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: معناه أن قرن الشيطان ناحية رأسه، والعرب تسمِّي ناحيتي رأس الإنسان: قرنين.
وقيل: يحتمل أنه أراد: أن الكفار كانوا يعبدونها في تلك الأوقات، وسمَّاهم قرن الشيطان، كما قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] [مريم: 74] .
وحُكي عن إبراهيم الحربي، أن معنى ذلك: أن في تلك الأوقات يتحرك الشيطان، ويتسلَّط، فيكون كالمعين لهم.(2/352)
وكذلك الحديث الآخر: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم» . أي: يقويه على المعاصي.
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس» .
وإذا ثبت هذا: فإن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ليس بعام عندنا، وإنما يختص ببعض الصلوات وبعض الأزمان وبعض البلدان.
فأما الصلوات: فإنما ينصرف النهي إلى إنشاء صلاة نافلة لا سبب لها، فأما الصلاة التي لها سبب: فيجوز فعلها في هذه الأوقات، كقضاء الفائتة من الفرائض، والسنن، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة.
وقال مالك: (يقضي الفرائض في هذه الأوقات، ولا يقضي فيها السنن) .
وبه قال أحمد، إلا أنه أجاز فيها ركعتي الطواف، وصلاة الجماعة مع إمام الحيِّ. ووافقنا أبو حنيفة على جواز فعل الصلاة التي لها سبب بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر.
وأما الأوقات الثلاثة: فقال: (لا يجوز فعل جميع الصلوات فيها، إلا عصر يومه) ؛ لما روي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/353)
ينهانا أن نصلي فيها، وان نقبر فيها أمواتنا: إذا طلعت الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» .
قال: (والنهي عن القبران في هذه الأوقات، إنما هو نهيٌ عن صلاة الجنازة فيها، لا عن نفس القبران) .
ودليلنا: ما روي عن قيس بن قهد: أنه قال: «رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان؟ " قلت: لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان الرَّكعتان» .
وروي عن أم سلمة: أنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر، فصلَّى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت هاتين الرَّكعتين في وقت ما كنت تصليهما فيه؟ فقال: "ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فقدم عليَّ وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فصليتهما بعد العصر". قالت: ثم داوم عليهما» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نام عن صلاة، أو نسيها: فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها» . ولم يفرق.
وأما الجواب عن حديث عقبة بن عامر: فظاهر الإقبار أنه: الدفن، وذلك جائز بالإجماع بيننا وبينهم، فلا يجوز حمله على الصلاة.(2/354)
فإن عقد نافلة لا سبب لها في هذه الأوقات. . فهل تنعقد؟ فيه وجهان، حكاهما صاحب " الإبانة " [ق 78] : وكذلك الوجهان في عقد نذر الصلاة في هذه الأوقات.
واختار ابن الصباغ: أنه لا يصح نذره.
فأما إذا قال: إن شفاني الله من المرض، أو رزقني ولدًا. . فعليَّ لله أن أصلي ركعتين، فشفاه الله، أو رزقه الولد في تلك الأوقات. . جاز له أن يصلي فيها؛ لأنه قد كان يجوز أن يشفيه الله، أو يرزقه في غير تلك الأوقات.
وهل يجوز أن يصلي الاستسقاء في هذه الأوقات؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوزُ؛ لأنها صلاة لها سبب.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يخاف فوتها.
قال في " الإبانة " [ق 78] : ولا يجوز أن يصلي ركعتي الإحرام في هذه الأوقات؛ لأن سببها متأخر عنها.
وأما تحية المسجد في هذه الأوقات: فاختلف أصحابنا فيها:
فذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: أنه ينظر فيه: فإن دخل المسجد في هذه الأوقات ليعتكف فيه، أو ليدرس العلم فيه، أو يقرأ، أو غير ذلك من الأغراض. . جاز له أن يصلي تحية المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد. . فلا يجلس، حتى يصلي ركعتين» . ولم يفرق.
وإن دخل المسجد، لا لحاجة، ولكن ليصلي التحية لا غير. . ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يصلي التحية؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأن سبب الصلاة الدخول، وقد وجد.(2/355)
والثاني: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها» ، وهذا تحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها، والتحري: التعمد.
ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، من غير تفصيل:
أحدهما: يجوز.
والثاني - وهو قول أبي عبد الله الترمذي -: أنه لا يجوز.
فأما إذا كانت له نافلة يداوم على فعلها في وقت يجوز فيه فعل الصلاة، فنسيها أو شغل عنها. . جاز له أن يقضيها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لما ذكرناه من حديث أم سلمة. وهل له أن يداوم على فعلها في ذلك الوقت الذي قضاها فيه بعد ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يجوز؛ لما ذكرناه في حديث أم سلمة: أنها قالت: «ثم داوم على فعلهما» .
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر قط إلا صلَّى ركعتين» .(2/356)
والثاني: لا يجوز له المداومة على ذلك؛ لأنا لو جوَّزنا له ذلك، لصارت صلاة لغير سبب.
وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان ملتزمًا للمداومة على أفعاله، فصار مخصوصًا بذلك.
وهل يكره التنفل بعد طلوع الفجر بغير ركعتي الفجر؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو إسحاق: وهل يكره ذلك صلَّى ركعتي الفجر، فيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب، ألا لا تصلُّوا بعد الفجر إلا سجدتين» .
والثاني: لا يكره؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه إلا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس) .
وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا يكره التنفل بعد طلوع الفجر لمن لم يصل ركعتي الفجر.
وذكر ابن الصباغ: أن الوجهين في كراهية التنفل بعد طلوع الفجر من غير تفصيل:
أحدهما - وهو ظاهر مذهب الشافعي -: أنه يكره، وبه قال ابن عمر، وعبد الله بن عمر، وابن المسيب، والنخعي، وأبو حنيفة.
[والثاني] : قال بعض أصحابنا: لا يكره. وبه قال مالك، والأوزاعي، والأوَّل(2/357)
أصحُّ؛ لما روي: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر» .
وصحَّ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر) .
[مسألة تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهة]
مسألة: [تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهية] : وأما اختصاص النهي في بعض الزمان: فإنه لا يكره التنفل بما لا سبب لها يوم الجمعة، عند استواء الشمس لمن حضر الجامع.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (يكره) .
دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة» .
ولأن الناس ينتظرون الجمعة، ويشق عليهم مراعاة الشمس، وربما غلبهم النوم إن قعدوا، فجوَّز لهم النفل لذلك.
وهل يكره التنفل بما لا سبب له في سائر الأوقات المنهي عن الصلاة فيها في يوم الجمعة؟ فيه وجهان:(2/358)
أحدهما: يكره؛ لأنَّ الرخصة إنما وردت في نصف النهار.
والثاني: أنه لا يكره، وهو قول أبي عليٍّ الطبري؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: (أن جهنم تُسْجَرُ في الأوقات الثلاثة في سائر الأيام إلا في يوم الجمعة) . والأول أصحُّ.
فإذا قلنا بهذا، لم يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار لمن كان في الجامع وغيره.
وإذا قلنا بالأول. . فهل يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار، لمن لم يحضر الجامع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأن الرخصة إنما وردت فيمن يحضر الجامع؛ لئلا يغلبه النوم إن قعد، وعليه مشقة في مراعاة الشمس، وهذا المعنى لا يوجد في غيره.
والثاني: لا يكره؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا يوم الجمعة» .
[مسألة النهي في بعض البلدان]
وأما اختصاص النهي في بعض البلدان: فإنه لا يكره أن يصلي صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات بمكة.
ومن أصحابنا من قال: إنما الرخصة فيها في ركعتي الطواف؛ لئلا ينقطع الطواف، فأما غير ركعتي الطواف مما لا سبب لها: فيكره.
وقال أبو حنيفة: (يكره الجميع) . والأول أصحُّ.
والدليل عنه: ما روي أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد صلاة الصبح، حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، إلا بمكة» . ولم يفرق بين ركعتي الطواف وغيرهما.(2/359)
وروى جبير بن مطعم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بني عبد مناف: مَنْ ولي منكم مِنْ أمور الناس شيئًا. . فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلَّى، أية ساعة شاء من ليل أو نهار» . وهذا عام.
قال أصحابنا: ولا فرق بمكة بين مسجدها، وبيوتها؛ لعموم الخبر.
[مسألة من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس]
فإن صلَّى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس. . لم تبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (تبطل) ؛ لأنه نُهيَ عن الصلاة في هذا الوقت.
ودليلنا ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح - وروي: "فليتم صلاته" - ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» .
ولأن أبا حنيفة وافقنا إذا اصفرت الشمس هو في صلاة العصر. . أن صلاته لا تبطل، فكذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق(2/360)
[باب صلاة الجماعة]
الجماعة في الجمعة فرض على الأعيان، فيمن وجدت فيه شرائط، نذكرها في الجمعة، إن شاء الله تعالى.
وحكى ابن الصباغ عن بعض أصحابنا: أنها فرض على الكفاية. وليس بشيء.
وأما الجماعة في سائر الصلوات: فإنها ليست بواجبة على الأعيان، ولا شرط فيها، بلا خلاف على المذهب.
واختلف أصحابنا: هل هي فرض على الكفاية، أو سُنَّة:
فذهب أبو إسحاق، وأبو عباس، وأكثر أصحابنا إلى أنها فرض على الكفاية، وهو المنصوص للشافعي في (الإمامة) .
ومن أصحابنا من قال: إنها سُنَّة؛ لأن الصلاة لا تفسد بعدمها، فكانت سُنَّة فيها، كالتكبيرات والتسبيحات، والأوَّل أصحُّ؛ لما روى أبو الدرداء: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من ثلاثة في قرية أو بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، عليك بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم» .(2/361)
واستحواذ الشيطان لا يكون إلا على ترك شيء واجب، هذا مذهبنا، وبه قال الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وداود، وأبو ثور، وابن المنذر: (الجماعة فرض على الأعيان) .
وقال بعض أهل الظاهر: الجماعة شرط في الصلاة، ولا تصحُّ صلاة المنفرد.
ودليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة» . وروي: «بسبع وعشرين درجة» ،(2/362)
ففاضل بين صلاة من صلَّى في جماعة، وبين صلاة المنفرد، والمفاضلة بينهما تدل على كونهما صحيحتين فاضلتين، إلا أن إحداهما أفضل من الأخرى.
ولأنها صلاة تؤدى جماعة وفرادى، فلم تكن الجماعة شرطًا في صحتها، كصلاة العيدين.
فإذا قلنا: إنها سُنَّة، فأطبق أهل بلد أو قرية على تركها. . فإنهم لا يأثمون، ولا يقاتلون، ولكنهم تركوا سُنَّة مؤكدة، وضيَّعوا حظ أنفسهم.
وإذا قلنا: إنَّها فرضٌ على الكفاية، فأطبقوا على تركها. . أثموا، وقوتلوا على تركها، كما لو أطبقوا على ترك الصلاة على الجنازة.
وإن ظهرت فيهم. . سقط الفرض عنهم.
قال الشيخ أبو حامد: وحدُّ ظهورها: إن كان في قرية عشرون رجلاً، أو ثلاثون، فأقيمت الجماعة في مسجد واحد في القرية. . فإن ذلك يظهر في العادة، ويعلم به أهل القرية كلهم، فيسقط الفرض عن الباقين.
وإن كانت القرية كبيرة، فأقيمت في طرفٍ منها. . لم يسقط عنهم الفرض؛ لأنها لا تظهر فيهم، وإنما يسقط الفرض بأن تقام في كل طرفٍ، وكذلك أهل البلد العظيم، كبغداد لا يسقط الفرض عنهم، حتى يقام في كلّ محلَّة في مسجد، حتى يظهر إقامتها في المحلة.(2/363)
قال أبو إسحاق المروزي: ولو أن كل واحد من أهل البلد أقام الجماعة في بيته. . لم يسقط الفرض عنهم؛ لأنها لا تظهر في البلد.
وقال ابن الصباغ: إذا أقامها في بيته، بحيث يظهر ذلك في الأسواق. . سقط الفرض بذلك.
[مسألة أقل الجماعة]
وأما أقلُّ الجماعة: فإن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في " الأمِّ " [1 137] : (وإذا كانوا ثلاثة، فصلَّى بهم أحدهم. . كان ذلك جماعة، وإن كانوا اثنين، فأمَّ كل واحد بصاحبه. . رجوت أن تجزئهما الجماعة) ، ثم قال في آخر الباب: (وإن كانوا اثنين، فصلَّى أحدهما بالآخر. . كان ذلك جماعة) .
قال الشيخ أبو حامد: والذي لا خلاف فيه على المذهب، ولا بين أحد - إن شاء الله - أن الاثنين إذا أمَّ أحدهما الآخر جماعةٌ داخلة تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» .
والدليل عليه: ما روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الاثنان فما فوقهما جماعة» .
فإن صلى في بيته بزوجته أو جاريته، أو ولده. . فقد أتى بفضيلة الجماعة.
وأما أفضل الجماعة فكلَّما كثرت فيه الجماعة. . كان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من(2/364)
صلاته مع الرجل، وما كان أكثر. . فهو أحب إلى الله تعالى» .
فإن كان بالبعد منه مسجد تكثر فيه الجماعة، وبالقرب منه مسجد فيه الجماعة أقلُّ من المسجد البعيد. . نظرت: فإن كانت جماعة المسجد القريب منه، تختل بتخلفه عنه، بأن يكون إمامًا له، أو كان مِمَّن يحضر الناس فيه بحضوره فيه. . فصلاته في المسجد القريب أفضل؛ لتحصل الجماعة في البلد في موضعين.
وإن كانت الجماعة في المسجد القريب، لا تختل بتخلفه عنه. . فالأفضل أن يصلِّي في المسجد البعيد الذي تكثر فيه الجماعة.
وحكى في " الإبانة " [ق 79] وجهًا آخر: أن صلاته في مسجد الجوار أفضل؛ لئلا يؤدي إلى تعطيل الجماعة الأخرى، والمذهب الأول، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل، أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين، أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر. . فهو أحب إلى الله تعالى» .
فإن كان إمام المسجد البعيد مبتدعًا، رافضيًّا أو معتزليًّا أو فاسقًا مظهرًا لفسقه. . فالأفضل أن يصلي في المسجد القريب، الذي تقل فيه الجماعة بكل حال.
وقال أبو إسحاق المروزي: وصلاة المنفرد أحب إليَّ من الصلاة خلف الحنفيِّ؛ لأنه لا يرى الترتيب واجبًا في الطهارة، ولا النية، ولا يرى وجوب الأركان.
وقال في "الفروع": وقيل: الصلاة خلفه أفضل من الانفراد.(2/365)
[فرع جماعة النساء]
وأما النساء: فجماعتهن في البيوت أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» .
فإن أرادت المرأة حضور الجماعة مع الرجل في المسجد، فإن كانت شابَّة أو كبيرة يُشتهى مِثلها. . كُرِه لها الحضور؛ لأنه يخاف الافتتان بها، وإن كانت كبيرة، لا يُشتهى مثلُها. . لم يكره لها الحضور؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الخروج إلى المساجد، إلا عجوزًا في مَنْقَلَيْهَا» .
و (المَنْقَلُ) - بفتح الميم -: هو الخفُّ، ولم يرد أن المنقل شرط في الرخصة، وإنما ذكره؛ لأن الغالب من العجائز لبس الخفاف.
[مسألة نية المأموم بالاقتداء]
ولا تصح الجماعة للمأموم، حتى ينوي الاقتداء بالإمام؛ لأنه يريد أن يتبع غيره، فلا بد من نية الاتِّبَاع.(2/366)
فإن صلى خلفه، وتابعه في الأفعال، ولم ينو الاقتداء به. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان:
وإن نوى الاقتداء به، ولم يعلم الإمام. . صحت صلاته.
وقال الأوزاعي: (لا تصحُّ صلاة المأموم، حتى ينوي الإمام أنه إمامٌ، وليس بشيء) .
وأما الإمام: فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق 81] ، والجويني: أنه لا يصحُّ له فضيلة الجماعة، حتى ينوي أنه إمامٌ، والذي يقتضيه المذهب: أن فضيلة الجماعة تحصل له وإن لم ينو ذلك؛ لأن هذه النية لا تصح منه عند الإحرام.
[فرع الائتمام بأكثر من إمام]
وإن رأى رجلين يصلِّيان، فنوى الائتمام بهما، أو بأحدهما، لا بعينه. . لم تصحَّ صلاته؛ لأنه لا يمكنه الائتمام بهما، وإن كان أحدهما يصلِّي بالآخر فنوى الائتمام بالمأموم. . لم تصحَّ صلاته؛ لأنه ائتم بمن ليس بإمام.
فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا وجد في مرضه خفَّة. . خرج يُهادى بين رجلين، فتقدم، فكان يؤم أبا بكر وحده، وأبو بكر يؤم الناس» .
قال أصحابنا: فالجواب: إن هذا لا يصح عند أحد من الناس، فيكون تأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إمامًا لأبي بكر وللناس، وإنما كان أبو بكر يُسمعُهُم التكبير؛ لعجز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إبلاغهم ذلك.
وإن رأى رجلين يصلِّيان، فائتم بمن على يسار القبلة، وظنه الإمام؛ لأن السُنَّة أن(2/367)
يكون ذلك موقف الإمام، ثم بان أنه كان مأمومًا، خالف سُنَّة الموقف. . لم تصح صلاة المؤتم به، لأنه بان أنه ائتم بمن ليس بإمام.
فإن صلَّى رجلان في مكان واحد، واعتقد كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر. . لم تصحَّ صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما ائتم بمن ليس بإمام، فإن اعتقد كل واحد منهما أنه إمام للآخر. . صحَّت صلاتهما؛ لأن كل واحد منهما يُصلي لنفسه، ولا يتبع غيره.
وإن فرغا من الصلاة، فشكَّ كل واحد منهما أنه كان الإمام أو المأموم. . لم تصح صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لا يدري هل صحت صلاته، أم لا؟ لأنه إن كان إمامًا. . صحَّت صلاته، وإن كان مأمومًا. . لم تصح صلاته؛ لجواز أن يكون قد نوى الاقتداء بمن ليس بإمام.
وهكذا: لو طرأ الشَّكَّ عليه في أثناء الصلاة أنه إمامٌ، أو مأمومٌ. . بطلت صلاته؛ لأنه لا يدري أنه تابع، أو متبوعٌ.
[مسألة أعذار ترك صلاة الجماعة]
] : يجوز ترك الجماعة للعذر، سواءٌ قلنا: إن الجماعة فرض على الكفاية، أو سُنَّة.
والعذر في ذلك ضربان: عامٌّ، وخاصٌ.
فأما العامُّ: فمثل: المطر، والريح في الليلة المظلمة، فأما بالنهار: فإن الريح ليس بعذرٍ، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه في الليلة المظلمة المطيرة ذات الريح: «ألا صلُّوا في رحالكم» .(2/368)
وأما الوَحَلُ: فقال أصحابنا ببغداد: هو عذرٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ابتلت النعال. . فصلُّوا في الرحال» .
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: أنع عذرٌ، كالمطر.
والثاني: ليس بعذر؛ لأنه له مُدَّةً.
قال ابن الصباغ: وكذلك الحَرُّ الشديد عذرٌ في ترك الجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر، فأبردوا بالظهر» .
وأما الأعذار الخاصة: فذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عشرة أشياء:
أحدها: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه، فيبدأُ بالأكل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضر العَشَاءُ والعِشَاءُ، وأُقيمت الصلاة. . فابدءوا بالعَشَاء» . ولأن ذلك يمنعه من الخشوع في الصلاة.
فإن كان طعامًا يمكنه أن يستوفيه قبل فوات وقت الصلاة. . استوفاه، وإن كان يخشى فوت الوقت. . أكل منه ما يسد به رمقه لا غير.
والثاني: أن تحضر الصلاة، وهو يدافع الأخبثين أو أحدهما، فيبدأ بقضاء(2/369)
حاجته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يُصلِّينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين» .
فإن خالف وصلَّى مع ذلك. . صحَّت صلاته.
وقال أبو زيد المروزي: لا تصحُّ صلاته؛ لعموم الخبر.
والمذهب الأوَّل؛ لأنه غير محدثٍ، والخبر محمول على الاستحباب، كما قلنا في العَشَاء.
الثالث: أن يكون معه مرضٌ يشق القصد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مرض العبد. . قال الله لملائكته: ما كان يصنع عبدي؟ فيقولون: كان يصنع كذا وكذا، فيقول: اكتبوا له ثواب ما كان يعمل» .
ولأنه يشق عليه القصد.
الرابع: الخوف، وهو أن يكون عليه دين، ولا مال له يُقضى منه، ويخشى أن يحبسه غريمه إن رآه، أو يخشى السلطان ظُلمًا، فله ترك الجماعة؛ لما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء، فلم يُجبه. . فلا صلاة له، إلا من عُذر. قالوا: وما العُذر يا رسول الله؟ قال: خوفٌ، أو مرضٌ» .(2/370)
الخامس: السفر، وهو أن تقام الصلاة، وهو يريد السفر، ويخشى أن ترحل القافلة، ولا يلحقها، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بتخلفه عن القافلة.
السادس: خوف غلبة النوم إن انتظر الجماعة، فله أن يشتغل بالنوم؛ لأن النعاس يمنعه من الخشوع في الصلاة، ورُبما انتقضت طهارته.
السابع: أن يكون قيِّمًا بمريض يخاف ضياعه، لأن سبب حفظ الآدمي آكد من حُرمة الجماعة، فإن كان له قيِّم سواه، إلا أنه مشتغل القلب بسببه. . ففيه وجهان:
أحدهما: له ترك الجماعة، لأن اشتغال قلبه به يمنعه من الخشوع في الصلاة.
والثاني: ليس له ترك الجماعة به؛ لأن للمريض من يقوم به.
الثامن: أن يكون له قريب منزول به، فله ترك الجماعة، ليقف عنده؛ لأن قلبه يألم بتخلفه عنه.
التاسع: أن يخاف فساد مالهِ أو ضياعه، بأن يكون الخبز على النار، فيخشى من اشتغاله بالجماعة احتراقه، أو يقدم له من سفرٍ أو من موضع مالٌ، فيخشى لو اشتغل بالجماعة تلفه أو ذهاب منه شيء، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بذلك.
العاشر: أن يكون قد ضاع له مال، يرجو إن ترك الجماعة وجوده، فيجوز له ترك الجماعة له، لأن قلبه يألم بذهاب ماله.
وذكر القاضي أبو الطيب: إذا أكل بصلاً، أو كرَّاثًا، أو ثُومًا، فإن ذلك عذرٌ في ترك الجماعة؛ لما روي: أن النبي قال: «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين، فلا يؤذنا في مسجدنا» .(2/371)
قال: وهذا إذا كان لم يمكنه إزالة هذه الرائحة بغسل فيه، أو بدواءٍ، فأما إذا أمكنه ذلك: لم يكن ذلك عذرًا.
فإن أكلهما مطبوختين. . لم يكن عذرًا في ترك حضور الجماعة؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (من أراد أكلهما، فليطبخهما) .
قال المسعودي [في " الإبانة " ق 80] : ومن الأعذار أيضًا: أن يكون عاريًا، أو يكون عليه قصاص، ويرجو العفو.
[مسألة المشي بسكينة إلى الجماعة]
] : والمستحب لمن قصد الجماعة: أن يمشي إليها على سجية مشيه.
وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى. . أسرع؛ لما روي: أن ابن مسعود استدعى إلى الصلاة، وقال: (بادروا حدَّ الصلاة) ، يعني: التكبيرة الأولى.
والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» .(2/372)
إذا ثبت هذا: فروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى لله أربعين يومًا في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى. . كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» .
واختلف أصحابنا: متى يكون مدركًا للتكبيرة الأولى؟ على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متى أدركه في الركوع من الأولى. . فإنه يكون مدركًا لها، وإن أدركه بعد الركوع في الأولى. . لم يكن مدركًا لها.
والثاني: ما لم يدرك القيام في الأولى. . لا يكون مدركًا لها.
والثالث: إن كان مشتغلاً بأسباب الصلاة، مثل: الطهارة، وما أشبه ذلك، ثم أدرك الركوع في الأولى. . فإنه يكون مدركًا لها.
وإن كان مشتغلاً بأمر الدنيا، فلا يكون مدركًا لها. . ما لم يدرك القيام فيها.
[فرع إذا لم يحضر الإمام]
فإن حضر المأمومون ولم يحضر الإمام، فإن كان قريبًا. . بُعث إليه، سواءٌ كان إمام المسجد، أو الإمام الأعظم، فإن جاء، وإلاَّ استخلف؛ لأن في تفويت الجماعة عليه تغييرًا لقلبه.
وإن كان بعيدًا. . نظرت:
فإن لم يخافوا فتنته. . قدموا واحدًا يصلَّي بهم، متى خافوا فوات أول الوقت.
وإن خافوا إنكاره وفتنته. . قال الشافعي: (انتظروه لكيلا يفتاتوا عليه، إلا أن يخافوا فوات الوقت، فلا يجوز إخراج الصلاة عن وقتها) . والأصل فيه: ما روي:(2/373)
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى صلح بني عمرو بن عوف، فقدم الناس أبا بكر، فصلَّى بهم» .
«وانصرف النبي في غزوة تبوك لحاجة، فقدَّم الناس عبد الرحمن بن عوفٍ، فصلَّى بهم، فرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلَّى خلفه ركعة، فلمَّا سلَّم. . قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى ما عليه، فلمَّا سلَّم. . قال: أحسنتم، أو أصبتم» .
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن حضر الإمام وبعض المأمومين. . فإن الإمام يصلِّي بهم، ولا ينتظر اجتماع الباقين) وإنما كان كذلك؛ لأنَّ الصلاة في أوَّل الوقت مع الجماعة القليلة أفضل من فعلها في آخر الوقت مع الجماعة الكبيرة.
[مسألة تغيير نية الاقتداء]
إذا افتتح الرجل صلاة جماعةٍ ثم نقلها على صلاة جماعة أخرى، بأن يحرم بالصلاة خلف محدثٍ أو جُنبٍ لم يعلم بحاله حال الإحرام، فعلم الإمام بجنابته أو حدثه، فخرج وتطهر ورجع، فأحرم بالصلاة، وألحق المأموم صلاته بصلاته ثانيًا، أو جاء آخر وأحرم بالصلاة، فألحق المأموم صلاته بصلاته بعد علمه بجنابة الأول أو حدثه. . قال أصحابنا: فإن ذلك يجوز، بلا خلاف على المذهب، فتكون صلاة المأموم قد انعقدت أولاً جماعة بغير إمام، ثم صارت بعد ذلك جماعة بإمام.
والدليل على ذلك ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح الصلاة بأصحابه وهو جنبٌ، فلمَّا ذكر جنابته في أثناء الصلاة. . أشار إليهم كما أنتم، وخرج فاغتسل، ورجع(2/374)
ورأسه يقطر ماءً، فأحرم بالصلاة بهم، وبنى القوم على إحرامهم الأول، وائتموا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .» .
وكلك إذا أحدث الإمام، واستخلف غيره.
وقلنا: يجوز؛ فإن المؤتم بالإمام الأول والثاني، نقل صلاته من جماعة بإمام، إلى جماعة بإمام، فيجوز ذلك؛ لما ذكرناه في الأول.
وأما إذا نقل صلاة الانفراد إلى الجماعة، بأن أحرم بالصلاة منفردًا، ثم جاء آخر، وأحرم بالصلاة، وألحق الأول صلاته بصلاة الثاني. . فهل يصح؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر الإمام. . فكبَّرُوا» . فأمر بالتكبير بعد تكبير الإمام، وهذا كبَّر قبل إمامه.
ولأن هذا كان جائزًا في أول الإسلام - أن يصلي المسبوق ما فاته، ثم يدخل مع الإمام - فنسخ، فلا يجوز فعله.
والثاني: يصحُّ، وهو الأصح؛ لـ: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمَّ الناس، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فقدمه أبو بكر، فصار أبو بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا) . ومعلومٌ: أن حكمه وهو إمامٌ مخالف لحكمه وهو مأمومٌ، فكذلك يجوز أن يكون منفردًا ثم يصير مأمومًا.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا لم يختلف ترتيب صلاة الإمام والمأموم، مثل: أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام قبل أن يركع في الانفراد. فأما إذا ركع في الانفراد: فلا يصحُّ: قولاً واحدًا؛ لأنه لا يمكنه المتابعة مع اختلاف ترتيب الصلاتين.
ومنهم من قال: القولان إذا اختلف ترتيب صلاتهما، بأن يركع في حال الانفراد. فأما إذا لم يركع في حال الانفراد: فيصح، قولاً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالتين، وهو الأصح؛ لأن الشافعي لم يفرق.(2/375)
فإذا قلنا: يصحُّ، وكان المأموم قد صلَّى في حال الانفراد ركعة، أو أكثر. . فإن المأموم إذا بلغ إلى آخر صلاته، وقام الإمام. . لم يجز للمأموم أن يقوم معه؛ لأن ذلك ليس من صلاته، بل يجلس ويتشهد، ثم هو بالخيار: إن شاء طوَّل الدعاء، حتى يفرغ الإمام من صلاته ويتشهد ويسلم، ثم يسلم بعده، وإن شاء أخرج نفسه من صلاة الإمام وتشهد وسلَّم، ولا تبطل صلاته بذلك، لأن ذلك مفارقة للعذر، وقد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في صلاة الخوف.
إذا ثبت هذا: فإن الأولى للمأموم، إذا أراد أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام. . أن يسلِّم من صلاة الانفراد، ويحرم بالصلاة خلف الإمام.
وإن دخل في صلاة نافلة، ثم أقيمت صلاة جماعة، فإن لم يخش فوات الجماعة. . أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها. . قطع النافلة، ودخل في الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من النافلة.
[فرع عدم الاشتغال عند الإقامة بغير الفريضة]
] : وإن حضر المأموم، وقد أُقيمت الصلاة. . لم يشتغل عنها بنافلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة. . فلا صلاة إلا المكتوبة» .
وإن أدرك الإمام في القيام، وخاف أن تفوته القراءة. . لم يشتغل عنها بدعاء الاستفتاح؛ لأنه نفل، فلا يشتغل به عن الفرض.
وإن قرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام قبل أن يتم المأموم الفاتحة. . ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يركع، ويترك باقي الفاتحة، وهو ظاهر النَّص في " الأمِّ "؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا ركع. . فارْكعوا» .
ولأنه لو دخل، فركع الإمام قبل أن يقرأ. . لزمته متابعته في الركوع، فكذلك هذا مثله.(2/376)
والثاني: يلزمه أن يتم الفاتحة؛ لأنه لما لزمه بعض القراءة. . لزمه إتمامها.
وإن أدركه راكعًا، فركع معه، واطمأن. . فقد أدرك هذه الركعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك الرُّكوع من الرَّكعة الأخيرة يوم الجمعة. . فليصف إليها أُخرى، ومن لم يدرك الرُّكوع. . فليصل الظهر أربعًا» .
ولأنه قد أدرك معظم هذه الركعة، فاحتسب له بها.
وإن رفع الإمام رأسه من الركوع، قبل أن يركع المأموم. . لم يحتسب له بهذه الركعة؛ لحديث أبي هريرة، لأنه لم يدرك معظمها.
وإن هوى المأموم للركوع، فتحرك الإمام في الرفع من الركوع، فإن بلغ المأموم في ركوعه موضع الإجزاء في الركوع - وهو بقدر أن يقبض بيديه على ركبته- واطمأن قبل أن خرج الإمام عن حد الإجزاء في الركوع. . اعتد للمأموم بهذه الركعة؛ لأنه قد أدرك معه الركوع.
وإن لم يبلغ المأموم أول حد الإجزاء، حتى خرج الإمام عن حد الركوع. . لم يعتد للمأموم بهذه الركعة، كما لو أدركه بعد الرفع من الركوع.
[فرع نسيان التسبيح في الركوع]
: [نسيان التسبيح في الركوع] : فإن ركع الإمام، فنسي التسبيح في الركوع، فرفع رأسه، ثم رجع إلى الركوع، ليُسبح. . فظاهر كلام الشافعي: أن صلاة الإمام لا تبطل بذلك.
قال الربيع: وفيه قولٌ آخر: (أن صلاته تبطل) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:(2/377)
فحيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا كان الإمام جاهلاً بتحريم ذلك؛ لأنه زاد في صلاته زيادة من جنسها جاهلاً.
وحيث قال: (تبطل) أراد إذا كان عالمًا بتحريم ذلك.
فإن أدركه المأموم في هذا الركوع الثاني، في موضع لا تبطل فيه صلاة الإمام. . لم يحتسب له بهذه الركعة.
ومن أصحابنا من قال: يحتسب له بهذه الركعة، كما لو أدرك معه الركعة الخامسة.
والمذهب الأول؛ لأن هذا الركوع لا يحتسب للإمام به، ويخالف إذا أدركه في الخامسة؛ لأن المأموم قد أتى بأفعال الركعة كلَّها، وها هنا لم يأت بكمال الركعة، والذي أدركه مع الإمام، فليس من صلب صلاته، فوزان هذا من مسألتنا: أن يدركه المأموم في الركوع في الخامسة، فإنه لا يحتسب له بهذه الركعة أيضًا، وهذا كما نقول فيمَنْ صلَّى خلف جُنُبٍ، لم يعلم بحاله، فإن صلاة المأموم تجزئه؛ لأنه قد أتى بها كاملة، ولو أدرك الجنب في الركوع. . لم يعتد له بهذه الركعة؛ لأن القراءة إنما تسقط بفعل إمام صحيح.
[فرع إدراك الإمام ساجدًا]
وإن أدرك الإمام ساجدًا. . فإنه يكبر للافتتاح قائمًا، ثم يخرُّ على السجود من غير تكبير.
ومن أصحابنا من قال: يخرُّ بتكبير، كما لو أدركه راكعًا.
والمذهب الأول؛ لأن هذا ليس بسجود معتد به للمأموم، بخلاف ما لو أدركه راكعًا.
وإن أدرك مع الإمام السجدة الأخيرة. . لم يعد الأولى.
قال في "الفروع": وقد قيل: يعيد الأولى. وليس بشيء.(2/378)
وإن أدركه قاعدًا للتشهد. . فإنه يخرُّ إلى الجلوس من غير تكبير، وجهًا واحدًا، وقد نص الشافعي عليه في " البويطي ".
والفرق بينه وبين الركوع والسجود: أن الجلوس عن القيام في الصلاة لم يشرع بحال، فلم يكبر له بخلاف الركوع والسجود.
وهل يتشهد مع الإمام؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يتشهد معه) كما يقعد، وإن لم يكن موضع قعوده.
والثاني: لا يتشهد، لأن هذا ليس بموضع تشهده.
فإذا قلنا: يتشهد. . فإنه لا يكون واجبًا عليه؛ لأنه إنما يلزمه متابعة الإمام في الأفعال، دون الأذكار. فإن كان هذا في التشهد الأول. . فإن الإمام إذا قام. . فإن المأموم يقوم معه بتكبير؛ لأنه يقوم على ابتداء ركعة.
وإن كان أدركه في التشهد الأخير، فسلَّم الإمام. . فإن المسبوق يقوم من غير تكبير، لأن هذا ليس بابتداء ركعةٍ له، وإنما هو أثناء ركعةٍ، وليس له إمامٌ مُكبرٌ، فيتبعه، وإذا قام، فإنه يبتدئ بالقراءة، ولا يُسن له الابتداء بدعاء الاستفتاح؛ لأن دعاء الاستفتاح قد فات محله؛ لأنه إنما يؤتى به عقيب تكبيرة الافتتاح.
[فرع حكم ما أدركه المسبوق]
وما أدرك المأموم مع الإمام، فهو أول صلاة المأموم فعلاً وحُكمًا، وبه قال عُمر وعليٌّ، وأبو الدرداء، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن(2/379)
البصري، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف: (ما أدركه مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه بعد سلام الإمام هو أول صلاته) .
وأبو حنيفة يقول: (هو آخر صلاته حُكمًا، وأوَّلها فعلاً، وما يقضيه بعد سلام الإمام، هو أول صلاته حكمًا، وآخرها فعلاً) .
وحجَّتُهم: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» .
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم. . فصلُّوا، وما فاتكم. . فأتموا» .
وحقيقة الإتمام هو: البناء على ابتداء تقدم.
وأما قوله "فاقضوا": فلا حُجَّة فيه؛ لأنَّ القضاء يُستعمل في ابتداء الفعل، ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] [النساء: 103] ، أي: فإذا فعلتم، فيكون معناه: فاقضوا آخر صلاتكم.
فعلى هذا: إذا أدرك معه الأخيرة من الصبح. . أعاد القنوت في الركعة الثانية.
[فرع تعداد الجماعة في المسجد]
إذا كان للمسجد إمامٌ راتبٌ، مثل مساجد المحال والدُّروب، فأُقيمت فيه الجماعة. . كُره إقامة الجماعة فيه مرة أخرى.
قال الشافعي: (لأن السلف من الصحابة والتابعين لم يفعلوا هذا، بل قد عابه بعضهم) ، ولأنه قد يكون بين الإمام، وبعض الجيران شيءٌ، فيقصد إلى أن يصلِّي بعده جماعة في ذلك المسجد مغايظة للإمام، فيؤدي ذلك إلى تفريق كلمتهم، وتأكد عداوتهم.
وحكى في " الإبانة " [ق 79] وجهًا آخر: أنه يُنْدَب إلى إقامة الجماعة بكل حال.(2/380)
وبه قال عطاء، والحسن، والنخعي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، والمشهور هو الأول.
وأما إذا كان المسجد ينتابه الناس من كل جهة، مثل مساجد الأسواق، والجوامع.. فإنه لا تكره إقامة الجماعة فيه مرارًا؛ لأنه لا يؤدي إلى تفريق الكلمة، وتأكيد العداوة.
ويستحب لمن صلَّى ثم رأى رجلاً يصلِّي وحده أن يصلِّي معه؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلاً يصلِّي وحده، فقال: «ألا رجلٌ يتصدق عليه، فيصلي معه» .
[مسألة استحباب إعادة الصلاة]
] : إذا صلَّى صلاة، ثم أدركها في جماعة.. فالمستحب: أن يعيدها مع الجماعة، سواءٌ كان قد صلَّى الأولى منفردًا، أو في جماعة. وبه قال عليٌّ، وحذيفة، وأنس بن مالك، إلا أن الصحابة قالوا في المغرب: (إذا أعادها، وسلم الإمام.. أضاف إليها أخرى وسلم) . وبه قال محمد.
وعندنا: لا يضيف إليها.
ومن أصحابنا من قال: يعيدها إذا كان قد صلاَّها منفردًا، وإن كان صلاَّها في جماعة. . لم يعدها؛ لأن فضيلة الجماعة قد حازها.
ومن أصحابنا من قال: يعيد الصلوات كلَّها، إلا الصبح والعصر، فإنه لا يعيدهما؛ لأنه نُهي عن النافلة بعدهما. وبه قال الحسن البصري.(2/381)
وذهب آخرون إلى أنه يعيد كل صلاة صلاها، إلا المغرب، فإنه لا يعيدها؛ لئلا تصير شفعًا. ذهب إليه ابن مسعود، ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري.
وقال أبو حنيفة: (لا يعيد إلا الظهر والعشاء) .
دليلنا: ما روى يزيد بن الأسود العامري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته.. رأى رجلين في آخر القوم لم يُصليا معه، فقال: "عليَّ بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، فقالا: يا رسول الله، قد كنا صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة.. فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة» . ولم يفرق بين الصلوات، ولا بين أن يصلي وحدهُ، أو في جماعة.
إذا ثبت هذا: فما ينوي الثانية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق 79] :
أحدهما: ينويها فرضًا.
والثاني: أنه بالخيار بين أن ينويها فرضًا، وبين أن يطلق.
وبم يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (يسقط عنه الفرض بالأولى) . وبه قال أبو حنيفة.
و [الثاني] : قال في القديم: (يحتسب الله له بأيَّتهما شاء؛ لأنه إنما استحب له إعادة الفريضة؛ ليكملها بالجماعة) . فلو كانت الثانية نافلة.. لم يستحب له الجماعة.
وقال الشعبي، والأوزاعي: (الجميع فرضه) .(2/382)
والأول أصحُّ؛ لحديث يزيد بن الأسود، ولأنه لا يجب عليه الإعادة مع الجماعة، فدلَّ على أن الفرض قد سقط عنه بفعل الأولى.
[مسألة ما يستحب للإمام]
ويستحب للإمام ألا يكبر حتى يلتفت يمينًا وشمالاً، ويقول: سوُّوا صفوفكم، لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة» .
وروي عن أبي مسعود البدري: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم» .
قال ابن الصباغ: ومعناه: إذا اختلف القوم، فتقدم بعضهم على بعض.. تغير قلب بضعهم على بعض، وذهب عن الصلاة.
وروي: (أنه كان لعمر قومٌ يأمرهم بتسوية الصفوف، فإذا رجعوا. . كبَّر) .
ويستحب له أن يخفِّف في القراءة والأذكار،؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلَّى أحدكم بالناس.. فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف، وذا الحاجة، فإذا صلَّى لنفسه.. فليطول ما شاء»(2/383)
فإن صلَّى وحده.. طوَّل ما شاء؛ للخبر، وكذلك إذا صلَّى بقوم، يعلم أنهم يؤثرون التطويل.. فلا بأس بالتطويل.
[فرع تطويل الإمام للحوق المصلين]
إذا كان يصلِّي في مسجد، جرت العادة بأن الجماعة إذا أقيمت فيه. . أتاه الناس فوجٌ بعد فوج، كمساجد الأسواق، فأراد الإمام أن يطول فيه الصلاة لكي تكثر الجماعة.. قال أصحابنا: فلا خلاف على المذهب أن هذا الانتظار مكروه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمَّ أحدكم. . فليُخفف» .
وهكذا: إذا طوَّل الإمام الصلاة؛ لحضور رجل له محل، لِدِينه، أو علمه، أو دنياه. . فلا خلاف أن هذا الانتظار مكروهٌ، لما ذكرناه في الأول.
فأما إذا ركع الإمام، فأحس في ركوعه برجل دخل المسجد، يريد الصلاة. . فهل ينتظره؟ فيه قولان:
أحدهما: ينتظره، وبه قال أبو حنيفة.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصحُّ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي، وقد أجلس الحسن بن عليٍّ بين يديه، فلمَّا سجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. ركب الحسن ظهره، فانتظره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل، فلمَّا فرغ من صلاته.. قيل له: لم أطلت السُّجود؟ فقال: إن ابني كان ارْتحلني، فأطلت السُّجود؛ ليقضي وطره» .(2/384)
فإذا كان هذا الانتظار لغير من هو في الصلاة، فلمن يريد الصلاة أوْلى.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة، ومعلومٌ: أن حال من يقتل الحيَّة والعقرب مشغول عن الصلاة، فلأن ينتظر رجلاً مسلمًا؛ ليلحق معه الصلاة أولى.
والثاني: لا ينتظره، قال في "الفروع": وهو الأصحُّ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمَّ أحدكم فليخف» . ولم يفرق.
ولأن كل من لم ينتظره في غير الركوع، لم ينتظره في الركوع، كما لو أحس به قبل أن يدخل المسجد.
ولأن الجماعة كلّما كثرت كان أفضل، فلمَّا لم يكن للإمام أن يطول لتكثر الجماعة فالرجل الواحد أولى ألا يطوَّل له.
ولأنه إذا لم ينتظره، وفوت عليه الركعة كان ذلك زجرًا له، وتأديبًا له عن التأخر عن الجماعة.
ومن قال بهذا: قال: إنما انتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزول الحسن؛ لأنه خاف سقوطه.
ومن أصحابنا من قال: ينتظره يسيرا، ولا ينتظره كثيرا.
ومن أصحابنا من قال: إن كان هذا الداخل له عادة بحضور المسجد وملازمة الجماعة جاز انتظاره، وإن كان غريبًا لم يجز.
وحكى صاحب " الإفصاح ": أن مِنْ أصحابنا مَنْ قال: إن كان الانتظار لا يضرُّ بالمأمومين، ولا تدخل عليهم مشقة، كانتظار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنزول الحسن عن ظهره، وكرفعه لأمامة بنت أبي العاص، ووضعه؛ جاز قولاً واحدًا.
وإن كان ذلك ممَّا يطوِّل ففيه قولان.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:(2/385)
فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يحرم هذا الانتظار، ولا يستحب ولا تبطل به الصلاة، وإنما القولان في الكراهة.
وقال القاضي أبو الطيب: القولان في الاستحباب لا في الكراهة.
وقال أبو إسحاق المروزي: فيه قولان:
أحدهما: يكره. والثاني: يستحب. وهذه طريقة الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ".
وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 79] : أن من أصحابنا من قال: القولان في البطلان.
وإن أحس به، وهو في التشهد قبل السلام بجزءٍ فهل ينتظره؟ فيه قولان؛ لأنه يدرك الجماعة.
وإن أحس به في غير ذلك من أحوال الصلاة لم ينتظره، قولاً واحدًا؛ لأنه إن كان قبل الركوع فهو يدرك الركعة في الركوع، وإن كان بعد الركوع، فقد فاتته الركعة، فلا معنى لانتظاره.
[مسألة سبق الإمام]
] : ينبغي للمأموم ألا يتقدم الإمام بشيء من أفعال الصلاة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، فإذا سجد، فاسجدوا، ولا ترفعوا قبله» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أما يخشى أحدكم الذي يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار» .(2/386)
فإن كبَّر للإحرام معه أو قبله، ونوى الاقتداء به لم تنعقد صلاته؛ لأنه نوى الاقتداء بغير مُصلٍّ، مع العلم به، فلم تصحَّ صلاته، كما لو نوى الاقتداء بمحدث، مع العلم بحاله.
فإن سبقه بركن، بأن ركع قبله، أو سجد قبله، فقد قال: بعض أصحابنا: يستحب له أن يعود إلى القيام؛ ليركع مع الإمام من قيام.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (يلزمه أن يعود إلى متابعته؛ ليكون مُتَّبعًا لإمامه، فإن لم يفعل لم تبطل صلاته؛ لأنه يسير) .
فإن ركع قبل الإمام، أو سجد عامدًا، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا تبطل؛ لأن الشافعي لم يفرق بين السهو والعمد، وعلل: بأنه يسير.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تبطل؛ لأنه فارق الإمام بغير عذر، فإن ركع قبل الإمام، فلمَّا أراد الإمام أن يركع رفع المأموم رأسه، فلمَّا أراد الأمام أن يرفع رأسه سجد المأموم، فقد سبقه بركنين، فإن فعل هذا عامدًا بطلت صلاته؛ لأن ذلك مفارقةٌ كثيرة.
وإن فعل ذلك جهلاً لم تبطل صلاته، ولا تحتسب له بهذه الركعة؛ لأنه لم يتبع الإمام معظمها.
فإن ركع قبل الإمام، ورفع رأسه، وأدركه الإمام في حال الرفع فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 79] .
وإن ركع قبل الإمام، ثم وقف حتى ركع الإمام، ثم رفع رأسه من الركوع قبل الإمام، ثم وقف حتى رفع الإمام رأسه، ثم سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام، ثم رفع(2/387)
رأسه قبل الإمام، وفعل ذلك في صلاته كلها، قال الشيخ أبو حامد: بطلت صلاته.
وإن سجد قبل الإمام سجدتين ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل صلاته أيضًا؛ لأنه سبقه بركنين، وهما السجدتان، والجلسة بينهما.
والثاني: لا تبطل؛ لأن السجدتين والجلسة بينهما، ركن واحد.
[فرع تسبيح المقتدي]
وإن سها الإمام في فعل سبح له المأموم، فإن وقع له السهو عمل بقوله.
وإن لم يقع له أنه سها فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: يعمل على يقين نفسه، ولا يرجع إلى قولهم؛ لأن من شكَّ في فعل نفسه لم يرجع إلى قول غيره، كالحاكم إذا نسي حُكمًا حكم به، فشهد شاهدان عليه أنه حكم به، وهو لا يذكره.
وقال أبو عليٍّ في " الإفصاح ": إن كان خلف الإمام جماعة عظيمة، بحيث يعلم أن تلك الجماعة لا يجوز اجتماعهم على الخطأ رجع إليهم، وإن كانت قليلة عمل الإمام فيما يثبت عنده، ولم يلتفت إليهم.
ووجه قوله: حديث ذي اليدين، الذي ذكرناه فيما يفسد الصلاة.
[مسألة مفارقة الإمام]
] : وإن نوى المأموم مفارقة الإمام، وأتم لنفسه، فإن كان لعذر، مثل: أن ترحل القافلة، ويخشى إن شغل بالصلاة مع الإمام فاتته القافلة، أو وقع الحريق في ماله، أو خاف على مريض له منزول به الموت جاز له ذلك، ولا تبطل به صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرَّق الناس بذات الرِّقاع فرقتين، فصلَّى بفرقة ركعة، ثم أتموا لأنفسهم» . وهذه مفارقة لعذر.(2/388)
وإن فارقه لغير عذر، فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان:
أحدهما: تبطل صلاته، وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبَّروا، وإذا ركع فارْكعوا» . فأمر بمتابعة الإمام، فمن خالفه فقد دخل تحت النهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام، أن يحول الله رأسه رأس حمار» فلو كان هذا جائزًا، لما توعده.
ولأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم، فلا يجوز أن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى، كالظهر والعصر، وفيه احترازٌ ممَّن انتقل من القصر إلى التمام، أو ممَّن خرج عنه وقت الجمعة، فأتم الظهر.
والقول الثاني: لا تبطل صلاته، وهو الأصحُّ؛ لما روى جابر: «أن معاذًا كان يُصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العِشاء، ثم يأتي قومه في بني سلمة، فيُصليها بهم، فلمَّا كان ذات ليلة أخَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العِشَاء، فصلَّى معاذ معه، ثم أتى قومه، وافتتح الصلاة بسورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه، وصلَّى لنفسه، فقالوا له: نافقت، فقال: لآتين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه، فأخبره بذلك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفتَّانٌ أنت معاذ» ولم يأمر الذي انفرد عنه بالإعادة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا انفراد من غير عذر؛ لأنه لم يكن مسافرًا، ولا يخشى على ماله، وإنما هرب من تطويله.
ولأن الانفراد عن الإمام، لو كان يبطل الصلاة لأبطلها وإن كان لعذر، كالأكل والشرب في الصوم.(2/389)
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا تبطل صلاته، قولاً واحدًا، ولا يُعرف القول الآخر للشافعي، وإنما يكره له ذلك؛ لحديث معاذ.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر أن انفراد الأعرابي عن معاذ لعذر.(2/390)
[باب صفة الأئمة]
إذا كان الصبي ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، وهو مميز من أهل الصلاة؛ صحَّت إمامته للبالغين في الفرض والنفل.
وهل يصحُّ أن يكون إمامًا في الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصحُّ؛ لأن الإمام شرط في الجمعة، وصلاة الصبي نافلة.
والثاني: يصحُّ؛ لأن من صحَّ أن يكون إماما في غير الجمعة؛ صحَّ أن يكون إمامًا في الجمعة كالبالغ، هذا مذهبنا.
وقال مالك: (يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض) .
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: (أن الصبي لا صلاة له، وإنما يؤمر بفعلها؛ لكي يتعلمها، ويتمرَّن عليها، فإذا فعلها؛ كانت تشبه الصلاة) .
فعلى هذه الرواية: لا يكون إمامًا لغيره.
والرواية الثانية: (أن صلاة الصبي صحيحة، وهي نافلة) .
فعلى هذه الرواية: يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض.
دليلنا: ما روي «عن عمرو بن سلمة: أنه قال: كنت غلامًا قد حفظت قرآنًا كثيرًا، فانطلق بي أبي وافدًا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومه، فعلَّمهم الصلاة، وقال: "يؤمُّكم أقرؤكم لكتاب الله"، وكنت أُصلِّي بهم، وعلى جنائزهم، وأنا ابن سبع سنين، أو ثمان سنين» .(2/391)
فموضع الدليل من هذا: أن القوم إنما قدموا به على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليعرفوه أنه أقرؤهم، فلما عرف ذلك قال: «يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله» ، ولا أقرأ هناك غيره، فكأنه قال: يؤمكم هذا.
وروي عن عائشة أنها قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكتاب، ليصلوا بنا قيام رمضان ".
[مسألة إمامة من ليس أهلًا لها]
] : ولا تصح إمامة الكافر؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى الكافر، لم يحكم بإسلامه بنفس الصلاة.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا صلى الحربي في دار الحرب، حكم بإسلامه.
وقال المحاملي: يحكم بإسلامه في الظاهر، ولكن لا يلزمه حكم الإسلام بذلك.
والمذهب الأول: وقال أبو حنيفة: "إن صلى منفردًا لم يحكم بإسلامه، وإن صلى في جماعة؛ استدللنا بذلك على إسلامه".
وقال محمد بن الحسن: إذا صلى في المسجد حكم بإسلامه، سواء صلى في جماعة أو منفردًا، وكذلك إذا أذن حيث يؤذن المسلمون، أو حج، أو طاف فإنه يحكم بإسلامه.
وقال أحمد: "يحكم بإسلامه بالصلاة بكل حال".
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن(2/392)
محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
فمن قال: يحرم قتاله بالصلاة فقد خالف ظاهر الخبر.
وروي: «أن رجلًا مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم الغنيمة، فقال: يا محمد، اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ويلك، إذا لم أعدل، فمن يعدل"، ثم مر الرجل، فوجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وراءه ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه عمر ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: "إنك لن تدركه"، فذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يجده» .
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله؛ لأنه نسبه إلى الجور، وذلك يوجب كفره، وقد علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبر أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يصلي، فدل على أنه لا يصير مسلمًا بنفس الصلاة.
ولأنها عبادة من شرطها تقديم الإيمان، فوجب ألا يكون فعلها دلالة على الإسلام، كصوم رمضان، وزكاة المال، وأما إذا أتى الكافر بالشهادتين: فإن أتى بهما على سبيل الحكاية، مثل: أن يقول: سمعت أن فلانًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لم يكن هذا إسلامًا منه، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنه حكى ذلك عن غيره، كما أن من حكى الكفر لا يكون كافرًا.
وإن أتى بهما على وجه الإجابة لاستدعاء غيره، بأن قيل له: قل: أشهد أن لا إله(2/393)
إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال ذلك، وبرئ من كل دين خالف الإسلام حكم بإسلامه، بلا خلاف.
وإن أتى بالشهادتين من غير استدعاء، أو أتى بهما في الصلاة، أو في الأذان ففيه وجهان، ذكرناهما في الأذان:
أحدهما: يحكم بإسلامه، وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح؛ لأنه قد أتى بالشهادتين على سبيل الحكاية، فهو كما لو دعي إليهما فأجاب.
والثاني: لا يحكم بإسلامه؛ لأنه متردد بين: أن يكون أراد به الإخبار عن غيره، أو الإسلام.
وروي: (أن أبا محذورة، وأبا سامعة كانا مؤذنين على سبيل الحكاية قبل إسلامهما) .
[فرع صلاة كافر بمسلم]
] : وإذا صلى الكافر بالمسلمين عزر؛ لأنه أفسد على المسلمين صلاتهم، واستهزأ بدينهم.
وحكي عن الأوزاعي: أنه قال: (يعاقب) ، ولعله أراد: التعزير.
وهل تجب الإعادة على من صلى خلفه؟ ينظر فيه:
فإن علم بحاله قبل الصلاة لزمته الإعادة؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة مع العلم بها.
وإن لم يعلم بحاله نظرت: فإن كان كافرًا متظاهرًا بكفره، كاليهودي، والنصراني، والمجوسي لزمته الإعادة؛ لثلاثة معان:(2/394)
أحدها: أنه قد ترك الاستدلال عليه بالعلم الظاهر، وهو الزنار، والغيار، فكان مفرطًا.
والثاني: أن العادة جرت أن الكافر لا يحسن أن يصلي كصلاة المسلمين، إذا لم يتعودها، فأما إذا لم ينبه المسلم لذلك: كان مفرطًا.
والثالث قاله الشافعي: (أنه ائتم بمن لا يجوز له الائتمام به بحال، فلزمته الإعادة، كما لو صلى خلف امرأة) .
وإن كان كافرًا مستترًا بكفره، كالزنديق والملحد ففيه وجهان:
أحدهما وهو المنصوص: (أن عليه الإعادة) ؛ لأنه ائتم بمن لا يجوز الائتمام به بحال.
والثاني: لا إعادة عليه؛ لأنه لم يفرط، فهو كما لو صلى خلف جنب.
[فرع الكافر يسلم ويؤم الناس ثم يرتد]
] : وإذا أسلم الكافر، وصلى خلفه رجل، فلما فرغ من الصلاة قال الإمام: قد كنت جحدت الإسلام، وارتددت؛ قال الطبري: فإن صلاة المؤتم به لا تبطل؛ لأنه إذا عرف منه الإسلام، لم يزل عن حكمه، إلا بأن يسمع منه الجحود، وقد سمع منه ذلك بعد الصلاة، فلم يحكم ببطلان الصلاة.
فإن كان له حال ردة، وحال إسلام، فصلى خلفه، ولم يدر في أي حالتيه صلى؟ قال الشافعي: (أحببت له أن يعيد، فإن لم يفعل لم يجب؛ لأن الأصل هو الإسلام) .
وإن صلى خلف غريب، لا يدري أمسلم هو، أم كافر؟ لم تكن عليه الإعادة؛ لأن الظاهر من أمر من يصلي، أنه مسلم.(2/395)
[فرع الصلاة خلف الفساق]
] : وأما الصلاة خلف الفساق والمبتدعين: فقال الشيخ أبو حامد: المخالفون لنا على ثلاثة أضرب:
[الأول] : قوم نخطؤهم ولا نكفرهم، ولا نفسقهم، كأصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومن أشبههم، فهؤلاء يجوز الائتمام بهم ولا يكره، إلا أن يعلم أنهم تركوا شيئًا من فروض الطهارة، والصلاة، مثل: ترتيب الطهارة، أو النية، أو قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو غير ذلك، فلا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا أتوا بواجبات الطهارة والصلاة لم يؤثر اعتقادهم في كون هذه الأشياء غير واجبة في الصلاة، ولا يأثمون بذلك.
وذكر صاحب " الإبانة " في الائتمام بهم ثلاثة أوجه:
أحدها: هذا؛ لما ذكرناه.
والوجه الثاني حكاه في " النهاية "، عن الإمام أبي إسحاق الإسفراييني: أنه لا يصح الائتمام بهم، وإن أتوا بجميع الواجبات في الطهارة والصلاة عندنا؛ لأنهم يعتقدون ذلك نافلة.
والثالث وهو قول القفال: أنه يصح الائتمام بهم، وإن لم يأتوا بشيء من الواجبات عندنا؛ لأنه يحكم بصحة صلاتهم في الشرع، بدليل أنه لا يباح قتلهم، فلو لم يحكم بصحة صلاتهم؛ لوجب قتلهم.
الضرب الثاني: من نكفرهم، وهو من يقول بخلق القرآن، وقد نص الشافعي على كفر من يقول بخلق القرآن، وكذلك الغلاة من الرافضة الذين يقولون: إن عليًّا كان نبيًّا، وإن جبريل غلط.(2/396)
والجهمية والقدرية كفار، فهؤلاء لا يصح الائتمام بهم.
قيل للشيخ أبي حامد: فمن ينفي الرؤية يحكم بكفره؟ فقال: لا ينفي الرؤية إلا معتزلي.
الضرب الثالث: قوم نفسقهم ولا نكفرهم، وهم الذين يسبون السلف ويكفرونهم، وكذلك من يشرب الخمر ويزني، ويأخذ الأموال غصبًا؛ فتكره الصلاة خلفهم، وإن صلي خلفهم صحت الصلاة.
وقال مالك: من فسق بغير تأويل: كشارب الخمر، والزاني لا تصح الصلاة خلفه، ومن فسق بتأويل كمن يسب السلف ويكفرهم تصح الصلاة خلفه) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، و (الفاجر) : هو الفاسق.(2/397)
ولما روي: (أن ابن عمر وأنسًا كانا يصليان خلف الحجاج) ولا نشك في فسقه.
[فرع إمامة المرأة]
] : ولا يجوز أن تكون المرأة إمامًا للرجل ولا للخنثى، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال أبو ثور والمزني، ومحمد بن جرير الطبري: (يجوز أن تكون إمامًا للرجل في التراويح، إذا لم يكن قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فلو قدمناهن فعلنا ما نهينا عنه.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تؤم امرأة رجلًا» .
فإن صلى خلفها، ولم يعلم بحالها ثم علم؛ لزمته الإعادة؛ لأن عليها أمارة تدل على كونها امرأة؛ فلم يعذر في الائتمام بها.(2/398)
[فرع إمامة المرأة بالخنثى]
] : ويجوز أن تأتم المرأة بالخنثى المشكل؛ لأنه لا بد أن يكون رجلًا أو امرأة، وصلاة المرأة خلفهما صحيحة، ولا يجوز أن يكون الخنثى إمامًا للرجل، ولا للخنثى؛ لجواز أن يكون الإمام امرأة، والمأموم رجلًا.
فإن صلى الخنثى خلف امرأة؛ فإنا نأمره بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان أنه امرأة، فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان، حكاهما أبو علي السنجي.
وكذلك إذا صلى الرجل خلف الخنثى، أمر الرجل بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان الخنثى رجلًا، فهل يلزم المؤتم به الإعادة؟ على القولين المحكيين.
وهكذا: إذا صلى الخنثى خلف الخنثى، أمر المأموم بالإعادة فلو لم يعد، حتى بان أنه امرأة، أو بان أن الإمام رجل، أو بانا امرأتين، أو رجلين؛ فهل يلزم المأموم الإعادة؟ على القولين المحكيين على أبي علي السنجي:
أحدهما: تلزمهم الإعادة، وهو الصحيح؛ لأنهم استفتحوا الصلاة، وهو شاكون في صحتها، فلم تصح بالتبين، كما لو دخل في الصلاة، وهو شاك بدخول الوقت، وبان أن الوقت كان قد دخل.
والثاني: لا تلزمهم الإعادة؛ لأنا تبينا أنهم صلوا خلف من تصح صلاتهم خلفه.
قال أصحابنا: ولهذه المسألة نظائر:
منها: إذا باع الرجل مال أبيه، وهو يظن أنه حي، فبان أنه كان ميتًا؛ فهل يصح البيع؟ فيه قولان.
ومنها: إذا وكل وكيلًا في ابتياع شيء، فباعه على توهم أنه لم يكن اشتراه الوكيل له، وكان قد اشتراه؛ فهل يصح بيعه؟ فيه قولان.(2/399)
وكذلك القولان، لو كان عبدًا فأعتقه.
وأصلها: إذا كاتب عبده كتابة فاسدة، ولم يعلم بفسادها، ثم باعه، أو وصى برقبته فهل يصح؟ فيه قولان، نص عليهما في " مختصر المزني ".
[فرع إمامة المجنون]
] : ولا تصح الصلاة خلف المجنون؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، وإن كان له حال إفاقة، وحال جنون، فصلى خلفه، ولم يعلم في أي حالتيه صلى، قال صاحب " الفروع ": فالصلاة جائزة قياسًا على ما قاله الشافعي في المرتد، قال: ويحتمل ألا تصح الصلاة؛ لأن المجنون يوقف عليه بأحواله في الأغلب.
[مسألة إمامة الجنب]
] : ولا تصح الصلاة خلف المحدث والجنب؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى خلفه، ولم يعلم بحاله، ثم علم، فإن كان في غير الجمعة لم تلزمه الإعادة، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، ومن التابعين: الحسن،(2/400)
والنخعي، وابن جبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور.
وقال الشعبي، وابن سيرين، وحماد، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا تصح صلاة المؤتم به بكل حال) .
وقال مالك: (إن كان الإمام عالمًا بحدث نفسه أو جنايته؛ لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان غير عالم به صحت) .
وحكى ابن القاص، وصاحب " الفروع ": أن هذا قول آخر للشافعي، وليس بمشهور.
وقال عطاء: إن كان حدث الإمام جنابة لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان حدثه غير جنابة، فإن علم به في الوقت أعاد، وإن خرج الوقت لم يعد.
ودليلنا: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة الفجر، وأحرم الناس خلفه، فذكر أنه جنب، فأومأ إليهم أن مكانكم، ثم خرج، واغتسل، ورجع ورأسه يقطر ماء، وأحرم بالصلاة» .
ولم يأمرهم بالإعادة، وإنما أومأ إليهم؛ لأن الكلام إلى المصلي يكره.
وكذلك روي عن أبي بكر وعمر: أنهما فعلا مثل ذلك.(2/401)
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سها الإمام، فصلى بقوم، وهو جنب، فقد مضت صلاتهم، ثم يغتسل هو ويعيد» .
وإن كان هو على غير وضوء فمثل ذلك.
ولأنه ليس على حدثه أمارة تدل عليه، فعذر في الصلاة خلفه.
فإن كان هذا في صلاة الجمعة، فإن كان الإمام تمام الأربعين، لم تصح صلاتهم؛ لأنه فقد شرط الجمعة، وهو العدد.
وإن كان زائدًا على الأربعين فحكى صاحب " التلخيص " فيه قولين، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الإمام شرط فيها، ولم يوجد.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن العدد قد وجد، وحدث الإمام لا يمنع صحة الجماعة فيها، كما لا يمنع في سائر الصلوات.
إذا ثبت هذا: وعلم المأموم بجناية الإمام، أو حدثه نوى مفارقته، وأتم لنفسه، وإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته؛ لأنه يعتقد أنه في غير صلاة، والائتمام بغير مصل لا يصح.
وإن علم الإمام بجنابة نفسه أو حدثه، فإن كان لم يمض من عدد الركعات شيء، وكان موضع طهارته قريبًا أومأ إليهم: كما أنتم، ومضى وتطهر ورجع، وأحرم بالصلاة وتبعوه، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن كان موضع طهارته بعيدًا، فقد قال الشافعي في القديم: (يصلون لأنفسهم) .(2/402)
فمن أصحابنا من قال: إنما ذلك في القديم؛ لأن الاستخلاف لا يصح في القديم.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك؛ ليخرج من الخلاف؛ لأن الناس قد اختلفوا في صحة الصلاة بإمامين.
وإن ذكر ذلك بعد أن صلى بهم ركعة أو أكثر، فإنهم لا ينتظرونه؛ لأنه إذا عاد وصلى بهم فإنهم يفارقونه، إذا أتموا صلاتهم، وإن كان لا بد لهم من مفارقته، لم ينتظروه.
[فرع إمامة المتيمم]
] : ويجوز أن يصلي المتوضئ خلف المتيمم.
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنه لا يجوز ذلك) .
دليلنا: حديث عمرو بن العاص الذي ذكرناه في (التيمم) .
وهل تصح صلاة الطاهرة خلف المستحاضة؟ فيه وجهان.
أحدهما: تصح، كما تصح صلاة المتوضئ خلف المتيمم.
والثاني: لا تصح؛ لأن المستحاضة لم تأت بالطهارة عن النجس، ولا بما يقوم مقامها.
[مسألة مرض الإمام]
] : إذا مرض الإمام، وعجز عن القيام في الصلاة، فالأفضل أن يستخلف من يصلي بهم قائمًا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض مرضه الذي توفي فيه، استخلف أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصلى بالناس سبعة عشر يومًا، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يخرج في بعض الأوقات، ويصلي بهم قاعدًا» ، وإنما فعل هذا مرة، أو مرتين؛ ليبين الجواز، وأكثر أمره الاستخلاف، فدل على أنه أفضل.
فإن صلى قاعدًا كان على المأمومين أن يصلوا قيامًا، إذا كانوا قادرين على(2/403)
القيام، فإن صلوا قعودًا مع القدرة على القيام، لم تصح صلاتهم، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور.
وقال مالك: (لا تصح صلاة القائم خلف القاعد) ، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى كقولنا.
وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد: (يصلون خلفه قعودًا) ، وهو اختيار ابن المنذر.
دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس في مرضه الأول قاعدًا، والناس خلفه قعود» ، ثم: «صلى بهم في مرضه الذي مات فيه قاعدًا، والناس خلفه قيام» ، وهذا ناسخ لما قبله.
[فرع إمامة المومئ]
] : وتصح صلاة القائم والقاعد خلف المومئ.
وقال أبو حنيفة: (لا تصح) .
دليلنا: أن المومئ طاهر يسقط فرض نفسه بطهارة كاملة، فجاز أن يأتم به القائم والقاعد، كالقائم.
فقولنا: (يسقط فرض نفسه) احتراز من المصلوب على خشبة، فلا يجوز الائتمام به؛ لأنه لا يسقط فرض نفسه.
وقولنا: (طاهر) احتراز ممن عليه نجاسة لا يقدر على إزالتها.
وقولنا: (بطهارة كاملة) احتراز من الصلاة خلف المستحاضة، في أحد الوجهين.
ولأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة لمرض، فجاز للقادر عليه الائتمام به، كالقيام.
فقولنا: (لمرض) احتراز من المصلوب، ومن الأمي، في أحد القولين.(2/404)
فإن صلى خلف القاعد، أو المومئ، فقدر الإمام على القيام، أو القعود لزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت صلاته؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه.
فإن علم المأموم بقدرته على القيام، ولم يقم نوى مفارقته، وإن لم ينو مفارقته قال الشافعي: (بطلت صلاته) .
فإن قيل: فكيف يعلم المأموم بقدرته على القيام؟
فالجواب: أن الشافعي لم يتعرض لكيفية العلم، إنما قال: (لو علم) ، وقد تكلم على ما يقل وجوده، كقوله: (إذا مات، وخلف مائة جدة) ، مع أنه قد يعلم بأن يكون الإمام منقبض الرجل لا يمكنه بسطها وقبضها، ثم رآه المأموم في أثناء الصلاة يبسطها ويقبضها، فيستدل بذلك على قدرته على القيام.
[مسألة إمامة الأمي]
] : قال الشافعي: (والأمي: من لا يحسن فاتحة الكتاب، وإن أحسن غيرها من القرآن، والقارئ: هو من يحسن فاتحة الكتاب، وإن لم يحسن غيرها من القرآن) .
إذا ثبت هذا: ففي صلاة القارئ خلف الأمي قولان منصوصان، والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي:
أحدها: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» .
فإذا قدموا من لا يحسن الفاتحة، فقد دخلوا تحت النهي، وذلك يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأنه قد يتحمل عنه القراءة، إذا أدركه راكعًا، وهذا ليس من أهل التحمل.(2/405)
والقول الثاني قاله الشافعي في القديم: (إن كانت الصلاة سرية، صحت صلاة القارئ خلفه، وإن كانت جهرية لم تصح) .
لأن القراءة لا تجب على المأموم في الجهرية، بل يتحملها الإمام على القول القديم، وهذا الإمام عاجز عن التحمل، فلم تصح، كالحاكم إذا كان لا يحسن الحكم، فإنه لا يصح حكمه.
وإذا كانت سرية لزمت المأموم القراءة، وهو قادر عليها، فجاز له أن يأتم بمن يعجز عنها، كصلاة القائم خلف القاعد.
والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي على هذا التعليل: تصح صلاته خلفه بكل حال؛ لأن على القول الجديد، يلزم المأموم القراءة بكل حال، هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا صلى أمي بقارئ بطلت صلاتهما) ، أما صلاة القارئ: فلما ذكرناه، وأما صلاة الأمي: فلأنه كان يمكنه أن يقدم القارئ ويأتم به؛ لأن قراءة الإمام عنده تجزئ عن المأموم، فإذا لم يفعل فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، فبطلت صلاته.
وكذلك إذا صلى خلفه أمي بطلت صلاته؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة، وصلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة الإمام عنده.
ودليلنا: هو أن كل من صحت صلاته، إذا ائتم بغيره صحت صلاته، وإن لم يأتم بغيره، كالقارئ خلف القارئ.
[فرع المقدم في الإمامة]
] : قال الشافعي: (فإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن جميع القرآن غير الفاتحة، والآخر يحسن سبع آيات من القرآن من غير الفاتحة، كان من يحسن جميع القرآن غير الفاتحة أولى ممن يحسن سبع آيات من غير الفاتحة؛ لأنه أكثر قرآنًا) ، فإن(2/406)
أمّ الذي يحسن سبع آيات لا غير، بالذي يحسن جميع القرآن إلا الفاتحة، صحت صلاتهما، كما لو أمّ من يحسن الفاتحة لا غير، بمن يحسن الفاتحة وغيرها.
وإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن أول الفاتحة لا غير، والآخر يحسن آخر الفاتحة لا غير، لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر، إذا قلنا: لا يأتم القارئ بالأمي، وهذا مما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: أيهما أحق بالإمامة؟
قال الشافعي: (فإن ائتم رجل برجل لا يدري: هل هو قارئ، أم لا؟ فصلاته صحيحة؛ لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن الفاتحة، وأحب إليّ لو أعاد الصلاة؛ لجواز ألا يحسن الفاتحة) .
فإن كانت الصلاة مما يجهر فيها، فلم يجهر هذا الإمام بالقراءة، فعلى المأموم أن يعيد الصلاة؛ لأن الظاهر أنه لما ترك الجهر أنه لا يحسن القراءة.
فإن قال بعد الفراغ: أنا أحسن القراءة، وقد قرأت سرًّا، وإنما نسيت الجهر، أو تركته عامدًا، لم يلزم المأموم الإعادة.
والمستحب: أن يعيد؛ لجواز ألا يصدق فيما قال.
[فرع إمامة الأرت والألثغ]
] : قال الشافعي: (ولا يؤم أرت ولا ألثغ) .
قال أصحابنا: و (الأرت) : هو الذي يدغم أحد الحرفين في الآخر، فيسقط أحدهما.
و (الألثغ) : من يبدل حرفًا بحرف، بأن يأتي بالثاء مكان السين، أو بالثاء(2/407)
مكان الكاف، أو باللام مكان الراء. وأنشدني بعض شيوخي:
وألثغ سألته عن اسمه ... فقل لي إثمي مرداث
فعدت من لثغته ألثغًا ... فقلت أين الكاث والطاث
وأراد: أن اسمه مرداس، وأراد: الكاس، والطاس.
وحكم هذين حكم الأمي، فإن ائتم بهما من هو في مثل حالهما صحت صلاته، كما إذا ائتم أمي بأمي، وإن ائتم به القارئ الفصيح؛ فعلى الأقوال الثلاثة التي مضت في صلاة القارئ خلف الأمي.
[فرع إمامة اللاحن]
] : وأما الصلاة خلف من يلحن: فاللحن على ضربين: لحن يحيل المعنى، ولحن لا يحيل المعنى.
فإن كان لا يحيل المعنى، كقوله: (أهدنا) بفتح الهمزة، أو (نستعين) بكسر النون الأولى، أو ضمهما، أو فتح الثانية، أو كسرها، وما جرى هذا المجرى، فهذا لا يمنع صحة صلاة الإمام، ولا صحة من يأتم به، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها؛ لأنه لا يحيل المعنى، ولكن يكره الائتمام به؛ لأن الإمامة موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال.
وإن كان اللحن يحيل المعنى نظرت:
فإن كان في الفاتحة، مثل أن يقول: (أنعمتُ عليهم) بضم التاء، أو: (ولا الظالين) بالظاء، فإن كان لا يحسن غير ذلك، بأن لم يطاوعه لسانه، أو لم يجد من يعلمه فهذا كالأمي، تصح صلاته، وصلاة الأمي خلفه، وأما صلاة القارئ خلفه فعلى ما مضى من الأقوال.(2/408)
وإن كان يحسن القراءة الصحيحة، فتعمد ذلك، أو لا يحسن، ولكن يقدر على التعلم، ولم يفعل فصلاته باطلة؛ لأنه ترك القراءة مع القدرة عليها.
فأما صلاة المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم ببطلان صلاته، لم تصح صلاته خلفه، وإن كان لم يعلم بذلك، صحت صلاته خلفه.
وإن كان هذا اللحن في غير الفاتحة، مثل: أن يقول في قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] ، بكسر اللام من (رسولِه) ، فإن كان لا يعرف أن هذا لحن، أو كان يعرف، ولكن نسيه، فقرأه على وجه السهو، لم يضره ذلك؛ لأنه ليس بأكثر من أن لا يقرأ هذا الآية.
وإن كان يعرف ذلك، فتعمد قراءته بطلت صلاته؛ لأنه إن كان يعتقده فهو كفر؛ لأنه يقول: (أن الله بريء من المشركين ومن رسوله) ، وإن كان لا يعتقد فهو استهزاء بالقرآن، فبطلت صلاته.
وأما المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم بحاله لم تصح صلاته، وإن لم يعلم صحت صلاته.
قال الشيخ أبو حامد: ومن تلفظ بلفظة أعجمية في القرآن، فإن إمامته مكروهة؛ لما روي: " أن ناسًا حول مكة قدموا رجلًا من آل السائب؛ ليصلي بهم، فأخره المسور بن مخرمة، وقدم آخر، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: كان في وقت الحج، وخشيت أن يسمع بعض الحجيج قراءته، فيأخذ بعجمته، فقال: هنالك ذهبت؟ فقال: نعم، فقال: أصبت ".
وكذلك العربي إذا كان لا يبين الحروف، يكره الائتمام به.(2/409)
[فرع صلاة الفريضة خلف المتنفل]
] : يجوز للمفترض أن يأتم بالمتنفل، مثل: أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح، فإذا سلم الإمام قام المأموم، فأتم صلاته.
ويجوز للمتنفل أن يأتم بالمفترض، كمن نوى أربع ركعات تطوعًا خلف من يصلي العشاء، ويجوز للمفترض أن يأتم بالمفترض في صلاة أخرى، كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، هذا مذهبنا، وبه قال عطاء، وطاوس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال الزهري، وربيع، ومالك، ويحيى الأنصاري: (إذا اختلفت نية الإمام والمأموم لم يصح أن يأتم به) .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، ولا يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل، ولا للمفترض أن يصلي خلف المفترض، إذا اختلف فرضاهما) .
دليلنا: ما روي: «أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم يرجع إلى قومه في بني سلمة، فيصلي بهم العشاء، هي له تطوع، ولهم فريضة العشاء، فأخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة العشاء، ثم رجع معاذ إلى قومه، فصلى بهم، واستفتح سورة البقرة، فتنحى رجل، وصلى فقال له قومه: نافقت، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: يا رسول الله، إن معاذًا يصلي معك العشاء، ثم يرجع إلينا فيصلي بنا، فأخرت العشاء، فصلى معك، ثم رجع إلينا وصلى بنا، وافتتح بسورة البقرة، فتنحيت، وصليت وحدي، وإنا أصحاب نواضح، نعمل بأيدينا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟ "، وأمره أن يقرأ سورة كذا» ، وفي رواية أخرى: أمره(2/410)
أن يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] [الطارق] ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى] ، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] [الليل] .
ولأن الاقتداء يقع في الأفعال الظاهرة، وذلك ممكن مع اختلاف النية.
[فرع صلاة الفرض خلف مصلي الجنازة والخسوف]
] : وهل يجوز أن يصلي المفترض خلف من يصلي على الجنازة، أو خلف من يصلي صلاة الخسوف؟ قال أصحابنا البغداديون: لا يصح؛ لأنه لا يمكنه الاقتداء به، مع اختلاف الأفعال.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه.
والثاني وهو قول القفال: أنه يصح؛ لأنه مقتد بمصل.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم قائمًا حتى يسلم الإمام في صلاة الجنازة، ثم يركع هو.
وفي صلاة الخسوف يركع مع الإمام الركوع الأول، فإذا رفع الإمام رأسه من الركوع رفع معه، وثبت المأموم قائمًا، حتى يركع الإمام الثاني، ثم يتابعه في السجود.
قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 80] : وهل تصح صلاة الصبح والمغرب خلف من يصلي الظهر أو العصر أو العشاء؟ فيه قولان؛ لأنه يحتاج أن يخرج من صلاة الإمام قبل تمامها.
وأصحابنا البغداديون قالوا: تصح قولًا واحدًا.(2/411)
[فرع كراهة إمامة من يكرهه المأتمون]
] : ويكره أن يؤم الرجل قومًا، وهم له كارهون؛ لما روى أبو داود في "سننه": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: رجل يقدم قومًا، وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارًا -أي: بعد ما فرغوا من الصلاة- ورجل اعتبد محرره» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة رجل أمّ قومًا، وهم له كارهون، ولا صلاة امرأة زوجها عاتب عليها، ولا صلاة عبد آبق، حتى يرجع» .
قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وهذا الخبر لا يثبت، ولكني أكره إمامته بهم، لكراهتهم له) .
وروى الترمذي في "سننه ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله ثلاثة: رجلًا أمّ قومًا وهو له كارهون، وامرأة بات زوجها عليها ساخطًا، ورجلًا سمع: حي على الفلاح، فلم يجبه» .(2/412)
وهكذا: إذا كرهه أكثرهم كره له أن يؤمهم؛ لأن الاعتبار بالكثرة، وإن كرهه أقلهم لم يكره؛ لأن أحدًا لا يخلو ممن يكرهه، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: إن نصب الإمام رجلًا للصلاة بالناس لم يكره أن يصلي بهم، وإن كرهوه.
وإن أمّ رجل نساء من ذوي محارمه جاز، ولم يكره له الخلو بهن؛ لأنه يجوز له الخلو بهن، وإن كن من غير ذوات محارمه، فإن كن امرأة أو امرأتين كره له الخلو بهن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» .
فإن كن نساء كثيرًا، فهل يجوز للرجل الأجنبي الخلو بهن؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في (الخناثى) بناء على المرأة إذا أرادت الحج، ووجدت نساء ثقات، هل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان:(2/413)
فإن أمّ الخنثى أجنبية منه كره له الخلو بها؛ لجواز أن يكون رجلًا، فإن كن نساء كثيرًا ففيه وجهان.
وكذا: لو أمّ رجل خنثى أجنبيًّا منه، كره له الخلو به؛ لجواز أن يكون امرأة، فإن كان الخناثى كثيرًا فهل يجوز له الخلو بهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في النساء.
وهكذا: ينبغي أن يكره للخنثى أن يخلو بالخنثى؛ لجواز أن يكون أحدهما رجلًا، والآخر امرأة، فإن كانوا كثيرًا ففيه وجهان.
[فرع إمامة التمتام ونحوه]
] : ويكره الائتمام بـ (التمتام) : وهو الذي يكرر التاء، فيقول: (إياك نستتعين) ، وبـ (الفأفاء) : وهو الذي يكرر الفاء، فيقول: (ففلله) ، وبـ (الوأواء) : وهو الذي يكرر الواو؛ لما يزيدون من الحروف، فإن صلى خلف أحدهم صح؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها.
[مسألة الأولى بالإمامة]
] : الأسباب التي يتعلق بها التقديم في الصلاة خمسة: الفقه، والقراءة، والهجرة، والنسب، والسن.
ولا يختلف المذهب: أن صاحب الفقه والقراءة مقدمان على غيرهما من أصحاب الأسباب الثلاثة.
والدليل عليه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا بالهجرة سواء فأقدمهم سنًّا» .(2/414)
فإن تساويا في القراءة، وأحدهما أفقه، فالأفقه أولى؛ لأنه أكمل.
فإن كان أحدهما يحسن الفقه، ولا يحسن الفاتحة، والآخر يحسن الفاتحة، ولا يحسن الفقه فالذي يحسن الفاتحة أولى؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالفاتحة.
فإن كان أحدهما يحسن القرآن كله، ومن الفقه ما يحتاج إليه في الصلاة، والآخر يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، ولكنه يحسن فقهًا كثيرًا، فقد قال الشافعي: (إن قدم الفقيه فحسن، وإن قدم القارئ فحسن، ويشبه أن يكون الفقيه أولى) .
قال أصحابنا: تقديم الفقيه أولى؛ لأن ما يحتاج إليه من القرآن في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور، وربما تحدث عليه حادثة في الصلاة تحتاج إلى الاجتهاد فيها، وإلى هذا ذهب مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
وقال الثوري، وأحمد، وأبو إسحاق: (القارئ أولى) ، واختاره ابن المنذر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى» .
ودليلنا: ما ذكرناه: من أن الواجب من القراءة في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه فيها غير محصور.
وأما الخبر: فإنما كان ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنهم كانوا يسلمون كبارًا، فيتعلمون القراءة، ويتعلمون أحكامها.
وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها، وأمرها ونهيها) ، ولهذا لا يوجد منهم قارئ إلا وهو فقيه، وكثير يوجد منهم فقيه غير قارئ.
وقيل: إن الذي كان يحفظ منهم جميع القرآن سبعة وهم: أبو بكر، وعثمان،(2/415)
وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، بخلاف أهل وقتنا، فإنهم يتعلمون القرآن، ثم الفقه.
وأما الأسباب الثلاثة، وهي: النسب، والسن، والهجرة، فاختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ، والمحاملي فيها قولين:
أحدهما وهو قوله القديم: (أن النسب مقدم، ثم الهجرة بعده، ثم السن) .
قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح، ووجهه: ما روي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الأئمة من قريش» ، ولم يفرق بين الإمامة العظمى والصغرى.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا، ولا تقدموها» .
ولأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود، والنسب مقدم على الهجرة.
والثاني وهو قوله الجديد: (أن السن مقدم، ثم النسب، ثم الهجرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجلين: "وليؤمكما أكبركما» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لك أحدكم، وليؤمكم أكبركم» ، ولم يفرق بين أن يكون الأكبر أشرف من الأصغر، أو الأصغر أشرف؛ ولأن الأكبر أخشع في الصلاة، فكان أولى.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": أن النسب والسن مقدمان على الهجرة، بلا خلاف على المذهب.
وفي النسب والسن قولان:
قال الشيخ أبو حامد: وأما تقديم الهجرة على السن فلم يرد به الهجرة وحدها، وإنما أراد من له هجرة ونسب؛ لأن أكثر المهاجرين كانوا من قريش.
إذا ثبت هذا: فالنسب المراد هاهنا أن من كان من بني هاشم، وبني المطلب،(2/416)
فيقدم على غيره من قريش، ثم يقدم قريش على غيرهم، ويحتمل أن يقدم العرب على العجم.
وأما السن: فإن الرجل إذا نشأ في الإسلام، وشاخ فيه قدم على من أبلى عمره في الشرك، ثم أسلم، وكذلك يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر إسلامه.
وأما الهجرة: فإن من هاجر يقدم على من لم يهاجر، ومن تقدمت هجرته قدم على من تأخرت هجرته، وكذلك أولاد المهاجرين، يقدمون على أولاد من لم يهاجر، وكذلك في تقدم الهجرة بالآباء أيضًا، وسواء كانت الهجرة قبل الفتح أو بعده، وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» ، فأراد أن الهجرة لا تجب على أهل مكة بعد الفتح.
فإن استويا في جميع الأسباب، فلا نص للشافعي فيه.(2/417)
قال أصحابنا: فيقدم أورعهم وأزكاهم.
وقال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم.
فمن أصحابنا من قال: أراد أحسنهم وجهًا؛ لأن ذلك فضيلة كالنسب.
ومنهم من قال: بل أراد أحسنهم ذكرًا بين الناس.
قال ابن الصباغ: وهذا حسن.
[فرع تقديم صاحب البيت في الإمامة]
] : إذا حضر جماعة في دار رجل، وحضرتهم الصلاة، وصاحب البين يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، فصاحب البيت أحق بالإمامة ممن حضر معه، وإن كانوا أفقه منه وأقرأ، إلا أن يكون الحاضر سلطانًا فهو أحق؛ لما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤم الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلى بإذنه» .
ولأن لصاحب البيت ولاية خاصة على الدار، لا يشاركه فيها غيره.
واختلف في التكرمة: فقال قوم: هي المائدة.
وقال آخرون: هي البساط والفراش، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غير هذا.
فإن حضر المستأجر ومالك الدار في الدار المستأجرة، فالمستأجر أحق بالتقدم من مالكها؛ لأنه أحق بمنافعها.
وإن حضر العبد وغيره في دار، جعلها السيد لسكنى العبد، فالعبد أحق؛ لأنه أحق بمنافعها.
وعلى قياس هذا: إذا استعار من رجل دارًا، فحضر المستعير وغيره، فالمستعير أولى.(2/418)
وإن حضر العبد وسيده في الدار التي جعلها لسكناه، فالسيد أحق؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار.
وعلى قياس هذا: إذا حضر المعير والمستعير في الدار المعارة، فالمعير أولى؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار، ويملك الرجوع في المنفعة.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 80] : أن القفال كان يقول هكذا في الابتداء، ثم رجع عنه، وقال: بل المستعير أولى بخلاف العبد؛ لأن المستعير سكن لنفسه، والعبد سكن لسيده.
[فرع الإمام الراتب]
] : وإن حضر إمام المسجد الراتب مع غيره من الرعية، فإمام المسجد أحق بالتقديم، وإن كان هناك من هو أفقه منه وأقرأ؛ لما روي: (أن ابن عمر قدم مولى له كان إمامًا في مسجد، وقال: أنت أحق بالإمامة في مسجدك) .
وإن أذن رب الدار، أو إمام السجد لمن حضر معه أن يتقدم، فله أن يتقدم.
وقال بعض الناس: لا يجوز.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخبر: "إلا بإذنه".
فإن حضر الإمام الأعظم مع رب الدار، أو مع إمام المسجد فالإمام الأعظم أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا في سلطانه "؛ ولأنه راع وهم رعيته، فكان تقديم الراعي أولى.
وإن قدم الإمام الأعظم رجلًا، كان أحق من غيره.
وإن دخل الإمام الأعظم بلدًا، وله فيه خليفة، كان أولى بالتقدم فيه من خليفته؛ لأن ولايته أعم.(2/419)
قال الشافعي: (فإن اجتمع مقيمون ومسافرون، وفيهم وال، كان تقديم الوالي أولى، سواء كان من المسافرين أو من المقيمين، وإن لم يكن فيهم وال، فالمقيم أولى بالتقديم؛ لأنه صلاته أكمل، فإن تقدم مسافر وصلى بهم جاز) .
وهل يكره؟ فيه قولان.
[فرع إمامة العبد]
] : ولا تكره إمامة العبد للأحرار.
وقال أبو مجلز وأبو حنيفة: (تكره) .
وقال مالك: (لا يؤم في جمعة، ولا عيد) .
وقال الأوزاعي: (لا يؤم الناس، ويؤم أهله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا، ولو أمر عليكم عبد أجدع، ما أقام فيكم الصلاة» .
وروي: (أنه كان لعائشة غلام لم يعتق، يكنى أبا عمرو، وكان يؤمها، ويؤم محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير) .
إذا ثبت هذا: فالحر أولى بالإمامة؛ لأنه موضع كمال، والحر أكمل.
[فرع إمامة المجهول]
] : ويكره أن يؤم من لا يعرف أبوه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه.(2/420)
وقال الثوري، وأحمد، وإسحاق: (لا يكره) ، وروي عن مالك في ذلك رواية أخرى.
وقالت عائشة: (ما عليه من وزر أبويه شيء) .
دليلنا: ما روي: (أن رجلًا كان يؤم الناس بالعقيق لا يعرف أبوه، فنهاه عمر بن عبد العزيز) ؛ ولأنه موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال.
[فرع إمامة الأعمى]
] : تجوز إمامة الأعمى بالبصير والأعمى؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف ابن أم مكتوم في بعض غزواته على المدينة، وكان يصلي به» .
وهل هو أولى أم البصير؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها وهو المنصوص للشافعي: (أنهما سواء؛ لأن الأعمى لا يرى ما يشغله، والبصير يتوقى الأنجاس فاستويا) .
والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن البصير أولى؛ لأنه يتوقى الأنجاس التي تفسد الصلاة، وأما نظره إلى ما يشغل: فلا يفسد الصلاة.(2/421)
والثالث وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن الأعمى أولى؛ لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه، فيتوفر على الخشوع.
قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يخالفان نص الشافعي، وما قاله أحدهما يعارضه ما قال الآخر فسقطا، واستوى البصير والأعمى.
وبالله التوفيق(2/422)
[باب موقف الإمام والمأموم]
إذا صلى رجلان جماعة، قام المأموم عن يمين الإمام، وبه قال الفقهاء كافة، وحكي عن ابن المسيب: أنه قال: لا يقوم عن يساره.
وقال النخعي: يقوم وراءه، فإن جاء آخر وقف معه، وإن لم يجئ آخر، وركع الإمام فإنه يتقدم إلى يمين الإمام.
دليلنا: ما روي «عن ابن عباس: أنه قال: (بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل، فتوضأ، وصلى، فقمت، فتوضأت كما توضأ، وقمت عن يساره، فأخذني بيدي) ، وروي (برأسي، وحولني عن يمينه) ، وروي: (فأدارني من ورائه) » .
قال أصحابنا: وفي هذا الخبر أربع عشرة فائدة:
إحداهن: أن المأموم الواحد ينبغي له أن يكون على يمين الإمام.
الثانية: أنه إذا خالف، ووقف على يساره صحت صلاته.
الثالثة: أنه لا يلزمه سجود السهو.(2/423)
الرابعة: أنه إذا وقف عن يساره ينبغي له أن يتحول إلى يمينه.
الخامسة: أنه إذا لم يتحول حوله الإمام.
السادسة: أنه يحوله بيمينه دون يساره.
السابعة: أن يديره من خلفه.
الثامنة: أن صلاة النفل يحرم فيها الكلام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكلمه.
التاسعة: أن النفل يجوز فعله جماعة.
العاشرة: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة، مثل ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الإحدى عشرة: أن المشي القليل لا يبطل الصلاة، مثل مشي ابن عباس.
الاثنتا عشرة: أن الصبي له موقف في الصف كالبالغ؛ لأن ابن عباس كان صبيًّا.
الثالثة عشرة: أن المأموم يدور هو، ولا يدور الإمام.
الرابعة عشرة: أن المرور بين يدي المصلي مكروه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أداره من خلفه، ولم يدره بين يديه.
فإن جاء مأموم آخر، أحرم عن يسار الإمام، فإن كان قدام الإمام واسعًا ووراءهما ضيقًا، تقدم الإمام، وإن كان وراءهما واسعًا، تأخر المأمومان، سواء كان قدام الإمام واسعًا أو ضيقًا؛ لما روى جابر، قال: «صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقمت عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يساره، فدفعنا جميعًا، حتى أقامنا من خلفه» .
ولأنهما تابعان للإمام، فكانا أولى بالتأخير، بدليل: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس، ولم يدر هو) .
فإن جاء المأموم الثاني، وهما جالسان في التشهد، ووقف عن يسار الإمام،(2/424)
وكبر، وجلس، ولا يتأخرا جالسين؛ لأن ذلك مشقة، فإذا قاموا تأخرا، وإن سلم الإمام قام المأموم، وأتم صلاته.
وإن حضر رجلان مع الإمام، فالسنة أن يقفا خلف الإمام، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر.
وقال ابن مسعود: (إذا كان مع الإمام اثنان، قام أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وإن كانوا ثلاثة قاموا من خلفه) .
وروي عنه: «أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهم عن يمينه، والآخر عن شماله، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
دليلنا: ما ذكرناه من حديث جابر، وروى سمرة بن جندب، قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا» .
وإن حضر رجل وصبي، وقفا من خلف الإمام؛ لما روي «عن أنس: أنه قال: (صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا ويتيم لنا، وأم سليم خلفنا» .(2/425)
وإن حضر مع الرجل والصبي امرأة وقفت خلفهما؛ لحديث أنس.
وإن حضر مع الإمام امرأة، لا رجل معها، وقفت خلف الإمام.
وإن حضر معه رجل وامرأة وقف الرجل عن يمين الإمام، والمرأة خلف الرجل؛ لحديث أنس.
وإن حضر مع الإمام خنثى وقف وراءه؛ لجواز أن يكون امرأة، ولا يقف عن يمينه لتجويز كونه رجلًا؛ لأن مخالفة المرأة الموقف أشد من مخالفة الرجل.
وإن كان مع الإمام رجل أو صبي وخنثى فإن الرجل أو الصبي يقف عن يمين الإمام، والخنثى وراءه.
وإن كان معه خنثى وامرأة وقف الخنثى خلف الإمام، والمرأة خلف الخنثى.
وإن حضر رجال وصبيان تقدم الرجال في الصف الأول، ثم الصبيان بعدهم في صف آخر.
ومن أصحابنا من قال: يقف بين كل رجلين صبي؛ ليتعلموا منهم أفعال الصلاة، وهذا ليس بصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» .
وروي عن أنس: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليحفظوا عنه» .(2/426)
وأما التعلم: فيمكنهم، وإن كانوا خلفهم.
[فرع كراهة ارتفاع موضع الإمام]
] : ويكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما يكره إذا كانت ربوة كثيرة العلو، فأما إذا كنت دكة، أو ربوة قليلة العلو لم يكره.
والدليل على الكراهة: ما روي: (أن حذيفة صلى على مكان، والناس أسفل منه، فجذبه سلمان، وقال: أما علمت أن أصحابك -يعني: الصحابة- يكرهون ذلك، فقال: بلى، قد ذكرت حين جذبتني) .
وإن أراد الإمام أن يعلم المأمومين أفعال الصلاة وترتيبها لم يكره ذلك.(2/427)
وقال أبو حنيفة ومالك: (يكره بكل حال) .
وقال الأوزاعي: (إن كان موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، بطلت صلاتهم) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على المنبر، فركع، ورفع، ثم رجع القهقرى، فسجد، ورفع، فلما فرغ قال: "إنما صنعت هكذا لتأتموا بي» .
[مسألة استحباب الجماعة للنساء]
] : يستحب للنساء الجماعة في الصلوات التي يسن لها الجماعة، إلا أنها لا تتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال، وبه قال عطاء، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال قتادة، والشعبي، والنخعي: يكره لهن الجماعة في الفرائض، ولا تكره في النوافل.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهن في الفرائض والنوافل) .(2/428)
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور أم ورقة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل الأنصاري، وكان يسميها الشهيدة، وكان يأمرها أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا» .
إذا ثبت هذا، فالسنة أن تقف إمامتهن وسطهن.
قال ابن الصباغ: ولا يعرف فيه خلاف؛ لما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمت نساء، فقامت وسطهن) .
فإن تقدمت عليهن وصلت بهن كره، وصحت صلاتهن، كما لو وقف إمام الرجل وسطهم.
والحرة أولى من الأمة في الإمامة، كما قلنا: إن الحر أولى من العبد.
فإن أمّ الخنثى نساء تقدم عليهن، ووقفن وراءه؛ لجواز أن يكون رجلًا.
ومما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: إذا أمّ الخناثى واحد منهم، أين يقف؟(2/429)
فإن قال: وسطهم أو قدامهم، فالجميع خطأ، وإنما الجواب الصحيح: أن يقال: لا يؤم الخنثى الخنثى، وقد مضى.
[مسألة صلاة نية الجماعة]
] : إذا أمّ قومًا، فليس من شرط صحة ائتمامهم أن ينوي الإمام إمامتهم.
وقال أبو حنيفة: (إن أمّ الرجل رجالًا لم تشترط نية الإمام أن يكون إمامًا لهم، وإن أمّ نساء لم تصح صلاتهن خلفه، حتى ينوي الإمام أنه إمامهن) .
وقال الأوزاعي: (لا تصح صلاة من خلفه من الرجال والنساء، حتى ينوي الإمام إمامة من خلفه) .
دليلنا على الأوزاعي: حديث ابن عباس الذي ذكرناه في أول الباب.
وروى «أنس قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان، وهو يصلي، فوقفت خلفه، ثم جاء آخر، فوقف بجنبي، حتى صرنا رهطًا كثيرًا، فلما أحس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنا أوجز في صلاته، ثم قال: " إنما فعلت هذا لأجلكم» ، فسقط بهذا مذهب الأوزاعي.
ونقيس على أبي حنيفة المرأة على الرجل، فنقول: كل من صح ائتمامه، إذا نوى الإمام إمامته صح، وإن لم ينو إمامته كالرجل.
[فرع موقف المرأة وصلاة الرجل خلف الصف]
] : وإن وقفت المرأة مع الرجل أو قدامه صحت صلاة الرجل، وإن وقف الرجل في الصف وحده خلف المأمومين كره ذلك، وصحت صلاته.
وقال أحمد، وإسحاق: (تبطل صلاته) . واختاره ابن المنذر.(2/430)
دليلنا: ما روي: «أن أبا بكرة دخل المسجد، وهو يلهث، وقد ركع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأحرم، وركع معه، ثم دخل الصف، فلما فرغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته قال: "أيكم الذي ركع خلف الصف وحده؟ "، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زادك الله حرصًا، ولا تعد» ، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة.
وأما قوله: "ولا تعد": فيحتمل ثلاثة تأويلات:
أحدها: لا تعد إلى العدو الشديد؛ لأنه جاء يلهث، وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» .
والثاني: أنه أراد: لا تعد أن تتأخر عن الصلاة، حتى تفوتك الركعة.
والثالث: لا تعد إلى الإحرام خلف الصف.
[فرع تقدم المأموم]
إذا تقدم المأموم على الإمام، وصلى بصلاته في غير المسجد الحرام، ففيه قولان:
[الأول] : قال في الجديد: (لا تصح صلاته) ، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه قد وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال، فأشبه إذا وقف في موضع نجس.
فقولنا: (بحال) احتراز ممن وقف على يسار الإمام وحده.
و [الثاني] : قال في القديم: (تصح صلاته) ، وبه قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور؛ لأنه خالف سنة الوقف مع الإمام، فوجب ألا يمنع صحة الصلاة، كما لو وقف على يسار الإمام وحده، فإن صلى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي(2/431)
الكعبة، فاستدار المأمومون حول الكعبة، فإن من كان منهم في جهة الإمام، إذا تقدم على الإمام، وكان أقرب إلى الكعبة من إمامه، فعلى القولين في التي قبلها.
وأما صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من الإمام في غير جهة الإمام، ففيه طريقان:
[الأول] : قال أبو إسحاق المروزي: هي على قولين كالأولى.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: تصح قولًا واحدًا وهو المنصوص؛ لأن قرب المأموم في غير جهة الإمام لا يكاد يضبط، ويشق مراعاة ذلك، وفي جهته لا يشق عليه مراعاة خلف الإمام؛ ولأن المأموم إذا كان في غير جهة الإمام، فليس هو بين يديه، وإن كان أقرب إلى الكعبة منه، وإذا كان في جهته كان بين يديه، فلهذا افترقا؛ ولأن الشافعي قد نص في " الجامع الكبير ": (إذا كان الإمام يصلي إلى الكعبة على الأرض، والمأموم على سطحها، فصلى بصلاته، أجزأه ذلك) . والمأموم هاهنا أقرب.
[مسألة استحباب الصف الأول]
] : والمستحب: أن يتقدم في الصف الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا عليه» .
وروى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» يعني: على أهل الصف الأول، والصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء.
ويستحب أن يعتمد يمين الإمام؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «كان(2/432)
يعجبنا عن يمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يبدأ بمن على يمينه، فيسلم عليه» .
فإن وجد في الصف الأول فرجة، فالمستحب: أن يسدها؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فإن كان نقص ففي المؤخر» .
فإن لم يجد في الصف الأول مدخلًا فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وسليم: يجذب رجلًا يصلي معه، فإن لم يفعل كره له أن يصلي وحده، وهو قول عطاء والنخعي.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يقف وحده في الصف الثاني، وهو المنصوص في " البويطي "، وبه قال مالك؛ لما ذكرناه من حديث أنس؛ ولأن في جذبه رجلًا يحدث خللًا في الصف الأول، ويحرم المجذوب فضيلة الصف الأول، وليس له ذلك.
[فرع على المأموم أن يعلم حركات الإمام]
] : فإذا صلى بصلاة الإمام وهما في المسجد، فإنه يعتبر في صحة صلاة المأموم علمه بصلاة الإمام، إما أن يشاهده، أو يسمع تكبيره، أو يبلغ عنه، وسواء كان بين الإمام والمأموم قريب أو بعيد، وسواء كان بينهما حائل، أو لا حائل بينهما، وهذا إجماع لا خلاف فيه؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة الواحدة، واعتبار رؤية الإمام ومشاهدته في المسجد لا يمكن.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك المساجد اللطاف المتصلة بالجامع، وأبوابها شارعة(2/433)
إلى الجامع، فحكم من يصلي فيها بصلاة الإمام في الجامع، حكم من يصلي بصلاته في الجامع؛ لأنها إن بنيت مع الجامع فهي منه، وإن بنيت بعده فهي مضافة إليه.
قال الصيدلاني: ومثله إذا صلى في رحبة المسجد؛ لأنها من جملة المسجد.
فإن صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام في المسجد جاز؛ لما روي: (أن أبا هريرة صلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد) .
ولأن سطح المسجد كقراره، بدليل: أن الجنب لا يلبث فيه، كما لا يلبث في قراره؛ ولأن أكثر ما فيه الحيلولة بينه وبين الإمام بالسقف، والحيلولة في المسجد لا تمنع الصلاة، كما لو كان في قرار المسجد.
إذا ثبت هذا: فيحتاج أن يقف وراء الإمام، فإن وقف حذاء رأس الإمام كره، وأجزأه.
وإن وقف، بحيث يكون قدام الإمام ففيه قولان، كما لو كانا في القرار.
قال الصيمري: وإن كان سطح المسجد مملوكًا، فصلى عليه رجل بصلاة الإمام في المسجد لم تصح صلاته؛ لأنه ليس من جملة المسجد.
[فرع صلاة المأموم خارج المسجد]
] : فأما إذا صلى خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد، ولم يكن بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، بأن لم يكن للمسجد حائط، أو كان له حائط، ووقف المأموم بحذاء الباب، وهو مفتوح، فإن كان بينهما مسافة قريبة جاز، إذا علم(2/434)
بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة لم يجز، هذا قول كافة العلماء.
وقال عطاء: يعتبر علمه بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة: 9] ، فأوجب الله السعي إلى الجمعة، فلو كان كل من صلى خارج المسجد بصلاة الإمام يجزئه إذا علم بصلاة الإمام، لما وجب عليه السعي.
والمسافة القريبة: ثلاثمائة ذراع، والبعيدة ما زاد، ومن أين تعتبر هذا المسافة؟ فيه وجهان.
أحدهما وهو المشهور من المذهب: أنها تعتبر من حائط المسجد.
فعلى هذا: لو وقف الإمام في محراب المسجد، ومساحة المسجد ألف ذراع أو أكثر، ثم وقف صف خارج المسجد، بينه وبين حائط المسجد ثلاثمائة ذراع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح، وكذلك لو وقف صف آخر بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم بعده صف، وبينهما هذه المسافة، حتى اتصلت الصفوف فراسخ صح ذلك؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فجعل آخره كأوله.
والثاني حكاه في " الإبانة " [ق \ 84] أنه يعتبر من موقف الإمام.
وإن كان بينه وبين الإمام حائط المسجد؛ ففيه وجهان:
أحدهما وهو قول أبي إسحاق: لا يمنع؛ لأن حائط المسجد لا يمنع صحة ائتمام من في داخل المسجد، فلم يمنع صحة ائتمام من في خارجه؛ ولأن الشافعي قال: (لو صلى في رحبة المسجد بصلاة الإمام في المسجد أجزأه) . ومعلوم أن بينهما حائط المسجد.(2/435)
والثاني وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الصحيح: أنه يمنع؛ لأن هذا الحائط بني للفصل بينه وبين غيره، فمنع، كحائط غير المسجد.
وأما ما ذكره من الرحبة: فلأن الرحبة من جملة المسجد، أو يحمل على من كان حذاء باب المسجد، وهو مفتوح، فعلى قول أبي إسحاق: لو كان لرجل دار بجنب المسجد، وحائط المسجد حائط داره، جاز له أن يصلي في بيته بصلاة الإمام في المسجد، إذا علم بصلاته، وعلى قول عامة أصحابنا: لا يجوز.
وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك ففيه وجهان:
أحدهما: يمنع؛ لأنه يمنع الاستطراق، فهو كالحائط.
والثاني: لا يمنع؛ لأنه لا يمنع الشاهدة.
[فرع موقف المأموم في الفلاة]
] : فأما إذا كان الإمام يصلي في صحراء، فإن الإمام هاهنا للصف الأول، كالمسجد للصف الأول خارج المسجد، إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن وقفوا من الإمام على ثلاثمائة ذراع فما دون أجزأتهم صلاتهم، وكذلك لو وقف صف، بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم ثالث، ورابع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح.
واختلف أصحابنا: من أين أخذ الشافعي هذا الحد؟ فذهب أبو العباس، وأبو إسحاق: إلى أنه أخذه من صلاة الخوف؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بطائفة، وصلى بهم ركعة» .
وفي رواية ابن عمر: (أنها مضت إلى وجه العدو، وهي في الصلاة، وكن بينه وبينها قدر ثلاثمائة ذراع) ؛ ولأنهم إنما يحرسون المسلمين من وقوع السهام؛ لأنها(2/436)
أبعد وقعًا من جميع السلاح، وأكثر ما يبلغ إليه السهم ثلاثمائة ذراع.
وذهب ابن خيران، وابن الوكيل: إلى أن الشافعي لم يأخذه من هذا، وإنما أخذه من عرف الناس وعادتهم، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال: (وقربه ما يعرفه الناس قربًا) ، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ.
وهل ذلك تحديد، أو تقريب؟ فيه وجهان.
[مسألة الصلاة في دار بقرب المسجد]
قال الشافعي: (ولو صلى في دار قرب المسجد لم يجز، إلا بأن تتصل الصفوف، لا حائل بينه وبينها) ، وجملة ذلك: أنه إذا صلى في داره، أو دار غيره بصلاة الإمام في المسجد، فإن كان يصلي في قرار الدار، وباب داره مفتوح، يرى منه الإمام، أو بعض المأمومين، فاختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: لا يجوز، إلا أن تكون الصفوف متصلة إلى داره اتصال العادة؛ لأن الشافعي اشترط ذلك.
والفرق بينه وبين الصحراء: أن الصحراء مهيأة لمرافق المسلمين، ومن مرافقهم الصلاة، وداره لم تبن لذلك، وإنما هي ملك له خاص، وهذه طريقة المسعودي [في " الإبانة " ق \ 86] .
وقال أبو علي في " الإفصاح ": لا فرق بين الدار وبين الطرق والصحارى، ويراعى فيه القرب والبعد الذي ذكره الشافعي.
وقوله: (إلا أن تتصل الصفوف) أراد: ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثمائة ذراع؛ لأن هذا عنده حد الاتصال.(2/437)
[فرع الصلاة في الدور]
] : قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 86] : إذا صلى في البنيان، فإن كان في بقعة وحدة، مثل: صفة، أو بيت، فيعتبر القرب والبعد على ما ذكرناه.
فإن اختلفت بهم البقعة، مثل: أن كان الإمام في الصفة، وهو في البيت، فيشترط اتصال الصف.
قال: واتصال الصف في الصف، من يسار الإمام ويمينه: هو أن يلتزق الجنب بالجنب، فأما إذا كان بين رجلين فرجة نظر: فإن كان أقل من موقف رجل فلا يضر ذلك، وإن كان أكثر من موقف رجل فيمنع من الاقتداء؛ لأنه لا يكون اتصال الصف، فإن كان بينهما عتبة، فإن كانت صغيرة، بحيث لا يمكن الوقوف عليها، لا تكون حائلًا، وإن كانت عريضة، بحيث يمكن الوقوف عليها كانت حائلة عن الاقتداء.
وهل يراعى وراء الإمام اتصال الصف؟ فيه وجهان:
الأصح: أنه يراعى، فيشترط ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثة أذرع، فإن كان بينهما أكثر من ثلاثة أذرع لم يكن اتصال الصف.
والثاني: لا يراعى.
فعلى هذا: لو كان الإمام في الصفة مع قوم، فاقتدى به واحد في الصحراء، لم يصح اقتداؤه، وإن كان قريبًا من الصف.(2/438)
[فرع الصلاة في علو غير المسجد تمنع الاقتداء]
] : فأما إذا صلى في علو الدار بصلاة الإمام في المسجد، قال الشافعي: (لم يجزئه بحال، وإن كانوا يرون من في الصحن؛ لأنها بائنة من المسجد، وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف به) ؛ لأن الصف لا يتصل إلى فوق، فإنما يتصل بالقرار.
وقال في " الإفصاح ": ومن كان على الصفا والمروة، أو على جبل أبي قبيس، يصلي بصلاة الإمام في المسجد، تصح صلاته، وإن كان أعلى منه؛ لأن ذلك متصل بالقرار، وقد يكون القرار مستعليًا، ومستفلًا، ومستويًا، وليس كذلك السطح؛ لأنه ليس من القرار، والصف لا يتصل.
وإن صلى رجل على سطح الدار بصلاة الإمام في الدار، أو في صحنه لم تصح صلاته؛ لأن بينهما حائلًا يمنع المشاهدة والاستطراق، والفرق بينه وبين المسجد: أن المسجد بني كله للصلاة، وسطحه منه، وليس كذلك الدار؛ لأن سطحها بني للحائل، ولم يبن للصلاة.
[فرع وجود طريق بين الإمام والمأموم]
] : إذا كان بين الإمام والمأموم شارع، أو طريق جازت صلاته، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال أبو حنيفة: (الشارع والطريق يمنع الاقتداء) . وهو قول المسعودي [في " الإبانة " ق \ 84] ، إلا أن تتصل الصفوف.
دليلنا: ما روي: (أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف(2/439)
بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما شارع) ، ولا مخالف له؛ ولأنه من الإمام على مسافة قريبة لا حائل بينهما، فأشبه إذا لم يكن بينهما طريق.
[فرع الصلاة في السفينة]
] : يجوز أن يصلي الفرض والنفل في السفينة، سواء كانت واقفة أو سائرة؛ لأنه يتمكن فيها من القيام، والركوع، والسجود.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو أمكنه القيام، والركوع، والسجود في الكنيسة على الراحلة، جاز أن يصلي عليها الفرض إلى القبلة، وإن كانت الراحلة تسير.
وفيها وجه مضى ذكره وهو المنصوص: (أنه لا تصح) ، ولا يجوز أن يصلي النافلة في السفينة إلا إلى القبلة؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة.
وأما وجوب القيام في الفريضة إذا كان في السفينة: فإن كان لا يخاف الغرق ولا دوران رأسه عند القيام لزمه ذلك، وإن كان يخالف الغرق، أو كان رأسه يدور عند القيام، لم يلزمه القيام.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يصلي فيها الفرض قاعدًا، بكل حال) .
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له جعفر لما بعثه إلى الحبشة: يا رسول الله، كيف أصلي في السفينة؟ فقال له: "صل فيها قائمًا، إلا أن تخاف الغرق» .(2/440)
ولأنه مستطيع للقيام في صلاة مفروضة، فلم يجز له تركه، كما لو كان في غير السفينة.
فإن أراد أن يأتم من في سفينة، بإمام في سفينة أخرى، فإن كانتا مغطاتين لم يجز؛ لأن بينهما حائلًا يمنع الاستطراق والمشاهدة.
وإن كان لا حائل بينهما، وكانتا متصلتين جاز، وهكذا إذا كانتا منفصلتين، وكان بينهما ثلاثمائة ذراع أو أقل جاز.
واشترط صاحب " الإفصاح " مع ذلك: إذا كانوا يجرون بريح رخاء، يأمنون أن تتقدم إحداهما على الأخرى، هذا قول عامة أصحابنا، إلا أبا سعيد الإصطخري، فإنه قال: الماء يمنع الاقتداء، وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: أن الماء لا يراد للحائل، وإنما يراد للمنفعة، فهو كالنار.
ويشترط أن تكون السفينة التي فيها الإمام متقدمة على التي فيها المأمومون، فإن كانت محاذية لها كره وأجزأهم، وإن تقدمت سفينة المأمومين، فهل تصح صلاتهم؟ فيها قولان.
وبالله التوفيق(2/441)
[باب صلاة المريض]
إذا عجز عن القيام جاز له أن يصلي الفرض قاعدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] .
قيل في التفسير: (قيامًا) إذا قدروا عليه، و (قعودًا) إذا لم يستطيعوا القيام، و (على جنوبهم) إذا لم يقدروا على الجلوس.
وروي «عن عمران بن الحصين: أنه قال: كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط من راحلته، فجحش شقه الأيمن، فصلى قاعدًا، وصلى الناس معه قعودًا» .
والعجز الذي يجوز له ترك القيام: إما أن يكون زمنًا لا يستطيع القيام أصلًا، أو يكون صحيحًا، إلا أنه لا يستطيع القيام إلا بتحمل مشقة شديدة، أو يخاف تأثيرًا ظاهرًا في العلة؛ لأن كل عبادة لم يقدر على فعلها إلا بمشقة شديدة جاز له تركها إلى بدلها؛ لأجل المشقة، كالمسافر في شهر رمضان: له أن يفطر وإن كان يقدر على الصيام لو تحمل المشقة.
إذا ثبت هذا: فكيف يقعد؟ فيه قولان:(2/442)
أحدهما: يقعد متربعًا؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعًا» .
والثاني: يقعد مفترشًا؛ لأن ذلك قعود العبادة، والتربع قعود العادة.
والذي يقتضي القياس: أن القولين في الاستحباب، لا في الوجوب.
إذا ثبت هذا: فإن الجالس إذا أمكنه الركوع والسجود فعل ذلك.
قال في " الفروع ": وينحني في الركوع، حتى يصير بالإضافة إلى القاعد، كالراكع بالإضافة إلى القائم.
وإن لم يقدر أن يسجد على الأرض لعلة بجبهته، أو ظهره انحنى أكثر ما يقدر عليه.
قال الشافعي: (وإن أمكنه أن يسجد على صدغه فعل ذلك) .
قال أصحابنا: وأراد بهذا: أن يأتي بما تكون جبهته إلى الأرض أقرب، فكلما كان أقرب إلى الأرض كان أولى، فلو علم أنه لو سجد على عظم رأسه الذي فوق الجبهة، كنت الجبهة من الأرض أقرب فعل ذلك، ولو علم أنه لو يسجد على صدغه، كانت جبهته أقرب فعل.(2/443)
فإن سجد على مخدة نظرت: فإن وضعها على يديه، وسجد عليها لم يجزئه؛ لأنه سجد على ما هو حامل له، وإن وضع المخدة على الأرض، وسجد عليها أجزأه، وهكذا إذا سجد على شيء مرتفع، وهو صحيح أجزأه، ما لم يخرج عن هيئة السجود.
قال في " الأم ": (وإذا كان قادرًا على أن يصلي قائمًا منفردًا، ويخفف الصلاة، وإذا صلى خلف إمام، احتاج أن يقعد في بعضها، أحببت له أن يصلي منفردًا، وكان هذا عذرًا في ترك الجماعة، فإن صلى مع الإمام، وجلس فيما عجز عنه كانت صلاته صحيحة) .
وإن كان بظهره علة لا تمنعه من القيام، وتمنعه من الركوع والسجود وجب عليه القيام، ويركع ويسجد، على حسب ما يقدر عليه.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى جالسًا، إذا عجز عن الركوع) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن الحصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا» ، وهذا مستطيع للقيام، فلم يسقط عنه، فإذا بلغ إلى الركوع، وعجز عن أن يحني ظهره حتى رقبته، فإن لم يقدر عليها، إلا بأن يعتمد على عكازة، أو غيرها؛ اعتمد عليها وانحنى.
وإن تقوس ظهره من الكبر أو الحدب، حتى صار يمشي كالراكع، ولا يقدر على الاستواء، فعليه أن يصلي على حالته، فإذا بلغ إلى الركوع انحنى وإن كان يسيرًا؛ ليقع الفصل بين القيام والركوع.(2/444)
وإن كان بعينيه رمد أو غيره، وكان يقدر على الصلاة قائمًا، فقيل له: إن صليت مستلقيًا على قفاك كان برؤك أسرع:
قال أصحابنا: فليست بمنصوصة للشافعي، ولكن قال مالك والأوزاعي: (لا يجوز له ذلك) .
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وهذا هو الأشبه بمذهبنا.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يجوز له ترك القيام) ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا.
ووجهه: أنه لو كان صائمًا، فرمدت عينه، فاحتاج إلى الفطر لأجل ذلك؛ لكان له أن يفطر، كذلك هاهنا، يجوز له ترك القيام؛ لسرعة برئه.
ووجهه الأول: ما روي: أن ابن عباس، لما وقع في عينيه الماء، وكف بصره أتاه رجل، وقال له: (إن صبرت علي سبعة أيام تصلي مستلقيًا داويتك، ورجوت برأك، فأرسل إلى عائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، فسألهم عن ذلك، فقالوا له: إن مت في هذه السبع ما تفعل بصلاتك؟ ! ولما ترك المداواة.
وأما الصوم: فإنما جاز له تركه؛ لأنه يرجع إلى بدل تام مثله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يرجع منه إلى بدل تام، فلم يجز له تركه بأمر مظنون.(2/445)
[مسألة الصلاة مضطجعًا]
] : فإن عجز عن الصلاة قاعدًا صلى مضطجعًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] ، ولما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين.
وكيف يضطجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها وهو المنصوص في " البويطي ": (أنه يضطجع على جنبه الأيمن معترضًا بين يدي القبلة، كما يوضع الميت في لحده) وبه قال عمر، وأحمد بن حنبل.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو اضطجع على جنبه الأيسر معترضًا، أو وضع الميت في لحده على جنبه الأيسر جاز ذلك عندي، والأول أولى.
والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويستقبل القبلة برجليه، وبه قال ابن عمر، والثوري في إحدى الروايتين عنهما، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
والثالث: أنه يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة برجليه.
والأول أصح؛ لما روى علي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع صلى جالسًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى على قفاه، ورجلاه إلى القبلة، وأومأ بطرفه» .
ولأنه إذا فعل ذلك استقبل القبلة بجميع بدنه، وإذا كان رأسه في دبر القبلة لم يستقبل القبلة إلا برجليه، ويومئ برأسه إلى الركوع، والسجود، فإن عجز عن(2/446)
الإيماء برأسه أومأ بحاجبه وطرفه إليهما؛ لما ذكرناه في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن لم يمكنه أن يصلي مضطجعًا بالإيماء، وعجزت لسانه عن القراءة حركها عند القراءة، فإن لم يمكنه تحريكها وعقله معه نوى الصلاة، وعرض القرآن على قلبه ونواه، وكذلك يعرض سائر أفعال الصلاة على قلبه وينويها.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه فعل الصلاة في هذه الحالة) .
وحكى الطبري في " العدة " ذلك عن بعض أصحابنا.
والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، وهذا يستطيع ما ذكرناه، فوجب عليه الإتيان به.
[مسألة العجز أثناء الصلاة]
] : إذا افتتح الصلاة قائمًا، ثم عجز عن القيام، فله أن يجلس، ويبني على صلاته.
قال أصحابنا: وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فلو قرأ الفاتحة في حال الانحطاط إلى الجلوس أجزأه؛ لأن الانحطاط أعلى حالًا من الجلوس، فإذا أجزأته القراءة في حال الجلوس، فلأن تجزئه في حال الانحطاط أولى.
وكذلك إذا افتتح الصلاة جالسًا، ثم عجز عن الجلوس، واضطجع في صلاته بنى عليها، كما قلنا في التي قبلها.
وإن افتتح الصلاة جالسًا عند العجز، ثم قدر على القيام في أثناء الصلاة، وجب عليه القيام، ويبني على صلاته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأكثر أهل العلم.
وقال محمد بن الحسن: تبطل الصلاة، ويستأنفها.(2/447)
دليلنا: أنه قادر على القيام في موضع القيام، فلزمه القيام والبناء عليه، كما لو قعد التشهد الأول؛ ولأن زوال العذر لا يورث عملًا طويلًا، فلم تبطل الصلاة لأجله.
إذا ثبت هذا: فإن كان قد قرأ الفاتحة في جلوسه قال الشافعي: (أستحب له أن يعيدها في حال القيام؛ ليأتي بها على أكمل أحواله) ، وهذا يبطل قول من قال من أصحابنا: إن من قرأ فاتحة الكتاب مرتين في ركعة بطلت صلاته، ولا يجب عليه إعادتها؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بالفراغ منها.
فإن قدر على القيام قبل أن يقرأ الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويقرأ الفاتحة في حال القيام، وإن قدر على القيام في أثناء الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويتم قراءتها وهو قائم، فإن أتمها في حال نهوضه إلى القيام لم يجزئه؛ لأن القراءة وجبت عليه وهو قائم، والقيام أعلى من حال النهوض، فلا يجوز أن يسقط ما وجب عليه في حال الكمال، بما هو أدنى منه.
وإن افتتح الصلاة مومئًا، ثم قدر على الجلوس، أو القيام في أثناء الصلاة، فإنه يلزمه ذلك، ويبني على صلاته.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تبطل صلاته، فيقوم، ويستأنف الصلاة) .
وكذلك العريان عندهم إذا استفتح الصلاة، ثم قدر على السترة في أثناء الصلاة، فإنه يستر عورته، ويستأنف الصلاة، إلا أنهم وافقونا في الأمة، إذا أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس، أنها تستر رأسها، وتبني على صلاتها.
وقالوا في الأمي إذا افتتح الصلاة، ثم قدر على القراءة في أثناء الصلاة: إنه يستأنف الصلاة.
ودليلنا: أنه قدر على ركن من أركان الصلاة في أثنائها، فوجب أن يلزمه البناء على صلاته، كما لو افتتح الصلاة جالسًا، ثم قدر على القيام.
وبالله التوفيق(2/448)
[باب صلاة المسافر]
يجوز قصر الصلاة في السفر في: الخوف، والأمن.
والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] .
وأما السنة: فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في أسفاره حاجًّا وغازيًا» .
وروي عن «يعلى بن أمية: أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وقد أمن الناس، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ، فثبت جواز القصر في السفر بالخوف بالكتاب، وثبت جواز القصر في السفر بالأمن بالسنة.
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز قصر الصلاة في السفر.(2/449)
إذا ثبت هذا: فإنما يجوز قصر الظهر والعصر والعشاء، فأما الصبح والمغرب: فلا يجوز قصرهما؛ لأنه لم يروَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصرهما، وقصر سائر الصلوات الأخرى؛ ولأن الأمة أجمعت على ذلك أيضًا.
وروي عن عائشة: أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتْين، إلا المغرب والصبح، وكان إذا سافر عاد إلى الأول) .
ويجوز قصر الصلاة في السفر في البحر، كما في السفر في البر.
[مسألة أنواع السفر]
والأسفار على أربعة أضرب: واجب، ومحظور، وطاعة، ومباح.
فأما الواجب: فهو سفر الحج والعمرة الواجبين، والجهاد في سبيل الله، إذا تعين عليه، والهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، فهذا يجوز الترخص فيه برخص السفر، بلا خلاف بين أهل العلم.(2/450)
وأما السفر المحظور: فهو أن يسافر لقطع الطريق، أو لقتل نفس بغير حق، أو ليزني بامرأة، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الترخص فيه بشيء من رخص السفر عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يترخص بجميع الرخص، حتى قال: لو خرج مع الحاج ليسرقهم، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، جاز له أن يترخص) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني.
ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] .
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] [البقرة: 173] .
قال ابن عباس: (غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم بسيفه) ؛ ولأن في تجويز الترخص برخص السفر في سفر المعصية إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز.
وأما سفر الطاعة: فهو السفر لزيارة الوالدين، والسفر لحج التطوع، وما أشبهه.
وأما المباح: فهو أن يسافر لنزهة، أو تجارة، فحكم هذين الضربين عندنا حكم السفر الواجب في جواز الترخص بهما، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن مسعود: (لا يجوز قصر الصلاة إلا في السفر الواجب) .
وقال عطاء: لا يجوز القصر إلا في سفر الطاعة.(2/451)
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعًا» ، ولم يفرق بين المباح والواجب.
ولأن كل رخصة تعلقت بالسفر الواجب تعلقت بالطاعة والمباح، كالنافلة على الراحلة.
قال الشيخ أبو حامد: والأحكام التي تتعلق بالسفر على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يتعلق إلا بالسفر الطويل، وضرب: يتعلق بالسفر الطويل والقصير، وضرب: يتعلق بالطويل، وهل يتعلق بالقصير؟ فيه قولان.
فأما الضرب الذي لا يتعلق إلا بالطويل: فهي ثلاثة: القصر، والفطر في رمضان، ومسح الخفين ثلاثة أيام.
وحكى أبو علي السنجي قولًا آخر: أن القصر يجوز في السفر القصير مع الخوف لعموم الآية، وليس بصحيح.
وأما الأحكام التي تتعلق بالقصير والطويل: فهي ثلاثة:
النافلة على الراحلة، والتيمم عند عدم الماء، وأكل الميتة عند الضرورة.
وقد ذكرت قبل هذا قولًا آخر في (التيمم) والتنفل على الراحلة: أنه لا يجوز في القصير، وليس بمشهور.
وأما الذي اختلف فيه قول الشافعي في القصير: فهو الجمع بين الصلاتين، ويأتي توجيه القولين في موضعهما.(2/452)
إذا ثبت هذا: فاختلفت عبارات الشافعي عن حد السفر الطويل:
فقال في موضع: (ستة وأربعون ميلًا بالهاشمي) .
وقال في موضع: (ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي) .
وقال في موضع: (أكثر من أربعين ميلًا) .
وقال في موضع: (أربعون ميلًا: مسيرة ليلتين بسير الأثقال، ودبيب الأقدام) .
وقال في موضع: (مسيرة يومين) .
وقال في موضع: (مسيرة يوم وليلة) .
قال أصحابنا: وليس بين هذه العبارات اختلاف في المعنى، وإنما المراد واحد، وهو أربعة برد، كل بريد أربعة فرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وذلك ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال الشافعي: (ستة وأربعون ميلًا) أراد: غير الميل الذي يبدأ به، وغير الميل الذي يختم به.
وحيث قال: (أكثر من أربعين ميلًا) فتفسيره: ما ذكرناه.(2/453)
وحيث قال: (أربعون ميلًا) أراد: بأميال بني أمية؛ لأنها تكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي.
وحيث قال: (مسيرة ليلتين) أراد: من غير يوم بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يومين) أراد: من غير ليلة بينهما.
وحيث قال: (مسيرة يوم وليلة) أراد: متواليين، وذلك يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس.
وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة: (ثلاث مراحل) ، وهو أربعة وعشرون فرسخًا، وروي ذلك عن ابن مسعود.
وقال الأوزاعي: (يقصر في مسيرة يوم) ، وروي ذلك عن أنس.
وقال داود، وأهل الظاهر: (يقصر في طويل السفر وقصيره) .
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان والطائف» .(2/454)
فدليل الخطاب من الخبر دليل على أبي حنيفة، ونطقه دليل على غيره.
فإن كان السير في البحر، فالاعتبار بالمسافة التي ذكرناها في البر، وهي أربعة براد، ولو قطعها في أدنى زمان، فيجوز له القصر في السفر في ذلك.
[فرع ما لو كان للبلد طريقان]
] : وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في إحداهما الصلاة، دون الأخرى، فسافر في الطريق القصيرة لم يقصر.
وإن سافر في الطريق الطويلة، فإن كان لغرض صحيح في السفر من واجب، أو طاعة، أو مباح، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه سافر لمعنى جائز.
وإن كان لغير غرض، ولكن ليقصر الصلاة، ففيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يقصر، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يبغض المشائين من غير أرب» ، وهذا يمشي من غير أرب؛ ولأنه طول الطريق على نفسه لا لغرض، فأشبه إذا مضى في الطريق القصير طولًا وعرضًا، حتى طال.
والثاني: له أن يقصر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] وهذا ضارب.
ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة، فهو كما لو لم يكن له طريق سواه.(2/455)
وإن سار هائمًا على وجهه، لا لغرض، فقد قال في " الفروع ": هل له أن يقصر؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في التي قبلها.
وقال ابن الصباغ، والطبري: لا يقصر.
قال في " الفروع ": وإن كان الرجل ممن لا موطن له، بل عادته السير أبدًا، جاز له القصر، والمستحب له: الإتمام.
[فرع سافر في سفينة ونحوها ومعه أهله]
قال في "الأم" [1/166] : (وإذا كان ملاح في سفينة له، وكان فيها أهله، وماله، وولده، وهو يسافر في البحر، أحببت له ألا يقصر؛ لأنه في وطنه، وموضع إقامته، فإن قصر الصلاة جاز؛ لأنه مسافر) .
وقال أحمد: (لا يجوز له القصر) .
دليلنا: أنه يسافر لمباح سفرًا تقصر فيه الصلاة، فهو كما لو يم يكن له فيها أهل.
قال في قال في "الأم" [1/167] : (وإن كان سيارة، يتبع أبدا مواقع القطر -حل بموضع- إذا شام برقا انتجعه، فإن كان لا يبلغ سيره إليه ستة عشر فرسخًا، لم يقصر) ، ومعنى هذا: أنه يسير في طلب موضع القطر، وليس يقصد موضعًا بعينه.
وقوله: (شام) : أبصر.
وكذلك إذا سير في طلب الخصب.
[فرع صلاة الأسير]
فإن أسر المشركون رجلًا من المسلمين، فساقوه معهم، لم يجز له القصر؛ لأنه لا يتيقن المسافة التي يحمل إليها.(2/456)
قال الشافعي: (فإن ساروا به ستة عشر فرسخًا، كان له أن يقصر؛ لأنه قد تيقن طول سفره) .
وينبغي أنه إذا علم أنهم يحملونه إلى بلد يقصر إليه الصلاة، فإن كان ينوي أنهم متى خلوه رجع لم يقصر، وإن نوى أن يقصد ذلك البلد، أو غيره مما تقصر إليه الصلاة قصر.
وإن أبق له عبد، أو ضل له مال، فسافر لطلبه إلى بلد، تقصر إليه الصلاة، واعتقد أنه إن لقي عبده أو ماله دونه، رجع لم يقصر؛ لأنه لم يقطع على سفر طويل.
وإن نوى أنه لا يرجع وإن وجده جاز له أن يقصر؛ لأنه نوى سفرًا طويلًا، فإن وجده، ثم بدا له الرجوع صار سفرًا مستأنفًا، فإن كان بينه وبين بلده ما تقصر إليه الصلاة قصر، فإن كان دونه لم يقصر.
[فرع تعدد نية المسافر]
قال الشافعي في "الأم" [1/162 و166] : (وإذا نوى أن يسافر من بلده إلى بلد، ثم يسافر من ذلك البلد إلى بلد آخر، اعتبر حكم كل واحد منهما بنفسه) ، هكذا أطلقها الشافعي، والشيخ أبو إسحاق في " المهذب".
قال أصحابنا: وهذا يقتضي أن يكون المسافر قصد أن يقيم في البلد الأول أربعة أيام، وهذا مرادهما فيما أطلقا من ذلك.
فعلى هذا: إن كان بين بلده الذي سافر منه، وبين البلد الأول مسافة القصر، كان له أن يقصر، وكذلك إن كان بين البلد الأول والثاني مسافة القصر، كان له أن يقصر أيضًا، إذا خرج من البلد الذي وصله، وإن كان بين كل واحد منهما دون مسافة القصر، لم يقصر في واحد منهما.(2/457)
[مسألة الإتمام أفضل أم القصر]
] : قد ذكرنا أن مسافة القصر: ستة عشر فرسخًا، وهو مسير يومين، قال الشافعي: (وأحب ألا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام) ليخرج بذلك من الخلاف.
وإذا كان سفره مسيرة ثلاثة أيام، فهل القصر أفضل، أم الإتمام؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وغيره:
أحدهما: أن الإتمام أفضل، وهو اختيار المزني؛ لأن الأصل: التمام، والقصر بدل عنه، فكان أفضل، كغسل الرجلين، والصوم في السفر؛ ولأنه أكثر عملًا.
والثاني: أن القصر أفضل، وبه قال مالك، وأحمد، ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا» .
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل.
ولأنه إذا قصر سقط عنه الفرض بالإجماع، وإذا أتم اختلف في إجزائه.
وأما الصوم في السفر: فقال في " العدة": فيه وجهان:
أحدهما: الفطر أفضل، فعلى هذا: يسقط السؤال.
والثاني: الصوم أفضل، وهو المشهور.(2/458)
والفرق بينه وبين القصر على هذا: أنه إذا أخره، عرضه للنسيان وعوارض الزمان، وليس كذلك الإتمام، فإنه يسقط إلى بدل في الحال.
قال في " الفروع ": وقد قيل: إن القصر والإتمام سواء.
قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى بلد مسيرة ثلاثة أيام، فسار يومين، فأسلم الكافر، وبلغ الصبي جاز لهما أن يقصرا فيما بقي من سفرهما.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يقصر الكافر؛ لأن له نية صحيحة، ولا يقصر الصبي؛ لأنه لا نية له.
ودليلنا: أن الكافر أسوأ حالًا من الصبي؛ لأنه ليس من أهل الصلاة والرخص، فإذا جاز له القصر؛ فالصبي بذلك أولى.
[فرع ترك المسافر القصر]
فإن ترك المسافر القصر، فأتم جاز، وبه قال عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.
وذهبت طائفة إلى أن القصر عزيمة، ولا يجوز له التمام، ذهب إليه عمر وعلي، ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة.
وتفصيل مذهب أبي حنيفة: أنه إذا ائتم بمقيم لزمه أن يتم، وإن صلى منفردًا(2/459)
أربعًا، فإن جلس في الأوليين قدر التشهد، ثم قام أجزأ عنه الركعتان الأوليان، وكان الأخريان نافلة، وإن لم يجلس بطلت صلاته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذه اللفظة في لغة العرب وكلامهم موضوعة للإباحة ورفع الحرج.
وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رجعت قال: ما صنعت في سفرك؟ فقلت: أتممت الذي قصرت، وصمت الذي أفطرت، فقال: أحسنت» .
وروي عن عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم» .
وروي عن أنس: أنه قال: (سافرنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا المقصر، ومنا المتم، فلم يعب المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) .
[مسألة نية المعصية في السفر]
قد ذكرنا أن المسافر للمعصية لا يترخص بشيء من رخص المسافر، ومضى(2/460)
الخلاف فيه، فإن أبق عبد من سيده، أو نشزت المرأة من زوجها، أو هرب من عليه حق، وهو قادر على أدائه، من الحق الذي عليه لم يجز لواحد منهم أن يترخص بشيء من رخص المسافر؛ لأنهم عصاة، فإن سافر بنية تجوز له القصر، ثم أحدث نية المعصية في أثناء سفره، فهل تمنعه هذه النية من الترخص برخص المسافر؟ فيه وجهان: حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق ".
أحدهما: له أن يترخص؛ لأن بإنشاء سفره، كان يباح الرخصة، فلا يضره ما اعترض بعد ذلك من نية المعصية.
والثاني: لا يجوز له الترخص؛ لأنه عاص في سفره، فهو كما لو أنشأ السفر بهذه النية.
وتشبه هذه المسألة: إذا كان له مقصد صحيح، ثم أحدث نية في أثناء السفر، أنه إذا استقبلني فلان انصرفت، فهل تمنعه هذه النية من القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 86] :
أحدهما: تمنع، كما لو أنشأ السفر على هذه النية.
قال القفال: فإن عرف أنه لا يستقبله ما لم يمض ستة عشر فرسخًا فله القصر، وإن سار ابتداء على هذه النية.
والوجه الثاني: له أن يقصر، اعتبارًا بإنشاء سفره، ولا اعتبار بالنية الحادثة، وهذا هو القياس؛ لأن الشافعي نص في "الأم" [1/165] : (إذا سافر إلى بلد، فمر في بلد، وأقام بها يومًا، ونوى: إن لقي فلانًا، أو قدم فلان أقمت أربعًا، أو أكثر، فله أن يقصر ما لم يلق فلانًا؛ لأنه لم يوجد شرط الإقامة) .
قال الشافعي: (فإذا لقي فلانًا أتم الصلاة؛ لأن الإقامة والنية وجدتا جميعًا) .
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أنه إن لقي فلانًا، وهو مستصحب للنية، عازم عليها، فإن لقي فلانًا، ثم بدا له ألا يقيم قال الشافعي: (لم يكن له أن(2/461)
يقصر؛ لأنه قد صار مقيمًا، فما لم يخرج لم يقصر) .
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا بدا له قبل لقاء فلان، أن له القصر، إذا لقيه؛ لأنه لم تحصل نية الإقامة.
[فرع تغير نية المسافر]
] : قال في "الأم" [1/166] : (وإذا خرج رجل من مكة يريد المدينة قصر، فإن خاف في طريقه وهو بعسفان، فأراد المقام به، أو الخروج على غير المدينة ليقيم، أو ليرتاد الخير به جعلته إذا ترك النية من سفره إلى المدينة مبتدئًا بالسفر من عسفان؛ لأنه قد قطع النية إلى المدينة) .
[مسألة ابتداء السفر]
ولا يجوز له القصر حتى يفارق موضع الإقامة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وقال عطاء: يجوز له أن يقصر، وإن لم يخرج عن بيوت القرية.
وحكي: أن الحارث بن ربيعة: أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله بن مسعود.
وقال قتادة: إذا جاوز الجسر أو الخندق قصر.
وقال مجاهد: إذا خرج بالنهار فلا يقصر إلى الليل، وإذا خرج بالليل فلا يقصر إلى النهار.
دليلنا على مجاهد: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] . وهذا قد ضرب.(2/462)
وعلى الحارث: أن من كان في بيته، ولم يفارق البنيان فلم يضرب.
وروى أنس قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين» .
وروي عن علي بن ربيعة: أنه قال: (خرجت مع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصر ونحن نرى البيوت) .
إذا ثبت هذا: فإن كان بطرف البلد مساكن خربت وخليت من السكان، إلا أن الجدران قائمة لم يقصر، حتى يفارقها؛ لأن السكنى فيها ممكن، فإن تهدمت، وذهبت قواعدها جاز له القصر قبل مفارقتها؛ لأنها لا تسكن.
وإن كان حيطان البساتين متصلة بحيطان البلد فله أن يقصر إذا فارق حيطان البلد، وإن لم يفارق حيطان البساتين؛ لأنها ليست بمبنية للسكنى.
قال ابن الصباغ: وإن كان في وسط البلد نهر يجري مثل بغداد، فأراد رجل سفرًا يجتاز فيه إلى الجانب الآخر، لم يجز له أن يقصر، حتى يفارق بنيان الجانب الآخر والنهر، والماء ليس بحائل، ألا ترى أنه لو كان في وسط البلد رحبة واسعة ميدانًا لم يقصر حتى يفارقها، فالنهر أولى بالمنع لتعلق المنافع به.
فإن كان هناك قريتان، فاتصل البناء بينهما، حتى صارتا قرية واحدة لم يقصر حتى يفارق جميعها، وإن كان بينهما فضاء قصر إذا فارق القرية التي هو فيها، وإن لم يفارق القرية الأخرى.
وقال أبو العباس بن سريج: إذا كان بينهما قريب، فهما كالقرية الواحدة.
والمذهب الأول؛ لأن كل واحدة من القريتين منفصلة عن الأخرى، فثبت لكل واحدة حكم نفسها.(2/463)
[فرع قصر أهل الخيام]
] : فأما أهل الخيام، فإن كانت مجتمعة لم يقصر، حتى يفارق جميعها، وإن كانت متفرقة لم يقصر، حتى يفارق ما يقرب من بيوته.
قال أبو إسحاق المروزي: معنى هذا: إذا كان الحين بطونًا، فلكل بطن حكم نفسه.
وإن كان في الصحراء، فنقل المزني: (أنه لا يقصر، حتى يفارق موضعه) .
وقال في "الأم" [1/162] : (حتى يفارق البقعة التي فيها موضعه) وهذا صحيح، لا يقصر حتى يفارق الموضع الذي يسكن فيه، ويكون فيه رحله، وقماشه، وتصرفه.
قال الشافعي: (فإن كان في عرض الوادي، فحتى يقطع عرض الوادي، وإن كان في طول الوادي، فحتى ينبت عن موضع منزله) .
وقال أكثر أصحابنا: إنما اشترط قطع عرضه، إذا كانت البيوت في جميع عرض الوادي، وإن كانت البيوت في بعضه، فيقصر إذا فارقها، وإن كان في عرض الوادي.
وقال القاضي أبو الطيب: لم يشترط الشافعي ما ذكروه بل أطلق، وإنما قال ذلك؛ لأن جانبي الوادي بمنزلة السور على البلد؛ لأنهم إنما اختاروا النزول في الوادي؛ ليتحصنوا بجانبيه، كما يتحصن أهل البلد بسوره، فينبغي ألا يقصر، حتى يفارقه.
[فرع خرج من بلد ثم عاد لحاجة]
] : فإن خرج من بنيان بلده فله أن يقصر، فإن ذكر أنه نسي حاجة في البنيان، فعاد إليه لم يكن له أن يقصر فيه؛ لأن هذا موضع إقامته، فلم يقصر حتى يفارقه.(2/464)
قال في " الإملاء " والقديم: (فإن فارق البنيان، وشرع في الصلاة، فرعف، وانصرف إلى البنيان، فغسل الدم لم يجز له أن يتم الصلاة قصرًا، ووجب عليه الإتمام؛ لأنه يتم في البنيان) .
وعلى القول الجديد: تبطل صلاته، فإن أراد أن يستأنف، أتم الصلاة في البنيان، فإن خرج من البنيان استأنفها مقصورة.
وإن خرج وأقام في موضع خارج البلد، ينتظر القافلة، فإن نوى أنه ينتظر دون الأربع إن اجتمعت، وإلا سافر كان له أن يقصر؛ لأنه قد قطع بالسفر، وإن نوى أنه لا يسافر، حتى تجتمع القافلة وإلا ترك السفر، لم يكن له أن يقصر؛ لأنه لم يقطع على السفر.
[مسألة كون جميع الصلاة في السفر شرط للقصر]
] : ولا يجوز القصر، حتى يكون جميع الصلاة في السفر، فإن حصل جزء من الصلاة في دار إقامته، وذلك يتصور في بلد يكون في وسطه نهر، تمر به السفينة، أو نوى الإقامة في أثناء الصلاة في السفر لزمه أن يتم الصلاة؛ لأنها لم تتمحض في السفر.
[مسألة نية القصر]
ولا يجوز له القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام.
وقال أبو حنيفة: (القصر عزيمة، فلا يفتقر إلى نية) .
وقال المزني: لا تختص نية القصر بأول الصلاة، بل لو نوى القصر في أثناء الصلاة جاز له القصر.(2/465)
وقال المغربي: لو نوى الإتمام، ثم نوى أن يقصر في أثناء الصلاة، كان له أن يقصر.
فأما أبو حنيفة: فقد مضى الدليل عليه، وأن القصر ليس بعزيمة.
ودليلنا على المزني: أن كل نية افتقرت إليها الصلاة، كان محلها عند الإحرام، كنية الصلاة.
ودليلنا على المغربي: أنه أحرم بالصلاة تامة، فلم يجز له القصر بعد ذلك، كما لو أحرم بها في السفينة بدار الإقامة، ثم سافر.
[فرع من أراد القصر بعد تركه]
فإن أحرم بالصلاة وهو جاهل، ثم بان له أن يقصر لأجل السفر، ثم سلم من ركعتين، وجب عليه قضاؤها أربعًا؛ لأن عقدها أربعًا، فإذا سلم من ركعتين فقد قصد إفسادها متلاعبًا، فلزمته الإعادة.
[فرع الشك في النية]
] : وإن شك: هل نوى القصر، أم لا؟ وجب عليه الإتمام؛ لأن الأصل التمام، ما لم يتيقن الرخصة، فإن ذكر بعد ذلك أنه قد كان نوى القصر لم يكن له القصر؛ لأنه قد وجب عليه الإتمام بنفس الشك، وإن نوى القصر، فصلى أربعًا ساهيًا، ثم ذكر فإنه يجزئه، ويسجد للسهو لأجل الزيادة، وهذه نادرة؛ لأن الزيادة التي توجب السهو إذا تعمدها أفسدت صلاته.
ولو نوى هذا المسافر التمام لم تفسد صلاته، ولزمه التمام، هذا مذهبنا.
وقال مالك: (إذا نوى المسافر القصر لم يكن له أن ينوي الإتمام؛ لأنه نوى عددًا، فإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية) وهذا ليس بصحيح؛ لأن نية الزيادة على العدد لا تعتبر لها النية؛ لأن نية صلاة الوقت تجزئ لهما، كما قلنا في النافلة إذا نواها ركعتين، كان له أن ينويها أربعًا في أثنائها.(2/466)
[مسألة ائتمام المسافر بالمقيم]
] : إذا ائتم المسافر بالمقيم في جزء من صلاته لزمه الإتمام، وبه قال أبو حنيفة.
وقال طاوس، والشعبي، وإسحاق: يجوز له القصر.
وقال مالك: (إن أدرك معه ركعة لزمه التمام، وإن كان دونها لم يلزمه) .
دليلنا ما روي: أنه «سئل ابن عباس: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ ! فقال: (تلك السنة» ؛ وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والدليل على مالك: أنه مؤتم بمقيم فلزمه التمام، كما لو أدرك معه ركعة.
[فرع المسافر يصلي خلف إمام الجمعة والصبح]
فإن صلى المسافر خلف من يصلي الجمعة لزمه التمام، سواء كان إمام الجمعة مقيمًا أو مسافرًا؛ لأن الصلاة تامة.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قصرها -على القول الذي يجوز له القصر- وائتم بمن يصلي الصبح لزمه التمام؛ لأن الصبح صلاة تامة.
[فرع ائتمام المسافر بمقيم]
] : إذا ائتم المسافر بمن يعلم أنه مقيم، مثل: أن يراه في منزله ووطنه لزمه أن ينوي التمام؛ لأن الإمام مقيم، وكذلك إذا ائتم بمن الظاهر من حاله أنه مقيم، مثل:(2/467)
أن يرى عليه زي المقيمين لا زي المسافرين، فإن عليه أن ينوي التمام؛ لأن الظاهر من حاله أنه مقيم، وإن ائتم بمن يعلم أنه مسافر، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر
فهل له أن ينوي القصر، أو يعلق نيته بنية إمامه؟ فيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ:
أحدهما: ينوي القصر، ولا يجوز تعليق نيته بنية غيره، كما لا يجوز أن ينوي الصلاة التي عليه إذا نسيها، ولم يعلم عينها.
والثاني: يجوز تعليق نيته بنية إمامه؛ لأن صلاته تقع بحسب صلاة الإمام إذا نواها مقصورة، فجاز أن يعلقها بنية الإمام.
فإن اقتدى المسافر بمن ظنه مسافرًا، ونوى القصر، فبان أن الإمام مقيم محدث، أو مسافر نوى الإتمام وهو محدث، فإن تبين له الأمران معًا، أو بان له حدثه قبل إقامته، فهل للمؤتم به أن يقصر هذه الصلاة؟ فيه وجهان:
أحدهما وهو قول ابن القاص، ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أن له أن يقصرها؛ لأن صلاة الإمام لم تنعقد، فلم يلزم المؤتم به التمام.
والثاني حكاه الطبري في " العدة": ليس له أن يقصر؛ لأنه قد صح اقتداؤه به، إذا لم يعلم حدثه، ولهذا لا إعادة على من يقتدي به، إذا علمه بعد.
وأما إذا بان له أنه مقيم، أو أنه نوى الإتمام أولًا، ثم بان له حدثه، فعليه أن يتم هذه الصلاة، وجهًا واحدًا.
وكذلك لو ظنه مقيمًا، فاقتدى به، ثم بان أنه مسافر محدث، أو غير محدث، فإن المأموم يلزمه إتمام هذه الصلاة؛ لأنه قد التزم إتمامها، فلم يسقط عنه بما بان بعد ذلك.
وإن ائتم المسافر بمقيم، أو بمن نوى الإتمام، أو لم ينو القصر، أو نوى الائتمام فإنه يلزمه في هذه المسائل الإتمام.
فإن أفسد صلاته لزمه إعادتها تامة؛ لأنه قد التزمها تامة بإحرامه الأول، فإن بان أن المأموم كان محدثًا فيه جاز له أن يعيدها مقصورة؛ لأنه بان أن إحرامه كلا إحرام.(2/468)
[فرع ائتمام المسافر بالمسافر]
] : إذا ائتم المسافر بمن يعلمه مسافرًا، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر، ثم نويا القصر، فقام الإمام من الثانية إلى الثالثة ساهيًا، فإن علم المأموم أن الإمام قام ساهيًا، وقل ما يعلم ذلك فإنه يفارقه، كما لو قام إلى الخامسة.
وإن لم يعلم ذلك، بل ظن أنه أتم الصلاة لأمر ما لزمه متابعته؛ لأن الظاهر أن ما يأتي به الإمام من الصلاة، فلو أن الإمام -بعد أن فرغ من الرابعة- ذكر أنه صلى أربعًا ساهيًا، ثم نوى إتمامها لم يحتسب بهاتين الركعتين، بل يجب عليه أن يقوم، ويأتي بركعتين أخريين، ولا يجوز للمأموم متابعته فيهما؛ لأن الظاهر من الإمام، أنه قام ساهيًا في هذه الحالة.
وإن نوى القصر خلف المسافر، ثم أفسد الإمام صلاته، ثم قال: كنت نويت القصر، كان للمأموم أن يتمها مقصورة، وإن قال الإمام: كنت نويتها تامة لزم المأموم أيضًا أن يتمها.
وإن انصرف ولم يعلم بماذا أحرم الإمام، ففيه وجهان:
أحدهما وهو المنصوص: (أنه يلزمه أنه يتمها) ؛ لأنه يشك في عدد الركعات، فلزمه البناء على اليقين.
والثاني وهو قول أبي العباس: أن له أن يقصر؛ لأن الظاهر من إمامه أنه يقصر.
[مسألة إمامة المسافرين وغيرهم]
] : قال الشافعي: (وإن صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام واستخلف مقيمًا، كان على جميعهم والراعف أن يصلوا أربعًا؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) .(2/469)
وجملة ذلك: أنه إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام، واستخلف مقيمًا كان على المأمومين أن يتموا الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (لا يلزم المسافرين الإتمام؛ لأنهم يبنون على حكم الإمام الأول) .
ودليلنا: أنهم مؤتمون بالمقيم، فأشبه إذا أحرموا خلف المقيم.
وأما الراعف: فإن الشافعي قال: (يلزمه أن يتم) .
قال المزني: هذا غلط، بل هو بالخيار، إن شاء قصر، وإن شاء أتم؛ لأنه مسافر لم ينو الإتمام، ولا اقتدى بمقيم.
قال أصحابنا: الصحيح ما قاله المزني.
واختلفوا في تأويل قول الشافعي: فقال أبو إسحاق: تأويل ذلك هو أن الراعف لما رعف، واستخلف المقيم ذهب، وغسل الدم عن نفسه، ثم عاد، فائتم بالمقيم، وعليه يدل ظاهر كلام الشافعي، حيث قال: (لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) ، وهذا الراعف لا يكون فيها في صلاة مقيم إلا بهذا.
وتأولها أبو العباس تأويلين غير هذا:
أحدهما: أنه قال: بنى الشافعي هذا على القول القديم، وأن الصلاة لا تبطل إذا سبقه الحدث، فيكون في حكم المؤتم بالمقيم.
وهذا التأويل ليس بشيء؛ لأنه وإن لم تبطل صلاته على هذا القول إلا أنه منفرد عن الجماعة.
والتأويل الثاني حكاه أبو العباس عن بعض أصحابنا: أنه قال: يحتمل أن يلزمه التمام على القولين؛ لأن هذا الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفرع.
وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما لزمه التمام؛ لأنه مقيم.(2/470)
ألا ترى أن الراعف لو لم يصبه الرعاف؛ لكانت صلاته أنقص من صلاة فرعه في حال كونه إمامًا له.
وقال أبو غانم ملقي أبي العباس: تأويلها: هو أن الراعف لما أحس بالرعاف استخلف المقيم، وهو في الصلاة قبل أن يظهر الدم، فائتم بالمقيم في جزء من صلاته، ثم خرج الدم.
وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما يستخلف وينصرف، فأما أن يستخلف، ويصلي مع خليفته فلا، هكذا قال ابن الصباغ؛ ولأن الشافعي قال: (فرعف، واستخلف مقيمًا) . وظاهر قوله: أنه استخلف بعد أن رعف.
[فرع تفريق الإمام المصلين في صلاة الخوف]
إذا فرق الإمام الناس فرقتين في صلاة الخوف، وصلى بفرقة ركعة، وقام إلى الثانية فأحدث، واستخلف مقيمًا ليصلي بهم الركعة الثانية قال الشافعي: (كان على الطائفتين أن يصلوا أربعًا) .
قال أصحابنا: تأويلها: إذا قدم المقيم قبل أن تفارقه الأولى، فأما بعد مفارقته: فإن الأولى تقصر دون الثانية.
[مسألة حكم القصر]
إذا سافر إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فوصل ذلك البلد، فإن لم ينو الإقامة فيه فهو مسافر فيه، وله أن يقصر فيه الصلاة. وإن نوى فيه الإقامة صار مقيمًا فيه بنفس الدخول، فينقطع عنه رخص المسافر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، وخرج إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة، وهو يقصر الصلاة» .(2/471)