قتال ) وخوف على نفسه أو عضوه من برد أو حر أو غير ذلك ولم يجد غيره فإنه يجوز كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار ويحل أن يغشى كل من الكلب والخنزير جلده وجلد الآخر
قال في المجموع كذا أطلقوه ولعل مرادهم كلب يقتنى وخنزير لا يؤمر بقتله فإن فيه خلافا وتفصيلا ذكروه في السير
وما استشكله في تغشية الخنزير بامتناع اقتنائه والمغشي مقتنى أجيب عنه بمنع كونه مقتنى بذلك ولو سلم فيأثم بالاقتناء لا بالتغشية أو يحمل ذلك على خنازير أهل الذمة فإنهم يقرون عليها أو على مضطر تزود به ليأكله كما يتزود بالميتة
أما تغشية غير الكلب والخنزير وفروعهما وفرع أحدهما مع الآخر بجلد واحد منهما فلا يجوز بخلاف تغشيته بغير جلدهما من الجلود النجسة فإنه جائز
( وكذا جلد الميتة ) قبل الدبغ من غيرهما لا يحل لبسه أيضا ( في الأصح ) إلا لضرورة فيحل كجلد نحو الكلب وكذا يحرم على الآدمي استعمال نجاسة في بدنه أو شعره أو ثوبه لما عليه من التعبد في اجتناب النجاسة لإقامة العبادة ولو كان النجس مشط عاج في شعر الرأس أو اللحية إذا كانت هناك رطوبة وإلا فيكره كما في المجموع خلافا للإسنوي في قوله يحرم مطلقا فقد نص الشافعي رضي الله تعالى عنه في البويطي على التفصيل المذكور وجزم به جمع وكأنهم استثنوا العاج لشدة جفافه مع ظهور رونقه
وجلد الآدمي وإن كان طاهرا يحرم استعماله إلا لضرورة
ويكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي كما نقله المصنف عن المتولي وإن اختار في المجموع أنه خلاف السنة
ويحرم إطالة العذبة طولا فاحشا وإنزال الثوب ونحوه عن الكعبين للخيلاء ويكره ذلك لغيرها والسنة أن تكون العذبة بين الكتفين
ويجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبدونه ولا كراهة في واحد منهما ولكن الأفضل إرخاؤه
أما المرأة فيجوز لها إرسال الثوب على الأرض ذراعا
قال في المجموع والأوجه أن ابتداء الذراع من الحد المستحب للرجال وهو أنصاف الساقين لا من الكعبين ولا من أول ما يمس الأرض
ويجوز بلا كراهة لبس القباء والفرجية والقمص ونحوها مزرورة وغير مزرورة إذا لم تبد عورته
ويسن تقصير الكم لأن كمه صلى الله عليه وسلم كان إلى الرسغ
وإفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع مال كما قاله ابن عبد السلام قال ولا بأس بلبس شعار العلماء ليعرفوا بذلك فيسألوا فإني كنت محرما فأنكرت على جماعة محرمين لا يعرفونني ما أخلوا به من أدب الطواف فلم يقبلوا فلما لبست ثياب الفقهاء وأنكرت عليهم ذلك سمعوا وأطاعوا فإذا لبسها لمثل ذلك كان فيه أجر لأنه سبب لامتثال أمر الله وللانتهاء عما نهى الله عنه
( ويحل ) مع الكراهة في غير المسجد الاستصباح ( بالدهن النجس ) عينه كودك ميتة أو بعارض كزيت ونحوه وقعت فيه نجاسة ( على المشهور ) لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فاستصبحوا به أو فانتفعوا به رواه الطحاوي وقال رجاله ثقات
والثاني لا يجوز لأجل دخان النجاسة فإنه قد يصيب بدنه أو ثوبه عند القرب من السراج
وعلى الأول يعفى عما يصيبه من دخان المصباح لقلته أما في المسجد فلا يجوز لما فيه من تنجيسه كما جزم به ابن المقري تبعا للأذرعي و الزركشي وإن كان ميل الإسنوي إلى الجواز
ويستثنى أيضا ودك نحو الكلب كما قاله في البيان ونقله الغزي عن الإمام
قال الغزي ويجوز أن يجعل الزيت المتنجس صابونا أيضا للاستعمال أي لا للبيع
قال في المجموع ويجوز طلي السفن بشحم الميتة وإطعامها للكلاب والطيور وإطعام الطعام المتنجس للدواب
خاتمة يكره المشي في نعل واحدة أو نحوها كخف واحد للنهي عنه والمعنى فيه أن مشيه يخل بذلك وقيل لما فيه من ترك العدل بين رجليه
وأن ينتعل قائما للنهي عنه
ويسن أن يبدأ باليمين في لبس النعل ونحوه واليسار في الخلع
ويباح بلا كراهة لبس خاتم حديد ورصاص
ويسن للرجل لبس خاتم الفضة في خنصر يمينه أو يساره ولبسه في اليمين أفضل ويجوز في اليسار وفيهما معا وجعل الفص في باطن الكف أفضل والضبط في قدره ما لا يعد إسرافا في العرف
ولا يحرم استعمال النشاء وهو المتخذ من القمح في الثوب والأولى تركه وترك دق الثياب وصقلها
قال الزركشي ينبغي طي الثياب أي وذكر اسم الله تعالى عليها لما روى الطبراني إذا طويتم ثيابكم فاذكروا اسم الله عليها لئلا
____________________
(1/309)
يلبسها الجن بالليل وأنتم بالنهار فتبلى سريعا
باب صلاة العيدين الفطر والأضحى
والعيد مشتق من العود لتكرره كل عام وقيل لكثرة عوائد الله تعالى فيه على عباده وقيل لعود السرور بعوده
وجمعه أعياد وإنما جمع بالياء وإن كان أصله الواو للزومها في الواحد وقيل للفرق بينه وبين أعواد الخشب
والأصل في صلاته قبل الإجماع مع الأخبار الآتية قوله تعالى { فصل لربك وانحر } أراد به صلاة الأضحى والذبح
وأول عيد صلاه صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة ولم يتركها فهي سنة كما قال ( هي سنة ) لقوله صلى الله عليه وسلم للسائل عن الصلاة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده
قال له هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع
( مؤكدة ) لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها
( وقيل فرض كفاية ) نظرا إلى أنها من شعائر الإسلام ولأنها يتوالى فيها التكبير فأشبهت صلاة الجنازة فإن تركها أهل البلد أثموا وقوتلوا على الثاني دون الأول
وأجمع المسلمون على أنها ليست فرض عين
وأما قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إن من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين فمحمول على التأكيد
( وتشرع جماعة ) لفعله صلى الله عليه وسلم وهي أفضل في حق غير الحاج بمنى من تركها بالإجماع أما هو فلا يسن له صلاتها جماعة وتسن له منفردا
( و ) تشرع أيضا ( للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر ) والخنثى والصغير فلا تتوقف على شروط الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد وغيرهما
ويسن الاجتماع لها في موضع واحد ويكره تعدده بلا حاجة وللإمام المنع منه
قال الماوردي ويأمرهم الإمام بها قال المصنف وجوبا أي لأنها من شعائر الدين قال الأذرعي ولم أره لغيره وقيل ندبا
وعلى الوجهين إذا أمرهم بها وجب عليهم الامتثال
( ووقتها ) ما ( بين طلوع الشمس وزوالها ) يوم العيد لأن مبنى الصلوات التي تشرع فيها الجماعة على عدم الاشتراك في الأوقات فمتى خرج وقت صلاة دخل وقت صلاة أخرى
وهذه الصلاة منسوبة إلى اليوم واليوم يدخل بطلوع الفجر وهذا اليوم ليس فيه وقت خال عن صلاة تشرع لها الجماعة
وأما كون آخر وقتها الزوال فمتفق عليه لأنه يدخل به وقت صلاة أخرى وسيأتي أنهم لو شهدوا يوم الثلاثين بعد الزوال وعدلوا بعد المغرب أنها تصلى من الغد أداء
( ويسن تأخيرها لترتفع ) الشمس ( كرمح ) أي كقدره للاتباع وللخروج من الخلاف فإن لنا وجها اختاره السبكي وغيره أنه إنما يدخل وقتها بالارتفاع ففعلها قبل الارتفاع مكروه كراهة تنزيه لذلك لا أنه من أوقات الكراهة المنهي عنه لقول الرافعي في باب الاستسقاء ومعلوم أن أوقات الكراهة غير داخلة في وقت صلاة العيد
( وهي ركعتان ) بالإجماع وللأدلة الآتية وحكمها في الأركان والشرائط والسنن كسائر الصلوات
( يحرم بهما ) بنية صلاة عيد الفطر أو الأضحى كما في أصل الروضة وقيل لا يحتاج إلى تمييز عيد الفطر من الأضحى لاستوائهما في مقصود الشارع
وهذا أقلها وبيان أكملها مذكور في قوله ( ثم ) بعد تكبيرة الإحرام ( يأتي بدعاء الافتتاح ) كسائر الصلوات ( ثم سبع تكبيرات ) لما رواه الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة
وعلم من عبارة المصنف أن تكبيرة الإحرام ليست من السبعة
وجعلها مالك و المزني و أبو ثور منها ورد عليهم بما رواه أبو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة الإحرام رواه أبو داود وهو حجة على أبي حنيفة أيضا حيث قال يكبر ثلاثا
( يقف ) ندبا ( بين كل ثنتين ) منهما ( كآية معتدلة ) لا طويلة ولا قصيرة ( يهلل ) أي يقول لا إله إلا الله ( ويكبر ) أي يقول
____________________
(1/310)
الله أكبر
( ويمجد ) أي يعظم الله روى ذلك البيهقي عن ابن مسعود قولا وفعلا
( ويحسن ) في ذلك كما ذكره الجمهور أن يقول ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) لأنه لائق بالحال وهي الباقيات الصالحات في قول ابن عباس وجماعة ولو زاد على ذلك جاز كما في البويطي
قال ابن الصباغ ولو قال ما اعتاده الناس وهو الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا لكان حسنا
ولا يأتي به بعد التكبيرة السابعة ولا بعد الخامسة ولا قبل الأولى من السبع جزما ولا قبل الأولى من الخمس
( ثم ) بعد التكبيرة الأخيرة ( يتعوذ ) لأنه لاستفتاح القراءة ( ويقرأ ) الفاتحة كغيرها من الصلوات وسيأتي ما يقرأ بعدها
( ويكبر في ) الركعة ( الثانية ) بعد تكبيرة القيام ( خمسا ) بالصفة السابقة ( قبل ) التعوذ و ( القراءة ) للخبر المتقدم ويجهر ( ويرفع يديه ) ندبا ( في الجميع ) أي السبع والخمس كغيرها من تكبيرات الصلاة
ويسن أن يضع يمناه على يسراه تحت صدره بين كل تكبيرتين كما في تكبيرة الإحرام ويأتي في إرسالهما ما مر ثم
ولو شك في عدد التكبيرات أخذ بالأقل كما في عدد الركعات ولو كبر ثمانيا وشك هل نوى الإحرام في واحدة منها استأنف الصلاة لأن الأصل عدم ذلك أو شك في أيها أحرم جعلها الأخيرة وأعادهن احتياطا
ولو صلى خلف من يكبر ستا أو ثلاثا مثلا تابعه ولم يزد عليها ندبا فيهما سواء اعتقد إمامه ذلك أم لا لخبر إنما جعل الإمام ليؤتم به حتى لو ترك إمامه التكبيرات لم يأت بها كما صرح به الجيلي
( ولسن ) أي التكبيرات المذكورات ( فرضا ولا بعضا ) بل من الهيئات كالتعوذ ودعاء الافتتاح فلا يسجد لتركهن عمدا ولا سهوا وإن كان الترك لكلهن أو بعضهن مكروها
ويكبر في قضاء صلاة العيد مطلقا لأنه من هيئاتها كما مر كما اقتضاه كلام المجموع خلافا لما نقله ابن الرفعة عن العجلي وتبعه ابن المقري
( ولو نسيها ) فتذكرها قبل الركوع ( وشرع في القراءة ) ولو لم يتم الفاتحة ( فاتت ) في الجديد أي لم يتداركها ولو عبر به كان أولى لأن الفائت قد يقضى فلو عاد لم تبطل صلاته بخلاف ما لو تذكرها في الركوع أو بعده وعاد إلى القيام ليكبر فإن صلاته تبطل إن كان عالما متعمدا والجهل كالنسيان والعمد أولى
ولو تركها وتعوذ ولم يقرأ كبر بخلاف ما لو تعوذ قبل الاستفتاح لا يأتي به كما مر لأنه بعد التعوذ لا يكون مفتتحا
( وفي القديم يكبر ما لم يركع ) لبقاء محله وهو القيام وعلى هذا لو تذكره في أثناء الفاتحة قطعها وكبر ثم استأنف القراءة أو بعد فراغها كبر وندب إعادة الفاتحة ولو أدرك الإمام راكعا لم يكبر جزما
( ويقرأ بعد الفاتحة في ) الركعة ( الأولى ق وفي الثانية اقتربت بكمالهما ) كما ثبت في صحيح مسلم وإن لم يرض المأمومون بالتطويل
وقوله ( جهرا ) للإجماع من زيادته على المحرر
ولو قرأ في الأولى { سبح اسم ربك الأعلى } وفي الثانية { هل أتاك حديث الغاشية }
كانت سنة أيضا كما في الروضة لثبوته أيضا في صحيح مسلم
قال الأذرعي لكن الذي نص عليه الشافعي والأصحاب الأول
( ويسن بعدهما خطبتان ) للجماعة تأسيا به صلى الله عليه وسلم وبخلفائه الراشدين ولا فرق في الجماعة بين المسافرين وغيرهم
ويأتي بهما وإن خرج الوقت فلو اقتصر على خطبة فقط لم يكف ولو قدم الخطبة على الصلاة لم يعتد بها على الصواب في الروضة وظاهر نص الأم كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمت
و ( أركانهما ) وسننهما ( كهي ) أي كأركانهما وسننهما ( في الجمعة ) وأفهم إطلاقه كالمجموع والروضة أن الشروط كالقيام فيهما والستر والطهارة لا تعتبر فيهما وهو المعتمد لكن يعتبر في أداء السنة الإسماع والسماع وكون الخطبة عربية ويسن الجلوس قبلهما للاستراحة قال الخوارزمي قدر الأذان
وعلى عدم اعتبار الشروط يستحب أن يأتي بها ولو ذكر السنن كما زدتها كان أولى لأن إسقاطها ربما يشعر بعدم مشابهة سنن خطبتي العيد لسنن خطبتي الجمعة وليس مرادا بل المشابهة حاصلة بينهما وإن زادتا على
____________________
(1/311)
خطبتي الجمعة بسنن أخرى
( ويعلمهم ) ندبا ( في ) كل عيد أحكامه ففي عيد ( الفطر ) يعلمهم أحكام ( الفطرة ) بكسر الفاء كما في المجموع وبضمها كما قاله ابن الصلاح كابن أبي الدم وهي من اصطلاح الفقهاء اسم لما يخرج مولدة لا عربية ولا معربة وكأنها من الفطرة أي الخلقة فهي صدقة الخلفة
( وفي ) عيد ( الأضحى ) يعلمهم أحكام ( الأضحية ) للإتباع في بعضها في خبر الصحيحين ولأن ذلك لائق بالحال
و ( يفتتح ) الخطبة ( الأولى بتسع تكبيرات ) ولاء إفرادا ( و ) الخطبة ( الثانية بسبع ولاء ) إفرادا تشبيها للخطبتين بصلاة العيد فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع تكبيرات فإن فيها سبع تكبيرات وتكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع والركعة الثانية على سبع تكبيرات فإن فيها خمس تكبيرات وتكبيرة القيام وتكبيرة الركوع والولاء سنة في التكبيرات وكذا الإفراد
فلو تخلل ذكر بين كل تكبيرتين أو قرن بين كل تكبيرتين جاز
والتكبيرات المذكورة مقدمة للخطبة لا منها وإن أوهمت عبارة المصنف أنها منها لأن افتتاح الشيء قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه
ويندب للنساء استماع الخطبتين
ويكره تركه
ومن دخل والخطيب يخطب فإن كان في مسجد بدأ بالتحية ثم بعد فراغ الخطبة يصلي فيه صلاة العيد فلو صلى فيه بدل التحية العيد وهو أولى حصلا لكن لو دخل وعليه مكتوبة يفعلها ويحصل بها التحية أو في صحراء ليسن الجلوس ليستمع إذ لا تحية وأخر الصلاة إلا إن خشي فوتها فيقدمها على الاستماع وإذا أخرها فهو مخير بين أن يصليها في الصحراء وبين أن يصليها بغيرها إلا إن خشي الفوات بالتأخير
ويندب للإمام بعد فراغه من الخطبة أن يعيدها لمن فاته سماعها ولو نساء للاتباع رواه الشيخان
فرع قال أئمتنا الخطب المشروعة عشر خطبة الجمعة والعيدين والكسوفين والاستسقاء وأربع في الحج وكلها بعد الصلاة إلا خطبتي الجمعة وعرفة فقبلها وكل منها ثنتان إلا الثلاثة الباقية في الحج ففرادى
( ويندب الغسل ) لعيد فطر أو أضحى قياسا على الجمعة
وظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين من يحضر الصلاة وبين غيره وهو كذلك لأنه يوم زينة فسن الغسل له بخلاف غسل الجمعة
( ويدخل وقته بنصف الليل ) وإن كان المستحب فعله بعد الفجر لأن أهل السواد يبكرون إليها من قراهم فلو لم يكف الغسل لها قبل الفجر لشق عليهم فعلق بالنصف الثاني لقربه من اليوم كما قيل في أذانه
وقيل يجوز في جميع الليل
( وفي قول ) يدخل وقته ( بالفجر ) كالجمعة
وفرق الأول بتأخير الصلاة هناك وتقديمها هنا
( و ) يندب ( الطيب ) أي التطيب الذكر بأحسن ما يجد عنده من الطيب
فإن قيل الطيب اسم ذات لا يتعلق به حكم
أجيب بأن المراد ما قدرته
( والتزين ) بأحسن ثيابه وبإزالة الظفر والريح الكريهة ( كالجمعة ) لكن الجمعة السنة فيها لبس البياض كما مر
ولا فرق في ذلك بين الخارج للصلاة وغيره كما مر في الغسل نعم مريد الأضحية لا يزيل شعره ولا ظفره حتى يضحي كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأضحية
أما الأنثى فيكره لذات الجمال والهيئة الحضور ويسن لغيرها بإذن الزوج أو السيد وتتنظف بالماء ولا تتطيب وتخرج في ثياب بذلتها
والخنثى في هذه كالأنثى أما الأنثى القاعدة في بيتها فيسن لها ذلك
تنبيه لو حذف المصنف الطيب وقال والتزين كالجمعة لكان أخصر لأنه في الجمعة أدخل الطيب في التزين
( وفعلها ) أي صلاة العيد ( بالمسجد ) عند اتساعه كالمسجد الحرام ( أفضل ) لشرف المسجد على غيره
( وقيل ) فعلها ( بالصحراء ) أفضل لأنها أرفق بالراكب وغيره ( إلا لعذر ) كمطر ونحوه فالمسجد أفضل
ومحل الخلاف غير المسجد الحرام أما هو فهو أفضل قطعا اقتداء بالصحابة فمن بعدهم والمعنى فيه فضيلة البقعة ومشاهدة الكعبة
قال الرافعي وألحق الصيدلاني بالمسجد الحرام بيت المقدس قال الأذرعي وهو الصواب للفضل والسعة المفرطة اه
وهذا هو الظاهر وإن مال في المجموع إلى خلافه
وألحق ابن الأستاذ مسجد المدينة بمسجد مكة وهو الظاهر أيضا لأنه
____________________
(1/312)
اتسع الآن ومن لم يلحقه به فذاك قبل إتساعه
( ويستخلف ) الإمام ندبا إذا خرج إلى الصحراء ( من يصلي ) في المسجد ( بالضعفة ) كالشيوخ والمرضى ومن معهم من الأقوياء ويخطب لهم لأن عليا رضي الله تعالى عنه استخلف أبا مسعود الأنصاري في ذلك رواه الشافعي بإسناد صحيح
فإن لم يأمره الإمام بالخطبة لم يخطب كما نص عليه في الأم لكونه افتياتا على الإمام فإن خطب كره له كما في البويطي
قال الماوردي وليس لمن ولي الصلوات الخمس حق في إمامة العيد والخسوف والاستسقاء إلا أن يقلد جميع الصلوات فيدخل فيه
قال وإذا قلد صلاة العيد في عام جاز له أن يصليها في كل عام بخلاف ما إذا قلد صلاة الخسوف والاستسقاء في عام لم يكن له أن يصليها في كل عام والفرق أن لصلاة العيد وقتا معينا تتكرر فيه بخلافهما
قال شيخنا وظاهر أن إمامة التراويح والوتر مستحقة لمن ولي الصلوات الخمس لأنها تابعة لصلاة العشاء
تنبيه قوله بالضعفة تيمن بلفظ الخبر وإلا فقد يصلي بالمسجد بعض الأقوياء ولذا ذكرته
( ويذهب ) ندبا مصلي العيد لصلاتها إماما كان أو غيره ( في طريق ويرجع ) منها ( في ) طريق ( أخرى ) للاتباع رواه البخاري
ويخص الذهاب بأطولهما وذكر في حكمه ذلك وجوه أوجهها أنه كان يذهب في أطولهما تكثيرا للأجر ويرجع في أقصرهما وقيل يخالف بينهما لتشهد له الطريقان وقيل ليتبرك به أهلهما وقيل ليستفتى فيهما وقيل ليتصدق على فقرائهما وقيل غير ذلك
ويسن ذلك في سائر العبادات كالحج وعيادة المريض كما ذكره المصنف في رياضه
( ويبكر الناس ) للحضور للعيد ندبا بعد صلاتهم الصبح كما نص عليه الشافعي والأصحاب ليحصل لهم القرب من الإمام وفضيلة انتظار الصلاة
قال ابن شهبة هذا إن خرجوا إلى الصحراء فإن صلوا في المسجد مكثوا فيه إذا صلوا الفجر فيما يظهر
( ويحضر الإمام ) متأخرا عنهم ( وقت صلاته ) للاتباع رواه الشيخان ولأن انتظارهم إياه أليق
( ويعجل ) الحضور في ( الأضحى ) بحيث يصليها في أول الوقت الفاضل ويؤخره في عيد الفطر قليلا لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك عمرو بن حزم رواه البيهقي وليتسع الوقت قبل صلاة الفطر لتفريق الفطرة وبعد صلاة الأضحى للتضحية
( قلت ) كما قاله الرافعي في الشرح ( ويأكل في عيد الفطر قبل الصلاة ) والأفضل كون المأكول تمرا وترا فإن لم يأكل ما ذكر في بيته ففي الطريق أو المصلي إن تيسر
( ويمسك ) عن الأكل ( في ) عيد ( الأضحى ) حتى يصلي للاتباع وليتميز عيد الفطر عما قبله الذي كان الأكل فيه حراما وليعلم نسخ تحريم الفطر قبل صلاته فإنه كان محرما قبلها أول الإسلام بخلافه قبل صلاة عيد الأضحى والشرب كالأكل ويكره له ترك ذلك كما نقله في المجموع عن نص الأم
( ويذهب ) للعيد ( ماشيا ) كالجمعة ( بسكينة ) لما مر فيها ولا بأس بركوب العاجز للعذر والراجع منها ولو قادرا ما لم يتأذ به أحد لانقضاء العبادة فهو مخير بين المشي والركوب
قال ابن الأستاذ ولو كان البلد ثغرا لأهل الجهاد بقرب عدوهم فركوبهم لصلاة العيد ذهابا وإيابا وإظهار السلاح أولى
( ولا يكره النفل قبلها ) بعد ارتفاع الشمس ( لغير الإمام والله أعلم ) لانتفاء الأسباب المقتضية للكراهة فخرج بقبلها بعدها
وفيه تفصيل فإن كان يسمع الخطبة كره له كما مر وإلا فلا ويبعد ارتفاع الشمس قبله فإنه وقت كراهة وقد تقدم حكمه في بابه وبغير الإمام فيكره له النفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم ولمخالفته فعل النبي صلى الله عليه وسلم
ويسن إحياء ليلتي العيد بالعبادة من صلاة وغيرها من العبادات لخبر من أحيا ليلتي العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب رواه الدارقطني موقوفا قال في المجموع وأسانيده ضعيفة ومع ذلك استحبوا الإحياء لأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال كما مرت الإشارة إليه ويؤخذ من ذلك كما قال الأذرعي عدم تأكد الاستحباب
قيل والمراد بموت القلوب شغفها بحب الدنيا وقيل الكفر وقيل الفزع يوم القيامة
ويحصل الإحياء بمعظم
____________________
(1/313)
الليل كالمبيت بمنى وقيل بساعة منه وعن ابن عباس رضي الله عنهما بصلاة العشاء جماعة والعزم على صلاة الصبح جماعة
والدعاء فيهما وفي ليلة الجمعة وليلتي أول رجب ونصف شعبان مستجاب فيستحب كما صرح به في أصل الروضة
فصل في التكبير المرسل والمفيد
وبدأ بالأول ويسمى بالمطلق أيضا وهو ما لا يكون عقب صلاة فقال ( يندب التكبير ) لحاضر ومسافر وذكر وغيره ويدخل وقته ( بغروب الشمس ليلتي العيد ) أي الفطر والأضحى دليل الأول قوله تعالى { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } قال الشافعي رضي الله تعالى عنه سمعت من أرضاه من العلماء بالقرآن يقول المراد بالعدة عدة الصوم وبالتكبير عند الإكمال ودليل الثاني القياس على الأول ولذلك كان تكبير الأول آكد للنص عليه
ويكبرون ( في المنازل والطرق والمساجد والأسواق ) جمع سوق يذكر ويؤنث سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم وغيرها كالزحمة ليلا ونهارا
( برفع الصوت ) للرجل إظهار الشعائر العيد وأما المرأة فلا ترفع كما قاله الرافعي ومحله إذا حضرت مع غير محارمها ونحوهم ومثلها الخنثى كما بحثه بعض المتأخرين قال أيضا ولا يرفع صوته بالتكبير حال إقامة الصلاة
( والأظهر إدامته ) ندبا للمصلي وغيره ( حتى يحرم الإمام بصلاة العيد ) أي يفرغ من إحرامه بها إذ الكلام يباح إليه فالتكبير أولى ما يشتغل به لأنه ذكر الله تعالى وشعار اليوم والثاني حتى يخرج الإمام لها والثالث حتى يفرغ منها قيل ومن الخطبتين وهذا فيمن لم يصل مع الإمام وعلى الأول لو صلى منفردا فالعبرة بإحرامه
( ولا يكبر الحاج ليلة ) عيد ( الأضحى بل يلبي ) لأن التلبية شعاره والمعتمر يلبي إلى أن يشرع في الطواف وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في محله
ثم أشار إلى نوع التكبير المفيد وهو المفعول عقب الصلاة بقوله ( ولا يسن ليلة الفطر عقب الصلوات في الأصح ) لعدم وروده وهذا ما صححه الرافعي وكذا المصنف في أكثر كتبه وهو المعتمد والثاني يسن واختاره في الأذكار ونقله البيهقي في كتاب فضائل الأوقات عن نص الشافعي وعليه عمل غالب الناس وعلى هذا فيكبر ليلة الفطر عقب المغرب والعشاء والصبح
( ويكبر ) عقب الصلوات ( الحاج من ظهر ) يوم ( النحر ) لأنها أول صلاته بمنى ووقت انتهاء التلبية ( ويختم ) التكبير ( بصبح آخر ) أيام ( التشريق ) لأنها آخر صلاة يصليها بمنى كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في محله
( وغيره ) أي الحاج ( كهو ) أي كالحاج في ذلك ( في الأظهر ) تبعا لأن الناس تبع للحجيج وهم يكبرون من الظهر كما مر ولإطلاق حديث مسلم أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى وروي ذلك عن عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقال في المجموع وهو المشهور في مذهبنا
( وفي قول ) يكبر غيره ( من مغرب ليلة ) يوم ( النحر ) ويختم أيضا بصبح آخر أيام التشريق
تنبيه جر الكاف للضمير قليل والمصنف تبعا للفقهاء يكثر منه
( وفي قول من صبح ) يوم ( عرفة ويختم بعصر آخر ) أيام ( التشريق والعمل على هذا ) في الأمصار وصح من فعل عمر و علي و ابن مسعود و ابن عباس رضي الله تعالى عنهم من غير إنكار واختاره المصنف في تصحيحه ومجموعه وقال في الأذكار إنه الأصح وفي الروضة إنه الأظهر عند المحققين
( والأظهر أنه ) أي الشخص ذكرا كان أو غيره حاضرا أو مسافرا منفردا أو غيره
( يكبر في هذه الأيام ) للجنازة و ( للفائتة والراتبة ) والمنذورة ( والنافلة المطلقة أو المقيدة وذات السبب كتحية المسجد لأنه شعار الوقت
والثاني يكبر عقب الفرائض خاصة سواء أكانت مؤداة أم مقضية من هذه الأيام أو من غيرها لأن الفرائض محصورة فلا يشق طلب ذلك فيها كالأذان في أول الفرائض والأذكار في آخرها
والثالث لا يكبر إلا عقب فرائض هذه
____________________
(1/314)
الأيام أداء كانت أو قضاء
وظاهر كلامهم أنه لا يكبر على الأول عقب سجدتي التلاوة والشكر لأنهما ليسا بصلاة وإن قال صاحب الرونق إنه يكبر عقبها
واحترز بقوله في هذه الأيام عما لو فاتته صلاة منها وقضاها في غيرها فإنه لا يكبر كما قاله في المجموع وادعى أنه لا خلاف فيه لأن التكبير شعار الوقت كما مر
ولو نسي التكبير تداركه إن قرب الفصل وكذا إن طال على الأصح
وهذا كله في التكبير الذي يرفع به صوته ويجعله شعار اليوم أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه فلا منع منه كما نقله في أصل الروضة عن الإمام وأقره ولو اختلف رأي الإمام في وقت ابتداء التكبير اتبع اعتقاد نفسه
( وصيغته المحبوبة ) أي المسنونة كما في المحرر ( الله أكبر الله أكبر الله أكبر ) ثلاثا في الجديد كذا ورد عن جابر و ابن عباس رضي الله تعالى عنهم
وفي القديم يكبر مرتين ثم يقول ( لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ) مرتين ( ولله الحمد ) هكذا نقله الرافعي عن صاحب الشامل
قال في زيادة الروضة ونقله صاحب البحر عن نص الشافعي رحمه الله تعالى في البويطي
( ويستحب أن يزيد ) بعد التكبيرة الثالثة الله أكبر ( كبيرا ) كما في الشرحين والروضة أي بزيادة الله أكبر قبل كبيرا ( والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ) كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ومعنى بكرة وأصيلا أول النهار وآخره وقيل الأصيل ما بين العصر والمغرب
ويسن أن يقول أيضا بعد هذا لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر
قال المصنف في شرح مسلم قوله الله أكبر كبيرا قيل هو على إضمار فعل أي كبرت كبيرا وقيل على القطع وقيل على التمييز
قال صاحب التنبيه وغيره وإذا رأى شيئا من بهيمة الأنعام في عشر ذي الحجة كبر
( ولو ) شهدا أو ( شهدوا يوم الثلاثين ) من رمضان ( قبل الزوال برؤية الهلال ) أي هلال شوال ( الليلة الماضية أفطرنا ) وجوبا ( وصلينا العيد ) ندبا أداء إذا بقي من الوقت ما يمكن جمع الناس فيه وإقامة الصلاة كما قاله في الروضة أو ركعة كما صوبه الإسنوي بل ينبغي كما قال شيخنا إنه إذا بقي من وقتها ما يسعها أو ركعة منها دون الاجتماع أن يصليها وحده أو بمن تيسر حضوره لتقع أداء لأنه وقتها ومراعاة الوقت أولى من اجتماع الناس ثم يصليها مع الناس وهو القياس وإن كان قضية كلام الروضة أنه يكون كما لو شهدوا بعد الزوال
( وإن ) شهدا أو ( شهدوا بعد الغروب ) أي غروب شمس يوم الثلاثين برؤية هلال شوال الليلة الماضية ( لم تقبل الشهادة ) في صلاة العيد خاصة لأن شوالا قد دخل يقينا وصوم ثلاثين قد تم فلا فائدة في شهادتهم إلا المنع من صلاة العيد فلا نقبلها ونصليها من الغد أداء
قالوا وليس يوم الفطر أول شوال مطلقا بل يوم فطر الناس وكذا يوم النحر يوم يضحي الناس
ويوم عرفة اليوم الذي يظهر لهم أنه يوم عرفة سواء التاسع والعاشر وذلك لخبر الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس رواه الترمذي وصححه
وفي رواية للشافعي وعرفة يوم يعرفون
أما الحقوق والأحكام المعلقة بالهلال كالتطليق والعدة والإجارة والعتق فتثبت قطعا
تنبيه لو قال المصنف ولو شهدا بالتثنية كما قدرته وحذف أل من الهلال وأضافه لليلة كان أخصر وأعم ليدخل فيه الشهادة برؤيته نهارا
( أو ) شهدوا ( بين الزوال والغروب ) أو قبل الزوال بزمن لا يسع صلاة العيد أو ركعة منها كما مر قبلت الشهادة و ( أفطرنا وفاتت الصلاة ) أداء ( ويشرع قضاؤها متى شاء ) في باقي اليوم وفي الغد وما بعده ومتى اتفق ( في الأظهر ) كسائر الرواتب
والأفضل قضاؤها في بقية يومهم إن أمكن اجتماعهم فيه وإلا فقضاؤها في الغد أفضل لئلا يفوت على الناس الحضور
والكلام في صلاة الإمام بالناس لا في صلاة الآحاد كما يؤخذ مما مر فاندفع
____________________
(1/315)
الاعتراض بأنه ينبغي فعلها عاجلا مع من تيسر ومنفردا إن لم يجد أحدا ثم يفعلها غدا مع الإمام
والثاني لا يجوز قضاؤها بعد شهر العيد ومسألة الكتاب سبقت في قوله ولو فات النفل المؤقت ندب قضاؤه فهي في الحقيقة مكررة لكنه ذكرها توطئة لقوله ( وقيل في قول ) من قولين هما أحد طريقين لا تفوت بالشهادة المذكورة بل ( تصلى من الغد أداء ) لأن الغلط في الهلال كثير فلا يفوت به هذا الشاعر العظيم
وهذا الخلاف راجع إلى قوله وفاتت الصلاة كما مر ولو ذكره عقبه لكان أوضح
والقول الآخر تفوت كطريق القطع به الراجحة والأثر للتعديل لا للشهادة فلو شهد اثنان قبل الغروب وعدلا بعده فالعبرة بوقت التعديل لأنه وقت جواز الحكم بشهادتهما فتصلى العيد من الغد أداء وقيل بوقت الشهادة وهو ظاهر إطلاق المصنف
قال في الكفاية وبه قال العراقيون وأيدوه بما لو شهدا بحق وعدلا بعد موتهما فإنه يحكم بشهادتهما اه
وأجيب بأنه لا منافاة إذ الحكم فيهما إنما هو بشهادتهما بشرط تعديلهما والكلام إنما هو في أثر الحكم في الصلاة خاصة
خاتمة قال القمولي لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي أنه أجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه والذي أراه أنه مباح لا سنة فيه ولا بدعة
وأجاب الشهاب ابن حجر بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة واحتج له بأن البيهقي عقد لذلك بابا فقال باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في العيد تقبل الله منا ومنك وساق ما ذكر من أخبار وآثار ضعيفة لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك
ثم قال ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة أو يندفع من نقمة بمشروعية سجود الشكر والتعزية وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته لما تخلف عن غزوة تبوك أنه لما بشر بقبول توبته ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه طلحة بن عبيدالله فهنأه
ولو حضر سكان البوادي للعيد يوم جمعة فلهم الرجوع قبل صلاتها وتسقط عنهم وإن قربوا منها وسمعوا النداء وأمكنهم إدراكها لو عادوا إليها لأنهم لو كفلوا بعدم الرجوع أو بالعود إلى الجمعة لشق عليهم والجمعة تسقط بالمشاق وقضية هذا التعليل أنهم لو لم يحضروا كأن صلوا العيد بمكانهم لزمتهم الجمعة وهو كذلك وإن ذكر صاحب الوافي فيه احتمالين
باب صلاة الكسوفين للشمس والقمر ويقال فيها خسوفان والأفصح كما في الصحاح تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر وحكي عكسه وقيل الكسوف بالكاف أوله فيهما والخسوف آخره وقيل غير ذلك
واقتصار المصنف على الكسوف مع أن الباب معقود لهما يدل على أنه يطلق على المعنيين
والكسوف مأخوذ من كسفت حاله أي تغيرت كقولهم فلان كاسف الحال أي متغيره
والخسوف مأخوذ من خسف الشيء خسوفا أي ذهب في الأرض
قال علماء الهيئة إن كسوف الشمس لا حقيقة له لعدم تغيرها في نفسها لاستفادة ضوئها من جرمها وإنما القمر يحول بظلمته بيننا وبينها مع بقاء نورها فيرى لون القمر كمدا في وجه الشمس فيظن ذهاب ضوئها
وأما خسوف القمر فحقيقة بذهاب ضوئه لأن ضوءه من ضوء الشمس وكسوفه بحيلولة ظل الأرض بين الشمس وبينه فلا يبقى فيه ضوء البتة
والأصل في الباب قبل الإجماع قوله تعالى { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } أي عند كسوفهما وأخبار كخبر مسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم
( هي سنة ) مؤكدة لذلك في حق كل مخاطب بالمكتوبات الخمس ولو عبدا أو امرأة ولأنه صلى الله عليه وسلم فعلها لكسوف الشمس كما رواه الشيخان ولخسوف القمر كما رواه ابن حبان في كتابه
____________________
(1/316)
من الثقات ولأنها ذات ركوع وسجود ولا أذان لها كصلاة الاستسقاء
وإنما لم تجب لخبر الصحيحين هل علي غيرها أي الخمس قال لا إلا أن تطوع فرع قال في الحاوي في باب اللعان لو قال لابنه أنت ولد زنا كان
وحملوا قول الشافعي في الأم لا يجوز تركها على كراهته لتأكدها ليوافق كلامه في مواضع أخر والمكروه قد يوصف بعدم الجواز من جهة إطلاق الجائز على مستوى الطرفين
وأقل كيفيتها ما ذكر بقوله ( فيحرم بنية صلاة الكسوف ) وهذه النية قد سبقت في قول المتن في صفة الصلاة إن النفل ذا السبب لا بد من تعيينه فهي مكررة ولهذا أهمل النية في العيد والاستسقاء إلا أنها ذكرت هنا لبيان أقل صلاة الكسوف
( ويقرأ ) بعد الافتتاح والتعوذ ( الفاتحة ويركع ثم يرفع ) رأسه من الركوع ثم يعتدل ( ثم يقرأ الفاتحة ) ثانيا ( ثم يركع ) ثانيا أقصر من الذي قبله ( ثم يعتدل ) ثانيا ويقول في الاعتدال عن الركوع الأول والثاني سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد كما في الروضة كأصلها زاد في المجموع حمدا طيبا إلخ
وقال الماوردي لا يقول ذلك في الرفع الأول بل يرفع مكبرا لأنه ليس اعتدالا ولعل تعبير المصنف أولا بالرفع وثانيا بالاعتدال فيه ميل إلى هذا لأن الرفع من الركوع الأول لا يسمى اعتدالا والراجح الأول
( ثم يسجد ) السجدتين ويأتي بالطمأنينة في محالها
( فهذه ركعة ثم يصلي ) ركعة ( ثانية كذلك ) للإتباع رواه الشيخان من غير تصريح بقراءة الفاتحة
وقولهم إن هذا أقلها أي إذا شرع فيها بنية هذه الزيادة وإلا ففي المجموع عن مقتضى كلام الأصحاب أنه لو صلاها كسنة الظهر صحت وكان تاركا للأفضل أو يحمل على أنه أقل الكمال
( ولا يجوز زيادة ركوع ثالث ) فأكثر ( لتمادي ) أي طول مكث ( الكسوف ولا ) يجوز ( نقصه ) أي نقص ركوع أي إسقاطه من الركوعين المنويين ( للانجلاء في الأصح ) كسائر الصلوات لا يزاد على أركانها ولا ينقص منها
والثاني يزاد وينقص
أما الزيادة فلأنه عليه الصلاة والسلام صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات رواه مسلم وفيه أربع ركوعات أيضا وفي رواية خمس ركوعات أخرجها أحمد وأبو داود والحاكم ولا محمل للجمع بين الروايات إلا الحمل على الزيادة لتمادي الكسوف
وأجاب الجمهور بأن أحاديث الركوعين في الصحيحين فهي أشهر وأصح فقدمت على باقية الروايات وهذا هو الذي اختاره الشافعي ثم البخاري
قال السبكي وإنما يصح هذا إذ كانت الواقعة واحدة وقد حصل اختلاف الروايات فيها أما إذا كانت وقائع فلا تعارض فيها اه
وفي ذلك خلاف فقيل بعدم تعددها
والأحاديث كلها ترجع إلى صلاته صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس يوم مات سيدنا إبراهيم ابنه وإذا لم تتعدد الواقعة فلا تحمل الأحاديث على بيان الجواز
وقيل إنها تعددت وصلاها مرات فالجميع جائز فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى لخسوف القمر
قال شيخنا وعلى هذا الأولى أن يجاب بحملها على ما إذا أنشأ الصلاة بنية تلك الزيادة كما أشار إليه السبكي وغيره اه
والمعتمد ما عليه الجمهور من أن الزيادة لا تجوز مطلقا وأما النقص للانجلاء على الوجه الثاني فقاسه على الانجلاء
فإن قيل قد تقدم عن المجموع جواز فعلها كسنة الظهر
أجيب بأن ذلك بالنسبة لمن قصد فعلها ابتداء كذلك
فإن قيل تجويز الزيادة لأجل تمادي الكسوف إنما يأتي في الركعة الثانية وأما الأولى فكيف يعلم فيها التمادي بعد فراغ الركوعين أجيب بأنه قد يتصور بأن يكون من أهل العلم بهذا الفن واقتضى حسابه ذلك ويجري الوجهان في إعادة الصلاة للاستدامة والأصح المنع وقيل يجوز على القول بتعدد الواقعة جمعا بين الأدلة
نعم في المجموع عن نص الأم أنه لو صلى الكسوف وحده ثم أدركها مع الإمام صلاها معه كالمكتوبة ومحله كما قال الأذرعي فيما إذا أدركه قبل الانجلاء وإلا فهو افتتاح صلاة كسوف بعد الانجلاء
وهل يعيد المصلي جماعة مع جماعة يدركها قضية التشبيه في الأم أنه يعيدها وهو الظاهر
( والأكمل ) فيها زائدا على الأقل ( أن يقرأ في القيام الأول ) كما في نص الأم والمختصر والبويطي ( بعد الفاتحة ) وسوابقها من افتتاح وتعوذ ( البقرة ) بكمالها
____________________
(1/317)
إن أحسنها وإلا فقدرها
( و ) أن يقرأ ( في ) القيام ( الثاني كمائتي آية منها وفي ) القيام ( الثالث مثل ( مائة وخمسين ) منها ( و ) في القيام ( الرابع ) مثل ( مائة ) منها ( تقريبا ) في الجميع
والمراد الآيات المعتدلة في هذا وفيما سيأتي كما قاله بعض المتأخرين ونص في البويطي في موضع آخر أنه يقرأ في القيام الثاني آل عمران أو قدرها وفي الثالث النساء أو قدرها وفي الرابع المائدة أو قدرها والمحققون على أنه ليس باختلاف بل هو للتقريب وهما متقاربان والأكثر على الأول
قال السبكي وقد ثبت بالأخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث ثم الثالث على الرابع وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شيء فيما أعلم فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه وآل عمران في الثاني
ويسن التعوذ في القومة الثانية
فائدة قال ابن العربي في البقرة ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر
( ويسبح في الركوع الأول ) من الركوعات الأربعة في الركعتين ( قدر مائة من البقرة وفي ) الركوع ( الثاني ) قدر ( ثمانين ) منها ( و ) في الركوع ( الثالث ) قدر ( سبعين ) منها بتقديم السين على الموحدة خلافا لما في التنبيه من تقديم المثناة الفوقية على السين
( و ) في الركوع ( الرابع ) قدر ( خمسين ) منها ( تقريبا ) في الجميع لثبوت التطويل من الشارع بلا تقدير
( ولا يطول السجدات في الأصح ) كالجلوس بينها والاعتدال من الركوع الثاني والتشهد وجعل في الروضة والمجموع الخلاف قولين
( قلت الصحيح تطويلها ) كما قاله ابن الصلاح و ( ثبت في الصحيحين ) في صلاته صلى الله عليه وسلم لكسوف الشمس من حديث أبي موسى
( ونص في ) كتاب ( البويطي ) وهو يوسف أبو يعقوب بن يحيى القرشي البويطي من بويط قرية من صعيد مصر الأدنى كان خليفة الشافعي رحمه الله تعالى في حلقته بعده مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
( أنه يطولها نحو الركوع الذي قبلها والله أعلم ) قال البغوي فالسجود الأول كالركوع الأول والسجود الثاني كالركوع الثاني واختاره في الروضة
وظاهر كلامهم استحباب هذه الإطالة وإن لم يرض بها المأمومون
ويفرق بينها وبين المكتوبة بالندرة و للأذرعي في ذلك ترديدات وهذا هو الظاهر منها
( وتسن جماعة ) بالنصب على التمييز المحول عن نائب الفاعل أي تسن الجماعة فيها للاتباع كما في الصحيحين
ولا يصح النصب على الحال لأنه يقتضي تقييد الاستحباب بحالة الجماعة وليس مرادا ويصح الرفع لكن يحتاج إلى تقدير أي تسن جماعة فبها وينادي لها الصلاة جامعة كما فعلها صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس جماعة وبعث مناديا الصلاة جامعة رواهما الشيخان
وتسن للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر كما ذكره في المجموع
ويسن للنساء غير ذوات الهيئات الصلاة مع الإمام وذوات الهيئات يصلين في بيوتهن منفردات فإن اجتمعن فلا بأس
وتسن صلاتها في الجامع كنظيره في العيد رواه البخاري
( ويجهر ) الإمام والمنفرد ندبا ( بقراءة ) صلاة ( كسوف القمر ) لأنها صلاة ليل أو ملحقة بها وهو إجماع
( لا الشمس ) بل يسر فيها لأنها نهارية وما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته والترمذي عن سمرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف لا نسمع له صوتا وقال حسن صحيح
قال في المجموع يجمع بينهما بأن الإسرار في كسوف الشمس والجهر في كسوف القمر
( ثم يخطب الإمام ) ندبا بعد صلاتها للاتباع وكما في العيد ( خطبتين بأركانهما في الجمعة ) قياسا عليها
وأما الشروط
____________________
(1/318)
والسنن فيأتي فيها هنا ما مر في خطبة العيد وإنما تسن الخطبة للجماعة ولو مسافرين بخلاف المنفرد
وعلم من كلامه أنه لا يكبر في الخطبة
وهو كذلك لعدم وروده وأنه لا تجزيء خطبة واحدة وهو كذلك للاتباع
وما فهمه ابن الرفعة من كلام حكاه البندنيجي عن البويطي وتبعه عليه جماعة مردود كما نبه عليه جماعة بأن عبارة البويطي لا تفهم ذلك
( ويحث ) فيهما السامعين ( على التوبة من ) الذنوب ( و ) على فعل ( الخير ) كصدقة ودعاء واستغفار وعتق للأمر بذلك في البخاري وغيره ويحذرهم الاغترار والغفلة ويذكر في كل وقت من الحث والزجر ما يناسبه
ويستثنى من استحباب الخطبة كما قاله الأذرعي أنه إذا صلى الكسوف ببلد وكان به وال لا يخطب الإمام إلا إذا كان بأمر الوالي وإلا فيكره وذكر مثله في صلاة الاستسقاء
وتقدم في الجمعة أنه يسن الغسل لصلاة الكسوف وأما التنظف بحلق الشعر وقلم الظفر فلا يسن لها كما صرح به بعض فقهاء اليمن فإنه يضيق الوقت
ويظهر أنه يخرج في ثياب بذلة قياسا على الاستسقاء لأنه اللائق بالحال ولم أر من تعرض له
( ومن أدرك ) الإمام ( في ركوع أول ) من الركعة الأولى أو الثانية ( أدرك الركعة ) كما في سائر الصلوات ( أو ) أدركه ( في ) ركوع ( ثان أو ) في ( قيام ثان ) من أي ركعة ( فلا ) يدرك الركعة أي شيئا منها كما عبر به في المحرر ( في الأظهر ) لأن الأصل هو الركوع الأول وقيامه وركوع الثاني وقيامه في حكم التابع وعبر في الروضة بالمذهب ولقول الثاني يدرك ما لحق به الإمام ويدرك بالركوع القومة التي قبله فإذا كان ذلك في الركعة الأولى وسلم الإمام قام هو وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد وسلم أو في الثانية وسلم الإمام قام وقرأ وركع ثم أتى بالركعة الثانية بركوعها
ولا يفهم هذا المقابل من إطلاق المتن بل يفهم منه أنه يدرك الركعة بكمالها وليس مرادا إذ لا خلاف أنه يدرك الركعة بجملتها ويندفع هذا بما قدرته تبعا للمحرر
وضعف هذا القول الثاني بأن الإتيان فيه بقيام وركوع من غير سجود مخالف لنظم الصلاة
( وتفوت صلاة ) كسوف ( الشمس بالانجلاء ) لجميع المنكسف من كلها أو بعضها يقينا لخبر إذا رأيتم ذلك أي الكسوف فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف ما بكم فدل على عدم الصلاة بعد ذلك ولأن المقصود بالصلاة قد حصل بخلاف الخطبة فإنها لا تفوت إذ القصد بها الوعظ وهو لا يفوت بذلك فلو انجلى بعض ما كسف كان له الشروع في الصلاة للباقي كما لو لم يكسف منها إلا ذلك القدر
ولو انجلى الجميع وهو في أثناء الصلاة أتمها سواء أدرك ركعة أم دونها إلا أنها لا توصف بأداء ولا قضاء
ولو حال سحاب وشك في الانجلاء أو الكسوف لم يؤثر قال ابن عبد السلام ولو شرع فيها ظانا بقاءه ثم تبين أنه كان انجلى قبل تحرمه بها بطلت
ولا تنعقد نفلا على قول إذ ليس لنا نفل على هيئة صلاة الكسوف فتندرج في نيته ولو قال المنجمون انجلت أو انكسفت لم نعتبرهم فنصلي في الأول لأن الأصل بقاء الكسوف دون الثاني لأن الأصل عدمه وقول المنجمين تخمين لا يفيد اليقين
( و ) تفوت أيضا ( بغروبها كاسفة ) لأن الانتفاع بها يبطل بغروبها نيرة أو مكسوفة لزوال سلطانها ( و ) تفوت أيضا صلاة كسوف ( القمر بالانجلاء ) لحصول المقصود ( وطلوع الشمس ) وهو منخسف لعدم الانتفاع حينئذ بضوئه ( لا ) بطلوع ( الفجر ) فلا تفوت صلاة خسوفه ( في الجديد ) لبقاء ظلمة الليل والانتفاع به وعلى هذا لا يضر طلوع الشمس في صلاته كالانجلاء
والقديم تفوت لذهاب الليل وهو سلطانه
( ولا ) تفوت صلاته أيضا ( بغروبه ) أي القمر ( خاسفا ) لبقاء محل سلطنته وهو الليل فغروبه كغيبوبته تحت السحاب خاسفا
فإن قيل قال ابن الأستاذ قد اتفق عليه الأئمة وهو مشكل لأنه قد تم سلطانه في هذه الليلة
أجيب بأنا لا ننظر إلى ليلة بخصوصها بل ننظر إلى سلطانه وهو الليل وما ألحق به كما أنا ننظر إلى سلطان الشمس وهو النهار ولا ننظر فيه إلى غيم ولا إلى غيره
( ولو اجتمع ) عليه صلاتان فأكثر ولا يؤمن الفوات قدم الأخوف فواتا ثم الآكد فعلى هذا لو اجتمع عليه ( كسوف وجمعة أو فرض آخر )
____________________
(1/319)
غيرها ولو نذرا ( قدم الفرض ) جمعة أو غيرها لأن فعله متحتم فكان أهم
هذا ( إن خيف فوته ) لضيق وقته ففي الجمعة يخطب لها ثم يصليها ثم الكسوف إن بقي أو بعضه ثم يخطب له وفي غير الجمعة يصلي الفرض ثم يفعل بالكسوف ما مر
( وإلا ) بأن لم يخف فوت الفرض ( فالأظهر ) كذا في الروضة وأصلها وفي المجموع الصحيح وبه قال الأكثرون وقطعوا به
( تقديم ) صلاة ( الكسوف ) لتعرضها للفوات بالإنجلاء ويخففها كما في المجموع فيقرأ في كل قيام بالفاتحة ونحو سورة الإخلاص كما نص عليه في الأم
( ثم يخطب للجمعة ) في صورتها ( متعرضا للكسوف ) ولا يصح أن يقصده معها بالخطبة لأنه تشريك بين فرض ونفل مقصود وهو ممتنع
فإن قيل ما يحصل ضمنا لا يضر ذكره كما لو ضم تحية المسجد إلى الفرض
أجيب بأن خطبة الجمعة لا تتضمن خطبة الكسوف لأنه إن لم يتعرض للكسوف لم تكف الخطبة عنه
( ثم يصلي الجمعة ) ولا يحتاج إلى أربع خطب لأن خطبة الكسوف متأخرة عن صلاته والجمعة بالعكس والعيد مع الكسوف كالفرض معه لأن العيد أفضل منه كما نقله في المجموع عن الشافعي والأصحاب
لكن يجوز أن يقصدهما معا بالخطبتين لأنهما سنتان والقصد منهما واحد
فإن قيل السنتان إن لم تتداخلا لا يصح أن ينويهما ولهذا لو نوى بركعتين الضحى وقضاء سنة الصبح لم تنعقد صلاته
أجيب بأن الخطبتين تابعتان للمقصود فلا تضر نيتهما بخلاف الصلاة
( ولو اجتمع عيد ) وجنازة ( أو كسوف وجناز قدمت الجنازة ) فيهما خوفا من تغيير الميت ولا يشيعها الإمام بل يشتغل ببقية الصلوات
هذا إن حضرت وحضر الولي فإن لم تحضر أو حضرت ولم يحضر الولي أفرد الإمام لها من ينتظرها واشتغل هو بغيرها بالباقين
وقد تفهم عبارته أنه إذا اجتمع مع الجنازة فرد أنه مقدم وليس مرادا بل تقدم الجنازة أيضا ولو جمعة لكن بشرط اتساع وقت الفرض فإن ضاق وقته قدم
قال السبكي وقد أطلق الأصحاب تقديم الجنازة على الجمعة في أول الوقت ولم يبينوا هل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب وتعليلهم يقتضي الوجوب أي إذا خيف لغيره
قال وقد جرت عادة الناس في هذا الزمان بتأخير الجنائز إلى بعد الجمعة فينبغي التحذير عن ذلك
وقد حكى ابن الرفعة أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما ولي الخطابة بجامع مصر كان يصلي على الجنازة قبل الجمعة ويفتي الحمالين وأهل الميت بسقوط الجمعة عنهم ليذهبوا بها ولو اجتمع عليه خسوف ووتر أو تراويح قدم الخسوف وإن خيف فوت الوتر أو التراويح لأنه آكد
واعترضت طائفة على قول الشافعي رضي الله عنه اجتمع عيد وكسوف بأن العيد إما الأول من الشهر أو العاشر والكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين
وأجاب الأصحاب عن ذلك بأجوبة الأول أن هذا قول المنجمين ولا عبرة به والله على كل شيء قدير
وقد صح أن الشمس كسفت يوم مات سيدنا إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وفي أنساب الزبير بن بكار أنه مات عاشر ربيع الأول وروي البيهقي مثله عن الواقدي
وكذا اشتهر أنها كسفت يوم قتل الحسين وأنه قتل يوم عاشوراء
الثاني سلمنا أنها لا تنكسف إلا في ذلك
فقد يتصور أن تنكسف فيه بأن يشهد شاهدان بنقص رجب وشعبان ورمضان وكانت في الحقيقة كاملة فتنكسف في يوم عيدنا وهو الثامن والعشرون في نفس الأمر ولا يبطل بالكسوف ما ثبت بالبينة الشرعية
الثالث أن الفقيه قد يصور ما لا يقع ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة
خاتمة يندب لغير ذوات الهيئات حضورها مع الجماعة كالعيد وغيرهن يصلين في البيوت كما مرت الإشارة إليه ولكن لا يخطبن فإن وعظتهن امرأة فلا بأس
والخناثى في الحضور وعدمه كالنساء
ويسن لكل أحد أن يتضرع بالدعاء ونحوه عند الزلازل ونحوها كالصواعق والريح الشديدة والخسف وأن يصلي في بيته منفردا كما قاله ابن المقري لئلا يكون غافلا لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به
قيل إن الرياح أربع التي من تجاه الكعبة الصبا ومن ورائها الدبور ومن جهة يمينها الجنوب ومن شمالها الشمال
ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة والدبور
____________________
(1/320)
باردة رطبة والجنوب حارة رطبة والشمال باردة يابسة وهو ريح الجنة التي تهبه على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا الكتاب ودعا لنا بالمغفرة منهم
باب صلاة الاستسقاء هو لغة طلب السقيا وشرعا طلب سقيا العباد من الله تعالى عند حاجتهم إليها
والأصل في الباب قبل الإجماع الاتباع رواه الشيخان وغيرهما ويستأنس لذلك بقوله تعالى { وإذ استسقى موسى لقومه } الآية ولم نقل ويستدل لذلك لأن شرع من قبلنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره ليس بشرع لنا على الأصح
( وهي سنة ) مؤكدة لما مر وإنما لم تجب لخبر هل علي غيرها
وتنقسم إلى ثلاثة أنواع أدناها يكون بالدعاء مطلقا عما يأتي فرادى أو مجتمعين
وأوسطها يكون بالدعاء خلف الصلوات فرضها كما في شرح مسلم ونفلها كما في البيان وغيره وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك والأفضل أن تكون بالصلاة والخطبة ويأتي بيانهما ولا فرق في ذلك بين المقيم ولو بقرية أو بادية والمسافر ولو سفر قصر لاستواء الكل
( عند الحاجة ) وذلك لانقطاع الماء أو قلته بحيث لا يكفي أو ملوحته أو زيادته إذا كان بها نفع
ويستسقي غير المحتاج للمحتاج ويسأل الزيادة لنفسه لأن المؤمنين كالعضو الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله وروى مسلم خبر دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك ( موكل ) كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل ذلك ويظهر كما قال الأذرعي تقييد ذلك بأن لا يكون الغير ذا بدعة وضلالة وبغي وإلا فلا يستسقى له تأديبا وزجرا ولأن العامة تظن بالاستسقاء له حسن طريقته والرضا بها وفيه مفاسد
أما لو انقطع الماء ولم تمس الحاجة إليه ولا نفع به في ذلك الوقت فلا استسقاء
تنبيه قد يفهم كلام المصنف أنه لا يستسقى بالصلاة لطلب زيادة فيها نفع لهم وليس مرادا كما تقرر
( وتعاد ) الصلاة مع الخطبتين كما صرح به ابن الرفعة وغيره ( ثانيا وثالثا ) وأكثركما في المجموع ( إن لم يسقوا ) حتى يسقيهم الله تعالى فإن الله يحب الملحين في الدعاء رواه ابن عدي والعقيلي عن عائشة وضعفاه
وفي الصحيحين يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي وهل يتوقفون على صيام ثلاثة أيام قبل خروجهم أم لا نصان حملهما الجمهور كما قال في المجموع على حالين الأول على ما إذا شق عليهم الخروج من الغد واقتضى الحال التأخير كانقطاع مصالحهم فحينئذ يصومون
والثاني على خلافه
وحكي عن أصبغ أنه قال استسقي للنيل بمصر خمسة وعشرون يوما متوالية وحضره ابن القاسم وابن وهب وغيرهما والمرة الأولى آكد في الاستحباب
ثم إذا عادوا من الغد أو بعده يندب أن يكونوا صائمين فيه
( فإن تأهبوا للصلاة فسقوا قبلها اجتمعوا للشكر ) على تعجيل ما عزموا على سؤاله بأن يثنوا على الله تعالى ويمجدوه ويحمدوه على ذلك قال تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم }
( والدعاء ) بالزيادة إن لم يتضرر بكثرة المطر
( ويصلون ) صلاة الاستسقاء المعروفة شكرا أيضا ( على الصحيح ) كما يجتمعون للدعاء ونحوه والثاني لا يصلون لأنها لم تفعل إلا عند الحاجة وصححه ابن الصلاح وذكر الأذرعي أنه سبق قلم وقطع الجمهور بالأول
وهو المنصوص كما قاله في الروضة فكان ينبغي التعبير بالمذهب
وسكت المصنف عن الخطبة والأصح أنه يخطب بهم كما صرح به ابن المقري
أما إذا سقوا بعدها فلا يجتمعون لما ذكر ولو سقوا في أثنائها أتموها جزما كما يشعر به كلامه
( ويأمرهم الإمام ) ندبا أو من يقوم مقامه ( بصيام ثلاثة أيام أولا ) متتابعة ويصوم معهم قبل ميعاد يوم الخروج فهي أربعة لأن الصوم معين على الرياضة والخشوع
وروى الترمذي عن أبي هريرة خبر ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل والمظلوم وقال حديث حسن
ويلزمهم امتثال أمره كما أفتى به المصنف وسبقه إلى ذلك ابن عبد السلام لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } الآية ورواه البيهقي عن أنس وقال دعوتم الصائم
____________________
(1/321)
والوالد والمسافر
قال الإسنوي والقياس طرده في جميع المأمور به هنا اه
ويدل له قولهم في باب الإمامة العظمى تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع
واختار الأذرعي عدم وجوب الصوم كما لوأمرهم بالعتق وصدقة التطوع
قال الغزي وفي القياس نظر لأن ذلك إخراج مال وقد قالوا إذا أمرهم بالاستسقاء في الجدب وجبت طاعته فيقاس الصوم على الصلاة فيؤخذ من كلامهما أن الأمر بالعتق والصدقة لا يجب امتثاله وهذا هو الظاهر وإن كان كلامهم في الإمامة شاملا لذلك إذ نفس وجوب الصوم منازع فيه فما بالك بإخراج المال الشاق على أكثر الناس وإذا قيل بوجوب الصوم قال الإسنوي يشترط التبييت له حينئذ
قال الغزي ويحسن تخريج وجوب النية على صوم الصبي رمضان أو على صوم النذر اه ويؤخذ من ذلك وجوب التبييت إذ لا يصح صوم من ذكر بغير تبييت وهذا هو الظاهر وإن اختار الأذرعي عدم الوجوب وقال يبعد عدم صحة صوم من لم ينو ليلا كل البعد
ويأمرهم أيضا بالصلح بين المتشاحنين ( والتوبة ) بالإقلاع عن المعاصي والندم عليها والعزم على عدم العود إليها ( والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر ) من عتق وصدقة وغيرهما لأن ذلك أرجى للإجابة قال تعالى { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } { يرسل السماء عليكم مدرارا } وقال { إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي } الآية
( والخروج من المظالم ) المتعلقة بالعبادة في الدم والعرض والمال لأن ذلك أقرب إلى الإجابة
وقد يكون منع الغيث بترك ذلك فقد روى الحاكم والبيهقي ولا منع قوم الزكاة إلا حبس عنهم المطر وقال عبدالله بن مسعود إذا بخس الناس المكيال منعوا قطر السماء
وقال مجاهد وعكرمة في قوله تعالى { ويلعنهم اللاعنون } تلعنهم دواب الأرض تقول منع المطر بخطاياهم
والتوبة من الذنب واجبة على الفور أمر بها الإمام أم لا
وظاهر أن الخروج من المظالم داخل فيها بل كل منهما داخل في التقرب إلى الله تعالى بوجوه البر لكن لعظم أمرهما وكونهما أرجى للإجابة أفردا بالذكر فهما من عطف خاص على عام
( ويخرجون ) أي الناس مع الإمام ( إلى الصحراء ) بلا عذر تأسيا به صلى الله عليه وسلم ولأن الناس يكثرون فلا يسعهم المسجد غالبا وعبارة الأكثرين تبعا للنص إلى مصلى العيدين وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين مكة وغيرها وإن استثنى بعضهم مكة وبيت المقدس لفضل البقعة وسعتها لأنا مأمورون بإحضار الصبيان ومأمورون بأنا نجنبهم المساجد
( في الرابع ) من صيامهم ( صياما ) لحديث ثلاثة لا ترد دعوتهم المتقدم وينبغي للخارج أن يخفف أكله وشربه تلك الليلة ما أمكن
فإن قيل لم لم يسن فطر يوم الخروج ليقوى على الدعاء كما يسن للحاج فطر يوم عرفة لذلك أجيب بأن الحاج يجتمع عليه مشقة الصوم والسفر وبأن محل الدعاء تم آخر النهار والمشقة المذكورة مضعفة حينئذ بخلافه هنا
فإن قيل قضيته أنهم لو كانوا هنا مسافرين وصلوا آخر النهار أن لا صوم عليهم
أجيب بأن الإمام لما أمر به صار واجبا نعم إن تضرروا بذلك لا وجوب عليهم لأن الأمر به حينئذ غير مطلوب لكون الفطر أفضل ويخرجون غير متطيبين ولا متزينين بل ( في ثياب بذلة ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة أي مهنة وهي من إضافة الموصوف إلى صفته أي ما يلبس من الثياب في وقت الشغل ومباشرة الخدمة وتصرف الإنسان في بيته
( و ) في ( تخشع ) وهو حضور القلب وسكون الجوارح ويراد به أيضا التذلل
وقد علم بما قدرته أن تخشع معطوف على ثياب لا على بذلة كما قيل لأنه حينئذ لم يكن فيه تعرض لصفتهم في أنفسهم وهي المقصودة التي ثياب البذلة وصلة لها
ويسن لهم التواضع في كلامهم ومشيهم وجلوسهم للاتباع رواه الترمذي وقال حسن صحيح
ويتنظفون بالسواك وقطع الروائح الكريهة وبالغسل
ويخرجون من طريق ويرجعون في آخر مشاة في ذهابهم إن لم يشق عليهم لا حفاة مكشوفين الرؤوس وقول المتولي لو خرج أي الإمام أو غيره حافيا مكشوف الرأس لم يكره لما فيه من إظهار التواضع بعيد كما قاله الشاشي و الأذرعي
( ويخرجون ) معهم ندبا ( الصبيان والشيوخ ) والعجائز ومن لا هيئة لها من النساء والخنثى القبيح المنظر
____________________
(1/322)
كما قاله بعض المتأخرين لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة إذ الكبير أرق قلبا والصغير لا ذنب عليه ولقوله صلى الله عليه وسلم وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم رواه البخاري وروي بسند ضعيف لولا شباب خشع وبهائم رتع وشيوخ ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ونظم بعضهم ذلك فقال لولا عباد للإله ركع وصبية من اليتامى رضع ومهملات في الفلاة رتع صب عليكم العذاب الأوجع والمراد بالركع الذين انحنت ظهورهم من الكبر وقيل من العبادة ولو احتيج في حمل الصبيان ونحوهم إلى مؤنة حسبت من مالهم كما يؤخذ من كلام الإسنوي لأن الجدب عمهم
ويسن إخراج الأرقاء بإذن ساداتهم ( وكذا البهائم ) يسن إخراجها ( في الأصح ) لأن الجدب قد أصابها أيضا وفي الحديث أن نبيا من الأنبياء خرج يستسقي فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل شأن النملة رواه الدارقطني والحاكم وقال صحيح الإسناد وفي البيان وغيره أن هذا النبي هو سليمان عليه الصلاة والسلام وأن النملة وقعت على ظهرها ورفعت يديها وقالت اللهم أنت خلقتنا فإن رزقتنا وإلا فأهلكنا
قال وروي أنها قالت اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم
والثاني لا يسن إخراجها ولا يكره لأنه لم ينقل
والثالث يكره إخراجها ونقله في المجموع عن الجمهور لأن فيه إتعابها واشتغال الناس بها وبأصواتها والثاني عن نص الأم مع تصحيحه ك الرافعي وغيره الأول أي وهو المعتمد
وتقف معزولة عن الناس ويفرق بين الأمهات والأولاد حتى تكثر الصياح والضجة والرقة فيكون أقرب إلى الإجابة نقله الأذرعي عن جمع المراوزة وأقره
( ولا يمنع أهل الذمة الحضور ) لأنهم يسترزقون وفضل الله واسع وقد يجيبهم استدراجا وطمعا في الدنيا قال تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }
( ولا يختلطون ) أهل الذمة ولا غيرهم من سائر الكفار ( بنا ) في مصلانا ولا عند الخروج أي يكره ذلك بل يتميزون عنا في مكان لأنهم أعداء الله تعالى إذ قد يحل بهم عذاب بكفرهم فيصيبنا قال تعالى { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }
ولا يجوز أن يؤمن على دعائهم كما قاله الروياني لأن دعاء الكافر غير مقبول
ومنهم من قال يستجاب لهم كما استجيب دعاء إبليس بالإنظار
وقد يقال لم يستجب له لأنه طلب الانظار إلى يوم البعث فلم يجب إلى ذلك وإنما أنظره الله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم
ويكره إخراجهم للاستسقاء لأنهم ربما كانوا سبب القحط وفي الروضة يكره أيضا خروجهم
قال الشافعي لكن ينبغي للإمام أن يحرص على أن يكون خروجهم في غير يوم خروجنا لئلا تقع المساواة والمضاهاة في ذلك اه
فإن قيل قد يخرجون وحدهم فيسقون فيظن ضعفة المسلمين بهم خيرا
أجيب بأن خروجهم معنا فيه مفسدة محققة فقدمت على المفسدة المتوهمة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجامع الكبير ولا أكره من إخراج صبيانهم ما أكره من خروج كبارهم لأن ذنوبهم أقل لكن يكره لكفرهم
قال المصنف وهذا يقتضي كفر أطفال الكفار
وقد اختلف العلماء فيهم إذا ماتوا فقال الأكثر إنهم في النار وطائفة لا نعلم حكمهم والمحققون إنهم في الجنة وهو الصحيح المختار لأنهم غير مكلفين وولدوا على الفطرة
وتحرير هذا كما قال شيخنا وغيره أنهم في أحكام الدنيا كفار أي فلا نصلي عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين وفي الآخرة مسلمون فيدخلون الجنة
ويسن لكل واحد ممن يستسقي أن يستشفع بما فعله من خير بأن يذكره في نفسه فيجعله شافعا لأن ذلك لائق بالشدائد كما في خبر الثلاثة الذين أووا في الغار وأن يستشفع بأهل الصلاح لأن دعاءهم أرجى للإجابة لا سيما أقارب النبي صلى الله عليه وسلم كما استشفع عمر رضي الله تعالى عنه بالعباس رضي الله تعالى عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا محمد فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون رواه البخاري
( وهي ركعتان ) للاتباع رواه الشيخان ( كالعيد ) أي كصلاته في كيفيتها من التكبير بعد الافتتاح قبل التعوذ والقراءة سبعا في الأولى وخمسا في الثانية يرفع يديه ووقوفه بين كل تكبيرتين كآية معتدلة والقراءة في الأولى جهرا بسورة ق وفي الثانية اقتربت في
____________________
(1/323)
الأصح أو بسبح والغاشية قياسا لا نصا
( لكن قيل ) هنا أنه ( يقرأ في الثانية ) بدل اقتربت ( إنا أرسلنا نوحا ) لاشتمالها على الاستغفار ونزول المطر اللائقين بالحال
ورده في المجموع باتفاق الأصحاب على أن الأفضل أن يقرأ فيها ما يقرأ في العيد وينادى لها الصلاة جامعة
وفي اختصاصها بوقت أوجه قيل بوقت العيد وقيل من أول وقت العيد إلى العصر والأصح لا تتأقت فقوله ( ولا تختص ) صلاة الاستسقاء ( بوقت العيد في الأصح ) وعبر في الروضة بالصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون يصدق بالأخيرين فلا يعلم منه الأصح
ويجوز فعلها متى شاء ولو في وقت الكراهة على الأصح لأنها ذات سبب فدارت مع السبب كصلاة الكسوف
( ويخطب كالعيد ) في الأركان والشرائط والسنن ( لكن يستغفر الله تعالى بدل التكبير ) فيقول أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في الأولى تسعا وفي الثانية سبعا لأن ذلك أليق بالحال لأن الله تعالى وعدنا بإرسال المطر عنده وقيل إنه يكبر كالعيد قال المصنف وهو ظاهر نص الأم وقال الأذرعي إنه قضية كلام أكثر العراقيين ويأتي بما يتعلق بالاستسقاء بدل ما يتعلق بالفطر والأضحية
ويجوز أن يخطب قبل الصلاة كما سيأتي
ويسن أن يختم كلامه بالاستغفار وأن يكثر منه في الخطبة ومن قول { استغفروا ربكم } الآية ومن دعاء الكرب وهو لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ومن يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ومن رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت ويسن في كل موطن اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وآية آخر البقرة
( ويدعو في الخطبة الأولى ) بما رواه الشافعي في الأم والمختصر عن سالم بن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال ( اللهم ) أي يا الله ( أسقنا ) بقطع الهمزة من أسقى ووصلها من سقى فقد ورد الماضي ثلاثيا ورباعيا قال تعالى { لأسقيناهم ماء غدقا } وقال { وسقاهم ربهم شرابا طهورا }
( غيثا ) بمثلثة أي مطرا ( مغيثا ) بضم الميم أي منقذا من الشدة بإروائه ( هنيئا ) بالمد والهمزة أي طيبا لا ينغصه شيء ( مريئا ) بوزن هنيئا أي محمود العاقبة ( مريعا ) بفتح الميم وكسر الراء وبياء مثناة من تحت أي ذاريع أي نماء مأخوذ من المراعة وروي بالموحدة من تحت من قولهم أربع البعير يربع إذا أكل الربيع وروي أيضا بالمثناة من فوق من قولهم رتعت الماشية إذا أكلت ما شاءت والمعنى واحد
( غدقا ) بغين معجمة ودال مهملة مفتوحة أي كثير الماء والخير وقيل الذي قطره كبار
( مجللا ) بفتح الجيم وكسر اللام يجلل الأرض أي يعمها كجل الفرس وقيل هو الذي يجلل الأرض بالنبات
( سحا ) بفتح السين وتشديد الحاء المهملة أي شديد الوقع على الأرض يقال سح الماء يسح إذا سال من فوق إلى أسفل وساح يسيح إذا جرى على وجه الأرض
( طبقا ) بفتح الطاء والباء الموحدة أي مطبقا على الأرض أي مستوعبا لها فيصير كالطبق عليها يقال هذا مطابق لهذا أي مساو له
( دائما ) إلى انتهاء الحاجة إليه فإن دوامه عذاب
( اللهم أسقنا الغيث ) تقدم شرحه ( ولا تجعلنا من القانطين ) أي الآيسين بتأخير المطر
اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق من اللأواء بالهمز والمد شدة الجوع والجهد بفتح الجيم وهو قلة الخير وسوء الحال والضنك أي الضيق ما لا نشكو بالنون إلا إليك
اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع وأسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض اللهم ارفع عنا الجهد والعري والجوع واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك
( اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء ) أي المطر كما قاله الأزهري وقال الزركشي يجوز أن يكون المراد هنا المطر والسحاب
( علينا مدرارا ) أي درا كثيرا أي مطرا كثيرا
وهذه الزيادة التي زيدت على المتن قد ذكر منها في المحرر إلى اللهم
____________________
(1/324)
ارفع وذكر الباقي في التنبيه والجميع حديث واحد فلا معنى لحذف بعضه
( ويستقبل القبلة ) ندبا ( بعد صدر الخطبة الثانية ) وهو نحو ثلثها كما قاله في الدقائق وحكاه في شرح مسلم عن الأصحاب
وإذا فرغ من الدعاء استدبرها وأقبل على الناس يحثهم على طاعة الله تعالى إلى أن يفرغ كما في الشرح والروضة لا كما يشعر به كلامه من بقاء الاستقبال إلى فراغها ولو استقبل في الأولى لم يعده في الثانية كما نقله في البحر عن نص الأم
( ويبالغ في الدعاء ) حينئذ ( سرا ) ويسر القوم الدعاء أيضا ( وجهرا ) ويؤمن القوم على دعائه قال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } ويرفعون أيديهم في الدعاء جاعلين ظهور أكفهم إلى السماء ثبت ذلك في صحيح مسلم
قال العلماء وهكذا السنة لكل من دعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفه إلى السماء وإذا سأل شيئا عكس ذلك
والحكمة أن القصد رفع البلاء بخلاف القاصد حصول شيء فيجعل بطن كفه إلى السماء
قال الروياني ويكره رفع اليد النجسة قال ويحتمل أن يقال لا يكره بحائل
قال الشافعي رضي الله عنه وينبغي أن يكون من دعائهم في هذه الحالة اللهم أنت أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا وإجابتك في سقيانا وسعة في رزقنا وذكره في المحرر وأسقطه المصنف اختصارا وكان اللائق ذكره
( ويحول ) الخطيب ( رداءه عند استقباله ) القبلة للتفاؤل بتحويل الحال من الشدة إلى الرخاء ( لحديث ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن رواه الشيخان عن أنس بلفظ ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة وفي رواية لمسلم وأحب الفأل الصالح
( فيجعل يمينه ) أي يمين ردائه ( يساره وعكسه ) للاتباع كما رواه أبو داود
قال السهيلي وكان طول ردائه صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وعرضه ذراعين وشبرا
( وينكسه ) بفتح أوله مخففا وبضمه مثقلا عند استقباله ( على الجديد فيجعل أعلاه أسفله وعكسه ) لما في خبر أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه وجه الدلالة أنه هم به فمنعه من فعله مانع
والقديم لا يستحب لأنه لم يفعله
ومتى جعل الطرف الأسفل الذي على الأيسر على الأيمن والآخر على الأيسر حصل التنكيس والتحويل جميعا
والخلاف في الرداء المربع أما المدور والمثلث فليس فيه إلا التحويل قطعا قال القمولي لأنه لا يتهيأ فيه التنكيس وكذا الرداء الطويل
قال شيخنا ومراده كغيره أن ذلك متعسر لا متعذر
( ويحول الناس ) وينكسون وهم جلوس كما نقله الأذرعي عن بعض الأصحاب ( مثله ) تبعا له لما روى الإمام أحمد في مسنده أن الناس حولوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
تنبيه عبر في المحرر بقوله ويفعل بدل يحول وهو أعم لما تقرر ويقع في بعض نسخ الكتاب كذلك لكن المذكور عن نسخة المصنف يحول
( قلت ويترك ) بضم أوله أي رداء الخطيب والناس ( محولا حتى ينزع ) بفتح أوله ( الثياب ) كل منهما عند رجوعهما لمنزلهما لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم غير رداءه قبل ذلك
( لو ترك الإمام الاستسقاء فعله الناس ) كسائر السنن لأنهم يحتاجون كما يحتاج الإمام بل أشد لكنهم لا يخرجون إلى الصحراء إذا كان الوالي بالبلد حتى يأذن لهم كما اقتضاه كلام الشافعي لخوف الفتنة نبه عليه الأذرعي وغيره
( ولو خطب ) له ( قبل الصلاة جاز ) للحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم خطب ثم صلى وفي الصحيحين نحوه أيضا لكن في حقنا خلاف الأفضل لأن فعل الخطبتين بعد الصلاة هو الأكثرمن فعله صلى الله عليه وسلم
( ويسن ) لكل أحد ( أن يبرز ) أي يظهر ( لأول مطر السنة ويكشف ) من جسده ( غير عورته ليصيبه ) شيء من المطر تبركا وللاتباع روى مسلم
____________________
(1/325)
أنه ص الله عليه وسلم حسر عن ثوبه حتى أصابه المطر وقال إنه حديث عهد بربه أي بخلقه وتنزيله بل يسن عند أول كل مطر كما قال الزركشي لظاهر خبر رواه الحاكم ولكنه في الأول آكد
( وأن يغتسل أو يتوضأ في ) ماء ( السيل ) لما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم لكن بإسناد منقطع أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر به ونحمد الله عليه والتعبير بأو يفيد استحباب أحدهما بالمنطوق وكليهما بمفهوم الأول فهو أفضل كما جزم به في المجموع فقال يستحب أن يتوضأ منه ويغتسل فإن لم يجمعهما فليتوضأ
والمتجه كما في المهمات الجمع ثم الاقتصار على الغسل ثم على الوضوء
والغسل والوضوء لا تشترط فيهما النية وإن قال الإسنوي فيه نظر إلا أن يصادف وقت وضوء أو غسل لأن الحكمة فيه هي الحكمة في كشف البدن لينال أول مطر السنة وبركته
( ويسبح عند الرعد والبرق ) فيقول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته كما رواه مالك في الموطأ عن عبدالله بن الزبير
وقيس بالرعد البرق والمناسب أن يقول عنده سبحان من { يريكم البرق خوفا وطمعا }
ونقل الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم عن الثقة عن مجاهد أن الرعد ملك والبرق أجنحته يسوق بها السحاب
وعلى هذا المسموع صوته أو صوت سوقه على اختلاف فيه
وإطلاق ذلك على الرعد مجاز ولا عبرة بقول الفلسفي الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب والبرق ما ينقدح من اصطكاكها
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال بعث الله السحاب فنطقت أحسن النطق وضحكت أحسن الضحك فالرعد نطقها والبرق ضحكها
( و ) أن ( لا يتبع بصره البرق ) لأن السلف الصالح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبوح قدوس
قال الماوردي فيختار الاقتداء بهم في ذلك
( و ) أن ( يقول عند ) نزول ( المطر ) كما في البخاري ( اللهم صيبا ) بصاد مهملة وتشديد المثناة التحتية أي مطرا شديدا ( نافعا ) وفي رواية لابن ماجه سيبا بفتح السين وسكون الياء أي عطاء نافعا وفي رواية لأبي داود وابن ماجه صبيا هنيئا فيستحب الجمع بين الروايات الثلاث ويكرر ذلك مرتين أو ثلاثا
( و ) أن ( يدعو بما شاء ) لما روى البيهقي أن الدعاء يستجاب في أربعة مواطن عند التقاء الصفوف ونزول الغيث وإقامة الصلاة ورؤية الكعبة
( و ) أن يقول ( بعده ) أي بعد المطر أي في أثره كما عبر به في المجموع عن الشافعي والأصحاب وليس المراد بعد انقطاعه كما هو ظاهر كلام المتن
( مطرنا بفضل الله ) علينا
( ورحمته ) لنا
( ويكره ) قول ( مطرنا بنوء كذا ) بفتح نونه وهمز آخره أي بوقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة الأمطار إلى الأنواء لإيهامه أن النوء ممطر حقيقة فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر وعليه يحمل ما في الصحيحين حكاية عن الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب وأفاد تعليق الحكم بالباء أنه لو قال مطرنا في نوء كذا لم يكره وهو كما قال شيخنا ظاهر
ويستثنى من إطلاقه ما نقله الشافعي عن بعض أصحابه أنه كان يقول عند المطر مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها }
( و ) يكره ( سب الريح ) وتجمع على رياح وأرواح بل يسن الدعاء عندها لخبر الريح من روح الله أي رحمته تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن
( ولو تضرروا بكثرة المطر ) وهي ضد القلة قال المصنف في التحرير بفتح الكاف وكسرها
قال في المحكم وبضمها
( فالسنة أن يسألوا الله تعالى رفعه ) بأن يقولوا كما قال صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه ذلك ( اللهم ) اجعل المطر ( حوالينا ) في الأودية والمراعي ( ولا ) تجعله ( علينا ) في الأبنية والبيوت اللهم على الآكام والظراب
____________________
(1/326)
وبطون الأودية ومنابت الشجر رواه الشيخان
والآكام بالمد جمع أكم بضمتين جمع إكام بوزن كتاب جمع أكم بفتحتين جمع أكمة وهو التل المرتفع من الأرض إذا لم يبلغ أن يكون جبلا
والظراب بكسر الظاء المعجمة جمع ظرب بفتح أوله وكسر ثانيه جبل صغير
( ولا يصلي لذلك والله أعلم ) لعدم ورود الصلاة له
خاتمة روى البيهقي في الشعب عن محمد بن حاتم قال قلت لأبي بكر الوراق علمني شيئا يقربني إلى الله تعالى ويقربني من الناس فقال أما الذي يقربك إلى الله تعالى فمسألته وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم ثم روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يسأل الله يغضب عليه ثم أنشد والله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب باب في حكم تارك الصلاة المفروضة على الأعيان أصالة جحدا أو غيره
أخر الغزالي هذا الباب عن الجنائز وذكره جماعة قبل باب الأذان وذكره المزني والجمهور هنا
قال الرافعي ولعله أليق
( إن ترك ) المكلف ( الصلاة ) المعهودة شرعا الصادقة بإحدى الخمس ( جاحدا وجوبها ) بأن أنكره بعد علمه به ( كفر ) بالجحد فقط لا به مع الترك
وإنما ذكره المصنف لأجل التقسيم لأن الجحد لو انفرد كما صلى جاحدا للوجوب كان مقتضيا للكفر لإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة فلو اقتصر المصنف على الجحد كان أولى لأن ذلك تكذيب لله ولرسوله فيكفر به ونقل الماوردي الإجماع على ذلك
وذلك جار في جحود كل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة وسيأتي حكم المرتد في بابه إن شاء الله تعالى
أما من أنكره جاهلا لقرب عهده بالإسلام أو نحوه ممن يجوز أن يخفى عليه كمن بلغ مجنونا ثم أفاق أو نشأ بعيدا عن العلماء فليس مرتدا بل يعرف الوجوب فإن عاد بعد ذلك صار مرتدا
( أو ) تركها ( كسلا ) أو تركها تهاونا ( قتل ) بالسيف ( حدا ) لا كفرا لخبر الصحيحين أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله وخبر أبي داود وغيره خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه فلو كفر لم يدخل تحت المشيئة وأما خبر مسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمحمول على تركها جحدا أو على التغليظ أو المراد بين ما يوجبه الكفر من وجوب القتل جمعا بين الأدلة
ويقتل تارك الطهارة للصلاة كما جزم به الشيخ أبو حامد لأنه ترك لها ويقاس بها الأركان وسائر الشروط ومحله فيما لا خلاف فيه أو فيه خلاف واه بخلاف القوي ففي فتاوى القفال لو ترك فاقد الطهورين الصلاة متعمدا أو مس شافعي الذكر أو لمس المرأة أو توضأ ولم ينو وصلى متعمدا لا يقتل لأن جواز صلاته مختلف فيه
( والصحيح قتله ) وجوبا ( بصلاة فقط ) لظاهر الخبر ( بشرط إخراجها عن وقت الضرورة ) فيما له وقت ضرورة بأن تجمع مع الثانية في وقتها فلا يقتل بترك الظهر حتى تغرب الشمس ولا بترك المغرب حتى يطلع الفجر ويقتل في الصبح بطلوع الشمس وفي العصر بغروبها وفي العشاء بطلوع الفجر فيطالب بأدائها إذا ضاق وقتها ويتوعد بالقتل إن أخرجها عن الوقت فإن أصر وأخرج استوجب القتل
فقول الروضة يقتل بتركها إذا ضاق وقتها محمول على مقدمات القتل بقرينة كلامها بعد وما قيل من أنه لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي كترك
____________________
(1/327)
الصوم والزكاة والحج ولخبر لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ولأنه لا يقتل بترك القضاء مردود بأن القياس متروك بالنصوص والخبر عام مخصوص بما ذكر وقتله خارج الوقت إنما هو للترك بلا عذر
على أنا نمنع أنه لا يقتل بترك القضاء مطلقا بل في ذلك تفصيل يأتي في خاتمة الباب
ويقتل بترك الجمعة ولو قال أصليها ظهرا كما في زيادة الروضة عن الشاشي واختاره ابن الصلاح وقال في التحقيق إنه الأقوى لتركها بلا قضاء إذ الظهر ليس قضاء عنها خلافا لما في فتاوى الغزالي وجزم به في الحاوي الصغير من عدم القتل
ويقتل بخروج وقتها بحيث لا يتمكن من فعلها إن لم يتب فإن تاب لم يقتل وتوبته أن يقول لا أتركها بعد ذلك كسلا
ومحل الخلاف كما قال الأذرعي فيمن لزمه الجمعة إجماعا فإن أبا حنيفة يقول لا جمعة إلا على أهل مصر جامع
ومقابل الصحيح أوجه أحدها يقتل إذا ضاق وقت الثانية لأن الواحد يحتمل تركها لشبهة الجمع
والثاني إذا ضاق وقت الرابعة لأن الثلاث أقل الجمع فاغتفرت
والثالث إذا ترك أربع صلوات قال ابن الرفعة لأنه يجوز أن يكون قد استند إلى تأويل من ترك النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أربع صلوات
والرابع إذا صار الترك له عادة
والخامس لا يعتبر وقت الضرورة
( ويستتاب ) عن الكل قبل القتل لأنه ليس أسوأ حالا من المرتد وهي مندوبة كما صححه في التحقيق وإن كان قضية كلام الروضة والمجموع أنها واجبة كاستتابة المرتد
والفرق على الأول أن جريمة المرتد تقتضي الخلود في النار فوجبت الاستتابة رجاء نجاته من ذلك بخلاف تارك الصلاة فإن عقوبته أخف لكونه يقتل حدا بل مقتضى ما قاله المصنف في فتاويه من كون الحدود تسقط الإثم أنه لا يبقى عليه شيء بالكلية لأنه قد حد على هذه الجريمة والمستقبل لم يخاطب به وتوبته على الفور لأن الإمهال يؤدي إلى تأخير صلوات
وفي قول يمهل ثلاثة أيام والقولان في الندب وقيل في الوجوب
ولو قتله في مدة الاستتابة أو قبلها إنسان أثم ولا ضمان عليه كقاتل المرتد
ولو جن أوسكر قبل فعل الصلاة لم يقتل فإن قتل وجب القود بخلاف نظيره في المرتد لا قود على قاتله لقيام الكفر ذكره في المجموع
وقول الأذرعي نعم إن كان قد توجه عليه القتل وعاند قبل جنونه أو سكره فإنه لا قود على قاتله مبني على أن التوبة واجبة
( ثم ) إن لم يتب ولم يبد عذرا ( تضرب عنقه ) بالسيف ( وقيل ينخس بحديدة ) وقيل يضرب بخشبة أي عصا ( حتى يصلي أو يموت ) لأن المقصود حمله على الصلاة لا قتله
( و ) بعد الموت حكمه حكم المسلم الذي لم يترك الصلاة من أنه ( يغسل ) ثم يكفن ( ويصلي عليه ) بعد غسله كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في الباب الآتي
( ويدفن مع المسلمين ) في مقابرهم ( ولا يطمس قبره ) كسائر أصحاب الكبائر من المسلمين
وقيل لا يفعل معه شيء من هذه الأشياء ويطمس قبره إهانة له وعلى هذا يدفن في مقبرة منفردة كما قاله بعض المتأخرين لا في مقابر المسلمين ولا في مقابر الكفار
فإن أبدى عذرا كأن قال تركتها ناسيا أو للبرد أو لعدم الماء أو لنجاسة كانت علي أو نحوها من الأعذار صحيحة كانت في نفس الأمر أو باطلة لم يقتل لأنه لم يتحقق منه تعمد تأخيرها عن الوقت بغير عذر لكن نأمره بها بعد ذكر العذر وجوبا في العذر الباطل وندبا في الصحيح كما قاله شيخنا بأن نقول له صل فإن امتنع لم يقتل لذلك
فإن قال تعمدت تركها بلا عذر قتل سواء أقال ولم أصلها أو سكت لتحقق جنايته بتعمد التأخير
تنبيه قول المتن ثم تضرب عنقه قيده الإسنوي وغيره بما إذا لم يتب ولا حاجة إليه لأن الكلام فيما إذا تركها فإذا صلاها زال الترك
فإن قيل لم لم يقل وإن تاب فإنه يقتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة والقتل على التأخير عن الوقت عمدا كما في زيادة الروضة وقد وجد فكيف تنفعه التوبة فهي كمن سرق نصابا ثم رده فإن القطع لا يسقط أجيب بأن الحد إنما هو على ترك فعل الصلاة وقد فعل الصلاة التي كان الحد لأجل تركها كما قاله الأذرعي وغيره أو أنه أعطى تأخير الصلاة عن الوقت عمدا مع تركها فالعلة مركبة منهما كما قاله ابن شهبة فإذا صلى زالت العلة وهذا أولى
خاتمة من ترك الصلاة بعذر كنوم أو نسيان لم يلزمه قضاؤها فورا لكن يسن له المبادرة بها أو بلا عذر لزمه
____________________
(1/328)
قضاؤها فورا لتقصيره لكن لا يقتل بفائتة فائتة بعذر لأن وقتها موسع أو بلا عذر وقال أصليها لنوبته بخلاف ما إذا لم يقل ذلك كما مرت الإشارة إليه
ولو ترك منذورة مؤقتة لم يقتل كما علم من تقييد الصلاة بإحدى الخمس لأنه الذي أوجبها على نفسه وفيه احتمال للشيخ أبي إسحاق
قال الغزالي ولو زعم زاعم أن بينه وبين الله حاجة أسقطت عنه الصلاة وأحلت له شرب الخمر وأكل مال السلطان كما زعمه بعض من ادعى التصوف فلا شك في وجوب قتله وإن كان في خلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر
كتاب الجنائز بفتح الجيم جمع جنازة بالفتح والكسر اسم للميت في النعش وقيل بالفتح اسم لذلك وبالكسر اسم للنعش وعليه الميت وقيل عكسه وقيل هما لغتان فيها فإن لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش
وهي من جنزه يجنزه إذا ستره
ولما اشتمل هذا الكتاب على الصلاة ذكر هنا دون الفرائض وصدره بما يفعله المكلف قبل موته فقال ( ليكثر ) ندبا المكلف صحيحا كان أو مريضا ( ذكر الموت ) لأن ذلك أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة ولخبر أكثروا من ذكر هاذم اللذات يعني الموت صححه ابن حبان والحاكم وقال إنه على شرط مسلم وزاد النسائي فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره أي كثير من الدنيا وقليل من العمل
وهاذم بالذال المعجمة ومعناه القاطع وأما بالمهملة فمعناه المزيل للشيء من أصله
وروى الترمذي بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء قالوا نستحي يا نبي الله والحمد لله قال ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء
قال في المجموع قال الشيخ أبو حامد ويستحب الإكثار من ذكر هذا الحديث
والموت مفارقة الروح للبدن والروح عند جمهور المتكلمين جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر وهو باق لا يفنى عند أهل السنة وقوله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها } تقديره عند موت أجسادها وعند جمع منهم عرض وهو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا
وأما الصوفية والفلاسفة فليست عندهم جسما ولا عرضا بل جوهر مجرد غير متحيز يتعلق بالبدن تعلق التدبير وليس داخلا فيه ولا خارجا عنه
( ويستعد ) له ( بالتوبة ورد المظالم ) إلى أهلها بأن يبادر إليهما لئلا يفجأه الموت المفوت لهما وظاهر كلامه استحبابهما لأنه معطوف على مستحب ويؤكد ذلك قوله بعد والمريض آكد وهو ما صرح به في الإرشاد تبعا للقمولي
والمشهور وجوبهما لأن التوبة مما تجب منه واجبة على الفور وكذا رد المظالم الممكن ردها
وصرح برد المظالم مع دخوله في التوبة لعظم أمره ولئلا يغفل عنه كما مر في باب الاستسقاء ولو عبر بالخروج منها ليتناول رد العين وقضاء الدين والإبراء منه وإقامة الحدود والتعزير والإبراء منها كان أولى
( والمريض آكد ) بذلك أي أشد طلبا لما ذكر من الصحيح لنزول مقدمات الموت به
ويسن أن يستعد لمرضه بالصبر عليه وترك الأنين منه جهده ولا يكره كما في المجموع وإن صرح جماعة بكراهته ويكره كثرة الشكوى فيه لأنها ربما تشعر بعدم الرضا بالقضاء قال في المجموع ولو سأله طبيب أو قريب أو صديق أو نحوه عن حاله فأخبره بالشدة التي هو فيها لا على صورة الجزع فلا بأس
ويسن لأهله الرفق به والصبر عليه وللأجنبي أن يوصيهم بذلك وأن يحسن المريض خلقه ويجتنب المنازعة في أمور الدنيا ويسترضى من له به علقة كزوجته وجيرانه ويتعهد نفسه بالذكر وأحوال الصالحين عند الموت ويوصي أهله بالصبر عليه وترك النوح عليه ونحوه مما جرت العادة به من البدع في الجنائز
ويسن لغيره عيادته ولو في أول يوم إن كان مسلما فإن كان ذميا له قرابة أو جوار ونحوه كرجاء إسلامه
____________________
(1/329)
استحب وفاء بصلة الرحم وحق الجوار وروى البخاري عن أنس قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمدلله الذي أنقذه من النار وإلا جازت
ولا فرق بين الأرمد وغيره كما في المجموع ولا بين الصديق وغيره ولا بين من يعرفه وغيره لعموم الأخبار
قال الأذرعي والظاهر أن المعاهد والمستأمن كالذمي قال وفي استحباب عيادة أهل البدع المنكرة وأهل الفجور والمكوس إذا لم تكن قرابة ولا جوار ولا رجاء توبة نظر لأنا مأمورون بمهاجرتهم اه
وهو ظاهر ولتكن العيادة غبا فلا يواصلها كل يوم إلا أن يكون مغلوبا عليه ومحل ذلك كما في المجموع في غير القريب والصديق ونحوهما مما يستأنس بهم المريض أو يتبرك به أو يشق عليه عدم رؤيتهم كل يوم أما هؤلاء فيواصلونها ما لم ينهوا أو يعلموا كراهته ذلك
ويخفف العائد المكث عنده بل تكره إطالته ويطيب عائده نفسه فإن خاف عليه الموت رغبه في التوبة والوصية ويدعو له وينصرف ويسن في دعائه أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات لخبر من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال ذلك عنده عافاه الله من ذلك المرض رواه الترمذي وحسنه
ويكره عيادته إن شقت عليه ويسن طلب الدعاء منه ووعظه بعد عافيته وتذكيره الوفاء بما عاهد الله عليه من التوبة وغيرها من الخير وينبغي له المحافظة على ذلك قال الله تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }
ثم شرع في آداب المحتضر فقال ( ويضجع المحتضر ) وهو من حضره الموت ولم يمت ( لجنبه الأيمن ) ندبا كالموضوع في اللحد ( إلى القبلة ) ندبا أيضا لأنها أشرف الجهات
وقوله ( على الصحيح ) يرجع للاضطجاع وسيأتي
مقابله
( فإن تعذر ) وضعه على يمينه ( لضيق مكان ونحوه ) كعلة بجنبه فلجنبه الأيسر كما في المجموع لأن ذلك أبلغ في التوجه من استلقائه
فإن تعذر ( ألقي على قفاه ووجهه وأخمصاه ) وهما هنا أسفل الرجلين وحقيقتهما المنخفض من أسفلهما ( للقبلة ) بأن يرفع رأسه قليلا كأن يوضع تحت رأسه مرتفع ليتوجه ووجهه إلى القبلة ومقابل الصحيح أن هذا الاستلقاء أفضل فإن تعذر اضطجع على الأيمن
( ويلقن ) ندبا قبل الاضطجاع كما قاله الماوردي ( الشهادة ) وهي لا إله إلا الله فإن أمكن الجمع بين التلقين والاضطجاع فعلا معا كما قاله ابن الفركاح وإلا بدأ بالتلقين لخبر مسلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله قال في المجموع أي من قرب موته وهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه كقوله { إني أراني أعصر خمرا }
وروى أبو داود بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة
( بلا إلحاح ) عليه لئلا يضجر ولا يقال له قل بل يذكرها بين يديه ليتذكر أو يقول ذكر الله تعالى مبارك فنذكر الله جميعا فإن قالها لم تعد عليه ما لم يتكلم بكلام الدنيا كما قاله الصيمري بخلاف التسبيح ونحوه لأنه لا ينافي أن آخر كلامه لا إله إلا الله أي من أمور الدنيا
ويسن أن يكون الملقن غير متهم بإرث أو عداوة أو حسد أو نحو ذلك فإن لم يحضر غيره لقنه أشفق الورثة ثم غيره وما يترك التلقين حينئذ لما ذكر
ولا تسن زيادة محمد رسول الله لظاهر الأخبار وقيل تسن لأن المقصود بذلك التوحيد ورد بأن هذا موحد
ويؤخذ منه ما بحثه الإسنوي أنه لو كان كافرا لقن شهادتين وأمر بهما لخبر اليهودي السابق وجوبا كما قال شيخي إن رجى إسلامه وإلا فندبا
وكلامهم يشمل غير المكلف فيسن تلقينه إذا كان مميزا ولا يسن بعد موته قال الزركشي لأن التلقين هنا للمصلحة وثم لئلا يفتن الميت في قبره وهذا لا يفتن
( ويقرأ عنده ) سورة ( يس ) لخبر اقرأوا على موتاكم يس رواه أبو داود وابن حبان وصححه وقال المراد به من حضره الموت يعني مقدماته وإن أخذ ابن الرفعة بظاهر الخبر لأن الميت لا يقرأ عليه وإنما يقرأ عنده
والحكمة في قراءتها أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها فإذا قرئت عنده تجدد له ذكر تلك الأحوال
واستحب بعض الأصحاب أن يقرأ عنده سورة الرعد لقول جابر فإنها تهون عليه خروج روحه
ويسن تجريعه بماء بارد كما قاله الجيلي فإن العطش يغلب من شدة النزع فيخاف منه إزلال الشيطان إذ ورد أنه يأتيه بماء زلال ويقول له قل لا إله
____________________
(1/330)
غيري حتى أسقيك نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله الثبات لنا وللمسلمين عند الممات
ويكره للحائض أن تحضر المحتضر وهو في النزع لما ورد أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب ويؤخذ من ذلك أن الكلب والصورة وغير الحائض ممن وجب عليه الغسل مثلها
وعبر في الرونق واللباب ب لا يجوز بدل يكره أي لا يجوز جوازا مستوي الطرفين فيكره
( وليحسن ) المريض ندبا ( ظنه بربه سبحانه وتعالى ) أي يظن أن الله سبحانه وتعالى يرحمه ويغفر له ويرجو ذلك لما في الصحيحين أن الله عز وجل قال أنا عند ظن عبدي بي وفي خبر مسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى
ويسن لمن عنده تحسين ظنه وتطميعه في رحمة الله تعالى بل قد يجب كما بحثه الأذرعي إذا رأى منه أمارات اليأس والقنوط أخذا من قاعدة النصيحة الواجبة وهذا الحال من أهمها
قال في المجموع ويستحب له تعهد نفسه بتقليم الظفر وأخذ شعر الشارب والإبط والعانة ويستحب له أيضا الاستياك والاغتسال والطيب ولبس الثياب الطاهرة
وأما الصحيح فقيل الأولى له أن يغلب خوفه على رجائه والأظهر في المجموع استواؤهما إذ الغالب في القرآن ذكر الترغيب والترهيب معا كقوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم }
والأولى ما ذكره في الإحياء من أنه إن غلب عليه داء القنوط فالرجاء أولى أو داء أمن المكر فالخوف أولى
( فإذا مات غمض ) ندبا لئلا يقبح منظره وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمه ثم قال إن الروح إذا قبض أي خرج تبعه البصر وشق بصره بفتح الشين وضم الراء شخص قيل إن العين أول شيء يخرج منه الروح وأول شيء يشرع إليه الفساد
قال في المجموع ويسن أن يقول عند إغماضه بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم
( وشد لحياه بعصابة ) عريضة تعمهما ويربطها فوق رأسه لئلا يبقى فمه مفتوحا فيدخل فيه الهوام
( ولينت مفاصله ) بأن يرد ساعده إلى عضده ثم ساعده ثم يمده ويرد ساقه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه ويردهما ويلين أيضا أصابعه وذلك ليسهل غسله فإن في البدن بعد مفارقة الروح بقية حرارة فإذا لينت المفاصل حينئذ لانت وإلا فلا يمكن تليينها بعد ذلك
( وستر جميع بدنه ) إن لم يكن محرما ( بثوب ) فقط لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سجي حين مات بثوب حبرة وهو بالإضافة وكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة نوع من ثياب القطن تنسج باليمن وسجي غطى
( خفيف ) لئلا يحميه فيسرع إليه الفساد ويكون ذلك بعد نزع ثيابه ويجعل طرفاه تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف
أما المحرم فيستر منه ما يجب تكفينه منه
( ووضع على بطنه شيء ثقيل ) كسيف ومرآة ونحوهما من أنواع الحديد ثم طين رطب ثم ما تيسر لئلا ينفتح فيقبح منظره وقدر الشيخ أبو حامد ذلك بزنة عشرين درهما
قال الأذرعي وكأنه أقل ما يوضع وإلا فالسيف يزيد على ذلك
والظاهر أن السيف ونحوه يوضع بطول الميت وأن الموضوع يكون فوق الثوب كما جرت به العادة
ويندب أن يصان المصحف عنه احتراما له ويلحق به كتب الحديث والعلم المحترم كما بحثه الإسنوي
( ووضع على سرير ونحوه ) مما هو مرتفع كدكة لئلا تصيبه نداوة الأرض فيتغير بنداوتها فإن كانت صلبة قال في الكفاية جاز وضعه عليها يعني من غير ارتكاب خلاف الأولى ولا يوضع على فراش لئلا يحمي فيتغير
( ونزعت ) عنه ( ثيابه ) المخيطة التي مات فيها بحيث لا يرى شيء من بدنه لئلا يسرع فساده
قال الأذرعي وهذا فيمن يغسل لا في شهيد المعركة وينبغي أن يبقى عليه القميص الذي يغسل فيه إذا كان طاهرا إذ لا معنى لنزعه ثم إعادته
نعم يشمر إلى حقوه لئلا يتنجس بما قد يخرج منه كما أشار إليه بعضهم اه
ولو قدم هذا الأدب على الذي قبله كان أولى
( ووجه للقبلة ) إن أمكن ( كمحتضر ) أي كتوجهه وتقدم
قال الأذرعي وقد يفهم من هذا أنه يكون على جنبه والظاهر أن المراد هنا إلقاؤه على قفاه ووجهه وأخمصاه إلى القبلة ويوميء إليه قولهم ويوضع على بطنه شيء ثقيل
( ويتولى ذلك ) كله ( أرفق محارمه ) أي الميت لوفور
____________________
(1/331)
شفقته ويتولاه الرجال من الرجال والنساء من النساء فإن تولاه الرجال من نساء المحارم أو النساء من رجال المحارم جاز كذا في زيادة الروضة
قال الأذرعي وفيه إشارة إلى أنه لا يتولى ذلك الأجنبي من الأجنبية ولا بالعكس ولا يبعد جوازه لهما مع الغض وعدم المس اه
وهو ظاهر وكالمحرم فيما ذكر الزوجان بل أولى وفي إطلاق المحرم على الرجلين والمرأتين مسامحة
( ويبادر ) بفتح الدال ندبا ( بغسله إذا تيقن موته ) بظهور شيء من أمارته كاسترخاء قدم وميل أنف وانخساف صدغ لأنه عليه الصلاة والسلام عاد طلحة بن البراء فقال إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فإن يؤتى به فعجلوا به فإنه لا ينبغي لجيفة مؤمن أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود
فإن شك في موته أخر وجوبا كما قاله في المجموع إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره
( وغسله ) أي الميت ( وتكفينه والصلاة عليه ) وحمله ( ودفنه فروض كفاية ) للإجماع على ما حكاه في أصل الروضة وللأمر به في الأخبار الصحيحة في غير الدفن
وقاتل نفسه كغيره كما مر سواء في ذلك المسلم والذمي إلا في الغسل والصلاة فمحلهما في المسلم غير الشهيد كما يعلم مما سيأتي
والمشهور أن المخاطب بذلك كل من علم بموته من قريب أو غيره
( وأقل الغسل تعميم بدنه ) بالماء مرة لأن ذلك هو الفرض في الغسل من الجنابة في حق الحي ( بعد إزالة النجس ) عنه إن كان عليه كذا في الروضة كأصلها أيضا فلا يكفي لهما غسلة واحدة وهو مبني على ما صححه الرافعي في الحي أن الغسلة لا تكفي عن النجس والحدث وصحح المصنف أنها تكفي كما مر في باب الغسل وكأنه ترك الاستدراك هنا للعلم به من هناك فيتحد الحكمان وهذا هو المعتمد
فإن قيل إن ما هنا محمول على نجاسة تمنع وصول الماء إلى العضو أو أن ما هناك متعلق بنفسه فجاز إسقاطه وما هنا بغيره فامتنع إسقاطه
أجيب بخروج الأول عن صورة المسألة
والثاني عن المدرك وهو أن الماء ما دام مترددا على المحل لا يحكم باستعماله كما مر بيانه فيكفي غسله لذلك
( ولا تجب نية الغاسل ) أي لا تشترط في صحة الغسل ( في الأصح فيكفي ) على هذا ( غرقه أو غسل كافر ) لأن المقصود من هذا الغسل هو النظافة وهي لا تتوقف على نية
والثاني تجب لأنه غسل واجب فافتقر إلى النية كغسل الجنابة
وعلى هذا فلا يكفي الغرق ولا غسل الكافر فينوي كما في المجموع الغسل الواجب أو غسل الميت
( قلت الأصح المنصوص وجوب غسل الغريق والله أعلم ) لأنا مأمورون بغسل الميت فلا يسقط الفرض عنا إلا بفعلنا حتى لو رأينا الملائكة تغسله لم يسقط عنا بخلاف نظيره من الكفن لأن المقصود منه الستر وقد حصل ومن الغسل التعبد بفعلنا له ولهذا ينبش للغسل لا للتكفين
وهل يكفي تغسيل الجن الظاهر الاكتفاء كما قيل إن الجمعة تنعقد بهم
( والأكمل وضعه بموضع خال ) عن الناس لا يكون فيه أحد إلا الغاسل ومن يعينه
وللولي الحضور وإن لم يغسل ولم يعن لحرصه على مصلحته
وقد تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناول الماء والعباس واقف ثم رواه ابن ماجة وغيره
( مستور ) عنهم كما في حال الحياة ولأنه قد يكون فيه ما لا يحب أن يطلع عليه غيره والأفضل أن يكون تحت سقف لأنه أستر له نص عليه في الأم
( على لوح ) أو سرير هيء لذلك لئلا يصيبه الرشاش ويكون عليه مستلقيا كاستلقاء المحتضر لأنه أمكن لغسله
( ويغسل ) ندبا ( في قميص ) لأنه أستر له وقد غسل صلى الله عليه وسلم في قميص رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح
والأولى أن يكون القميص خلقا أو سخيفا حتى لا يمنع وصول الماء إليه وقيل تجريده أولى
وقال المزني إن الشافعي تفرد بالأول وإن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لجلالته وعظم قدره وقيل إن الغسل في القميص للأشراف وذوي الهيئات
ويدخل الغاسل يده في كم القميص إن كان واسعا ويغسله من تحته وإن كان ضيقا فتق رؤوس الدخاريص فإن لم يجد قميصا أو لم يتأت غسله فيه لضيقه ستر ما بين سرته وركبته
ويسن كما قال السبكي أن
____________________
(1/332)
يغطي وجهه بخرقة من أول ما يضعه على المغتسل وقد ذكره المزني عن الشافعي والأولى أن يكون ( بماء بارد ) لأنه يشد البدن والسخن يرخيه إلا أن يحتاج إلى السخن لوسخ أو برد أو نحوه فيسخن قليلا ولا يبالغ في تسخينه لئلا يسرع إليه الفساد
قال الزركشي واستحب الصيمري و الماوردي كونه مالحا على كونه عذبا وقال أيضا ولا ينبغي أن يغسل الميت بماء زمزم للخلاف في نجاسته بالموت
ويكون الماء في إناء كبير ويبعد به عن المغتسل بحيث لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل
( ويجلسه الغاسل على المغتسل ) برفق ( مائلا إلى ورائه ) قليلا ليسهل خروج ما في بطنه ( ويضع يمينه على كتفه وإبهامه في نقرة قفاه ) لئلا يميل رأسه
والقفا مقصور وجوز الفراء مده وهو مؤخر العنق
( ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى ) لئلا يسقط ( ويمر يساره على بطنه إمرارا بليغا ليخرج ما فيه ) من الفضلات خشية من خروجها بعد الغسل أو بعد التكفين فيفسد بدنه أو كفنه
قال الماوردي بليغا بالتكرار لا في شدة الاجتهاد بحيث لا يؤدي إلى هتك الميت لأن احترامه واجب
ويكون عنده حينئذ مجمرة متقدمة فائحة بالطيب كالعود والمعين يصب عليه ماء كثيرا لئلا تظهر رائحة ما يخرج منه
ويسن أيضا أن يبخر عند الميت من حين الموت لأنه ربما ظهر منه شيء فتغلبه رائحة البخور
( ثم يضجعه لقفاه ) أي مستلقيا كما كان أولا ( ويغسل بيساره وعليها خرقة ) ملفوفة بها ( سوأتيه ) أي قبله ودبره وكذا ما حولهما كما يستنجي الحي بعد قضاء الحاجة ( ثم يلف ) خرقة ( أخرى ) على يده اليسرى بعد إلقاء الأولى وغسل يده بماء وأشنان أو نحوه إن تلوثت كما قاله الرافعي
وفي النهاية والوسيط يغسل كل مرة بخرقة ولا شك أنه أبلغ في النظافة
( ويدخل أصبعه ) السبابة من يسراه كما بحثه شيخنا مبلولة بماء ( فمه ويمرها على أسنانه ) بشيء من الماء كما يستاك الحي
فإن قيل الحي يستاك باليمين فلم خولف في هذا أجيب بأن القذر ثم لا يتصل باليد بخلافه هنا وبأن الميت قيل بنجاسته ففعل به ذلك للخروج من الخلاف
ولا يفتح أسنانه إذا كانت متراصة لخوف سبق الماء إلى جوفه فيسرع فساده
( ويزيل ) بأصبعه الخنصر مبلولة بماء ( ما في منخريه ) بفتح الميم أشهر من كسرها وبكسر الخاء ( من أذى ) كما في مضمضة الحي واستنشاقه
( ويوضئه ) بعد ما تقدم ( كالحي ) ثلاثا ثلاثا بمضمضة واستنشاق قليلا ويميل رأسه فيهما
وقيل يستغنى عنهما بما تقدم لئلا يصل الماء باطنه
قال في المجموع ويتبع بعود لين ما تحت أظفاره
( ثم يغسل رأسه ثم لحيته بسدر ونحوه ) كخطمي والسدر أولى لأنه أمسك للبدن وأقوى للجسد وللنص عليه في الخبر
( ويسرحهما ) أي شعر رأسه ولحيته إن تلبد ( بمشط ) بضم أوله وكسرها مع إسكان الشين وبضمها مع الميم لإزالة ما فيهما من سدر ووسخ كما في الحي ( واسع الأسنان ) لئلا ينتتف الشعر ( برفق ) لئلا ينتتف شيء أو يقل الانتتاف
( ويرد المنتتف إليه ) ندبا بأن يضعه في كفنه ليدفن معه إكراما له وقيل يجعل وسط شعره
وأما دفنه فسيأتي إن شاء الله تعالى
( ويغسل ) بعدما سبق ( شقه الأيمن ) مما يلي الوجه من عنقه إلى قدمه ( ثم الأيسر ) كذلك ( ثم يحرفه إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن مما يلي القفا والظهر ) من كتفه ( إلى القدم ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيغسل الأيسر كذلك ) أي مما يلي قفاه وظهره من كتفه إلى القدم وقيل يغسل شقه الأيمن من مقدمه ثم من ظهره ثم يغسل شقه الأيسر من مقدمه ثم من ظهره وكل سائغ
____________________
(1/333)
والأول أولى وهو ما نص عليه الشافعي والأكثرون
ويحرم كبه على وجهه احتراما له بخلافه في حق نفسه في الحياة يكره ولا يحرم لأن الحق له فله فعله
( فهذه ) الأغسال المذكورة مع قطع النظر عن السدر ونحوه فيها لما سيأتي أنه يمتنع الاعتداد بها ( غسلة ) واحدة
( ويستحب ثانية وثالثة ) كذلك فإن لم تحصل النظافة زيد حتى تحصل فإن حصلت بشفع استحب الإيتار بواحدة
( و ) يستحب ( أن يستعان في الأول بسدر أو خطمي ) بكسر الخاء وحكي ضمها للتنظيف والإبقاء
( ثم يصب ماء قراح ) بفتح القاف وتخفيف الراء أي خالص
( من فرقه إلى قدمه بعد زوال السدر ) أو نحوه بالماء فلا تحسب غسلة السدر ولا ما أزيل به من الثلاث لغير الماء به التغير السالب للطهورية وإنما تحسب منها غسلة الماء القراح فيكون الأولى من الثلاث به هي المسقطة للواجب
تنبيه قال السبكي لا وجه لتخصيص السدر بالأولى بل الوجه التكرير به إلى أن يحصل النقاء على وفق الخبر والمعنى يقتضيه فإذا حصل النقاء وجب غسله بالماء الخالص ويسن بعدها ثانية وثالثة كغسل الحي اه
قال في تصحيح ابن قاضي عجلون ففي المنهاج تقديم وتأخير أي لأنه قدم فهذه غسلة على قوله ثم يصب ماء قراح وكان الأولى أن يقول ثم يصب ماء قراح فهذه غسلة
( و ) يستحب ( أن يجعل في كل غسلة ) من الثلاث التي بالماء القراح ( قليل كافور ) إن لم يكن الميت محرما بحيث لا يفحش التغير به لأنه يقوي البدن ويطرد الهوام وهو في الأخيرة آكد
ويكره تركه كما نص عليه في الأم بخلاف الكثير وهو ما يغير به فيضر إلا إذا كان صلبا فلا يضر لأنه مجاور والأصل في ذلك خبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لغاسلات ابنته زينب رضي الله عنها ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها واغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور قالت أم عطية منهن ومشطناها ثلاثة قرون
وفي رواية فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها
وقوله أو خمسا إلخ هو بحسب الحاجة في النظافة إلى الزيادة على الثلاث مع رعاية الوتر لا للتخيير وقوله إن رأيتن أي إن احتجتن وكاف ذلك بالكسر خطابا لأم عطية ومشطناها وضفرناها بالتخفيف وثلاثة قرون أي ضفائر القرنين والناصية
أما المحرم فيحرم وضع الكافور في ماء غسله ثم بعد تكميل الغسل يلين الميت مفاصله ثم ينشف تنشيفا بليغا لئلا تبتل أكفانه فيسرع إليه الفساد ولا يأتي في التنشيف هنا الخلاف في تنشيف الحي
( ولو خرج ) من الميت ( بعده ) أي الغسل ( نجس ) ولو من الفرج وقبل التكفين أو وقع عليه نجس في آخر غسله أو بعده ( وجب إزالته فقط ) لسقوط الفرض بما وجد والتنظيف يحصل بنظافة ما حدث
( وقيل ) فيما إذا لم يكفن تجب إزالته مع ( الغسل إن خرج من الفرج ) ليختم أمره بالأكمل
( وقيل ) في الخارج منه تجب إزالته مع ( الوضوء ) لا الغسل كما في الحي
وأما بعد التكفين فيجزم بغسل النجاسة فقط بل حكى الإسنوي عن فتاوى البغوي أنه لا يجب غسلها إذا كان بعد التكفين
ولا يجنب ميت بوطء ولا بغيره ولا يحدث بمس ولا بغيره لسقوط التكليف عنه
تنبيه قوله الوضوء مجرور على تقدير مع كما قدرته وهو لغة قليلة لأن جر المضاف إليه مع حذف المضاف قليل
ثم شرع في بيان الغاسل فقال ( ويغسل الرجل الرجل ) فهو أولى به ( والمرأة المرأة ) فهي أولى بها وسيأتي ترتيبهم
تنبيه قوله الرجل الرجل و المرأة المرأة بنصب الأول فيهما بخطه وذلك ليصح إسناد يغسل المسند للمذكر وللمرأة لوجود الفاصل بالمفعول كما في قولهم أتى القاضي امرأة ويجوز رفع الأول منهما ويكون من عطف الجمل ويقدر في الجملة المعطوفة فعل مبدوء بعلامة التأنيث
( ويغسل أمته ) أي يجوز له ذلك ولو مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد
____________________
(1/334)
كالزوجة بل أولى لأنه مالك للرقبة والبضع جميعا والكتابة تفسخ بالموت
نعم لا يغسل أمته المزوجة والمعتدة والمستبرأة لتحريم بضعهن عليه وكذا المشتركة والمبعضة بالأولى وقضية التعليل أن كل أمة تحرم عليه كوثنية ومجوسية كذلك وهو الظاهر كما بحثه البارزي وإن قال الإسنوي مقتضى إطلاق المنهاج جواز ذلك
فإن قيل المستبرأة إن كانت مملوكة بالسبي فالأصح حل غير الوطء من التمتعات فغسلها أولى أو بغيره فلا يحرم عليه الخلوة بها ولا لمسها ولا النظر إليها بغير شهوة فلا يمتنع عليه غسلها أجيب بأن تحريم الغسل ليس لما ذكر بل لتحريم البضع كما صرح به في المجموع فهي كالمعتدة بجامع تحريم البضع وتعلق الحق بأجنبي
( و ) يغسل ( زوجته ) مسلمة كانت أو ذمية وإن تزوج أختها أو أربعا سواها لأن حقوق النكاح لا تنقطع بالموت بدليل التوارث في الجملة
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك رواه النسائي وابن حبان
قال شيخي وتمام الحديث إذا كنت تصبح عروسا
و ( هي ) تغسل ( زوجها ) بالإجماع وإن انقضت عدتها وتزوجت ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم
( ويلفان ) ندبا أي السيد في تغسيل أمته وأحد الزوجين في تغسيل الآخر ( خرقة ) على يدهما ( ولا مس ) واقع بينهما وبين الميت أي لا ينبغي ذلك لئلا ينتقض وضوء الغاسل فقط
أما وضوء المغسول فلا لما مر من أنه غير مكلف
نعم المطلقة ولو رجعية ليس لأحدهما غسل الآخر وإن مات في العدة لتحريم النظر وفي معنى المطلقة المفسوخ نكاحها والقياس كما قال الأذرعي في المعتدة عن وطء الشبهة أن أحد الزوجين لا يغسل الآخر كما لا يغسل أمته المعتدة
فإن قيل إنهم جعلوها كالمكاتبة في جواز النظر لما عدا ما بين السرة والركبة فلا منع من الغسل
أجيب بأن الحق في المكاتبة لم يتعلق بأجنبي بخلافه في المعتدة
( فإن لم يحضر ) ها ( إلا أجنبي أو ) لم يحضره إلا ( أجنبية يمم ) أي الميت وجوبا ( في الأصح ) فيهما إلحاقا لفقد الغاسل بفقد الماء
ويؤخذ من هذا أنه لا يزيل النجاسة أيضا إن كانت والأوجه كما قال شيخنا خلافه ويفرق بأن إزالتها لا بد لها بخلاف غسل الميت وبأن التيمم إنما يصح بعد إزالتها كما مر والثاني يغسل الميت في ثيابه ويلف الغاسل على يده خرقة ويغض طرفه ما أمكنه فإن اضطر إلى النظر نظر للضرورة ولو حضر الميت الذكر كافر ومسلمة أجنبية غسله الكافر لأن له النظر إليه دونها وصلت عليه المسلمة
والولد الصغير الذي لا يشتهي يغسله الرجال والنساء لحل النظر والمس له
والخنثى الكبير المشكل يغسله المحارم منهما فإن فقدوا غسله الرجال والنساء للحاجة واستصحابا لحكم الصغر كما صححه في المجموع ونقله عن اتفاق الأصحاب خلافا لما جرى عليه ابن المقري تبعا لمقتضى أصله من أنه ييمم ويغسل فوق ثوب ويحتاط الغاسل في غض البصر والمس ويفرق بينه وبين الأجنبي بأنه هنا يحتمل الاتحاد في جنس الذكورة أو الأنوثة بخلافه ثم ويفارق ذلك أخذهم فيه بالأحوط في النظر بأنه هنا محل حاجة
( وأولى الرجال به ) أي الرجل في غسله إذا اجتمع من أقاربه من يصلح لغسله ( أولاهم بالصلاة ) عليه وهم رجال العصبات من النسب ثم الولاء كما سيأتي بيانهم في الفرع الآتي ثم الزوجة بعدهم في الأصح نعم الأفقه أولى من الأسن هنا وفي الدفن
( و ) وأولى النساء ( بها ) أي المرأة في غسلها إذا اجتمع من أقاربها من يصلح لغسلها ( قراباتها ) من النساء محارم كن كالبنت أو لا كبنت العم لأنهن أشفق من غيرهن
تنبيه قال الجوهري تقول ذو قرابتي ولا تقول هم قرابتي ولا هم قراباتي لأن المصدر لا يجمع إلا عند اختلاف النوع وهو مفقود هنا والعامة تقول ذلك
( ويقدمن على زوج في الأصح ) المنصوص لأن الأنثى بالأنثى أليق
والثاني يقدم عليهن لأنه ينظر إلى ما لا ينظرن إليه منها
( وأولاهن ذات محرمية ) وهي كل امرأة لو كانت رجلا لم يحل له نكاحها بسبب القرابة لأنهن أشد في الشفقة فإن استوت اثنتان في المحرمية فالتي في محل العصوبة أولى كالعمة مع
____________________
(1/335)
الخالة ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم يقدم منهن الأقرب فالأقرب ولا بد أن يكون تحريمها من جهة الرحم فلا تقدم بنت العم البعيدة إذا كانت أما أو أختا من الرضاع مثلا على بنت العم القريبة ولهذا لم يعتبروا الرضاع ههنا بالكلية
( ثم ) بعد القرابات ذوات الولاء كما في المجموع
قال الأذرعي ولم يذكروا محارم الرضاع ويشبه أن يقدمن على الأجنبيات اه
وبحثه البلقيني أيضا وزاد محارم بالمصاهرة وعلى هذا ينبغي كما قال شيخنا تقديم محارم الرضاع على محارم المصاهرة
ثم ( الأجنبية ) لأنها أليق ( ثم رجال القرابة ) من الأبوين أو من أحدهما ( كترتيب صلاتهم ) لأنهم أشفق عليها ويطلعون غالبا على ما لا يطلع عليه الغير
( قلت إلا ابن العم ونحوه ) وهو كل قريب ليس بمحرم ( فكالأجنبي والله أعلم ) أي لا حق له في غسلها جزما لأنه لا يحل له نظرها ولا الخلوة بها وإن كان له حق في الصلاة
( ويقدم عليهم ) أي رجال القرابة المحارم ( الزوج ) حرا كان أو عبدا ( في الأصح ) لأنه ينظر إلى ما لا ينظرون إليه والثاني يقدمون عليه لأن القرابة تدوم والنكاح ينتهي بالموت
وكل من تقدم شرطه الإسلام إن كان الميت مسلما وأن لا يكون قاتلا للميت
ولمن قدم في الغسل تفويضه لغيره بشرط اتحاد الجنس فليس لرجل تفويضه لامرأة وعكسه وأقارب الكافر الكفار أولى به
تنبيه كلام المصنف غير مفصح عن ترتيب الزوج مع الأجنبيات إذ أول كلامه يفهم تقديمه عليهن فإنه قال ويقدمن أي القرابات على زوج في الأصح ثم الأجنبية لكونه حكى الخلاف في تقديمه على القرابات وذكره قبل ذكر الأجنبية وقوله بعد ويقدم عليهم الزوج في الأصح أي على رجال القرابة يفهم تأخره عن الأجنبيات والمنقول تقديم الأجنبيات عليه
( ولا يقرب المحرم طيبا ) إذا مات أي يحرم تطييبه وطرح الكافور في ماء غسله كما لا يجعل في كفنه كما مر
( ولا يؤخذ شعره وظفره ) أي يحرم إزالة ذلك منه إبقاء لأثر الإحرام فقد ثبت في الصحيحين أنه يبعث يوم القيامة ملبيا ولا فدية على فاعل ذلك
وقال البلقيني الذي اعتقده إيجابها على الفاعل كما لو حلق شعر نائم اه
وفرق الأول بأن النائم بصدد عوده إلى الفهم ولهذا ذهب جماعة إلى تكليفه بخلاف الميت
هذا كله قبل التحلل الأول أما بعده فهو كغيره وسيأتي حكمه
ولا بأس بالتبخر عند غسله كجلوس الحي عند العطار
وظاهر كلامهم أنه لا يحلق رأسه إذا مات وبقي عليه الحلق ليأتي يوم القيامة محرما وهو ظاهر لانقطاع تكليفه فلا يطلب منه حلق ولا يقوم غيره به كما لو كان عليه طواف أو سعي
( وتطيب المعتدة ) المخدرة ( في الأصح ) أي لا يحرم تطييبها لأن تحريم الطيب عليها إنما كان للاحتراز عن الرجال وللتفجع على الزوج وقد زالا بالموت
والثاني يحرم قياسا على المحرم ورد بأن التحريم في المحرم كان لحق الله تعالى ولا يزول بالموت
( والجديد أنه لا يكره في غير ) الميت ( المحرم أخذ ظفره وشعر إبطه وعانته وشاربه ) لأنه لم يرد فيه نهي
قال الرافعي ك الروياني ولا يستحب وقال في الروضة عن الأكثرين أو الكثيرين إنه يستحب كالحي والقديم أنه يكره لأن مصيره إلى البلاء
( قلت الأظهر كراهته والله أعلم ) لأن أجزاء الميت محترمة ولم يثبت فيه شيء فهو محدث وصح النهي عن محدثات الأمور ونقل في المجموع كراهته عن نص الأم والمختصر فهو قول جديد ولذا عبر عنا بالأظهر المفيد لأن هذا القول جديد أيضا والصحيح في الروضة أن الميت لا يختن إذا كان أقلف وفي وجه يختن إن كان بالغا وفي وجه يختن مطلقا
فصل في تكفين الميت وحمله
( يكفن ) بعد غسله ( بما ) أي بشيء من جنس ما يجوز ( له لبسه حيا ) من
____________________
(1/336)
حرير وغيره فيجوز تكفين المرأة بالحرير والمزعفر لكن مع الكراهة بخلاف الرجل والخنثى إذا وجد غيرهما وأما المعصفر فتقدم الكلام فيه في فصل اللباس
وقضية كلامهم جواز تكفين الصبي بالحرير وهو كذلك كما صرح به المصنف في فتاويه
وإن قال الأذرعي الأوجه المنع ومثل الصبي المجنون كما مر في فصل اللباس
قال الأذرعي والظاهر في الشهيد أنه يكفن به إذا قتل وهو لابسه بشرطه أي بأن يحتاج إليه للحرب
ولا يكفن الميت في متنجس نجاسة لا يعفى عنها وهناك طاهر وإن جاز له لبسه خارج الصلاة ولو كان الطاهر حريرا كما اعتمده شيخي قال لأن الميت كالمصلي وإن قال البغوي والقمولي إن النجس يقدم عليه
ولا يكفي التطيين مع وجود غيره ولو حشيشا كما صرح به الجرجاني وإن كان يكفي في السترة في الحياة لما في ذلك من الازدراء بالميت
ويجوز تكفين المحدة فيما حرم عليها لبسه في حال الحياة كما قاله المتولي وهو قياس ما تقدم في إباحة الطيب لها
( وأقله ثوب ) واحد وهو ما يستر العورة أو جميع البدن إلا رأس المحرم
ووجه المحرمة وجهان أصحهما في الروضة والمجموع والشرح الصغير الأول فيختلف قدرة بالذكورة والأنوثة كما صرح به الرافعي لا بالرق والحرية كما اقتضاه كلامهم وهو الظاهر في الكفاية وصحح المصنف في مناسكه الثاني واختار ابن المقري في شرح إرشاده ك الأذرعي تبعا لجمهور الخراسانيين وجمع بينها في روضه فقال وأقله ثوب يعم البدن والواجب ستر العورة فحمل الأول على أنه حق لله تعالى والثاني على أنه حق للميت وهو جمع حسن
( ولا تنفذ ) بالتشديد ( وصيته بإسقاطه ) أي الثوب على الأول لأنه حق لله تعالى بخلافه على الثاني والثالث
ولو أوصى بساتر العورة فقط ففي المجموع عن التقريب والإمام و الغزالي وغيرهم لم تصح وصيته ويجب تكفينه بما يستر جميع بدنه اه
وهل ذلك مبني على الأول أو على الثاني قال الإسنوي وهذا بناء على ما رجحه من أن الواجب ستر جميع البدن وتبعه على ذلك كثير من الشراح
والظاهر كما قال شيخي أن هذا ليس مبنيا عليه بل إنما هو لعدم صحة الوصية لأن الوصية به مكروهة والوصية بالمكروه لا تنفذ ولو لم يوص فقال بعض الورثة يكفن بثوب يستر جميع البدن أو ثلاثة وقال بعضهم بساتر العورة فقط وقلنا بجوازه كفن بثوب أو ثلاثة ذكره في المجموع أي لأنه حق للميت
ولو قال بعضهم يكفن بثوب وبعضهم بثلاثة كفن بها لما تقدم وقيل بثوب
ولو اتفقوا على ثوب ففي التهذيب يجوز وفي التتمة أنه على الخلاف قال المصنف وهو أقيس أي فيجب أن يكفن بثلاثة
ولو كان عليه دين مستغرق فقال الغرماء يكفن في ثوب والورثة في ثلاثة أجيب بالغرماء في الأصح لأنه إلى براءة ذمته أحوج منه إلى زيادة الستر
قال في المجموع ولو قال الغرماء يكفن بساتر العورة والورثة بساتر جميع البدن نقل صاحب الحاوي وغيره الاتفاق على ساتر جميع البدن ولو اتفقت الغرماء والورثة على ثلاثة جاز بلا خلاف
وحاصله أن الكفن بالنسبة لحق الله تعالى ستر العورة فقط وبالنسبة للغرماء ساتر جميع بدنه وبالنسبة للورثة ثلاثة فليس للوارث المنع منها تقديما لحق المالك
وفارق الغريم بأن حقه سابق وبأن منفعة صرف المال له تعود إلى الميت بخلاف الوارث فيهما هذا إذا كفن من تركته أما إذا كفن من غيرها فلا يلزم من يجهزه من قريب وسيد وزوج وبيت مال إلا ثوب واحد ساتر لجميع بدنه بل لا تجوز الزيادة عليه من بيت المال كما يعلم من كلام الروضة وكذا إذا كفن مما وقف للتكفين كما أفتى به ابن الصباغ قال ويكون سابغا ولا يعطى القطن والحنوط فإنه من قبيل الأمور المستحبة التي لا تعطى على الأظهر
وظاهر قوله ويكون سابغا أنه يعطي ثوبا ساترا للبدن وإن قلنا الواجب ستر العورة وهو كذلك لأن الزائد عليها حق للميت كما مر
( والأفضل للرجل ) أي الذكر بالغا كان أو صبيا أو محرما ( ثلاثة ) لقول عائشة رضي الله تعالى عنها كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ( من كرسف ) ليس فيها قميص ولا عمامة رواه الشيخان وسحول بلد باليمن ولا ينافي هذا ما تقدم من أن الثلاثة واجبة من التركة لأنها وإن كانت واجبة فالاقتصار عليها أفضل من الزائد عليها ولذا قال ( ويجوز ) بلا كراهة ( رابع وخامس ) لأن ابن عمر كفن ابنا له في خمسة أثواب قميص وعمامة وثلاث لفائف كما رواه البيهقي
وأما الزيادة على ذلك فهي مكروهة وإن أشعر كلام المصنف بحرمتها وبحثه في المجموع لكن محله في
____________________
(1/337)
ورثة متبرعين ورضوا بها فإن كان فيهم صغير أو مجنون أو محجور أو كان الوارث بيت المال فلا
( و ) الأفضل ( لها ) وللخنثى ( خمسة ) من الأثواب لزيادة الستر في حقهما وتكره الزيادة على ذلك كما مر
( ومن كفن منهما ) أي من ذكر أو أنثى والخنثى ملحق بها كما مر ( بثلاثة فهي ) كلها ( لفائف ) متساوية طولا وعرضا يعم كل منها جميع البدن غير رأس المحرم ووجه المحرمة كما سيأتي وقيل تكون متفاوتة فالأسفل من سرته إلى ركبته وهو المسمى بالإزار والثاني من عنقه إلى كعبه والثالث يستر جميع بدنه
( وإن كفن ) ذكر ( في خمسة زيد قميص ) إن لم يكن محرما ( وعمامة تحتهن ) أي اللفائف اقتداء بفعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
أما المحرم فإنه لا يلبس مخيطا
( وإن كفنت ) أي امرأة ( في خمسة فإزار ) أولا ومر تعريفه ويقال له مئزر أيضا ( وخمار ) وهو ما يغطى به الرأس ( وقميص ) قبل الخمار ( ولفافتان ) بعد ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كفن فيها ابنته أم كلثوم رضي الله تعالى عنها رواه أبو داود
( وفي قول ثلاث لفائف وإزار وخمار ) فاللفافة الثالثة بدل القميص لأن الخمسة لها كالثلاثة للرجل والقميص لم يكن في كفنه صلى الله عليه وسلم
( ويسن ) الكفن ( الأبيض ) لقوله صلى الله عليه وسلم البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم رواه الترمذي وغيره وقال حسن صحيح وسيأتي أن المغسول منه أولى من الجديد
( ومحله ) أي الكفن كبقية مؤن التجهيز ( أصل التركة ) كما سيأتي أول الفرائض أنه يبدأ من تركة الميت بمؤن تجهيزه إلا أن يتعلق بعين التركة حق فيقدم عليها ويستثنى من هذا الأصل من لزوجها مال ويلزمه نفقتها فكفنها عليه في الأصح الآتي
ولو قال بعض الورثة أكفنه من مالي وقال البعض من التركة كفن منها دفعا للمنة
( فإن لم يكن ) للميت في غير الصورة المستثناة تركة ( فعلى من عليه نفقته من قريب ) أصل أو فرع صغير أو كبير لعجزه بالموت ( وسيد ) في رقيقه ولو مكاتبا وأم ولد اعتبارا بحال الحياة في غير المكاتب ولانفساخ الكتابة بموت المكاتب
( وكذا ) محل الكفن أيضا ( الزوج ) الموسر الذي يلزمه نفقتها فعليه تكفين زوجته حرة كانت أو أمة مع مؤنة تجهيزها وتجهيز خادمها ( في الأصح ) لأنها في نفقته في الحياة فأشبه القريب والسيد سواء أكانت زوجته موسرة أم لا
وبما تقرر علم أن جملة وكذا الزوج عطف على جملة ومحله أصل التركة فسقط بذلك ما قيل إن ظاهره يقتضي أن وجوب الكفن على الزوج إنما هو حيث لم يكن للزوجة تركة وهو خلاف ما في الروضة كأصلها والثاني لا يجب عليه لفوات التمكين المقابل للنفقة
ولو ماتت البائن الحامل فنقل الروياني وجوب التكفين على الزوج وهو مبني على أن النفقة لها وهو الأصح فإن قلنا للحمل فلا
أما من لا تجب نفقتها في حال حياتها كصغيرة وناشزة فما ذكر في تركتها وكذا إن لم يكن للزوج مال فإن كان له مال لا يفي بذلك كمل من مالها
ولو امتنع الموسر من ذلك أو كان غائبا فجهز الزوجة الورثة من مالها أو غيره رجعوا عليه بذلك إن فعلوه بإذن حاكم يراه وإلا فلا
ولو ماتت زوجاته دفعة بنحو هدم ولم يجد إلا كفنا فهل يقرع بينهن أو تقدم المعسرة أو من يخشى فسادها أو متن مرتبا هل تقدم الأولى أو المعسرة أو يقرع احتمالات أقربها أو لها فيهما
وإذا لم يكن للميت مال ولا كان له من تلزمه نفقته فمؤن تجهيزه من كفن وغيره في بيت المال كنفقته في الحياة فإن لم يكن فعلى أغنياء المسلمين
قال في المجموع ولا يشترط وقوع التكفين من مكلف حتى لو كفنه غيره حصل التكفين لوجود المقصود وفيه عن البندنيجي وغيره لو مات إنسان ولم يوجد ما يكفن به إلا ثوب مع مالك غير محتاج إليه لزمه بذل بالقيمة كالطعام للمضطر زاد البغوي في فتاويه فإن لم يكن له مال فمجانا لأن تكفينه لازم للأمة ولا بدل يصار إليه
( و ) إذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث ووقع فيها تفاوت ( يبسط ) أولا ( أحسن اللفائف
____________________
(1/338)
وأوسعها ) وأطولها ( والثانية ) وهي التي تلي الأولى في ذلك ( فوقها وكذا الثالثة ) فوق الثانية لأن الحي يجعل أحسن ثيابه أعلاها فلهذا بسط الأحسن أولا لأنه الذي يعلو على كل الكفن
وأما كونه أوسع فلإمكان لفه على الضيق بخلاف العكس
( ويذر ) بالمعجمة في غير المحرم ( على كل واحدة ) من اللفائف قبل وضع الأخرى ( حنوط ) بفتح الحاء ويقال له الحناط بكسرها وهو نوع من الطيب يجعل للميت خاصة يشتمل على الكافور والصندل وذريرة القصب قاله الأزهري وقال غيره هو كل طيب خلط للميت
( وكافور ) هو من عطف الجزء على الكل لأنه حينئذ الجزء الأعظم من الطيب لتأكد أمره ولأن المراد زيادته على ما يجعل في أصول الحنوط
ونص الإمام وغيره على استحباب الإكثار منه فيه بل قال الشافعي ويستحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور لأنه يقويه ويشده ولو كفن في خمسة جعل بين كل ثوبين حنوط كما في المجموع
( ويوضع الميت فوقها ) أي اللفائف برفق ( مستلقيا ) على قفاه وهل تجعل يداه على صدره اليمنى على اليسرى أو يرسلان في جنبه لا نقل في ذلك فكل من ذلك حسن محصل للغرض
( وعليه حنوط وكافور ) لأن ذلك يدفع الهوام ويشد البدن ويقويه كما مر
ويسن تبخير الكفن بنحو عود أولا
( ويشد ألياه ) بخرقة بعد دس قطن حليج عليه حنوط وكافور بين ألييه حتى يصل لحلقة الدبر فيسدها ويكره إيصاله داخل الحلقة وتكون الخرقة مشقوقة الطرفين وتجعل على الهيئة المتقدمة في المستحاضة
( ويجعل على منافذ بدنه ) من أذنيه ومنخريه وعينيه وعلى أعضاء سجوده كجبهته وقدميه ( قطن ) عليه حنوط وكافور ليخفى ما عساه أن يخرج منها ويدفع عنه الهوام
( ويلف عليه ) بعد ذلك ( اللفائف ) بأن يثنى الطرف الأيسر ثم الأيمن كما يفعل الحي بالقباء ويجمع الفاضل عند رأسه ورجليه ويكون الذي عند رأسه أكثر
( وتشد ) عليه اللفائف بشداد لئلا تنتشر عند الحمل إلا إن كان محرما كما في تحرير الجرجاني لأنه شبيه بعقد الإزار ولا يجوز أن يكتب عليها شيء من القرآن ولا أن يكرى للميت من الثياب ما فيه زينة كما في فتاوى ابن الصلاح
( فإذا وضع ) الميت ( في قبره نزع الشداد ) لزوال المقتضى
لأنه يكره أن يكون عليه في القبر شيء معقود كما نص عليه
( ولا يلبس المحرم الذكر مخيطا ) ولا ما في معناه مما يحرم على المحرم لبسه ( ولا يستر رأسه ولا وجه المحرمة ) أي يحرم ذلك إبقاء لأثر الإحرام وتقدم أن الكلام فيما قبل التحلل الأول أما بعده فلا
قال في المجموع ولو نبش القبر وأخذ كفنه ففي التتمة يجب تكفينه ثانيا سواء أكان كفن من ماله أم من مال من عليه نفقته أم من بيت المال لأن العلة في المرة الأولى الحاجة وهي موجودة
وفي الحاوي إذا كفن من ماله وقسمت التركة ثم سرق كفنه استحب للورثة أن يكفنوه ثانيا ولا يلزمهم لأنه لو لزمهم ثانيا للزمهم إلى ما لا يتناهى اه
وهذا أوجه
ولا يسن أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب على اتخاذه إلا أن يكون من جهة حل أو أثر ذي صلاح فحسن وقد صح عن بعض الصحابة فعله لكن لا يجب تكفينه فيه كما اقتضاه كلام القاضي أبي الطيب وغيره وقال الزركشي إنه المتجه بل للوارث إبداله وإن اقتضى كلام الرافعي المنع
ولا يكره أن يعد لنفسه قبرا يدفن فيه قال العبادي ولا يصير أحق به ما دام حيا
ثم شرع في كيفية حمل الميت وليس في حمله دناءة ولا سقوط مروءة بل هو بر وإكرام للميت فقد فعله بعض الصحابة والتابعين فقال ( وحمل الجنازة بين العمودين أفضل من التربيع في الأصح ) لحمل سعد بن أبي وقاص عبد الرحمن بن عوف وحمل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رواهما الشافعي في الأم الأول بسند صحيح والثاني بسند ضعيف
والثاني التربيع أفضل لأنه أصون للميت بل حكي وجوبه لأن ما دونه ازدراء بالميت
والثالث هما سواء لحصول المقصود بكل منهما هذا إذا أراد الاقتصار على كيفية واحدة
____________________
(1/339)
والأفضل أن يجمع بينهما بأن يحمل تارة بهيئة الحمل بين العمودين وتارة بهيئة التربيع
ثم بين حملها بين العمودين بقوله ( وهو أن يضع الخشبتين المتقدمتين ) أي العمودين ( على عاتقه ) وهو ما بين المنكب والعنق وهو مذكر وقيل مؤنث
( ورأسه بينهما ويحمل ) الخشبتين ( المؤخرتين رجلان ) أحدهما من الجانب الأيمن والآخر من الأيسر وإنما كان المؤخرتان لرجلين لأن الواحد لو توسطهما كان وجهه إلى الميت فلا ينظر إلى الطريق وإن وضع الميت على رأسه لم يكن حاملا بين العمودين ويؤدي إلى ارتفاع مؤخرة النعش وتنكيس الميت على رأسه فإن عجز عن الحمل أعانه اثنان بالعمودين ويأخذ اثنان بالمؤخرتين في حالتي العجز وعدمه فحاملوه بلا عجز ثلاثة وبه خمسة فإن عجزوا فسبعة أو أكثر وترا بحسب الحاجة أخذا من كلامهم
ثم بين حملها على هيئة التربيع فقال ( والتربيع أن يتقدم رجلان ) يضع أحدهما العمود الأيمن على عاتقه الأيسر والآخر عكسه ( ويتأخر آخران ) يحملان كذلك فيكون الحاملون أربعة ولهذا سميت الكيفية بالتربيع
فإن عجز الأربعة عنها حملها ستة أو ثمانية وما زاد على الأربعة يحمل من جوانب السرير أو يزاد أعمدة معترضة تحت الجنازة كما فعل ب عبدالله بن عمر فإنه كان جسيما
وأما الصغير فإن حمله واحد جاز إذ لا ازدراء فيه
ومن أراد التبرك بالحمل بالهيئة بين العمودين بدأ بحمل العمودين من مقدمها على كتفيه ثم بالأيسر من مؤخرها ثم يتقدم لئلا يمشي خلفها فيأخذ الأيمن المؤخر أو بهيئة التربيع بدأ بالعمود الأيسر من مقدمها على عاتقه الأيمن ثم بالأيسر من مؤخرها كذلك ثم يتقدم لئلا يمشي خلفها فيبدأ بالأيمن من مقدمها على عاتقه الأيسر ثم من مؤخرها كذلك أو بالهيئتين فيما أتى به في الثانية ويحمل المقدم على كتفيه مؤخرا أو مقدما كما بحثه بعضهم
( والمشي ) للمشيع لها وكونه ( أمامها ) أفضل للاتباع رواه أبو داود بإسناد صحيح ولأنه شفيع وحق الشفيع أن يتقدم
وأما خبر امشوا خلف الجنازة فضعيف
وكونه ( بقربها ) وهو من زيادته على المحرر بحيث يراها إذا التفت إليها ( أفضل ) منه بعيدا بأن لا يراها لكثرة الماشين معها
قال في المجموع فإن بعد عنها فإن كان بحيث ينسب إليها بأن يكون التابعون كثيرين حصلت الفضيلة وإلا فلا
وإطلاق المصنف يقتضي أنه لا فرق في استحباب التقدم والتأخر بين الراكب والماشي وهو ما صرحا به في الشرحين والروضة ونسبه في المجموع إلى الشافعي والأصحاب
وما ذكره الرافعي في شرح المسند من أن الراكب يكون خلفها بالاتفاق تبع فيه الخطابي قال الإسنوي وهو خطأ
ولو مشى خلفها حصل له فضيلة أصل المتابعة وفاته كمالها ولو تقدم إلى المقبرة لم يكره ثم هو بالخيار إن شاء قام حتى توضع الجنازة وإن شاء قعد
ويكره ركوبه في ذهابه معه لما روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم رأى ناسا ركابا في جنازة فقال ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب هذا إن لم يكن له عذر كمرض فلا ولا كراهة في الركوب في العود
( ويسرع بها ) ندبا لخبر الصحيحين أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم
هذا ( إن لم يخف تغيره ) أي الميت بالإسراع وإلا فيتأنى به
والإسراع فوق المشي المعتاد ودون الخبب لئلا تنقطع الضعفاء فإن خيف تغيره بالتأني زيد في الإسراع
ويكره القيام للجنازة إذا مرت به ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في الروضة وجرى عليه ابن المقري خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب
قال في المجموع قال البندنيجي يستحب لمن مرت به جنازة أن يدعو لها ويثني عليها إذا كانت أهلا لذلك وأن يقول سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الملك القدوس
وروي عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال من رأى جنازة فقال الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعد الله ورسوله اللهم زدنا إيمانا وتسليما كتب له عشرون حسنة
فصل في الصلاة على الميت المسلم غير الشهيد وهي من خصائص هذه الأمة كما قاله الفاكهاني المالكي في شرح الرسالة
قال وكذا الإيصاء بالثلث
( لصلاته أركان ) سبعة ( أحدها النية ) كسائر الصلوات وتقدم الكلام
____________________
(1/340)
عليها في باب صفة الصلاة ( ووقتها كغيرها ) أي كوقت نية غيرها من الصلوات في وجوب قرن النية بتكبيرة الإحرام
( وتكفي ) فيها ( نية ) مطلق ( الفرض ) من غير ذكر الكفاية كما تكفي النية في إحدى الخمس من غير تقييد بفرض العين
( وقيل تشترط نية فرض كفاية ) ليتميز عن فرض العين ولعل هذا الوجه فيمن لم تتعين عليه كما يؤخذ من التعليل
وقد علم من كلامه أن نية الفرضية لا بد منها كما في الصلوات الخمس وفي الإضافة إلى الله تعالى الخلاف السابق في باب صفة الصلاة
( ولا يجب تعيين الميت ) الحاضر باسمه كزيد وعمرو ولا معرفته كما في المحرر
وأما تعيينه الذي يتميز به عن غيره ك أصلي على هذا أو الحاضر أو على من يصلي عليه الإمام فلا بد منه
أما الغائب فيجب تعيينه في الصلاة عليه باللقب كما قاله ابن عجيل اليمني وعزي إلى البسيط
( فإن عين ) الميت الحاضر أو الغائب كأن صلى على زيد أو الكبير أو الذكر من أولاده ( وأخطأ ) فبان عمرا أو الصغير أو الأنثى ( بطلت ) أي لم تصح صلاته إذا لم يشر إلى المعين فإن أشار إليه صحت في الأصح كما في زيادة الروضة تغليبا للإشارة
( وإن حضر موتى نواهم ) أي نوى الصلاة عليهم وإن لم يعرف عددهم
قال الروياني فلو صلى على بعضهم ولم يعينه ثم صلى على الباقي كذلك لم تصح
قال ولو أعتقد أنهم عشرة فبانوا أحد عشر أعاد الصلاة على الجميع لأن فيهم من لم يصل عليه وهو غير معين ولو اعتقد أنهم أحد عشر فبانوا عشرة فالأظهر الصحة
ولو أحرم الإمام بالصلاة على الجنازة ثم حضرت أخرى وهم في الصلاة تركت حتى يفرغ ثم يصلي على الثانية لأنه لم ينوها أولا ذكره في المجموع
ولو صلى على حي وميت صحت على الميت إن جهل الحال وإلا فلا
ويجب على المأموم نية الاقتداء ولا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم كما سيأتي
( الثاني ) من الأركان ( أربع تكبيرات ) بتكبيرة الإحرام للاتباع رواه الشيخان وبالإجماع كما في المجموع
( فإن خمس ) عمدا ( لم تبطل ) صلاته ( في الأصح ) لثبوتها في صحيح مسلم لكن الأربع أولى لتقرر الأمر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولأنها ذكر وزيادة الذكر لا تضر والثاني تبطل كزيادة ركعة أو ركن في سائر الصلوات وأجرى جماعة الخلاف في الزائد على الأربع فلا تبطل به على الأصح لما مر من التعليل
وتشبيه التكبيرة بالركعة فيما يأتي محله بقرينة المتابعة فقط لتأكدها
نعم لو زاد على الأربع عمدا معتقدا البطلان بطلت كما ذكره الأذرعي أما إذا كان ساهيا فلا تبطل جزما ولا سجود لسهو فيها إذ لا مدخل للسجود فيها
( ولو خمس ) أي كبر ( إمامه ) في صلاته خمس تكبيرات وقلنا لا تبطل ( لم يتابعه ) المأموم أي لا تسن له متابعته في الزائد ( في الأصح ) وعبر في الروضة بالأظهر وفي المجموع بالمذهب لعدم سنه للإمام
( بل يسلم أو ينتظره ليسلم معه ) وهو أولى لتأكد المتابعة والثاني يتابعه لما ذكر وإن قلنا بالبطلان فارقه جزما
وما قررت به كلام المصنف هو ما جرى عليه السبكي وهو الظاهر وقال الإسنوي الظاهر أن الخلاف إنما هو في الوجوب لأجل المتابعة ويحتمل أنه في الاستحباب
وقول الزركشي الصواب أنه في الجواز قال شيخنا ممنوع
( الثالث ) من الأركان ( السلام ) بعد التكبيرات وهو فيها ( كغيرها ) أي كسلام غيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده
ويؤخذ من ذلك عدم سن زيادة وبركاته وهو كذلك خلافا لمن قال يسن ذلك وأنه يلتفت في سلام ولا يقتصر على تسليمة واحدة يجعلها تلقاء وجهه وإن قال في المجموع إنه الأشهر
( الرابع ) من الأركان ( قراءة الفاتحة ) كغيرها من الصلوات ولعموم خبر لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ولخبر البخاري أن ابن عباس قرأ بها في صلاة الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وفي رواية قرأ بأم القرآن فجهر بها وقال إنما جهرت بها لتعلموا أنها سنة
ومحلها ( بعد ) التكبيرة ( الأولى ) وقبل الثانية للاتباع رواه البيهقي
____________________
(1/341)
وهذا هو ظاهر كلام الغزالي وصححه المصنف في التبيان
( قلت تجزىء الفاتحة بعد غير الأولى ) من الثانية والثالثة والرابعة ( والله أعلم ) وهذا ما جزم به في المجموع وهو المعتمد وفي المجموع يجوز أن يجمع في التكبيرة الثانية بين القراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثالثة بين القراءة والدعاء للميت ويجوز إخلاء التكبيرة الأولى من القراءة اه
ولا يشترط الترتيب بين الفاتحة وبين الركن الذي قرئت الفاتحة فيه ولا يجوز أن يقرأ بعضها في ركن وبعضها في ركن آخر كما يؤخذ من كلام المجموع لأن هذه الخصلة لم تثبت وكالفاتحة فيما ذكر عند العجز عنها بدلها
( الخامس ) من الأركان ( الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) للاتباع كما رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين
ومحلها ( بعد ) التكبيرة ( الثانية ) وقيل الثالثة كما صرح به في المجموع نقلا عن تصريح السرخسي لفعل السلف والخلف فلا يجزىء في غيرها وإن قلنا إن الفاتحة لا تتعين في الأولى
وأقلها اللهم صل على محمد
( والصحيح ) وبه قطع في المجموع ( أن الصلاة على الآل لا تجب ) فيها كغيرها وأولى لبنائها على التخفيف بل تسن كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات عقبها والحمد لله قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ولا يجب ترتيب بين الصلاة والدعاء والحمد لكنه أولى كما في زيادة الروضة
( السادس ) من الأركان ( الدعاء للميت ) بخصوصه لأنه المقصود الأعظم من الصلاة وما قبله مقدمة له وقد قال عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجة إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء فلا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات وقيل يكفي ويندرج فيهم وقيل لا يجب الدعاء مطلقا
وعلى الأول الواجب ما ينطلق عليه الاسم كاللهم ارحمه واللهم اغفر له وأما الأكمل فسيأتي
وقول الأذرعي الأشبه أن غير المكلف لا يجب الدعاء له لعدم تكليفه قال الغزي باطل
ويجب أن يكون الدعاء ( بعد ) التكبيرة ( الثالثة ) وقبل الرابعة ولا يجزيء في غيرها بلا خلاف
قال في المجموع وليس لتخصيص ذلك إلا مجرد الاتباع اه
ولا يجب بعد الرابعة ذكر كما يعلم من كلامهم ولكن يندب كما سيأتي
( السابع ) من الأركان ( القيام على المذهب إن قدر ) عليه كغيرها من الفرائض
وقيل يجوز القعود مع القدرة كالنوافل لأنها ليست من الفرائض الأعيان
وقيل إن تعينت وجب القيام وإلا فلا
( ويسن رفع يديه في التكبيرات ) فيها حذو منكبيه ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت صدره كغيرها من الصلوات
( وإسرار القراءة ) للفاتحة ولو ليلا لقول أبي أمامة سهل بن حنيف من السنة في صلاة الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن مخافتة ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ويسلم رواه عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح
وكثالثة المغرب بجامع عدم مشروعية السورة
وما تقدم في خبر ابن عباس من أنه جهر بالقراءة أجيب عنه بأن خبر أبي أمامة أصح منه وقوله فيه إنما جهرت لتعلموا أنه سنة قال في المجموع يعني لتعلموا أن القراءة مأمور بها
( وقيل يجهر ليلا ) أي بالفاتحة خاصة لأنها صلاة ليل
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء فيندب الإسرار بهما اتفاقا واتفقوا على أنه يجهر بالتكبير والسلام فتقييد المصنف القراءة أي الفاتحة لأجل الخلاف
( والأصح ندب التعوذ ) لأنه سنة للقراءة فاستحب كالتأمين ولأنه قصير ويسر به قياسا على سائر الصلوات
( دون الافتتاح ) لطوله والثاني يستحبان كالتأمين والثالث لا يستحبان لطولهما بخلاف التأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة لا تسن كدعاء الافتتاح
وظاهر كلامهم أن الحكم كذلك لو صلى على قبر أو غائب لأنها مبنية على التخفيف كما قاله شيخي
( ويقول ) ندبا ( في الثالثة اللهم هذا عبدك وابن عبديك إلى آخره ) المذكور في المحرر وغيره ولم يذكر المصنف باقيه استغناء بشهرته ولكن نذكر تتمته تتميما للفائدة وهي خرج من روح الدنيا وسعتها بفتح أولهما أي نسيم ريحها واتساعها ومحبوبه وأحيائه فيها أي ما يحبه ومن يحبه إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك
____________________
(1/342)
ورسولك وأنت أعلم به
اللهم إنه نزل بك أي هو ضيفك أنت أكرم الأكرمين وضيف الكرام لا يضام وأنت خير منزول به وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له
اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ولقه أي أعطه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه وافسح له في قبره وجاف الأرض عن جنبيه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين
جمع ذلك الشافعي رحمة الله تعالى عليه من الأخبار واستحسنه الأصحاب
ووجد في نسخة من الروضة ومحبوبها وكذا هو في المجموع والمشهور في قوله ومحبوبه وأحبائه بالجر ويجوز رفعه بجعل الواو وللحال
وروى مسلم عن عوف بن مالك قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعته يقول اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ( وزوجا خيرا من زوجه ) وقه فتنة القبر وعذاب النار قال عوف فتمنيت أن لو كنت أنا الميت
هذا في البالغ الذكر فإن كان أنثى عبر بالأمة وأنث ما يعود عليها وإن ذكر بقصد الشخص لم يضر كما في الروضة
وإن كان خنثى قال الإسنوي فالمتجه التعبير بالمملوك ونحوه قال فإن لم يكن للميت أب بأن كان ولد زنا فالقياس أن يقول فيه وابن أمتك اه والقياس أنه لو لم يعرف أن الميت ذكر أو أنثى أن يعبر بالمملوك ونحوه ويجوز أن يأتي بالضمائر مذكرة على إرادة الشخص أو الميت ومؤنثة على إرادة لفظ الجنازة وأنه لو صلى على جمع معا يأتي فيه بما يناسبه
وأما الصغير فسيأتي ما يقال فيه
( ويقدم ) ندبا ( عليه ) أي الدعاء السابق ( اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما
وزاد غير الترمذي اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وقدم هذا لثبوت لفظه في صحيح مسلم وتضمنه الدعاء للميت بخلاف ذلك فإن بعضه مروي بالمعنى وبعضه باللفظ
وتبع المصنف في الجمع بين الدعاءين المحرر والشرح الصغير ولم يتعرض لذلك في الروضة والمجموع
( ويقول ) ندبا ( في ) الميت ( الطفل ) أو الطفلة والمراد بهما من لم يبلغ ( مع هذا ) الدعاء ( الثاني ) في كلامه ( اللهم اجعله ) أي الميت بقسميه ( فرطا لأبويه ) أي سابقا مهيئا مصالحهما في الآخرة ( وسلفا وذخرا ) بالذال المعجمة وفي القاموس ذخره كمنعه ذخرا بالضم ادخره واختاره واتخذه
( وعظة ) هو اسم مصدر بمعنى اسم المفعول أي موعظة أو اسم الفاعل أو واعظا
( واعتبارا وشفيعا وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ) لأن ذلك مناسب للحال وزاد في المجموع والروضة وأصلها على هذا ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره
ويؤنث فيما إذا كان الميت أنثى ويأتي في الخنثى ما مر ويشهد للدعاء لهما ما في خبر المغيرة والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة فيكفي هذا الدعاء للطفل ولا ينافي قولهم أنه لا بد في الدعاء للميت أن يخص به كما مر لثبوت النص في هذا بخصوصه ولكن لو دعا بخصوصه كفى
فإن تردد في بلوغ المراهق فالأحوط أن يدعو بهذا الدعاء ويخصصه بالدعاء بعد الثالثة
قال الإسنوي وسواء فيما قالوه مات في حياة أبويه أم لا
وقال الزركشي محله في الأبوين الحيين المسلمين فإن لم يكونا كذلك أتى بما يقتضيه الحال وهذا أولى
قال الأذرعي فلو جهل إسلامهما فكالمسلمين بناء على الغالب والدار اه
والأولى أن يعلقه على إيمانهما خصوصا في ناحية يكثر فيها الكفار ولو علم كفرهما كتبعية الصغار للسابي حرم الدعاء لهما بالمغفرة والشفاعة ونحوهما ولو علم إسلام أحدهما وكفر الآخر أو شك فيه لم يخف الحكم مما مر
( ويقول ) ندبا ( في ) التكبيرة ( الرابعة ) أي بعدها ( اللهم لا تحرمنا ) بفتح المثناة الفوقية وضمها
____________________
(1/343)
( أجره ) أي أجر الصلاة عليه أو أجر المصيبة فإن المسلمين في المصيبة كالشيء الواحد
( ولا تفتنا بعده ) أي بالابتلاء بالمعاصي
وزاد على ذلك جماعة منهم الشيخ في التنبيه واغفر لنا وله
ويسن أن يطول الدعاء بعد الرابعة لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم كما في الروضة رواه الحاكم وصححه
نعم لو خشي تغير الميت أو انفجاره لو أتى بالسنن فالقياس كما قال الأذرعي الاقتصار على الأركان
( ولو تخلف المقتدي ) عن إمامه بالتكبير ( بلا عذر فلم يكبر حتى كبر إمامه ) تكبيرة ( أخرى ) أو شرع فيها ( بطلت صلاته ) لأن المتابعة لا تظهر في هذه الصلاة إلا بالتكبيرات فيكون التخلف بها فاحشا كالتخلف بالركعة
وأفهم قوله حتى كبر أنه لو تخلف عن الرابعة حتى سلم الإمام أنها لا تبطل وهو كذلك لأنه لا يجب فيها ذكر فليست كالركعة بخلاف ما قبلها خلافا لما صرح به في التمييز من البطلان فلو كان ثم عذر كبطء قراءة أو نسيان فلا تبطل بتخلفه بتكبيرة فقط بل بتكبيرتين على ما اقتضاه كلامهم
ولا شك أن التقدم كالتخلف بل أولى كما علم مما تقدم في ترتيب الأركان وإن كان بحث بعضهم أنه لا يضر
( ويكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة وإن كان الإمام في غيرها ) كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء لأن ما أدركه أول صلاته فيراعى ترتيبها
( ولو كبر الإمام أخرى قبل شروعه في الفاتحة ) بأن كبر عقب تكبيره ( كبر معه وسقطت القراءة ) عنه كما لو ركع الإمام عقب تكبيرة المسبوق فإنه يركع معه ويتحملها عنه
( وإن كبرها وهو ) أي المأموم ( في ) أثناء ( الفاتحة تركها وتابعه ) أي الإمام في التكبير ( في الأصح ) وتحمل عنه باقيها كما إذا ركع الإمام والمسبوق في أثناء الفاتحة
ولا يشكل هذا بما مر من أن الفاتحة لا تتعين في الأولى لأن الأكمل قراءتها فيها فيتحملها عنه الإمام
ولو سلم الإمام عقب تكبيرة المسبوق لم تسقط عنه القراءة وتقدم في نظير الثانية ثم إنه إن اشتغل بافتتاح أو تعوذ تخلف وقرأ بقدره وإلا تابعه ولم يذكره الشيخان هنا
قال في الكفاية ولا شك في جريانه هنا بناء على ندب التعوذ أي على الأصح والافتتاح أي على المرجوح وبه صرح الفوراني
( وإذا سلم الإمام تدارك المسبوق ) حتما ( باقي التكبيرات بأذكارها ) وجوبا في الواجب وندبا في المندوب كما يأتي في الركعات بالقراءة وغيرها
( وفي قول لا تشترط الأذكار ) بل يأتي بباقي التكبيرات نسقا لأن الجنازة ترفع بعد سلام الإمام فليس الوقت وقت تطويل
قال المحب الطبري ومحل الخلاف إذا رفعت الجنازة فإن اتفق بقاؤها لسبب ما أو كانت على غائب فلا وجه للخلاف بل يأتي بالأذكار قطعا
قال الأذرعي وكأنه من تفقهه وإطلاق الأصحاب يفهم عدم الفرق اه
وهذا هو الظاهر وعلى الأول يسن إبقاء الجنازة حتى يتم المقتدون صلاتهم فلو رفعت قبله لم يضر وإن بعدت المسافة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء كما لو أحرم الإمام في سرير وحمله إنسان ومشى به فإنه يجوز كما تجوز الصلاة خلفه وهو يصلي في سفينة سائرة ولو أحرم على جنازة يمشي بها وصلى عليها بينه وبينها ثلاثمائة ذراع فأقل وهو محاذ لها كالمأموم مع الإمام جاز وإن بعدت بعد ذلك كما مر
( ويشترط ) في صلاة الجنازة ( شروط ) غيرها من ( الصلاة ) كستر وطهارة واستقبال لتسميتها صلاة فهي كغيرها من الصلوات ولها شروط أخر تأتي كتقدم غسل الميت
( لا الجماعة ) فلا تشترط فيها كالمكتوبة بل تسن لخبر مسلم ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه
وإنما صلت الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى كما رواه البيهقي وغيره لعظم أمره وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد وقال غيره لأنه لم يكن قد تعين إمام يؤم القوم فلو تقدم واحد
____________________
(1/344)
في الصلاة لصار مقدما في كل شيء وتعين للخلافة
ومعنى صلوا فرادى قال في الدقائق أي جماعات بعد جماعات
فائدة قيل حصر المصلون عليه صلى الله عليه وسلم فإذا هم ثلاثون ألفا ومن الملائكة ستون ألفا لأن مع كل واحد ملكين وما وقع في الإحياء من أنه صلى الله عليه وسلم مات عن عشرين ألفا من الصحابة لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف في اثنين منهم
قال الدميري لعله أراد عشرين من المدينة وإلا فقد روى أبو زرعة المرازي أنه مات عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا كلهم له صحبة وروي عنه وسمع منه
( ويسقط فرضها بواحد ) لحصول الفرض بصلاته ولو صبيا مميزا على الصحيح لأن الجماعة لا تشترط فيها كما مر فكذا العدد كغيرها ( وقيل يجب ) لسقوط فرضها ( اثنان ) أي فعلهما لأن أقل الجماعة اثنان
( وقيل ثلاثة ) لخبر الدارقطني صلوا على من قال لا آله إلا الله وأقل الجمع ثلاثة وهذا منصوص عليه في الأم وقطع به جماعة وصححه آخرون
( وقيل ) يجب ( أربعة ) قاله الشيخ أبو علي بناء على معتقده في حمل الجنازة أنه لا يجوز النقصان فيه عن أربعة لأن في أقل منها ازدراء بالميت فالصلاة أولى والأول والثالث كما في الروضة قولان والثاني والرابع وجهان
والصبيان المميزون كالبالغين على اختلاف الوجوه وفارق ذلك عدم سقوط الفرض بالصبي في رد السلام بأن السلام شرع في الأصل للإعلام بأن كلا منهما آمن من الآخر بخلاف صلاته وعلى كل وجه فلا تشترط الجماعة فيصلون فرادى إن شاءوا
وفي المجموع عن الأصحاب لو صلى على الجنازة عدد زائد على المشروط وقعت صلاة الجميع فرض كفاية
( ولا يسقط ) فرض صلاتها ( بالنساء وهناك رجال ) أو رجل أو صبي مميز ( في الأصح ) لأن فيه استهانة بالميت ولأن أهلية الذكر بالعبادة أكمل فيكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة
ولو عبر بقوله وهناك ذكر مميز لشمل ما ذكر وكان أخصر
والظاهر أن المراد بوجود الذكر وجوده في محل الصلاة على الميت لا وجوده مطلقا ولا في دون مسافة القصر ولم أر من تعرض لذلك
والثاني يسقط بهن الفرض لصحة صلاتهن وجماعتهن
أما إذا لم يكن هناك ذكر فإنها تجب عليهن ويسقط بهن الفرض
قال في العدة وظاهر المذهب أنه لا يستحب لهن الجماعة
قال المصنف وينبغي أن تسن لهن الجماعة وهذا هو المعتمد كما في غيرها من الصلوات
وقيل تسن لهن في جماعة المرأة والخنثى كالمرأة
فإن قيل كيف لا يسقط بالمرأة وهناك صبي مميز مع أنها المخاطبة به دونه أجيب بأن الشخص قد يخاطب بشيء ويتوقف فعله على شيء آخر لا سيما فيما يسقط عنه الشيء بفعل غيره فيجب عليهن تقديمه ولا تجزىء صلاتهن مع وجوده فإن امتنع أجبرنه كالولي قاله شيخي وقال ابن المقري في شرح إرشاده إن صلاتهن تجزىء مع وجوده وعلله بأنه غير مخاطب والأولى أن يقال إن امتنع أجزأت صلاتهن وإلا فلا
وقضية قولهم إن الخنثى كالمرأة أنه لو اجتمع معها سقط الفرض بصلاة كل منهما وهو ظاهر في صلاته دون صلاتها لاحتمال ذكورته ولهذا قال ابن المقري في شرح إرشاده وإذا صلى سقط الفرض عنه وعن النساء وإذا صلت المرأة سقط الفرض عن النساء وأما عن الخنثى فقياس المذهب يأبى ذلك اه
والظاهر الاكتفاء كما أطلقه الأصحاب لأن ذكورته غير محققة
( ويصلى على الغائب عن البلد ) وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة خلافا لأبي حنيفة و مالك لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر الناس وهو بالمدينة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة رواه الشيخان وذلك في رجب سنة تسع
قال ابن القطان لكنها لا تسقط الفرض عن الحاضرين
قال الزركشي ووجهه أن فيه ازدراء وتهاونا بالميت لكن الأقرب السقوط لحصول الفرض وظاهر أن محله إذا علم الحاضرون ولا بد أن يعلم أو يظن أنه قد غسل وإلا لم تصح
نعم إن علق النية على غسله بأن نوى الصلاة إن كان غسل فينبغي أن تصح كما هو أحد احتمالين للأذرعي
أما الحاضر بالبلد فلا يصلى عليه إلا من حضر وإن كبرت البلد لتيسر حضوره وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان حضوره
ولو تعذر على من في البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد الجواز كما بحثه الأذرعي وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس
ولو كان الميت خارج السور قريبا منه فهو كداخله نقله الزركشي عن صاحب الوافي وأقره أي لأن غالب المقابر تجعل خارج السور
ولو صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه أو سنته وغسلوا في أقطار الأرض ولا يعرف عينهم جاز
____________________
(1/345)
بل يسن لأن الصلاة على الغائب جائزة وتعيينهم غير شرط
( ويجب تقديمها ) أي الصلاة ( على الدفن ) وتأخيرها عن الغسل أو التيمم عند العجز عن استعمال الماء فإن دفن من غير صلاة أثم كل من توجه عليه فرض الصلاة إلا أن يكون عذر
ويصلى عليه وهو في القبر ولا ينبش لذلك كما يؤخذ من قوله ( وتصح بعده ) أي الدفن للاتباع لخبر الصحيحين بشرط أن لا يتقدم على القبر كما سيأتي في زيادة المصنف ويسقط الفرض بالصلاة على القبر على الصحيح
وإلى متى يصلى عليه فيه أوجه أحدها أبدا فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم قال في المجموع وقد اتفق الأصحاب على تضعيف هذا الوجه
ثانيها إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها وبه قال أبو حنيفة
ثالثها إلى شهر وبه قال أحمد
رابعها ما بقي منه شيء في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصل عليه وإن شك في الانمحاق فالأصل البقاء
خامسها يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه يوم موته وصححه في الشرح الصغير فيدخل المميز على هذا دون غير المميز
( والأصح تخصيص الصحة ) أي صحة الصلاة على القبر ( بمن كان من أهل فرضها وقت الموت ) دون غيره لأنه يؤدي فرضا خوطب به وأما غيره فمتطوع
وهذه الصلاة لا يتطوع بها قال في المجموع معناه أنه لا يجوز الابتداء بصورتها من غير جنازة بخلاف صلاة الظهر يأتي بصورتها ابتداء بلا سبب
ثم قال لكن ما قالوه ينتقض بصلاة النساء مع الرجال فإنها لهن نافلة وهي صحيحة
وقال الزركشي معناه أنها لا تفعل مرة بعد أخرى أي من صلاها لا يعيدها أي لا يطلب منه ذلك
ولكن سيأتي أنه لو أعادها وقعت له نافلة وكأن هذا مستثنى من قولهم إن الصلاة إذا لم تكن مطلوبة لا تنعقد
أما لو صلى عليها من لم يصل أولا فإنها تقع له فرضا
وما صححه المصنف من اعتبار أهلية الفرض قال في العزيز إنه الأظهر ونقله في المجموع على الجمهور
قال القاضي وقضية ذلك منع الكافر والحائض يومئذ
وصرح به المتولي وهو ظاهر كلام الأصحاب
ورأى الإمام إلحاقهما بالمحدث وتبعه في الوسيط وهذا هو الظاهر
قال الإسنوي واعتبار الموت يقتضي أنه لو بلغ أو أفاق بعد الموت وقبل الغسل لم يعتبر ذلك والصواب خلافه لأنه لو لم يكن ثم غيره لزمته الصلاة اتفاقا وكذا لو كان ثم غيره فترك الجميع فإنهم يأثمون بل لو زال المانع بعد الغسل أو بعد الصلاة عليه وأدرك زمنا تمكن فيه الصلاة كان كذلك اه
وهذا كلام متين فينبغي الضبط بمن كان من أهل فرضها وقت الدفن لئلا يرد ما قبل
( ولا يصلى على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال ) واستدل له الرافعي ومن تبعه بقوله صلى الله عليه وسلم أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث قال الدميري وهذا الحديث باطل لا أصل له لكن روى البيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة لكنهم يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور اه
وكذا لا يصلى على قبر غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لخبر الصحيحين لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي الاستدلال بهذا نظر ولأنا لم نكن من أهل الفرض وقت موتهم
وقيل يجوز فرادى لا جماعة
فرع في بيان الأولى بالصلاة على الجنازة
قال الشارح زاد الترجمة به لطول الفصل قبله بما اشتمل عليه كما نقص ترجمة التعزية بفصل لقصر الفصل قبله اه
وبهذا يندفع ما قيل إن ترجمة المصنف بالفرع قد تستشكل لأن المذكور فيه وهو بيان أولوية الولي ليس فرعا عما قبله عن كيفية الصلاة لأن المصلي ليس متفرعا على الصلاة
( الجديد أو الولي ) أي القريب الذكر ( أولى ) أي أحق ( بإمامتها ) أي الصلاة على الميت ( من الوالي ) وإن أوصى الميت لغير الولي لأنها حقه فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث
وما ورد من أن أبا بكر وصى أن يصلي عليه عمر فصلى وأن عمر وصى أن يصلي عليه صهيب فصلى ووقع لجماعة من الصحابة ذلك محمول على أن أولياءهم أجازوا
____________________
(1/346)
الوصية
والقديم أو الولي أولى ثم إمام المسجد ثم الولي كسائر الصلوات وهو مذهب الأئمة الثلاثة
والفرق على الجديد إن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه
ومحل الخلاف كما قاله صاحب المعين إذا لم يخف الفتنة من الولي وإلا قدم قطعا ولو غاب الولي الأقرب قدم الولي الأبعد سواء أكانت غيبته قريبة أم بعيدة قاله البغوي
( فيقدم الأب ) أو نائبه كما قاله ابن المقري وكغير الأب أيضا نائبه
( ثم الجد ) أبو الأب ( وإن علا ) لأن الأصول أكثر شفقة من الفروع
( ثم الابن ثم ابنه وإن سفل ) بتثليث الفاء وخالف ذلك ترتيب الإرث بأن معظم الغرض الدعاء للميت فقدم الأشفق لأن دعاءه أقرب إلى الإجابة
( ثم الأخ ) تقديما للأشفق فالأشفق
( والأظهر تقديم الأخ لأبوين على الأخ لأب ) لأن الأول أشفق لزيادة قربه والثاني هما سواء لأن الأمومة لا مدخل لها في إمامة الرجال فلا يرجح بها
وأجاب الأول بأنها صالحة للترجيح وإن لم يكن لها دخل في إمامة الرجال إذ لها دخل في الصلاة في الجملة لأنها تصلى مأمومة ومنفردة وإمامة للنساء عند فقد الرجال فقدم بها ويجرى الخلاف في ابني عم أحدهما أخ لأم ونحو ذلك
وكان الأولى التعبير بالمذهب فإن الأصح القطع بالأول
( ثم ابن الأخ لأبوين ثم لأب ثم العصبة ) النسبية أي بقيتهم ( على ترتيب الإرث ) فيقدم عم شقيق ثم لأب ثم ابن عم شقيق ثم لأب ثم بعد عم النسب عصبة الولاء فيقدم المعتق ثم عصبته فتقدم عصباته النسبية ثم معتقه ثم عصباته النسبية وهكذا ثم السلطان أو نائبه عند انتظام بيت المال
( ثم ذوو الأرحام ) يقدم الأقرب فالأقرب فيقدم أبو الأم ثم الأخ للأم ثم الخال ثم العم للأم
والأخ للأم هنا من ذوي الأرحام بخلافه في الإرث والقياس هنا أن لا يقدم القاتل كما سبق في الغسل ونقله في الكفاية عن الأصحاب
وأشعر سكوت المصنف عن الزوج بأنه لا مدخل له في الصلاة على المرأة وهو كذلك بخلاف الغسل والتكفين والدفن ولا للمرأة أيضا
ومحل ذلك إذا وجد مع الزوج غير الأجانب ومع المرأة ذكر وإلا فالزوج مقدم على الأجانب والمرأة تصلي وتقدم بترتيب الذكر
قال الأذرعي وفي تقديم السيد على أقارب الرقيق الأحرار نظر يلتفت إلى أن الرق هل ينقطع بالموت أم لا اه
ويؤخذ من ذلك أن الأقارب مقدمون
( ولو اجتمعا ) أي وليان ( في درجة ) كابنين أو أخوين وكل منهما صالح للإمامة
( فالأسن ) في الإسلام ( العدل أولى ) من الأفقه ونحوه ( على النص ) في المختصر ونص في باقي الصلوات على أن الأفقه أولى من الأسن وفي قول مخرج إن الأفقه والأقرأ مقدمان عليه كغيرها من الصلوات
والأصح تقرير النصين والفرق أن الغرض من صلاة الجنازة الدعاء
ودعاء الأسن أقرب إلى الإجابة وأما سائر الصلوات
فمحتاجة إلى الفقه لكثرة وقوع الحوادث فيها
أما غير العدل من فاسق ومبتدع فلا مدخل له في الإمامة
ولو استوى اثنان في السن المعتبر قدم أحقهم بالإمامة في سائر الصلوات على ما سبق تفصيله في بابه ولو كان أحد المستويين زوجا قدم وإن كان الآخر أسن منه كما اقتضاه نص البويطي فقولهم لا مدخل للزوج مع الأقارب في الصلاة إذا لم يشاركهم في القرابة فإن استويا في الصفات كلها وتنازعا أقرع كما في المجموع ولو صلى غير من خرجت قرعته صح ولو استناب أفضل المتساويين في الدرجة اعتبر رضا الآخر في أقيس الوجهين في العدة وهذا شيء يباشره بنفسه وليس له أن يوكل فيه بخلاف الأقرب إذا كان أهلا فله الاستنابة ولا اعتراض للأبعد قاله في المجموع
( ويقدم الحر البعيد ) كعم حر ( على العبد القريب ) كأخ رقيق ولو أفقه وأسن لأن الإمامة ولاية والحر أكمل فهو بها أليق وقيل العبد أولى لقربه وقيل هما سواء لتعارض المعنيين
ويقدم الرقيق القريب على الحر الأجنبي والرقيق البالغ على الحر الصبي لأنه مكلف فهو أحرص على تكميل الصلاة ولأن الصلاة خلفه مجمع على جوازها
____________________
(1/347)
بخلافها خلف الصبي ذكره في المجموع
( ويقف ) المصلي ندبا من إمام ومفرد ( عند رأس ) الذكر ( الرجل ) أو الصغير ( وعجزها ) أي الأنثى وهو بفتح العين وضم الجيم ألياها للاتباع رواه الترمذي وحسنه ومثلها الخنثى كما في المجموع
وحكمة المخالفة المبالغة في ستر الأنثى والاحتياط في الخنثى
أما المأموم فيقف في الصف حيث كان
فائدة العجيزة إنما تقال في المرأة وغيرها يقال فيه عجز كما يقال فيها أيضا
قال بعض فقهاء اليمن ولا يبعد أن يأتي هذا التفصيل في الصلاة على القبر اه
وهو حسن عملا بالسنة في الأصل وإن استبعده الزركشي
( وتجوز على الجنائز صلاة ) واحدة برضا أوليائها لأن الغرض منها الدعاء والجمع فيه ممكن سواء أكانت ذكورا أم إناثا أم ذكورا وإناثا لأن أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ماتت هي وولدها زيد بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما فصلي عليهما دفعة واحدة وجعل الغلام مما يلي الإمام وفي القوم جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين فقالوا هذا هو السنة رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح كما قاله البيهقي
وصلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء فيما يلي القبلة رواه البيهقي بإسناد حسن
ثم إن حضرت الجنائز دفعة أقرع بين الأولياء وقدم إلى الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة فإن كانوا رجالا أو نساء جعلوا بين يديه واحدا خلف واحد إلى جهة القبلة ليحاذي الجميع وقدم إليه أفضلهم والمعتبر فيه الورع والخصال التي ترغب في الصلاة عليه وتغلب على الظن كونه أقرب من رحمة الله تعالى لا بالحرية لانقطاع الرق بالموت أو مرتبة قدم ولي السابقة ذكرا كان ميته أو أنثى وقدم إليه الأسبق من الذكور والإناث وإن كان المتأخر أفضل
ثم إن سبق رجل أو صبي استمر أو أنثى ثم حضر رجل أو صبي أخرت عنه ومثلها الخنثى
ولو حضر خناثى معا أو مرتبين جعلوا صفا عن يمينه ورأس كل واحد عند رجل الآخر لئلا يتقدم أنثى على ذكر
وقوله وتجوز يفهم الأفضل إفراد كل جنازة بصلاة وهو كذلك لأنه أكثر عملا وأرجى قبولا وليس تأخيرا كثيرا وإن قال المتولي إن الأفضل الجمع تعجيلا للدفن المأمور به
نعم إن خشي تغيرا أو انفجارا بالتأخير فالأفضل الجمع
( وتحرم ) الصلاة ( على الكافر ) حربيا كان أو ذميا لقوله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } ولأن الكافر لا يجوز الدعاء له بالمغفرة لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به }
( ولا يجب غسله ) على أحد لأنه كرامة وتطهير وليس هو من أهلها لكنه يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا فغسل والده وكفنه رواه أبو داود والنسائي
وسواء في الجواز القريب وغيره والمسلم وغيره وقال مالك و أحمد ليس للمسلم غسله
( والأصح وجوب تكفين الذمي ودفنه ) من بيت المال فإن فقد فعلى المسلمين هذا إذا لم يكن له مال ولا من تلزمه نفقته وفاء بذمته كما يجب أن يطعم ويكسى في حياته إذا عجز أما إذا كان له مال فهو في تركته أو من تلزمه نفقته فعليه
والثاني لا لأن الذمة قد انتهت بالموت وخرج بالذمي الحربي فلا يجب تكفينه قطعا ولا دفنه على الأصح بل يجوز إغراء الكلاب عليه إذ لا حرمة له والأولى دفنه لئلا يتأذى الناس برائحته
والمرتد كالحربي والمعاهد كالذمي وفاء بعهده وإن أشعر كلام المصنف بأنه كالحربي
( ولو وجد عضو مسلم علم موته ) بغير شهادة ولو كان الجزء ظفرا أو شعرا ( صلي عليه ) بقصد الجملة بعد غسله وجوبا كالميت الحاضر لأنها في الحقيقة صلاة على غائب
نعم من صلى على هذا الميت دون هذا العضو نوى الصلاة على العضو وحده كما جزم به ابن شهبة وقال الزركشي محل نية الصلاة على الجملة إذا علم أنها قد غسلت فإن لم تغسل نوى الصلاة على العضو فقط اه
فإن شك في ذلك نوى الصلاة عليها إن كانت قد غسلت ولا يضر التعليق في ذلك
ولا يقدح في هذه الصلاة غيبة باقية فقد صلى الصحابة على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وقد ألقاها طائر نسر في وقعة الجمل وعرفوها بخاتمه رواه الشافعي بلاغا
ويشترط انفصاله من ميت ليخرج المنفصل من حي كما سيأتي كأذنه الملتصقة إذا وجدت بعد موته ذكره في المجموع
نعم إن أبين من حي فمات في الحال فحكم الكل واحد يجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه
____________________
(1/348)
بخلاف ما إذا مات بعد مدة سواء اندملت جراحته أم لا
ويستثنى من الشعر الشعرة الواحدة فلا تغسل ولا يصلى عليها لأنها لا حرمة لها كما نقله في أصل الروضة عن صاحب العدة وأقره وإن قال بعض المتأخرين الأوجه أنها كغيرها
ويجب مواراة ذلك الجزء بخرقة وإن كان من غير العورة ولو قلنا الواجب ستر العورة فقط لأن ستر جميع البدن حق للميت كما مر
فمن قال إنما يجب ستره إذا كان من العورة غفلة منه بل القائل بأنه يقتصر على ستر العورة إنما يقول به إذا أوصى بستر العورة فقط وهنا لم يوص بذلك مع أنا قدمنا أن وصيته بذلك لا تنفذ ويجب دفنه بعد الصلاة عليه لما مر أنه كالميت الحاضر
أما ما انفصل من حي أو شككنا في موته كيد سارق وظفر وشعر وعلقة ودم فصد ونحوه فيسن دفنه إكراما لصاحبها
ويسن لف اليد ونحوها بخرقة أيضا كما صرح به المتولي
قال السبكي وظاهر كلامهم كالصريح في وجوب هذه الصلاة قال وهو ظاهر إذا لم يصل على الميت وإلا فهل نقول يجب حرمة له كالجملة أو لا فيه احتمال يعرف من كلامهم في النية اه
وقضيته أنها لا تجب وهو ظاهر إن كان قد صلي عليه بعد غسل العضو وإلا فتجب لزوال الضرورة المجوزة للصلاة عليه بدون غسل العضو بوجداننا له وعليه يحمل قول الكافي لو قطع رأس إنسان ببلد وحمل إلى بلد آخر صلى عليه حيث هو وعلى الجثة حيث هي ولا يكتفى بالصلاة على أحدهما
ولو جهل كون العضو من مسلم صلي عليه أيضا إن كان في دار الإسلام كما لو وجد فيها ميت جهل إسلامه
( والسقط ) بتثليث السين من السقوط ( إن ) علمت حياته بأن ( استهل ) أي صاح ( أو بكى ) وهو مشتق من البكاء وهو بالقصر الدمع وبالمد رفع الصوت
فإذا مات بعد ذلك فحكمه ( ككبير ) فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن لتيقن موته بعد حياته ( وإلا ) أي وإن لم يستهل أو لم يبك ( فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج ) أو تحرك ( صلي عليه في الأظهر ) لاحتمال الحياة بهذه القرينة الدالة عليها وللاحتياط
والثاني لا لعدم تيقنها وقطع في المجموع بالأول
ويجب دفنه قطعا وكذا غسله وقيل فيه القولان
( وإن لم تظهر ) أمارة الحياة ( ولم يبلغ أربعة أشهر ) أي لم يظهر خلقه ( لم يصل عليه ) قطعا لعدم الأمارة ولا يغسل على المذهب بل يسن ستره بخرقة ودفنه
( وكذا إن بلغها ) أي أربعة أشهر أي مائة وعشرين يوما حد نفخ الروح فيه عادة أي وظهر خلقه لا يصلى عليه وجوبا ولا جوازا ( في الأظهر ) لعدم ظهور حياته ويجب غسله وتكفينه ودفنه
وفارق الصلاة غيرها بأنه أوسع بابا منها بدليل أن الذمي يغسل ويكفن ويدفن ولا يصلى عليه فالعبرة فيما ذكر بظهور خلق الآدمي وعدم ظهوره كما تقرر فالتعبير ببلوغ أربعة أشهر وعدم بلوغها جرى على الغالب من ظهور خلق الآدمي عندها وعبر عنه بعضهم بزمن إمكان نفخ الروح وعدمه وبعضهم بالتخطيط وعدمه وكلها وإن تقاربت فالعبرة بما ذكر
فائدة السقط هو الذي لم يبلغ تمام أشهره أما من بلغها فيصلى عليه مطلقا كما أفتى به شيخي وفعله
( ولا يغسل الشهيد ولا يصلى عليه ) أي يحرمان لأنه حي بنص القرآن ولما روى البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه جاءت الأحاديث من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم وأما حديث أنه صلى عليهم عشرة عشرة وفي كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة فضعيف وخطأ قال الشافعي ينبغي لمن رواه أن يستحيي على نفسه اه
وما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت وللبخاري بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات فالمراد أنه دعا لهم كالدعاء للميت كقوله تعالى { وصل عليهم } أي ادع لهم والإجماع يدل على هذا لأن عندنا لا يصلى على الشهيد وعند المخالف وهو أبو حنيفة لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام
والحكمة في ذلك إبقاء أثر
____________________
(1/349)
الشهادة عليهم والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم
فإن قيل الأنبياء والمرسلون أفضل من الشهداء مع أنه يصلى عليهم
أجيب بأن الشهادة فضيلة تكتسب فرغب فيها ولا كذلك النبوة والرسالة
( وهو ) أي الشهيد الذي يحرم عليه غسله والصلاة عليه ضابطه أن كل ( من مات ) ولو امرأة أو رقيقا أو صغيرا أو مجنونا ( في قتال الكفار ) أو الكافر الواحد سواء أكانوا حربيين أم مرتدين أم أهل ذمة قصدوا قطع الطريق علينا أو نحو ذلك ( بسببه ) أي القتال سواء قتله كافر أم أصابه سلاح مسلم خطأ أم عاد إليه سلاحه أم تردى في بئر أو وهدة أم رفسته دابته فمات أم قتله مسلم باغ استعان به أهل الحرب كما شمله قتال الكفار أم قتله بعض أهل الحرب حال انهزامهم انهزاما كليا بأن تبعهم فكروا عليه فقتلوه وإن لم تشمله عبارة المصنف أو اتباعه لهم لاستئصالهم فكأنه قتل في حال القتال أم قتله الكفار صبرا أم انكشفت الحرب عنه ولم يعلم سبب قتله وإن لم يكن عليه أثر دم لأن الظاهر أن موته بسبب القتال كما جزما به
فإن قيل ينبغي أن يخرج ذلك على قول الأصل والغالب إذ الأصل عدم الشهادة والغالب أن من يموت بالمعترك أنه مات بسبب من أسباب القتال
أجيب بأن السبب الظاهر يعمل به ويترك الأصل كما إذا رأينا ظبية تبول في الماء ورأيناه متغيرا فإنا نحكم بنجاسته مع أن الأصل طهارة الماء
( فإن مات بعد انقضائه ) أي القتال بجراحة فيه يقطع بموته منها وفيه حياة مستقرة فغير شهيد في الأظهر سواء أطال الزمان أم قصر لأنه عاش بعد انقضاء الحرب فأشبه ما لو مات بسبب آخر والثاني أنه يلحق بالميت في القتال
أما لو انقضى القتال وحركة المجروح فيه حركة مذبوح فشهيد قطعا أو توقعت حياته فليس بشهيد قطعا
( أو ) مات عادل ( في قتال البغاة ) له ( فغير شهيد في الأظهر ) لأنه قتيل مسلم فأشبه المقتول في غير القتال وقد غسلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ابنها عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم ينكر عليها أحد
نعم لو استعان البغاة بكفار فقتل كافر مسلما فهو شهيد كما قاله القفال في فتاويه والثاني وصححه السبكي أنه شهيد لأنه كالمقتول في معركة الكفار ولأن عليا رضي الله تعالى عنه لم يغسل من قتل معه
أما إذا كان المقتول من أهل البغي فليس بشهيد جزما فقوله في الأظهر راجع للمسألتين كما تقرر
( وكذا ) لو مات ( في القتال لا بسببه ) أي القتال كموته بمرض أو فجأة أو قتله مسلم عمدا فغير شهيد ( على المذهب ) لأن الأصل وجوب الغسل والصلاة عليه خالفنا فيما إذا مات بسبب من أسباب القتال ترغيبا للناس فيه فبقي ما عداه على الأصل
وقيل إنه شهيد لأنه مات في معركة الكفار
فائدة الشهداء كما قال في المجموع ثلاثة الأول شهيد في حكم الدنيا بمعنى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه وفي حكم الآخرة بمعنى أن له ثوابا خاصا وهو من قتل في قتال الكفار بسببه وقد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وسمي بذلك لمعان منها أن الله سبحانه وتعالى ورسوله شهدا له بالجنة ومنها أنه يبعث وله شاهد بقتله وهو دمه لأنه يبعث وجرحه يتفجر دما ومنها أن ملائكة الرحمة يشهدونه فيقبضون روحه
والثاني شهيد في حكم الدنيا فقط وهو من قتل في قتال الكفار بسببه وقد غل من الغنيمة أو قتل مدبرا أو قاتل رياء أو نحوه
والثالث شهيد في حكم الآخرة فقط كالمقتول ظلما من غير قتال والمبطون إذا مات بالبطن والمطعون إذا مات بالطاعون والغريق إذا مات بالغرق والغريب إذا مات في الغربة وطالب العلم إذا مات على طلبه أو مات عشقا أو بالطلق أو بدار الحرب أو نحو ذلك
واستثنى بعضهم من الغريب العاصي بغربته كالآبق والناشزة ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة أو استوى الأمران أو ركبه لشرب خمر ومن الميتة بالطلق الحامل بزنا والظاهر كما قال الزركشي فيما عدا الأخيرة وفي الأخيرة أيضا أن ما ذكر لا يمنع الشهادة
نعم الميت عشقا شرطه العفة والكتمان لخبر من عشق وعف وكتم فمات مات شهيدا وإن كان الأصح وقفه على ابن عباس
قال شيخنا ويجب أن يراد به من يتصور إباحة نكاحها له شرعا ويتعذر الوصول إليها كزوجة الملك وإلا فعشق المرد معصية فكيف تحصل بها درجة الشهادة اه
والظاهر أنه لا فرق
____________________
(1/350)
لما مر أن شرطه العفة والكمال
( ولو استشهد جنب ) أو نحوه كحائض ( فالأصح أنه لا يغسل ) كغيره لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد وهو جنب ولم يغسله النبي صلى الله عليه وسلم وقال رأيت الملائكة تغسله رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما فلو كان واجبا لم يسقط إلا بفعلنا ولأنه طهر عن حدث فسقط بالشهادة كغسل الميت فيحرم إذ لا قائل بغير الوجوب والتحريم ولهذا قال في المجموع يحرم غسله لأنها طهارة حدث فلم تجز كغسل الميت
والثاني يغسل لأن الشهادة إنما تؤثر في غسل وجب بالموت وهذا الغسل كان واجبا قبله
وأجاب الأول بأنه سقط به كغسل الموت كما مر ولا يصلى عليه على الوجهين
( و ) الأصح ( أنه ) أي الشهيد ( تزال ) حتما ( نجاسته ) بغسلها ( غير الدم ) المتعلق بالشهادة وإن أدى ذلك إلى زوال دمها لأن النجاسة ليست من أثر الشهادة بخلاف دمها الخالي عن النجاسة فتحرم إزالته لأنا نهينا عن غسل الشهيد ولأنه أثر عبادة
وإنما لم تحرم إزالة الخلوف من الصائم مع أنه أثر عبادة لأنه هو المفوت على نفسه بخلافه هنا حتى لو فرض أن غيره أزاله بغير إذنه حرم عليه ذلك وقد مرت الإشارة إلى ذلك في باب الوضوء
والثاني لا تزال لإطلاق النهي عن غسل الشهيد
والثالث إن أدى غسلها إلى إزالة أثر الشهادة لم تزل وإلا أزيلت
( ويكفن ) الشهيد ندبا ( في ثيابه الملطخة بالدم ) لخبر أبي داود بإسناد حسن عن جابر قال رمي رجل بسهم في صدره أو حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم
والمراد ثيابه التي مات فيها واعتيد لبسها غالبا وإن لم تكن ملطخة بالدم لكن الملطخة بالدم أولى ذكره في المجموع
فالتقييد في كلام المصنف كأصله بالملطخة لبيان الأكمل
وعلم بالتقييد ب ندبا أنه لا يجب تكفينه فيها كسائر الموتى وفارق الغسل بإبقاء أثر الشهادة على البدن والصلاة عليه بإكرامه والإشعار باستغنائه عن الدعاء
( فإن لم يكن ثوبه سابغا ) أي ساترا لجميع بدنه
( تمم ) وجوبا لأنه حق للميت كما تقدم مرارا
وقول بعض المتأخرين تمم ندبا لأن الواجب ستر العورة ممنوع لما مر غير مرة
ولو أراد الورثة نزعها وتكفينه في غيرها جاز سواء أكان عليها أثر شهادة أم لا إذ لا يجب تكفينه فيها كسائر الموتى
ولو طلب بعض الورثة النزع وامتنع بعضهم أجيب الممتنع في أحد احتمالين يظهر ترجيحه
ويندب نزع آلة الحرب عنه كدرع وخف وكل ما لا يعتاد لبسه غالبا كجلد وفروة وجبة محشوة وفي أبي داود في قتلى أحد الأمر بنزع الحديد والجلود ودفنهم بدمائهم وثيابهم
فصل في دفن الميت وما يتعلق به ( أقل القبر حفرة تمنع ) بعد ردمها ( الرائحة ) أن تظهر منه فتؤذي الحي
( و ) تمنع ( السبع ) عن نبش تلك الحفرة لأكل الميت لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته واستقذار جيفته وأكل السباع له وبهذا يندفع ذلك
قال الرافعي والغرض من ذكرهما إن كانا متلازمين بيان فائدة الدفن وإلا فبيان وجوب رعايتهما فلا يكفي أحدهما
والظاهر كما قال شيخنا أنهما ليسا بمتلازمين كالفساقي التي لا تكتم رائحة مع منعها الوحش فلا يكفي الدفن فيها
وقال السبكي في الاكتفاء بالفساقي نظر لأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعا
قال وقد أطلقوا تحريم إدخال ميت على ميت لما فيه من هتك حرمة الأول وظهور رائحته فيجب إنكار ذلك وقال بعض شراح هذا الكتاب إنه لا يكفي الدفن فيما يصنع الآن ببلاد مصر والشام وغيرهما من عقد أزج واسع أو مقتصد شبه بيت لمخالفته الخبر وإجماع السلف وحقيقة بيت تحت الأرض فهو كوضعه في غار ونحوه ويسد بابه اه
وهذا ظاهر لأنه ليس بدفن كما أشار إلى ذلك ابن الصلاح و الأذرعي وغيرهما
واحترز بالحفرة عما إذا وضع الميت على وجه الأرض ووضع عليه أحجار كثيرة أو تراب أو نحو ذلك مما يكتم رائحته ويحرسه عن أكل السباع فلا يكفي ذلك إلا إن تعذر الحفر لأنه ليس بدفن
( ويندب أن يوسع ) بأن يزاد في طوله وعرضه ( ويعمق ) بأن يزاد في نزوله لقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد احفروا وأوسعوا وأعمقوا رواه الترمذي وقال حسن صحيح
وعبارة المجموع كالجمهور يستحب
____________________
(1/351)
أن يوسع القبر من قبل رجليه ورأسه أي فقط وكذا رواه أبو داود وغيره
والمعنى يساعده ليصونه مما يلي ظهره من الانقلاب ومما يلي صدره من الانكباب
فائدة التعميق بعين مهملة كما قاله الجوهري وحكى غيره الإعجام وقريء به شاذا من كل فج غميق
( قدر قامة وبسطة ) من رجل معتدل لهما بأن يقوم باسطا يديه مرفوعتين لأن عمر رضي الله تعالى عنه وصى بذلك ولم ينكر عليه أحد ولأنه أبلغ في المقصود من منع ظهور الرائحة ونبش السبع
وهما أربعة أذرع ونصف كما صوبه المصنف خلافا للرافعي في قوله إنهما ثلاثة أذرع ونصف تبعا للمحاملي
( واللحد ) بفتح اللام وضمها وسكون الحاء فيهما أصله الميل والمراد أن يحفر في أسفل جانب القبر القبلي مائلا عن الاستواء قدر ما يسع الميت ويستره
( أفضل من الشق ) بفتح المعجمة بخط المصنف وهو أن يحفر قعر القبر كالنهر أو يبني جانباه بلبن أو غيره غير ما مسه النار ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت ويسقف عليه بلبن أو خشب أو حجارة وهي أولى ويرفع السقف قليلا بحيث لا يمس الميت
( إن صلبت الأرض ) لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم
أما في الرخوة فالشق أفضل خشية الأنهيار
( ويوضع ) ندبا ( رأسه ) أي الميت ( عند رجل القبر ) أي مؤخره الذي سيصير عند سفله رجل الميت
( ويسل ) الميت ( من قبل رأسه ) سلا ( برفق ) لا بعنف لما رواه أبو داود بإسناد صحيح أن عبدالله بن يزيد الخطمي الصحابي رضي الله تعالى عنه صلى على جنازة الحارث ثم أدخله القبر من قبل رجل القبر وقال هذا من السنة
وقول الصحابي من السنة كذا حكمه حكم المرفوع
ولما رواه الشافعي رحمه الله تعالى بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا وما قيل إنه أدخل من قبل القبلة فضعيف كما قاله البيهقي وغيره وإن حسنه الترمذي مع أنه لا يمكن إدخاله من قبل القبلة لأن شق قبره صلى الله عليه وسلم لاصق بالجدار ولحده تحت الجدار فلا موضع هناك يوضع فيه قاله الشافعي وأصحابه كما نقله في المجموع
( ويدخله القبر الرجال ) إذا وجدوا وإن كان الميت أنثى لخبر البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينزل في قبر ابنته أم كلثوم ووقع في المجموع تبعا لراوي الخبر أنها رقية ورده البخاري في تاريخه الأوسط بأنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد موت رقية ولا دفنها أي لأنه كان ببدر
ومعلوم أنه كان لها محارم من النساء كفاطمة وغيرها ولأنه يحتاج إلى قوة والرجال أحرى بذلك بخلاف النساء لضعفهن عن ذلك غالبا ويخشى من مباشرتهن هتك حرمة الميت وانكشافهن
نعم يندب لهن كما في المجموع أن يلين حمل المرأة من مغتسلها إلى النعش وتسليمها إلى من في القبر وحل ثيابها فيه وظاهر ما في المختصر وكلام الشامل والنهاية أن هذا واجب على الرجال عند وجودهم وتمكينهم واستظهره الأذرعي وهو ظاهر
( وأولاهم ) أي الرجال بذلك ( الأحق بالصلاة ) عليه درجة وقد مر بيانه في الغسل
وخرج بدرجة الأولى بالصلاة صفة إذ الأفقه أولى من الأسن والأقرب البعيد الفقيه أولى من الأقرب غير الفقيه هنا عكس ما في الصلاة عليه والمراد بالأفقه الأعلم بذلك الباب
قلت كما قال الرافعي في الشرح ( إلا أن تكون امرأة مزوجة فأولاهم ) أي الرجال بإدخالها القبر ( الزوج ) وإن لم يكن له حق في الصلاة عليها ( والله أعلم ) لأنه ينظر إلى ما لا ينظر إليه غيره
ويليه الأفقه ثم الأقرب فالأقرب من المحارم ثم عبدها لأنه كالمحرم في النظر ونحوه ثم الممسوح ثم المجبوب ثم الخصي لضعف شهوتهم
ورتبوا كذلك لتفاوتهم فيها
ثم العصبة الذين لا محرمية لهم كبني عم ومعتق وعصبته بترتيبهم في الصلاة ثم ذوو الرحم الذين لا محرمية لهم كذلك كبني خال وبني عمة ثم الأجنبي الصالح لخبر أبي طلحة السابق ثم الأفضل فالأفضل ثم النساء بترتيبهن السابق في الغسل والخناثى كالنساء
فإن استوى اثنان في الدرجة والفضيلة وتنازعا أقرع بينهما والأوجه كما قال الأذرعي أن السيد في الأمة التي تحل له كالزوج
وأما غيرها فهل يكون معها كالأجنبي
____________________
(1/352)
أو لا الأقرب نعم إلا أن يكون بينهما محرمية
وأما العبد فهو أحق بدفنه من الأجانب حتما
والوالي لا يقدم هنا على القريب قطعا
( ويكونون ) أي المدخلون للميت القبر ( وترا ) ندبا واحد فأكثر بحسب الحاجة كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن حبان أن الدافنين له كانوا ثلاثة وأبو داود أنهم كانوا خمسة
( ويوضع في اللحد ) أو غيره ( على يمينه ) ندبا اتباعا للسلف والخلف وكما في الاضطجاع عند النوم
ويوجه ( للقبلة ) وجوبا تنزيلا له منزلة المصلي ولئلا يتوهم أنه غير مسلم كما يعلم مما سيأتي
فلو وجه لغيرها نبش ووجه للقبلة وجوبا إن لم يتغير وإلا فلا ينبش أولها على يساره كره ولم ينبش وهو مراد المصنف في مجموعه بقوله إنه خلاف الأفضل
ويؤخذ من قولهم إنه كالمصلي أن الكافر لا يجب علينا أن نستقبل به القبلة وهو كذلك بل يجوز استقباله واستدباره
نعم لو ماتت ذمية في بطنها جنين مسلم جعل ظهرها إلى القبلة وجوبا ليتوجه الجنين إلى القبلة إذا كان يجب دفن الجنين لو كان منفصلا لأن وجه الجنين على ما ذكروا لظهر الأم
وتدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار وقيل في مقابر المسلمين وقيل في مقابر الكفار
تنبيه لو حذف المصنف لفظة في اللحد كان أولى ليشمل ما قدرته
وظاهر كلام التسوية بين الوضع على اليمين والاستقبال والمعتمد فيهما ما تقرر
( ويسند وجهه ) ندبا وكذا رجلاه ( إلى جداره ) أي القبر ويجعل في باقي بدنه كالتجافي فيكون كالقوس لئلا ينكب
( و ) يسند ( ظهره بلبنة ونحوها ) كطين ليمنعه من الاستلقاء على قفاه ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجر ويفضي بخده الأيمن إليه أو إلى التراب
قال في المجموع بأن ينحى الكفن عن خده ويوضع على التراب
( ويسد فتح اللحد ) بفتح الفاء وسكون التاء المثناة الفوقية وكذا غيره ( بلبن ) وهو طوب لم يحرق ونحوه كطين لقول سعد فيما مر وانصبوا علي اللبن نصبا ولأن ذلك أبلغ في صيانة الميت عن النبش
ونقل المصنف في شرح مسلم أن اللبنات التي وضعت في قبره صلى الله عليه وسلم تسع
( ويحثو ) ندبا بيديه جميعا ( من دنا ) من القبر ( ثلاث حثيات تراب ) من تراب القبر ويكون الحثي من قبل رأس الميت لأنه صلى الله عليه وسلم حثا من قبل رأس الميت ثلاثا رواه البيهقي وغيره بإسناد جيد ولما فيه من المشاركة في هذا الفرض يقال حثى يحثي حثيا وحثيات وحثا يحثو حثوا وحثوات والأول أفصح
ويندب أن يقول مع الأولى { منها خلقناكم } ومع الثانية { وفيها نعيدكم } ومع الثالثة { ومنها نخرجكم تارة أخرى }
ولم يبين الدنو وكأنه راجع إلى العرف
وعبارة الشافعي في الأم من على شفير القبر وعبارة الروضة وأصلها كل من دنا
وقال في الكفاية إنه يستحب ذلك لكل من حضر الدفن وهو شامل للبعيد أيضا
وهو كما قال الولي العراقي ظاهر
( ثم يهال ) من الإهالة وهي الصب أي يصب التراب على الميت
( بالمساحي ) لأنه أسرع إلى تكميل الدفن
والمساحي بفتح الميم جمع مسحاة بكسرها وهي آلة تمسح الأرض بها ولا تكون إلا من حديد بخلاف المجوفة قاله الجوهري
والميم زائدة لأنها مأخوذة من السحف أو الكشف وظاهر أن المراد هنا هي أو ما في معناها
وإنما كانت الإهالة بعد الحثي لأنه أبعد عن وقوع اللبنات وعن تأذي الحاضرين بالغبار
( ويرفع ) ندبا ( القبر شبرا ) تقريبا ليعرف فيزار ويحترم ولأن قبره صلى الله عليه وسلم رفع نحو شبر رواه ابن حبان في صحيحه
( فقط ) فلا يزاد على تراب القبر لئلا يعظم شخصه
وإن لم يرتفع بترابه شبرا فالأوجه كما قال شيخنا أن يزاد هذا إذا كان بدارنا
أما لو مات مسلم بدار الكفار فلا يرفع قبره بل يخفى لئلا يتعرض له الكفار إذا رجع المسلمون قاله المتولي وأقراه
وكذا إذا كان بموضع يخاف نبشه لسرقة كفنه أو لعداوة أو نحوها كما قاله الإسنوي وألحق الأذرعي بذلك أيضا ما لو مات ببلد بدعة وخشي عليه من نبشه وهتكه والتمثيل به كما صنعوا ببعض الصلحاء وأحرقوه
( والصحيح ) المنصوص ( أن تسطيحه أولى من تسنيمه ) كما فعل بقبره صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما رواه أبو داود
____________________
(1/353)
بإسناد صحيح والثاني تسنيمه أولى لأن التسطيح شعار الروافض فيترك مخالفة لهم وصيانة للميت وأهله عن الاتهام ببدعة
ورد هذا بأن السنة لا تترك لموافقة أهل البدع فيها إذ لو روعي ذلك لأدى إلى ترك سنن كثيرة
( ولا يدفن اثنان في قبر ) ابتداء بل يفرد كل ميت بقبر حالة الاختيار للاتباع ذكره في المجموع وقال إنه صحيح
وعبارة الروضة المستحب في حالة الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر اه
فلو جمع اثنان في قبر واتحد الجنس كرجلين وامرأتين كره عند الماوردي وحرم عند السرخسي ونقله المصنف عنه في مجموعه مقتصرا عليه وعقبه بقوله وعبارة الأكثرين ولا يدفن التحريم
( إلا لضرورة ) كأن كثروا وعسر إفراد كل ميت بقبر فيجمع بين الاثنين والثلاثة والأكثر في قبر بحسب الضرورة وكذا في ثوب وذلك للاتباع في قتلى أحد رواه البخاري
( فيقدم ) حينئذ ( أفضلهما ) وهو الأحق بالإمامة إلى جدار القبر القبلي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل في قتلى أحد عن أكثرهم قرآنا فيقدمه إلى اللحد لكن لا يقدم فرع على أصله من جنسه وإن علا حتى يقدم الجد ولو من قبل الأم وكذا الجدة قاله الإسنوي فيقدم الأب على الابن وإن كان أفضل منه لحرمة الأبوة وتقدم الأم على البنت وإن كانت أفضل منها أما الابن مع الأم فيقدم لفضيلة الذكورة
ويقدم الرجل على الصبي والصبي على الخنثى والخنثى على المرأة
ولا يجمع رجل وامرأة في قبر إلا لضرورة فيحرم عند عدمها كما في الحياة
قال ابن الصلاح ومحله إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية وإلا فيجوز الجمع قال الإسنوي وهو متجه
والذي في المجموع أنه لا فرق فقال إنه حرام حتى في الأم مع ولدها وهذا كما قال شيخي هو الظاهر إذ العلة في منع الجمع الإيذاء لأن الشهوة قد انقطعت فلا فرق بين المحرم وغيره ولا بين أن يكونا من جنس واحد أو لا
والخنثى مع الخنثى أو غيره كالأنثى مع الذكر والصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة كالمحرم
ويحجز بين الميتين بتراب حيث جمع بينهما ندبا كما جزم به ابن المقري في شرح إرشاده ولو اتحد الجنس
أما نبش القبر بعد دفن الميت لدفن ثان فيه أي في لحده فلا يجوز ما لم يبل الأول ويصر ترابا
وأما إذا جعل في القبر في لحد آخر من جانب القبر الآخر من غير أن يظهر من الميت الأول شيء كما يفعل الآن كثيرا فالظاهر عدم الحرمة ولم أر من ذكر ذلك
( ولا يجلس على القبر ) المحترم ولا يتكأ عليه ولا يستند إليه
( ولا يوطأ ) عليه إلا لضرورة كأن لا يصل إلى ميته أو من يزوره وإن كان أجنبيا كما بحثه الأذرعي أو لا يتمكن من الحفر إلا بوطئه لصحة النهي عن ذلك
والمشهور في ذلك الكراهة هو المجزوم به في الروضة وأصلها وأما ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر ففسر فيه الجلوس بالحدث وهو حرام بالإجماع وجرى المصنف في شرح مسلم وفي رياض الصالحين على الحرمة أخذا بظاهر الحديث والمعتمد الكراهة
وأما غير المحترم كقبر حربي ومرتد وزنديق فلا يكره ذلك وإذا مضت مدة يتيقن أنه لم يبق من الميت في القبر شيء فلا بأس بالانتفاع به
ولا يكره المشي بين المقابر بالنعل على المشهور لقوله صلى الله عليه وسلم إنه ليسمع خفق نعالهم وما ورد من الأمر بإلقاء السبتيتين في أبي داود والنسائي بإسناد حسن يحتمل أن يكون لأنه من لباس المترفهين أو أنه كان فيهما نجاسة
والنعال السبتية بكسر السين المدبوغة بالقرظ
( ويقرب زائره ) منه ( كقربه منه ) في زيارته له ( حيا ) أي ينبغي له ذلك كما في الروضة كأصلها احتراما له
نعم لو كان عادته منه البعد وقد أوصى بالقرب منه قرب منه لأنه حقه كما لو أذن له في الحياة قاله الزركشي
وأما من كان يهاب في حال حياته لكونه جبارا كالولاة الظلمة فلا عبرة بذلك
( والتعزية ) لأهل الميت صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم ( سنة ) في الجملة مؤكدة لما رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن ما من مسلم يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة
نعم الشابة لا يعزيها أجنبي وإنما يعزيها محارمها وزوجها وكذا من ألحق بهم في جواز النظر كما بحثه شيخنا و ابن حيران بأنه يستحب التعزية بالمملوك بل قال الزركشي يستحب أن
____________________
(1/354)
يعزي بكل من يحصل له عليه وجد كما ذكره الحسن البصري حتى الزوجة والصديق
وتعبيرهم بالأهل جرى على الغالب وتندب البداءة بأضعفهم عن حمل المصيبة
وخرج بقولنا في الجملة تعزية الذمي بذمي فإنها جائزة لا مندوبة
وهي لغة التسلية عمن يعز عليه واصطلاحا الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الأجر والتحذير من الوزر بالجزع والدعاء للميت بالمغفرة وللمصاب بجبر المصيبة
وتسن ( قبل دفنه ) لأنه وقت شدة الجزع والحزن ( و ) لكن ( بعده ) أولى لاشتغالهم قبله بتجهيزه إلا إن أفرط حزنهم فتقديمها أولى ليصبرهم
وغايتها ( ثلاثة أيام ) تقريبا من الموت لحاضر ومن القدوم لغائب ومثل الغائب المريض والمحبوس فتكره التعزية بعدها إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه فيها فلا يجدد الحزن ويكلف المعزى وأما ما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن فلا نسلم أن جلوسه كان لأجل أن يأتيه الناس ليعزوه
( ويعزى ) بفتح الزاي ( المسلم ) أي يقال في تعزيته ( بالمسلم أعظم ) أي جعل ( الله أجرك ) عظيما ( وأحسن ) أي جعل الله ( عزاءك ) بالمد حسنا
وزاد على المحرر قوله ( وغفر لميتك ) لأنه لائق بالحال وقدم الدعاء للمعزى لأنه المخاطب
ويسن أن يبدأ قبله بما ورد من تعزية الخضر أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب
( و ) يعزى المسلم أي يقال في تعزيته ( بالكافر ) الذمي ( أعظم الله أجرك وصبرك ) وأخلف عليك أو جبر مصيبتك أو نحو ذلك كما في الروضة كأصلها لأنه اللائق بالحال
قال أهل اللغة إذا احتمل حدوث مثل الميت أو غيره من الأموال يقال أخلف الله عليك بالهمز لأن معناه رد عليك مثل ما ذهب منك وإلا خلف عليك أي كان الله خليفة عليك من فقده
ولا يقول غفر لميتك لأن الاستغفار للكافر حرام
( و ) يعزى ( الكافر ) المحترم جوازا إلا إن رجي إسلامه فندبا أي يقال في تعزيته ( بالمسلم غفر الله لميتك وأحسن عزاءك ) وقدم الدعاء للميت في هذا لأنه لمسلم والحي كافر ولا يقال أعظم الله أجرك لأنه لا أجر له
أما الكافر غير المحترم من حربي أو مرتد كما بحثه الأذرعي فلا يعزى وهل هو حرام أو مكروه الظاهر في المهمات الأول ومقتضى كلام الشيخ أبي حامد الثاني وهو الظاهر
هذا إن لم يرج إسلامه فإن رجي استحبت كما يؤخذ من كلام السبكي ولا يعزى به أيضا
ولم يذكر المصنف تعزية الكافر بالكافر لأنها غير مستحبة كما اقتضاه كلام الشرح والروضة بل هي جائزة إن لم يرج إسلامه كما مرت الإشارة إلى ذلك وإن كان قضية كلام التنبيه استحبابها مطلقا كما نبهت على ذلك في شرحه وصيغتها أخلف الله عليك ولا نقص عددك بالنصب والرفع ونحو ذلك لأن ذلك ينفعنا في الدنيا بكثرة الجزية وفي الآخرة بالفداء من النار
قال في المجموع وهو مشكل لأنه دعاء بدوام الكفر فالمختار تركه
ومنعه ابن النقيب بأنه ليس فيه ما يقتضي البقاء على الكفر ولا يحتاج إلى تأويله بتكثير الجزية
فائدة سئل أبو بكرة عن موت الأهل فقال موت الأب قصم الظهر وموت الولد صدع في الفؤاد وموت الأخ قص الجناح وموت الزوجة حزن ساعة
ولذا قال الحسن البصري من الأدب أن لا يعزى الرجل في زوجته وهذا من تفرداته
ولما عزي صلى الله عليه وسلم في بنته رقية قال الحمد لله دفن البنات من المكرمات رواه العسكري في الأمثال
( ويجوز البكاء عليه ) أي الميت ( قبل الموت ) بالإجماع لكن الأولى عدمه بحضرة المحتضر قال في الروضة كأصلها والبكاء قبل الموت أولى منه بعده
قال الإسنوي ومقتضاه طلب البكاء وبه صرح القاضي حسين فقال يستحب
____________________
(1/355)
إظهارا لكراهة فراقه وعدم الرغبة في ماله ونقله في المهمات عن ابن الصباغ ونظر فيه
والظاهر أن المراد أنه أولى بالجواز لما سيأتي من أنه يكون بعد الموت أسفا على ما فات
( و ) يجوز ( بعده ) أيضا ولو بعد الدفن لأنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم قبل موته وقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون
و بكى على قبر بنت له
و زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله
روى الأول الشيخان والثاني البخاري والثالث مسلم
والبكاء عليه بعد الموت خلاف الأولى لأنه حينئذ يكون أسفا على ما فات نقله في المجموع عن الجمهور بل نقل في الأذكار عن الشافعي والأصحاب أنه مكروه
والمعتمد الأول كما يشعر به قول المصنف ويجوز
قال السبكي وينبغي أن يقال إذا كان البكاء للرقة على الميت وما يخشى عليه من عقاب الله تعالى وأهوال يوم القيامة فلا يكره
ولا يكون خلاف الأولى وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء فيكره أو يحرم اه
والثاني أظهر
قال الروياني ويستثنى ما إذا غلبه البكاء فإنه لا يدخل تحت النهي لأنه مما لا يملكه البشر
وهذا ظاهر قال بعضهم وإن كان لمحبة ورقة كالبكاء على الطفل فلا بأس به والصبر أجمل وإن كان لما فقد من علمه وصلاحه وبركته وشجاعته فيظهر استحبابه أو لما فاته من بره وقيامه بمصالح حاله فيظهر كراهته لتضمنه عدم الثقة بالله
قال الزركشي هذا كله في البكاء بصوت أما بمجرد دمع العين فلا منع منه اه
ولفظ الأول ممدود والثاني مقصور قال كعب بن مالك بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل ووهم الجوهري في نسبته لحسان
( ويحرم الندب بتعديد شمائله ) جمع شمال كهلال وهي ما اتصف به الميت من الطباع الحسنة كقولهم واكهفاه واجبلاه لحديث ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت رواه الترمذي وحسنه
هذا إذا أوصى بذلك أو كان كافرا كما سيأتي واللهز الدفع في الصدر باليد وهي مقبوضة
( و ) يحرم ( النوح ) وهو رفع الصوت بالندب قاله في المجموع
وقيده غيره بالكلام المسجع وليس بقيد لخبر النائحة إذا لم تتب ( قبل موتها ) تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم والسربال القميص
( و ) يحرم ( الجزع بضرب صدره ونحوه ) كشق جيب ونشر شعر وتسويد وجه وإلقاء رماد على رأس ورفع صوت بإفراط في البكاء كما قاله الإمام ونقله في الأذكار عن الأصحاب لخبر الشيخين ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية
ومن ذلك أيضا تغيير الزي ولبس غير ما جرت به العادة كما قاله ابن دقيق العيد
قال الإمام والضابط كل فعل يتضمن إظهار جزع ينافي الانقياد والاستسلام لقضاء الله تعالى فهو محرم ولا يعذب الميت بشيء من ذلك ما لم يوص به قال تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } بخلاف ما إذا أوصى به كقول طرفة بن العبد إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك
فإن قيل ذنب الميت فيما إذا أوصى الأمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه
أجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده خبر من سن سنة سيئة والأصح كما قاله الشيخ أبو حامد أن ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذنوب
قال المتولي وغيره ويكره إرثاء الميت بذكر أيامه وفضائله للنهي عن المراثي والأولى الاستغفار له والأوجه حمل النهي عن ذلك على ما يظهر فيه تبرم أو على فعله مع الاجتماع له أو على الإكثار منه أو على ما يجدد الحزن دون ما عدا ذلك فما زال كثير من الصحابة وغيرهم من العلماء يفعلونه وقد قالت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فيه ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن لياليا قلت هذه مسائل منثورة أي متفرقة متعلقة بالباب زدتها على المحرر والفطن يرد كل مسألة منها إلى
____________________
(1/356)
ما يناسبها مما تقدم
وإنما جمعها في موضع واحد لأنه لو فرقها لاحتاج أن يقول في أول كل منها قلت وفي آخرها والله أعلم فيؤدي إلى التطويل المنافي لغرضه من الاختصار
( يبادر ) ندبا ( بقضاء دين الميت ) إن تيسر حالا قبل الاشتغال بتجهيزه مسارعة إلى فكاك نفسه لخبر نفس المؤمن أي روحه معلقة أي محبوسة عن مقامها الكريم بدينه حتى يقضى عنه رواه الترمذي وحسنه وصححه ابن حبان وغيره
فإن لم يتيسر حالا سأل وليه غرماءه أن يحللوه ويحتالوا به عليه نص عليه الشافعي والأصحاب
واستشكل في المجموع البراءة بذلك ثم قال ويحتمل أنهم رأوا ذلك مبرئا للميت للحاجة والمصلحة وظاهر أن المبادرة تجب عند طلب المستحق حقه ولا معنى للتأخير مع التمكن من التركة
( و ) تنفيذ ( وصيته ) مسارعة لوصول الثواب إليه والبر للموصى له وذلك مندوب بل واجب عند طلب الموصى له المعين وكذا عند المكنة في الوصية للفقراء ونحوهم من ذوي الحاجات أو كان قد أوصى بتعجيلها
( ويكره تمني الموت لضر نزل به ) في بدنه أو ضيق في دنياه أو نحو ذلك ففي الصحيحين لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي ( لا لفتنة دين ) فلا يكره حينئذ كما قاله في الأذكار والمجموع
وعبر في الروضة بقوله لا بأس وفي فتاوى المصنف غير المشهورة أنه يستحب تمني الموت حينئذ قال ونقله بعضهم عن الشافعي رضي الله تعالى عنه و عمر بن عبد العزيز وغيرهما وهو المعتمد
ويمكن حمل كلام المجموع والأذكار عليه أما تمنيه لغرض أخروي فمحبوب كتمني الشهادة في سبيل الله
قال ابن عباس رضي الله عنه لم يتمن نبي الموت غير يوسف عليه الصلاة والسلام وقال غيره إنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت
( ويسن ) للمريض ( التداوي ) لخبر إن الله لم يضع داء إلا وأنزل له دواء غير الهرم قال الترمذي حسن صحيح وروى ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء جهله من جهله وعلمه من علمه فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر أي تأكل
وفي رواية عليكم بالحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام يريد الموت
قال في المجموع فإن ترك التداوي توكلا فهو أفضل
فإن قيل إنه صلى الله عليه وسلم فعله وهو رأس المتوكلين
أجيب بأنه فعله لبيان الجواز
وفي فتاوى ابن البرزي أن من قوي توكله فالترك له أولى ومن ضعفت نفسه وقل صبره فالمداواة له أفضل وهو كما قال الأذرعي حسن ويمكن حمل كلام المجموع عليه
ونقل القاضي عياض الإجماع على عدم وجوبه
فإن قيل هلا وجب كأكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالخمر أجيب بأنا لا نقطع بإفادته بخلافهما ويجوز استيصاف الطبيب الكافر واعتماد وصفه كما صرح به الأصحاب على دخول الكافر الحرم
( ويكره إكراهه ) أي المريض ( عليه ) أي التداوي باستعمال الدواء وكذا إكراهه على الطعام كما في المجموع لما في ذلك من التشويش عليه
وأما حديث لا تكرهوا مرضاكم على الطعام فإن الله يطعمهم ويسقيهم فقال في المجموع ضعفه البيهقي وغيره وادعى الترمذي أنه حسن
( ويجوز لأهل الميت ونحوهم ) كأصدقائه ( تقبيل وجهه ) لما صححه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قبل وجه عثمان بن مظعون بعد موته
وفي صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته
قال السبكي وينبغي أن يندب لأهله ونحوهم ويجوز لغيرهم ولا يقتصر الجواز عليهم
في زوائد الروضة في أوائل النكاح ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح فقيده بالصالح وأما غيره فينبغي أن يكره
( ولا بأس بالإعلام ) وهو النداء ( بموته للصلاة ) عليه ( وغيرها ) كالمحاللة والدعاء والترحم كما في الروضة بل يسن ذلك كما في المجموع لأنه صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلى فصلى وقيل يسن في الغريب دون غيره وقيل يكره مطلقا
( بخلاف نعي الجاهلية ) وهو بسكون العين وبكسرها مع تشديد الياء مصدر نعاه ومعناه كما في المجموع النداء بذكر مفاخر الميت ومآثره فإنه يكره للنهي عنه كما صححه الترمذي
والمراد نعي الجاهلية لا مجرد الإعلام
____________________
(1/357)
بالموت
فإن قصد الإعلام بموته لمن لم يعلم لم يكره وإن قصد به الإخبار لكثرة المصلين عليه فهو مستحب
( ولا ينظر الغاسل من بدنه إلا قدر الحاجة من غير العورة ) كأن يريد بنظره معرفة المغسول من غيره وهل استوعبه بالغسل أو لا
فإن نظر زائدا على الحاجة كره كما في زيادة الروضة وجزم به في الكفاية وإن صحح في المجموع أنه خلاف الأولى لأنه قد يكون فيه شيء كان يكره إطلاع الناس عليه وربما رأى سوادا ونحوه فيظنه عذابا فيسيء به ظنا
أما العورة فنظرها حرام ويسن أن لا يمسه بيده فإن مسه أو نظر إليه بغير شهوة لم يحرم وقيل يحرم النظر إلى شيء من بدنه لأنه صار عورة كبدن المرأة إلا لضرورة
وأما غير الغاسل من معين وغيره فيكره له النظر إلى غير العورة إلا لضرورة
( ومن تعذر غسله ) لفقد الماء أو لغيره كأن احترق أو لدغ ولو غسل لتهرى أو خيف على الغاسل ولم يمكنه التحفظ ( يمم ) وجوبا قياسا على غسل الجنابة ولا يغسل محافظة على جثته لتدفن بحالها
ولو وجد الماء فيما إذ يمم لفقده قبل دفنه وجب غسله وتقدم الكلام على ذلك وعلى إعادة الصلاة في باب التيمم
ولو كان به قروح وخيف من غسله تسارع البلى إليه بعد دفنه غسل لأن مصير جميعه إلى البلى
( ويغسل الجنب والحائض ) والنفساء ( والميت بلا كراهة ) لأنهما طاهران كغيرهما ( وإذا ماتا غسلا غسلا واحدا فقط ) لأن الغسل الذي كان عليهما انقطع بالموت كما تقدم في الشهيد الجنب وانفراد الحسن البصري بإيجاب غسلين
( وليكن الغاسل أمينا ) ندبا ليوثق به في تكميل الغسل وغيره من المشروع وكذا معين الغاسل
فإن غسله فاسق أو كافر وقع الموقع ويجب أن يكون عالما بما لا بد منه في الغسل
( فإن رأى ) الغاسل من بدن الميت ( خيرا ) كاستنارة وجهه وطيب رائحته ( ذكره ) ندبا ليكون أدعى لكثرة المصلين عليه والدعاء له ( أو غيره ) كأن رأى سوادا أو تغير رائحة أو انقلاب صورة ( حرم ذكره ) لأنه غيبة لمن لا يتأتى الاستحلال منه وفي صحيح مسلم من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة وفي سنن أبي داود والترمذي اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم وفي المستدرك من غسل ميتا وكتم عليه غفر الله له أربعين مرة
( إلا لمصلحة ) كأن كان مبتدعا مظهرا لبدعته فيذكر ذلك لينزجر الناس عنها
وهذا الاستثناء ذكره في البيان بحثا ونقله عنه في المجموع وقال إنه متعين
وينبغي اطراده في المتجاهر بالفسق والظالم والوجه كما قال الأذرعي أن يقال إذا رأى من مبتدع أمارة خير كتمها ولا يبعد إيجابه لئلا يجمل الناس على الإغراء بها
ويسن كتمانه من المتجاهر بالفسق والظالم لئلا يغتر بذكرها أمثاله ولا معنى للتفصيل في القسم الثاني دون الأول
قال الغزي وينبغي أن يكون قول الكتاب إلا لمصلحة عائدا للأمرين اه ولا بأس
غريبة حكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة فالتصقت يدها على فرجها فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة فاستفتي مالك في ذلك فقال سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها فسألوها فقالت قلت طالما عصى هذا الفرج ربه فقال مالك هذا قذف اجلدوها ثمانين تتخلص يدها فجلدوها ذلك فخلصت يدها
فمن ثم قيل لا يفتى ومالك بالمدينة
( ولو تنازع أخوان ) مثلا ( أو زوجان ) في غسل ميت لهما ولا مرجح لأحدهما
( أقرع ) بينهما حتما فمن خرجت قرعته غسله لأن تقديم أحدهما ترجيح بلا مرجح
( والكافر أحق بقريبه الكافر ) في تجهيزه من قريبه المسلم لأنه وليه ولقوله تعالى { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } فإن لم يكن تولاه المسلم
( ويكره ) للمرأة ( الكفن المعصفر ) والمزعفر لما في ذلك من الزينة
وأما الرجل فقد مر في باب اللباس أنه يحرم على الرجل المزعفر دون المعصفر على خلاف في ذلك
وحينئذ فإطلاق كلام المصنف كراهة المعصفر للرجال والنساء صحيح وأما المزعفر فإنه
____________________
(1/358)
يكره في حق المرأة بطريق الأولى وأما الرجل فيحرم كما علم من قوله فيما مضى يكفن بما له لبسه حيا
( و ) تكره ( المغالاة فيه ) أي الكفن بارتفاع ثمنه لقوله صلى الله عليه وسلم لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا رواه أبو داود
واحترز بالمغالاة عن تحسينه في بياضه ونظافته وسبوغه فإنها مستحبة لما في مسلم إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه أي يتخذه أبيض نظيفا سابغا
وفي كامل ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتزاورون في قبورهم
( و ) الملبوس ( المغسول ) بأن يكفن فيه الميت ( أولى من الجديد ) لأنه للصديد والحي أحق بالجديد فقد روى البخاري أن الصديق رضي الله عنه أوصى أن يكفن في ثوبه الخلق وزيادة ثوبين وقال الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للصديد
وقيل الجديد أولى لحديث مسلم السابق
وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية جدد قال الأذرعي وهو الأصح مذهبا ودليلا
( و ) الصغير ( الصبي ) أو الصبية أو الخنثى ( كبالغ في تكفينه بأثواب ) ثلاثة تشبيها له بالبالغ
وأشار بقوله بأثواب إلى أن هذا بالنسبة إلى العدد لا في جنس ما يكفن فيه لأن ذلك تقدم في قوله يكن بماله لبسه حيا
( والحنوط ) بفتح الحاء أي ذره كما مر ( مستحب ) لا واجب كما لا يجب الطيب للمفلس وإن وجبت كسوته ( وقيل واجب ) كالكفر للأمر به
( ولا يحمل الجنازة إلا الرجال ) ندبا ( وإن كان ) الميت ( أنثى ) لأن النساء يضعفن عن الحمل فيكره لهن فإن لم يوجد غيرهن تعين عليهن
( ويحرم حملها على هيئة مزرية ) كحملها في غرارة أو قفة وحمل الكبير على اليد أو الكتف من غير نعش بخلاف الصغير
( وهيئة يخاف منها سقوطها ) لأنه تعريض لإهانته
قال في المجموع ويحمل على سرير أو لوح أو محمل وأي شيء حمل عليه أجزأ وإن خيف تغيره وانفجاره قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه فلا بأس أن يحمل على الأيدي والرقاب للحاجة حتى يوصل إلى القبر
( ويندب للمرأة ما يسترها كتابوت ) وهو سرير فوقه خيمة أو قبة أو مكبة لأن ذلك أستر لها
وأول من فعل له ذلك زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قد رأته بالحبشة لما هاجرت وأوصت به
ومثلها الخنثى
( ولا يكره الركوب ) أي لا بأس به ( في الرجوع منها ) لأنه صلى الله عليه وسلم ركب فرسا معرورى لما رجع من جنازة أبي الدحداح رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة
وأما في الذهاب فتقدم أنه يكره إلا لعذر كعبد المكان أو ضعف
( ولا بأس باتباع المسلم ) بتشديد المثناة ( جنازة قريبه الكافر ) لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا رضي الله تعالى عنه أن يواري أبا طالب كما رواه أبو داود
قال الإسنوي كذا استدل به المصنف وغيره وليس فيه دليل على مطلق القرابة لأن عليا كان يجب عليه ذلك كما يجب عليه القيام بمؤنته في حال الحياة اه
وقد يفهم كلام المصنف تحريم اتباع المسلم جنازة الكافر غير القريب وبه صرح الشاشي
قال الأذرعي ولا يبعد إلحاق الزوجة والمملوك بالقريب وهل يلحق به الجار كما في العيادة فيه نظر اه
والظاهر الإلحاق
ويجوز للمسلم زيارة قبر قريبه الكافر عند الأكثرين وقال الماوردي لا يجوز لقوله تعالى { ولا تقم على قبره }
قال في المجموع وهذا غلط فالأكثرون قطعوا بالجواز أي فيكون مكروها
( ويكره اللغط ) بفتح الغين وسكونها وهو ارتفاع الأصوات
( في ) السير مع ( الجنازة ) لما رواه البيهقي من أن الصحابة كرهوا رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال وعند الذكر
قال في المجموع والمختار بل الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة
ولا يرفع صوته بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما بل يشتغل بالتفكر في الموت وما يتعلق به
وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام يجب إنكاره وكره الحسن وغيره قولهم استغفروا لأخيكم وسمع ابن عمر قائلا يقول استغفروا له غفر الله لكم فقال لا غفر الله لك رواه سعيد بن منصور في سننه
( و ) يكره ( إتباعها ) بسكون المثناة الفوقية ( بنار )
____________________
(1/359)
في مجمرة أو غيره لما فيه من التفاؤل القبيح ولخبر أبي داود لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار
وقال الشيخ نصر لا يجوز أن يحمل معها المجامر والنار فإن أراد التحريم فشاذ فقد نقل ابن المنذر الإجماع على الكراهة وفعل ذلك عند القبر مكروه أيضا كما في المجموع
( ولو اختلط ) من يصلى عليه بغيره ولم يتميز كما لو اختلط ( مسلمون ) أو واحد منهم ( بكفار ) وتعذر التمييز أو غير شهيد بشهيد أو سقط يصلى عليه بسقط لا يصلى عليه ( وجب ) للخروج عن الواجب ( غسل الجميع ) وتكفينهم ( والصلاة ) عليهم ودفنهم إذ لا يتم الواجب إلا بذلك
فإن قيل يعارض ذلك بأن الصلاة على الفريق الآخر محرمة ولا يتم ترك المحرم إلا بترك الواجب
أجيب بأن الصلاة في الحقيقة ليست على الفريق الآخر كما يعلم من قول المصنف
( فإن شاء صلى على الجميع ) دفعة ( بقصد المسلمين ) منهم في الأولى وغير الشهيد في الثانية وبقصد السقط الذي يصلى عليه في الثالثة
( وهو الأفضل والمنصوص ) لأنه ليس فيه صلاة على غير من لم يصل عليه والنية جازمة
( أو على واحد فواحد ناويا الصلاة عليه إن كان ) ممن يصلى عليه كأن يقول في الأولى إن كان ( مسلما ) وفي الثانية إن كان غير شهيد وفي الثالثة إن كان هو الذي يصلى عليه
( ويقول ) في الأولى ( اللهم اغفر له إن كان مسلما ) ولا يحتاج إلى ذلك في الثانية ولا الثالثة لانتفاء المحذور وهو الدعاء للكافر بالمغفرة ويعذر في تردد النية للضرورة كمن نسي صلاة من الخمس
وهذا التخيير متفق عليه لكن محله كما قاله بعض المتأخرين ما إذا لم يحصل بالإفراد تغير أو انفجار وإلا فالوجه تعين الجمع بصلاة واحدة
وإن كان التأخير إلى اجتماعهم يؤدي إلى تغير أحدهم تعين إفراد كل بصلاة ويدفنون في المسألة الأولى بين مقابر المسلمين ومقابر الكفار
( ويشترط لصحة الصلاة ) على الجنازة زائدا على ما تقدم في فصل صلاتها شرطان أشار إلى أحدهما بقوله ( تقدم غسله ) أو تيممه بشرطه لأنه المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الصلاة على الميت كصلاة نفسه
( وتكره ) الصلاة عليه ( قبل تكفينه ) كما قاله في زوائد الروضة أيضا واستشكل لأن المعنيين السابقين موجودان فيه
قال السبكي فالقول بأن الغسل شرط دون التكفين يحتاج إلى دليل اه
وربما يقال إن ترك الستر أخف من ترك الطهارة بدليل لزوم القضاء في الثاني دون الأول
( فلو مات بهدم ونحوه ) كأن وقع في بئر أو بحر عميق ( وتعذر إخراجه وغسله ) وتيممه ( لم يصل عليه ) لفوات الشرط كما نقله الشيخان عن المتولي وأقراه وقال في المجموع لا خلاف فيه
قال بعض المتأخرين ولا وجه لترك الصلاة عليه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور لما صح وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولأن المقصود من هذه الصلاة الدعاء والشفاعة للميت
وجزم الدارمي وغيره أن من تعذر غسله صلي عليه قال الدارمي وإلا لزم أن من أحرق فصار رمادا أو أكله سبع لم يصل عليه ولا أعلم أحدا من أصحابنا قال بذلك
وبسط الأذرعي الكلام في المسألة
والقلب إلى ما قاله بعض المتأخرين أميل لكن الذي تلقيناه عن مشايخنا ما في المتن
ثم أشار إلى الشرط الثاني بقوله ويشترط أن لا يتقدم على الجنازة الحاضرة ) إذا صلى عليها ( و ) أن ( لا ) يتقدم على ( القبر ) إذا صلى عليه ( على المذهب فيهما ) اتباعا لما جرى عليه الأولون ولأن الميت كالإمام
والثاني يجوز التقدم عليهما لأن الميت ليس بإمام متبوع حتى يتعين تقديمه بل هو كعبد جاء معه جماعة يستغفرون له عند مولاه
واحترز بالحاضرة عن الغائبة عن البلد فإنه يصلى عليها كما مر وإن كانت خلف ظهره
تنبيه إنما عبر بالمذهب لأن في المسألة على ما تلخص من كلامه طريقين أصحهما أنها على القولين في تقدم المأموم على إمامه والثاني القطع بالجواز
ويشترط أيضا أن يجمعهما مكان واحد
____________________
(1/360)
كما قاله الأذرعي وأن لا يزيد ما بينهما في غير المسجد على ثلثمائة ذراع تقريبا تنزيلا للميت منزلة الإمام
( وتجوز ) بلا كراهة بل يستحب كما في المجموع ( الصلاة عليه ) أي الميت ( في المسجد ) إن لم يخش تلويثه لأنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء كما رواه مسلم فالصلاة عليه في المسجد أفضل لذلك ولأنه أشرف
قال في زيادة الروضة وأما حديث من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له فضعيف صرح بضعفه أحمد وابن المنذر والبيهقي وأيضا الرواية المشهورة فلا شيء عليه
أما إذا خيف منه تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله
( ويسن جعل صفوفهم ) أي المصلين على الميت ( ثلاثة فأكثر ) لحديث صححه الحاكم من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد وجبت أي حصلت له المغفرة
وفي رواية فقد غفر له وفي مسلم ما من مسلم يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه إلا شفعوا فيه
وهنا فضيلة الصف الأول وفضيلة غيره سواء بخلاف بقية الصلوات للنص على كثرة الصفوف هنا
فرع قال في البحر يتأكد استحباب الصلاة على من مات في وقت فضيلة كيوم عرفة والعيد ويوم الجمعة وحضور دفنه فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن من مات ليلة الجمعة ودفن في يومها وقي فتنة القبر
( وإذا صلي عليه ) أي الميت ( فحضر من ) أي شخص ( لم يصل ) عليه ( صلى ) عليه ندبا لأنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبور جماعة ومعلوم أنهم إنما دفنوا بعد الصلاة عليهم
وتقع هذه الصلاة فرضا كالأولى سواء أكانت قبل الدفن أم بعده فينوى بها الفرض كما في المجموع عن المتولي ويثاب ثوابه
( ومن صلى ) على ميت منفردا أو في جماعة ( لا يعيد ) ها أي لا يسن له إعادتها ( على الصحيح ) لأن الجنازة لا يتنفل بها والثانية تقع نفلا
نعم فاقد الطهورين إذا صلى ثم وجد ماء يتطهر به فإنه يعيد كما أفتى به القفال
والثاني يسن إعادتها في جماعة سواء أصلى منفردا أم في جماعة كغيرها من الصلوات
والثالث إن صلى منفردا ثم وجد جماعة سن له الإعادة معهم لحيازة فضيلتها وإلا فلا
والرابع تكره إعادتها
والخامس تحرم
وعلى الأول لو صلى ثانيا صحت صلاته نفلا على الصحيح في المجموع
وهذه خارجة عن القياس لأن الصلاة إذا لم تكن مطلوبة لا تنعقد بل قيل إن هذه تقع فرضا كصلاة الطائفة الثانية ولعل وجه ذلك أنه لما كان القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت والشفاعة له صحت دون غيرها
وأما من لم يصل فتقع صلاته فرضا لأن هذه الصلاة لا يتنفل بها كما مر
فإن قيل قد سقط الفرض بالأولى فلا تقع الثانية فرضا
أجيب بأن الساقط بالأولى عن الباقين حرج الفرض لا هو وقد يكون ابتداء الشيء غير فرض وبالدخول فيه يصير فرضا كحج التطوع وأحد خصال الواجب المخير
وقد أوضح ذلك السبكي رحمه الله تعالى فقال فرض الكفاية إذا لم يتم به المقصود بل تتجدد مصلحته بتكرر الفاعلين كتعلم العلم وحفظ القرآن وصلاة الجنازة إذ مقصودها الشفاعة لا يسقط بفعل البعض وإن سقطا لحرج وليس كل فرض يأثم بتركه مطلقا
( ولا تؤخر ) الصلاة ( لزيادة مصلين ) للخبر الصحيح أسرعوا بالجنازة ولا بأس بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت
تنبيه شمل كلامه صورتين إحداهما إذا حضر جمع قليل قبل الصلاة لا ينتظر غيرهم ليكثروا
نعم قال الزركشي وغيره إذا كانوا دون أربعين فينتظر كما لهم عن قرب لأن هذا العدد مطلوب فيها
وفي مسلم عن ابن عباس أنه كان يؤخر الصلاة للأربعين قيل وحكمته أنه لم يجتمع أربعون إلا كان لله فيهم ولي وحكم المائة كالأربعين كما يؤخذ من الحديث المتقدم
والصورة الثانية إذا صلى عليه من يسقط به الفرض لا تنتظر جماعة أخرى ليصلوا عليه صلاة أخرى بل يصلون على القبر نص عليه الشافعي لأن الإسراع بالدفن حق للميت والصلاة لا تتفوت بالدفن
( وقاتل نفسه ) حكمه ( كغيره في ) وجوب ( الغسل ) له ( والصلاة ) عليه لقوله صلى الله عليه وسلم الصلاة واجبة على كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر رواه البيهقي وقال هو أصح ما في الباب إلا أن فيه إرسالا والمرسل حجة إذا اعتضد بأحد أمور منها قول أكثر أهل العلم وهو موجود هنا
وأما ما رواه مسلم من أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي
____________________
(1/361)
قتل نفسه فحمله الجمهور على الزجر عن مثل فعله وصلت عليه الصحابة لئلا يرتكب الناس ما ارتكب
وأجاب ابن حبان عنه في صحيحه بأنه منسوخ
فائدة روى أحمد في الزهد عن منذر بن جندب أن ولدا له اعتل من كثرة الأكل فقال إن مات لم أصل عليه لأنه مات عاصيا
( ولو نوى الإمام صلاة غائب و ) نوى ( المأموم صلاة حاضر أو عكس ) كل منهما ( جاز ) ذلك لأن اختلاف نيتهما لا تضر كما لو صلى الظهر وراء مصلي العصر ومثل ذلك ما لو نوى الإمام حاضرا أو غائبا والمأموم حاضرا أو غائبا آخر فالحاصل أربع مسائل
ولو قال المصنف ولو نوى المأموم الصلاة على غير ما نواه الإمام لشمل الأربع
( والدفن في المقبرة أفضل ) منه بغيرها لما يلحقه من دعاء الزوار والمارين ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أهله وأصحابه بالبقيع
وفي فتاوى القفال أن الدفن بالبيت مكروه قال الأذرعي إلا أن تدعو إليه حاجة أو مصلحة
على أن المشهور أنه خلاف الأولى لا مكروه وأما دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته فلأن الله تعالى لم يقبض نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه
واستثنى الأذرعي وغيره الشهيد فيسن دفنه حيث قتل لحديث فيه ويسن الدفن في أفضل مقبرة بالبلد كالمقبرة المشهورة بالصالحين
ولو قال بعض الورثة يدفن في ملكي أو في أرض التركة والباقون في المقبرة أجيب طالبها
فإن دفنه بعض الورثة في أرض نفسه لم ينقل أو في أرض التركة فللباقين لا للمشتري نقله والأولى تركه وله الخيار إن جهل والدفن له إن بلي الميت أو نقل منه
وإن تنازعوا في مقبرتين ولم يوص الميت بشيء قال ابن الأستاذ إن كان الميت رجلا أجيب المقدم في الصلاة والغسل فإن استووا أقرع وإن كانت امرأة أجيب القريب دون الزوج وهذا كما قال الأذرعي محله عند استواء التربتين وإلا فيجب أن ينظر إلى ما هو أصلح للميت فيجاب الداعي إليه كما لو كانت إحداهما أقرب أو أصلح أو مجاورة الأخيار والأخرى بالضد من ذلك بل لو اتفقوا على خلاف الأصلح منعهم الحاكم من ذلك لأجل الميت
ولو تنازع الأب والأم في دفن ولد فقال كل منهما أنا أدفنه في تربتي فالظاهر كما قال بعض المتأخرين إجابة الأب
ولو كانت المقبرة مغصوبة أو اشتراها ظالم بمال خبيث ثم سبلها أو كان أهلها أهل بدعة أو فسق أو كانت تربتها فاسدة لملوحة أو نحوها أو كان نقل الميت إليها يؤدي إلى انفجاره فالأفضل اجتنابها بل يجب في بعض ذلك كما هو ظاهر
ولو مات شخص في سفينة وأمكن من هناك دفنه لكونهم قرب البر ولا مانع لزمهم التأخير ليدفنوه فيه وإلا جعل بين لوحين لئلا ينتفخ وألقي لينبذه البحر إلى من لعله يدفنه ولو ثقل بشيء لينزل إلى القرار لم يأثموا
وإذا ألقوه بين لوحين أو في البحر وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه والصلاة عليه بلا خلاف
ولا يجوز دفن مسلم في مقبرة الكفار ولا عكسه وإذا اختلطوا دفنوا في مقبرة مستقلة كما مر
ومقبرة أهل الحرب إذا اندرست جاز أن تجعل مقبرة للمسلمين ومسجدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك
ولو حفر شخص قبرا في مقبرة لا يكون أحق به من ميت آخر يحضر لأنه لا يدري بأي أرض يموت لكن الأولى أن لا يزاحم عليه
( ويكره المبيت بها ) أي المقبرة لما فيها من الوحشة وربما رأى ما يزيل عقله
وفي كلامه ما يشعر بعدم الكراهة في القبر المفرد قال الإسنوي وفيه احتمال وقد يفرق بين أن يكون بصحراء أو في بيت مسكون اه
والتفرق أظهر بل كثير من الترب مسكونة فينبغي أن لا يكره فيها
ويؤخذ من التعليل أن الكلام فيما إذا كان منفردا وأما إذا كانوا جماعة كما يقع الآن كثيرا في البيات ليلة الجمعة لقراء قرآن أو زيارة فلا كراهة في ذلك
( ويندب ستر القبر بثوب ) عند إدخال الميت فيه ( وإن كان ) الميت ( رجلا ) لأنه صلى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ ولأنه أستر لما عساه أن ينكشف مما كان يجب ستره
وهو للأنثى آكد منه لغيرها بل قيل يختص الستر بها وهو ظاهر النص وللخنثى آكد من الرجل كما في الحياة
( و ) يندب ( أن يقول ) الذي يدخله القبر ( بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) للاتباع كما رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم
____________________
(1/362)
وفي رواية سنة بدل ملة
ويسن أن يزيد من الدعاء ما يناسب الحال
( ولا يفرش تحته ) في القبر ( شيء ) من الفراش ( ولا ) يوضع تحت رأسه ( مخدة ) بكسر الميم جمعها مخاد بفتحها سميت بذلك لكونها آلة لوضع الخد عليها أي يكره ذلك لأنه إضاعة مال بل يوضع بدلها حجر أو لبنة ويفضي بخده إليه أو إلى التراب كما مرت الإشارة إليه
وفي سنن البيهقي عن أبي موسى الأشعري أنه لما احتضر أوصى أن لا يجعلوا في لحده شيئا يحول بينه وبين التراب
وأوصى عمر أنهم إذا أنزلوه القبر يفضوا بخده إلى الأرض
وقال البغوي لا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء لأنه جعل في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء
وأجاب الأصحاب بأن ذلك لم يكن صادرا عن جملة الصحابة ولا برضاهم وإنما فعله شقران كراهية أن يلبسها أحد بعده صلى الله عليه وسلم وفي الاستيعاب أن تلك القطيفة أخرجت قبل أن يهال التراب
تنبيه لو عبر المصنف بقوله ولا يتخذ له فراش ولا مخدة لاستغنى عما قدرته لأن المخدة إن دخلت فيما يفرش تحته فقد دخلت في لفظ الشيء وإن لم تدخل فيه وهو الصواب لم يبق لها عامل يرفعها
( ويكره دفنه في تابوت ) بالإجماع لأنه بدعة ( إلا في أرض ندية ) بسكون الدال وتخفيف التحتية ( أو رخوة ) وهي بكسر الراء أفصح من فتحها ضد الشديدة فلا يكره للمصلحة ولا تنفذ وصيته به إلا في هذه الحالة
ومثل ذلك ما إذا كان في الميت تهرية بحريق أو لذع بحيث لا يضبطه إلا التابوت أو كانت امرأة لا محرم لها كما قاله المتولي لئلا يمسها الأجانب عند الدفن أو غيره
وألحق في الوسيط بذلك دفنه في أرض مسبعة بحيث لا يصونه من نبشها إلا التابوت
( ويجوز ) بلا كراهة ( الدفن ليلا ) لأن عائشة و فاطمة والخلفاء الراشدين ما عدا عليا رضي الله تعالى عنهم دفنوا ليلا وقد فعله صلى الله عليه وسلم كما صححه الحاكم
ولا يخفى أن الكلام في موتى المسلمين أما أهل الذمة فإنهم لا يمكنون من إخراج جنائزهم نهارا وعلى الإمام منعهم من ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الجزية
( و ) كذا يجوز ( وقت كراهة الصلاة ) بلا كراهة بالإجماع لأن له سببا متقدما أو مقارنا وهو الموت
( ما لم يتحره ) فإن تحراه كره كما في المجموع واقتضاه كلام الروضة وإن اقتضى المتن عدم الجواز وجرى عليه شيخنا في شرح منهجه
ويمكن حمله على عدم الجواز المستوي الطرفين وعلى الكراهة حمل خبر مسلم عن عقبة بن عامر ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيهن وأن نقبر فيهن موتانا
وذكر وقت الاستواء والطلوع والغروب
وظاهر الخبر أنه لا يكره تحري الدفن في الوقتين المتعلقين بالفعل وهما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر
وجرى على ذلك الإسنوي وصوب في الخادم كراهة تحري الأوقات كلها وهو الظاهر
( وغيرهما ) أي الليل ووقت الكراهة ( أفضل ) أي فاضل بشرط أن يخاف من تأخيره إلى غيرهما تغيرا لسهولة الاجتماع والوضع في القبر قال الإسنوي وما ذكر من تفضيل غير أوقات الكراهة عليها لم يتعرض له في الروضة ولا في المجموع ولا تتجه صحته فإن المبادرة مستحبة اه
ويرد ذلك الشرط المتقدم
ولو عبر بقوله والسنة وغيرهما لاستغنى عن التأويل المذكور
فرع يحصل من الأجر بالصلاة على الميت المسبوقة بالحضور معه قيراط ويحصل منه والحضور معه إلى تمام الدفن لا للمواراة فقط قيراطان لخبر الصحيحين من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط من شهدها حتى تدفن وفي رواية البخاري حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان
قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين
ولمسلم أصغرهما مثل أحد وعلى ذلك تحمل رواية مسلم حتى يوضع في اللحد
وهل ذلك بقيراط الصلاة أو بدونه فيكون ثلاثة قراريط فيه احتمال لكن في صحيح البخاري في كتب الإيمان التصريح بالأول ويشهد للثاني ما رواه الطبراني مرفوعا من شيع جنازة حتى يقضى دفنها كتب له ثلاثة قراريط
وبما تقرر علم أنه لو صلي عليه ثم حضر وحده ومكث حين دفن لم يحصل له القيراط الثاني كما صرح به في المجموع وغيره لكن له أجر في الجملة ولو تعددت الجنائز واتحدت الصلاة عليها دفعة واحدة هل يتعدد القيراط بتعددها أو لا نظرا لاتحاد الصلاة قال الأذرعي الظاهر التعدد
____________________
(1/363)
وبه أجاب قاضي حماه البارزي وهو ظاهر
( ويكره تجصيص القبر ) أي تبييضه بالجص وهو من الجبس وقيل الجير والمراد هنا هما أو أحدهما
( والبناء ) عليه كقبة أو بيت للنهي عنهما في صحيح مسلم
وخرج بتجصيصه تطيينه فإنه لا بأس به كما نص عليه
وقال في المجموع إنه الصحيح وإن خالف الإمام و الغزالي في ذلك فجعلاه كالتجصيص
( والكتابة عليه ) سواءا أكتب اسم صاحبه أم غيره في لوح عند رأسه أم في غيره للنهي عنه رواه الترمذي وقال حسن صحيح
قال الأذرعي هكذا أطلقوه والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن على القبر لتعرضه للدوس عليه والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة اه لكن هذا غير محقق فالمعتمد إطلاق الأصحاب
ويكره أن يجعل على القبر مظلة لأن عمر رضي الله تعالى عنه رأى قبة فنحاها وقال دعوه يظله عمله
وفي البخاري لما مات الحسن بن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحا يقول ألا هل وجدوا ما فقدوا فأجابه آخر بل يئسوا فانقلبوا
ويكره تقبيل التابوت الذي يجعل على القبر كما يكره تقبيل القبر واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء فإن هذا كله من البدع التي ارتكبها الناس { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }
( ولو بني ) عليه ( في مقبرة مسبلة ) وهي التي جرت عادة أهل البلد بالدفن فيها ( هدم ) البناء لأنه يضيق على الناس ولا فرق بين أن يبني قبة أو بيتا أو مسجدا أو غير ذلك
ومن المسبل كما قال الدميري وغيره قرافة مصر فإن ابن عبد الحكم ذكر في تاريخ مصر أن عمرو بن العاص أعطاه المقوقس فيها مالا جزيلا وذكر أنه وجد في الكتاب الأول أنها تربة الجنة فكاتب عمر بن الخطاب في ذلك فكتب إليه إني لا أعرف تربة الجنة إلا لأجساد المؤمنين فاجعلوها لموتاكم وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها
تنبيه ظاهر كلامه أن البناء في المقبرة المسبلة مكروه ولكن يهدم
فإنه أطلق في البناء وفصل في الهدم بين المسبلة وغيرها إذ لا يمكن حمل كلامه في الكراهة على التحريم لفساده لأن التجصيص والكتابة والبناء في غير المسبلة لا حرمة فيه فيتعين أن يكون كراهة تنزيه
ولكنه صرح في المجموع وغيره بتحريم البناء فيها وهو المعتمد فلو صرح به هنا كان أولى
فإن قيل يؤخذ من قوله هدم الحرمة
أجيب بالمنع فقد قال في الروضة في آخر شروط الصلاة إن غرس الشجرة في المسجد مكروه قال فإن غرست قطعت
وجمع بعضهم بين كلامي المصنف بحمل الكراهة على ما إذا بنى على القبر خاصة بحيث يكون البناء واقعا في حريم القبر والحرمة على ما إذا بنى على القبر قبة أو بيتا يسكن فيه والمعتمد الحرمة مطلقا
( ويندب أن يرش القبر بماء ) لأنه صلى الله عليه وسلم فعله بقبر ولده إبراهيم رواه أبو داود في مراسيله وتفاؤلا بالرحمة وتبريد المضجع الميت ولأن فيه حفظا للتراب أن يتناثر
قال الأذرعي الأولى أن يكون طهورا باردا والظاهر كراهته بالنجس أو تحريمه اه
والذي ينبغي الكراهة وأما التحريم ففي غاية البعد
وخرج بالماء من الورد فالرش به مكروه كما في زيادة الروضة لأنه إضاعة مال
قال الإسنوي ولو قيل بتحريمه لم يبعد وقال السبكي لا بأس باليسير منه إذا قصد به حضور الملائكة لأنها تحب الرائحة الطيبة ولعل هذا هو مانع الحرمة من إضاعة المال
ويكره أيضا أن يطلى بالخلوق
( ويوضع عليه حصى ) لما رواه الشافعي مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم وضعه على قبر ابنه إبراهيم وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت وقال إنها لا تضر ولا تنفع وإن العبد إذا عمل شيئا أحب الله منه أن يتقنه
ويسن أيضا وضع الجريد الأخضر على القبر وكذا الريحان ونحوه من الشيء الرطب
ولا يجوز للغير أخذه من على القبر قبل يبسه لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته وهو الاستغفار
( و ) أن يوضع ( عند رأسه حجر أو خشبة ) أو نحو ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال أتعلم بها قبر أخي لأدفن إليه من مات من أهلي رواه أبو داود وعن الماوردي استحباب ذلك عند رجليه أيضا
( و ) يندب ( جمع الأقارب ) للميت ( في موضع ) واحد من المقبرة لأنه أسهل على الزائر
قال البندنيجي ويسن أن يقدم الأب
____________________
(1/364)
إلى القبلة ثم الأسن فالأسن على الترتيب المذكور فيما إذا دفنوا في قبر واحد كما قاله غيره
ويتجه كما قال الدميري إلحاق الزوجين والعتقاء والأصدقاء بالأقارب
( و ) يندب ( زيارة القبور ) التي فيها المسلمون ( للرجال ) بالإجماع
وكانت زيارتها منهيا عنها ثم نسخت لقوله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تدخل النساء في ضمير الرجال على المختار
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا بكم إن شاء الله لاحقون
اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد وروي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت
وإنما نهاهم أولا لقرب عهدهم بالجاهلية فلما استقرت قواعد الإسلام واشتهرت أمرهم بها
وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه ما حاصله أنه من كان يستحب له زيارته في حياته من قريب أو صاحب فيسن له زيارته في الموت كما في حال الحياة وأما غيرهم فيسن له زيارته إن قصد بها تذكر الموت أو الترحم عليه ونحو ذلك
قال الإسنوي وهو حسن وذكر في البحر نحوه
قال الأذرعي والأشبه أن موضع الندب إذا لم يكن في ذلك سفر لزيارة القبور فقط بل في كلام الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز السفر لذلك واستثنى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم ولعل مراده أنه لا يجوز جوازا مستوي الطرفين أي فيكره
ويسن الوضوء لزيارة القبور كما قاله القاضي الحسين في شرح الفروع
أما قبور الكفار فزيارتها مباحة وإن جزم الماوردي بحرمتها
( وتكره ) زيارتها ( للنساء ) لأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن لما فيهن من رقة القلب وكثرة الجزع وقلة احتمال المصائب وإنما لم تحرم لأنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة على قبر تبكي على صبي لها فقال لها اتقي الله واصبري متفق عليه فلو كانت الزيارة حراما لنهى عنها
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كيف أقول يا رسول الله يعني إذا زرت القبور
قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون رواه مسلم
( وقيل تحرم ) لما روى ابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور وليس هذا الوجه في الروضة وبه قال صاحب المهذب وغيره
( وقيل تباح ) جزم به في الإحياء وصححه الروياني إذا أمن الافتنان عملا بالأصل والخبر فيما إذا ترتب عليها بكاء ونحو ذلك
ومحل هذه الأقوال في غير زيارة قبر سيد المرسلين أما زيارته فمن أعظم القربات للرجال والنساء
وألحق الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء والصالحين والشهداء وهذا ظاهر وإن قال الأذرعي لم أره للمتقدمين
قال ابن شهبة فإن صح ذلك فينبغي أن يكون زيارة قبر أبويها وإخوتها وسائر أقاربها كذلك فإنهم أولى بالصلة من الصالحين اه
والأولى عدم إلحاقهم بهم لما تقدم من تعليل الكراهة
( ويسلم ) ندبا ( للزائر ) للقبور من المسلمين مستقبلا وجهه قائلا ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذا خرجوا للمقابر السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية أو السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون كما رواهما مسلم زاد أبو داود اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم لكن بسند ضعيف
وقوله إن شاء الله للتبرك ويجوز أن يكون للموت في تلك البقعة أو على الإسلام أو إن بمعنى إذ كقوله تعالى { وخافون إن كنتم مؤمنين }
وقوله دار أي أهل دار ونصبه على الاختصاص أو النداء ويجوز جره على البدل
والمشهور أنه يقول السلام عليكم وقال القاضي حسين و المتولي لا يقل السلام عليكم لأنهم ليسوا أهلا للخطاب بل يقول وعليكم السلام فقد ورد أن شخصا قال عليك السلام يا رسول الله فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى وأجاب الأول بأن هذا إخبار عن عادة العرب لا تعليم لهم
( ويقرأ ) عنده من القرآن ما تيسر وهو سنة في المقابر فإن الثواب للحاضرين والميت كحاضر يرجى له الرحمة
وفي ثواب القراءة للميت كلام يأتي إن شاء الله تعالى في الوصايا
( ويدعو ) له عقب القراءة رجاء الإجابة لأن الدعاء ينفع الميت وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة
وعند الدعاء يستقبل القبلة وإن قال الخراسانيون باستحباب استقبال وجه الميت
قال المصنف ويستحب الإكثار من الزيارة وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل
( ويحرم نقل الميت ) قبل أن يدفن من بلد موته ( إلى بلد آخر ) ليدفن
____________________
(1/365)
فيه وإن لم يتغير لما فيه من تأخير دفنه ومن التعريض لهتك حرمته
قال الإسنوي وتعبيرهم بالبلد لا يمكن الأخذ بظاهره بل الصحراء كذلك فحينئذ ينتظم منها مع البلد أربع مسائل من بلد لبلد من بلد لصحراء وعكسه ومن صحراء لصحراء
ولا شك في جوازه في البلدتين المتصلتين أو المتقاربتين لا سيما والعادة جارية بالدفن خارج البلد ولعل العبرة في كل بلدة بمسافة مقبرتها
أما بعد دفنه فسيأتي قريبا في مسألة نبشه
( وقيل ) أي قال البغوي وغيره ( يكره ) لأنه لم يرد على تحريمه دليل ( إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس نص عليه ) الشافعي رضي الله تعالى عنه لفضلها وحينئذ يكون الاستثناء عائدا إلى الكراهة ويلزم منه عدم الحرمة أو عائدا إليهما معا
قال الإسنوي وهو أولى على قاعدتنا في الاستثناء عقب الجمل والمعتبر في القرب مسافة لا يتغير فيها الميت قبل وصوله
والمراد بمكة جميع الحرم لا نفس البلد قال الزركشي وينبغي استثناء الشهيد لخبر جابر قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يدفنوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة رواه الترمذي وصححه اه
وتقدم ما يدل عليه
وقال المحب الطبري لا يبعد أن تلحق القرية التي فيها صالحون بالأماكن الثلاثة وذكر أنه لو أوصى بنقله من بلد موته إلى الأماكن الثلاثة لزم تنفيذ وصيته أي عند القرب وأمن التغيير لا مطلقا كما قاله الأذرعي
وإذا جاز النقل فينبغي كما قاله ابن شهبة أن يكون بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه لأن فرض ذلك قد تعلق بالبلد الذي مات فيه فلا يسقط الفرض عنهم بجواز النقل ولو مات سني في بلاد المبتدعة نقل إن لم يمكن إخفاء قبره وكذا لو مات أمير الجيش ونحوه بدار الحرب ولو دفناه ثم لم يخف عليهم ولو تعارض القرب من الأماكن المذكورة ودفنه بين أهله فالظاهر كما قاله بعض المتأخرين إذا الأول أولى
( ونبشه بعد دفنه ) وقبل البلى عند أهل الخبرة بتلك الأرض ( للنقل وغيره ) كصلاة عليه وتكفينه ( حرام ) لأن فيه هتكا لحرمته
( إلا لضرورة بأن دفن بلا غسل ) ولا تيمم بشرطه
وهو ممن يجب غسله لأنه واجب فاستدرك عند قربه فيجب على المشهور نبشه وغسله إن لم يتغير بنتن أو تقطع ثم يصلى عليه
وقيل ينبش ما بقي منه جزء وقيل لا ينبش مطلقا بل يكره للهتك
ولو قال كأن دفن كان أولى لئلا يتوهم الحصر في الصور المذكورة وسأنبه على شيء مما تركه
( أو ) دفن ( في أرض أو ) في ( ثوب مغصوبين ) وطالب بهما مالكهما فيجب النبش ولو تغير الميت وإن كان فيه هتك حرمة الميت ليصل المستحق إلى حقه
ويسن لصاحبهما الترك ومحل النبش في الثوب إذا وجد ما يكفن فيه الميت وإلا فلا يجوز النبش كما اقتضاه كلام الشيخ أبي حامد وغيره بناء على أنا إذا لم نجد إلا ثوبا يؤخذ من مالكه قهرا ولا يدفن عريانا وهو ما في البحر وغيره وهو الأصح كما قاله الأذرعي
قال الرافعي والكفن الحرير كالمغصوب قال المصنف وفيه نظر وينبغي أن يقطع فيه بعدم النبش اه
وهذا هو المعتمد لأنه حق لله تعالى
( أو وقع فيه ) أي القبر ( مال ) وإن قل كخاتم فيجب نبشه وإن تغير الميت لأن تركه فيه إضاعة مال
وقيده في المهذب بطلب مالكه وهو الذي يظهر اعتماده قياسا على الكفن والفرق بأن الكفن ضروري للميت لا يجدي
وأما قوله في المجموع ولم يوافقوه عليه فقد رد بموافقة صاحبي الانتصار والاستقصاء له
وقال الأذرعي لم يبين المصنف أن الكلام هنا في وجوب النبش أو جوازه ويحتمل أن يحمل كلام المطلقين على الجواز وكلام المهذب على الوجوب عند الطلب فلا يكون مخالفا لإطلاقهم اه
ولو بلع مالا لغيره وطلبه صاحبه كما في الروضة ولم يضمن مثله أو قيمته أحد من الورثة أو غيرهم كما في الروضة نبش وشق جوفه وأخرج منه ورد لصاحبه
قال في المجموع والتقييد بعدم الضمان غريب والمشهور للأصحاب إطلاق الشق من غير تقييد
قال الزركشي وفيما قاله نظر فقد حكى صاحب البحر الاستثناء عن الأصحاب وقال لا خلاف فيه وهذا هو الأوجه إلا إن ابتلع مال نفسه فلا ينبش ولا يشق لاستهلاكه ما له في حال حياته
( أو دفن
____________________
(1/366)
لغير القبلة ) فيجب نبشه ما لم يتغير ويوجه للقبلة استدراكا للواجب فإن تغير لم ينبش
( لا للتكفين في الأصح ) لأن غرض التكفين الستر وقد حصل بالتراب مع ما في النبش من الهتك
والثاني ينبش قياسا على الغسل بجامع الوجوب
تنبيه قد مر أن صور النبش لا تنحصر فيما قاله وقد ذكرت صورا زيادة عليه كما علم وبقي صور أخر منها ما لو دفنت امرأة في بطنها جنين ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر نبشت وشق جوفها وأخرج تداركا للواجب لأنه يجب شق جوفها قبل الدفن وإن لم ترج حياته لم تنبش فإن لم تكن دفنت تركت حتى يموت ثم تدفن
وقول التنبيه ترك عليه شيء حتى يموت وجه ضعيف نبهت عليه في شرحه
ومنها ما لو بشر بمولود فقال إن كان ذكرا فعبدي حر أو أنثى فأمتي حرة فمات المولود ودفن ولم يعلم حاله فينبش ليعتق من يستحق العتق
ومنها ما لو قال إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة أو أنثى فطلقتين فولدت ميتا فدفن وجهل حاله فالأصح من زوائد الروضة في الطلاق نبشه
ومنها ما لو ادعى شخص على ميت بعدما دفن أنه امرأته وطلب الإرث وادعت امرأة أنه زوجها وطلبت الإرث وأقام كل بينة فينبش فلو نبش فبان خنثى تعارضت البينة على الأصح وتوقف الميراث وقال العبادي في الطبقات إنه يقسم بينهما ومنها أن يلحقه سيل أو نداوة فينبش لينقل على الأصح في المجموع ومنها ما لو قال إن رزقني الله ولدا ذكرا فلله علي كذا ودفن قبل أن يعلم حاله فينبش لقطع النزاع
ومنها ما لو شهدا على شخصه ثم دفن واشتدت الحاجة ولم تتغير الصورة فينبش ليعرف ذكره الغزالي في الشهادات وسيأتي ما فيه
ومنها ما لو اختلفت الورثة في أن المدفون ذكر أم أنثى ليعلم كل من الورثة قدر حصته وتظهر ثمرة ذلك في المناسخات وغيرها
ومنها ما إذا تداعيا مولودا ودفن فإنه ينبش ليلحقه القائف بأحد المتداعيين
ومنها ما لو دفن الكافر في الحرم فينبش ويخرج أما بعد البلى عند أهل الخبرة فلا يحرم نبشه بل يحرم عمارته وتسوية التراب عليه إذا كان في مقبرة مسبلة لئلا يمتنع الناس من الدفن فيه لظنهم بذلك عدم البلى
قال الموفق حمزة الحمودي في مشكل الوسيط أن يكون المدفون صحابيا أو من اشتهرت ولايته فلا يجوز نبشه عند الانمحاق
قال ابن شهبة وقد يؤيده ما ذكره الشيخان في الوصايا أنه تجوز الوصية لعمارة قبور الأنبياء والصالحين لما فيه من إحياء الزيارة والتبرك فإن قضيته جواز عمارة قبور الصالحين مع جزمهما هنا بأنه إذا بلي الميت لم تجز عمارة قبره وتسوية التراب عليه في المقبرة المسبلة
( ويسن أن يقف جماعة بعد دفنه عند قبره ساعة يسألون له التثبيت ) لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل رواه البزار وقال الحاكم إنه صحيح الإسناد
وروى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال إذا دفنتموني فأقيموا بعد ذلك حول قبري ساعة قد ما تنحر جزور ويفرق لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع رسل ربي
ويسن تلقين الميت المكلف بعد الدفن فيقال له يا عبدالله ابن أمة الله أذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن البعث حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا
لحديث ورد فيه
قال في الروضة والحديث إن كان ضعيفا لكنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة ولم تزل الناس على العمل به من العصر الأول في زمن من يقتدى به وقد قال تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه الحالة ويقعد الملقن عند رأس القبر
أما غير المكلف وهو الطفل ونحوه ممن لم يتقدم له تكليف فلا يسن تلقينه لأنه لا يفتن في قبره
( و ) يسن ( لجيران أهله ) ولأقاربه الأباعد وإن كان الأهل بغير بلد الميت ( تهيئة طعام يشبعهم ) أي أهله الأقارب ( يومهم وليلتهم ) لقوله صلى الله عليه وسلم لما جاء خبر قتل جعفر اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم حسنه
____________________
(1/367)
الترمذي وصححه الحاكم ولأنه بر ومعروف
قال الإسنوي والتعبير باليوم والليلة واضح إذا مات في أوائل اليوم فلو مات في أواخره فقياسه أن يضم إلى ذلك الليلة الثانية أيضا لا سيما إذا تأخر الدفن عن تلك الليلة
( ويلح عليهم ) ندبا ( في الأكل ) منه إن احتيج إليه لئلا يضعفوا فربما تركوه استحياء أو لفرط الحزن ولا بأس بالقسم إذا عرف الحالف أنهم يبرون قسمه
( ويحرم تهيئته للنائحات ) والنادبات ( والله أعلم ) لأنها إعانة على معصية
قال ابن الصباغ وغيره أما إصلاح أهل الميت طعاما وجمع الناس عليه فبدعة غير مستحب روى أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله قال كنا نعد الاجتماع على أهل الميت وصنعهم الطعام النياحة
خاتمة صح أن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها فقيل المراد بالثياب العمل واستعمله أبو سعيد الخدري على ظاهره لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ومن قال بهذا يحتاج أن يجيب عن كونهم يحشرون عراة بأن البعث غير الحشر وصح أن موت الفجأة أخذة أسف وروي أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من موت الفجأة وروى المصنف عن أبي السكن الهجري أن إبراهيم وداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام ماتوا فجأة ويقال إنه موت الصالحين
وحمل الجمهور الأول على من له تعلقات يحتاج إلى الإيصاء والتوبة أما المتيقظون المستعدون فإنه تخفيف ورفق بهم
وعن ابن مسعود وعائشة أن موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة غضب للفاجر
كتاب الزكاة هي لغة النمو والبركة وزيادة الخير يقال زكا الزرع إذا نما وزكت النفقة إذا بورك فيها وفلان زاك أي كثير الخير وتطلق على التطهير قال تعالى { قد أفلح من زكاها } أي طهرها من الأدناس
وتطلق أيضا على المدح قال تعالى { فلا تزكوا أنفسكم } أي تمدحوها
وشرعا اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشرائط ستأتي
وسميت بذلك لأن المال ينمو ببركة إخراجها ودعاء الآخذ ولأنها تطهر مخرجها من الإثم وتمدحه حين تشهد له بصحة الإيمان
والأصل في وجوبها قبل الإجماع قوله تعالى { وآتوا الزكاة } وقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } وأخبار كخبر بني الإسلام على خمس وهي أحد أركان الإسلام لهذا الخبر يكفر جاحدها وإن أتى بها ويقاتل الممتنع من أدائها عليها وتؤخذ منه قهرا كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه
والكلام في الزكاة المجمع عليها أما المختلف فيها كزكاة التجارة والركاز وزكاة الثمار والزروع في الأرض الخراجية أو الزكاة في مال غير المكلف فلا يكفر جاحدها لاختلاف العلماء في وجوبها وفرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر
ووجبت الزكاة في خمسة أنواع الأول النعم وهي الإبل والبقر والغنم الأنسية الثاني المعشرات وهي القوت وهو ما يجب فيه العشر أو نصفه الثالث النقد وهو الذهب والفضة ولو غير مضروب فيشمل التبر الرابع التجارة الخامس الفطرة
وهذه لأنواع ثمانية أصناف من أجناس المال الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم الإنسية والزرع والنخل والكرم ولذلك وجبت لثمانية أصناف من طبقات الناس
ولما كانت الأنعام أكثر أموال العرب بدأ بها اقتداء بكتاب الصديق رضي الله تعالى عنه الآتي فقال باب زكاة الحيوان وبدأ منها بالإبل للبداءة بها في خبر أنس الآتي
ولزكاة الحيوان خمسة شروط الأول النعم كما قال ( إنما تجب ) الزكاة ( منه ) أي من الحيوان ( في النعم ) بالنص والإجماع ( وهي الإبل والبقر لأنها تتخذ للماء غالبا لكثرة منافعها
والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه يذكر ويؤنث قال تعالى { نسقيكم } والغنم ) الإنسية سميت نعما لكثرة نعم الله تعالى فيها على خلقه مما في بطونها
____________________
(1/368)
وفي موضع آخر { مما في بطونه } وجمعه أنعام وأنعام جمعه أناعم
فإن قيل لو حذف المصنف لفظة النعم كان أخصر وأسلم
أجيب بأنه أفاد بذكرها تسمية الثلاث نعما
( لا الخيل ) وهو مؤنث اسم جمع لا واحد له من لفظه يطلق على الذكر والأنثى وفي باب الأطعمة من التحرير أن واحده خائل كركب وراكب
قال الواحدي سميت خيلا لاختيالها في مشيها
( و ) لا ( الرقيق ) يطلق على الذكر وغيره وعلى الواحد والأكثر لحديث الشيخين ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة أي إذا لم يكونا للتجارة كما سيأتي
وأوجبها أبو حنيفة في إناث الخيل
( و ) لا ( المتولد من غنم وظباء ) بالمد جمع ظبي وهو الغزال وكذا كل متولد بين زكوي وغيره لأن الأصل عدم الوجوب
وقال أحمد تجب الزكاة في المتولد مطلقا و أبو حنيفة إن كانت الإناث غنما
أما المتولد من واحد من النعم ومن آخر منها كالمتولد بين إبل وبقر فقضية كلامهم أنها تجب فيه وقال الولي العراقي في مختصر المهمات ينبغي القطع به قال والظاهر أنه يزكى زكاة أخفهما فالمتولد بين الإبل والبقر يزكى زكاة البقر لأنه المتيقن
الشرط الثاني النصاب كما ذكره بقوله ( ولا شيء في الإبل حتى تبلغ خمسا ) والإبل بكسر الباء اسم جمع لا واحد له من لفظه وتسكن باؤه للتخفيف ويجمع على آبال كجمل وأجمال
فإذا بلغت خمسا ( ففيها شاة ) لحديث الصحيحين ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة
وإنما وجبت الشاة وإن كان وجوبها على خلاف الأصل للرفق بالفريقين لأن إيجاب البعير يضر بالمالك وإيجاب جزء من بعير وهو الخمس مضر به وبالفقراء
( وفي عشر شاتان و ) في ( خمس عشرة ثلاث ) من الشياه ( و ) ( عشرين أربع ) منها ( و ) في ( خمس وعشرين بنت مخاض و ) في ( ست وثلاثين بنت لبون و ) في ( ست وأربعين حقة و ) في ( إحدى وستين جذعة ) بالذال المعجمة ( و ) في ( ست وسبعين بنتا لبون و ) في ( إحدى وتسعين حقتان و ) في ( مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون ثم ) يستمر ذلك إلى مائة وثلاثين فيتغير الواجب فيها وفي كل عشر بعدها ف ( في كل أربعين بنت لبون و ) في ( كل خمسين حقة ) لما رواه البخاري عن أنس أن أبا بكر رضي الله تعالى عنهما كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين على الزكاة بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطه في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة
وفيه زيادة يأتي التنبيه عليها في محالها إن شاء الله تعالى إذ الصحيح جواز تفريق الحديث إذا لم يختل المعنى
قوله فرض أي قدر قولهلا يعطه أي الزائد بل يعطي الواجب فقط
وتقييد بنت المخاض واللبون بالأنثى وابن اللبون بالذكر تأكيد كما يقال رأيت بعيني وسمعت بأذني
وإنما لم يجعل
____________________
(1/369)
بعض الواحدة كالواحدة لبناء الزكاة على تغير واجبها بالأشخاص دون الأشقاص وفي أبي داود التصريح بالواحدة وفي رواية ابن عمر فهي مقيدة لخبر أنس
تنبيه قول المصنف ثم في كل أربعين إلخ قد يقتضي لولا ما قدرته أن استقامة الحساب بذلك إنما تكون فيما بعد مائة وإحدى وعشرين وليس مرادا بل يتغير الواجب بزيادة تسع ثم بزيادة عشر كما قررت به كلامه ولو أخرج بنتي لبون بدلا عن الحقة في ست وأربعين وأخرج حقتين أو بنتي لبون بدلا عن الجذعة في إحدى وستين جاز على الصحيح في زيادة الروضة لأنهما يجزئان عما زاد
( وبنت المخاض لها سنة ) وطعنت في الثانية سميت به لأن أمها بعد سنة من ولادتها آن لها أن تحمل مرة أخرى فتصير من المخاض أي الحوامل
( و ) بنت ( اللبون سنتان ) وطعنت في الثالثة سميت به لأن أمها آن لها أن تلد فتصير لبونا
( والحقة ) لها ( ثلاث ) وطعنت في الرابعة سميت به لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها ولأنها استحقت أن يطرقها الفحل واستحق الفحل أن يطرق
( والجذعة ) لها ( أربع ) وطعنت في الخامسة سميت به لأنها أجذعت مقدم أسنانها أي سقطته وقيل لتكامل أسنانها وقيل لأن أسنانها لا تسقط بعد ذلك قيل وهو غريب
وهذا آخر أسنان الزكاة واعتبر في الجميع الأنوثة لما فيها من رفق الدر والنسل ( والشاة ) الواجبة فيما دون خمس وعشرين من الإبل
( جذعة ضأن لها سنة ) أو أجذعت وإن لم يتم لها سنة كما قاله الرافعي في الأضحية ونزل ذلك منزلة البلوغ بالسن والاحتلام ولا فرق بين البابين كما قاله الأذرعي
( وقيل ) لها ( ستة أشهر أو ثنية معز لها سنتان وقيل ستة ) ووجه عدم إجزاء ما دون هذه السنين الإجماع
( والأصح ) وفي الروضة الصحيح ( أنه مخير بينهما ) أي الجذعة والثنية
( ولا يتعين غالب غنم البلد ) لخبر في كل خمس شاة والشاة تطلق على الضأن والمعز لكن لا يجوز الانتقال إلى غنم بلد آخر إلا بمثلها في القيمة أو خير منها والثاني يتعين غالب غنم البلد كما يتعين غالب قوت البلد في الكفارة ويشترط كون المخرج صحيحا وإن كانت الإبل مراضا
وظاهر كلام المجموع كونه كاملا وجزم به غيره وقيل يكفي كونه لائقا بحسب التقسيط فإن لم يوجد صحيح فرق دراهم بقدر قيمتها
( و ) الأصح ( أنه يجزىء الذكر ) أي الجزع من الضأن أو الثني من المعز كالأضحية وإن كانت الإبل إناثا لصدق اسم الشاة عليه والثاني لا يجزىء مطلقا نظرا إلى أن المراد الأنثى لما فيها من الدر والنسل والثالث يجزىء في الإبل الذكور دون الإناث
( وكذا ) الأصح أنه يجزىء ( بعير الزكاة عن دون خمس وعشرين ) أي عوضا عن الشاة الواحدة أو الشياه المتعددة وإن لم يساو قيمة الشاة لأنه يجزىء عن خمس وعشرين فعما دونها أولى
والثاني لا يجزىء بل لا بد في كل خمس من حيوان
والثالث لا يجزىء الناقص عن قيمة شاة في خمس وشاتين في عشر وهكذا
( تنبيه ) قولهبغير الزكاة من زيادة وأفادت إضافته إلى الزكاة اعتبار كونه أنثى بنت مخاض فما فوقها كما في المجموع وكونه مجزئا عن خمس وعشرين فإن لم يجز عنها لم يقبل بدل الشاة
وهل يقع البعير المخرج عن خمس كله فرضا وخمسة فيه وجهان ويجريان فيما إذا ذبح المتمتع بدنة أو بقرة بدل الشاة هل تقع كلها فرضا أو سبعها وفيمن مسح جميع رأسه في الوضوء وفيمن أطال الركوع والسجود زيادة على القدر الواجب ونحو ذلك
وصحح بعض المتأخرين أن ما لا يمكن فيه التمييز كبعير الزكاة أن الكل يقع فرضا وما أمكن كمسح الرأس يقع البعض فرضا والباقي نفلا واعتمده شيخي وهو ظاهر
والبعير يجمع على أبعرة وأباعر وبعران
( فإن عدم بنت المخاض ) بأن لم تكن في ملكه وقت الوجوب ( فابن لبون ) وإن كان أقل قيمة منها أو كان خنثى أو كان قادرا على شراء بنت مخاض لأنه جاء في رواية أبي داود فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر وقوله ذكر أراد به التأكيد لدفع توهم الغلط والخنثى
____________________
(1/370)
أولى ولو أراد أن يخرج الخنثى مع وجود الأنثى لم يجزه لاحتمال ذكورته
( و ) بنت المخاض ( المعيبة ) والمعضوبة العاجز عن تحصيلها والمرهونة بمؤجل أو بحال وعجز عن تحصيلها ( كمعدومة ) فيؤخذ عنها ما ذكر مع وجودها لأن المعيب غير مجزىء وما ذكر قبله غير قادر على تحصيله
( ولا يكلف ) أن يخرج بنت مخاض ( كريمة ) إذا كانت إبله مهازيل لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ إياك وكرائم أموالهم رواه الشيخان
أما إذا كانت ابله كلها كرائم فيلزمه إخراج كريمة كما في الروضة إذ لا تكليف
( لكن تمنع ) الكريمة عنده ( ابن لبون في الأصح ) لوجود بنت مخاض مجزئة في ماله
والثاني نص عليه في الأم يجوز إخراجه لأن إخراج الكريمة لا يجب فهي كالمعدومة
( ويؤخذ الحق ) بكسر الحاء المهملة ( عن بنت المخاض ) عند فقدها لأنه أولى من ابن اللبون وقيل لا يجزىء لأنه لا مدخل له في الزكوات
( لا ) عن بنت ( لبون ) عند فقدها أي فلا يجزىء عنها ( في الأصح ) وبه قطع الجمهور كما في أصل الروضة لأن زيادة سن ابن اللبون على بنت المخاض يوجب اختصاصه بقوة ورود الماء والشجر والامتناع من صغار السباع والتفاوت بين بنت اللبون والحق لا يوجب اختصاص الحق بهذه القوة بل هي موجودة فيهما جميعا
والثاني يجزىء لانجبار فضيلة الأنوثة بزيادة السن كابن اللبون عن بنت المخاض
وأجاب الأول بما تقدم وبورود النص ثم ولو عبر المصنف بالصحيح كان أولى لأن الخلاف ضعيف جدا
( ولو اتفق فرضان ) في الإبل ( كمائتي بعير ) ففيها أربع حقائق أو خمس بنات لبون كما قال ( فالمذهب لا يتعين أربع حقائق بل هن أو خمس بنات لبون ) لأن المائتين أربع خمسينات أو خمس أربعينات لحديث أبي داود وغيره عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقائق أو خمس بنات لبون أي السنين وجدت أخذت هذا هو الجديد
وفي قول تتعين الحقاق إذ النظر في زيادة الإبل إلى زيادة السن مهما أمكن
وقطع بعض الأصحاب بالجديد وحمل القديم على ما إذا لم يوجد عنده إلا الحقاق
واعلم أن لهذه المسألة خمسة أحوال لأنه إما أن يوجد عنده كل الواجب بكل الحسابين أو بأحدهما دون الآخر أو يوجد بعضه بكل منهما أو بأحدهما أو لا يوجد شيء منهما وكلها تعلم من كلامه
وقد شرع في بيان ذلك فقال ( فإن وجد ) على المذهب الجديد ( بماله أحدهما ) تاما مجزئا ( أخذ ) منه وإن كان المفقود أغبط وأمكن تحصيله للحديث السابق أو وجد شيء من الآخر إذ الناقص والمعيب كالمعدوم ولا يجوز الصعود ولا النزول مع الجبران لعدم الضرورة إليه
تنبيه قوله أخذ قد يقتضي أنه لو حصل المفقود ودفعه لا يؤخذ وعبارة الروضة والمحرر لا يكلف تحصيل الآخر وإن كان أغبط وهي تقتضي أنه لو حصل الآخر ودفعه أجزأه لا سيما إن كان أغبط وعليه يدل كلام جماعة منهم الإمام والغزالي وقاساه على الاكتفاء بابن لبون لفقد بنت مخاض وهذا هو الظاهر وإن صرح جماعة بخلافه وأن الواجب يتعين فيه
( وإلا ) أي وإن لم يوجد بماله أحدهما بصفة الإجزاء بأن لم يوجد شيء منها أو وجد بعض كل منهما أو بعض أحدهما أو وجدا أو أحدهما لا بصفة الإجزاء
( فله تحصيل ما شاء ) من النوعين كلا أو بعضا منهما بشراء أو غيره ولو غير أغبط لما في تعيين الأغبط من المشقة في تحصيله
( وقيل يجب ) تحصيل ( الأغبط للفقراء ) لأن استواءهما في العدم كاستوائهما في الوجود عند وجودهما يجب إخراج الأغبط كما سيأتي
تنبيه أشار بقوله فله إلى جواز تركهما معا وينزل أو يصعد مع الجبران فإن شاء جعل الحقاق أصلا وصعد إلى أربع جذاع فأخرجها وأخذ أربع جبرانات وإن شاء جعل بنات اللبون أصلا ونزل إلى خمس بنات مخاض فأخرجها ودفع معها خمس جبرانات وليس له جعل بنات اللبون أصلا ويصعد إلى خمس جذاع ويأخذ عشر جبرانات ولا جعل الحقاق أصلا وينزل إلى أربع بنات مخاض ويدفع ثمان جبرانات لكثرة الجبران مع إمكان تقليله وله فيما إذا وجد
____________________
(1/371)
بعض كل منهما كثلاث حقاق وأربع بنات لبون أن يجعل الحقاق أصلا فيدفعها مع بنت لبون وجبران أو يجعل بنات اللبون أصلا فيدفعها مع حقة ويأخذ جبرانا
وله دفع حقة مع ثلاث بنات لبون وثلاث جبرانات لإقامة الشرع بنت اللبون مع الجبران مقام حقة وله فيما إذا وجد بعض أحدهما كحقة دفعها مع ثلاث جذاع وأخذ ثلاث جبرانات
وله دفع خمس بنات مخاض مع دفع خمس جبرانات
( وإن وجدهما ) في ماله بصفة الإجزاء ( فالصحيح ) المنصوص وقول الجمهور ( تعين الأغبط ) لقوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولأن كل واحد فرضه لو انفرد ومبني الزكاة على النظر للمستحقين
والمراد بالأغبط الأنفع للمستحقين بزيادة قيمة أو غيرها وظاهر إطلاقه كأصله وغيره تعين الأغبط وإن كان من الكرام وهو كذلك وإن قال الأذرعي القياس جعلها كالمعدومة حتى يخرج من غير الأغبط والثاني خرجه ابن سريج إن كان يخرج عن محجور عليه فيعتبر غير الأغبط وإن أخرج عن نفسه تخير بينهما كما لو لم يكونا عنده
( ولا يجزىء ) على الأول ( غيره ) أي الأغبط ( إن دلس ) الدافع في إعطائه بأن أخفى الأغبط ( أو قصر الساعي ) في أخذه بأن علم الحال أو أخذ من غير اجتهاد ونظر أن الأغبط ماذا فيلزم الدافع إخراج الأغبط وعلى الساعي رد ما أخذه إن كان باقيا وقيمته إن كان تالفا
( وإلا ) أي وإن لم يدلس الدافع ولم يقصر الساعي ( فيجزىء ) عن الزكاة أي فيحسب عنها للمشقة الحاصلة في الرد وليس المراد أنه يكفي كما قال ( والأصح ) مع إجزائه ( وجوب قدر التفاوت ) بينه وبين قيمة الأغبط لأنه لم يدفع الفرض بكماله فوجب جبر نقصه هذا إن اقتضت الغبطة زيادة في القيمة وإلا فلا يجب معه شيء كما قال الرافعي والثاني لا يجب بل يسن المخرج محسوب من الزكاة فلا يجب معه شيء آخر كما إذا أدى اجتهاد الساعي إلى أخذ القيمة بأن كان حنفيا فإنه لا يجب شيء آخر
( ويجوز إخراجه دراهم ) من نقد البلد أو دنانير منه فإذا كانت قيمة الحقاق أربعمائة وقيمة بنات اللبون أربعمائة وخمسين وأخذ الحقاق فالتفاوت خمسون فإما أن يدفع الخمسين أو خمسة اتساع بنت لبون لأن التفاوت خمسون وقيمة كل بنت لبون تسعون
وإنما جاز له دفع النقد مع كونه من غير جنس الواجب مع تمكنه من شراء جزئه لدفع ضرر المشاركة لأنه قد يعدل إلى غير الجنس للضرورة
( وقيل يتعين تحصيل شقص به ) أي بقدر التفاوت لأن العدول في الزكاة إلى غير جنس الواجب ممتنع عندنا
وعلى هذا يجب أن يشتري به من جنس الأغبط لأنه الأصل وقيل من جنس المخرج لئلا يتبعض الواجب على المذهب
فرع لو بلغت إبله أربعمائة فأخرج أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز لأن المحذور في المائتين إنما هو التشقيص فلو أخرج في صورة المائتين ثلاث بنات لبون وحقتين أو أربع بنات لبون وحقة أجزأ
( ومن لزمه ) سن من الإبل ولم يكن عنده فله الصعود إلى الأعلى بدرجة ويأخذ جبرانا وله الهبوط ويعطيه والجبران الواحد كما سيأتي شاتان بالصفة المتقدمة أو عشرون درهما نقرة خالصة وهي الدراهم الشرعية حيث وردت كما نقله الشيخان وأقراه
وعلى هذا فمن لزمه ( بنت مخاض فعدمها ) في ماله حقيقة أو حكما ( وعنده بنت لبون دفعها وأخذ شاتين أو عشرين درهما أو ) لزمه ( بنت لبون فعدمها ) في ماله ( دفع بنت مخاض مع شاتين أو عشرين درهما أو ) دفع ( حقة وأخذ شاتين أو عشرين درهما ) كما رواه البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وهكذا كل من وجب عليه سن وليس عنده ولا ما نزله الشارع منزلته فله الصعود إلى أعلى منه وأخذ الجبران وله النزول إلى أسفل منه ودفع الجبران بشرط كون السن المنزول إليه سن زكاة فليس لمن وجب عليه بنت مخاض أن يعدل إلى دونها عند فقدها ويعطي
____________________
(1/372)
الجبران ولا يشترط ذلك في الصعود فلو وجب عليها جذعة فقدها قبل منه الثنية وله الجبران كما سيأتي أما من وجد الواجب في ماله فليس له نزول مطلقا ولا صعود إلا أن يطلب جبرانا لأنه زاد خيرا كما يعلم مما يأتي
ويمتنع الصعود عن بنت المخاض إلى بنت اللبون مع جبران على من عنده ابن لبون لأنه منزل منزلتها كما مر ولو كان في ماله السن الواجب لكنه معيب أو كريم لم يمنع وجوده الصعود والنزول وإن كان وجود بنت مخاض كريمة يمنع العدول إلى ابن اللبون في الأصح
وفرق الروياني بينهما بأن الذكر لا مدخل له في فرائض الإبل فكان الانتقال إليه أغلظ من الصعود والنزول
( والخيار في الشاتين والدراهم لدافعها ) سواء أكان مالكا أم ساعيا لظاهر خبر أنس السابق ولكن يلزم الساعي العمل بالأصلح للمستحقين
ويسن لرب المال إذا كان هو الدافع اختيار الأنفع لهم وأما ولي المحجور عليه أو نائب الغائب فيحتاط له
( وفي الصعود والنزول ) الخيرة فيهما ( للمالك في الأصح ) لأنهما شرعا تخفيفا عليه حتى لا يكلف الشراء فناسب تخييره
والثاني أن الاختيار إلى الساعي ونص عليه في الأم وعليه أكثر العراقيين ليأخذ ما هو الأحظ للمستحقين
ومحل الخلاف فيما إذا دفع المالك غير الأغبط فإن دفع الأغبط لزم الساعي أخذه قطعا
فإن قيل كيف يلزمه مراعاة الأصلح على الأول والخيرة إلى المالك أجيب بأنه يطلب منه ذلك فإن أجابه فذاك وإلا أخذ منه ما يدفعه له
إلا أن تكون إبله معيبة ) لمرض أو غيره فلا خيرة له في الصعود لأن واجبه معيب والجبران للتفاوت بين السليمين وهو فوق التفاوت بين المعيبين ومقصود الزكاة إفادة المستحقين لا الاستفادة منهم
نعم إن رأى الساعي مصلحة في ذلك جاز كما أشار إليه الإمام قال الإسنوي وهو متجه
ولو أراد العدول إلى سليمة مع أخذ الجبران فمقتضى التعليل السابق الجواز وهو الظاهر وإن اقتضى إطلاق المتن المنع إذ لا وجه له
أما هبوطه مع إعطاء الجبران فجائز لتبرعه بالزيادة
( وله صعود درجتين وأخذ جبرانين ) كما لو وجب عليه بنت لبون فصعد إلى الجذعة عند فقد بنت اللبون بالحقة
( و ) له ( نزول درجتين مع ) دفع ( جبرانين ) كما إذا أعطى بدل الحقة بنت مخاض
وإنما يجوز له ذلك ( بشرط تعذر درجة ) قربى في تلك الجهة ( في الأصح ) فلا يصعد عن بنت المخاض إلى الحقة أو ينزل عن الحقة إلى بنت المخاض إلا عند تعذر بنت اللبون لإمكان الاستغناء عن الجبران الزائد فأشبه ما لو صعد أو نزل مع إمكان أداء الواجب
والثاني يجوز لأن الموجود الأقرب ليس واجبه فوجوده كعدمه نعم لو صعد ورضي بجبران واحد جاز قطعا وحكم الصعود والنزول بثلاث درجات كدرجتين على ما سبق كأن يعطي عن جذعة فقدها والحقة وبنت اللبون بنت مخاض ثلاث جبرانات ويدفع ثلاث جبرانات أو يعطي بدل بنت مخاض جذعة عند فقد ما بينهما ويأخذ ثلاث جبرانات أما لو كانت القربى في غير جهة المخرجة كأن لزمه بنت لبون فلم يجدها ولا حقة ووجد بنت مخاض فلا يتعين عليه إخراج بنت مخاض مع جبران بل يجوز له إخراج جذعة مع أخذ جبرانين كما صرح به في المجموع لأن بنت المخاض وإن كانت أقرب إلى بنت اللبون ليست في جهة الجذعة
( ولا يجوز أخذ جبران مع ثنية ) وهي التي تم لها خمس سنين وطعنت في السادسة يدفعها ( بدل جذعة ) عليه عند فقدها ( على أحسن الوجهين ) لأنها ليست من أسنان الزكاة فأشبه ما لو أخرج عن بنت المخاض فصيلا وهو ما له دون السنة مع الجبران وقال في الشرح الصغير إنه الأظهر ولم يصحح في الكبير شيئا
( قلت الأصح عند الجمهور الجواز والله أعلم ) لزيادة السن كما في سائر المراتب لأنها أعلى منها بعام فجاز كالجذعة مع الحقة ولا يلزم من انتفاء أسنان الزكاة عنها بطريق الأصالة انتفاء نيابتها
أما إذا دفعها ولم يطلب جبرانا فجائز قطعا لأنه زاد خيرا
( ولا تجزىء شاة وعشرة دراهم ) عن جبران واحد لأن الخبر يقتضي التخيير
____________________
(1/373)
بين شاتين وعشرين درهما فلا يجوز خصلة ثالثة كما في الكفارة لا يجوز أن يطعم خمسه ويكسو خمسة
نعم لو كان المالك هو الآخذ ورضي بالتبعيض جاز لأنه حقه وله إسقاطه بالكلية
( وتجزىء شاتان وعشرون ) درهما ( لجبرانين ) كما يجوز إطعام عشرة مساكين في كفارة يمين وكسوة عشرة في أخرى ولو توجه عليه ثلاث جبرانات فأخرج عن واحدة شاتين وعن الأخرى عشرين درهما والأخرى شاتين أو عشرين درهما جاز
( ولا ) شيء في ( البقر ) وهو اسم جنس واحده بقرة وباقورة للذكر والأنثى
سمي بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها بالحراثة
( حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع ابن سنة ) ودخل في الثانية سمي بذلك لأنه يتبع أمه في المرعى وقيل لأن قرنه يتبع أذنه أي يساويها
ولو أخرج تبيعة أجزأته لأنه زاد خيرا
( ثم في كل ثلاثين تبيع و ) في ( كل أربعين مسنة لها سنتان ) ودخلت في الثالثة سميت بذلك لتكامل أسنانها
والأصل في ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة ومن كل ثلاثين تبيعا وصححه الحاكم وغيره
ولا جبران في زكاة البقر والغنم لعدم ورود ذلك ففي ستين تبيعان وفي سبعين تبيع ومسنة وفي ثمانين مسنتان وفي تسعين ثلاثة أتبعة وفي مائة وعشرة مسنتان وتبيع وفي مائة وعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة فحكمها حكم بلوغ الإبل مائتين في جميع ما مر من خلاف وتفريع إلا في الجبران كما علم مما مر
وتسمى المسنة ثنية
ولو أخرج عنها تبيعين أجزأه على الأصح وقال البغوي لا لأن العدد لا يقوم مقام السن كما لو أخرج عن ست وثلاثين بنتي مخاض
وأجاب الأول بأن التبيعين يجزئان عن ستين فعن أربعين أولى بخلاف بنتي المخاض فإنهما ليسا من فرض نصاب وقد تلخص أن الفرض بعد الأربعين لا يتغير إلا بزيادة عشرين ثم يتغير بزيادة كل عشرة وفي مائة وعشرين يتفق فرضان
( ولا ) شيء في ( الغنم ) هو اسم جنس للذكر والأنثى لا واحد له من لفظه ( حتى تبلغ أربعين ) شاة ( ف ) فيها ( شاة ) جذعة ضأن أو ثنية معز وقد مر بيانهما
( وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان و ) في ( مائتين وواحدة ثلاث ) من الشياه ( و ) في ( أربعمائة أربع ثم في كل مائة شاة ) لحديث أنس في ذلك رواه البخاري ونقل الشافعي ان أهل العلم لا يختلفون في ذلك
ولو تفرقت ماشية المالك في أماكن فهي كالتي في مكان واحد حتى لو ملك أربعين شاة في بلدين لزمته الزكاة ولو ملك ثمانين في بلدين في كل أربعون لا يلزمه إلا شاة واحدة وإن بعدت المسافة بينهما خلافا للإمام أحمد فإنه يلزم عنده عند التباعد شاتان
فصل إن اتحد نوع الماشية كأن كانت إبله كله مهرية بفتح الميم نسبة إلى أبي مهيرة أو مجيدية نسبة إلى فحل من الإبل يقال له مجيد بميم مضمومة وجيم وهي دون المهرية أو أرحبية نسبة إلى أرحب بالمهملتين والموحدة وهي قبيلة من همدان أو بقرة كلها جواميس أو عرابا أو غنمه كلها ضأنا أو معزا وسميت ماشية لرعيها وهي تمشي
( أخذ الفرض منه ) لأنه المال المشترك فتؤخذ المهرية من المهرية والأرحبية من الأرحبية والضأن من الضأن والمعز من المعز
نعم لو اختلفت الصفة بأن تفاوتت في السن مع اتحاد النوع ولا نقص فعامة الأصحاب كما نقله في المجموع عن البيان أن الساعي يختار أنفعهما كما سبق في الحقائق وبنات اللبون وقيل يأخذ الأوسط
( فلو أخذ ) الساعي ( عن ضأن ) وهو جمع مفرده للمذكر ضائن وللمؤنث ضائنة بهمزة قبل النون ( معزا ) وهو بفتح العين وسكونها جمع مفرده للمذكر ماعز وللمؤنث ماعزة والمعزاء بمعنى المعز وهو منون منصرف إذ ألفه للإلحاق لا للتأنيث
( أو عكسه جاز في الأصح
____________________
(1/374)
بشرط رعاية القيمة ) كأن تساوي ثنية المعز في القيمة جذعة الضأن وعكسه لاتحاد الجنس
والثاني المنع كالبقر عن الغنم
والثالث يؤخذ الضأن عن المعز لأنه خير منه بخلاف العكس
وقولهم في توجيه الأول كالمهرية مع الأرحبية يدل على جواز أخذ إحداهما عن الأخرى جزما حيث تساويا في القيمة وقول الشارح ومعلوم أن قيمة الجواميس دون قيمة العراب فلا يجوز أخذها عن العراب بخلاف العكس ولم يصرحوا بذلك ممنوع بل قد تزيد قيمة الجواميس عليها ولعل ما ذكر كأن كان كذلك في زمنه
( وإن اختلف ) النوع ( كضأن ومعز ) من الغنم وكالأرحبية والمهرية من الإبل والجواميس والعراب من البقر ( ففي قول يؤخذ من الأكثر ) وإن كان الأحظ خلافه اعتبارا بالغلبة
( فإن استويا فالأغبط ) للمستحقين كما في اجتماع الحقاق وبنات اللبون وقيل يتخير المالك
( والأظهر أنه يخرج ) المالك ( ما شاء ) من النوعين ( مقسطا عليهما بالقيمة ) رعاية للجانبين
( فإذا كان ) أي وجد ( ثلاثون عنزا ) وهي أنثى المعز ( وعشر نعجات ) من الضأن ( أخذ ) الساعي ( عنزا أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز وربع نعجة ) فلو كانت قيمة عنز مجزئة دينارا ونعجة مجزئة دينارين لزمه عنز أو نعجة قيمتها دينار وربع وفي عكس المثال المذكور نعجة أو عنز بقيمة ثلاثة أرباع نعجة وربع عنز
تنبيه لو عبر المصنف ب أعطى دون أخذ لكان أولى لأن الخيرة للمالك
ثم شرع في أسباب النقص في الزكاة وهي خمسة المرض والعيب والذكورة والصغر ورداءة النوع فقال ( ولا تؤخذ مريضة ولا معيبة ) مما ترد به في البيع لقوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }
( إلا من مثلها ) بأن تمحضت ماشيته منها
ومعلوم أن الخنوثة لا تؤثر في ابن اللبون وإن كانت عيبا في المبيع لأن المستحقين شركاء فكانوا كسائر الشركاء فتكفي مريضة متوسطة ومعيبة من الوسط
فإن اختلف ماله نقصا وكمالا واتحد جنسا أخرج واحدا كاملا أو أكثر برعاية القيمة مثاله أربعون شاة نصفها مراض أو معيب وقيمة كل صحيحة ديناران وكل مريضة أو معيبة دينار لزمه صحيحة بدينار ونصف دينار فإن لم يكن فيها إلا صحيحة فعليه صحيحة بتسعة وثلاثين جزءا من أربعين جزءا من قيمة مريضة أو معيبة وبجزء من أربعين جزءا من قيمة صحيحة وذلك دينار وربع عشر دينار وعلى هذا فقس
وإذا كان الصحيح من ماشيته دون قدر الواجب كان وجب شاتان في غنم ليس فيها إلا صحيحة أجزأه صحيحة بالقسط ومريضة
( ولا ) يؤخذ ( ذكر ) لأن النص ورد في الإناث ( إلا إذا وجب ) كابن اللبون والحق والذكر من الشياه في الإبل فيما مر والتبيع في البقر
( وكذا لو تمحضت ) ماشيته ( ذكورا في الأصح ) كما يجوز أخذ المريضة والمعيبة من مثلها فعلى هذا يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين منها لئلا يسوى بين النصابين ويعرف ذلك بالتقويم والنسبة فإذا كانت قيمة المأخوذ في خمس وعشرين خمسين درهما تكون قيمة المأخوذ في ستة وثلاثين اثنين وسبعين درهما بنسبة زيادة الجملة الثانية على الجملة الأولى وهي خمسان وخمس خمس
والثاني لا يجوز إلا أنثى للتنصيص على الإناث في الحديث وعلى هذا لا تؤخذ أنثى كانت تؤخذ لو تمحضت إناثا بل تؤخذ أنثى قيمتها ما تقتضي النسبة فإذا كانت قيمتها إناثا ألفين وقيمة الأنثى المأخوذة عنها خمسين وقيمتها ذكورا ألفا أخذ عنها أنثى قيمتها خمسة وعشرون
ومحل الخلاف في الإبل والبقر أما الغنم فالمذهب القطع بإجزاء الذكر وقيل على الوجهين
والمنقسمة من الثلاث إلى الذكور والاناث لا تؤخذ عنها إلا الإناث كالمتمحضة إناثا وعلى هذا يعتبر في المأخوذة كونها دون المأخوذة من محض الإناث بطريق التقسيط فإن تعدد واجبه وليس له إلا أنثى واحدة أخرجها وذكرا معها
( و ) يؤخذ ( في الصغار
____________________
(1/375)
صغيرة في الجديد ) كما تؤخذ المريضة من المراض ولقول أبي بكر رضي الله عنه ولومنعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها رواه البخاري
والعناق هي الصغيرة من المعز لم تبلغ سنة ويتصور ذلك بموت الأمهات عنها من الثلاث فيبنى حولها على حولها كما سيأتي أو يملك نصابا من صغار المعز ويتم لها حول فتجب فيها الزكاة وإن لم تبلغ سن الإجزاء لأن واجبها ما له سنتان
والقديم لا تؤخذ إلا الكبيرة لكن دون الكبيرة المأخوذة من الكبار في القيمة وحكى الخلاف وجهين أيضا
وعلى الأول يجتهد الساعي في غير الغنم ويحترز عن التسوية بين القليل والكثير فيأخذ في ست وثلاثين فصيلا فوق المأخوذ في خمس وعشرين وفي ست وأربعين فوق المأخوذ في ست وثلاثين وعلى هذا القياس
ولو تبعضت ماشيته إلى صغار وكبار فقياس ما تقدم وجوب كبيرة في الجديد أي بالتقسيط كما تقدم وفي القديم يؤخذ كبيرة بالقسط فحينئذ يتحد القولان
تنبيه محل إجزاء الصغير إذا كان من الجنس فإن كان من غيره كخمسة أبعرة صغار أخرج عنها شاة لم يجز إلا ما يجزىء في الكبار
( ولا ) تؤخذ ( ربى ) بضم الراء وتشديد الباء الموحدة والقصر وهي الحديثة العهد بالنتاج شاة كانت أو ناقة أو بقرة
ويطلق عليها هذا الاسم قال الإزهري إلى خمسة عشر يوما من ولادتها و الجوهري إلى شهرين
سميت بذلك لأنها تربي ولدها
( و ) لا تؤخذ ( أكولة ) وهي بفتح الهمزة وضم الكاف على التخفيف المسمنة للأكل كما قاله في المحرر
( و ) لا ( حامل و ) لا ( خيار ) لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ إياك وكرائم أموالهم ولقول عمر رضي الله تعالى عنه ولا تؤخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض أي الحامل ولا فحل الغنم
نعم لو كانت ماشيته كلها كذلك أخذ منها إلا الحوامل فلا يطالب بحامل منها لأن الأربعين مثلا فيها شاة واحدة والحامل شاتان كذا نقله الإمام عن صاحب التقريب واستحسنه
( إلا برضا المالك ) في الجميع لأنه محسن بالزيادة وقد قال تعالى { ما على المحسنين من سبيل }
ثم شرع في زكاة الخلطة وهي نوعان الأول خلطة شركة وتسمى خلطة أعيان لأن كل عين مشتركة وخلطة شيوع
وقد ذكره بقوله ( ولو اشترك أهل الزكاة ) كاثنين ( في ماشية ) من جنس بإرث أو شراء أو غيره وهي نصاب أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر وداما على ذلك ( زكيا كرجل ) واحد لأن خلطة الجوار تفيد ذلك كما سيأتي فخلطة الأعيان بطريق الأولى
وهذه الشركة قد تفيدهما تخفيفا كالاشتراك في ثمانين على السواء أو تثقيلا كالاشتراك في أربعين أو تخفيفا على أحدهما وتثقيلا على الآخر كأن ملكا ستين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها
وقد لا تفيد تخفيفا ولا تثقيلا كمائتين على السواء
وتأتي الأقسام في خلطة الجوار أيضا وقد شرع فيها وهي النوع الثاني فقال ( وكذا لو خلطا مجاورة ) وهو جائز بالإجماع كما نقله الشيخ أبو حامد لقوله صلى الله عليه وسلم في خبر أنس كما رواه البخاري لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
نهى المالك عن التفريق وعن الجمع خشية وجوبها أو كثرتها ونهى الساعي عنها خشية سقوطها أو قلتها والخبر ظاهر في خلطة الجوار ومثلها خلطة الشيوخ بل أولى ويسمى هذا النوع خلطة جوار وخلطة أوصاف
تنبيه قوله أهل الزكاة قيد في الخلطتين فلو كان أحد المالين موقوفا أو لذمي أو مكاتب أو لبيت المال لم تؤثر الخلطة شيئا بل يعتبر نصيب من هو من أهل الزكاة إن بلغ نصابا زكاه زكاة المنفرد وإلا فلا زكاة
وقد أهمل المصنف ثلاثة شروط قدرتها في كلامه الأول كون المالين من جنس واحد لا غنم مع بقر
الثاني كون مجموع المالين نصابا فأكثر فلا خلطة ولا زكاة
الثالث دوام الخلطة سنة إن كان المال حوليا فلو ملك كل منهما أربعين شاة في أول المحرم وخلطا في أول صفر فالجديد أنه لا خلطة في الحول بل إذا جاء المحرم وجب على كل منهما شاة وإن لم يكن حوليا اشترط بقاؤها إلى زهو الثمر واشتداد الحب في النبات
وإنما تجب الزكاة في شركة المجاورة ( بشرط أن لا تتميز ) ماشية أحدهما عن
____________________
(1/376)
ماشية الآخر ( في المشرب ) وهو موضع شرب الماشية ولا في المكان الذي توقف فيه عند إرادة سقيها ولا في الذي تنحي إليه لشرب غيرها ( و ) لا في ( المسرح ) وهو الموضع الذي تجتمع فيه ثم تساق إلى المرعى ولا في المرعى وهو الموضع الذي ترعى فيه ويشترط أيضا اتحاد الممر بينهما كما في المجموع
( و ) لا في ( المراح ) وهو بضم الميم مأواها ليلا ( و ) لا في ( موضع الحلب ) وهو بفتح اللام يقال للبن وللمصدر وهو المراد هنا وحكي سكونها لأنه إذا تميز مال كل واحد منهم بشيء مما ذكر لم يصيرا كمال واحد والقصد بالخلطة أن يصيرا لما لان كمال واحد لتخف المؤنة
قال الرافعي في الشرح الصغير وليس المقصود أن لا يكون لها إلا مشرع أو مرعى أو مراح واحد بالذات بل لا بأس بتعددها ولكن ينبغي أن لا تختص ماشية هذا بمراح ومسرح وماشية ذاك بمراح ومسرح
( وكذا ) يشترط اتحاد ( الفحل والراعي في الأصح ) وفي الروضة المذهب وبه قطع الجمهور في الفحل وكثير من الأصحاب في الراعي
ويجوز تعدد الرعاة قطعا بشرط أن لا تنفرد هذه عن هذه براع والثاني لا يشترط الاتحاد في الراعي لأن الافتراق فيه لا يرجع إلى نفس المال
والمراد بالاتحاد أن يكون الفحل أو الفحول مرسلة فيها تنزو على كل من الماشيتين بحيث لا تختص ماشية هذا بفحل عن ماشية الآخر وإن كانت ملكا لأحدهما أو معارا له أو لهما إلا إذا اختلف النوع كضأن ومعز فلا يضر اختلافه قطعا للضرورة وإذا قلنا بالمذهب اشترط أن يكون الإنزاء في مكان واحد كالحلب
تنبيه لو افترقت ماشيتهما زمانا طويلا ولو بلا قصد ضر فإن كان يسيرا ولم يعلما به لم يضر فإن علما به وأقراه أو قصدا ذلك أو علمه أحدهما فقط كما قاله الأذرعي ضر
و ( لا ) تشترط ( نية الخلطة في الأصح ) لأن خفة المؤنة باتحاد المواقف لا تختلف بالقصد وعدمه وإنما اشترط الاتحاد فيما مر ليجتمع المالان كالمال الواحد ولتخف المؤنة على المحسن بالزكاة والثاني تشترط لأن الخلطة مغيرة لمقدار الزكاة فلا بد من قصده دفعا لضرره في الزيادة وضرر المستحقين في النقصان
تنبيهات الأول أفهمت عبارته أنه لا يشترط اتحاد الحالب ولا الإناء الذي يحلب فيه وهو الأصح كما لا يشترط اتحاد آلة الجز ولا خلط اللبن على الأصح
الثاني محل ما تقدم إذا لم يتقدم للخليطين حالة انفراد فإن انعقد الحول على الانفراد ثم طرأت الخلطة فإن اتفق حولاهما بأن ملك كل واحد أربعين شاة ثم خلطا في أثناء الحول لم تثبت الخلطة في السنة الأولى فيجب على كل واحد عند تمامها شاة
وإن اختلف حولاهما بأن ملك هذا غرة المحرم وهذا غرة صفر وخلطا غرة شهر ربيع فعلى كل واحد عند انقضاء حوله شاة
وإذا طرأ الانفراد على الخلطة فمن بلغ ماله نصابا زكاه ومن لا فلا
الثالث أهمل المصنف حكم التراجع إذ يجوز للساعي الأخذ من مال أحد الخليطين وإن لم يضطر إليه فإذا أخذ شاة مثلا من أحدهما رجع على صاحبه بما يخصه من قيمتها لا منها لأنها غير مثلية فلو خلطا مائة بمائة وأخذ الساعي من أحدهما شاتين فكذلك فإن أخذ من كل شاة فلا تراجع وإن اختلفت قيمتها فلو كان لزيد مائة ولعمرو خمسون وأخذ الساعي الشاتين من عمرو رجع بثلثي قيمتها أو من زيد رجع بالثلث وإن أخذ من كل شاة رجع زيد بثلث قيمة شاته وعمرو بثلثي قيمته شاته وإذا تنازعا في قيمة المأخوذة فالقول قول المرجوع عليه لأنه غارم
ولو كان لأحدهما ثلاثون من البقر وللآخر أربعون منها فواجبهما تبيع ومسنة على صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما وعلى صاحب الأربعين أربعة أسباع
فإن أخذهما الساعي من صاحب الأربعين رجع على الآخر بثلاثة أسباع قيمتهما وإن أخذهما من الآخر رجع بأربعة أسباع
وإن أخذ التبيع من صاحب الأربعين والمسنة من الآخر رجع صاحب المسنة بأربعة أسباعها وصاحب التبيع بثلاثة أسباعه
وإن أخذ المسنة من صاحب الأربعين والتبيع من الآخر فالمنصوص أن لا رجوع لواحد منهما على الآخر لأن كلا منهما لم يؤخذ منه إلا ما عليه وقيل يرجع صاحب المسنة بثلاثة أسباعها وصاحب التبيع بأربعة أسباعه
( والأظهر تأثير خلطة الثمر والزرع والنقد وعرض التجارة ) باشتراك أو مجاورة كما في الماشية لعموم قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/377)
لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ولأن المقتضى لتأثير الخلطة في الماشية هو خفة المؤنة وذلك موجود هنا للاتفاق باتحاد الجرين والناطور وغيرهما
والثاني وهو القديم لا تؤثر مطلقا لأن المواشي فيها أوقاص فالخلطة فيها تنفع المالك تارة والمستحقين أخرى ولا وقص في غير المواشي
والثالث تؤثر في خلطة الاشتراك فقط وعلى الأول إنما تؤثر خلطة الجوار في المزارعة
( بشرط أن لا يتميز الناطور ) وهو بالمهملة أشهر من المعجمة حافظ الزرع والشجر
( والجرين ) وهو بفتح الجيم موضع تجفيف الثمار والبيدر وهو بفتح الموحدة والدال المهملة موضع تصفية الحنطة قاله الجوهري
وقال الثعالبي الجرين للزبيب والبيدر للحنطة والمربد بكسر الميم وإسكان الراء للتمر
( و ) في التجارة بشرط أن لا يتميز ( الدكان ) وهو بضم الدال المهملة الحانوت
( والحارس ) وهو معروف
( ومكان الحفظ ) كخزانة وإن كان مال كل بزاوية
( ونحوها ) كالميزان والوزان والنقاد والمنادي والحراث وجذاذ النخل والكيال والجمال والمتعهد والملقح والحصاد وما يسقى به لهما فإذا كان لكل منهما نخيل أو زرع مجاور لنخيل الآخر أو لزرعه أو لكل واحد كيس فيه نقد في صندوق واحد وأمتعة تجارة في مخزن واحد ولم يتميز أحدهما عن الآخر بشيء مما سبق نبتت الخلطة لأن المالين يصيران بذلك كالمال الواحد كما دلت عليه السنة في الماشية
( ولوجوب زكاة الماشية ) أي الزكاة فيها ( شرطان ) مضافان لما مر من كونهما نصابا من النعم ولما سيأتي من كمال الملك وإسلام المالك وحريته
وكان الأولى أن يقول ولوجوب زكاة النعم لأن النعم هو الأخص المتكلم عليه وهو أحد الشرطين
الشرط الثالث ( مضي الحول ) سمي بذلك لأنه حال أي ذهب وأتى غيره
( في ملكه ) لحديث لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول رواه أبو داود ولم يضعفه ولأنه لا يتكامل نماؤه قبل تمام الحول
( لكن ما نتج ) بضم النون وكسر التاء على البناء للمفعول ( من نصاب ) وتم انفصاله قبل تمام حول النصاب ولو بلحظة
( يزكى بحوله ) أي النصاب لكن بشرط أن يكون مملوكا لمالك النصاب بالسبب الذي ملك به النصاب إن اقتضى الحال وجوب الزكاة فيه وإن ماتت الأمهات لقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لساعيه اعتد عليهم بالسخلة وهي تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز ما لم تبلغ سنة رواه مالك في الموطأ
ولأن الحول إنما اعتبر لتكامل النماء الحاصل والنتاج نماء في نفسه فعلى هذا إذا كان عنده مائة وعشرون من الغنم فولدت واحدة منها سخلة قبل الحول ولو بلحظة والأمهات كلها باقية لزمه شاتان
ولو ماتت الأمهات وبقي منها دون النصاب أو ماتت كلها وبقي النتاج نصابا في الصورة الثانية أو ما يكمل به في الصورة الأولى زكى بحول الأصل
أما لو انفصل النتاج بعد الحول أو قبله ولم يتم انفصاله إلا بعده كجنين خرج بعضه في الحول ولم يتم انفصاله إلا بعد تمام الحول لم يكن حول النصاب حوله لانقضاء حول أصله لأن الحول الثاني أولى به
واحترز بقوله نتج عن المستفاد بشراء أو غيره كما سيأتي وبقوله من نصاب عما نتج من دونه كعشرين شاة نتجت عشرين وفحولها من حين تمام النصاب
وبقولنا بشرط أن يكون مملوكا إلخ عما لو أوصى بالحمل لشخص لم يضم النتاج لحول الوارث وكذا لو أوصى الموصي له بالحمل به قبل انفصاله لمالك الأمهات ثم مات ثم حصل النتاج لم يزك بحول الأصل كما نقله في الكفاية عن المتولي وأقره
ولو كان النتاج من غير نوع الأمهات بأن حملت الضأن بمعز أو بالعكس فعلى الخلاف في تكميل أحد النوعين بالآخر
فإن قيل شرط وجوب الزكاة السوم في كلإ مباح فكيف وجبت الزكاة في النتاج أجيب بأن اشتراطه خاص بغير النتاج التابع لأمه في الحول ولو سلم عمومه له فاللبن كالكلإ لأنه ناشيء منه على أنه لا يشترط في الكلإ أن يكون مباحا على ما يأتي بيانه ولأن اللبن الذي تشربه السخلة لا يعده مؤنة في العرف لأنه يأتي من عند الله تعالى ويستخلف إذا حلب فهو شبيه بالماء ولأن اللبن وإن عد شربه مؤنة إلا أنه قد تعلق به حق الله تعالى فإنه يجب صرفه في سقي السخلة ولا يجوز للمالك أن يحلب إلا ما فضل عن ولدها
وإذا تعلق به حق الله تعالى كان مقدما على حق المالك بدليل أنه يحرم على مالك الماء أن يتصرف فيه بالبيع وغيره بعد دخول وقت الصلاة إذا لم يكن معه غيره ولو باعه أو وهبه بعد دخول الوقت لم
____________________
(1/378)
يصح لتعلق حق الله تعالى به ويجب صرفه إلى الوضوء فكذا لبن الشاة يجب صرفه إلى السخلة فلا تسقط الزكاة
قال في الروضة والمجموع وفائدة الضم إنما تظهر إذا بلغت بالنتاج نصابا آخر بأن ملك مائة شاة فنتجت إحدى وعشرين فيجب شاتان فلو نتجت عشرة فقط لم يفد اه
واعترض بظهور فائدته وإن لم تبلغ نصابا آخر عند التلف بأن ملك أربعين فولدت عشرين ثم مات من الأمهات عشرون
( ولا يضم المملوك بشراء أو غيره ) كهبة وارث ووصية إلى ما عنده ( في الحول ) لأنه ليس في معنى النتاج لأن الدليل قد قام على اشتراط الحول خرج النتاج لما مر فبقي ما عداه على الأصل
واحترز بقوله في الحول عن النصاب فإنه يضم إليه فيه على المذهب لأنه بالكثرة فيه بلغ حدا يحتمل المواساة فلو ملك ثلاثين بقرة غرة المحرم ثم اشترى عشرا أو ورثها أو نحو ذلك أول رجب فعليه عند تمام الحول الأول في الثلاثين تبيع ولكل حول بعده ثلاثة أرباع مسنة وعند تمام كل حول للعشر ربع مسنة
( فلو ادعى ) المالك ( النتاج بعد الحول ) أو أنه استفاده بنحو شراء وادعى الساعي خلافه واحتمل ما يقول كل منهما
( صدق ) المالك لأنه مؤتمن والأصل معه
( فإن اتهم حلف ) استحبابا احتياطا لحق المستحقين فإن نكل ترك ولا يجوز تحليف الساعي لأنه وكيل ولا المستحقين لأنهم غير معينين
الشرط الرابع بقاء الملك في الماشية جميع الحول كما يؤخذ من قوله ( ولو زال ملكه في الحول ) عن النصاب أو بعضه ببيع أو غيره ( فعاد ) بشراء أو غيره ( أو بادل بمثله ) مبادلة صحيحة لا للتجارة بغير الصرف كإبل بابل أو بجنس آخر كإبل ببقر
( استأنف ) الحول لانقطاع الأول بما فعله فصار ملكا جديدا فلا بد له من حول للحديث المتقدم
وتعبيره بالفاء الدالة على التعقيب وبقوله بمثله يؤخذ منه الاستئناف عند طول الزمن وعند اختلاف النوع بطريق الأولى وكل ذلك مكروه فرارا من الزكاة كراهة تنزيه لأنه فرار من القربة بخلاف ما إذا كان لحاجة أو لها وللفرار أو مطلقا على ما أفهمه كلامهم
فإن قيل يشكل عدم الكراهة فيما إذا كان لحاجة وقصد الفرار بما إذا اتخذ ضبة صغيرة لزينة وحاجة
أجيب بأن الضبة فيها اتخاذ فقوي المنع بخلاف الفرار فلو عاوض غيره بأن أخذ منه تسعة عشر دينارا بتسعة عشر دينارا من عشرين دينارا زكى الدينار لحوله والتسعة عشر لحولها
وقال في الوجيز يحرم إذا قصد بذلك الفرار من الزكاة وزاد في الإحياء أنه لا تبرأ الذمة في الباطن وأن أبا يوسف كان يفعله ثم قال والعلم علمان ضار ونافع قال وهذا من العلم الضار
وقال ابن الصلاح يكون آثما بقصده لا بفعله
أما المبادلة الفاسدة فلا تقطع الحول وإن اتصلت بالقبض لأنها لا تزيل الملك
ويتناول كلامه ما إذا باع النقد بعضه ببعض للتجارة كالصيارفة فإنهم يستأنفون الحول كلما بادلوا ولذلك قال ابن سريج بشر الصيارفة بأن لا زكاة عليهم
ولو باع النصاب قبل تمام حوله ثم رد عليه بعيب أو إقالة استأنف الحول من حين الرد فإن حال الحول قبل العلم بالعيب امتنع الرد في الحال لتعلق الزكاة بالمال فهو عيب حادث عند المشتري وتأخير الرد بإخراجها لا يبطل به الرد قبل التمكن من أدائها
فإن سارع إلى إخراجها أو لم يعلم بالعيب إلا بعد إخراجها نظر فإن أخرجها من المال أو غيره بأن باع منه بقدرها واشترى بثمنه واجبه لم يرد لتفريق الصفقة وله الأرش وإن أخرجها من غيره رد إذ لا شركة حقيقة بدليل جواز الأداء من مال آخر أي إذا باع ذهبا بذهب
أما إذا باع فضة بذهب أو عكسه فإنه تلزمه فيه الزكاة لأنه يبني حوله على بيعه الأول ولو باع النصاب بشرط الخيار فإن كان الملك للبائع بأن كان الخيار له أو موقوفا بأن كان الخيار لهما ثم فسخ العقد لم ينقطع الحول لعدم تجدد الملك وإن كان الخيار للمشتري
فإن فسخ استأنف البائع الحول
وإن أجاز فالزكاة عليه وحوله من العقد
ولو مات المالك في أثناء الحول استأنف الوارث حوله من وقت الموت
وملك المرتد وزكاته وحوله موقوفات فإن عاد إلى الإسلام تبينا بقاء ملكه وحوله ووجوب زكاته عليه عند تمام حوله وإلا فلا
( و ) الشرط الثاني في كلام المصنف وهو الشرط الخامس ( كونها سائمة ) أي راعية ففي خبر أنس وفي صدقة الغنم في سائمتها إلخ دل لمفهومه على نفي الزكاة في
____________________
(1/379)
معلوفة الغنم وقيس بها الإبل والبقر
وفي خبر أبي داود وغيره في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون وقال الحاكم صحيح الإسناد
واختصت السائمة بالزكاة لتوفر مؤنتها بالرعي في كلإ مباح
( فإن علفت معظم الحول ) ليلا ونهارا ولو مفرقا ( فلا زكاة ) فيها لأن الغلبة لها تأثير في الأحكام ( وإلا ) بأن علفت دون المعظم ( فالأصح أن علفت قدرا تعيش بدونه بلا ضرر بين وجبت ) زكاتها لخفة المؤنة ( وإلا ) أي وإن كانت لا تعيش في تلك المدة بدونه أو تعيش ولكن بضرر بين ( فلا ) تجب فيها زكاة لظهور المؤنة والماشية تصبر اليومين ولا تصبر الثلاثة غالبا
والثاني إن علفت قدرا يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق الماشية فلا زكاة وإن كان حقيرا بالإضافة إليه وجبت
وفسر الرفق بدرها ونسلها وصوفها ووبرها
ولو أسيمت في كلإ مملوك فهل هي سائمة أو معلوفة وجهان أحدهما وهو المعتمد كما جزم به ابن المقري وأفتى به القفال أنها سائمة لأن قيمة الكلإ غالبا تافهة ولا كلفة فيه لعدم جزه
والثاني أنها معلوفة لوجود المؤنة
ورجح السبكي أنها سائمة إن لم يكن للكلإ قيمة أو كانت قيمته يسيرة لا يعد مثلها كلفة في مقابلة نمائها وإلا فمعلوفة
أما إذا جزه وأطعمها إياه ولو في المرعى فليست بسائمة كما أفتى به القفال وجزم به ابن المقري
( ولو سامت ) الماشية ( بنفسها ) أو بالغاصب أو المشتري شراء فاسدا لم تجب الزكاة في الأصح لعدم إسامة المالك وإنما اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف لأن السوم يؤثر في وجوب الزكاة فاعتبر فيه قصده والاعتلاف يؤثر في سقوطها فلا يعتبر قصده لأن الأصل عدم وجوبها
( أو اعتلفت السائمة ) بنفسها أو علفها الغاصب القدر المؤثر من العلف فيهما لم تجب الزكاة في الأصح لعدم السوم وكالغاصب المشتري شراء فاسدا
( أو كانت عوامل ) للمالك أو بأجرة ( في حرث ونضح ) وهو حمل الماء للشرب ( ونحوه ) كحمل غير الماء ولو كان محرما ( فلا زكاة في الأصح ) لأنها لا تقتنى للنماء بل للاستعمال كثياب البدن ومتاع الدار فقوله في الأصح راجع للضمير كما تقرر ولا بد أن يستعملها القدر الذي علفها فيه سقطت الزكاة كما نقله البندنيجي عن الشيخ أبي حامد وفرق بين المستعملة في محرم وبين الحلي المستعمل فيه بأن الأصل فيها الحل وفي الذهب والفضة الحرمة إلا ما رخص فإذا استعملت الماشية في المحرم رجعت إلى أصلها ولا ينظر إلى الفعل الخسيس وإذا استعمل الحلي في ذلك فقد استعمل في أصله ولا أثر لمجرد نية العلف
ولو قصد بالعلف قطع السوم انقطع الحول والكلأ المغصوب كالمملوك فيما ذكر فيه
وعلم مما تقرر أن المعتبر الإسامة من المالك أو من يقوم مقامه حتى لو غصبت وهي معلوفة فردها الغاصب إلى الحاكم في غيبة المالك فأسامها الحاكم وجبت فيها الزكاة كما قاله في البحر
قال الأذرعي والظاهر أن إسامة ولي المحجور كإسامة الرشيد لكن لو كان الحظ للمحجور في تركها فهذا موضع تأمل اه
ولا يحتاج إلى تأمل بل ينبغي القطع بعدم صحة الإسامة في هذه الحالة
قال والظاهر أنه لو ورث سائمة ودامت كذلك ولم يعلم بإرثها إلا بعد لأن الزكاة تجب وإن لم يسمها بنفسه ولا بنائبه ولم أره نصا اه
وهذا ممنوع والأصح أنه لا بد من إسامة الوارث
قال في الحاوي الصغير وإسامة المالك الماشية فلا تجب في سائمة ورثها وتم حولها ولم يعلم به
( وإذا وردت ) أي الماشية ( ماء أخذت زكاتها عنده ) لأنه أسهل على المالك والساعي وأقرب إلى الضبط من المرعى فلا يكلفهم الساعي ردها إلى البلد كما لا يلزمه أن يتبع المراعي وفي الحديث تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم رواه الإمام أحمد في مسنده
ولو كان له ماشيتان عند ماءين أمر بجمعهما عند أحدهما إلا أن يعسر عليه ذلك
( وإلا ) أي وإن لم ترد الماء بأن استغنت عنه في زمن الربيع بالكلإ ( فعند بيوت أهلها ) وأفنيتهم وذلك لخبر البيهقي تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم وأفنيتهم وهو إشارة إلى الحالتين السابقتين
( ويصدق المالك )
____________________
(1/380)
وأولى منه المخرج ليشمل الولي والوكيل ( في عددها إن كان ثقة ) لأنه أمين وله مع ذلك أن يعدها
( وإلا ) أي وإن لم يكن ثقة أو قال لا أعرف عددها ( فتعد ) والأسهل عدها ( عند مضيق ) تمر به لأنه أبعد عن الغلظ فتمر واحدة واحدة وبيد كل من المالك والساعي أو نائبهما قضيب يشيران به إلى كل واحدة واحدة أو يصيبان به ظهرها فإن اختلفا بعد العدد وكانا لواجب يختلف به أعادا العد
فائدة إذا كانت الماشية مستوحشة وكان في أخذها وإمساكها مشقة كان على رب المال أن يأخذ السن الواجب عليه ويسلمه إلى الساعي فإن كان لا يمكن إمساكها إلا بعقال كان على المالك ذلك وعلى هذا حملوا قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه والله لومنعوني عقالا لأن العقال هنا من تمام التسليم
خاتمة سن للساعي إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمالك ترغيبا له في الخير وتطييبا لقلبه فيقول آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت ولا يتعين دعاء وفي وجه أن الدعاء واجب وقيل إن سأله المالك وجب
ويكره أن يصلي عليه في الأصح وقيل يستحب وقيل خلاف الأولى وقيل يحرم
قال الشيخ أبو محمد والسلام في معنى الصلاة فلا يفرد به غير الأنبياء وهو سنة في المخاطبة للأحياء والأموات
قال المصنف رحمه الله تعالى ويسن لكل من أعطى زكاة أو صدقة أو نذرا أو كفارة أو نحوها أي من إلقاء درس أو تصنيف أو أتى بورد أن يقول ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
باب زكاة النبات النبات يكون مصدرا تقول نبت الشيء نباتا واسما بمعنى النابت وهو المراد هنا
وينقسم إلى شجر وهو ما له ساق ونجم وهو ما لا ساق له كالزرع قال تعالى { والنجم والشجر يسجدان }
والزكاة تجب في النوعين ولذلك عبر بالنبات لشموله لهما لكن قال المصنف في نكت التنبيه إن استعمال النبات في الثمار غير مألوف
والأصل في الباب قبل الإجماع ما يأتي قوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } وقوله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } وهو الزكاة لأنه لا حق فيما أخرجته الأرض غيرها
( تختص بالقوت ) لأن الاقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونه فلذلك أوجب الشارع منه شيئا لأرباب الضرورات بخلاف ما يؤكل تنعما أو تأدما كالتين والسفرجل والرمان
والقوت أشرف النبات وهو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام قيل سمي بذلك لبقاء ثقله في المعدة ومن أسمائه تعالى المقيت وهو الذي يعطي أقوات الخلائق ودعا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله رزق آله قوتا أي بقدر ما يمسك الرمق من الطعام وقال كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت أي من يلزمه قوته من أهله أو عياله
وقال قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه سئل الأوزاعي عنه فقال صغر الأرغفة
( وهو من الثمار الرطب والعنب ) بالإجماع ( ومن الحب الحنطة والشعير ) بفتح الشين ويقال بكسرها
( والأرز ) بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي في أشهر اللغات ( والعدس ) بفتح الدال ومثله البسلاء
( وسائر المقتات اختيارا ) كالحمص بكسر الحاء مع كسر الميم وفتحها والباقلاء وهي بالتشديد مع القصر وتكتب بالياء وبالتخفيف مع المد وتكتب بالألف وقد تقصر الفول والذرة وهي بمعجمة مضمومة ثم راء مخففة والهاء عوض من واو أو ياء
والهرطمان وهو بضم الهاء والطاء الجلبان بضم الجيم والماش وهو بالمعجمة نوع منه
فتجب الزكاة في جميع ذلك لورودها في بعضه في الأخبار الآتية
____________________
(1/381)
وألحق به الباقي
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن فيما رواه الحاكم وصحح إسناده لا تؤخذ الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والتمر والزبيب فالحصر فيه إضافي أي بالنسبة إلى ما كان موجودا عندهم لما رواه الحاكم وصحح إسناده من قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والسيل والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر
وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
والقضب بسكون المعجمة الرطب بسكون الطاء وخرج بالقوت غيره كخوخ ورمان وتين ولوز وجوز هند وتفاح ومشمش وبالاختيار ما يقتات في الجدب اضطرارا من حبوب البوادي كحب الحنظل وحب الغسول وهو أشنان فلا زكاة فيها كما لا زكاة في الوحشيات من الظباء ونحوها
وأبدل التنبيه قيد الاختيار بما يستنبته الآدميون لأن ما لا يستنبتونه ليس فيه شيء يقتات اختيارا
ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو حمل السيل حبا تجب فيه الزكاة من دار الحرب فنبت بأرضنا فإنه لا زكاة فيه كالنخل المباح بالصحراء وكذا ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد والقناطر والربط والفقراء والمساكين لا تجب فيها الزكاة على الصحيح إذ ليس له مالك معين
ولو أخذ الإمام الخراج على أن يكون بدلا عن العشر كان كأخذ القيمة في الزكاة بالاجتهاد فيسقط به الفرض فإن نقص عن الواجب تممه
( وفي القديم تجب في الزيتون ) لقول عمر رضي الله تعالى عنه في الزيتون العشر وقول الصحابة حجة في القديم فلذلك أوجبه لكن الأثر المذكور ضعيف
( و ) في ( الزعفران و ) في ( الورس ) لاشتراكهما في المنفعة
روي في الزعفران أثر ضعيف وألحق الورس به وهو نبت أصفر يصبغ به الثياب وهو كثير باليمن
( و ) في ( القرطم ) وهو بكسر القاف والطاء وضمهما حب العصفر لأن أبيا كان يأخذ العشر منه
( و ) في ( العسل ) سواء كان نحله مملوكا أم أخذ من الأمكنة المباحة لما روى ابن ماجة عن عمرو بن شعيب أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منه العشر لكن قال البخاري والترمذي لم يصح في زكاته شيء
فائدة لعاب العسل النحل يذكر ويؤنث ويجمع إذا أردت أنواعه على أعسال وعسل وعسول وعسلان
ومن أسمائه الحافظ الأمين قال تعالى { فيه شفاء للناس }
وكان صلى الله عليه وسلم يحبه ويصطفيه وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء وفيه أيضا عليكم بالشفاءين العسل والقرآن
فجمع في هذا القول بين الطب البشري والطب الإلهي وبين طب الأجساد وطب الأنفس وبين السبب الأرضي والسبب السماوي ولذلك قال ابن مسعود العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل
( ونصابه ) أي القوت الذي تجب فيه الزكاة ( خمسة أوسق ) لقوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة رواه الشيخان
والوسق بالفتح على الأفصح وهو مصدر بمعنى الجمع سمي به هذا المقدار لأجل ما جمعه من الصيعان قال تعالى { والليل وما وسق } أي جمع
( وهي ) أي الأوسق الخمسة ( ألف وستمائة رطل بغدادية ) لأن الوسق ستون صاعا كما رواه ابن حبان وغيره فمجموع الخمسة ثلثمائة صاع والصاع أربعة أمداد فيكون النصاب ألف مد ومائتي مد والمد رطل وثلث بالبغدادي وذلك ألف وستمائة رطل وقدرت بالبغدادي لأنه الرطل الشرعي كما قاله المحب الطبري
( وبالدمشقي ) وهو ستمائة درهم ( ثلثمائة وستة وأربعون رطلا وثلثان ) لأن الرطل الدمشقي ستمائة درهم
وعند الرافعي أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهما فيكون المد مائة وثلاثة وسبعين درهماوثلث درهم والصاع ستمائة وثلاثة وتسعون وثلث فاضرب ستمائة وثلاثا وتسعين في ثلثمائة تبلغ مائتي ألف وثمانية آلاف واجعل كل ستمائة رطلا يتحصل من مجموع ذلك ما ذكر
( قلت الأصح ) أنها بالدمشقي ( ثلثمائة واثنان وأربعون رطلا وستة أسباع رطل لأن الأصح أن رطل بغداد مائة وثمانية وعشرون
____________________
(1/382)
درهما وأربعة أسباع درهم ) أي فإذا ضرب ذلك في ألف وستمائة وقسم على الرطل الدمشقي بلغ ذلك
وما صححه المصنف في تحرير الرطل البغدادي هو الصحيح لأنه تسعون مثقالا والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم فيضرب بسط الكسر وهو ثلاثة في عدد تكرره وهو تسعون تبلغ مائتين وسبعين يقسم على مخرجه وهو سبعة يخرج ثمانية وثلاثون وأربعة أسباع يجمع مع الدراهم يخرج ما قاله
( وقيل بلا أسباع وقيل وثلاثون والله أعلم ) بيانه أن تضرب ما سقط من كل رطل وهو درهم وثلاثة أسباع في ألف وستمائة تبلغ ألفي درهم ومائتي درهم وخمسة وثمانين درهما وخمسة أسباع درهم تسقط ذلك من مبلغ الضرب الأول فيكون الزائد على الأربعين بالقسمة ما ذكره المصنف لأن الباقي بعد الإسقاط مائتا ألف وخمسة آلاف وسبعمائة وأربعة عشر درهما وسبعا درهم فمائتا ألف وخمسة آلاف ومائتا درهم في مقابلة ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا والباقي وهو خمسمائة وأربعة عشر درهما وسبعا درهم في مقابلة ستة أسباع رطل لأن سبعه خمسة وثمانون وخمسة أسباع
ولم يتعرض الرافعي في المحرر إلى ضبط الأوسق بالأرطال بالكلية لا البغدادية ولا الدمشقية بل عبر بقوله وهي بالمن الصغير ثمانمائة من وبالكبير الذي وزنه ستمائة درهم ثلثمائة من وستة وأربعون منا وثلثا من فاختصره المصنف بما سبق
واستفدنا من ذلك أن الرطل الدمشقي مساو للمن الكبير والمن الصغير رطلان بالبغدادي
والنصاب المذكور تحديد كما صححاه للأخبار السابقة وكما في نصاب المواشي وغيرها والعبرة فيه بالكيل على الصحيح وإنما قدر بالوزن استظهارا أو إذا وافق الكيل
والمعتبر في الوزن من كل نوع الوسط فإنه يشتمل على الخفيف والرزين فكيله بالإردب المصري قال القمولي ستة أرادب وربع إردب بجعل القدحين صاعا كزكاة الفطر وكفارة اليمين
وقال السبكي خمسة أرادب ونصف إردب وثلث فقد اعتبرت القدح المصري بالمد الذي حررته فوسع مدين وسبعا تقريبا فالصاع قد حان إلا سبعي مد وكل خمسة عشر مدا سبعة أقداح وكل خمسة عشر صاعا ويبة ونصف وربع فثلاثون صاعا ثلاث ويبات ونصف فثلثمائة صاع خمسة وثلاثون ويبة وهي خمسة أرادب ونصف وثلث
فالنصاب على قوله خمسمائة وستون قدحا وعلى قول القمولي ستمائة وقول القمولي أوجه وإن قال بعض المتأخرين إن قول السبكي أوجه لأن الصاع قد حان تقريبا
( ويعتبر ) في الرطب والعنب بلوغه خمسة أوسق حالة كونه ( تمرا ) بالمثناة ( أو زبيبا ) هذا ( إن تتمر ) الرطب ( وتزبب ) العنب لقوله صلى الله عليه وسلم ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق رواه مسلم فاعتبر الأوسق من التمر
( وإلا ) أي وإن لم يتتمر الرطب ولم يتزبب العنب ( فرطبا وعنبا ) أي فيوسق رطبا وعنبا وتخرج الزكاة منهما في الحال لأن ذلك أكمل أحوالهما
وإنما لم يلحق ذلك بالخضراوات
لأن جنسه مما يجف وهذا النوع منه نادر ويضم ما لا يجف منهما إلى ما يجف في إكمال النصاب لاتحاد الجنس وإذا كان يجف إلا أن جفافه يكون رديئا فحكمه حكم ما لا يجف بالكلية ولو ضر ما يتجفف بأصله لامتصاص مائه لعطش قطعت وأخرج الواجب من رطبها ويجب استئذان العامل في قطعه كما صححه في زيادة الروضة فإن قطع ولم يستأذن أثم وعزر وعلى الساعي أن يأذن له وقيل يسن وصححه في الشرح الصغير
وعلى الأول لو اندفعت الحاجة بقطع البعض لم تجز الزيادة عليها
( و ) يعتبر في ( الحب ) بلوغه خمسة أوسق حالة كونه ( مصفى من تبنه ) لأنه لا يدخر فيه ولا يؤكل معه ( وما ادخر في قشره ) ولم يؤكل معه ( كالأرز والعلس ) وهو بفتح العين واللام نوع من الحنطة كما سيأتي ( ف ) نصابه ( عشرة أوسق ) اعتبارا بقشره الذي ادخاره فيه أصلح له أو أبقى بالنصف فعلم أنه لا تجب تصفيته من قشره وأن قشره لا يدخل في الحساب
فلو كانت الخمسة أوسق تحصل من دون العشرة اعتبرناه أولا يحصل من العشرة خمسة أوسق فلا زكاة فيها وإنما ذلك جرى على الغالب
قال صاحب العدة ولا تدخل قشرة الباقلاء السفلى في الحساب لأنها غليظة غير مقصودة
واستغربه في المجموع
قال الأذرعي وهو كما قال والوجه ترجيح الدخول أو الجزم به اه
وهذا هو المعتمد كما هو قضية كلام ابن كج إن لم يكن المنصوص فإنه ذكر النص في العلس ثم قال فأما الباقلاء والحمص والشعير فيطحن في قشره
____________________
(1/383)
ويؤكل فلأجل ذلك اعتبرناه مع قشره
وسياقه يشعر بأنه من تتمة النص ولا أثر للقشرة الحمراء اللاصقة بالأرز كما نقله في المجموع عن سائر الأصحاب غير ابن أبي هريرة
تنبيه ظاهر كلام المصنف أن الأرز والعلس ذكرا مثالا وأنه بقي شيء من الحبوب غيرهما يدخر في قشره وليس مرادا إذ ليس لنا غيرهما بهذه الصفة
( ولا يكمل ) في النصاب ( جنس بجنس ) أما التمر مع الزبيب فبالإجماع كما نقله ابن المنذر وأما الحنطة مع الشعير والعدس مع الحمص فبالقياس
( ويضم ) فيه ( النوع إلى النوع ) كأنواع الزبيب والتمر وغيرهما لاشتراكهما في الاسم وإن تباينا في الجودة والرداءة وإن اختلف مكانهما
( ويخرج من كل ) من النوعين أو الأنواع ( بقسطه ) لعدم المشقة فيه بخلاف المواشي فإن الأصح أنه يخرج نوعا منها بشرط اعتبار القيمة والتوزيع كما مر ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من هذا لما فيه من المشقة
( فإن عسر ) لكثرة الأنواع وقلة الحاصل من كل نوع ( أخرج الوسط ) منها لا أعلاها ولا أدناها رعاية للجانبين وقيل يجب الإخراج من الغالب ويجعل غيره تبعا له
ومنهم من قطع بالأول وعليه لو تكلف وأخرج من كل نوع بقسطه كان أفضل كما في المجموع
( ويضم العلس إلى الحنطة لأنه نوع منها ) وهو قوت صنعاء اليمن يكون في الكمام حبتان وثلاث
ووقع في الوسيط أنه حنطة توجد بالشام ورده بعضهم بأنه لا يعرف بالشام وقد يقال إنه كان زمنه دون زمن الراد
( والسلت ) بضم السين وسكون اللام ( جنس مستقل ) فلا يضم إلى غيره
( وقيل شعير ) فيضم إليه لشبهه به في برودة الطبع ( وقيل حنطة ) فيضم إليها لشبهه بها لونا وملاسة
والأول قال اكتسب من تركب الشبهين طبعا انفرد به وصار أصلا برأسه
( ولا يضم ثمر عام وزرعه ) في إكمال النصاب ( إلى ) ثمر وزرع عام ( آخر ) ولو فرض اطلاع ثمر العام الثاني قبل جذاذ الأول بالإجماع ( ويضم ثمر العام ) الواحد ( بعضه إلى بعض ) في إكمال النصاب ( وإن اختلف إدراكه ) لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة وبرودة كنجد وتهامة فتهامة حارة يسرع إدراك الثمر بها بخلاف نجد لبردها
والمراد بالعام هنا اثنا عشر شهرا عربية قال شيخنا والقول بأنه أربعة أشهر غير صحيح
أشار بذلك إلى الرد على ابن الرفعة فإنه نقله عن الأصحاب
والعبرة في الضم هنا باطلاعهما في عام كما صرح به ابن المقري في شرح إرشاده خلافا لما صرح به صاحب الحاوي الصغير من اعتبار القطع فيضم طلع نخله إلى الآخران طلع الثاني قبل جذاذ الأول وكذا بعده في عام واحد
( وقيل إن طلع الثاني بعد جذاذ الأول ) بفتح الجيم وكسرها وإهمال الدالين وإعجامهما أي قطعه
( لم يضم ) لأنه يشبه ثمر عامين وصحح هذا في الشرح الصغير
ولو اطلع الثاني قبل بدو صلاح الأول ضم إليه جزما
ويستثنى من الأول ما لو أثمر نخل أو كرم مرتين في عام فلا ضم بل هما كثمرة عامين
والأصح على الثاني إن وقت الجذاذ كالجذاذ
ولو كان له نخلة تهامية تحمل في العام مرتين ونجدية تبطىء بحملها فحملت النجدية بعد جذاذ حمل التهامية في العام ضم ثمر النجدية إلى ثمر التهامية فإن أدرك حمل التهامية الثاني لم يضم إليها ولو أدركها قبل بدو صلاحها لأنا لو ضممناها إليها لزمه ضمه إلى حمل التهامية الأول وهو ممتنع لما مر أن كل حمل كثمرة عام
( وزرعا العام يضمان ) وإن اختلفت زراعتهما في الفصول لما مر ويتصور ذلك في الذرة لأنها تزرع في الربيع والخريف والصيف
( والأظهر ) في الضم ( اعتبار وقوع حصاديهما في سنة ) واحدة اثنا عشر شهر عربية كما مر خلافا للبندنيجي من أنه سنة الزرع وإن لم يقع الزرعان في سنة إذ الحصاد هو المقصود وعنده يستقر الوجوب
والثاني الاعتبار بوقوع الزرعين في سنة وإن كان حصاد الثاني خارجا عنها لأن الزرع هو الأصل والحصاد فرعه وثمرته
وحكيا في الشرح والروضة في ذلك ثمانية أقوال
____________________
(1/384)
أخر فجملة ذلك عشرة أقوال ذكرتها في شرح التنبيه
والأول عزاه الشيخان إلى الأكثرين وصححاه وهو المعتمد وإن قال في المهمات إنه نقل باطل يطول القول بتفصيله
والحاصل أني لم أر من صححه فضلا عن عزوه إلى الأكثرين بل رجح كثيرون اعتبار وقوع الزرعين في عام منهم البندنيجي وابن الصباغ وذكر نحوه ابن النقيب
قال شيخنا في شرح منهجه ويجاب بأن ذلك لا يقدح في نقل الشيخين لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ اه
وهل المراد بالحصاد أن يكون بالفعل أو بالقوة قال الكمال بن أبي شريف تعليلهم يرشد إلى الثاني ولو وقع الزرعان معا أو على التواصل المعتاد ثم أدرك أحدهما والآخر يقل لم يشتد حبه فالأصح القطع فيه بالضم وقيل على الخلاف
ولو اختلف المالك والساعي في أنه زرع عام أو عامين صدق المالك في قوله عامين فإن اتهمه الساعي حلفه ندبا لأن ما ادعاه ليس مخالفا للظاهر
والمستخلف من أصل كذرة سنبلت مرة ثانية في عام يضم إلى الأصل كما علم مما مر بخلاف نظيره من الكرم والنخل كما سلف لأنهما يردان للتأييد فجعل كل حمل كثمرة عام بخلاف الذرة ونحوها فألحق الخارج منها ثانيا بالأول كزرع تعجل إدراك بعضه
( وواجب ما شرب بالمطر ) أو بما انصب إليه من جبل أو نهر أو عين ( أو عروقه بقربه من الماء ) وهو البعل ( من ثمر وزرع العشر و ) واجب ( ما سقي ) منهما ( بنضح ) من نحو نهر بحيوان ويسمى الذكر ناضحا والأنثى ناضحة ويسمى هذا الحيوان أيضا سانية بسين مهملة ونون مثناة من تحت
( أو دولاب ) بضم أوله وفتحه وهو ما يديره الحيوان أو دانية وهي البكرة أو ناعورة وهي ما يديره الماء بنفسه ( أو بما اشتراه ) أو وهب له لعظم المنة فيه أو غصبه لوجوب ضمانه ( نصفه ) أي العشر وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر رواه البخاري من حديث ابن عمر
وفي مسلم من حديث جابر فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر
وفي رواية لأبي داود إن في البعل العشر
وانعقد الإجماع على ذلك كما قاله البيهقي وغيره
والمعنى فيه كثرة المؤنة وخفتها كما في المعلوفة والسائمة
قال أهل اللغة والبعل ما يشرب بعروقه والعثري بفتح المهملة والمثلثة ما سقي بماء السيل الجاري إليه في حفرة وتسمى الحفرة عاثوراء لتعثر المار بها إذا لم يعلمها
تنبيه الأولى في قراءة ما في قول المصنف بما اشتراه مقصورة على أنها موصولة لا ممدودة اسما للماء المعروف فإنها على التقدير الأول تعم الثلج والبرد بخلاف الممدودة وقول الإسنوي وتعم على الأول الماء النجس ممنوع إذ لا يصح شراؤه
( والقنوات ) والسواقي المحفورة من النهر العظيم ( كالمطر على الصحيح ) ففي المسقي بما يجري فيها منه العشر لأن مؤنة القنوات إنما تخرج لعمارة القرية والأنهار إنما تحفر لإحياء الأرض فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بطبعه مرة بعد أخرى بخلاف السقي بالنواضح ونحوها فإن المؤنة للزرع نفسه
والثاني يجب فيها نصف العشر لكثرة المؤنة فيها والأول يمنع ذلك
( و ) واجب ( ما سقي بهما ) أي بالنوعين كالنضح والمطر ( سواء ثلاثة أرباعه ) أي العشر عملا بواجب النوعين
( فإن غلب أحدهما ففي قول يعتبر هو ) فإن غلب المطر فالعشر أو النضح فنصفه ترجيحا لجانب الغلبة
( والأظهر يقسط ) لأنه القياس كما قاله في الأم فإن كان ثلثاه بماء السماء وثلثه بالدولاب وجب خمسة أسداس العشر ثلثا العشر للثلثين وثلث نصف العشر للثلث وفي عكسه ثلثا العشر
والغلبة والتقسيط ( باعتبار عيش الزرع ) أو الثمر ( ونمائه وقيل بعدد السقيات ) أي النافعة بقول أهل الخبرة
ويعبر عن الأول وهو اعتبار عيش الزرع باعتبار المدة فلو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الإدراك ثمانية أشهر واحتاج في ستة أشهر زمن الشتاء والربيع إلى سقيتين فسقي بماء السماء وفي شهرين من زمن الصيف إلى ثلاث سقيات فسقي بالنضح فإن اعتبرنا عدد السقيات فعلى قول التوزيع يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر وعلى قول اعتبار الأغلب يحب نصف العشر لأن عدد السقيات
____________________
(1/385)
بالنضح أكثر وإن اعتبر بالمدة فعلى قول التوزيع يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر وعلى قول اعتبار الأغلب يجب العشر لأن مدة السقي بماء السماء أطول
ولو سقي الزرع أو الثمر بماء السماء والنضح وجهل مقدار كل منهما وجب فيه ثلاثة أرباع العشر أخذا بالأسوأ وقيل نصف العشر لأن الأصل براءة الذمة من الزيادة عليه
ولو علم أن أحدهما أكثر وجهل عينه فالواجب ينقص عن العشر ويزيد على نصف العشر فيؤخذ اليقين ويوقف الباقي إلى البيان ذكره الماوردي
وسواء في جميع ما ذكر في السقي بماءين أنشأ الزرع على قصد السقي بهما أم أنشأه قاصد السقي بأحدهما ثم عرض السقي بالآخر وقيل في الحال الثاني يستصحب حكم ما قصده
ولو كان له زرع أو ثمر مسقي بماء السماء وآخر مسقي بالنضح ولم يبلغ واحد منهما نصابا ضم أحدهما إلى الآخر لتمام النصاب وإن اختلف قدر الواجب وهو العشر في الأولى ونصفه في الآخر
ولو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقي صدق المالك لأن الأصل عدم وجوب الزيادة عليه
قال في المجموع فإن اتهمه الساعي حلفه ندبا
( وتجب ) الزكاة فيما ذكر ( ببدو صلاح الثمر ) لأنه حينئذ ثمرة كاملة وهو قبل ذلك حصرم وبلح
( و ) ببدو ( اشتداد الحب ) لأنه حينئذ طعام وهو قبل ذلك بقل
وليس المراد بوجوب الزكاة بما ذكر وجوب إخراجها في الحال بل انعقاد سبب وجوب إخراج التمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى ضابط الصلاح في باب الأصول والثمار وأنه لا يشترط تمام الصلاح والاشتداد ولا بدو صلاح الجميع واشتداده
ومؤنة الجفاف والتصفية والجذاذ والدياس والحمل وغيرها مما يحتاج إلى مؤنة على المالك لا من مال الزكاة فإن أخذ الساعي الزكاة مما يجف رطبا بفتح الراء وإسكان الطاء ردها وجوبا إن كانت باقية ولو تلفت في يد الساعي لزمه رد مثلها لأن الرطب مثلي كما صححه في الروضة في باب الغصب
وقيل يلزمه رد قيمتها كما نص عليه الشافعي والأكثرون بناء على أن الرطب متقوم
والقائل بالأول حمل النص على فقد المثل فلو جففها الساعي ونقصت عن قدر الزكاة أو لم تنقص لم تجزه كما ذكره ابن كج وجزم به ابن المقري في روضه لفساد القبض من أصله خلافا للعراقيين من أنها تجزىء
ولو أخذ الساعي الحب قبل التصفية لم يقع الموقع إلا الأرز والعلس فإنه يؤخذ واجبهما في قشرهما كما مر
ولو اشترى نخيلا وثمرتها بشرط الخيار فبدأ الصلاح في مدته فالزكاة على من له الملك وهو البائع إن كان الخيار له أو المشتري إن كان له وإن لم يبق الملك له بأن أمضى البيع في الأولى وفسخ في الثانية وإن كان الخيار لهما فالزكاة موقوفة فمن ثبت له الملك وجبت الزكاة عليه
وإن اشترى النخيل بثمرتها أو ثمرتها فقط كافر أو مكاتب فبدأ الصلاح في ملكه ثم ردها بعيب أو غيره كما قاله بعد بدو الصلاح لم تجب زكاتها على أحد أما المشتري فلأنه ليس أهلا لوجوب الزكاة وأما البائع فلأنها لم تكن في ملكه حين الوجوب
أو اشتراها مسلم فبدأ الصلاح في ملكه ثم وجد بها عيبا لم يردها على البائع قهرا لتعلق الزكاة بها فهو كعيب حدث بيده فلو أخرج الزكاة من الثمر لم يرد وله الأرش أو من غيرها فله الرد أما لوردها عليه برضاه فجائز لإسقاط البائع حقه
وإن اشترى الثمرة وحدها بشرط القطع فبدأ الصلاح حرم القطع لتعلق حق المستحقين بها فإذا لم يرض البائع بالإبقاء فله الفسخ لتضرره بمص الثمرة ماء الشجرة
ولو رضي به وأبى المشتري إلا القطع لم يكن للمشتري الفسخ لأن البائع قد رضي بإسقاط حقه وللبائع الرجوع في الرضا بالإبقاء لأن رضاه على المشتري
فرع قال الزركشي لو بدأ الصلاح قبل القبض فهذا عيب حدث بيد البائع قبل القبض فينبغي أن يثبت الخيار للمشتري
قال وهذا إذا بدأ بعد اللزوم وإلا فهذه ثمرة استحق إبقاؤها في زمن الخيار فصار كالمشروط في زمنه فينبغي أن ينفسخ العقدان
قلنا الشرط في زمن الخيار يلحق بالعقد
( ويسن خرص ) أي حزر ( الثمر ) بالمثلثة الذي تجب فيه الزكاة وهو الرطب والعنب
( إذا بدا صلاحه على مالكه ) لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا رواه الترمذي وقال حسن غريب وأخرجه ابن حبان والحاكم
____________________
(1/386)
في صحيحيهما
وقيل يجب الخرص لظاهر الحديث
والخرص لغة القول بالظن ومنه قوله تعالى { قتل الخراصون } واصطلاحا ما تقرر وحكمته الرفق بالمالك والمستحق
ولا فرق في الخرص بين ثمار البصرة وغيرها كما هو ظاهر كلام الأصحاب وإن استثنى الماوردي ثمار البصرة فقال يحرم خرصها بالإجماع لكثرتها ولكثرة المؤنة في خرصها ولإباحة أهلها الأكل منها للمجتاز وتبعه عليه الروياني قال وهذا في النخل أما الكرم فهم فيه كغيرهم قال السبكي وعلى هذا ينبغي إذا عرف من شخص أو بلد ما عرف من أهل البصرة يجري عليه حكمهم اه
ويجوز خرص الكل إذا بدا الصلاح في نوع دون آخر في أقيس الوجهين
وخرج بالثمر الحب فلا خرص فيه لاستتار حبه ولأنه لا يؤكل غالبا رطبا بخلاف الثمرة ويبدو الصلاح ما قبله لأن الخرص لا يتأتى فيه إذ لا حق للمستحقين فيه ولا ينضبط المقدار لكثرة العاهات قبل بدو الصلاح
وكيفية الخرص أن يطوف بالنخلة ويرى جميع عناقيدها ويقول عليها من الرطب أو العنب كذا ويجيء منه تمرا أو زبيبا كذا ثم يفعل كذلك بنخلة بعد نخلة إن اختلف النوع
ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي لأنها تتفاوت فإن أتحد النوع جاز أن يخرص الجميع رطبا أو عنبا ثم تمرا أو زبيبا
( والمشهور إدخال جميعه في الخرص ) لعموم الأدلة المقتضية لوجوب العشر أو نصفه من غير استثناء والثاني أنه يترك للمالك ثمر نخلة أو نخلات يأكله أهله
واحتج له بقوله عليه الصلاة والسلام إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع رواه أبو داود وصححه ابن حبان ويختلف ذلك بكثرة عياله وقلتهم
وأجاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بحمله على أنه يترك له ذلك من الزكاة لا من المخروص ليفرقه بنفسه على فقراء أهله وجيرانه لطمعهم في ذلك منه
( و ) المشهور ( أنه يكفي خارص ) واحد كالحاكم لأنه يجتهد ويعمل باجتهاده ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبدالله بن رواحة خارصا أول ما تطيب الثمرة رواه أبو داود بإسناد حسن والثاني يشترط اثنان كالتقويم والشهادة وقطع بعضهم بالأول
( وشرطه ) أي الخارص واحدا كان أو اثنين ( العدالة ) في الرواية لأن الفاسق لا يقبل قوله ولا بد أن يكون عالما بالخرص لأنه اجتهاد والجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد فيه
( وكذا ) شرطه ( الحرية والذكورة في الأصح ) لأن الخرص ولاية وليس الرقيق والمرأة من أهلها والثاني لا يشترطان كما في الكيال والوزان
ولو اختلف خارصان توقفنا حتى يتبين المقدار منهما أو من غيرهما نقله في زيادة الروضة عن الدارمي ثم قال وهو ظاهر
( فإذا خرص فالأظهر أن حق الفقراء ينقطع من عين الثمر ويصير في ذمة المالك التمر والزبيب ليخرجهما بعد جفافه ) إن لم يتلف قبل التمكن بلا تفريط لأن الخرص يبيح له التصرف في الجميع كما سيأتي وذلك يدل على انقطاع حقهم عنه
والثاني لا ينتقل حقهم إلى ذمته بل يبقى متعلقا بالعين كما كان لأنه ظن وتخمين فلا يؤثر في نقل حق إلى الذمة
وفائدة الخرص على هذا جواز التصرف في غير قدر الزكاة ويسمى هذا قول العبرة أي لاعتباره القدر والأول قول التضمين
أما إذا تلف قبل التمكن بآفة أو سرقة من الشجر أو من الجرين قبل الجفاف بلا تفريط فلا شيء عليه كما سيأتي
( ويشترط ) في الانقطاع والصيرورة المذكورين ( التصريح ) من الخارص أو من يقوم مقامه ( بتضمينه ) أي حق المستحقين للمالك كأن يقول الساعي ضمنتك نصيب المستحقين من الرطب أو العنب بكذا تمرا أو زبيبا
( وقبول المالك ) التضمين ( على المذهب ) بناء على الأظهر لأن الحق ينتقل من العين إلى الذمة فلا بد من رضاهما كالبائع والمشتري فإن لم يضمنه أو ضمنه فلم يقبله المالك بقي حق الفقراء كما كان والمضمن هو الساعي أو الإمام
وتقييده القبول بالمالك ربما يخرج الولي ونحوه وليس مرادا
( وقيل ينقطع ) حقهم ( بنفس الخرص ) لأن التضمين لم يرد في الحديث
وليس هذا التضيمن على حقيقة الضمان لأنه لو تلفت الثمار جميعها بآفة سماوية أو سرقت من الشجر أو الجرين قبل الجفاف بلا تفريط فلا شيء عليه قطعا لفوات الإمكان وإن تلف بعض الثمار
____________________
(1/387)
فإن كان الباقي نصابا زكاه وإن كان دونه بنى على أن الإمكان شرط للوجوب أو للضمان وسيأتي
فإن قلنا بالأول فلا شيء عليه وإلا زكى الباقي بحصته
( فإذا ضمن ) أي المالك ( جاز تصرفه في جميع المخروص بيعا وغيره ) لانقطاع التعلق عن العين
وقد يفهم كلام المصنف أنه يمتنع عليه التصرف قبل التضمين في جميع المخروص لا بعضه وهو كذلك فينفذ تصرفه فيما عدا الواجب شائعا لبقاء الحق في العين لا معينا فلا يجوز له أكل شيء منه فإن لم يبعث الحاكم خارصا أو لم يكن حاكم تحاكم إلى عدلين عالمين بالخرص يخرصان عليه لينتقل الحق إلى الذمة ويتصرف في الثمرة
واستشكل الأذرعي إطلاقهم جواز التصرف بالبيع وغيره بعد التضمين إذا كان المالك معسرا ويعلم أنه يصرف الثمرة كلها في دينه أو يأكلها عياله قبل الجفاف ويضيع حق المستحقين ولا ينفعهم كونه في ذمته الخربة
( ولو ادعى ) المالك ( هلاك المخروص ) كله أو بعضه ( بسبب خفي كسرقة ) أو مطلقا كما قاله الرافعي فهما من كلامهم
( أو ظاهر عرف ) أي اشتهر بين الناس كحريق أو برد أو نهب دون عمومه أو عرف عمومه ولكن اتهم في هلاك الثمر به
( صدق بيمينه ) في دعوى التلف بذلك السبب فإن عرف السبب الظاهر وعمومه ولم يتهم صدق بلا يمين
تنبيه اليمين هنا وفيما سيأتي من مسائل الفصل مستحبة على الأصح وجعله السرقة من أمثلة الهلاك جرى على الغالب لأن المسروق قد يكون باقيا فلو عبر بالضائع بدل الهلاك لكان أولى
( فإن لم يعرف الظاهر طولب ببينة ) على وقوعه ( على الصحيح ) لسهولة إقامتها ( ثم ) بعد إقامتها ( يصدق بيمينه في الهلاك به ) أي بذلك السبب لاحتمال سلامة ماله بخصوصه والثاني يصدق بيمينه بلا بينة لأنه مؤتمن شرعا
ولو ادعى تلفه بحريق وقع في الجرين مثلا وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق لم يبال بكلامه
( ولو ادعى حيف الخارص ) فيما خرصه أي إخباره عمدا بزيادة على ما عنده قليلة كانت أو كثيرة
( أو غلطه ) فيه ( بما يبعد ) أي لا يقع عادة من أهل المعرفة بالخرص كالربع ( لم يقبل ) إلا ببينة أما في الأولى فقياسا على دعوى الجور على الحاكم أو الكذب على الشاهد وأما في الثانية فللعلم ببطلانه عادة
نعم يحط عنه القدر المحتمل وهو الذي لو اقتصر عليه لقبل ولو لم يدع غلط الخارص وقال لم أجد إلا هذا فإنه يصدق إذ لا تكذيب فيه لأحد لاحتمال تلفه قال الماوردي وغيره
فائدة يقال غلط في منطقه وغلت بالمثناة في الحساب
( أو ) ادعى غلطه ( بمحتمل ) بفتح الميم بعد تلف المخروص وبين قدره وكان مقدارا يقع عادة بين الكيلين كوسق في مائة ( قبل في الأصح ) وحط عنه ما ادعاه لأنه أمين فوجب الرجوع إليه في دعوى نقصه عند كيله لأن الكيل يقين والخرص تخمين فالإحالة عليه أولى
والثاني لا يحط لاحتمال أن النقصان في كيله له ولعله يوفي لو كاله ثانيا فإن كان المخروص باقيا أعيد كيله فإن كان أكثر مما يقع بين الكيلين مما هو محتمل أيضا كخمسة أوسق من مائة قال البندنيجي وكعشر الثمرة وسدسها قبل قوله وحط عند ذلك القدر بلا خلاف فإن اتهم في دعواه بما ذكر حلف ولو ادعى غلطه ولم يبين قدرا لم تسمع دعواه
خاتمة قال الماوردي يستحب أن يكون الجداد نهارا ليطعم الفقراء وقد ورد النهي عن الجداد ليلا سواء أوجبت في المجدود الزكاة أم لا
وإذا أخرج زكاة الثمار والحبوب وأقامت عنده سنين لم يجب فيها شيء آخر بخلاف الماشية والذهب والفضة لأن الله تعالى علق وجوب الزكاة بحصادها ولم يتكرر فلا تتكرر الزكاة لأنها إنما تكرر في الأموال النامية وهذه منقطعة النماء متعرضة للفساد
وتؤخذ الزكاة ولو كانت الأرض خراجية والخراج المأخوذ ظلما لا يقوم مقام العشر فإن أخذه السلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد فيسقط به الفرض في الأصح
والنواحي التي يؤخذ منها الخراج ولا يعلم حالها يستدام الأخذ منها فإنه يجوز أن يكون صنع بها كما صنع عمر رضي الله تعالى عنه في خراج السواد
____________________
(1/388)
باب زكاة النقد وهو ضد العرض والدين
قاله القاضي عياض فيشمل المضروب وغيره وبهذا يندفع اعتراض الإسنوي بأن النقد هو المضروب من الذهب والفضة خاصة فلو عبر المصنف بهما كما عبر في الروضة لكان أولى
وقال الأزهري الناض من المال ما كان نقدا وهو ضد العرض ويندفع بهذا اعتراض المصنف على التنبيه بأن الناض هو الدراهم والدنانير خاصة وأنه كان ينبغي أن يقول الذهب والفضة
وأصل النقد لغة الإعطاء
ثم أطلق النقد على المنقود من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول والأصل في الباب قبل الإجماع مع ما يأتي قوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة } والكنز هو الذي لم تؤد زكاته
( نصاب الفضة مائتا درهم و ) نصاب ( الذهب عشرون مثقالا ) بالإجماع ( بوزن مكة ) لقوله صلى الله عليه وسلم المكيال مكيال المدينة والوزن وزن مكة رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح
وسواء المضروب منهما وغيره
وهذا المقدار تحديد فلو نقص في ميزان وتم في آخر فلا زكاة على الأصح للشك في النصاب
وقدم الفضة على الذهب لأنها أغلب
والمثقال لم يتغير جاهلية ولا إسلاما وهو اثنان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال
والمراد بالدراهم الدراهم الإسلامية التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهما وسبعان وكانت في الجاهلية مختلفة ثم ضربت في زمان عمر وقيل عبد الملك على هذا الوزن وأجمع المسلمون عليه
ووزن الدرهم ستة دوانق والدانق ثمان حبات وخمسا حبة فالدرهم خمسون حبة وخمسا حبة ومتى زيد على الدرهم ثلاثة أسباعه كان مثقالا ومتى نقص من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهما لأن المثقال عشرة أسباع فإذا نقص منها ثلاثة بقي درهم
فائدة كل دراهم أخذ نصفها وخمسها كان المأخوذ مثاقيل وكذا لو أخذ خمسها ونصف خمسها كان الباقي مثاقيل وكل مثاقيل ضربت في عشرة وقسمت على سبعة خرجت دراهم
( وزكاتهما ) أي الذهب والفضة ( ربع عشر ) في النصاب لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة
وروى البخاري وفي الرقة ربع العشر والرقة والورق الفضة والهاء عوض من الواو
والأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء على الأشهر أربعون درهما بالنصوص المشهورة والإجماع قاله في المجموع قال وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح أو حسن عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس في أقل من عشرين دينارا شيء وفي عشرين نصف دينار وروى أبو داود والبيهقي بإسناد جيد ليس عليك شيء حتى يكون عشرون دينارا فإذا كانت لك وحال عليها الحول ففيها نصف دينار
والمعنى في ذلك أن الذهب والفضة معدان للنماء كالماشية السائمة وهما من أشرف نعم الله تعالى على عباده إذ بهما قوام الدنيا ونظام أحوال الخلق فإن حاجات الناس كثيرة وكلها تنقضي بهما بخلاف غيرهما من الأموال فمن كنزهما فقد أبطل الحكمة التي خلقها لها كمن حبس قاضي البلد ومنعه أن يقضي حوائج الناس
ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه كما صرح به في المحرر والفرق بينه وبين المواشي ضرر المشاركة
ولا يكمل نصاب أحدهما بالآخر لاختلاف الجنس كما لا يكمل التمر بالزبيب ويكمل الجيد بالرديء من الجنس الواحد وعكسه كما في الماشية
والمراد بالجودة النعومة وبالرداءة الخشونة ونحوها
ويؤخذ من كل نوع بالقسط إن سهل الأخذ بأن قلت أنواعه فإن كثرت وشق اعتبار الجميع أخذا من الوسط كما في المعشرات
ولا يجزىء رديء عن جيد ولا مكسر عن صحيح كما لو أخرج مريضة عن صحاح قالوا ويجوز عكسه بل هو أفضل لأنه زاد خيرا فيسلم مخرج الدينار الصحيح أو الجيد إلى من يوكله الفقراء منهم أو من غيرهم
قال في المجموع وإن لزمه نصف دينار سلم إليهم دينارا نصفه عن الزكاة ونصفه يبقى له معهم أمانة ثم يتفاصل هو وهم فيه بأن يبيعوه لأجنبي ويتقاسموا ثمنه أو يشتروا منه نصفه أو يشتري نصفهم لكن يكره له شراء صدقته ممن تصدق عليه سواء فيه الزكاة وصدقة
____________________
(1/389)
التطوع
( ولا شيء في المغشوش ) أي المخلوط بما هو أدون منه كذهب بفضة وفضة بنحاس
( حتى يبلغ خالصه نصابا ) للأحاديث السابقة فإذا بلغه أخرج الواجب خالصا أو مغشوشا خالصه قدر الواجب وكان متطوعا بالنحاس
فما قيل إن هذا ظاهر على القول بأن القسمة إفراز لا على القول بأنها بيع لامتناع بيع المغشوش بمثله مردود بأن ذلك ليس قسمة بيع بمغشوش لأنه في الحقيقة إنما أعطى للزكاة خالصا عن خالص والنحاس وقع تطوعا كما تقرر لكن المتجه كما قال الإسنوي أنه يتعين على ولي المحجور عليه إخراج الخالص حفظا للنحاس إذا كانت مؤنة السبك تنقص عن قيمة الغش
ولو أخرج رديئا عن جيد كأن أخرج خمسة معيبة عن مائتين جيدة فله استرداده إن بين ذلك عند الدفع أنه عن ذلك المال كما لو عجل الزكاة فتلف ما له قبل الحول وإلا فلا يسترده
ويكره للإمام ضرب المغشوش لخبر الصحيحين من غشنا فليس منا ولئلا يغش بها بعض الناس بعضا فإن علم معيارها صحت المعاملة بها معينة وفي الذمة اتفاقا
وإن كان مجهولا ففيه أربعة أوجه أحدها الصحة مطلقا كبيع الغالية والمعجونات ولأن المقصود رواجها وهي رائجة ولحاجة المعاملة بها
والثاني لا يصح مطلقا كاللبن المخلوط بالماء
والثالث إن كان الغش مغلوبا صح التعامل بها وإن كان غالبا لم يصح
والرابع يصح التعامل بها في العين دون الذمة ولو كان الغش قليلا بحيث لا يأخذ حظا من الوزن فوجوده كعدمه
ويكره لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير ولو خالصة لأنه من شأن الإمام ولأن فيه افتياتا عليه
ومن ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها قال القاضي أبو الطيب إلا إن كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها ذكره في المجموع
( ولو اختلط إناء منهما ) أي من الذهب والفضة بأن أذيبا وصبغ منهما الإناء كأن كان وزنه ألف درهم أحدهما ستمائة والآخر أربعمائة ( وجهل أكثرهما زكي ) كل منهما بفرضه ( الأكثر ذهبا أو فضة ) احتياطا إن كان رشيدا
أما غيره فيتعين التمييز لأنه الأحوط له
ولا يجوز فرض كله ذهبا لأن أحد الجنسين لا يجزىء عن الآخر وإن كان أعلى منه كما مر
( أو ميز ) بينهما بالنار ويحصل ذلك بسبق قدر يسير إذا تساوت أجزاؤه قاله في البسيط
أو امتحن بالماء فيضع ماء في قصعة مثلا ثم يضع فيه ألفا ذهبا ويعلم ارتفاعه ثم يخرجها ثم يضع فيها ألفا فضة ويعلمه وهذه العلامة فوق الأولى لأن الفضة أكثر حجما من الذهب فيزيد ارتفاع الماء بسبب ذلك ثم يخرجها ثم يضع فيه المخلوط فإلى أيهما كان ارتفاعه أقرب فالأكثر منه ويكتفي بوضع المخلوط أولا وآخرا ووسطا
قال الإسنوي وأسهل من هذا وأضبط أن تضع في الماء قدر المخلوط منهما معا مرتين في أحدهما الأكثر ذهبا والأقل فضة وفي الثانية بالعكس وتعلم في كل منهما علامة ثم تضع المخلوط فيلحق بما وصل إليه
قال والطريق الأول يأتي أيضا في مختلط جهل وزنه بالكلية كما قاله الفوراني فإنك إذا وضعت المختلط المذكور تكون علامته بين علامتي الخالص فإن كانت نسبته إليهما سواء فنصفه ذهب ونصفه فضة وإن كان بينه وبين علامة الذهب شعيرتان وبينه وبين علامة الفضة شعيرة فثلثاه فضة وثلثه ذهب أو بالعكس فبالعكس ومؤنة السبك على المالك
قال الرافعي وإذا تعذر الامتحان وعسر التمييز بفقد آلات السبك أو يحتاج فيه إلى زمان صالح وجب الاحتياط فإن الزكاة واجبة على الفور فلا يجوز تأخيرها مع وجود المستحقين ذكره في النهاية ولا يبعد أن يجعل السبك أو ما في معناه من شروط الإمكان اه
ولا يعتمد المالك في معرفة الأكثر غلبة ظنه ولو تولى إخراجها بنفسه ويصدق فيه إن خبر عن علم
ولو ملك نصابا نصفه في يده وباقيه مغصوب أو دين مؤجل زكى الذي في يده في الحال بناء على أن الإمكان شرط للضمان لا للوجوب لأن الميسور لا يسقط بالمعسور
( ويزكى المحرم ) من الذهب والفضة ( من حلى ) بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام
( و ) من ( غيره ) كالأواني بالإجماع وكذا المكروه كالضبة الكبيرة للحاجة والصغيرة للزينة
( لا ) الحلي ( المباح في الأظهر ) كخلخال لامرأة لأنه معد لاستعمال مباح فأشبه العوامل من النعم والثاني يزكى لأن زكاة النقد تناط بجوهره
ورد بأن زكاته إنما تناط بالاستغناء عن الانتفاع به لا بجوهره إذ لا غرض في ذاته ويستثنى من إطلاقه أنه لا زكاة في الحلي المباح ما لو
____________________
(1/390)
مات عن حلي مباح ولم يعلم به وارثه إلا بعد الحول فإنه تجب زكاته لأن الوارث لم ينو إمساكه لاستعمال مباح ذكره الروياني ثم ذكر عن والده احتمال وجه فيه إقامة نية مورثه مقام نيته
واستشكل الأول بالحلي الذي اتخذه بلا قصد شيء بأنه لا زكاة فيه كما سيأتي
وأجيب بأن في تلك اتخاذا دون هذه
( فمن المحرم الإناء ) من الذهب والفضة للذكر وغيره كما مر في الأواني وهو محرم لعينه ومنه الميل للمرأة وغيرها فيحرم عليها
نعم لو اتخذ شخص ميلا من ذهب أو فضة لجلاء عينه فهو مباح كما مر في الكلام على الأواني ولا زكاة فيه على الأظهر
( والسوار ) بكسر السين ويجوز بضمها ( والخلخال ) بفتح الخاء ( للبس الرجل ) بأن يقصده باتخاذهما فهما محرمان بالقصد والخنثى في حلي النساء كالرجل وفي حلي الرجال كالمرأة احتياطا للشك في إباحته
( فلو اتخذ ) الرجل ( سوارا ) مثلا ( بلا قصد ) لا للبس ولا لغيره ( أو بقصد إجارته لمن له استعماله ) بلا كراهة ( فلا زكاة ) فيه ( في الأصح ) لانتفاء القصد المحرم والمكروه والثاني ينظر في الأولى إلى أنه ليس له لبسه وفي الثانية إلى أنه معد للماء
أما لو اتخذه لبعيره لمن له لبسه فلا زكاة جزما
وخرج بقول المصنف بلا قصد ما إذا قصد اتخاذه كنزا فإن الصحيح وجوب الزكاة فيه
ولو قصد باتخاذه مباحا ثم غيره إلى محرم أو بالعكس تغير الحكم كما جزم به في المجموع
( وكذا لو انكسر الحلي ) المباح للاستعمال بحيث يمنع الاستعمال ( وقصد إصلاحه ) وأمكن بلا صوغ فلا زكاة أيضا على الأصح وإن دام أحوالا لدوام صورة الحلي وقصد إصلاحه والثاني يجب فيه الزكاة لتعذر استعماله
وخرج بقوله وقصد إصلاحه ما إذا لم يقصده بأن قصد جعله تبرا أو دراهم أو كنزه أو لم يقصد شيئا وبقولي وأمكن بلا صوغ ما لو أحوج انكساره إلى صوغ فإن زكاته تجب وينعقد حوله من حين انكساره لأنه غير مستعمل ولا معد للاستعمال ولو كان الانكسار لا يمنع الاستعمال فلا أثر له
تنبيه حيث أوجبنا الزكاة في الحلي واختلفت قيمته ووزنه فالعبرة بقيمته لا وزنه بخلاف المحرم لعينه كالأواني فالعبرة بوزنه لا قيمته فلو كان له حلي وزنه مائتا درهم وقيمته ثلاثمائة تخير بين أن يخرج ربع عشرة مشاعا ثم يبيعه الساعي بغير جنسه ويفرق ثمنه على المستحقين أو يخرج خمسة مصوغة قيمتها سبعة ونصف نقدا ولا يجوز كسره ليعطي منه خمسة مكسرة لأن فيه ضررا عليه وعلى المستحقين أو كان له إناء كذلك تخير بين أن يخرج خمسة من غيره أو يكسره ويخرج خمسة أو يخرج ربع عشره مشاعا
( ويحرم على الرجل حلي الذهب ) ولو في آلة الحرب لما رواه الترمذي وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها
( إلا الأنف ) إذا جدع فإنه يجوز أن يتخذ من الذهب وإن أمكن اتخاذه من فضة لأن عرفجة بن أنس قطع أسعد يون الكلاب بضم الكاف اسم للمكان الذي كانت الوقعة عنده في الجاهلية فاتخذ له أنفا من فضة فأنتن عليه فأمره صلى الله عليه وسلم أن يتخذه من ذهب رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحكمة في الذهب أنه لا يصدأ إذا كان خالصا بخلاف الفضة
( و ) إلا ( الأنملة ) فإنه يجوز اتخاذها لمن قطعت منه ولو لكل أصبع من الذهب قياسا على الأنف
قال الأذرعي ويجب أن يقيد ذلك بما إذا كان ما تحت الأنملة سليما دون ما إذا كان أشل كما أرشد إليه تعليلهم بالعمل اه
وهو تقييد حسن وعليه ينبغي أن يكون في غير الأنملة السفلى
ثم رأيت الغزي قال وينبغي أن يقال الأنملة السفلى كالأصبع في المنع لأنها لا تتحرك اه
فائدة في الأنملة تسع لغات تثليث همزتها مع تثليث الميم وأفصحها فتح الهمزة وضم الميم قال جمهور أهل اللغة الأنامل أطراف الأصابع أي من اليدين والرجلين وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأصحابه في كل أصبع غير الإبهام ثلاث أنامل
( و ) إلا ( السن ) فإنه يجوز لمن قلعت سنه اتخاذ سن قياسا على الأنف وإن تعددت كما هو ظاهر كلامهم ويجوز أيضا شد السن به عند تحريكها
ولا زكاة فيما ذكر
____________________
(1/391)
وإن أمكن نزعه ورده كما هو قضية كلام الماوردي
وكل ما جاز من الذهب فهو بالفضة أولى
( لا الأصبع ) فلا يجوز اتخاذها من الذهب ولا من الفضة لأنها لا تعمل فتكون لمجرد الزينة ولا أنملتين منه لذلك بخلاف الأنملة والسن فإنه يمكن تحريكهما ويحرم اتخاذ اليد بطريق الأولى
( ويحرم سن الخاتم ) من الذهب اتخاذا واستعمالا على الرجل وهي الشعبة التي يستمسك بها الفص
( على الصحيح ) لعموم أدلة التحريم ومقابله احتمال للإمام فقال لا يبعد تشبيه القليل منه بالضبة الصغيرة في الإناء
وفرق الرافعي بأن الخاتم ألزم للشخص من الإناء واستعماله أدوم
نعم إن صدأ بحيث لا يبين جاز استعماله نقله في المجموع
وأجيب عن قول القاضي بأن الذهب لا يصدأ بأن منه نوعا يصدأ وهو ما يخالطه غيره
وأجيب عن قول الأذرعي الصحيح التحريم لأن علة التحريم العين لا الخيلاء بأن علة التحريم العين بشرط الخيلاء فالصحيح عدم التحريم
( ويحل له ) أي الرجل ومثله الخنثى بل أولى ( من الفضة الخاتم ) بالإجماع ولأنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة رواه الشيخان بل لبسه سنة سواء أكان في اليمين أم في اليسار لكن اليمين أفضل على الصحيح في باب اللباس من الروضة وقيل اليسار أفضل لأن اليمين صار شعارا للروافض والسنة أن يجعل الخاتم مما يلي كفه كما صرح به الرافعي في الوديعة لثبوته في الصحيح
ولا يكره للمرأة لبس خاتم الفضة خلافا للخطابي قاله في المجموع
ولم يتعرض الأصحاب لمقدار الخاتم المباح ولعلهم اكتفوا فيه بالعرف أي وهو عرف تلك البلد وعادة أمثاله فيها فما خرج عن ذلك كان إسرافا كما قالوه في خلخال المرأة
هذا هو المعتمد وإن قال الأذرعي الصواب ضبطه بدون مثقال لما في صحيح ابن حبان وسنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للابس الخاتم الحديد ما لي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه فقال يا رسول الله من أي شيء أتخذه قال اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا قال وليس في كلامهم ما يخالفه اه
وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أن ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله وتوحيد المصنف رحمه الله الخاتم وجمع ما بعده قد يشعر بامتناع التعدد اتخاذا ولبسا وهو خلاف ما في المحرر فإنه عبر بقوله ويجوز التختم بالفضة للرجال
وفي الروضة وأصلها ولو اتخذ الرجل خواتيم كثيرة ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز
فظاهره الجواز في الاتخاذ دون اللبس وفيه خلاف منتشر والذي ينبغي اعتماده فيه ما أفاده شيخي من أنه جائز ما لم يؤد إلى سرف
ولو تختم الرجل في غير الخنصر ففي حله وجهان أصحهما في شرح مسلم الحل مع كراهة التنزيه
( و ) يحل للرجل من الفضة ( حلية آلات الحرب كالسيف ) وأطراف السهام والدرع والخوذة ( والرمح والمنطقة ) بكسر الميم ما يشد بها الوسط والترس والخف وسكين الحرب لأن في ذلك إرهابا للكفار وقد ثبت أن قبيعة سيفه صلى الله عليه وسلم كانت من فضة وأن نعل سيفه كان من فضة والقبيعة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة هي التي تكون على رأس قائم السيف ونعل السيف ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضة ونحوهما ولأنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة رواه الترمذي وحسنه لكن خالفه ابن القطان فضعفه وهو الموافق لجزم الأصحاب بتحريم تحلية ذلك بالذهب
وأما سكين المهنة أو المقلمة فيحرم تحليتها على الرجل وغيره كما يحرم عليهما تحلية المرآة والدواة
( لا ما لا يلبسه كالسرج واللجام ) ونحوهما مما هو منسوب إلى الفرس كالركاب والقلادة والثغر وبرة الناقة وأطراف السيور ( في الأصح ) المنصوص لأن ذلك غير ملبوس للراكب فهو كالأواني وكذا يحرم تحلية المقراض ونحوه لما ذكر
والثاني يجوز كالسيف وصححه ابن عبد السلام
قال في الذخائر ولا يجوز تحلية لجام البغل والحمار وسرجهما وجها واحدا لأنهما لا يعدان للحرب ولا يحل له تحلية شيء مما ذكر بالذهب جزما لما فيه من زيادة الخيلاء
ومحل الخلاف في المقاتل أما غيره فيحرم عليه ذلك جزما
وظاهر كلامهم أنه لا فرق في تحلية آلة الحرب بين المجاهد وغيره وهو كذلك لأنه بسبيل من أن يجاهد
( وليس للمرأة حلية آلة الحرب ) بذهب ولا فضة وإن جاز لهن المحاربة بآلتها لما في ذلك من التشبيه بالرجال وهو حرام كعكسه للخبر الصحيح لعن الله المتشبهين بالنساء
____________________
(1/392)
من الرجال والمتشبهات من النساء بالرجال واللعن لا يكون على مكروه
وليس قول الشافعي في الأم ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب وإنه من زي النساء لا للتحريم مخالفا لهذا لأن مراده أنه من جنس زي النساء لا أنه زي لبس يختص بهن
فإن قيل إذا جاز للنساء المحاربة بآلتها غير محلاة جاز مع التحلية لأن التحلي أجوز لهن من الرجال
أجيب بأنه إنما جاز لهن لبس آلة الحرب للضرورة ولا ضرورة ولا حاجة إلى التحلية ومثل المرأة الخنثى احتياطا
( ولها لبس أنواع حلي الذهب والفضة ) بالإجماع للحديث السابق كالسوار والطوق والخاتم والحلق في الآذان والأصابع والتاج وإن لم يتعودنه كما صوبه في المجموع في باب اللباس والنعل
ولو تقلدت المرأة الدراهم والدنانير المثقوبة بأن جعلتها في قلادتها زكيت بناء على تحريمها وهو المعتمد كما في الروضة وإن خالف في المجموع في باب اللباس فقد وافقها في موضع آخر
ويحمل ما في اللباس على المعراة وهي التي جعل لها عرا وجعلت في القلادة فإنها لا زكاة فيها
( وكذا ما نسج بهما ) من الثياب لها لبسه ( في الأصح ) لعموم الأدلة ولأن ذلك من جنس الحلي والثاني لا لزيادة السرف والخيلاء
( والأصح تحريم المبالغة في السرف ) في كل ما أبحناه ( كخلخال ) للمرأة ( وزنه مائتا دينار ) لأن المباح ما يتزين به ولا زينة في مثل ذلك بل تنفر منه النفس لاستبشاعه
ويؤخذ من هذا التعليل إباحة ما تتخذه من النساء في هذا الزمان من العصائب الذهب وإن كثر ذهبها لأن النفس لا تنفر منه ولا تستبشع بل هو في غاية الزينة
والثاني لا يحرم كما لا يحرم اتخاذ أساور وخلاخل لتلبس الواحد منها بعد الواحد ويأتي في لبس ذلك معا ما مر في لبس الخواتيم للرجل
وخرج بتقييده السرف تبعا للمحرر بالمبالغة ما إذا أسرفت ولم تبالغ فإنه لا يحرم لكنه يكره فتجب فيه الزكاة كما يؤخذ من كلام ابن العماد
وفارق ما سيأتي في آلة الحرب حيث لم يعتبر فيه عدم المبالغة بأن الأصل في الذهب والفضة جلهما للمرأة بخلافهما لغيرها فاغتفر لها قليل السرف
( وكذا ) يحرم ( إسرافه ) أي الرجل ( في آلة الحرب ) في الأصح وإن لم يبالغ فيه لما مر من الفرق
ولو اتخذ آلات كثيرة للحرب محلاة جاز كما مر في اتخاذ الخواتيم للرجل
فائدة السرف مجاوزة الحد ويقال في النفقة التبذير وهو الإنفاق في غير حق المسرف المنفق في معصية وإن قل إنفاقه وغيره المنفق في الطاعة وإن أفرط قال ابن عباس ليس في الحلال إسراف وإنما السرف في ارتكاب المعاصي
قال الحسن بن سهل لا سرف في الخير كما لا خير في السرف
وقال سفيان الثوري الحلان لا يحتمل السرف
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته ما نفقتك قال الحسنة بين السيئتين ثم تلا قوله تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } الآية
( و ) الأصح ( جواز تحلية المصحف بفضة ) للرجل والمرأة إكراما له والثاني لا يجوز كالأواني
والخلاف قولان منصوصان وقيل وجهان كما حكاه المصنف
( وكذا ) يجوز ( للمرأة ) فقط ( بذهب ) لعموم أحل الذهب والحرير لإناث أمتي والثاني يجوز لهما إكراما والثالث المنع لهما
والطفل في ذلك كله كالمرأة
قال الزركشي وينبغي أن يلحق بالمصحف في ذلك اللوح المعد لكتابة القرآن
ويحل تحلية غلاف المصحف المنفصل عنه بالفضة للرجل والمرأة وأما بالذهب قال في المجموع فحرام بلا خلاف نص عليه الشافعي والأصحاب أي وإنما لم يجز للمرأة ذلك لأنه ليس حلية للمصحف
قال الغزالي ومن كتب المصحف بذهب فقد أحسن ولا زكاة عليه وظاهره أنه لا فرق بين أن يكتب للرجال أو للنساء وهو كذلك وإن نازع في ذلك الأذرعي
واحترز المصنف بتحلية المصحف عن تحلية الكتب فلا يجوز تحليتها على المشهور قال في الذخائر سواء فيه كتب الحديث وغيرها
ولو حلى المساجد أو الكعبة أو قناديلها بذهب أو فضة حرم لأنها ليست في معنى المصحف ولأن ذلك لم ينقل عن السلف فهو بدعة وكل بدعة ضلالة إلا ما استثني بخلاف كسوة الكعبة بالحرير فيزكى ذلك لا إن جعل وقفا على المسجد فلا يزكى لعدم المالك المعين
وظاهر كما قال شيخنا أن محل صحة وقفه إذا حل استعماله بأن احتيج إليه وإلا فوقف المحرم باطل
____________________
(1/393)
وبذلك علم أن وقفه ليس على التحلي كما توهم فإنه باطل كالوقف على تزويق المسجد ونقشه لأنه إضاعة مال
وقضية ما ذكر أنه مع صحة وقفه لا يجوز استعماله عند عدم الحاجة إليه وبه صرح الأذرعي نقلا له عن العمراني عن أبي إسحاق
( وشرط زكاة النقد الحول ) لخبر أبي داود وغيره لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول نعم لو ملك نصابا ستة أشهر مثلا ثم أقرضه إنسانا لم ينقطع الحول كما ذكره الرافعي في باب زكاة التجارة في أثناء تعليل وأسقطه من الروضة
( ولا زكاة في سائر الجواهر كاللؤلؤ ) والياقوت والزبرجد والفيروزج والمرجان لعدم ورودها في ذلك ولأنها معدة للاستعمال فأشبهت الماشية العاملة
خاتمة كل حلي لا يحل لأحد من الناس حكم صنعته كحكم صنعة الإناء فلا يضمنه كاسره على الأصح بخلاف ما يحل لبعض الناس لا يكسر لإمكان الانتفاع به ولو كسره أحد ضمنه
ولا يجوز تثقيب الآذان للقرط وإن أبيح القرط لأنه تعذيب بلا فائدة ووجب القصاص على المثقب إن وجدت شروطه كما قاله في الأنوار
ويجوز ستر الكعبة بالحرير لفعل السلف والخلف له تعظيما لها بخلاف ستر غيرها به وأخذ بعض المتأخرين من التعليل جواز ستر قبره صلى الله عليه وسلم به وينبغي اعتماده
قال ابن عبد السلام ولا بأس بتزيين المسجد بالقناديل أي من غير النقدين والشموع التي لا توقد لأنه نوع احترام
باب زكاة المعدن والركاز والتجارة بدأ المصنف بأولها وهو بفتح الميم وكسر الدال اسم للمكان الذي خلق الله تعالى فيه الجواهر من الذهب والفضة والحديد والنحاس سمي بذلك لعدونه أي إقامته يقال عدن إذا أقام فيه ومنه { جنات عدن } أي إقامة ويسمى المستخرج معدنا أيضا كما في الترجمة
والأصل في زكاته قبل الإجماع قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا } أي زكوا { من طيبات } أي خيار { ما كسبتم } أي من المال { من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } أي من الحبوب والثمار وخبر الحاكم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة وهي بفتح القاف والباء الموحدة ناحية من قرية بين مكة والمدينة يقال لها الفرع بضم الفاء وإسكان الراء
فقال ( من استخرج ) وهو من أهل الزكاة ( ذهبا أو فضة ) لا غيرهما كياقوت وزبرجد ونحاس وحديد ( من معدن ) من أرض مباحة أو مملوكة له ( لزمه ربع عشره ) لعموم الأدلة السابقة كخبر وفي الرقة ربع العشر ولا تجب عليه زكاته في المدة الماضية إذا وجده في ملكه لأنه لم يتحقق كونه ملكه من حين ملك الأرض لاحتمال كون الموجود مما يخلق شيئا فشيئا والأصل عدم وجوب الزكاة
( وفي قول ) يلزمه ( الخمس ) كالركاز بجامع الخفاء في الأرض
( وفي قول إن حصل بتعب ) كأن احتاج إلى طحن أو معالجة بالنار أو حفر ( فربع عشره وإلا ) بأن حصل بلا تعب ( فخمسه ) لأن الواجب يزداد بقلة المؤنة وينقص بكثرتها كالمعشرات
( ويشترط ) لوجوب الزكاة فيه ( النصاب ) لأن ما دونه لا يحتمل المواساة كما في سائر الأموال الزكوية ( لا الحول على المذهب فيهما ) وقطع به لأن الحول إنما يعتبر لأجل تكامل النماء والمستخرج من المعدن نماء في نفسه فأشبه الثمار والزروع
وقيل في اشتراط كل منهما قولان وطريق الخلاف مفرع في النصاب على وجوب الخمس لأنه مال يجب تخميسه فلا يعتبر فيه النصاب كالفيء والغنيمة وفي الحول على وجوب ربع العشر لعموم لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول
وإنما عبر بالمذهب لأن الأصح القطع باشتراط النصاب وبعدم اشتراط الحول
( ويضم بعضه ) أي المستخرج ( إلى بعض إن ) اتحد المعدن أي المخرج ( وتتابع العمل ) كما يضم المتلاحق
____________________
(1/394)
من الثمار ولا يشترط بقاء الأول على ملكه ويشترط اتحاد المكان المستخرج منه فلو تعدد لم يضم تقاربا أو تباعدا لأن الغالب في اختلاف المكان استئناف عمل هكذا علل به شيخي وكذا في الركاز نقله في الكفاية عن النص
( ولا يشترط ) في الضم ( اتصال النيل على الجديد ) لأنه لا يحصل غالبا إلا متفرقا والقديم إن طال زمن الانقطاع لم يضم كما لو قطع العمل
( وإذا قطع العمل بعذر ) كإصلاح الآلة وهرب الأجراء والمرض والسفر ثم عاد إليه ( ضم ) وإن طال الزمن عرفا لأنه لا يعد بذلك معرضا لأنه عازم على العمل إذا ارتفع العذر
( وإلا ) بأن قطع العمل بلا عذر ( فلا يضم ) سواء أطال الزمن أم لا لإعراضه
ومعنى عدم الضم أنه لا يضم ( الأول إلى الثاني ) في إكمال النصاب ( ويضم الثاني إلى الأول ) إن كان باقيا ( كما يضمه إلى ما ملكه بغير المعدن ) كإرث وهبة وغيرهما ( في إكمال النصاب ) فإذا استخرج من الفضة خمسين درهما بالعمل الأول ومائة وخمسين بالثاني فلا زكاة في الخمسين وتجب في المائة والخمسين كما تجب فيها لو كان مالكا لخمسين من غير المعدن وينعقد الحول على المائتين من حين تمامهما إذا أخرج حق المعدن من غيرهما ولو كان الأول نصابا ضم الثاني إليه قطعا
وتقييد المصنف بقوله في إكمال النصاب لا ترد عليه هذه الصورة لأنها بالوجوب أولى مما صرح به
تنبيه خرج بقولنا وهو من أهل الزكاة المكاتب فإنه يملك ما يأخذه من المعدن ولا زكاة عليه فيه وأما ما يأخذه العبد فلسيده فتلزمه زكاته
ويمنع الذمي من أخذ المعدن والركاز بدار الإسلام كما يمنع من الإحياء بها لأن الدار للمسلمين وهو دخيل فيها والمانع له الحاكم فقط وإن صرح الغزالي بأنه يجوز لكل مسلم فإن أخذه قبل منعه ملكه كما لو احتطب ويفارق ما أحياه بتأبد ضرره ولا يلزمه شيء بناء على أن مصرف حق المعدن مصرف الزكاة لا مصرف الفيء وهو الأصح
ووقت وجوب حق المعدن حصول النيل في يده على المذهب ووقت الإخراج عقب التخليص والتنقية من التراب ونحوه كما أن وقت الوجوب في الزرع اشتداد الحب ووقت الإخراج التنقية ويجبر على التنقية كما في تنقية الحبوب ومؤنتها عليه كمؤنة الحصاد والدياس فلا يجزىء إخراج الواجب قبلها لفساد القبض فإن قبضه الساعي قبلها ضمن فيلزمه رده إن كان باقيا وبدله إن كان تالفا وصدق بيمينه في قدره إن اختلفا فيه قبل التلف أو بعده لأن الأصل براءة ذمته وإن تلف في يده قبل التمييز وغرمه
فإن كان تراب فضة قوم بذهب أو تراب ذهب قوم بفضة والمراد بالتراب في الموضعين المعدن المخرج فإن اختلفا في قيمته صدق الساعي بيمينه لأنه غارم
قال في المجموع فإن ميزه الساعي فإن كان قدر الواجب أجزأه وإلا رد التفاوت أو أخذه ولا شيء للساعي بعمله لأنه متبرع ولو تلف بعضه في يد المالك قبل التنقية والتمكن منها ومن الإخراج سقطت زكاته لا زكاة الباقي وإن نقص عن النصاب فتكلف بعض المال قبل التمكن ولو استخرج إثنان من معدن نصابا زكياه للخلطة
ثم شرع في ذكر ثاني ما في الترجمة وسيأتي تعريفه فقال ( وفي الركاز الخمس ) رواه الشيخان وخالف المعدن من حيث أنه لا مؤنة في تحصيله أو مؤنته قليلة فكثر واجبه كالمعشرات
( يصرف ) أي الخمس وكذا المعدن ( مصرف الزكاة على المشهور ) لأنه حق واجب في المستفاد من الأرض فأشبه الواجب في الثمار والزروع
ورجح في أصل الروضة والمجموع القطع به وعليه يشترط كون الواجد من أهل الزكاة والثاني أنه يصرف لأهل الخمس لأنه مال جاهلي حصل الظفر به من غير إيجاف خيل ولا ركاب فكان كالفيء فعلى هذا يجب على المكاتب والكافر ولا يحتاج إلى نية
تنبيه مصرف بكسر الراء محل الصرف وهو المراد هنا وبفتحها مصدر
( وشرطه النصاب ) ولو بالضم كما مر ( والنقد ) أي الذهب والفضة المضروب وغيره كالسبائك ( على المذهب ) لأنه مال مستفاد من الأرض فاختص بما
____________________
(1/395)
تجب فيه الزكاة قدرا ونوعا كالمعدن
والثاني لا يشترطان لعموم قوله صلى الله عليه وسلم وفي الركاز الخمس
والطريق الثاني القطع بالأول ( لا الحول ) فلا يشترط بلا خلاف وإن جرى في المعدن خلاف للمشقة فيه ( وهو ) أي الركاز بمعنى المركوز ( الموجود الجاهلي ) أي دفين الجاهلية أو المراد بالجاهلية ما قبل الإسلام أي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به الشيخ أبو علي سمي بذلك لكثرة جهالاتهم
ويعتبر في كون الدفين الجاهلي ركازا كما قاله أبو إسحاق المروزي أن لا يعلم أن مالكه بلغته الدعوة فإن علم أنها بلغته وعاند ووجد في بنائه أو بلده متى أنشأها كنز فليس بركاز بل فيء حكاه في المجموع عن جماعة وأقره
ولم يبين المصنف هل المراد بالجاهلي ضربا أو دفنا
لكن قوله بعد وكذا إن لم يعلم من أي الضربين هو يدل على إرادته الأول
وعبارة الروضة الركاز دفين الجاهلية قيل وهي أولى فإن الحكم منوط بدفنهم إذ لا يلزم من كونه على ضرب الجاهلية كونه دفين الجاهلية لاحتمال أن مسلما عثر بكنز جاهلي فأخذه ثم دفنه كذا قالاه
وأجيب عنه بأن الأصل والظاهر عدم أخذ مسلم له ثم دفنه ثانيا ولو قلنا به لم يكن لنا ركاز بالكلية
قال السبكي والحق أنه لا يشترط العلم بكونه من دفنهم فإنه لا سبيل إليه وإنما يكتفى بعلامة تدل عليه من ضرب أو غيره اه
وهذا أولى
والتقييد بدفن الجاهلي يقتضي أن ما وجد في الصحارى من دفين الحربيين الذين عاصروا الإسلام لا يكون ركازا بل فيئا
قال الإسنوي يدل له كلام أبي إسحاق المروزي السابق
ويشترط في كونه ركازا أيضا أن يكون مدفونا فإن وجده ظاهرا فإن علم أن السيل أظهره فركاز أو أنه كان ظاهرا فلقطة وإن شك فكما لو شك في أنه ضرب الجاهلية أو الإسلام قاله الماوردي
( فإن وجد ) دفين ( إسلامي ) كأن يكون عليه شيء من القرآن أو اسم ملك من ملوك الإسلام ( علم مالكه فله ) لا للواجد فيجب رده على مالكه لأن مال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه
( وإلا ) بأن لم يعلم مالكه ( فلقطة ) يعرفه الواجد كما يعرف اللقطة الموجودة على وجه الأرض ( وكذا إن لم يعلم من أي الضربين ) الجاهلي والإسلامي ( هو ) بأن كان مما لا أثر عليه كالتبر والحلي والأواني أو كان مثله يضرب في الجاهلية والإسلام فهو لقطة يفعل فيه ما مر
( وإنما يملكه ) أي الركاز ( الواجد وتلزمه الزكاة ) فيه ( إذا وجده في موات ) سواء أكان بدار الإسلام أم بدار الحرب وإن كانوا يذبون عنه وسواء أحياه الواجد أم أقطعه أم لا وكالموات ما وجد في قبورهم أو خرائبهم أو قلاعهم ( أو ) وجد في ( ملك أحياه ) لأنه ملك الركاز بإحياء الأرض
( فإن وجد ) الركاز ( في مسجد أو شارع فلقطة على المذهب ) يفعل فيه ما مر لأن يد المسلمين عليه وقد جهل مالكه فيكون لقطة والثاني أنه ركاز كالموات بجامع اشتراك الناس في الثلاثة
( أو ) وجد ( في ملك شخص ) أو في موقوف عليه ( فللشخص إن ادعاه ) يأخذه بلا يمين كأمتعة الدار كذا قالاه
وقال ابن الرفعة و السبكي الشرط أن لا ينفيه قال الإسنوي وهو الصواب كسائر ما بيده والمعتمد ما قالاه ويفارق سائر ما بيده بأنها ظاهرة معلومة له غالبا بخلافه فاعتبر دعواه له لاحتمال أن غيره دفنه
( وإلا ) أي وإن لم يدعه بأن نفاه أو سكت ( فلمن ملك منه ) وتقوم ورثته مقامه بعد موته فإن نفاه بعضهم سقط حقه وسلك بالباقي ما ذكر
( وهكذا ) يجرى ما تقرر ( حتى ينتهي ) الأمر ( إلى المحيي ) للأرض فيكون له وإن لم يدعه لأنه بإحياء الأرض ملك ما فيها ولا يدخل في البيع لأنه منقول فيسلم إليه ويؤخذ منه الخمس الذي لزمه يوم ملكه وإذا أخذناه منه ألزمناه زكاة الباقي للسنين الماضية كما في المغصوب والضال
فإن مات المحيي قام وارثه مقامه فإن لم ينفه بعضهم أعطي نصيبه منه وحفظ الباقي فإن أيس من مالكه تصدق به الإمام أو من هو في يده ولو ادعاه اثنان وقد وجد في ملك غيرهما فهو لمن صدقه المالك منهما فيسلم إليه
( ولو تنازعه ) أي الركاز في الملك ( بائع أو مشتر أو مكر ومكتر أو
____________________
(1/396)
معير ومستعير ) بأن قال المشتري والمكتري والمستعير هو لي وأنا دفنته وقال البائع والمكري والمعير مثل ذلك ( صدق ذو اليد ) أي المشتري والمكتري والمستعير ( بيمينه ) كما لو تنازعا في أمتعة الدار هذا إذا أمكن صدقه ولو على بعد فإن لم يمكن لكون مثل ذلك لا يمكن دفنه في مدة يده لم يصدق
ولو وقع التنازع بعد عود الملك إلى البائع أو المكري أو المعير فإن قال كل منهم دفنته بعد عود الملك إلي صدق بيمينه إن أمكن ذلك وإن قال دفنته قبل خروجه من يدي صدق المشتري والمكتري والمستعير على الأصح لأن المالك سلم له حصول الكنز في يده فيده تنسخ اليد السابقة
ثم شرع في ذكر ثالث ما في الترجمة وترجم له بفصل فقال فصل أي في زكاة التجارة وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح
والأصل في وجوبها قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } قال مجاهد نزلت في التجارة وقوله صلى الله عليه وسلم في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته رواه الحاكم بإسنادين صحيحين على شرط الشيخين عن أبي ذر
والبز بفتح الباء الموحدة وبالزاي يقال للثياب المعدة للبيع عند البزازين وعلى السلاح قاله الجوهري
وزكاة العين لا تجب في الثياب والسلاح فتعين الحمل على زكاة التجارة
وعن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع
قال ابن المنذر وأجمع عامة أهل العلم على وجوبها
وأما خبر ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة فمحمول على ما ليس للتجارة
( شرط زكاة التجارة الحول ) قطعا ( والنصاب ) كذلك كغيرها من المواشي والناض ( معتبرا ) أي النصاب ( بآخر الحول ) فقط لأنه وقت الوجوب فلا يعتبر غيره لكثرة اضطراب القيم
( وفي قول بطرفيه ) أي أوله وآخره دون وسطه
أما الأول فليجري في الحول وأما الآخر فلأنه وقت الوجوب ولا يعتبر ما بينهما لأن تقويم العرض في كل لحظة يشق
( وفي قول بجميعه ) كالنقد والمواشي وفرق الأول بينهما بأن الاعتبار هنا بالقيمة وتعسر مراعاتها كل وقت لاضطراب الأسعار ارتفاعا وانخفاضا والأول منصوص والثاني والثالث مخرجان
ومنهم من عبر عنها بالأوجه لأن المخرج يعبر عنه تارة بالقول وتارة بالوجه
( فعلى الأظهر ) وهو اعتبار آخر الحول ( لو رد ) مال التجارة ( إلى النقد ) الذي يقوم به بأن بيع به ( في خلال ) أي أثناء ( الحول وهو دون النصاب واشترى به سلعة فالأصح أنه ينقطع الحول ويبتدأ حولها من ) وقت ( شرائها ) لتحقق نقصانها حسا بالتنضيض والثاني لا ينقطع كما لو بادل بها سلعة ناقصة عن النصاب فإن الحول لا ينقطع لأن المبادلة معدودة من التجارة
وأشار المصنف بالألف واللام في النقد إلى المعهود وهو الذي يقوم به كما قدرته في كلامه فلو باعه بدراهم والحال يقتضي التقويم بدنانير أو بالعكس فهو كبيع سلعة بسلعة والأصح أنه لا ينقطع
واحترز بقوله وهو دون النصاب عما لو باعه بنقد يقوم به وهو نصاب فحوله باق وما ذكر من التفريع يأتي على القول الثاني والثالث أيضا من باب أولى
( ولو تم الحول وقيمة العرض ) بسكون الراء ( دون النصاب ) وليس معه ما يكمل به النصاب من جنس ما يقوم به ( فالأصح أنه يبتدأ حول ويبطل ) الحول ( الأول ) فلا تجب الزكاة حتى يتم حول ثان لأن الأول مضى فلا زكاة فيه والثاني لا ينقطع بل متى بلغت قيمة العرض نصابا وجبت الزكاة ويبتديء الحول الثاني وقتئذ إذ يصدق عليه أن مال التجارة قد أقام عنده حولا بل وزيادة وتم نصابا فيقول العامل هنا كما قال الأخ الشقيق في المسألة الحمارية هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة أما إذا كان معه من أول الحول ما يكمل به النصاب كما لو كان معه مائة درهم فابتاع
____________________
(1/397)
بخمسين منها عرضا للتجارة فبلغت قيمته في آخر الحول مائة وخمسين فإنه تلزمه زكاة الجميع آخر الحول وإن ملكه في أثنائه كما لو ابتاع بالمائة ثم ملك خمسين زكى الجميع إذا تم حول الخمسين لأن الخمسين إنما تضم في النصاب لا في الحول
( ويصير عرض التجارة للقنية بنيتها ) أي القنية لأنها الأصل فاكتفينا فيها بالنية بخلاف عرض القنية لا يصير للتجارة بمجرد نيتها كما سيأتي لأنها خلاف الأصل كما أن المسافر يصير مقيما بمجرد النية إذا نوى وهو ماكث ولا يصير مسافرا إلا بالفعل
وأيضا القنية هي الحبس للانتفاع وقد وجد بالنية المذكورة مع الإمساك
والتجارة هي التقليب بقصد الأرباح ولم يوجد ذلك فلو لبس ثوب تجارة بلا نية قنية فهو مال تجارة فإن نواها به فليس مال تجارة
وقضية إطلاق المصنف أنه لا فرق بين أن يقصد بنيتها استعمالا جائزا أو محرما كلبس الديباج وقطع الطريق بالسيف وهو كذلك كما هو أحد وجهين في التتمة يظهر ترجيحه
قال الماوردي ولو نوى القنية ببعض عرض التجارة ولم يعينه ففي تأثيره وجهان أقربهما كما قال شيخي أنه يؤثر ويرجع في التعيين إليه وإن قال بعض المتأخرين أقربهما المنعم
( وإنما يصير العرض للتجارة إذا اقترنت نيتها بكسبه بمعاوضة ) محضة وهي التي تفسد بفساد عوضها
( كشراء ) سواء أكان بعرض أم نقد أم دين حال أم مؤجل لانضمام قصد التجارة إلى فعلها
ومن المملوك بمعاوضة ما اتهبه بثوب أو صالح عليه ولو عن دم وما أجر به نفسه أو ماله أو ما استأجره أو منفعة ما استأجره بأن كان يستأجر المنافع ويؤجرها بقصد التجارة
أو غير محضة وهي التي لا تفسد بفساد عوضها كما ذكر بقوله ( وكذا المهر وعوض الخلع ) فإنهما يصيران للتجارة إذا اقترنا بنيتها ( في الأصح ) لأنهما ملكا بمعاوضة ولهذا تثبت الشفعة فيما ملك بهما والثاني لا لأنهما ليس من عقود المعاوضات المحضة وصحح في المجموع القطع بالأول
وإذا ثبت حكم التجارة لم يحتج في كل معاملة إلى نية جديدة ( لا بالهبة ) غير ذات الثواب ( والاحتطاب ) والاحتشاش والاصطياد والإرث ( والاسترداد بعيب ) أو إقالة أو فلس لانتفاء المفاوضة بل الاسترداد المذكور فسخ لها ولأن التملك مجانا لا يعد تجارة فلو قصد التجارة بعد التملك لم يؤثر إذ النية المجردة لاغية فمن اشترى بعرض للقنية عرضا للتجارة أو اشترى بعرض التجارة عرضا للقنية ثم رد عليه بعيب أو إقالة لم يصر مال تجارة وإن نوى به التجارة لانتفاء المعاوضة فلا يعود ما كان للتجارة مال تجارة بخلاف الرد بعيب أو إقالة من شراء عرض التجارة بعرض التجارة فإنه يبقى حكم التجارة كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر
ولو اشترى للتجارة دباغا ليدبغ به للناس أو صبغا ليصبغ به لهم صار مال تجارة فتلزمه زكاته بعد مضي حوله بخلاف الصابون إذا اشتراه لها ليغسل به للناس أو الملح ليعجن به لهم لا يصير مال تجارة فلا زكاة فيه لأنه يستهلك فلا يقع مسلما لهم
( وإذا ملكه ) أي عرض التجارة ( بنقد ) وهو الذهب والفضة ولو غير مضروبين ( نصاب ) أو دونه وفي ملكه باقيه كأن اشترى بعين عشرين دينارا لاشتراكهما في قدر الواجب وفي جنسه
أما إذا اشتراه بنقد في الذمة ثم نقده فإنه ينقطع حول النقد ويبتدىء حول التجارة من وقت الشراء لأن صرفه إلى هذه الجهة لم يتعين
( أو دونه ) أي أو ملكه بدون النصاب وليس في ملكه باقيه
( أو بعرض قنية ) كالثياب ( فمن الشراء ) حوله لأن ما ملكه به لم يكن مال زكاة
( وقيل إن ملكه بنصاب سائمة بني على حولها ) لأنها مال زكاة جار في الحول فكان كما لو ملكه بنصاب نقد وفرق الأول بأن الواجب في المقيس مختلف بخلاف المقيس عليه
( ويضم الربح ) الحاصل في أثناء الحول
____________________
(1/398)
( إلى الأصل في الحول إن لم ينض ) بكسر النون أي يصر ناضا بما يقوم به قياسا على النتاج مع الأمهات ولأن المحافظة على حول كل زيادة مع اضطراب الأسواق مما يشق فلو اشترى عرضا في المحرم بمائتي درهم فصارت قيمته قبل آخر الحول ولو بلحظة ثلثمائة زكى الجميع آخر الحول وسواء حصل الربح بزيادة في نفس العرض كسمن الحيوان أم بارتفاع الأسواق ولو باع العرض بدون قيمته زكى القيمة أو بأكثر منها ففي زكاة الزائد معها وجهان أوجههما الوجوب
( لا إن نض ) أي صار الكل ناضا بنقد التقويم ببيع أو إتلاف أجنبي وأمسكه إلى آخر الحول أو اشترى به عرضا قبل تمامه فلا يضم بل يزكى الأصل بحوله ويفرد الربح بحوله
( في الأظهر ) فلو اشترى عرضا للتجارة بعشرين دينارا ثم باعه لستة أشهر بأربعين دينارا واشترى بها عرضا آخر وبلغ آخر الحول بالتقويم أو بالتنضيض مائة زكى خمسين لأن رأس المال عشرون ونصيبها من الربح ثلاثون فيزكى الثلاثون الربح العشرين لأنه حصل في آخر الحول من غير نضوض له قبله
ثم إن كان قد باع العرض قبل حول العشرين الربح كأن باعه آخر الحول الأول زكاها لحولها أي لستة أشهر من مضي الأول وزكى ربحها وهو ثلاثون بحوله أي لستة أشهر أخرى
فإن كانت الخمسون التي زكى عنها أولا باقية زكاها أيضا لحول الثلاثين وإلا أي وإن لم يكن قد باع العرض قبل حول العشرين الربح زكى ربحها وهو الثلاثون معها لأنه لم ينض قبل فراغ حولها والثاني يزكى الربح بحول الأصل كما يزكى النتاج بحول الأمهات
وفرق الأول بأن النتاج جزء من الأصل فألحقناه به بخلاف الربح فإنه ليس جزءا لأنه إنما حصل بحسن التصرف ولهذا يرد الغاصب نتاج الحيوان دون الربح أما إذا كان الناض المبيع به من غير ما يقوم به فهو كبيع عرض بعرض على المذهب فيضم الربح إلى الأصل
ولو كان رأس المال دون نصاب كأن اشترى عرضا بمائة درهم وباعه بعد ستة أشهر بمائتين درهم وأمسكها إلى تمام حول الشراء زكاهما إن ضممنا الربح إلى الأصل واعتبرنا النصاب آخر الحول فقط وإلا زكى مائة الربح بعد ستة أشهر
( والأصح أن ولد العرض ) من الحيوان غير السائمة كمعلوفة وخبل ( وثمرة ) كثمر الشجرة وأغصانها وورقها وصوف الحيوان ووبره وشعره ( مال تجارة ) لأنهما جزءان من الأم والشجر والثاني لا لأنهما لم يحصلا بالتجارة
ومحل الخلاف إذا لم تنقص قيمة الأم بالولادة أما إذا نقصت بها كأن كانت الأم تساوي ألفا فصارت بالولادة ثمانية وقيمة الولد مائتان فإن نقص الأم يجبر بقيمة الولد جزما وفيه احتمال للإمام
( و ) الأصح على الأول ( أن حوله حول الأصل ) تبعا كنتاج السائمة والثاني لا بل تفرد بحول من انفصال الولد وظهور الثمرة لأنها زيادة مستقرة من مال التجارة فأفردت كما سبق في الربح الناض
وفي الروضة وأصلها تصحيح القطع بالأول فكان ينبغي للمصنف التعبير بالمذهب
( وواجبها ) أي التجارة ( ربع عشر القيمة ) أما كونه ربع عشر فلا خلاف فيه كالنقد وأما كونه من القيمة فهو الجديد لأن القيمة متعلق هذه الزكاة فلا يجوز الإخراج من عين العرض والقديم يجب الإخراج منه لأنه الذي يملكه والقيمة تقدير
وفي قول يتخير بينهما لتعارض الدليلين
( فإن ملك ) العرض ( بنقد قوم به إن ملك بنصاب ) سواء أكان ذلك النقد هو الغالب أم لا وسواء أبطله السلطان أم لا كما يقتضيه إطلاق المصنف لأنه أصل ما بيده فكان أولى من غيره وفي قول قديم إن التقويم لا يكون إلا بنقد البلد دائما حكاه صاحب التقريب
( وكذا ) إذا ملك العرض بنقد ( دونه ) أي النصاب فإنه يقوم به ( في الأصح ) لأنه أصله والثاني يقوم بغالب نقد البلد كما لو اشترى بعرض
ومحل الخلاف ما إذا لم يملك بقية النصاب من ذلك النقد فإن ملكه قوم به قطعا لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول وابتدأ الحول من وقت ملك الدراهم قاله الرافعي
قال في الروضة لكن يجري فيه القول الذي حكاه صاحب
____________________
(1/399)
التقريب
( أو ) ملك العرض ( بعرض ) للقنية أو بخلع أو نكاح أو صلح عن دم عمد ( فبغالب نقد البلد ) من الدراهم والدنانير يقوم لأنه لما تعذر التقويم بالأصل رجع إلى نقد البلد على قاعدة التقويمات في الإتلاف ونحوه فإن حان الحول بمحل لا نقد فيه كبلد يتعامل فيه بالفلوس أو نحوها اعتبر أقرب البلاد إليه ولو ملك بدين في ذمة البائع أو بنحو سبائك قوم بجنسه من النقد كما في الكفاية
( فإن غلب نقدان ) على التساوي ( وبلغ ) مال التجارة ( بأحدهما ) دون الآخر ( نصابا قوم به ) لبلوغه نصابا بنقد غالب
وفرق بين هذا وبين ما إذا بلغ النقد الذي عنده نصابا في أحد الميزانين دون الآخر فإنه لا زكاة عليه بأنه هنا قد تحقق تمام النصاب بأحد النقدين دون ذاك
( فإن بلغ ) نصابا ( بهما ) أي بكل منهما ( للفقراء ) كاجتماع الحقاق وبنات اللبون هذا ما نقل الرافعي تصحيحه عن مقتضى إيراد الإمام و البغوي
( وقيل يتخير المالك ) فيقوم بأيهما شاء كما في شاتي الجبران ودراهمه وهذا ما صححه في أصل الروضة ونقل الرافعي تصحيحه عن العراقيين و الروياني وبه الفتوى كما في المهمات
والفرق بين هذه وبين اجتماع الحقاق وبنات اللبون أن تعلق الزكاة بالعين أشد من تعلقها بالقيمة فلم يجب التقويم بالأنفع كما لا يجب على المالك الشراء بالأنفع ليقوم به عند آخر الحول
( وإن ملك بنقد وعرض ) كأن اشترى بمائتي درهم وعرض قنية ( قوم ما قابل النقد به والباقي بالغالب ) من نقد البلد لأن كلا منهما لو انفرد كان حكمه كذلك فكذا إذا اجتمعا وهكذا إذا اشترى بجنس واحد مختلف الصفة كالصحاح والمكسرة إذا تفاوتا
( وتجب فطرة عبد التجارة مع زكاتها ) أي التجارة لاختلاف سببها فلا يتداخلان كالقيمة والكفارة في العبد المقتول
( ولو كان العرض سائمة ) أو غيرها مما تجب الزكاة في عينه كثمر
( فإن كمل ) بتثليث الميم ( نصاب إحدى الزكاتين ) العين والتجارة ( فقط ) دون نصاب الأخرى كأن ملك تسعة وثلاثين من الغنم قيمتها مائتان أو أربعين من الغنم قيمتها دون المائتين ( وجبت ) زكاة ما كمل نصابه لوجود سببها من غير معارض ( أو ) كمل ( نصابهما ) كأربعين شاة قيمتها مائتا درهم ( فزكاة العين ) تجب ( في الجديد ) وفي أحد قولي القديم للاتفاق عليها بخلاف زكاة التجارة فإنها مختلف فيها ولهذا لا يكفر جاحدها بخلاف الأولى
وأيضا زكاة التجارة متعلقة بالقيمة فقدم المتعلق بالعين كالعبد المرهون إذا جنى وتقدم زكاة التجارة في أحد قولي القديم لأنها أنفع للمستحقين فإنها تجب في كل شيء وزكاة العين تختص ببعض الأعيان
ولا يجمع بين الزكاتين بلا خلاف كما في المجموع وعلى الجديد لو كان مع ما فيه زكاة عين ما لا زكاة في عينه كأن اشترى شجرا للتجارة فبدا صلاح ثمره وجب مع تقديم زكاة العين عن الثمر زكاة الشجر
تنبيه لو قال المصنف ولو كان العرض مما تجب الزكاة في عينه لكان أعم واستغنى عما قدرته في كلامه
ولو اشترى نقدا بنقد فإن لم يكن للتجارة انقطع الحول وإن كان لها كالصيارفة فالأصح انقطاعه أيضا
حكي عن ابن سريج أنه قال بشر الصيارفة بأن لا زكاة عليهم
( فعلى هذا ) أي الجديد ( لو سبق حول ) زكاة ( التجارة ) حول زكاة العين ( بأن ) وأولى منه كأن ( اشترى بمالها بعد ستة أشهر ) من حولها ( نصاب سائمة ) ولم يقصد به القنية ( فالأصح وجوب زكاة التجارة لتمام حولها ) لئلا يحط بعض حولها ولأن الموجب قد وجد ولا معارض له
( ثم يفتتح ) من تمامه ( حولا لزكاة العين أبدا ) أي فيجب في بقية الأحوال وما مضى من
____________________
(1/400)
السوم في بقية الحول الأول غير معتبر والثاني يبطل حول التجارة وتجب زكاة العين لتمام حولها من الشراء ولكل حول بعده وعلى القديم المذكور تجب زكاة التجارة لكل حول
( وإذا قلنا عامل القراض لا يملك الربح ) المشروط له ( بالظهور ) وهو الأصح بل بالقسمة كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى
( فعلى المالك ) عند تمام الحول ( زكاة الجميع ) رأس المال والربح لأن الجميع ملكه
( فإن أخرجها من ) غير ( مال القراض ) فذاك أو من ماله ( حسبت من الربح في الأصح ) ولا يجعل إخراجها كاسترداد المالك جزءا من المال تنزيلا لها منزلة المؤن التي تلزم المال من أجرة الدلال والكيال وفطرة عبيد التجارة وجناياتهم
والثاني تحسب من رأس المال لأن الوجوب على من له المال
والثالث زكاة الأصل من الأصل وزكاة الربح من الربح لأنها وجبت فيهما
( وإن قلنا يملك ) العامل المشروط له ( بالظهور لزم المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح ) لأنه مالك لهما
( والمذهب أنه يلزم العامل زكاة حصته ) من الربح لأنه متمكن من التوصل إليه متى شاء بالقسمة فأشبه الدين الحال على مليء وعلى هذا فابتداء حول حصته من حين الظهور ولا يلزمه إخراجها قبل القسمة على المذهب وله الاستبداد بإخراجها من مال القراض والثاني لا يلزمه لأنه غير متمكن من كمال التصرف فيها
وقطع بعضهم بالأول ورجحه في المجموع وبعضهم بالثاني
خاتمة يصح بيع عرض التجارة قبل إخراج زكاته وإن كان بعد وجوبها أو باعه بعرض قنية لأن متعلق زكاته القيمة وهي لا تفوت بالبيع
ولو أعتق عبد التجارة أو وهبه فكبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها لأنهما يبطلان متعلق زكاة التجارة كما أن البيع يبطل متعلق زكاة العين
وكذا لو جعله صداقا أو صلحا عن دم أو نحوهما لأن مقابله ليس بمال فإن باعه محاباة فقد المحاباة كالموهوب فيبطل فيما قيمته قدر الزكاة من ذلك القدر ويصح في الباقي تفريقا للصفقة
باب زكاة الفطر ويقال صدقة الفطر
سميت بذلك لأن وجوبها بدخول الفطر ويقال أيضا زكاة الفطرة بكسر الفاء والتاء في آخرها كأنها من الفطرة التي هي الخلقة المرادة بقوله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وقال ابن الرفعة بضم الفاء واستغرب
والمعنى أنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس وتنمية لعملها
قال وكيع بن الجراح زكاة الفطرة لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة
وقال في المجموع يقال للمخرج فطرة بكسر الفاء لا غير وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة بل اصطلاحية للفقهاء فتكون حقيقة شرعية على المختار كالصلاة والزكاة
والأصل في وجوبها قبل الإجماع خبر ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وخبر أبي سعيد كنا نخرج زكاة الفطرة إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت رواهما الشيخان
والمشهور أنها وجبت في السنة الثانية من الهجرة عام فرض صوم رمضان
( تجب ) زكاة الفطر ( بأول ليلة العيد في الأظهر ) لأنها مضافة في الحديث إلى الفطر من رمضان في الخبرين الماضيين
____________________
(1/401)
والثاني تجب بطلوع الفجر يوم العيد لأنها قربة متعلقة بالعيد فلا يتقدم وقتها عليه كالأضحية كذا علله الرافعي واعترض عليه بأن وقت الأضحية إذا طلعت الشمس ومضى قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين لا الفجر
والثالث تجب بمجموع الوقتين لتعلقها بالفطر والعيد جميعا
وعلى الأول لا بد من إدراك جزء من رمضان مع الجزء المذكور
قال الإسنوي ويظهر أثر ذلك فيما إذا قال لعبده أنت حر مع أول جزء من ليلة العيد أو مع آخر جزء من رمضان أو قاله لزوجته اه
أي قاله بلفظ الطلاق أو كان هناك مهايأة في رقيق بين اثنين بليلة ويوم أو نفقة قريب بين اثنين كذلك وما أشبه ذلك فهي عليهما لأن وقت الوجوب حصل في نوبتهما
وقضية كلام المصنف أن من أدى فطرة عبد قبل الغروب ثم مات المخرج فانتقل إلى ورثته وجب الإخراج
قال الأذرعي وهو المذهب
( فتخرج ) على الأظهر ( عمن مات بعد الغروب ) ممن يؤدى عنه من زوجة وعبد وقريب لوجود السبب في حياته وكذا من زال ملكه عنه بعتق أو غيره كطلاق وكذا لو استغنى القريب
ولو مات المؤدى عنه بعد الوجوب وقبل التمكن لم تسقط فطرته على الأصح في المجموع بخلاف تلف المال وفرق بأن الزكاة تتعلق بالعين والفطرة بالذمة
( دون من ولد ) وتجدد من زوجة ورقيق أو أسلم بعد الغروب لعدم إدراكه الموجب وعلى القول الثاني ينعكس الحكم وعلى الثالث لا وجوب فيهما
( ويسن أن لا تؤخر عن صلاته ) أي العيد للأمر به قبل الخروج إليها في الصحيحين
والتعبير بالصلاة جرى على الغالب من فعلها أول النهار فإن أخرت استحب الأداء أول النهار للتوسعة على المستحقين
قال الإسنوي
ويمكن أن يقال باستحباب تأخيرها لانتظار قريب أو جار ما لم يخرج الوقت على قياس زكاة المال اه
وهو حسن
تنبيه لو عبر المصنف بقوله ويسن أن تخرج قبل صلاة العيد كما في التنبيه لكان أولى فإن تعبيره ليس فيه ندب تقديمها على الصلاة بل هو صادق بإخراجها مع الصلاة وظاهر الحديث يرده
وأيضا ليس في كلامه تصريح بأنه يسن إخراجها يوم العيد دون ما قبله
وصرح القاضي أبو الطيب وغيره بأن الأفضل إخراجها يوم الفطر ويكره تأخيرها عن الصلاة
( ويحرم تأخيرها عن يومه ) أي العيد بلا عذر كغيبة ماله أو المستحقين لفوات المعنى المقصود وهو إغناؤهم عن الطلب في يوم السرور فلو أخر بلا عذر عصى وقضى لخروج الوقت على الفور لتأخيره من غير عذر قال في المجموع وظاهر كلامهم أن زكاة المال المؤخرة عن التمكين تكون أداء والفرق أن الفطرة مؤقتة بزمن محدود ( كالصلاة ولا فطرة على كافر ) أصلى لقوله صلى الله عليه وسلم من المسلمين وهو إجماع قاله الماوردي لأنها طهرة وليس من أهلها والمراد أنه ليس مطالبا بإخراجها وأما العقوبة عليها في الآخرة فعلى الخلاف في تكليفة بالفروع قال في المجموع والأصح أنه مكلف بها
وقال السبكي يحتمل أن هذا التكلف الخاص لم يشملهم لقوله في الحديث من المسلمين وأما فطرة المرتد ومن عليه مؤنته فموقوفة على عوده إلى الإسلام وكذا العبد المرتد
ولو غربت الشمس ومن تلزم الكافر نفقته مرتد لم تلزمه فطرته حتى يعود إلى الإسلام
( إلا في عبده ) أي رقيقه المسلم ولو مستولدة ( وقريبه المسلم ) فتجب عليه عنهما ( في الأصح ) كالنفقة عليهما وكذا كل مسلم يلزم الكافر نفقته كزوجته الذمية إذا أسلمت وغربت الشمس وهو متخلف في العدة وأوجبنا نفقة مدة التخلف وهو الأصح والثاني لا تجب عليه لأن الكافر ليس من أهلها
والخلاف في هذه المسائل مبني على أن من وجبت فطرته على غيره هل وجبت عليه ثم تحملها عنه المخرج أم وجبت ابتداء على المخرج وجهان أصحهما أنها بطريق التحمل فالأول مبني على الأول والثاني على الثاني وعلى الأول قال الإمام لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوي والكافر لا تصح منه النية
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول إلا في رقيقه كما قدرته وقريبه المسلمين بالتثنية أو يعطف القريب بأو
( ولا ) فطرة على ( رقيق ) لا عن نفسه ولا عن غيره أما غير المكاتب كتابة صحيحة فلعدم ملكه وأما المكاتب المذكور فلضعف ملكه إذ لا يجب عليه زكاة ماله ولا نفقة قريبه ولا فطرة على سيده عنه لاستقلاله بخلاف المكاتب
____________________
(1/402)
كتابة فاسدة فإن فطرته على سيده وإن لم تجب عليه نفقته ( وفي المكاتب ) كتابة صحيحة ( وجه ) أنها تجب عليه فطرته وفطرة زوجته ورقيقه في كسبه كنفقتهم أما الفاسدة فتجب على سيده جزما
( ومن بعضه حر يلزمه ) من الفطرة ( قسطه ) أي بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على مالك الباقي لأن الفطرة تتبع النفقة وهي مشتركة
هذا حيث لا مهايأة بينه وبين مالك بعضه فإن كانت مهايأة اختصت الفطرة بمن وقعت في نوبته ومثله في ذلك العبد المشترك
( ولا ) فطرة على ( معسر ) وقت الوجوب للإجماع كما نقله ابن المنذر وإن أيسر بعد لحظة لكن يستحب له إذا أيسر قبل فوات يوم العيد الإخراج
ثم حده بقوله ( فمن لم يفضل ) بضم الضاد وفتحها ( عن قوته وقوت من ) أي الذي ( في نفقته ليلة العيد ويومه شيء ) يخرجه عن فطرته ( فمعسر ) ومن فضل عنه ما يخرجه فموسر لأن القوت لا بد منه
وقضية كلامهما أن القدرة على الكسب لا تخرجه عن الإعسار وهو ظاهر وبه صرح الرافعي في كتاب الحج وأنه لا يشترط كون المؤدى فاضلا عن رأس ماله وضيعته وإن تمكن بدونهما وهو كذلك وبفارق المسكن والخادم بالحاجة الناجزة
فإن قيل قد أوجبوا الكسب لنفقة القريب على البعض
أجيب بأنه لما كان يجب الاكتساب لنفسه لإحيائها فكذلك يجب لإحياء الوالد والولد
تنبيه لو عبر المصنف ب الذي كما قدرته كان أولى من من إذ لا فرق بين الآدمي والبهائم لأن من لمن يعقل نعم يؤتى بها لاختلاط من يعقل بغيره فيصح حينئذ التعبير بمن
( ويشترط ) فيما يؤديه في الفطرة ( كونه فاضلا ) أيضا ابتداء ( عن ) ما يليق به من ( مسكن ) يحتاج إليه ( وخادم يحتاج إليه في الأصح ) كما في الكفارة بجامع التطهير
والثاني لا لأن الكفارة لها بدل بخلاف الفطرة
والمراد بحاجة الخادم أن يحتاجه لخدمته أو خدمة ممونه
أما حاجته لعمله في أرضه أو ماشيته فلا أثر لها كما في المجموع
وخرج باللائق به ما لو كان نفيسين يمكن إبدالهما بلائق به ويخرج التفاوت لزمه ذلك كما ذكره الرافعي في الحج وبالابتداء ما لو ثبتت الفطرة في ذمة إنسان فإنه يباع فيها مسكنه وخادمه لأنها حينئذ التحقت بالديون ويشترط أيضا كونه فاضلا عن دست ثوب يليق به وبممونه كما إنه يبقى له في الديون ولا يشترط كونه فاضلا عن دينه ولو لآدمي كما رجحه في المجموع ك الرافعي في الشرح الصغير وجزم ابن المقري في روضه واقتضاه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه والأصحاب لو مات بعد أن أهل شوال فالفطرة في ماله مقدمة على الديون وبأن الدين لا يمنع الزكاة وبأنه لا يمنع نفقة الزوجة والقريب فلا يمنع إيجاب الفطرة
وما فرق به من أن زكاة المال متعلقة بعينه والنفقة ضرورية بخلاف الفطرة فيهما لا يجدي والمعتمد ما تقرر وإن رجح في الحاوي الصغير خلافه وجزم به المصنف في نكته ونقله عن الأصحاب
( ومن لزمه فطرته ) أي فطرة نفسه ( لزمه فطرة من تلزمه نفقته ) بملك أو قرابة أو زوجية أي إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدى عنهم كما علم مما مر لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر والباقي بالقياس عليه والجامع وجوب النفقة
ودخل في عبارته ما لو أخدم زوجته التي تخدم عادة أمها لا أجنبية وأنفق عليها فإنه يجب عليه فطرتها كنفقتها بخلاف الأجنبية المؤجرة لخدمتها كما لا يجب عليه نفقتها وكذا التي صحبتها لتخدمها بنفقتها بإذنه لأنها في معنى المؤجرة كما جزم به في المجموع وإن قال الرافعي في النفقات تجب فطرتها
أما من لا تجب عليه نفقته كزوجته الناشزة فلا تجب عليه فطرته إلا المكاتب كتابة فاسدة فتجب فطرته على سيده ولا تجب نفقته وإلا الزوجة المحال بينها وبين زوجها فتجب فطرتها عليه دون نفقتها وليس للزوجة مطالبة زوجها بإخراج فطرتها كما في المجموع
قال في البحر ولو كان الزوج غائبا فللزوجة أن تقترض عليه لنفقتها لا لفطرتها لأنها تتضرر بانقطاع النفقة بخلاف الفطرة ولأن الزوج هو المخاطب بإخراجها وهكذا الحكم في الأب الزمن ومراده العاجز
( لكن لا يلزم المسلم فطرة العبد ) أولى من الرقيق ( والقريب والزوجة الكفار ) وإن وجبت نفقتهم
____________________
(1/403)
لقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر السابق من المسلمين
( ولا العبد فطرة زوجته ) حرة كانت أو غيرها وإن أوجبنا نفقتها في كسبه ونحوه لأنه ليس أهلا لفطرة نفسه فكيف يتحمل عن غيره
واحترز به عن المبعض فيجب عليه المقدار الذي يجب على نفسه وقد سبق بيانه
( ولا الابن فطرة زوجة أبيه ) ومستولدته وإن وجبت نفقتهما على الولد لأن النفقة لازمة للأب مع إعساره فيتحملها الولد بخلاف الفطرة ولأن عدم الفطرة لا يمكن الزوجة من الفسخ بخلاف النفقة
( وفي الابن وجه ) أنه يلزمه فطرة زوجة أبيه كنفقتها
واستثنى أيضا مع ذلك مسائل منها الفقير العاجز عن الكسب يلزم المسلمين نفقته دون فطرته ومنها عبد بيت المال تجب نفقته دون فطرته على الأصح ومنها ما نص عليه في الأم أنه لو أجر عبده وشرط نفقته على المستأجر فإن الفطرة على سيده ومنها عبد المالك في المساقاة والقراض إذا شرط عمله مع العامل فنفقته عليه وفطرته على سيده ومنها ما لو حج بالنفقة ومنها عبد المسجد فلا تجب فطرتهما وإن وجبت نفقتهما سواء كان عبد المسجد ملكا له أم وقفا عليه ومنها الموقوف على جهة أو معين كرجل ومدرسة ورباط
( ولو أعسر الزوج ) وقت الوجوب ( أو كان عبدا فالأظهر أنه يلزم زوجته الحرة فطرتها ) إذا أيسرت بها ( وكذا ) يلزم ( سيد الأمة ) فطرتها والثاني لا يلزمهما
وهذا الخلاف مبني على الخلاف السابق فيمن تجب عليه ابتداء من المؤدي والمؤدى عنه وهذا أحد الطريقين في المسألتين
( قلت الأصح المنصوص لا يلزم الحرة ) وتلزم سيد الأمة ( والله أعلم ) وهذا الطريق الثاني تقرير النصين والفرق كمال تسليم الحرة نفسها بخلاف الأمة المزوجة لأن لسيدها أن يسافر بها ويستخدمها ولأنه اجتمع فيها شيئان الملك والزوجية والملك أقوى
فإن قيل ينتقض ذلك بما إذا سلمها السيد ليلا ونهارا والزوج موسر فإن الفطرة واجبة على الزوج قولا واحدا
أجيب بأنها عند اليسار لا تسقط عن السيد بل يتحملها الزوج عنه ويستحب للحرة المذكورة أن تخرج الفطرة عن نفسها كما في المجموع للخروج من الخلاف ولتطهيرها
تنبيه إذا قلنا بالتحمل هل هو كالضمان أو الحوالة فيه قولان أظهرهما كما في المجموع الثاني
وللخلاف فوائد منها جواز الإخراج بغير الإذن إن قلنا بالضمان وإن قلنا بالحوالة فلا ومنها ما لو كان المؤدى عنه ببلد والمؤدي ببلد آخر واختلف قوت البلدين إن قلنا بالحوالة وجب أن تؤدى من بلد المؤدى عنه وهو الأصح وإن قلنا بالضمان جاز أن تؤدى من بلد المؤدي لأنه يصح ضمان غير الجنس بخلاف الحوالة
ومنها دعاء المستحق يكون للمؤدي خاصة إن قلنا بالحوالة وإن قلنا بالضمان دعا لهما وقيل غير ذلك
( ولو انقطع خبر العبد ) أي الرقيق الغائب فلم تعلم حياته مع تواصل الرفاق ولم تنته غيبته إلى مدة يحكم فيها بموته ( فالمذهب وجوب إخراج فطرته في الحال ) أي في يوم العيد أو ليلته لأن الأصل بقاء حياته وإن لم يجز إعتاقه عن الكفارة احتياطا فيهما
( وقيل ) إنما يجب إخراجها ( إذا عاد ) كزكاة المال الغائب وأجاب الأول بأن التأخير إنما جوز هناك للنماء وهو غير معتبر في زكاة الفطر
( وفي قول لا شيء ) أي لا يجب شيء بالكلية لأن الأصل براءة الذمة منها
وهذا القول محله إذا استمر انقطاع خبره فلو بانت حياته بعد ذلك وعاد إلى سيده وجب الإخراج وإن لم يعد إلى سيده فعلى الخلاف في الضال ونحوه
تنبيه قوله وقيل إذا عاد مقابل لقوله في الحال وهو منصوص في الإملاء فلا يحسن التعبير عنه ب قيل وقوله وفي قول لا شيء كان الأحسن أن يقول وقيل قولان ثانيهما لا شيء وطريقة القولين هي التي في المحرر وصحح في المجموع طريقة القطع وهي ظاهر عبارة الكتاب
أما إذا انتهت غيبته إلى ما ذكر فلا فطرة له بلا خلاف كما صرح به الرافعي في الفرائض
فإن قيل الأصح في جنس الفطرة اعتبار بلد العبد فإن لم يعرف موضعه فكيف يخرج من جنس بلده أجيب بأن هذه الصورة مستثناة من القاعدة للضرورة أو يخرج من قوت آخر بلدة علم وصوله إليها وهي مستثناة أيضا على هذا ويدفع فطرته للقاضي ليخرجها لأن له نقل الزكاة وهي مستثناة أيضا لاحتمال اختلاف أجناس الأقوات
____________________
(1/404)
نعم إن دفع إلى القاضي البر خرج عن الواجب بيقين لأنه أعلى الأقوات والنقل جائز للقاضي الذي له أخذ الزكوات
( والأصح أن من أيسر ببعض صاع يلزمه ) إخراجه محافظة بقدر الإمكان والثاني لا كبعض الرقبة في الكفارة وفرق الأول بأن الكفارة لها بدل بخلاف الفطرة ( و ) الأصح ( أنه لو وجد بعض الصيعان قدم ) وجوبا ( نفسه ) لخبر مسلم ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك
والثاني يقدم زوجته والثالث يتخير
( ثم زوجته ) لأن نفقتها آكد لأنها معاوضة لا تسقط بمضي الزمان والثاني يقدم القريب والثالث يتخير
( ثم ولده الصغير ) لأن نفقته ثابتة بالنص والإجماع ولأنه أعجز ممن بعده
( ثم الأب ) وإن علا ولو من قبل الأم لشرفه
( ثم الأم ) لقوة حرمتها بالولادة
( ثم ) الولد ( الكبير ) على الأرقاء لأن الحر أشرف وعلاقته لازمة بخلاف الملك فإنه عارض ويقبل الزوال
تنبيه محل ما ذكره في الكبير إذا كان لا كسب له وهو زمن أو مجنون فإن لم يكن كذلك فالأصح عدم وجوب نفقته وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى في باب النفقات
وهذا الترتيب ذكره أيضا في الشرح والروضة والذي صححاه في باب النفقات تقديم الأم في النفقة على الأب وفرق في المجموع بين البابين بأن النفقة لسد الخلة والأم أكثر حاجة وأقل حيلة والفطرة لتطهير المخرج عنه وتشريفه والأب أحق به فإنه منسوب إليه ويشرف بشرفه اه
وأبطل الإسنوي الفرق بالولد الصغير فإنه يقدم هنا على الأبوين وهما أشرف منه فدل على اعتبار الحاجة في البابين
وأجاب شيخي عن ذلك بأنهم إنما قدموا الولد الصغير لأنه كجزء المخرج مع كونه أعجز من غيره ثم الرقيق
قال شيخنا وينبغي أن تقدم منه أم الولد ثم المدبر ثم المعلق عتقه بصفة فإن استوى اثنان في درجة كزوجين وابنين تخير لاستوائهما في الوجوب وإنما لم يوزع بينهما لنقص المخرج عن الواجب في حق كل منهما بلاضرورة بخلاف من لم يجد إلا بعض الواجب
( وهي ) أي فطرة الواحد ( صاع ) لحديث ابن عمر السابق أول الباب ( وهو ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهما وثلث ) درهم لأنه أربعة أمداد والمد رطل وثلث بالبغدادي والرطل مائة درهم وثلاثون درهما
( قلت الأصح ستمائة وخمسة وثمانون درهما وخمسة أسباع درهم لما سبق في زكاة النبات ) من كون الرطل مائة وثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم ( والله أعلم ) وقد سبق في زكاة النبات إيضاحه
والأصل فيه الكيل وإنما قيل بالوزن استظهارا والعبرة بالصاع النبوي إن وجد أو معياره فإن فقد أخرج قدرا يتيقن أنه لا ينقص عن الصاع
قال في الروضة قال جماعة الصاع أربع حفان بكفي رجل معتدلهما اه
والصاع بالكيل المصري قدحان وينبغي أن يزيد شيئا يسيرا لاحتمال اشتمالهما على طين أو تبن أو نحو ذلك
قال ابن الرفعة كان قاضي القضاة عماد الدين السكري رحمه الله تعالى يقول حين يخطب بمصر خطبة عيد الفطر والصاع قد حان بكيل بلدكم هذه سالم من الطين والعيب والغلت ولا يجزيء في بلدكم هذه إلا القمح اه
وتقدم في الصاع كلام في زكاة النبات فراجعه
فائدة ذكر القفال الشاشي في محاسن الشريعة معنى لطيفا في إيجاب الصاع وهو أن الناس تمتنع غالبا من الكسب في العيد وثلاثة أيام بعده ولا تجد الفقير من يستعمله فيها لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم والذي يتحصل من الصاع عند جعله خبزا ثمانية أرطال من الخبز فإن الصاع خمسة أرطال وثلث كما مر ويضاف إليه من الماء نحو الثلث فيأتي منه ذلك وهو كفاية الفقير في أربعة أيام لكل يوم رطلان
( وجنسه ) أي الصاع الواجب ( القوت المعشر ) أي الذي يجب فيه العشر أو نصفه لأن النص قد ورد في بعض المعشرات كالبر والشعير والتمر والزبيب
____________________
(1/405)
وقيس الباقي عليه بجامع الأقتيات
وفي القديم لا يجزىء العدس والحمص لأنهما أدمان
( وكذا الأقط في الأظهر ) لثبوته في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ولهذا قطع به بعضهم
وهو بضم الهمزة وكسر القاف وبإسكانها مع تثليث الهمزة لبن يابس غير منزوع الزبد والثاني لا يجزىء لأنه لا عشر فيه فأشبه التين ونحوه
وفي معنى الأقط لبن وجبن لم ينزع زبدهما فيجزئان وإجزاء كل من الثلاثة لمن هو قوته سواء أكان من أهل البادية أم الحاضرة وقيل يجزىء أهل البادية دون الحاضرة حكاه في المجموع وضعفه
أما منزوع الزبد من ذلك فلا يجزىء وكذا لا يجزىء الكشك وهو بفتح الكاف معروف ولا يجزىء المختص ولا المصل ولا السمن ولا اللحم ولا مملح من الأقط أفسد كثير الملح جوهره بخلاف ظاهر الملح فيجزىء لكن لا يحسب الملح فيخرج قدرا يكون محض الأقط منه صاعا
( ويجب ) الصاع ( من ) غالب ( قوت بلده ) إن كان بلديا وفي غيره من غالب قوت محله لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي
( وقيل ) من غالب ( قوته ) على الخصوص
( وقيل يتخير بين ) جميع ( الأقوات ) ف أو في الخبرين السابقين على الأولين للتنويع وعلى الثالث للتخيير
والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة كما في المجموع لا غالب قوت وقت الوجوب خلافا للغزالي في وسيطه
تنبيه لو قال من غالب قوت بلده كما قدرت غالب في عبارته لكان أولى فإنه لو كان للبلد أقوات وغلب بعضها وجب من الغالب وليحسن قوله بعد ذلك ولو كان في البلد أقوات لا غالب فيها تخير
( ويجزىء ) على الأولين القوت ( الأعلى عن ) القوت ( الأدنى ) لأنه زاد خيرا فأشبه ما لو دفع بنت لبون عن بنت مخاض وقيل لا يجزىء كالحنطة عن الشعير والذهب عن الفضة وفرق الأول بأن الزكوات المالية تتعلق بالمال فأمر أن يواسي المستحقين بما أعطاه الله تعالى والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه والأعلى يحصل به هذا الغرض وزيادة
( ولا عكس ) لنقصه عن الحق ففيه ضرر على المستحقين
( والاعتبار ) في الأعلى والأدنى ( بالقيمة في وجه ) رفقا بالمساكين ( وبزيادة الاقتيات في الأصح ) لأنه المقصود
ثم فرع عليه فقال ( فالبر ) لكونه أنفع اقتياتا ( خير من التمر والأرز ) ومن الزبيب والشعير
قال الماوردي ولو قيل أفضلها يختلف باختلاف البلاد لكان متجها
ورد بأن النظر للغالب لا للبلد نفسه
( والأصح أن الشعير خير من التمر ) لأنه أبلغ في الإقتيات ( وأن التمر خير من الزبيب ) لما مر فالشعير خير منه بالأولى والثاني أن التمر خير من الشعير وأن الزبيب خير من التمر نظرا إلى القيمة
وعلى الأول ينبغي أن يكون الشعير خيرا من الأرز وأن الأرز خير من التمر
( وله أن يخرج عن نفسه من قوته ) الواجب ( وعن قريبه ) أو من تلزمه فطرته كزوجته وعبده أو من تبرع عنه بإذنه
( أعلى منه ) لأنه زاد خيرا وكما يجوز أن يخرج لأحد جبرانين شاتين وللآخر عشرين درهما
تنبيه لو قال وعن غيره أعلى منه لشمل ما ذكرناه
( ولا يبعض الصاع ) المخرج عن الشخص الواحد من جنسين وإن كان أحد الجنسين أعلى من الواجب كما لا يجزىء في كفارة اليمين أن يكسو خمسة ويطعم خمسة
وخرج بقولنا المخرج عن الشخص الواحد ما لو أخرج عن اثنين كأن ملك واحد نصفي عبدين أو مبعضين ببلدين مختلفي القوت فإنه يجوز تبعيض الصاع وبقولنا من جنسين ما لو أخرج صاعا من نوعين فإنه جائز إذا كانا من الغالب
( ولو كان في بلد أقوات لا غالب فيها ) إذا لم نعتبر قوت نفسه وهو المعتمد كما تقدم ( تخير ) إذ ليس تعيين البعض بأولى من تعيين الآخر
____________________
(1/406)
وإنما لم يجب الأصلح كاجتماع الحقاق وبنات اللبون لتعلقه بالعين
( والأفضل أشرفها ) أي أعلاها في الأقتيات لقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ولو كانوا يقتاتون القمح المخلوط بالشعير تخير إن كان الخليطان على السواء وإن كان أحدهما أكثر وجب منه فإن لم يجد إلا نصفا من ذا ونصفا من ذا فوجهان أوجههما أنه يخرج النصف الواجب عليه ولا يجزىء الآخر لما مر أنه لا يجوز أن يبعض الصاع من جنسين
ولو كان في بلد لا قوت لهم فيها يجزىء بأن كانوا يقتاتون الأشياء النادرة أخرج من غالب قوت أقرب البلاد إليه فإن استوى إليه بلدان في القرب واختلف الغالب من أقواتهما تخير والأفضل الأعلى
( ولو كان عبده ببلد آخر فالأصح أن الاعتبار بقوت بلد العبد ) بناء على أنها وجبت على المتحمل عنه ابتداء وهو الأصح والثاني أن العبرة ببلد السيد بناء على أنها تجب ابتداء على المتحمل وهو مرجوح
( قلت الواجب الحب ) حيث تعين فلا تجزىء القيمة اتفاقا ولا الخبز ولا الدقيق ولا السويق ونحو ذلك لأن الحب يصلح لما لا تصلح له هذه الثلاثة
( السليم ) فلا يجزىء المسوس وإن كان يقتاته والمعيب قال تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }
( ولو أخرج من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز ) لأنه يستقل بتمليكه وله ولاية عليه فكأنه ملكه ذلك ثم أخرجه عنه
والجد من قبل الأب وإن علا كالأب والمجنون كالصغير وكذا السفيه على ما أفهمه كلامهم
وقضية التوجيه أن هذا في أب أو جد يلي المال
فإن لم يل لعدم الأهلية فيكون كالأجنبي أما الوصي والقيم فلا يجوز لهما ذلك إلا بإذن القاضي كما جزم به في المجموع لأن اتحاد الموجب والقابل يختص بالأب والجد
( كأجنبي أذن ) فيجوز إخراجها عنه كما في غيرها من الديون فإن لم يأذن لم يجزه قطعا لأنها عبادة مفتقرة إلى نية فلا تسقط عن المكلف بغير إذن
( بخلاف ) ولده ( الكبير ) الرشيد كما قيده في المجموع فلا يجوز بغير إذنه لأن الأب لا يستقل بتمليكه فصار كالأجنبي بخلاف الصغير ونحوه
( ولو اشترك موسر ومعسر ) مناصفة مثلا ( في عبد ) أي رقيق والمعسر محتاج إلى خدمته ( لزم الموسر نصف صاع ) لأنه الواجب عليه
هذا إذا لم يكن بينهما مهايأة فإن كان وصادف زمن الوجوب نوبة الموسر لزمه الصاع كما مرت الإشارة إليه أو المعسر فلا شيء عليه كالمبعض المعسر
تنبيه لو عبر بالرقيق عوضا عن العبد وبالحصة أو القسط عوضا عن النصف لاستغنى عما قدرته
( ولو أيسرا ) أي الشريكان في الرقيق ( واختلف واجبهما ) لاختلاف قوت بلدهما بأن كانا ببلدين مختلفي القوت أو لاختلاف قوتهما على مقالة
( أخرج كل واحد نصف صاع من واجبه ) أي من قوت بلده أو من قوته
( في الأصح ) كما ذكره الرافعي في الشرح ( والله أعلم ) بناء على أنها تجب على السيد ابتداء
والثاني وهو الأصح أنه يخرجه من قوت محل الرقيق كما علم مما مر
وقد ذكره الرافعي بعد تصحيحه السابق ولم يذكره في الروضة ولكن صرح به في المجموع بناء على ما مر من أن الأصح أنها تجب ابتداء على المؤدى عنه ثم يتحملها عنه المؤدي
فإن قيل كيف يستقيم ما ذكره مع قوله أولا إن الاعتبار بقوت بلد العبد أجيب بأنه يمكن حمله على صورة وهي ما إذا أهل هلال شوال على العبد وهو في برية نسبتها في القرب إلى بلدتي السيدين على السواء ففي هذه الصورة يعتبر قوت بلدتي السيدين قطعا لأنه لا بلد للعبد وكذا لو كان العبد في بلد لا قوت فيها وإنما يحمل إليها من بلدتي السيدين من الأقوات ما لا يجزىء في الفطرة كالدقيق والخبز وحيث أمكن تنزيل كلام المصنفين على تصوير صحيح لا يعدل إلى تغليطهم
وإذ قد عرفت ذلك فلا منافاة بين ما صححه هنا وبين ما صححه أولا من كون الأصح اعتبار قوت بلد العبد ولا يحتاج إلى البناء المذكور وإن كنت قررته أولا تبعا للشارح ولغالب شراح الكتاب
____________________
(1/407)
فرعان أحدهما يجب صرف زكاة الفطر إلى الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى وسيأتي بيان ذلك في كتاب الصدقات إن شاء الله تعالى
وقيل يكفي الدفع إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين لأنها قليلة في الغالب وبهذا قال الإصطخري
وقيل يجوز صرفها لواحد وهو مذهب الأئمة الثلاثة وابن المنذر
ثانيهما لو دفع فطرته إلى فقير ممن تلزمه الفطرة فدفعها الفقير إليه عن فطرته جاز للدافع الأول أخذها فإن قيل وجوب الفطرة ينافي أخذ الصدقة أجيب بأن أخذها لا يقتضي غاية الفقر والمسكنة وقد تجب زكاة المال على من تحل له الصدقة فإنها تحل من غير الفقر والمسكنة
خاتمة لو اشترى عبدا فغربت الشمس ليلة الفطر وهما في خير مجلس أو شرط ففطرته على من له الملك بأن يكون الخيار لأحدهما وإن لم يتم له الملك فإن كان الخيار لهما ففطرته على من يؤول له الملك
ومن مات قبل الغروب عن رقيق ففطرة رقيقه على ورثته كل بقسطه لأنه ملكهم وقت الوجوب
وإن مات بعد الغروب عن أرقاء فالفطرة عنه وعنهم في التركة مقدمة على الوصية والميراث والدين
وإن مات بعد وجوب فطرة عبد أوصى به لغيره قبل وجوبها وجبت في تركته لبقائه وقت الوجوب على ملكه وإن مات قبل وجوبها وقبل الموصى له الوصية ولو بعد وجوبها فالفطرة على الموصى له لأنه بالقبول يتبين أنه ملكه من حين موت الموصي
وإن رد الوصية فعلى الوارث فطرته لبقائه وقت الوجوب على ملكه فلو مات الموصى له قبل القبول وبعد وجوب الفطرة فوارثه قائم مقامه في الرد والقبول فإن قبل وقع الملك للميت وفطرة الرقيق في التركة إن كان للميت تركة وإلا بيع منه جزء فيها
وإن مات قبل وجوبها أو معه فالفطرة على ورثته عن الرقيق إن قبلوا الوصية لأنه وقت الوجوب كان في ملكهم
وهل تجب الفطرة على الصوفية المقيمين في الرباط قال الفارقي إن كان الوقف على معين وجبت لأنهم ملكوا الغلة وكذا إذا وقف على المقيمين بالرباط إذا حدثت غلة ملكوها ولا يشاركهم من حدث بعد ذلك وإن كان وقفه على الصوفية مطلقا فمن دخل الرباط قبل الغروب على عزم المقام لزمه الفطرة في المعلوم الحاصل للرباط وإن شرط لكل واحد قوته كل يوم فلا زكاة عليهم
قال وهكذا حكم المتفقهة في المدارس فإن جرايتهم مقدرة بالشهر فإذا أهل شوال وللوقف غلة لزمهم الفطرة وإن لم يكونوا قبضوا لأنه ثبت ملكهم على قدر المشاهرة من جملة الغلة
باب من تلزمه الزكاة أي زكاة المال ( وما تجب فيه ) مما اتصف بوصف قد يؤثر في السقوط وقد لا يؤثر كالغصب والجحود والإضلال أو معاوضة بما قد يسقط كالدين وعدم استقرار الملك
وليس المراد بيان أنواع المال التي تجب فيها الزكاة فإن ذلك قد تقدم في الأبواب السابقة
وقد شرع في بيان شروط من تلزمه الزكاة فقال ( شرط وجوب زكاة المال ) بأنواعه السابقة وهي الحيوان والنبات والنقدان والمعدن والركاز والتجارة على مالكه
( الإسلام ) لقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين رواه البخاري فلا تجب على الكافر الأصلي بالمعنى السابق في الصلاة
واحترز بزكاة المال عن زكاة الفطر فإنها قد تلزم الكافر إذا كان يخرج عن غيره كما مر
( والحرية ) فلا تجب على رقيق ولو مدبرا ومعلقا عتقه بصفة وأم ولد لعدم ملكه
وعلى القديم يملك بتمليك سيده ملكا ضعيفا ومع ذلك لا زكاة عليه ولا على سيده على الأصح
وإن قلنا يملك بتمليك غير سيده فلا زكاة أيضا عليه لضعف ملكه كما مر ولا على سيده لأنه ليس له
( وتلزم المرتد ) زكاة المال الذي حال حوله في ردته ( إن أبقينا ملكه ) مؤاخذة له بحكم الإسلام ومفهومه عدم اللزوم إن أزلناه وهو كذلك وإن قلنا بالوقف وهو الأظهر فموقوفة فمفهومه فيه تفصيل فلا يرد عليه قولنا بالوقف
أما إذا وجبت الزكاة عليه في الإسلام ثم ارتد فإنها تؤخذ من ماله على المشهور سواء أسلم أو قتل كما نقل في المجموع اتفاق الأصحاب عليه ويجزئه الإخراج في حال الردة في هذه وفي الأولى على قول
____________________
(1/408)
اللزوم فيها وقيل لا يجزئه
( دون المكاتب ) فلا تلزمه لضعف ملكه بدليل أن نفقة الأقارب لا تجب عليه وهذا قد علم من اشتراط الحرية فلم تدع الحاجة إلى ذكره فإن زالت الكتابة بعجز أو موت أو غيره انعقد حول السيد من حين زوالها
تنبيه ضم في الحاوي إلى الإسلام والحرية شرطين آخرين أحدهما كونه لمعين فلا زكاة في الموقوف على جهة عامة وتجب في الموقوف على معين
الثاني كونه متيقن الوجود فلا زكاة في مال الحمل الموقوف له بإرث أو وصية على الأصح إذ لا ثقة بحياته فلو انفصل الجنين ميتا فيتجه كما قال الإسنوي عدم الوجوب على الورثة لضعف ملكهم ويمكن كما قال الولي العراقي الاحتراز عن هذا الشرط بقوله وتجب في مال الصبي
ثم شرع في شروط المال الذي تجب فيه الزكاة فقال ( وتجب في مال الصبي والمجنون ) لشمول الحديث السابق لهما وبالقياس على زكاة المعشرات وزكاة الفطر فإن الخصم قد وافق عليهما
ولم يصح في إسقاط الزكاة ولا في تأخر إخراجها إلى البلوغ شيء
قال الإمام أحمد لا أعرف عن الصحابة شيئا صحيحا أنها لا تجب ولأن المقصود من الزكاة سدا لخلة وتطهير المال وما لهما قابل لأداء النفقات والغرامات كقيمة ما أتلفاه وليست الزكاة محض عبادة حتى تختص بالمكلف
والمخاطب بالإخراج وليهما ومحل وجوبه عليه إذا كان ممن يرى وجوبها في مالهما فإن كان ممن لا يراه كحنفي فلا وجوب
والاحتياط له أن يحسب زكاة المال حتى يكملا فيخبرهما بذلك ولا يخرجها فيغرمه الحاكم قاله القفال وفرضه في الطفل
ولو كان الولي غير متمذهب بل عاميا صرفا فإن ألزمه حاكم يراها بإخراجها فواضح كما قاله الأذرعي وإلا فالأوجه كما قال شيخنا الاحتياط بمثل ما مر والأوجه كما قال أيضا أن قيم الحاكم يعمل بمقتضى مذهبه كحاكم أنابه حاكم آخر يخالفه في مذهبه فإن لم يخرجها الولي من مالهما أخرجاها إن كملا لأن الحق توجه إلى مالهما ولكن الولي عصى بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما ومثلهما فيما ذكر السفيه
فائدة أجاب السبكي عن سؤال صورته كيف تخرج الزكاة من أموال الأيتام من الدراهم المغشوشة والغش فيها ملكهم بأن الغش إن كان يماثل أجرة الضرب والتلخيص فيسامح به وعمل الناس على الإخراج منها
( وكذا ) تجب الزكاة ( على من ملك ببعضه الحر نصابا في الأصح ) وعبر في الروضة بالصحيح لتمام ملكه ولهذا قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه إنه يكفر كفارة الحر الموسر أي بما عد العتق والثاني لا لنقصانه بالرق فأشبه العبد والمكاتب
( و ) تجب ( في المغصوب ) إذا لم يقدر على نزعه ومثله المسروق وأهمله المصنف مع ذكر المحرر له لأن حد الغصب منطبق عليه
( والضال ) والواقع في بحر وما دفنه ثم نسي مكانه
( والمجحود ) من عين أو دين الذي لا بينة له به ولا علم القاضي به
( في الأظهر ) الجديد وبه قطع بعضهم لملك النصاب وتمام الحول والثاني وهو القديم لامتناع النماء والتصرف فأشبه مال المكاتب لا تجب فيه الزكاة على السيد
أما إذا قدر على نزع المغصوب أو كان له بالمجحود بينة فإنه يجب عليه الإخراج قطعا وكذا إذا علم القاضي وقلنا يقضي بعلمه
( ولا يجب دفعها حتى يعود ) المغصوب وغيره مما تقدم لعدم التمكن قبله فإذا عاد زكاه للأحوال الماضية بشرطين أحدهما كون الماشية سائمة عند المالك والغاصب كما علم مما مر والثاني أن لا ينقص النصاب بما يجب إخراجه فإن كان نصابا فقط وليس عنده من جنسه ما يعوض قدر الواجب لم تجب زكاة ما زاد على الحول الأول
( و ) تجب قطعا في ( المشترى قبل قبضه ) بأن حال عليه الحول في يد البائع بعد انقضاء الخيار لا من الشراء
( وقيل فيه القولان ) في المغصوب ونحوه لأن التصرف فيه لا يصح
وفرق الأول بتعذر الوصول إليه وانتزاعه بخلاف المشتري لتمكنه منه بتسليم الثمن فيجب الإخراج في
____________________
(1/409)
الحال حيث لا مانع من القبض كالدين الحال على مقر ملي
( وتجب في الحال عن الغائب إن قدر عليه ) لأنه كالمال الحاضر ويجب أن يخرج في بلد المال إن استقر فيه فإن بعد بلد المال عن المالك ومنعنا نقل الزكاة وهو الراجح فلا بد من وصول المالك أو نائبه
نعم إن كان هناك ساع أو حاكم يأخذ الزكاة دفعها إليه في الحال لأن له نقل الزكاة نبه على ذلك الأذرعي فإن كان سائرا فلا يجب الإخراج حتى يصل إليه
( وإلا ) أي وإن لم يقدر عليه لخوف الطريق أو انقطاع خبره أو شك في سلامته ( فكمغصوب ) فيأتي فيه ما مر لعدم القدرة في الموضعين
( والدين إن كان ماشية ) لا للتجارة كأن أقرضه أربعين شاة أو أسلم إليه فيها ومضى عليه حول قبل قبضه
( أو ) كان ( غير لازم كمال كتابة فلا زكاة ) فيه
أما الماشية فلأن علة الزكاة فيها النماء ولا نماء فيها في الذمة بخلاف النقد فإن العلة فيه كونه نقدا وهو حاصل ولأن السوم شرط في زكاتها وما في الذمة لا يتصف بالسوم
واعترض هذا التعليل الرافعي بجواز ثبوت لحم راعية في الذمة وإذا جاز ذلك جاز أن يثبت في الذمة راعية
أجيب بأنه إذا التزامه أمكن تحصيله من الخارج والكلام في أن السوم لا يتصور فيما في الذمة وإنما يتصور في الخارج ومثل الماشية المعشر في الذمة فإنه لا زكاة فيه أيضا لأن شرطها الزهو في ملكه ولم يوجد وأما دين الكتابة فلأن للعبد إسقاطه متى شاء
ويؤخذ عن ذلك أنه لو كان للسيد على المكاتب دين أنه لا زكاة فيه وأنه لو أحال المكاتب سيده بالنجوم على شخص أن الزكاة تجب على السيد وهو كذلك لأنه يسقط بتنجيزه في الأولى دون الثانية
( أو عرضا ) للتجارة ( أو نقدا فكذا ) أي لا زكاة فيه ( في القديم ) إذ لا ملك فيه حقيقة فأشبه دين المكاتب
( وفي الجديد إن كان حالا وتعذر أخذه لإعسار وغيره ) كمطل أو غيبة مليء وجحود ( فكمغصوب ) فتجب فيه في الأظهر ولا يجب إخراجها حتى يحصل ولو كان مقرا له في الباطن وجبت الزكاة دون الإخراج قطعا قاله في الشامل
( وإن تيسر ) أخذه بأن كان على مليء مقر حاضر باذل أو جاحد وبه بينة أو يعلمه القاضي وقلنا يقضي بعلمه ( وجبت تزكيته في الحال ) لأنه مقدور على قبضه فهو كالمودع
وكلامه يفهم أنه يخرج في الحال وإن لم يقبضه وهو المعتمد المنصوص في المختصر وقيل لا حتى يقبضه فيزكيه لما مضى ولو أمكنه الظفر بأخذ دينه من مال الجاحد حيث لا بينة من غير خوف ولا ضرر لم يجب الإخراج في الحال كما هو المتبار من كلام الشيخين وغيرهما وإن كان قضية كلام ابن كج و الدارمي تزكيته في الحال
( أو مؤجلا فالمذهب أنه كمغصوب ) ففيه القولان وقيل تجب الزكاة قطعا وقيل عكسه
( وقيل يجب دفعها قبل قبضه ) كالغائب الذي يسهل إحضاره
تنبيه لو عبر بقوله قبل حلوله لكان أولى فإن هذا الوجه محله إذا كان الدين على ملي ولا مانع سوى الأجل وحينئذ متى حل وجب الإخراج قبض أم لا
فائدة قال السبكي إذا أوجبنا الزكاة في الدين وقلنا تتعلق بالمال تعلق شركة اقتضى أن يملك أرباب الأصناف ربع عشر الدين في ذمة المدين وذلك يجر إلى أمور كثيرة واقع فيها كثير من الناس كالدعوى بالصداق والديون لأن المدعي غير مالك للجميع فكيف يدعي به إلا أن له القبض لأجل أداء الزكاة فيحتاج إلى الاحتراز عن ذلك في الدعوى وإذا حلف على عدم المسقط ينبغي أن يحلف أن ذلك باق في ذمته إلى حين حلفه لم يسقط وأنه يستحق قبضه حين حلفه ولا يقول إنه باق له اه
ومن ذلك أيضا ما لو علق الطلاق على الإبراء من صداقها وقد مضى على ذلك أحوال فأبرأته منه فإنه لا يقع الطلاق لأنها لا تملك الإبراء من جميعه وهي مسألة حسنة فتفطن لها
____________________
(1/410)
فإنها كثيرة الوقوع
( ولا يمنع الدين وجوبها ) سواء أكان حالا أم لا من جنس المال أم لا لله تعالى كالزكاة والكفارة والنذر أم لا ( في أظهر الأقوال ) لإطلاق الأدلة الموجبة للزكاة ولأنه مالك للنصاب نافذ التصرف فيه
والثاني يمنع كما يمنع وجوب الحج
( والثالث يمنع في المال الباطن وهو النقد ) ولو عبر بالذهب والفضة ليشمل غير المضروب كان أولى
والركاز ( والعرض ) لا يمنع في الظاهر وهو الماشية والزروع والثمار والمعدن
والفرق أن الظاهر ينمو بنفسه والباطن إنما ينمو بالتصرف فيه والدين يمنع من ذلك ويحوج إلى صرفه في قضائه
قال الإسنوي وأهمل المصنف زكاة الفطر وهي من الباطن أيضا على الأصح
وأجيب بأن زكاة الفطر وإن كانت ملحقة بالباطن لكن لا مدخل لها هنا لأن الكلام في الأموال ومحل الخلاف ما لم يزد المال على الدين فإن زاد وكان الزائد نصابا وجبت زكاته قطعا وما إذا لم يكن له من غير المال الزكوي ما يقضي به الدين فإن كان لم يمنع قطعا عند الجمهور
وهل يلتحق دين الضمان بالإذن بباقي الديون فيه احتمالان لوالد الروياني لأن الدين عليه ولكن له الرجوع بعد الأداء وينبغي إلحاقه بها
( فعلى الأول ) الذي هو أظهر الأقوال ( لو حجر عليه لدين فحال الحول في الحجر فكمغصوب ) لأنه حيل بينه وبين ماله لأن الحجر مانع من التصرف
نعم إن عين القاضي لكل غريم من غرمائه شيئا على ما يقتضيه التقسيط ومكنه من الأخذ فلم يتفق الأخذ حتى حال عليه الحول ولم يأخذه فلا زكاة فيه عليهم لعدم ملكهم ولا على المالك لضعف ملكه وكونهم أحق به
وهذا ظاهر فيما إذا أخذوه بعد الحول فلو تركوه له فينبغي أن تلزمه الزكاة لتبين استقرار ملكه ثم عدم وجوبها عليها محله كما قال السبكي إذا كان ماله من جنس دينهم وإلا فكيف يمكنهم من أخذه بلا بيع أو تعويض قال وقد صورها بذلك الشيخ أبو محمد في السلسلة وكلام الرافعي في باب الحجر يقتضيه فلو فرق القاضي ماله بين غرمائه فلا زكاة عليه قطعا لزوال ملكه
( و ) على الأول أيضا ( لو اجتمع زكاة ودين آدمي في تركة ) بأن مات قبل أدائها وضاقت التركة عنها ( قدمت ) أي الزكاة وإن كانت زكاة فطر على الدين وإن تعلق بالعين قبل الموت كالمرهون تقديما لدين الله لخبر الصحيحين فدين الله أحق بالقضاء ولأن مصرفها أيضا إلى الآدميين فقدمت لاجتماع الأمرين فيها والخلاف جار في اجتماع حق الله تعالى مطلقا مع الدين فيدخل في ذلك الحج وجزاء الصيد والكفارة والنذر كما صرح به في المجموع
نعم الجزية ودين الآدمي يستويان على الأصح مع أن الجزية حق لله تعالى
( وفي قول ) يقدم ( الدين ) لأن حقوق الآدميين مبنية على المضايقة لافتقارهم واحتياجهم وكما يقدم القصاص على القتل بالردة
وأجاب الأول بأن الحدود مبناها على الدرء
( وفي قول يستويان ) فيوزع المال عليهما لأن الحق المالي المضاف إلى الله تعالى يعود إلى الآدميين أيضا وهم المنتفعون به وفي قول يقدم الأسبق منهما وجوبا
وخرج بدين الآدمي دين الله تعالى ككفارة
قال السبكي فالوجه أن يقال إن كان النصاب موجودا أي بعضه كما قاله شيخنا قدمت الزكاة وإلا فيستويان وبالتركة ما لو اجتمعا على حي فإنه إن كان محجورا عليه قدم حق الآدمي جزما كما قاله الرافعي في باب كفارة اليمين وإلا قدمت جزما كما قاله الرافعي هنا هذا إذا لم تتعلق الزكاة بالعين وإلا فتقدم مطلقا كما قاله شيخنا
ولو ملك نصابا فنذر التصدق به أو بشيء منه أو لعله صدقة أو أضحية قبل وجوب الزكاة فيه فلا زكاة وإن كان ذلك في الذمة أو لزمه الحج لم يمنع ذلك الزكاة في ماله لبقاء ملكه
( والغنيمة قبل القسمة ) وبعد الحوز وانقضاء الحرب ( إن اختار الغانمون تملكها ومضى بعده ) أي بعد اختيار التملك ( حول والجميع صنف زكوي وبلغ نصيب كل شخص نصابا أو بلغه المجموع ) بدون الخمس ( في موضع ثبوت
____________________
(1/411)
الخلطة ) ماشية كانت أو غيرها ( وجبت زكاتها ) كسائر الأموال
( وإلا ) أي وإن انتفى شرط من هذه الشروط الستة بأن لم يختاروا تملكها أو لم يمض حول أو مضى والغنيمة أصناف أو صنف غير زكوي أو لم يبلغ نصابا أو يبلغ بخمس الخمس ( فلا ) زكاة لعدم الملك أو ضعفه لسقوطه بالإعراض عند انتفاء الشرط الأول ولعدم الحول عند انتفاء الشرط الثاني ولعدم معرفة كل منهم ماذا نصيبه وكم نصيبه عند انتفاء الشرط الثالث ولعدم المال الزكوي عند انتفاء الشرط الرابع ولعدم بلوغه نصابا عند الشرط الخامس ولعدم ثبوت الخلطة عند انتفاء الشرط السادس لأنها لا تثبت مع أهل الخمس إذ لا زكاة فيه لأنه لغير معين
( ولو أصدقها نصاب سائمة معينا لزمها زكاته إذا تم حول من الإصداق ) سواء استقر بالدخول والقبض أم لا لأنها ملكته بالعقد ولو أصدقها بعض نصاب ووجدت شروط الخلطة ووجبت الزكاة أيضا
وخرج بالعين ما في الذمة فلا زكاة لأن السوم لا يثبت في الذمة كما مر بخلاف أصداق النقدين تجب الزكاة فيهما وإن كانا في الذمة
ولو طلقها قبل الدخول بها وبعد الحول رجع في نصف الجميع شائعا إن أخذ الساعي الزكاة من غير المعين المصدق أو لم يأخذ شيئا فإن طالبه الساعي بعد الرجوع وأخذها منها أو كان قد أخذها منها قبل الرجوع في بقيتها رجع أيضا بنصف قيمة المخرج
وإن طلقها قبل الدخول قبل تمام الحول عاد إليه نصفها ولزم كلا منهما نصف شاة عند تمام حوله إن دامت الخلطة وإلا فلا زكاة على واحد منهما لعدم تمام النصاب
تنبيه محل الوجوب عليها إذا علمت بالسوم فإن لم تعلم أتبني على أن قصد السوم شرط أم لا والأصح نعم ولو طالبته المرأة به فامتنع ولم تقدر على خلاصه فكالمغصوب قاله المتولي
وعوض الخلع والصلح عن دم العمد كالصداق وألحق بهما ابن الرفعة بحثا مال الجعالة
( ولو أكرى ) غيره ( دارا أربع سنين بثمانين دينارا ) معينة أو في الذمة كل سنة بعشرين دينارا ( وقبضها ) من ذلك الغير ( فالأظهر أنه لا يلزمه أن يخرج إلا زكاة ما استقر ) عليه ملكه لأن ما لا يستقر معرض للسقوط بانهدام الدار فملكه ضعيف وإن حل وطء الأمة المجعولة أجرة لأن الحل لا يتوقف على ارتفاع الضعف من كل وجه
وفارق ذلك ما مر في مسألة الصداق بأن الأجرة تستحق في مقابلة المنافع فبفواتها ينفسخ العقد من أصله بخلاف الصداق ولهذا لا يسقط بموت الزوجة قبل الدخول وإن لم تسلم المنافع للزوج
وتشطره إنما يثبت بتصرف الزوج بالطلاق ونحوه فيفيد ملكا جديدا وليس نقضا لملكها من الأصل
( فيخرج عند تمام السنة الأولى زكاة عشرين ) وهو نصف دينار لأنها التي استقر ملكه عليها الآن ( ولتمام ) السنة ( الثانية زكاة عشرين لسنة ) وهي التي زكاها ( و ) زكاة ( عشرين لسنتين ) وهي التي استقر ملكه عليها الآن ( ولتمام ) السنة ( الثالثة زكاة أربعين لسنة ) وهي التي زكاها ( و ) زكاة ( عشرين لثلاث سنين ) وهي التي استقر ملكه عليها الآن ( ولتمام ) السنة ( الرابعة زكاة ستين لسنة ) وهي التي زكاها ( و ) زكاة ( عشرين لأربع ) وهي التي استقر ملكه عليها الآن فإن قيل إنه بالسنة الثانية يستقر ملكه على ربع الثمانين الذي هو حصتها وله في ملكه سنتان ولم يخرج عنه فيكون قد ملك المستحقون نصف دينار فيسقط حصة ذلك وهكذا قياس السنة الثالثة والرابعة
أجيب بأنه أخرج الزكاة من غير الأجرة
فإن قيل إذا أدى الزكاة من غيره فأول الحول الثاني في ربع الثمانين بكماله من حين أداء الزكاة لا من أول السنة لأنه باق على ملكهم إلى حين الأداء
أجيب بأنه عجل
____________________
(1/412)
الإخراج قبل حولان كل حول فلم يتم الحول وللمستحقين حق في المال
( و ) القول ( الثاني يخرج لتمام ) السنة ( الأولى زكاة الثمانين ) لأنه ملكها ملكا تاما ولهذا لو كانت الأجرة أمة حل له وطؤها كما مر وسقوطها بالانهدام لا يقدح كما في الصداق قبل الدخول وتقدم الفرق بينهما
ثم محل ما مر إذا تساوت أجرة السنين فإن اختلفت فكل منها بحسابه لأن الإجارة إذا انفسخت توزع الأجرة المسماة على أجرة المثل في المدتين الماضية والمستقبلة
قال في المجموع لو انهدمت الدار في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي فقط وتبينا استقرار ملكه على قسط الماضي والحكم في الزكاة كما مر
قال الماوردي والأصحاب فلو كان أخرج زكاة جميع الأجرة قبل الانهدام لم يرجع بما أخرجه عنها عند استرجاع قسط ما بقي لأن ذلك حق لزمه في ملكه فلم يكن له الرجوع به على غيره
فصل في أداء زكاة المال كان الأولى أن يترجم له بباب وكذا للفصل الذي بعده فإنهما غير داخلين في التبويب فلا يحسن التعبير بالفصل ولهذا عقد في الروضة لهذا الفصل والذي بعده ثلاثة أبواب بابا في أداء الزكاة وبابا في تعجيلها وبابا في تأخيرها
( تجب الزكاة ) أي أداؤها ( على الفور ) لأن حاجة المستحقين إليها ناجزة ( إذا تمكن ) من الأداء كسائر الواجبات ولأن التكليف بدونه تكليف بما لا يطاق فإن أخر أثم وضمن إن تلف كما سيأتي
نعم أداء زكاة الفطر موسع بليلة العيد ويومه كما مر
( وذلك ) أي التمكن ( بحضور المال ) فلا يجب الإخراج عن المال الغائب في موضع آخر وإن جوزنا نقل الزكاة لاحتمال تلفه قبل وصوله إليه نعم إن مضى بعد تمام الحول مدة يمكن المضي إلى الغائب فيها صار متمكنا كما قاله السبكي ويجب عليه الإعطاء
( و ) حضور ( الأصناف ) أي المستحقين أو حضور الإمام أو الساعي لاستحالة الإعطاء بدون القابض وبجفاف الثمار وتنقية الحب والمعدن وخلو المالك من مهم ديني أو دنيوي كصلاة وأكل
وإن حضر بعض المستحقين دون بعض فكل حكمه حتى لو تلف المال ضمن حصتهم ويجوز تأخيرها ليتروى حيث تردد في استحقاق الحاضرين وكذا لانتظار قريب أو جار أو أحوج أو أصلح أو لانتظار الأفضل من تفرقته بنفسه أو بالإمام أو نائبه إذا لم يشتد ضرر الحاضرين
نعم لو تلف المال حينئذ ضمن
( وله أن يؤدي بنفسه زكاة المال الباطن ) وهو النقدان وعروض التجارة والركاز كما مر لمستحقه وإن طلبها الإمام
وليس للإمام أن يطالبه بقبضها بالإجماع كما قاله في المجموع نعم إن علم أن المالك لا يزكي فعليه أن يقول له أدها وإلا ادفعها إلي
وكلامه قد يفهم جواز مباشرة السفيه لذلك وليس مرادا لما سيأتي في الحجر
( وكذا الظاهر ) وهو النعم والمعشر والمعدن كما مر ( في الجديد ) قياسا على الباطن والقديم يجب صرفها إلى الإمام أو نائبه لقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } الآية وظاهره الوجوب هذا إن لم يطلبها الإمام فإن طلبها وجب تسليمها إليه وإن كان جائرا بذلا للطاعة بخلاف زكاة المال الباطن إذ لا نظر له فيها كما مر وإنما ألحق الجائر بغيره لنفاذ حكمه وعدم انعزاله بالجور فإن امتنعوا من تسليمها إليه قاتلهم وإن قالوا نسلمها للمستحقين بأنفسنا لامتناعهم من بذل الطاعة
( وله ) مع الأداء بنفسه في المالين ( التوكيل ) فيه لأنه حق مالي فجاز التوكيل في أدائه كديون الآدميين
وقضية إطلاقه جواز توكيل الكافر والرقيق والسفيه والصبي المميز لكن يشترط في الكافر والصبي تعيين المدفوع إليه كما في البحر وذكر البغوي مثله في الصبي ولم يتعرض للكافر
( والصرف ) بنفسه أو وكيله ( إلى الإمام ) أو الساعي لأنه نائب المستحقين فجاز الدفع إليه ولأنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذ الزكوات
( والأظهر أن الصرف إلى الإمام أفضل ) من تسليم المالك بنفسه أو وكيله إلى المستحقين
____________________
(1/413)
لأنه أعرف بهم وأقدر على الاستيعاب ولتيقن البراءة بتسليمه بخلاف ما إذا فرق بنفسه فإنه قد يعطي غير المستحق
ولو اجتمع الإمام والساعي فالدفع إلى الإمام أولى قاله الماوردي
( إلا أن يكون جائرا ) فالأفضل أن يفرق بنفسه لأنه على يقين من فعل نفسه وفي شك من فعل غيره والثاني الأفضل الصرف إلى الإمام مطلقا والثالث الأفضل تفرقته بنفسه مطلقا ليخص الأقارب والجيران والأحق وينال أجر التفريق
وكان الأولى التعبير بالأصح كما في الشرحين والروضة والمجموع
ومحل الخلاف في الأموال الباطنة أما الظاهرة فتسليمها كما قاله في المجموع إلى الإمام وإن كان جائرا أفضل من تفريق المالك أو وكيله لها اه
ثم إن لم يطلبها الإمام فللمالك تأخيرها ما دام يرجو مجيء الساعي فإن أيس من مجيئه وفرق بنفسه ثم طالبه الساعي وجب تصديقه ويحلف استحبابا إن اتهم
وصرفه بنفسه أو إلى الإمام أفضل من التوكيل بلا خلاف
تنبيه المراد بالعادل العادل في الزكاة وإن كان جائرا في غيرها كما نقله في الكفاية عن الماوردي وظاهره أنه تفسير لكلام الأصحاب في المراد بالعدل والجور هنا
( وتجب النية ) في الزكاة للخبر المشهور والاعتبار فيها بالقلب كغيرها
( فينوي هذا فرض زكاة مالي أو فرض صدقة مالي ونحوهما ) كزكاة مالي المفروضة أو الصدقة المفروضة أو الواجبة كما قال البغوي وغيره لدلالة ذلك على المقصود
ولو نوى زكاة المال دون الفريضة أجزأه وإن كان كلامه يشعر باشتراط نية الفريضة مع نية الزكاة لأنها لا تكون إلا فرضا بخلاف صلاة الظهر مثلا فإنها قد تكون نفلا ولو قال هذه زكاة أجزأه أيضا
( ولا يكفي هذا فرض مالي ) لأن ذلك يصدق على النذر والكفارة وغيرهما
( وكذا الصدقة ) أي صدقة مالي أو المال لا يكفي ( في الأصح ) لأن الصدقة تصدق على صدقة التطوع والثاني يكفي لظهورها في الزكاة لأنها قد عهدت في القرآن لأخذ الزكاة قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم }
وقال تعالى { إنما الصدقات للفقراء } الآية
أما لو نوى الصدقة فقط فإنه لا يجزئه على المذهب قال في المجموع وبه قطع الجمهور
والفرق بين المسألتين أن الصدقة تطلق على غير المال كقوله صلى الله عليه وسلم فكل تكبيرة صدقة وتحميدة صدقة
( ولا يجب ) في النية ( تعيين المال ) المخرج عنه عند الإخراج لأن الغرض لا يختلف به كالكفارات فلو ملك من الدراهم نصابا حاضرا ونصابا غائبا عن محله فأخرج خمسة دراهم بنية الزكاة مطلقا ثم بان تلف الغائب فله جعل المخرج عن الحاضر
( ولو عين لم يقع عن غيره ) ولو بان المعين تالفا لأنه لم ينو ذلك الغير فلو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة فأخرج شاة عن الأبعرة فبانت تالفة لم تقع عن الشياه
هذا إذا لم ينو أنه إن بان ذلك المنوي عنه تالفا فعن غيره فإن نوى ذلك فبان تالفا وقع عن الآخر
ولو قال هذه زكاة مالي الغائب إن كان باقيا فبان باقيا أجزأه عنه بخلاف قوله هذه زكاة مالي إن كان مورثي قد مات فبان موته فإنه لا يجزئه
والفرق عدم الاستصحاب للمال في هذه إذ الأصل فيها بقاء الحياة وعدم الإرث وفي تلك بقاء المال ونظيره أن يقول في ليلة آخر شهر رمضان أصوم غدا عن شهر رمضان إن كان منه فيصح ولو قال في ليلة آخر شعبان أصوم غدا إن كان من شهر رمضان لم يصح
( ويلزم الولي النية إذا أخرج زكاة الصبي والمجنون ) والسفيه لأن النية واجبة وقد تعذرت من المالك فقام بها وليه كالإخراج فإذا دفع بلا نية لم يقع الموقع وعليه الضمان ولولي السفيه مع ذلك أن يفوض النية كغيره
( وتكفي نية الموكل عند الصرف إلى الوكيل ) عن الوكيل عند الصرف إلى المستحقين ( في الأصح ) لوجود النية من المخاطب بالزكاة مقارنة لفعله
( والأفضل أن ينوي الوكيل عند التفريق ) على المستحقين
____________________
(1/414)
( أيضا ) للخروج من الخلاف والثاني لا تكفي نية الموكل وحده بل لا بد من نية الوكيل المذكور كما لا تكفي نية المستنيب في الحج
وفرق الأول بأن العبادة في الحج فعل النائب فوجبت النية منه وهي هنا بمال الموكل فكفت نيته
وعلى الأول لو نوى الوكيل وحده لم يكف إلا إن فوض إليه الموكل النية وكان الوكيل أهلا لها لا كافرا أو صبيا ولو نوى الموكل وحده عند تفرقة الوكيل جاز قطعا ولو عزل مقدار الزكاة ونوى عند العزل جاز في الأصح ولا يضر تقديمها على التفرقة كالصوم لعسر الاقتران بأداء كل مستحق ولأن القصد من الزكاة سد حاجة المستحقين بها
ولو نوى بعد العزل وقبل التفرقة أجزأه أيضا وإن لم تقارن النية أخذها في المجموع وقال فيه عن زيادة العبادي إنه لو دفع مالا إلى وكيله ليفرقه تطوعا ثم نوى به الفرض ثم فرقه الوكيل وقع عن الفرض إذا كان القابض مستحقا
( ولو دفع ) الزكاة ( إلى السلطان كفت النية عنده ) أي عند الدفع إليه وإن لم ينو السلطان عند الدفع للمستحقين لأنه نائبهم فالدفع إليه كالدفع إليهم ولهذا لو تلفت عنده الزكاة لم يجب على المالك شيء بخلاف الوكيل والساعي في ذلك كالسلطان
( فإن لم ينو ) المالك عند الدفع إلى السلطان ( لم يجزىء على الصحيح وإن نوى السلطان ) عند القسم لأنه نائب المستحقين والدفع إليهم بلا نية لا يجزىء فكذا نائبهم والثاني يجزيء نوى السلطان أو لم ينو لأن العادة فيما يأخذه الإمام ويفرقه على الأصناف إنما هو الفرض فأغنت هذه القرينة عن النية فإن أذن له في النية جاز كغيره
ولو عبر بالأصح كما في الروضة كان أولى لأن الثاني نص عليه في الأم وهو ظاهر نص المختصر وقطع به كثير من العراقيين
( والأصح أنه يلزم السلطان النية إذا أخذ زكاة الممتنع ) من أدائها نيابة عنه
والثاني لا تلزمه وتجزئه من غير نية
( و ) الأصح ( أن نيته ) أي السلطان ( تكفي ) في الإجزاء ظاهرا وباطنا لقيامه مقامه في النية كما في التفرقة والثاني لا تكفي لأن المالك لم ينو وهو متعبد بأن يتقرب بالزكاة ومحل لزوم السلطان النية إذا لم ينو الممتنع عند الأخذ منه قهرا فإن نوى كفى وبرىء باطنا وظاهرا وتسميته حينئذ ممتنعا إنما هو باعتبار امتناعه السابق وإلا فقد صار بنيته غير ممتنع
فلو لم ينو الإمام ولا المأخوذ منه لم يبرأ باطنا وكذا ظاهرا في الأصح
ولو لم ينو السلطان عند الأخذ ونوى عند الصرف على المستحقين ينبغي أن يجزىء وإن بحث ابن الأستاذ خلافه وجزم به القمولي لأنه قائم مقام المالك والمالك لو نوى في هذه الحالة أجزأه
ولو قدم المصنف المسألة الثانية على الأولى كان أولى لأن الوجهين في اللزوم مبنيان على الوجهين في الاكتفاء
فصل في تعجيل الزكاة وما يذكر معه ( لا يصح تعجيل الزكاة ) في مال حولي ( على ملك النصاب ) في الزكاة العينية كأن ملك مائة درهم فعجل خمسة دراهم لتكون زكاة إذا تم النصاب وحال الحول عليه واتفق ذلك فإنه لا يجزىء لفقد سبب وجوبها وهو المال الزكوي فأشبه أداء الثمن قبل البيع وتقديم الكفارة على اليمين
ولو ملك خمسا من الإبل فعجل شاتين فبلغت عشرا بالتوالد لم يجزه ما عجل عن النصاب الذي كمل الآن لما فيه من تقديم زكاة العين على النصاب فأشبه ما لو أخرج زكاة أربعمائة درهم وهو لا يملك إلا مائتين
ولو عجل شاة عن أربعين شاة ثم ولدت أربعين ثم هلكت الأمهات لم يجزه المعجل عن السخال لأنه عجل الزكاة عن غيرها فلا يجزئه عنها
ولو ملك مائة وعشرين شاة فعجل عنها شاتين فحدثت سخلة قبل الحول لم يجزه ما عجله عن النصاب الذي كمل الآن كما نقله في الشرح الصغير عن تصريح الأكثرين واقتضاه كلام الكبير وقيل يجوز وجزم به في الحاوي الصغير لأن النتاج في أثناء الحول بمثابة الموجود في أوله
وخرج بالعينية زكاة التجارة فيجوز التعجيل فيها بناء على ما مر من أن النصاب فيها يعتبر آخر الحول فلو اشترى عرضا قيمته مائة فعجل زكاة مائتين أو قيمته مائتان فعجل زكاة أربعمائة وحال الحول وهو يساوي ذلك
____________________
(1/415)
أجزأه
( ويجوز ) تعجيلها في المال الحولي ( قبل ) تمام ( الحول ) فيما انعقد حوله لأن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل الحول فرخص له في ذلك رواه أبو داود والترمذي وقال الحاكم صحيح الإسناد
ولأنه وجب بسببين وهما النصاب والحول فجاز تقديمه على أحدهما كتقديم كفارة اليمين على الحنث فلو ملك مائتي درهم أو ابتاع عرضا يساويها فعجل زكاة أربعمائة وحال الحول وهو يساويها أجزأه المعجل
( ولا تعجل لعامين في الأصح ) ولا لأكثر كما فهم بالأولى لأن زكاة غير الأول لم ينعقد حوله والتعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز كالتعجيل قبل كمال النصاب في الزكاة العينية فإن عجل لعامين فأكثر أجزأه عن الأول دون غيره لما مر وقضية ذلك الإجزاء عنه مطلقا وهو كما قال الإسنوي ك السبكي مسلم إن ميز حصة كل عام وإلا فينبغي عدم الإجزاء لأن المجزىء عن خمسين شاة مثلا إنما هو شاة معينة لا شائعة ولا مبهمة
والثاني يجوز لما رواه أبو داود وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين وصحح هذا الإسنوي وغيره وعزوه للنص
وعلى هذا يشترط أن يبقى بعد التعجيل نصاب كتعجيل شاتين من ثنتين وأربعين شاة
وأجاب البيهقي بأن الحديث مرسل أو محمول على أنه تسلف صدقة عامين مرتين أو صدقة مالين لكل واحد حول مفرد
( وله تعجيل الفطرة من أول ) ليلة ( رمضان ) لأنها وجبت بسببين وهما الصوم والفطر فجاز تقديمها على أحدهما ولأن التقديم بيوم أو يومين جائز باتفاق المخالف فألحق الباقي به قياسا بجامع إخراجها في جزء منه
( والصحيح منعه ) أي التعجيل ( قبله ) أي رمضان لأنه تقديم على السببين
والثاني يجوز لأن وجود المخرج عنه في نفسه سبب
وأجاب القاضي أبو الطيب بأن ما له ثلاثة أسباب لا يجوز تقديمه على اثنين منها بدليل كفارة الظهار فإن سببها الزوجية والظهار والعود ومع ذلك لا تقدم على الأخيرين
( و ) الصحيح ( أنه لا يجوز إخراج زكاة الثمر قبل بدو صلاحه ولا الحب قبل اشتداده ) لأن وجوبها بسبب واحد وهو إدراك الثمار فيمتنع التقديم عليه وأيضا لا يعرف قدره تحقيقا ولا تخمينا
والثاني يجوز كزكاة المواشي والنقد قبل الحول
ومحل الخلاف فيما بعد ظهوره أما قبله فيمتنع قطعا
( و ) الصحيح أنه ( يجوز بعدهما ) أي صلاح الثمر واشتداد الحب قبل الجفاف والتصفية إذا غلب على ظنه حصول النصاب كما قاله في البحر لمعرفة قدره تخمينا ولأن الوجوب قد ثبت إلا أن الإخراج لا يجب وهذا تعجيل على وجوب الإخراج لا على أصل الوجوب فهو أولى بالإخراج من تعجيل الزكاة قبل الحول والثاني لا يجوز للجهل بالقدر
ولو أخرج من عنب لا يتزبب أو رطب لا يتتمر أجزأ قطعا إذ لا تعجيل
( وشرط إجزاء ) أي وقوع ( المعجل ) زكاة ( بقاء المالك أهلا للوجوب ) عليه ( إلى آخر الحول ) وبقاء المال إلى آخره أيضا فلو مات أو تلف المال أو باعه ولم يكن مال تجارة لم يجزه المعجل
تنبيه قد يبقى المال وأهلية المالك ولكن تتغير صفة الواجب كما لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين فتوالدت قبل الحول حتى بلغت ستا وثلاثين فلا تجزئه المعجلة على الأصح وإن صارت بنت لبون في يد القابض بل يستردها ويعيدها أو يعطي غيرها وذلك لأنه لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط
والمراد من عبارة المصنف أن يكون المالك موصوفا بصفة الوجوب لأن الأهلية تثبت بالإسلام والحرية ولا يلزم من وصفه بالأهلية وصفه بوجوب الزكاة عليه
( وكون القابض ) له ( في آخر الحول مستحقا ) فلو خرج عن الاستحقاق بموت أو ردة لم يحسب المدفوع إليه عن الزكاة لخروجه عن الأهلية عند الوجوب والقبض السابق إنما يقع عن هذا الوقت
( وقيل إن خرج عن الاستحقاق في أثناء الحول ) كأن ارتد ثم عاد ( لم يجزه ) أي المالك المعجل كما لو لم يكن عند الأخذ مستحقا ثم
____________________
(1/416)
صار كذلك في آخر الحول والأصح الإجزاء اكتفاء بالأهلية في طرفي الوجوب والأداء
وقد يفهم أنه لا بد من العلم بكونه مستحقا في آخر الحول فلو غاب عند الحول ولم تعلم حياته أو احتياجه لم يجزه لكن في فتاوى الحناطي الظاهر الإجزاء وهو أقرب الوجهين في البحر وهو المعتمد ولم يصرح الشيخان بالمسألة
ومثل ذلك ما لو حصل المال عند الحول ببلد غير بلد القابض فإن المدفوع يجزىء عن الزكاة كما اعتمده شيخي إذ لا فرق بين أن يغيب القابض عن بلد المال أو يخرج المال عن بلد القابض وإن كان في كلام بعض المتأخرين خلافه وفي البحر لو شك هل مات قبل الحول أو بعده أجزأ في أقرب الوجهين
وقضية كلام المصنف أن القابض إذا مات وهو معسر في أثناء الحول أنه يلزم المالك دفع الزكاة ثانيا إلى المستحقين وهو كذلك
وقال في المجموع هو الذي يقتضيه كلام الجمهور
( ولا يضر غناه بالزكاة ) المعجلة إما لكثرتها أو لتوالدها ودرها أو التجارة فيها أو غير ذلك لأنه إنما أعطي الزكاة ليستغني فلا يكون ما هو المقصود مانعا من الإجزاء
وأيضا لو أخذناها منه لافتقر واحتجنا إلى ردها إليه فإثبات الاسترجاع يؤدي إلى نفيه
ويضر غناه بغيرها كزكاة واجبة أو معجلة أخذها بعد أخرى وقد استغنى بها
واستشكل السبكي ما إذا كانتا معجلتين واتفق حولهما إذ ليس استرجاع إحداهما بالأولى من الأخرى ثم قال والثانية أولى بالاسترجاع
وكلام الفارقي يشعر باسترجاع الأولى والأول أوجه
أما إذا كانت الثانية واجبة فالأولى هي المسترجعة وعكسه بالعكس لأنه لا مبالاة بعروض المانع بعد قبض الزكاة الواجبة
أما إذا أخذهما معا فإنه لا استرداد ولو استغنى بالزكاة وبغيرها لم يضر أيضا كما اقتضاه كلام المصنف وجزما به في الروضة وأصلها لأنه بدونها ليس بغني خلافا لقول الجرجاني في شافيه أنه يضر
( وإذا لم يقع المعجل زكاة ) لعروض مانع وجبت الزكاة ثانيا كما مرت الإشارة إليه
نعم لو عجل شاة من أربعين فتلفت بيد القابض لم يجب التجديد لأن الواجب القيمة ولا يكمل بها نصاب السائمة و ( استرد ) المالك ( إن كان شرط الاسترداد إن عرض مانع ) عملا بالشرط لأنه مال دفعه عما يستحقه القابض في المستقبل فإذا عرض ما يمنع الاستحقاق استرد كما إذا عجل أجرة الدار ثم انهدمت في المدة
وفهم منه أنه ليس له الاسترداد قبل عروض المانع وهو كذلك لأنه قد تبرع بالتعجيل فلم يكن له الرجوع فيه كمن عجل دينا مؤجلا
وفهم منه أيضا أنه إن شرط الاسترداد بدون مانع لا يسترد وهو كذلك قال الإسنوي وفي صحة القبض حينئذ نظر اه
والظاهر الصحة
( والأصح أنه إن قال ) عند دفعه بنفسه ( هذه زكاتي المعجلة فقط ) أو علم القابض أنها معجلة ( استرد ) لذكره التعجيل أو العلم به وقد بطل
والثاني لا يسترد ويكون تطوعا
تنبيه لو عبر بالمذهب كان أولى فإن الصحيح في المجموع وغيره هو القطع بالأول
ومحل الخلاف فيما إذا دفع المالك بنفسه كما قدرته أما إذا فرق الإمام فإنه يسترد قطعا إذا ذكر التعجيل ولا حاجة إلى شرط الرجوع
وكان الأولى أن يصرح بعلم القابض كما قدرته فإنه قد احتاج إليه بعد هذا في عكس المسألة وصرح به فقال ( و ) الأصح وصحح في الروضة القطع به ( أنه إن لم يتعرض للتعجيل ) بأن اقتصر على ذكر الزكاة أو سكت ولم يذكر شيئا ( ولم يعلمه القابض لم يسترد ) ويكون تطوعا لتفريط الدافع بترك الإعلام عند الأخذ
والثاني يسترد لظنه الوقوع عن الزكاة ولم يقع عنها
والثالث إن كان المعطي هو الإمام رجع وإن كان هو المالك فلا لأن الإمام يعطي مال الغير فلا يمكن وقوعه تطوعا
واحترز بقوله ولم يعلمه القابض عما إذا علمه عند القبض فإنه يسترد كما مر
ولو تجدد له العلم بعد القبض فهل هو كالمقارن أو لا قال السبكي في كلام أبي حامد والإمام ما يفهم أنه كالمقارن وهو الأقرب
( و ) الأصح ( أنهما لو اختلفا في مثبت الاسترداد ) وهو التصريح بالرجوع عند عروض مانع أو في ذكر التعجيل
____________________
(1/417)
أو علم القابض به على الأصح ( صدق القابض ) أو وارثه ( بيمينه ) لأن الأصل عدم الاشتراط ولأنها اتفقا على انتفاء الملك والأصل استمراره ولأن الغالب هو الأداء في الوقت
ويحلف القابض على البت ووارثه على نفي العلم والثاني يصدق المالك بيمينه لأنه أعرف بقصده ولهذا لو أعطى ثوبا لغيره وتنازعا في أنه عارية أو هبة صدق الدافع
ووقع في المجموع أنه الأصح وعد من سبق القلم
ومحل الخلاف في غير علم القابض بالتعجيل أما فيه فيصدق القابض بلا خلاف لأنه لا يعرف إلا من جهته ولا بد من حلفه على نفي العلم بالتعجيل على الأصح في المجموع لأنه لو اعترف بما قاله الدافع لضمن
ولو اختلفا في نقص المال عن النصاب أو تلفه قبل الحول فقضية كلام المصنف تصديق القابض بيمينه وهو كذلك وإن قاله الأذرعي فيه وقفة
( ومتى ثبت ) الاسترداد ( والمعجل تالف وجب ضمانه ) بالمثل إن كان مثليا وبالقيمة إن كان متقوما لأنه قبضه لغرض نفسه
( والأصح ) في المتقوم ( اعتبار قيمته يوم ) أي وقت ( القبض ) لأن ما زاد عليها حصل في ملك القابض فلا يضمنه والثاني قيمته وقت التلف لأنه وقت انتقال الحق إلى القيمة وفي معنى تلفه البيع ونحوه
( و ) الأصح ( أنه إن وجده ناقصا ) نقص أرش صفة كالمرض والهزال حدث قبل سبب الرد ( فلا أرش ) له لأنه حدث في ملكه فلا يضمنه كالأب إذا رجع في الموهوب ناقصا
والثاني له أرشه لأن جملته مضمونة فكذلك جزؤه وليس كالهبة فإن جملها غير مضمونه فجزؤها أولى
أما نقص الجزء كتلف شاة من شاتين فإنه يرجع ببدل التالف قطعا كما في المجموع والكفاية
( و ) الأصح ( أنه لا يسترد زيادة منفصلة ) كلبن وولد حدثت قبل وجود سبب الاسترداد لأنها حدثت في ملكه واللبن في الضرع ونحو الصوف على ظهر الدابة كالمنفصل حقيقة لأنه منفصل حكما والثاني يستردها مع الأصل لأنه تبين أنه لم يقع الموقع
أما لو حصل النقص أو الزيادة المنفصلة بعد وجود سبب الرجوع أو كان القابض حال القبض غير مستحق فيجب الأرش ويسترد الزيادة كما قاله الإمام وجزم به في الكفاية
واحترز بالمنفصلة عن المتصلة كالسمن والتعليم فإنها تتبع الأصل
ولو وجد المعجل بحاله وأراد القابض أن يرد بدله ولم يرض المالك ففيه الخلاف في الفرض كما قاله الشيخان فيكون الأصح إجابة المالك
وتعبيره بالأصح يقتضي إثبات الخلاف وقوته
وعبر في الروضة بالمذهب الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي وقيل وجهان
( وتأخير ) أداء ( الزكاة بعد التمكن ) وقد تقدم ( يوجب الضمان ) لها وإن لم يأثم كأن أخر لطلب الأفضل كما مرت الإشارة إليه ( وإن تلف المال ) المزكى أو أتلف لتقصيره بحبس الحق عن المستحق
تنبيه قال الإسنوي وهذه المسألة وجميع ما بعدها لا تعلق له بالتعجيل فكان ينبغي إفراده بفصل كما في المحرر
وفي جعله التلف غاية نظر فإن ذلك هو محل الضمان وأما قبل التلف فيقال وجب الأداء ولا يحسن فيه القول بالضمان فكان ينبغي إسقاط الواو
( ولو تلف قبل التمكن ) وبعد الحول بلا تقصير ( فلا ) ضمان لعدم تقصيره
أما إذا قصر كأن وضعه في غير حرز مثله فعليه الضمان
( ولو تلف بعضه ) بعد الحول وقبل التمكن وبقي بعضه ( فالأظهر أنه يغرم قسط ما بقي ) بعد إسقاط الوقص فلو تلف واحد من خمس من الإبل قبل التمكن ففي الباقي أربعة أخماس شاة أو ملك تسعة منها حولا فهلك قبل التمكن خمسة وجب أربعة أخماس شاة بناء على أن التمكن شرط في الضمان وأن الأوقاص عفو وهو الأظهر فيهما أو أربعة وجبت شاة والثاني لا شيء عليه بناء على أن التمكن شرط للوجوب
تنبيه لو عبر باللزوم بدل الغرم كان أولى وعبارة المحرر يبقى قسط ما بقي
( وإن أتلفه ) المالك ( بعد الحول وقبل التمكن لم تسقط الزكاة ) سواء قلنا التمكن شرط للضمان أم للوجوب لأنه متعد بالإتلاف
فإن أتلفه أجنبي فإن
____________________
(1/418)
قلنا التمكن شرط للوجوب فلا زكاة عليه وإن قلنا إنه شرط في الضمان وعلقنا الزكاة بالعين وهو الأصح فيهما انتقل الحق إلى القيمة كما لو قتل الرقيق الجاني والمرهون
( وهي ) أي الزكاة ( تتعلق بالمال ) الذي تجب فيه ( تعلق شركة ) بقدرها لظاهر الأدلة ولأنها تجب بصفة المال من الجودة والرداءة
ولو امتنع المالك من إخراجها أخذها الإمام منه قهرا كما يقسم المال المشترك إذا امتنع بعض الشركاء من قسمته
وإنما جاز الإخراج من غيره على خلاف قاعدة المشتركات رفقا بالمالك وتوسيعا عليه لكونها وجبت مجانا على سبيل المواساة وعلى هذا إن كان الواجب من غير جنس المال كشاة في خمس من الإبل ملك المستحقون بقدر قيمتها من الإبل أو من جنسه كشاة من أربعين شاة فهل الواجب شاة لا بعينها أو شائع أي جزء من كل شاة وجهان حكاهما الشيخان في الكلام على بيع المال
الأقرب إلى كلام الأكثرين الثاني إذ القول بالأول يقتضي الجزم ببطلان البيع فيما ذكر لإبهام المبيع وعلى الوجهين للمالك تعيين واحدة منها أو من غيرها قطعا رفقا به
وظاهرها في المجموع إطلاق الخلاف في النقود والحبوب ونحوها وإن قال بعضهم إن واجبها شائع بلا خلاف
( وفي قول تعلق الرهن ) بقدرها منه فيكون الواجب في ذمة المالك والنصاب مرهون به لأنه لو امتنع من الأداء ولم يجد الواجب في ماله باع الإمام بعضه واشترى واجبه كما يباع المرهون في الدين
وقيل تتعلق بجميعه ( وفي قول ) تتعلق ( بالذمة ) ولا تعلق لها بالعين كزكاة الفطر وهو أضعفها
وفي قول رابع أنها تتعلق بالعين تعلق الأرش برقبة الجاني لأنها تسقط بهلاك النصاب كما يسقط الأرش بموت العبد والتعلق بقدرها منه وقيل بجميعه
وفي خامس أنه إن أخرج من المال تبين تعلقها به وإلا فلا
( فلو باعه ) أي المال بعد وجوب الزكاة ( وقبل إخراجها فالأظهر بطلانه ) أي البيع ( في قدرها وصحته في الباقي ) لأن حق المستحقين شائع فأي قدر باعه كان حقه وحقهم
والثاني بطلانه في الجميع
والثالث صحته في الجميع
والأولان قولا تفريق الصفقة ويأتيان على تعلق الشركة وتعلق الرهن أو الأرش بقدر الزكاة ويأتي الثالث على ذلك أيضا
وعلى الأول لو استثنى قدر الزكاة في غير الماشية ك بعتك هذا إلا قدر الزكاة صح البيع كما جزم به الشيخان في بابه لكن يشترط ذكره أهو عشر أم نصفه كما نقل عن الماوردي و الروياني
وأما الماشية فإن عين كقوله إلا هذه الشاة صح في كل المبيع وإلا فلا في الأظهر ويستثنى من ذلك زكاة التمر إذا خرص وقلنا الخرص تضمين وهو الأصح فإنه يصح بيع جميعه قطعا كما أشار إليه المصنف هناك
هذا كله في بيع الجميع كما أشار إليه بقوله فلو باعه فأما إذا باع بعضه فإن لم يبق قدر الزكاة فهو كما لو باع الجميع وإن أبقى قدرها بنية الصرف فيها أو بلا نية بطل أيضا في قدرها على أقيس الوجهين
فإن قيل يشكل هذا على ما سبق من جزم الشيخين بالصحة
أجيب بأن الاستثناء اللفظي أقوى من القصد المجرد وهذا كله في زكاة الأعيان أما زكاة التجارة فيصح بيع الكل بعد وجوب الزكاة وقبل إخراجها على الأصح لأن متعلق الزكاة القيمة وهي لا تفوت بالبيع بخلاف ما لو وهب أموال التجارة فهو كبيع ما وجبت في عينه فيأتي فيه الأقوال السابقة
تتمة لو علم المشتري أن الزكاة وجبت على البائع ولم يخرجها ثبت له الخيار بسبب أن ملكه في بعض ما اشتراه لم يكمل لأن للساعي انتزاعه من يده بغير اختيار فلو أدى البائع الزكاة من موضع آخر لم يسقط خياره لأنه وإن فعل ذلك لا ينقلب صحيحا في قدرها وقيل يسقط لأن الخلل قد زال
خاتمة يسن للمستحق والساعي الدعاء للمالك عند الأخذ ترغيبا له في الخير وتطييبا لقلبه وقال تعالى { وصل عليهم } أي ادع لهم ولا يتعين دعاء والأولى أن يقول ما استحبه الشافعي آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت ويكره أن يصلى بفتح اللام على غير الأنبياء والملائكة لأن ذلك شعار أهل البدع كما لا يقال عز وجل إلا لله تعالى وإن صح المعنى في غيره لأنه صار مختصا به إلا تبعا لهم كالآل فيقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وأتباعه
ويستثنى من غير الأنبياء والملائكة ما اختلف في نبوته كلقمان ومريم على الأشهر
____________________
(1/419)
من أنهما ليسا بنبيين فلا يكره إفراد الصلاة والسلام عليهما كما يؤخذ من أذكار المصنف لأنهما يرتفعان عن حال من يقال فيه رضي الله عنه
ولا تكره الصلاة من الأنبياء والملائكة على غيرهما لأنهما حقهما فلهما الإنعام بهما على غيرهما وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم صل على آل أبي أوفى والسلام كالصلاة فيما ذكر لأنه تعالى قرن بينهما لكن المخاطبة به مستحبة للأحياء والأموات من المسلمين ابتداء وواجبة جوابا كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى وما يقع منه غيبة في المراسلات فمنزل منزلة ما يقع خطابا
ويسن الترضي والترحم على غير الأنبياء من الأخيار قال في المجموع وما قاله بعض العلماء من أن الترضي مختص بالصحابة والترحم بغيرهم ضعيف
كتاب الصيام هو والصوم لغة الإمساك ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم { إني نذرت للرحمن صوما } أي إمساكا وسكوتا عن الكلام
وشرعا إمساك عن المفطر على وجه مخصوص
والأصل في وجوبه قبل الإجماع مع ما يأتي آية { كتب عليكم الصيام } وخبر بني الإسلام على خمس
وفرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة
وأركانه ثلاثة صائم ونية وإمساك عن المفطرات
( يجب صوم رمضان ) للأدلة السابقة
وهو معلوم من الدين بالضرورة فمن جحد وجوبه فهو كافر إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء
ومن ترك صومه غير جاحد من غير عذر كمرض وسفر كأن قال الصوم واجب علي ولكن لا أصوم حبس ومنع الطعام والشراب نهارا ليحصل له صورة الصوم بذلك
سمي رمضان من الرمض وهو شدة الحر لأن العرب لما أرادت أن تضع أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور كان في شدة الحر فسمي بذلك كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع
وما قيل من أنه سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها ضعيف لأن التسمية ثابتة قبل الشرع
قال ابن عبد السلام وهو أفضل الأشهر
وفي الحديث رمضان سيد الشهور
ولا يكره قول رمضان بدون الشهر على الأصح في شرحي المهذب ومسلم وما نقله أكثر الأصحاب من كراهته لحديث ورد فيه ضعفه البيهقي وغيره
وإنما يجب ( بإكمال شعبان ثلاثين ) يوما ( أو رؤية الهلال ) ليلة الثلاثين منه لقوله صلى الله عليه وسلم صومو لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين رواه البخاري
ويضاف إلى الرؤية وإكمال العدد ظن دخوله بالاجتهاد عند الاشتباه كما سيأتي في كلامه
والظاهر كما قال الأذرعي أن الأمارة الظاهرة الدالة كرؤية القناديل المعلقة بالمناثر في آخر شعبان في حكم الرؤية
وأفهم كلامه أنه لا يجب بقول المنجم ولا يجوز والمراد بآية { وبالنجم هم يهتدون } الاهتداء إلى أدلة القبلة في السفر
ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة ولظاهر هذه الآية وصححه في المجموع وقال إنه لا يجزئه عن فرضه
وصحح في الكفاية أنه إذا جاز أجزأه ونقله عن الأصحاب ورجحه الزركشي تبعا للسبكي قال وصرح به في الروضة فيما يأتي في الكلام على أن شرط النية الجزم وهذا هو المعتمد
والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني
ولا عبرة أيضا بقول من قال أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم في النوم بأن الليلة أول رمضان فلا يصح الصوم به بالإجماع لفقد ضبط الرائي لا للشك في الرؤية
وهل تثبت بالشهادة على الشهادة طريقان أصحهما القطع بثبوته كالزكاة وقيل لا كالحدود
( وثبوت رؤيته ) يحصل ( بعدل ) سواء كانت السماء مصحية أم لا لأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رآه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود وصححه ابن حبان
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت هلال رمضان فقال أتشهد أن لا إله إلا الله
____________________
(1/420)
قال نعم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا صححه ابن حبان والحاكم
والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم
( وفي قول ) يشترط في ثبوت رؤيته ( عدلان ) كغيره من الشهور
قال الإسنوي وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه فإن المجتهد إذا كان له قولان وعلم المتأخر منهما كان مذهبه المتأخر ففي الأم قال الشافعي بعد لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان
ونقل البلقيني مع هذا النص نصا آخر صيغته رجع الشافعي بعد فقال لا يصام إلا بشاهدين
ونقل الزركشي عن الصيمري أنه قال إن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده أو شهادة ابن عمر قبل الواحد وإلا فلا يقبل أقل من اثنين
وقد صح كل منهما وعندي أن مذهب الشافعي قبول الواحد وإنما رجع إلى اثنين بالقياس لما لم يثبت عنده في المسألة سنة فإنه تمسك للواحد بأثر عن علي ولهذا قال في المختصر ولو شهد برؤيته عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه اه
ومنهم من قطع بالأول وهو المعتمد لما ذكر وعليه لو نذر صوم شهر معين فشهد بهلاله واحد ثبتت الرؤية في الأصح في البحر وهو المعتمد كما جزم به ابن المقري في روضه
ومحل ثبوت رؤيته بعدل في الصوم قال الزركشي وتوابعه كصلاة التراويح والاعتكاف والإحرام بالعمرة المعلقين بدخول رمضان لا في غير ذلك كدين مؤجل ووقوع طلاق وعتق معلقين به
فإن قيل هلا ثبت ذلك ضمنا كما ثبت شوال بثبوت رمضان بواحد والنسب والإرث بثبوت الولادة بالنساء أجيب بأن الضمني في هذه الأمور لازم للمشهود به بخلاف الطلاق ونحوه وبأن الشيء إنما يثبت ضمنا إذا كان التابع من جنس المتبوع كالصوم والفطر فإنهما من العبادات وكالولادة والنسب والإرث فإنها من المال والآيل إليه بخلاف ما هنا فإن التابع من المال أو الآيل إليه والمتبوع من العبادات هذا كما قال البغوي إن سبق التعليق الشهادة فلو حكم القاضي بدخول رمضان بشهادة عدل ثم قال قائل إن ثبت رمضان فعبدي حر أو زوجتي طالق وقعا ومحله أيضا كما قال الإسنوي إذا لم يتعلق بالشاهد فإن تعلق به ثبت لاعترافه به
فرع لو شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته قال السبكي لا تقبل هذه الشهادة لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية والظني لا يعارض القطعي
وأطال في بيان رد هذه الشهادة والمعتمد قبولها إذ لا عبرة بقول الحساب كما مر
ورؤيته الهلال نهارا لليلة المستقبلة لا الماضية فلا نفطر إن كان في ثلاثي رمضان ولا نمسك إن كان في ثلاثي شعبان
وأما رؤيته يوم التاسع والعشرين فلم يقل أحد إنها للماضية أي ولا للمستقبلة كما في شرح الإرشاد لابن أبي شريف لئلا يلزم أن يكون الشهر ثمانية وعشرين لو قيل إنها لليلة الماضية
( وشرط الواحد صفة العدول في الأصح ) المنصوص ( لا عبد وامرأة ) فليسا من العدول في الشهادة
قال الشارح وإطلاق العدول ينصرف إلى الشهادة بخلاف إطلاق العدل فيصدق بها وبالرواية والمرأة لا تقبل في الشهادة وحدها اه
فاندفع بذلك ما قيل إن قوله وشرط الواحد صفة العدول بعد قوله بعدل فيه ركاكة فإن العدل من كانت فيه صفة العدول والخلاف مبني على أن الثبوت بالواحد شهادة أو رواية فلا يثبت بواحد منهما على الأول ويثبت به على الثاني ويشترط لفظ الشهادة على الأول أيضا وهي شهادة حسية وتختص بمجلس القاضي كما جزم به صاحب الأنوار وغيره ولا تشترط العدالة الباطنة فيه وهي التي يرجع فيها إلى قول المزكين على الأصح في المجموع بل يكتفي بالعدالة الظاهرة والمراد بذلك المستور وإن كان مشكلا لأن الصحيح أنها شهادة لا رواية ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للعبادة
تنبيه أشار المصنف بقوله وثبوت رؤيته إلى أن ذلك بالنسبة إلى عموم الناس
أما وجوبه على الرائي فلا يتوقف على كونه عدلا فمن رأى هلال رمضان وجب عليه الصوم وإن كان فاسقا وقالت طائفة منهم البغوي يجب الصوم على من أخبره موثوق به بالرؤية إذا اعتقد صدقه وإن لم يذكره عند القاضي ولم يفرعوه على شيء ومثله في المجموع بزوجته وجاريته وصديقه ويكفي في الشهادة أشهد أني رأيت الهلال كما صرح به الرافعي في صلاة العيد
____________________
(1/421)
وصرح به القاضي شريح و الروياني وغيرهما وعبارة الروياني وصفة الشهادة على الهلال أن يقول رأيته في ناحية المغرب ويذكر صغره وكبره وتدويره وتقديره وأنه بحذاء الشمس أو في جانب منها وأن ظهره إلى الجنوب أو الشمال وأنه كان في السماء غيم أو لم يكن
وفائدة التنصيص على ذلك الاحتياط حتى إذا رؤي في الليلة الثانية ولم يكن بهذه الصفات بأن كذب الشاهد لأن الهلال في الليلة الثانية لا يتحول عن صفاته التي طلع عليها بالأمس وإن خالف في ذلك ابن أبي الدم فقال لا يجوز أن يقول أشهد أني رأيت الهلال لأنها شهادة على فعل نفسه بل طريقه أن يشهد بطلوع الهلال أو على أن الليلة من رمضان مثلا ونحو ذلك
ويدل للأول المعتمد قبول شهادة المرضعة إذا قالت أشهد أني أرضعته على الأصح
واعلم أن رمضان قد يثبت بواحد وقد يثبت بأكثر وحينئذ فالأولى التعبير بتثبت كما في المحرر ولا يأتي بالمبتدأ المشعر بالحصر نبه على ذلك الإسنوي
( وإذا صمنا بعدل ولم نر الهلال بعد ثلاثين أفطرنا في الأصح ) المنصوص ( وإن كانت السماء مصحية ) أي لا غيم فيها لكمال العدد بحجة شرعية
والثاني لا لأن الفطر يؤدي إلى ثبوت شوال بقول واحد وهو ممتنع
وأجاب الأول بأن الشيء قد يثبت ضمنا بما لا يثبت به مقصودا ألا ترى أن النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا بالولادة كما مر وقيل إن كانت السماء مغيمة أفطرنا وإن كانت مصحية فلا لقوة الرؤية ولو صمنا بعدل ثم رجع الشاهد في أثناء اليوم فقيل لا يلزم الصوم كرجوع الشاهد قبل الحكم وقيل يلزم لأن الشروع فيه كالحكم قاله شريح في أدب القضاء
وهذا الثاني أقرب كما قاله الأذرعي
( وإذا رؤي ببلد لزم حكمه البلد القريب ) منه قطعا كبغداد والكوفة لأنهما كبلد واحدة كما في حاضري المسجد الحرام
( دون البعيد في الأصح ) كالحجاز والعراق
والثاني يلزم في البعيد أيضا
( والبعيد مسافة القصر ) وصححه المصنف في شرح مسلم لأن الشرع علق بها كثيرا من الأحكام
( وقيل باختلاف المطالع
قلت هذا أصح والله أعلم ) لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ولما روى مسلم عن كريب قال رأيت الهلال بالشام ثم قدمت المدينة فقال ابن عباس متى رأيتم الهلال قلت ليلة الجمعة قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقياسا على طلوع الفجر والشمس وغروبهما
قال الشيخ تاج الدين التبريزي واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخا
فإن قيل اعتبار اتحاد المطالع واختلافها يتعلق بالمنجم والحاسب وقد تقدم أنه لا يعتبر قولهما في إثبات رمضان
أجيب بأنه لا يلزم من عدم اعتباره في الأصول والأمور العامة عدم اعتباره في التوابع والأمور الخاصة فإن شك في الاتفاق في المطلع لم يجب على الذين لم يروا الصوم لأن الأصل عدم وجوبه لأنه إنما يجب بالرؤية ولم تثبت في حق هؤلاء لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية
قال السبكي وقد تختلف المطالع وتكون الرؤية في أحد البلدين مستلزمة للرؤية في الآخر من غير عكس وذلك أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في البلاد الغربية فمتى اتحد المطلع لزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر ومتى اختلف لزم من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي ولا ينعكس وعلى ذلك حديث كريب فإن الشام غربية بالنسبة إلى المدينة فلا يلزم من رؤيته في الشام رؤيته فيها
( وإذا لم نوجب على ) أهل ( البلد الآخر ) وهو البعيد ( فسافر إليه من بلد الرؤية ) من صام به ( فالأصح أنه يوافقهم ) وجوبا ( في الصوم آخرا ) وإن كان قد أتم ثلاثين لأنه بالانتقال إلى بلدهم صار واحدا منهم فيلزمه حكمهم
وروي أن ابن عباس أمر كريبا بذلك
والثاني يفطر لأنه لزمه حكم البلد الأول فيستمر
____________________
(1/422)
عليه
( ومن سافر من البلد الآخر ) أي الذي لم ير فيه ( إلى بلد الرؤية عيد معهم ) وجوبا لما مر سواء أصام ثمانية وعشرين بأن كان رمضان أيضا عندهم ناقصا فوقع عيده معهم في التاسع والعشرين من صومه أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تاما عندهم
( وقضي يوما ) إن صام ثمانية وعشرين لأن الشهر لا يكون كذلك بخلاف ما إذا صام تسعة وعشرين لا قضاء عليه لأن الشهر يكون كذلك
( و ) على الأصح ( من أصبح معيدا فسارت سفينته ) مثلا ( إلى بلدة بعيدة أهلها صيام فالأصح أنه يمسك بقية اليوم ) وجوبا لما مر
والثاني لا يجب إمساكه لأنه لم يرد فيه أثر وتجزئة اليوم الواحد بإمساك بعضه دون بعض بعيد
ورد الرافعي الاستبعاد المذكور بيوم الشك إذا ثبت الهلال في أثنائه فإنه يجب إمساك باقيه دون أوله
ورده السبكي بأن تبعيض الحكم في يوم الشك في الظاهر وأما في مسألتنا فهو تبعيض ظاهرا أو باطنا بالنسبة إلى حكم البلدين فيكون كما لو أسلم الكافر أو أفاق المجنون أو بلغ الصبي وهو مفطر فإنه لا يلزمهم الإمساك على الأصح وتتصور المسألة بأن يكون ذلك يوم الثلاثين من صوم البلدين لكن المنتقل إليهم لم يروه وبأن يكون التاسع والعشرين من صومهم لتأخر ابتدائه بيوم
فائدة في مسند الدارمي وصحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند رؤية الهلال الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربنا وربك الله
وفي أبي داود كان يقول هلال خير ورشد مرتين آمنت بمن خلقك ثلاث مرات
ويسن أن يقرأ بعد ذلك سورة تبارك لأثر فيه ولأنها المنجية الواقية قال السبكي وكان ذلك لأنها ثلاثون آية بعدد أيام الشهر ولأن السكينة تنزل عند قراءتها وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤها عند النوم
فصل في أركان الصوم وأركانه ثلاثة كما مر نية وإمساك عن المفطرات وصائم
وعبر عنها المصنف بالشروط إلى أولها بقوله ( النية شرط للصوم ) لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ومحلها القلب ولا تكفي باللسان قطعا ولا يشترط التلفظ بها قطعا كما قاله في الروضة
تنبيه ظاهر كلام المصنف أنه لو تسحر ليتقوى على الصوم لم يكن ذلك نية وبه صرح في العدة
والمعتمد أنه لو تسحر ليصوم أو شرب لدفع العطش نهارا أو امتنع من الأكل أو الشرب أو الجماع خوف طلوع الفجر كان ذلك نية إن خطر بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها لتضمن كل منها قصد الصوم
( ويشترط لفرضه ) أي الصوم من رمضان أوغيره كقضاء أو نذر ( التبييت ) وهو إيقاع النية ليلا لقوله صلى الله عليه وسلم من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له رواه الدارقطني وغيره وصححوه وهو محمول على الفرض بقرينة خبر عائشة الآتي
ولا بد من التبييت لكل يوم لظاهر الخبر ولأن صوم كل يوم عبادة مستقلة لتخلل اليومين مما يناقض الصوم كالصلاة يتخللها السلام
وكلام المصنف قد يخرج الصبي المميز فإنه لا فرض عليه والمعتمد كما في المجموع تبعا للروياني وغيره أنه كالبالغ في ذلك
قال الروياني وليس لنا صوم نفل يشترط فيه التبييت إلا هذا
ويؤخذ من تعبير المصنف بالشرط أنه لو شك هل كانت نيته قبل الفجر أو بعده لم يصح صومه وهو كذلك كما صرح به في المجموع لأن الأصل عدم تقدمها
ولو نوى ثم شك هل طلع الفجر أو لا صح لأن الأصل بقاء الليل
ولو شك نهارا هل نوى ليلا ثم تذكر ولو بعد مضي أكثر النهار أجزأه صومه فإن لم يتذكر بالنهار لم يجزه لأن الأصل عدم النية ولم تنجبر بالتذكر نهارا
ومقتضى هذا أنه لو تذكر بعد الغروب لم يجزه والظاهر الإجزاء كما قاله الأذرعي
ولو شك بعد الغروب هل نوى أو لا ولم يتذكر لم يؤثر أخذا من قولهم في صوم الكفارة إنه لو شك بعد الغروب هل نوى أو لا أجزأه وهذا هو المعتمد والفرق بينه وبين الصلاة فيما إذا شك في
____________________
(1/423)
النية بعد الفراغ منها ولم يتذكر حيث تلزمه الإعادة التضييق في نية الصلاة بدليل أنه لو نوى الخروج منها بطلت في الحال ولا كذلك الصوم
ولو نوى قبل الغروب أو مع طلوع الفجر لم يجزه لظاهر الخبر السابق
( والصحيح أنه لا يشترط ) في التبييت ( النصف الآخر من الليل ) بل يكفي ولو من أوله لإطلاق التبييت في الحديث من الليل ولما فيه من المشقة
والثاني يشترط لقربه من العبادة لأن الأصل وجوب اقتران النية بأول العبادة وهو طلوع الفجر فلما سقط ذلك للمشقة أوجبنا النصف الأخير كما في أذان الصبح وغسل العيد والدفع من مزدلفة
( و ) الصحيح ( أنه لايضر الأكل والجماع ) وغيرهما من منافي الصوم ( بعدها ) أي النية وقبل الفجر وهذا هو المنصوص وبه قطع الجمهور
والثاني أنه يبطل النية فيحتاج إلى تجديدها
نعم إن رفض النية قبل الفجر ضر لأنه ضدها نقله في المجموع عن المتولي وأقره وكذا لو ارتد بعدما نوى ليلا ثم أسلم قبل الفجر
( و ) الصحيح ( أنه لا يجب التجديد ) لها ( إذا نام ) بعدها ( ثم تنبه ) ليلا لأن النوم ليس منافيا للصوم
والثاني يجب تقريبا للنية من العبادة بقدر الوسع
أما إذا استمر النوم إلى الفجر فإنه لا يضر بلا خلاف
( ويصح النفل بنية قبل الزوال ) لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوما هل عندكم من غداء قالت لا قال فإني إذن أصوم
قالت وقال لي يوما آخر أعندكم شيء قلت نعم قال إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم رواه الدارقطني وصحح إسناده
واختص بما قبل الزوال للخبر إذ الغداء بفتح الغين اسم لما يؤكل قبل الزوال والعشاء اسم لما يؤكل بعده ولأنه مضبوط بين ولإدراك معظم النهار به كما في ركعة المسبوق وهذا جرى على الغالب ممن يريد صوم النفل وإلا فلو نوى قبل الزوال وقد مضى معظم النهار صح صومه
( وكذا ) يصح بنية ( بعده في قول ) قياسا على ما قبله تسوية بين آخر النهار كما في النية ليلا
( والصحيح ) المنصوص ( اشتراط حصول شرط الصوم ) في النية قبل الزوال أو بعده ( من أول النهار ) بأن لا يسبقها مناف للصوم ككفر وجماع وأكل وجنون وحيض ونفاس وإلا لم يحصل مقصود الصوم وهو خلو النفس عن الموانع في اليوم بكماله
والثاني لا يشترط ما ذكر
ومحل الخلاف إذا قلنا إنه صائم من وقت النية أما إذا قلنا إنه صائم من أول النهار وهو الأصح حتى يثاب على جميعه إذ صوم اليوم لا يتبعض كما في الركعة بإدراك الركوع فلا بد من اجتماع شرائط الصوم من أول النهار جزما
ولو سبق ماء مضمضة أي أو استنشاق بلا مبالغة إلى جوفه قبل النية لم يؤثر في الأصح سواء أقلنا يفطر بذلك أم لا قاله في زيادة الروضة قال في المجموع وهذه مسألة نفيسة مهمة
( ويجب ) في النية ( التعيين في الفرض ) بأن ينوي كل ليلة أنه صائم غدا من رمضان أو عن نذر أو عن كفارة لأنه عبادة مضافة إلى وقت فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس
ولا فرق في الكفارة بين أن يعين سببها أم لا لكن لو عين وأخطأ لم يجزه فإن جهل سبب ما عليه من الصوم من كونه قضاء عن رمضان أو نذرا أو كفارة كفاه نية الصوم الواجب للضرورة كمن نسي صلاة من الخمس لا يعرف عينها فإنه يصلي الخمس ويجزئه عما عليه ويعذر في عدم جزمه بالنية للضرورة ذكره في المجموع
فإن قيل قياس الصلاة أن يصوم ثلاثة أيام ينوي يوما عن القضاء ويوما عن النذر ويوما عن الكفارة
أجيب بأن الذمة هنا لم تشتغل بالثلاث
والأصل بعد الإتيان بصوم يوم بنية الصوم الواجب براءة ذمته مما زاد بخلاف من نسي صلاة من الخمس فإن ذمته اشتغلت بجميعها والأصل بقاء كل منها فإن فرض أن ذمته اشتغلت بصوم الثلاث وأتى باثنين منها ونسي الثالث التزم فيه ذلك
فإن قيل هلا اكتفوا فيمن نسي صلاة بثلاث صلوات فقط الصبح والمغرب وإحدى رباعية ينوي فيها الصلاة الواجبة كنظيرها هنا أجيب بأنهم توسعوا هنا ما لم يتوسعوا ثم بدليل عدم اشتراط المقارنة في نية الصوم وعدم الخروج منه بنية تركه بخلافهما في الصلاة واحترز بالفرض عن النفل فإنه يصح بنية مطلقة
فإن قيل قال في المجموع هكذا أطلقه الأصحاب وينبغي اشتراط التعيين في الصوم الراتب كعرفة وعاشوراء وأيام البيض وستة من شوال كرواتب الصلاة
____________________
(1/424)
أجيب بأن الصوم في الأيام المذكورة منصرف إليها بل لو نوى به غيرها حصل أيضا كتحية المسجد لأن المقصود وجود صومها
( وكماله ) أي التعيين كما قاله في المحرر وعبر في الروضة بكمال النية ( في رمضان أن ينوي صوم غد ) أي اليوم الذي يلي الليلة التي ينوي فيها ( عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى ) بإضافة رمضان وكذلك لتتميز عن أضدادها لكن فرض غير هذه السنة لا يكون إلا قضاء وقد خرج بقيد الأداء إلا أن يقال لفظ الأداء لا يغني عن السنة لأن الأداء يطلق ويراد به الفعل
ثم التعرض للغد قد يكون بخصوصه كما تقرر وقد يكون بإدخاله في عموم كأن ينوي صوم الشهر فيكفيه لليوم الأول لدخوله في صوم الشهر
قال في أصل الروضة ولفظ الغد قد اشتهر في كلامهم في تفسير التعيين وهو في الحقيقة ليس من حد التعيين وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت
( وفي الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى الخلاف المذكور في الصلاة ) كذا ذكره الرافعي في كتبه وتبعه المصنف في الروضة
وظاهره أن يكون الأصح اشتراط الفرضية دون الأداء والإضافة إلى الله تعالى لكن صحح في المجموع تبعا للأكثرين عدم اشتراطها هنا وهو المعتمد بخلافه في الصلاة لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضا بخلاف الصلاة فإن المعادة نفل
فإن قيل الجمعة لا تقع من البالغ إلا فرضا مع أنه يشترط فيها نية الفرضية أجيب بأن ذلك ممنوع فإنه لو صلاها بمكان ثم أدرك جماعة في آخر يصلونها فصلاها معهم فإنها لا تقع منه فرضا
( والصحيح ) المنصوص وقطع به الجمهور ( أنه لا يشترط تعيين السنة ) كما لا يشترط الأداء لأن المقصود منهما واحد والثاني يشترط ليمتاز ذلك عما يأتي به في سنة أخرى
ولو نوى صوم غد وهو يعتقده الاثنين فكان الثلاثاء أو صوم رمضان هذه السنة وهو يعتقدها سنة ثلاث فكانت سنة أربع صح صومه بخلاف ما لو نوى صوم الثلاثاء ليلة الاثنين أو صوم رمضان سنة ثلاث فكانت سنة أربع ولم يخطر بباله في الأولى الغد وفي الثانية السنة الحاضرة لأنه لم يعين الوقت الذي نوى في ليلته وتصوير مثله بعيد
ولو كان عليه قضاء رمضانين فنوى صوم غد عن قضاء رمضان جاز وإن لم يعين أنه عن قضاء أيهما لأنه كله جنس واحد قاله القفال في فتاويه قال وكذا إذا كان عليه صوم نذر من جهات مختلفة فنوى صوم النذر جاز وإن لم يعين نوعه وكذا الكفارات كما مرت الإشارة إليه
وجعل الزركشي ذلك مستثنى من وجوب التعيين
ويشترط أن تكون النية منجزة ويأتي في تعليقها بالمشيئة ما مر في الوضوء وأما التعليق بغيرها فقد أشار إليه بقوله ( ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد عن رمضان إن كان منه ) وصامه ( فكان منه لم يقع عنه ) سواء اقتصر على هذا أم زاد بعده فقال وإلا أنا مفطر أو متطوع للشك في أنه منه حال النية فليست جازمة
وسكت المصنف عما إذا جزم ولم يأت بلفظ إن الدالة على التردد وهو باطل أيضا على الصحيح لأن الجزم به لا أصل له بل هو حديث نفس
( إلا إذا اعتقد ) أي ظن ( كونه منه بقول من يثق به من عبد أو امرأة ) أو فاسق ( أو صبيان رشداء ) أي مختبرين بالصدق لأن غلبة الظن هنا كاليقين كما في أوقات الصلوات فتصح النية المبيتة عليه حتى لو تبين ليلا كون غد من رمضان لم يحتج إلى تجديد نية أخرى
تنبيهات أحدها جمع الصبية ليس بمعتبر ففي المجموع لو أخبره بالرؤية مراهق ونوى صوم رمضان فبان منه أجزأه
ثانيها لو ردد في هذه الحالة فقال أصوم غدا عن رمضان
فإن لم يكن منه فهو تطوع وبان منه قال الإمام لم يجزه وجزم به ابن المقري وقال الإسنوي المتجه الإجزاء لأن النية معنى قائم بالقلب والتردد حاصل في القلب قطعا ذكره أم لم يذكره وقصده الصوم إنما هو بتقدير كونه من رمضان فكان كالتردد في القلب بعد حكم الحاكم
وذكر نحوه الزركشي قال وهو الموافق لما حكاه الإمام عن طوائف وكلام الأم مصرح به ولا نقل يعارضه إلا دعوى الإمام أنه
____________________
(1/425)
ظاهر النص وليس كما ادعى اه
وهذا هو المعتمد كما اعتمده شيخي رحمه الله تعالى ثالثها ليس المراد بالرشد هنا المراد به في قوله شرط العاقد الرشد بل المراد به ما ذكرته
زاد في المهمات ولا يبعد اجتناب النواهي خصوصا الكبائر منها والظاهر أن الرشد في الصبيان ويحتمل عوده إلى الباقي
وقال في الوسيط إعادة قوله رشداء إلى جميع ما تقدم غلط ولم يبين وجه ذلك وسيأتي الفرق بين هذا وبين يوم الشك عند التكلم عليه
قال في المجموع ولو قال ليلة الثلاثين من شعبان أصوم غدا نفلا إن كان منه وإلا فمن رمضان ولم يكن أمارة فبان من شعبان صح صومه نفلا لأن الأصل بقاؤه صرح به المتولي وغيره وإن بان من رمضان لم يصح صومه فرضا ولا نفلا
( ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان أجزأه إن كان منه ) لأن الأصل بقاؤه كما لو قال هذه زكاة مالي الغائب إن كان سالما فكان سالما أجزأه وله أن يعتمد في نيته على حكم الحاكم ولا أثر لتردد يبقى بعد حكمه ولو بشهادة واحد للاستناد إلى ظن معتمد نبه على ذلك في المحرر وعبارته ولا بأس في التردد الذي يبقى بعد حكم القاضي بشهادة عدلين أو عدل واحد اه
وأهمل ذلك في المنهاج لوضوحه وفهمه من كلامه
قال السبكي لكن لا يكفي مثل ذلك في الاختصار
قال الزركشي وهذ ظاهر فيمن جهل حال الشاهد
أما العالم بفسقه وكذبه فالظاهر أنه لا يلزمه الصوم إذ لا يتصور منه الجزم بالنية بل لا يجوز له صومه حيث حرم صومه كيوم الشك
( ولو اشتبه ) رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه ( صام شهرا بالاجتهاد ) كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت وذلك أمارة كالربيع والخريف والحر والبرد
فلو صام بلا اجتهاد فوافق رمضان لم يجزه لتردده في النية
فلو اجتهد وتحير فلم يظهر له شيء ففي المجموع أنه لا يلزمه أن يصوم
فإن قيل ينبغي أن يلزمه الصوم ويقضي كالمتحير في القبلة
أجيب بأنه هنا لم يتحقق الوجوب ولم يظنه وأما في القبلة فقد تحقق دخول وقت الصلاة وعجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الإمكان لحرمة الوقت ولو لم يعرف الليل من النهار واستمرت الظلمة ففي المجموع أنه يلزمه التحري والصوم ولا قضاء عليه فلو ظهر له أنه كان يصوم الليل ويفطر النهار وجب القضاء كما في الكفاية عن الأصحاب
( فإن وافق ) صومه بالاجتهاد رمضان وقع أداء وإن نواه قضاء لظنه خروجه كما قاله الروياني أو ( ما بعد رمضان أجزأه ) قطعا وإن نوى الأداء كما في الصلاة ( وهو قضاء على الأصح ) لوقوعه بعد الوقت والثاني أنه أداء لأن العذر قد يجعل غير الوقت وقتا كما في الجمع بين الصلاتين
وفائدة الخلاف ذكرها المصنف بقوله ( فلو نقص ) الشهر الذي صامه بالاجتهاد ولم يكن شوالا ولا ذا الحجة ( وكان رمضان تاما لزمه يوم آخر ) بناء على أنه قضاء
فإن قلنا إنه أداء كفاه الناقص ولو انعكس الحال فإن قلنا إنه قضاء فله إفطار اليوم الأخير إذا عرف الحال وإن قلنا إنه أداء فلا
فإن كان شوالا في مسألة المتن لزمه يومان أو الحجة فخمسة أيام وفي عكسها لا قضاء في الأولى وفي الثانية يلزمه ثلاثة أيام وفي التساوي يلزمه في الأولى يوم وفي الثانية أربع
ولو وافق رمضان السنة القابلة وقع عنها لا عن القضاء
( ولو غلط ) في اجتهاده وصومه ( بالتقديم وأدرك رمضان ) بعد تبين الحال ( لزمه صومه ) قطعا لتمكنه منه في وقته ( وإلا ) أي وإن لم يدرك رمضان بأن لم يتبين له الحال إلا بعده أو في أثنائه ( فالجديد وجوب القضاء ) لما فاته لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلا يجزئه كما في الصلاة والقديم لا يجب للعذر وقطع بعضهم بالأول
وأفهم كلام المصنف أنه إذا لم يبين لحال أنه لا شيء عليه وهو كذلك كما في الصلاة لأن الظاهر صحة الاجتهاد
ولو أدى اجتهاده إلى فوات رمضان فصام شهرا قضاء فبان أنه رمضان أجزأه كما مر عن الروياني
ولو تحرى لشهر نذر فوافق رمضان لم يسقط شيء منهما كما صرح به ابن المقري لأنه إنما نوى النذر ورمضان لا يقبل غيره ومثله ما لو كان عليه صوم قضاء فأتى به في رمضان
( ولو نوت
____________________
(1/426)
الحائض ) أو النفساء في الليل ( صوم غد قبل انقطاع دمها ثم انقطع ) دمها ( ليلا صح ) صومها بهذه النية ( إن تم ) لها ( في الليل أكثر الحيض ) أو النفاس لأنها جازمة بأن غدها كله طهر وسواء أكانت مبتدأة أم غيرها
لكن كلامه يوهم اشتراط الانقطاع وليس مرادا لأنه متى تم في الليل أكثر الحيض صحت نيتها وإن لم ينقطع الدم لأن الزائد على أكثر الحيض استحاضة وهي لا تمنع الصوم
وإنما ذكره المصنف لأجل قوله ( وكذا ) إن تم لها ( قدر العادة ) التي هي دون أكثر الحيض أو النفاس فإنه يصح صومها بتلك النية ( في الأصح ) لأن الظاهر استمرار العادة سواء اتحدت أم اختلفت واتسقت ولم تنس اتساقها بخلاف ما إذا لم يكن لها عادة ولم يتم أكثر الحيض أو النفاس ليلا أو كان لها عادة مختلفة غير متسقة أو متسقة ونسيت اتساقها ولم يتم أكثر عاداتها ليلا لأنها لم تجزم ولا بنت على أصل ولا أمارة
ثم شرع في الركن الثاني معبرا عنه بالشرط كما تقدم التنبيه عليه وبهذا يسقط ما يقيل إن المصنف جعل النية شرطا والإمساك شرطا فلا حقيقة للصوم فإنه لا شيء فيه غير النية والإمساك فإذا كانا شرطين فأين الصوم فقال فصل شرط الصوم أي شرط صحته من حيث الفعل ( الإمساك عن الجماع ) بالإجماع ولو بغير إنزال ولقوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } والرفث الجماع
نعم في إتيان البهيمة أو الدبر إذا لم ينزل خلاف فقيل لا يفطر بناء على أن فيه التعزير فقط
( والاستقاءة ) لخبر ابن حبان وغيره من ذرعه القيء أي غلب عليه وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض
هذا إذا كان عالما بالتحريم عامدا مختارا لذلك فإن كان جاهلا لقرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء أو ناسيا أو مكرها فإنه لا يفطر
ومال في البحر إلى أن الجاهل يعذر مطلقا والمعتمد خلافه كما قيده القاضي حسين بما ذكر
( والصحيح أنه لو تيقن أنه لم يرجع شيء إلى جوفه ) بالاستقاءة كأن تقايأ منكسا ( بطل ) صومه بناء على أن المفطر عينها كالإنزال لظاهر الخبر ووجه مقابله البناء على أن المفطر رجوع شيء مما خرج وإن قل
( وإن غلبه القيء فلا بأس ) أي لم يضر للخبر المار ( وكذا لو اقتلع نخامة ) من الباطن وهي الفضلة الغليظة التي يلفظها الشخص من فيه ويقال لها أيضا النخاعة بالعين
( ولفظها ) أي رماها فلا بأس بذلك ( في الأصح ) سواء أقلعها من دماغه أم من باطنه لأن الحاجة إليه تتكرر فرخص فيه والثاني يفطر به كالاستقاءة
ورجح في الروضة والمجموع القطع بالأول واحترز بقوله اقتلع عما لو لفظها مع نزولها بنفسها أو بغلبة سعال فلا بأس به جزما وب لفظها عما إذا بقيت في محلها فإنه لا يفطر جزما وعما إذا ابتلعها بعد أن خرجت إلى الظاهر فإنه يفطر جزما
( فلو نزلت من دماغه وحصلت في حد الظاهر من الفم ) بأن انصبت من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ( فليقطعها من مجراها وليمجها ) إن أمكن حتى لا يصل شيء إلى الباطن
( فإن تركها مع القدرة ) على ذلك ( فوصلت الجوف أفطر في الأصح ) لتقصيره والثاني لا يفطر لأنه لم يفعل شيئا وإنما أمسك عن الفعل فلو لم تصل إلى حد الظاهر من الفم وهو مخرج بالخاء المعجمة وكذا الحاء المهملة كما قاله المصنف خلافا للرافعي بأن كانت في حد الباطن وهو مخرج الهاء والهمزة أو حصلت في حد الظاهر ولم يقدر على قطعها ومجها لم يضر
( و ) الإمساك ( عن وصول العين ) وإن قلت كسمسمة أو لم تؤكل كحصاة ( إلى ما يسمى جوفا ) لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف
____________________
(1/427)
وخرج بالعين الأثر كالريح بالشم وحرارة الماء وبرودته بالذوق وبالجوف عما لو داوى جرحه الذي على لحم الساق أو الفخذ فوصل الدواء إلى داخل المخ أو اللحم أو غرز فيه حديدة فإنه لا يفطر لأنه ليس بجوف
فإن قيل يرد على المصنف ما لو دميت لثته فبصق حتى صار ريقه صافيا ثم ابتلعه فإنه يفطر في الأصح مع أنه لم يصل إلى جوفه غير ريقه
أجيب بأن الريق لما تنجس حرم ابتلاعه وصار بمنزلة العين الأجنبية
( وقيل يشترط مع هذا أن يكون فيه ) أي الجوف ( قوة تحيل الغذاء ) وهو بكسر الغين والذال المعجمتين يطلق على المأكول والمشروط ( أو الدواء ) بالمد وأحد الأدوية لأن ما لا تحيله لا تتغذى به النفس ولا ينتفع به البدن فأشبه الواصل إلى غير الجوف
( فعلى الوجهين باطن الدماغ والبطن والأمعاء ) أي المصارين جمع معى بوزن رضا ( والمثانة ) بالمثلثة وهي مجمع البول ( مفطر بالاستعاط ) راجع للدماغ ( أو الأكل ) راجع للبطن ( أو الحقنة ) راجع للأمعاء والمثانة أيضا فإن البول يعالج بها كما يعالج بها الغائط ففي كلامه لف ونشر مرتب كما تقرر
وقوله ( أو الوصول من جائفة ) يرجع للبطن ( أو مأمومة ) يرجع للرأس ( ونحوهما ) لأنه جوف محيل
تنبيه كان الأولى التعبير بالاحتقان لأن الحقنة هي الأدوية التي يحتقن بها المريض والفعل هو الاحتقان كما قاله الجوهري
وقضية قوله كالمحرر والروضة باطن الدماغ أن وصول عين إلى خريطة الدماغ المسماة أم الرأس دون باطنها المسمى باطن الدماغ أنه لا يفطر وليس مرادا بل الصحيح أنه يفطر حتى لو كان برأسه مأمومة فوضع عليها دواء فوصل خريطة الدماغ أفطر وإن لم يصل باطن الخريطة كما حكاه الرافعي عن الإمام وأقره وكذلك الأمعاء لا يشترط باطنها بل لو كان على بطنه جائفة فوضع عليها دواء فوصل جوفه أفطر وإن لم يصل باطن الأمعاء كما جزم به في الروضة
( والتقطير في باطن الأذن ) وإن لم يصل إلى الدماغ ( و ) باطن ( الإحليل ) وهو مخرج البول من الذكر واللبن من الثدي وإن لم يصل إلى المثانة ولم يجاوز الحشفة أو الحلمة
( مفطر في الأصح ) بناء على الوجه الأول وهو اعتبار كل ما يسمى جوفا والثاني لا بناء على مقابله إذ ليس فيه قوة الإحالة
وألحق بالجوف على الأول الحلق
قال الإمام ومجاوزة الحلقوم وينبغي الاحتراز حالة الاستنجاء فإنه لو أدخل طرف أصبعه دبره بطل صومه وكذا حكم فرج المرأة ولو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصل السكين جوفه أو أدخل في إحليله أو أذنه عودا أو نحوه فوصل إلى الباطن بطل صومه
فرع لو ابتلع بالليل طرف خيط فأصبح صائما فإن ابتلع باقيه أو نزعه أفطر وإن تركه بطلت صلاته
وطريقه في صحة صومه وصلاته أن ينزع منه وهو غافل فإن لم يكن غافلا وتمكن من دفع النازع أفطر لأن النزع موافق لغرض النفس فهو منسوب إليه عند تمكنه من الدفع وبهذا فارق من طعنه بغير إذنه وتمكن من دفعه
قال الزركشي وقد لا يطلع عليه عارف بهذا الطريق ويريد هو الخلاص فطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر لأنه كالمكره بل لو قيل إنه لا يفطر بالنزع باختياره لم يبعد تنزيلا لإيجاب الشرع منزلة الإكراه كما إذا حلف ليطؤها في هذه الليلة فوجدها حائضا لا يحنث بترك الوطء اه
هذا القياس ممنوع لأن الحيض لا مندوحة له إلى الخلاص منه بخلاف ما ذكر
( وشرط الواصل كونه من منفذ ) بفتح الفاء كما ضبطه المصنف كالمدخل والمخرج
( مفتوح فلا يضر وصول الدهن ) إلى الجوف ( بتسرب المسام ) وهي ثقب البدن كما قاله الجوهري وهي جمع سم بتثليث السين والفتح أفصح كما لو طلى رأسه أو بطنه به
كما لا يضر اغتساله بالماء البارد وإن وجد له أثر بباطنه بجامع أن الواصل إليه ليس من منفذ
( ولا ) يضر ( الاكتحال وإن وجد طعمه ) أي الكحل ( بحلقه ) لأن الواصل إليه من المسام
____________________
(1/428)
وقد روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم فلا يكره الاكتحال للصائم
( وكونه ) أي الواصل ( بقصد فلو وصل جوفه ذباب أو بعوضة أو غبار الطريق أو غربلة الدقيق لم يفطر ) وإن أمكنه اجتناب ذلك بإطباق الفم أو غيره لما فيه من المشقة الشديدة
ولو فتح فاه عمدا حتى دخل التراب جوفه لم يفطر أيضا لأنه معفو عن جنسه
قال في المجموع وشبهوه بالخلاف في العفو عن دم البراغيث المقتولة عمدا وقضيته أن محل عدم الإفطار به إذا كان قليلا ولكن ظاهر كلام الأصحاب الإطلاق وهو الظاهر وقد يفهم أنه لو خرجت مقعدة المبسور فردها قصدا أنه يفطر والأصح كما في التهذيب والكافي أنه لا يفطر لاضطراره إليه كما لا يبطل طهر المستحاضة بخروج الدم
فائدة جمع المصنف الذباب وأفرد البعوضة مراعاة للفظ القرآن قال تعالى { لن يخلقوا ذبابا } وقال تعالى { بعوضة فما فوقها }
فائدة أخرى الغربلة إدارة الحب في الغربال لينتفي خبيثه ويبقى طيبه وفي كلام العرب من غربل الناس نخلوه أي من فتش عن أمورهم وأصولهم جعلوه نخالة
وفي الحديث كيف بكم وبزمان تغربل الناس فيه غربلة أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم
( ولا يفطر ببلع ريقه من معدته ) بالإجماع لعسر التحرز عنه ومعدنه هو الذي فيه قراره ومنه ينبع وهو الحنك الأسفل تحت اللسان
( فلو خرج عن الفم ) ولو إلى ظاهر الشفة ( ثم رده ) إليه بلسانه أو غيره ( وابتلعه أو بل خيطا بريقه ورده إلى فمه ) كما يعتاد عند الفتل ( وعليه رطوبة تنفصل ) وابتلعها ( أو ابتلع ريقه مخلوطا بغيره ) الطاهر كأن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه ( أو ) ابتلعه ( متنجسا ) كمن أكل شيئا نجسا ولم يغسل فمه قبل الفجر أو دميت لثته ولم يغسل فمه وإن ابيض ريقه ثم ابتلعه صافيا ( أفطر ) في المسائل الثلاث
أما الأولى فلأنه خرج عن معدنه وصار كالأعيان الخارجة نعم لو أخرج لسانه وعليه الريق ثم رده وابتلع ما عليه فإنه لا يفطر على الأصح في الروضة وأصلها وصحح في المجموع القطع به لأنه لم ينفصل عن الفم فإن اللسان كداخل الفم خلافا لما صححه الرافعي في الشرح الصغير من الفطر
قال في الأنوار ولو غسل السواك واستاك به أي مع بقاء الرطوبة فكالخيط
وأما في الثانية فلأنه لا ضرورة إليه وقد ابتلعه بعد مفارقته المعدن
وأما في الثالثة فلأنه أجنبي غير الريق
قال الأذرعي ولا يبعد أن يقال من عمت بلواه بدم لثته بحيث يجري دائما أو غالبا أنه يسامح بما يشق الاحتراز منه ويكفي بصقه الدم ويعفى عن أثره اه
وهذا لا بأس به
( ولو جمع ريقه ) ولو بنحو مصطكى ( فابتلعه لم يفطر في الأصح ) لأنه لم يخرج عن معدنه فهو كابتلاعه متفرقا من معدنه والثاني يفطر لأن الاحتراز عنه هين
واحترز بقوله جمعه عما لو اجتمع بلا قصد كالمجتمع بكثرة الكلام فإنه لا يضر جزما
( ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق ) المشروع ( إلى جوفه ) من باطن أو دماغ ( فالمذهب أنه إن بالغ ) في ذلك ( أفطر ) لأن الصائم منهي عن المبالغة كما سبق في الوضوء
( وإلا ) أي وإن لم يبالغ ( فلا ) يفطر لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره
وقيل يفطر مطلقا لأنه وصل بفعله
وقيل لا يفطر مطلقا لعدم الاختيار
أما سبق ماء غير المشروع كأن جعل الماء في فمه أو أنفه لا لغرض أو سبق ماء غسل التبرد أو المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق فإنه يفطر لأنه غيرمأمور بذلك بل منهي عنه في الرابعة ولا يفطره ولا يمنعه من إنشاء صوم نفل سبق ماء تطهير الفم من نجاسة وإن بالغ فيه
( ولو بقي طعام بين أسنانه فجرى به ريقه ) من غير قصد ( لم يفطر إن عجز عن تمييزه
____________________
(1/429)
ومجه ) لأنه معذور فيه غير مقصر فإن لم يعجز أفطر لتقصيره وقيل لا يفطر مطلقا وقيل إن نقى أسنانه بالخلال على العادة لم يفطر وإلا أفطر
أما إذا ابتلعه قصدا فإنه يفطر جزما
فائدة ما خرج من الأسنان إن أخرجه بالخلال كره أكله أو بالأصابع فلا كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه
( ولو أوجر ) كأن صب ماء في حلقه ( مكرها ) أي مغمى عليه أو نائما ( لم يفطر ) لانتفاء الفعل والقصد منه
( وإن أكره حتى أكل ) أو شرب ( أفطر في الأظهر ) لأنه حصل من فعله لدفع الضرر عن نفسه فأفطر به كما لو أكل لدفع الضرر والجوع
( قلت الأظهر لا يفطر والله أعلم ) لأن حكم اختياره ساقط بخلاف من أكل خوفا على نفسه فأشبه الناسي بل هو أولى منه لأنه مخاطب بالأكل لدفع ضرر الإكراه عن نفسه والناسي ليس مخاطبا بأمر ولا نهي
ويجري القولان فيما لو أكرهت أو أكره على الوطء وقلنا يتصور إكراهه وهو الراجح
وإذا قلنا بالفطر على المرجوح لا كفارة للشبهة وإن قلنا لا يتصور الإكراه أفطر ولزمته الكفارة
( وإن أكل ناسيا لم يفطر ) لخبر الصحيحين من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه
وفي صحيح ابن حبان وغيره ولا قضاء عليه ولا كفارة
( إلا أن يكثر ) فيفطر به ( في الأصح ) لأن النسيان مع الكثرة نادر ولهذا بطلت الصلاة بكثير الكلام ناسيا دون قليله
والكثير كما في الأنوار ثلاث لقم
( قلت الأصح ) المنصوص وقطع به الجمهور ( لا يفطر والله أعلم ) لعموم الخبر المار
والفرق بينه وبين الصلاة أن لها حالا تذكر المصلي أنه فيها فيندر ذلك فيه بخلاف الصوم
ولم يتعرض المصنف للجاهل بتحريم الأكل هل يفطر أو لا وحكمه كالناسي كما في المجموع والروضة إذا كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء
فإن قيل إذا اعتقد جواز الأكل فما الصوم الذي نواه والجاهل بحقيقة الصوم لا يتصور أن ينويه أجيب بأن ذلك في مفطر خاص من الأشياء النادرة كالتراب فإنه قد يخفى ويكون الصوم الإمساك عن المعتاد وما عداه شرط في صحته
( والجماع ) ناسيا ( كالأكل ) ناسيا فلا يفطر به ( على المذهب ) كغيره من المفطرات
والطريق الثاني أنه على القولين في جماع المحرم ناسيا
وفرق الأول بأن المحرم له هيئة يتذكر بها الإحرام فإذا نسي كان مقصرا بخلاف الصائم
تنبيه قضية تشبيه الجماع بالأكل أن يأتي فيه التفصيل بين أن يطول زمنه أو لا وهو كما قال الإسنوي متجه بل مجيئه في الجماع أولى لأنه دائر بين اثنين إن نسي أحدهما ذكره الآخر بخلاف الأكل وإن كانت عبارة الشرحين والروضة يقتضي خلافه
( و ) الإمساك ( عن الاستمناء ) وهو إخراج المني بغير جماع محرما كأن أخرجه بيده أو غير محرم كإخراجه بيد زوجته أو أمته
( فيفطر به ) لأن الإيلاج من غير إنزال مفطر فالإنزال بنوع شهوة أولى
( وكذا خروج المني ) يفطر به إذا كان ( بلمس وقبلة ومضاجعة ) بلا حائل لأنه إنزال بمباشرة ( لا فكر ) وهو إعمال الخاطر في الشيء ( ونظر بشهوة ) إذا أمنى بهما أو بضم امرأة بحائل بشهوة وإن تكررت الثلاثة بها إذ لا مباشرة فأشبه الاحتلام مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل
وقيل إن اعتاد الإنزال بالنظر أفطر وقيل إن كرر النظر فأنزل أفطر
ولو لمس شعر امرأة فأنزل ففي فطره عن المتولي وجهان بناهما على انتقاض الوضوء بلمسه ومقتضاه أنه لا يفطر وهو كذلك
ولو قبلها وفارقها ساعة ثم أنزل فالأصح إن كانت الشهوة مستصحبة والذكر قائما حتى أنزل أفطر وإلا فلا قاله في البحر قال ولو أنزل بلمس عضوها المبان لم يفطر
قال شيخنا والظاهر أن الحكم كذلك وإن اتصل بها عضوها المبان لحرارة الدم وقياس ما تقدم من البناء في لمس الشعر أنه لو لمس الفرج
____________________
(1/430)
بعد انفصاله وأنزل أنه إن بقي اسمه أفطر وإلا فلا وبذلك أفتى شيخي
قال في المجموع ولو حك ذكره لعارض سوداء أو حكة فأنزل لم يفطر في الأصح لأنه متولد من مباشرة مباحة
وهذا كله في الواضح أما المشكل فلا يضر وطؤه وإمناؤه بأحد فرجيه لاحتمال زيادته وهذا لا ينافي ما تقدم من أن خروج المني من غير طريقه المعتاد كخروجه من طريقه المعتاد لأن ذلك محله إذا انسد الأصلي
( وتكره القبلة ) في الفم أو غيره ( إن حركت شهوته ) رجلا كان أو امرأة كما هو المتجه في المهمات بحيث يخاف معه الجماع أو الإنزال
والمعانقة واللمس ونحوهما بلا حائل كالقبلة فيما ذكر
( والأولى لغيره ) أي لمن تحرك شهوته ولو شابا ( تركها ) حسما للباب إذ قد يظنها غير محركة وهي محركة ولأن الصائم يسن له ترك الشهوات مطلقا
( قلت هي كراهة تحريم في الأصح ) المنصوص ( والله أعلم ) لأن فيه تعريضا لإفساد العبادة ولخبر الصحيحين من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب وقال الشيخ يملك إربه والشاب يفسد صومه ففهم الأصحاب من التعليل أن الأمر دائر مع تحريك الشهوة بالمعنى المذكور
قال الشارح وعدل هنا وفي الروضة عن قول أصليهما تحرك إلى حركت لما لا يخفى يعني أنا إذا قلنا تكره القبلة لمن تحرك شهوته يكون ذلك شاملا لمن حركت القبلة شهوته ولمن لم تحرك شهوته والثاني ليس مرادا وإذا قلنا لمن حركت شهوته لم تشمل العبارة الثاني كما هو ظاهر
والحاصل أن تحريك القبلة الشهوة أخص من تحريك الشهوة المطلق
قال بعض المتأخرين والظاهر أن مراد من عبر بتحريك الشهوة أي بسبب القبلة فهو بمعنى التحريك
فائدة سأل رجل إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه بقوله سل العالم المكي هل في تزاور وضمة مشتاق الفؤاد جناح فأجابه بقوله فقلت معاذ الله أن يذهب التقى تلاصق أكباد بهن جراح قال الربيع فسألت الشافعي كيف أفتى بها فقال هذا رجل قد أعرس في هذا الشهر شهر رمضان وهو حدث السن فسأل هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطء فأفتيته بهذه الفتيا اه
ولعل الشافعي غلب على ظنه أن ذلك لا يحرك شهوته
( ولا يفطر بالفصد والحجامة ) أما الفصد فلا خلاف فيه وأما الحجامة فلأنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم
رواه البخاري وروى النسائي احتجم وهو صائم محرم وهو ناسخ لحديث أفطر الحاجم والمحجوم لأنه كما قال الإمام الشافعي متأخر عنه بسنتين وزيادة وعن أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر بن أبي طلحة وهو يحتجم وهو صائم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم
قال الدارقطني رواته كلهم ثقات نعم الأولى تركهما لأنهما يضعفانه
فائدة ورد في الحديث الحجامة على الريق فيها شفاء وبركة وتزيد في العقل وفي الحفظ
( والاحتياط أن لا يأكل آخر النهار إلا بيقين ) كأن يعاين الغروب ليأمن الغلط ( ويحل ) الأكل آخره ( بالاجتهاد ) بورد أو غيره ( في الأصح ) كوقت الصلاة والثاني لا لإمكان الصبر إلى اليقين
أما بغير اجتهاد فلا يجوز ولو بظن لأن الأصل بقاء النهار وقياس اعتماد الاجتهاد جواز اعتماد خبر العدل بالغروب عن مشاهدة وإن قال في البحر إنه لا يجوز
____________________
(1/431)
الفطر به كالشهادة على هلال شوال فهو قياس ما قالوه في القبلة والوقت والأذان
( ويجوز إذا ظن بقاء الليل ) بالاجتهاد لأن الأصل بقاؤه
( قلت وكذا لو شك ) فيه ( والله أعلم ) لما ذكر
ولو أخبره عدل بطلوع الفجر لزمه الإمساك
( ولو أكل باجتهاد أولا ) أي أول النهار
( أو آخرا ) أي آخر النهار ( وبان الغلط بطل صومه ) لتحققه خلاف ما ظنه إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه
( أو بلا ظن ) كأن هجم وهو جائز في آخر الليل حراما في آخر النهار
( ولم يبن الحال صح إن وقع ) الأكل ( في أوله ) لأن الأصل بقاء الليل ( وبطل ) إن وقع الأكل ( في آخره ) لأن الأصل بقاء النهار
قال الشارح ولا مبالاة بالتسمح في هذا الكلام لظهور المعنى المراد أي وهو أنه أدى اجتهاده إلى عدم طلوع الفجر فأكل أو إلى غروب الشمس فأكل
( ولو طلع الفجر ) الصادق ( وفي فمه طعام فلفظه ) أي رماه ( صح صومه ) وإن سبق إلى جوفه منه شيء لأنه لو وضعه في فمه نهارا لم يفطر فبالأولى إذا جعله فيه ليلا
ومثل اللفظ ما لو أمسكه ولم يبلغ منه شيئا واحترز به عما لو ابتلع منه شيئا باختياره فإنه يفطر
( وكذا ) يصح صومه ( لو كان ) عند طلوع الفجر ( مجامعا فنزع في الحال ) لأن النزع ترك الجماع فأشبه ما لو حلف لا يلبس ثوبا وهو لا يلبسه فنزعه وسواء أنزل حال النزع أم لا لتولده من مباشرة مباحة
تنبيه إتيان المصنف بفاء التعقيب بعد طلوع الفجر يعلم منه أن صورة المسألة أن يعلم بالفجر أول طلوعه فينزع على الفور
ويؤخذ منه بطريق الأولى ما لو أحس وهو مجامع بتباشير الصبح فنزع بحيث وافق آخرالنزع ابتداء الطلوع ويخرج به ما لو مضى زمن بعد طلوع ثم علم به فإنه يبطل صومه
ويشترط أن يقصد بالنزع الترك فإن لم يقصده بطل صومه كما قال الشيخ أبو حامد وأبو محمد والإمام وغيرهم
فإن قيل كيف يعلم بأول طلوع الفجر لأن طلوعه الحقيقي متقدم على علمنا به أجيب بأنا إنما تعبدنا بما نطلع عليه ولا معنى للصبح إلا طلوع الضوء للناظر وما قابله لا حكم له فإذا كان الشخص عارفا بالأوقات ومنازل الفجر ورصد بحيث لا حائل فهو أول الصبح المعتبر
( فإن مكث بطل ) صومه أي لم ينعقد لوجود المنافي ولو لم يبق من الليل إلا ما يسع الإيلاج لا النزع فعن ابن خيران منع الإيلاج أي وهو الظاهر وعن غيره جوازه
ثم شرع في الركن الثالث وهو الصيام منبها على شروطه فقال ( فصل شرط الصوم ) أي شرط صحته من حيث الفاعل ( الإسلام ) فلا يصح صوم الكافر بحال أصليا كان أم غيره
( والعقل ) أي التمييز فلا يصح صوم المجنون والطفل غير المميز لفقدان النية ويصح عن صبي مميز
( والنقاء عن الحيض والنفاس ) فلا يصح صومهما بالإجماع كما في المجموع
ويشترط ما ذكر ( جميع النهار ) فلو طرأ في أثناء النهار ردة أو جنون أو حيض أو نفاس بطل صومه وقد يفهم أنها لو ولدت ولم تر دما أنه لا يبطل الصوم وليس مرادا بل الأصح كما في المجموع والتحقيق بطلانه لأنه لا يخلو عن بلل وإن قل ولكن قال في المجموع عدم البطلان أقوى فإن المعتمد في الغسل كونه منيا منعقدا وخروجه بلا مباشرة لا يبطل الصوم اه
ومال إلى هذا ابن الرفعة
وقد جمعت بين الكلامين في باب الحيض فراجعه
ويحرم على الحائض والنفساء الإمساك كما في الأنوار
( ولا يضر النوم المستغرق ) لجميع النهار ( على الصحيح ) لبقاء أهلية الخطاب والثاني يضر كالإغماء
وفرق الأول بأن الإغماء يخرج على أهلية الخطاب بدليل سقوط ولايته على ماله وعدم وجوب قضاء الصلاة عليه بخلاف النائم فيهما فإن
____________________
(1/432)
أفاق لحظة من النهار صح صومه جزما
( والأظهر ) وفي الروضة المذهب ( أن الإغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من نهاره ) أي لحظة كانت اتباعا لزمن الإغماء من الإفاقة فإن لم يفق ضر
والثاني وقطع به بعضهم يضر مطلقا كالحيض
والثالث عكسه كالنوم
والرابع إن أفاق في أوله صح وإلا فلا ومال إليه ابن الصلاح وصححه الغزالي و الفارقي
وإنما اشترط الأول إفاقة لحظة لأن الإغماء في الاستيلاء على العقل فوق النوم ودون الجنون فلو قلنا إن المستغرق منه لا يضر كالنوم لألحقنا الأقوى بالأضعف ولو قلنا إن اللحظة منه تضر كالجنون لألحقنا الأضعف بالأقوى فتوسطنا وقلنا إن الإفاقة في لحظة كافية
ولو شرب مسكرا ليلا فإن أفاق في بعض نهاره فهو كالإغماء في بعض النهار وإلا لزمه القضاء كذا نقلاه وأقراه
قال الإسنوي ويعلم منه الصحة في شرب الدواء أي إذا أفاق في بعض النهار بطريق الأولى
ولو مات في أثناء النهار بطل صومه كما لو مات في أثناء صلاته وقيل لا يبطل كما لو مات في أثناء نسكه
ويشترط لصحة الصوم قابلية الوقت فيصح الصوم في أيام السنة كلها إلا ما ذكره في قوله ( ولا يصح صوم العيد ) أي الفطر والأضحى ولو عن واجب للنهي عنه في خبر الصحيحين وللإجماع
ولو نذر صومه لم ينعقد نذره ( وكذا التشريق ) أي أيامه وهي ثلاثة بعد الأضحى لا يصح صومها ( في الجديد ) ولو لمتمتع للنهي عن صيامها كما رواه أبو داود بإسناد صحيح وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى وفي القديم يجوز صومها للمتمتع إذا عدم الهدى عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج واختاره المصنف لما رواه البخاري عن ابن عمر و عائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن يجد الهدي
وسميت هذه الأيام بذلك لأن الناس يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا أي ينشرونها وهي الأيام المعدودة التي أمر الله فيها بذكره
( ولا يحل ) أي يحرم ولا يصح ( التطوع ) بالصوم ( يوم الشك ) لقول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي وغيره والمعنى فيه القوة على صوم رمضان
وضعفه السبكي بعدم كراهة صوم شعبان وهو ممنوع لأن النفس إذا ألفت شيئا هان عليها ولهذا كان صوم يوم وفطر يوم أفضل من استمرار الصوم كما سيأتي
وقال الإسنوي المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون الكراهة لا التحريم والمعتمد ما في المتن
هذا إذا صامه ( بلا سبب ) يقتضي صومه ( فلو صامه ) تطوعا بلا سبب ( لم يصح ) صومه ( في الأصح ) كيوم العيد يجامع التحريم
والثاني يصح لأنه قابل للصوم في الجملة كما قال
( وله صومه عن القضاء والنذر ) والكفارة من غير كراهة على الأصح مسارعة لبراءة الذمة ولأن له سببا فجاز كنظيره من الصلاة في الأوقات المكروهة
وإطلاقه يتناول قضاء المستحب وهو نظير ما قالوه في الأوقات المكروهة أن قضاء الفائتة فيها جائز وإن كانت نافلة وصورة قضاء المستحب هنا أن يشرع في صوم نفل ثم يفسده فإنه يسن قضاؤه كما قاله في الروضة
( وكذا لو وافق عادة تطوعه ) قال في المجموع سواء أكان يسرد الصوم أم يصوم يوما معينا كالاثنين والخميس أو يصوم يوما ويفطر يوما فوافق صومه يوم الشك فله صيامه وذلك لخبر الصحيحين لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه وقيس بالورد الباقي بجامع السبب
ولا يشكل هذا الخبر بخبر إذا انتصف شعبان فلا تصوموا لتقدم النص على الظاهر
قال الإسنوي ولو أخر صوما ليوقعه يوم الشك فقياس كلامهم في الأوقات المنهي عن تحريمه وسكت المصنف عن صومه عن رمضان احتياطا وهو ممتنع قطعا
فإن قيل هلا استحب صومه إن أطبق الغيم خروجا من خلاف الإمام أحمد حيث قال بوجوب صومه حينئذ أجيب بأنا لا نراعي الخلاف إذا خالف سنة صريحة وهي هنا خبر فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين
( وهو ) أي يوم الشك ( يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته ) أي بأن الهلال رؤي الليلة ولم يعلم من رآه ولم يشهد بها أحد
( أو شهد بها صبيان
____________________
(1/433)
أو عبيد أو فسقة ) أو نساء وظن صدقهم كما قاله الرافع أو عدل ولم يكتف به
وعبارة المحرر كالشرح أو قال عدد من النسوة أو الصبيان أو الفساق قد رأيناه وهذه العبارة أولى من عبارة المصنف لشمولها الاثنين ممن ذكر
وإنما لم يصح صومه عن رمضان لأنه لم يثبت كونه منه نعم من اعتقد صدق من قال إنه رآه ممن ذكر يجب عليه الصوم كما تقدم عن البغوي في طائفة أول الباب
وتقدم في أثنائه صحة نية المعتقد لذلك وقوع الصوم عن رمضان إذا تبين كونه منه
قال الشارح فلا تنافي بين ما ذكر في المواضع الثلاثة اه أي لأن يوم الشك الذي يحرم صومه هو على من لم يظن الصدق هذا موضع وأما من ظنه أو اعتقده صحت النية منه ووجب عليه الصوم وهذان موضعان
وفي هذا رد على قول الإسنوي إن كلام الشيخين في الروضة وشرح المهذب متناقض من ثلاثة أوجه في موضع يجب وفي موضع يجوز وفي موضع يمتنع
تنبيه ظاهر كلام المصنف أن يوم الشك يحصل بما ذكر سواء أطبق الغيم أم لا وهو كذلك وإن قيده صاحب البهجة بعدم إطباقه
أما إذا لم يتحدث أحد بالرؤية فليس اليوم يوم شك بل هو يوم من شعبان وإن أطبق الغيم لخبر فإن غم عليكم
( وليس إطباق الغيم ) ليلة الثلاثين ( بشك ) بل هو من شعبان لخبر فإن غم عليكم
فرعان أحدهما إذا انتصف شعبان حرم الصوم بلا سبب إن لم يصله بما قبله على الصحيح في المجموع وغيره لخبر إذا انتصف شعبان فلا تصوموا رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح لكن ظاهره أنه يحرم وإن وصله بما قبله وليس مرادا حفظا لأصل مطلوبية الصوم
الثاني الفطر بين الصومين واجب إذ الوصال في الصوم فرضا كان أو نفلا حرام للنهي عنه في الصحيحين وهو أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول بالليل مطعوما عمدا بلا عذر ذكره في المجموع
وقضيته أن الجماع ونحوه لا يمنع الوصال لكن في البحر أن يستديم جميع أوصاف الصائمين وذكر الجرجاني و ابن الصلاح نحوه وهذا هو الظاهر
قال الإسنوي وتعبير الرافعي أي وغيره بأن يصوم يومين يقتضي أن المأمور بالإمساك كتارك النية لا يكون امتناعه ليلا من تعاطي الفطر وصالا لأنه ليس بين صومين إلا أن الظاهر أنه جرى على الغالب اه
وهذا ظاهر أيضا لأن تحريم الوصال للضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات وهو حاصل في هذه الحالة
( ويسن تعجيل الفطر ) إذا تحقق غروب الشمس لخبر الصحيحين لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر زاد الإمام أحمد وأخروا السحور ولما في ذلك من مخالفة اليهود والنصارى ويكره أن يؤخره إن قصد ذلك ورأى أن فيه فضيلة وإلا فلا بأس به نقله في المجموع عن نص الأم وفيه عن صاحب البيان أنه يكره أن يتمضمض بماء ويمجه وأن يشربه ويتقايأه إلا لضرورة قال وكأنه شبيه بالسواك للصائم بعد الزوال لكونه يزيل الخلوف اه
وهذا كما قال الزركشي إنما يأتي على القول بأن كراهة السواك لا تزول بالغروب والأكثرون على خلافه
وخرج بتحقق الغروب ظنه باجتهاد فلا يسن تعجيل الفطر به وظنه بلا اجتهاد وشكه فيحرم بهما كما مر ذلك
ويسن كونه ( على ) رطب فإن لم يجده فعلى ( تمر وإلا ) أي وإن لم يجده ( فماء ) لخبر كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء فإنه طهور رواه الترمذي وحسنه
وقضيته تقديم الرطب على التمر كما قدرته وهو كذلك وتثليث ما يفطر عليه وهو قضية نص الأم في حرملة وجماعة من الأصحاب
ويجمع بينه وبين تعبير جماعة بتمرة يحمل ذلك كما قال شيخنا على أصل السنة وهذا على كمالها
ونقل في أصل الروضة عن الروياني أنه إذا لم يجد التمر فعلى حلو ونقل عن القاضي أن الأولى في زماننا أن يفطر على ماء يأخذه بكفه من النهر ليكون أبعد عن الشبهة
قال في المجموع وهذان شاذان
وقال المحب الطبري من بمكة يستحب له الفطر على ماء زمزم ولو جمع بينه وبين التمر فحسن اه
ورد بأنه مخالف للأخبار وللمعنى الذي شرع الفطر على التمر لأجله وهو حفظ البصر فإن الصوم يضعفه والتمر يرده أو أن التمر إذا نزل إلى معدة فإن وجدها خالية حصل الغذاء وإلا أخرج ما هناك من بقايا الطعام وهذا لا يوجد في ماء زمزم وفي الجمع بينهما زيادة على السنة الواردة وهي قوله صلى الله عليه وسلم إذا كان
____________________
(1/434)
أحدكم صائما فليفطر على التمر فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور رواه الترمذي وغيره وصححوه
والاستدراك على النصوص بغير دليل ممنوع والخير كله فيما شرعه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن قيل قد صرح الأطباء بأن أكل التمر يضعف البصر فكيف يعلل بأنه يرده أجيب بأن كثيره يضعفه وقليله يقويه والشيء قد ينفع قليله ويضر كثيره
ويسن السحور لخبر الصحيحين تسحروا فإن في السحور بركة ولخبر الحاكم في صحيحه استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبقيلولة النهار على قيام الليل
( و ) يسن ( تأخير السحور ما لم يقع في شك ) في طلوع الفجر لخبر لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور رواه الإمام أحمد ولأنه أقرب إلى التقوي على العبادة فإن شك في ذلك كأن تردد في بقاء الليل لم يسن التأخير بل الأفضل تركه للخبر الصحيح دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
تنبيه السحور بفتح السين المأكول في السحر وبضمها الأكل حينئذ وأكثر ما يروى بالفتح
وقيل إن الصواب الضم لأن الأجر والبركة في الفعل على أن الآخر لا يمتنع على سبيل المجاز
وهل الحكمة في السحور التقوي على الصوم أو مخالفة أهل الكتاب وجهان وقد يقال إنها لهما
ولو صرح المصنف بسنه كما قدرته وصرح به في المحرر لكان أولى فإن استحبابه مجمع عليه وذكر في المجموع أنه يحصل بكثير المأكول وقليله وبالماء ففي صحيح ابن حبان تسحروا ولو بجرعة ماء
ويدخل وقته بنصف الليل كما ذكره الرافعي في الإيمان وذكره في المجموع هنا
وقيل بدخول السدس الأخير
( وليصن ) أي الصائم ندبا ( لسانه عن ) الفحش من ( الكذب والغيبة ) والنميمة والشتم ونحوها لخبر البخاري من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ولخبر الحاكم في صحيحه ليس الصيام من الأكل والشرب فقط الصيام من اللغو والرفث ولأنه يحبط الثواب
فإن قيل صون اللسان عن ذلك واجب
أجيب بأن المعنى أنه يسن للصائم من حيث الصوم فلا يبطل صومه بارتكاب ذلك بخلاف ارتكاب ما يجب اجتنابه من حيث الصوم كالاستقاءة
قال السبكي وحديث خمس يفطرن الصائم الغيبة والنميمة
إلى آخره ضعيف وإن صح
قال الماوردي فالمراد بطلان الثواب لا الصوم
قال ومن هنا حسن عدم الاحتراز عنه من آداب الصوم وإن كان واجبا مطلقا فإن شتمه أحد فليقل إني صائم لخبر الصحيحين الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين يقول بقلبه لنفسه لتصبر ولا تشاتم فتذهب بركة صومها كما نقله الرافعي عن الأئمة أو بلسانه بنية وعظ الشاتم ودفعه بالتي هي أحسن كما نقله المصنف عن جمع وصححه ثم قال فإن جمعهما فحسن
وقال إنه يسن تكراره مرتين أو أكثر لأنه أقرب إلى إمساك صاحبه عنه وقول الزركشي ولا أظن أحدا يقوله مردود بالخبر السابق
فائدة سئل أكثم بن صيفي كم وجدت في ابن آدم من عيب قال هي أكثر من أن تحصى والذي أحصيته منها ثمانية آلاف عيب ويستر جميع ذلك حفظ اللسان
( و ) ليصن ( نفسه ) ندبا ( عن الشهوات ) التي لا تبطل الصوم من المشمومات والمبصرات والملموسات والمسموعات كشم الرياحين والنظر إليها ولمسها وسماع الغناء لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم وهي لتنكسر النفس عن الهوى وتقوى على التقوى بل يكره له ذلك
( ويستحب أن يغتسل عن الجنابة ) والحيض والنفاس ( قبل الفجر ) ليكون على طهر من أول الصوم وليخرج من خلاف أبي هريرة حيث قال لا يصح صومه وخشية من وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه
قال بعض المتأخرين وينبغي أن يغسل هذه المواضع إن لم يتهيأ له الغسل الكامل
قال الإسنوي وقياس المعنى الأول المبادرة إلى الاغتسال عقب الاحتلام نهارا فلو وصل شيء من الماء إلى ما ذكر من غسله ففيه التفصيل المذكور في المضمضة والاستنشاق
وقال المحاملي و الجرجاني يكره للصائم دخول الحمام يعني من غير حاجة لجواز أن يضره فيفطر
____________________
(1/435)
وقول الأذرعي هذا لمن يتأذى به دون من اعتاده ممنوع لأنه من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم كما مر
ولو طهرت الحائض أو النفساء ليلا ونوت الصوم وصامت أو صام الجنب بلا غسل صح الصوم لقوله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم } الآية ولخبر الصحيحين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وقيس بالجنب الحائض والنفساء
وأما خبر البخاري من أصبح جنبا فلا صوم له فحملوه على من أصبح مجامعا واستدام الجماع وحمله بعضهم على النسخ واستحسنه ابن المنذر
( و ) يستحب ( أن يحترز عن الحجامة ) والفصد ونحوهما لأن ذلك يضعفه فهو خلاف الأولى كما في المجموع وإن جزم في أصل الروضة بكراهته
وقال المحاملي يكره أن يحجم غيره أيضا
( و ) عن ( القبلة ) هذه المسألة مكررة وقد تقدم كراهتها بل تحريمها
( و ) عن ( ذوق الطعام ) خوفا من وصوله إلى جوفه أو تعاطيه لغلبة شهوته
( و ) عن ( العلك ) بفتح العين مصدر معناه المضغ وبكسرها المعلوك لأنه يجمع الريق فإن ابتلعه أفطر في وجه وإن ألقاه عطشه وهو مكروه كما في المجموع
( و ) يستحب ( أن يقول عند فطره ) أي عقبه كما يؤخذ من قوله ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ) وذلك للاتباع رواه أبو داود مرسلا
وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول حينئذ اللهم ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى ويستحب له أن يفطر الصائمين بأن يعشيهم لخبر من فطر صائما فله أجر صائم ولا ينقص من أجر الصائم شيء رواه الترمذي وصححه
فإن عجز عن عشائهم فطرهم على شربة أو تمرة أو نحوهما لما روي أن بعض الصحابة قال يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم فقال يعطي الله تعالى هذا الثواب من فطر صائما على ثمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن ( وأن يكثر الصدقة ) في رمضان لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال صدقة في رمضان رواه الترمذي وقال حسن غريب ولأن الحسنات مضاعفة فيه ولما فيه من تفطير الصائم فإنه يستعين بذلك على فطره
( و ) أن يكثر ( تلاوة القرآن ) ومدارسته بأن يقرأ على غيره ويقرأ عليه غيره ( في رمضان ) لما في الصحيحين أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن
( وأن يعتكف ) فيه لأنه أقرب إلى صيانة النفس عن المنهيات وإتيانها بالمأمورات ( لا سيما في العشر الأواخر منه ) للاتباع في ذلك رواه الشيخان ولرجاء أن يصادف ليلة القدر إذ هي منحصرة فيه عندنا
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره
تنبيه لو قال المصنف وأن يكثر الصدقة وتلاوة القرآن والاعتكاف كان أولى لأن الاعتكاف مستحب مطلقا لكنه يتأكد في رمضان فصار كالصدقة وتلاوة القرآن
ولفظة سيما كلمة منبهة على أن ما بعدها أولى بالحكم مما قبلها والأشهر فيها تشديد الياء ويجوز في الاسم بعدها الجر والرفع والنصب والجر أرجح
فصل في شروط وجوب صوم رمضان وما يبيح ترك صومه
( شرط وجوب صوم رمضان ) الإسلام ولو فيما مضى و ( العقل والبلوغ ) كما في الصلاة ( وإطاقته ) أي الصوم والصحة والإقامة أخذا مما سيأتي فلا يجب على كافر بالمعنى السابق في الصلاة ولا على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران ولا على من لا يطيقه حسا أو شرعا لكبر أو مرض يرجى برؤه أو حيض أو نحوه ولا على مريض ومسافر بقيد يعلم مما يأتي
ووجوبه عليهما وعلى السكران والمغمى عليه والحائض ونحوها عند من عبر بوجوبه عليهم وجوب انعقاد سبب كما تقرر ذلك في الأصول لوجوب القضاء عليهم كما سيأتي ومن ألحق بهم المرتد في ذلك ( فقد سها ) فإن وجوبه عليه وجوب تكليف
( ويؤمر به الصبي ) المميز والمراد به الجنس الشامل للذكر والأنثى على رأي ابن حزم ( لسبع إذا أطاق ) ويضرب على تركه لعشر كالصلاة وإن فيه مشقة ومكابدة بخلاف الصلاة فلا يصح الإلحاق والأمر والضرب واجبان على الولي كما مر بيانه
( ويباح تركه ) بنية الترخص ( للمريض ) بالنص والإجماع ( إذا وجد به ضررا شديدا ) وهو ما يبيح التيمم وهذا ما في الشرحين والروضة وعبارة المحرر للمريض الذي يصعب عليه أو يناله به ضرر شديد فاقتضى الاكتفاء بأحدهما وهو كما قال الإسنوي الصواب قال تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } فرق
____________________
(1/436)
المحب الطبري بينهما بأنه إنما ضرب على الصلاة للحديث والصوم { إن الله كان بكم رحيما } وقال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وسواء أتعدى بسبب المرض أم لا
ثم إن كان المرض مطبقا فله ترك النية بالليل أو منقطعا كأن كان يحم وقتا دون وقت نظر إن كان محموما وقت الشروع جاز له ترك النية وإلا فعليه أن ينوي
وإن عاد المرض واحتاج إلى الإفطار أفطر ويجب الفطر إذا خشي الهلاك كما صرح به الغزالي وغيره وجزم به الأذرعي ولمن غلبه الجوع أو العطش حكم المريض
( و ) يباح تركه ( للمسافر سفرا طويلا مباحا ) وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في صلاة المسافر وأن الفطر أفضل إن تضرر وإلا فالصوم ولا فرق في ذلك بين من يديم السفر أو لا خلافا لبعض المتأخرين وهذا في صوم رمضان المؤدى
أما القضاء الذي على الفور فالأصح أنه لا يباح له فطره في السفر وكذا من نذر صوم شهر رمضان فسافر فيه لا يباح له الفطر قاله البغوي في فتاويه وأقراه
( ولو أصبح ) المقيم ( صائما فمرض أفطر ) لوجود المبيح للإفطار ( وإن سافر فلا ) يفطر في الأصح لأنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر فغلب جانب الحضر لأنه الأصل
ولو نوى وسافر ليلا فإن جاوز قبل الفجر ما اعتبر مجاوزته في صلاة المسافر أفطر وإلا فلا
( ولو أصبح المسافر والمريض صائمين ثم أرادا الفطر جاز ) لهما لدوام عذرهما وقيل لا يجوز كما لو نوى الإتمام ليس له القصر وفرق الأول بأنه بالقصر تارك الإتمام الذي التزمه لا إلى بدل والصوم له بدل وهو القضاء
ولا يكره للمسافر في هذه الحالة الفطر كما في المجموع وأحد وجهين في الروضة رجحه ابن المقري ويشترط في جواز الترخص نيته كالمحصر يريد التحلل كما ذكره البغوي وغيره
وشمل إطلاق المصنف جواز الفطر لهما ولو نذرا إتمامه وبه صرح والد الروياني لأن إيجاب الشرع أقوى منه
( فلو أقام ) المسافر ( وشفي ) المريض ( حرم ) عليهما الفطر ( على الصحيح ) لانتفاء المبيح والثاني لا يحرم اعتبارا بأول اليوم ولهذا لو أصبح صائما ثم سافر لم يكن له الفطر
( وإذا أفطر المسافر والمريض قضيا ) لقوله تعالى { ومن كان مريضا أو على سفر } أي فأفطر { فعدة من أيام أخر }
( وكذا ) تقضي ( الحائض ) ما فاتها به إجماعا وهذه المسألة مكررة لأنها تقدمت في باب الحيض
والنساء في ذلك كالحائض
( و ) يقضي ( المفطر بلا عذر ) لأنه إذا وجب على المعذور فغيره أولى ( و ) يقض ( تارك النية ) عمدا أو سهوا لأنه لم يصم إذ صحته متوقفة عليها
( ويجب قضاء ما فات بالإغماء ) لأنه نوع مرض فاندرج تحت قوله تعالى { ومن كان مريضا } الآية وخالف الصلاة كما مر في بابها للمشقة فيها بتكررها وخالف الجنون لأنه أخف منه ولهذا يجوز على الأنبياء بخلاف الجنون
( والردة ) أي يجب قضاء ما فات بها إذا عاد إلى الإسلام لأنه التزم الوجوب بالإسلام وقدر على الأداء فهو كالمحدث يجب عليه أن يتطهر ويصلي وكذا يجب على السكران قضاء ما فات به
( دون الكفر الأصلي ) بالإجماع لما في وجوبه من التنفير عن الإسلام
( و ) دون ( الصبا والجنون ) فلا يجب قضاء ما فات بهما لارتفاع القلم عمن تلبس بهما
ولو ارتد ثم جن أو سكر ثم جن فالأصح في المجموع في الأولى قضاء الجميع وفي الثانية أيام السكر لأن حكم الردة مستمر بخلاف السكر
( ولو بلغ ) الصبي والمراد به الجنس كما مر ( بالنهار صائما ) بأن نوى ليلا ( وجب ) عليه ( إتمامه )
____________________
(1/437)
لأنه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة فأشبه ما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه
( بلا قضاء ) في الأصح فيهما وقيل يستحب إتمامه ويجب القضاء
وعلى الأول لو جامع بعد البلوغ لزمته الكفارة بخلافه على الثاني
( ولو بلغ ) الصبي ( فيه ) أي النهار ( مفطرا أو أفاق ) المجنون فيه ( أو أسلم ) الكافر فيه ( فلا قضاء ) عليهم ( في الأصح ) لعدم التمكن من زمن يسع الأداء والتكميل عليه لا يمكن فأشبه ما لو أدرك من أول الوقت ركعة ثم جن والثاني يجب عليهم القضاء لأنهم أدركوا جزءا من وقت الفرض ولا يمكن فعله إلا بيوم فيكمل كما يصوم في الجزاء عن بعض مد يوما
( ولا يلزمهم ) أي الثلاثة المذكورين ( إمساك بقية النهار في الأصح ) لأنهم أفطروا لعذر فأشبهوا المسافر والمريض لكن يستحب لحرمة الوقت وخروجا من الخلاف والثاني يلزمهم لأنهم أدركوا وقت الإمساك وإن لم يذكروا وقت الصوم
( ويلزم ) الإمساك ( من تعدى بالفطر ) الشرعي كأن ارتد أو الحسي كأن أكل عقوبة له ومعارضة لتقصيره
( أو نسي النية ) من الليل لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة فهو ضرب من التقصير
( لا مسافرا أو مريضا زال عذرهما بعد الفطر ) كأن أكلا أي لا يلزمهما الإمساك لأن زوال أي العذر بعد الترخص لا يؤثر كما لو قصر المسافر ثم أقام والوقت باق
لكن يسن لهما لحرمة الوقت فإن استمرا على الفطر استحب لهما إخفاؤه لئلا يتعرضا للتهمة والعقوبة
( ولو زال ) عذرهما ( قبل أن يأكلا ) مثلا ( ولم ينويا ليلا فكذا ) لا يلزمهما الإمساك ( في المذهب ) لأن تارك النية مفطر حقيقة فكان كما أكل
وقيل يلزمهم الإمساك حرمة لليوم ومنهم من قطع بالأول واحترز بقوله ولم ينويا عما لو نويا فأصبحا صائمين فإن الإمساك يجب
تنبيه أولى من قوله قبل أن يأكلا قبله أي الفطر فهو أشمل ويستغني عما قدرته وأخصر
والحائض والنفساء إذا طهرتا في أثناء النهار لا يلزمهما الإمساك على الصحيح ( والأظهر أنه يلزم ) الإمساك ( من أكل ) مثلا ( يوم الشك ) إذا كان من أهل الوجوب ( ثم ثبت كونه من رمضان ) لأن صومه واجب عليه إلا أنه جهله فإذا بان له لزمه الإمساك والثاني لا يلزمه لعذره كمسافر قدم بعد الأكل
وأجاب الأول بأن المسافر يباح له الأكل مع العلم بأنه من رمضان بخلاف يوم الشك أما لو بان أنه من رمضان قبل الأكل فالأكثرون على ما دل عليه كلام الكفاية على الجزم باللزوم
تنبيه المراد بيوم الشك هنا يوم الثلاثين من شعبان سواء أكان قد تحدث الناس برؤيته أم لا بخلاف يوم الشك الذي يحرم صومه والمأمور بالإمساك يثاب عليه لقيامه بواجب وليس في يوم شرعي على الأصح في المجموع فلو ارتكب فيه محظورا لا شيء عليه سوى الإثم
( وإمساك بقية اليوم من خواص رمضان بخلاف النذر والقضاء ) فلا إمساك على من أفطر فيهما لانتفاء شرف الوقت كما لا كفارة فيهما وهذا ما نقل في المجموع اتفاق الأصحاب عليه وإن نقل الإسنوي عن نص البويطي أن الإمساك في الجميع
فصل في فدية الصوم الواجب ( من فاته ) من الأحرار ( شيء من ) صوم ( رمضان فمات قبل إمكان القضاء ) بأن استمر مرضه أو سفره المباح إلى موته ( فلا تدارك له ) أي الفائت بالفدية ولا بالقضاء لعدم تقصيره ( ولا إثم ) به لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج
هذا إذا كان الفوات بعذر كمرض وسواء استمر إلى الموت أم حصل الموت في رمضان ولو بعذر زوال العذر أو حدث به عذر آخر قبل فجر ثاني شوال بل لو طرأ حيض أو نفاس أو مرض
____________________
(1/438)
قبل غروبه فلا تمكن أيضا كما ذكره في المهمات
أما غير المعذور وهو المتعدي بالفطر فإنه يأثم ويتدارك عنه بالفدية كما صرح به الرافعي في باب النذر في نذر صوم الدهر وجعله أصلا وقاس عليه وأشار إليه هنا بتمثيله بالمريض والمسافر
( وإن مات بعد التمكن ) من القضاء ولم يقض ( لم يصم عنه وليه ) أي لا يصح صومه عنه ( في الجديد ) لأن الصوم عبادة بدنية لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك بعد الموت كالصلاة ولا فرق في هذا القسم بين أن يفوته بعذر أو بغيره
واحترز بقوله وإن مات عن الحي الذي تعذر صومه لمرض أو غيره فإنه لا يصام عنه بلا خلاف كما في زوائد الروضة وقال في شرح مسلم تبعا للماوردي وغيره إنه إجماع
( بل يخرج من تركته لكل يوم ) فاته صومه ( مد طعام ) وهو رطل وثلث بالرطل البغدادي كما مر وبالكيل المصري نصف قدح من غالب قوت بلده وذلك لخبر من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا رواه الترمذي وصحح وقفه على ابن عمر ونقله الماوردي عن إجماع الصحابة
وفي القديم يصوم عنه وليه أي يجوز له الصوم عنه بل يندب له ويجوز له الإطعام فلا بد من التدارك له على القولين سواء أكان بعذر أم بغيره
( وكذا النذر والكفارة ) بأنواعهما فيجري فيهما القولان في رمضان لعموم الأدلة المارة وإن قيد في الحاوي الصغير الكفارة بكفارة القتل
( قلت القديم هنا أظهر ) للأخبار الصحيحة فيه كخبر الصحيحين من مات وعليه صيام صام عنه وليه قال المصنف وليس للجديد حجة من السنة والخبر الوارد بالإطعام ضعيف ومعه ضعفه فالإطعام لا يمتنع عند القائل بالصوم
( و ) على القديم ( الولي ) الذي يصوم عنه ( كل قريب ) للميت وإن لم يكن عاصيا ولا وارثا ولا ولي مال ( على المختار ) من احتمالات للإمام لما في خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة قالت له إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها صومي عن أمك
قال في المجموع وهذا يبطل احتمال ولاية المال والعصوبة وقد قيل بكل منهما فإن اتفقت الورثة على أن يصوم واحد منهم جاز فإن تنازعوا ففي فوائد المهذب للفارقي أنه يقسم على قدر مواريثهم
( و ) عليه ( لو صام أجنبي بإذن الولي ) أي القريب أو بإذن الميت بأن أوصى به سواء أكان بأجرة أم لا ( صح ) قياسا على الحج
قال الأذرعي فإن قام بالقريب ما يمنع الإذن كصبا وجنون أو امتنع من الإذن والصوم أو لم يكن قريب فهل يأذن الحاكم فيه نظر اه
والأوجه كما قال شيخنا المنع لأنه على خلاف القياس فيقتصر عليه فتتعين الفدية
قال في المجموع ومذهب الحسن البصري أنه لو صام عنه ثلاثون بالإذن يوما واحدا أجزأه
قال وهو الظاهر الذي أعتقده
( لا مستقلا في الأصح ) لأنه ليس في معنى ما ورد به الخبر والثاني يصح كما يوفي دينه بغير إذنه
فإن قيل قد صحح المصنف في نظير المسألة من الحج أنه يصح بغير إذن ولا وصية وقال الإسنوي إنه مشكل أجيب بأن الحج يدخله المال فأشبه قضاء الدين وحينئذ لا يصح قياس الصوم على الحج
( ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يفعل ) ذلك ( عنه ولا فدية ) له لعدم ورودها بل نقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يصلي عنه
( وفي الاعتكاف قول ) في البويطي أنه يعتكف عنه قياسا على الصوم لأن كلا منهما كف ومنع وفي رواية عن الشافعي أنه يطعم عنه وليه عن كل يوم بليلته مدا
( والله أعلم ) قال البغوي ولا يبعد تخريج ما نقله البويطي في الصلاة فيطعم لكل صلاة مد ويستثنى من منع الصلاة والاعتكاف عن الميت ركعتا الطواف فإنها تجوز تبعا للحج وما لو نذر أن يعتكف صائما فإن البغوي قال في التهذيب إن قلنا لا يفرد الصوم عن الاعتكاف أي وهو الأصح وقلنا بصوم الولي فهذا يعتكف عنه صائما وإن كانت النيابة لا تجزىء في الاعتكاف
( والأظهر وجوب المد ) لكل يوم بلا قضاء ( على
____________________
(1/439)
من أفطر ) فيما وجب عليه من رمضان أو نذر نذره حال قدرته أو قضاه كما صرح به الرافعي في المحرر
( لكبر ) لكونه شيخا هو ما تلحقه به مشقة لقوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } فإن كلمة لا مقدرة أي لا يطيقونه أو أن المراد يطيقونه حال الشباب ثم يعجزون عنه بعد الكبر
وروى البخاري أن ابن عباس و عائشة كانا يقرءان وعلى الذين يطوقونه بتشديد الواو مفتوحة ومعناه يكلفون الصوم فلا يطيقونه
وقيل لا تقدير في الآية بل كانوا مخيرين في أول الإسلام بين الصوم والفدية فنسخ ذلك فيجب على كل يوم مد والثاني المنع لأنه أفطر لأجل نفسه لعذر فأشبه المسافر والمريض إذا ماتا قبل انقضاء السفر والمرض
وفرق الأول بأن الشيخ لا يتوقع زوال عذره بخلافهما
وفي معنى الكبير المريض الذي لا يرجى برؤه فلو عبر بقوله بعذر لا يرجى زواله لكان أولى ولو كان يمكنه الصوم في وقت آخر لبرودته أو قصر أيامه فهو كالذي يرجى برؤه ذكره القاضي أبو الطيب
وقضية إطلاق المصنف أنه لا فرق في وجوب الفدية بين الغني والفقير وفائدته استقرارها في ذمة الفقير وهو الأصح على ما يقتضيه كلام الروضة وأصلها وجرى عليه ابن المقري وقول المجموع ينبغي أن يكون الأصح هنا عكسه كالفطرة لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليس في مقابلة جناية ونحوها تبع فيه القاضي
وهو مردود بأن حق الله تعالى المالي إذا عجز عنه العبد وقت الوجوب يثبت في ذمته وإن لم يكن على وجه البدل إذا كان بسبب منه وهو هنا كذلك إذ سببه فطره بخلاف زكاة الفطر
وهل الفدية في حق من ذكر بدل عن الصوم أو واجبة ابتداء وجهان في أصل الروضة أصحهما في المجموع الثاني ويظهر أثرهما فيما لو قدر بعد على الصوم وفي انعقاد نذره له فإذا نذر من عجز لهرم أو نحوه صوما لم يصح نذره لأنه لم يخاطب بالصوم ابتداء بل بالفدية ولو قدر من ذكر على الصوم بعد الفطر لم يلزمه الصوم قضاء لذلك وبه فارق نظيره في الحج عن المغصوب إذا قدر عليه ومن اشتدت مشقة الصوم عليه فهو كمن ذكر فلو تكلف وصام فقياس ما صححوه عدم الإكتفاء لكن الأصح لا فدية كما قاله في الكفاية عن البندنيجي
( وأما الحامل والمرضع ) فيجوز لهما الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا فتعبيره بالولد أولى من تعبير التنبيه بولديهما
وسواء أكانت مستأجرة أم لا
ويجب الإفطار إن خافت هلاك الولد
وكذا يجب المستأجرة كما صححه في الروضة لتمام العقد وإن لم تخف هلاك الولد وأما القضاء والفدية ( فإن أفطرتا خوفا ) من حصول ضرر بالصوم كالضرر الحاصل للمريض
( على نفسهما ) والأولى أنفسهما ولو مع الولد ( وجب القضاء بلا فدية ) كالمريض
فإن قيل إذا خافتا على أنفسهما مع ولديهما فهو فطر ارتفق به شخصان فكان ينبغي الفدية قياسا على ما سيأتي
أجيب بأن الآية وردت في عدم الفدية فيما إذا أفطرتا خوفا على أنفسهما فلا فرق بين أن يكون الخوف مع غيرهما أولا وهي قوله تعالى { ومن كان مريضا } إلى آخرها
( أو ) خافا ( على الولد ) وحده بأن تخاف الحامل إسقاطه أو المرضع بأن يقل اللبن فيهلك الولد ( لزمتهما ) من مالهما مع القضاء ( الفدية في الأظهر ) وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين لما روى أبو داود والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية } أنه نسخ حكمه إلا في حقهما حينئذ والناسخ له قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } والقول بنسخه قول أكثر العلماء
وقال بعضهم إنه محكم غير منسوخ بتأويله بما مر في الاحتجاج به
والثاني لا تلزمهما كالمسافر والمريض لأن فطرهما لعذر
والثالث تجب على المرضع دون الحامل لأن فطرها لمعنى فيها كالمريض
وعلى الأول تستثنى المتحيرة فلا فدية عليها للشك في أنها حائض أو لا ذكره في زيادة الروضة والمجموع في باب الحيض
وهذا ظاهر فيما إذا أفطرت ستة عشر يوما فأقل فإن زادت عليها وجبت الفدية عن الزائد لأن الحيض لا يزيد على ذلك نبه على ذلك شيخنا في شرح البهجة وأسقطه من شرح الروض
وفارق لزومها للمستأجرة عدم لزوم دم التمتع للأجير بأن الدم ثم من تتمة الحج الواجب على المستأجر وهنا الفطر من تتمة إيصال المنافع اللازمة
____________________
(1/440)
للمرضع وظاهر كما قال شيخنا أن محل ما ذكر في المستأجرة والمتطوعة إذا لم يوجد مرضعة مفطرة أو صائمة لا يضرها الإرضاع
( والأصح أنه يلحق بالمرضع ) في إيجاب الفدية في الأظهر مع القضاء ( من أفطر لإنقاذ ) آدمي معصوم أو حيوان محترم ( مشرف على هلاك ) بغرق أو غيره بجامع الإفطار فيجب عليه الفطر إذا لم يمكنه تخليصه إلا بفطره إبقاء لمهجته فهو فطر ارتفق به شخصان وهو حصول الفطر للمفطر والخلاص لغيره فلو أفطر لتخلص مال لا فدية عليه كما صرح به القفال لأنه لم يرتفق به إلا شخص واحد ولا يجب الفطر لأجله بل هو جائز
بخلاف الحيوان المحترم فإنه يرتفق بالفطر شخصان
وهذا هو ظاهر مفهوم تقييد القفال بالمال وإن قال بعض المتأخرين في البهيمة نظر لأنهم نزلوا الحيوان المحترم في وجوب الدفع عنه منزلة الآدمي المعصوم بل قضية كلام المصنف كأصله التسوية بين النفس والمال لولا ما قدرته ولا يجوز الفطر للحيوان الغير المحترم
والثاني لا يلحق بها لأن إيجاب الفدية مع القضاء بعيد عن القياس
وإنما قلنا به في الحامل والمرضع لورود الإخبار به فبقي ما عداه على الأصل
( لا المتعدي بفطر رمضان بغير جماع ) فإنه لا يلحق بالحامل والمرضع في لزوم الفدية مع القضاء في الأصح بل يلزمه القضاء فقط لأنه لم يرد في الفدية توقيف والأصل عدمه
والثاني يلحق بهما في اللزوم من باب أولى لتعديه
وفرق الأول بأن فطر المرضع ونحوها ارتفق به شخصان فجاز أن يجب به أمران كالجماع لما حصل مقصوده للرجل والمرأة تعلق به القضاء والكفارة العظمى وبأن الفدية غير معتبرة بالإثم وإنما هي حكمة استأثر الله تعالى بها ألا ترى أن الردة في شهر رمضان أفحش من الوطء مع أنه لا كفارة فيها وبما ذكر يندفع ما استشكل به من أنه لو ترك بعضا من أبعاض الصلاة عمدا أنه يسجد له للسهو فقد قالوا هناك إنه أولى بالجبر من السهو
( ومن أخر قضاء رمضان ) أو شيئا منه ( مع إمكانه ) بأن لم يكن به عذر من سفر أو غيره ( حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد ) لأن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا بذلك ولا مخالف لهم قاله المارودي
ويأثم بهذا التأخير كما في المجموع وفيه أنه يلزمه المد بدخول رمضان فإن لم يمكنه القضاء لاستمرار عذره كأن استمر مسافرا أو مريضا أو المرأة حاملا أو مرضعا حتى دخل رمضان فلا فدية عليه بهذا التأخير لأن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى
وقضية إطلاقه أنه لا فرق عند التأخير بعذر بين أن يكون الفوات بعذر أم لا وبه صرح المتولي في التتمة و سليم الرازي في المجرد لكن نقل الشيخان في صوم التطوع عن البغوي من غير مخالفة أن ما فات بغير عذر يحرم تأخيره بعذر السفر
وقضيته لزوم الفدية وهو الظاهر
قال الأذرعي وينبغي أن يستثنى من الكتاب ما إذا نسي القضاء أو جهله حتى دخل رمضان آخر فإنه لا فدية عليه كما أفهمه كلامهم اه والظاهر أنه إنما يسقط عنه بذلك الإثم لا الفدية
فائدة وجوب الفدية هنا للتأخير وفدية الشيخ الهرم ونحوه لأصل الصوم وفدية المرضع والحامل لتفويت فضيلة الوقت
( والأصح تكرره ) أي المد إذا لم يخرجه ( بتكرر السنين ) لأن الحقوق المالية لا تتداخل
والثاني لا يتكرر كالحدود
ومحل الخلاف إذا لم يكن أخرج الفدية فإن أخرجها ثم لم يقض حتى دخل رمضان آخر وجبت ثانيا بلا خلاف
وهكذا حكم العام الثالث والرابع فصاعدا كما ذكره البغوي وغيره وقال الإسنوي إنه واضح لأن الحدود بعد إقامتها تقتضي التكرار عند الفعل ثانيا بلا خلاف مع أنها أخف مما نحن فيه بدليل أنه يكفي العدد منها حد واحد بلا خلاف
( و ) الأصح ( أنه لو أخر القضاء ) أي قضاء رمضان ( مع إمكانه ) وقلنا بالجديد السابق حتى دخل رمضان آخر
( فمات أخرج من تركته لكل يوم مدان مد للفوات ) للصوم ( ومد للتأخير ) للقضاء
____________________
(1/441)
لأن كلا منهما موجب عند الانفراد فكذلك عند الاجتماع
والثاني يكفي مد واحد لأن الصوم قد فات والفوات يقتضي مدا واحدا كالشيخ الهرم إذا لم يجد بدل الصوم أعواما فإن المعروف الجزم بأنه لا يتكرر
فإن قلنا بالقديم وهو صوم الولي وصام حصل تدارك أصل الصوم ووجبت فدية التأخير وصورة المسألة أنه أخره سنة واحدة فإن أخر سنين ومات فعلى الخلاف في المسألة قبلها
تنبيه تجب فدية التأخير بتحقق الفوات ولو لم يدخل رمضان فلو كان عليه عشرة أيام فمات لبواقي خمس من شعبان لزمه خمسة عشر مدا عشرة لأصل الصوم إذا لم يصم عنه وليه وخمسة للتأخير لأنه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة وتعجيل فدية التأخير قبل دخول رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الإمكان جائز في الأصح كتعجيل الكفارة قبل الخنث المحرم
ويحرم التأخير ولا شيء على الهرم ولا الزمن ولا من اشتدت مشقة الصوم عليه لتأخير الفدية إذا أخروها عن السنة الأولى
وليس لهم ولا للحامل ولا للمرضع تعجيل فدية يومين فأكثر كما لا يجوز تعجيل الزكاة لعامين بخلاف ما لو عجل من ذكر فدية يوم فيه أو في ليلته فإنه جائز
( ومصرف الفدية الفقراء والمساكين ) فقط دون بقية الأصناف الثمانية الآتية في قسم الصدقات لقوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } والفقير أسوأ حالا منه فإذا جاز صرفها إلى المسكين فالفقير أولى ولا يجب الجمع بينهما
( وله صرف أمداد ) من الفدية ( إلى شخص واحد ) لأن كل يوم عبادة مستقلة فالأمداد بمنزلة الكفارات بخلاف المد الواحد فإنه لا يجوز صرفه إلى شخصين لأن كل مد فدية تامة وقد أوجب الله تعالى صرف الفدية إلى الواحد فلا ينقص عنها ولا يلزم منه امتناع صرف فديتين إلى شخص واحد كما لا يمتنع أن يأخذ الواحد من زكوات متعددة
( وجنسها ) أي الفدية ( جنس الفطرة ) وبوعها وصفتها بجامع أن كلا منهما طعام واجب شرعا وقد سبق بيان ذلك في زكاة الفطر
ويعتبر في المد الذي توجبه هنا وفي الكفارات أن يكون فاضلا عن قوته كزكاة الفطر قاله القفال في فتاويه
وكذا عمل يحتاج إليه من مسكن وملبوس وخادم كما يعلم ذلك من كتاب الكفارات
فصل في موجب كفارة الصوم ( تجب الكفارة ) مع التعذير كما قاله البغوي وسيأتي بيانهما على كل مكلف
( بإفساد صوم يوم من رمضان ) بالفطر لصوم نفسه ( بجماع به بسبب الصوم ) ولا شبهة لخبر الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت قال وما أهلكك قال واقعت امرأتي في رمضان قال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا قال لا ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال تصدق بهذا فقال على أفقر منا يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها أي جبليها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال اذهب فأطعمه أهلك وفي رواية للبخاري فأعتق رقبة فصم شهرين فأطعم ستين بالأمر وفي رواية لأبي داود فأتي بعرق تمر قدر خمسة عشر صاعا قال البيهقي وهي أصح من رواية فيه عشرون صاعا
والعرق بفتح العين والراء مكتل ينسج من خوص النخل وسيأتي محترز بعض هذا الضابط في كلامه
وأوردوا عليه أمورا طردا وعكسا فمن الأول ما إذا جامع المسافر ونحوه امرأته ففسد صومها لا كفارة عليه بإفساده عن الأظهر وهذا خرج بما قدرته في كلامه فلو زاده كان أولى
ومنه ما لو ظن غروب الشمس بلا أمارة فجامع ثم بان نهارا فلا كفارة لأنه لم يقصد الهتك قاله القاضي حسين وغيره قاله في المجموع وبه قطع الأصحاب إلا الإمام
قال الشيخان ينبغي أن يكون هذا مفرعا على تجويز الإفطار بالظن وإلا فلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط لكن صرح القاضي بعدم وجوبها وإن قلنا لا يجوز الإفطار بالظن بل صرح البغوي بخلاف المقتضى المذكور في مسألة الشك وبالتسوية بين شكه في دخول الليل وخروجه وعلل عدم وجوب الكفارة بأنها تسقط بالشبهة
واعلم أن البغوي لم يصرح في التهذيب بمسألة الظن لكنها مفهومة
____________________
(1/442)
بالأولى من مسألة الشك وهذا هو المعتمد وإن كان مشكلا
ومنه ما لو شك في النهار هل نوى ليلا أم لا ثم جامع في حال الشك ثم تذكر أنه نوى فإنه يبطل صومه ولا كفارة عليه لأنها تسقط بالشبهة وإن قال الغزي فيه نظر
ومنه ما إذا نوى صوم يوم الشك عن قضاء أو نذر ثم أفسده نهارا بجماع ثم تبين بعد الإفساد بالبينة أنه من رمضان فإنه يصدق أن يقال أفسد صوم يوم من رمضان بجماع أتم به لأجل الصوم ومع ذلك لا تجب عليه الكفارة لأنه لم ينوه عن رمضان فلو أبدل من رمضان بعن لخرجت هذه الصورة لأنه من رمضان لا عن رمضان ولكن يحتاج أن يزيد أداء لئلا يرد عليه القضاء فإنه عن رمضان وليس من رمضان
ومن الثاني ما لو طلع الفجر وهو مجامع فاستدال فإن الأصح في المجموع أن الصوم لم ينعقد فالجماع لم يفسد صوما ومع ذلك تجب الكفارة فإن جماعه وإن لم يفسد الصوم فهو في معنى ما يفسده
فكأنه انعقد ثم فسد على أن السبكي اختار أنه انعقد ثم فسد وعلى هذا لا إيراد
وخرج بالمكلف الصبي فلا يلزم بجماعه كفارة على الأصح
ثم شرع في محترز بقية القيود السابقة بقوله ( فلا كفارة على ناس ) أو مكره أو جاهل التحريم فهو محترز قوله بإفساد لأن صومه لم يفسد بذلك كما مر
ومن نسي النية وأمر بالإمساك فجامع لا كفارة عليه قطعا
( ولا ) على ( مفسد غير رمضان ) من نفل أو نذر أو قضاء أو كفارة وهذا محترز قوله رمضان لأن النص ورد فيه وهو أفضل الشهور ومخصوص بفضائل لم يشاركه فيها غيره فلا يصح قياس غيره عليه
( أو ) مفسد رمضان ( بغير الجماع ) كالأكل والشرب والاستمناء باليد والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الإنزال
وهذا محترز قوله بجماع لأن النص ورد في الجماع وما عداه ليس في معناه
( ولا ) على صائم ( مسافر ) أو مريض ( جامع بنية الترخيص ) وهذا محترز قوله أثم به لأنه لم يأثم لوجود القصد مع الإباحة
( وكذا بغيرها ) وإن قلنا يأثم به ( في الأصح ) لأن الإفطار مباح له فيصير شبهة في درء الكفارة
والثاني نلزمه لأن الرخصة لا تباح بدون قصدها ألا ترى أن المسافر إذا أخر الظهر إلى العصر إن كان بنية الجمع جمع وإلا فلا وجوابه أن الفطر يحصل بلا نية بدليل غروب الشمس ولا كذلك تأخير الصلاة
وهذه الصور قد ترد على الضابط لأنه جماع أثم به كما صرح به في التتمة ونقله المحب الطبري في شرح التنبيه عن الأصحاب
( ولا على من ظن ) وقت الجماع ( الليل ) أي بقاءه أو شك فيه أو ظن باجتهاده دخوله
( فبان ) جماعه ( نهارا ) لانتفاء الإثم
( ولا ) على ( من جامع ) عامدا ( بعد الأكل ناسيا وظن أنه أفطر به ) أي الأكل لأنه يعتقد أنه غير صائم
وقوله ناسيا متعلق بالأكل
( وإن كان الأصح بطلان صومه ) بهذا الجماع كما لو جامع على ظن بقاء الليل فبان خلافه
والثاني لا يبطل كما لو سلم من ركعتين من رباعية ناسيا وتكلم عامدا فإن صلاته لا تبطل
وأجاب الأول بأن الصلاة إنما لم تبطل لنص الشارع في الصلاة بعدم البطلان في قصة ذي اليدين واغتفر ذلك في الصلاة مع أنها أضيق من الصوم لتكررها وكثرة حصول ذلك فيها بخلاف الصوم
أما إذا علم أنه لم يفطر بالأكل ثم جامع فإنه يفطر وتجب عليه الكفارة جزما
( ولا ) على ( من زنى ناسيا ) للصوم لأنه لم يأثم بسبب الصوم وهذا ذكره الغزالي فتبعه في المحرر ولا حاجة إليه لأنه داخل في قوله السابق ولا كفارة على ناس
( ولا ) على ( مسافر أفطر بالزنا مترخصا ) بالفطر لأن الفطر جائز له وإثمه بسبب الزنا لا بالصوم
تنبيه قيد في الروضة الجماع بالتام تبعا للغزالي احترازا من المرأة فإنها تفطر به بدخول شيء من الذكر فرجها ولو دون الحشفة
وزيفوه بخروج تلك بالجماع إذ الفساد فيه بغيره وبأنه يتصور فساد صومها بالجماع بأن يولج فيها نائمة أو ناسية أو مكرهة ثم تستيقظ أو تتذكر وتقدر على الدفع وتستديم ففساده فيها بالجماع لأن استدامة الجماع جماع مع أنه لا كفارة عليها لأنه لم يؤمر بها في الخبر إلا الرجل المواقع مع الحاجة إلى البيان ولنقصان صومها بتعرضه للبطلان
____________________
(1/443)
بعروض الحيض أو نحوه فلم تكمل حرمته حتى تتعلق بها الكفارة فتختص بالرجل الواطىء ولأنها غرم مالي يتعلق بالجماع كالمهر فلا يجب على الموطوءة ولا على الرجل الموطوء كما نقله ابن الرفعة
وللواط وإتيان البهيمة حكم الجماع هنا فيما ذكر من وجوب كفارة الصوم بالإفساد لأن الجميع وطء
ولما فرغ من موجب الكفارة شرع فيمن تجب عليه فقال ( والكفارة على الزوج عنه ) فقط دونها لما مر من التعليل ( وفي قول ) الكفارة ( عنه وعنها ) أي يلزمهما كفارة واحدة ويتحملها الزوج لمشاركتها له في السبب كما هو ظاهر الخبر وعلى هذا قيل يجب كما قال المحاملي على كل منهما نصفها ثم يتحمل الزوج ما وجب عليها
وقيل يجب قاله المتولي على كل منهما كفارة تامة مستقلة ولكن يحملها الزوج عنها وهذا مقتضى كلام الرافعي
ومحل هذا القول إذا كانت زوجته كما يرشد إليه قوله على الزوج
أما الموطوءة بالشبهة أو المزنى بها فلا يتحمل عنها قطعا
( وفي قول عليها كفارة أخرى ) قياسا على الرجل لتساويهما في السبب والإثم كحد الزنا وهذا في غير المتحيرة أما هي فلا كفارة عليها على هذا القول على الأصح
ومحل هذا القول إذا وطئت المرأة في قبلها فإن وطئت في دبرها فلا كفارة عليها ثم محل الخلاف فيما إذا كانت المرأة صائمة ومكنته طائعة عالمة فإن كانت فاطرة بحيض أو غيره أو لم يبطل صومها لكونها نائمة مثلا فلا كفارة عليها قطعا
( وتلزم ) الكفارة ( من انفرد برؤية الهلال ) من رمضان ( وجامع في يومه ) لهتك حرمة يوم من رمضان عنده بالجماع فصدق عليه الضابط المتقدم لأنه يجب عليه صومه كما أنه إذا رأى هلال شوال يجب فطره
وإذا أفطر هل يعزر أو لا ينظر إن شهد ثم أفطر لم يعزر لعدم التهمة وإن أفطر ثم شهد سقطت شهادته للتهمة وعزر لإفطاره في رمضان في الظاهر
وحقه إذا أفطر أن يخفيه لئلا يتهم والظاهر كما قال شيخنا أنه على سبيل الندب
ثم شرع في تعدد الكفارة بتعدد الفساد فقال ( ومن جامع في يومين لزمه كفارتان ) لأن كل يوم عبادة مستقلة فلا تتداخل كفارتاهما سواء أكفر عن الجماع الأول قبل الثاني أم لا كحجتين جامع فيهما
فلو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها فإن تكرر الجماع في يوم واحد فلا تعدد وإن كان بأربع زوجات على المذهب
أما على القول بوجوب الكفارة عليها ويتحملها الزوج فعليه في هذه الصورة أربع كفارات
( وحدوث السفر ) ولو طويلا ( بعد الجماع لا يسقط الكفارة ) جزما لأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة وقيل إنه كحدوث المرض
( وكذا المرض ) أي حدوثه لا يسقطها ( على المذهب ) لأن المرض لا ينافي الصوم فيتحقق هتك حرمته
والثاني يسقطها لأن حدوث المرض يبيح الفطر فيتبين به أن الصوم لم يقع واجبا
ودفع بأنه هتك حرمة الصوم بما فعل هذه هي الطريقة الصحيحة والطريقة الثانية القطع بالأول كالسفر وحدوث الردة لا يسقطها قطعا وحدوث الجنون أو الموت يسقطها قطعا وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فطرأ عليها حيض أو نفاس أسقطها لأن ذلك ينافي صحة الصوم فهو كالجنون
( ويجب ) على الزوج ( معها ) أي الكفارة ( قضاء يوم الإفساد على الصحيح ) وفي الروضة الأصح لأنه إذا وجب على المعذور فعلى غيره أولى
والثاني لا يجب لأن الخلل الحاصل قد انجبر بالكفارة
والثالث إن كفر بالصوم دخل فيه القضاء وإلا فلا لاختلاف الجنس
وأما المرأة فيلزمها القضاء جزما إذا قلنا بأنه لا كفارة عليها فلو قال المصنف وتجب عليه لكان أولى
( وهي ) أي الكفارة المذكورة مرتبة فيجب أولا ( عتق رقبة ) مؤمنة ( فإن لم يجد ) ها ( فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع ) صومهما ( فإطعام ستين مسكينا ) أو فقيرا للخبر المتقدم أول الفصل وهذه الخصال الثلاث صفتها مذكورة في كتاب الظهار
ولو شرع في الصوم ثم وجد الرقبة ندب عتقها ولو شرع في الإطعام ثم قدر على الصوم ندب له
( فلو عجز
____________________
(1/444)
عن الجميع ) أي جميع الخصال المذكورة ( استقرت ) أي الكفارة ( في ذمته على الأظهر ) لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بأن يكفر بما دفعه إليه مع إخباره بعجزه فدل على أنها ثابتة في الذمة لأن حقوق الله تعالى المالية إذا عجز عنها العبد وقت وجوبها فإن كانت لا بسبب منه كزكاة الفطر لم تستقر وإن كانت بسبب منه استقرت في ذمته سواء أكانت على وجه البدل كجزاء الصيد وفدية الحلق أم لا ككفارة الظهار والقتل واليمين والجماع ودم التمتع والقران
فإن قيل لو استقرت لأمر صلى الله عليه وسلم المواقع بإخراجها بعد
أجيب بأن تأخير البيان لوقت الحاجة جائز وهو وقت القدرة
( فإذا قدر على خصلة ) منها ( فعلها ) كما لو كان قادرا عليها حال الوجوب وهذا يقتضي أن الثابت في ذمته أحد الخصال فيكون مخيرا بينها وهو ما قاله القاضي أبو الطيب
وكلام التنبيه يقتضي أن الثابت في ذمته هو الخصلة الأخيرة وكلام الجمهور يقتضي أنه الكفارة وأنها مرتبة في الذمة وبه صرح ابن دقيق العيد وهو كما قال شيخنا المعتمد
ثم إن قدر على خصلة فعلها أو أكثر رتب والثاني لا تستقر بل تسقط كزكاة الفطر
( والأصح أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لشدة الغلمة ) وهي بغين معجمة مضمومة ولام ساكنة شدة الحاجة للنكاح لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع ولو في يوم واحد من الشهرين وذلك يقتضي استئنافهما لبطلان التتابع وهو حرج شديد
والثاني لا لأنه قادر على الصوم فلم يجز العدول عنه كصوم رمضان
( و ) الأصح ( أنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله ) كالزكاة وسائر الكفارات وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر أطعمه أهلك ففي الأم كما في الرافعي يحتمل أنه لما أخبره بفقره صرفه له صدقة أو أنه ملكه إياه وأمره بالتصدق به فلما أخبره بفقره أذن له في صرفها لهم للإعلام بأنها إنما تجب بعد الكفاية وأنه تطوع التكفير عنه وسوغ له صرفها لأهله للإعلام بأن لغير المكفر التطوع بالتكفير عنه بإذنه وأن له صرفها لأهل المكفر عنه أي وله فيأكل هو وهم منها كما صرح به الشيخ أبو علي السنجي و القاضي نقلا عن الأصحاب
وحاصل الاحتمالين الأولين أنه صرف له ذلك تطوعا قال ابن دقيق العيد وهو الأقرب اه
وقد يقال إن قول المصنف وأنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله قد يكون احترز به عن هذه المسألة فإن الصارف فيها إنما هو الأجنبي المكفر
خاتمة من فاته شيء من رمضان استحب أن يقضيه متتابعا ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم قاله الجرجاني فلو نذر صوم شعبان أبدا وأسر مثلا فتحرى وصام رجبا على أنه شعبان وصام شعبان على أنه رمضان ثم تبين له الحال بعد رمضان لزمه قضاء شهرين أحدهما عن شعبان والآخر عن رمضان ولا إطعام عليه قاله الماوردي
باب صوم التطوع والتطوع التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات وتعبير المصنف هنا به وفي الصلاة بالنفل موافق لقوله تعالى { ومن تطوع خيرا } الآية { ومن الليل فتهجد به نافلة لك }
ولا شك أن الصوم من أفضل العبادات ففي الصحيحين من صام يوما في سبيل الله باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفا وفي الحديث كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به واختلفوا في معناه على أقوال تزيد على خمسين قولا
قال السبكي من أحسنها قول سفيان بن عيينة إنه يوم القيامة يتعلق خصماء المرء بجميع أعماله إلا الصوم فإنه لا سبيل لهم عليه فإنه إذا لم يبق إلا الصوم يتحمل الله تعالى عنه ما بقي من المظالم ويدخله بالصوم الجنة
قال بعضهم وهذا مردود بحديث مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتدرون من المفلس ثم ذكر أنه رجل يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وسفك دم هذا وانتهك عرض هذا ويأتي وله صلاة وزكاة وصوم
____________________
(1/445)
قال فيأخذ هذا بكذا إلى أن قال وهذا بصومه فدل على أنه يؤخذ في المظالم
وهو ينقسم إلى قسمين قسم لا يتكرر كصوم الدهر وقسم يتكرر في أسبوع أو سنة أو شهر
وقد شرع في الأول من القسم الثاني فقال ( يسن صوم الاثنين و ) صوم ( الخميس ) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صومهما وقال إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم رواه الترمذي وقال حديث حسن
والمراد عرضها على الله تعالى وأما رفع الملائكة لها فإنه في الليل مرة وفي النهار مرة ولا ينافي هذا رفعها في شعبان كما في خبر مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن إكثار الصوم في شعبان فقال إنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام جملة
وقال السهيلي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال لا يفتك صيام الإثنين فإني ولدت فيه وبعثت فيه وأموت فيه أيضا
وأغرب الحليمي فعد من المكروه اعتياد صوم يوم بعينه كالإثنين والخميس لأن في ذلك تشبيها برمضان
وسمي ما ذكر يوم الإثنين لأنه ثاني الأسبوع والخميس لأنه خامسه كذا ذكره المصنف ناقلا له عن أهل اللغة قال الإسنوي فيعلم منه أن أول الأسبوع الأحد ونقله ابن عطية عن الأكثرين وسيأتي في باب النذر أن أوله السبت وقال السهيلي إنه الصواب وقول العلماء كافة إلا ابن جرير
وجمع الإثنين أثانين والخميس أخمساء وأخمسة وأخاميس
ثم شرع في الثاني منه فقال ( و ) صوم يوم ( عرفة ) وهو تاسع ذي الحجة لغير الحاج لخبر مسلم صيام يوم عرفة احتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده
وهو أفضل الأيام لخبر مسلم ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه ( عبدا ) من النار من يوم عرفة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر
قال الإمام والمكفر الصغائر دون الكبائر
قال صاحب الذخائر وهذا منه تحكم يحتاج إلى دليل والحديث عام وفضل الله واسع لا يحجر
وقال ابن المنذر في قوله صلى الله عليه وسلم من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
هذا قول عام يرجى أنه يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها
قال الماوردي وللتكفير تأويلان أحدهما الغفران والثاني العصمة حتى لا يعصي
ويسن أيضا صوم الثمانية أيام قبل يوم عرفة كما صرح به في الروضة ولم يخصه بغير الحاج فيسن صومها للحاج وغيره
أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة بل يسن له فطره وإن كان قويا للاتباع رواه الشيخان وليقوى على الدعاء فصومه له خلاف الأولى بل في مكث التنبيه للمصنف أنه مكروه وفيها كالمجموع أنه يسن صومه لحاج لم يصل عرفة إلا ليلا لفقد العلة
هذا كله في غير المسافر والمريض أما هما فيسن لهما فطره مطلقا كما نص عليه الشافعي في الإملاء
( و ) صوم ( عاشوراء ) وهو عاشر المحرم لقوله صلى الله عليه وسلم فيه أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله
وإنما لم يجب صومه للأخبار الدالة بالأمر بصومه لخبر الصحيحين إن هذا اليوم يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر وحملوا الأخبار الواردة بالأمر بصومه على تأكد الاستحباب
فائدة الحكمة في كون صوم يوم عرفة بسنتين وعاشوراء بسنة أن عرفة يوم محمدي يعني أن صومه مختص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعاشوراء يوم موسوي ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فكان يومه بسنتين
( و ) صوم ( تاسوعاء ) وهو تاسع المحرم لقوله صلى الله عليه وسلم لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع فمات قبله رواه مسلم وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر ولمخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر والاحتراز من إفراده بالصوم كما في يوم الجمعة
فإن لم يصم معه تاسوعاء سن أن يصوم معه الحادي عشر بل نص الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة وعاشوراء وتاسوعاء ممدودان على المشهور
ثم شرع في الثالث منه فقال ( و ) صوم ( أيام ) الليالي ( البيض ) وهو اليوم الثالث عشر وتالياه للأمر بصومها في النسائي وصحيح ابن حبان
والحكمة في ذلك أن الحسنة بعشرة أمثالها فصومها كصوم الشهر ومن ثم سن صوم ثلاثة من كل
____________________
(1/446)
شهر ولو غير أيام البيض كما في البحر وغيره
قال السبكي والحاصل أنه يسن صوم ثلاثة وأن تكون أيام البيض فإن صامها أتى بالسنتين والأحوط صوم الثاني عشر معها أيضا للخروج من خلاف من قال إنه أول الثلاثة
وسميت هذه الأيام بذلك لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها لآخرها ويستثنى ثالث عشر ذي الحجة فإن صومه حرام كما مر وبحث بعضهم أنه يصوم بدلا عنه السادس عشر
ويسن صوم أيام الليالي السود وهو الثامن والعشرون وتالياه وينبغي كما قال شيخنا أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطا
وخصت أيام البيض والسود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية بالسواد فناسب صوم الأولى شكرا والثانية لطلب كشف السواد ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل فناسب تزويده بذلك
( و ) صوم ( ستة من شوال ) وهذا من القسم الثاني فيسن صومها لقوله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر رواه مسلم وروى النسائي خبر صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة أي كصيامها فرضا وإلا فلا يختص ذلك برمضان وستة من شوال لأن الحسنة بعشرة أمثالها
تنبيه قضية إطلاق المصنف استحباب صومها لكل أحد سواء أصام رمضان أم لا كمن أفطر لمرض أو صبا أو كفر أو غير ذلك وهو الظاهر كما جرى عليه بعض المتأخرين وإن كانت عبارة كثيرين يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال كلفظ الحديث وتحصل السنة بصومها متفرقة
( و ) لكن ( تتابعها أفضل ) عقب العيد مبادرة إلى العبادة ولما في التأخير من الآفات
ولو صام في شوال قضاء أو نذرا أو غير ذلك هل تحصل له السنة أو لا لم أر من ذكره والظاهر الحصول
لكن لا يحصل له هذا الثواب المذكور خصوصا من فاته رمضان وصام عنه شوالا لأنه لم يصدق عليه المعنى المتقدم ولذلك قال بعضهم يستحب له في هذه الحالة أن يصوم ستا من ذي القعدة لأنه يستحب قضاء الصوم الراتب اه
وهذا إنما يأتي إذا قلنا أن صومها لا يحصل بغيرها أما إذا قلنا بحصوله وهو الظاهر كما تقدم فلا يستحب قضاؤها
وقول المصنف ستة بإثبات التاء مع حذف المعدود لغة والأفصح حذفها كما ورد في الحديث
ويسن صوم آخر كل شهر لما مر في صوم أيام السواد فإن صامها أتى بالسنتين ولا يرد على ذلك يوم الشك فإنه آخر شهر لأن الكلام تقدم عليه
( ويكره إفراد ) يوم ( الجمعة ) بالصوم لقوله صلى الله عليه وسلم لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده رواه الشيخان وليتقوى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه ولذلك خصه البيهقي وجماعة نقلا عن مذهب الشافعي بمن يضعف به عن الوظائف والظاهر أنه لا فرق فقد قيل إن العلة في ذلك لئلا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت وقيل لئلا يعتقد وجوبه وقيل لأنه يوم عيد وطعام
( و ) يكره أيضا ( إفراد السبت ) أو الأحد بالصوم لخبر لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه على شرط الشيخين ولأن اليهود تعظم يوم السبت والنصارى يوم الأحد
وخرج بإفراد كل من الثلاثة جمعه مع غيره فلا يكره جمع الجمعة مع السبت ولا السبت مع الأحد لأن المجموع لا يعظمه أحد وحمل على هذا ما روى النسائي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين وأحب أن أخالفهم قال بعضهم ولا يعرف لهذه المسألة نظير وهو أنه إذا ضم مكروه آخر تزول الكراهة
فإن قيل التعليل بالتقوي بالفطر في كراهة إفراد الجمعة يقتضي أنه لا فرق بين إفرادها وجمعها أجيب بأنه إذا جمعها حصل له بفضيلة صوم غيره ما يجبر ما حصل فيها من النقص قاله في المجموع
تنبيه محل كراهة إفراد ما ذكر إذا لم يوافق عادة له فإن كان له عادة كأن اعتاد صوم يوم وفطر يوم فوافق صومه يوما منها لم يكره كما في صوم يوم الشك ولخبر مسلم لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم
وقيس بالجمعة الباقي
ولا يكره إفراد عيد من أعياد أهل الملل بالصوم كالنيروز والمهرجان وإطلاق المصنف كراهة إفراده محمول على النفل فلا يكره في المعتاد والفرض كما دل عليه الحديث
ثم شرع في القسم الأول فقال
____________________
(1/447)
( وصوم الدهر غير ) يومي ( العيد و ) أيام ( التشريق مكروه لمن خاف به ضررا أو فوت حق ) واجب أو مستحب لخبر البخاري أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال ما شأنك فقالت إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا فقال سلمان يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولجسدك عليك حقا فصم وأفطر وقم ونم وائت أهلك أعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء للنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان
فإن صام العيدين وأيام التشريق أو شيئا منها حرم وعليه حمل خبر الصحيحين لا صام من صام الأبد
( أو مستحب لغيره ) لإطلاق الأدلة ولأنه صلى الله عليه وسلم قال من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين رواه البيهقي
ومعنى ضيقت عليه أي عنه فلم يدخلها أو لا يكون له فيها موضع
تنبيه قوله ومستحب لغيره كذا في المحرر وشرح مسلم وجرى عليه ابن المقري وهو المعتمد وإن عبر في الشرحين والروضة والمجموع بعدم الكراهة لا الاستحباب
وقال الأذرعي وعبارة الجمهور أنه لا يكره في هذه الحالة ومع استحبابه فصوم يوم وفطر يوم أفضل منه لخبر الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وفيه أيضا لا أفضل من ذلك فهو أفضل من صوم الدهر كما قاله المتولي وغيره وإن أفتى ابن عبد السلام بالعكس وقال إن الحسنة بعشر أمثالها وحمل قوله في الخبر لا أفضل من ذلك أي لك ولو نذر صوم الدهر انعقد نذره لكن محله كما قاله السبكي ما لم يكن مكروها
وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في باب النذر
فائدة قال ابن سيده الدهر الأبد المحدود والجمع أدهر ودهور وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله ليس الدهر فإذا سببت به الدهر فكأنك أردت الله سبحانه
( ومن تلبس بصوم تطوع أو صلاته فله قطعهما ) أما الصوم فلقوله صلى الله عليه وسلم والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر قال الحاكم صحيح الإسناد
وأما الصلاة فقياسا على الصوم ويقاس بذلك بقية النوافل غير الحج والعمرة كاعتكاف وطواف ووضوء وقراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها والتسبيحات عقب الصلاة ولئلا يغير الشروع حكم المشروع فيه
أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه كما يأتي في بابه لمخالفته غيره في لزوم الإتمام والكفارة بالجماع ولكن يكره الخروج بلا عذر لظاهر قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه فإن كان هناك عذر كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه فلا يكره الخروج منه بل يستحب لخبر وإن لزورك عليك حقا وخبر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه رواهما الشيخان
أما إذا لم يعز على أحدهما امتناع الآخر من ذلك فالأفضل عدم خروجه منه كما في المجموع وإذا أفطر لم يثب على ما مضى إن خرج بغير عذر ويثاب عليه إن خرج بعذر
وعلى هذا يحمل قول المتولي إنه لا يثاب لأن العبادة لم تتم وما حكي عن الشافعي أنه يثاب عليه
( ولا قضاء ) واجب لقطع التطوع بل هو مندوب سواء أخرج بعذر أم بغيره للخروج من خلاف من أوجب قضاءه
أما من فاته وله عادة بصيامه كالاثنين فلا يسن له قضاؤه لفقد العلة المذكورة كما أفتى به شيخي
تنبيه لو عبر المصنف بقوله ومن تلبس بتطوع غير حج وعمرة لكان أولى ليشمل ما ذكر
( ومن تلبس بقضاء ) لصوم فات عن واجب ( حرم عليه قطعه ) جزما ( إن كان ) قضاؤه ( على الفور وهو صوم من تعدى بالفطر ) حتى لا يجوز التأخير بعذر السفر كما نقلاه عن البغوي وأقراه تداركا لما وقع فيه من الإثم
( وكذا إن لم يكن
____________________
(1/448)
على الفور ) يحرم قطعه ( في الأصح بأن لم يكن تعدي بالفطر ) لأنه قد تلبس بالفرض ولا عذر له في الخروج فلزمه إتمامه كما لو شرع في الصلاة في أول الوقت والثاني لا يحرم لأنه متبرع في الشروع فيه فأشبه المسافر يشرط في الصوم ثم يريد الخروج منه
واعلم أن ضبط الفور بالتعدي يرد عليه ما لو ضاق وقته بأن لم يبق من شعبان إلا ما يسع القضاء فإنه يجب القضاء على الفور سواء أفات بعذر أم لا وقضاء يوم الشك فإنه على الفور كما نقله في المجموع عن المتولي وغيره وأقره ونقله ابن الرفعة عن المتولي
ثم قال وفيه نظر
وقضية ما قاله المتولي وغيره القضاء على من نسي النية على الفور لأن الإمساك واجب عليه لأنه على قضاء يوم الشك على الفور بقوله إن قلنا يلزمه التشبيه بالصائمين فقد ألحقناه بمن أفطر بغير عذر ولكن في المجموع أن قضاءه على التراخي بلا خلاف قال وكذلك على من أكل على ظن الليل
قال في المهمات والذي يميل القلب إليه إلحاق يوم الشك بذلك ويأتي انقسام القضاء إلى ما يكون بالتعدي وإلى غيره أيضا في الصلاة وفي الاعتكاف المنذور في زمن معين وفي الحج والعمرة
خاتمة أفضل الشهور للصوم بعد رمضان الأشهر الحرم وأفضلها المحرم لخبر مسلم أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم ثم رجب خروجا من خلاف من فضله على الأشهر الحرم ثم باقيها ثم شعبان لما في رواية مسلم كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله وفي رواية كان يصوم شعبان إلا قليلا
قال العلماء اللفظ الثاني مفسر للأول فالمراد بكله غالبه وقيل كان يصومه تارة من أوله وتارة من آخره وتارة من وسطه ولا يترك منه شيئا بلا صيام لكن في أكثر من سنة
فإن قيل كيف أكثر من شعبان مع أن المحرم أفضل منه
أجيب بلعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه أو لعله كانت تعرض له فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان
قال العلماء وإنما لم يستكمل ذلك لئلا يظن وجوبه
ويحرم صوم المرأة تطوعا وزوجها حاضر إلا بإذنه لخبر الصحيحين لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولأن حق الزوج فرض فلا يجوز تركه لنفل فلو صامت بغير إذنه صح وإن كان حراما كالصلاة في دار مغصوبة وعلمها برضاه كإذنه وسيأتي في النفقات أنه لا يحرم عليها صوم عرفة وعاشوراء
أما صومها في غيبة زوجها عن بلدها فجائز بلا خلاف
فإن قيل هلا جاز صومها مع حضوره وإذا أراد التمتع بها تمتع وفسد صومها أجيب بأن صومها يمنعه التمتع عادة لأنه يهاب انتهاك حرمة الصوم بالإفساد ولا يلحق بالصوم صلاة النفل المطلق لقصر زمنه
كتاب الاعتكاف هو لغة اللبث والحبس والملازمة على الشيء خيرا كان أو شرا
قال تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون }
وقيل عكف على الخير وانعكف على الشر
وشرعا اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية
والأصل فيه قبل الإجماع الآية الأولى والأخبار كخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوسط من رمضان ثم اعتكف العشر الأواخر ولازمه حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده
وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين }
( وهو مستحب كل وقت ) في رمضان وغيره بالإجماع ولإطلاق الأدلة
( و ) هو ( في العشر الأواخر من رمضان أفضل ) منه في غيره وهذه المسألة وهو قوله ( لطلب ليلة القدر ) فيحييها بالصلاة والقراءة وكثرة الدعاء فإنها أفضل ليالي السنة قال تعالى { ليلة القدر خير من ألف شهر } تقدمت في سنن الصوم وأعادها لذكر
____________________
(1/449)
حكمة الاعتكاف في العشر المذكور أي خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
وفي الصحيحين من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وظاهر كلام المصنف انحصارها في العشر الأخير وهو ما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى وعليه الجمهور وأنها تلزم ليلة بعينها لا تنتقل
وقال المازني و ابن خزيمة إنها منتقلة في ليالي العشر جمعا بين الأحاديث
قال في الروضة وهو قوي وقال في المجموع إنه الظاهر المختار لكن المذهب الأول
قال المصنف في شرح مسلم ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها
قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه وهذا أولى نعم حال من اطلع اكمل إذا قام بوظائفها
وقد نقل في زوائد الروضة عن نصه في القديم أن من شهد العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه منها وروي عن أبي هريرة مرفوعا من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر
ويستحب أن يكثر في ليلتها من قول اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني وأن يجتهد في يومها كما يجتهد في ليلتها
وخصت بها هذه الأمة وهي باقية إلى يوم القيامة ويسن لمن رآها أن يكتمها
( وميل الشافعي رحمه الله ) تعالى ( إلى أنها ليلة الحادي ) والعشرين ( أو الثالث والعشرين ) منه يدل للأول خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وما ذكره المصنف هو نص المختصر والذي قاله الأكثرون إن ميله إلى أنها ليلة الحادي والعشرين لا غير وفي القديم أرجاها ليلة إحدى أو ثلاث أو سبع وعشرين ثم بقية الأوتار ليلة أشفاع العشر الأواخر
وقال ابن عمر وجماعة إنها في جميع الشهر وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر وبعضهم بأشفاعه
وقال ابن عباس و أبي هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم وفيها نحو الثلاثين قولا والسبب في إبهامها على الناس أن يكثر اجتهادهم في كل السنة ويطلبونها في جميعها
ومن علاماتها أنها طلقة لا حارة ولا باردة وتطلع الشمس في صبيحتها بيضاء ليس فيها كثير شعاع
فإن قيل لا فائدة في هذه العلامة لأنها قد انقضت
أجيب بأنه يستحب أن يجتهد في يومها كما تقدم وأنه يبقى يعرفها على ما تقدم عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة
وأركان الاعتكاف أربعة مسجد ولبث ونية ومعتكف
وقد شرع في أولها فقال ( وإنما يصح الاعتكاف في المسجد ) للاتباع رواه الشيخان وللإجماع ولقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطا في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها وإن كان خارج المسجد ولمنع غيره أيضا منها فتعين كونها شرطا لصحة الاعتكاف
ولا يفتقر شيء من العبادات إلى مسجد إلا التحية والاعتكاف والطواف ولا فرق بين سطح المسجد وغيره ولا يصح في رحبته لأنها منه ولا يصح فيما وقف جزؤه شائعا مسجدا وإن حرم على الجنب المكث فيه للاحتياط ولا فيما أرضه مستأجرة ووقف بناؤه مسجدا على القول بصحة الوقف وهو الأصح والحيلة في الاعتكاف فيه أن يبني فيه مصطبة أو ضفة أو نحو ذلك ويوقفها مسجدا فيصح الاعتكاف فيها كما يصح على سطحه وجدرانه ولا يغتر بما وقع للزركشي من أنه يصح الاعتكاف فيه وإن لم يبن نحو مصطبة
وقد علم مما تقرر أنه لا يصح وقف المقول مسجدا ولا يغتر بما وقع في فتاوى بعض المتأخرين من الصحة
( و ) المسجد ( الجامع ) وهو ما تقام فيه الجمعة ( أولى ) بالاعتكاف فيه من غيره للخروج من خلاف من أوجبه ولكثرة الجماعة فيه وللاستغناء عن الخروج للجمعة
ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة وكان ممن تلزمه الجمعة ولم يشترط الخروج لها لأن الخروج لها يقطع التتابع لتقصيره بعدم اعتكافه في الجامع
ويؤخذ من هذا كما قال الأذرعي أنه لو كانت الجمعة تقام بين أبنية القرية لا في جامع لم يبطل تتابعه بالخروج لها وكذا لو كانت القرية صغيرة لا تنعقد الجمعة بأهلها فأحدث بها جامع وجماعة بعد نذره واعتكافه ولو استثنى الخروج لها وكان
____________________
(1/450)
في البلد جامعان فمر على أحدهما وذهب إلى الآخر فإن كان الذي ذهب إليه يصلي فيه أولا لم يضره أو في وقت واحد بطل اعتكافه كما قاله القفال في فتاويه
أما إذا لم يشرط التتابع فإنه لا يشترط الجامع بل يصح في سائر المساجد لمساواتها له في تحريم المكث جنبا وسائر الأحكام
ويستثنى من كون الجامع أولى ما إذا كان قد عين غير الجامع فالمعين أولى إذا لم يحتج إلى الخروج إلى الجمعة
( والجديد أنه لا يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو المعتزل المهيأ للصلاة ) لأنه ليس بمسجد بدليل جواز تغييره ومكث الجنب فيه ولأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي عنهن كن يعتكفن في المسجد ولو كفى بيوتهن لكانت لهن أولى
والقديم يصح لأنه مكان صلاتها كما أن المسجد مكان صلاة الرجل
وأجاب الأول بأن الصلاة لا تختص بموضع بخلاف الاعتكاف والخنثى كالرجل وعلى القول بصحة اعتكافها في بيتها يكون المسجد لها أفضل خروجا من الخلاف
( ولو عين ) الناذر ( المسجد الحرام في نذره الاعتكاف تعين ) فلا يقوم غيره مقامه لتعلق النسك به وزيادة فضله لكثرة تضاعف الصلاة فيه قال صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي
واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام الذي يتعين في النذر ويتعلق به زيادة الفضيلة قيل الكعبة والمسجد الذي يطاف فيه حولها وبهذا جزم المصنف في المجموع في باب استقبال القبلة
وقيل إنه الكعبة وما في الحجر من البيت وهو اختيار صاحب البيان
وقيل جميع بقاع الحرم وهو الذي نقله في البيان عن شيخه الشريف العثماني والقلب إلى هذا أميل
وسكت المصنف عما لو عين الكعبة أو البيت الحرام وقال في البيان إنه يتعين البيت وما أضيف إليه من الحجر قال في المهمات وهو المتجه لكن هذا إنما يأتي كما قاله بعض المتأخرين على قول من يرى أن التضعيف مختص بذلك وصاحب البيان يقول به
وأما من لا يرى التضعيف مختصا بذلك فلا ينبغي أن يقول بتعيين ذلك
وقد صرح الإمام بالمسألة فقال عن شيخه إنه لو نذر صلاة في الكعبة وصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره ونقله الرافعي عنه في باب النذر
( وكذا مسجد المدينة و ) مسجد ( الأقصى ) إذا عينهما الناذر في نذره تعينا ( في الأظهر ) ولا يجزىء دونهما لأنهما مسجدان تشد إليهما الرحال فأشبها المسجد الحرام
والثاني لا لأنهما لا يتعلق بهما نسك فأشبها بقية المساجد
وأشعر كلامه أنه لو عين مسجدا غير الثلاثة لم يتعين وهو كذلك في الأصح لكن ما عينه أولى من غيره كما مر ويشعر أيضا تعبيره بالاعتكاف أن نذر الصلاة في المساجد الثلاثة لم يتعين وليس مرادا بل هي أولى بالتعيين وقد نص عليها الشافعي والأصحاب
( ويقوم المسجد الحرام مقامهما ) لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به ( ولا عكس ) أي لا يقومان مقام المسجد الحرام لأنهما دونه في الفضل
( ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى ) لأنه أفضل منه فإنه صح أن الصلاة فيه بألف صلاة كما مر وفي الأقصى بخمسمائة كما رواه ابن عبد البر وقال البزار إسناده حسن
وروي أيضا أن الصلاة فيه بألف وعلى هذا هما متساويان
( ولا عكس ) لما سبق وسكت المصنف عن تعيين زمن الاعتكاف والصحيح فيه التعيين أيضا فلو قدمه لم يصح وإن أخره كان قضاء ويأثم إن تعمد وأجزاء المسجد كلها متساوية في أداء المنذور ومقتضى كلام الجمهور أنه لا يتعين جزء منه بالتعيين وإن كان أفضل من بقية الأجزاء
ثم شرع في الركن الثاني فقال ( والأصح أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفا ) أي إقامة بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه فلا يكفي قدرها ولا يجب السكون بل يكفي التردد فيه
وقوله والأصح يرجع إلى جملتين إحداهما أصل اللبث والثانية قدره ومقابل الأصح في الأول قوله ( وقيل يكفي مرور بلا لبث ) كالوقوف بعرفة ومقابله في
____________________
(1/451)
الثانية قوله ( وقيل يشترط مكث نحو يوم ) أي قريب منه لأن ما دون ذلك معتاد في الحاجة التي تعن في المسجد أو في طريقه لقضاء الحاجة فلا يصلح للقربة وعلى الأصح يصح نذر اعتكاف ساعة ولو نذر اعتكافا مطلقا كفاه لحظة لكن المستحب يوم ويسن كلما دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف
( ويبطل بالجماع ) من عالم بتحريمه ذاكر للاعتكاف سواء أجامع في المسجد أم خارجه عند خروجه لقضاء حاجة أو نحوها لمنافاته العبادة البدنية
واعلم أن جماعه في المسجد حرام مطلقا إذا أدى إلى مكث فيه سواء كان معتكفا أم لا كما مرت الإشارة إليه وسواء أكان اعتكافه فرضا أم نفلا
وأما إذا جامع خارج المسجد وكان معتكفا فإن كان الاعتكاف منذورا حرم وإن كان تطوعا لم يحرم إذ غايته الخروج من العبادة وهو جائز
قال في المهمات والحكم بالبطلان إنما هو بالنسبة إلى المستقبل وأما الماضي فكذلك إن كان منذورا متتابعا فيستأنف وإن لم يكن متتابعا لم يبطل ما مضى سواء أكان منذورا أم نفلا ولو شتم إنسانا أو اغتابه أو أكل حراما لم يبطل اعتكافه وبطل ثوابه قاله في الأنوار ولو أولج في دبر خنثى بطل اعتكافه أو أولج في قبله أو أولج الخنثى في رجل أو امرأة أو خنثى ففي بطلان اعتكافه الخلاف المذكور في قوله
( وأظهر الأقوال أن المباشرة بشهوة ) فيما دون الفرج ( كلمس وقبلة تبطله ) أي الاعتكاف ( إن أنزل وإلا فلا ) تبطله لما مر في الصوم
والثاني تبطله مطلقا لعموم قوله تعالى { ولا تباشروهن }
والثالث لا مطلقا كالحج
وعلى كل قول هي حرام في المسجد إن لزم منها مكث فيه وهو جنب وكذا خارجه إن كان الاعتكاف واجبا بخلاف ما إذا كان نفلا
واحترز المصنف بالمباشرة عما إذا نظر أو تكفر فأنزل فإنه لا يبطل وبالشهوة عما إذا قبل بقصد الإكرام ونحوه أو بلا قصد فلا يبطله إذا أنزل جزما والاستمناء كالمباشرة
وقد عرف بهذا التفصيل أن مسألة الخنثى مستثناة من بطلان الاعتكاف بالجماع ولكن يشترط في الخنثى أن ينزل من فرجيه
( ولو جامع ناسيا ) للاعتكاف ( فكجماع الصائم ) ناسيا صومه فلا يضر على المذهب كما سبق في الصيام ولو جامع جاهلا فكجماع الصائم جاهلا وقد مر في الصيام أيضا والمباشرة بشهوة في ذلك كالجماع
( ولا يضر ) في الاعتكاف ( التطيب والتزين ) باغتسال وقص شارب ولبس ثياب حسنة ونحو ذلك من دواعي الجماع لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم تركه ولا أمر بتركه والأصل بقاؤه على الإباحة
وله أن يتزوج ويزوج بخلاف المحرم ولا يكره له الصنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر منها فإن أكثر منها كرهت لحرمته إلا كتابة العلم فلا يكره الإكثار منها لأنها طاعة كتعليم العلم ذكره في المجموع
وتكره له الحرفة فيه بخياطة ونحوها كالمعاوضة من نحو بيع وشراء بلا حاجة وإن قلت
وله أن يأكل ويشرب ويغسل يده فيه والأولى أن يأكل في سفرة أو نحوها وأن يغسل يده في طست أو نحوها ليكون أنظف للمسجد
ويجوز نضحه بمستعمل لاتفاقهم على جواز الوضوء فيه وإسقاط مائه في أرضه مع أنه مستعمل ولأنه أنظف من غسالة اليد الخالصة يغسلها فيه وهذا ما اختاره في المجموع وجزم به ابن المقري وهو المعتمد خلافا لما جرى عليه البغوي من الحرمة
ويجوز الاحتجام والفصد فيه في إناء مع الكراهة كما جزم بها في المجموع إذا أمن تلويث المسجد وكالحجامة والفصد ما في معناهما كما بحثه شيخنا كفتح دمل وسائر الدماء الخارجة من الآدمي للحاجة أما ما ليس في معناهما فإنه يحرم فقد نقل المصنف في مجموعه تحريم إدخال النجاسة المسجد لما فيه من شغل هوائه بها مع زيادة القبح ومحله إذا لم تكن حاجة بدليل جواز إدخال النعل المتنجسة فيه إذا أمن التلويث فإن لوث الخارج بما ذكر المسجد أو بال أو تغوط فيه ولو في إناء حرم والفرق بين ما تقدم وبين البول والغائط أن الدماء أخف منهما لما مر أنه يعفى عنها في محلها وإن كثرت إذا لم تكن بفعله ولأنهما أقبح منها ولهذا لا يمنع من نحو الفصد متوجها للقبلة بخلافهما
وإن اشتغل المعتكف بالقرآن والعلم فزيادة خير لأنه طاعة في طاعة ويسن له الصوم للاتباع وللخروج من خلاف من أوجبه كما سيأتي
____________________
(1/452)
( و ) لا يضره ( الفطر بل يصح اعتكاف الليل وحده ) واعتكاف العيد والتشريق لخبر أنس ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم
وهذا ما نص عليه الشافعي في الجديد وحكي قول قديم أن الصوم شرط في صحته وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء
( ولو نذر اعتكاف يوم هو فيه صائم لزمه ) الاعتكاف يوم صومه لأنه به أفضل فإذا التزامه بالنذر لزمه كالتتابع وليس له إفراد أحدهما عن الآخر قطعا سواء أكان الصوم عن رمضان أم غيره لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما وإنما نذر الاعتكاف بصفة وقد وجدت
( ولو نذر أن يعتكف صائما ) أو يصوم ( أو ) عكسه بأن نذر أن ( يصوم معتكفا ) أو باعتكاف ( لزماه ) أي الاعتكاف والصوم في الصورتين عملا بالتزامه
فإن قيل الفرق بين المسألة الأولى وبين مسألتنا مشكل كما قاله الإسنوي فإنه التزم في الموضعين الصوم بلفظ يدل على الصفة
أجيب بأن الحال قيد في عاملها ومبينة لهيئة صاحبها بخلاف الصفة فإنها مخصصة لموصوفها وألحقوا الجار والمجرور بالحال الصريحة
( والأصح ) المنصوص ( وجوب جمعهما ) لأنه قربة فلزم بالنذر والثاني لا لأنهما عبادتان مختلفتان فأشبه ما لو نذر أن يعتكف مصليا أو عكسه حيث لا يلزمه جمعها وفرق الأول بأن الصوم يناسب الاعتكاف لاشتراكهما في الكف والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف
والثالث يجب الجمع في الصورة الأولى ولا يجب في الثانية وفرق الرافعي بأن الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم والصوم يصلح وصفا للاعتكاف لأنه مستحب فيه
وعلى الأول الأصح لو اعتكف صائما في رمضان أو غيره نفلا كان الصوم أو واجبا بغير هذا النذر لم يجزه لعدم الوفاء بالملتزم
لقال الإسنوي والقياس فيما ذكر ونحوه أن يكفيه اعتكاف لحظة من اليوم ولا يجب استيعابه لأن اللفظ صادق على القليل والكثير وكلامهم قد يوهم خلافه اه
والأوجه الأول ولو عين وقتا لا يصح صومه كالعيد قال الدارمي اعتكفه ولا يقضي الصوم فهو مستثنى من وجوب الجمع ولو نذر القران بين حج وعمرة جاز له تفريقهما وهو أفضل
ثم شرع في الركن الثالث معبرا عنه بالشرط فقال ( ويشترط نية الاعتكاف ) أي لا بد منها في ابتدائه كما في الصلاة وغيرها من العبادات لأنه عبادة سواء المنذور وغيره تعين زمانه أو لا
( و ) لكن ( ينوي ) حتما ( في ) الاعتكاف ( المنذور الفرضية ) ليتميز عن التطوع ولا يتعين سبب وجوبه وهو النذر بخلاف الصلاة والصوم لأن وجوب الاعتكاف لا يكون إلا بالنذر بخلافهما
ولو نوى كونه عن نذره أجزأه عن ذكر الفرض كما قاله في الذخائر ولو كان عليه اعتكاف منذور فائت ومنذور غير فائت
قال الأذرعي يشبه أن يجيء في التعرض للأداء والقضاء الخلاف المذكور في الصلاة ولو دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه لم يبطل في الأصح كالصوم
( وإذا أطلق ) نية الاعتكاف ولم يعين مدة ( كفته ) هذه النية ( وإن طال مكثه ) لشمول النية المطلقة لذلك
( لكن لو خرج ) من المسجد ( وعاد ) إليه ( احتاج ) ان لم يعزم عند خروجه على العود ( إلى الاستئناف ) لنية الاعتكاف سواء أخرج لتبرز أم لغيره لأن ما مضى عبادة تامة وهو يريد اعتكافا جديدا
فإن عزم على العود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية كما قاله في التتمة وصوبه في المجموع
فإن قيل اقتران النية بأول العبادة شرط فكيف يكتفي بعزيمة سابقة أجيب بأن نية الزيادة وجدت قبل الخروج فصار كمن نوى المدتين بنية واحدة كما قالوه فيمن نوى ركعتين نفلا مطلقا ثم نوى قبل السلام زيادة فإنه يصح
( ولو نوى مدة ) أي اعتكافها كيوم أو شهر تطوعا أو كان قد نذر أياما غير معينة ولم يشترط فيها التتابع ثم دخل المسجد بقصد وفاء نذره ( فخرج ) منه ( فيها ) أي المدة ( وعاد ) إليه ( فإن خرج ) منه ( لغير قضاء الحاجة ) من البول أو الغائط ( لزمه الاستئناف )
____________________
(1/453)
للنية لصحة الاعتكاف إن أراده بعد العود وإن لم يطل الزمن لقطعه الأول بالخروج لغير قضاء الحاجة
وأما العود فلا يلزمه في النفل لجواز الخروج منه
( أو ) خرج ( لها ) أي الحاجة ( فلا ) يلزمه استئناف النية وإن طال زمن قضاء الحاجة لأنه لا بد منه فهو كالمستثنى عند النية
( وقيل إن طالت مدة خروجه ) لقضاء الحاجة أو لغيرها ( استأنف ) النية لتعذر البناء بخلاف ما إذا لم يطل
( وقيل لا يستأنف ) النية ( مطلقا ) لأن النية شملت جميع المدة بالتعيين
أما إذا نذر أياما معينة وشرط فيهما التتابع فحكمه ما ذكره في قوله ( ولو نذر مدة متتابعة فخرج لعذر لا يقطع التتابع ) كقضاء حاجة وحيض وأكل وغير ذلك من الأعذار الآتية وعاد ( لم يجب استئناف النية ) عند العود لشمولها جميع المدة وتجب المبادرة إلى العود عند زوال العذر
فإن أخر ذاكرا عالما مختارا انقطع تتابعه وتعذر البناء
( وقيل إن خرج لغير ) قضاء ( الحاجة و ) غير ( غسل الجنابة ) يعني مما له منه بد كالأكل فإنه مع إمكانه في المسجد يجوز الخروج له على الصحيح لأنه قد يستحي منه ويشق عليه فيه بخلاف الشرب فلا يجوز الخروج له مع إمكانه في الأصح فإنه لا يستحيا منه في المسجد
( وجب ) استئناف النية لخروجه عن العبادة بما عرض له من الأعذار مما له عنه بد
تنبيه قد علم مما تقرر أن اقتصاره كالمحرر عن استثناء قضاء الحاجة وغسل الجنابة من محل الخلاف ليس بجيد فلو عبر بما قدرته كان أولى واحترز بقوله لا يقطع التتابع عما يقطعه فإنها تجب قطعا
ثم شرع في الركن الرابع وله شروط ذكرها بقوله ( وشرط المعتكف الإسلام والعقل والنقاء عن الحيض ) والنفاس ( والجنابة ) فلا يصح اعتكاف كافر ومجنون ومبرسم وسكران ومغمى عليه ومن لا تمييز له لعدم صحة نيتهم ولا حائض ونفساء وجنب لحرمة مكثهم في المسجد وقضية ذلك أن كل من حرم مكثه في المسجد كذي جراح وقروح واستحاضة ونحوها إذا لم يكن حفظ المسجد منها لا يصح اعتكافه
وهو كذلك وإن قال الأذرعي هذا موضع نظر
نعم لو اعتكف في مسجد وقف على غيره دونه صح اعتكافه فيه وإن حرم عليه لبثه فيه كما لو تيمم بتراب مغصوب وقس على هذا ما يشبهه
تنبيه محل عدم صحة اعتكاف المغمى عليه في الابتداء أما لو طرأ عليه في أثناء اعتكافه فإنه لا يبطل ويحسب زمنه من اعتكافه كما سيأتي في كلامه
ويصح اعتكاف الصبي المميز والرقيق والزوجة لكن لا يجوز إلا بإذن من السيد للرقيق ومن الزوج للزوجة لأن منفعة العبد مستحقة لسيده والتمتع مستحق للزوج وإن حقهما على الفور بخلاف الاعتكاف
نعم إن لم يفوتا عليهما منفعة كأن حضر ل المسجد بإذنهما فنويا الاعتكاف فإنه يجوز ويكره لذوات الهيئة كما في خروجهن للجماعة وللزوج إخراج الزوجة وللسيد إخراج الرقيق من التطوع وإن اعتكفا بإذنهما لما مر وكذا من النذر إلا إن أذنا فيه وفي الشروع فيه وإن لم يكن زمن الاعتكاف معينا ولا متتابعا أو في أحدهما وزمن الاعتكاف معين وكذا إن أذنا في الشروع فيه فقط وهو متتابع وإن لم يكن زمنه معينا فلا يجوز لهما إخراجهما في الجميع لإذنهما في الشروط مباشرة أو بواسطة لأن الإذن في النذر المعين إذن في الشروع فيه والمعين لا يجوز تأخيره والمتتابع لا يجوز الخروج منه لما فيه من إبطال العبادة الواجبة بلا عذر ولو نذر العبد اعتكاف زمن معين بإذن سيده ثم انتقل عنه إلى غيره ببيع أو وصية أو إرث فله الاعتكاف بغير إذن المنتقل إليه لأنه صار مستحقا قبل تمكنه ومثله الزوجة لكن إن جهل المشتري فله الخيار في فسخ البيع
ويجوز اعتكاف المكاتب بغير إذن سيده إذ لا حق للسيد في منفعته فهو كالحر وإن قال القاضي صوره أصحابنا بما لا يخل بكسبه لقلة زمنه أو لإمكان كسبه في المسجد كالخياطة وأما المبعض فهو كالقن إن لم يكن مهايأة وإلا فهو في نوبته كالحر وفي نوبة سيده كالقن
( ولو ارتد المعتكف أو سكر ) متعديا ( بطل ) اعتكافه في زمن ردته وسكره لعدم أهليته أما غير المتعدي فيشبه كما قال الأذرعي أنه كالمغمى
____________________
(1/454)
عليه
( والمذهب بطلان ما مضى من اعتكافهما المتتابع ) فلا بد من استئنافه لأن ذلك أشد وأقبح من الخروج من المسجد بلا عذر وهو يقطع التتابع كما سيأتي
والثاني لا يبطل في المسألتين فيبنيان أما في الردة فترغيبا في الإسلام وأما في السكر فإلحاقا بالنوم
والثالث وهو المنصوص يبني المرتد لأنه لا يمنع من المسجد ولهذا تجوز استتابته فيه ولا يبني السكران لأنه يمنع منه للآية
والرابع يبني السكران دون المرتد لأن السكر كالنوم والردة تنافي العبادة
تنبيه المراد بالبطلان عدم البناء عليه لا حبوطه بالكلية ولهذا قال الشارح من حيث التتابع
وهذا في السكران وأما المرتد فقد نص الشافعي على أن الردة لا تحبط الثواب إن لم تتصل بالموت وإن اتصلت به فهي محبطة للعمل بنص القرآن
فإن قيل ثني المصنف الضمير في اعتكافهما والأولى إفراده لأن المعطوف هنا ب أو وقد أتى به بعد ذلك مفردا حيث عبر بقوله إن لم يخرج أجيب بأن المعطوف ب أو هو الفعل والضمير ليس عائدا عليه وإنما هو عائد على المرتد والسكران المفهومين من لفظ الفعل وقد تقدم ما يدل عليهما فصح عود الضمير عليهما
( ولو طرأ جنون أو إغماء ) على المعتكف ( لم يبطل ما مضى ) من اعتكافه المتتابع ( إن لم يخرج ) بالبناء للمفعول من المسجد لأنه معذور بما عرض له فإن أخرج من تعذر ضبطه في المسجد لم يبطل أيضا كما لو حمل العاقل مكرها وكذا إن أمكن بمشقة على الصحيح فهو كالمريض فكان ينبغي ترك التقييد بعد الخروج لاستواء حكمهما
أما لو طرأ ذلك بسبب لا يعذر فيه كالسكر فإنه ينقطع اعتكافه كما نقله في الكفاية عن البندنيجي في الجنون وبحثه الأذرعي في الإغماء
( ويحسب زمن الإغماء من الاعتكاف ) المتتابع كما في الصائم إذا أغمي عليه بعض النهار ( دون ) زمن ( الجنون ) فلا يحسب منه لأن العبادة البدنية لا تصح منه
( أو ) طرأ ( الحيض ) أو النفاس على معتكفه ( وجب ) عليها ( الخروج ) من المسجد لتحريم المكث عليها ( وكذا الجنابة ) بما لا يبطل الاعتكاف كالاحتلام ( إذا ) طرأ على المعتكف و ( تعذر ) عليه ( الغسل في المسجد ) فيجب عليه الخروج منه لحرمة مكثه فيه
ولو احتاج إلى التيمم لفقد الماء أو غيره فالظاهر كما بحثه بعض المتأخرين وجوب الخروج له مع إمكانه في المسجد بغير ترابه لأنه يتضمن لبثا إلى إكمال التيمم فإن أمكنه أن يتيمم مارا من غير مكث ولا تردد لم يجب الخروج لأن المرور لا يحرم على الجنب
( فلو أمكنه ) الغسل فيه بلا مكث ( جاز ) له ( الخروج ولا يلزمه ) الخروج لأجل الغسل بل له فعله في المسجد مراعاة للتتابع
نعم إن كان مستجمرا بالحجر ونحوه وجب عليه الخروج ولا يجوز إزالة النجاسة في المسجد
وكذا يجب عليه الخروج إذا كان يحصل بالغسالة ضرر للمسجد أو للمصلين كما قال ذلك بعض المتأخرين ويلزمه أن يبادر بالغسل لئلا يبطل تتابع اعتكافه
( ولا يحسب زمن الحيض ) والنفاس ( ولا ) زمن ( الجنابة ) من الاعتكاف إن اتفق المكث معها في المسجد لعذر أو غيره لمنافاة ما ذكر للاعتكاف
وسيأتي آخر الباب تفصيل في أن الحائض هل تبني على ما مضى من اعتكافها أو لا
وأما المستحاضة فإن أمنت التلويث لم تخرج من اعتكافها فإن خرجت بطل
فصل في حكم الاعتكاف المنذور
( إذا نذر مدة متتابعة ) كقوله لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعة ( لزمه ) التتابع فيها إن صرح به لفظا لأنه وصف مقصود لما فيه من المبادرة إلى الباقي عقب الإتيان ببعضه
ولا يلزمه في هذه الأيام اعتكاف الليالي المتخللة بينها إلا أن ينويها فتلزمه لأنها لا تدخل في مسمى الأيام ولو نذر بلفظه التفريق لم يلزمه وجاز له التتابع على الأصح
فإن قيل إذا نذر في الصوم التتابع أو التفريق لزمه فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الصوم يجب فيه التفريق في حالة وهي صوم التمتع فكان مطلوبا فيه التفريق بخلاف الاعتكاف لم يطلب فيه
____________________
(1/455)
التفريق أصلا وقول الغزالي إنه لو نوى أياما معينة كسبعة أيام متفرقة أولها غدا أنه يتعين التفريق إنما يأتي على طريقته من أن النية تؤثر كاللفظ وسيأتي أنها لا تؤثر على الأصح
( والصحيح ) وعبر في الروضة بالمذهب ( أنه لا يجب التتابع بلا شرط ) لكن يسن لأن لفظ الأسبوع مثلا يصدق على المتتابع والمتفرق فلا يجب أحدهما بخصوصه إلا بدليل والثاني يجب كما لو حلف لا يكلم فلانا شهرا فإنه يكون متتابعا وفرق الأول بأن المقصود من اليمين الهجران ولا يتحقق بدون التتابع وقضية كلامه أنه إذا لم يشترط التتابع لا يجب وإن نواه وهو الأصح كما قالاه تبعا للبغوي كأصل النذر وإن اختار السبكي اللزوم وصوبه الإسنوي
فإن قيل إنه إذا نوى اعتكاف الليالي المتخللة في هذه الأيام أنها تلزمه كما مر مع أن فيه وقتا زائدا فوجوب التتابع أولى لأنه مجرد وصف
أجيب بأن التتابع ليس من جنس الزمن المذكور بخلاف الليالي بالنسبة للأيام ولا يلزم من إيجاب الجنس بنية التتابع إيجاب غيره بها وحكم الأيام مع نذر الليالي كحكم الليالي مع نذر الأيام فيما مر
( و ) الصحيح وعبر في الروضة بالأصح ( أنه لو نذر يوما لم يجز تفريق ساعاته ) من أيام لأن المفهوم من لفظ اليوم أن يكون متصلا
قال الخليل اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس
والثاني يجوز تنزيلا للساعات من اليوم منزلة الأيام من الشهر
ومحل الخلاف ما لم يعين يوما فإن عينه لم يجز التفريق قطعا
ولو دخل المسجد في أثناء النهار وقت الظهر مثلا وخرج بعد الغروب ثم عاد قبل الفجر ومكث إلى مثل ذلك الوقت فعلى الخلاف فإن لم يخرج بالليل أجزأه عند الأكثرين لحصول التتابع بالبيتوتة في المسجد
وهذا هو المعتمد وإن قال أبو إسحاق إنه لا يجزىء وقال الشيخان إنه الأوجه لأنه لم يأت بيوم متواصل الساعات والليلة ليست من اليوم
ولو نذر يوما أوله من أثناء يوم أوله وقت الظهر مثلا امتنع عليه الخروج ليلا باتفاق الأصحاب
واستشكلا منع خروجه ليلا بأن الليلة لم يلتزمها قالا والقياس أن يجعل فائدة تقييده في هذه القطع بجواز التفريق لا غير
( و ) الصحيح وعبر في الروضة بالأصح ( إنه لو عين مدة كأسبوع ) عينه ( وتعرض للتتابع ) فيها لفظا ( وفاتته لزمه التتابع في القضاء ) به لالتزامه إياه والثاني لا يلزمه لأن التتابع يقع ضرورة فلا أثر لتصريحه به
ولو لم يعين الأسبوع لم يتصور فيه فوات لأنه على التراخي
( وإن لم يتعرض له ) أي التتابع ( لم يلزمه في القضاء ) جزما لأن التتابع فيه لم يقع مقصودا بل من ضرورة تعين الوقت فأشبه التتابع في شهر رمضان
ولو نذر اعتكاف شهر مثلا دخلت لياليه لأنه عبارة عن الجميع إلا أن يستثنيها لفظا أما لو استثناها بقلبه فإنه لم يؤثر كما لا يلزمه الاعتكاف بنيته
فإن قيل إنه إذا نوى دخولها بقلبه أنه يؤثر كما مر
أجيب بأن في ذلك احتياطا للعبادة في الموضعين وبأن الغرض من النية هناك ما قد يراد من اللفظ وهذا إخراج ما شمله اللفظ
ولو نذر اعتكاف يوم معين ففاته فقضاه ليلا أجزأه بخلاف اليوم المطلق لقدرته على الوفاء بنذره بصفته الملتزمة بخلافه في المعين كنظيره في الصلاة في القسمين حكاه في المجموع عن المتولي وأقره
ولو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم ليلا فلا شيء عليه لعدم وجود الصفة وقياس نظيره في الصوم ندب اعتكاف يوم شكرا لله كما قاله شيخنا
فإن قدم نهارا أجزأه البقية منه ولا يلزمه قضاء ما مضى منه لأن الوجوب إنما ثبت من حين القدوم لصحة الاعتكاف في بعض اليوم بخلاف الصوم لكن الأفضل أن يقضي يوما كاملا كما نقله في المجموع عن المزني وهذا هو المعتمد كما جزم به ابن المقري وإن صحح في المجموع في موضع آخر لزوم قضائه وهو مقتضى كلام أصلي الروضة في باب النذر
ومحل ذلك إذا قدم حيا مختارا فلو قدم به ميتا أو قدم مكرها فلا شيء عليه كما قاله الصيمري
فإن قيل إذا قدم مكرها فقد حصل المقصود للناذر لأنه جعل اعتكافه شكرا لله على حضور غائبه عنده وقد وجد
أجيب بأنه علق الحكم بالقدوم وقدوم المكره غير معتبر شرعا ولو قال لله علي أن أعتكف العشر الأخير دخلت لياليه حتى الليلة الأولى ويجزئه وإن نقص الشهر لأن هذا الاسم يقع على ما بعد العشرين إلى آخر الشهر بخلاف قوله عشرة أيام من آخر الشهر وكان ناقصا لا يجزئه لأنه جرد القصد إليها فيلزمه أن يعتكف بعده يوما
ويسن في هذه كما في المجموع أن يعتكف يوما قبل العشر لاحتمال
____________________
(1/456)
نقصان الشهر فيكون ذلك اليوم داخلا في نذره لكونه أول العشرة من آخر الشهر
فلو فعل هذا ثم بان النقص قطع البغوي بإجزائه عن قضاء يوم وقال في المجموع يحتمل أن يكون فيه الخلاف فيمن تيقن طهرا وشك في ضده فتوضأ محتاطا فبان محدثا أي فلا يجزئه وهذا هو الظاهر
( وإذا ذكر ) الناذر ( التتابع ) في نذره لفظا ( وشرط الخروج لعارض ) مباح مقصود غير مناف للاعتكاف ( صح الشرط في الأظهر ) وبه قطع الجمهور لأن الاعتكاف إنما لزم بالتزامه فيجب بحسب ما التزمه فإن شرطه لخاص من الأغراض كعيادة المرضى خرج له دون غيره وإن كان غيره أهم منه أو عام كشغل يعرض له خرج لكل مهم ديني كالجمعة والجماعة أو دنيوي مباح كلقاء السلطان والقاضي واقتضاء الغريم والثاني يلغو الشرط لمخالفته لمقتضى التتابع
وخرج بقوله شرط الخروج لعارض ما لو شرط قطع الاعتكاف له فإنه وإن صح لكنه لا يجب عليه العود عند زوال العارض بخلاف ما لو شرط الخروج للعارض فإنه يجب العود
وبقوله لعارض ما لو قال إلا أن يبدو لي فإن الشرط باطل على الأصح لأنه علقه بمجرد الخيرة وذلك يناقض الالتزام وكذا النذر كما قاله البغوي وهو الأشبه في الشرح الصغير ولم يصرحا في الروضة وأصلها بترجيح وبقولي مباح ما لو شرطه لعارض محرم كسرقة وبمقصود ما لو شرطه لغير مقصود كنزهة وبغير مناف للاعتكاف ما لو شرطه لمناف له كالجماع كأن قال إن اخترت جامعت أو إن اتفق لي جماع جامعت فإنه لا ينعقد نذره كما صرحوا به في المحرم والجماع ومثلهما البقية
وقد علم مما ذكر ما في عبارة المصنف من الإجحاف
( والزمان المصروف إليه ) أي العارض المذكور ( لا يجب تداركه إن عين المدة كهذا الشهر ) لأن المنذور من الشهر إنما هو اعتكاف ما عدا العارض
( وإلا ) بأن لم يعين مدة كشهر مطلق ( فيجب ) تداركه أي الزمن المصروف للعارض لتتم المدة الملتزمة وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك العارض منزلة قضاء الحاجة في أن التتابع لا ينقطع به
( وينقطع التتابع ) أيضا ( بالخروج ) من المسجد بكل بدنه أو بما اعتمد عليه من الرجلين أو اليدين أو الرأس قائما أو منحنيا أو من العجز قاعدا أو من الجنب مضطجعا ( بلا عذر ) من الأعذار الآتية وإن قل زمنه لمنافاته اللبث لأنه في مدة الخروج المذكور غير معتكف وهذا في العامد العام بالتحريم المختار
( ولا يضر ) في تتابع الاعتكاف ( إخراج بعض الأعضاء ) من المسجد كرأسه أو يده لأنه لا يسمى خارجا ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله أي تسرحه وهو معتكف في المسجد
ولو أخرج إحدى رجليه واعتمد عليهما لم يضر لأن الأصل عدم الخروج فإن أخرجهما واعتمد عليهما ضر وإن كان رأسه داخلا
( ولا ) يضر ( الخروج لقضاء الحاجة ) بالإجماع لأنه ضروري ولو كثر لعارض ولا يشترط فيها لضرورة وإذا خرج لا يكلف الإسراع بل يمشي على سجيته
فلو تأتى أكثر من ذلك بطل كما في زيادة الروضة عن البحر
ويجوز له أن يتوضأ بعد قضائها خارج المسجد تبعا لها مع أنه لا يجوز الخروج له منفردا إن كان تجديدا وكذا عن حدث على الأصح إذا أمكنه في المسجد
تنبيه اقتصار المصنف على قضاء الحاجة قد يوهم أنه لا يجوز له الخروج لغيرها وليس مرادا بل يجوز لغسل الجنابة وإزالة النجاسة كرعاف وكذا الأكل على الأصح لأن الأكل في المسجد يستحيا منه وإن أمكنه الأكل فيه كما مر بخلاف الشرب إذا وجد الماء فيه
ويؤخذ من العلة أن الكلام في مسجد مطروق بخلاف المختص لمنفعتها ولو مستعارة والمهجور وبه صرح الأذرعي وهو ظاهر
فإن خرج للشرب مع وجود الماء في المسجد أو لتجديد وضوء انقطع تتابعه والظاهر كما قال شيخنا أن الوضوء المندوب لغسل الاحتلام مغتفر كالتثليث في الوضوء الواجب
( ولا يجب فعلها في غير داره ) المستحق لمنفعتها ولو مستعارة كسقاية المسجد ودار صديق له بجوار المسجد لما في ذلك من المشقة وخرم المروءة وتزيد دار الصديق بالمنة بها
نعم من لا يحتشم من السقاية يكلفها كما صرح به القاضي حسين
____________________
(1/457)
وكذا إن كانت السقاية مصونة مختصة بالمسجد كما بحثه بعض المتأخرين
( ولا يضر بعدها ) أي داره المذكورة عن المسجد مراعاة لما سبق من المشقة والمنة
( إلا أن يفحش ) البعد وضابطه كما قاله البغوي أن يذهب أكثر الوقت في التردد إليها مع وجود مكان لائق بطريقه أو يكون له دار أخرى أقرب منها
( فيضر في الأصح ) لأنه قد يحتاج في عوده إليها إلى البول فيمضي يومه في الذهاب والإياب ولاغتنائه بالأقرب من داريه
فإن لم يجد في طريقه مكانا أو وجده ولم يلق به أن يدخله لم يضر فحش البعد
والثاني لا يضر هذا الفحش مطلقا لما سبق من مشقة الدخول لقضاء الحاجة في غير داره
ولا يجوز الخروج لنوم ولا لغسل جمعة أو عيد كما ذكره الخوارزمي
( ولو عاد مريضا ) أو زار قادما ( في طريقه ) لقضاء حاجته ( لم يضر ما لم يطل وقوفه ) بأن لم يقف أصلا أو وقف وقفة يسيرة كأن اقتصر على السلام والسؤال
( أو ) لم ( يعد إلى عن طريقه ) بأن كان المريض أو القادم فيها لقول عائشة رضي الله تعالى عنها إني كنت أدخل البيت للحاجة أي التبرز والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة رواه مسلم
وفي سنن أبي داود مرفوعا عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو يسأل عنه ولا يعرج
فإن طال وقوفه عرفا أو عدل عن طريقه وإن قل ضر ولو صلى في طريقه على جنازة فإن لم ينتظرها ولم يعدل إليها عن طريقه جاز وإلا فلا
( ولا ينقطع التتابع ب ) خروجه ل ( مرض يحوج إلى الخروج ) أي إذا خرج لأن الحاجة داعية إليه كالخروج لقضاء الحاجة
وفي قول أنه ينقطع لأن المرض ليس بضروري ولا غالب بخلاف قضاء الحاجة
وهذا القول يؤخذ من قول المحرر في أظهر القولين وأهمله المصنف
والمحوج إلى الخروج هو الذي يشق المقام معه في المسجد لحاجة فرش وخادم وتردد طبيب أو بأن يخاف منه تلويث المسجد كإسهال وإدرار بول بخلاف مرض لا يحوج إلى الخروج كصداع وحمى خفيفة فينقطع التتابع بالخروج له
وفي معنى المرض المذكور الخوف من لص أو حريق
( ولا ) ينقطع التتابع ( بحيض إن طالت مدة الاعتكاف ) بأن كانت لا تخلو عنه غالبا كشهر كما مثل به الروياني ومثل في المجموع بأكثر من خمسة عشر يوما واستشكله الإسنوي بأن الثلاثة والعشرين تخلو عن الحيض غالبا لأن غالب الحيض ست أو سبع والغالب أن الشهر الواحد لا يكون فيه إلا طهر واحد وحيضة واحدة اه
ويمكن حمل عبارة المجموع على الزيادة على ما ذكر فتبني على ما سبق إذا طهرت لأنه بغير اختيارها
( فإن كانت ) مدة الاعتكاف ( بحيث تخلو عنه ) أي الحيض ( انقطع ) التتابع ( في الأظهر ) لإمكان الموالاة بشروعها عقب الطهر والثاني لا ينقطع لأن جنس الحيض مما يتكرر في الجملة فلا يؤثر في التتابع كقضاء الحاجة والنفاس كالحيض كما نبه عليه في المجموع
( ولا ) ينقطع التتابع ( بالخروج ) من المسجد ( ناسيا ) لاعتكافه ( على المذهب ) المقطوع به كما صححه في المجموع إن تذكر عن قرب كما لا يبطل الصوم بالأكل ناسيا
وقيل ينقطع لأن مشاهدة مكان الاعتكاف مذكرة له فيبعد معها النسيان بخلاف الصوم فإن طال فهو كالأكل الكثير ناسيا وتقدم الخلاف فيه وأن الراجح عند المصنف أنه لا يضر والجاهل الذي يخفى عليه ذلك كالناسي
ولو حمل وأخرج مكرها لم يضر وكذا لوأكره فخرج بنفسه في الأظهر إن كان الإكراه بغير حق فإن كان بحق وهو مماطل به أو اعتكف العبد أو الزوجة بغير إذن فأكره على الخروج فإنه يبطل اعتكافه لتقصيره
وفي معنى الإكراه خوفه من ظالم أو خوف غريم له وهو معسر ولا بينة فلا ينقطع التتابع لعذره
ولو خرج لأداء شهادة تعين عليه حملها وأداؤها لم ينقطع تتابعه لاضطراره إلى الخروج وإلى سببه بخلاف ما إذا لم يتعين عليه أحدهما أو تعين أحدهما دون الآخر لأنه إن لم يتعين عليه الأداء فهو مستغن عن الخروج وإلا فتحمله لها إنما يكون للأداء فهو باختياره ومحل هذا كما قال شيخنا إذا تحمل بعد الشروع في الاعتكاف وإلا فلا ينقطع التتابع كما لو نذر صوم الدهر
____________________
(1/458)
ففوته الصوم كفارة لزمته قبل النذر ولا يلزمه القضاء
ولو خرج لإقامة حد ثبت عليه بالبينة لم ينقطع تتابعه بخلاف ما إذا ثبت بإقراره
ولو خرجت المعتكفة لقضاء عدة لا بسببها ولا في مدة إذن زوجها لها في الاعتكاف لم ينقطع التتابع وإن كانت مختارة لنكاح لأن النكاح لا يباشر للعدة بخلاف تحمل الشهادة إنما يكون للأداء كما مر
فإن كانت العدة بسببها كأن علق طلاقها بمشيئتها فقالت وهي معتكفة شئت أو قدر زوجها مدة لاعتكافها فخرجت قبل تمامها فإن تتابعها ينقطع
( ولا ) ينقطع التتابع ( بخروج المؤذن الراتب إلى منارة ) بفتح الميم للمسجد ( منفصلة عن المسجد ) قريبة منه ( للأذان في الأصح ) لأنها مبنية له معدودة من توابعه وقد اعتاد الراتب صعودها وألف الناس صوته فيعذر فيه ويجعل زمن الأذان كالمستثنى من اعتكافه
والثاني ينقطع مطلقا للاستغناء عنها بسطح المسجد فيؤذن عليه
والثالث يجوز للراتب وغيره لأنها مبنية للمسجد معدودة من توابعه
وعلى الأول لو خرج غير الراتب للأذان أو خرج الراتب لغيره أو له لكن إلى منارة ليست للمسجد أو له لكن بعيدة عنه انقطع التتابع
واحترز المصنف بالمنفصلة عن منارة بابها في المسجد أو في رحبته فلا يضر صعودها مطلقا ولو كانت خارجة عن سمت البناء وتربيعه وتكون حينئذ في حكم المسجد كمنارة مبنية في المسجد مالت إلى الشارع فيصح الاعتكاف فيها
وإن كان المعتكف في هواء الشارع ولو اتخذ للمسجد جناح إلى الشارع فاعتكف فيه إنسان لم يصح كما قاله بعض المتأخرين خلافا للزركشي في قوله بالصحة
وقضية التعليل أنها لو بنيت لغيره أنه لم يخرج لها قريبة كانت أو بعيدة وهو كذلك
نعم إن بنيت لمسجد متصل بمسجد الاعتكاف جاز له الخروج إليها تبعا بناء على أن المساجد المتصلة حكمها حكم المسجد الواحد وخرج بالقريبة البعيدة فينقطع الخروج لها التتابع
ولم يتعرضوا لحد البعيدة وضبطه بعضهم بأن تكون خارجة عن جوار المسجد وجاره أربعون دارا من كل جانب
وقال بعض آخر يحتمل ضبط البعيدة بما جاوز حريم المسجد
اه
والظاهر أن مرجع ذلك إلى العرف
( ويجب قضاء أوقات الخروج ) من المسجد من نذر اعتكاف متتابع ( بالأعذار ) السابقة التي لا ينقطع بها التتابع كوقت أكل وحيض ونفاس واغتسال جنابة لأنه غير معتكف فيها
( إلا أوقات قضاء الحاجة ) ونحوها مما يطلب له الخروج ولم يطل زمنه عادة كغسل جنابة وأذان راتب وأكل فلا يجب قضاؤها لأنها مستثناة معتكف فيها ولذا قال الإسنوي اقتصار المصنف على استثناء قضاء الحاجة تبع فيه الرافعي ولم أعلم أحدا قال بذلك بعد الفحص الشديد بخلاف ما يطول زمنه كمرض وعدة وتقدم أن الزمن المصروف إلى ما شرط من عارض في مدة معينة لا يجب تداركه
خاتمة لو أحرم المعتكف بالحق وخشي فوته قطع الاعتكاف ولم يبن بعد فراغه من الحق على اعتكافه الأول فإن لم يخش فوته أتم اعتكافه ثم خرج لحجه ولو نذر اعتكاف شهر بعينه فبان أنه انقضى قبل نذره لم يلزمه شيء لأن اعتكاف شهر قد مضى محال
وهل الأفضل للمتطوع الخروج لعيادة المريض أو دوام الاعتكاف قال الأصحاب هما سواء وقال ابن الصلاح إن الخروج لها مخالف للسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرج لذلك وكان اعتكافه تطوعا
وقال البلقيني ينبغي أن يكون موضع التسوية في عيادة الأجانب
أما ذو الرحم والأقارب والأصدقاء والجيران فالظاهر أن الخروج لعيادتهم أفضل لا سيما إذا علم أنه يشق عليهم وعبارة القاضي الحسين مصرحة بذلك وهذا هو الظاهر
كتاب الحج بفتح أوله وكسره لغة القصد كما قاله الجوهري
وقال الخليل كثرة القصد إلى من يعظم
وشرعا قصد الكعبة
____________________
(1/459)
للنسك الآتي بيانه كما قاله في المجموع
وقال في الكفاية هو قصد الأفعال الآتية وتقدم في باب صلاة النفل عن القاضي حسين أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن
وقال الحليمي الحج يجمع معاني العبادات كلها فمن حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا وبين ذلك ولأنا دعينا إليه ونحن في أصلاب الآباء كالإيمان الذي هو أفضل العبادات
ولكن تقدم أن الراجح أن الصلاة أفضل منه
وهو من الشرائع القديمة روي أن آدم عليه الصلاة والسلام لما حج قال له جبريل إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت بسبعة آلاف سنة
وقال صاحب التعجيز إن أول من حج آدم عليه الصلاة والسلام وأنه حج أربعين سنة من الهند ماشيا
وقيل ما من نبي إلا حجه
وقال أبو إسحاق لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا وقد حج البيت
وادعى بعض من ألف في المناسك أن الصحيح أنه لم يجب إلا على هذه الأمة
( هو فرض ) أي مفروض لقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } الآية
ولحديث بني الإسلام على خمس ولحديث حجوا قبل أن لا تحجوا قالوا وكيف نحج قبل أن لا نحج قال أن تقعد العرب على بطون الأودية يمنعون الناس السبيل
وهو إجماع يكفر جاحده إن لم يخف عليه
واختلفوا متى فرض فقيل قبل الهجرة حكاه في النهاية
والمشهور أنه بعد الهجرة وعلى هذا قيل فرض في السنة الخامسة من الهجرة وجزم به الرافعي في الكلام على أن الحج على التراخي وقيل في السنة السادسة وصححاه في كتاب السير ونقله في المجموع عن الأصحاب وهذا هو المشهور
وقيل في الثامنة حكاه في الأحكام السلطانية
وقيل في التاسعة حكاه في الروضة وصححه القاضي عياض
وقيل في العاشرة قال بعضهم وهو غلط وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر يحج كل سنة ولا يجب بأصل الشرع إلا مرة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد فرض الحج إلا مرة واحدة وهي حجة الوداع ولخبر مسلم أحجنا هذا لعامنا أم للأبد قال لا بل للأبد
وأما حديث البيهقي الآمر بالحج كل خمسة أعوام فمحمول على الندب لقوله صلى الله عليه وسلم من حج حجة أدى فرضه ومن حج ثانية داين ربه ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبشره على النار قيل إن رجلا قتل وأوقد عليه النار طول الليل فلم تعمل فيه وبقي أبيض البدن فسألوا سعدون الخولاني عن ذلك فقال لعله حج ثلاث حجج قالوا نعم
وقد يجب أكثر من مرة لعارض كنذر وقضاء عند إفساد التطوع
( وكذا العمرة ) فرض ( في الأظهر ) لقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } أي ائتوا بهما تامين ولخبر ابن ماجة والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال نعم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
وأما خبر الترمذي عن جابر سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي قال لا وأن تعتمر خير لك فضعيف
قال في المجموع اتفق الحفاظ على ضعفه ولا يغتر بقول الترمذي فيه حسن صحيح
وقال ابن حزم إنه باطل
قال أصحابنا ولو صح لم يلزم منه عدم وجوبها مطلقا لاحتمال أن المراد ليست واجبة على السائل لعدم استطاعته قال وقوله أن تعتمر بفتح الهمزة والعمرة بضم العين مع ضم الميم وإسكان وبفتح العين وإسكانها الميم لغة الزيارة وقيل القصد إلى مكان عامر ولذلك سميت عمرة وقيل سميت بذلك لأنها تفعل في العمر كله و شرعا قصد الكعبة للنسك الآتي بيانه
ولا يغنى عنها الحج وإن اشتمل عليها ويفارق الغسل حيث يغني عن الوضوء بأن الغسل أصل فأغنى عن بدله والحج والعمرة أصلان
فائدة النسك إما فرض عين وهو على من لم يحج بالشروط الآتية
وإما فرض كفاية وهو إحياء الكعبة كل سنة بالحج والعمرة
وإما تطوع ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان إذ فرض الكفاية لا يتوجه إليهم لكن لو تطوع منهم من يحصل به الكفاية سقط الفرض عن المخاطبين كما بحثه بعض المتأخرين قياسا على الجهاد وصلاة الجنازة
ويسن لمن وجب عليه الحج أو العمرة أن لا يؤخر ذلك عن سنة إلا مكان مبادرة إلى براءة ذمته ومسارعة إلى الطاعات قال تعالى { فاستبقوا الخيرات }
وإن أخر بعد التمكن وفعله قبل أن يموت لم يأثم لأنه
____________________
(1/460)
صلى الله عليه وسلم أخره إلى السنة العاشرة بلا مانع وقيس به العمرة لكن التأخير إنما يجوز بشرط العزم على الفعل في المستقبل كما مر بيانه في الصلاة وأن لا يتضيق بنذر أو قضاء أو خوف عضب فلو خشي من وجب عليه الحج أو العمرة العضب حرم عليه التأخير لأن الواجب الموسع إنما يجوز تأخيره بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله
قال في المجموع قال المتولي ومثله من خشي هلاك ماله
( وشرط صحته ) أي ما ذكر من حج أو عمرة ( الإسلام ) فقط فلا يصح من كافر أصلى أو مرتد لعدم أهليته للعبادة ولو ارتد في أثناء نسكه بطل في الأصح فلا يمضي في فاسده
وعبارة الكتاب ليست صريحة في نفي اشتراط ما عدا الإسلام ولذلك قيدته ب فقط مع أن المحرر قد صرح به فقال ولا يشترط لصحة الحج للشخص إلا الإسلام وقول الأذرعي من شروط الصحة أيضا الوقت والنية ممنوع في النية فإن النية من الأركان
وأما الوقت أي اتساعه ففيه خلاف يأتي ولا يشترط في صحة ما ذكر تكليف
( فللولي ) في المال ولو وصيا وقيما بنفسه وبمأذونه وإن لم يؤد الولي نسكه أو أحرم به
( أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز ) لما رواه مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فرفعت امرأة إليه صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر وفي رواية أبي داود فأخذت بعضد صبي ورفعته من محفتها وجه الدلالة منه أن الصبي الذي يحمل بعضده ويخرج من المحفة لا تميز له
( و ) أن يحرم عن ( المجنون ) قياسا على الصبي خلافا لكثير من العراقيين القائلين بالمنع وإن نقله الأذرعي عن الجمهور واختاره وفرق بأن الصبي من نوع من يصح عبادته فينوي الولي بقلبه جعل كل منهما محرما أو يقول أحرمت عنه
ولا يشترط حضورهما ولا مواجهتهما بالإحرام ولا يصير الولي بذلك محرما
وللولي أن يحرم عن المميز أيضا وإن أفهمت عبارته خلافه فلو عبر بقوله ولو لم يميز أو ميز كان أولى
وله أن يأذن له في الإحرام ولا يصح إحرامه بغير إذن وليه كما سيأتي
والمراد بالصبي والمجنون الجنس الصادق بالذكر والأنثى وأفهم كلام المصنف أنه لا يجوز لغير الولي كالجد مع وجود الأب الإحرام عمن ذكر وهو الصحيح
وأجابوا عما يوهمه الحديث السابق من جواز إحرام الأم عنه باحتمال أنها كانت وصية أو أن الأجر الحاصل لها إنما هو أجر الحمل والنفقة إذ ليس في الحديث تصريح بأنها التي أحرمت به أو أن الولي أذن لها فإن للولي أن يأذن لمن يحرم عن الصبي كما علم مما مر وصرح به في زيادة الروضة
ولو أحرم به الولي ثم أعطاه لمن يحضره الحج صح بلا خلاف وحيث صار الصبي غير المميز محرما فعلى الولي المذكور به وكذا بالمجنون ما لا يتأتى منه
ولا يكفي فيه فعل الولي فقط بل لا بد من استصحابه معه فيطوف به ويسعى ولكن يركع عنه ركعتي الإحرام والطواف فإن أركبه الولي في الطواف والسعي فليكن سائقا أو قائدا للدابة فإن لم يفعل لم يصح طوافه
قال الإسنوي والمتجه الجزم بوجوب طهارة الخبث وستر العورة في الطواف وقضيته أنه لا يشترط طهارة الحدث وهو الموافق لما مر في صفة الوضوء لكن قال الماوردي ينبغي أن يكون الولي والصبي متوضئين فيه
فإن كان الصبي متوضئا دون الولي لم يجزه أو بالعكس فوجهان
وكأنه اغتفر صحة وضوء غير المميز للضرورة كما اغتفرت صحة طهر المجنونة التي انقطع حيضها لتحل لحليلها المسلم
ويؤخذ من التشبيه أن الولي ينوي عنه وهذا هو الظاهر
ويحضر الولي من ذكر المواقف وجوبا في الواجبة وندبا في المندوبة
فإن قدر من ذكر على الرمي رمى وجوبا فإن عجز عن تناول الأحجار ناولها له وليه
فإن عجز عن الرمي استحب للولي أن يضع الحجر في يده ثم يرمي به بعد رميه عن نفسه فإن لم يكن رمى عن نفسه وقع الرمي عن نفسه وإن نوى به الصبي
ولو فرط الصبي في شيء من أعمال الحج كان وجوب الدم في مال الولي
ويجب عليه منعه من محظورات الإحرام فإن ارتكب منها شيئا وهو مميز وتعمد فعل ذلك فالفدية في مال الولي في الأظهر أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظورا على أحد
والنفقة الزائدة بسبب السفر في مال الولي في الأصح لأنه المورط له في ذلك وهذا بخلاف ما لو قبل للمميز نكاحا إذ المنكوحة قد تفوت والنسك يمكن تأخيره إلى البلوغ
وفارق ذلك أجرة تعليمه ما ليس بواجب حيث وجبت في مال الصبي بأن مصلحة التعليم كالضرورة لأنه إذا لم يفعلها الولي في الصغر احتاج
____________________
(1/461)
الصبي إلى استدراكها بعد بلوغه بخلاف الحج وبأن مؤنة التعليم يسيرة غالبا
وإذا جامع الصبي في حجه فسد وقضى ولو في الصبا كالبالغ المتطوع بجامع صحة إحرام كل منهما فيعتبر فيه لفساد حجه ما يعتبر في البالغ من كونه عامدا عالما بالتحريم مختارا مجامعا قبل التحللين
قال الأصحاب ويكتب للصبي ثواب ما عمل من الطاعات ولا يكتب عليه معصية بالإجماع
تنبيه تقييد المصنف بالصبي والمجنون يفهم أنه لا يصح الإحرام عن المغمى عليه وهو كذلك
وسكت الشيخان عن الإحرام عن العبد وقال الإمام إن كان بالغا فليس للسيد أن يحرم عنه ومفهومه الجواز في الصغير قال ابن الرفعة والقياس أن يكون كتزويجه اه
وظاهره عدم الصحة
وقال الإسنوي رأيت في الأم الجزم بالصحة من غير تقييد بالصغير ثم ساق كلام الأم ويمكن حمل كلامه على الصغير فيتوافق الكلامان وهذا هو المعتمد
( وإنما تصح مباشرته من المسلم المميز ) ولو صغيرا ورقيقا كسائر العبادات البدنية
ويشترط إذن الولي للصغير الحر وإذن السيد للصغير الرقيق فإن لم يأذنا لهما واستقلا بالإحرام لم يصح على الأصح وقيل يصح ولكن لهما تحليلهما فلا تصح مباشرة مجنون وصبي غير مميز
( وإنما يقع عن حجة الإسلام ) وعمرته ( بالمباشرة ) أو النيابة ( إذا باشره ) المسلم المكلف أي البالغ العاقل ( الحر ) وإن لم يكلف بالحج والمراد المكلف في الجملة لا بالحج ولهذا قال ( فيجزىء حج الفقير ) وكل عاجز إذا جمع الحرية والتكليف كما لو تكلف المريض حضور الجمعة أو الغني خطر الطريق وحج
تنبيه قوله بالمباشرة تقييد مضر فإنه يشترط في وقوع الحج عن فرض الإسلام أن يكون الذي باشره مكلفا سواء أكان الحج للمباشر أم كان نائبا عن غيره كما قدرته في كلامه كالميت والمعضوب
ولو تكلف الفقير الحج وأفسده ثم قضاه كفاه عن حجة الإسلام ولو تكلف أو أحرم بنفل وقع عن فرضه أيضا فلو أفسده ثم قضاه كان الحكم كذلك
( دون ) حج ( الصبي والعبد ) إذا كملاه بعده بالإجماع كما نقله ابن المنذر ولقوله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى رواه البيهقي بإسناد جيد كما في المجموع والمعنى فيه أن الحج وظيفة العمر لا يتكرر فاعتبر وقوعه في حال الكمال
فإن كملا قبل الوقوف أو في أثنائه وأدركا بعد الكمال زمنا يعتد بمثله لا الوقوف أو بعده وعادا قبل فوات الوقوف أجزأهما لأنهما أدركا معظم العبادة فصار كإدراك الركوع وأعاد السعي منهما من كان قد سعى بعد القدوم لوقوعه في حال النقصان ويخالف الإحرام فإنه مستدام بعد الكمال
ويؤخذ من ذلك أنه يجزئه عن فرضه أيضا إذا تقدم الطواف أو ألحق وأعاده بعد إعادة الوقوف وظاهر أنه تجب إعادته لتبين وقوعه في غير محله ولو كمل من ذكر في أثناء الطواف كان ككماله قبله كما في المجموع أي وأتى بما مضى قبل كماله بل ينبغي أنه لو كمل بعده ثم أعاده أنه يكفي كما لو أعاد الوقوف بعد الكمال كما يؤخذ من قول ابن المقري في روضه والطواف في العمرة كالوقوف في الحج اه
قال الإسنوي وينبغي إذا كان عوده بعد الطواف أنه يجب عليه إعادته ثانيا كالسعي ولم أر المسألة مصرحا بها اه
وهو حسن
ووقوع الكمال في أثناء العمرة على هذا التفصيل أيضا والطواف فيها كالوقوف في الحج ولا دم على من ذكر بإتيانه الإحرام بعد الكمال وإن لم يعد إلى الميقات كاملا لأنه أتى بما في وسعه ولا إساءة عليه وحيث أجزأ من ذكر ما أتى به عن حجة الإسلام وعمرته وقع إحرامه أولا تطوعا وانقلب بعد الكمال فرضا على الأصح في المجموع في الصبي والرقيق والمجنون إذا حج عنه وليه ثم أفاق كبلوغ الصبي فيما ذكر كما في الكفاية وجزم به الإسنوي وغيره وإن كان في عبارة الروضة ما يوهم اشتراط الإفاقة عند الإحرام
( وشرط ) أي وشروط ( وجوبه ) أي ما ذكر من حج أو عمرة ( الإسلام والتكليف والحرية والاستطاعة ) بالإجماع وقال تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فلا يجب على كافر أصلي وجوب مطالبة به في الدنيا حتى لو أسلم وهو معسر بعد استطاعته في الكفر فإنه لا أثر لها بخلاف المرتد فإن النسك يستقر في
____________________
(1/462)
ذمته باستطاعته في الردة
ولا على غير مكلف كسائر العبادات ولا على من فيه رق لأن منافعه مستحقة فليس مستطيعا ولا على غير المستطيع لمفهوم الآية
وقد علم مما ذكر في الحج والعمرة أن لكل منهما خمس مراتب الصحة المطلقة وصحة المباشرة والوقوع عن النذر والوقوع عن فرض الإسلام والوجوب
فيشترط مع الوقت الإسلام وحده للصحة ومع التمييز للمباشرة ومع التكليف للنذر ومع الحرية لوقوعه عن حجة الإسلام وعمرته ومع الاستطاعة للوجوب
( وهي ) أي الاستطاعة ( نوعان أحدهما استطاعة مباشرة ) لحج أو عمرة بنفسه ( ولها شروط ) سبعة غالبها يؤخذ من قول المتن ولكن المصنف عدها أربعة فقال ( أحدها وجود الزاد ) الذي يكفيه ( وأوعيته ) حتى السفرة ( ومؤنة ) أي كلفة ( ذهابه ) لمكة ( وإيابه ) أي رجوعه منها إلى بلده وإن لم يكن له فيها أهل وعشيرة
( وقيل إن لم يكن له ببلده ) بهاء الضمير ( أهل ) أي من تلزمه نفقتهم كالزوجة والقريب ( وعشيرة ) أي أقاربه ولو كانوا من جهة الأم أي لم يكن له واحد منهما ( لم يشترط ) في حقه ( نفقة الإياب ) لأن البلاد كلها بالنسبة إليه سواء
والأصح الأول لما في الغربة من الوحشة والوجهان جاريان أيضا في الراحلة للرجوع
تنبيه يدخل في المؤنة الزاد وأوعيته
فلو اقتصر على المؤنة أغنى عنهما فهو من عطف العام على بعض أفراده
ولو قال أهل أو عشيرة كما في الروضة لأغنى عما قدرته وكان أولى لأن وجود أحدهما كاف في الجزم باشتراط نفقة الإياب
ومحل الخلاف إذا لم يكن له ببلده مسكن وما إذا كان له في الحجاز حرفة تقوم بمؤنته وإلا اشترطت نفقة الإياب بلا خلاف
ولو عبر بمؤنة الإياب لكان أولى ليشمل الصور التي زدتها ونحوها
قال الرافعي ولم يتعرضوا للمعارف والأصدقاء لتيسر استبدالهم
( فلو ) لم يجد ما ذكر ولكن ( كان يكتسب ) في سفره ( ما يفي بزاده ) وباقي مؤنة ( وسفره طويل ) مرحلتان فأكثر ( لم يكلف الحج ) ولو كان يكسب في يوم كفاية أيام لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض وبتقدير عدم الانقطاع فالجمع بين تعب السفر والكسب فيه مشقة عظيمة
( وإن قصر ) السفر كأن كان بمكة أو على دون مرحلتين منها ( وهو يكتسب في يوم كفاية أيام ) أي أيام الحج ( كلف ) الحج بأن يخرج له لقلة المشقة حينئذ بخلاف ما إذا كان يكسب في كل يوم ما يفي به فقط فلا يكلف لأنه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحج
وقدر في المجموع أيام الحج بما بين زوال سابع ذي الحجة وزوال ثالث عشره وهو في حق من لم ينفر النفر الأول فإن لم يجد زادا واحتاج أن يسأل الناس كره له اعتمادا على السؤال إن لم يكن له كسب وإلا منع بناء على تحريم المسألة للمكتسب كما بحثه الأذرعي
ولو كان يقدر في الحضر على أن يكتسب في يوم ما يكفيه لذلك اليوم وللحج فهل يلزمه الاكتساب قال الإسنوي تفقها إذا كان السفر قصيرا لزمه لأنهم إذا ألزموه به في السفر ففي الحضر أولى وإن كان طويلا فكذلك لانتفاء المحذور اه
والمتجه كما قال بعض المتأخرين خلافه في الطويل لأنه إذا لم يجب الاكتساب لإيفاء حق الآدمي فلإيجاب حق الله تعالى بل لإيفائه أولى
والواجب في القصير إنما هو الحج لا الاكتساب فقد نقل الخوارزمي الإجماع على أن اكتساب الزاد والراحلة ليس بواجب وظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الحضر والسفر وأنه لا فرق في السفر بين القصير والطويل
( الثاني من شروط الاستطاعة ( وجود الراحلة ) الصالحة لمثله بشراء أو استئجار بثمن أو أجرة المثل ( لمن بينه وبين مكة مرحلتان ) فأكثر قدر على المشي أم لا لكن يستحب للقادر على المشي الحج خروجا من خلاف من أوجبه
وقضية كلام الرافعي أنه لا فرق في استحباب المشي بين الرجل والمرأة
قال في المهمات وهو كذلك وهذا هو المعتمد وإن قال القاضي حسين لا يستحب للمرأة الخروج ماشية لأنها عورة وربما تظهر للرجال إذا كانت ماشية
وعلى الأول
____________________
(1/463)
لوليها منعها كما قاله في التقريب
والركوب لواجد الراحلة أفضل عند المصنف خلافا للرافعي اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يركب على قتيب أو رحل لا محمل وهودج
والراحلة والهاء فيها للمبالغة وهي الناقة التي تصلح لأن ترحل
ومراد الفقهاء بها كل ما يركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى
قال المحب الطبري وفي معنى الراحلة كل دابة أعتيد الحمل عليها في طريقه من برذون أو بغل أو حمار
وإنما اعتبروا مسافة القصر هنا من مبدأ سفره إلى مكة لا إلى الحرم عكس ما اعتبروه في حاضر المسجد الحرام في المتمتع رعاية لعدم المشقة فيهما
( فإن لحقه بالراحلة مشقة شديدة ) وضبطها الشيخ أبو حامد بما يوازي ضرره الضرر الذي بين الركوب والمشي
وعبر غيره بما يخشى منه المرض
قال الإمام وهما متقاربان بأن لا خلاف بينهما فيما أظن
قال الأذرعي وفيه وقفة للمتأمل أو كان أنثى وإن لم يتضرر بها ومثلها الخنثى
( اشترط وجود محمل ) بفتح ميمه الأولى وكسر الثانية بخط مؤلفه وقيل عكسه وهو الخشبة التي يركب فيها ببيع أو إجارة بعوض مثل دفعا للضرر في حق الرجل ولأنه أستر للأنثى وأحوط للخنثى
قال الأذرعي ويحسن الضبط في حق الأنثى بما جرت به عادتها أو عادة أمثالها في سفرها الدنيوي وغاية الرفق أن يسلك بالعبادة مسلك العادة فإن كثيرا من نساء الأعراب والأكراد والتركمان كالرجال فإن الواحدة منهن تركب الخيل في السفر الطويل بلا مشقة اه
ومع هذا فالستر منها مطلوب فإن لحق من ذكر في ركوب المحمل المشقة المذكورة اعتبر في حقه الكنيسة وهي أعواد مرتفعة في جوانب المحمل يكون عليها ستر دافع للحر والبرد
( واشترط شريك ) أيضا مع وجود المحمل ( يجلس في الشق الآخر ) لتعذر ركوب شق لا يعاد له شيء فإن لم يجده لم يلزمه النسك وإن وجد مؤنة المحمل بتمامه أو كانت العادة جارية في مثله بالمعادلة بالأثقال كما هو ظاهر كلام الأصحاب وإن خالف بعضهم في ذلك لما عليه في ذلك من المشقة
ويسن أن يكون لمريد النسك رفيق موافق راغب في الخير كاره للشر إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ويحمل كل منهما صاحبه ويرى له عليه فضلا وحرمة وإن رأى رفيقا عالما دينا كان ذاك هو الفضل العظيم
وروى ابن عبد البر ابتغ الرفيق قبل الطريق فإن عرض لك أمر نصرك وإن احتجت إليه رفدك
( ومن بينه وبينها ) أي مكة ( دون مرحلتين وهو قوي على المشي يلزمه الحج ) لعدم المشقة فلا يعتبر في حقه وجود الراحلة ما يتعلق بها
وأشعر تعبيره بالمشي أنه لا يلزمه الحبو أو الزحف وإن أطاقهما وهو كذلك
( فإن ضعف ) عن المشي بأن عجز أو لحقه ضرر ظاهر ( فكالبعيد ) عن مكة فيشترط في حقه وجود الراحلة وما يتعلق بها
( ويشترط كون ) ما ذكر من ( الزاد والراحلة ) مع المحمل والشريك ( فاضلين عن دينه ) حالا كان أو مؤجلا سواء أكان لآدمي أم لله تعالى كنذر وكفارة
ولو كان له في ذمة شخص مال فإن أمكن تحصيله في الحال فكالحاصل عنده وإلا فكالمعدوم
( و ) عن ( مؤنة ) أي كلفة ( من عليه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه ) لئلا يضيعوا وقد قال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ولا بد أن يكون ذلك فاضلا عن دست ثوب يليق به ويؤخذ ذلك من قضاء الدين لتقدمه عليه
تنبيه تعبير المصنف بالمؤنة يشمل النفقة والكسوة والخدمة والسكنى وإعفاف الأب وكذا أجرة الطبيب وثمن الأدوية حيث احتاج إليها القريب والمملوك فهي أولى من تعبير المحرر بالنفقة ولكن كان الأولى أن يقول من عليه مؤنتهم لأنه قد يقدر على النفقة فلا تجب على قريبه دون المؤنة فتجب وكلام الشيخين قد يوهم جواز الحج عند فقد مؤنة من عليه نفقته لأنهما جعلا ذلك شرطا للوجوب
قال الإسنوي وليس كذلك بل لا يجوز حتى يترك لهم نفقة الذهاب والإياب وإلا فيكون مضيعا لهم قاله في الاستذكار وغيره
( والأصح اشتراط كونه ) أي ما سبق جميعه
____________________
(1/464)
( فاضلا ) أيضا ( عن مسكنه ) اللائق به المستغرق لحاجته ( و ) عن ( عبد ) يليق به و ( يحتاج إليه لخدمته ) لمنصب أو عجز كما يستعان في الكفارة وعلى هذا لو كان معه نقد يريد صرفه إليهما مكن منه
والثاني لا يشترط بل يباعان قياسا على الدين
ومحل الخلاف إذا كانت الدار مستغرقة لحاجته وكانت سكنى مثله والعبد يليق به كما قررت به كلام المصنف
فأما إذا أمكن بيع بعض الدار ولو غير نفيسة ووفى ثمنه بمؤنة الحج وكانا نفيسين لا يليقان بمثله ولو أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج فإنه يلزمه ذلك جزما ولو كانا مألوفين بخلافه في الكفارة لا يلزمه بيعهما في هذه الحالة لأن لها بدلا
والأمة كالعبد ولو كانت للمتمتع
قال الإسنوي وكلامهم يشمل المرأة المكفية بإسكان الزوج وإخدامه وهو متجه لأن الزوجية قد تنقطع فتحتاج إليهما وكذا المسكن للمتفقهة الساكنين ببيوت المدارس والصوفية بالربط ونحوهما اه
والأوجه ما قاله ابن العماد من أن هؤلاء مستطيعون لاستغنائهم في الحال فإنه المعتبر ولهذا تجب زكاة الفطر على من كان غنيا ليلة العيد وإن لم يكن معه ما يكفيه في المستقبل
ويؤيد ذلك أنهم لما تكلموا على استحباب الصدقة بما فضل عن حاجته قال الزركشي هناك إن المراد بالحاجة حاجة اليوم والليلة كما اقتضاه كلام الغزالي في الإحياء فلم يعتبروا حاجته في المستقبل
ويشترط كون ما ذكر فاضلا أيضا عن كتب العالم إلا أن يكون له من تصنيف واحد نسختان فيبيع إحداهما وحكم خيل الجندي وسلاحه ككتب الفقيه كما قاله ابن الأستاذ وهذان يجريان في الفطرة
والحاجة إلى النكاح لا تمنع الوجوب لكن الأفضل لخائف العنت تقديم النكاح ولغيره تقديم النسك
( و ) الأصح ( أنه يلزمه صرف مال تجارته إليهما ) أي الزاد والراحلة وما يتعلق بهما ويلزم من له مستغلات يحصل منها نفقته أن يبيعها ويصرفها لما ذكر في الأصح كما يلزمه صرف ما ذكر في دينه ويخالف المسكن والخادم فإنه يحتاج إليهما في الحال وما نحن فيه من إنما يتخذ ذخيرة للمستقبل والثاني لا يلزمه ما ذكر لئلا يلتحق بالمساكين
وإطلاق المصنف وغيره يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون له كسب أو لا وهو كذلك وإن قال الإسنوي فيه بعده قال في الإحياء من استطاع الحج ولم يحج حتى أفلس فعليه الخروج إلى الحج وإن عجز للإفلاس فعليه أن يكتسب قدر الزاد فإن عجز فعليه الخروج ويسأل الزكاة والصدقة ويحج فإن لم يفعل ومات مات عاصيا
( الثالث ) من شروط الاستطاعة ( أمن الطريق ) ولو ظنا في كل مكان بحسب ما يليق به ( فلو خاف ) في طريقه ( على نفسه ) أو عضوه أو نفس محترمة معه أو عضوها ( أو ماله ) ولو يسيرا وينبغي كما قال بعض المتأخرين تقييده بما لا بد منه للنفقة والمؤن
أما إذا أراد استصحاب مال خطير للتجارة وكان الخوف لأجله فليس بعذر
( سبعا أو عدوا أو رصديا ) بفتح الصاد المهملة وسكونها وهو من يرصد أي يرقب من يمر ليأخذ منه شيئا
( ولا طريق ) له ( سواء لم يجب الحج ) عليه لحصول الضرر
والمراد بالأمن الأمن العام حتى لو كان الخوف في حقه وحده قضى من تركته كما نقله البلقيني عن النص
وجزم في الكفاية بأنه إذا كان الخوف في حق الواحد والنفر القليل لم يمنع الوجوب ولا فرق في الذي يخاف منه بين المسلمين والكفار لكن إن كانوا كفارا وأطاق الخائفون مقاومتهم سن لهم أن يخرجوا للنسك ويقاتلوهم لينالوا ثواب النسك والجهاد وإن كانوا مسلمين لم يسن لهم الخروج والقتال
فإن قيل إذا كان الكفار مثلينا أو أقل لم لا يجب قتالهم كما صرحوا به في باب السير لأنه يحرم انصرافنا عنهم حينئذ أجيب بأن ذلك عند التقاء الصفين وهذا بخلافه
ويكره بذل المال للرصدي لما فيه من التحريض على التعرض للناس سواء أكان مسلما أم كافرا
فإن قيل قد قيدوا تخصيص الكراهة في باب الإحصار بالكافر
أجيب بأن محلها هناك بعد الإحرام وبذل المال على المحرم أسهل من قتال المسلمين وهذا قبله فلم تكن حاجة لارتكاب الذل وعارض الكراهة هناك استمرار البقاء على الإحرام
نعم إن كان المعطي هو الإمام أو نائبه وجب الحج نقله المحب الطبري عن الإمام
قال في المهمات وسكت عن الأجنبي والقياس عدم الوجوب للمنة اه
وهذا هو الظاهر خلافا لابن العماد
أما إذا كان له طريق آخر آمن فإنه يلزمه سلوكه وإن كان أبعد من الأول
( والأظهر )
____________________
(1/465)
وعبر في الروضة بالمذهب ( وجوب ركوب البحر ) بسكون الحاء ويجوز فتحها لمن لا طريق له وغيره ولو امرأة
( إن غلبت السلامة ) في ركوبه كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة فإن غلب الهلاك أو استوى الأمر إن لم يجب بل يحرم في الأول قطعا وفي الثاني على الصحيح في زيادة الروضة والمجموع لما فيه من الخطر
والثاني لا يجب مطلقا لما فيه من الخوف والخطر وتعسر دفع عوارضه
والثالث يجب مطلقا لإطلاق الأدلة
وقيل يجب على الرجل دون المرأة وإذا لم نوجب ركوبه وجوزناه استحب للرجل دون المرأة على الأصح وإذا لم نجوزه فركبه لعارض فإن كان ما بين يديه أكثر مما قطعه فله الرجوع إلى وطنه أو ما بين يديه أقل أو تساويا فلا رجوع له بل يلزمه التمادي لقربه من مقصده في الأول واستواء الجهتين في حقه في الثاني
وهذا بخلاف جواز تحلل المحرم إذا أحاط به العدو لأن المحصر محبوس وعليه في مصابرة الإحرام مشقة بخلاف راكب البحر نعم إن كان محرما كان كالمحصر
فإن قيل كيف يصح القول بوجوب الذهاب ومنعه من الانصراف مع أن الحج على التراخي أجيب بأن صورة المسألة فيمن خشي العضب أو أحرم بالحج وضاق وقته أو نذر أن يحج تلك السنة أو أن المراد بذلك استقرار الوجوب هذا إن وجد بعد الحج طريقا آخر في البر وإلا فله الرجوع لئلا يتحمل زيادة الخطر بركوب البحر في رجوعه
قال الأذرعي وما ذكروه من الكثرة والتساوي المتبادر منه النظر إلى المسافة وهو صحيح عند الاستواء في الخوف في جميع المسافة أما لو اختلف فينبغي أن ينظر إلى الموضع المخوف وغيره حتى لو كان أمامه أقل مسافة لكنه أخوف أو هو المخوف لا يلزمه التمادي وإن كان أقل مسافة ولكنه سليم وخلف المخوف وراءه لزمه ذلك اه
وهو بحث حسن
ولا خطر في الأنهار العظيمة كجيحون وسيحون والدجلة فيجب ركوبها مطلقا إذا تعين طريقا لأن المقام فيها لا يطول والخطر فيها لا يعظم لأن جانبها قريب يمكن الخروج إليه سريعا بخلاف البحر
قال الأذرعي وكان التصوير فيما إذا كان يقطعها عرضا أما لو كان السير فيها طولا فهي في كثير من الأوقات كالبحر وأخطر اه
وهو كما قال خصوصا أيام زيادة النيل وقد قال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج }
( و ) الأظهر ( أنه يلزمه أجرة البذرقة ) وهي بموحدة مفتوحة وذال ساكنة معجمة ومهملة عجمية معربة الخفارة لأنها أهبة من أهب الطريق مأخوذة بحق فكانت كأجرة الدليل إذا لم يعرف الطريق إلا به
والمراد أنه إذا وجد من يأخذ منه أجرة المثل ويخفره بحيث يأمن معه في غالب الظن وجب استئجاره على الأصح كما في الروضة وغيرها عن الإمام وصححه ابن الصلاح وقال السبكي إنه ظاهر في الدليل وإن كانت عبارة الأكثرين مشعرة بخلافه
والثاني وأجاب به العراقيون والقاضي وجزم به في التنبيه وأقره المصنف في تصحيحه ونقله ابن الرفعة عن النص لا تلزمه لأنها خسران لدفع الظلم فأشبه التسليم إلى الظالم فلا يجب الحج مع طلبها
ومع هذا فالمعتمد الأول
تنبيه تبع المصنف المحرر في حكاية الخلاف في هذه المسألة قولين ولكن الذي في المجموع والروضة كأصلها وجهان
( ويشترط ) في وجوب النسك ( وجود الماء والزاد في المواضع المعتاد حمله منها بثمن المثل ) فإن لم يوجدا أو أحدهما كأن كان عام جدب وخلا بعض المنازل من أهلها أو انقطعت المياه أو وجد بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه النسك لأنه إن لم يحمل ذلك معه خاف على نفسه وإن حمله عظمت المؤنة إلا أن تكون زيادة يسيرة فتغتفر
ولا يجري فيه الخلاف في شراء الماء للطهارة لأن الطهارة لها بدل بخلاف الحج قاله الدميري
( وهو ) أي ثمن المثل ( القدر اللائق به في ذلك الزمان والمكان ) وإن غلت الأسعار
قال الرافعي ويجب حمل الماء والزاد بقدر ما جرت العادة به في طريق مكة كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة وحمل الماء من مرحلتين أو ثلاث
قال الأذرعي وكان هذا عادة طريق العراق وإلا فعادة الشام حمله غالبا بمفازة تبوك وهي ضعف ذلك اه
وكذا عادة أهل مصر حمله إلى العقبة
____________________
(1/466)
والضابط العرف والظاهر اختلافه باختلاف النواحي
( و ) وجود ( علف الدابة ) بفتح اللام ( في كل مرحلة ) لأن المؤنة تعظم بحمله لكثرته
قال في المجموع وينبغي اعتبار العادة كالماء قال الأذرعي وغيره وهو متعين وإلا لما لزم آفاقيا الحج أصلا فإن عدم شيئا مما ذكر في بعض الطريق جاز له الرجوع ولو جهل المانع وثم أصل استحب وإلا وجب الخروج
ويتبين لزوم الخروج بتبين عدم المانع فلو ظن كون الطريق فيه مانع فترك الخروج ثم بان أن لا مانع لزمه النسك
ويشترط أيضا كما في التنبيه أن يكون قد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من السير المعتاد لأداء النسك وهذا هو المعتمد كما نقله الرافعي عن الأئمة وإن اعترضه ابن الصلاح بأنه يشترط لاستقراره لا لوجوبه فقد صوب المصنف ما قاله الرافعي وقال السبكي إن نص الشافعي أيضا يشهد له
ولا بد من وجود رفقة يخرج معهم في الوقت الذي جرت عادة أهل بلده الخروج فيه وأن يسيروا السير المعتاد فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج بحيث لا يصلون إلى مكة إلا بأكثر من مرحلة في كل يوم أو كانوا يسيرون فوق العادة لم يلزمه الخروج هذا إن احتاج إلى الرفقة لدفع الخوف فإن أمن الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها لزمه ولا حاجة للرفقة ولا نظر إلى الوحشة بخلافها فيما مر في التيمم لأنه لا بدل لما هنا بخلافه ثم
( و ) يشترط ( في ) وجوب نسك ( المرأة ) زائدا على ما تقدم في الرجل ( أن يخرج معها زوج أو محرم ) لها بنسب أو غيره ( أو نسوة ) بكسر النون وضمها جميع امرأة من غير لفظها ( ثقات ) لأن سفرها وحدها حرام وإن كانت في قافلة لخوف استمالها وخديعتها ولخبر الصحيحين لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم وفي رواية فيهما لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم
ولم يشترطوا في الزوج والمحرم كونهما ثقتين كما قالوا نسوة ثقات وهو في الزوج واضح
وأما في المحرم فسببه كما في المهمات أن الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي
وكالمحرم عبدها الأمين والممسوح
وشرط العبادي في المحرم أن يكون بصيرا ويقاس به غيره
وينبغي كما قاله بعض المتأخرين عدم الاكتفاء بالصبي إذ لا يحصل لها معه الأمن على نفسها إلا في مراهق ذي وجاهة بحيث يحصل معه الأمن لاحترامه
وأفهم تقييده في النسوة بالثقات أنه لا يكفي غير الثقات وهو ظاهر في غير المحارم لعدم الأمن وأنه يعتبر بلوغهن وهو ظاهر لخطر السفر إلا أن يكن مراهقات
فيظهر الإكتفاء بهن كما قاله بعض المتأخرين وأنه يعتبر ثلاث غيرها
قال الإسنوي وهو بعيد لا معنى له بل المتجه الاكتفاء بأقل الجمع وهو ثلاث
وقال الأذرعي قضية كلام الأكثرين الإكتفاء بالمرأتين لأنهن يصرن ثلاثا ولا شك فيه عند من يكتفي باجتماع نسوة لا محرم لإحداهن كما هو الأصح اه
وهذا ظاهر لانقطاع الأطماع عنهن عند اجتماعهن
ولا يجب الخروج مع امرأة واحدة
تنبيه ما جزم به المصنف من اشتراط النسوة هو شرط للوجوب أما الجواز فيجوز لها أن تخرج لأداء حجة الإسلام مع المرأة الثقة على الصحيح في شرحي المهذب ومسلم
قال الإسنوي فافهمهما فإنهما مسألتان إحداهما شرط وجوب حجة الإسلام والثانية شرط جواز الخروج لأدائها وقد اشتبهتا على كثير حتى توهموا اختلاف كلام المصنف في ذلك
وكذا يجوز لها الخروج وحدها إذا أمنت وعليه حمل ما دل من الأخبار على جواز السفر وحدها
أما حج التطوع وغيره من الأسفار التي لا تجب فليس للمرأة أن تخرج إليه مع امرأة بل ولا مع النسوة الخلص كما قاله في المجموع وصححه في أصل الروضة لكن لو تطوعت بحج ومعها محرم فمات فلها إتمامه قاله الروياني
ولها الهجرة من بلاد الكفر وحدها
ويشترط في الخنثى المشكل محرم من الرجال أو النساء لا أجنبيات كذا نقله في المجموع في باب الأحداث عن أبي الفتوح وأقره
قال الإسنوي وما قاله في الأجنبيات لا يستقيم فإن الصحيح المشهور جواز خلوة الرجل بنسوة وقد ذكره هو قبيل هذا بقليل على الصواب
قال الأذرعي والأمرد الجميل إذا خاف على نفسه ينبغي أن يشترط في حقه ما يأمن معه على نفسه من قريب ونحوه ولم أر فيه نقلا اه
وهذا ظاهر
( والأصح أنه لا يشترط وجود محرم ) أو زوج كما في المجموع ( لإحداهن ) لما مر
والثاني يشترط لأنه قد ينو بهن أمر فيستعن
____________________
(1/467)
به
( و ) الأصح ( أنه يلزمها أجرة المحرم إذا لم يخرج ) معها ( إلا بها ) إذا كانت أجرة المثل كأجرة البذرقة وأولى باللزوم لأن الداعي إلى التزام هذه المؤنة معني فيها فأشبه مؤنة الحمل المحتاج إليه
وأجرة الزوج كالمحرم كما صرح به في الحاوي الصغير
وفي أجرة النسوة نظر للإسنوي والمتجه إلحاقهن بالمحرم
وليس للمرأة حج التطوع إلا بإذن الزوج وكذا السفر للفرض في الأصح ولو امتنع محرمها في الخروج بالأجرة لم يجبر كما قاله الرافعي في باب حد الزنا
نعم لو كان عبدها محرما لها كان لها إجباره وكذا لا يجبر الزوج
قال الأذرعي نعم إن كان قد أفسد حجها ووجب عليه الإحجاج بها لزمه ذلك بلا أجرة
فإن قيل ما فائدة لزوم الأجرة عليها مع أن الحج على التراخي أجيب بأن فائدة ذلك التقضية بعد الموت ووجب القضاء عنها من تركها أو تكون نذرت الحج في سنة معينة أو خشيت العضب فإن لم تقدر المرأة عليها لم يلزمها النسك
( الرابع ) من شروط الاستطاعة ( أن يثبت على الراحلة ) ولو في محمل ونحوه ( بلا مشقة شديدة ) فمن لم يثبت عليها أصلا أو ثبت في محمل عليها لكن بمشقة شديدة ككبر أو غيره انتفى عنه استطاعة المباشرة ولا تضر مشقة تحتمل في العادة
( وعلى الأعمى الحج ) والعمرة ( إن وجد ) مع ما مر ( قائدا ) يقوده ويهديه عند نزوله ويركبه عند ركوبه
( وهو ) في حقه ( كالمحرم في حق المرأة ) فيأتي فيه ما مر ولو أمكن مقطوع الأطراف الثبوت على الراحلة لزمه بشرط وجود معين له
والمراد بالراحلة هنا البعير بمحمل أو غيره خلاف الراحلة فيما سبق فإنها البعير الخالي عن المحمل
( والمحجور عليه بسفه كغيره ) في وجوب النسك عليه لأنه مكلف فيصح إحرامه وينفق عليه من ماله
( لكن لا يدفع المال إليه ) لئلا يبدده ( بل يخرج معه الولي ) بنفسه إن شاء لينفق عليه في الطريق بالمعروف ( أو ينصب شخصا له ) ثقة ينوب عن الولي ولو بأجرة مثله إن لم يجد متبرعا كافيا لينفق عليه في الطريق بالمعروف والظاهر أن أجرته كأجرة من يخرج مع المرأة
فإن قيل ينبغي إذا قصرت مدة السفر أن يدفع إليه النفقة لقولهم في الوصايا وغيرها إن للولي أن يسلمه نفقة أسبوع فأسبوع إذا كان لا يتلفها
أجيب بأن الولي في الحضر يراقبه فإن أتلفها أنفق عليه بخلاف السفر فربما أتلفها ولا يجد من ينفق عليه فيضيع
قال الأذرعي وغيره هذا إذا أنفق عليه من مال نفسه فإن تبرع الولي بالإنفاق عليه وأعطاه السفيه من غير تمليك فلا منع منه
تنبيه يشترط أن توجد هذه المعتبرات في إيجاب الحج في الوقت
فلو استطاع في رمضان مثلا ثم افتقر في شوال فلا استطاعة وكذا لو افتقر بعد حجهم وقبل رجوع من يعتبر في حقه الذهاب والإياب
( النوع الثاني استطاعة تحصيله ) أي الحج لا بالمباشرة بل ( بغيره فمن مات وفي ذمته حج ) واجب مستقر بأن تمكن بعد استطاعته من فعله بنفسه أو بغيره وذلك بعد انتصاف ليلة النحر ومضى إمكان الرمي والطواف والسعي إن دخل الحاج بعد الوقوف ثم مات أثم ولو شابا وإن لم ترجع القافلة
( وجب الإحجاج عنه ) ولو كان قضاء أو نذرا أو مستأجرا عليه في ذمته وزاد على المحرر قوله ( من تركته ) وهو متعين كما يقضي منها دينه لرواية البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم قال اقضوا دين الله فالله أحق بالوفاء ولفظ النسائي أن رجلا قال يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق بالوفاء فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت فوجب أن يتساويا في الحكم ولأنه إنما جوز له
____________________
(1/468)
التأخير لا التفويت
وإنما لم يأت إذا مات في أثناء وقت الصلاة في وقت يسعها لأن آخر وقتها معلوم فلا تقصير ما لم يؤخره عنه والإباحة في الحج بشرط المبادرة قبل الموت
وإذا مات قبل فعله أشعر الحال بالتقصير واعتبار إمكان الرمي نقله في الروضة عن التهذيب وأقره
قال الإسنوي ولا بد من زمن يسع الحلق أو التقصير بناء على أنه ركن ويعتبر الأمن في السير إلى مكة للطواف ليلا اه
ولو تمكن من الحج سنين فلم يحج ثم مات أو عضب فعصيانه من السنة الأخيرة من سني الإمكان لجواز التأخير إليها فيتبين بعد موته أو عضبه فسقه في السنة الأخيرة بل وفيما بعدها في المعضوب أي إن لم يحج عنه فلا يحكم بشهادته بعد ذلك
وينقض ما شهد به في السنة الأخيرة بل وفيما بعدها في المعضوب إلى ما ذكر كما في نقض الحكم بشهود بان فسقهم
فإن حج عنه الوارث بنفسه أو باستئجار سقط الحج عن الميت ولو فعله الأجنبي جاز ولو بلا إذن كما له أن يقضي دينه بلا إذن ذكر ذلك في المجموع
بخلاف الصوم فلا بد فيه من إذن كما مر لأنه عبادة بدنية محضة بخلاف الحج فإن لم يخلف تركة لم يجب على أحد أن يحج عنه لا على الوارث ولا في بيت المال
فإن لم يتمكن من الأداء بعد الوجوب كأن مات أو جن أو تلف ماله قبل حج الناس لم يقض من تركته على الأصح والعمرة في ذلك كله كالحج
فإن قيل يستثنى من إطلاق المصنف ما لو لزمه الحج ثم ارتد ومات مرتدا فإنه لا يقضي من تركته على الصحيح أو الصواب لأنه لو صح لوقع عنه
أجيب بأن ذلك خرج بقوله من تركته لأنه إذا مات على الردة لا تركة له على الأظهر لأنه تبين زوال ملكه بالردة
( والمعضوب ) بضاد معجمة من العضب وهو القطع كأنه قطع عن كمال الحركة وبصاد مهملة كأنه قطع عصبه
ووصفه المصنف بقوله ( العاجز عن الحج بنفسه ) حالا أو مآلا لكبر أو زمانة أو غير ذلك
وهذه الصفة صفة كاشفة في معنى التفسير للمعضوب وليست خبرا له بل الخبر جملتا الشرط والجزاء في قوله ( إن وجد أجرة من يحج عنه بأجرة المثل ) أي مثل مباشرته أي فما دونها
( لزمه ) الحج بها لأنه مستطيع بغيره لأن الاستطاعة كما تكون بالنفس تكون ببذل المال وطاعة الرجال ولهذا يقال لمن لا يحسن البناء إنك مستطيع بناء دارك إذا كان معه ما يفي ببنائها
وإذا صدق عليه أنه مستطيع وجب عليه الحج للآية وفي الصحيحين أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع
نعم إن كان بمكة أو بينه وبينها دون مسافة القصر لزمه أن يحج بنفسه لقلة المشقة عليه نقله في المجموع عن المتولي وأقره
قال السبكي ولك أن تقول إنه قد لا يمكنه الإتيان به فيضطر إلى الاستنابة اه
وهذا ظاهر
تنبيه لو لم يجد إلا أجرة ماش قيل لا يلزمه الاستئجار إذا كان السفر طويلا كما لا يكلف الخروج ماشيا والأصح اللزوم لأنه لا مشقة عليه في مشي غيره إلا إذا كان أصلا أو فرعا كما يؤخذ مما سيأتي في المطاع
وكلام المصنف قد يفهم أن المعضوب لو استأجر من يحج عنه فحج عنه ثم شفي أنه يجزئه والأصح عدم الإجزاء ولا يقع الحج عنه على الأظهر فلا يستحق الأجير الأجرة كما رجحاه هنا وإن رجحا قبله بيسير أنه يستحق فقد قال في المهمات إن المذكور هنا هو الصواب
( ويشترط كونها ) أي الأجرة السابقة ( فاضلة عن الحاجات المذكورة فيمن حج بنفسه ) وتقدم بيانها
( لكن لا يشترط نفقة العيال ) ولا غيرها من مؤنهم ( ذهابا وإيابا ) لأنه إذا لم يفارق أهله يمكنه تحصيل نفقتهم ونفقته كنفقتهم كما حكاه ابن الرفعة عن البندنيجي وأقره
نعم يشترط كون الأجرة فاضلة عن مؤنتها من نفقة وكسوة وغير ذلك وعن مؤنته يوم الاستئجار ولو عبر بالمؤنة بدل النفقة لكان أولى ليشمل ما زدته
( ولو ) وجد دون الأجرة ورضي به أجير لزمه الاستئجار لأنه مستطيع والمنة فيه ليست كالمنة في المال
فلو لم يجد أجرة و ( بذل ) بالمعجمة أي أعطى له ( ولده أو أجنبي مالا للأجرة لم يجب قبوله في الأصح ) لما في قبول المال من المنة والثاني يجب كبذل الطاعة
والخلاف في الأجنبي مرتب على الخلاف
____________________
(1/469)
في الابن وأولى بأن لا يجب قاله في البيان
والأب كالابن في أصح احتمالين للإمام والاحتمال الآخر أنه كالأجنبي
وعلى الأول لو كان الولد المطيع عاجزا عن الحج أيضا وقدر على أن يستأجر له من يحج وبذل له ذلك وجب على المبذول له كما نقله في الكفاية عن البندنيجي وجماعة
وفي المجموع عن تصحيح المتولي لو استأجر المطيع إنسانا للحج عن المطاع والمعضوب فالمذهب لزومه إن كان المطيع ولدا لتمكنه فإن كان المطيع أجنبيا ففيه وجهان اه
ومقتضى كلام الشيخ أبي حامد لزومه وكلام البغوي عدم لزومه وهو الظاهر كما اعتمده الأذرعي وكلام المصنف يقتضيه
وكالولد في هذا الوالد
( ولو بذل الولد ) وإن سفل ذكرا كان أو أنثى ( الطاعة ) في النسك بنفسه ( وجب قبوله ) وهو الإذن له في ذلك لأن المنة في ذلك ليست كالمنة في المال لحصول الاستطاعة فإن امتنع لم يأذن الحاكم عنه على الأصح لأن الحج مبني على التراخي
( وكذا الأجنبي ) لو بذل الطاعة يجب قبوله ( في الأصح ) لما ذكر
والأب والأم في بذل الطاعة كالأجنبي ومحل اللزوم إذا وثق بهم ولم يكن عليهم حج ولو نذرا وكانوا ممن يصح منهم فرض حجة الإسلام ولم يكونوا معضوبين
ولو توسم الطاعة من واحد منهم لزمه أمره كما يقتضيه كلام الأنوار وغيره ولا يلزم الولد طاعته كما في المجموع بخلاف إعفافه لأنه لا ضرر هنا على الوالد بامتناع ولده من الحج لأنه حق للشرع فإذا عجز عنه لا يأثم ولا يجب عليه بخلافه ثم فإنه لحق الوالد وضرره عليه فهو كالنفقة قاله في المجموع
ولو كان الابن وإن سفل أو الأب وإن علا ماشيا أو كان كل منهما ومن الأجنبي معولا على الكسب أو السؤال ولو راكبا أو كان كل منهما مغرورا بنفسه بأن كان يركب مفازة ليس فيها كسب ولا سؤال لم يلزمه قبول في ذلك لمشقة مشي من ذكر عليه بخلاف مشي الأجنبي
والكسب قد ينقطع والسائل قد يرد والتغرير بالنفس حرام
وتقدم أن القادر على المشي والكسب في يوم كفاية أيام لا يعذر في السفر القصير فينبغي كما قال الأذرعي وجوب القبول في المكي ونحوه
ولو رجع المطيع ولو بعد الإذن له عن طاعته قبل إحرامه جاز لأنه متبرع بشيء لم يتصل به الشروع أو بعده فلا لانتفاء ذلك وإذا رجع في الأولى قبل أن يحج أهل بلده تبينا أنه لم يجب على المطاع
ولو امتنع المعضوب من الاستئجار لمن يحج عنه أو من استنابة المطيع لم يلزمه الحاكم بذلك ولم ينب عنه فيه وإن كان الاستئجار والاستنابة واجبين على الفور في حق من عضب مطلقا في الإنابة وبعد يساره في الاستئجار لأن مبنى الحج على التراخي كما مر ولأنه لا حق فيه للغير بخلاف الزكاة
ولو مات المطيع أو رجع عن الطاعة أو مات المطاع فإن كان بعد إمكان الحج استقر الوجوب في ذمة المطاع وإلا فلا ولو كان له مال أو مطيع ولم يعلم بالمال ولا بطاعة المطيع ثم علم بذلك وجب عليه الحج اعتبارا بما نفس الأمر
وتجوز النيابة في حج التطوع وعمرته كما في النيابة عن الميت إذا أوصى بذلك ويجوز أن يحج عنه بالنفقة وهي قدر الكفاية كما يجوز بالإجارة والجعالة وإن استأجر بها لم يصح لجهالة العوض
ولو قال المعضوب من يحج عني فله مائة درهم فمن حج عنه ممن سمعه أو سمع من أخبر عنها استحقها فإن أحرم عنه اثنان مرتبا استحقها الأول فإن أحرما معا أو جهل السابق منهما مع جهل سبقه أو بدونه وقع حجهما عنهما ولا شيء لهما على القائل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر ولو علم سبق أحدهما ثم نسي فقياس نظائره ترجيح الوقف
ولو كان العوض مجهولا كأن قال من حج عني فله ثوب وقع الحج عنه بأجرة المثل
خاتمة الاستئجار فيما ذكر ضربان استئجار عين واستئجار ذمة فالأول ك استأجرتك لتحج عني أو عن ميتي هذه السنة فإن عين غير السنة الأولى لم يصح العقد وإن أطلق صح وحمل على السنة الحاضرة فإن كان لا يصل إلى مكة إلا لسنتين فأكثر فالأولى من سني إمكان الوصول
ويشترط لصحة العقد قدرة الأجير على الشروع في العمل واتساع المدة له والمكي ونحوه يستأجر في أشهر الحج
الضرب الثاني كقوله ألزمت ذمتك تحصيل حجة ويجوز الاستئجار في هذا الضرب على المستقبل فإن أطلق حمل على الحاضرة فيبطل إن ضاق الوقت ولا يشترط قدرته على السفر لإمكان الاستنابة في إجارة الذمة
ولو قال ألزمت ذمتك لتحج عني بنفسك صح ويكون إجارة عين
ويشترط
____________________
(1/470)
معرفة العاقدين أعمال الحج ولا يجب ذكر الميقات ويحمل عند الإطلاق على الميقات الشرعي
ولو استأجر للقران فالدم على المستأجر فإن شرطه على الأجير بطلت الإجارة
ولو كان المستأجر للقران معسرا فالصوم الذي هو بدل الدم على الأجير لأن بعضه وهو الأيام الثلاثة في الحج والذي في الحج منهما هو الأجير وجماع الأجير مفسد للحج وتنفسخ به إجارة العين لا إجارة الذمة لأنها تختص بزمان وينقلب فيهما الحج للأجير لأن الحج المطلوب لا يحصل بالحج الفاسد فانقلب له كمطيع المعضوب إذا جامع فسد حجه وانقلب له وعليه أن يمضي في فاسده وعليه الكفارة
وعليه في إجارة الذمة أن يأتي بعد القضاء عن نفسه بحج آخر للمستأجر في عام آخر أو يستنيب من يحج عنه في ذلك العام أو في غيره وللمستأجر فيها الخيار في الفسخ على التراخي لتأخر المقصود
ويسقط فرض من حج أو اعتمر بمال حرام كمغصوب وإن كان عاصيا كما في الصلاة في مغصوب أو ثوب حرير
باب المواقيت للنسك زمانا ومكانا جمع ميقات والميقات في اللغة الحد والمراد به ههنا زمان العبادة ومكانها
وقد بدأ بالزمان فقال ( وقت إحرام الحج ) لمكي أو غيره ( شوال وذو القعدة ) بفتح القاف أفصح من كسرها وجمعه ذوات القعدة وسمي بذلك لقعودهم عن القتال فيه
( وعشر ليال ) بالأيام بينها وهي تسعة ( من ذي الحجة ) بكسر الحاء أفصح من فتحها وجمعه ذوات الحجة سمي بذلك لوقوع الحج فيه
وقد فسر ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } بذلك أي وقت الإحرام به أشهر معلومات إذ فعله لا يحتاج إلى أشهر
وأطلق الأشهر على شهرين وبعض شهر تنزيلا للبعض منزلة الكل أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى { أولئك مبرؤون مما يقولون } أي عائشة وصفوان
( وفي ليلة النحر ) وهي العاشرة ( وجه ) أنها ليست من وقته لأن الليالي تبع للأيام ويوم النحر لا يصح فيه الإحرام فكذا ليلته
وظاهر كلامه أنه لا يصح إحرامه بالحج إذا ضاق زمن الوقوف عن إدراكه وبه صرح الروياني قال وهذا بخلاف نظيره في الجمعة لبقاء الحج حجا بفوات الوقوف بخلاف الجمعة
( فلو أحرم به ) أي الحج حلال ( في غير وقته ) كأن أحرم به في رمضان أو أحرم مطلقا ( انعقد ) إحرامه بذلك ( عمرة ) مجزئة عن عمرة الإسلام ( على الصحيح ) وعبر في الروضة بالمذهب سواء أكان عالما أم جاهلا لأن الإحرام شديد التعلق واللزوم فإذا لم يقبل الوقت ما أحرم به انصرف إلى ما يقبله وهو العمرة ولأنه إذا بطل قصد الحج فيما إذا نواه بقي مطلق الإحرام والعمرة تنعقد بمجرد الإحرام كما مر والثاني لا ينعقد عمرة بل يتحلل بعمل عمرة ولا يكون ذلك مجزئا عن عمرة الإسلام كما لو فاته الحج وتحلل بعمل عمرة لأن كل واحد من الزمانين ليس وقتا للحج وخرج بحلال ما لو كان محرما بعمرة ثم أحرم بحج في غير أشهره فإن إحرامه لم ينعقد حجا لكونه في غير أشهره ولا عمرة لأن العمرة لا تدخل على العمرة كما ذكره القاضي أبو الطيب
وإنما عبر المصنف بالصحيح دون المذهب مع أن المسألة ذات طرق إشارة إلى ضعف الخلاف
تنبيه لو أحرم قبل أشهر الحج ثم شك هل أحرم بحج أو عمرة فهو عمرة أو أحرم بحج ثم شك هل كان إحرامه في أشهره أو قبلها قال الصيمري كان حجا لأنه تيقن إحرامه الآن وشك في تقدمه قاله في المجموع
والميقات الزماني للعمرة جميع السنة كما قال ( وجميع السنة وقت لإحرام العمرة ) وجميع أفعالها ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث مرات متفرقات في ذي القعدة أي في ثلاثة أعوام أو أنه اعتمر عمرة في رجب كما رواه ابن عمر وإن أنكرته
____________________
(1/471)
عليه عائشة وأنه قال عمرة في رمضان تعدل حجة وفي رواية لها حجة معي
وروي أنه اعتمر في رمضان وفي شوال فدلت السنة على عدم التأقيت
وقد يمتنع الإحرام بها في أوقات منها ما لو كان محرما بعمرة كما تقدم ومنها ما لو كان محرما بحج فإن العمرة لا تدخل على الحج ومنها ما إذا أحرم بها قبل نفره لاشتغاله بالرمي والمبيت فهو عاجز عن التشاغل بعملها
قال الجويني وليس لنا مسلم مكلف حلال ولا ينعقد إحرامه بالعمرة إلا هذا واعترضه المصنف بأنه لو أحرم بها وهو مجامع لا تنعقد على الصحيح
ويؤخذ من هذا امتناع حجتين في عام واحد وهو إجماع كما نقله القاضي أبو الطيب
وقد يؤخذ منه أيضا صحة إحرامه بالعمرة إذا قصد ترك الرمي والمبيت وليس كذلك
أما إحرامه بها بعد نفره فصحيح وإن كان وقت الرمي بعد النفر الأول باقيا لأن بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي نقله القاضي أبو الطيب عن نص الأم وقال في المجموع لا خلاف فيه
ويسن الإكثار منها ولو في العام الواحد فلا تكره في وقت ولا يكره تكرارها فقد أعمر صلى الله عليه وسلم عائشة في عام مرتين واعتمرت في عام مرتين بعد وفاته وفي رواية ثلاث عمر
قال في الكفاية وفعلها في يوم عرفة ويوم النحر ليس بفاضل كفضله في غيرهما لأن الأفضل فعل الحج فيهما
وحكى الطبري ثلاثة أوجه في الطواف والاعتمار أيهما أفضل ثالثها إن استغرق زمن الاعتمار بالطواف فالطواف أفضل وإلا فالاعتمار
ثم شرع في المكاني فقال ( والميقات المكاني للحج ) ولو بقران ( في حق من بمكة ) من أهلها وغيرهم ( نفس مكة ) للخبر الآتي
( وقيل كل الحرم ) لأن مكة وسائر الحرم في الحرمة سواء فلو أحرم بعد فراقه بنيان مكة ولم يرجع إلى مكة إلا بعد الوقوف كان مسيئا على الوجه الأول دون الثاني
( وأما غيره ) وهو من لم يكن بمكة إذا أراد الحج أخذا مما يأتي
( فميقات المتوجه من المدينة ذو الحليفة ) تصغير الحلفة بفتح المهملة واحد الحلفاء مثل قصبة وقصباء وهو النبات المعروف
قال الشيخان وهو على نحو عشر مراحل من مكة فهي أبعد المواقيت من مكة
وقال الغزالي وهو على ستة أميال من المدينة وصححه في المجموع وغيره
وقيل سبعة
قال في المهمات والصواب المعروف المشاهد أنها على ثلاثة أميال أو تزيد قليلا وهو المعروف الآن بأبيار علي رضي الله تعالى عنه
والأفضل كما قال السبكي لمن هذا ميقاته أن يحرم من المسجد الذي أحرم منه صلى الله عليه وسلم
( و ) المتوجه ( من الشام ) بالهمز والقصر ويجوز ترك الهمز والمد مع فتح الشين ضعيف وأوله كما في صحيح ابن حبان نابلس وآخره العريش
وقال غيره وحده طولا من العريش إلى الفرات وعرضا من جبل طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم وما سامت ذلك من البلاد وهو مذكر على المشهور
( و ) من ( مصر ) وهي المدينة المعروفة تذكر وتؤنث وتصرف ولا تصرف وهو الفصيح وحدها طولا من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة ومسافة ذلك قريب من أربعين يوما وعرضه من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما
سميت باسم من سكنها أولا وهو مصر بن قيصر بن سام بن نوح
( و ) من ( المغرب الجحفة ) وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة
قال في المجموع على نحو ثلاث مراحل من مكة
وقال الرافعي على خمسين فرسخا من مكة
وبينهما تفاوت بعيد والمعروف المشاهد ما قاله الرافعي
سميت بذلك لأن السيل نزل عليها فأجحفها وهي الآن خراب ويقال لها مهيعة بوزن مرتبة ومهيعة بوزن معيشة
( ومن تهامة اليمن ) بكسر التاء اسم لكل من نزل عن نجد من بلاد الحجاز واليمن إقليم معروف
( يلملم ) ويقال له ألملم وهو أصله قلبت الهمزة ياء ويرمرم براءين وهو موضع على مرحلتين من مكة
( ومن نجد اليمن ونجد الحجاز قرن ) بسكون الراء ويقال له قرن المنازل وقرن الثعالب وهو جبل على مرحلتين من مكة ووهم الجوهري في تحريك الراء وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه وإنما هو
____________________
(1/472)
منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم
ونجد في الأصل المكان المرتفع ويسمى المنخفض غورا وإذا أطلق نجد فالمراد نجد الحجاز
( ومن المشرق ) العراق وغيره ( ذات عرق ) وهي قرية على مرحلتين من مكة وقد خربت والعقيق وهو واد فوق ذات عرق لأهل العراق وخراسان أفضل من ذات عرق لأنه أحوط ولما روى ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق رواه الترمذي وحسنه لكن رده في المجموع ففيه ضعف ولهذا لم يجب العمل به لكن يستحب لاحتمال صحته
والأصل في المواقيت خبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة وخبر الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة وخبر النسائي وغيره بإسناد صحيح كما في المجموع أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل العراق ذات عرق
وقيل إن ذات عرق إنما كان باجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه والذي في الشرح والروضة عن ميل الأكثرين أنه بالنص وقال في المجموع إنه الصحيح عند جمهور الأصحاب
والذي في شرح المسند للرافعي مذهب الشافعي أنه باجتهاد عمر ولم يذكر غيره وقال المصنف في شرح مسلم إنه الصحيح وهو ما نص عليه في الأم
والراجح الأول لصحة الحديث المتقدم
ويستثنى من إطلاق المصنف الأجير فإن عليه أن يحرم من ميقات الميت أو المستأجر الذي يحج عنه فإن مر بغير ذلك الميقات أحرم من موضع بإزائه إذا كان أبعد من ذلك الميقات من مكة
حكاه في الكفاية عن الفوراني وأقره
فائدة قال بعضهم سألت أحمد بن حنبل في أي سنة أقت النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الإحرام قال عام حج
( والأفضل أن يحرم من أول الميقات ) وهو الطرف الأبعد من مكة فهو أفضل من الإحرام من وسطه ومن آخره ليقطع الباقي محرما نعم يستثنى ذو الحليفة كما مر
قال الأذرعي وهذا حق إن علم أن ذلك المسجد هو المسجد الموجود آثاره والظاهر أنه هو اه
( ويجوز من آخره ) لوقوع الاسم عليه والعبرة بالبقعة لا بما بني ولو قريبا منها
( ومن سلك طريقا ) في بر أو بحر ( لا ينتهي إلى ميقات ) مما ذكر ( فإن حاذى ) بذال معجمة أي سامت ( ميقاتا ) منها بمفرده يمنة أو يسرة لا من ظهره أو وجهه لأن الأول وراءه والثاني أمامه
( أحرم من محاذاته ) لخبر البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن أهل العراق أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور أي مائل عن طريقنا وإن أردنا قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم عمر ذات عرق ولم ينكر عليه أحد فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد
ويسن له أن يستظهر خلافا للقاضي أبي الطيب حيث أوجبه
( أو ) حاذى ( ميقاتين ) طريقه بينهما أو كانا معا في جهة واحدة ( فالأصح أنه يحرم من محاذاة ) أقربهما إليه وإن كان الآخر أبعد إلى مكة إذ لو كان أمامه ميقات فإنه ميقاته وإن حاذى ميقاتا أبعد فكذا ما هو بقربه فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة ( أبعدهما ) من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أو لا كأن كان الأبعد منحرفا أو وعرا فإن قيل فإذا استويا في القرب إليه فكلاهما ميقات
أجيب بأن ميقاته الأبعد إلى مكة وتظهر فائدته فيما لو جاوزهما مريدا للنسك ولم يعرف موضع المحاذاة ثم رجع إلى الأبعد أو إلى مثل مسافته سقط عنه الدم لا إن رجع إلى الآخر فإن استويا في القرب إليها وإليه أحرم من محاذاتهما إن لم يحاذ أحدهما قبل الآخر وإلا فمن محاذاة الأول ولا ينتظر محاذاة الآخر كما أنه ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة
ومقابل الأصح في كلام المصنف أنه يخير إن شاء أحرم من الموضع المحاذي لأبعدهما وإن شاء لأقربهما
قال الماوردي وهو الصحيح وقول الجمهور لأنه لم يمر على ميقات منصوص عليه فتركه وقد أحرم محاذيا الميقات
( وإن لم يحاذ ) ميقاتا
____________________
(1/473)
مما سبق ( أحرم على مرحلتين من مكة ) إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر
والمراد تقدم المحاذاة في علمه لا في نفس الأمر كما قاله شارح التعجيز لأن المواقيت تعم جهات مكة فلا بد أن يحاذي أحدها
( ومن مسكنه بين مكة والميقات فميقاته ) للنسك ( مسكنه ) قرية كانت أو حلة أو منزلا منفردا فلا يجاوزه حتى يحرم ولا يلزمه الرجوع إلى الميقات لقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر السابق فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ
( ومن بلغ ) يعني جاوز ( ميقاتا ) من المواقيت المنصوص عليها أو موضعا جعلناه ميقاتا وإن لم يكن ميقاتا أصليا ( غير مريد نسكا ثم أراده فميقاته موضعه ) ولا يكلف العود إلى الميقات للخبر السابق
( ومن بلغه ) أي وصل إليه ( مريدا ) نسكا ( لم تجز مجاوزته ) إلى جهة الحرم ( بغير إحرام ) بالإجماع ويجوز إلى جهة اليمنة أو اليسرة ويحرم من مثل ميقات بلده أو أبعد كما ذكره الماوردي
( فإن ) خالف ( وفعل ) ما منع منه بأن جاوزه إلى جهة الحرم ( لزمه العود ليحرم منه ) لأن الإحرام منه كان واجبا عليه فتركه وقد أمكنه تداركه فيأتي به
تنبيه قوله ليحرم منه يقتضي تعيينه حتى لا يقوم غيره مقامه وليس مرادا بل لو عاد إلى مثل مسافته من ميقات آخر جاز قاله الماوردي وغيره
ويؤيده أن المفسد لما أوجبوا عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه في الأداء قالوا إنه يجوز له تركه والإحرام من مثل مسافته من موضع آخر حتى ادعى في زيادة الروضة عدم الخلاف فيه
ويقتضي أيضا وجوب تأخير الإحرام إلى العود وليس مرادا أيضا لأنا إذا قلنا إن العود بعد الإحرام مسقط للدم وهو الصحيح كما سيأتي كان له أن يحرم ثم يعود إلى الميقات محرما لأن المقصود قطع المسافة محرما كالمكي إذا أراد الاعتمار فإنه يجوز له أن يحرم من مكة ثم يخرج إلى الحل على الصحيح
ويقتضي أيضا عدم وجوب العود إذا أحرم فإنه جعل العلة في عوده إنشاء الإحرام وقد زال ذلك وليس مرادا أيضا بل يجب عليه العود ولو بعد الإحرام
ولا فرق فيما قال المصنف بين أن يكون قد جاوز عامدا أو ساهيا عالما أو جاهلا لأن المأمورات لا يفترق الحال فيها بين العمد وغيره كنية الصلاة لكن لا إثم على الناسي والجاهل
وصورة السهو لا تدخل في عبارته لأن الساهي عن الإحرام يستحيل أن يكون في تلك الحالة مريدا للنسك
وربما يتصور بمن أنشأ سفره من بلده قاصدا له وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة
ثم استثنى من لزوم العود قوله ( إلا إذا ضاق الوقت ) عن العود إلى الميقات ( أو كان الطريق مخوفا ) أو كان معذورا لمرض شاق أو خاف الانقطاع عن رفقة فلا يلزمه العود في هذه الصورة بل يريق دما
تنبيه لو عبر بقوله إلا لعذر كضيق الوقت وخوف الطريق لكان أخصر وأشمل والظاهر كما قال الأذرعي تحريم العود لو علم أنه لو عاد لفات الحج
وقضية كلامهم أنه يلزمه العود إذا كان ماشيا ولم يتضرر بالمشي
قال الإسنوي وفيه نظر ويتجه أن يقال إن كان على دون مسافة القصر لزمه وإلا فلا كما قلنا في الحج ماشيا اه
قال ابن العماد والمتجه لزوم العود مطلقا لأنه قضاء لما تعدى فيه فأشبه وجوب قضاء الحج الفاسد وإن بعدت المسافة اه
هذا ظاهر إن كان قد تعدى بمجاوزة الميقات كما يؤخذ من تعليله وإلا فالمتجه كلام الإسنوي
( فإن لم يعد ) لعذر أو غيره ( لزمه دم ) بتركه الإحرام من الميقات
قال ابن عباس من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما رواه مالك وغيره بإسناد صحيح
وشرط لزومه أن يحرم بعمرة مطلقا أو بحج في تلك السنة بخلاف ما إذا لم يحرم أصلا لأن لزومه إنما هو لنقصان النسك لا بدل له وبخلاف ما إذا أحرم بالحج في سنة أخرى لأن إحرام هذه السنة لا يصلح لإحرام غيرها
وقضية كلامه كأصله أن الكافر إذا جاوز الميقات مريدا للنسك ثم أسلم وأحرم دونه يكون كالمسلم وهو كذلك خلافا للمزني
____________________
(1/474)
تنبيه يستنثى من كلامه ما لو مر الصبي أو العبد بالميقات غير محرم مريدا للنسك ثم بلغ أو عتق قبل الوقوف فلا دم عليه على الصحيح قاله ابن شهبة في العبد وابن قاسم فيهما في شرحيهما على الكتاب
( وإن أحرم ) من جاوز الميقات بغير إحرام ( ثم عاد ) إليه ( فالأصح أنه عاد قبل تلبسه بنسك سقط الدم ) عنه لأنه قطع المسافة من الميقات محرما وأدى المناسك كلها بعده فكان كما لو أحرم منه سواء أكان دخل مكة أم لا
وقيل لا يسقط إذا عاد بعد وصوله إليها
وقيل إلى مسافة القصر وفي قول لا يسقط مطلقا
( وإلا ) بأن عاد بعد تلبسه بنسك ولو طواف قدوم ( فلا ) يسقط عنه الدم لتأدي النسك بإحرام ناقص
تنبيه ظاهر كلامهما يقتضي أن الدم وجب ثم سقط بالعود وهو وجه حكاه الماوردي
وصحح أنه لم يجب أصلا لأن وجوبه تعلق بفوات العود ولم يفت وهذا هو المعتمد
وحيث سقط الدم بالعود لم تكن المجاوزة حراما كما جزم به المحاملي و الروياني لكن بشرط أن تكون المجاوزة بنية العود كما قاله المحاملي
( والأفضل ) لمن فوق الميقات ( إن يحرم من دويرة أهله ) لأنه أكثر عملا إلا الحائض والنفساء فإن الأفضل لهما أن يحرما من الميقات على النص
( وفي قول ) الأفضل الإحرام ( من الميقات ) تأسيا به صلى الله عليه وسلم
( قلت الميقات ) أي الإحرام منه إن لم يلتزم بالنذر الإحرام مما قبله ( أظهر وهو الموافق للأحاديث الصحيحة والله أعلم ) فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم في حجة الوداع منه بالإجماع وكذا في عمرة الحديبية كما رواه البخاري في كتاب المغازي ولأن في مصابرة الإحرام بالتقدم عسرا وتغريرا بالعباد وإن كان جائزا وإنما جاز قبل الميقات المكاني دون الزماني لأن تعلق العبادة بالوقت أشد منه بالمكان ولأن المكاني يختلف باختلاف البلاد بخلاف الزماني
أما إذا التزم بالنذر الإحرام مما قبله فإنه يلزمه كما قاله في المهذب وجرى عليه المصنف في شرحه
واستشكل لزومه على المصنف مع تصحيحه أفضلية الإحرام من الميقات وسيأتي نظير ذلك في النذر فيما لو نذر الحج ماشيا ونذكر ما فيه هناك إن شاء الله تعالى
تنبيه يستثنى من محل الخلاف صور منها الحائض والنفساء فالأفضل لهما الميقات كما مر
ومنها ما لو شك في الميقات لخراب مكانه فالاحتياط أن يستظهر ندبا وقيل وجوبا
ومنها مسألة النذر المتقدمة
( وميقات العمرة ) المكاني ( لمن هو خارج الحرم ميقات الحج ) لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ممن أراد الحج أو العمرة
( ومن ) هو ( بالحرم ) مكي أو غيره ( يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة ) أو أقل من أي جهة شاء من جهات الحرم لأنه صلى الله عليه وسلم أرسل عائشة بعد قضاء الحج إلى التنعيم فاعتمرت فلو لم يكن الخروج واجبا لما أمرها به لضيق الوقت برحيل الحاج وسببه أن يجمع في إحرامه بين الحل والحرم
تنبيه لو اقتصر المصنف على قوله إلى أدنى الحل أو زاد بدل ولو بخطوة بقليل كان أولى ليشمل ما قدرته ولمن بمكة القران تغليبا للحج
( فإن لم يخرج ) إلى أدنى الحل ( وأتى بأفعال العمرة ) بعد إحرامه بها في الحرم انعقدت عمرته جزما و ( أجزأته ) هذه العمرة عن عمرته ( في الأظهر ) لانعقاد إحرامه وإتيانه بعده بالواجبات
( و ) لكن ( عليه دم ) لتركه الإحرام من الميقات والثاني لا يجزئه لأن العمرة أحد النسكين فيشترط فيها الجمع بين الحل والحرم كالحج فإنه لا بد فيه من الحل وهو عرفة
( فلو خرج ) على الأول ( إلى ) أدنى ( الحل بعد إحرامه ) وقبل الطواف والسعي
____________________
(1/475)
( سقط الدم على المذهب ) كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرما والطريق الثاني القطع بالسقوط والفرق أن ذلك قد انتهى إلى الميقات على قصد النسك ثم جاوزه فكان مسيئا حقيقة وهذا المعنى لم يوجد ههنا فهو شبيه بمن أحرم قبل الميقات
والمراد بالسقوط عدم الوجوب كما مر
( وأفضل بقاع الحل ) لمن يحرم بعمرة ( الجعرانة ) لإحرامه صلى الله عليه وسلم منها رواه الشيخان
وهي بإسكان العين وتخفيف الراء أفصح من كسر العين وتثقيل الراء وإن كان أكثر المحدثين على الثاني ذكره في المجموع
وهي في طريق الطائف على ستة فراسخ من مكة
فائدة قال بعض العلماء أحرم منها ثلثمائة نبي عليهم الصلاة والسلام
( ثم التنعيم ) لأمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار منه وهو الموضع الذي عند المساجد المعروفة بمساجد عائشة بينه وبين مكة فرسخ فهو أقرب أطراف الحل إلى مكة سمي بذلك لأن على يمينه جبلا يقال له نعيم وعلى شماله جبلا يقال له ناعم والوادي نعمان
( ثم الحديبية ) لأنه صلى الله عليه وسلم هم بالاعتمار منها فصده الكفار فقد فعله ثم أمره ثم همه كذا قال الغزالي أنه هم بالاعتمار من الحديبية
قال في المجموع والصواب أنه كان أحرم من ذي الحليفة إلا أنه هم بالدخول إلى مكة من الحديبية كما رواه البخاري
وهي بتخفيف الياء أفصح من تثقيلها وهي اسم لبئر هناك بين طريق جدة وطريق المدينة بين جبلين على ستة فراسخ من مكة
فإن قيل لم أمر صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم مع أن الجعرانة أفضل أجيب بأن ذلك كان لضيق الوقت أو لبيان الجواز من أدنى الحل
وقد علم مما تقدم أن التفضيل ليس لبعد المسافة
خاتمة يسن لمن أحرم من بلده أو من مكة أن يخرج عقب إحرامه ولا يمكث بعده نقله الشيخ أبو حامد عن النص
ويسن لمن لم يحرم من أحد هذه الثلاثة أن يجعل بينه وبين الحرم بطن واد ثم يحرم كما في التتمة وغيرها وحكاه في الإنابة عن الشافعي رضي الله تعالى عنه
4 باب الإحرام وهو كما قال الأزهري الدخول في حج أو عمرة أو فيهما أو فيما يصلح لهما ولأحدهما وهو المطلق ويطلق أيضا على نية الدخول فيما ذكر ومنه قول المصنف بعد هذا أركان الحج خمسة الإحرام فالمراد هنا هو القسم الأول وهو الدخول فيما ذكر أي بالنية
وكان الشيخ عز الدين يستشكل حقيقة الإحرام فإن قيل له إنه النية اعترض بأنها شرط فيه وشرط الشيء غيره
وقال القرافي أقمت عشر سنين لا أعرف حقيقة الإحرام وسمي بذلك إما لاقتضائه دخول الحرم من قولهم أحرم إذا دخل الحرم كأنجد إذا دخل نجدا أو لاقتضائه تحريم الأنواع الآتية
( ينعقد ) الإحرام ( معينا بأن ينوي حجا أو عمرة أو كليهما ) بالإجماع ولما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل
ولو نوى حجتين أو نصف حجة انعقد حجة أو عمرتين أو نصف عمرة انعقد عمرة قياسا على الطلاق في مسألتي النصف والفاء للإضافة إلى ثنتين في مسألتي الحجتين والعمرتين لتعذر الجمع بينهما بإحرام واحد فصح في واحدة كما لو نوى بتيمم فريضتين لا يستبيح به إلا واحدة كما مر في بابه
وفارق عدم الانعقاد في نظيرهما من الصلاة بأن الإحرام يحافظ عليه ما أمكن ولهذا لو أحرم بالحج في غير أشهره انعقد عمرة كما مر
( و ) ينعقد أيضا ( مطلقا ) وذلك ( بأن لا يزيد على نفس الإحرام ) بأن ينوي الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة أو يقتصر على قوله أحرمت
وروى الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه مهلين ينتظرون القضاء أي نزول
____________________
(1/476)
الوحي فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة ومن معه هدي أن يجعله حجا
ويفارق في الصلاة حيث لا يجوز الإحرام بها مطلقا بأن التعيين ليس شرطا في انعقاد النسك ولهذا لو أحرم بنسك نفل وعليه نسك فرض انصرف إلى الفرض ولو قيد الإحرام بزمن كيوم أو يومين أو أكثر انعقد مطلقا كما في الطلاق وهذا هو المعتمد وإن قال في المجموع ينبغي في هذا وفي مسألتي النصف عدم الانعقاد لأنه من باب العبادات والنية الجازمة شرط فيها بخلاف الطلاق فإنه مبني على الغلبة والسراية ويقبل الأخطار ويدخله التعليق
( والتعيين أفضل ) من الإطلاق وحكى هذا عن نص الأم ليعرف ما يدخل عليه قالوا ولأنه أقرب إلى الخلاص
( وفي قول الإطلاق ) أفضل من التعيين وحكى هذا عن نص الإملاء لأنه ربما حصل له عارض من مرض أو غيره فلا يتمكن من صرفه إلى ما لا يخاف فوته
( فإن أحرم ) إحراما ( مطلقا في أشهر الحج صرفه بالنية ) لا باللفظ فقط ( إلى ما شاء من النسكين أو إليهما ) معا إن صلح الوقت لهما ( ثم اشتغل ) بعد الصرف ( بالأعمال ) فلا يجزىء العمل قبله كما أشعر به التعبير ب ثم لكن لو طاف ثم صرفه للحج وقع طوافه عن القدوم وإن كان من سنن الحج ولو سعى بعده احتمل الإجزاء لوقوعه تبعا واحتمل خلافه وهو الأوجه لأنه ركن فيحتاط له وإن وقع تبعا فإن لم يصلح بأن فات وقت الحج صرفه للعمرة كما قاله الروياني
وعن القاضي حسين يحتمل أن يتعين عمرة كما لو أحرم قبل أشهر الحج ويحتمل أنه يبقى على ما كان وعليه التعيين فإن عين عمرة مضى فيها أو حجا كان كمن فاته الحج والأول أوجه
ولو ضاق الوقت فالمتجه كما قال الإسنوي وهو مقتضى كلام الأصحاب أن له صرفه إلى ما شاء ويكون عند صرفه إلى الحج كمن أحرم بالحج في تلك الحالة
قال القاضي ولو أحرم مطلقا ثم أفسده قبل التعيين فأيهما عينه كان مفسدا له
( وإن أطلق ) الإحرام ( في غير أشهره ) أي الحج ( فالأصح ) وعبر في الروضة بالصحيح ( انعقاد عمرة فلا يصرفه إلى الحج في أشهره ) أي الحج لأن الوقت لا يقبل غير العمرة والثاني ينعقد بهما فله صرفه إلى عمرة
وبعد دخول أشهر الحج إلى النسكين أو أحدهما فإن صرفه إلى الحج قبل أشهره كان كإحرامه به قبلها فينعقد عمرة على الصحيح
( وله ) أي لعمرو مثلا ( أن يحرم كإحرام زيد ) كأن يقول أحرمت بما أحرم به زيد أو كإحرامه ولأن أبا موسى رضي الله تعالى عنه أهل بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخبره قال له أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل وكذا فعل علي رضي الله تعالى عنه وكلاهما في الصحيحين
( فإن لم يكن زيد محرما ) أو كان كافرا بأن أتى بصورة الإحرام أو محرما إحراما فاسدا ( انعقد إحرامه مطلقا ) لأنه قصد الإحرام بصفة خاصة فإذا بطلت بقي أصل الإحرام ولغت إضافته لزيد
( وقيل إن علم عدم إحرام زيد لم ينعقد ) إحرامه كما لو علق فقال إن كان محرما فقد أحرمت فلم يكن محرما
وفرق الأصح بأن في المقيس عليه تعليق أصل الإحرام فليس جازما به بخلاف المقيس فإنه جازم بالإحرام فيه
( وإن كان زيد محرما ) بإحرام صحيح ( انعقد إحرامه كإحرامه ) من تعيين أو إطلاق ويتخير في المطلق كما يتخير زيد ولا يلزمه صرفه إلى ما يصرفه زيد
ولو عين زيد قبل إحرامه عمرو حجا انعقد إحرام عمرو مطلقا وكذا لو أحرم زيد بعمرة ثم أدخل عليها الحج فينعقد لعمرو عمرة لا قرانا ولا يلزمه إدخال الحج على العمرة إلا أن يقصد به التشبيه في الحال في الصورتين فيكون في الأولى حاجا وفي الثانية قارنا
ولو أحرم قبل صرفه في الأولى وقبل إدخال الحج في الثانية وقصد التشبيه به في حال تلبسه بإحرامه الحاضر والآتي ففي الروضة عن البغوي ما يقتضي أنه يصح وهو المعتمد
قال الأذرعي وفيه نظر لأنه في معنى التعليق بمستقبل إلا أن يقال أنه جازم في الحال
ويغتفر ذلك في الكيفية دون
____________________
(1/477)
الأصل فصورة المسألة فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال ولا في أوله
فإن خطر له التشبيه بأوله أو بالحال فالاعتبار بما خطر له قطعا ولو أخبره زيد بما أحرم ووقع في نفسه خلافه عمل بما أخبره على الأصح في زيادة الروضة لأنه لا يعلم إلا من جهته
ولو علق إحرامه على إحرام زيد في المستقبل كأن قال إذا أو نحوها ك متى أو إن أحرم زيد فأنا محرم لم ينعقد إحرامه مطلقا كما لو قال إذا جاء رأس الشهر فأنا محرم لا يصح إحرامه مطلقا لأن العبادة لا تعلق بالأخطار أو قال إن كان زيد محرما فأنا محرم وكان زيد محرما انعقد إحرامه وإلا فلا تبعا له
قال الرافعي ويجوز أن يصح في الأولى كهذه إلا أن تلك تعليق بمستقبل وهذه تعليق بحاضر وما يقبل التعليق من العقود يقبلها جميعا
وأجيب بأن المعلق بحاضر أقل غررا لوجوده في الواقع فكان قريبا من أحرمت كإحرام زيد في الجملة بخلاف المعلق بمستقبل
( فإن تعذر معرفة إحرامه ) وعبر في الحاوي الصغير ب تعسر ولعل مراده التعذر وسواء علم أنه أحرم أم جهل حاله ( بموته ) أو جنونه أو غير ذلك كغيبة بعيدة ( جعل ) عمرو ( نفسه قارنا ) بأن ينوي القران ولم يجتهد وكذا إن نسي المحرم ما أحرم به لأن كل منهما تلبس بالإحرام يقينا فلا يتحلل إلا بيقين الإتيان بالمشروع فيه كما لو شك في عدد الركعات لا يجتهد
والفرق بينه وبين الأواني والقبلة أن أداء العبادة ثم لا يحصل بيقين إلا بعد فعل محظور وهو أن يصلي لغير القبلة أو يستعمل نجسا فلذلك جاز التحري وهنا يحصل الأداء بيقين من غير فعل محظور
( وعمل أعمال النسكين ) ليتحقق الخروج عما شرع فيه فتبرأ ذمته من الحج بعد إتيانه بأعماله لأنه إما محرم به أو مدخل له على العمرة ولا تبرأ ذمته من العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج ويمتنع إدخالها عليه ولا دم عليه إذ الحاصل له الحج فقط واحتمال حصول العمرة لا يوجبه إذ لا وجوب بالشك ولكن يستحب له ذلك
ولو اقتصر على نية الحج وأتى بأعماله أجزأه عن الحج فقط ولا دم عليه أيضا فالواجب لتحصيل الحج نيته أو نية القران وهي أولى لتحصل البراءة من العمرة أيضا على وجه
أو اقتصر على أعمال الحج من غير نية حصل التحلل الأول لا البراءة من شيء منهما لشكه فيما أتى به أو اقتصر على عمل العمرة لم يحصل التحلل أيضا وإن نواها لاحتمال أنه أحرم بحج ولم يتم أعماله مع أن وقته باق
ولو أحرم كإحرام زيد وبكر صار مثلهما في إحرامهما إن اتفقا فيما أحرما به وإلا صار قارنا فيأتي بما يأتيان به
نعم إن كان إحرامهما فاسدا انعقد إحرامه مطلقا كما علم مما مر أو أحرم أحدهما فقط فالقياس كما قال شيخنا إن إحرامه ينعقد صحيحا في الصحيح ومطلقا في الفاسد
فصل في ركن الإحرام وما يطلب للمحرم من الأمور الآتية ( المحرم ) أي مريد الإحرام ( ينوي ) بقلبه حتما دخوله في حج أو عمرة أو فيهما
ولا تجب نية الفرضية جزما كما في المجموع لأنه لو نوى النفل لوقع عن الفرض كما مر فلا فائدة في الإيجاب
( ويلبي ) مع نية الإحرام بعد التلفظ بها فينوي بقلبه ويقول بلسانه نويت الحج مثلا و أحرمت به لله تعالى لبيك اللهم لبيك إلخ
ولا يسن ذكر ما أحرم به في غير التلبية الأولى لأن إخفاء العبادة أفضل
ولو نوى بقلبه نسكا ونطق لسانه بغيره انعقد ما نواه بقلبه
ويسن أن يستقبل القبلة عند الإحرام وأن يقول اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي
( فإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه ) على الأصح لخبر إنما الأعمال بالنيات وقيل ينعقد وتقوم التلبية مقام النية ( وإن نوى ولم يلب انعقد على الصحيح ) كسائر العبادات والثاني لا ينعقد لإطباق الأمة عليها عند الإحرام كالصلاة لا تنعقد إلا بالتلبية والتكبير
( ويسن الغسل ) لأحد أمور سبعة أحدها ( للإحرام ) أي عند إرادته بحج أو عمرة أو بهما أو مطلقا من رجل أو صبي أو امرأة حائض أو نفساء للاتباع رواه الترمذي وحسنه
وإنما لم يجب لأنه غسل لمستقبل كغسل
الجمعة والعيد ويكره تركه وإحرامه جنبا وغير المميز يغسله وليه لأن حكمة هذا الغسل التنظيف ولهذا سن للحائض والنفساء
وروى أبو داود والترمذي خبر إن الحائض والنفساء
____________________
(1/478)
تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت
قال في أصل الروضة وإذا اغتسلتا نوتا والأولى أن يؤخرا الإحرام حتى يطهرا إن أمكن التأخير بأن أمكنهما المقام بالميقات ليقع إحرامهما في أكمل أحوالهما
ويندب أيضا لمريد الإحرام أن يتنظف بإزالة الشعور المطلوب إزالتها كشعر الإبط والعانة والأظفار والأوساخ وغسل الرأس بسدر ونحوه
والقياس كما قال الإسنوي تقديم هذه الأمور على الغسل كما في غسل الميت
ويندب أيضا أن يلبد الذكر شعره بصمغ ونحوه لئلا يتولد فيه القمل ولا يتشعث في مدة الإحرام ويكون التلبيد بعد الغسل
( فإن عجز ) مريد الإحرام عن الغسل لفقد ماء أو عدم قدرته على استعماله ( تيمم ) لأن الغسل يراد للقربة وللنظافة فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر ولأنه ينوب عن الغسل الواجب فعن المندوب أولى ولو وجد ماء لا يكفيه للغسل ويكفيه للوضوء توضأ به وتيمم عن الغسل كما قاله ابن المقري
ولو وجد ماء لا يكفي الوضوء أيضا استعمله في أعضاء الوضوء
وهل يكفيه تيمم واحد عن الغسل وبقية الأعضاء أو يتيمم عن بقية الأعضاء ثم يتيمم ثانيا عن الغسل الأوجه كما قال شيخنا الثاني
إن لم ينو بما استعمله من الماء الغسل وإلا فالأول
تنبيه لو ذكر المصنف التيمم عقب جميع الأغسال الآتية لكان أولى لشمول الحكم لكلها وقوله فإن عجز أولى من قول المحرر فإن لم يجد الماء لأن العجز يتناول الفقدان والمرض والجراحة والبرد ونحو ذلك
( و ) الغسل الثاني لدخول الحرم
والغسل الثالث ( لدخول مكة ) ولو حلالا للاتباع رواه الشيخان في المحرم و الشافعي في الحلال
قال السبكي وحينئذ لا يكون هذا من أغسال الحج إلا من جهة أنه يقع فيه ولو فات لم يبعد ندب قضائه كما بحثه بعض المتأخرين وكذا بقية الأغسال
ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو أحرم المكي بعمرة من قريب كالتنعيم واغتسل لم يندب له الغسل لدخول مكة كما قاله الماوردي ويظهر مثله كما قال ابن الرفعة في الحج إذا أحرم به من أدنى الحل لكونه لم يخطر له ذلك إلا هناك قال الأذرعي أو لكونه مقيما هناك
( و ) الغسل الرابع بعد الزوال ( للوقوف بعرفة ) والأفضل كونه بنمرة
ويحصل أصل السنة في غيرها وقبل الزوال بعد الفجر لكن تقريبه للزوال أفضل كتقريبه من ذهابه في غسل الجمعة
وسميت عرفة قيل لأن آدم وحواء تعارفا ثم وقيل لأن جبريل عرف فيها إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مناسكه وقيل غير ذلك
( و ) الغسل الخامس بعد نصف ليلة النحر للوقوف ( بمزدلفة ) عند المشعر الحرام ( غداة ) يوم ( النحر ) أي بعد فجره
( و ) الغسل السادس ( في ) كل يوم من ( أيام التشريق ) الثلاثة بعد الزوال ( للرمي ) أي رمي الجمرات الثلاث لآثار وردت فيها ولأنها مواضع اجتماع فأشبه غسل الجمعة
ولو قدم الغسل على الزوال حصل أصل السنة نظير غسل الجمعة وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين
والغسل السابع لدخول المدينة ولا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة لقربه من غسل عرفة ولا لرمي يوم النحر اكتفاء بغسل العيد ولا لطواف القدوم لقربه من غسل الدخول ولا للحلق وطواف الإفاضة وطواف الوداع كما هو الصحيح عند الرافعي وكذا المصنف في أكثر كتبه وإن جزم في مناسكه الكبرى باستحباب هذه الثلاثة
( و ) يسن ( أن يطيب ) مريد الإحرام ( بدنه للإحرام ) رجلا كان أو خنثى أو امرأة شابة أو عجوزا خلية أو متزوجة اقتداء به صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان
وقيل لا يسن للمرأة كذهابها إلى الجمعة وفرق الأول بأن زمان الجمعة ومكانها ضيق ولا يمكنها تجنب الرجال بخلاف الإحرام
نعم المحدة لا تتطيب
( وكذا ثوبه ) من إزار الإحرام وردائه يسن تطييبه
( في الأصح ) كالبدن والثاني المنع لأن الثوب ينزع ويلبس
وتبع لمصنف المحرر في استحباب تطييب الثوب وصحح في المجموع أنه مباح وقال لا يندب جزما وصحح في الروضة كأصلها الجواز وهذا هو المعتمد
( ولا بأس باستدامته ) أي الطيب في الثوب ( بعد الإحرام ) كالبدن وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم والوبيص بالباء الموحدة بعد الواو وبالصاد المهملة هو البريق والمفرق وسط الرأس
وينبغي كما قال الأذرعي أن يستثنى
____________________
(1/479)
من جواز الاستدامة ما إذا لزمها الإحداد بعد الإحرام
( ولا بطيب له جرم ) للحديث المذكور ( لكن لو نزع ثوبه المطيب ) أي الذي رائحة الطيب فيه موجودة ( ثم لبسه لزمه الفدية ) في الأصح كما لو ابتدأ لبس الثوب المطيب أو أخذ المطيب من بدنه ثم رده إليه والثاني لا لأن العادة في الثوب أن يخلع ويلبس فجعل عفوا فإن لم تكن رائحة الطيب فيه موجودة فإن كان بحيث لو ألقي عليه ماء ظهرت رائحته وامتنع لبسه بعد نزعه وإلا فلا ولو مسه بيده عمدا لزمته الفدية ويكون مستعملا للطيب ابتداء جزم به في المجموع
ولا عبرة بانتقال الطيب بإسالة العرق
ولو تعطر ثوبه من بدنه لم يضر جزما
( و ) يسن ( أن تخضب المرأة ) غير المحدة ( للإحرام يديها ) أي كل يد منها إلى الكوع فقط بالحناء خلية كانت أو مزوجة شابة أو عجوزا لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من السنة ولأنهما قد ينكشفان
وتمسح وجهها بشيء منه لأنها تؤمر بكشفه فتستتر بشرته بلون الحناء وإنما يستحب بالحناء تعميما دون التطريف والتنقيش والتسويد
أما بعد الإحرام فيكره لها ذلك لما فيه من الزينة وإزالة الشعث
ولا فدية فيه على المذهب لأنه ليس بطيب على المشهور
وخرج بالمرأة الرجل والخنثى فيحرم عليهما ذلك إلا لضرورة وبغير المحدة المحدة فيحرم عليها أيضا
ويندب لغير المحرمة أيضا وإن أفهمت عبارته اختصاص الندب بالمحرمة لكنه للمحرمة آكد نعم يكره للخلية من زوج أو سيد
( ويتجرد الرجل ) وجوبا كما صرح به في المجموع ك الرافعي
( لإحرامه عن مخيط الثياب ) لينتفي عنه لبسه في الإحرام الذي هو محرم عليه كما سيأتي لكن صرح المصنف في مناسكه بسنيته واستحسنه السبكي وغيره تبعا للمحب الطبري
قال الإسنوي واقتضاه كلام المتن كالمحرر ولأن سبب وجوبه وهو الإحرام لم يوجد ولهذا لو قال إن وطئتك فأنت طالق لم يمتنع عليه وطؤها وإنما يجب النزع عقبه
وقد ذكر الشيخان في الصيد عدم وجوب إزالة ملكه عنه قبل الإحرام مع أن المدرك فيهما واحد
وأجيب من جهة الأول بأن الوطء يقع في النكاح فلا يحرم وإنما يجب النزع عقبه لأنه خروج عن المعصية ولأن موجبه ليس الوطء بل الطلاق المعلق عليه فلا يصح إلحاق الإحرام بالوطء
وإما الصيد فيزول ملكه عنه بالإحرام كما سيأتي بخلاف نزع الثوب لا يحصل به فيجب قبله كما يجب السعي إلى الجمعة قبل وقتها على بعيد الدار
وقول الإسنوي واقتضاه كلام المتن بناء على أن يتجرد بالنصب وقد ضبطه المصنف بالرفع
قال السبكي وقد رأيت في الأصل الذي قابلته على خط المصنف ويتجرد مضبوطا بضم الدال أي لأنه واجب فلا يعطف على السنن
تنبيه قوله مخيط بفتح الميم وبالخاء المعجمة وأولى منه محيط بضم الميم وبالحاء المهملة لشموله اللبد والمنسوج ولو حذف لفظ الثياب كان أولى فإنه يجب نزع الخف والنعل
( و ) يسن أن يكون النزع قبل التطيب وأن ( يلبس ) الرجل قبل الإحرام ( إزارا ورداء ) للاتباع رواه الشيخان
( أبيضين ) لخبر البسوا من ثيابكم البياض
ويسن أن يكونا جديدين وإلا فمغسولين
قال الأذرعي والأحوط أن يغسل الجديد المقصور لنشر القصارين له على الأرض
وقد استحب الشافعي رضي الله تعالى عنه غسل حصى الجمار احتياطا وهذا أولى به وقضية تعليله أن غير المقصور كذلك أي إذا توهمت نجاسته لا مطلقا لأنه بدعة كما ذكره في المجموع
ويكره المصبوغ ولو بنيلة أو مغرة كراهة تنزيه كما في المجموع للنهي عنه لأن المحرم أشعث أغبر فلا يناسبه المصبوغ أي بغير الزعفران لما مر في باب اللباس أن لبسه حرام على الرجل
وقيد الماوردي و الروياني كراهة المصبوغ بما صبغ بعد النسج وأما قبله فلا كراهة ولكن الأولى تركه
( و ) يسن أن يلبس ( نعلين ) لخبر ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين رواه أبو عوانة في صحيحه
وخرج بالرجل المرأة والخنثى إذ لا نزع عليهما في غير الوجه والكفين
( و ) أن ( يصلي ركعتين ) للإحرام قبله لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم
ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم مكة كما مر في كتاب الصلاة
ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية الإخلاص
ذولو كان إحرامه في وقت
____________________
(1/480)
فريضة فصلاها أغنت عنهما كما في الروضة وأصلها وإن قال في المجموع فيه نظر وعلل ذلك بقوله لأنهما سنة مقصودة فلا تندرج كسنة الصبح وغيرها ومثل الفريضة الراتبة لأن المقصود الإحرام بعد صلاة والأفضل أن يصليهما في مسجد الميقات إن كان ثم مسجد ولا فرق في صلاتهما بين الرجل وغيره
( ثم الأفضل أن يحرم ) الشخص إن كان راكبا ( إذا انبعثت ) أي استوت ( به راحلته ) أي دابته كما في المحرر قائمة إلى طريق مكة للاتباع رواه الشيخان
( أو ) يحرم إذا ( توجه لطريقه ) حال كونه ( ماشيا ) لما روى مسلم عن جابر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهللنا أي أردنا أن نهل أي نحرم إذا توجهنا وعبارة التنبيه إذا بدأ بالسير أحرم وهي أخصر من العبارتين وأشمل
( وفي قول يحرم عقب الصلاة ) جالسا للاتباع رواه الترمذي وقال إنه حسن صحيح
ولا فرق في ذلك بين من يحرم من مكة أو غيرها
نعم الإمام يسن له أن يخطب يوم السابع بمكة وأن يحرم قبل الخطبة فيتقدم إحرامه مسيره بيوم لأن مسيره للنسك إنما يكون في اليوم الثامن قاله الماوردي وهذا هو المعتمد وإن قال الأذرعي كلام غيره ينازعه
وقال في المجموع ما قاله الماوردي غريب ومحتمل
( ويستحب ) للمحرم ( إكثار التلبية ) من لب وألب بالمكان أقام به ولا فرق في ذلك بين طاهر وحائض وجنب للاتباع رواه مسلم ولأنها شعار النسك
( ورفع صوته ) أي الذكر ( بها ) رفعا لا يضر بنفسه ( في دوام إحرامه ) هو متعلق بإكثار ورفع أي ما دام محرما في جميع أحواله لقوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية قال الترمذي حسن صحيح
وفي كلام المصنف إشارة إلى ما في المجموع عن الشيخ أبي محمد وأقره استثناء التلبية المقارنة للإحرام فإنه لا يجهر بها
أما المرأة فتخفض صوتها بحيث تقتصر على سماع نفسها فإن رفعت لم يحرم على الصحيح والخنثى كالمرأة
ويسن للملبي في التلبية إدخال أصبعيه في أذنيه كما ذكره ابن حبان في صحيحه
( وخاصة ) هو اسم فاعل مختوم بالتاء بمعنى المصدر وهو خصوصا أي يتأكد
وقوله ( عند تغاير الأحوال ) مزيد على المحرر قصد به إفادة ضابط يؤخذ منه أشياء كثيرة منها قوله ( كركوب ونزول وصعود وهبوط ) بضم أولهما بخطه مصدر ويجوز فتحه اسم لمكان يصعد فيه ويهبط
( واختلاط رفقة ) بتثليث الراء كما مر في التيمم اسم لجماعة يرفق بعضهم لبعض وأشار بالكاف في كركوب إلى عدم الحصر فيما ذكر فتتأكد في أمور أخر كإقبال ليل أو نهار وفراغ من صلاة وعند نوم أو يقظة منه وعند سماع رعد أو هيجان ريح قائما وقاعدا ومضطجعا ومستلقيا راكبا وماشيا
ويتأكد الاستحباب في المساجد لا فرق بين المسجد الحرام وغيره ووقت السحر ولا فرق بين الجنب والحائض والنفساء وغيرهم في أصل الاستحباب
وتكره التلبية في مواضع النجاسات كغيرها من الأذكار تنزيها لذكر الله تعالى ويستثنى من تغاير الأحوال ما تضمنه قوله ( ولا تستحب ) التلبية ( في طواف القدوم ) لأنه جاء فيه أدعية وأذكار خاصة فصار كطواف الإفاضة والوداع ولا تستحب في السعي بعده أيضا ولا في الطواف المتبوع به لما ذكر
( وفي القديم تستحب فيه ) وفي السعي بعده وفي المتطوع به في أثناء الإحرام لكن ( بلا جهر ) في ذلك لإطلاق الأدلة
وأما طواف الإفاضة والوداع فلا تستحب فيهما قطعا ( ولفظها لبيك ) ومعناها أنا مقيم في طاعتك
مأخوذ من لب بالمكان لبا وألب به إلبابا إذا أقام به وزاد الأزهري إقامة بعد إقامة وإجابة بعد إجابة وهو مثنى مضاف أريد به التكثير سقطت نونه للإضافة
( اللهم ) أصله يا ألله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم
( لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ) أراد بنفي الشريك مخالفة المشركين فإنهم كانوا يقولون لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك
( إن الحمد ) بكسر الهمزة على الاستئناف
قال المصنف وهو أصح وأشهر ويجوز فتحها على التعليل أي لأن الحمد
( والنعمة لك ) بنصب النعمة على المشهور ويجوز رفعها على
____________________
(1/481)
الابتداء والخبر محذوف
قال ابن الأنباري وإن شئت جعلت خبر إن محذوفا أي إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك
( والملك لا شريك لك ) وذلك للإتباع رواه الشيخان
ويسن أن يقف وقفة لطيفة عند قوله والملك ثم يتبدىء ب لا شريك لك وأن يكرر التلبية ثلاثا إذا لبى
والقصد بلبيك الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم { وأذن في الناس بالحج } فقال يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق
وقال مجاهد قام إبراهيم على مقامه فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم حينئذ
ويسن أن لا يزيد على هذه الكلمات ولا ينقص عنها ولا تكره الزيادة عليها لما في الصحيحين أن ابن عمر كان يزيد في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل
زاد الترمذي بعد بيديك لبيك وهو ما أورده الرافعي
( وإذا رأى ما يعجبه ) أو يكرهه وتركه المصنف اكتفاء بذكر مقابله كقوله تعالى { سرابيل تقيكم الحر } أي والبرد
( قال ) ندبا ( لبيك إن العيش ) أي الحياة المطلوبة الدائمة الهنية
( عيش ) أي حياة الدار ( الآخرة ) قاله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفات ورأى جمع المسلمين رواه الشافعي وغيره عن مجاهد مرسلا
وقاله صلى الله عليه وسلم في أشد أحواله في حفر الخندق رواه الشافعي أيضا ومن لا يحسن التلبية بالعربية يلبي بلغته
وهل يجوز للقادر على العربية أن يلبي بالعجمية وجهان بناهما المتولي على الخلاف في نظيره من تسبيحات الصلاة ومقتضاه عدم الجواز
والظاهر كما قال الأذرعي هنا الجواز لأن الكلام في الصلاة مفسد من حيث الجملة بخلاف التلبية ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح
( وإذا فرغ من تلبيته صلى ) وسلم ( على النبي صلى الله عليه وسلم ) عقب فراغه لقوله تعالى { ورفعنا لك ذكرك } أي لا أذكر إلا وتذكر معي لطلبي
ويقول ذلك بصوت أخفض من صوت التلبية ليتميز عنه
قال الزعفراني ويصلي على آله
( وسأل الله تعالى ) بعد ذلك ( الجنة ورضوانه واستعاذ به من النار ) كما رواه الشافعي وغيره عن فعله صلى الله عليه وسلم لكن قال في المجموع والجمهور ضعفوه
ويسن أن يدعو بعد ذلك بما أحب دينا ودنيا
قال الزعفراني فيقول اللهم اجعلني من الذين استجابوا لك ولرسولك وآمنوا بك ووثقوا بوعدك ووفوا بعهدك واتبعوا أمرك اللهم اجعلني من وفدك الذين رضيت وارتضيت اللهم يسر لي أداء ما نويت وتقبل مني يا كريم
خاتمة يسن أن لا يتكلم في التلبية إلا برد سلام فإنه مندوب وتأخيره عنها أحب وقد يجب الكلام في أثنائها لعارض كأن رأى أعمى يقع ببئر ويكره التسليم عليه في أثنائها لأنه يكره أن يقطعها
باب دخوله مكة زادها الله شرفا وما يتعلق به يقال مكة بالميم وبكة بالباء لغتان وقيل بالميم اسم للحرم كله وبالباء اسم للمسجد وقيل بالميم البلد وبالباء البيت مع المطاف وقيل بدونه
ولها أسماء كثيرة تقرب من ثلاثين اسما ذكرها الدميري وغيره
قال المصنف ولا نعلم بلدا أكثر اسما من مكة والمدينة لكونهما أفضل الأرض وذلك لكثرة الصفات المقتضية للتسمية وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ولهذا كثرت أسماء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إن لله تعالى ألف اسم ولرسوله صلى الله عليه وسلم كذلك
ومكة أفضل الأرض عندنا خلافا لمالك في تفضيل المدينة
ونقل القاضي عياض الإجماع على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض والخلاف فيما سواه
مما يدل على أفضلية مكة حديث عبدالله بن عدي رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته في سوق مكة يقول والله إنك لخير الأرض وأحب أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح قال البكري وهو على شرط الشيخين
وأما ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب
____________________
(1/482)
البلاد إليك فقال ابن عبد البر لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه
واختلف في استحباب المجاورة بمكة فقال المصنف في الإيضاح المختار استحبابه إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المحذورة و ( الأفضل ) للمحرم بالحج ولو قارنا ( دخولها قبل الوقوف ) بعرفة إذا لم يخش فوته للاتباع ولكثرة ما يحصل له من السنن الآتية
( وأن يغتسل داخلها ) بالرفع فاعل يغتسل الجائي ( من طريق المدينة ) والشام ومصر والمغرب ( بذي طوى ) للإتباع رواه الشيخان
وطوى بالقصر وتثليث الطاء والفتح أجود واد بمكة بين الثنيتين وأقرب إلى السفلى سمي بذلك لاشتماله على بئر مطوية بالحجارة يعني مبنية بها والطي البناء
ويجوز فيها الصرف وعدمه على إرادة المكان أو البقعة
ولا فرق في الداخل بين كونه حاجا أو معتمرا كما صرح به في المجموع
قال بعضهم وعبارة الروضة تقتضي اختصاصه بالحاج وليس مرادا بل مقتضى حديث الصحيحين استحبابه لمحرم وحلال
والراجح ما في المجموع
أما الغسل لدخول مكة فقد تقدم في الباب المتقدم أنه مستحب مطلقا وإنما أعاده لبيان محله وهو كونه من ذي طوى وأما الجائي من غير طريق المدينة كاليمين فيغتسل من نحو تلك المسافة كما في المجموع وغيره
قال المحب الطبري ولو قيل باستحبابه لكل حاج ومعتمر لم يبعد اه
والمعتمد الأول وإطلاقهم يقتضي أنه لا فرق بين الرجل وغيره
( و ) أن ( يدخلها من ثنية كداء ) بفتح الكاف والمد والتنوين وهي الثنية العليا وهي موضع بأعلى مكة وإن لم تكن بطريقه كما صححه المصنف وصوبه لما قاله الجويني أنه صلى الله عليه وسلم عرج إليها قصدا
وحكى الرافعي عن الأصحاب تخصيصه بالآتي من طريق المدينة للمشقة وهو الموافق لما تقدم في الغسل والمعتمد الأول
قال الإسنوي ولعل الفرق على الأول أن ما ذكر في كداء من الحكمة الآتية غير حاصلة بسلوك غيرها وفي الغسل من قصد النظافة حاصل في كل موضع
وأن يخرج من ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين وهي الثنية السفلى عند جبل قعيقعان لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى
والثنية الطريق الضيق بين الجبلين
وخصت العليا بالدخول لقصد الداخل موضعا عالي المقدار والخارج عكسه ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } كان على العليا كما روي عن ابن عباس
وقضيته كما قال الإسنوي استحباب ذلك لغير المحرم قاله السهيلي
ويسن كما في المجموع إذا دخل الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع بظاهره وباطنه ويتذكر جلالة لحرم ومزينه على غيره وأن يقول اللهم هذا حرمك وأمنك فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك
والأفضل أن يدخل مكة نهارا وماشيا إن لم يشق عليه ذلك وأن يكون حافيا إن لم تلحقه مشقة ولم يخف نجاسة رجله
ودخوله أول النهار بعد صلاة الفجر أفضل اقتداء به صلى الله عليه وسلم وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة
وينبغي كما قال الأذرعي أن يكون دخول المرأة في نحو هودج ليلا أفضل
وأن يكون دخوله بخشوع متضرعا قال الماوردي ويكون من دعائه اللهم البلد بلدك والبيت بيتك جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك متبعا لأمرك راضيا بقدرك مسلما لأمرك أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني بعفوك وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك
( و ) أن ( يقول ) داخلها ( إذا أبصر البيت ) أي الكعبة والداخل من الثنية العليا يرى البيت من رأس الردم قبل دخوله المسجد أو وصل محل رؤيته ولم يره لعمى أو ظلمة أو نحو ذلك رافعا يديه ( اللهم زد هذا البيت تشريفا ) هو الترفع والإعلاء ( وتعظيما ) وهو التبجيل ( وتكريما ) هو التفضيل ( ومهابة ) هي التوقير والإجلال ( وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا ) هو الاتساع في الإحسان والزيادة فيه وذلك للاتباع رواه الشافعي عن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا إلا أنه قال وكرمه بدل وعظمه
( اللهم أنت السلام ) أي ذو السلامة من النقائص ( ومنك السلام ) أي ابتدىء منك ومن أكرمته
____________________
(1/483)
بالسلام فقد سلم
( فحينا ربنا بالسلام ) أي سلمنا بتحيتك من جميع الآفات وذلك لما رواه البيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال في المجموع بإسناد ليس بقوي
ويسن أن يدعو بما أحب من المهمات وأهمها المغفرة ( ثم يدخل ) عقب ذلك ( المسجد ) الحرام ( من باب بني شيبة ) أحد أبواب المسجد وإن لم يكن بطريقه للاتباع رواه البيهقي بإسناد صحيح
والمعنى فيه أن باب الكعبة والحجر الأسود في جهة ذلك الباب وهي أشرف الجهات الأربع كما قاله ابن عبد السلام في قواعده
وشيبة اسم رجل مفتاح الكعبة في يد ولده وهو ابن عثمان بن طلحة
تنبيه ظاهر كلام المصنف أن الدخول من هذا الباب إنما يسن لمن أتى من طريق المدينة فإنه عطف على قوله ويدخلها من ثنية كداء وليس مرادا بل قال الرافعي أطبقوا على استحباب الدخول منه لكل قادم سواء أكان في طريقه أم لا بخلاف الدخول من الثنية العليا فإن فيه الخلاف المار
والفرق أن الدوران حول المسجد لا يشق بخلافه حول البلد
ويسن أن يخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا وهو المسمى الآن بباب الصفا ومن باب بني سهم إذا خرج إلى بلده وهو المسمى اليوم بباب العمرة
( ويبتدىء ) ندبا أول دخوله المسجد قبل تغيير ثيابه واكتراء منزله ونحوهما ( بطواف القدوم ) للاتباع رواه الشيخان
والمعنى فيه أن الطواف تحية البيت لا المسجد فلذلك يبدأ به ويستثنى منه ما لو خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أو وجد جماعة قائمة أو تذكر فائتة مكتوبة فإنه يقدم ذلك على الطواف كما في المجموع عن الأصحاب
ولو أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف قطعه وصلى لأن ما ذكر يفوت والطواف لا يفوت
ولو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلا نص عليه
وفي الكفاية عن الماوردي أن من له عذر يبدأ بإزالته
ولو قدمت امرأة نهارا وهي ذات جمال أو شرف وهي التي لا تبرز للرجال سن لها أن تؤخره إلى الليل وقيده بعضهم بما إذا أمنت الحيض الذي يطول زمنه وهو كما قال ابن شهبة حسن
والخنثى كالأنثى كما قاله في المجموع
ولو دخل المسجد وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد كما جزم به في المجموع وإنما قدم الطواف عليها فيما مر لأن القصد من إتيان المسجد البيت وتحيته الطواف ولأنها تحصل بركعتيه غالبا
ولو أخر طواف القدوم ففي فواته وجهان حكاهما الإمام لأنه يشبه تحية المسجد وقضيته أنه لا يفوت وهو كذلك ومعلوم أنه لا يفوت بالجلوس في المسجد كما تفوت به تحية المسجد نعم يفوت بالوقوف بعرفة لا بالخروج من مكة
( ويختص طواف القدوم ) في المحرم ( بحاج دخل مكة قبل الوقوف ) مفردا كان أو قارنا لأن الحاج بعد الوقوف والمعتمر قد دخل وقت طوافهما المفروض فلا يصح قبل أدائه أن يتطوعا بطواف قياسا على أصل النسك وبهذا فارق ما نحن فيه الصلاة حيث أمر بالتحية قبل العرض
أما الحلال فيسن طواف القدوم له وإن أوهمت عبارة المصنف خلافه
وكما يسمى طواف القدوم يسمى طواف القادم وطواف الورود والوارد والتحية
فائدة قال ابن أسباط بين الركن والمقام وزمزم قبور تسعة وتسعين نبيا وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة
تنبيه قال الولي العراقي اعترض على تعبير المصنف بأنه مقلوب وصوابه ويختص حاج دخل مكة قبل الوقوف بطواف القدوم فإن الباء تدخل على المقصور اه
لكن هذا أكثري لا كلي فالتعبير بالصواب خطأ
( ومن قصد مكة ) أو الحرم ( لا لنسك استحب ) له ( أن يحرم بحج ) إن كان في أشهره ويمكنه إدراكه ( أو عمرة ) قياسا على التحية وهذا ما في المجموع عن الأكثرين وعن نص الشافعي في عامة كتبه
( وفي قول يجب ) وهو منصوص الأم وجعله في البيان الأشهر وصححه جمع منهم المصنف في نكت التنبيه
بويدل للأول حديث المواقيت السابق هن لهن ولمن أتى
____________________
(1/484)
عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة
فلو وجب بمجرد الدخول لما علقه على الإرادة
( إلا أن يتكرر دخوله كحطاب وصياد ) فلا يجب عليهما جزما للمشقة بالتكرير وعلى الوجوب لا دم عليه ولا قضاء بترك الإحرام
تنبيه ما ذكر من الحصر غير مراد بل يشترط أيضا أن يكون داخلا من الحل وأن لا يدخل لقتال مباح ولا خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه معه الظهور لأداء النسك وأن يكون حرا فالرقيق لا إحرام عليه وإن أذن له سيده على الأصح وقصد الحرم كقصد مكة في جميع ما ذكر كما نبهت عليه وإن أوهمت عبارته خلافه
فصل فيما يطلب في الطواف من واجبات وسنن
( للطواف بأنواعه ) من قدوم وركن ووداع وما يتحلل به في الفوات وطواف نذر وتطوع ( واجبات ) لا بد منها فيه شروط كانت أو أركانا فلا يصح بدونها ولو كان نفلا
( وسنن ) يصح بدونها
( أما الواجبات ) في الطواف فثمانية أحدها ما ذكره بقوله ( فيشترط ) له ( ستر العورة ) كسترها في الصلاة فإن عجز عنها طاف عاريا وأجزأه كما لو صلى كذلك
( و ) ثانيها ( طهارة الحدث والنجس ) في الثوب والبدن والمكان لأن الطواف بالبيت صلاة كما نطق به الخبر وفي الصحيحين لا يطوف بالبيت عريان قال في المجموع ومما عمت به البلوى غلبة النجاسة في المطاف وقد اختار جماعة من محققي أصحابنا العفو عنها
قال وينبغي تقييده بما يشق الاحتراز عنه من ذلك كما في دم البراغيث والقمل والبق وغيرهم مما مر وكما في كثرة الاستنجاء بالأحجار وكما في طين الشارع المتيقن نجاسته اه
وقال الرافعي لم أر للأئمة تشبيه مكان الطواف بالطريق في حق المتنفل وهو تشبيه لا بأس به وقد عد ابن عبد السلام من البدع غسل بعض الناس المطاف قال الإسنوي والقياس منع المتيمم والمتنجس العاجزين عن الماء من طواف الركن لوجوب الإعادة فلا فائدة في فعله وإنما فعلت الصلاة كذلك لحرمة الوقت والطواف لا آخر لوقته
قال شيخنا ويؤيده أن فاقد الطهورين إذا صلى ثم قدر على التيمم بعد الوقت لا يعيد الصلاة في الحضر لعدم الفائدة
( فلو أحدث فيه ) عمدا ( توضأ ) وأولى منه تطهر ليشمل الغسل
( وبنى ) من موضع الحدث سواء أكان عند الركن أم لا
( وفي قول يستأنف ) كما في الصلاة
وفرق الأول بأن الطواف يحتمل فيه ما لا يحتمل فيها فإن سبقه الحدث فخلاف مرتب على العمد وأولى بالبناء إن قصر الفصل وكذا إن طال في الأصح
ولو تنجس ثوبه أو بدنه أو مطافه بما لا يعفى عنه أو انكشف شيء من عورته كأن بدا شيء من شعر رأس الحرة أو ظفر من رجلها لم يصح المفعول بعد فإن زال المانع بنى على ما مضى كالمحدث سواء أطال الفصل أم قصر كما مر لعدم اشتراط الولاء فيه كالوضوء لأن كلا منهما عبادة يجوز أن يتخللها ما ليس منها بخلاف الصلاة
لكن يسن الاستئناف خروجا من خلاف من أوجبه
ولو نام في الطواف على هيئة لا تنقض الوضوء لم ينقطع طوافه
( و ) ثالثها ( أن يجعل ) الطائف ( البيت ) في طوافه ( عن يساره ) مارا تلقاء وجهه إلى جهة الباب للاتباع كما أخرجه مسلم مع خبر خذوا عني مناسككم
فإن جعله عن يمينه ومشى أمامه أو استقبله أو استدبره وطاف معترضا أو جعله عن يمينه أو يساره ومشى القهقري لم يصح طوافه لمنابذته لما ورد الشرع به
ولو طاف مستلقيا على ظهره أو على وجهه مع مراعاة كون البيت عن يساره صح كما هو مقتضى كلامهم بخلاف ما لو طاف منكسا رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى فوق فإنه لا يكفي كما هو ظاهر
تنبيه لو زاد المصنف ما زدته لكان أولى ليخرج هذه الصورة المذكورة وقد ذكر الإسنوي أن هذه المسألة تنقسم إلى اثنين وثلاثين قسما
قال الأذرعي وأكثر ذلك مما يمجه السمع ولا يقبل تجويزه الذهن وكان السكوت عنه أولى
ويستثنى من كلام المصنف استقبال الحجر الأسود في ابتداء الطواف كما سيأتي
( و ) رابعها كونه ( مبتدئا ) في ذلك
____________________
(1/485)
( بالحجر الأسود ) للاتباع رواه مسلم
( محاذيا ) بالمعجمة ( له ) أي الحجر أو بعضه ( في مروره ) عليه ابتداء ( بجميع بدنه ) بأن لا يتقدم جزء من بدنه على جزء من الحجر والمراد بجميع البدن جمع الشق الأيسر
واكتفى بمحاذاة جزء من الحجر كما اكتفى بمحاذاة جميع بدنه بجزء من الكعبة في الصلاة
وصفة المحاذاة كما قال المصنف أن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي لجهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ومنكبه الأيمن عند طرفه ثم ينوي الطواف ويمر مستقبلا إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل البيت عن يساره وهذا خاص بالطوفة الأولى فليس لنا حالة يجوز استقبال البيت فيها في الطواف إلا هذه فهي مستثناة كما مر
وهذا مندوب فلو جعل البيت عن يساره ابتداء من غير استقبال صح وفاتته الفضيلة
واعلم أن المحاذاة الواجبة تتعلق بالركن الذي فيه الحجر الأسود لا بالحجر نفسه حتى لو فرض والعياذ بالله تعالى أنه نحى عن مكانه وجبت محاذاة الركن كما قاله القاضي أبو الطيب ويسن حينئذ استلام محله وتقبيله والسجود عليه كما سيأتي
( فلو بدأ ) في طوافه ( بغير الحجر ) كأن ابتدأ بالباب ( لم يحسب ) ما طافه
( فإذا انتهى إليه ) أي الحجر ( ابتدأ منه ) وحسب له الطواف من حينئذ كما لو قدم المتوضىء على غسل الوجه غسل عضو آخر فإنه يجعل الوجه أول وضوئه وظاهر هذا أن النية إذا كانت واجبة لا بد من استحضارها عند محاذاة الحجر
ويشترط أيضا خروج جميع بدنه عن جميع البيت كما نبه على ذلك بقوله ( ولو مشى على الشاذروان ) وهو بفتح الذال المعجمة الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع تركته قريش لضيق النفقة
قال المصنف في مناسكه وغيره عن أصحابنا وغيرهم والشاذروان ظاهر في جوانب البيت لكن لا يظهر عند الحجر الأسود أي وكأنهم تركوا رفعه لتهوين الاستلام وقد أحدث في هذه الأزمان عنده شاذروان
قال وينبغي أن يتفطن لدقيقة وهي أن من قبل الحجر الأسود فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت فيلزمه أن يقر قدميه في محلهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائما
( أو ) أدخل جزءا من بدنه في جزء من البيت كأن ( مس الجدار ) الكائن ( في موازاته ) أي الشاذروان أو أدخل جزءا منه في هواء الشاذروان أو هواء غيره من أجزاء البيت ( أو دخل من إحدى فتحتي الحجر ) بكسر الحاء وإسكان الجيم المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة
( وخرج من ) الفتحة ( الأخرى ) أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع واقتحم الجدار وخرج من الجانب الآخر
( لم يصح طوافه ) في المسائل المذكورة أما في غير الحجر فلقوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } وإنما يكون طائفا به إذا كان خارجا عنه وإلا فهو طائف فيه
وأما في الحجر فلأنه صلى الله عليه وسلم إنما طاف خارجه وقال خذوا عني مناسككم ولخبر مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر أمن البيت هو قال نعم قلت فما بالهم لم يدخلوه البيت قال إن قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديثو عهد في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه بالأرض لفعلت
وظاهر الخبر أن الحجر جميعه من البيت
قال في أصل الروضة وهو قضية كلام الأكثرين من الأصحاب وظاهر نص المختصر لكن الصحيح أنه ليس كذلك بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل بالبيت وقيل ستة أو سبعة ولفظ المختصر محمول على هذا ومع ذلك يجب الطواف خارجه لما مر لأن الحج باب إتباع وعلم من منع مرور بعض البدن على الشاذروان أن مرور بعض ثيابه لا يضر وهو كذلك
( وفي مسألة المس وجه ) بصحة الطواف لأن معظم بدنه خارج فيصدق أنه طائف بالبيت وذهب إليه الفوراني
( و ) خامسها ( أن يطوف ) بالبيت ( سبعا ) من الطوفات ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها للاتباع فلو ترك من السبع شيئا
وإن قل لم يجزه فلو شك في العدد أخذ بالأقل كعدد ركعات الصلاة فلو اعتقد أنه طاف سبعا فأخبره عدل بأنه ستا
____________________
(1/486)
استحب العمل بقوله قاله في الأنوار وجزم به السبكي بخلاف عدد ركعات الصلاة والفرق أن زيادة الركعات مبطلة بخلاف الطواف
ولا بد أن يحاذي شيئا من الحجر بعد الطوفة السابعة مما حاذاه أولا
( و ) سادسها كونه ( داخل المسجد ) للاتباع أيضا فلا يصح حوله بالإجماع كما نقله في المجموع ويصح داخل المسجد وإن وسع وحال حائل بين الطائف والبيت كالسقاية والسواري
نعم لو زيد فيه حتى بلغ الحل فطاف فيه في الحل لم يصح كما هو القياس في المهمات ويصح على سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت كالصلاة على جبل أبي قبيس مع ارتفاعه عن البيت
وهذا هو المعتمد وإن فرق بأن المقصود في الصلاة جهة بنائها فإذا علا كان مستقبلا
والمقصود في الطواف نفس بنائها فإذا علا لم يكن طائفا به
وسابعها نية الطواف إن استفل بأن لم يشمله نسك كسائر العبادات كالطواف المنذور والمتطوع به
قال ابن الرفعة وطواف الوداع لا بد له من نية لأنه يقع بعد التحلل ولأنه ليس من المناسك عند الشيخين كما سيأتي بخلاف الذي شمله نسك وهو طواف الركن للحج أو العمرة وطواف القدوم فلا يحتاج في ذلك إلى نية لشمول نية النسك له
وثامنها عدم صرفه لغيره كطلب غريم كما في الصلاة فإن صرفه انقطع لا إن نام فيه على هيئة لا تنقض الوضوء
( وأما السنن ) المطلوبة للطائف فثمانية أحدها ما ذكره بقوله ( فأن يطوف ماشيا ) ولو امرأة للاتباع رواه مسلم لا محمولا على آدمي أو بهيمة أو نحو ذلك لمنافاة الخشوع ولأن البهيمة قد تؤذي الناس وتلوث المسجد
نعم إن كان له عذر من مرض ونحوه فلا بأس لما في الصحيحين أن أم سلمة قدمت مريضة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طوفي وراء الناس وأنت راكبة وفيها أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكعا في حجة الوداع ليظهر فيستفتى فلمن احتيج إلى ظهوره للفتوى أن يتأسى به فلو ركب بهيمة بلا عذر لم يكره وكان خلاف الأولى كما في المجموع عن الجمهور وهذا عند أمن التلويث وإلا حرم إدخالها المسجد وقول الإمام وفي القلب من إدخال البهيمة شيء أي التي لا يؤمن من تلويثها المسجد فإن أمكن الاستيثاق فذاك أي خلاف الأولى وإلا فإدخالها مكروه محمول على كراهة التحريم لما سيأتي في الشهادات أن إدخال البهائم التي لا يؤمن تلويثها المسجد حرام
وما فرق به من أن إدخال البهيمة إنما هو لحاجة إقامة السنة كما فعله صلى الله عليه وسلم إطلاقه ممنوع لأن ذلك إذا لم يخف تلويثها ولا يقاس ذلك على إدخال الصبيان المحرمين المسجد لأن ذلك ضروري
وأيضا يمكن الاحتراز عنه عند الخوف بالتحفظ ونحوه ولا كذلك البهيمة
ونقل الإسنوي الكراهة عند أمن التلويث عن جزم الرافعي و النووي في مجموعه في الفصل المعقود لأحكام المساجد وقال إن عدم الكراهة مخالف لما في كتب الأصحاب ولنص الشافعي
وما رد به على الإسنوي من عدم الكراهة بأن من حفظ عدم الكراهة حجة على من يحفظ ممنوع إذ المثبت مقدم على النافي والإسنوي مثبت الكراهة وغيره ناف لها
وقال الأشموني في بسط الأنوار قلت نص الشافعي على كراهة الركوب بلا عذر وجزم بها في شرح المهذب وقال من زيادته في كتاب الشهادات إدخال الصبيان في المسجد حرام إن غلب تنجيسهم له وإن لم يغلب فمكروه قال أعني الأشموني وأقل مراتب البهائم أن تكون كالصبيان في ذلك
وقال الأذرعي إنه المذهب بلا شك ومع ذلك فترك الكراهة هنا كما مر أولى للحاجة لإقامة السنة بخلاف إدخالها لغير ذلك فيكره عند الأمن كما مر أيضا
قال الماوردي وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب فيما ذكر وإذا كان معذورا فطوافه محمولا أولى منه راكبا صيانة للمسجد من الدابة وركوب الإبل أيسر حالا من ركوب البغال والحمير
ذكر ذلك في المجموع وفيه ولو طاف زحفا مع قدرته على المشي صح مع الكراهة
قال الإسنوي ويسن أن يكون حافيا في طوافه كما نبه عليه بعضهم أي عند عدم العذر
قال في الإملاء وأحب لو كان يطوف بالبيت حافيا أن يقصر في المشي لتكثر خطاه رجاء كثرة الأجر له
( و ) ثانيها أن ( يستلم الحجر ) الأسود بعد استقباله أي يلمسه بيده ( أول طوافه ) ويسن أن تكون يده اليمنى
( ويقبله ) للاتباع رواه الشيخان
فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استلم بخشبة ونحوها
وإن كان ظاهر كلام المصنف أنه مخير بين اليد وغيرها فإنه لم يبين ما يستلمه به
قال في المجموع ويسن أن يخفف
____________________
(1/487)
القبلة بحيث لا يظهر لها صوت
ولا يسن للمرأة استلام ولا تقبيل ولا قرب من البيت إلا عند خلو المطاف ليلا أو نهارا وإن خصه في الكفاية بالليل
والخنثى كالمرأة
( ويضع ) بعد ذلك ( جبهته عليه ) للاتباع رواه البيهقي
ويسن أن يكون التقبيل والسجود ثلاثا كما في المجموع عن الأصحاب وهذا الحكم إنما هو للركن حتى لو نحي الحجر أو وضع في موضع آخر من الكعبة استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه حكاه في المجموع عن الدارمي وسكت عليه
( فإن عجز ) عن تقبيله ووضع جبهته عليه لزحمة مثلا ( استلم ) بيده لما روى الشافعي وأحمد عن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة وإلا فهلل وكبر
وقال في البويطي ولو كان الزحام كثيرا مضى وكبر ولم يستلم
قال في المجموع كذا أطلقوه
وقال البندنيجي قال الشافعي في الأم إلا في أول الطواف وآخره واجب له الاستلام ولو بالزحام
وهذا مع توقي التأذي والإيذاء كما أفهمه كلام الإسنوي وهو ظاهر فإن عجز عن استلامه بيده استلمه بنحو عصا ثم يقبل ما استلمه به من يد أو نحو العصا لخبر الصحيحين إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولما روى مسلم عن نافع قال رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم يقبل يده ويقول ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله مع أن ظاهره مع أخبار أخر أنه يقبل يده بعد استلام الحجر بها مع تقبيل الحجر إذا لم يتعذر وبه صرح ابن الصلاح في منسكه وهو قضية اطلاق الشافعي وجماعة لكن خصه الشيخان ومختصر كلامهما يتعذر تقبيله كما تقرر ونقله في المجموع عن الأصحاب
( فإن عجز ) عن استلامه بيده أو غيرها ( أشار ) إليه ( بيده ) أو بشيء فيها كما صرح به في المجموع
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير له كلما أتى الركن أشار إليه بشيء عنده وكبر
ولا يندب أن يشير إلى القبلة بالفم لأنه لم ينقل عنه
واحترز بقوله بيده وإن كان يوهم أنه لا يشير بما فيها مع أنه يشير به كما صرح به في المجموع
واعلم أن الاستلام والإشارة إنما يكونان باليد اليمنى فإن عجز فباليسرى قال شيخنا على الأقرب كما قاله الزركشي
( ويراعى ذلك ) أي الاستلام وما بعده ( في كل طوفة ) من الطوفات السبع لما في سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة وهو في الأوتار آكد لحديث إن الله وتر يحب الوتر ولأنه يصير مستلما في افتتاحه واختتامه وهو أكثر عددا
( ولا يقبل الركنين الشاميين ) وهما اللذان عندهما الحجر بكسر المهملة
( ولا يستلمهما ) بيده ولا بشيء فيها أي لا يسن ذلك لما في الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني
( ويستلم ) الركن ( اليماني ) ندبا في كل طوفة للحديث المذكور
( ولا يقبله ) لأنه لم ينقل ولكن يقبل بعد استلامه ما استلمه به فإن عجز عن استلامه أشار إليه كما نقله ابن عبد السلام خلافا لابن أبي الصيف اليمني لأنها بدل عنه لترتبها عليها عند العجز في الحجر الأسود فكذا هنا
ومقتضى القياس أنه يقبل ما أشار به وهو كذلك كما أفتى به شيخي
والمراد بعدم تقبيل الأركان الثلاثة إنما هو نفي كونه سنة فلو قبلهن أو غيرهن من البيت لم يكن مكروها ولا خلاف الأولى بل يكون حسنا كما نقله في الاستقصاء عن نص الشافعي وقال وأي البيت قبل فحسن غير أنا نؤمر بالاتباع
قال الإسنوي فتفطن له فإنه أمر مهم
فائدة السبب في اختلاف الأركان في هذه الأحكام أن الركن الذي فيه الحجر الأسود فيه فضيلتان كون الحجر فيه وكونه على قواعد سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم واليماني فيه فضيلة واحدة وهو كونه على قواعد سيدنا إبراهيم
وأما الشاميان فليس لهما شيء من الفضيلتين
( و ) ثالثها الدعاء المأثور فيسن ( أن يقول أول طوافه ) وكذا في كل طوفة كما في المجموع لكن الأولى آكد ( بسم الله ) أطوف ( والله أكبر ) واستحب الشيخ أبو حامد رفع
____________________
(1/488)
اليدين عند التكبير ( اللهم ) أطوف ( إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء ) أي تماما ( بعهدك ) وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى علينا بامتثال أمره واجتناب نهيه ( واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ) إتباعا للسلف والخلف
و إيمانا وما بعده مفعول لأجله والتقدير أفعله إيمانا بك إلخ
فائدة قال بعض العلماء لما خلق الله تعالى آدم استخرج ذريته من صلبه وقال { ألست بربكم قالوا بلى } فأمر أن يكتب بذلك عهد ويدرج في الحجر الأسود
( وليقل ) ندبا ( قبالة الباب ) بضم القاف أي في الجهة التي تقابله ( اللهم إن البيت بيتك والحرم حرمك والأمن أمنك وهذا مقام العائذ بك من النار ) هذا الدعاء من زوائد المنهاج وأصله على الروضة وأصلها وقد ذكره الشيخ أبو محمد الجويني وقال يشير إلى مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم
وهذا هو المعتمد كما جزم به في الأنوار وشيخنا في شرح الروض
وقال ابن الصلاح يعني بالعائذ نفسه أي هذا الملتجىء المستعيذ بك من النار
والقول بأنه يشير به إلى مقام إبراهيم وأن العائذ هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم غلط فاحش وقع لبعض عوام مكة
وعند الانتهاء إلى الركن العراقي اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد
وعند الانتهاء إلى تحت الميزاب اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك واسقني بكأس نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شرابا هنيئا لا أظمأ بعده يا ذا الجلال والإكرام
وبين الركن الشامي واليماني اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا وعملا مقبولا وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور أي واجعل ذنبي ذنبا مغفورا وقس به الباقي
والمناسب للمعتمر أن يقول عمرة مبرورة ويحتمل استحباب التعبير بالحج مراعاة للخبر ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد نبه عليه الإسنوي في الدعاء الآتي في الرمل
ومحل الدعاء بهذا إذا كان في ضمن حج أو عمرة وإلا فيدعو بما أحب
( وبين اليمانيين اللهم ) وفي المجموع ربنا ( آتنا في الدنيا حسنة ) قيل هي المرأة الصالحة وقيل العلم وقيل غير ذلك
( وفي الآخرة حسنة ) قيل هي الجنة وقيل العفو وقيل غير ذلك
( وقنا عذاب النار ) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه وهذا أحب ما يقال في الطواف إلي وأحب أن يقال في كله أي الطواف
( وليدع بما شاء ) في جميع طوافه فهو سنة مأثورا كان أو غيره وإن كان المأثور أفضل كما قال
( ومأثور الدعاء ) بالمثلثة أي المنقول من الدعاء في الطواف ( أفضل ) من غيره و ( من القراءة فيه ) للاتباع ( وهو أفضل من غير مأثوره ) لأن الموضع موضع ذكر والقرآن أفضل الذكر كما نقله الشيخ أبو حامد عن النص وفي الحديث يقول الرب سبحانه وتعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه رواه الترمذي وحسنه
ويسن الإسرار بالذكر والقراءة لأنه أجمع للخشوع ويراعى ذلك أيضا في كل طوفة اغتناما للثواب وهو في الأولى ثم في الأوتار آكد
( و ) رابعها ( أن يرمل ) الذكر الماشي ولو صبيا ( في الأشواط الثلاثة الأولى ) كلها مستوعبا به البيت لا كما يفهمه كلامه من الاكتفاء بالرمل في بعضها
والمختار كما في المجموع أنه لا يكره تسمية الطواف بالأشواط وقيس به الرمل
( بأن يسرع ) الطائف ( مشيه مقاربا خطاه ) لا عدو فيه ولا وثب ( ويمشي في الباقي ) من طوافه على هينته لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا وروى مسلم عنه قال رمل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى
____________________
(1/489)
أربعا
فإن طاف راكبا أو محمولا حرك الدابة ورمل به الحامل
ويكره ترك الرمل بلا عذر ولو تركه في شيء من الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية لأن هيئتها السكون فلا يغير كما لو ترك الجهر في الركعتين الأوليين فلا يقضي بعدهما لتفويت سنة الإسرار
تنبيه كان ينبغي للمصنف أن يزيد على هيئته كما زدته تبعا للمحرر فإن الإسراع في المشي ليس قسيمه المشي بل التأني فيه
والحكمة في استحباب الرمل مع زوال المعنى الذي شرع السعي لأجله وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة هو وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب فقال المشركون إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى
فلقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط وأن يمشوا أربعا بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا لأن فاعله يستحضر به سبب ذلك وهو ظهور أمرهم فيتذكر نعمة الله تعالى على إعزاز الإسلام وأهله
ويكره تركه كما نقل عن النص والمبالغة في الإسراع فيه وليدع بما شاء
( ويختص الرمل ) ويسمى خببا ( بطواف يعقبه سعي ) مشروع بأن يكون بعد طواف قدوم أو ركن
( وفي قول ) يختص ( بطواف القدوم ) لأن ما رمل فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان للقدوم وسعى عقبه فعلى القولين لا يرمل في طواف الوداع
وكذا من سعى عقب طوافه للقدوم لا يرمل في طواف الإفاضة إن لم يرد السعي عقبه وكذا إن أراده في الأظهر لأنه غير مطلوب منه
وإن طاف للقدوم ولم يسع عقبه ثم طاف للإفاضة رمل على الأول دون الثاني
والحاج من مكة يرمل في طوافه على الأول دون الثاني
وإذا طاف للقدوم وسعى عقبه ولم يرمل فيه لا يقضيه في طواف الإفاضة
ولو طاف ورمل ولم يسع رمل في طواف الإفاضة لبقاء السعي عليه
( وليقل فيه ) أي في رمله ( اللهم اجعله ) أي ما أنا فيه من العمل ( حجا مبرورا ) وهو الذي لا يخالطه معصية مأخوذ من البر وهو الطاعة وقيل هو المتقبل
( وذنبا مغفورا ) أي اجعل ذنبي ذنبا مغفورا
( وسعيا مشكورا ) والسعي هو للعمل والمشكور المتقبل وقيل الذي يشكر عليه للاتباع كما قاله الرافعي هذا إذا كان حجا فأما المعتمر فيأتي فيه ما تقدم في دعاء المطاف
وسكت الشيخان عما يقوله في الأربعة الأخيرة ونص الشافعي والأصحاب على أنه يسن أن يقول فيها رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اللهم { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }
( و ) خامسها ( أن يضطبع ) الذكر ولو صبيا ( في جميع كل طواف يرمل فيه ) وسيأتي بيانه قريبا للاتباع رواه أبو داود بإسناد صحيح كما في المجموع
( وكذا ) يضطبع ( في السعي على الصحيح ) قياسا على الطواف بجامع قطع مسافة مأمور بتكريرها وسواء اضطبع في الطواف قبله أم لا
والثاني لا لعدم وروده
وكلامه قد يفهم عدم استحبابه في ركعتي الطواف وهو الأصح لكراهة الاضطباع في الصلاة فيزيله عند إرادتها ويعيده عند إرادة السعي
ولا يسن في طواف لا يسن فيه رمل
( وهو جعل وسط ردائه ) بفتح السين في الأوضح ( تحت منكبيه الأيمن ) ويكشفه ( و ) جعل ( طرفيه على الأيسر ) كدأب أهل الشطارة
والاضطباع افتعال مشتق من الضبع بإسكان الباء وهو العضد
( ولا ترمل المرأة ولا تضطبع ) أي لا يطلب منها ذلك لأن بالرمل تتبين أعطافها وبالاضطباع ينكشف ما هو عورة منها
والمعنى السابق وهو كونه دأب أهل الشطارة يقتضي تحريمه كما قاله الإسنوي لأن ذلك يؤدي إلى التشبه بالرجال بل بأهل الشطارة منهم والتشبه بهم حرام ومثلها الخنثى
( و ) سادسها ( أن يقرب من البيت ) لشرفه ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل والأولى كما قاله بعضهم أن يجعل بينه وبين البيت ثلاث
____________________
(1/490)
خطوات ليأمن مرور بعض جسده على الشاذروان
نعم إن تأذى أو أذى غيره بنحو زحمة فالبعد أولى وهذا كله خاص بالرجال
أما المرأة والخنثى فيكونان في حاشية المطاف فإن طافا خاليين فكالرجل في استحباب القرب
( فلو فات الرمل بالقرب ) من البيت ( لزحمة ) أو نحوها ولم يرج فرجة مع القرب يرمل فيها لو انتظر
( فالرمل مع بعد ) عنه ( أولى ) لأن القرب فضيلة تتعلق بموضع العبادة والرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة والمتعلقة بنفس العبادة أولى بالمحافظة ألا ترى أن الصلاة بالجماعة في البيت أفضل من الانفراد في المسجد غير المساجد الثلاث كما مر فإن رجاها وقف ليرمل فيها ( إلا أن يخاف صدم النساء ) بأن كن في حاشية المطاف ( فالقرب بلا رمل أولى ) من البعد مع الرمل محافظة على الطهارة ولو خاف مع القرب أيضا لمسهن فترك الرمل أولى
ويسن أن يتحرك في مشيه ويري من نفسه أنه لو أمكنه لرمل كما في العدو في السعي
( و ) سابعها ( أن يوالي ) الطائف ( طوافه ) اتباعا وخروجا من خلاف من أوجبه
ويجوز الكلام فيه ولا يبطل به لقوله صلى الله عليه وسلم ألا إن الله أحل فيه المنطق ولكن الأولى تركه إلا في خير كأمر بمعروف ونهي عن منكر وتعليم جاهل وجواب مستفت
ويكره أن يبصق فيه وأن يجعل يديه وراء ظهره مكتتفا وأن يضع يده على فمه إلا في حالة التثاؤب فإن ذلك يستحب وأن يشبك أصابعه أو يفرقعها وأن يكون حاقنا أو حاقبا أو بحضرة طعام تتوق إليه نفسه وأن تكون المرأة منتقبة
ويكره فيه الأكل والشرب وكراهة الشرب أخف
وينبغي أن يكون في طوافه خاشعا خاضعا حاضر القلب ملازما للأدب بظاهره وباطنه مستحضرا في قلبه عظمة من هو طائف ببيته
ويلزمه أن يصون نظره عما لا يحل نظره إليه وقلبه عن احتقار من يراه من الضعفاء والمرضى ويعلم السائل برفق
وهل الأفضل التطوع في المسجد الحرام بالطواف أو الصلاة قال الماوردي الطواف أفضل وظاهر قول غيره أن الصلاة أفضل وهو المعتمد
وقال ابن عباس الصلاة لأهل مكة والطواف للغرباء
( و ) ثامنها ( أن يصلي بعده ركعتين ) وتجزىء عنهما الفريضة والراتبة كما في تحية المسجد وفعلهما
( خلف المقام ) الذي لإبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضل للإتباع ثم في الحجر
قال في المجموع تحت الميزاب ثم في المسجد الحرام ثم في الحرم حيث شاء من الأمكنة متى شاء من الأزمنة ولا يفوتان إلا بموته
ومال الإسنوي إلى أن فعلهما في الكعبة أولى منه خلف المقام والأفضل ما في المتن لأن الباب باب اتباع وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم صلاهما خلف المقام وقال خذوا عني مناسككم
وقال في التوسط ولا أحسب في أفضلية فعلهما خلف المقام خلافا بين الأئمة وهو إجماع متوارث لا يشك فيه بل ذهب الثوري إلى أنه لا يجوز فعلهما إلا خلف المقام كما نقله عنه صاحب الشامل وغيره
وبحث بعضهم بعد المسجد بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ثم باقي مكة ثم الحرم وظاهر كلامهم يخالفه
قال في أصل الروضة ويسن له إذا أخر ركعتي الطواف إراقة دم أي كدم التمتع
وقيده ابن المقري بما إذا صلاهما في غير الحرم لتأخرهما إليه عن الحرم والظاهر عدم التقييد
ويصليهما الأجير عن المستأجر والولي عن غير المميز ولو والى بين أسابيع طوافين أو أكثر ثم والى بين ركعاتها لكل طواف ركعتيه جاز بلا كراهة كما في المجموع عن الأصحاب والأفضل خلافه بأن يصلي عقب كل طواف ركعتيه ولو صلى للجميع ركعتين لم يكره
( يقرأ في الأولى ) منهما سورة ( قل يا أيها الكافرون و ) يقرأ ( في الثانية ) سورة الإخلاص ) للإتباع كما رواه مسلم ولما في قراءتهما من الإخلاص المناسب لما هنا لأن المشركين كانوا يعبدون الأصنام
( ويجهر ) فيهما ( ليلا ) مع ما ألحق به من الفجر إلى طلوع الشمس كما تقدم ذلك في صفة الصلاة
وسكت عنه المصنف للعلم به وإن كان الأولى له ذكره
ويسن فيما عدا ذلك قياسا على الكسوف وغيره ولما فيه من إظهار شعار النسك
فإن قيل قد صحح المصنف وغيره في
____________________
(1/491)
صفة الصلاة أن الأفضل في النوافل المفعولة ليلا أن يتوسط فيها بين الجهر والإسرار
أجيب بأن ذلك محله في النافلة المطلقة كما مر
( وفي قول تجب الموالاة ) بين أشواطه وأبعاضها ( و ) تجب ( الصلاة ) لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بالأمرين وقال خذوا عني مناسككم والأصح الأول أما الموالاة فلما مر في الوضوء فإن الخلاف هنا هو الخلاف المذكور هناك
ومحل الخلاف في التفريق الكثير بلا عذر فإن فرق يسيرا أو كثيرا بعذر لم يضر جزما كالوضوء
قال الإمام والكثير هو ما يغلب على الظن بتركه ترك الطواف إما بالإضراب عنه أو بظن أنه أتمه
ومن العذر إقامة المكتوبة لا صلاة الجنازة والرواتب بل يكره قطع الطواف الواجب لهما وأما الصلاة فلخبر هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع
والقولان في وجوب ركعتي الطواف إذا كان فرضا فإن كان نفلا فسنة قطعا وقيل على القولين وصححه الغزالي
ولا بعد في اشتراط فرض في نفل كالطهارة والستر في النافلة وعلى الوجوب يصح الطواف بدونهما إذ ليسا شرط ولا ركن له وتقدم أن من سنن الطواف إذا دخل تحت نسك النية فلو كان عليه طواف إفاضة أو نذر لم يتعين زمنه ودخل وقت ما عليه فنوى غيره عن غيره أو عن نفسه تطوعا أو قدوما أو دعاء وقع عن طواف الإفاضة أو النذر كما في واجب الحج والعمرة فقولهم إن الطواف يقبل الصرف أي إذا صرفه لغير طواف آخر كطلب غريم كما مرت الإشارة إلى ذلك
وذكر صاحب الخصال أن سنن الطواف تصل إلى نيف وعشرين خصلة وفيما ذكرته لك كفاية لمن وفقه الله تعالى نسأل الله تعالى من فضله أن يجعلنا من المتبعين ولا يجعلنا من المبتدعين
ولا يشترط في المحرم أن يطوف بنفسه ( و ) لهذا ( لو حمل الحلال محرما ) لمرض أو صغر أو لألم لم يطف المحرم عن نفسه لإحرامه ولم يصرفه عن نفسه
( وطاف به ) ولم ينوه لنفسه أو لهما ( حسب ) الطواف ( للمحمول ) عن الطواف الذي تضمنه إحرامه كراكب بهيمة وفي بعض النسخ حسب للمحمول بشرطه أي بشرط الطواف في حق المحمول من طهارة وستر عورة ودخول وقت وهذا لا بد منه وإلا وقع للحامل
فإن كان قد طاف عن نفسه لإحرامه فكما لو حمل حلالا
وسيأتي أو صرفه عن نفسه لم يقع عنه كما قاله السبكي
وإن نواه الحامل لنفسه أو لهما وقع له عملا بنيته في حقه
( وكذا ) يحسب للمحمول أيضا ( لو حمله محرم قد طاف عن نفسه ) لإحرامه أو لم يدخل وقت طوافه كما بحثه الإسنوي
( وإلا ) بأن لم يكن المحرم الحامل طاف عن نفسه ودخل وقت طوافه
( فالأصح أنه إن قصده للمحمول فله ) خاصة تنزيلا للحامل منزلة الدابة وإنما لم يقع للحامل لأنه صرفه عن نفسه وهو مبني على قولنا يشترط أن لا يصرف الطواف إلى غرض آخر وهو الأصح كما مر
والثاني للحامل خاصة كما إذا أحرم عن غيره وعليه فرضه وهذا مبني على قولنا لا يضر الصارف
والثالث يقع لهما جميعا لأن أحدهما قد دار والآخر قد دير به
( وإن قصده لنفسه أو لهما ) أو أطلق ( فللحامل فقط ) وإن قصد محموله نفسه لأنه الطائف ولم يصرفه عن نفسه
ومن هنا يؤخذ أنه لو حمل حلال حلالا ونويا وقع للحامل ولهذا قال في المجموع ويقاس بالمحرمين الحلالان الناويان فيقع للحامل منهما على الأصح وسواء في الصغير حمله وليه الذي أحرم عنه أم غيره
لكن ينبغي كما قال شيخنا في حمل غير الولي أن يكون بإذن الولي لأن الصغير إذا طاف راكبا لا بد أن يكون وليه سائقا أو قائدا كما قاله الروياني وغيره ومحله في غير المميز
فلو لم يحمله بل جعله في شيء موضوع على الأرض وجذبه فظاهر أنه لا تعلق لطواف كل منهما بطواف الآخر لانفصاله عنه ونظيره لو كان بسفينة وهو يجذبها
تنبيه قال الإسنوي وما صححه في المنهاج تبعا لأصله في مسألة ما إذا نواهما نص الشافعي في الأم والإملاء على خلافه إلا أن نص الأم في وقوعه للمحمول ونص الإملاء في وقوعه لهما كذا نقله في البحر فالنصان متفقان على نفي ما ذكر ونص الأم أقوى عند الأصحاب وهو هنا بخصوصه أظهر من نص الإملاء فيجب الأخذ به
واعترضه الأذرعي بأن ما نقله عن البحر من نقله عن الإملاء من وقوعه لهما غلط بل الذي فيه في عدة نسخ عن الإملاء وقوعه
____________________
(1/492)
للحامل دون المحمول
ورجحه الأصحاب لموافقته للقياس فإنه لو نوى الحج له ولغيره وقع له فكذا ركنه قال والباعث له على ذلك حب التغليظ والرجل رحمه الله تعالى ثقة ولكنه كثير الوهم في الفهم والنقل على ما تبين فالله يغفر لنا وله اه
وتصوير المصنف المسألة بما إذا كان المحمول واحد جرى على الغالب وإلا لو كان المحمول اثنين فأكثر لم يختلف الحكم
قال الزركشي وقضية كلام الكافي أنه لا فرق في أحكام المحمول بين الطواف والسعي وفيه نظر
قال ابن يونس وإن حمله في الوقوف أجزأ فيهما يعني مطلقا
والفرق أن المعتبر ثم السكون أي الحضور وقد وجد في كل منهما وهنا الفعل ولم يوجد منهما ولو طاف محرم بالحج معتقدا أن إحرامه عمرة فبان حجا وقع عنه كما لو طاف عن غيره وعليه طواف
فصل فيما يختم به الطواف وبيان كيفية السعي وإذا فرغ من طوافه ثم ركعتي الطواف يعود ندبا ( ويستلم الحجر ) الأسود بشرطه في الأنثى والخنثى ( بعد الطواف ) بأن يختمه باستلام الحجر ( و ) قوله بعد ( صلاته ) مزيد على المحرر للاتباع رواه مسلم
وليكون آخر عهده ما ابتدأ به
واقتصار المصنف على الاستلام يقتضي أنه لا يسن تقبيل الحجر ولا السجود عليه
قال الإسنوي فإن كان الأمر كذلك فلعل سببه المبادرة إلى السعي اه
وصرح أبو الطيب وصاحب الذخائر بأنه يقبله أي ويسجد عليه
قال الأذرعي والظاهر أنه متفق عليه وإنما اقتصروا على ذكر الاستلام اكتفاء بما بينوه في أول الطواف اه
وهذا هو الظاهر
قال في المجموع وما قاله الماوردي من أنه يأتي الملتزم والميزاب بعد استلامه ويدعو شاذ
( ثم يخرج ) ندبا ( من باب الصفا ) وهو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين ( للسعي ) بين الصفا والمروة للإتباع رواه مسلم
( وشرطه ) أي شروطه ثلاثة أحدها ( أن يبدأ بالصفا ) بالقصر جمع صفاة وهي الحجر الصلب والمراد طرف جبل أبي قبيس ويختم بالمروة في المرة الأولى والثالثة والخامسة والسابعة
وأن يبدأ بالمروة ويختم بالصفا في المرة الثانية والرابعة والسادسة
فلو عكس لم تحسب المرة الأولى لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال ابدءوا بما بدأ الله به رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم وهو في مسلم لكن بلفظ أبدأ على الخبر لا الأمر
ورواه الأربعة بلفظ نبدأ بالنون
وعلم من ذلك أنه يشترط الترتيب فلو ترك الخامسة جعل السابعة خامسة وأتى بالسادسة والسابعة ولا يشترط الموالاة بين مراته كالطواف بل أولى
( و ) ثانيها ( أن يسعى سبعا ) للاتباع رواه الشيخان
( ذهابه من الصفا إلى المروة ) بفتح الميم وأصلها الحجر الرخو وهي في طرف جبل قعيقعان
( مرة ) بالرفع خبر ذهابه
( وعوده منها إليه ) مرة ( أخرى ) لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وختم بالمروة كما رواه مسلم
وقيل إن الذهاب والإياب مرة واحدة كمسح الرأس ورد بأنه لو كان كذلك للزم أن يكون الختم بالصفا وهو خلاف الوارد
ولا بد من استيعاب المسافة في كل مرة بأن يلصق عقبه بأصل ما يذهب منه ورؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه والراكب يلصق حافر دابته قال في المجموع وبعض الدرج محدث فليحذر أن يخلفها وراءه فلا يصح سعيه حينئذ بل ينبغي له أن يصعد الدرجة حتى يستيقن وقضيته أنه لا يصح سعي الراكب حتى يصعد على ذلك فلو عدل عن موضع السعي إلى طريق آخر في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا لم تحسب له تلك المرة على الصحيح كما في المجموع وزيادة الروضة
قال ابن عبد السلام والمروة أفضل من الصفا لأنها مرور الحاج أربع مرات والصفا مروره ثلاثا والبداءة بالصفا وسيلة إلى استقبالها
قال والطواف أفضل أركان الحج حتى الوقوف
قال الزركشي وفيه نظر بل أفضلها الوقوف لخبر الحج عرفة ولهذا لا يفوت الحج إلا بفواته ولم يرد غفران الذنوب في شيء ما ورد في الوقوف فالصواب القطع بأنه أفضل الأركان اه
ورد عليه بأن الوجه الأول لتصريح الأصحاب بأن الطواف قربة في نفسه بخلاف الوقوف
( و ) ثالثها ( أن يسعى بعد طواف ركن أو ) طواف ( قدوم ) لأنه الوارد من فعله صلى الله عليه وسلم ونقل الماوردي الإجماع على ذلك
وخرج بقوله بعد طواف ركن أو قدوم طواف الوداع وطواف النفل
أما طواف
____________________
(1/493)
لأ الوداع فلعدم تصور وقوع السعي بعده كما قاله في الشرح والروضة لأنه إذا بقي السعي لم يكن المأتي به طواف وداع
نعم إن بلغ قبل سعيه مسافة القصر فقال من المتأخرين قائل اعتد به ندبا وقائل وجوبا بناء على أنه يؤمر به من يريد الخروج من مكة وإن كان محرما
والأوجه الموافق للمنقول كما قال شيخنا خلاف ذلك إذ المراد طواف الوداع المشروع بعد فراغ المناسك كما هو صريح كلام الشيخين لا كل وداع وأما طواف النفل فيما إذا أحرم المكي بالحج من مكة ثم تنفل بالطواف وأراد السعي بعد فصرح في المجموع بعدم إجزائه
( بحيث لا يتخلل بينهما ) أي السعي وطواف القدوم ( الوقوف بعرفة ) وإن تخلل بينهما فصل طويل فإن وقف بها لم يجزه السعي إلا بعد طواف الإفاضة لدخول وقت طواف الفرض فلم يجز أن يسعى الآن لفوات التبعية بتخلل الوقوف فالحيثية المذكورة قيد في القدوم فقط
( ومن سعى بعد ) طواف ( قدوم لم يعده ) أي لم تسن له إعادته بعد طواف الإفاضة كما قاله في المحرر لأنها لم ترد ولأن السعي ليس قربة في نفسه كالوقوف بخلاف الطواف فإنه عبادة يتقرب بها وحدها
فإن أعاده فخلاف الأولى وقيل مكروه وقيل تستحب الإعادة
نعم يجب على الصبي إذا بلغ بعرفة إعادته وعتق العبد كبلوغ الصبي
ويسن للقارن طوافان وسعيان خروجا من خلاف من أوجبهما عليه من السلف والخلف قاله الأذرعي بحثا وهو حسن
وهل الأفضل السعي بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة ظاهر كلام المصنف في مناسكه الكبرى الأول وصرح به في مختصرها
( ويستحب أن يرقي ) الذكر ( على الصفا والمروة قدر قامة ) لإنسان معتدل وأن يشاهد البيت لأنه صلى الله عليه وسلم رقي على كل منهما حتى رأى البيت رواه مسلم
وقيل إن الكعبة كانت ترى فحالت الأبنية بينها وبين المروة واليوم لا ترى الكعبة إلا على الصفا من باب الصفا بل المروة الآن ليس بها ما يرقى عليه إلا مصطبة فيسن رقيها
أما المرأة فلا ترقى كما في التنبيه أي لا يسن لها ذلك
قال الإسنوي وهذه المسألة من مفردات التنبيه ولا ذكر لها في المهذب ولا شرحه ولا الروضة والشرحين
قال والقياس أن الخنثى كذلك
قال ولو فصل فيهما بين أن يكونا بخلوة أو بحضرة محارم وأن لا يكونا كما قبل به في جهر الصلاة لم يبعد اه
والظاهر أنه لا يطلب الرقي منهما مطلقا
( فإذا رقي ) بكسر القاف في الماضي وفتحها في المضارع أو ألصق أصابعه بلا رقي استقبل القبلة كما نص عليه
و ( قال ) ذكرا كان أو غيره ( الله أكبر الله أكبر الله أكبر ) من كل شيء ( ولله الحمد ) أي على كل حال لا لغيره كما يشعر به تقديم الخبر
( الله أكبر على ما هدانا ) أي دلنا على طاعته بالإسلام وغيره ( والحمد لله على ما أولانا ) من نعمه التي لا تحصى ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) تقدم شرحه في خطبة المتن ( له الملك ) أي ملك السموات والأرض لا لغيره ( وله الحمد يحيي ويميت بيده ) أي قدرته ( الخير وهو على كل شيء ) ممكن ( قدير ) لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون
( ثم يدعو بما شاء دينا ودنيا
قلت ويعيد الذكر والدعاء ) السابقين ( ثانيا وثالثا والله أعلم ) للاتباع رواه مسلم بزيادة بعض ألفاظ على ما ذكره المتن ونقص بعض
وقوله بيده الخير قال ابن شهبة لم يوجد في كتب الحديث لكن ذكره الشافعي في الأم و البويطي
قال الأذرعي الدعاء بأمر الدين يكون مندوبا متأكدا للتأسي وبأمر الدنيا مباحا كما سبق في الصلاة اه
ويسن أن يقول اللهم إنك قلت { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد وإني أسألك كما هديتني إلى الإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم رواه مالك في الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يقوله على
____________________
(1/494)
الصفا
( و ) يسن ( أن يمشي ) على هينته ( أول السعي وآخره و ) أن ( يعدو ) الذكر أي يسعى سعيا شديدا فوق الرمل كما قاله في المجموع ( في الوسط ) الذي بينهما للاتباع رواه مسلم
( وموضع النوعين ) أي المشي والعدو ( معروف ) هناك فيمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع فيعدو فإن عجز تشبه حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بجدار دار العباس المشهورة الآن برباطه رضي الله تعالى عنه فيمشي على هينته حتى يصل إلى المروة فإذا عاد منها إلى الصفا مشى في محل مشيه وسعى في محل سعيه أولا
أما الأنثى فتمشي في الكل وقيل إن خلت بالليل سعت كالذكر والخنثى في ذلك كالأنثى كما نقله في المجموع في باب الأحداث عن أبي الفتوح وأقره
ويسن أن يقول الذكر في عدوه وكذا المرأة والخنثى في محله كما بحثه بعض المتأخرين رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم
تنبيه سكوت المصنف هنا عن الستر والطهارة مع اشتراطه لهما في الطواف مشعر بعدم وجوبهما وهو كذلك فيسنان
ويسن أيضا الموالاة في مرات السعي وكذا بين الطواف والسعي وأن يكون ماشيا إلا لعذر فإن ركب بلا عذر لم يكره اتفاقا كما في المجموع وما في جامع الترمذي من أن الشافعي كره السعي راكبا إلا لعذر محمول على خلاف الأولى
قال في المجموع ويكره للساعي أن يقف في سعيه لحديث أو غيره ولو شك في عدد مراته قبل الفراغ أخذ بالأقل كما مر في الطواف
ويسن أن يأخذ بقول ثقة أخبره وإن اعتقد خلافه كما مر في الطواف أيضا ثم بعد السعي إن كان معتمرا حلق أو قصر وصار حلالا وإلا فإن كان مفردا أو قارنا بقي على إحرامه
فصل في الوقوف بعرفة وما يذكر معه
( يستحب للإمام ) الأعظم إن خرج مع الحجيج ( أو منصوبه ) المؤمر عليهم إن لم يخرج الإمام ( أن يخطب بمكة في سابع ذي الحجة ) بكسر الحاء أفصح من فتحها المسمى بيوم الزينة لتزيينهم فيه هوادجهم
وإنما يخطب ( بعد صلاة الظهر ) أو الجمعة إن كان يومها ( خطبة فردة ) ولا يكفي عنها خطبة الجمعة لأن السنة فيها التأخير عن الصلاة ولأن القصد بها التعليم لا الوعظ والتخويف فلم تشارك خطبة الجمعة بخلاف خطبة الكسوف
( يأمرهم فيها بالغدو ) اليوم الثامن المسمى يوم التروية لأنهم يتروون فيه الماء
( إلى منى ) بكسر الميم تصرف ولا تصرف وتذكر وهو الأغلب وقد تؤنث وتخفيف نونها أشهر من تشديدها
سميت بذلك لكثرة ما يمنى أي يراق فيها من الدماء
ويفتتح الخطبة بالتلبية إن كان محرما وإلا فبالتكبير كما نقله في المجموع عن الماوردي وأقره
( ويعلمهم ) فيها ( ما أمامهم من المناسك ) قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم رواه البيهقي بإسناد جيد كما في المجموع
فإن كان الخطيب فقيها قال هل من سائل وتقدم في صلاة العيدين أن خطب الحج أربع هذه وخطبة يوم عرفة ويوم النحر ويوم النفر الأول وكلها فرادى وبعد صلاة الظهر إلا يوم عرفة فثنتان وقبل صلاة الظهر
وقضية كلام المصنف أنه يخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك وهو ما اقتضاه الخبر السابق ونص عليه الشافعي في الإملاء
ومقتضى كلام أصل الروضة أنه يخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك إلى الخطبة الأخرى
ولا منافاة إذ الإطلاق بيان للأكمل والتقييد بيان للأقل
ويأمر فيها أيضا المتمتعين قال في المجموع والمكيين بطواف الوداع قبل خروجهم وبعد إحرامهم كما اقتضاه نقل المجموع له عن البويطي والأصحاب بخلاف المفرد والقارن الآفاقيين لا يؤمران بطواف وداع لأنهما لم يتحللا من مناسكهما وليس مكة محل إقامتهما
( ويخرج ) ندبا ( بهم من الغد ) بعد صلاة الصبح إن لم يكن يوم جمعة ( إلى منى ) فيصلون بها الظهر وباقي الخمس للاتباع رواه مسلم
فإن كان يوم جمعة خرج بهم قبل
____________________
(1/495)
الفجر لأن السفر يومها بعد الفجر وقبل الزوال حرام فمحله فيمن تلزمه الجمعة ولم يمكنه إقامتها بمنى فإن حدث فيها قرية واستوطنها أربعون كاملون صلوا فيها الجمعة لتمكنهم من إقامتها وإن حرم البناء ثم ويجوز خروجهم بعد الفجر
ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة بعرفة مع أنه قد ثبت في الصحيحين أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة
( ويبيتون ) ندبا ( بها ) فليس بركن ولا واجب بإجماع
ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض الناس في هذه الليلة من إيقاد الشموع وغيرها وهو مشتمل على منكرات
قال أبو الحسن الزعفراني يسن المشي من مكة إلى المناسك كلها إلى انقضاء الحج لمن قدر عليه وأن يقصد مسجد الخيف فيصلي فيه ركعتين ويكثر التلبية قبلهما وبعدهما ويصلي مكتوبات يومه وصبح غده في مسجدها
( فإذا طلعت الشمس ) على ثبير بفتح المثلثة جبل كبير بمزدلفة على يمين الذاهب من منى إلى عرفات
( قصدوا عرفات ) مارين على طريق ضب وهو الجبل المطل على منى ويعودون على طريق المأزمين وهو بين الجبلين اقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك ويسن أن يقول السائر اللهم إليك توجهت وإلى وجهك الكريم أردت فاجعل ذنبي مغفورا وحجي مبرورا وارحمني ولا تخيبني إنك على كل شيء قدير وأن يعود في طريق غير الذي ذهب فيه
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( ولا يدخلونها بل يقيمون بنمرة ) بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكانها مع فتح النون وكسرها موضع ( بقرب عرفات حتى تزول الشمس والله أعلم ) للإتباع رواه مسلم
ويسن أن يغتسل بنمرة للوقوف فإذا زالت الشمس ذهبوا إلى مسجد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقيل إنه أحد أمراء بني العباس وهو الذي ينسب إليه باب إبراهيم بمكة وصدره من عرنة بضم العين وآخره من عرفة وتميز بينهما صخرات كبار فرشت هناك
قال البغوي وصدره محل الخطبة والصلاة
( ثم يخطب الإمام ) أو منصوبه ( بعد الزوال ) قبل صلاة الظهر ( خطبتين ) خفيفتين يعلمهم في الأولى المناسك ويحثهم على إكثار الذكر والدعاء بالموقف ويجلس بعد فراغها بقدر سورة الإخلاص وحين يقوم إلى الخطبة الثانية وهي أخف من الأولى يؤذن للظهر فيفرغ الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الأذان
فإن قيل الأذان يمنع سماع الخطبة أو أكثرها فيفوت مقصودها
أجيب بأن المقصود بالخطبة من التعليم إنما هو في الأولى وأما الثانية فهي ذكر ودعاء فشرعت مع الأذان قصدا للمبادرة بالصلاة
( ثم ) بعد الفراغ من الخطبتين ( يصلي الناس الظهر والعصر جمعا ) تقديما للاتباع في ذلك رواه مسلم
ويقصرهما أيضا والقصر والجمع هنا وفيما يأتي بالمزدلفة للسفر لا للنسك فيختصان بسفر القصر كما مر في باب الجمع بين الصلاتين خلافا لما جرى عليه المصنف في مناسكه الكبرى من أن ذلك للنسك فيأمر الإمام المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر بالإتمام وعدم الجمع كأن يقول لهم بعد السلام يا أهل مكة ومن سفره قصير أتموا فإنا قوم سفر
قال في المجموع نقلا عن الشافعي والأصحاب إن الحجاج إذا دخلوا مكة ونووا أن يقيموا بها أربعا لزمهم الإتمام فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خرجوا لأنهم أنشأوا سفرا تقصر فيه الصلاة
ثم بعد فراغهم من الصلاة يذهبون إلى الموقف ويعجلون السير إليه وأفضله للذكر موقفه صلى الله عليه وسلم وهو عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي يوسط أرض عرفة ويقال له إلال بكسر الهمزة بوزن هلال وذكر الجوهري أنه بفتح الهمزة والمشهور كما في المجموع الأول فإن تعذر الوصول إليها لزحمة قرب منها بحسب الإمكان وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إبراهيم نحو ميل
أما الأنثى فيندب لها الجلوس في حاشية الموقف ومثلها الخنثى
( و ) يسن أن ( يقفوا ) أي الإمام أو منصوبه والناس ( بعرفة إلى الغروب ) للاتباع رواه مسلم
والأفضل أن يقفوا بعد الغروب حتى نزول الصفرة قليلا
فإن قيل قول المصنف يقفوا منصوب عطفا على يخطب فيقتضي استحباب الوقوف كما قدرته في كلامه مع أنه واجب
أجيب بأنه قيد
____________________
(1/496)
الوقوف لاستمرار إلى الغروب وهو مستحب على الصحيح
( و ) أن ( يذكروا الله تعالى ويدعوه ) بإكثار ( ويكثروا التهليل ) لقوله صلى الله عليه وسلم خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وزاد البيهقي اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري
ويسن الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتكلف السجع في الدعاء ولا بأس بالسجع إذا كان محفوظا أو قاله من غير قصد له
ويسن قراءة القرآن قال في البحر قال أصحابنا يستحب أن يكثر من قراءة سورة الحشر في عرفة فقد روي عن علي بن أبي طالب ذلك رضي الله تعالى عنه وفي كتاب الدعوات للمستقري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من قرأ قل هو الله أحد ألف مرة يوم عرفة أعطي ما سأل
ويسن رفع اليدين في الدعاء وأن يقف مستقبل القبلة متطهرا والأفضل للرجل أن يقف راكبا على الأظهر
وأما صعود الجبل فلا فضيلة في صعوده كما في المجموع وإن قال ابن جرير و الماوردي و البندنيجي إنه موقف الأنبياء ومن أدعيته المختارة { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } الآية اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة واكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك ونور قلبي وقبري واهدني وأعذني من الشر كله واجمع لي الخير اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
وليحذر من التقصير في هذا اليوم فإنه أعظم الأيام والموقف أعظم المجامع يجتمع فيه الأولياء والخواص ويكثر البكاء مع ذلك فهناك تسكب العبرات وتقال العثرات
وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه لقوله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد
وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال قال عمر رضي الله تعالى عنه يغفر الله تعالى للحاج ولمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرا من ربيع الأول
وليحسن الواقف الظن بالله تعالى فقد نظر الفضيل بن عياش إلى بكاء الناس بعرفة فقال أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا أكان يردهم فقالوا لا فقال والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل بدانق
ورأى سالم مولى ابن عمر سائلا يسأل الناس في عرفة فقال يا عاجز أفي هذا اليوم يسئل غير الله تعالى وقيل إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة غفر الله تعالى لكل أهل الموقف أي بلا واسطة وغير يوم الجمعة بواسطة أي يهب مسيئهم لمحسنهم ويرفع يديه في دعائه لخبر ترفع الأيدي في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين
ولا يجاوز بهما الرأس ولا يفرط في الجهر بالدعاء أو غيره والأفضل للواقف أن لا يستظل بل يبرز للشمس إلا لعذر
فرع التعريف بغير عرفة وهو اجتماع الناس بعد العصر يوم عرفة للدعاء للسلف فيه خلاف ففي البخاري أول من عرف بالبصرة ابن عباس ومعناه إذا صلى العصر يوم عرفة أخذ في الدعاء والذكر والضراعة إلى الله تعالى إلى غروب الشمس كما يفعل أهل عرفة ولهذا قال أحمد أرجو أنه لا بأس به وقد فعله الحسن وجماعات وكرهه جماعة منهم مالك
قال المصنف ومن جعله بدعة لم يلحقه بفاحش البدع بل يخفف أمره أي إذا خلا من اختلاط الرجال بالنساء وإلا فهو من أفحشها
( فإذا غربت الشمس ) يوم عرفة ( فصدوا مزدلفة ) مارين على طريق المأزمين وهو بين الجبلين وعليهم السكينة والوقار
ومن وجد فرجة أسرع
وهي كلها من الحرم وحدها ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر مشتقة من الإزدلاف وهو التقرب لأن الحجاج يتقربون منها إلى منى والإزدلاف التقرب ومنه قوله تعالى { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت
وقيل لأن الناس يجتمعون بها والاجتماع الإزدلاف ومنه قوله تعالى { وأزلفنا ثم الآخرين } أي جمعناهم
وقيل لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات
وتسمى أيضا جمعا بفتح الجيم وسكون الميم سميت بذلك لاجتماع الناس بها وقيل لأنه يجمع فيها بين
____________________
(1/497)
الصلوات وقيل لاجتماع آدم وحواء بها
( وأخروا المغرب ليصلوها مع العشاء بمزدلفة جمعا ) للاتباع رواه الشيخان
هذا إن أمنوا فوات وقت اختيار العشاء كما قاله القاضي أبو الطيب و ابن الصباغ وغيرهما وإلا جمعوا في الطريق قال في المجموع ولعل إطلاق الأكثرين محمول عليه
( وواجب الوقوف ) بعرفة ( حضوره ) أي المحرم أدنى لحظة بعد زوال يوم عرفة ( بجزء من أرض عرفات ) لقوله صلى الله عليه وسلم وقفت ههنا وعرفة كلها موقف رواه مسلم
وحد عرفة ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر وليس منها وادي عرنة ولا نمرة كما علم مما مر
وأما الدليل على وجوب الوقوف فخبر الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة كما في المجموع
وليلة جمع هي ليلة مزدلفة كما مر ولا يشترط المكث بها كما قال
( وإن كان مارا في طلب آبق ونحوه ) كدابة شاردة ولا أن لا يصرفه إلى جهة أخرى ولا أن يكون عالما بالبقعة أو اليوم ولكن ( يشترط كونه ) محرما ( أهلا للعبادة ) إذا أحرم بنفسه ( لا مغمى عليه ) جميع وقت الوقوف فلا يجزىء وقوفه لعدم أهليته للعبادة ولهذا لا يجزئه الصوم إذا أغمي عليه جميع النهار فإن أفاق لحظة كفى كما في الصوم
والسكران كالمغمى عليه ولو غير متعد بسكره والمجنون أولى من المغمى عليه بعدم الإجزاء والمراد بعدم الإجزاء لهم أنه لا يقع فرضا ولكن يصح حجهم نفلا كما صرح به الشيخان في المجنون وفي حج الصبي غير المميز ولا ينافيه قول الشافعي في المغمى عليه فاته الحج لصحة حمله على فوات الحج الواجب
أما من أحرم به وليه فلا يشترط فيه ما ذكر
وغير المحرم لا يكتفي بوقوفه فلا بد من ذكر ما زدته
( ولا بأس بالنوم ) ولو مستغرقا جميع الوقت كما في الصوم
( ووقت الوقوف من ) حين ( الزوال ) للشمس ( يوم عرفة ) لأنه صلى الله عليه وسلم وقف كذلك وقال خذوا عني مناسككم وتابعه أهل الأمصار على ذلك إلى يومنا هذا
وفي وجه أنه يشترط كونه بعد مضي إمكان صلاة الظهر والعصر جمعا وإمكان خطبتين كما قالوا بمثله في دخول وقت الأضحية ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقف إلا بعد الصلاة وقال خذوا عني مناسككم
ورد هذا بنقل ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع على اعتبار الزوال لا غير وإنما قدم صلى الله عليه وسلم الصلاة على الوقوف مراعاة لفضيلة أول الوقت لئلا يشتغل عنها بالوقوف
( والصحيح بقاؤه إلى الفجر يوم النحر ) لما روى أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة الحج عرفة من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج وفي رواية من جاء عرفة ليلة جمع أي ليلة مزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وقال صلى الله عليه وسلم حين خرج للصلاة بمزدلفة من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه والتفث ما يفعله المحرم عند تحلله من إزالة شعث ووسخ وحلق شعر وقلم ظفر
( ولو وقف نهارا ) بعد الزوال ( ثم فارق عرفة قبل الغروب ولم يعد ) إليها أجزأه ذلك ( أراق دما استحبابا ) خروجا من خلاف من أوجبه
( وفي قول يجب ) لتركه نسكا فعله النبي صلى الله عليه وسلم وهو الجمع بين الليل والنهار والأصل في ترك النسك إيجاب الدم إلا ما خرج بدليل
( وإن عاد ) لعرفة ( فكان بها عند الغروب فلا دم ) عليه جزما لأنه جمع بين الليل والنهار
( وكذا إن عاد ) إليها ( ليلا ) فلا دم عليه ( في الأصح ) لما مر وصحح في المجموع القطع به
والثاني يجب الدم لأن النسك الوارد الجمع بين آخر النهار وأول الليل وقد فوته
( ولو وقفوا اليوم العاشر غلطا ) لظن أنه التاسع كأن غم عليهم هلال ذي الحجة فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين ثم تبين أن الهلال أهل ليلة الثلاثين ولو كان وقوفهم بعد تبين أنه العاشر كما إذا ثبت أنه العاشر ليلا ولم يتمكنوا من الوقوف ( أجزأهم ) الوقوف للإجماع
____________________
(1/498)
لخبر أبي داود مرسلا يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه ولأنهم لو كلفوا بالقضاء لم يأمنوا وقوع مثله فيه ولأن فيه مشقة عامة
( إلا أن يقلوا على خلاف العادة فيقضون في الأصح ) لعدم المشقة العامة والثاني لا قضاء لأنهم لا يأمنون مثله في القضاء
وليس من الغلط المراد لهم ما إذا وقع ذلك بسبب الحساب كما ذكره الرافعي
قال الدارمي وإذا وقفوا العاشر غلطا حسب أيام التشريق على الحقيقة لا على حساب وقوفهم فلا يقيمون بمنى إلا ثلاثة أيام خاصة
تنبيه لا فرق في ذلك بين أن يتبين لهم الحال بعد العاشر أو فيه في أثناء الوقوف فأما إذا تبين لهم فيه قبل الزوال فوقفوا عالمين فقال البغوي فينبغي أن يجعل قوله غلطا مفعولا لأجله ليشمل المسائل الثلاث وأما إذا جعل مصدرا في موضع الحال بمعنى غالطين فلا تدخل فيه المسألة الثالثة لأن وقوفهم فيها لم يقارنه غلط
ومقتضى كلام المصنف أنهم لو وقفوا ليلة الحادي عشر لا يجزىء وهو كذلك كما صححه القاضي حسين وإن بحث السبكي الإجزاء كالعاشر لأنه من تتمته
ومن رأى الهلال وحده أو مع غيره وردت شهادته لا معهم ووقف قبلهم أجزأه إذ العبرة في دخول وقت عرفة وخروجه باعتقاده وهذا كمن شهد برؤية هلال رمضان فردت شهادته يلزمه الصوم
( وإن وقفوا في ) اليوم ( الثامن ) غلطا بأن شهد شاهدان برؤية هلال ذي الحجة ليلة الثلاثين من ذي القعدة ثم بانا كافرين أو فاسقين ( وعلموا قبل ) فوت ( الوقوف وجب الوقوف في الوقت ) تداركا له ( وإن علموا بعده ) أي بعد فوات وقت الوقوف ( وجب القضاء ) لهذه الحجة في عام آخر ( في الأصح ) لندرة الغلط في التقدم ولأن تأخير العبادة عن وقتها أقرب إلى الاحتساب من تقديمها عليه ولأن الغلط بالتقديم يمكن الاحتراز عنه فإنه إنما يقع للغلط في الحساب وللخلل في الشهود الذين شهدوا بتقديم الهلال
والغلط بالتأخير قد يكون بالغيم المانع من الرؤية ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه
والثاني لا يجب عليهم القضاء قياسا على ما إذا غلطوا بالتأخير
قال في البيان وعليه الأكثرون وفرق الأول بما مر
ولو غلطوا بيومين فأكثر أو في المكان لم يصح جزما لندرة ذلك
فصل في المبيت بالمزدلفة والدفع منها وفيما يذكر معها
( ويبيتون بمزدلفة ) بعد دفعهم من عرفة للاتباع رواه مسلم وهو واجب وليس بركن على الأصح فيهما خلافا للرافعي في قوله إنه مندوب و للسبكي في اختياره أنه ركن
ويكفي في المبيت بها الحصول بها لحظة كالوقوف بعرفة فيكفي المرور بها وإن لم يمكث ووقته بعد نصف الليل كما نص عليه في الأم
وإنما اشترط معظم الليل في مبيت منى لورود التعبير بالمبيت ثم بخلافه هنا وصحح الرافعي بناء على الوجوب اشتراط المعظم هنا ثم استشكله من جهة أنهم لا يصلونها حتى يمضي نحو ربع الليل مع جواز الدفع منها بعد النصف
ويستحب الإكثار في هذه الليلة من التلاوة والذكر والصلاة
( ومن دفع منها ) أي من مزدلفة ( بعد نصف الليل ) ولم يعد ( أو قبله ) ولو لغير عذر ( وعاد ) إليها ( قبل الفجر فلا شيء عليه ) أي لا دم عليه
أما في الحالة الأولى فلها في الصحيحين عن عائشة أن سودة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهن أفاضتا في النصف الأخير بإذنه صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهما ولا من كان معهما بدم
وأما في الثانية فكما لو دفع من عرفة قبل الغروب ثم عاد إليها قبل الفجر
( ومن لم يكن بها في النصف الثاني ) سواء أكان بها في النصف الأول أم لا ( أراق دما وفي وجوبه ) أي الدم بترك المبيت ( القولان ) السابقان في الفصل الذي قبله في وجوبه على من لم يجمع بين الليل والنهار بعرفة
وقضية هذا البناء عدم وجوب الدم فيكون مستحبا كما لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة
لكن رجح المصنف فيما عدا المنهاج من كتبه الوجوب
وقال السبكي إنه
____________________
(1/499)
المنصوص في الأم والصحيح من جهة المذهب أي ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح
ومحل القولين حيث لا عذر أما المعذور بما سيأتي في مبيت منى فلا دم عليه جزما
ومن المعذورين من جاء عرفة ليلا فاشتغل بالوقوف عنه ومن أفاض من عرفة إلى مكة وطاف الركن وفاته
قال الأذرعي وينبغي حمله على من لم يمكنه الدفع إلى المزدلفة أي بلا مشقة فإن أمكنه وجب جمعا بين الواجبين وهذا ظاهر
ومنهم ما لو خافت المرأة طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة بالطواف
( ويسن تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى ) ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس ولما مر في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله ( ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح ) بمزدلفة ( مغسلين ) للاتباع رواه الشيخان
وليس التغليس بالصبح خاصا بمزدلفة بل هو مستحب كل يوم
وكأنه أراد أنه في هذا اليوم أشد استحبابا كما عبر به في الروضة وأصلها ليتسع الوقت لما بين أيديهم من أعمال يوم النحر
وينبغي الحرص على صلاة الصبح هناك للخروج من الخلاف فقد قال ابن حزم فرض على الرجال أن يصلوا الصبح مع الإمام الذي يقيم الحج بمزدلفة قال ومن لم يفعل ذلك فلا حج له
( ثم يدفعون ) بفتح أوله بخط المصنف ( إلى منى ) وشعارهم مع من تقدم من النساء والضعفة التلبية والتكبير تأسيا به صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان
( ويأخذون ) معطوف على يبيتون ليعم الضعفة وغيرهم بخلاف ما لو عطف على يدفعون فإنه يقصر الاستحباب على غير الضعفة والنساء
( من مزدلفة ) ندبا ( حصى الرمي ) لما روى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن الفضل بن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر التقط لي حصى قال فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف
ولأن بها جبلا في أحجاره رخاوة ولأن السنة أنه إذا أتى إلى منى لا يعرج على غير الرمي فسن له أن يأخذ الحصى من مزدلفة حتى لا يشغله عنه
تنبيه قضية كلام المصنف أخذ جميع ما يرمى به في الحج وهو سبعون حصاة وهو وجه جزم به في التنبيه وأقره المصنف في التصحيح وجرى عليه في المناسك الكبرى لكن الأصح استحباب الأخذ ليلا كما قاله الجمهور لفراغهم فيه وإن قال البغوي نهارا بعد صلاة الصبح ورجحه الإسنوي
ولو أخذ الحصى من غير مزدلفة جاز كوادي محسر أو غيره
وسكت الجمهور عن موضع أخذ حصى الجمار لأيام التشريق إذا قلنا بالأصح أنها لا تؤخذ من مزدلفة وقال ابن كج تؤخذ من بطن محسر قاله الأذرعي وقال السبكي لا تؤخذ لأيام التشريق إلا من منى نص عليه في الإملاء اه
والظاهر أن السنة تحصل بالأخذ من كل منهما
ويكره أخذ حصى الجمار من حل لعدوله عن الحرم المحترم ومن مسجد كما ذكره لأنها فرشه ومن حش بفتح المهملة أشهر من ضمها وهو المرحاض لنجاسته وكذا من كل موضع نجس كما نص عليه في الأم ومما رمى به لما روي أن المقبول يرفع والمردود يترك ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين فإن رمى بشيء من ذلك أجزأه
قال في المجموع فإن قيل لم جاز الرمي بحجر رمى به دون الوضوء بماء توضأ به قلنا فرق القاضي أبو الطيب وغيره بأن الوضوء بالماء إتلاف له كالعتق فلا يتوضأ به مرتين كما لا يعتق العبد عن الكفارة مرتين والحجر كالثوب في ستر العورة فإنه يجوز أن يصلي فيه صلوات
تنبيه ما ذكراه من كراهة أخذ حصى المسجد قد خالفه في المجموع في باب الغسل فجزم بتحريم إخراج الحصى من المسجد فقال ولا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحصاة وحجر وتراب
وجزم أيضا بأنه لا يجوز التيمم بتراب المسجد
قال الإسنوي وإذا تأملت كلامه هنا وهناك قضيت عجبا من منعه التيمم وتجويز أخذ الحصى
وبالغ في التشنيع
وجمع الأذرعي بينهما بأن كلامه هناك فيما إذا كان الحصى والتراب من أجزاء المسجد وكلامه هنا منزل على ما جلب إليه من الحصى المباح وفرش فيه كما أشار إليه الرافعي
( فإذا ) دفعوا إلى منى و ( بلغوا المشعر ) وهو بفتح الميم
____________________
(1/500)
في المشهور وحكي كسرها جبل صغير آخر مزدلفة اسمه قزح بضم القاف وبالزاي وسمي مشعرا لما فيه من الشعار وهي معالم الدين
( الحرام ) أي المحرم ( وقفوا ) عليه ندبا كما صرح به الرافعي والمصنف في المجموع
ووقوفهم عليه أفضل من وقوفهم بغيره من مزدلفة ومن مرورهم بلا وقوف
وذكروا الله تعالى ( ودعوا إلى الإسفار ) مستقبلين القبلة للاتباع رواه مسلم ولأن القبلة أشرف الجهات
ويكثرون من قولهم اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ومن لم يمكنه إصعاد الجبل فليقف بجنبه ولو فاتت هذه السنة لم تجبر بدم
ويكون من جملة دعائه كما في التنبيه اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } إلى قوله { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }
ومن جملة ذكره الله أكبر ثلاثا لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد
( ثم يسيرون ) قبل طلوع الشمس بسكينة ووقار وشعارهم التلبية والذكر
قال في المجموع ويكره تأخير السير حتى تطلع الشمس فإذا وجدوا فرجة أسرعوا فإذا بلغوا وادي محسر بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وراء موضع فاصل بين مزدلفة ومنى سمي به لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أسرع في مشيه إن كان ماشيا
وحرك دابته من كان راكبا بقدر رمية حجر حتى يقطعوا عرض الوادي للاتباع في الراكب رواه مسلم وقياسا عليه في الماشي ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت ولأن النصارى كانت تقف فيه فأمرنا بمخالفتهم
ويسمى وادي النار أيضا يقال إن رجلا صاد فيه صيدا فنزلت عليه نار فأحرقته
قال في المجموع قال الأذرقي وادي محسر خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا اه
ويقول المار به ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه إليك تعدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها رواه البيهقي ومعناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقا وضينها والوضين حبل كالحزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك والمراد صاحب الناقة
قال في المجموع قال القاضي حسين في تعليقه يسن للمار بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضي الله عنه وبعد قطعهم وادي محسر يسيرون بسكينة ( فيصلون منى بعد طلوع الشمس ) وارتفاعها قدر رمح ( فيرمي كل شخص ) من راكب وماش ( حينئذ ) أي حين وصوله ( سبع حصيات إلى جمرة العقبة ) للاتباع رواه مسلم
وهو تحية منى فلا يبتدىء فيها بغيره وتسمى أيضا الجمرة الكبرى
وليست من منى بل حد منى من الجانب الغربي جهة مكة والسنة لرامي هذه الجمرة أن يستقبلها ويجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه كما صححه المصنف تبعا لابن الصلاح وقال إنه الصحيح الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم أي وإن جزم الرافعي بأن يستقبل الجمرة ويستدبر الكعبة
هذا في رمي يوم النحر أما في أيام التشريق فقد اتفقا على استقبال الكعبة كما في بقية الجمرات ويحسن كما قال ابن الملقن إذا وصل إلى منى أن يقول ما روي عن بعض السلف اللهم هذه منى قد أتيتها وأنا عبدك وابن عبدك أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين
قال وروي عن ابن مسعود و ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنهما لما رميا جمرة العقبة قالا اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا
( ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي ) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل ملبيا حتى رماها رواه الشيخان من حديث الفضل بن عباس
هذا إذا جعله أول أسباب التحلل كما هو الأفضل أما إذا قدم الطواف أو الحلق عليه قطع التلبية من وقته لأخذه في أسباب التحلل والتلبية شعار الإحرام وأما المعتمر فيقطع التلبية إذا افتتح الطواف لأنه من أسباب تحللها
( ويكبر مع كل حصاة ) بدل التلبية للاتباع رواه مسلم فيقول الله أكبر ثلاثا لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد كما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى
ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعا لها حتى يرى بياض إبطه أما المرأة ومثلها الخنثى فلا ترفع
ولا يقف الرامي للدعاء عند هذه الجمرة
وشروط الرمي ومستحباته أخرها المصنف
____________________
(1/501)
إلى الكلام على رمي أيام التشريق
( ثم ) بعد الرمي ينصرفون فينزلون موضعا بمنى والأفضل منها منزل النبي صلى الله عليه وسلم وما قاربه
قال الأزرقي ومنزله صلى الله عليه وسلم بمنى عن يسار مصلى الإمام
ثم ( يذبح من معه هدي ) بإسكان الدال وكسرها مع تخفيف الياء في الأولى وتشديدها في الثانية لغتان فصيحتان
وهو كما قاله الروياني اسم لما يهدي لمكة وحرمها تقربا إلى الله تعالى من نعم وغيرها من الأموال نذرا كان أو تطوعا لكنه عند الإطلاق اسم للإبل والبقر والغنم
( ثم يحلق ) الذكر ( أو يقصر ) لقوله تعالى { محلقين رؤوسكم ومقصرين } وللاتباع في الأول رواه مسلم والثاني في معناه
( و ) لكن ( الحلق ) له ( أفضل ) إجماعا وللآية المتقدمة فإن العرب تبدأ بالأهم والأفضل
وقد روى الشيخان عن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم ارحم المحلقين فقالوا يا رسول الله والمقصرين فقال اللهم ارحم المحلقين وقال في الرابعة والمقصرين
ويندب أن يبدأ بالشق الأيمن فيستوعبه بالحلق ثم يحلق الشق الأيسر وأن يستقبل المحلوق القبلة وأن يكبر عند فراغه كما ذكره الرافعي وأغفله من الروضة وذكره في المجموع عن الماوردي وغيره ثم قال إنه غريب
وأن يدفن شعره خصوصا الشعر الحسن لئلا يؤخذ للوصل وأن يستوعب الحلق أو التقصير
قال القاضي حسين وأن يأخذ من شاربه
قال في الخصال وأن يكون بعد كمال الرمي وغير المحرم مثله فيما ذكر غير التكبير
نعم التقصير أفضل إن اعتمر قبل الحج في وقت لو حلق فيه جاء يوم النحر ولم يسود رأسه من الشعر نقله الإسنوي عن النص ويأتي مثله فيما لو قدم الحج على العمرة
قال الزركشي وإنما لم يؤمر بحلق بعض رأسه في الحج وبعضه في العمرة لأنه يكره القزع
ويؤخذ من ذلك أنه لو خلق له رأسان وحلق أحدهما في العمرة والآخر في الحج لم يكره
ويسن أن يبلغ بالحلق إلى العظمين من الأصداغ وأن لا يشارط عليه وأن يأخذ شيئا من ظفره عند فراغه وأن يقول عند فراغه اللهم آتني بكل شعرة حسنة وامح عني بها سيئة وارفع لي بها درجة واغفر لي وللمحلقين والمقصرين ولجميع المسلمين
ومحل أفضلية الحلق إذا لم ينذره فإن نذره وجب لأنه في حقه قربة بخلاف المرأة والخنثى
ويجب استيعاب الرأس بالحلق إن نذر الاستيعاب أو عبر بالحلق مضافا وإن أطلق كفاه ثلاث شعرات
ولا يجزئه قص ونحوه مما لا يسمى حلقا كنتف إذ الحلق استئصال الشعر بالموسى ولا يبقى الحلق في ذمته لأن النسك إنما هو إزالة شعر اشتمل عليه الإحرام
ويلزمه دم لفوات الوصف كما لو نذر الحج ماشيا فركب
ونذر المرأة والخنثى التقصير كنذر الرجل الحلق فيما ذكر وأن يتطيب بعد ذلك ويلبس ثيابه
( وتقصر المرأة ) ولا تؤمر بالحلق إجماعا بل يكره لها الحلق على الأصح في المجموع
وقيل يحرم لأنه مثلة وتشبيه بالرجال ومال إليه الأذرعي في المزوجة والمملوكة حيث لا يؤذن لها فيه
نعم يحرم حلقها عند المصيبة لأنه صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة
ويندب لها أن تقصر قدر أنملة من جميع جوانب رأسها
قال الإسنوي والمتجه أن الصغيرة التي لم تنته إلى سن يترك فيه شعرها كالرجل في استحباب الحلق
قال في التوسط وهذا غلط صريح لعلة التشبيه وليس الحلق بمشروع للنساء مطلقا بالنص والإجماع اه
ويؤخذ من ذلك أن المرأة الكافرة إذا أسلمت لا تحلق رأسها وأما قوله صلى الله عليه وسلم ألق عنك شعر الكفر ثم اغتسل فمحمول على الذكر وينبغي كما قال بعض المتأخرين أن يستثنى حلق رأس الصغيرة يوم سابع ولادتها للتصدق بزنته فإنه يستحب كما صرحوا به في باب العقيقة واستثنى بعضهم من كراهة الحلق للمرأة صورتين إحداهما إذا كان برأسها أذى لا يمكن زواله إلا بالحلق كمعالجة حب ونحوه
الثانية إذا حلقت رأسها لتخفي كونها امرأة خوفا على نفسها من الزنا ونحو ذلك ولهذا يباح لها لبس الرجال في هذه الحالة والخنثى في ذلك كالأنثى
( والحلق ) أي إزالة شعر الرأس أو التقصير في حج أو عمرة في وقته ( نسك على المشهور ) وفي الروضة الأظهر
فيثاب عليه لأن الحلق أفضل من التقصير للذكر والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات
وروى ابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال لكل من حلق رأسه بكل شعرة سقطت نور يوم القيامة وعلى هذا هو ركن كما سيأتي وقيل واجب
والثاني هو استباحة محظور لا ثواب فيه لأنه محرم في الإحرام فلم يكن نسكا كلبس المخيط
( وأقله ) أي إزالة شعر الرأس أو التقصير ( ثلاث شعرات ) لقوله تعالى { محلقين رؤوسكم }
____________________
(1/502)
أي شعور رؤوسكم لأن الرأس لا يحلق
والشعر جمع وأقله ثلاث كذا استدلوا به ومنهم المصنف في المجموع
قال الإسنوي ولا دلالة له في ذلك لأن الجمع إذا كان مضافا كان للعموم وفعله صلى الله عليه وسلم يدل عليه أيضا
نعم الطريق إلى توجيه المذهب أن يقدر لفظ الشعر منكرا مقطوعا عن الإضافة والتقدير شعرا من رؤوسكم أو تقول قام الإجماع كما نقله في المجموع على أنه لا يجب الاستيعاب فاكتفينا في الوجوب بمسمى الجمع اه
ولو لم يكن هناك إلا شعرة وجب إزالتها كما في البيان
وقضية إطلاق المصنف أنه لا فرق في الشعرات بين أن يأخذها دفعة أو في دفعات وهو المذهب في المجموع وجزم به في المناسك لكن حاصل ما في الروضة وأصلها تصحيح منع التفريق بناء على الأصح من عدم تكميل الدم بإزالتها المحرمة والأول هو المعتمد
ويجاب عن البناء بأنه لا يلزم منه الاتحاد في التصحيح نعم يزول بالتفريق الفضيلة ولا يأتي التصحيح في الشعرة الواحدة المأخوذة بدفعات وإن سوى أصل الروضة بينهما في البناء المذكور ولا بد أن يكون من شعر الرأس كما أشار إليه بقوله بعد ومن لا شعر برأسه فلا يقوم مقامه شعر اللحية ولا غيرها من شعر البدن وإن استوى الجميع في وجوب الفدية ويجوز مما يحاذي الرأس قطعا وكذا من المسترسل النازل عن حد الرأس
ويكفي في الإزالة أخذ الشعر ( حلقا أو تقصيرا أو نتفا أو إحراقا أو قصا ) أو أخذه بنورة أو نحو ذلك لأن المقصود الإزالة وكل من هذه الأشياء طريق إليها
نعم من نذر الحلق وقلنا بوجوبه وهو الأصح تعين استيعاب الرأس به فإن خالف وأزال بغيره أثم وأجزأه
( ومن لا شعر ) كائن ( برأسه ) أو ببعضه كما قاله الإسنوي بأن خلق كذلك أو كان قد حلق واعتمر من ساعته كما مثله العمراني ( يستحب ) له ( إمرار الموسى عليه ) بالإجماع كما قاله ابن المنذر كله أو بعضه تشبيها بالحالقين وإنما لم يجب الإمرار لأن ذلك فرض تعلق بجزء آدمي فسقط بفواته كغسل اليد في الوضوء
وأما خبر المحرم إذا لم يكن على رأسه شعر يمر الموسى على رأسه فضعيف ولو صح حمل على الندب
فإن قيل قياس وجوب مسح الرأس في الوضوء عند فقد شعره الوجوب هنا
أجيب بأن الفرض ثم تعلق بالرأس وهنا بشعره وبأن من مسح بشرة الرأس يسمى ماسحا ومن مر بالموسى عليه لا يسمى حالقا
والظاهر كما قال الأذرعي أن هذا للرجل دون الأنثى لأن الحلق ليس بمشروع لها ومثلها الخنثى
ويسن أن يأخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئا ليكون قد وضع من شعره شيئا لله تعالى
والموسى بألف في آخره وتذكر وتؤنث آلة من الحديد
( فإذا حلق أو قصر دخل مكة وطاف طواف الركن ) للاتباع رواه مسلم
والسنة أن يرمي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف ضحوة
وهذا الطواف له أسماء غير ذلك وهي طواف الإفاضة وطواف الزيارة وطواف الفرض وقد يسمى طواف الصدر بفتح الدال والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع
ويسمى طواف الركن
فالفرض لتعينه والإفاضة لإتيانهم به عقب الإفاضة من منى والزيارة لأنهم يأتون من منى زائرين البيت ويعودون في الحال والأفضل أن يطوفوا يوم النحر
ويسن أن يشرب بعده من سقاية العباس من زمزم لأنه صح أنه صلى الله عليه وسلم جاء بعد الإفاضة وهم يسقون على زمزم فناولوه دلوا فشرب منه
( وسعى ) بعده ( إن لم يكن سعى ) بعد طواف القدوم كما مر وهذا السعي ركن كما سيأتي
( ثم يعود ) من مكة ( إلى منى ) قبل صلاة الظهر بحيث يصلي الظهر بها للاتباع رواه مسلم عن ابن عمر ولا يعارضه ما رواه مسلم أيضا عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يومئذ بمكة وجمع بينهما في المجموع بأنه صلى بمكة في أول الوقت بعد الزوال ثم رجع إلى منى وصلى ثانيا إماما لأصحابه كما صلى بهم في بطن نخل مرتين مرة بطائفة ومرة بأخرى فروى ابن عمر صلاته بمنى وجابر صلاته بمكة
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أخر طواف يوم النحر إلى الليل وهو محمول على أنه أخر طواف نسائه وذهب معهن
( وهذا ) الذي يفعل يوم النحر من أعمال الحج أربعة وهي ( الرمي والذبح والحلق والطواف يسن ترتيبها كما ذكرنا ) ولا يجب لما روى مسلم
____________________
(1/503)
أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي
فقال ارم ولا حرج وأتاه آخر فقال إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال ارم ولا حرج
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء يومئذ قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج
( ويدخل وقتها ) إلا ذبح الهدي ( بنصف ليلة النحر ) لمن وقف قبله لخبر أبي داود بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت
وقيس بالرمي الآخر أن يجامع أن كلا من أسباب التحلل ووجهه الدلالة من الخبر بأنه صلى الله عليه وسلم علق الرمي بما قبل الفجر وهو صالح لجمع الليل ولا ضابط له فجعل النصف ضابطا لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله ولأنه وقت للدفع من مزدلفة ولأذان الصبح فكان وقتا للرمي كما بعد الفجر
ويسن تأخيرها إلى بعد طلوع الشمس للاتباع
أما إذا فعلها بعد انتصاف الليل وقبل الوقوف فإنه يجب عليه إعادتها
وأما ذبح الهدي المسوق تقربا لله تعالى فيدخل وقته بدخول وقت الأضحية كما سيأتي
( ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر ) لما روى البخاري أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني رميت بعدما أمسيت فقال لا حرج
والمساء بعد الزوال وظاهر كلامه أنه لا يكفي بعد الغروب وبه صرح في أصل الروضة لعدم وروده
واعترض بأنه سيأتي أنه إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء وقضيته أن وقته لا يخرج بالغروب وهذا هو المعتمد
وأجيب بحمل ما هنا على وقت الاختيار وما هناك على وقت الجواز
وقد صرح الرافعي بأن وقت الفضيلة لرمي يوم النحر ينتهي بالزوال فيكون لرميه ثلاثة أوقات وقت فضيلة إلى الزوال ووقت اختيار إلى الغروب ووقت جواز إلى آخر أيام التشريق
( ولا يختص الذبح ) للهدي المتقرب به ( بزمن ) لكنه يختص بالحرم بخلاف الضحايا فتختص بالعيد وأيام التشريق
( قلت الصحيح اختصاصه بوقت الأضحية وسيأتي ) للمحرر ( في آخر باب محرمات الإحرام على الصواب والله أعلم ) وعبارته هناك ووقته وقت الأضحية على الصحيح هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا المساق تقربا لله تعالى فاعترضه هنا وفي الروضة والمجموع
واعترض الإسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم الجبرانات والمحظورات وهذا لا يختص بزمان وهو المراد هنا وفي قوله أولا ثم يذبح من معه هدي وعلى ما يساق تقربا إلى الله تعالى وهذا هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح وهو المذكور في آخر باب محرمات الإحرام فلم يتوارد الكلامان على محل واحد حتى يعد ذلك تناقضا
وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدى من الشرح الكبير فذكر أن الهدي يقع على الكل وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم لكنه لم يفصح في المحرر عن المراد كما أفصح عنه في الكبير فظن المصنف أن المسألة واحدة فاستدرك عليه وكيف يجيء الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد اه
أي فكان الأولى للمصنف أن يحمل كلامه هنا على كلامه في الشرح الكبير وإن كان الهدي إنما ينصرف عند الإطلاق إلى ما يتعلق بذلك المحل لأن الجمع حيث أمكن بين كلامين ظاهرهما التناقض يكون أولى من الاعتراض
( والحلق ) بالمعنى السابق أو التقصير ( والطواف والسعي ) إن لم يكن فعل بعد طواف قدوم ( لا آخر لوقتها ) لأن الأصل عدم التأقيت ويبقى من هي عليه محرما حتى يأتي بها كما في المجموع لكن الأفضل فعلها يوم النحر
ويكره تأخيرها عن يومه وعن أيام التشريق أشد كراهة وعن خروجه من مكة أشد ذكره في المجموع
وهذا صريح في جواز تأخيرها عن أيام الحج
فإن قيل بقاؤه على إحرامه يشكل بقولهم ليس لصاحب الفوات أن يصبر على إحرامه للسنة القابلة لأن استدامة الإحرام كابتدائه وابتداؤه لا يجوز
أجيب بأنه في تلك لا يستفيد ببقائه على إحرامه شيئا غير محض تعذيب نفسه لخروج وقت الوقوف فحرم بقاؤه على إحرامه وأمر بالتحلل
وأما هنا فوقت ما أخره باق فلا يحرم
____________________
(1/504)
بقاؤه على إحرامه ولا يؤمر بالتحلل وهو بمثابة من أحرم بالصلاة في وقتها ثم مدها بالقراءة حتى خرج الوقت فإن كان طاف للوداع وخرج وقع عن طواف الفرض وإن لم يطف للوداع ولا غيره لم يستبح النساء وإن طال الزمان لبقائه محرما
( وإذا قلنا الحلق نسك ) وهو المشهور ( ففعل اثنين من الرمي ) أي يوم النحر ( والحلق ) أو التقصير ( والطواف ) المتبوع بالسعي إن لم يكن فعل قبل ( حصل التحلل الأول ) من تحللي الحج ( وحل به اللبس ) وستر الرأس للرجل والوجه للمرأة ( والحلق ) إن لم يفعل وإن لم يجعله نسكا ( والقلم ) والطيب بل يسن التطيب قالت عائشة رضي الله تعالى عنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه
والدهن ملحق بالتطيب وكذا الباقي بجامع الاشتراك في الاستمتاع
( وكذا ) يحل ( الصيد وعقد النكاح ) والمباشرة فيما دون الفرج كالقبلة والملامسة ( في الأظهر ) لأنها من المحرمات التي لا يوجب تعاطيها إفسادا فأشبهت الحلق وهذا ما صححه في الشرح الصغير
( قلت الأظهر لا يحل عقد النكاح ) وكذا المباشرة فيما دون الفرج ( والله أعلم ) لما روى النسائي بإسناد جيد كما قاله المصنف إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وهذا ما نسبه في الشرح الكبير إلى تصحيح الأكثرين وقال إن قولهم أوفق لكلام النص في المختصر ونقله في الروضة والمجموع عن الأكثرين
( وإذا فعل الثالث ) بعد الاثنين ( حصل التحلل الثاني وحل به باقي المحرمات ) بالإجماع ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحج وهو الرمي والمبيت مع أنه غير محرم كما أنه يخرج من الصلاة بالتسليمة الأولى ويطلب منه التسليمة الثانية لكن المطلوب هنا على سبيل الوجوب وهناك على سبيل الندب
ويستحب تأخير الوطء عن باقي أيام الرمي ليزول عنه أثر الإحرام
فإن قيل يشكل على ذلك خبر أيام منى أيام أكل وشرب وبعال
أجيب بأن هذه الأيام لا يمتنع فيها ذلك وهو كذلك وإنما استحب للحاج ترك الجماع لما ذكر
ومن فاته رمي يوم النحر بأن أخره عن أيام التشريق ولزمه بدله توقف التحلل على البدل ولو صوما لقيامه مقامه
فإن قيل ما الفرق بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي فإن الأصح عدم توقف التحلل على بدله وهو الصوم أجيب بأن المحصر ليس له إلا تحلل واحد فلو توقف تحلله على البدل لشق عليه المقام على سائر محرمات الحج إلى الإتيان بالبدل والذي يفوته الرمي يمكنه الشروع في التحلل الأول فإذا أتى به حل له ما عدا النكاح ومقدماته وعقده فلا مشقة عليه في الإقامة على الإحرام حتى يأتي بالبدل
هذا في تحلل الحج أما العمرة فليس لها إلا تحلل واحد لأن الحج يطول زمنه وتكثر أعماله فأبيح بعض محرماته في وقت وبعضها في وقت آخر بخلاف العمرة ونظير ذلك الحيض والجنابة لما طال زمن الحيض جعل لارتفاع محظوراته محلان انقطاع الدم والاغتسال والجنابة لما قصر زمنها جعل لارتفاع محظوراتها محل واحد
فصل في المبيت بمنى ليالي أيام التشريق
( إذا عاد إلى منى ) بعد الطواف والسعي إن لم يكن سعى بعد قدوم ( بات بها ) حتما ( ليلتي ) يومي ( التشريق ) والثالثة أيضا للاتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة مع خبر خذوا عني مناسككم
والواجب معظم الليل كما لو حلف لا يبيت بمكان لا يحنث إلا بمعظم الليل
وإنما اكتفى بساعة في نصفه الثاني بمزدلفة كما مر لأن نص الشافعي وقع فيها بخصوصها إذ بقية المناسك يدخل وقتها بالنصف وهي كثيرة مشقة فسومح في التخفيف لأجلها
وسميت هذه أيام التشريق لإشراف نهارها بنور الشمس وليلها بنور القمر وقيل لأن الناس يشرقون اللحم فيها في الشمس وهذه الأيام هي المعدودات في قوله تعالى في البقرة { واذكروا الله في أيام معدودات }
____________________
(1/505)
وأما المعلوما في قوله تعالى في سورة الحج { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } فهي العشر الأول من ذي الحجة
( ورمى كل يوم ) من أيام التشريق الثلاثة وهي حادي عشر الحجة وتالياه
( إلى الجمرات الثلاث ) والأولى منها تلي مسجد الخيف وهي الكبرى والثانية الوسطى والثالثة جمرة العقبة وليست من منى بل منى ينتهي إليها ويرمي
( كل جمرة سبع حصيات ) للاتباع المعلوم من الأحاديث الصحيحة فمجموع المرمي به في أيام التشريق ثلاثة وستون حصاة ويسن استقبال القبلة في هذه الجمرات
( فإذا رمى اليوم ) الأول و ( الثاني ) من أيام التشريق ( وأراد النفر ) مع الناس ( قبل غروب الشمس ) في اليوم الثاني ( جاز وسقط مبيت الليلة الثالثة ورمى يومها ) ولا دم عليه لقوله تعالى { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ولإتيانه بمعظم العبادة
ويؤخذ من هذا التعليل أن محل ذلك إذا بات الليلتين الأوليين فإن لم يبتهما لم يسقط مبيت الثالثة ولا رمي يومها وهو كذلك فيمن لا عذر له كما نقله في المجموع عن الروياني عن الأصحاب وأقره
وكذا لو نفر بعد المبيت وقبل الرمي كما يفهمه تقييد المصنف ببعد الرمي وبه صرح العمراني عن الشريف العثماني قال لأن هذا النفر غير جائز
قال المحب الطبري وهو صحيح متجه وقال الزركشي وهو ظاهر
والشرط أن ينفر بعد الزوال والرمي
قال الأصحاب والأفضل تأخير النفر إلى الثالث لا سيما للإمام كما قاله في المجموع للاقتداء به صلى الله عليه وسلم إلا لعذر كغلاء ونحوه بل قال الماوردي في الأحكام السلطانية ليس للإمام ذلك لأنه متبوع فلا ينفر إلا بعد كمال المناسك حكاه عنه في المجموع
ويترك حصى اليوم الثالث أو يدفعها لمن لم يرم ولا ينفر بها
وأما ما يفعله الناس من دفنها فلا أصل له
( فإن لم ينفر ) بكسر الفاء وضمها أي يذهب وأصله لغة الانزعاج
( حتى غربت ) أي الشمس ( وجب مبيتها ورمي الغد ) لما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر بإسناد صحيح موقوف عليه
ولو غربت الشمس وهو في شغل الارتحال فله النفر لأن في تكليفه حل الرحل والمتاع مشقة عليه كما لو ارتحل وغربت الشمس قبل انفصاله من منى فإن له النفر وهذا ما جزم به ابن المقري تبعا لأصل الروضة وهو المعتمد خلافا لما في مناسك المصنف من أنه يمتنع عليه النفر وإن قال الأذرعي إن ما في أصل الروضة غلط
ولو نفر قبل الغروب ثم عاد إلى منى زائرا أو مارا أو نحو ذلك سواء أكان ذلك قبل الغروب أم بعده لم يلزمه مبيت تلك الليلة ولا رمى يومها بل لو بات هذا متبرعا سقط عنه الرمي لحصول الرخصة له بالنفر ويجب بترك مبيت ليالي منى دم لتركه المبيت الواجب كما يجب في ترك مبيت مزدلفة دم وفي ترك مبيت الليلة الواحدة مد والليلتين مدان من طعام وفي ترك الثلاث مع ليلة مزدلفة دمان لاختلاف المبيتين مكانا
ويفارق ما يأتي في ترك الرميين بأن تركهما يستلزم ترك مكانين وزمانين وترك الرميين لا يستلزم إلا ترك زمانين فلو نفر مع ترك مبيت ليلتين من أيام منى في اليوم الأول أو الثاني لزمه دم لتركه جنس المبيت بمنى فيهما ويسقط مبيت منى ومزدلفة والدم عن الرعاء بكسر الراء وبالمد إن خرجوا منهما قبل الغروب لأنه صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت بمنى
وقيس بمنى مزدلفة وصورته أن يأتيها قبل الغروب ثم يخرج منها حينئذ على خلاف العادة فإن لم يخرجوا قبل الغروب بأن كانوا بها بعده لزمهم مبيت تلك الليلة والرمي من الغد
وأما أهل السقاية وهي بكسر السين موضع بالمسجد الحرام يسقي فيه الماء ويجعل في حياض يسبل للشاربين فيسقط عنهم المبيت ولو نفروا بعد الغروب وكانت السقاية محدثة لأنه صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل السقاية رواه الشيخان
وغير العباس ممن هو من أهل السقاية في معناه وإن لم يكن عباسيا وإنما لم يقيد ذلك بخروجهم قبل الغروب لأن عملهم بالليل بخلاف الرعاء
وما ذكر في السقاية الرمي يوما فقط ويؤدونه في تاليه قبل رميه لا رمي يومين متواليين وهذا بالنسبة لوقت الاختيار وإلا فقد مر أن وقت الجواز يمتد إلى آخر أيام التشريق فقول المجموع قال الروياني وغيره لا يرخص للرعاء في ترك رمي يوم النحر أي في تأخيره محمول
____________________
(1/506)
على أنه لا يرخص له في الخروج عن وقت الاختيار
ويعذر في ترك المبيت وعدم لزوم الدم خائف على نفس أو مال أو فوت أمر يطلبه كآبق أو ضياع مريض بترك تعهده لأنه ذو عذر فأشبه الرعاء وأهل السقاية
وله أن ينفر بعد الغروب كما يؤخذ من التشبيه بأهل السقاية وصرح به في أصل الروضة
وتقدم أن المشغول بتدارك الحج عن مبيت مزدلفة ومن أفاض من عرفة ليطوف للإفاضة أنه يعذر في ترك المبيت
ويسن للإمام أن يخطب بعد صلاة الظهر يوم النحر بمنى خطبة يعلمهم فيها حكم الطواف والرمي والنحر والمبيت ومن يعذر فيه ثم يخطب بهم بعد صلاة الظهر بمنى خطبة ثاني أيام التشريق للاتباع ويعلمهم فيها جواز النفر فيه وما بعده من طواف الوداع وغيره ويودعهم ويأمرهم بختم الحج بطاعة الله تعالى
وهاتان الخطبتان لم نر من يفعلهما في زماننا
( ويدخل رمي ) كل يوم من أيام ( التشريق بزوال الشمس ) من ذلك اليوم للاتباع رواه مسلم
ويسن تقديمه على صلاة الظهر كما في المجموع ومحله ما لم يضق الوقت وإلا قدم الصلاة إلا أن يكون مسافرا فيؤخرها بنية الجمع
( ويخرج ) أي وقته الاختياري ( بغروبها ) من كل يوم
وأما وقت الجواز فلا يخرج بذلك كما علم مما مر ومما سيأتي من أن الأظهر أنه لا يخرج إلا بغروبها من آخر أيام التشريق
( وقيل يبقى إلى الفجر ) كالوقوف بعرفة ومحل هذا الوجه في غير اليوم الثالث
أما هو فيخرج وقت رميه بغروب شمسه جزما لخروج وقت المناسك بغروب شمسه
وللرمي شروط ذكرها في قوله ( ويشترط ) في رمي النحر وغيره ( رمي ) الحصيات ( السبع واحدة واحدة ) للاتباع رواه مسلم
والمراد بسبع رميات فيجزىء وإن وقعن معا أو سبقت الأخيرة الأولى في الوقوع
فلو رمى السبع مرة واحدة أو حصاتين كذلك إحداهما بيمينه والأخرى بيساره لم يحسب إلا واحدة وإن تعاقب الوقوع وهذا بخلاف ما لو وجب الحد على إنسان فجلد بمائة مشدودة فإنها تحسب مائة لأن الحدود مبنية على التخفيف وأيضا المقصود من الضربات الإيلام وهو حاصل وأما الرمي فإن الغالب عليه التعبد
وكلام المصنف يشعر بأنه لو رمى حصاة واحدة سبع مرات لم يكف وهو وجه رجحه الإمام الغزالي وقال ابن الصلاح إنه الأقوى واختاره الأذرعي إذ المقام مقام اتباع وتعبد
ولكن الأصح عند الشيخين الجواز ونقله في المجموع عن اتفاق الأصحاب
ولو رمى جملة السبع سبع مرات أجزأه وكلام المتن يفهم خلاف ذلك ولو قال المحرر ويشترط رمي الحصيات السبع في سبع دفعات لكان أولى
( وترتيب الجمرات ) بفتح الميم واحدتها جمرة بسكونها بأن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف وهي أولا من جهة عرفات ثم الوسطى ثم جمرة العقبة للاتباع رواه البخاري
ولو بدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم التي تلي المسجد حصلت فقط ولو ترك حصاة وشك في محلها جعلها من الأولى احتياطا فيرمي بها إليها ويعيد رمي الجمرتين إذ الموالاة بين الرمي في الجمرات لا تجب وإنما تسن فيه كما في الطواف
ولو ترك حصاتين لا يعلم موضعهما احتاط وجعل واحدة من يوم النحر وواحدة من ثالثه وهو يوم النفر الأول من أي جمرة كانت أخذ بالأسوأ
( و ) يشترط ( كون ) الرمي باليد وكون ( المرمي حجرا ) للاتباع فلا يكفي الرمي عن قوس والرمي بالرجل ولا بالمقلاع ولا بالرمي بذهب أو فضة أو نحو ذلك كلؤلؤ وإثمد وزرنيخ وجص وجوهر ويجزىء الحجر بأنواعه كياقوت وحجر حديد وبلور وعقيق وذهب وفضة ويجزيء حجر نورة لم يطبخ بخلاف ما طبخ منه لأنه حينئذ لا يسمى حجرا بل نورة
( وأن يسمى رميا فلا يكفي الوضع ) في المرمى لأنه لا يسمى رميا ولأنه خلاف الوارد
فإن قيل ذكر اشتراط الرمي غير محتاج إليه لأنه قد علم من قوله ويشترط رمي السبع واحدة واحدة
أجيب بأنه إنما ذكره لئلا يتوهم أن ذلك سبق لبيان التعدد لا للكيفية فنص عليه هنا احتياطا
ويشترط أيضا قصد الجمرة بالرمي فلو رمى إلى غيرها كأن رمى في الهواء فوقع في المرمى لم يكف
وقضية كلامهم أنه لو رمى إلى العلم المنصوب في الجمرة أو الحائط التي بجمرة العقبة كما يفعله كثير من الناس فأصابه ثم وقع في المرمى لا يجزيء قال المحب الطبري وهو الأظهر عندي ويحتمل أنه يجزئه لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي الواجب عليه
قال الزركشي والثاني من احتماليه أقرب اه
بل
____________________
(1/507)
الأقرب إلى كلامهم الأول
قال الطبري ولم يذكروا في الرمي حدا معلوما غير أن كل جمرة عليها علم فينبغي أن يرمي تحته على الأرض ولا يبعد عنه احتياطا
وقد قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى فمن أصاب مجتمعه أجزأه ومن أصاب سائله لم يجزه
وحده بعض المتأخرين فقال موضع الرمي ثلاثة أذراع من سائر الجوانب إلا في جمرة العقبة فليس لها إلا وجه واحد ورمي كثيرين من أعلاها باطل اه
وهو قريب مما تقدم
( والسنة ) في رمي يوم النحر وغيره ( أن يرمي ) الجمرة لا بحجر كبير ولا صغير جدا بل ( بقدر حصى الخذف ) وهو دون الأنملة طولا وعرضا في قدر الباقلاء فلو رمى بأكبر منه أو بأصغر كره وأجزأه
وهيئة الخذف كما قال الرافعي أن يضع الحجر على بطن الإبهام ويرميه برأس السبابة والأصح كما في الروضة والمجموع وغيرهما أنه يرميه على غير هيئة حصى الخذف
ويسن أن يرفع الذكر يده بالرمي حتى يرى بياض إبطه بخلاف المرأة والخنثى وأن يكون الرمي باليد اليمنى وأن يستقبل القبلة في رمي التشريق وأن يرمي راجلا لا راكبا إلا في يوم النفر فالسنة أن يرمي راكبا لينفر عقبه وأن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي كما مر في رمي يوم النحر وأن يرمي الجمرتين الأوليين من علق وأن يدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين فيقف مستقبل القبلة ويدعو ويذكر الله تعالى ويهلل ويسبح بعد رمي الجمرة الأولى بقدر قراءة سورة البقرة وكذا بعد رمي الثانية لا الثالثة بل يمضي بعد رميها للاتباع في ذلك رواه البخاري إلا بقدر سورة البقرة فرواه البيهقي من فعل ابن عمر
( ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى ) فلا يضر تدحرجه بعد الوقوع فيه لحصول اسم الرمي
( ولا كون الرامي خارجا عن الجمرة ) فلو وقف بعضها ورمى إلى الجانب الآخر منها صح لما مر من حصول اسم الرمي ولو رمى الحجر فأصاب شيئا كأرض أو مجمل فارتد إليه المرمي لا بحركة ما أصابه أجزأه لحصوله في المرمى بفعله لا بمعاونة بخلاف ما لو ارتد بحركة ما أصابه
ولو ردت الريح الحصاة إلى المرمى أو تدحرجت إليه من الأرض لم يضر إلا أن تدحرجت من ظهر بعير أو نحوه كعنقه ومحمل فلا يكفي
ويشترط إصابة المرمى يقينا فلو شك فيها لم يكف لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه
وصرف الرمي بالنية لغير النسك كأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة كصرف الطواف بها إلى غيره فينصرف لغيره وإن بحث في المهمات إلحاق الرمي بالوقوف لأنه مما يتقرب به وحده كرمي العدو فأشبه الطواف بخلاف الوقوف
وأما السعي فالظاهر كما قال شيخنا أخذا من ذلك أنه كالوقوف
( ومن عجز عن الرمي ) لعلة لا يرجى زوالها قبل فوت وقت الرمي كمرض أو حبس ( استناب ) من يرمي عنه وجوبا كما قال الإسنوي إنه المتجه ولو بأجرة حلالا كان النائب أو محرما لأن الاستنابة جائزة في النسك فكذلك في أبعاضه فليس المراد العجز الذي ينتهي إلى اليأس كما في استنابة الحج
ولا فرق في الحبس بين أن يكون بحق أم لا كما قاله في المجموع خلافا لابن الرفعة في الحبس بحق
قال الإسنوي وصورة المحبوس بحق أن يجب عليه قود لصغير فإنه يحبس حتى يبلغ وما أشبه هذه الصورة
وأما إذا حبس بدين مقدر عليه فليس بعاجز عن الرمي ويمكن حمل كلام ابن الرفعة على هذه الصورة
ويشترط في النائب أن يكون رمي عن نفسه أولا فلو لم يرم وقع عن نفسه كأصل الحج
ويندب أن يناول النائب الحصى ويكبر إن أمكن وإلا تناولها النائب وكبر بنفسه ولا ينعزل النائب بإغماء المستنيب كما لا ينعزل عنه وعن الحج بموته لأن الإغماء زيادة في العجز المبيح للإنابة فلا يكون مفسدا لها وفارق سائر الوكالات بوجوب الإذن هنا فلو نوى في وقت بعد الرمي لم تلزمه الإعادة لكنها تسن
أما إغماء النائب فظاهر كلامهم أنه ينعزل به وهو القياس
وما ذكر في هذا الفصل من شروط الرمي ومستحباته يأتي في رمي يوم النحر
( وإذا ترك رمي يوم ) أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا ( تداركه في باقي الأيام ) منها ( في الأظهر ) بالنص في الرعاء وأهل السقاية وبالقياس في غيرهم إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة
وكذا يتدارك رمي يوم النحر في باقي الأيام إذا تركه
____________________
(1/508)
واليوم الأول منها في الثاني أو الثالث والثاني أو الأولين في الثالث والثاني لا كما يتدارك بعد أيام التشريق
تنبيه إذا قلنا بالتدارك فتدارك فالأظهر أنه أداء الوقت المضروب له وقت اختيار كما مرت الإشارة إليه وقضية كلام المصنف أن له أن يتدارك قبل الزوال وأنه لا يجوز بالليل فإنه عبر بالأيام والأيام حقيقة لا تتناول الليالي
أما الأول فهو المعتمد كما جزم به في أصل الروضة والمجموع والمناسك واقتضاه نص الشافعي خلافا لما في الشرح الصغير من المنع وجرى عليه الإسنوي و ابن المقري
وأما الثاني فالمعتمد فيه أيضا الإجزاء كما قاله ابن الصباغ في شامله وابن الصلاح والمصنف في مناسكهما ونص عليه الشافعي خلافا لمقتضى عبارة المصنف وإن جرى عليه الإسنوي و ابن المقري في روضه
وما علل به المنع في الأول بأنه وقت لم يشرع فيه رمي فصار كالليل بالنسبة للصوم والمنع في الثاني بأن الرمي عبادة النهار كالصوم ممنوع في التدارك فجملة أيام منى بلياليها كوقت واحد وكل يوم لرميه وقت اختيار لكن لا يجوز تقديم رمي كل يوم على زوال شمسه كما مر
ويجب الترتيب بينه وبين رمي يوم التدارك بعد الزوال فإن خالف وقع عن المتروك
فلو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة سبعا عن أمسه وسبعا عن يومه لم يجزه عن يومه
ويؤخذ من ذلك أن النائب لا بد أن يرمي عن نفسه الجمرات الثلاث قبل أن يرمي عن منيبه وهو ظاهر ولم أر من ذكره
فإن قيل ما اقتضاه ما تقرر من جواز ترك رمي يومين ووقوعه أداء بالتدارك يشكل بقولهم ليس للمعذورين أن يدعو أكثر من يوم وأنهم يقضون ما فاتهم
أجيب بأن الكلام هنا في تداركه مع البيات بمنى والكلام الذي سبق في الرعاء وأهل السقاية إنما هو فيمن ترك المبيت فامتناع تأخير رمي يومين في حقهم إنما هو لعدم الإتيان بالمبيت ليلتين ورمي يومين فامتنع ذلك لعدم الإتيان بشيء من الشعار في اليومين بخلاف من أتى بالبيت فإنه قد أتى بشعاره فسومح بتأخير الرمي يومين
هذا والأولى أن يقال ما تقدم في وقت الاختيار وما هنا في وقت الجواز والتعبير بالقضاء لا ينافي الأداء كما مرت الإشارة إلى ذلك فإذا لا فرق بين المعذورين وغيرهم وإن عد بعضهم ذلك تناقضا
( ولا دم ) مع التدارك سواء أجعلناه أداء أم قضاء لحصول الانجبار بالمأتي به
( وإلا ) بأن لم يتداركه ( فعليه دم ) في رمي يوم أو يومين أو ثلاثة أو يوم النحر مع أيام التشريق لاتحاد جنس الرمي فأشبه حلق الرأس
وقد ذكر الرافعي طرقا واختلافا كثيرا أشار إليه المصنف بقوله ( والمذهب تكميل الدم في ثلاث حصيات ) لوقوع الجمع عليها كما لو أزال ثلاث شعرات متوالية كما سيأتي
وروى البيهقي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال من ترك نسكا فعليه دم وفي الحصاة الواحدة مد طعام وفي الثنتين مدان
وصورة المسألة أن يكون ذلك من الجمرة الأخيرة من اليوم الأخير من أيام التشريق أما لو ترك ذلك من غير الجمرة الأخيرة من أيام التشريق فعليه دم لبطلان ما بعده حتى يأتي به لوجوب الترتيب بين الجمرات كما مر
وقيل إنما يكمل الدم في وظيفة جمرة كما يكمل في وظيفة يوم النحر
وفي الحصاة والحصاتين على الطريقين الأقوال في حلق الشعرة والشعرتين أظهرهما أن في الحصاة الواحدة مد طعام والثاني درهما والثالث ثلث دم على الأول وسبعه على الثاني وفي الحصاتين ضعف ذلك
تنبيه قد تقدم أن مبيت ليالي منى يسقط عن المعذورين
وأما غيرهم فيجب عليه في ترك مبيت ليالي التشريق دم وفي قول في كل ليلة دم وعلى الأول في الليلة مد وفي قول درهم وفي آخر ثلث دم وفي الليلتين ضعف ذلك إن لم ينفر قبل الثالثة فإن نفر قبلها ففي وجه الحكم كذلك لأنه لم يترك إلا ليلتين والأصح وجوب الدم بكماله لترك جنس المبيت بمنى
قال في المجموع وترك المبيت ناسيا كتركه عامدا وصرح به الدارمي وغيره
( وإذا أراد ) بعد قضاء مناسكه ( الخروج من مكة ) لسفر ولو مكيا طويل أو قصير كما في المجموع ( طاف للوداع ) طوافا كاملا بركعتيه لما روى البخاري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أعمال الحج طاف طواف الوداع وروى مسلم عن ابن عباس خبر لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت أي الطواف به كما رواه أبو داود
فلا طواف وداع على مريد الإقامة
____________________
(1/509)
وإن أراد السفر بعده كما قاله الإمام ولا على مريد السفر قبل فراغ الأعمال ولا على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم ونحوه لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أخا عائشة أن يعمرها من التنعيم ولم يأمرها بوداع وهذا فيمن خرج لحاجة ثم يعود وما مر عن المجموع فيمن أراد دون مسافة القصر فيمن خرج إلى منزله أو محل يقيم فيه كما يقتضيه كلام العمراني وغيره فلا تنافي بينهما
( ولا يمكث بعده ) وبعد ركعتيه وبعد الدعاء المحبوب عقبه عند الملتزم وإتيان زمزم والشرب من مائها لخبر مسلم السابق
فإن مكث لغير حاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كالزيارة والعيادة وقضاء الدين فعليه إعادته وإن اشتغل بركعتي الطواف أو بأسباب الخروج كشراء الزاد وأوعيته وشد الرحل وأقيمت الصلاة فصلاها معهم كما قاله في زيادة الروضة لم يلزمه إعادته والمعتمد أنه ليس من مناسك الحج ولا العمرة كما قاله الشيخان بل هو عبادة مستقلة خلافا لأكثر المتأخرين
وتظهر فائدة الخلاف في أنه هل يفتقر إلى نية أو لا وفي أنه يلزم الأجير فعله أو لا ولا يدخل تحت غيره من الأطوفة بل لا بد من طواف يخصه حتى لو أخر طواف الإفاضة وفعله بعد أيام منى وأراد الخروج عقبه لم يكف كما ذكره الرافعي في أثناء تعليل
( وهو واجب ) لما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض
( يجبر تركه بدم ) وجوبا كسائر الواجبات ( وفي قول سنة لا يجبر ) بدم كطواف القدوم
وفرق الأول بأن طواف القدوم تحية البقعة فليس مقصودا في نفسه ولذلك يدخل تحت غيره
تنبيه لا خلاف في الجبر كما في الشرح والروضة وإنما الخلاف في كونه واجبا أو مندوبا والأصح أنه مندوب على القول الثاني خلافا لما توهمه عبارة المصنف
( فإن أوجبناه فخرج ) من مكة أو منى ( بلا وداع ) عامدا أو ناسيا أو جاهلا بوجوبه ( وعاد ) بعد خروجه ( قبل مسافة القصر ) من مكة وقيل من الحرم وطاف للوداع كما صرح به في المحرم ( سقط الدم ) لأنه في حكم المقيم وكما لو جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه
فإن قيل قولهم لأنه في حكم المقيم فيه نظر إذا سوينا بين السفر الطويل والقصير في وجوب الوداع
أجيب بأن سفره هنا لم يتم لعوده بخلافه هنا أما إذا عاد ليطوف فمات قبل أن يطوف لم يسقط الدم
فلا وجه لإسقاط ما ذكره المحرر
( أو ) عاد ( بعدها ) وطاف ( فلا ) يسقط ( على الصحيح ) لاستقراره بالسفر الطويل ووقوع الطواف بعد العود حق للخروج الثاني والثاني يسقط كالحالة الأولى ويجب العود فيها ولا يجب في الثانية للمشقة
تنبيه قوله أو بعدها يفهم أن بلوغها ليس كذلك وليس مرادا والذي في المجموع أن بلوغها كمجاوزتها
( وللحائض النفر بلا ) طواف ( وداع ) لحديث ابن عباس السابق وعن عائشة أن صفية حاضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنصرف بلا وداع
نعم إن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة لزمها العود لتطوف بخلاف ما إذا طهرت خارج مكة ولو في الحرم وكالحائض النفساء كما في المجموع
وخرج بالحائض المتحيرة فإنها تطوف قال الروياني فإن لم تطف طواف الوداع فلا دم عليها للشك في طهرها
وأما المستحاضة غير المتحيرة فإن نفرت في طهرها لزمها العود على التفصيل المتقدم أو في حيضها فلا
ومن حاضت قبل طواف الإفاضة تصير محرمة حتى ترجع لمكة فتطوف ولو طال ذلك سنين
قال بعض المتأخرين وينبغي أنها إذا وصلت بلدها وهي محرمة عادمة النفقة ولم يمكنها الوصول للبيت الحرام يكون حكمها كالمحصر فتحلل بذبح شاة وتقصير ونية تحلل وأيد ذلك بكلام في المجموع اه
وهو بحث حسن
وبحث بعض آخر بأنها إن كانت شافعة تقلد الإمام أبا حنيفة أو أحمد بن حنبل على إحدى الروايتين عنده في أنها تهجم وتطوف بالبيت ويلزمها توبة وتأثم بدخولها المسجد حائضا ويجزئها هذا الطواف عن الفرض لما في بقائها على الإحرام من المشقة
وإذا فرغ من طواف الوداع المتبوع بركعتيه استحب له أن يدخل البيت ما لم يؤذ أو يتأذ بزحام أو غيره وأن يكون حافيا وأن لا ينظر إلى أرضه ولا يرفع بصره إلى سقفه تعظيما لله تعالى وحياء منه
وأن يصلي فيه ولو ركعتين
____________________
(1/510)
والأفضل أن يقصد مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يمشي بعد دخوله الباب حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع وأن يدعو في جوانبه ثم يدعو عند الملتزم وهو بضم الميم وفتح الزاي سمي به لأنهم يلتزمونه بالدعاء ويسمى المدعى والمتعوذ
قال في المجموع قال القاضي أبو الطيب قال الشافعي يسن لمن فرغ من طواف الوداع أن يأتي الملتزم فيلصق بدنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه على الجدار فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر الأسود ويدعو بما أحب من المأثور وغيره لكن المأثور أفضل
ومن المأثور ما في التنبيه وهو اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى صيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل تنأي عن بيتك داري ويبعد عنه مزاري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا بيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني العمل بطاعتك ما أبقيتني وما زاد فحسن وقد زيد فيه واجمع لي خيري الدنيا والآخرة إنك قادر على ذلك ولفظ فمن الآن يجوز فيه ضم الميم وتشديد النون وهو الأجود وكسر الميم وتخفيف النون مع فتحها وكسرها قاله في المجموع
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
فإن كانت حائضا أو نفساء استحب أن تأتي بجميع ذلك على باب المسجد وتمضي
ويسن الإكثار من الاعتمار والطواف تطوعا والصلاة أفضل من الطواف وأن يزور المواضع المشهورة بالفضل بمكة وهي ثمانية عشر منها بيت المولد وبيت خديجة ومسجد دار الأرقم والغار الذي في ثور والذي في حراء وقد أوضحها المصنف في مناسكه
وأن يكثر النظر إلى البيت إيمانا واحتسابا لما روى الأزرقي عن ابن المسيب قال من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه
وروى البيهقي في شعب الإيمان أن لله تعالى في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين وأن يكثر من الصدقة وأنواع البر والقربات فإن الحسنة هناك بمائة ألف حسنة
قال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه الدعاء يستجاب في خمسة عشر موضعا بمكة في الطواف والملتزم وتحت الميزاب وفي البيت وعند زمزم وعلى الصفا والمروة وفي السعي وخلف المقام وفي عرفات ومزدلفة ومنى وعند الجمرات الثلاث
( ويسن شرب ماء زمزم ) لأنها مباركة طعام طعم وشفاء سقم
قال في المجموع رواه مسلم وقيل شفاء سقم لم يروها مسلم وإنما رواها أبو داود الطيالسي نبه على ذلك الإسنوي
ويسن أن يشربه لمطلوبه في الدنيا والآخرة لحديث ماء زمزم لما شرب له رواه البيهقي وغيره وصححه المنذري وضعفه المصنف وحسنه ابن حجر لوروده من طرق عن جابر
ويسن استقبال القبلة عند شربه وأن يتضلع منه لما روى البيهقي من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم
وقد شربه جماعة من العلماء فنالوا مطلوبهم
ويسن أن يقول عند شربه اللهم إنه قد بلغني عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال ماء زمزم لما شرب له وأنا أشربه لكذا ويذكر ما يريد دينا ودنيا اللهم فافعل ثم يسمي الله تعالى ويشرب ويتنفس ثلاثا
وكان ابن عباس إذا شربه يقول اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء وقال الحاكم صحيح الإسناد
ويسن الدخول إلى البئر والنظر فيها وأن ينزع منها بالدلو الذي عليها ويشرب
قال الماوردي ويسن أن ينضح منه على رأسه ووجهه وصدره وأن يتزود من مائها ويستصحب منه ما أمكنه ففي البيهقي أن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تحمله وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله في القرب وكان يصبه على المرضى ويسقيهم منه
ويسن الشرب من نبيذ سقاية العباس ما لم يسكر والإكثار من دخول الحجر والصلاة فيه والدعاء فإن أكثره من البيت كما مر
ويسن أن يختم القرآن بمكة وأن ينصرف تلقاء وجهه مستدبر البيت كما صححه المصنف في مناسكه وصوبه في مجموعه وقيل يخرج وهو ينظر إليه إلى أن يغيب عنه مبالغة في تعظيمه وجرى على ذلك صاحب التنبيه وقيل يلتفت إليه بوجهه ما أمكنه
____________________
(1/511)
كالمتحزن على فراقه وجرى على ذلك ابن المقري
ويقول عند خروجه من مكة الله أكبر ثلاثا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون عابدون ساجدون لربنا حامدون و صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده
( و ) تسن ( زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لقوله صلى الله عليه وسلم من زار قبري وجبت له شفاعتي رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومفهومه أنها جائزة لغير زائره
ولقوله صلى الله عليه وسلم من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقا على الله تعالى أن أكون له شفيعا يوم القيامة رواه ابن السكن في سننه الصحاح المأثورة
وروى البخاري من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني وكفي أمر دنياه وآخرته وكنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة
فزيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات ولو لغير حاج ومعتمر فقوله ( بعد فراغ الحج ) كما قاله الشافعي والأصحاب ليس المراد اختصاص طلب الزيارة بهذه الحالة فإنها مندوبة مطلقا كما مر بعد حج أو عمرة قبلهما أولا مع نسك بل المراد تأكد الزيارة فيها لأمرين أحدهما أن الغالب على الحجيج الورود من آفاق بعيدة فإذا قربوا من المدينة يقبح تركهم الزيارة والثاني لحديث من حج ولم يزرني فقد جفاني رواه ابن عدي في الكامل وغيره وهذا يدل على أنه يتأكد للحاج أكثر من غيره
وحكم المعتمر حكم الحاج في تأكد ذلك وإن لم تشمله عبارة المصنف
وفي الحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا فتسن زيارة بيت المقدس وزيارة الخليل صلى الله عليه وسلم ولا تعلق لهما بالحج
ويسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ويزيد فيهما إذا أبصر أشجارها مثلا ويسأل الله تعالى أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبلها منه وأن يغتسل قبل دخوله كما تقدم ويلبس أنظف وأحسن ثيابه فإذا دخل المسجد قصد الروضة وهي ما بين القبر والمنبر وصلى تحية المسجد بجنب المنبر وشكر الله تعالى بعد فراغهما على هذه النعمة
ثم يأتي القبر الشريف فيستقبل رأسه ويستدبر القبلة ويبعد عنه نحو أربعة أذرع ويقف ناظرا إلى أسفل ما يستقبل في مقام الهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم لخبر ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود بإسناد صحيح
وأقل السلام عليه السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ولا يرفع صوته تأدبا معه صلى الله عليه وسلم كأنه في حياته
ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه فإن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتأخر قدر ذراع آخر فيسلم على عمر رضي الله تعالى عنه لما روى البيهقي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا قدم من سفره دخل المسجد ثم أتى القبر الشريف فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه
ويستشفع به إلى ربه لما روى الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما غفرت لي فقال الله تعالى وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه قال يا رب لأنك لما خلقتني ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت في قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى نفسك إلا أحب الخلق إليك
فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي إذ سألتني به فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك قال الحاكم هذا صحيح الإسناد
ومن أحسن ما يقوله الزائر بعد ذلك يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم روحي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته يوم الحساب إذا ما زلت القدم ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء من المسلمين
ويسن أن يأتي سائر المشاهد بالمدينة وهي نحو ثلاثين
____________________
(1/512)
موضعا يعرفها أهل المدينة
ويسن زيارة البقيع وقباء
وأن يأتي بئر أريس فيشرب منها ويتوضأ وكذلك بقية الآبار السبعة وقد نظمها بعضهم في بيت فقال أريس وغرس رومة وبضاعة كذا بصه قل بير حاء مع العهن وينبغي المحافظة على الصلاة في مسجده الذي كان في زمنه يصلي فيه فالصلاة فيه بألف صلاة
وليحذر من الطواف بقبره صلى الله عليه وسلم ومن الصلاة داخل الحجرة بقصد تعظيمه
ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر كراهة شديدة ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد عنه كما لو كان بحضرته صلى الله عليه وسلم في حياته
ويسن أن يصوم بالمدينة ما أمكنه وأن يتصدق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم المقيمين والغرباء بما أمكنه
وإذا أراد السفر استحب أن يودع المسجد بركعتين ويأتي القبر الشريف ويعيد السلام الأول ويقول اللهم لا تجعله آخر العهد من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسر لي العودة إلى الحرمين سبيلا سهلا وارزقني العفو والعافية في الدنيا والآخرة وردنا إلى أهلنا سالمين غانمين وينصرف تلقاء وجهه ولا يمشي القهقرى
ولا يجوز لأحد أن يستصحب شيئا من الأكر المعمولة من تراب الحرمين ولا من الأباريق والكيزان المعمولة من ذلك
ومن البدع تقرب العوام بأكل التمر الصيحاني في الروضة
فصل في بيان أركان الحج والعمرة وكيفية أداء النسكين وما يتعلق بذلك
( أركان الحج خمسة ) بل ستة أحدها ( الإحرام ) أي نية الدخول فيه لخبر إنما الأعمال بالنيات
( و ) ثانيها ( الوقوف ) بعرفة لخبر الحج عرفة
( و ) ثالثها ( الطواف ) بالكعبة لقوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق }
والمراد طواف الإفاضة ( و ) رابعها السعي بين الصفا والمروة لما روى الدارقطني وغيره بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة في السعي وقال يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم
( و ) خامسها ( الحلق ) أو التقصير ( إذا جعلنا نسكا ) وقد سبق أنه القول المشهور لتوقف التحلل عليه مع عدم جبر تركه بدم كالطواف
( و ) سادسها ( الترتيب ) في معظم هذه الأركان كما بحثه في الروضة وإن عده في المجموع شرطا بأن يقدم الإحرام على الجميع ويؤخر السعي عن طواف ركن أو قدوم ويقدم الوقوف على طواف الركن والحلق أو التقصير للاتباع مع خبر خذوا عني مناسككم
( ولا تجبر ) هذه الأركان ولا شيء منها ( بدم ) بل يتوقف الحج عليها لأن الماهية لا تحصل إلا بجميع أركانها
أما واجباته فخمسة أيضا الإحرام من الميقات والرمي في يوم النحر وأيام التشريق والمبيت بمزدلفة والمبيت ليالي منى واجتناب محرمات الإحرام
وأما طواف الوداع فقد تقدم أنه ليس من المناسك فلا يعد من الواجبات ولا يعد من الأركان والواجب ما أجبر بدم ويسمى بعضا والركن ما فسد بتركه الحج وغيرهما يسمى هيئة
( وما سوى الوقوف ) من هذه الستة ( أركان في العمرة أيضا ) لشمول الأدلة السابقة لها ولكن الترتيب يعتبر في جميع أركانها فيجب تأخير الحلق أو التقصير عن سعيها
وواجب العمرة شيئان الإحرام من الميقات واجتناب محرمات الإحرام
( ويؤدى النسكان على ) ثلاثة ( أوجه ) فقط ولهذا عبر بجمع القلة
ووجه الحصر في الثلاثة أن الإحرام إن كان بالحج أو لا فالإفراد أو بالعمرة فالتمتع أو بهما معا فهو القران على تفصيل وشروط لبعضها ستأتي
وعرف بهذا أنه لو أتى بنسك على حدته ليس شيئا من هذه الأوجه كما يشير إليه قوله النسكان بالتثنية
أما أداء النسك من حيث هو فعلى خمسة أوجه الثلاثة المذكورة وأن يحرم بحج فقط أو عمرة فقط
وقد سبق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ومنا من أهل بحج وعمرة رواه الشيخان
( أحدها الإفراد ) والأفضل يحصل ( بأن يحج ) أي يحرم بالحج من ميقاته ويفرغ منه ( ثم يحرم بالعمرة
____________________
(1/513)
كإحرام المكي ) بأن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بها ( ويأتي بعملها )
أما غير الأفضل فله صورتان
إحداهما أن يأتي بالحج وحده في سنته الثانية أن يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج من الميقات
وقد صرح بصدق الإفراد على هذا القاضي حسين والإمام
وكلام المصنف لا يفهم منه المراد إلا بما قدرته فإن الإفراد هو الأفضل وسيأتي بيانه بعد ذلك في كلامه
( الثاني القران ) والأكمل يحصل له ( بأن يحرم بهما ) معا في أشهر الحج ( من الميقات ) للحج وغير الأكمل أن يحرم بهما من دون الميقات وإن لزمه دم فتقييده بالميقات لكونه أكمل لا لكون الثاني لا يسمى قرانا
( ويعمل عمل الحج ) فقط لأن عمل الحج أكثر ( فيحصلان ) ويدخل عمل العمرة في عمل الحج فيكفيه طواف واحد وسعي واحد لما رواه الترمذي وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال من أحرم الحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعا صححه الترمذي وهذه الصورة الأصلية للقران ( ولو أحرم بعمرة ) صحيحة ( في أشهر الحج ثم ) أحرم ( بحج قبل ) الشروع في ( الطواف كان قارنا ) بإجماع كما قاله ابن المنذر فيكفيه عمل الحج لما روى مسلم أن عائشة رضي الله تعالى عنها أحرمت بعمرة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي فقال ما شأنك قالت حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حللت من حجك وعمرتك جميعا
تنبيه قضية كلامه أنه لو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج في أشهره أنه لا يصح ولا يكون قارنا وليس مرادا فإن الأصح في زيادة الروضة وفي المجموع أنه يصح أي ويكون قارنا فكان ينبغي تأخير القيد فيقول ولو أحرم بعمرة ثم بحج قبل الطواف في أشهر الحج كان قارنا
وقوله قبل الطواف احترز به عما إذا طاف ثم أحرم بالحج أو شرع فيه ولو بخطوة ثم أحرم بالحج فإنه لا يصح لاتصال إحرامه بمقصوده وهو أعظم أفعالها فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها ولأنه أخذ في التحلل المقتضي لنقصان الإحرام فلا يليق به إدخال الإحرام المقتضي لفوته
ولو استلم الحجر بنية الطواف ففي صحة الإدخال وجهان قال في المجموع ينبغي تصحيح الجواز لأنه مقدمته لا بعضه
وكلامه يشمل ما لو أفسد العمرة ثم أدخل الحج عليها
والأصح أنه ينعقد إحرامه بالحج فاسدا ولذا قيدت العمرة بالصحيحة
وقيل ينعقد صحيحا ثم يفسد وقيل ينعقد صحيحا ويستمر
وكلامه كما قال الإسنوي محتمل لكل من الثلاثة
( ولا يجوز عكسه ) وهو إدخال العمرة على الحج ( في الجديد ) لأنه لا يستفيد به شيئا آخر بخلاف إدخال الحج عليها فيستفيد به الوقوف والرمي والمبيت لأنه يمتنع إدخال الضعيف على القوي كفراش النكاح مع فراش الملك لقوته عليه جاز إدخاله عليه دون العكس حتى لو نكح أخت أمته جاز وطؤها بخلاف العكس والقديم الجواز وصححه الإمام كعكسه فيجوز ما لم يشرع في أسباب تحلله
( الثالث التمتع ) ويحصل ( بأن يحرم بالعمرة ) في أشهر الحج ( من ميقات بلده ) أو غيره ( ويفرغ منها ثم ينشىء حجا من مكة ) أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه أو من مثل مسافته أو ميقات أقرب منه
تنبيه علم مما تقرر أن قوله من بلده و من مكة للتمثيل لا للتقييد وسمي الآتي بذلك متمتعا لتمتعه بمحظورات الإحرام بين النسكين
( وأفضلها ) أي أوجه أداء النسكين المتقدمة ( الإفراد ) إن اعتمر عامه فلو أخرت عنه العمرة كان الإفراد مفضولا لأن تأخيرها عنه مكروه
( وبعده التمتع وبعد التمتع القران ) لأن المتمتع يأتي بعملين كاملين غير أنه لا ينشىء لهما ميقاتين وأما القارن فإنه يأتي بعمل واحد من ميقات واحد
( وفي قول التمتع أفضل من الإفراد )
____________________
(1/514)
ومنشأ الخلاف اختلاف الرواة في إحرامه صلى الله عليه وسلم روى الشيخان عن جابر و عائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ورويا عن ابن عمر أنه أحرم متمتعا
ورجح الأول بأن رواته أكثر وبأن جابرا منهم أقدم صحبة وأشد عناية يضبط المناسك وبالإجماع على أنه لا كراهة فيه وبأن التمتع والقران يجبر فيهما الدم بخلاف الإفراد والجبر دليل النقصان
قال في المجموع والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بحج ثم أدخل عليه العمرة وخص بجوازه في تلك السنة للحاجة وأمر به في قوله لبيك عمرة في حجة وبهذا يسهل الجمع بين الروايات فعمدة رواة الإفراد وهو الأكثر أول الإحرام وعمدة رواة القران آخره ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع وقد انتفع بالاكتفاء بفعل واحد ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السنة عمرة مفردة ولو جعلت حجته مفردة لكان غير معتمر في تلك السنة ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران فانتظمت الرواة في حجه صلى الله عليه وسلم في نفسه
وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكانوا ثلاثة أقسام قسم أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم هدي
وقسم بعمرة ففرغوا منها ثم أحرموا بحج
وقسم بحج ولا هدي معهم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقلبوه عمرة وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة وهو خاص بالصحابة رضي الله تعالى عنهم أمرهم به صلى الله عليه وسلم لبيان مخالفة ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واعتقادهم أن إيقاعها فيه من أفجر الفجور كما أنه صلى الله عليه وسلم أدخل العمرة على الحج كذلك فانتظمت الروايات في إحرامهم أيضا
فمن روى أنهم كانوا قارنين أو متمتعين أو مفردين أراد بعضهم وهم الذين علم ذلك منهم وظن أن البقية مثلهم
وأما تفضيل المتمتع على القارن فلأن أفعال النسكين فيه أكمل كما مر
وقولنا وبعده التمتع ثم القران أي وهو أفضل من الحج فقط ثم الحج فقط أفضل من العمرة فقط
فإن قيل ينبغي أنه لو قرن واعتمر بعد الحج كان أفضل من الإفراد لاشتماله على المقصود مع زيادة عمرة أخرى ونظير ما قالوه في التيمم أنه إذا رجا الماء فصلى أولا بالتيمم على قصد إعادتها بالوضوء فإنه أفضل لا محالة
وهكذا إذا اعتمر المتمتع بعد الحج أيضا خصوصا إذا كان مكيا وعاد لإحرام الحج إلى الميقات فإن فوات هذه الشروط لا تخرجه عن كونه متمتعا وإنما سقط الدم
أجيب بأن هذا التفضيل الذي ذكره الأصحاب إنما هو عند إتيانه بنسكين فقط وفي هاتين الصورتين قد أتى بنسك ثالث فليست هي الصورة المتكلم عليها
فإن قيل قد تقدم أن الجبر دليل النقصان ولا شك أن فيما ذكر وجوب الدم
أجيب بأن النسك الثالث جبر ذلك النقص وهذا نظير ما قالوه في إفراد صوم يوم الجمعة فإنهم عللوا الكراهة بضعفه عما في ذلك اليوم من وظائف العبادات وقالوا لو صام معه غيره ذلك الكراهة لأن صوم ذلك اليوم يجبر ما يفوته
( وعلى المتمتع دم ) لقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } والمعنى في إيجاب الدم كونه ربح ميقاتا فإنه لو كان قد أحرم بالحج أولا من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة
وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة
والواجب شاة تجزىء في الأضحية ويقوم مقامها سبع بدنة أو سبع بقرة وكذا جميع الدماء الواجبة في الحج الإجزاء الصيد وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى
( بشرط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ) لقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }
قوله تعالى { ذلك } أي ما ذكر من الهدي والصوم عند فقده وقوله { لمن } معناه على من
( وحاضروه من ) مساكنهم ( دون مرحلتين من مكة ) لأن المسجد الحرام المذكور في الآية ليس المراد به حقيقته بالاتفاق بل الحرم عند بعضهم ومكة عند آخرين وحمله على مكة أقل تجاوزا من حمله على جميع الحرم
( قلت الأصح من الحرم والله أعلم ) لأن الماوردي قال إن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم إلا قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } فهو نفس الكعبة فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى والقريب من الشيء يقال إنه حاضره قال تعالى { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } أي قريبة منه والمعنى في ذلك أنهم لم يربحوا ميقاتا أي عاما لأهله ولمن مر به فلا يشكل من
____________________
(1/515)
بينه وبين مكة أو الحرم دون مسافة القصر إذا عن له النسك ثم فأته وإن ربح ميقاتا بتمتعه لكنه ليس ميقاتا عاما لأهله ولمن مر به
ولا يشكل أيضا بأنهم جعلوا ما دون مسافة القصر كالموضع الواحد في هذا ولم يجعلوه في مسألة الإساءة وهو إذا كان مسكنه دون مسافة القصر من الحرم وجاوزه وأحرم كالموضع الواحد حتى لا يلزمه الدم كالمكي إذا أحرم من سائر بقاع مكة بل ألزموه الدم وجعلوه مسيئا كالآفاقي لأن ما خرج عن مكة مما ذكر تابع لها والتابع لا يعطى حكم المتبوع من كل وجه ولأنهم عملوا بمقتضى الدليل في الموضعين وهنا لا يلزمه دم لعدم إساءته بعدم عوده لأنه من الحاضرين بمقتضى الآية وهناك يلزمه دم لإساءته بمجاوزته ما عين له بقوله في الخبر ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأه حتى أهل مكة من مكة
على أن المسكن المذكور كالقرية بمنزلة مكة في جواز الإحرام من سائر بقاعه وعدم جواز مجاوزته بلا إحرام لمريد النسك فإن كان للمتمتع مسكنان أحدهما بعيد والآخر قريب اعتبر في كونه من الحاضرين أو غيرهم كثرة إقامته بأحدهما فإن استوت إقامته بهما اعتبر بوجود الأهل والمال فإن كان أهله بأحدهما وماله بالآخر اعتبر بمكان الأهل ذكره المحب الطبري قال والمراد بالأهل الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والإخوة
فإن استويا في ذلك اعتبر بعزم الرجوع إلى أحدهما للإقامة فيه فإن لم يكن له عزم اعتبر بإنشاء ما خرج منه وللغريب المستوطن في الحرم أو فيما دون مسافة القصر منه حكم أهل البلد الذي هو فيه
ويلزم الدم آفاقيا تمتع ناويا الاستيطان بمكة ولو بعد العمرة لأن الاستيطان لا يحصل بمجرد النية
( وأن تقع عمرته في أشهر الحج من سنته ) أي الحج فلو وقعت قبل أشهره وأتمها ولو في أشهره ثم حج لم يلزمه الدم لأنه لما يجمع بينهما في وقت الحج فأشبه المفرد
وأن يحج من عامه فمن لم يحج من عامه الذي اعتمر فيه لا دم عليه لم روى البيهقي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا
( وأن لا يعود لإحرام الحج إلى الميقات ) الذي أحرم منه بالعمرة أو ميقات آخر ولو أقرب إلى مكة من ميقات عمرته أو إلى مثل مسافة ميقاتها فإذا عاد إليه وأحرم منه بالحج لم يلزمه الدم لأن المقتضي لإيجاب الدم وهو ربح الميقات قد زال بعوده إليه
ومثل ذلك ما ذكر لأن المقصود قطع تلك المسافة محرما
تنبيه أفهم كلامه أنه لا يشترط لوجوب الدم نية التمتع ولا وقوع النسكين عن شخص واحد ولا بقاؤه حيا وهو كذلك
ولو خرج المتمتع للإحرام بالحج من مكة وأحرم خارجها ولم يعد إلى الميقات ولا إلى مثل مسافته ولا إلى مكة لزمه دمه أيضا للإساءة الحاصلة بخروجه من مكة بلا إحرام مع عدم عوده
واعلم أن هذه الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم
وهل تعتبر في تسميته تمتعا وجهان أحدهما نعم فلو فات شرط كان مفردا
وأشهرهما لا تعتبر ولهذا قال الأصحاب يصح التمتع والقران من المكي خلافا لأبي حنيفة
( ووقت وجوب الدم ) عليه ( إحرامه بالحج ) لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج
وقد يفهم أنه لا يجوز تقديمه عليه وليس مرادا بل الأصح جواز ذبحه إذا فرغ من العمرة
وقيل يجوز إذا أحرم بها ولا يتأقت ذبحه بوقت كسائر دماء الجبرانات ( و ) لكن ( الأفضل ذبحه يوم النحر ) للاتباع وخروجا من خلاف الأئمة الثلاثة فإنهم قالوا لا يجوز في غيره ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد ممن كان معه أنه ذبح قبله
( فإن عجز عنه ) حسا بأن فقده أو ثمنه أو شرعا بأن وجده بأكثر من ثمن مثله أو كان محتاجا إليه أو إلى ثمنه أو غاب عنه ماله أو نحو ذلك ( في موضعه ) وهو الحرم سواء أقدر عليه ببلده أم غيره أم لا بخلاف كفارة اليمين لأن الهدي يختص ذبحه بالحرم والكفارة لا تختص
( صام ) بدله وجوبا ( عشرة أيام ثلاثة في الحج ) لقوله تعالى { فمن لم يجد } أي الهدي { فصيام ثلاثة أيام في الحج } أي بعد الإحرام بالحج فلا يجوز تقديمها على الإحرام بخلاف الدم لأن الصوم عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة والدم عبادة مالية فأشبه الزكاة
____________________
(1/516)
تنبيه قد يرد على المصنف ما لو عدم الهدي في الحال وعلم أنه يجده قبل فراغ الصوم فإن له الصوم على الأظهر مع أنه ما عجز عنه في موضعه ولو رجا وجوده جاز له الصوم
وفي استحباب انتظاره ما تقدم في التيمم ولكن ( تستحب ) له ( قبل يوم عرفة ) لأنه يسن للحاج فطره فيحرم قبل سادس ذي الحجة ويصومه وتالييه وإذا أحرم في زمن يسع الثلاثة وجب عليه تقديمها على يوم النحر فإن أخرها عن أيام التشريق أثم وصارت قضاء على الصحيح
وإن تأخر الطواف وصدق عليه أنه في الحج لأن تأخيره نادر فلا يكون مرادا في الآية
وليس السفر عذرا في تأخير صومها لأن صومها متعين إيقاعه في الحج بالنص وإن كان مسافرا فلا يكون السفر عذرا فيه بخلاف رمضان ولا يجوز صومها في يوم النحر وكذا في أيام التشريق في الجديد كما ذكره المصنف في بابه
وإذا فاته صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه
ولا يجب عليه تقدم الإحرام بزمن يتمكن من صوم الثلاثة فيه قبل يوم النحر خلافا لبعض المتأخرين في وجوب ذلك إذا لا يجب تحصيله بسبب الوجوب ويجوز أن لا يحج في هذا العام
ويسن للموسر أن يحرم بالحج يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة للاتباع وللأمر به كما في الصحيحين
وسمي يوم التروية لترويهم فيه الماء ويسمى يوم النقلة لانتقالهم فيه من مكة إلى منى
( و ) صام بعد الثلاثة ( سبعة إذا رجع إلى ) وطنه و ( أهله في الأظهر ) إن أراد الرجوع إليهم لقوله تعالى { وسبعة إذا رجعتم } ولقوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله رواه الشيخان فلا يجوز صومها في الطريق كذلك
فإن أراد الإقامة بمكة صامها بها كما قاله في البحر والثاني إذا فرغ من الحج لأنه المراد بالرجوع فكأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلا عليه وهو قول الأئمة الثلاثة ونص عليه في الإملاء
( ويندب تتابع ) الأيام ( الثلاثة ) أداء كانت أو قضاء ( وكذا السبعة ) بالرفع بخطه يندب تتابعها أيضا كذلك لأن فيه مبادرة لأداء الواجب وخروجا من خلاف من أوجبه
نعم إن أحرم بالحج سادس ذي الحجة لزمه صوم الثلاثة متتابعة لضيق الوقت لا للتتابع نفسه
( ولو فاتته الثلاثة في الحج ) بعذر أوغيره ( الأظهر أنه يلزمه ) قضاؤها لما مر و ( أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة ) بقدر أربعة أيام يوم النحر وأيام التشريق ومدة إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة كما في الأداء فلو صام عشرة ولاء حصلت الثلاثة ولا يعتد بالبقية لعدم التفريق والثاني لا يلزمه التفريق
تنبيه ظاهر كلامه الإكتفاء بمطلق التفريق لولا ما قدرته ولو بيوم وهو قول نص عليه في الإملاء
( وعلى القارن دم ) لأنه واجب على المتمتع بنص القرآن
وفعل المتمتع أكثر من فعل القارن فإذا لزمه الدم فالقارن أولى
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر يوم النحر قالت وكن قارنات
( كدم التمتع ) في أحكامه السابقة جنسا وسنا وبدلا عن العجز لأنه فرع عن دم التمتع
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( بشرط أن لا يكون ) القارن ( من حاضري المسجد الحرام ) وسبق بيان حاضريه وأن لا يعود قبل الوقوف للإحرام بالحج من الميقات فإن عاد سقط عنه الدم ( والله أعلم ) لأن دم القران فرع عن دم التمتع كما تقدم ودم التمتع غير واجب على الحاضر ففرعه كذلك
وذكر هذا الشرط كما قاله الولي العراقي إيضاح وإلا فقوله كدم التمتع يغني عنه وإذ ذكر ذلك كان ينبغي له أن يزيد ما قدرته
خاتمة لو استأجر اثنان شخصا أحدهما لحج والآخر لعمرة فتمتع عنهما أو اعتمر أجيرا لحج عن نفسه ثم حج عن المستأجر فإن كان قد تمتع بالإذن من المستأجرين أو أحدهما في الأولى ومن المستأجر في الثانية فعلى كل من الآذنين أو الآذن والأجير نصف الدم إن أيسرا أو إن أعسرا قال شيخنا بحثا أو أحدهما فالصوم على الأجير لأن بعضه في الحج
أو تمتع بلا إذن ممن ذكر لزمه دمان دم للتمتع ودم لأجل الإساءة بمجاوزته الميقات
ولو وجد فاقد الهدي الهدي بين الإحرام
____________________
(1/517)
بالحج والصوم لزمه الهدي لا أن وجده بعد الشروع في الصوم بل يسن له للخروج من خلاف من أوجبه
وإذا مات المتمتع أو القارن الواجب عليه هدي لم يسقط عنه بل يخرج من تركته أو يصوم لكونه معسرا بذلك فكرمضان يسقط عنه إن لم يتمكن من فعله ويصام أو يطعم عنه من تركته لكل يوم مد إن تمكن
باب محرمات الإحرام أي المحرمات به
والأصل فيه الأخبار الصحيحة كخبر الصحيحين عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس زاد البخاري ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين
وكخبر البيهقي بإسناد صحيح كما في المجموع نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القميص والأقبية والسراويلات والخفين إلا أن لا يجد النعلين
فإن قيل السؤال في الخبر الأول عما يلبس وأجيب بما لا يلبس فما الحكمة في ذلك أجيب بأن ما لا يلبس محصور بخلاف ما يلبس إذ الأصل الإباحة وفيه تنبيه على أنه كان ينبغي السؤال عما لا يلبس وبأن المعتبر في الجواب ما يحصل المقصود وإن لم يطابق صريحا وهي أمور قال في الرونق واللباب إن مجموعها عشرون شيئا وجرى على ذلك البلقيني في التدريب وقال في الكفاية إنها عشرة أي والباقية متداخلة
قال الأذرعي واعلم أن المصنف بالغ في اختصار أحكام الحج لا سيما هذا الباب وأتى فيه بصيغة تدل على حصر المحرمات فيما ذكره والمحرر سالم من ذلك فإنه قال يحرم في الإحرام أمور منها كذا وكذا اه
والمصنف عدها سبعة فقال ( أحدها ستر بعض رأس الرجل ) ولو البياض الذي وراء الأذن سواء أستر البعض الآخر أم لا ( بما يعد ساترا ) عرفا محيطا كان أو غيره كالعمامة والطيلسان والخرقة وكذا الطين والحناء الثخنين لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر عن بعيره ميتا لا تختمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا بخلاف ما لا يعد ساترا كاستظلال بمحمل وإن مسه وكحمل قفة أو عد من غير قصد ستر بذلك فإن قصد بحمل القفة ونحوها الستر لزمته الفدية كما جزم به الفوراني وغيره كانغماسه في ماء ولو كدرا وتغطية رأسه بكفه أو كف غيره وشده بخيط
ولو غطى رأسه بثوب تبدو البشرة من ورائه ففي الكفاية عن الإمام أنه يوجب الفدية وأنه لا يبعد إلحاقه بوضع الزنبيل وينبغي كما قال السبكي القطع بالأول لأنه يعد ساترا هنا بخلاف الصلاة
( إلا ) ستر بعض رأس الرجل أو كله ( لحاجة ) من حر أو برد أو مداواة كأن جرح رأسه فشد عليه خرقة فيجوز لقوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } لكن تلزمه الفدية قياسا على الحلق بسبب الأذى
تنبيه عبارة المصنف أحسن من قول المحرر إلا لحاجة مداواة لأنها أخصر وأحصر
( و ) يحرم عليه ( لبس المخيط ) كقميص وقباء وإن لم يخرج يديه من كميه وخريطة لخضاب لحيته وقفاز وسراويل وتبان وخف
( أو المنسوج ) كدرع ( أو المعقود ) كجبة لبد ( في سائر ) أي جميع أجزاء ( بدنه ) لحديث الصحيحين أول الباب
والمعتبر في اللبس العادة في كل ملبوس إذ به يحصل الترفه فلو ارتدى بالقميص أو القباء أو التحف بهما أو اتزر بالسراويل فلا فدية كما لو اتزر بإزار لفقه من رقاع أو أدخل رجليه في الخف
ولو ألقي على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع وكان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر لم تلزمه الفدية ولو زر الإزار أو خاطه حرم كما نص عليه في الإملاء
ويجوز أن يعقد إزاره لا رداءه وأن يشد عليه خيطا ليثبت وأن يجعله مثل الحجزة ويدخل فيه التكة إحكاما
وله تقليد السيف والمصحف وشد المنطقة والهميان على وسطه للحاجة إلى ذلك
وله أن يلف بوسطه عمامة ولا يعقدها وأن يلبس الخاتم وأن يدخل يده في كم قميص منفصل عنه وأن يغرز طرف ردائه في إزاره
ولا يجوز له أن يعقد رداءه ولا أن
____________________
(1/518)
يخلله بنحو مسلة ولا يربط طرفه بطرفه الآخر بخيط ولو اتخذ له شرجا وعرا وربط الشرج بالعرا حرم عليه ولزمته الفدية
فائدة قال بعض العلماء والحكمة في تحريم لبس المخيط وغيره مما منع منه المحرم أن يخرج الإنسان عن عادته فيكون ذلك مذكرا له ما هو فيه من عبادة ربه فيشتغل بها
تنبيه تقدم الكلام على سائر في آخر خطبة الكتاب هل هو بمعنى باقي أو جميع قيل ولا يصح هنا أن يستعمل بمعنى باقي فإنه لم يتقدم حكم شيء من البدن حتى يكون هذا حكم باقيه فإن الرأس قسيم البدن لا بعضه ولذلك قدرت جميع في كلامه
قال الإسنوي وخريطة اللحية لا تدخل في كلام المصنف لأن اللحية لا تدخل في مسمى البدن وكان ينبغي للمصنف أن يستثني الوجه فإنه لا يحرم ستره على الرجل عندنا قال الدارمي وغيره وقد روي فعله عن عثمان رضي الله تعالى عنه لكن يبقى شيئا ليستوعب الرأس بالكشف
( إلا إذا ) كان لبسه لحاجة كحر وبرد فيجوز مع الفدية أو ( لم يجد غيره ) أي المخيط ونحوه فيجوز له من غير فدية
وله لبس السراويل التي لا يتأتى الاتزار بها عند فقد الإزار ولبس مداس أي مكعب وهو ما يسمى بالسرموزة والزربول الذي لا يستر الكعبين وكذا لبس خف إن قطع أسفل كعبه وإن ستر ظهر القدمين فيهما بباقيهما عند فقد النعلين
قال الزركشي والمراد بالنعل التاسومة ويلتحق به القبقاب لأنه ليس بمخيط
ولم يشترطوا في جواز لبس السراويل قطعه فيما جاوز العود لإطلاق الخبر وعلله في المجموع بإضاعة المال والفرق بينه وبين وجوب قطع الخف عند فقد النعل مشكل لكن ورد النص بذلك
نعم يتجه عدم جواز قطع الخف إذا وجد المكعب ولا يجوز لبس الخف المقطوع والمداس مع وجود النعلين على الصحيح المنصوص أما المداس المعروف الآن فهذا يجوز لبسه لأنه ليس مخيطا بالقدم فقول المصنف في مناسكه يحرم لبس المداس المراد به المكعب كما مر
وإذا لبس السراويل للحاجة ثم وجد الإزار أو الخف ثم وجد النعل لزمه نزعه في الحال فإن أخر بلا عذر أثم ولزمته الفدية
ولو قدر على أن يستبدل بالسراويل إزارا متساوي القيمة فالصواب كما قاله القاضي أبو الطيب وجوبه إن لم يمض زمن تبدو فيه عورته وإلا فلا
تنبيه ظاهر عبارة المصنف أنه لا يجوز اللبس لحاجة البرد والمداواة وليس مرادا إذ المنقول في كلام الشيخين وغيرهما الجواز لكن مع الفدية كما قدرته في كلامه فلو عبر بالحاجة كما عبر به في الرأس لكان أولى
ولا فرق في جميع ما تقدم بين البالغ والصبي إلا أن الإثم يختص بالمكلف ويأثم الولي إذا أقر الصبي على ذلك ولا فرق في ذلك بين طول زمن اللبس وقصر
( ووجه المرأة ) ولو أمة كما في المجموع ( كرأسه ) أي الرجل في حرمة الستر لوجهها أو بعضه إلا لحاجة فيجوز مع الفدية
وعلى الحرة أن تستر منه ما لا يتأتى ستر جميع رأسها إلا به احتياطا للرأس إذ لا يمكن استيعاب ستره إلا بستر قدر يسير مما يليه من الوجه والمحافظة على ستره بكماله لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف ذلك القدر من الوجه
ويؤخذ من التعليل أن الأمة لا تستر ذلك لأن رأسها ليس بعورة وهو ظاهر
ولا ينافي ذلك قول المجموع ما ذكر في إحرام المرأة ولبسها لم يفرقوا فيه بين الحرة والأمة وهو المذهب لأنه في مقابلة قوله
وشذ القاضي أبو الطيب فحكى وجها أن الأمة كالرجل ووجهين في المبعضة هل هي كالأمة أو كالحرة اه
فإن أرادت المرأة ستر وجهها عن الناس أرخت عليه ما يستره بنحو ثوب متجاف عنه بنحو خشبة بحيث لا يقع على البشرة وسواء أفعلته لحاجة كحر وبرد أم لا
كما يجوز للرجل ستر رأسه بنحو مظلة فلو وقعت الخشبة مثلا فأصاب الثوب وجهها بلا اختيار منها فرفعته فورا لم تلزمها الفدية وإلا لزمتها مع الإثم
( ولها ) أي المرأة ( لبس المخيط ) وغيره في الرأس وغيره ( إلا القفاز ) فليس لها ستر الكفين ولا أحدهما به ( في الأظهر ) للحديث المتقدم ولأن القفاز ملبوس عضو ليس بعورة في الصلاة فأشبه خف الرجل وخريطة لحيته
والثاني يجوز لها لبسهما لما رواه الشافعي في الأم عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأمر بناته يلبسهما في الإحرام
قال الجوهري والقفاز شيء يعمل لليدين يحشى بقطن ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد تلبسه المرأة في يديها ومراد الفقهاء ما يشمل المحشو وغيره
ويجوز لها ستر الكفين بغير القفاز ككم وخرقة تلفها عليهما
____________________
(1/519)
للحاجة إليه ومشقة الاحتراز عنه سواء أخضبتهما أم لا بناء على أن علة تحريم القفازين عليهما ما مر آنفا
ويحرم على الخنثى المشكل ستر وجهه مع رأسه وتلزمه الفدية وليس له ستر وجهه مع كشف رأسه خلافا لمقتضى كلام ابن المقري في روضه ولا فدية عليه لأنا لا نوجبها بالشك
نعم لو أحرم بغير حضرة الأجانب جاز له كشف رأسه كما لو لم يكن محرما
قال في المجموع ويسن أن لا يستتر بالمخيط لجواز كونه رجلا ويمكنه ستره بغيره هكذا ذكره جمهور الأصحاب
وقال القاضي أبو الطيب لا خلاف أنا نأمره بالستر ولبس المخيط كما نأمره أن يستتر في صلاته كالمرأة
وفي أحكام الخناثى لابن المسلم ما حاصله أنه يجب عليه أن يستر رأسه وأن يكشف وجهه وأن يستر بدنه إلا بالمخيط فإنه يحرم عليه احتياطا
قال الأذرعي ك الإسنوي وما قاله حسن اه
ولكنه مخالف لما تقدم عن المجموع
( الثاني ) من المحرمات ( استعمال الطيب ) للمحرم ذكرا كان أو غيره ولو أخشم بما يقصد منه رائحته غالبا ولو مع غيره كالمسك والعود والكافور والورس وهو أشهر طيب ببلاد اليمن والزعفران وإن كان يطلب للصبغ والتداوي أيضا
( في ) ملبوسه من ( ثوبه ) أو غيره كخف أو نعل لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المار ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران والورس طيب
ولو قال المصنف في ملبوسه بدل ثوبه لكان أولى واستغنى عما قدرته
( أو ) في ( بدنه ) قياسا على ثوبه بطريق الأولى ولو باطنا بأكل أو استعاط أو احتقان فيجب مع التحريم في ذلك الفدية وبعض البدن ككله
وأدرج في الطيب ما معظم الغرض منه رائحته الطيبة كالورد والياسمين والبنفسج والريحان الفارسي وما اشتمل على الطيب من الدهن كدهن الورد ودهن البنفسج واستعماله أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك بنفسه أو مأذونه فلو احتوى على مبخرة أو حمل فأرة مشقوقة أو مفتوحة أو جلس أو نام على فراش أو أرض مطيبة أو شد في طرف ثوبه طيبا أو جعله في جيبه أو لبست المرأة الحلي المحشو به حرم ووجبت الفدية لأن ذلك تطييب ولو وطىء بنعله طيبا حرم إن تعلق به منه شيء
والتطيب بالورد أن يشمه مع اتصاله بأنفه كما صرح به ابن كج والتطيب بمائه أن يمسه كالعادة بأن يصبه على بدنه أو ملبوسه فلا يكفي شمه
ولو حمل مسكا ونحوه في خرقة مشدودة أو فأرة غير مشقوقة لم يضر وإن شم الريح لوجود الحائر
ولو استهلك الطيب في المخالط له بأن لم يبق له ريح ولا طعم ولا لون كأن استعمل في دواء جاز استعماله وأكله ولا فدية وإن بقي الريح فيما استهلك ظاهرا أو خفيا يظهر برش الماء عليه فدى لأن الغرض الأعظم من الطيب الريح وكذا لو بقي الطعم لدلالته على بقاء الطيب لا إن بقي اللون فقط لأن الغرض منه الزينة
وما يقصد به الأكل أو التداوي وإن كان له ريح طيبة كالتفاح والأترج بضم الهمزة والراء وتشديد الجيم على الأفصح ويقال الأترنج والقرنفل والدارصيني والسنبل وسائر الأبازير الطيبة كالمصطكى لم يحرم ولم تجب فيه فدية لأنه إنما يقصد منه الأكل أو التداوي وكذا ما ينبت بنفسه كالشيح والإذخر والخزامى لأنه لا يعد طيبا
ولا فدية بالعصفر والحناء وإن كان لهما رائحة طيبة لأنه إنما يقصد منه لونه
ولو مس طيبا يابسا كمسك وكافور فلزق به ريحه لا عينه أو حمل للعود أو أكله لم يحرم
ويعتبر مع ما ذكر العقل إلا السكران والاختيار والعلم بالتحريم والإحرام وبأن الملموس طيب يعلق فلا فدية على المطيب الناسي للإحرام ولا المكره ولا الجاهل بالتحريم أو بكون الملموس طيبا أو رطبا لعذره بخلاف الجاهل بوجوب الفدية فقط دون التحريم فعليه الفدية لأنه إذا علم التحريم كان من حقه الامتناع فإن علم التحريم بعد لبسه جاهلا به وأخر إزالته مع إمكانها فدى وأثم ولو طيبه غيره بغير إذنه أو ألقت الريح عليه طيبا فلا فدية عليه بل على من طيبه لكن تلزمه المبادرة إلى الإزالة عند زوال عذره
( ودهن شعر الرأس ) له ( أو اللحية ) ولو من امرأة كما قاله القاضي بدهن ولو غير مطيب كزيت وشمع مذاب لما فيه من التزيين المنافي لحال المحرم فإنه أشعث أغبر كما ورد في الخبر
وعبارة ابن المقري فيحرم أي الدهن في شعر الرأس واللحية
فيؤخذ منه أنه لا فرق في الشعر بين الكثير والقليل ولو واحدة وهو الظاهر من كلامهم
ولو كان شعر الرأس أو اللحية محلوقا لما فيه من تزيين الشعر وتنميته بخلاف رأس الأقرع والأصلع وذقن الأمرد لانتفاء المعنى
فإن قيل يشكل هذا بحرمة الطيب على الأخشم كما مر
أجيب بأن المعنى هنا منتف بالكلية بخلافه ثم فإن المعنى فيه الترفه بالطيب وهو حاصل بالتطيب
____________________
(1/520)
وإن كان المطيب أخشم
وله دهن بدنه ظاهرا وباطنا وسائر شعره بذلك وأكله وجعله في شيء ولو برأسه
وألحق المحب الطبري بشعر اللحية شعر الوجه كحاجب وشارب وعنفقة وقال في المهمات إنه القياس وقال الولي العراقي التحريم ظاهر فيما اتصل باللحية كالشارب والعنفقة والعذار وأما الحاجب والهدب وما على الجبهة أي والخد ففيه بعد اه
وهذا هو الظاهر لأن ذلك لا يتزين به
ولا يحرم على المحرم دهن الحلال كنظيره الآتي في الحلق
تنبيه لا يحسن إدراج هذا في قسم الطيب فإنه لا فرق فيه بين الطيب وغيره كما مر وقد جعلاه في الروضة وأصلها قسما مستقلا لكن المحرر أدخله في نوع الطيب لتقاربهما في المعنى لأنهما ترفه وليس فيهما إزالة عين
وقوله دهن هو بفتح الدال لأنه مصدر بمعنى التدهين
وتعبيره ب أو يفيد التنصيص على تحريم كل واحد على انفراده
( ولا يكره غسل بدنه ورأسه بخطمي ) ونحوه كسدر من غير نتف شعر لأن ذلك لإزالة الوسخ لا للتزين والتنمية لكن الأولى تركه وترك الاكتحال الذي لا طيب فيه وقيل يكرهان وتوسط قوم في الاكتحال فقالوا إن لم يكن فيه زينة كالتوتيا لم يكن وإن كان زينة كإثمد كره إلا لحاجة رمد ونحوه وصحح هذا في المجموع ونقله عن الجمهور وقال في شرح مسلم إنه مذهب الشافعي
والكراهة في المرأة أشد
وللمحرم الاحتجام والفصد ما لم يقطع بهما شعرا وله خضب لحيته وغيرها من الشعور بالحناء ونحوه لأنه لا ينمي الشعر وليس طيبا وله إنشاد الشعر المباح والنظر في المرآة كالحلال فيهما
( الثالث ) من المحرمات
( إزالة الشعر ) من الرأس أو غيره بحلق أو غيره ( أو الظفر ) من اليد أو الرجل
أما الشعر فلقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي شعرها وشعر سائر الجسد ملحق به بجامع الترفه
وأما الظفر فقياسا على الشعر لما فيه من الترفه والمراد من ذلك الجنس الصادق ببعض شعرة أو ظفر
( وتكمل الفدية في ) إزالة ( ثلاث شعرات ) بفتح العين جمع شعرة بسكونها ولاء
( أو ) إزالة ( ثلاثة أظفار ) كذلك بأن اتحد المكان والزمان
والشعر يصدق بالثلاث وقيس بها الأظفار ولا يعتبر جميعه بالإجماع ولا فرق في ذلك بين الناسي للإحرام والجاهل بالحرمة لعموم الآية وكسائر الإتلافات وهذا بخلاف الناسي والجاهل في التمتع باللبس والطيب والدهن والجماع ومقدماته لاعتبار العلم والقصد فيه وهو منتف فيها
نعم لو أزالها مجنون أو مغمى عليه أو صبي غير مميز على الصحيح في المجموع لم تلزمه الفدية
والفرق بين هؤلاء وبين الجاهل والناسي أنهما يعقلان فعلهما فينسبان إلى تقصير بخلاف هؤلاء
على أن الجاري على قاعدة الإتلاف وجوبها عليهم أيضا ومثلهم في ذلك النائم
ولو أزيل ذلك بقطع جلد أو عضو لم يجب فيه شيء لأن ما أزيل تابع غير مقصود بالإزالة وشبهوه بالزوجة تقتل فلا يجب مهرها على القاتل
ولو أرضعتها زوجته الأخرى لزمها نصف المهر لأن البضع في تلك تلفه تبعا بخلافه في هذه
أما إذا لم يوال بأن أزالها في ثلاث أماكن أو في مكان واحد ولم يتحد الزمان فيجب عليه في كل واحدة منها ما يجب عليه لو انفردت وهو مد كما سيأتي
وحكم ما فوق الثلاث حكمها كما فهم بالأولى حتى لو حلق شعر رأسه وشعر بدنه ولاء أو أزال أظفار يديه ورجليه كذلك لزمه فدية واحدة لأنه يعد فعلا واحدا
( والأظهر أن في ) إزالة ( الشعرة ) الواحدة أو الظفر الواحد أو بعض شيء من أحدهما ( مد طعام وفي الشعرتين ) أو الظفرين ( مدين ) لأن تبعيض الدم فيه عسر والشارع قد عدل الحيوان بالإطعام في جزاء الصيد وغيره
والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة والمد أقل ما وجب في الكفارات فقوبلت الشعرة به
والثاني في الشعرة درهم وفي الثنتين درهمان لأن الشاة كانت تقوم في عصره صلى الله عليه وسلم بثلاثة دراهم فاعتبرت تلك القيمة عند الحاجة إلى التوزيع
والثالث في الشعرة ثلث دم وفي الثنتين ثلثا دم عملا بالتقسيط
ومحل الخلاف المذكور إذا اختار الدم فإن اختار الصيام ففي الواحدة منهما صوم يوم وفي الاثنتين صوم يومين أو الطعام ففي واحدة صاع وفي اثنتين صاعان نقل ذلك الإسنوي عن العمراني وغيره وقال إنه متعين لا محيد عنه
قال بعضهم وكلام العمراني إن ظهر على قولنا الواجب ثلث دم لا يظهر على قولنا الواجب مد إذ يرجع حاصله إلى أنه مخير بين المد والصاع والشخص لا يتخير بين الشيء وبعضه
وجوابه المنع فإن المسافر مخير بين
____________________
(1/521)
القصر والإتمام وهو تخيير بين الشيء وبعضه
ولو انسل منه شعرة وشك هل سله المشط بعد انتتافه أو نتفه فلا فدية لأن النتف لم يتحقق والأصل براءة الذمة
ويكره كما في المجموع أن يمتشط وأن يفلي رأسه ولحيته وأن يحك شعره لا جسده بأظفاره لا بأنامله
( وللمعذور ) في الحلق لإيذاء قمل أو وسخ أو حر أو جراحة أو نحو ذلك ( أن يحلق ويفدي ) لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا } الآية
وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة قال في أنزلت هذه الآية أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادن فدنوت فقال أيؤذيك هوام رأسك قال ابن عوف وأظنه قال نعم قال فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك
تنبيه قال الإسنوي وكذا تلزمه الفدية في كل محرم أبيح للحاجة إلا لبس السراويل والخفين المقطوعين كما مر لأن ستر العورة وقاية الرجل عن النجاسة مأمور بهما فخفف فيهما
والحصر فيما قاله قال شيخنا ممنوع أو مؤول فقد استثني صور لا فدية فيها منها ما إذا أزال ما نبت من الشعر في عينه وتأذى به ومنها ما إذا أزال قدر ما يغطيها من شعر رأسه وحاجبيه إذا طال بحيث ستر بصره ومنها ما لو انكسر ظفره فقطع المؤذي منه فقط
ويأثم الحالق بلا عذر لارتكابه محرما
ولو حلق شخص رأس محرم وهو قادر على منعه أو أحرقت نار شعره وهو قادر على دفعها لزمته الفدية لتفريطه فيما عليه حفظه
ولو أذن له في الحلق كان الحكم كذلك لإضافة الفعل إليه
فإن قيل المباشرة مقدمة على الأمر فلم قدم عليها أجيب بأن محل ذلك ما إذا لم يعد نفعه على الآمر بخلاف ما إذا عاد كما لو غصب شاة فأمر قصابا بذبحها لم يضمنها إلا الغاصب
فإن حلق بلا إذن منه وليس قادرا على منعه أو كان نائما أو نحو ذلك كانت الفدية على الحالق ولو حلالا لأنه المقصر وللمحلوق مطالبته بها لأنها وجبت بسببه ولأن نسكه يتم بأدائها فكان له المطالبة بها
ولو أخرجها المحلوق بغير إذن من الحالق لم تسقط عنه بخلاف قضاء الدين لأن الفدية شبيهة بالكفارة فإن أذن له في إخراجها سقطت
ويجوز للمحرم حلق شعر الحلال ولو أمر شخص آخر أن يحلق شعر محرم نائم أو نحوه فحلق فالفدية على الآمر إن جهل الحالق الحال أو كان أعجميا يعتقد طاعة آمره أو أكره على ذلك وإلا فعلى الحالق
( الرابع ) من المحرمات ( الجماع ) بالإجماع ولو لبهيمة في قبل أو دبر
ويحرم على المرأة الحلال تمكين زوجها المحرم من الجماع لأنه إعانة على معصية
ويحرم على الحلال جماع زوجته المحرمة
وقد يفهم كلامه إن غير الجماع لا يحرم وليس مرادا بل تحرم المباشرة فيما دون الفرج بشهوة قبل التحللين وعليه دم وكذا الاستمناء باليد ويجب عليه الدم إن أنزل
لكن يسقط عنه الدم في الصورتين إن جامع بعد ذلك لدخوله في بدنة الجماع
( وتفسد به العمرة ) المفردة قبل الفراغ منها أما غير المفردة فهي تابعة للحج صحة وفسادا
( وكذا ) يفسد ( الحج ) بالجماع المذكور ( قبل التحلل الأول ) قبل الوقوف بإجماع وبعده خلافا
لأبي حنيفة لأنه وطء صادف إحراما صحيحا لم يحصل فيه التحلل الأول فأشبه ما قبل الوقوف ولو كان المجامع في العمرة أو الحج رقيقا أو صبيا مميزا للنهي عنه في الحج لقوله تعالى { فلا رفث } أي لا ترفثوا فلفظه خبر ومعناه النهي إذ لو بقي على الخبر امتنع وقوعه في الحج لأن أخبار الله تعالى صدق قطعا مع أن ذلك وقع كثيرا والأصل في النهي اقتضاء الفساد وقاسوا العمرة على الحج
أما غير المميز من صبي أو مجنون فلا يفسد ذلك بجماعه وكذا الناسي والجاهل والمكره
تنبيه قوله قبل التحلل الأول قيد في الحج خاصة كما تقرر لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد كما مر
واحترز به عما إذا وقع الجماع بعده فإن الحج لا يفسد به وكذا العمرة التابعة له كما تقدم وقيل تفسد وكلام المصنف يفهمه
ولو أحرم مجامعا لم ينعقد إحرامه على الأصح في زوائد الروضة ولو أحرم حال النزع صح في أحد أوجه يظهر ترجيحه لأن النزع ليس بجماع
( ويجب به ) أي الجماع المفسد لحج أو عمرة على الرجل ( بدنة ) بصفة الأضحية لقضاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بذلك
وخرج بالجماع المفسد مسألتان إحداهما أن يجامع في الحج بين التحللين الثانية أن يجامع
____________________
(1/522)
ثانيا بعد جماعه الأول قبل التحللين ففي الصورتين إنما يلزمه شاة
وبالرجل المرأة وإن شملتها عبارته فإنها على الخلاف المار في الصوم فلا فدية عليها على الصحيح سواء أكان الواطىء زوجا أم غيره محرما أم حلالا وإن كانت عبارة المجموع تدل على أنها إذا كانت محرمة دونه أن عليها الفدية
ولنا هنا طريقة قاطعة باللزوم بخلاف الصوم
وقيل إن كان الواطىء لا يتحمل عنها فعليها الفدية
واعلم أن البدنة حيث أطلقت في كتب الحديث والفقه المراد بها البعير ذكرا كان أو أنثى وشرطها أن تكون في سن الأضحية كما مر ولا تطلق هذه على غير هذا
وأما أهل اللغة فقال كثير منهم أو أكثرهم إنها تطلق على البعير والبقرة وحكى المصنف في التهذيب والتحرير عن الأزهري أنها تطلق على الشاة ووهم في ذلك
فإن لم يجد البدنة فبقرة فإن لم يجدها فسبع شياه فإن لم يجدها قوم البدنة واشترى بقيمتها طعاما وتصدق به فإن عجز صام عن كل مد يوما
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان مراتب الدماء
( و ) يجب المضي ( في فاسده ) أي المذكور من حجة أو عمرة لإطلاق قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } فإنه لم يفصل بين الصحيح والفاسد وروي ذلك عن إفتاء جمع من الصحابة ولا يعرف لهم مخالف
والمراد بالمضي فيه أن يأتي بما كان يأتي به قبل الجماع ويتجنب ما كان يتجنبه قبله فإن ارتكب محظورا لزمته الفدية في الأصح وهذا بخلاف سائر العبادات لا يلزمه المضي في فاسدها للخروج منها بالفساد إذ لا حرمة لها بعده
نعم يجب إمساك بقية النهار في صوم رمضان كما مر وإن خرج منه لحرمة زمنه
( و ) يجب ( القضاء ) اتفاقا ( وإن كان نسكه تطوعا ) لأنه يلزم بالشروع فيه فصار فرضا بخلاف باقي العبادات
وإذا جامع صبي أو عبد فسد نسكه ويجزئه القضاء حال الصبا والرق
ويلزم المفسد في القضاء الإحرام مما أحرم به في الأداء من ميقات أو قبله من دويرة أهله أو غيرها فإن كان جاوز الميقات ولو غير مريد نسكا لزمه في القضاء الإحرام منه إلا إن سلك فيه غير طريق الأداء فإنه يحرم من قدر مسافة الإحرام في الأداء إن لم يكن جاوز فيه الميقات غير محرم وإلا أحرم من قدر مسافة الميقات
وعلم من ذلك أنه لو أفرد الحج ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل ثم أفسدها كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل وأنه لا يتعين عليه سلوك طريق الأداء لكن يشترط أن يحرم من قدر مسافته
ولا يلزمه في القضاء أن يحرم في الزمن الذي أحرم فيه بل له التأخير عنه والتقديم عليه في الوقت الذي يجوز الإحرام فيه وفارق المكان فإنه ينضبط بخلاف الزمان
ولو أفسد القضاء الثاني بالجماع فعليه بدنة وقضاء واحد لأن المقضي واحد فلا يلزمه أكثر منه
( والأصح أنه ) أي قضاء الفاسد ( على الفور ) لأنه وإن كان وقته موسعا يضيق بالشروع فيه
واستشكل تسمية ذلك قضاء بأن من أفسد الصلاة ثم أعادها في الوقت كانت أداء لا قضاء لوقوعها في وقتها الأصلي خلافا للقاضي
وأجاب السبكي بأنهم أطلقوا القضاء هنا على معناه اللغوي وبأنه يتضيق بالإحرام وإن لم يتضيق وقت الصلاة لأن آخر وقتها لم يتغير بالشروع فيها فلم يكن يفعلها بعد الإفساد موقعا لها في غير وقتها والنسك بالشروع فيه تضيق وقته ابتداء وانتهاء فإنه ينتهي بوقت الفوات ففعله في السنة الثانية خارج وقته فصح وصفه بالقضاء
وأيد ولده في التوشيح الأول بقول ابن يونس إنه أداء لا قضاء وتصور قضاء العمرة على الفور واضح
وأما الحج فيتصور عام الإفساد بأن يتحلل بعد للإحصار ثم يطلق من الحصر أو بان يرتد بعد أو يتحلل كذلك لمرض شرط التحلل به ثم يشفي والوقت باق فيشتغل بالقضاء
ولو خرجت المرأة لقضاء نسكها لزم الزوج زيادة نفقة السفر من زاد وراحلة ذهابا وإيابا لأنها غرامة تتعلق بالجماع فلزمته كالكفارة ولو غضبت لزمه الإنابة عنها من ماله ومؤنة الموطوءة بزنا أو شبهة عليها
وأما نفقة الحصر فلا تلزم الزوج إلا أن يكون معها ويسن افتراقهما من حين الإحرام إلى أن يفرغ التحللان وافتراقهما في مكان الجماع آكد للاختلاف في وجوبه
فروع لو أفسد مفرد نسكه فتمتع في القضاء أو قرن جاز وكذا عكسه
ولو أفسد القارن نسكه لزمه بدنة واحدة لانضمام العمرة في الحج ولزمه دم للقران الذي أفسده لأنه لزم بالشروع فلا يسقط بالإفساد ولزمه دم آخر للقران الذي التزمه بالإفساد في القضاء ولو أفرده لأنه متبرع بالإفراد
ولو فات القارن الحج لفوات الوقوف فاتت العمرة تبعا له ولزمه دمان
____________________
(1/523)
دم للفوات ودم لأجل القران وفي القضاء دم ثالث
ولو ارتد في أثناء نسكه فسد إحرامه فيفسد نسكه كصومه وصلاته فلا كفارة عليه ولا يمضي فيه وإن أسلم لعدم ورود شيء فيهما بخلاف الجماع فإنه وإن أفسد به نسكه لم يفسد به إحرامه حتى يلزمه المضي في فاسده كما مر
( الخامس ) من المحرمات ( اصطياد كل ) صيد ( مأكول بري ) وحشي كبقر وحش ودجاجة وحمامة
( قلت وكذا المتولد منه ) أي المأكول البري الوحشي ( ومن غيره ) كمتولد بين حمار وحشي وحمار أهلي أو بين شاة وظبي ( والله أعلم )
أما الأول فلقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر } أي أخذه { ما دمتم حرما }
وأما الثاني فللاحتياط
وإنما لم تجب الزكاة في المتولد بين زكوي وغيره لأنها من باب المواساة
وخرج بما ذكر ما تولد بين وحشي غير مأكول وإنسي مأكول كالمتولد بين ذئب وشاة وما تولد بين غير مأكولين أحدهما وحشي كالمتولد بين حمار وذئب وما تولد بين أهليين أحدهما غير مأكول كالبغل فلا يحرم التعرض لشيء منها
( و ) حينئذ ( يحرم ذلك ) أي اصطياد المأكول البري والمتولد منه ومن غيره ( في الحرم على الحلال ) بالإجماع كما قاله في المجموع ولو كان كافرا ملتزم الأحكام ولخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة قال إن هذا البلد حرام بحرمة الله لا يعضد شجره ولا ينفر صيده رواه الشيخان أي لا يجوز تنفير صيده لمحرم ولا حلال فغير التنفير أولى
وقيس بمكة باقي الحرم
( فإن أتلف ) من حرم عليه ما ذكر ( صيدا ) مما ذكر مملوكا أو غير مملوك ( ضمنه ) بما يأتي لقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا } الآية
وقيس بالمحرم الحلال في الحرم الآتي ذكره بجامع حرمة التعرض فيضمن سائر أجزائه كشعر وريش بالقيمة وكذا لبنه ويضمن أيضا ما تلف في يده ولو وديعة كالغاصب لحرمة إمساكه بخلاف ما لو أدخل الحلال معه إلى الحرم صيدا مملوكا له لا يضمنه بل له إمساكه فيه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء لأنه صيد حل
ولو دل المحرم آخر على صيد ليس في يده فقتله لم يضمنه لأنه لم يلتزم حفظه أو في يده والقاتل حلال ضمن المحرم لأنه ترك حفظه وهو واجب عليه فصار كالمودع إذا دل سارقا على الوديعة
ولو رمى صيدا قبل إحرامه فأصابه بعده أو عكس ضمن تغليبا لحالتي الإحرام فيهما وفارق ذلك ما لو رمى إلى مسلم فارتد ثم أصابه فقتل بأنه مقصر بما أحدثه من إهداره
ولو نصب نحو شبكة وهو محرم أو في الحرم ضمن ما وقع فيها وتلف سواء أنصبها في مكة أم في غيره ووقع الصيد قبل التحلل أم بعده أم بعد موته
ولو نصبها للخوف عليها من مطر ونحوه لم يضمن كما يدل عليه كلام الرافعي
ولو نصبها في غير الحرم وهو حلال ثم أحرم لم يضمن
ولو أرسل المحرم كلبا أو حل رباطه والصيد حاضر أو غائب ثم ظهر فقتله ضمن كحلال فعل ذلك في الحرم وكذا لو انحل بتقصيره
ولو رمى صيدا فنفذ منه إلى صيد آخر فقتلهما ضمنهما لأنه لا فرق في الضمان بين العامد والخاطىء والجاهل بالتحريم والناسي للإحرام والتعمد في الآية خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له لكن يستثنى من الضمان مسائل منها ما لو باض حمام أو غيره في فراشه أو نحوه وفرخ ولم يمكن دفعه إلا بالتعرض له ففسد بذلك
ومنها ما لو انقلب عليه في نومه فأفسده أو جن فقتل صيدا
فإن قيل هذا إتلاف والمجنون فيه كالعاقل
أجيب بأنه وإن كان إتلافا فهو حق لله تعالى ففرق فيه بين من هو من أهل التمييز وغيره وتقدم مثل ذلك في حلق الشعر ويأتي أيضا ما تقدم هناك
ومنها ما لو أخذ الصيد تخليصا من سبع أو مداويا له أو ليتعهده فمات في يده
ومنها ما لو صال عليه فقتله دفعا فلا ضمان في الجميع ولو اضطر المحرم وأكل الصيد بعد ذبحه ضمن وكذا لو أكره المحرم على قتله ضمنه ويرجع بما غرمه على المكره له
تنبيه قول المصنف في الحرم حال من ذا المشار به إلى الاصطياد وهو متعلق بالصائد والمصيد صادق بما إذا كان في الحرم أو أحدهما فيه
والآخر في الحل كأن رمى من الحرم صيدا في الحل أو عكسه أو أرسل كلبا في الصورتين فيضمن في جميع ذلك أو رمى صيدا من الحل إلى الحل فاعترض السهم الحرم ضمن
وفي مثله إرسال الكلب إنما يضمن
____________________
(1/524)
إذا لم يكن للصيد مهرب إلا بالدخول في الحرم
ولو أرسل الكلب في الحل إلى الصيد في الحل فدخل الحرم فقتله فيه أو قتل فيه صيدا غيره لم يضمن بخلاف نظيرهما في السهم
ولو رمى صيدا بعض قوائمه في الحرم فقتله ضمن
ولو سعى الصيد من الحرم إلى الحل فقتله الحلال أو سعى من الحل إلى الحل ولكن سلك في أثناء سعيه الحرم فإنه لا ضمان قطعا قاله في المجموع
ولو ذبح المحرم الصيد أو الحلال صيد الحرم صار ميتة وحرم عليه أكله بالإجماع كما في المجموع ولأنه إذا حرم ما أعان عليه فما ذبحه أولى
وهل يتأبد عليه التحريم أم مدة إحرامه قولان أظهرهما الأول وعليه الجزاء لله تعالى وضمنه لمالكه ويحرم أكله على غيره حلالا كان أو محرما لأنه ممنوع من الذبح لمعنى فيه كالمجوسي
ولو كسر المحرم أو الحلال في الحرم بيض صيد أو قتل جرادا كذلك ضمنه ولم يحرم على غيره كما صححه في المجموع في موضع وجزم به ابن المقري في روضه ويحرم عليه ذلك تغليظا عليه
ولو حلب لبن صيد ضمنه بقيمته خلافا للروياني
ولا يملك المحرم الصيد بالبيع والهبة وقبول الوصية ونحو ذلك بناء على أن ملكه يزول عنه بالإحرام لأن من يمنع من إدامة الملك فأولى أن يمنع من ابتدائه ولأنه صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش فرده فلما رأى ما في وجه المهدي فقال إنا لم نرده عليك إلا إنا حرم فليس له قبضه فإن قبضه بشراء أو عارية أو وديعة لا هبة وأرسله ضمن قيمته للمالك وسقط الجزاء بخلافه في الهبة لا ضمان لأن العقد الفاسد كالصحيح في الضمان والهبة غير مضمونة وإن رده لمالكه سقطت القيمة لا الجزاء ما لم يرسل ويملكه بالإرث ولا يزول ملكه عنه إلا بإرساله كما صرح بتصحيحه في المجموع لدخوله في ملكه قهرا
ويجب إرساله كما لو أحرم وهو في ملكه فلو باعه صح وضمن الجزاء ما لم يرسل حتى لو مات في يد المشتري لزم البائع الجزاء
وإن كان في ملكه صيد فأحرم زال ملكه عنه ولزمه إرساله لأنه لا يراد الدوام فتحرم استدامته كاللباس بخلاف النكاح فلو لم يرسله حتى تحلل لزمه إرساله إذ لا يرتفع اللزوم بالتعدي بخلاف من أمسك خمرا غير محترمة حتى تخللت لا يلزمه إراقتها وفرق بأن الخمرة انتقلت من حال إلى حال
فإن قيل هلا كان تحلله كإسلام الكافر بعد أن ملك عبدا مسلما حيث لا يؤمر بإزالة ملكه عنه أجيب بأن الإحرام أضيق من ذلك بدليل أنه يمتنع على المحرم استعارة الصيد واستيداعه واستئجاره بخلاف الكافر في العبد المسلم
وإذا زال ملكه عنه لا غرم إذا قتل أو أرسله
ومن أخذه ولو قبل إرساله وليس محرما ملكه لأنه بعد لزوم الإرسال صار مباحا
ولو مات في يده ضمنه ولو لم يتمكن من إرساله إذا كان يمكنه إرساله قبل الإحرام كنظيره في إلزام الصلاة لمن جن بعد مضي ما يسعها من وقتها دون الوضوء لأنه كان متمكنا من فعله قبل دخول الوقت
ولا يجب إرساله قبل الإحرام بلا خلاف ولو أحرم أحد مالكيه تعذر إرساله فيلزمه رفع يده عنه ذكره في المجموع
قال الزركشي ولو كان في ملك الصبي صيد فهل يلزم الولي إرساله ويغرم قيمته كما يغرم قيمة النفقة الزائدة بالسفر فيه احتمال اه
وينبغي اللزوم ولو حفر المحرم بئرا حيث كان أو حفرها حلال في الحرم فأهلك صيدا نظرت فإن حفرها عدوانا ضمن وإلا فالحافر في الحرم فقط عليه الضمان لأن حرمة الحرم لا تختلف
ولو استعار حلال صيدا وأتلفه محرما ضمنه بقيمته لمالكه وبمثله لحق الله تعالى وقد نظم بعضهم هذه المسألة في بيتين فقال عندي سؤال حسن مستظرف فرع على أصلين قد تفرعا قابض شيء برضا مالكه ويضمن القيمة والمثل معا ولو دخل كافر الحرم وأتلف صيدا ضمنه وقيل لا لأنه لم يلتزم حرمته
وعلى الأول يكون كالمسلم في كيفية الضمان إلا في الصوم
واعلم أن الصيد ضربان ما له مثل من النعم في الصورة والخلقة تقريبا فيضمن به وما لا مثل له فيضمن بالقيمة إن لم يكن فيه نقل
ومن الأول ما فيه نقل بعضه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضه عن السلف فيتبع
وقد شرع المصنف في بيان ذلك فقال ( ففي ) إتلاف ( النعامة ) بفتح النون ذكرا كان أو أنثى ( بدنة ) كذلك فلا تجزىء بقرة ولا سبع شياه أو أكثر لأن جزاء الصيد يراعى فيه المماثلة
( وفي ) واحد من ( بقر الوحش و ) في واحد من
____________________
(1/525)
( حماره ) أي الوحش ( بقرة ) أي واحد من البقر ( و ) في ( الغزال ) وهو ولد الظبية إلى أن يطلع قرناه معز صغير
ففي الذكر جدي أو جفرة والأنثى عناق أو جفرة على حسب جسم الصيد
فإن طلع قرناه سمي الذكر ظبيا والأنثى ظبية
وفيها ( عنز ) وهي أنثى المعز التي تم لها سنة
( و ) في ( الأرنب عناق ) وهي أنثى المعز إذا قويت ما لم تبلغ سنة ذكره المصنف في تحريره وغيره في أصل الروضة وغيره أنها أنثى المعز من حين تولد حتى ترعى ويمكن حمله على الأول
( و ) في ( اليربوع ) أو الوبر بإسكان الموحدة ( جفرة ) وهي كما في أصل الروضة أنثى المعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها
والذكر جفر سمي به لأنه جفر جنباه أي عظما هذا معناهما لغة
قال الشيخان لكن يجب أن يكون المراد بالجفرة هنا ما دون العناق إذ الأرنب خير من اليربوع
وفي الضبع كبش وفي الثعلب شاة وفي الضب أو أم حبين بضم المهملة وفتح الموحدة وهي دابة على خلقة الحرباء عظيمة البدن جدي
( وما لا نقل فيه ) من الصيد عمن سيأتي ( يحكم بمثله ) من النعم ( عدلان ) لقوله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } الآية
والعبرة في المماثلة بالخلقة والصورة تقريبا لا تحقيقا فأين النعامة من البدنة لا بالقيمة فيلزم في الكبير كبير وفي الصغير صغير وفي الذكر ذكر وفي الأنثى أنثى وفي الصحيح صحيح وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب ولو اختلف محله كأن كان عور أحدهما في اليمين والآخر في اليسار فإن اختلف كالعور والجرب فلا وفي السمين سمين وفي الهزيل هزيل كما في المجموع ولو فدى المريض بالصحيح أو المعيب بالسليم أو الهزيل بالسمين فهو أفضل ويجزىء فداء الذكر بالأنثى وعكسه لكن الذكر أفضل ويجب في الحامل حامل ولا تذبح بل تقوم فإن ألقت جنينا ميتا وماتت فكقتل الحامل وإن عاشت ضمن نقصها أو حيا وماتا ضمنهما أو مات دونها ضمنه ونقصها وهو ما بين قيمتها حاملا وحائلا
ويجب أن يكون العدلان فقيهين فطنين لأنهما حينئذ أعرف بالشبه المعتبر شرعا
وعلل الماوردي وغيره وجوب اعتبار الفقه بأن ذلك حكم فلم يجز إلا بقول من يجوز حكمه ومنه يؤخذ كما قال شيخنا أنه لا يكفي الخنثى والمرأة والعبد
وما ذكر من وجوب الفقه محمول على الفقه الخاص بما يحكم به هنا وما في المجموع عن الشافعي والأصحاب من أن الفقه مستحب محمول على زيادته
ويحمل العدلان بالمثل فيما قتلاه بلا عدوان كخطأ أو اضطرار إليه لأن عمر رضي الله تعالى عنه أمر رجلا قتل ظبيا بالحكم فيه فحكم فيه بجدي فوافقه هو وغيره ولأنه حق لله تعالى فكان من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة أما مع العدوان والعلم بالتحريم فلا يحكمان لفسقهما
فإن قيل الظاهر أن ذلك ليس كبيرة فكيف تسقط العدالة بارتكابه مرة أجيب بمنع ذلك بل الظاهر أنه كبيرة لأنه إتلاف حيوان محترم بلا ضرور ولا فائدة
ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل أو بأنه لا مثل له تخير من لزمه المثل في الأولى كما في اختلاف المفتيين
وقدم مثبتي المثل في الثانية لأن معهما زيادة علم بمعرفة دقيق الشبه
واحترز المصنف بقوله وما لا نقل فيه عن حيوان فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابيين أو عن عدلين من التابعين فمن بعدهم
قال في الكفاية أو عن صحابي مع سكوت الباقين فيتبع ما حكموا به
وفي معناه قول كل مجتهد غير صحابي مع سكوت الباقين
( و ) يجب ( فيما لا مثل له ) مما لا نقل فيه كالجراد وبقية الطيور ما عدا الحمام لما سيأتي سواء أكان أكبر جثة من الحمام أم لا كالعصفور
( القيمة ) عملا بالأصل في المتقومات وقد حكمت الصحابة بها في الجراد ولأنه مضمون لا مثل له فضمن بالقيمة كمال الآدمي ويرجع في القيمة إلى عدلين كما صرح به الماوردي وغيره
والعبرة في هذه القيمة بموضع الإتلاف أو التلف لا بمكة على المذهب
أما ما لا مثل له مما فيه نقل وهو الحمام وهو ما عب أي شرب الماء بلا مص وهدر أي رجع صوته وغرد كاليمام والقمري والدلسي والفاختة ونحوها من كل مطوق ففي الواحدة منها شاة من ضأن أو معز بحكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم
فهذا مستثنى من إطلاق المصنف وفي مستندهم وجهان أصحهما توقيف بلغهم فيه والثاني ما بينهما من الشبه وهو إلف البيوت
وهذا إنما يأتي في بعض أنواع الحمام إذ لا يأتي في الفواخت ونحوها
وألحق الجرجاني الهدهد
____________________
(1/526)
بالحمام في التضمين بشاة
وهذا ضعيف لأن الهدهد الراجح فيه أنه غير مأكول
فروع لو أزال إحدى منعتي النعامة ونحوهما وهما قوة عدوها وطيرانها اعتبر النقص لأن امتناعهما في الحقيقة واحد فالزائل بعض الامتناع فيجب النقص لا الجزاء الكامل
ولو جرح ظبيا واندمل جرحه بلا إزمان فنقص عشر قيمته فعليه عشر شاة لا عشر قيمتها تحقيقا للماثلة فإنه بريء ولا نقص فيه فالأرش بالنسبة إليه كالحكومة بالنسبة إلى الآدمي فيقدر القاضي فيه شيئا باجتهاده مقدار الوجع الذي أصابه وعليه في غير المثلي أرشه
ولو أزمن صيد لزمه جزاؤه كاملا كما لو أزمن عبد ألزمه كل قيمته فإن قتله محرم آخر فعلى القاتل جزاؤه مزمنا أو قتله المزمن قبل الاندمال فعليه جزاء واحد أو بعده فعليه جزاؤه مزمنا
ولو جرح صيد فغاب فوجده ميتا وشك أمات بجرحه أم بحادث لم يجب عليه غير الأرش لأن الأصل براءة ذمته عما زاد
( ويحرم ) على محرم وحلال ( قطع ) أو قلع ( نبات الحرم ) الرطب ( الذي لا يستنبت ) بالبناء للمفعول أي ما من شأنه أن لا يستنبته الآدميون بأن ينبت بنفسه كالطرفاء شجرا كان أو غيره لقوله في الخبر المار ولا يعضد شجره أي لا يقطع ولا يختلى خلاه وهو بالقصر الحشيش الرطب أي لا ينتزع بقطع ولا بقلع
وقيس بما في الخبر غيره مما ذكر
وخرج بالرطب الحشيش اليابس فيجوز قطعه لا قلعه والشجر اليابس فيجوز قطعه وقلعه
والفرق بين الشجر والحشيش في القلع أن الحشيش ينبت بنزول الماء عليه
قال في المجموع وهذا لا يخالف قول الماوردي إن الحشيش إذا جف ومات يجوز قلعه لأن اليابس قد يفسد منبته ويموت أي فكلام الماوردي محمول على هذا والأول على خلافه وبالحرم نبات الحل إذا لم يكن بعض أصله في الحرم فيجوز قطعه وقلعه ولو بعد غرسه في الحرم بخلاف عكسه عملا بالأصل في الموضعين
ولو قلع شجرة رطبة من الحرم ثم ردها إلى موضعها أو موضع آخر فيه فنبتت فلا ضمان عليه
أما ما بعض أصله في الحرم فيحرم تغليبا للحرم وبما لا يستنبت ما يستنبت وسيأتي تخصيصه بغير الشجر كبر وشعير فلما لكه قطعه وقلعه
ولو قطع غصنا في الحرم أصله في الحل لم يضمنه ويضمن صيدا قتله فوقه وحكم عكسه عكس حكمه
قال الفوراني ولو غرس في الحل نواة شجرة حرمية ثبت لها حكم الأصل ولا ضمان بقطع الأغصان الحرمية المؤذية للناس في الطريق
ولو أخذ غصنا من شجرة حرمية فأخلف مثله في سنته بأن كان لطيفا كالسواك فلا ضمان فيه فإن لم يخلف أو أخلف لا مثله أو مثله لا في سنته فعليه الضمان فإن أخلف مثله بعد وجوب ضمانه لم يسقط الضمان كما لو قلع سن مثغور فنبت
ويجوز أخذ أوراق لأشجار بلا خلط لئلا يضربها وخبطها حرام كما في المجموع نقلا عن الأصحاب ونقل اتفاقهم على أنه لا يجوز أخذ ثمرها وعود السواك ونحوه وقضيته أنه لا يضمن الغصن اللطيف وإن لم يخلف قال الأذرعي وهو الأقرب ونقل ما يؤيده
قال شيخنا لكنه مخالف لما مر اه
والأولى أن يحمل ما هنا على ما هناك
( والأظهر تعلق الضمان به ) أي بقطع نبات الحرم الرطب وهو شامل للشجر كما مر فقوله ( وبقطع أشجاره ) تبع فيه المحرر ولا حاجة إليه فهو من ذكر الخاص بعد العام
( ففي ) أي يجب في قطع أو قلع ( الشجرة ) الحرمية ( الكبيرة ) بأن تسمى كبيرة عرفا ( بقرة ) كما رواه الشافعي عن ابن الزبير ومثله لا يقال إلا بتوقيف وسواء أخلفت الشجرة أم لا قال في الروضة كأصلها والبدنة في معنى البقرة
فإن قيل لم تسمحوا بها عن البقرة ولا عن الشاة في جزاء الصيد أجيب بأنهم راعوا المثلية في الصيد بخلافه هنا
( و ) في ( الصغيرة ) إن قاربت سبع الكبيرة ( شاة ) رواه الشافعي أيضا فإن صغرت أيضا ففيها القيمة
قال الزركشي وسكت الرافعي عما جاوز سبع الكبيرة ولم ينته إلى حد الكبر وينبغي أن تجب فيه شاة أعظم من الواجبة في سبع الكبيرة
تنبيه سكت المصنف عن الواجب في غير الشجر من النبات والواجب فيه القيمة لأنه القياس ولم يرد نص يدفعه
ولم يتعرض الشيخان لسن البقرة وفي الاستقصاء لا يشترط إجزاؤها في الأضحية بل يكفي فيها التبيع
وأما
____________________
(1/527)
الشاة فلا بد أن تكون في سن الأضحية
قال الإسنوي وكان الفرق أن الشاة لم يوجبها الشرع إلا في هذا السن بخلاف البقرة بدليل التبيع في الثلاثين منها
وكلام المصنف يقتضي وجوب البقرة أو الشاة بمجرد القطع ولا يتوقف على قلع الشجرة وكلام التنبيه يقتضي التوقف عليه ولم يصرحا في الشرحين والروضة بالمسألة نعم عبر الرافعي بالتامة ولعله احترز به عن قطع الغصن
( قلت والمستنبت ) بفتح الموحدة وهو ما استنبته الآدميون من الشجر ( كغيره ) في الحرمة والضمان ( على المذهب ) وهو القول الأظهر وقطع به بعضهم لعموم الحديث السابق
والثاني المنع تشبيها له بالزرع أي كالحنطة والشعير والبقول والخضروات فإنه يجوز قطعه ولا ضمان فيه بلا خلاف ذكره في المجموع
( ويحل ) من شجر الحرم ( الإذخر ) قطعا وقلعا لاستثنائه في الخبر السابق قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر ومعنى كونه لبيوتهم أنهم يسقفونها بضم القاف به فوق الخشب والقين الحداد
وهي بكسر الهمزة والذال المعجمة نبات معروف
وظاهر إطلاق المصنف أن آخذه يتصرف فيه بجميع التصرفات من بيع وغيره وبذلك أفتى شيخي
( وكذا الشوك ) يحل شجره ( كالعوسج ) جمع عوسجة نوع من الشوك ( وغيره ) من كل مؤذ يحل ( عند الجمهور ) كالصيد المؤذي فلا ضمان في قطعه وقيل يحرم ويجب الضمان بقلعه وصححه المصنف في شرح مسلم واختاره في تحرير التنبيه وتصحيحه
قال والفرق بينه وبين الصيود المؤذية أنها تقصد الأذى بخلاف الشجر
تنبيه قال الإسنوي ولأجل اختيار المصنف المنع عبر بقوله عند الجمهور ولم يعبر بالصحيح ونحوه على عادته لأنه لا يمكنه إطلاق تصحيح الجواز لاعتقاده خلافه ولا تصحيح المنع لكونه خلاف المشهور في المذهب اه
لكنه لم يحترز عن ذلك في الروضة بل قال على الصحيح الذي قطع به الجمهور وفي المجموع ونحوه
ويجوز رعي حشيش الحرم بل وشجره كما نص عليه في الأم للبهائم لأن الهدايا كانت تساق في عصره صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وما كانت تسد أفواهها في الحرم
ويحل أخذ حشيشه للبهائم ( والأصح حل أخذ نباته ) من حشيش ونحوه بالقطع ( لعلف البهائم ) بسكون اللام كما يجوز تسريحها فيه ( وللدواء ) بالمد كالحنظل وللتغذي كالرجلة والبقلة للحاجة إليه ( والله أعلم ) ولأن ذلك في معنى الزرع
ولا يقطع لذلك إلا بقدر الحاجة كما قاله ابن كج والثاني يمنع ذلك وقوفا مع ظاهر الخبر
وعلى الأول لا يجوز قطعه للبيع ممن يعلف به كما في المجموع لأنه كالطعام الذي أبيح أكله لا يجوز بيعه
ويؤخذ منه كما قال الزركشي وغيره أنا حيث جوزنا أخذ السواك لا يجوز بيعه وظاهر إطلاقهم جواز أخذه للدواء أنه لا يتوقف على وجود السبب حتى يجوز أخذه ليستعمله عند وجوده قال الإسنوي وهو المتجه اه
والمتجه المنع كما قاله الزركشي لأن ما جاز للضرورة أو للحاجة يقيد بوجودها كما في اقتناء الكلب
تنبيه اقتصار المصنف على النبات قد يفهم أن ذلك لا يتعدى لغيره وهو كذلك فيحرم نقل تراب الحرم وأحجاره وما عمل من طينه كالأباريق وغيرها إلى الحل فيجب رده إلى الحرم بخلاف ماء زمزم كما مر
ونقل تراب الحل إلى الحرم مكروه كما في الروضة أو خلاف الأولى كما في المجموع وهو الظاهر لعدم ثبوت نهي فيه
ويحرم أخذ طيب الكعبة فمن أراد التبرك مسحها بطيب نفسه ثم يأخذه وأما سترها فالأمر فيه إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء لئلا يتلف بالبلى وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وجوزوا لمن أخذه لبسه ولو جنبا وحائضا والحرم له حدود معروفة نظم بعضهم مسافتها بالأميال في بيتين فقال وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه وسبعة أميال عراق وطائف وجدة عشر ثم تسع جعرانه والسين في سبعة الأولى مقدمة بخلاف الثانية وزاد بعضهم بيتا ثالثا فقال
____________________
(1/528)
ومن يمن سبع بتقديم سينه وقد كملت فاشكر لربك إحسانه 2 وصيد ) حرم ( المدينة ) أو أخذ نباته كما في المجموع ( حرام ) لقوله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها رواه مسلم عن جابر
تنبيه لو زاد المصنف حرم كما قدرته في كلامه تبعا للمحرر والشرحين والروضة كان أولى لأن التحريم لا يختص بالمدينة
واللابتان الحرتان بفتح الحاء المهملة تثنية لابة وهي أرض تركبها حجارة سود لابة شرقي المدينة ولابة غربيها فحرمها ما بينهما عرضا وما بين جبليها طولا وهما عير وثور لخبر الصحيحين المدينة حرم من عير إلى ثور
واعترض بأن ذكر ثور هنا وهو بمكة غلط من الرواة وأن الرواية الصحيحة أحد
ورد بأن وراءه جبلا صغيرا يقال له ثور فأحد من الحرم
( ولا يضمن ) الصيد ولا النبات ( في الجديد ) لأنه ليس محلا للنسك بخلاف حرم مكة والقديم أنه يضمن بسلب الصائد والقاطع لشجره واختاره المصنف في المجموع وتصحيح التنبيه لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه مسلم في الشجر وأبو داود في الصيد
واختلف على هذا في السلب ما هو ولمن هو فقيل إنه كسلب القتيل الكافر وقيل ثيابه فقط وقيل وهو الأصح في المجموع إنه يترك للمسلوب ما يستر به عورته والأصح أن السلب للسالب وقيل لفقراء المدينة وقيل لبيت المال
ونقل تراب حرم المدينة وأحجاره وما عمل منه كالكيزان وإدخال ذلك من الحل إليه حكم حرم مكة فيما مر
ويحرم صيد وج الطائف ونباته ولا ضمان فيهما قطعا
والنقيع بالنون وقيل بالباء ليس بحرم ولكن حماه النبي صلى الله عليه وسلم لنعم الصدقة ونعم الجزية فلا يملك شيء من نباته ولا يحرم صيده ولا يضمن ويضمن ما أتلفه من نباته لأنه ممنوع منه فيضمنه بقيمته
قال الشيخان ومصرفها مصرف نعم الجزية والصدقة
وبحث المصنف أنها لبيت المال
ثم شرع في بيان أنواع الدماء وهي أربعة أقسام لأن الدم إما مخير أو مرتب وكل منهما إما معدل أو مقدر وسأجمعها لك في خاتمة هذا الباب إن شاء الله تعالى
وقد بدأ بالمخير المعدل فقال ( ويتخير في ) جزاء إتلاف ( الصيد المثلي بين ) ثلاثة أمور ( ذبح ) بذال معجمة ( مثله ) بثاء مثلثة ( والصدقة به ) بأن يفرق لحمه مع النية حتما ( على مساكين الحرم ) وعلى فقرائه كما فهم بالأولى أو يملكهم جملته مذبوحا
ولا يجوز إخراجه حيا ولا أكل شيء منه
( وبين أن يقوم المثل ) بالنقد الغالب ( دراهم ) أو غيرها ( ويشتري بها طعاما لهم ) ممن يجزىء في الفطرة أو يخرج مقدارها من طعامه إذ الشراء مثال ( أو يصوم ) في أي مكان شاء ( عن كل مد ) من الطعام ( يوما ) وذلك لقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } إلى قوله { صياما }
ويستثنى من إطلاق المثل ما إذا قتل صيدا مثليا حاملا فإنه لا يجوز ذبح مثله على الأصح كما مر بل يقوم المثل حاملا ويتصدق بقيمته طعاما
تنبيه قوله دراهم منصوب على نزع الخافض أي بدراهم
والتقويم لا يختص بها فلو عبر بالنقد الغالب كما قدرته كان أولى
وقوله لهم أي لأجلهم لا لأن الشراء يقع لهم
وقد يفهم كلامهم أنه لو بقي من الطعام أقل من مد لم يصم عنه شيئا لأن الصوم لا يتبعض وليس مرادا بل يكمل المنكسر ويصوم عنه يوما ولا يفعل مكان المنكسر كامل إلا هنا وفي القسامة وقد تقدم أن الكافر كالمسلم في صيد الحرم إلا في الصوم فيتخير بين شيئين فقط
( وغير المثلي ) مما لا نقل فيه من الصيد يتخير في جزاء إتلافه بين أمرين أحدهما يتصدق بقيمته أي بقدرها ( طعاما ) يتصدق به على مساكين الحرم وفقرائه فلا يتصدق بالدراهم وثانيهما ما ذكره بقوله ( أو يصوم ) عن كل مد يوما ويكمل المنكسر كما مر والعبرة في قيمة غير المثلي بمحل الإتلاف وزمانه قياسا على كل متلف متقوم وفي قيمة مثل المثلي
____________________
(1/529)
بمكة وقت إرادة تقويمه لأنها محل ذبحه لو أريد
والمعتبر في العدول إلى الطعام سعره بمكة كما جزم به الفوراني
( ويتخير في فدية الحلق ) لثلاث شعرات متوالية فأكثر وفي قلم أظفار كذلك وفي التطيب واللبس والأدهان ومقدمات الجماع بشهوة وشاة الجماع بعد الجماع الأول والجماع بين التحللين
( بين ) ثلاثة أمور ( ذبح شاة ) تجزىء في الأضحية ويقوم مقامها بدنة أو بقرة أو سبع من واحدة منهما
( و ) بين ( التصدق بثلاثة آصع ) بالمد جمع صاع وآصع أصله أصوع أبدل من واوه همزة مضمومة قدمت على الصاد ونقلت ضمتها وقلبت هي ألفا
( لستة مساكين ) لكل مسكين نصف صاع ( و ) بين ( صوم ثلاثة أيام ) وذلك لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } أي فحلق { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } 1 ولما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة أيؤذيك هوام رأسك قال نعم قال أنسك شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين والفرق بفتح الفاء والراء ثلاثة آصع وقيس بالحلق وبالمعذور غيرهما
فائدة سائر الكفارات لا يزاد المسكين فيها على مد إلا في هذه
( والأصح أن الدم في ترك المأمور ) الذي لا يفوت به الحج كالإحرام من الميقات أو مما يلزم الإحرام منه إذا أحرم من غيره والرمي والمبيت بمزدلفة أو بمنى ليالي التشريق وطواف الوداع ( دم ترتيب ) إلحاقا له بدم التمتع لما في التمتع من ترك الإحرام من الميقات وقيس به ترك باقي المأمورات
( فإذا عجز ) عن الدم ( اشترى بقيمة الشاة طعاما ) أو أخرجه من طعامه كما مر ( وتصدق به ) على مساكين الحرم وفقرائه
( فإن عجز صام عن كل مد ) من الطعام ( يوما ) وهذا ما صححه الغزالي كالإمام والأصح كما في الروضة أنه إذا عجز عن الدم يصوم كالمتمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع فهو مرتب مقدر وسيأتي تحرير ذلك في الخاتمة
( ودم الفوات ) للحج بفوات الوقوف ( كدم التمتع ) في صفته وسائر أحكامه السابقة لأن دم التمتع كترك الإحرام من الميقات والوقوف المتروك في الفوات أعظم منه
( ويذبحه في حجة القضاء ) وجوبا لا في سنة الفوات ( في الأصح ) وفي الروضة الأظهر لفتوى عمر رضي الله تعالى عنه بذلك رواه مالك وسيأتي بطوله في الباب الآتي إن شاء الله تعالى
والثاني يجوز ذبحه في سنة الفوات قياسا على دم الإفساد ووقت الوجوب على الأول منوط بالتحرم بالقضاء كما أن دم التمتع منوط بالتحرم بالحج وعليه إذا كفر بالصوم لا يقدم صوم الثلاثة على القضاء ويصوم السبعة إذا خرج منه
ولو أخرج دم الفوات بين التحلل والإحرام بالحج بعد دخول وقت الإحرام بالقضاء أجزأه كما هو قضية كلام أصل الروضة وكلام العراقيين نبه على ذلك الأذرعي
( والدم الواجب ) على محرم ( بفعل حرام ) وإن لم يكن حراما في ذلك الوقت كالحلق لعذر ( أو ترك واجب ) عليه غير ركن أو غيرهما كدم الجبرانات وكدم التمتع والقران والحلق ( لا يختص بزمان ) بل يفعل في يوم النحر وغيره لأن الأصل عدم التخصيص ولم يرد ما يخالفه ولكن يسن يوم النحر وأيام التشريق
( ويختص ذبحه ) بأي مكان ( بالحرم في الأظهر ) لقوله تعالى { هديا بالغ الكعبة } ولقوله صلى الله عليه وسلم نحرت ههنا ومنى كلها منحر رواه مسلم ولأن الذبح حق يتعلق بالهدي فيختص بالحرم كالتصدق والثاني يجوز أن يذبح خارج الحرم بشرط أن ينقل إليه ويفرق لحمه فيه قبل تغيره لأن المقصود هو اللحم فإذا وقعت تفرقته على مساكين الحرم حصل الغرض
( ويجب صرف لحمه ) وجلده وبقية أجزائه من شعر وغيره وإن أوهمت عبارته خلافه ( إلى مساكينه ) أي الحرم وفقرائه القاطنين منهم والغرباء
والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد
____________________
(1/530)
حاجة الثاني فهو أولى
تنبيه يؤخذ من كلامه أنه لا يجوز له أكل شيء منه وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية وأنه لا فرق بين أن يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد
ويكفي دفعه إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين سواء انحصروا أم لا لأن الثلاثة أقل الجمع فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول كنظيره من الزكاة
فإن قيل ينبغي أن يجب استيعابهم إذا انحصروا كما في الزكاة
أجيب بأن المقصود هنا حرمة البلد وهناك سد الخلة وتجب النية عند التفرقة كما قاله الروياني وغيره أو متقدمة عليها كما في الزكاة
وظاهر كلامه أن هذا الحكم كله في الدم الواجب بفعل حرام أو ترك واجب وليس مرادا بل دم التمتع والقران كذلك
وأما دم الإحصار فسيأتي
ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير
أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر
ولو ذبح الدم الواجب بالحرم فسرق منه أو غصب قبل التفرقة لم يجزه
ثم هو مخير بين أن يذبح آخر وهو أولى أو يشتري بدله لحما ويتصدق به لأن الذبح قد وجد
فإن قيل ينبغي بالذمة والزكاة بعين المال ولو عدم المساكين في الحرم أخر الواجب المالي حتى يجدهم ولا يجوز النقل
فإن قيل ينبغي أن يجوز النقل كالزكاة
أجيب بأنها ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها بخلاف هذا
( وأفضل بقعة ) من الحرم ( لذبح المعتمر ) الذي ليس متمتعا ولا قارنا ولو مفردا ( المروة ) لأنها موضع تحلله ( ول ) ذبح ( الحاج ) ولو قارنا أو مريدا إفرادا أو متمتعا ولو عن دم تمتعه ( منى ) لأنها محل تحلله
والأحسن كما قاله بعض شراح الكتاب في بقعة ضبطها بفتح القاف وكسر العين على لفظ الجمع المضاف لضمير الحرم
( وكذا حكم ما ساقاه ) أي المعتمر والحاج ( من هدي ) نذر أو نفل ( مكانا ) في الاختصاص والأفضلية
( ووقته ) أي ذبح هذا الهدي ( وقت الأضحية على الصحيح والله أعلم ) قياسا عليها والثاني لا يختص بوقت كدماء الجبرانات
وعلى الأول لو أخر الذبح حتى مضت أيام التشريق نظر إن كان واجبا وجب ذبحه قضاء وإن كان تطوعا فقد فات هذا إذا لم يعين غير هذه الأيام فإن عين لهدي التقرب غير وقت الأضحية لم يتعين له وقت لأنه ليس في تعيين اليوم قربة نقله الإسنوي عن المتولي وغيره
والهدي كما يطلق على ما يسوقه المحرم يطلق أيضا على ما يلزمه من دم الجبرانات وهذا الثاني لا يختص بوقت الأضحية كما سبق
وظاهر كلام المصنف كالروضة أن ما يسوقه المعتمر يختص أيضا بوقت الأضحية على الصحيح وهو كذلك وإن نازع فيه الإسنوي
خاتمة حيث أطلق في المناسك الدم فالمراد به كدم الأضحية فتجزىء البدنة أو البقرة عن سبعة دماء وإن اختلفت أسبابها فلو ذبحها عن دم وجب فالفرض سبعها فله إخراجه عنه وأكل الباقي إلا في جزاء الصيد المثلي لها فلا يشترط كونه كالأضحية فيجب في الصغير صغير وفي الكبير كبير وفي المعيب معيب كما مر بل لا يجزىء البدنة عن شاته
وحاصل الدماء ترجع باعتبار حكمها إلى أربعة أقسام دم ترتيب وتقدير ودم ترتيب وتعديل ودم تخيير وتقدير ودم تخيير وتعديل
القسم الأول يشتمل على دم التمتع والقران والفوات والمنوط بترك مأمور وهو ترك الإحرام من الميقات والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع فهذه الدماء دماء ترتيب بمعنى أنه يلزمه الذبح ولا يجوز العدول إلى غيره إلا إذا عجز عنه وتقدير بمعنى أن الشرع قدر ما يعدل إليه بما لا يزيد ولا ينقص
والقسم الثاني يشتمل على دم الجماع فهو دم ترتيب وتعديل بمعنى أن الشرع أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة فيجب فيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه فإن عجز قوم البدنة بدراهم والدراهم طعاما وتصدق به فإن عجز صام عن كل مد يوما ويكمل المنكسر كما مر وعلى دم الإحصار فعليه شاة ثم طعام بالتعديل فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوما
____________________
(1/531)
والقسم الثالث يشتمل على دم الحلق والقلم فهو دم تخيير بمعنى أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه فيتخير إذا حلق ثلاث شعرات أو قلم ثلاثة أظفار ولاء بين ذبح وإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وصوم ثلاثة أيام وعلى دم الاستمتاع وهو التطيب والدهن بفتح الدال للرأس أو اللحية وبعض شعور الوجه على خلاف تقدم واللبس ومقدمات الجماع والاستمناء والجماع غير المفسد
والقسم الرابع يشتمل على دم جزاء الصيد والشجر
فجملة هذه الدماء عشرون دما ونظم الدميري رحمه الله تعالى هذه الخاتمة فقال خاتمة من الدماء التزم مرتبا وما بتخيير لزم والصفتان لا اجتماع لهما كالعدل والتقويم حيث فهما فالدم بالترتيب والتقدير في تمتع فوت قران اكتفى وترك ميقات ورمي ووداع مع المبيتين بلا عذر يشاع ثم مرتب بتعديل سقط في مفسد الجماع والحصر فقط مخير مقدر دهن لباس والحلق والقلم وطيب فيه باس والوطء حيث الشاة والمقدمات مخير معدل صيد نبات وهذه الدماء كلها لا تختص بوقت كما مر وتراق في النسك الذي وجبت فيه
ودم الفوات يجزىء بعد دخول وقت الإحرام بالقضاء كالمتمتع إذا فرغ من عمرته فإنه يجوز له أن يذبح قبل الإحرام بالحج وهذا هو المعتمد وإن قال ابن المقري إنه لا يجزىء إلا بعد الإحرام بالقضاء
وكل هذه الدماء وبدلها من الطعام تختص تفرقته بالحرم على مساكينه وكذا يختص به الذبح إلا دم المحصر فيذبح حيث أحصر كما سيأتي
فإن عدم المساكين في الحرم أخره كما مر حتى يجدهم كمن نذر التصدق على فقراء بلد يجدهم
ويسن لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي إليها شيئا من النعم لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة ولا يجب ذلك إلا بالنذر
ويسن أن يقلد البدنة أو البقرة نعلين من النعال التي تلبس في الإحرام ويتصدق بهما بعد ذبحها ثم يجرح صفحة سنامها اليمنى بحديدة مستقبلا لها القبلة ويلطخها بالدم لتعرف فإن قرن هديين بحبل جرح الآخر في الصفحة اليسرى والغنم لا تجرح بل تقلد عرى القرب وآذانها ولا يلزم بذلك ذبحها
باب الإحصار عن أركان الحج أو العمرة ( والفوات ) للحج وما يذكر معهما من بقية موانع الحج
والموانع ستة أولها الإحصار العام وهو منع المحرمين عن المضي من جميع الطرق يقال أحصره وحصره لكن الأول أشهر في حصر المرض والثاني أشهر في حصر العدو وقد بدأ المصنف بحكم هذا الثاني فقال ( من أحصر ) أي منع من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة ( تحلل ) جوازا بما سيأتي لا وجوبا سواء أكان حاجا أم معتمرا أم قارنا وسواء أكان المنع بقطع الطريق أم بغيره وسواء أكان المانع كافرا أم مسلما سواء أمكن المضي بقتال أم ببذل مال أم لم يمكن منع من الرجوع أيضا أم لا وذلك لقوله تعالى { فإن أحصرتم } أي وأردتم التحلل { فما استيسر من الهدي } إذ الإحصار بمجرده لا يوجب الهدي والآية نزلت بالحديبية حين صد المشركون النبي صلى الله عليه وسلم من البيت وكان معتمرا فنحر ثم حلق وقال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا ولأن في مصابرة الإحرام إلى أن يأتي بالأعمال مشاقا وحرجا قد رفعه الله سبحانه وتعالى عنا بفضله وكرمه وأجمع المسلمون على ذلك
أما إذا تمكنوا بغير قتال أو بذل مال فلا يتحللون وعلم من ذلك أنه لو طلب منهم لم يلزمهم بذل وهو كذلك وإن قل أي قلة
____________________
(1/532)
بالنسبة إلى أداء النسك كما قاله بعض المتأخرين فنحوا لدرهمين والثلاثة لا يتحلل من أجلها
ويكره بذل مال لكافر لما فيه من الصغار بلا ضرورة ولا يحرم كما لا تحرم الهبة لهم
أما المسلمون فلا يكره بذله لهم والأولى قتال الكفار عند القدرة عليه ليجمعوا بين الجهاد ونصرة الإسلام وإتمام النسك
فإن قيل لم لم يجب إذا كانوا مثلينا فأقل أجيب بأنه لا يجب الثبات لهم في غير الصف كما قالوه في السير ويجوز للمحسر إذا أراد القتال لبس الدرع ونحوه ويفدي وجوبا كما لو لبسه المحرم لدفع حر أو برد والأولى للمحصر المعتمر الصبر عن التحلل وكذا للحاج إن اتسع الوقت وإلا فالأولى التعجيل لخوف الفوات
نعم إن كان في الحج وتيقن زوال الحصر في مدة يمكنه إدراك الحج بعدها أو في العمرة وتيقن قرب زواله وهو ثلاثة أيام امتنع تحلله كما قاله الماوردي
قال الأذرعي والظاهر أن المراد باليقين هنا الظن الغالب واستشهد له بنص في البويطي
فإن قيل ما فائدة التحلل فيما إذا أحاط بهم العدو من الجوانب كلها أجيب بأنهم يستفيدون به الأمن من العدو الذي بين أيديهم
قال الإسنوي وهذا يقتضي تقييد المسألة بما إذا كان المانعون فرقا متميزة لا تعضد كل واحدة الأخرى فإن كان المانعون لجميع الجوانب فرقة واحدة لم يجز التحلل فتفطن له اه
والمعتمد إطلاق كلام الأصحاب لما في مصابرة الإحرام مع عدم تمكنهم من إتمام النسك من المشقة كما مر
تنبيه كلام المصنف يتناول من أحصر عن الوقوف دون البيت وعكسه وهو كذلك لكنه لا يتحلل في الحال ففي الأولى يدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة كما في أصل الروضة في آخر الباب وفي الثانية يقف ثم يتحلل كما في المجموع عن الماوردي وأقره وفي الصورتين لا قضاء
وخرج بالأركان ما لو منع من الرمي والمبيت فلا يجوز له التحلل لتمكنه من التحلل بالطواف والسعي والحلق ويجزئه عن نسكه والرمي والمبيت بجبران بالدم
واستنبط البلقيني رحمه الله تعالى من الأحصار عن الطواف أن الحائض إذا لم تطف للإفاضة ولم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت أنها كالمحصر فتتحلل بالنية والذبح والتقصير وأيده بأن في المجموع عن صاحب الفروع و الروياني وغيرهما فيمن صد عن طريق ووجد آخر أطول إن لم يكن معه نفقة تكفيه لذلك الطريق فله التحلل وذكر البارزي نحو ذلك واستحسنه الولي العراقي
وقد قدمت التنبيه على هذه المسألة وإنما أعدتها لئلا يغفل عنها فإنها مسألة كثيرة الوقوع فيتفطن لها
وكلام المصنف يفهم أنه إذا أحصر جاز له التحلل وإن كان له طريق آخر يمكنه سلوكه ووجد شرائط الاستطاعة فيه وليس مرادا بل يلزمه سلوك ذلك الطريق سواء أطال الزمان أم قصر وإن تيقن الفوت ويتحلل بعمل عمرة كما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى وجرى عليه الأصحاب فلو فاتهم الحج لطول الطريق المملوك ونحوه لم يجب القضاء ولا فرق فيما ذكر بين حصر الكل أو البعض ولو واحدا
( وقيل لا تتحلل الشرذمة ) بمعجمة وهي طائفة أحصرت من بين الرفقة لأن الحصر لم يعم الكل فأشبه المرض وخطأ الطريق
والصحيح الجواز كما في الحصر العام لأن مشقة كل واحد لا تختلف بين أن يتحمل غيره مثلها أو لا يتحمل
وأما الحصر الخاص وهو المانع الثاني بأن حبس ظلما كأن حبس بدين وهو معسر به فإنه يجوز له أن يتحلل كما في الحصر العام لما مر
فإن قيل قول الأصحاب إن المفلس المحبوس ظلما يتحلل لأن في بقائه على الإحرام مشقة كما في حصر العدو مشكل لأنه إذا حبس تعديا لم يستفد بالتحلل الخلاص مما هو فيه كالمريض ولحوق المشقة بالبقاء على الإحرام غير معتبر إذ هو موجود في المريض بل حال المريض آكد فلا وجه للتحلل بالحبس
أجيب بأن المرض لا يمنع الإتمام فالمريض متمكن من إتمام النسك معه فلم يبح له إلا بشرط ولا كذلك هنا أما إذا حبس بحق كأن حبس بدين متمكن من أدائه فلا يجوز له التحلل بل عليه أن يؤديه ويمضي في نسكه فلو تحلل لم يصح تحلله فإن فاته الحج في الحبس لم يتحلل إلا بعمل عمرة بعد إتيانه مكة كمن فاته الحج بلا إحصار
( ولا تحلل بالمرض ) ونحوه كضلال طريق وفقد نفقة لأنه لا يفيد زوال المرض ونحوه بخلاف التحلل بالإحصار بل يصبر حتى يزول عذره فإن كان محرما بعمرة أتمها أو بحج وفاته تحلل بعمل عمرة قال الماوردي وهو إجماع الصحابة
هذا
____________________
(1/533)
إذا لم يشرط التحلل به ( فإن شرطه ) بالمرض ونحوه في إحرامه أي أنه يتحلل إذا مرض مثلا ( تحلل ) جوازا ( به ) أي بسبب المرض ونحوه ( على المشهور ) لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بضم الضاد المعجمة وبالباء الموحدة بنت الزبير فقال لها أردت الحج فقالت والله ما أجدني إلا وجعة فقال حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني ويقاس بما فيه غيره
والثاني لا يجوز لأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر فلا يجوز بالشرط كالصلاة المفروضة
ومن قال بهذا أجاب عن الحديث بأن المراد بالحبس الموت أو خاص بضباعة
ثم إنه اشترط التحلل بالهدي لزمه أو بلا هدي لم يلزمه وكذا إن أطلق لعدم الشرط ولظاهر خبر ضباعة فالتحلل يكون في هاتين الحالتين بالنية والحلق أو نحوه فقط
ولو قال إن مرضت أو نحو ذلك من الأعذار فأنا حلال فوجد العذر صار حلالا به من غير نية وعلى ذلك حمل خبر أبي داود وغيره بإسناد صحيح من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل
وإن شرط قلب الحج عمرة بذلك جاز كما لو شرط التحلل به بل أولى فله إذا وجد العذر أن يقلب حجه عمرة وتجزئه عن عمرة الإسلام
ولو شرط أن ينقلب حجه عمرة عند العذر فوجد العذر انقلب عمرة وأجزأته عن عمرة الإسلام أيضا كما صرح به البلقيني بخلاف التحلل بالإحصار لا تجزئه عن عمرة الإسلام لأنها في الحقيقة ليست عمرة وإنما هي أعمال عمرة
( ومن تحلل ) أي أراد التحلل لأن الذبح يكون قبل التحلل كما سيأتي أي الخروج من النسك بإحصار
( ذبح ) حتما للآية السابقة ( شاة ) أو ما يقوم مقامها من بدنة أو بقرة أو سبع أحدهما
( حيث أحصر ) في حل أوحرم
ولا يسقط عنه الدم إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر بخلاف ما سبق في المرض لأن حصر العدو لا يفتقر إلى شرط فالشرط فيه لاغ
ولا يجوز الذبح بموضع من الحل غير الذي أحصر فيه كما ذكره في المجموع لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح هو وأصحابه بالحديبية وهو من الحل
وكذلك يذبح هناك ما لزمه من دماء المحظورات قبل الإحصار وما معه من هدي التطوع وله ذبحه عن إحصاره وتفرقة اللحم على مساكين ذلك الموضع
وظاهر إطلاق المصنف جواز الذبح في موضعه من الحل إذا أحصر فيه ولو تمكن من بعض الحرم وهو الأصح كما في أصل الروضة وإن صحح البلقيني خلافه
تنبيه يفهم من قوله حيث أحصر أنه لو أحصر في الحل وأراد أن يذبح بموضع آخر لم يجز وهو كذلك كما مر عن المجموع لأن موضع الإحصار قد صار في حقه كنفس الحرم وهو نظير منع المتنفل إلى غير القبلة من التحول إلى جهة أخرى واتفقوا على جواز إيصاله الحرم لكنه لا يتحلل حتى يعلم بنحره ولو أحصر في الحرم جاز له نقله إلى موضع آخر منه وإن أفهمت عبارته خلافه
( قلت ) كالرافعي في الشرح ( إنما يحصل التحلل بالذبح ) لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }
( ونية التحلل ) المقارنة له لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فلا بد من قصد صارف وكيفيتها أن ينوي خروجه عن الإحرام
( وكذا الحلق ) أو نحوه ( إن جعلناه نسكا ) وسبق أنه القول المشهور
ولا بد من مقارنة النية له كما في الذبح ويشترط تأخره عن الذبح كما صرح به الماوردي وغيره للآية السابقة
( فإن فقد ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( الدم ) حسا كأن لم يجد ثمنه أو شرعا كأن احتاج إلى ثمنه أو وجده يباع بأكثر من ثمن مثله في ذلك المحل ( فالأظهر أن له بدلا ) قياسا على دم التمتع وغيره والثاني لعدم النص فيبقى في ذمته
( و ) الأظهر على الأول ( أنه ) أي البدل ( طعام ) لأنه أقرب إلى الحيوان من الصيام لاشتراكهما في المالية فكان الرجوع إليه عند الفقد أولى وعليه قيل يقدر بثلاثة آصع لستة مساكين كفدية الحلق والأصح ( بقيمة الشاة ) مراعاة للقرب فيقوم الشاة بدراهم ويخرج بقيمتها طعاما
( فإن عجز ) عن الطعام ( صام ) حيث شاء ( عن كل مد يوما ) قياسا على الدم الواجب
____________________
(1/534)
بترك المأمور والقول الثاني بدله الصوم وهو كصوم التمتع أو الحلق أو التعديل أقوال لم يصحح الشيخان شيئا منها وصحح الفارقي آخرها بأن يعرف ما يتأتى بقيمته طعاما فيصوم عن كل مد يوما
( وله ) إذا انتقل إلى الصوم ( التحلل في الحال ) بالحلق بنية التحلل عنده ( في الأظهر والله أعلم ) لأن التحلل إنما شرع به لدفع المشقة فلو وقفناه على ذلك لحقه المشقة لتضرره بالمقام على الإحرام
والثاني يتوقف على الصوم كالإطعام لأنه قائم مقامه
وفرق الأول بما تقدم
ثم شرع في المانع الثالث وهو الرق فقال ( وإذا أحرم العبد ) وفي معناه الأمة ولو مبعضا في غير نوبته أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد أو معلقا عتقه بصفة ( بلا إذن ) من فيما أحرم به ( فلسيده تحليله ) بأن يأمره بالتحلل لأن إحرامه بغير إذنه حرام كما صرح به البندنيجي وغيره إذ لا نسك عليه ولأن تقريره على إحرامه يعطل عليه منافعه التي يستحقها فإنه قد يريد منه ما لا يباح للمحرم كالاصطياد وإصلاح الطيب وقربان الأمة وكذا يجوز لمشتريه تحليله
ولا خيار له عند جهله بإحرامه لكن الأولى لهما أن يأذنا له في إتمام نسكه كما صرح به في الروضة في السيد ومثله المشتري قاله الأذرعي وغيره
ولو أحرم بلا إذن ثم أذن له السيد في المضي فيه لم يملك تحليله فيما بعد كما قاله الماوردي وغيره ويستثنى ما لو أسلم عبد حربي ثم أحرم بغير إذنه ثم غنمناه فالظاهر أنه ليس لنا تحليله قال الزركشي ولا يخفى أن الكلام في البالغ فإن الصغير لا يصح إحرامه بغير إذن سيده وإن صححنا إحرام الصغير الحر بغير إذن وليه اه
وتقدم أن المعتمد أنه لا يصح بغير إذن وليه فإذن لا فرق
وللرقيق أن يتحلل قبل أمر سيده كما صرح به المصنف في مجموعه نقلا عن الأصحاب في الزوجة لكن قياسه على الزوجة ممنوع لما سيأتي
والأقرب كما اقتضاه كلامهم أن له التحلل وإن لم يأمره به سيده بل إذا أمره به لزمه كما صرح به ابن الرفعة فعليه التحلل حينئذ فيحلق وينوي التحلل فعلم إن إحرامه بغير إذنه صحيح وإن حرم عليه فعله
فإن لم يتحلل فله استيفاء منفعته منه والإثم عليه ولا يرتفع إحرامه بشيء من ذلك
ويؤخذ من بقائه على إحرامه أنه لو ذبح صيدا لم يحل وإن أمره سيده بذلك كما أفتى به شيخي وغيره وإن خالف في ذلك بعض العصريين وإنما لم يجب بغير أمره وإن كان الخروج من المعصية واجبا لكونه تلبس بعبادة في الجملة مع جواز رضا السيد بدوامه
وإن أحرم بإذنه فليس له تحليله وليس له أن يتحلل أيضا ولا لمن اشتراه لكن يتخير إن جهل
وللسيد الرجوع في الإذن قبل الإحرام فلو أحرم ولم يعلم برجوعه فله تحليله ولو أنكر السيد الإذن صدق
قال في العباب وفي تصديق السيد في تقديم رجوعه تردد اه
والذي يظهر تصديقه أي إذا لم يعين وقت الرجوع وإلا فيظهر أنه كالاختلاف في الرجعة
ولو أذن له في العمرة فأحرم بالحج جاز له تحليله لا إن أذن في الحج فأحرم بالعمرة لأنها دونه
وإن أذن له في التمتع فله الرجوع بينهما كما لو رجع في الإذن قبل الإحرام بالعمرة وليس له تحليله عن شيء منهما بعد الشروع فيه
ولو قرن بعد إذنه له في التمتع أو في الحج أو في الإفراد لم يحله لأن ما أذن له فيه مساو للقران أو فوقه
فإن قيل هو مشكل في صورة التمتع كما قاله الأذرعي قال ابن كج لأنه يقول كان غرضي من التمتع أني كنت أمنعك من الدخول في الحج
أجيب بأنه متلبس بما أذن له فيه فامتنع عليه تحلله ولو أذن له أن يحرم في وقت فأحرم قبله فله منعه ما لم يدخل ذلك الوقت
قال في العباب ولو أذن له في الإحرام مطلقا وأراد السيد صرفه إلى نسك والرقيق صرفه إلى غيره ففيمن يجاب قولان اه
والذي يظهر أن السيد هو المجاب إن كان ما طلبه أدون
فرع يصح نذر الرقيق الحج ويجزئه في رقه فإن أحرم المبعض في نوبته ووسعت النسك فكالحر كما ذكره الدارمي وحكاه في البحر عن الأصحاب وتوقف فيه فليس للسيد تحليله فإطلاقهم أنه كالرقيق جرى على الغالب
وقيد ابن المقري في روضه تحليل السيد لمكاتبه أن يحتاج المكاتب في أداء نسكه إلى سفر أي ويحل عليه النجم وهو موسر
ومع هذا هو مشكل بل ينبغي أن يمنع من السفر لا أنه يحلله والأولى أن يقال إن له أن يحلله مطلقا حيث أحرم بغير إذنه فإنه قن ما بقي عليه درهم فهو منزل منزلة تبرعه
ولو أفسد الرقيق نسكه بالجماع لم يلزم السيد الإذن في القضاء ولو أحرم بإذنه لأنه لم يأذن له في الإفساد
وما لزمه من دم بفعل محظور كاللباس أو بالفوات لا يلزم السيد ولو أحرم بإذنه
____________________
(1/535)
بل لا يجزئه إذا ذبح عنه إذ لا ذبح عليه وواجبه الصوم
وله منعه منه إن كان يضعف به عن الخدمة ولو أذن له في الإحرام لأنه لم يأذن له في موجبه بخلاف ما إذا وجب عليه صوم لتمتع أو قران فليس له منعه لإذنه في موجبه
ولو ذبح عنه السيد بعد موته جاز لحصول اليأس من تكفيره
ولو عتق قبل صومه وقدر على الدم لزمه اعتبارا بحال الأداء
ثم شرع في المانع الرابع وهو الزوجية فقال ( وللزوج ) الحلال أو المحرم ( تحليلها ) أي زوجته كما له منعها ابتداء ( من حج ) أو عمرة ( تطوع لم يأذن فيه ) لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع كما له أن يخرجها من صوم النفل وإن أذن لها لم يجز لرضاه بالضرر
ويسن للرجل أن يحج بزوجته للأمر به في الصحيحين
ويسن للحرة أن لا تحرم بنسكها بغير إذنه ولا يخالف هذا ما يأتي من أن الأمة المزوجة يمتنع عليها الإحرام بغير إذن زوجها وسيدها لأن الحج لازم للحرة فتعارض في حقها واجبان الحج وطاعة زوجها فجاز لها الإحرام وندب لها الاستئذان بخلاف الأمة لا يجب عليها الحج
ويؤيد ذلك ما يأتي في النفقات من أن الزوجة يحرم عليها الشروع في صوم النفل بغير إذن الزوج بخلاف الفرض ذكر ذلك الزركشي
وقياسه أن يحرم على الزوجة الحرة إحرامها بالنفل بغير إذنه فإن كانت أمة توقف إحرامها على إذنه مع إذن السيد لأن لكل منهما حقا فإن أذن أحدهما فللآخر المنع فإن أحرمت بغير إذنهما فلهما ولكل منهما تحليلها ذكره في المجموع
( وكذا ) له تحليلها أيضا ( من الفرض ) أي فرض الإسلام من حج أو عمرة بلا إذن ( في الأظهر ) لأن حقه على الفور والنسك على التراخي والثاني لا قياسا على المفروض من الصلاة والصوم
وفرق الأول بأن مدتهما لا تطول فلا يلحق الزوج كبير ضرر
ويؤخذ من ذلك ما لو قال طبيبان عدلان إن لم تحجي في هذا العام عضبت أن يمتنع عليه تحليلها وهو كذلك كما قاله الأذرعي
فإن قيل كل من الواجبين على الفور فما وجه تقديم الحج أجيب بأنه حق لله تعالى وهو أحق بالقضاء كما ورد به الخبر وكذلك يمتنع عليه لو كانت صغيرة وأحرمت بإذن وليها أو كبيرة وسافرت معه وأحرمت حال إحرامه أخذا مما ذكر لأنها لم تفوت عليه استمتاعا كما أن السيد لا يمنع عبده من صوم تطوع لم يفوت عليه به أمر الخدمة قال الزركشي وهذا قياس المذهب وإن قال الماوردي بخلافه
وحكم حجة النذر حكم حجة الإسلام كما في المجموع ويستثنى النذر المعين قبل النكاح أو بعده لكن بإذن الزوج
ويستثنى من كلام المصنف ما لو نكحت بعد تحللها من الفائت فلا منع ولا تحلل منه للتضييق وكذا لو حجت خلية فأفسدته ثم نكحت والحابسة نفسها لتقبض المهر فإنها لا تمنع من السفر كما قاله القاضي وحينئذ فإذا أحرمت لم يكن له تحليلها
والمراد بتحليله إياها أن يأمرها بالتحلل وتحللها كتحلل المحصر فإن لم يأمرها لم يجز لها التحلل كما نقله في المجموع عن الأصحاب
وتفارق الرقيق كما مر لأن إحرامه بغير إذن مولاه محرم كما مر بخلافها
ويؤخذ من كلام الزركشي المتقدم أن هذا في الفرض دون النفل فلو لم تتحلل كان له أن يستمتع بها كما في المجموع والإثم عليها لا عليه وإن توقف الإمام في جوازه
وليس للزوج تحليل الرجعية بل يحبسها للعدة وكذا البائن أيضا وإن فات الحج هذا إن طلقت الزوجة قبل الإحرام لأن لزومها سبق الإحرام
فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي الوقت وإلا تحللت بعمل عمرة ولزمها القضاء ودم الفوات
فإن طلقت بعده ولو كان إحرامها بغير إذنه وجب عليها الخروج معتدة إن خافت الفوات لتقدم الإحرام وإن لم تخف الفوات جاز الخروج إلى ذلك لما في تعين الصبر من مشقة مصابرة الإحرام نعم لو راجع الرجعية فله تحليلها إن أحرمت بغير إذنه
وحكى المتولي ك البغوي في القضاء وجهين وبناهما على الفور في القضاء وقضيته ترجيح عدم منعها قال في المهمات وهو متجه إذا وطئها الزوج أو أجنبي قبل النكاح فإن وطئها الأجنبي بعده في نسك لم يأذن فيه الزوج فله المنع كما في الأداء وإن أذن ففي المنع نظر
ويؤخذ من إحرام الرقيق بإذن سيده إذا أفسد نسكه لم يأذن فيه الزوج فله المنع كما في الأداء وإن أذن ففي المنع نظر
ويؤخذ من إحرام الرقيق بإذن سيده إذا أفسد نسكه أن له منعه وأن للزوج هنا منعها والقضاء إذا كان سببه الفوات يجب على الفور
قال السبكي ويؤخذ من أن الزوجة إنما تحرم بإذن زوجها أي استحبابا كما مر وأن الحصر الخاص لا يمنع وجوب الحج إذ إنه ليس شرطا للوجوب عليها بل الحج وجب
وإذا أحرمت فمنعها الزوج ومات قضي من تركتها مع كونها لا تعصي لكونه منعها إلا إذا تمكنت قبل النكاح
____________________
(1/536)
فتعصي إذا ماتت
قال وفي كلام القاضي أبي الطيب الاتفاق على الوجوب عليها وإنما الخلاف في أنه هل للزوج منعها أو لا
وأما المانع الخامس فهو الأبوة فإن أحرم الولد بفرض بلا إذن فليس لأحد من أبويه منعه لا ابتداء ولا دواما كالصوم والصلاة ويفارق الجهاد بأنه فرض عليه وليس الخوف كالخوف في الجهاد
وإن أحرم بنفل بلا إذن فلكل منهما منعه وتحليله وتحليلهما له كتحليل السيد رقيقه
والعمرة كالحج فيما ذكر كما نقله في المجموع عن اتفاق الأصحاب
ويسن للولد استئذانهما إذا كانا مسلمين في النسك فرضا وتطوعا
وقضية كلامهم أنه لو أذن الزوج لزوجته كان لأبويها منعها وهو ظاهر إلا أن يسافر معها الزوج
وأما المانع السادس فهو الدين فليس لغريم المدين تحليله إذ لا ضرر عليه في إحرامه وله منعه من الخروج إذا كان موسرا والدين حالا ليوفيه حقه بخلاف ما إذا كان معسرا أو موسرا والدين مؤجلا فليس له منعه إذ لا يلزمه أداؤه حينئذ
فإن كان الدين يحل في غيبته استحب له أن يوكل من يقضيه عند حلوله
( ولا قضاء على المحصر ) بفتح الصاد المهملة ( المتطوع ) إن تحلل من إحصار عام أو خاص لعدم وروده
وقد أحصر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ألف وأربعمائة ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير أكثر ما قيل إنهم سبعمائة ولم ينقل أنه أمر من تخلف بالقضاء
واستثنى ابن الرفعة من إطلاق عدم القضاء ما لو أفسد النسك ثم أحصر ولا حاجة إلى استثنائه لأن القضاء هنا للإفساد لا للإحصار الذي الكلام فيه
ولا فرق بين أن يأتي بنسك سوى الإحرام أم لم يأت اقترن بالإحصار فوات أم لم يقترن نعم إن صابر إحرامه غير متوقع زوال الإحصار ففاته الوقوف عليه فعليه القضاء بخلاف ما إذا صابر مع التوقع
( فإن كان نسكه فرضا مستقرا ) عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان أو كانت قضاء أو نذرا ( بقي في ذمته ) كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها فإنها تبقى في ذمته
( أو غير مستقر ) كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان ( اعتبرت الاستطاعة بعد ) أي بعد زوال الإحصار إن وجدت وجب وإلا فلا
( ومن فاته الوقوف ) بعرفة بعذر أو غيره وبفواته يفوت الحج كما مر ( تحلل ) وجوبا كما في المجموع ونص عليه في الأم لئلا يصير محرما بالحج في غير أشهره
واستدامة الإحرام كابتدائه وابتداؤه حينئذ لا يجوز
وربما تشعر عبارة الرافعي بجواز ذلك حيث قال وإذا حصل الفوات فله التحلل كما في الإحصار وليس مرادا لأن في بقائه على الإحرام حتى يقف في العام القابل حرجا شديدا يعسر احتماله
قال الأذرعي ولا نعلم أحدا قال به إلا رواية عن مالك
فلو خالف وفعل لا يكفيه ذلك الإحرام ويحصل التحلل ( بطواف ) هذا لا بد منه اتفاقا ( وسعي ) لأنه كالطواف في تحتم الإتيان لكن شرط إيجابه أن لا يكون سعي بعد طواف قدوم فإن كان سعي لم يحتج لإعادته كما في المجموع عن الأصحاب خلافا لابن الرفعة في وجوب إعادته
( وحلق ) بناء على أنه من أركان الحج فكان كالطواف والسعي وبذلك يحصل التحلل الثاني
أما في الأول ففي المجموع أنه يحصل بواحد من الحلق والطواف المتبوع بالسعي إن لم يكن سعي لأنه لما فاته الوقوف سقط عنه حكم الرمي كالمبيت وصار كمن رمى
ويقال أيضا إنه إذا لم يكن برأسه شعر أنه يسقط عنه الحلق ويصير تحلله بالطواف فقط
( وفيهما ) أي السعي والحلق ( قول ) أنهما لا يحتاج إليهما في التحلل
أما السعي فلأنه ليس من أسباب التحلل ولهذا يصح تقديمه على الوقوف ولو كان من أسبابه لما جاز تقديمه عليه
وأما الحلق فمبني على أنه استباحة محظور ثم ما أتى به لا ينقلب عمرة وقيل ينقلب ويجزىء عن عمرة الإسلام
( وعليه دم ) واحد في مسألة المتن وكذا في عدم الإمكان مع عدم الإحصار وسبق أنه كدم التمتع
( و ) عليه ( القضاء ) فورا للحج الذي فاته بفوات الوقوف فرضا كان أو نفلا كما في الفساد لأنه لا يخلو عن تقصير
والأصل في ذلك ما رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر و عمر بن الخطاب ينحر هديه فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة فقال له عمر رضي الله عنه اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا
____________________
(1/537)
أو قصروا ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
واشتهر ذلك بين الصحابة ولم ينكره أحد فكان إجماعا
وأفهم كلام المصنف أنه لا يجب عليه المبيت بمنى ولا الرمي وهو الأصح كما يؤخذ مما مر ولأن عمر لم يأمر بهما
ولا فرق فيمن ذكر بين من فاته ذلك بعذر أو بغيره وإنما يفترقان في الإثم فقط
فإن قيل لم لم يقل يجب القضاء على الفور على غير المعذور دون المعذور كما قيل بمثله في الصلاة والصوم أجيب بأن الفوات لا يخلو عن تقصير وإنما يجب القضاء في فوات لم ينشأ عن حصر فإن نشأ عنه بأن أحصر فسلك طريقا آخر ففاته الحج وتحلل بعمل عمرة فلا إعادة عليه كما في الروضة كأصلها لأنه بذل ما في وسعه
فإن قيل كيف توصف حجة الإسلام بالقضاء ولا وقت لها أجيب بأنه لما أحرم بها تضيق وقتها كما تقدم ذلك في الإفساد وتقدم ما فيه
وفرق بعضهم بين الإفساد وما نحن فيه بأن المفسد متعد فلهذا جعلنا الفرض قضاء بخلاف الفوات ورده الإسنوي بأنا لا نسلم أن الفوات لا تعدي فيه إذ قد يترك الوقوف عمدا حتى يفوت وقته
خاتمة يسن أن يحمل المسافر إلى أهله هدية لما روى البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم أحدكم على أهله من سفر فليهد لأهله هدية وليطرقهم ولو كان حجارة
ويسن إذا قرب إلى وطنه أن يرسل من يعلمهم بقدومه إلا أن يكون في قافلة اشتهر عند أهل البلد وقت دخولها
ويكره أن يطرقهم ليلا والسنة أن يتلقى المسافر وأن يقال له إن كان حاجا قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك وإن كان غازيا الحمد لله الذي نصرك وأكرمك وأعزك
والسنة أن يبدأ عند دخوله بأقرب مسجد فيصلي فيه ركعتين بنية صلاة القدوم
وتسن النقيعة وهي طعام يعمل لقدوم المسافر وسيأتي بيانها في الوليمة إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم | 2
____________________
(1/538)
كتاب البيع أفرد المصنف رحمه الله تعالى لفظ البيع ولم يعبر كغيره بالبيوع تأسيا بقوله تعالى { وأحل الله البيع }
ويطلق على أمرين أحدهما قسم الشراء وهو الذي يشتق منه لمن صدر عنه لفظ البيع
وحده نقل ملك بثمن على وجه مخصوص والشراء قبول ذلك على أن لفظ كل منهما يقع على الآخر
تقول العرب بعت بمعنى شريت وبالعكس قال تعالى { وشروه بثمن بخس } أي باعوه وقال تعالى { ولبئس ما شروا به أنفسهم } ويقال لكل من المتبايعين بائع وبيع ومشتر وشار
الثاني العقد المركب من الإيجاب والقبول وهو المراد بالترجمة وهو لغة مقابلة شيء بشيء قال الشاعر ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ولا أسلمها إلا يدا بيد قال بعض المتأخرين كذا قالوه وينبغي أن يزاد فيه معاوضة أو على وجه المعاوضة ليخرج رد السلام ونحوه فإنه لا يسمى بيعا أه
و شرعا مقابلة مال بمال على وجه مخصوص
فإن قيل يرد على هذا التعريف القرض كما لو قال خذ هذا بمثله وكذلك الإجارة فإن الحد صادق عليهما وليسا ببيع ولهذا لا ينعقدان بلفظ البيع
فإن أجيب عن الإجارة بأن المال لا يطلق على المنفعة رد بلزوم كون الحد غير جامع الجواز جعل الثمن منفعة
وقد صرح في كتاب الوصية بدخول المنفعة في المال فقال الأموال تنقسم إلى أعيان ومنافع وأيضا المقابلة المطلقة ليس فيها دلالة على المقصود فإنه لم يتعرض لكونها في عقد ولا أن ذلك العقد يقتضي انتقال الملك ولهذا زاد في المجموع تمليكا
أجيب عن القرض بأنه لا يشترط فيه مقابلة المال بالمال حالة العقد لأن صيغة المقابلة مفاعلة فلا بد منها في الجانبين والقرض لا يشترط فيه ذلك بل يكفي الدفع وتسمية أحد العوضين خاصة حتى لو قال أقرضتك هذا ولم يقل على أن ترد بدله صح وإن لم يذكر مقابله بخلاف البيع فإنه لا بد فيه من التصريح بذكر العوضين لتحقق المفاعلة
وعن الإجارة بأن المنافع ليست أموالا على الحقيقة بل على ضرب من التوسع والمجاز بدليل أنها معدومة لا قدرة عليها ولهذا اختلف العلماء في صحة العقد عليها فقد منع جماعة صحة الإجارة وأنه لو حلف شخص لا مال له وله منافع يحنث على الصحيح كما قاله الرافعي وأنه لو أقر بمال ثم فسره بمنفعة لم يقبل كما دل عليه كلام الرافعي أيضا
وقولهم في الوصية إن المنفعة تحسب قيمتها من الثلث معناه أنها كالمال المفوت لا أنها في نفسها مال لأنها لا وجود لها وإنما يقدر وجودها لأجل تصحيح العقد عليها
وأيضا المحدود إنما هو بيع الأعيان لا بيع المنافع لأن بيع المنافع جنس برأسه وإذا ثبت أن المنافع لا تسمى مالا حقيقة لم ترد على الحد لأن المجاز لا يدخل في الحدود
فإن قيل قد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أن الإجارة بيع منفعة كما نقله الإسماعيلي في كتاب الاصطلام
أجيب أنه محمول على ضرب من التوسع كما مر لأن المنافع يقدر وجودها لأجل صحة العقد وما دخله التقدير لا يكون حقيقة كما يقدر الميت حيا ليملك الدية وتورث عنه
وحده بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين
____________________
(2/2)
أو منفعة على التأبيد فدخل بيع حق الممر ونحوه وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعا ولهذا لا تنعقد بلفظه كما مر والقرض بقيد المعاوضة فإنه لا يسمى معاوضة عرفا وعقد النكاح والخلع والصلح عن الدم بقيد الملك فإن الزوج لا يملك منفعة البضع وإنما يملك أن ينتفع به والزوجة والجاني لا يملكان شيئا وإنما يستفيدان رفع سلطنة الزوج ومستحق القصاص على أن النكاح خرج بقيد المعاوضة أيضا فإنه لا يسمى معاوضة عرفا
وهذا الحد أولى من الأول لما لا يخفى
والأصل في الباب قبل الإجماع آيات كقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقوله تعالى { وأحل الله البيع }
وأظهر قولي الشافعي أن هذه الآية عامة في كل بيع إلا ما خص بالسنة فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع والثاني أنها مجملة والسنة مبينة لها
وتظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأول يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل وأحاديث كحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب فقال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور أي لا غش فيه ولا خيانة
رواه الحاكم وصححه
وحديث إنما البيع عن تراض
وأركانه كما في المجموع ثلاثة وهي في الحقيقة ستة عاقد وهو بائع ومشتر ومعقود عليه وهو ثمن ومثمن وصيغة وهي إيجاب وقبول
وكان الأولى للمصنف أن يقدم الكلام على العاقد ثم المعقود عليه ثم الصيغة لكنه بدأ بها كما قال الشارح لأنها أهم للخلاف فيها وأولى من ذلك أن يقال لأن العاقد والمعقود عليه لا يتحقق إلا بها وعبر عنها بالشرط خلاف تعبيره في المجموع ك الغزالي بأركان البيع والتعبير بالركن أولى
نعم قد يراد بالشرط ما لا بد منه فيساوي التعبير بالركن فقال ( شرطه ) أي البيع صيغة وهي ( الإيجاب ) من البائع وهو ما يدل على التمليك بعوض دلالة ظاهرة ( كبعتك ) بكذا ( وملكتك ) بكذا وهذا مبيع منك بكذا أو أنا بائعه لك بكذا كما بحثه الإسنوي وغيره قياسا على الطلاق وكهذا لك بكذا كما نص عليه في الأم
تنبيه عبارة المحرر كبعتك أو ملكتك وهي أولى لأنها تدل على الإكتفاء بأحدهما بخلاف عبارة المصنف
( والقبول ) من المشتري وهو ما يدل على التمليك دلالة ظاهرة ( كاشتريت وتملكت وقبلت ) ورضيت كما ذكره القاضي حسين عن والد الروياني و نعم في الجواب كما سيأتي و توليت ونحوها و بعت على ما نقله في شرح المهذب عن أهل اللغة والفقهاء فلا يصح البيع بدون إيجاب وقبول حتى إنهما يشترطان في عقد تولي الأب طرفيه كالبيع لماله من طفله وعكسه فلا يكفي أحدهما إذ معنى التحصيل غير معنى الإزالة وكالطفل المجنون وكذا السفيه إن بلغ سفيها وإلا فوليه الحاكم فلا يتولى الطرفين لأن شفقته ليست كشفقة الأب فلو وكل الحاكم الأب في هذه الصورة لم يتول الطرفين لأنه نائب عن الحاكم فلا يزيد عليه
وهل للأب أن يبيع مال أحد إبنيه من الآخر وهما تحت حجره فيه وجهان والظاهر منهما الصحة
وإنما احتيج في البيع إلى الصيغة لأنه منوط بالرضا لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولقوله صلى الله عليه وسلم إنما البيع عن تراض صححه ابن حبان
والرضا أمر خفي لا يطلع عليه فأنيط الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة فلا ينعقد بالمعطاة إذ الفعل لا يدل بوضعه فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد فيطالب كل صاحبه بما دفع إليه إن بقي وببدله إن تلف
وقال الغزالي للبائع أن يتملك الثمن الذي قبضه إن ساوى قيمة ما دفعه لأنه مستحق ظفر بمثل حقه والمالك راض
هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلا مطالبة لطيب النفس بها
واختلاف العلماء فيها نقله في المجموع عن ابن أبي عصرون وأقره قال وخلاف المعاطاة في البيع يجري في الإجارة والرهن والهبة ونحوها قال في الذخائر وصورة المعاطاة أن يتفقا على ثمن ومثمن ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول وقد يوجد لفظ من أحدهما
واختار المصنف وجماعة منهم المتولي و البغوي الإنعقاد بها في كل ما يعده الناس بيعا لأنه لم يثبت اشتراط لفظ فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة وبعضهم ك ابن سريج و الروياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقرات وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز وحزمة بقل وقال بعضهم كل من وسم بالبيع اكتفى منه بالمعاطاة كالعامي والتاجر وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ
قال في المجموع وأما إذا كان
____________________
(2/3)
يأخذ من البياع ويحاسبه بعد مدة ويعطيه كما يفعل كثير من الناس فإنه باطل بلا خلاف لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة فليعلم ذلك وليحذر منه ولا يغتر بكثرة من يفعله
قال الأذرعي وهذا ما أفتى به البغوي وذكر ابن الصلاح في فتاويه نحوه والظاهر أنه قاله تفقها ومن كلامه أخذ المصنف
لكن الغزالي في الإحياء مسامح في ذلك فقال وأخذ الحاجة من البياع يقع على ضربين أحدهما أن يقول أعطني بكذا لحما أو خبزا مثلا وهذا هو الغالب فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه فهذا مجزوم بصحته عند من يجوز المعاطاة فيما أراه
والثاني أن يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كأعطني رطل خبز أو لحم مثلا فهذا محتمل
وهو ما رأى الغزالي إباحته ومنعها المصنف
وقوله أنه لا يعد معاطاة ولا بيعا فيه نظر بل يعده الناس بيعا والغالب أن يكون قدر ثمن الحاجة معلوما لهما عند الأخذ والعطاء وإن لم يتعرضا له لفظا أه
وأشار المصنف بكاف التشبيه فيما ذكره من صيغ الإيجاب والقبول إلى عدم الحصر فيه فيكفي غيره كما تقدم بعض ذلك
ومن ألفاظ صيغ الإيجاب صارفتك في بيع النقد بالنقد أو قررتك بعد الإنفساخ بأن يقول البائع بعد انفساخ البيع قررتك على موجب العقد الأول فيقبل صاحبه كما اقتضاه كلام الشيخين في القراض و وليتك و أشركتك
ومن ألفاظ القبول صارفت و تقررت بعد الانفساخ في جواب قررتك و تعوضت في جواب عوضتك و قد فعلت في جواب اشتر مني ذا بكذا كما جزم به الرافعي في النكاح وفي جواب بعتك كما في زيادات العبادي نقله عنها الإسنوي وبكاف الخطاب في الإيجاب إلى أمرين أحدهما أن إسناد البيع إلى المخاطب لا بد منه ولو كان نائبا عن غيره حتى لو لم يسند إلى أحد كما يقع في كثير من الأوقات أن يقول المشتري للبائع بعت هذا بعشرة مثلا فيقول بعت فيقبله المشتري لم يصح وكذا لو أسنده إلى غير المخاطب كبعت موكلك بخلاف النكاح فإنه لا يصح إلا بذلك لأن الوكيل ثم سفير محض
وقد لا يعتبر الخطاب كما في مسألة المتوسط وهي أن يقول شخص للبائع بعت هذا بكذا فيقول نعم أو بعت ويقول للآخر اشتريت فيقول نعم أو اشتريت فينعقد البيع لوجود الصيغة
ولو كان الخطاب من أحدهما للآخر فظاهر كلام الحاوي الصحة وجرى على ذلك شيخنا في شرح البهجة والمعتمد كما قال شيخي عدم الصحة لأن المتوسط قائم مقام المخاطبة ولم يوجد
نعم إن أجاب المشتري بعد ذلك صح فيما إذا قال البائع نعم دون بعت ولا يشترط في المتوسط التكليف لأن العقد لا يتعلق به
ولو قال اشتريت منك هذا بكذا فقال البائع نعم أو قال بعتك فقال المشتري نعم صح كما ذكره في الروضة في باب النكاح استطرادا وإن خالف في ذلك شيخنا في شرح البهجة وعلل ذلك بأنه لا التماس فلا جواب
ويدل لصحة القبول ب نعم متأخرة عبارة ابن قاضي عجلون في تصحيحه ويمتنع الابتداء ب نعم بناء على صحة القبول بها متأخرة وهو الأصح أه
الأمر الثاني لا بد من إسناده إلى جملته فلا يصح بعته ليدك أو لنصفك وذكر الرافعي في الركن الثاني من كتاب الظهار ضابط ما يصح إسناده إلى الجزء وما لا يصح فقال قال الأصحاب ما يقبل التعليق من التصرفات تصح إضافته إلى بعض محل ذلك التصرف كالطلاق والعتاق وما لا يقبله لا تصح إضافته إلى بعض المحل كالنكاح والرجعة أه
فإن قيل الكفالة لا يصح تعليقها وتصح إضافتها إلى جزء لا يبقى الشخص بدونه كرأسه
أجيب بأن المراد تصح إضافته إلى أي جزء كان وهذا إلى جزء مخصوص
تنبيه اعتبار الصيغة جار حتى في البيع الضمني لكن تقديرا كأن يقال أعتق عبدك عني على كذا ففعل فإنه يعتق عن الطالب ويلزمه العوض كما سيأتي في الكفارة فكأنه قال بعنيه وأعتقه عني وقد أجابه
وسكت المصنف عن صيغة الثمن لوضوح اشتراط أنه لا بد من ذكره وله صيغ منها أن يقول بكذا كما مرت الإشارة إليه وهي الأصل ومنها على أن تعطيني كذا ومنها ولي عليك كذا أو يقول المشتري ولك علي كذا
ومنها بعتك على ألف ونحو ذلك
( ويجوز تقدم لفظ المشتري ) على لفظ البائع لحصول المقصود مع ذلك
ومنع الإمام والقفال تقدم قبلت وهو قضية كلام الشيخين هنا لكن ذكرا في التوكيل في النكاح أنه لو قال وكيل الزوج أولا قبلت نكاح فلانة منك لفلان فقال وكيل الولي زوجتها فلانا جاز وقياسه أنه لو قال قبلت بيع هذا منك بكذا لموكلي أو لنفسي فقال بعتك أنه يصح وهو ظاهر لأن النكاح يحتاط فيه ما لا يحتاط في البيع
( ولو قال ) شخص لآخر بصيغة الأمر ( بعني ) كذا بكذا ( فقال بعتك انعقد )
____________________
(2/4)
البيع ( في الأظهر ) لدلالة بعني على الرضا والثاني لا ينعقد إلا إذا قال المشتري بعد ذلك اشتريت أو قبلت لأنه قد يقول بعني لاستبانة الرغبة ولو قال اشتر مني فقال اشتريت فكما قال بعني فقال بعتك قاله البغوي وصححه في المجموع وإن لم يفهمه عبارة المصنف
ولو قال اشتريت هذا منك بكذا فقال بعتك انعقد إجماعا كما نقله الأذرعي عن شرح الوجيز لابن يونس فلو لم يأت بلفظ الأمربأن أتى بلفظ الماضي أو المضارع كقوله بعتني أو تبيعني فقال بعتك لم ينعقد البيع حتى يقبل بعد ذلك قال الإسنوي والمتجه أن يلحق بصيغة الأمر ما دل عليه كاسم الفاعل والمضارع المقرون بلام الأمر ولا يضر اختلاف اللفظ من الجانبين فلو قال اشتريت منك كذا بكذا فقال البائع ملكتك أو قال له البائع ملكتك فقال اشتريت صح لحصول المقصود بذلك
ويصح البيع بفعلت في جواب بعني وكذا ب نعم في جواب بعت و اشتريت كما مرت الإشارة إليه
ثم ما ذكره المصنف صريح واستغنى عن التصريح به بقوله ( وينعقد ) أي البيع ( بالكناية ) وهي ما تحتمل البيع وغيره مع النية ( كجعلته لك ) أو خذه أو تسلمه أو سلطتك عليه ( بكذا ) ناويا البيع فينعقد بذلك ( في الأصح ) ففي الأصح راجع إلى الإنعقاد بالكناية كما تقرر لا إلى كون جعلته من الكنايات فهذا لا خلاف فيه فلو قال وينعقد بالكناية في الأصح كجعلته لك بكذا كما في المحرر لكان أحسن والثاني لا ينعقد بالكناية لأن المخاطب لا يدري أخوطب ببيع أم غيره
وأجيب بأن ذكر العوض ظاهر في إرادة البيع ومن الكناية باعكه الله بكذا ك أقالك الله بكذا أو رده الله عليك في الإقالة بخلاف أبرأك الله فإنه صريح ك طلقك الله وضابط ذلك أن ما استقل به الشخص وحده كالبراءة كان صريحا ومالا كالبيع فكناية وليس من كناية البيع أبحتك إياه بكذا قال في المجموع لأنه صريح في الإباحة مجانا فلا يكون كناية في غيرها وهذا هو المعتمد وإن نظر فيه بعضهم
واستثنى في المطلب صحة طلاق السكران بالكناية قال بعض المتأخرين وقياسه منع صحة بيعه وشرائه بها أه
والظاهر الصحة في الموضعين وينعقد بالكناية منع النية سائر العقود وإن لم يقبل التعليق فإن توفرت القرائن على إرادة البيع قال الإمام وجب القطع بصحته والنكاح وبيع الوكيل المشروط فيه الإشهاد لا ينعقدان بها لأن الشهود لا يطلعون على النية نعم إن توفرت القرائن عليه في الثانية قال الغزلي فالظاهر انعقاده وأقره عليه في الروضة وهو المعتمد خلافا لما جرى عليه صاحب الأنوار من عدم الصحة والفرق بينه وبين النكاح أن النكاح يحتاط له أكثر
وصورة الشرط أن يقول بع هذا على أن تشهد فإن قال بع واشهد لم يكن الإشهاد شرطا صرح بذلك المرعشي واقتضاه كلام غيره
والكتابة بالبيع ونحوه على نحو لوح أو ورق أو أرض كناية في ذلك فينعقد بها مع النية بخلاف الكتابة على المائع ونحوه كالهواء فإنه لا يكون كناية لأنها لا تثبت
ويشترط القبول من المكتوب إليه حال الإطلاع ليقترن بالإيجاب بقدر الإمكان فإذا قبل فله الخيار ما دام في مجلس قبوله
ويثبت الخيار للكاتب ممتدا إلى أن ينقطع خيار صاحبه حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه في مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع أي لم يستمر وإن كتب بذلك لحاضر صح أيضا في أحد وجهين رجحه الزركشي كالسبكي وهو المعتمد
ولو باع من غائب كأن قال بعت داري لفلان وهو غائب فقبل حين بلغه الخبر صح كما لو كاتبه بل أولى
فرع يصح البيع ونحوه من المعاملات بالعجمية مع القدرة على العربية قطعا وفي النكاح خلاف التعبد والأصح فيه الصحة
( ويشترط أن لا يطول الفصل ) بين الإيجاب والقبول ولو بكتابة أو إشارة أخرس
وقوله ( بين لفظيهما ) مثال ولو عبر بما قدرته كان أولى فإن طال ضر لأن طول الفصل يخرج الثاني عن أن يكون جوابا عن
____________________
(2/5)
الأول والطويل كما قال في زيادة الروضة في النكاح وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول بخلاف الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول
ويضر تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيرا بين الإيجاب والقبول وإن لم يتفرقا عن المجلس لأن فيه إعراضا عن القبول بخلاف اليسير في الخلع
وفرق بأن فيه من جانب الزوج شائبة تعليق ومن جانب الزوجة شائبة جعالة وكل منهما موسع فيه محتمل للجهالة بخلاف البيع
وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ممن يريد أن يتم العقد أو غيره وهو كذلك كما يؤخذ من كلام القاضي حسين
ومن عدهم في باب الخلع والردة من الموجب كلاما يسيرا أي أجنبيا ولأن الموجب تعلقه بالعقد باق ما لم يقع القبول فإنه لو جن أو خرج عن الأهلية لم يصح القبول وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين فشرط أن يكون ذلك من القابل
والمراد بالكلام ما يشمل الكلم والكلمة لا المصطلح عليه عند النحاة
وخرج بالأجنبي غيره فلا يضر وفسر في الأنوار الأجنبي بأن لا يكون من مقتضى العقد ولا من مصالحه ولا من مستحباته قال فلو قال المشتري بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت صح اه
وهذا إنما يأتي على طريقة الرافعي أما على ما صححه المصنف في باب النكاح فهو ليس بمستحب لكنه لا يضر كما في النكاح
ويشترط أيضا أن يكون القبول ممن صدر معه الخطاب فلو مات المخاطب به قبل قبوله فقبل وارثه لم ينعقد وكذا لو قبل وكيله أو موكله كما هو مقتضى كلام الأصحاب وجزم به ابن المقري في شرح إرشاده خلافا للناشري القائل بالصحة في الموكل وأن يصر البادي على ما أتى به من الإيجاب إلى القبول وأن تبقى أهليته كذلك فلو أوجب بمؤجل أو شرط الخيار ثم أسقط الأجل أو الخيار أو جن أو أغمي عليه مثلا لم يصح العقد لضعف الإيجاب وحده
وأن يتلفظ كل منهما بحيث يسمعه من بقربه وإن لم يسمعه صاحبه وأن لا يكون العقد مؤقتا فلو قال بعتكه بكذا شهرا مثلا لم يصح
وأن لا يكون معلقا بما لا يقتضيه العقد فلو قال إن جاء زيد فقد بعتك كذا لم يصح بخلاف ما إذا علق بما يقتضيه العقد كقوله بعتك هذا بكذا إن شئت فقال اشتريت أو قال اشتريت منك هذا بكذا إن شئت فقال بعتك صح
ولا يضر هذا التعليق لأنه تصريح بمقتضى العقد فأشبه ما لو قال إن كان هذا ملكي فقد بعتكه بكذا ولو قال في الجواب شئت لم يصح لأن لفظ المشيئة ليس من ألفاظ التمليك
والظاهر كما قاله بعض المتأخرين أن إن رضيت أو إن أجبت أو إن اخترت أو إن أردت كإن شئت ولو قال بعتك إن قبلت فقبل صح كما صححه الماوردي ولو قال اشتريت منك بكذا فقال بعتك إن شئت لم يصح كما قاله الإمام لاقتضاء التعليق وجود شيء بعده ولم يوجد فلو قال بعده اشتريت أو قبلت لم يصح أيضا إذ يبعد حمل المشيئة على استدعاء القبول وقد سبق فيتعين إرادتها نفسها فيكون تعليقا محضا هو مبطل ولو قال إن شئت بعتكه لم يصح لأن فيه تعليقا لأصل العقد وهو ممتنع
تنبيه يستثنى من اشتراط عدم التعليق مسألة الوكيل في شراء الجارية إذا قال الموكل إن كنت أمرتك بعشرين فقد بعتكها بها وما لو قال إن كان ملكي فقد بعتكه ولو علق بمشيئة الله تعالى فله ثلاث حالات مرت في الوضوء والقياس مجيئها هنا
ولا بد أن يتأخر القبول عن تمام الإيجاب ومصالحه فلو قال بعتك هذا الثوب بألف درهم مؤجلة إلى شهر بشرط خيار الثلاث فقبل قبل أن يفرغ البائع منه بطل كما لو قال زوجتك إبنتي على ألف درهم مؤجلة إلى شهر فقبل قبل الفراغ منه
( وأن يقبل على وفق الإيجاب ) في المعنى كالجنس والنوع والصفة والقدر والحلول والأجل
( فلو قال بعتك ) هذا العد مثلا ( بألف مكسرة فقال قبلت بألف صحيحة ) أو عكسه كما فهم بالأولى أو بعتكه بألف فقبل بألف وخمسمائة أو بألف فقبل بخمسمائة أو قبل بعض البيع أو قبل نصيب أحد البائعين كأن قالا بعناك عبدنا بألف فقبل نصيب أحدهما ( لم يصح ) لاختلاف المعنى
ولو قال المخاطب فيما لو قيل له بعتكه بألف قبلت نصفه بخمسمائة ونصفه الآخر بخمسمائة صح عند المتولي وجزم به ابن المقري وهو المعتمد وإن مال الإسنوي إلى البطلان إذ لا مخالفة بذكر مقتضى الإطلاق
واستشكله الرافعي بأن أوجب له عقدا فقبل عقدين لتعدد الصفقة بتفصيل الثمن
قال
____________________
(2/6)
في المجموع والأمر كما قال الرافعي أي من الإشكال لكن الظاهر أي من حيث النقل الصحة
أما الموافقة لفظا فلا تشترط فلو قال بعتك فقال اشتريت أو نحوه صح ولو قال بعتك هذه الدار مثلا بألف على أن لي صفها صح كما لو قال إلا نصفها
ولا ينعقد البيع بالألفاظ التي بمعنى الهبة ك أعمرتك أو أرقبتك كما جزم به في التعليقة تبعا لأبي علي الطبري فليس بصريح ولا كناية خلافا لبعض المتأخرين وإنما صحت الهبة بهذا اللفظ للنص
ولو قال أسلمت إليك كذا في هذا الثوب مثلا فقبل لم ينعقد بيعا ولا سلما كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى
ولا بد أن يقصد بلفظ البيع معنى البيع كما في نظيره في الطلاق فلو لم يقصده أصلا كمن سبق لسانه إليه أو قصده لا لمعناه كمن لقن أعجميا ما لا يعرف مدلوله لم ينعقد نعم إن قصد البيع أو غيره هازلا صح كما في الطلاق
( وإشارة الأخرس ) وكتابته ( بالعقد كالنطق ) للضرورة لأن ذلك يدل على ما في فؤاده كما يدل عليه النطق من الناطق
ولا حاجة إلى قوله من زيادته بالعقد بل قال السبكي إنها مضرة لأن الفسخ والدعاوى والأقارير ونحو ذلك كذلك ولكن احترز به عن إشارته في الصلاة وبالشهادة وفيما إذا حلف لا يتكلم أو حلف عليه فليس لها حكم النطق
وأعاد المصنف هذه المسألة في الطلاق وضم الحلي إلى العقد وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى أن إشارته إن فهمها الفطن وغيره فصريحة أو الفطن فقط فكناية
تنبيه قال بعض المتأخرين ويحتاج المصنف أن يزيد فيه فيقول كالنطق فيه وإلا يلزمه أن يكون قبول الأخرس البيع في الصلاة كقبول النطق فتبطل صلاته
ثم شرع في الركن الثاني وهو العاقد وقدمه على المعقود عليه لتقدم الفاعل على المفعول طبعا فقال ( وشرط العاقد ) بائعا أو مشتريا ( الرشد ) وهو أن يتصف بالبلوغ والصلاح لدينه وماله فلا يصح من صبي وإن قصد اختباره ولا من مجنون ولا من محجور عليه بسفه ولو بغبطة وإنما صح بيع العبد من نفسه لأن مقصوده العتق
تنبيه قال المصنف في دقائقه إن عبارته أصوب من قول المحرر يعتبر في المتبايعين التكليف لأنه يرد عليه ثلاثة أشياء أحدها أن ينتقض بالسكران فإنه يصح بيعه على المذهب مع أنه غير مكلف كما تقرر في كتب الأصول
الثاني أنه يرد عليه المحجور عليه بسفه فإنه لا يصح بيعه مع أنه مكلف
والثالث المكره بغير حق فإنه مكلف ولا يصح بيعه قال ولا يرد واحد منها على المنهاج اه
بل ولا على المحرر
أما السكران ففي كونه مكلفا خلاف وقد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أنه مكلف فقال وهذا أي السكران آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم اه
وسيأتي تحريره في الطلاق إن شاء الله تعالى
وأما السفيه والمكره فلأن معنى قوله ويعتبر في المتبايعين التكليف أنه لا بد في كل بيع منه وهو صحيح ولا يلزم عكسه وهو اعتبار بيع كل مكلف ولكن التعرض لهما أحسن لكن لا يردان على المحرر
واعترض عليه بأمور كما يدين الشخص يدان أحدها أن تعبيره يخرج السكران أيضا كما أخرجه قيد التكليف عند الأصوليين إلا أن يفرض في سكر لا يخرجه عن الرشد لجهل أو إكراه وهو نادر
ثانيها أن يرد عليه الفاسق فإن بيعه صحيح وليس برشيد إذ الرشد صلاح الدين والمال
وثالثها أنه يرد عليه أيضا من طرأ سفهه بعد فك الحجر عنه فإنه لا بد من إعادة الحجر عليه فإذا باع قبل إعادة الحجر عليه صح مع أنه ليس برشيد
ورابعها أن عبارته تتناول الصبي كما قال بعضهم فإنه وصفه بالرشد في قوله في الصيام أو صبيان رشداء
وخامسها الأعمى لا يصح بيعه ولا شراؤه كما سيأتي آخر الباب مع أنه رشيد ولو عبر بمطلق التصرف لسلم من ذلك
( قلت وعدم الإكراه بغير حق ) فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق لقوله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }
ولا أثر لقول المكره بغير حق إلا في الصلاة فتبطل به في الأصح ولا لفعله إلا في الرضاع والحدث والتحول عن القبلة وترك القيام في الفريضة مع القدرة وكذا القتل ونحوه في الأصح وكل هذا يأتي في باب الطلاق إن شاء الله تعالى
ويرد على الأول ما لو أكرهه على طلاق زوجة نفسه أو بيع ماله أو عتق عبده وما أشبه ذلك فإنه ينفذ وعلى الثاني ما لو أكره على إتلاف مال الغير أو أكله أو تسليم الوديعة فإنه يضمن الجميع وما لو أكره مجوسي مسلما على ذبح شاة أو محرم حلالا على ذبح صيد فذبحه فإنه يحل وما لو أكرهه على غسل ميت لم يتوجه عليه غسله فإنه يصح وما لو أكره على وطء زوجته أو أمته
____________________
(2/7)
فأحبلها فإنه يصح ويستقر للزوجة به المهر وللأمة أمية الولد وحلت الزوجة للمطلق ثلاثا وما لو حضر المحرم عرفة مكرها فإنه يصح وقوفه
أما الإكراه بحق فيصح إقامة لرضا الشرع مقام رضاه وصوره في الروضة بمن توجه عليه دين وامتنع من الوقاء والبيع فإن شاء القاضي باع ماله بغير إذنه لوفاء دينه وإن شاء عزره وحبسه إلى أن يبيعه
قال السبكي وكان بعض مشايخنا يصوره بمن أمر عبده بالبيع فامتنع فأكرهه فإنه يصح لأنه من الاستخدام الواجب
وصوره بعضهم بما إذا أسلم عبد لكافر محجور عليه فإن الحاكم يجبر الولي على بيعه
قال الإسنوي ومن صوره ما إذا أذن شخص لعبد غيره في بيع ماله قال فللسيد إكراهه على بيعه
ويصح بيع المصادر بفتح الدال من جهة ظالم بأن باع ماله لدفع الأذى الذي ناله لأنه لا إكراه فيه إذ مقصود من صادر تحصيل المال من أي وجه كان
فروع لو أتلف الصبي أو تلف عنده ما ابتاع أو ما اقترض من رشيد وأقبضه له لم يضمن لأن المقبض هو المضيع لماله
هذا في الظاهر أما في الباطن فيغرم بعد البلوغ كما نص عليه في الأم في باب الإقرار
أو من صبي مثله ولم يأذن الوليان ضمن كل منهما ما قبض من الآخر وإن كان ذلك بإذن الوليين فالضمان عليهما فقط لوجود التسليط منهما وعلى البائع للصبي رد الثمن إلى وليه فلو رده إلى الصبي ولو بإذن الولي وهو ملك الصبي لم يبرأ منه أو للولي برىء منه
ومحل عدم الإبراء بالدفع للصبي بإذن وليه كما قال الزركشي ما إذا لم يكن في مصلحة تتعلق ببدنه من مأكل ومشرب ونحوهما وإلا برىء
ولو قال شخص لآخر له عنده وديعة سلم وديعتي إلى الصبي أو ألقها في البحر ففعل برىء لأنه امتثل أمره في حقه المتعين بخلاف ما لو قال ذلك لمن له عليه دين فإنه لا يبرأ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح
ولو أعطى صبي دينارا لنقاد ينقده أو متاعا لمقوم يقومه ضمن من أخذه إن لم يرده لوليه إن كان للصبي أو لمالكه إن كان لغيره
ولو أوصل صبي هدية إلى غيره وقال هي من زيد مثلا أو أخبر بالإذن بالدخول عمل بخبره مع ما يفيد العلم أو الظن من قرينة أو من قوله لاعتماد السلف عليه في ذلك حينئذ وكالصبي في ذلك الفاسق كما نقله في المجموع عن الأصحاب
( ولا يصح شراء الكافر ) ولو مرتدا لنفسه أو لمثله ( المصحف ) كله أو بعضه ولا يتملكه بسلم ولا بهبة ولا وصية ولا كتب حديث ولا آثار سلف ولا كتب فقه فيها شيء من الثلاثة لما في ذلك من الإهانة لها
قال الأذرعي في القوت والمراد بآثار السلف حكايات الصالحين لما في ذلك من الإهانة والاستهزاء بهم
قال السبكي والأحسن أن يقال كتب علم وإن خلت عن الآثار تعظيما للعلم الشرعي اه
وهذا لا بأس به
قال ابنه وتعليله يفيد جواز تملكه كتب علوم غير شرعية وينبغي منعه من تملك ما يتعلق منها بالشرع ككتب النحو واللغة
قال شيخنا وفيما قاله نظر أي بل الظاهر الجواز وهو كذلك
ولو نسخ الكافر مصحفا أو أي شيء مما ذكر من كتب الحديث أمر بإزالة الملك عنه
قال ابن عبد السلام ولا يمكن الكافر من تجليد المصحف اه
ولا يسلم إليه ولو رجا إسلامه بخلاف تمكينه من القراءة لما في تمكينه من الإهانة اه
وقد عمت البلوى بتملك أهل الذمة الدراهم والدنانير وعليها الآيات من القرآن ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف
قال بعض المتأخرين وكأنه سومح في ذلك للحاجة
( و ) لا يصح شراء الكافر العبد ( المسلم ) لنفسه ولا لمثله لما فيه من إذلال المسلم ولقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }
وقوله ( في الأظهر ) ظاهره أنه راجع للمسألتين وهو صحيح في شراء المسلم وأما في المصحف فلا بل الأصح فيه وفيما ذكر معه في الشرحين والروضة والتهذيب القطع بالبطلان
وفرق الشافعي في الأم برجاء العتق والرافعي بأن العبد يمكنه الاستغاثة ودفع الذل عن نفسه ومقابله يصح ذلك ويؤمر بإزالة الملك
أما لو اشترى ما ذكر الكافر لمسلم فإنه يصح لانتفاء المحذور ويفارق منع إنابة المسلم كافرا في قبول نكاح مسلمة باختصاص النكاح بالتعبد لحرمة الإبضاع وبأن الكافر لا يتصور نكاحه لمسلمة بخلاف ملكه لمسلم كما سيأتي
ولا يتملك الكافر مرتدا كما صححه في المجموع لبقاء علقة الإسلام ولا شراء المسلم العبد المسلم الوكالة لكافر قاله في الروضة
والمصحف وما ذكر معه كالعبد المسلم في ذلك
____________________
(2/8)
( إلا أن يعتق عليه ) وذلك في ثلاث صور الأولى إذا كان المبيع أصلا أو فرعا للمشتري
الثانية إذا قال أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغيره وأجابه
الثالثة إذا أقر بحرية عبد مسلم ثم اشتراه قاله الإسنوي
لكن الصحيح في هذه الثالثة أنه افتداه من جهة المشتري لا شراءه
( فيصح ) بالرفع أي فإنه يصح شراؤه ويملكه في هذه الصور المذكورة ( في الأصح ) لأنه يستعقب العتق فلا إذلال
وإنما قيدت كلام المصنف بالرفع تبعا للشارح ليكون مستأنفا إذ لو كان منصوبا لكان من دخول الاستثناء فيلزم استثناء الشيء من نقيضه أي يلزم استثناء الصحة من عدم الصحة وهو فاسد
والثاني لا يصح إذ لا يخلو عن إذلال
وللكافر استئجار العبد المسلم ولو إجارة عين وله استئجار مصحف ونحوه إذ لا يثبت له على شيء منها تسلط تام وإنما يستوفي منفعته بعوض وقد أجر علي رضي الله تعالى عنه نفسه لكافر
ومحله كما قال الزركشي في غير الأعمال الممتهنة أما فيها كإزالة قاذوراته فتمتنع قطعا
ويؤمر في إجارة العين بإجارته لمسلم كما في المجموع ليزيل ملكه عن المنفعة كما يزيل ملكه عن الرقبة كما سيأتي بخلاف إجارة الذمة لأن الأجير فيها يمكنه تحصيل العمل بغيره
وله ارتهانه وارتهان المصحف وما ألحق به لأنه مجرد استيثاق قال ابن المقري وترفع يده عنهما فيوضعان عند عدل
وقضيته أنه يتسلمهما أولا وقضية كلام الروضة أنه لا يمكن من ذلك بل يسلم أولا للعدل
قال الأذرعي ويحتمل أن يقال ويسلم إليه الرقيق ثم ينزع منه حالا إذ لا محذور كما في إيداعه منه بخلاف المصحف فإنه محدث مكلف فلا يسلم إليه
وهذا كما قال شيخنا متجه
وينبغي أن يكون غير المصحف مما ألحق به كالعبد أخذا من العلة
ولا يصح شراء الكافر رقيقا مسلما بشرط الإعتاق لأنه لا يستعقب العتق ولو أسلم رقيق الكافر أمر بإزالة الملك عنه ببيع أو هبة أو عتق أو وقف أو نحو ذلك دفعا للإهانة والإذلال وقطعا لسلطنة الكافر على المسلم
ولا يحكم بزوال ملكه ما لو أسلمت الزوجة تحت كافر إذ ملك النكاح لا يقبل النكاح فتعين البطلان بخلاف ملك اليمين ولا يكفي رهنه ولا إجارته ولا تزويجه ولا تدبيره ونحو ذلك لأنها لا تفيد الاستقلال وهل المراد أن ذلك لا يصح أو يصح لكنه لا يكفي قال الزركشي فيه نظر والأقرب الأول
ولا يكفي وقفه على ذمي على المتجه ويكفي كتابته وإن لم يزل بها الملك لإفادتها الاستقلال
مهمة يدخل المسلم في ملك الكافر ابتداء في أربعين صورة وها أنا أسردها لك تتميما للفائدة الأولى والثانية من صور استعقاب العتق المذكورات
الثالثة الإرث كأن يموت كافر عن ابن كافر ويخلف في تركته عبدا مسلما
الرابعة الرد بالعيب
الخامسة الإفلاس
السادسة الإقالة
السابعة أن يرجع إليه بتلف مقابله قبل القبض وفي معناه ما إذا أتلفه متلف فإنا نخير البائع فإذا اختار الفسخ عاد العبد إلى ملكه
الثامنة أن يبيعه بثوب ثم يجد بالثوب عيبا فيرده
التاسعة إذا تبايع كافران عبدا كافرا فأسلم قبل القبض تخير المشتري فإن فسخ دخل في ملك البائع
العاشرة إذا باع كافر مسلما لمسلم بشرط الخيار للمشتري ففسخ
الحادية عشر تبايع كافران كافرا بشرط الخيار للبائع فأسلم فيدخل في ملك المشتري بانقضاء خيار البائع
الثانية عشر أن يرده لفوات شرط كالكتابة والخياطة
الثالثة عشر اشترى ثمرة بعبد كافر فأسلم ثم اختلطت وفسخ
الرابعة عشر باع كافر عبدا مغصوبا لقادر على انتزاعه فعجز قبل قبضه فله الفسخ وكذا لو باعه فغصب قبل القبض
الخامسة عشر إذا باعه لمسلم رآه قبل العقد ثم وجده متغيرا فله الفسخ
السادسة عشر باعه لمسلم ماله في مسافة بمسافة القصر فللكافر الفسخ
السابعة عشر باعه بصبرة طعام فظهر تحتها دكة فله الفسخ
الثامنة عشر جعله رأس مال سلم فانقطع المسلم فيه فله الفسخ
التاسعة عشر أقرضه فأسلم في يد المقترض جاز للمقرض الرجوع
المتممة عشرين ورث عبدا مسلما أو كافرا فأسلم ثم باعه فظهر دين على التركة ولم يقض فيفسخ البيع ويعود إلى ملكه متعلقا به الدين
الحادية والعشرون وكل كافر في شراء كافر فاشتراه ثم أسلم وظهر أنه معيب وأخر الوكيل الرد فإنه يقع عن الوكيل
الثانية والعشرون اشترى عامل القراض الكافر عبدا للقراض ثم اقتسما بعد إسلامهم
الثالثة والعشرون أن يجعله أجرة أو جعلا ثم يقتضي الحال الفسخ
الرابعة والعشرون الفسخ بالتحالف
الخامسة والعشرون أن يصدق الكافر زوجته عبدا كافرا فيسلم ثم يرجع كله أو بعضه
____________________
(2/9)
إلى الزوج بطلاق أو فسخ
السادسة والعشرون أن يلتقط المتلقط محكوما بكفره بشرطه إما لعدم تمييزه أو وقت نهب وغارة فأسلم ثم أثبت كافر أنه ملكه فإنه يرجع فيه لأن تملك الالتقاط كالتملك بالقرض
السابعة والعشرون أن يقف على كافر أمة كافرة فتسلم ثم تأتي بولد فهو مسلم يملكه الموقوف عليه
الثامنة والعشرون أن يوصي لكافر بما تحمله أمته من زوجها الكافر فيقبل ثم تسلم الجارية وتأتي بولد
التاسعة والعشرون أن يخالع الكافر زوجته الكافرة على عبد كافر فيسلم ثم يقتضي الحال فسخ الخلع بعيب أو فوات شرط
المتممة ثلاثين أن يتزوج كتابي أمة كافرة لكتابي ثم تسلم وتأتي بولد فإنه يكون مسلما مملوكا لسيدها
الحادية والثلاثون إذا أولد كافر أمة مسلمة لولده كلها أو بعضها انتقلت إليه وصارت مستولدة له
الثانية والثلاثون إذا وطىء مسلم أمة كافرة ظانا أنها زوجته الأمة فالولد مسلم مملوك للكافر
الثالثة والثلاثون إذا أسلم عبد لكافر بعد أن جنى جناية توجب ما لا يتعلق برقبته وباعه بعد اختيار الفداء فتعذر تحصيل الفداء أو تأخر لإفلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس فينفسخ البيع فيعود إلى ملكه ثم يباع في الجناية
الرابعة والثلاثون أن يكاتب الكافر عبدا مسلما أو كافرا فيسلم ثم يشتري المكاتب عبدا مسلما أو تأتي أمته المسلمة بولد من نكاح أو زنا ثم يعجز نفسه ويفسخ الكتابة فيدخل الولد أو العبد في ملك الكافر
الخامسة والثلاثون إذا حضر الكفار الجهاد بإذن الإمام وكانت الغنيمة أطفالا ونساء وعبيدا وأسلموا بالاستقلال أو التبعية ثم اختار الغانمون التملك كان للإمام أن يرضخ للكافر مما وجد لتقدم سبب الاستحقاق
السادسة والثلاثون أن يكون بين كافرين أو كافر ومسلم عبيد مسلمون أو بعضهم واقتسموا
السابعة والثلاثون أن يعتق الكافر نصيبه من عبد مسلم فإن الباقي يدخل في ملكه ويقوم عليه كما نقله في المجموع في البيع عن البغوي وأقره
الثامنة والثلاثون إذا وهبه لفرعه فأسلم في يده فله الرجوع فيه
التاسعة والثلاثون إذا أقر بحرية مسلم في يد غيره ثم اشتراه كما ذكر ههنا وإن كان ذلك في الحقيقة اقتداء
المتممة أربعين أن تسلم مستولدة الكافر ثم تأتي بولد من نكاح أو زنا فإنه يكون مسلما مملوكا له ويثبت له حكم أمه
والشامل لجميع هذه الصور ثلاثة أسباب الأول الملك القهري
الثاني ما يفيد الفسخ
الثالث ما يستعقب العتق فاستفد ذلك فإنه ضابط مهم
( ولا ) يصح شراء ( الحربي سلاحا ) كسيف ورمح أو وغيره من عدة الحرب كدرع وترس ( والله أعلم ) لأنه يستعين بذلك على قتالنا بخلاف الذمي في دارنا فإنه في قبضتنا وبخلاف عدة غير الحرب ولو مما يتأتى منه كالحديد إذ لا يتعين جعله عدة حرب فإن غلب عن الظن أنه يعمله سلاحا كان كبيع العنب لعاصر الخمر وسيأتي في المناهي
أما الذمي في دار الحرب فهو كالحربي ومقتضى كلام المصنف أن المستأمن كالذمي والأوجه كما قاله الإسنوي إنه كالحربي
تنبيه صرحوا في صلاة الخوف بأن الترس والدرع ليسا من السلاح وهو مقتضى قولهم في السلب كدرع وسلاح ولذا قلت أو غيره ومثلت بذلك لكن كلام الإمام يقتضي أنه منه فإنه استدل على بيع السلاح ورهنه من الذمي بأنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهون عند يهودي فدل على أنه يسمى سلاحا ولعله إنما سماه سلاحا لأن أهل الحرب يستعينون به على قتالنا كما مر
ويمتنع شراء الحربي الخيل أيضا كما نقل عن النص وغيره
ثم شرع في الركن الثالث وهو المبيع ثمنا أو مثمنا ذاكرا لشروطه فقال ( وللمبيع شروط ) خمسة كما قاله في الروضة وسيذكرها المصنف وزاد البارزي على ذلك الرؤية
قال الولي العراقي والتحقيق أن اشتراط الرؤية داخل في اشتراط العلم فإنه لا يحصل بدون رؤية ولو وصف فوراء الوصف أمور تضيق عنها العبارة
فإن قيل يشترط في الربويات شروط أخر زيادة على ذلك
أجيب بأن الكلام في غيرها فإن تلك لها باب يخصها
فإن قيل يرد على ذلك حريم الملك فإنه
____________________
(2/10)
لا يصح بيعه وحده مع وجود الشروط
أجيب بأنه إن أمكن إحداث حريم للملك فالوجه الصحة وإلا فالمنع راجع إلى عدم قدرة تسليمه كبيع بعض معين ينقص بالقطع
قال السبكي والذي يتحرر من الشروط الملك والمنفعة فلا يشترط له غيرهما وأما اشتراط الطهارة فمستفاد من الملك لأن النجس غير مملوك وأما القدرة على التسليم والعلم به فشرط في العاقد وكذا كون الملك لمن له العقد
ثم شرع المصنف في بيان الخمسة فقال أحدها ( طهارة عينه فلا يصح بيع ) نجس العين سواء أمكن تطهيره بالاستحالة كجلد الميتة أم لا كالسرجين و ( الكلب ) ولو معلما ( والخمر ) ولو محترمة لخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وقال إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير وقيس بها ما في معناها
( و ) لا بيع ( المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن ) والصبغ والآجر المعجون بالزبل لأنه في معنى نجس العين
أما ما يمكن تطهيره كالثوب المتنجس والآجر المعجون بمائع نجس فإنه يصح بيعه لإمكان طهره
( وكذا الدهن ) كالزيت إذ لا يمكن تطهيره ( في الأصح ) لأنه لو أمكن لما أمر بإراقة السمن فيما روى ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه
والثاني يمكن تطهيره بغسله بأن يوضع على قلتي ماء أو يصب عليه ماء يغمره ثم يحرك حتى يصل إلى جميع أجزائه
وهذه المسألة مكررة في كلام المصنف فإنه ذكرها في باب النجاسات
وظاهر كلامه صحة بيعه إذا قلنا أنه يطهر بالغسل وهو وجه والأصح المنع لخبر الفأرة المتقدم ويشكل الفرق بينه وبين الثوب المتنجس حيث صح بيعه قطعا
قال الرافعي ويجري الوجهان في بيع الماء المتنجس ومقتضاه المنع وبه صرح في المجموع
قال الإسنوي ويلزم من منع بيع الآجر فساد بيع الدار المبنية به
وأجيب بأن البناء إنما يدخل في بيع الدار تبعا للطاهر منها كالحجر والخشب فاغتفر فيه ذلك لأنه من مصالحها كالحيوان يصح بيعه وبباطنه النجاسة وينزل كلامهم على بيع الآجر منفردا
وفي هذا الجواب نظر كما قاله بعض المتأخرين والأولى أن يقال صح بيعها للحاجة ويطرد ذلك في الأرض المسمدة بالنجاسة فإنه لا يمكن تطهيرها إلا بإزالة ما وصل إليه السماد والطاهر منها غير مرئي
قال الأذرعي والإجماع الفعلي على صحة بيعها
ولو تصدق بدهن نجس لنحو استصباح به على إرادة نقل اليد جاز وكالتصدق الهبة والوصية ونحوهما وكالدهن السرجين والكلب ونحوهما
فائدة سئل السبكي عن الوشم النجس الذي لا يمكن زواله من اليد هل يمنع صحة البيع كالأعيان التي لا يمكن تطهيرها فقال الذي أراه القطع بصحة البيع وأن الوشم النجس لا يمنع من ذلك
تنبيه ظاهر كلام المصنف أن امتناع بيع ما لا يمكن تطهيره مفرع على اشتراط طهارة العين وليس مرادا فإنه طاهر العين ومع ذلك لا يصح بيعه لذلك قال في الحاوي طاهر أو يطهر بالغسل فلم يعتبر طهارة عينه وإنما اعتبر أن لا يكون نجسا نجاسة لا تطهر بالغسل
فروع يصح بيع فأرة المسك بناء على طهارتها وهو الأصح وبيع القز وفيه الدود ولو ميتا لأن بقاءه فيه من مصلحته كبيع الحيوان وفي باطنه النجاسة ويباع جزافا ووزنا كما صرح به في الروضة وغيرها والدود فيه كنوى التمر
وظاهر أنه لا فرق في صحته بالوزن بين أن يكون في الذمة أو لا وهو كذلك وإن خالف في الكفاية
ويجوز اقتناء السرجين وتربية الزرع به لكن مع الكراهة
ويجوز اقتناء الكلب لمن يصيد به أو يحفظ به نحو ماشية كزرع ودرب وتربية الجرو الذي يتوقع تعليمه لذلك ولا يجوز اقتناؤه لغير مالك ماشية ليحفظها به إذا ملكها ولا لغير صياد ليصطاد به إذا أراد كما صرح به في الروضة والمجموع
ولا يجوز اقتناء الخنزير مطلقا ويجوز اقتناء الفهد كالقرد والفيل وغيرهما
الشرط ( الثاني ) من شروط المبيع ( النفع ) أي الانتفاع به شرعا ولو في المآل كالجحش الصغير ( فلا يصح بيع ) ما لا نفع فيه لأنه لا يعد مالا فأخذ المال في مقابلته ممتنع للنهي عن إضاعة المال
وعدم منفعته إما لخسته ك ( الحشرات ) التي
____________________
(2/11)
لا نفع فيها جمع حشرة بفتح الشين وهي صغار دواب الأرض كالخنفساء والحية والعقرب والفأرة والنمل ولا عبرة بما يذكر من منافعها في الخواص
( و ) لا بيع ( كل سبع ) أو طير ( لا ينفع ) كالأسد والذئب والحدأة والغراب غير المأكول
ولا نظر لمنفعة الجلد بعد الموت ولا لمنفعة الريش في النبل ولا لاقتناء الملوك لبعضها للهيبة والسياسة أما ما ينفع من ذلك كالفهد للصيد والفيل للقتال والقرد للحراسة والنحل للعسل والعندليب للأنس بصوته والطاووس للأنس بلونه والعلق لامتصاص الدم فيصح وكذا يصح بيع الرقيق الزمن لأنه يتقرب بعتقه بخلاف الحمار الزمن ولا أثر لمنفعة جلده إذا مات
وإما لقلته كما قال ( ولا ) بيع ( حبتي الحنطة ونحوها ) كحبتي الشعير والزبيب
ولا أثر لضم ذلك إلى أمثاله أو وضعه في فخ ومع هذا يحرم غصبه ويجب رده ولا ضمان فيه إن تلف إذ لا مالية وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أنه يجوز أخذ الخلال والخلالين من خشب الغير يحمل على علمه برضا مالكه
ويحرم بيع السم إن قتل كثيره وقليله فإن نفع قليله وقتل كثيره كالسقمونيا والأفيون جاز بيعه
( و ) لا بيع ( آلة اللهو ) المحرمة كالطنبور والصنج والمزمار والرباب والعود وكذا الأصنام والصور وإن اتخذت المذكورات من نقد إذ لا نفع بها شرعا
( وقيل يصح ) البيع ( في الآلة ) أي ما ذكر معها ( إن عد رضاضها ) وهو بضم الراء وكسرها ( مالا ) لأن فيها نفعا متوقعا كالجحش الصغير ورد بأنها على هيئتها لا يقصد منها غير المعصية
ولا يصح بيع النرد إلا إن صلح بيادق للشطرنج فيصح مع الكراهة كبيع الشطرنج
ويصح بيع آنية الذهب والفضة لأنهما المقصودان ولا يشكل بما مر من منع بيع آلات الملاهي والصور المتخذة منهما لأن آنيتهما يباح استعمالها للحاجة بخلاف تلك
والصليب من النقد قال الإسنوي هل يلحق بالأواني أو بالصنم ونحوه فيه نظر اه
والأوجه أنه ملحق بالصنم كما جرى عليه بعض المتأخرين
ويصح بيع جارية الغناء وكبش النطاح وديك الهراش ولو زاد الثمن لذلك قصد أو لا لأن المقصود أصالة الحيوان
ويصح بيع الأطباق والثياب والفرش المصورة بصور الحيوان
ولا يصح بيع مسكن بلا ممر بأن لم يكن له ممر أو له ممر ونفاه في بيعه لتعذر الانتفاع به وسواء أتمكن المشتري من اتخاذ ممر إلى شارع أو ملكه أم لا كما عليه الأكثرون وإن شرط البغوي عدم تمكنه من ذلك
فإن قيل قد صرح في الروضة بأنه لو باع دارا واستثنى بيتا منها ونفى الممر فإنه يصح إن أمكنه اتخاذ ممر وإلا فلا فقياسه أن يكون هنا كذلك
أجيب بأنه يغتفر في الدوام وهو هنا دوام الملك ما لا يغتفر في الابتداء
ولا يصح بيع كتب الكفر والسحر والتنجيم والشعبثة والفلسفة كما جزم به في المجموع
قال بل يجب إتلافها لتحريم الاشتغال بها
( ويصح بيع الماء على الشط ) والحجر عند الجبل ( والتراب بالصحراء ) ممن حازها ( في الأصح ) لظهور المنفعة فيها
ولا يقدح في ذلك ما قاله الثاني من إمكان تحصيل مثلها بلا تعب ولا مؤنة
تنبيه الشط من زيادة المصنف على المحرر وهو جانب الوادي والنهر كما في الصحاح
وقضية كلامه أنه إذا لم يكن عليه أنه يصح قطعا وليس مرادا بل فيه وجه بناء على أن الماء لا يملك
ويصح بيع لبن الآدميات لأنه طاهر منتفع به فأشبه لبن الشياه ومثله لبن الآدميين بناء على طهارته وهو المعتمد كما مر في باب النجاسة
ويصح بيع نصف دار شائع بنصفها الآخر على الأصح وفائدته عدم رجوع الوالد فيما وهبه لولده وعدم رجوع البائع في عين ماله عند فلس المشتري
الشرط ( الثالث ) من شروط المبيع ( إمكان تسليمه ) في بيع غير ضمني بأن يقدر عليه حسا أو شرعا ليوثق بحصول العوض وليخرج عن بيع الغرر المنهي عنه في مسلم قال الماوردي والغرر ما تردد بين متضادين أغلبهما أخوقهما وقيل ما انطوت عنا عاقبته
ولا يشترط في الحكم بالبطلان اليأس من التسليم بل ظهور التعذر كاف وقد يصح مع عجزه عن التسليم لكون المشتري قادرا على التسلم كما سيأتي في المغصوب وككون المبيع ضمنيا كما ذكره الشيخان في كفارة الظهار
قال الزركشي ومثله من يحكم بعتقه على المشتري
____________________
(2/12)
تنبيه قد جرت عادة المصنف رحمه الله تعالى أن يذكر أولا محل الاتفاق ثم يذكر المختلف فيه فإمكان تسليمه يصح بالاتفاق وإمكان تسلمه يصح على الصحيح فإذن لا اعتراض لكن كان الأولى أن يعبر بالقدرة بدل الإمكان كما عبر بها في المجموع إذ لا يلزم من ثبوت إمكانه ونفي الاستحالة عند القدرة عليه
ويستثنى من ذلك ما لو باع بنقد يعز وجوده فإنه يصح بناء على جواز الاستبدال عن الثمن وهو الأصح ثم عند التسليم إن وجد فذاك وإلا فيستبدل
وإذا علم اعتبار قدرة التسليم ( فلا يصح بيع ) ما يتعذر تسليمه كالطير في الهواء وإن تعود العود إلى محله لما فيه من الغرر ولأنه لا يوثق به لعدم عقله وبهذا فارق صحة بيع العبد المرسل في حاجة
نعم يصح بيع النحل الموثقة أمه وهي يعسوبه وهو أميره بأن يكون في الكوارة وهي بضم الكاف وفتحها مع تشديد الواو فيهما ومع تخفيفها في الأولى الخلية وهي بيت يعمل للنحل من عيدان كما قاله في المحكم وقال في الصحاح هو العسل في شمعه ولا معنى له هنا وحكي أيضا كسر الكاف مع تخفيف الواو
وفارق بقية الطيور بأنه لا يقصد بالجوارح وبأنه لا يأكل عادة إلا مما يرعاه فلو توقف صحة بيعه على حبسه لربما أضر به
أو تعذر بيعه بخلاف بقية الطيور والناد ( والضال ) والرقيق المنقطع خبره ( والآبق والمغصوب ) من غير غاصبه للعجز عن تسليم ذلك حالا
فائدة الضال لا يقع إلا على الحيوان إنسانا كان وغيره وأما الآبق فقال الثعالبي لا يقال للعبد آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل وإلا فهو هارب
قال الأذرعي لكن الفقهاء يطلقونه عليهما
( فإن باعه ) أي المغصوب ( لقادر على انتزاعه ) دونه أو الآبق لقادر على رده دونه ( صح على الصحيح ) نظرا إلى وصوله إليهما إلا إن احتاجت قدرته إلى مؤنة فالظاهر البطلان كما قاله في المطلب
والثاني لا يصح لأن التسليم واجب على البائع وهو عاجز عنه أما إذا كان البائع قادرا على انتزاعه أو رده فإنه يصح بلا خلاف كما علم مما مر
قال في المطلب إلا إذا كان فيه تعب شديد فينبغي أن يأتي فيه ما في بيع السمك في البركة أي وشق تحصيله فيها والأصح عدم الصحة
فإن قيل منع بيع الضال والآبق والمغصوب مشكل لأن إعتاقهم جائز وقد صرحوا بأن العبد إذا لم يكن في شرائه منفعة إلا حصول الثواب بالعتق كالعبد الزمن صح بيعه وإعتاق المبيع قبل قبضه صحيح ويكون قبضا فلم لا يصح بيع هؤلاء إذا كانوا زمناء بل مطلقا لوجود منفعة من المنافع التي يصح لها الشراء
أجيب بأن الزمن ليس فيه منفعة قد حيل بين المشتري وبينها بخلاف المغصوب ونحوه وقضيته أنه إذا لم يكن لهم منفعة سوى العتق يصح بيعهم والظاهر أنه لا يصح مطلقا
وقول الكافي يصح بيع العبد التائه لأنه يمكن الانتفاع بإعتاقه في التقرب إلى الله تعالى بخلاف الحمار التائه ممنوع
ولا يصح بيع سمك في ماء ولو في بركة إن شق تحصيله منها لعدم قدرته على تسليمه فإن سهل تحصيله ولم يمنع الماء رؤيته صح وبرج الطائر كالبركة للسمك
وتصح كتابة الآبق وكذا المغصوب إن تمكن من التصرف كما يصح تزويجهما وعتقهما وإن انتفت القدرة على التسليم
( ولا يصح بيع نصف ) مثلا ( معين من الإناء والسيف ونحوهما ) كثوب نفيس تنقص بقطعه قيمته للعجز عن تسليم ذلك شرعا لأن التسليم فيه لا يمكن إلا بالكسر أو القطع وفيه نقص وتضييع مال وهو حرام وفرقوا بينه وبين بيع ما قالوه من صحة بيع ذراع من أرض بأن التمييز فيها يحصل بنصب علامة بين الملكين بلا ضرر
فإن قيل قد تتضيق مرافق الأرض بالعلامة وتنقص القيمة فينبغي إلحاقها بالثوب
أجيب بأن النقص فيها يمكن تداركه بخلافه في الثوب
قال في المجموع وطريق من أراد شراء ذراع معين من ثوب نفيس أن يواطىء صاحبه على شرائه ثم يقطعه قبل الشراء ثم يشتريه فيصح بلا خلاف وظاهره أنه لا يحرم القطع ووجهه أنه حل لطريق البيع فاحتمل للحاجة ولا حاجة إلى تأخيره عن البيع
وأولى من ذلك كما قال الزركشي أن يشتريه مشاعا ثم يقطعه لأن بيع الجزء المشاع جائز مطلقا ويصير الجميع مشتركا
ولا يصح بيع جذع معين في بناء لأن الهدم يوجب النقص ولا بيع بعض معين من جدار إذا
____________________
(2/13)
كان فوقه شيء أو كان الجدار قطعة واحدة من نحو طين كخشب لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما فوقه في الأولى وهدم شيء منه في الثانية وكذا إذا كان الجدار من لبن أو آجر ولا شيء فوقه وجعلت النهاية نصف سمك اللبن أو الآجر فإن جعلت النهاية صفا من صفوفهما صح
فإن قيل هذا مشكل لأن موضع الشق قطعة واحدة من طين أو غيره ولأن رفع بعض الجدار ينقص قيمة الباقي فيفسد البيع كبيع جذع في بناء
أجيب عن الأول بأن الغالب أن الطين الذي بين اللبنات لا قيمة له وعن الثاني بأن نقص القيمة من جهة انفراده فقط وهو لا يؤثر بخلاف الجذع فإن إخراجه يؤثر ضعفا في الجدار
( ويصح ) البيع ( في الثوب الذي لا ينقص بقطعه ) كغليظ كرباس ( في الأصح ) لانتفاء المحذور والثاني لا يصح لأن القطع لا يخلو عن تغيير المبيع
ويصح بيع أحد مصراعي باب وأحد زوجي خف وإن نقصت قيمتهما بتفريقهما لأن المالية في ذلك لم تذهب بالكلية لإمكان تلاقيهما بشراء البائع ما باعه أو بشراء المشتري ما بقي بخلاف مالية الثوب أو نحوه الذي ينقص بقطعه فإنها ذهبت بالكلية لا تدارك لها ولا يصح بيع في خاتم لأن فصله يوجب النقص ولا بيع ثلج وجمد وهما يسيلان قبل وزنهما هذا إذا لم يكن لهما قيمة عند السيلان وإلا فينبغي كما قال شيخنا أن العقد لا ينفسخ وإن زال الاسم كما لو اشترى بيضا ففرخ قبل قبضه والجمد بسكون الميم هو الماء الجامد من شدة البرد
( ولا ) يصح بيع ( المرهون ) بعد قبضه ( بغير إذن مرتهنه ) للعجز عن تسليمه شرعا أما قبل قبضه أو بعده بإذن مرتهنه فيصح لانتفاء المانع
ويلتحق بالمرهون كل عين استحق حبسها كما لو قصر الثوب أو صبغه
وقلنا القصارة عين فإن له الحبس إلى قبض الأجرة ولو استأجر قصارا على قصر ثوب ليس له بيعه ما لم يقصره كما جزما به في باب بيع المبيع قبل قبضه
وبيع المرهون من المرتهن قبل فكه صحيح كما نقل الإمام الاتفاق عليه
( ولا ) بيع ( الجاني المتعلق برقبته مال ) بغير إذن المجني عليه وقبل اختيار السيد الفداء ( في الأظهر ) لتعلق الحق به كالمرهون بل أولى لأن الجناية تقدم على الرهن سواء أكان الأرش مستغرقا لقيمة الرقبة أم لا وسواء أوجب المال بإتلاف مال أم لا كقتل خطأ أو شبه عمدا وعمد لا قصاص فيه أو فيه قصاص وعفا مستحقه على مال
والثاني يصح في الموسر وقيل والمعسر
والفرق أن حق المجني عليه ثبت من غير اختيار المالك بخلاف حق المرتهن وعلى هذا يكون السيد الموسر ببيعه مع علمه بالجناية مختارا للفداء وقيل لا بل هو على خيرته إن فدى مضى البيع وإلا فسخ فإن باعه بعد اختيار الفداء صح جزما والفداء بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب موجبات الدية
ولا يشكل صحة البيع بصحة رجوعه عن الاختيار لأن مانع الصحة قد زال بانتقال الحق لذمة السيد وإن لم يلزمه ما دام العبد في ملكه فإذا باع لزمه المال الذي فداه به فيجبر على أدائه كما لو أعتقه أو قتله فإن أداه فذاك واضح وإن تعذر ولو لإفلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس أو موته فسخ البيع وبيع في الجناية لأن حق المجني عليه سبق حق المشتري
نعم إن أسقط الفسخ حقه كأن كان وارث البائع فلا فسخ إذ به يرجع العبد إلى ملكه فيسقط الأرش نبه على ذلك الزركشي
وخرج ببيعه عتقه فيصح من الموسر لانتقال الحق إلى ذمته مع وجود ما يؤدى منه بخلاف المعسر لما فيه من إبطال الحق بالكلية إذ لا متعلق له سوى الرقبة
وفي استيلاد الأمة الجانية هذا التفصيل ولا يتعلق الأرش بولدها إذ لا جناية منه
( ولا يضر تعلقه ) أي الأرش بكسبه كأن زوجه سيده ولا ( بذمته ) كأن اشترى فيها شيئا بغير إذن سيده وأتلفه أو أقر بجناية خطأ أو شبه عمد ولم يصدقه سيده ولا بينة لأن البيع إنما ورد على العين ولا حجر للسيد على ذمة عبده
( وكذا ) لا يضر ( تعلق القصاص ) برقبته ( في الأظهر ) لأنه مرجو السلامة بالعفو ويخاف تلفه بالقصاص فيصح بيعه قياسا على المريض والمرتد
والثاني لا يصح لأن المستحق يجوز له العفو على مال
وقد تقدم أن تعلق المال مانع وطريقة القولين ضعيفة والمذهب عند الجمهور القطع بالصحة وهو ما في الشرح والروضة فكان التعبير بالمذهب أولى
ولو عفا بعد البيع على مال فهل يبطل
____________________
(2/14)
البيع أو لا وجهان رجحالبلقيني منهما البطلان
ولا يضر تعلق القصاص بعضو من أعضائه بل يصح بيعه قطعا
ولو قتل في المحاربة وقدر عليه قبل التوبة صح بيعه كالمرتد كما في الروضة في باب خيار النقص وإن خالف في ذلك الشيخ أبو حامد وأتباعه
الشرط ( الرابع ) من شروط المبيع ( الملك ) فبيع ( لمن له العقد ) الحديث لا بيع إلا فيما تملك رواه أبو داود والترمذي وقال إنه حسن
وهذا الضابط ذكره في الوجيز وتبعه الشيخان
وإنما عبروا بمن له العقد ولم يقولوا للعاقد ليدخل المالك والوكيل والولي والحاكم في بيع مال المفلس والممتنع من وفاء دينه والملتقط والظافر بغير جنس حقه لكن بيع الفضولي وارد على هذه العبارة فإن العقد يقع للمالك موقوفا على إجازته عند من يقول بصحته كما سيأتي
والمقصود إخراجه ولهذا فرع بطلانه عليه بالفاء وأراد الشارح دفع ذلك بقوله لمن له العقد والواقع وهو إنما يأتي على أحد الرأيين في بيع الفضولي وهو أن الصحة موقوفة على الإجازة لأن البيع صحيح والملك موقوف على الإجازة
والرأي الأول هو الراجح خلافا لما نقله الرافعي عن الإمام من أن الراجح الثاني
قال شيخي وقد رجح الأول المصنف في بعض كتبه ولو قال المصنف أن يكون للعاقد عليه ولاية لكان جامعا مانعا
تنبيه كان ينبغي تقييد الملك بالتام ليخرج بيع المبيع قبل قبضه فإنه لا يصح كما سيأتي
( فبيع الفضولي ) وهو البائع مال غيره بغير إذنه ولا ولاية ( باطل ) للحديث المتقدم وكذا سائر تصرفاته القابلة للنيابة كما لو زوج أمة غيره أو إبنته أو طلق منكوحته أو أعتق عبده أو أجر داره أو وقفها أو وهبها أو اشترى له بعين ماله لأنه ليس بمالك ولا ولي ولا وكيل فلو عبر المصنف بالتصرف بدل البيع لشمل الصور التي ذكرتها
( وفي القديم ) تصرفه المذكور كما رجحه المصنف كما مر ( موقوف ) وقيل التصرف صحيح والموقوف الملك كما نقله الرافعي عن الإمام كما مر على الإجازة
( إن أجاز مالكه ) أو وليه ( نفذ ) بفتح الفاء المعجمة أي مضى ( وإلا فلا ) ينفذ ودليل ذلك ما رواه البخاري مرسلا وأبو داود والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح أن عروة البارقي قال دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا لأشتري به شاة فاشتريت به شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار وذكرت له ما كان من أمري فقال بارك الله لك في صفقة يمينك فكان لو اشترى التراب ربح فيه
رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح
وهذا القول نص عليه في الأم ونقله جماعة عن الجديد وقال في زيادة الروضة إنه أقوى من جهة الدليل
وأجيب من جهة الأول بأن حديث عروة محمول على أنه كان وكيلا مطلقا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها وعند القائل بالجواز لا يجوز التسليم إلا بإذن من المالك
والمعتبر إجازة من يملك التصرف عند العقد حتى لو باع مال الطفل فبلغ وأجاز لم ينفذ
تنبيه محل الخلاف إذا لم يحضر المالك فلو باع مال غيره بحضرته وهو ساكت لم يصح قطعا كما جزم به في المجموع
ولو عبر المصنف بقوله إن أجاز متوليه بدل مالكه لشمل ما قدرته
( ولو باع مال مورثه ) أو أبرأ منه أو زوج أمته ( ظانا حياته وكان ميتا ) بسكون الياء وتشديدها أو باع عبد نفسه ظانا إباقه أو كتابته فبان أنه قد رجع من إباقه أو فسخ كتابته ( صح في الأظهر ) لتبين ولايته على ذلك فالعبرة بما نفس الأمر لا بما في ظن العاقد والوقف فيه وقف تبين لا وقف صحة
ويخالف إخراج زكاة المال بشرط موت مورثه لأن النية معتبرة فيها ولم يبنها على أصل
فإن قيل كيف صح النكاح في تزويج الأمة مع أنه لا يصح نكاح من لم يعلم أنها معتدة أو أخته أم لا أجيب بأن الشك ثم في حل المعقود عليه وهنا في ولاية العاقد وبينهما فرق وإن اشتركا في الركنية
والثاني لا يصح لظنه عدم ولايته عليه
ولو باع شيئا ظنه لغيره فبان لنفسه فقد جزم الإمام في كتاب الرجعة بالصحة
ولو قال إن مات أبي فقد زوجتك أمته لم يصح كما في الروضة في النكاح لأنه تعليق فأشبه قوله إن قدم زيد زوجتك أمتي
وصورة المسألة وجميع نظائرها كما هو حاصل كلام ابن الصباغ أن لا يعلما حال التعليق وجود المعلق عليه وإلا فيصح ذكره في المهمات
وهو مناسب لما يأتي في النكاح في قوله وقد بشر ببنت إن صدق المخبر فقد زوجتكها
تنبيه قوله ظانا حياته يفهم أنه لو كان ظانا موته صح جزما إذا بان الأمر كما ظنه ويؤيده أنه لو باع مال أبيه على ظن
____________________
(2/15)
أنه لنفسه ثم بان موت الأب صح قطعا كما حكاه الإمام عن شيخه ثم قال وهو مع حسنه محتمل
ولو باع ماله هازلا صح لأنه أتى باللفظ مع قصد واختيار وعدم رضاه بوقوعه لظنه أنه لا يقع لا أثر له لخطأ ظنه وكذا لو باع أمانة بأن يبيع ماله لصديقه خوف غصب أو إكراه وقد توافقا قبله على أن يبيعه له ليرده إذا أمن وهذا كما يسمى بيع الأمانة يسمى بيع التلجئة
الشرط ( الخامس ) من شروط المبيع ( العلم به ) للمتعاقدين لا من كل وجه بل عينا في المعين وقدر أو صفة فيما في الذمة على ما يأتي بيانه للنهي عن بيع الغرر كما مر
( فبيع أحد الثوبين ) ونحوهما كالعبدين ( باطل ) للغرر ( ويصح بيع صاع من صبرة ) وهي الكومة من الطعام تعلم صيعانها للمتعاقدين كعشرة لعدم الغرر
وقطع الجمهور بأنه ينزل على الإشاعة فيملك المشتري عشرها فلو تلف بعضها تلف بقدره من المبيع
( وكذا ) يصح ( إن جهلت ) أي صيعانها للمتعاقدين أو أحدهما ( في الأصح ) لتساوي أجزائها
وتغتفر جهالة المبيع هنا فإنه ينزل على صاع مبهم لتعذر الإشاعة حتى لو لم يبق منها غير صاع تعين وللبائع تسليمه من أسفل الصبرة ووسطها إذ رؤية ظاهرها كرؤية كلها بخلاف بيع ذراع من مجهول الذرعان من أرض أو ثوب لتفاوت الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه وبخلاف ما لو فرق الصيعان وباع صاعا منها
قال القاضي لأنها ربما تفاوتت في الكيل فيختلف الغرض
والثاني لا يصح كما لو فرق صيعانها وقال بعتك صاعا منها
وعلى الأول هي مستثنى من اشتراط العلم
واستثنى مسائل أيضا للضرورة والمسامحة منها ما لو اختلط حمام البرجين وباع أحدهما ماله لصاحبه فإنه يصح على الأصح كما ذكره المصنف في باب الصيد والذبائح
ومنها ما لو باع المال الزكوي بعد الوجوب فإن الأصح البطلان في قدر الزكاة والصحة في غيره وهو مجهول العين ومثلها شراء كوز الفقاع وما المقصود لبه كالخشكنان
ومنها بيع القز وفي باطنه الدود وسواء أكان حيا أم ميتا وسواء أباعه وزنا أم جزافا فإذا باعه وزنا كان المبيع مجهول القدر
ولو باع الصبرة إلا صاعا وصيعانها معلومة صح وإلا فلا لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا رواه الترمذي إلا أن تعلم وقال حسن صحيح ولأن المبيع ما وراء الصاع وهو مجهول بخلاف بيع صاع منها كما مر لأنه معلوم القدر والصفة وبخلاف بيع جميع الصبرة لأن العيان يحيط بظاهر المبيع من جميع جوانبه فكان أقدر على تخمين مقداره بخلافه في مسألتنا لا يمكن فيه ذلك لأن المبيع خالطه أعيان أخر
ولا يكفي مجرد التخمين بل لا بد من إحاطة العيان لجميع أجزاء المبيع ولم يوجد هنا وكذا لو قال بعتك نصفها وصاعا من النصف الآخر صح بخلاف إلا صاعا منه ولو قال بعتك كل صاع من نصفها بدرهم وكل صاع من نصفها الآخر بدرهمين صح
( ولو باع بملء ذا البيت حنطة أو بزنة هذه الحصاة ذهبا أو بما باع به فلان فرسه ) مثلا أي بمثل ذلك ولم يعلما أو أحدهما قبل العقد المقدار ( أو بألف دراهم ودنانير ) أو صحاح ومكسرة ( لم يصح ) البيع للجهل بأصل المقدار في الثلاثة الأول وبمقدار الذهب من الفضة أو الصحاح والمكسرة في الرابعة فإن علما قبل العقد مقدار البيت والحصاة ثمن الفرس وقال فيه بمثل كما مر صح لانتفاء المحذور وكذا إن قصده كما في المطلب فإن لم يقل بمثل ولم يقصده صح أيضا كما لو قال أوصيت لفلان بنصيب إبني فإنه يحمل على مثل نصيبه
أما إذا كان ما باع به فلان فرسه قد صار للمشتري بإرث أو غيره وهو باق فإن الإطلاق ينزل عليه لا على مثل إذا قصده البائع ومحل امتناع البيع بما ذكر إذا كان في الذمة فإن كان الثمن معينا كأن قال بعتك بملء هذا البيت من
____________________
(2/16)
هذه الحنطة صح كما صرح به في المجموع والشرع الكبير في السلم وعلله الرافعي بإمكان الأخذ قبل تلف البيت
تنبيه قوله بملء كذا في المحرر مجرور بالحرف فيكون من صور الثمن كما تقرر والذي في الروضة وأصلهاملء منصوب ولا حرف معه فيكون من صور المبيع وهو أحسن
( ولو باع بنقد ) دراهم أو دنانير وأطلق ( وفي البلد نقد ) منها ( غالب ) وغير غالب ( تعين ) الغالب ولو كان دراهم عددية زائدة الوزن أو ناقصته أو صحاحا ومكسرة لأن الظاهر إرادتهما له
ولو غلب من جنس العروض نوع انصرف العقد إليه عند الإطلاق على الأصح كأن يبيع ثوبا بصاع حنطة والمعروف في البلد نوع منها
ولو غلبت الفلوس حمل العقد عليها كما جزم به الشيخان قال الأذرعي هذا إذا سمى الفلوس أما إذا سمى الدراهم فلا
اه
تنبيه لا تدخل هذه الصورة ولا التي قبلها في عبارة المصنف لأن الفلوس ليست من النقد وإن أوهمت عبارة الشارح و ابن المقري أنها منه فلو عبر بالثمن لكان أولى
ولا يحتاج في الفلوس إلى الوزن بل تجوز بالعد وإن كانت في الذمة ولو كان النقد مغشوشا جازت المعاملة به وإن جهل قدر الفضة نظرا للعرف ولو بان بعد البيع قلة فضة المغشوش جدا ثبت الرد إن اجتمع منها مالية لو ميزت وإلا فيبطل البيع كما لو ظهرت من غير الجنس ولو باع بوزن عشرة دراهم من فضة ولم يبين أنها مضروبة أو تبر لم يصح لتردده
( أو ) في البلد ( نقدان ) فأكثر ولو صحاحا ومكسرة ( لم يغلب أحدهما ) أو غلب أحدهما واختلفت القيمة ( اشترط التعيين ) لفظا لاختلاف الغرض باختلافهما فلا يكفي التعيين بالنية بخلاف نظيره في الخلع لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر هنا
فإن قيل لو قال من له من بنات زوجتك بنتي ونويا واحدة فإنه يصح مع أن النكاح يحتاط فيه
أجيب بأن ذكر العوض هنا واجب فوجب الاحتياط باللفظ بخلافه ثم فاكتفى بالنية فيما لا يجب ذكره
أما إذا اتفقت النقود ولو صحاحا ومكسرة بأن لم تتفاوت قيمة وغلبة فإن العقد يصح بها من غير تعيين ويسلم المشتري أيها شاء
ولو باع بنقد معدوم وأصلا ولو مؤجلا أو معدوم في البلد حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله إلى البلد عادة لم يصح لعدم القدرة على تسليمه أو إلى أجل يمكن فيه النقل عادة بسهولة للمعاملة صح فلو لم يحضره استبدال عنه لجواز الاستبدال عنه فلا ينفسخ العقد وكذا يستبدل لو باع بموجود عزيز فلم يجده وليس له فيما إذا عقد بنقد إلا النقد الواجب بالعقد وإن أبطله السلطان كما لو أسلم في حنطة بوصف ليس له غيرها
ولو باع بنقد ثم لقيه في بلد آخر لا يتعاملون به فيه فدفعه إليه لزمه قبوله في الأصح
( ويصح بيع الصبرة المجهولة الصيعان ) للمتعاقدين ( كل صاع بدرهم ) قال الشارح بنصب كل أي على تقدير بعتك الصبرة ويصح جره على أنه بدل من الصبرة
وإنما صح هذا البيع لأن المبيع مشاهد
ولا يضر الجهل بجملة الثمن لأنه معلوم بالتفصيل والغرر مرتفع به كما إذا باع بثمن معين جزافا
وقيل لا يصح البيع لأنه لم يعلم مبلغ الثمن في حال العقد
وعلى الأول فارق عدم الصحة فيما لو باع ثوبا بما رقم أي كتب عليه من الدراهم المجهولة القدر بأن الغرر منتف في الحال لأن ما يقابل كل صاع معلوم القدر حينئذ بخلافه في تلك
ومثل الصبرة ما لو قال بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم أو هذه الأغنام أو العبيد كل واحد بدرهم ولو قال بعتك من هذه الصبرة كل صاع بدرهم أو كل صاع من هذه الصبرة بدرهم لم يصح لأنه لم يبع الجملة بل بعضها المحتمل للقليل والكثير فلا يعلم قدر المبيع تحقيقا ولا تخمينا
وإن قال بعتك صاعا منها بدرهم وما زاد بحسابه صح في صاع فقط لأنه المعلوم أو بعتكها وهي عشرة آصع كل صاع بدرهم وما زاد بحسابه صح في العشرة فقط لما مر بخلاف ما لو قال فيهما على أن ما زاد بحسابه لم يصح لأنه شرط عقد في عقد
( ولو ) قابل جملة الصبرة أو نحوها كأرض وثوب بجملة الثمن وتفصيلها بتفصيله كأن ( باعها ) أي الصبرة أو الأرض أو الثوب ( بمائة درهم كل صاع ) أو ذراع ( بدرهم صح إن خرجت مائة ) لتوافق الجملة والتفصيل ( وإلا ) أي وإن لم تخرج مائة بأن خرجت أقل أو أكثر ( فلا ) يصح البيع ( على الصحيح )
____________________
(2/17)
وفي الروضة الأظهر لتعذر الجمع بين جملة الثمن وتفصيله
والثاني يصح تغليبا للإشارة
فإن قيل يشكل على الأول ما رجحه في زوائد الروضة في باب الربا من أنه لو باع صبرة حنطة بصبرة شعير صاعا بصاع فزادت إحداهما ورضي صاحبها بتسليم الزيادة ثم البيع ولزم الآخر قبولها أو صاحب الناقصة بقدرها أقروا وإن تشاحا فسخ العقد
أجيب بأن الثمن هنا عينت كميته فإذا اختل عنها صار مبهما فأبطل بخلافه ثمة لم تعين كمية صيعانه والصبرة الناقصة قد ورد العقد على جميعها فصار كما لو باع صبرة صغيرة بقدرها من كبيرة فإنه يصح
أما إذا قابل الجملة بالجملة ولم يقابل الأجزاء بالأجزاء كأن قال بعتكها بمائة على أنها مائة فإنه يصح وإن خرجت زائدة أو ناقصة
ويثبت الخيار لمن عليه الضرر فإن قال المشتري للبائع لا تفسخ وأنا أقنع بالقدر المشرط أو أنا أعطيك ثمن الزائد لم يسقط خيار البائع ولا يسقط خيار المشتري بحط البائع من الثمن قدر النقص وإذا أجاز فبالمسمى فقط أو قابل الأجزاء بالأجزاء ولم يقابل الجملة بالجملة كأن قال بعتكها كل صاع بدرهم على أنها مائة صاع فهي كما قال الإسنوي قريبة من الأولى وإن جزم الماوردي بالصحة عند النقصان وخرج الزائدة على القولين
( ومتى كان العوض ) أو المعوض ( معينا ) قال الشارح أي مشاهدا لأن المعين صادق بما عين بوصفه وبما هو مشاهد أي معاين فالأول من التعيين والثاني من المعاينة أي المشاهدة وهو مراد المصنف بقرينة قوله ( كفت معاينته ) عن العلم بقدره اعتمادا على التخمين المصحوب بها فلو قال بعتك بهذه الدراهم أو هذه الصبرة وهي مجهولة القدر صح البيع اعتمادا على المشاهدة مع الكراهة لأنه قد يوقع في الندم
فإن قيل قد صرح في التتمة بأن مجهول الذرع لا كراهة فيه
أجيب بأن الصبرة لا تعرف تخمينا غالبا لتراكم بعضها على بعض بخلاف المذروع ولو علم أحد المتعاقدين أن تحتها دكة أو موضعا منخفضا أو اختلاف أجزاء الظرف الذي فيه العوض أو المعوض من نحو ظرف عسل وسمن رقة وغلظا بطل العقد لمنعها تخمين القدر فيكثر الغرر قال شيخي لأن التخمين يضعف عند العلم
نعم إن رأى ذلك قبل الوضع فيه صح البيع لوجود التخمين وإن جهل كل منهما ذلك بأن ظن أن المحل مستو فظهر خلافه صح البيع وخير من لحقه النقص بين الفسخ والإمضاء إلحاقا لما ظهر بالعين فالخيار في مسألة الدقة للمشتري وفي الحفرة للبائع
وقيل إن ما في الحفرة للبائع ولا خيار وجرى على ذلك في التهذيب
( والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب ) وهو ما لم يره المتعاقدان أو أحدهما وإن كان حاضرا للنهي عن بيع الغرر
( والثاني يصح ) إذا وصف بذكر جنسه ونوعه اعتمادا على الوصف فيقول بعتك عبدي التركي أو فرسي العربي أو نحو ذلك وهذا لا بد منه على هذا وقيل لا حاجة إلى ذلك وهو ما يوهمه إطلاق المصنف حتى لو قال بعتك ما في كفي أو ميراثي من أبي صح
( ويثبت الخيار ) للمشتري ( عند الرؤية ) وإن وجده كما وصف لحديث ليس الخبر كالمعاينة رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد وابن حبان والغزالي في الأوسط
ولا خيار للبائع خلافا لمقتضى إطلاق المتن وإن قواه الإسنوي
نعم إن وجده زائدا ثبت له الخيار كالمشتري إذا وجده ناقصا قاله الماوردي
ودليل هذا القول حديث من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه لكنه حديث ضعيف كما قاله البيهقي وقال الدارقطني إنه باطل
ويثبت قبل الرؤية الفسخ دون الإجازة
ويمتد الخيار امتداد مجلس الرؤية وقيل على الفور
ويجري القولان في رهن الغائب وهبته على صحتهما لا خيار عند الرؤية إذ لا حاجة إليه قال في المجموع ويجري القولان في الوقف أيضا ولكن الأصح في زوائد الروضة تبعا لابن الصلاح في كتاب الوقف صحته وأنه لا خيار عند الرؤية
ولا ينافي ذلك ما نقل عن فتاوى القفال من الجزم بالمنع لأن كلام المصنف وابن الصلاح في وقف ما استقر ملكه عليه ولم يره كأن ورثه أو اشتراه له وكيله وكلام القفال فيما لم يستقر ملكه عليه
( و ) على الأظهر في اشتراط الرؤية ( تكفي الرؤية قبل العقد ) ولو لمن عمي وقته ( فيما لا يتغير غالبا إلى وقت العقد ) كالأرض ونحو الحديد وإن منعنا بيع الغائب لأنه قد عرفه بتلك الرؤية والغالب بقاؤه على ما شاهده عليه قال الماوردي وإنما تكفي الرؤية السابقة إذا كان حال العقد ذاكرا للأوصاف فإن نسيها لطول المدة ونحوه فهو بيع غائب
وهو ظاهر كما قال شيخنا وإن استغربه في المجموع
____________________
(2/18)
وبه جزم الروياني و ابن الرفعة
وقال النشائي في نكته إنه ظاهر النص
وإن وجده متغيرا ثبت له الخيار وقيل يتبين بطلان العقد
وليس المراد بالتغير حدوث عيب فيه فإن خيار العيب لا يختص بهذه الصورة بل التغير عما كان عليه والصفة الموجودة عند الرؤية كالشرط في الصفات الكائنة عند الرؤية فإذا بان فوت شيء منها كان بمثابة الخلف في الشرط وإن اختلفا في التغير فقال البائع هو بحاله
وقال المشتري بل تغير صدق المشتري بيمينه لأن البائع يدعي عليه علمه بهذه الصفة والأصل عدمه كدعوى علمه بالغيب
فإن قيل هذا يشكل بما إذا اختلفا في عيب يمكن حدوثه فإن القول قول البائع في الأصح
أجيب بأنهما ثم اتفقا على وجود العيب في يد المشتري والأصل عدم وجوده في يد البائع
تنبيه قول المصنف فيما لا يتغير غالبا يفهم الصحة فيما يحتمل التغير وعدمه على السواء كالحيوان وهو الأصح لأنه يصدق بأنه لا يتغير غالبا ولا ينافيه قوله ( دون ما يتغير غالبا ) كالأطعمة بل يوافقه
قال ابن شهبة خلافا لمن قال من شراح الكتاب إن مفهوم المنهاج متدافع فإنه يفهم أول كلامه البطلان ومفهوم آخره الصحة وإنما بطل فيما يتغير غالبا لأن الرؤية السابقة لم تفد معرفة حال العقد وعلم من كلامه البطلان فيما تحقق تغيره بطريق الأولى
( وتكفي رؤية بعض المبيع إن دل على باقيه كظاهر الصبرة ) من حنطة ونحوها وجوز ونحوه وأدقة وكأعالي المائعات في أوعيتها كالدهن وأعلى التمر في قوصرته والطعام في آنيته وكذا القطن المجرد من جوزه ولو في عدله ولا خيار له إذا رأى الباطن إلا إذا خالف الظاهر بنقص بخلاف صبرة الرمان والسفرجل والبطيخ ونحو ذلك لعدم الدلالة على باقيها بل يشترط رؤية كل واحدة منها حتى لو رأى أحد جانبي البطيخة كان كبيع الغائب ولو كان الغائب أنها لا تتفاوت كالثوب الصفيق يرى أحد وجهيه قاله البغوي في فتاويه
قال الشيخان ولا يكفي في سلة العنب والخوخ ونحوهما رؤية أعلى ظاهره لكثرة الاختلاف في ذلك بخلاف الحبوب
( و ) مثل ( أنموذج المتماثل ) أي المتساوي الأجزاء كالحبوب فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع فلا بد من إدخاله في البيع
ولا يشترط خلطه في المبيع قبله فإذا قال بعتك حنطة هذا البيت مع الأنموذج صح وإن لم يخلطه بها قبل البيع وقول الإسنوي إنه لا بد من خلطه في المبيع قبل عقد البيع كما أفتى به البغوي ممنوع لأن البغوي إنما أفتى بأنه لا يصح ولو خلطه بها كما لو باع شيئا رأى بعضه دون بعض أما إذا باعها دونه كأن قال بعتك من هذا النوع كذا فإنه لا يصح لأنه لم ير المبيع ولا شيئا منه
تنبيه قوله وأنموذج هو بضم الهمزة والميم وبفتح الذال المعجمة مقدار تسميه السماسرة عينا معطوف على ظاهر من قوله كظاهر الصبرة كما علم من التقدير فيكون كل منهما أعني من ظاهر وأنموذج مثالا لبعض المبيع الدال على باقيه لا أنه معطوف على بعض المبيع فإنه من أمثلة رؤية البعض لما تقدم من أنه لا بد من إدخاله في البيع
( أو ) لم يدل على باقيه بل ( كان صوانا ) بكسر الصاد وضمها ويقال صيان ( للباقي ) لبقائه ( خلقة كقشر الرمان والبيض والقشرة السفلى للجوز واللوز ) فتكفي رؤيته لأن صلاح باطنه في بقائه فيه وإن لم يدل هو عليه فقوله أو كان إلخ قسيم قوله إن دل كما قدرته
وقوله كالمحرر خلقة مزيد على الروضة وأصلها وهو صفة لبيان الواقع في الأمثلة المذكورة ونحوها واحترز به عن جلدة الكتاب ونحوه فإن رؤيته لا تكفي ولكن يرد على طرده الدر في صدفه والمسك في فأرته لأنه لا يصح البيع فيهما مع أن الصوان خلقي وعلى عكسه الخشكنان والجبة المحشوة بالقطن فإنه يصح بيعهما مع أن صوانهما غير خلقي
قال الأذرعي وهل يلتحق الفرش واللحف بهما فيه وقفة والظاهر كما قال ابن شهبة عدم الإلحاق لأن القطن فيها مقصود لذاته بخلاف الجبة
ولا يرد على المصنف بيع كوز الفقاع كما أورده الإسنوي فإنه صح بيعه فيه من غير رؤية كما مر لأن الكوز ليس داخلا في البيع بخلاف الخشكنان ونحوه وإنما يرد على اشتراط الرؤية كما مر
وإنما صح فيه من غير رؤية لأن بقاءه فيه من مصلحته ولأنه تشق رؤيته ولأنه قدر يسير يتسامح به في العادة
____________________
(2/19)
وليس فيه غرر يفوت به مقصود معتبر
واحترز بوصف القشرة بالسفلى لما ذكر وهي التي تكسر حالة الأكل عن العليا فإنه لا يصح البيع قبل إزالتها كما سيأتي باب بيع الأصول والثمار لاستتاره بما ليس من مصلحته نعم إن لم تنعقد السفلى كفت رؤية العليا لأن الجميع مأكول
ولا يصح بيع اللب من نحو الجوز وحده في قشره لأن تسليمه لا يمكن إلا بكسر القشر فينقص عن المبيع ولا بيع ما رؤي من وراء زجاج لانتفاء تمام المعرفة وصلاح إبقائه فيها بخلاف رؤية السمك والأرض تحت الماء الصافي إذ به صلاحهما
أما الكدر فإنه يمنع صحة البيع وإن لم يمنع صحة الإجارة لأنها أوسع لأنها تقبل التأقيت ولأن العقد فيها على المنفعة دون العين
ويجوز بيع قصب السكر في قشره الأعلى لأن قشره الأسفل كباطنه لأنه قد يمص معه فصار كأنه في قشر واحد
فائدة روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا سقطت منه حبة رمانة أكلها فسئل عن ذلك فقال بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس في الأرض رمانة تلقح إلا بحبة من رمان الجنة فلعلها هذه
وقيل إذا أخذت رمانة من شجرة وعددت حباتها فتكون حبات رمان تلك الشجرة كذلك وإذا عددت شرافات قمع الرمانة فإن كانت زوجا فعدد حباتها زوج أو فردا فعدد حباتها فرد
( وتعتبر رؤية كل شيء ) غير ما ذكر ( على ما يليق به ) فيعتبر في الدار رؤية البيوت والسقوف والسطوح والجدران والمستحم والبالوعة وكذا رؤية الطريق كما في المجموع وفي البستان رؤية أشجاره ومجرى مائه وكذا يشترط رؤية الماء الذي تدور به الرحى خلافا لابن المقري لاختلاف الغرض
ولا يشترط رؤية أساس جدران البستان ولا رؤية عروق الأشجار ونحوهما ويشترط رؤية الأرض في ذلك ونحوه
ولو رأى آلة بناء الحمام وأرضها قبل بنائها لم يكف عن رؤيتها كما لا يكفي في التمر رؤيته رطبا
ولو رأى سخلة أو ظبيا فكملا لا يصح بيعها إلا برؤية أخرى
ويشترط في الرقيق ذكرا كان أو غيره رؤية ما سوى العورة لا اللسان والأسنان
ويشترط في الدابة رؤية مقدمها ومؤخرها وقوائمها وظهرها حتى شعرها فيجب رفع الجل والسرج والإكاف ولا يشترط إجراؤها ليعرف سيرها ولا يشترط في الدابة رؤية اللسان والأسنان
ويشترط في الثوب نشره ليرى الجميع ولو لم ينشر مثله إلا عند القطع
ويشترط في الثوب رؤية وجهي ما يختلف منه كأن يكون صفيقا كديباج منقص وبسط بخلاف ما لا يختلف وجهاه ككرباس فيكفي رؤية أحدهما
ويشترط في شراء المصحف رؤية جميع الأوراق وفي الورق البياض رؤية جميع الطاقات
ولا يصح بيع اللبن في الضرع وإن حلب منه شيء ورؤي قبل البيع للنهي عنه ولاختلاطه بالحادث ولعدم تيقن وجود قدر اللبن المبيع ولعدم رؤيته ولا بيع الصوف قبل الجز أو التذكية لاختلاطه بالحادث ولأن تسليمه إنما يمكن باستئصاله وهو مؤلم للحيوان فإن قبض قطعة وقال بعتك هذه صح قطعا كما في المجموع ولا بيع الأكارع والرؤوس قبل الإبانة ولا المذبوح أو جلده أو لحمه قبل السلخ أو السمط لأنه مجهول قال الأذرعي وكذا مسلوق لم ينق جوفه وبيع وزنا فإن بيع جزافا صح بخلاف السمك والجراد فيصح مطلقا لقلة ما في جوفه
ولا بيع مسك اختلط بغيره لجهل المقصود كنحو لبن مخلوط بنحو ماء نعم إن كان معجونا بغيره كالغاية والند صح لأن المقصود بيعهما لا المسك وحده
ولو باع المسك فأرته لم يصح
ولو فتح رأسها كاللحم في الجلد فإن رآها فارغة ثم ملئت مسكا لم يره ثم رأى أعلاه من رأسها أو رآه خارجها ثم اشتراه بعد رده إليها جاز
ولو باعه السمن وظرفه أو المسك وفأرته كل قيراط بدرهم مثلا صح وإن اختلفت قيمتهما إن عرفا وزن كل منهما وكان للظرف قيمة وإلا فلا يصح
ويجوز بيع حنطة مختلطة بشعير كيلا ووزنا وجزافا
ولا يصح بيع تراب معدن قبل تمييزه من الذهب والفضة ولا تراب صاغة لأن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه عادة كبيع اللحم في الجلد ولو كان الثوب على منسج قد نسج بعضه فباعه قبل أن ينسج البائع الباقي لم يصح البيع قطعا نص عليه
( والأصح أن وصفه ) أي الشيء الذي يراد بيعه ( بصفة السلم ) أو سماع وصفه بطريق التواتر ( لا يكفي ) عن الرؤية لأنها تفيد أمورا تقصر عنها العبارة وفي الخبر ليس الخبر كالعيان والثاني يكفي
ولا خيار للمشتري لأن ثمرة الرؤية المعرفة والوصف يفيدها
فإن قيل عدم الاكتفاء بوصفه بطريق التواتر مع & باب الربا
____________________
(2/20)
قول الأصوليين إنه يفيد القطع مشكل
أجيب بأن المعلوم يتفاوت ولا شك أن العيان أقوى ولهذا تقدم في توجيهه أن الرؤية تفيد أمورا تقصر عنها العبارة
( ويصح سلم الأعمى ) أي أن يسلم أو يسلم إليه لأنه يعرف الصفات بالسماع ومحل هذا إذا كان العرض موصوفا في الذمة ثم عين في المجلس ويوكل من يقبض عنه أو يقبض له رأس مال السلم والمسلم فيه لأن السلم يعتمد الوصف لا الرؤية فإن كان العوض معينا لم يصح كبيعه عينا
( وقيل إن عمي قبل تمييزه ) بين الأشياء أو خلق أعمى ( فلا ) يصح سلمه لانتفاء معرفته بالأشياء
وأجاب الأول بأنه يعرفها بالسماع ويتخيل فرقا بينها كبصير يسلم فيما لم يكن رآه كأهل خراسان في الرطب وأهل بغداد في الموز
تنبيه قد يفهم كلامه أنه لا يصح من الأعمى من العقود غير السلم وليس مرادا بل يصح أن يشتري نفسه ويؤجرها لأنه لا يجهلها وأن يقبل الكتابة على نفسه وله أن يكاتب عبده على الأصح تغليبا للعتق وقياسه كما قال الزركشي صحة شرائه من يعتق عليه وبيعه العبد من نفسه وأن يزوج ابنته ونحوها
وأما ما يعتمد فيه الرؤية كالبيع والإجارة والرهن فلا يصح منه وإن قلنا بصحة بيع الغائب وطريقه أن يوكل فيه
خاتمة لو اشترى البصير شيئا ثم عمي قبل قبضه وقلنا لا يصح شراؤه فهل ينفسخ البيع فيه وجهان صحح المصنف منهما عدم البطلان
ولا يصح بيع البصل والجزر ونحوهما في الأرض لأنه غرر
قال المصنف ومما تعم به البلوى أي مع عدم صحته ما اعتاده الناس من بيع النصيب من الماء الجاري من نهر أو نحوه للجهل بقدره ولأن الجاري إن كان غير مملوك فذاك وإلا فلا يمكن تسليمه لاختلاط غير المبيع به فطريقه أن يشتري القناة أو سهما منها فإذا ملك القرار كان أحق بالماء ذكره القاضي و العمراني وغيرهما
وإن اشترى القرار مع الماء لم يصح فيهما للحوالة
ولا يشترط الذوق والشم في مثل الخل والمسك ولا لمس الثياب لأن معظم المقصود يتعلق بالرؤية فلا يشترط غيرها
ولو اشترى سمنا أو غيره من المائعات أو غيرها في ظرفه كل رطل بدرهم مثلا على أن يوزن بظرفه ويسقط أرطالا معينة بسبب الظرف ولا يوزن الظرف فالبيع باطل بلا خلاف لأنه غرر ظاهر
قال في المجموع وهذا من المنكرات المحرمة التي تقع في كثير من الأسواق
ولو رأى ثوبين مستويين قيمة ووصفا وقدرا كنصفي كرباس فسرق أحدهما واشترى الآخر غائبا عنه ولا يعلم أيهما المسروق صح لحصول العلم لا إن اختلفت الأوصاف المذكورة
وإذا اختلفا في الرؤية فالقول قول مدعيها بيمينه لأن الإقدام على العقد اعتراف بصحته وهو على القاعدة في دعوى الصحة والفساد من تصديق مدعيها
باب الربا بالقصر وألفه بدل من واو ويكتب بهما وبالياء وهو مكتوب في المصحف بالواو
قال الغزالي لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحرة ولغتهم الربوا فعلموهم صورة الخط على لغتهم
ويقال فيه الرماء بالميم والمد
وهو لغة الزيادة
قال تعالى { اهتزت وربت } أي زادت ونمت
وشرعا عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما
وهو ثلاثة أنواع ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر
وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما
وربا النساء وهو البيع لأجل
وزاد المتولي ربا القرض المشروط فيه جر نفع
قال الزركشي ويمكن رده لربا الفضل
والأصل في تحريمه قبل الإجماع آيات كآية { وحرم الربا } وأخبار كخبر مسلم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده
وروى الدارقطني والبيهقي درهم ربا يأكله ابن آدم أشد عند الله إثما من ست وثلاثين زنية
وفي صحيح الحاكم عن مسروق عن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للربا سبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم وقال إنه صحيح على شرط الشيخين وهو من الكبائر قال الماوردي حتى قيل إنه لم يحل في شريعة قط لقوله تعالى { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } يعني في الكتب السابقة
أبا عبدالله رأيت رجلا سكرانا يتقافز يريد أن يأخذ القمر بيده فقلت امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شيء أشر من الخمر فقال ارجع حتى أتفكر في مسألتك فأتاه من الغد فقال امرأتك طالق فإني تصفحت الكتاب والسنة فلم أر شيئا أشر من الربا لأن الله تعالى أذن فيه بالحرب أي في قوله تعالى { فأذنوا بحرب من الله ورسوله }
____________________
(2/21)
فائدة روى السبكي وابن أبي بكر أن رجلا أتى مالك بن أنس فقال يا
وقال عمر رضي الله تعالى عنه لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا آكل الربا
وقال علي رضي الله عنه من اتجر قبل أن يتفقه ارتطم في الربا ثم ارتطم ثم ارتطم أي وقع وارتبك ونشب
والقصد بهذا الباب بيع الربوي وما يعتبر فيه زيادة على ما مر
( إذا بيع الطعام بالطعام إن كانا جنسا ) أي الثمن والمثمن وفي بعض النسخ إن كان جنسا واحدا كبر وبر
( اشترط ) في صحة البيع ثلاثة أمور ( الحلول ) من الجانبين ( والمماثلة والتقابض ) لهما ( قبل التفرق ) ولو وقع العقد في دار الحرب
( أو ) كانا ( جنسين كحنطة وشعير جاز التفاضل واشترط ) أمران ( الحلول والتقابض ) لهما قبل التفرق قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد أي مقابضة
قال الرافعي ومن لازمه الحلول أي غالبا ولا بد من القبض الحقيقي فلا تكفي الحوالة وإن حصل القبض بها في المجلس
ويكفي قبض الوكيل في القبض عن العاقدين أو أحدهما وهما في المجلس وكذا قبض الوارث بعد موت مورثه في المجلس بخلاف ما إذا كان العاقد عبدا مأذونا له فقبض سيده أو وكيلا فقبض موكله لا يكفي
واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في علة الربا في المطعومات فقال في القديم الطعم مع التقدير في الجنس بالكيل والوزن فلا ربا فيما لا يكال ولا يوزن كالسفرجل والرمان والبيض وفي الجديد وهو الأظهر العلة الطعمية لقوله صلى الله عليه وسلم الطعام بالطعام فدل على أن العلة الطعم وإن لم يكل ولم يوزن لأنه علق ذلك على الطعام وهو اسم مشتق وتعليق الحكم على الاسم المشتق يدل التعليل بما منه الاشتقاق
( والطعام ما قصد للطعم ) بضم الطاء مصدر طعم بكسر العين أي أكل غالبا
وذلك بأن يكون أظهر مقاصده الطعم وإن لم يؤكل إلا نادرا كالبلوط والطرثوث وهو نبت يؤكل وإن لم يكل ولم يوزن كما مر
( اقتياتا أو تفكها أو تداويا ) كما تؤخذ الثلاثة من الخبر السابق فإنه نص فيه على البر والشعير والمقصود منهما التقوت فألحق بهما ما في معناهما كالأرز والذرة وعلى التمر والمقصود منه التفكه والتأدم فألحق به ما في معناه كالتين والزبيب وعلى الملح والمقصود منه الإصلاح فألحق به ما في معناه كالمصطكى بضم الميم والقصر والسقمونيا والطين الأرمني والزنجبيل
ولا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن فإن الأغذية لحفظ الصحة والأدوية لرد الصحة
وإنما لم يذكر الدواء فيما يتناوله الطعام في الإيمان لأنها لا تتناوله في العرف المبنية هي عليه
ولا ربا في حب الكتان بفتح الكاف وكسرها ودهنه ودهن السمك لأنها لا تقصد للطعم ولا في الطين غير الأرمني كالخراساني لأنه إنما يؤكل سفها ولا فيما اختص به الجن كالعظم أو البهائم كالتبن والحشيش والنوى أو غلب تناولها له وإن قصد للآدميين كما قاله الماوردي وجرى عليه الشارح وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين أما إذا كانا على حد سواء فالأصح ثبوت الربا فيه
ولا ربا في الحيوان مطلقا سواء أجاز بلعه كصغار السمك أم لا لأنه لا يعد للأكل على هيئته
وقد اشترى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بعيرا ببعيرين بأمره صلى الله عليه وسلم
تنبيه قوله قصد أشار به إلى أنه لا ربا فيما لا يجوز أكله ولكنه لا يقصد كالعظم الرخو وأطراف قضبان العنب كما قاله صاحب التتمة وغيره وكذا الجلود كما قاله في زيادة الروضة أي التي لم تؤكل غالبا بأن خشنت وغلظت كما يؤخذ من كلام الماوردي وغيره
ودخل في قوله تداويا الماء العذب فإنه ربوي مطعوم فلا يرد عليه قال تعالى { ومن لم يطعمه فإنه مني }
____________________
(2/22)
بخلاف الماء الملح فإنه ليس بربوي وأورد الإسنوي على المصنف الحلوي قال في الغنية وهو غلط صدر عن ظن أن المراد بقوله تفكها الفاكهة التي هي الثمر
وأسقط المصنف الأدم وقد ذكره في الإيمان واستشكل الفرق بين البابين لأنا إن نظرنا إلى اللغة اتحد الموضعان أو إلى العرف فأهله لا يسمون الفاكهة والحلوى طعاما ويمكن دخول الأدم في التفكه
واعلم أن كل شيئين جمعهما اسم خاص من أول دخولهما في الربا يشتركان في ذلك الاسم بالاشتراك المعنوي كالتمر المعقلي بفتح الميم وإسكان العين المهملة نوع من التمر معروف بالبصرة وغيرها منسوب إلى معقل بن يسار الصحابي رضي الله عنه والبرني كما قال صاحب المحكم هو ضرب من التمر أصفر مدور واحدته برنية وهو أجود التمر فهما جنس واحد وأنواع التمر كثيرة جدا قال الجويني كنت بالمدينة فدخل بعض أصدقائي فقال كنا عند الأمير فتذاكروا أنواع تمر المدينة فبلغت أنواع الأسود ستين نوعا
وما ليس كذلك كالحنطة والشعير فهما جنسان واحترز بالخاص عن العام كالحب فإنه يتناول سائر الحبوب وبأول دخولهما في الربا عن الأدقة فإنها اشتركت في اسم خاص والتمييز بينها يحصل بالإضافة ومع ذلك فهي أجناس لأنها دخلت في الربا قبل اشتراكها في هذا الاسم الخاص وبالاشتراك المعنوي عن البطيخ الهندي مع الأصفر فإنهما جنسان على الأصح وكذلك التمر والجوز الهنديان مع التمر والجوز المعروفين فإن إطلاق الاسم عليهما ليس لقدر مشترك بينهما أي ليس موضوعا لحقيقة واحدة بل لحقيقتين مختلفتين
وهذا الضابط كما قال الإسنوي أولى ما قيل ولم يذكره الرافعي ومع ذلك فإنه ينتقض باللحوم والألبان على أصح القولين أنها أجناس كأصولها وعلى القول الآخر بأنها جنس لا نقض
وحيث اشترط التقابض فتفرقا قبله بطل العقد إن تفرقا عن تراض وإلا فلا يبطل لأن تفرقهما حينئذ كلا تفرق وهذا هو المعتمد خلافا لما نقله السبكي عن الصيمري من أنه لا فرق بين المختار والمكره
والتخاير وهو إلزام العقد قبل التقابض كالتفرق قبله في أنه يبطل العقد الربوي سواء أتقابضا قبل التفرق أم لا وما ذكر في باب الخيار من أنهما لو تقابضا قبل التفرق لم يبطل ضعيف كما قاله شيخي بل قال الأذرعي إنه مفرع على رأي ابن سريج وهو أنه لا يرى أن التخاير بمنزلة التفرق
ولو قبض كل منهما المبعض ففيما قبض قولا تفريق الصفقة ويبطل العقد فيما لم يقبض
ولو اشترى من غيره نصفا شائعا من دينار قيمته عشرة دراهم بخمسة دراهم أصح ويسلمه البائع إليه ليقبض النصف ويكون النصف الثاني في يده أمانة بخلاف ما لو كان له عليه عشرة دراهم فأعطاه عشرة فوجدت زائدة الوزن فإنه يضمن الزائد للمعطي لأنه قبضه لنفسه فإن أقرضه البائع في صورة الشراء تلك الخمسة بعد أن قبضها منه فاشترى بها النصف الآخر من الدينار جاز كغيرها وإن اشترى كل الدينار من غيره بعشرة وسلمه منها خمسة ثم استقرضها منه ثم ردها إليه عن الثمن بطل العقد في الخمسة الباقية كما رجحه ابن المقري في روضه لأن التصرف مع العاقد في زمن الخيار إجازة وقد تقدم أنها كالتفرق فكأنهما تفرقا قبل التقابض ولا يقال تصرف البائع فيما قبضه من الثمن في زمن الخيار باطل لأن محله مع الأجنبي أما مع العاقد فصحيح
( وأدقة الأصول المختلفة الجنس وخلولها وأدهانها ) بالرفع عطفا على أدقة ( أجناس ) لأنها فروع أصول مختلفة فأعطيت حكم أصولها فيجوز بيع دقيق البر بدقيق الشعير وخل التمر بخل العنب متفاضلين
واعلم أن كل خلين لا ماء فيهما واتحد جنسهما اشترط التماثل وإلا فلا وكل خلين فيهما ماء لا يباع أحدهما بالآخر إن كانا من جنس واحد وإن كانا من جنسين وقلنا الماء العذب ربوي وهو الأصح كما مر لم يجز وإلا جاز وإن كان الماء في أحدهما وهما جنسان كخل العنب بخل التمر وخل الرطب بخل الزبيب جاز لأن الماء في أحد الطرفين والمماثلة بين الخلين المذكورين غير معتبرة
والخلول تتخذ غالبا من الرطب والعنب والزبيب والتمر وينتظم من هذه الخلول عشر مسائل وضابط ذلك أن تأخذ كل واحد مع نفسه ثم تأخذه مع ما بعده ولا تأخذه مع ما قبله لأنك قد عددته قبل هذا فلا تعده مرة أخرى
الأولى بيع خل العنب بمثله
الثانية بيع خل الرطب بمثله
الثالثة بيع خل الزبيب بمثله
الرابعة بيع خل التمر بمثله
الخامسة بيع خل العنب بخل الرطب
السادسة بيع خل العنب بخل الزبيب
____________________
(2/23)
السابعة بيع خل العنب بخل التمر
الثامنة بيع خل الرطب بخل الزبيب
التاسعة بيع خل الرطب بخل التمر
العاشرة بيع خل الزبيب بخل التمر
ففي خمسة منها يجزم بالجواز وفي خمسة بالمنع الخمسة الأولى خل عنب بخل عنب خل رطب بخل رطب خل عنب بخل تمر خل رطب بخل زبيب خل عنب بخل رطب
والخمسة الثانية خل عنب بخل زبيب خل رطب بخل تمر خل زبيب بخل زبيب خل تمر بخل تمر خل زبيب بخل تمر
واحترز بالمختلفة عن المتحدة كأدقة القمح فإنها جنس واحد قطعا
( واللحوم والألبان ) أي كل منهما أجناس ( كذلك في الأظهر ) لأنهما فروع لأصول مختلفة الأجناس فأشبهت الأدقة فيجوز بيع لحم البقر بلحم الضأن ولبن البقر بلبن الضأن متفاضلا
والثاني أنهما جنس واحد لاشتراكهما في الاسم الذي لا يقع التميز بعده إلا بالإضافة فأشبهت أنواع التمر كالمعلي والبرني وعلى الأول لحوم البقر جواميسها وعرابها جنس وليس من البقر البقر الوحشي لأن الوحشي والإنسي من سائر الحيوانات جنسان ولحوم الغنم ضأنها ومعزها جنس والظباء والإيل بضم الهمزة وكسرها وفتح التحتية المشدة وهو الوعل بفتح الواو وكسر العين تيس الجبل ويقال شاته جنس
والألبان كذلك والسموك المعروفة جنس
وبقر الماء وغنمه وغيرهما من حيوانات البحر أجناس
وأما الطيور فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس والبطوط جنس وكذا أنواع الحمام على الأصح وبيوض الطيور أجناس والكبد والطحال والقلب والكرش والرئة والمخ أجناس وإن كانت من حيوان واحد لاختلاف أسمائها وصفاتها وشحم الظهر والبطن واللسان والرأس والأكارع أجناس والجراد ليس بلحم ولا شحم والبطيخ الأخضر والأصفر والخيار والقثاء أجناس
( والمماثلة تعتبر في المكيل كيلا ) وإن تفاوتت في الوزن ( و ) في ( الموزون وزنا ) وإن تفاوتت في الكيل فلا يصح بيع بعض المكيل ببعض وزنا ولا بيع بعض الموزون ببعض كيلا
( والمعتبر ) في كون الشيء مكيلا أو موزونا ( غالب عادة أهل الحجاز في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لظهور أنه اطلع على ذلك وأقره فلو أحدث الناس خلاف ذلك فلا اعتبار به
( وما ) لم يكن في ذلك العهد أو كان و ( جهل ) حاله ولو لنسيان أو كان ولم يكن بالحجاز أو استعمل الكيل والوزن فيه سواء أو لم يستعملا فيه أو غلب أحدهما ولكن لم يتعين وكان ذلك أكبر جرما من التمر كالجوز فالوزن إذ لم يعهد الكيل بالحجاز فيما هو أكبر منه جرما أو كان مثله كاللوز أو دونه كالفستق
( يراعى فيه ) عادة ( بلد البيع ) حالة البيع لأن الشيء إذا لم يكن محدودا في الشرع ولا في اللغة كان الرجوع فيه إلى عادة الناس كالقبض والحرز ( وقيل الكيل ) لأن أغلب ما ورد فيه النص مكيل ( وقيل الوزن ) لأنه أخصر وأقل تفاوتا ( وقيل يتخير ) للتساوي ( وقيل إن كان له أصل ) معلوم المعيار ( اعتبر ) أصله في الكيل أو الوزن فيه قال الشارح فعلى هذا دهن السمسم مكيل ودهن اللوز موزون اه
والأصح أن اللوز مكيل فدهنه كذلك
ولا فرق في المكيال بين أن يكون معتادا أم لا كالقصعة فلو كان في أحد المبيعين قليل تراب أو غيره لم يضر إن كان مكيلا لأنه يتخلل فلا يظهر أثره فإن كان كثيرا يظهر في المكيال ضر وأما الموزون فيضر مطلقا لظهور كثيره وقليله في الوزن
ويكفي الوزن بالقبان والتساوي بكفتي الميزان وإن لم يعرف قدر ما في كل كفة
وقد يتأتى الوزن بالماء بأن يوضع الشيء في ظرف ويلقى في الماء وينظر قدر غوصه لكنه ليس وزنا شرعيا ولا عرفيا فالظاهر كما في أصل الروضة أنه لا يكفي هنا وإن كفى في الزكاة وأداء المسلم فيه وإن قال البلقيني إنه أولى بالجواز من القصعة
( والنقد بالنقد ) والمراد به الذهب والفضة مضروبا كان أو غير مضروب ( كطعام بطعام ) في جميع ما سبق من الأحكام فإن بيع بجنسه كذهب بذهب اشترطت المماثلة والحلول والتقابض قبل التفرق والتخاير وإن بيع بغير جنسه كذهب بفضة جاز التفاضل أو اشترط الحلول والتقابض قبل التفرق أو التخاير للخبر السابق
فإن قيل
____________________
(2/24)
كان الأولى للمصنف تقديم النقد على الطعام موافقة للحديث
أجيب بأن الكلام في الطعام أكثر فقدم لذلك ولا يقال إن تقدم ما للكلام فيه أقل أولى لأن هذا بحسب المقاصد
وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالبا كما صححه في المجموع ويعبر عنها أيضا بجوهرية الأثمان غالبا وهي منتفية عن الفلوس وغيرها من سائر العروض لا أنها قيم الأشياء كما جرى عليه صاحب التنبيه لأن الأواني والتبر والحلي تجري فيها الربا كما مر وليست مما يقوم بها
واحترز ب غالبا عن الفلوس إذا راجت فإنه لا ربا فيها كما تقدم ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك حتى لو اشترى بدنانير ذهبا مصوغا قيمته أضعاف الدنانير اختبرت المماثلة ولا نظر إلى القيمة
تنبيه بيع النقد من جنسه وغيره يسمى صرفا ويصح على معينين بالإجماع ك بعتك أو صارفتك هذا الدينار بهذه الدراهم وعلى موصوفين على المشهور كقوله بعتك أو صارفتك دينارا صفته كذا في ذمتي بعشرين درهما من الضرب الفلاني في ذمتك ولو أطلق فقال صارفتك على دينار بعشرين درهما وكان هناك نقد واحد لا يختلف أو نقود مختلفة إلا أن أحدهما أغلب صح ونزل الإطلاق عليه ثم يعينان ويتقابضان قبل التفرق
ويصح أيضا على معين بموصوف ك بعتك هذا الدينار بعشرة دراهم في ذمتك ولا يصح على دينين ك بعتك الدينار الذي في ذمتك بالعشرة التي لك في ذمتي لأن ذلك بيع دين بدين
والحيلة في تمليك الربوي بجنسه متفاضلا كبيع ذهب بذهب متفاضلان أن يبيعه من صاحبه بدراهم أو عرض ويشتري منه بها أو به الذهب بعد التقابض فيجوز وإن لم يتفرقا ولم يتخايرا لتضمن البيع الثاني إجازة الأول بخلافه مع الأجنبي أو يقرض كل صاحبه ويبرئه أو يتواهبا الفاضل لصاحبه وهذا جائز إذا لم يشترط في بيعه وإقراضه وهبته ما يفعله صاحبه وإن كره قصده
( ولو باع جزافا ) بكسر الجيم طعاما أو نقدا بجنسه ( تخمينا ) أي حزرا للتساوي ( لم يصح ) البيع ( وإن خرجا سواء ) للنهي عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر رواه مسلم وقيس النقد على المطعوم وللجهل بالمماثلة عند البيع وهذا معنى قول الأصحاب الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة
ويؤخذ البطلان عند عدم التخمين بطريق الأولى
ولو علما تماثل الصبرتين جاز البيع كما قال القاضي ولا حاجة حينئذ إلى كيل
ولو علم أحدهما مقدارهما وأخبر الآخر به فصدقه فكما لو علما قاله الروياني
ولو باع صبرة بر بأخرى كيلا بكيل أو صبرة نحو دراهم بأخرى وزنا بوزن صح إن تساويا لحصول المماثلة وإلا فلا لأنه قابل الجملة بالجملة وهما متفاوتتان
ويصح بيع صبرة بكيلها فيما يكال أو وزنها فيما يوزن من صبرة أكبر منها لحصول المماثلة
ولو تفرقا في هذه وفي التي قبلها فيما إذا صح البيع بعد قبض الجملتين وقبل الكيل أو الوزن جاز لحصول التقابض في المجلس وما فضل من الكبيرة بعد الكيل أو الوزن لصاحبها فالمعتبر في القبض هنا ما ينقل الضمان فقط لا ما يفيد التصرف أيضا لما سيأتي أن قبض ما بيع مقدرا إنما يكون بالتقدير
ولو باع صبرة بر بصبرة شعير جزافا جاز لعدم اشتراط المماثلة فإن باعها بها مكايلة فإن خرجتا سواء صح وإن تفاضلتا وسمح رب المال بإعطائه الزائد أو رضي رب الناقص بقدره من الزائد أقر البيع وإن تشاحا فسخ وتقدم ما في هذه مع جوابه في الكلام على بيع الصبرة بمائة درهم كل صاع بدرهم
( وتعتبر المماثلة ) للربوي حال الكمال فيعتبر في الثمار والحبوب ( وقت الجفاف ) وتنقيتها شرط للماثلة لا للكمال لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فنهى عن ذلك صححه الترمذي وغيره
أشار صلى الله عليه وسلم بقوله أينقص إلى أن المماثلة إنما تعتبر عند الجفاف وإلا فالنقصان أوضح من أن يسأل عنه
ويعتبر أيضا إبقاؤه على هيئة يتأتى إدخاره عليها كالتمر بنواه لأنه إذا نزع بطل كماله لتسارع الفساد إليه بخلاف الخوخ والمشمش ونحوهما فإن كماله لا يبطل بنزع نواه فإن الغالب في تجفيفها أي في بعض البلاد نزع نواه كما أن اللحم المقدد لا يبطل كماله بنزع العظم منه
واختلف المتأخرون في فهم قوله ( وقد يعتبر الكمال أولا ) فإنه من مشكلات الكتاب فقال الشارح وذلك في مسألة العرايا الآتية في باب بيع الأصول والثمار اه
وهذا أحد احتمالين للإسنوي وقال إنه الأصح في الحمل والاحتمال الثاني أنه أراد إدخال العصير والخل من الرطب والعنب فإنه
____________________
(2/25)
يباع بعضه ببعض ولو اقتصر على ما مر لاقتضى أنه لا يباع الرطب إلا تمرا ولا العنب إلا زبيبا فنبه على أنه يكتفى بالكمال الأول وجرى على هذا السبكي و الأذرعي وهو الأولى كما قال ابن شهبة من الأول إذ يلزم من الحمل على الأول اختلاف مفهوم الكتاب فإنه يفهم حينئذ اعتبار الكمال آخرا إلا في العرايا وليس مرادا
وقال السبكي وقوله أولا نبه به على أنا إذا اعتبرنا الكمال يكتفى بالكمال الأول كالعصير ولا يشترط الآخر كالخل فكأنه قال يعتبر الكمال ولو أولا
وقال الزركشي كلا الأمرين فاسد أما الأول فلأنه لا كمال في الرطب والعنب ولكنه رخص في بيعه بمثله جافا بشروطه وأما الثاني فلأن تلك الحالة ليست أول أحواله
قال ومعنى كلام الكتاب أن المماثلة قد تعتبر وقت كمال ذلك الربوي في أول أحواله وهو الحليب فتعتبر المماثلة ذلك الوقت اه
وما قاله من أن العصير ليس أول أحوال الكمال ممنوع إذ ليس له حالة كمال قبل العصير
تنبيه قال السبكي ورأيت في بعض النسخ وقيل وهو تصحيف
والصواب وقد وهكذا هو بخط المصنف
ولا يباع رطب المطعومات برطبها بفتح الراء فيهما ولا بجافها إذا كانت من جنس إلا في مسألة العرايا سواء أكان لها حالة جفاف كما قال ( فلا يباع رطب برطب ) بضم الراء فيهما ( ولا ) برطبها بجافها كرطب ( بتمر ولا عنب بعنب ولا ) عنب ( بزبيب ) ولا تين رطب بتين رطب ولا رطب اليابس للجهل بالمماثلة وقت الجفاف لحديث الترمذي المتقدم وألحق بالرطب فيما ذكر طري اللحم فلا يباع بطريه ولا بقديده من جنسه ويباع قديده بقديده بلا عظم ولا ملح يظهر في الوزن
ولا تباع حنطة بحنطة مبلولة وإن جفت
ولا يشترط في التمر والحب تناهي الجفاف لأنهما مكيلان فلا يظهر أثر الرطوبة في الكيل بخلاف اللحم فإنه موزون يظهر أثره في الوزن أو لم يكن لها حالة جفاف كما قال ( وما لا جفاف له كالقثاء ) بكسر القاف وضمها والمثلثة والمد ( والعنب الذي لا يتزبب ) والرطب الذي يتتمر ( لا يباع ) بعضه ببعض ( أصلا ) قياسا على الرطب بالرطب
وقد يفهم أنه لو جف على ندور لا يباع جافا والذي أورده الشيخ أبو حامد و المحاملي وغيرهما الجواز وقال السبكي إنه الأقيس
( وفي قول ) مخرج ( تكفي مماثلته رطبا ) بفتح الراء لأن معظم منافعه في رطوبته فكان كاللبن فيباع وزنا وإن أمكن كيله وعلى الأول يستثنى الزيتون فإنه لا جفاف له ويجوز بيع بعضه ببعض كما جزم به الغزالي وغيره
( ولا تكفي مماثلة الدقيق والسويق ) أي دقيق الشعير ( والخبز ) ونحوها مما يتخذ من الحب كالعجين والنشاء ولا مماثلة لما فيه شيء مما اتخذ منها كالفالوذج فإن فيه النشاء فلا يباع شيء منه بمثله ولا بالحب الذي اتخذ منه لخروجها عن حالة الكمال وعدم العلم بالمماثلة فإن الدقيق ونحوه يتفاوت في النعومة والخبز ونحوه يتفاوت في تأثير النار
ولا تباع حنطة مقلية بحنطة مطلقا لاختلاف تأثير النار فيها ولا حنطة بما يتخذ منها ولا بما فيه شيء مما يتخذ منها
ويجوز بيع الحب بالنخالة والحب المسوس إذا لم يبق فيه لب أصلا لأنهما ليسا بربويين
ويصح بيع التمر بطلع الذكور دون طلع الإناث لأنه ليس بربوي وأما طلع الإناث فإنه ربوي
( بل تعتبر المماثلة في الحبوب ) التي لا دهن فيها ( حبا ) لتحققها فيهما وقت الجفاف ( و ) تعتبر ( في حبوب الدهن كالسمسم ) بكسر السينين ( حبا أو دهنا ) أو كسبا خالصا من دهنه فيجوز بيع السمسم بمثله والشيرج بمثله والكسب بمثله
وأما كسب غير السمسم واللوز الذي لا يأكله إلا البهائم ككسب القرطم أو أكل البهائم له أكثر فليس بربوي كما يؤخذ من القاعدة المتقدمة
وليس للطحينة قبل استخراج الدهن حالة كمال فلا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بيع السمسم بالشيرج لأنه في معنى بيع كسب ودهن بدهن وهو من قاعدة مد عجوة
والكسب الخالص والشيرج جنسان والأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج واللينوفر كلها مستخرجة من السمسم فيباع
____________________
(2/26)
بعضها ببعض إن ربي بالطيب سمسم الدهن بأن طرح في الطيب ثم استخرج دهنه فإن استخرج دهنه ثم طرح فيه أوراقها فلا يباع بعضها ببعض لأن اختلاطها بها يمنع معرفة التماثل
( و ) تعتبر ( في العنب ) والرطب ( زبيبا ) وتمرا ( أو خل عنب ) ورطب ( وكذا العصير ) أي عصير العنب والرطب ( في الأصح ) لأنه متهيء لأكثر الانتفاعات فيجوز بيع العصير بمثله وكذا بيع عصيره بخله متماثلا على الأصح وأما بيع الخل بعضه ببعض فقد تقدم الكلام عليه
فعلم من كلامه أنه قد يكون للشيء حالتا كمال فأكثر
والثاني ليس للعصير حالة كمال لأنه ليس على هيئة كمال المنفعة
ومثل عصير العنب والرطب عصير الرمان والتفاح وسائر الثمار وكذا عصير قصب السكر والمعيار في الدهن والخل والعصير الكيل
( و ) تعتبر المماثلة ( في اللبن لبنا ) خالصا غير مشوب بماء أو إنفحة أو ملح وغير مغلي بالنار كما يعلم مما يأتي فيباع الحليب بمثله وإنما يباع بعد سكون رغوته والرائب بمثله والرائب بالحليب كيلا ولا يبالى بكون ما يحويه المكيال من الخاثر أكثر وزنا لأن الاعتبار فيه بالكيل كالحنطة الصلبة بالرخوة
( أو سمنا ) خالصا مصفى بشمس أو نار فإنه لا يتأثر بالنار تأثير انعقاد ونقصان فيجوز بيع بعضه ببعض وزنا وإن كان مائعا على النص وقيل كيلا وقيل وزنا إن كان جامدا وكيلا إن كان مائعا قاله البغوي
قال في أصل الروضة وهو توسط بين وجهين أطلقهما العراقيون اه
واستحسن التوسط في الشرح الصغير
قال شيخنا ويؤيده أن اللبن يكال مع أنه مائع اه
ولا تأييد لأن اللبن أصله مائع فأجري فيه الكيل والسمن أصله جامد فأجري فيه الوزن وإنما يؤيده لو فرق في اللبن بين المائع والخاثر بل قالوا بالكيل مطلقا لما قلناه
ولا يباع زبد بزبد من جنسه في الأصح لأن ما فيهما من اللبن يمنع المماثلة
فإن قيل بيع اللبن بعضه ببعض في كل منهما زبد
أجيب بأن الصفة ممتزجة فلا عبرة بها
وخالفه العسل بشمعه لامتياز العسل عن الشمع
ولا يباع زبد بسمن والأسمان أجناس كالألبان
( أو مخيضا صافيا ) أي خالصا عن الماء لأن منفعته كاملة والمخيض ما نزع زبده ويباع بمثله وبالسمن وبالزبد
قال السبكي وظاهر كلام المصنف أنه إذا كان فيه ماء يسير لا يكون كاملا وليس كذلك
قال وهكذا الحليب وسائر الألبان
ويعتبر في المخيض الصرف أن لا يكون فيه زبد فإن كان فيه لم يبع بمثله ولا يزبد ولا يسمن لأنه يصير من قاعدة مد عجوة
فإن قيل اللبن جنس ينقسم إلى مخيض وحليب ورائب فلا يحسن جعل المخيض قسيما للبن بل هو قسم منه
أجيب بأنه لما كان الغالب خلط المخيض بالماء عطفه عليه وإن كان قسما منه وقيده بالخالص وإن كان غيره مقيدا به أيضا كما قدرته
( ولا تكفي المماثلة في سائر أحواله ) أي باقيها ( كالجبن ) بإسكان الباء وبضمها مع تشديد النون وبدونه ( والأقط ) والمصل والزبد لأنها لا تخلو عن مخالطة شيء فالجبن يخالطه الإنفحة والأقط يخالطه الملح والمصل يخالطه الدقيق والزبد لا يخلو عن قليل مخيض فلا تتحقق فيها المماثلة فلا يباع بعض كل منها ببعض
ولا يباع الزبد بالسمن ولا اللبن بما يتخذ منه كالسمن المخيض
( ولا تكفي مماثلة ما أثرت فيه النار بالطبخ أو القلي أو الشي ) لأن تأثير النار لا غاية له فيؤدي إلى الجهل بالمماثلة فلا يجوز بيع بعضه ببعض حبا كالسمسم أو غيره كاللحم وفيما أثرت فيه بالعقد كالدبس والسكر
والفانيد وهو عسل القصب المسمى بالمرسل وجهان أصحهما لا يباع بعضه ببعض لما ذكر والثاني يباع بعضه ببعض قياسا على صحة السلم فيه
وأجاب الأول بضيق باب الربا
واحترز بكون التأثير على أحد الوجوه الثلاثة عن تأثير الحرارة كالماء المغلي فإنه يباع بعضه ببعض كما قاله الإمام وعن تأثير التمييز كما قال ( ولا يضر تأثير تمييز كالعسل والسمن ) والذهب والفضة فإن النار في العسل لتمييز الشمع وفي السمن لتمييز اللبن وفي الذهب والفضة لتمييز الغش وهي لطيفة بالنسبة إلى العسل والسمن لا تؤثر في العقد فلو فرض أنها عقدته امتنع بيع بعضه ببعض أما قبل التمييز فلا يجوز ذلك للجهل بالمماثلة
ولا يجوز بيع العسل بشمعه بمثله
____________________
(2/27)
ولا بصاف لقاعدة مد عجوة
فإن قيل هلا جاز كبيع التمر بعضه ببعض وفيه النوى أجيب بأن النوى في التمر غير مقصود بخلاف الشمع في العسل فكان اجتماعهما يؤدي إلى الجهالة
( وإذا جمعت الصفقة ) أي البيعة سميت بذلك لأن أحد المتبايعين يصفق يده على يد الآخر في عادة العرب جنسا ( ربويا من الجانبين ) وليس تابعا بالإضافة إلى القصور ( واختلف الجنس ) أي جنس المبيع ( منهما ) جميعهما بأن اشتمل أحدهما على جنسين ربويين اشتمل الآخر عليهما ( كمد عجوة ودرهم بمد ) من عجوة ( ودرهم ) ( و ) كذا لو اشتمل على أحدهما فقط ( كمد ودرهم بمدين أو درهمين ) أو اشتملا جميعهما على جنس ربوي وانضم إليه غير ربوي فيهما كدرهم وثوب بدرهم وثوب أو في أحدهما كدرهم وثوب بدرهم ( أو ) اختلف ( النوع ) أي نوع المبيع والمراد به ما يعم الوصف بأن اختلف النوع الحقيقي من الجانبين جميعهما بأن اشتمل أحدهما من جنس ربوي على نوعين اشتمل الآخر عليهما كمد تمر صيحاني ومد برني بمد تمر صيحاني ومد برني أو على أحدهما كمد صيحاني ومد برني بمدين صيحاني أو برني
أو اختلف الوصف من الجانبين جميعهما بأن اشتمل أحدهما من جنس ربوي على وصفين اشتمل الآخر عليهما ( كصحاح ومكسرة ) تنقص قيمتها عن قيمة الصحاح ( بهما ) أي بصحاح ومكسرة أو جيدة ورديئة بجيدة ورديئة ( أو بأحدهما ) أي بصحاح فقط أو بمكسرة فقط أو بجيدة فقط أو رديئة فقط
( فباطلة ) هذه المسألة هي القاعدة المعروفة بقاعدة مد عجوة
والأصل فيها خبر مسلم عن فضالة بن عبيد قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز وذهب تباع بتسعة دنانير فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال الذهب بالذهب وزنا بوزن وفي رواية لا تباع حتى تفصل
واستدل على القاعدة من جهة المعنى بأن قضية اشتمال أحد طرفي العقد على مالين مختلفين توزيع ما في الآخر عليهما اعتبارا بالقيمة كما في بيع شقص مشفوع وسيف بألف وقيمة الشقص مائة والسيف خمسون فإن الشفيع يأخذ الشقص بثلثين والتوزيع هنا يؤدي إلى المفاضلة أو الجهل بالمماثلة لأنه إذا باع مدا ودرهما بمدين إن كانت قيمة المد الذي مع الدرهم أكثر أو أقل منه لزمته المفاضلة أو مثله فالمماثلة مجهولة فلو كانت قيمته درهمين فالمد ثلثا طرفه فيقابله ثلثا المدين أو نصف درهم فالمد ثلث طرفه فيقابله ثلث المدين فنلزم المفاضلة أو مثله فالمماثلة مجهولة لأنها تعتمد التقويم وهو تخمين قد يخطىء
فإن قيل يشكل على هذا ما قالوه في الصلح من أنه لو كان له على غيره ألف درهم وخمسون دينارا ذهبا فصالحه من ذلك على ألفي درهم جاز
أجيب بأن الكلام هنا في بيع العين بخلاف ما في الصلح وتعدد العقد هنا بتعدد البائع أو المشتري كاتحاده بخلاف تعدده بتفصيل العقد بأن جعل في بيع مد ودرهم بمثلهما المد في مقابلة المد أو الدرهم والدرهم في مقابلة الدرهم أو المد
وخرج بقولي جنسا ما لو لم يشتمل أحد جانبي العقد على شيء مما اشتمل عليه الآخر كبيع دينار ودرهم بصاع بر وصاع شعير أو بصاعي بر أو شعير وبيع دينار صحيح وآخر مكسر بصاع تمر برني وصاع معقلي أو بصاعين برني أو معقلي فإنه يجوز
وقوله ربويا من الجانبين أي ولو كان الربوي ضمنا من جانب واحد كبيع سمسم بدهنه فيبطل لوجود الدهن في جانب حقيقة وفي الآخر ضمنا بخلاف ما لو كان ضمنا من الجانبين كبيع سمسم بسمسم فيصح وبليس تابعا بالإضافة إلى المقصود ما إذا كان تابعا كبيع حنطة بشعير وفيهما أو في أحدهما حبات من الآخر يسيرة بحيث لا يقصد تمييزها لتستعمل وحدها فإنه يصح وكذا لو باع صاع بر جيد ورديء مختلطا بمثله فإنه يصح ويصح بيعه بجيد أو رديء إذ المتوزع شرطه التمييز
وظاهر كلامهم أنه يصح وإن كثرت حبات الآخر وهو كذلك وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين
والفرق بين الجنس والنوع أن الحبات إذا كثرت في الجنس لم تتحقق المماثلة بخلاف النوع
وكبيع دار فيها بئر ماء عذب بمثلها فإنه يصح لأن الماء وإن اعتبر علم العاقدين به تابع بالإضافة إلى مقصود الدار لعدم توجه القصد إليه غالبا ولا ينافي كونه تابعا بالإضافة كونه مقصودا في نفسه حتى يشترط التعرض له في البيع ليدخل
والحاصل أنه من حيث أنه تابع بالإضافة اغتفر من جهة الربا ومن حيث أنه مقصود في نفسه اعتبر التعرض له في البيع ليدخل فيه
____________________
(2/28)
وبنقص قيمة المكسرة عن الصحيحة ما لو تساوت قيمتها فلا بطلان
ولو باع دارا وقد ظهر بها معدن ذهب بذهب لم يصح للربا لأن المعدن مع العلم به مقصود بالمقابلة فلو ظهر بها المعدن بعد الشراء جاز لأن المعدن مع الجهل به تابع بالإضافة إلى مقصود الدار والمقابلة بين الذهب والدار خاصة
فإن قيل لا أثر للجهل بالمفسد في باب الربا
أجيب بأنه لا أثر له في غير التابع
وأما في التابع فقد يتسامح بجهله والمعدن من توابع الأرض كالحمل يتبع أمه في البيع وغيره
فإن قيل قد منعوا بيع ذات لبن بذات لبن
أجيب بأن الشرع جعل اللبن في الضرع كهو في الإناء بخلاف المعدن وبأن ذات اللبن المقصود منها اللبن والأرض ليس المقصود منها المعدن
وإذا عرفت هذا ففي كلام المصنف أمور ننبه عليها تشحينا للذهن أحدها قوله وإذا جمعت الصفقة خرج بها ما إذا تعددت وهو صحيح فيما إذا تعددت بتفصيل الثمن دون ما إذا تعددت بتعدد البائع أو المشتري كما مر
ثانيها كان ينبغي أن يقول جنسا قبل قوله ربويا كما قدرته في كلامه لأنه لو باع ذهبا وفضة بحنطة فقط أو بشعير فقط أو بهما وما أشبه ذلك فإنه يصح مع دخوله في الضابط
ثالثها قوله واختلف الجنس منهما ليس المراد الجنس الربوي المعتبر وجوده من الجانبين كما يوهمه كلامه فإن ذلك متحد كما مر وإنما المراد اختلف جنس المبيع بأن يكون مع الربوي جنس آخر كما يظهر ذلك من مثاله فلو عبر بقوله واختلف المبيع جنسا لاستقام
رابعها كان ينبغي أن يقول أو من أحدهما كما قاله في المحرر لأنه لو باع مدا ودرهما بمدين لم يختلف الجنس منهما
قال الزركشي وهو مراد المصنف بدليل تمثيله بالمد والدرهم في مقابلة المدين وقد صرح به في النوع ولا فرق فحذفه من الأول لدلالة الثاني عليه
خامسها كان ينبغي أن يقول أيضا أن يكون الجنس الآخر مقصودا ليخرج التابع للمقصود كما مر
سادسها تمثيله يقتضي التصوير بما إذا كان المضموم إليه ربويا وليس مرادا بل لا فرق في الجنس المضموم إلى الربوي بين أن يكون ربويا أيضا أم لا كما تقدم
سابعها تمثيله لاختلاف النوع بالصحاح والمكسرة فيه تجوز وإنما هو اختلاف صفة لا اختلاف نوع فمراده بالنوع ما ليس بجنس ليشمل النوع والصفة كما تقدم حتى يصح المثال
ثامنها أطلق البطلان في الصحاح والمكسرة ولا بد أن تنقص قيمة المكسر عن الصحيح كما مر
تاسعها لا يشترط تمييز أحد النوعين عن الآخر فلو باع صاعا من رديء وجيد مختلطين بمثله أو جيد أو رديء جاز كما مر ومثله ما لو خلط الصحاح بالمكسرة
فروع يجوز بيع الجوز بالجوز واللوز باللوز وزنا وإن اختلف قشرهما وسيأتي في ذلك خلاف في السلم إن شاء الله تعالى
ويجوز بيع لب الجوز بلب الجوز ولب اللوز بلب اللوز
فإن قيل قد منعوا بيع منزوع النوى بمثله لبطلان كماله وهو موجود هنا
أجيب بأن منزوع النوى أسرع فسادا من لبهما كما هو معلوم
ويجوز بيع البيض مع قشره بالبيض كذلك وزنا عند اتحاد الجنس فإن اختلفا جاز جزافا
( ويحرم بيع اللحم ) وما في معناه كالشحم والكبد والقلب والكلية والطحال والألية ( بالحيوان من جنسه ) كبيع لحم ضأن بضأن ( وكذا ) يحرم ( بغير جنسه من مأكول ) كبيع لحم البقر بالضأن ولحم السمك بالشاة ولحم الشاة بالبعير ( وغيره ) أي غير مأكول كبيع لحم ضأن بحمار ( في الأظهر ) لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الشاة باللحم رواه الحاكم والبيهقي وقال إسناده صحيح ونهى عن بيع اللحم بالحيوان رواه أبو داود عن سعيد بن المسيب مرسلا وأسنده الترمذي عن زيد بن سلمة الساعدي
ومقابل الأظهر الجواز
أما في المأكول وهو مبني على أن اللحوم أجناس فبالقياس على بيع اللحم باللحم
وأما في غيره فوجه بأن سبب المنع بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه ولم يوجد ذلك هنا
أما بيع الجلد بالحيوان فيصح بعد دبغه بخلافه قبله
خاتمة يجوز بيع لبن شاة بشاة حلب لبنها فإن بقي فيها لبن بقصد حلبه لكثرته أو باع ذات لبن مأكولة بذات لبن كذلك من جنسها لم يصح لأن اللبن في الضرع يأخذ قسطا من الثمن بدليل أنه يجب التمر في مقابلته في المصراة بخلاف الآدميات ذوات اللبن فقد نقل في البيان عن الشاشي الجواز فيها وفرق بأن لبن الشاة في الضرع له حكم العين ولهذا لا يجوز عقد الإجارة عليه بخلاف لبن الآدمية فإن له حكم المنفعة ولهذا يجوز عقد الإجارة عليه
ولو باع لبن بقرة بشاة في ضرعها لبن صح لاختلاف الجنس كما مر
أما بيع ذات لبن بغير ذات لبن فصحيح وبيع بيض بدجاجة
____________________
(2/29)
كبيع لبن بشاة فإن كان في الدجاجة بيض والبيض المبيع بيض دجاجة لم يصح وإلا صح
وبيع دجاجة فيها بيض بدجاجة كذلك باطل كبيع ذات لبن بمثلها
باب في البيوع المنهي عنها وغيرها
والبيوع المنهي عنها قسمان فاسد لاختلال ركن أو شرط وهو المصدر به وغير فاسد لكون النهي ليس لخصوصيته بل لأمر آخر كما سيأتي وتعاطي المعقود الفاسد حرام في الربوي وغيره إلا في مسألة المضطر المعروفة وهي فيما إذا لم يبعه مالك الطعام إلا بأكثر من ثمن المثل فله أن يشتريه شراء فاسدا إن أمكن حتى لا يلزمه أكثر منه
ثم شرع في القسم الأول وهو ثمانية مبتدئا بواحد منها فقال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل ) رواه البخاري ( وهو ) بفتح العين وسكون السين المهملتين وبالباء الموحدة ( ضرابه ) وهو بكسر الضاد طروق الفحل للأنثى قال الرافعي وهذا هو المشهور في كتب الفقه
( ويقال ماؤه ) وصححه الماوردي و الروياني وعليهما لا بد من تقدير في الحديث ليصح النهي لأن نفس العسب وهو الضراب لا يتعلق به النهي لأنه ليس من أفعال المكلفين والإعارة له محبوبة فيكون التقدير على الأول أجرة عسب الفحل وعلى الثاني ثمن مائه
( ويقال أجرة ضرابه ) ورجحه الخطابي في غريب الحديث وجزم به صاحب الكافي أي أنه نهى عن بذل ذلك وأخذه
فإن قيل على هذا التقدير ما الفرق بين التفسير الأول والثالث أجيب بأن الأجرة على التفسير الأول مقدرة وعلى الثالث ظاهرة
وهذا كاف في الفرق
( فيحرم ثمن مائه ) عملا بالأصل في النهي من التحريم والبيع باطل لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور التسليم
( وكذا ) يحرم ( أجرته في الأصح ) لما ذكره
ولم تصح إجارته لأن فعل الضراب غير مقدور عليه للمالك بل يتعلق باختيار الفحل والثاني يجوز كالإستئجار لتلقيح النخل
وأجاب الأول بأن الأجير قادر على تسليم نفسه وليس عليه عين حتى لو شرط عليه ما يلقح به فسدت الإجارة وههنا المقصود الماء والمؤجر عاجز عن تسليمه وعلى الأول لمالك الأنثى أن يعطي مالك الفحل شيئا هدية وإعارته للضراب محبوبة كما مر
( و ) الثاني منها النهي ( عن ) بيع ( حبل الحبلة ) رواه الشيخان ( وهو ) بفتح المهملة والموحدة وغلط من سكنها ( نتاج النتاج بأن يبيع نتاج النتاج ) هذا تفسير أهل اللغة ووجه البطلان انتفاء الملك وغيره من شروط البيع
( أو ) ببيع شيئا ( بثمن إلى نتاج النتاج ) وهذا تفسير ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما ثبت في الصحيحين وهو راوي الحديث
ووجه البطلان جهالة الأجل
تنبيه الحبلة جمع حابل وقيل هو مفرد وهاؤه للمبالغة
وفي كلام المصنف تبعا للحديث مجاز من وجهين الأول إطلاق الحبل على البهائم مع أنه مختص بالآدميات الاتفاق حتى قيل إنه لا يقال لغيرهن إلا في الحديث وإنما يقال للبهائم الحمل بالميم
والثاني أنه مصدر والمراد به اسم المفعول وهو المحبول به
والنتاج بفتح النون على المشهور وضبطه المصنف بخطه بكسرها وهو الذي يتلفظ به الفقهاء يقال نتجت الناقة على ما لم يسم فاعله
( و ) الثالث منها النهي ( عن ) بيع ( الملاقيح ) جمع ملقوح وهو لغة جنين الناقة خاصة وشرعا أعم من ذلك كما يؤخذ من قوله ( وهي ما في البطون ) من الأجنة
( و ) الرابع منها النهي عن بيع ( المضامين ) جمع مضمون كمجانين جمع مجنون أو مضمان كمفاتيح جمع مفتاح ( وهي ما في أصلاب الفحول ) من الماء
روى النهي عن بيعهما مالك عن سعيد بن المسيب مرسلا والبزاز
____________________
(2/30)
مسندا
وبطلان بيعهما لانتفاء الشروط
( و ) الخامس منها النهي عن بيع ( الملامسة ) رواه الشيخان ( بأن يلمس ثوبا مطويا ) أو في ظلمة ( ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه ) اكتفاء بلمسه عن رؤيته
( أو يقول إذا لمسته فقد بعتكه ) اكتفاء بلمسه عن الصيغة
وبطلان البيع في ذلك عدم الرؤية على التفسير الأول وعدم الصيغة على التفسير الثاني
( و ) السادس منها النهي عن بيع ( المنابذة ) بالمعجمة رواه الشيخان
والنبذ الطرح والإلقاء قال تعالى { فنبذوه وراء ظهورهم } بأن يجعلا النبذ بيعا اكتفاء به عن الصيغة فيقول أحدهما أنبذ إليك ثوبي بعشرة فيأخذه الآخر
ووجه البطلان فقد الصيغة ويجيء فيه الخلاف المذكور في المعاطاة فإن المنابذة مع قرينة البيع هي المعاطاة بعينها هكذا نقله الرافعي عن الأئمة حتى قيل إن النص على المنع هنا نص على إبطال المعاطاة
ورده السبكي قال لأن المعاطاة فعل معه قرينة تدل على قصد البيع حتى كأنه وضع عرفا لذلك وهذا ما علم ذلك منه إلا بقوله إذا نبذت فقد بعت وحالة النبذ لم يوجد قصد ولا قرينة وليس ذلك حقيقة المعاطاة اه
أو يقول بعتك هذا بكذا على أني إذا نبذته إليك لزم البيع وانقطع الخيار
ووجه البطلان في ذلك وجود الشرط الفاسد
( و ) السابع منها النهي عن ( بيع الحصاة ) رواه مسلم ( بأن يقول له بعتك من هذه الأثواب ما تقع هذه الحصاة عليه ) أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة
( أو يجعلا ) أي المتبايعان ( الرمي ) لها ( بيعا ) بأن يقول إذا رميت هذه الحصاة فقد بعتك هذا الثوب بكذا
( أو ) يجعلاه قاطعا للخيار بأن يقول ( بعتك ولك ) أو لي أو لغيرهما ( الخيار إلى رميها ) ووجه البطلان في الأول جهالة المبيع وفي الثاني فقدان الصيغة وفي الثالث الجهل بمدة الخيار
تنبيه لا يجوز عطف الثالث على ما قبله بل على الأول فإنهما معمولان لقوله في الأول بأن يقول فكان ينبغي تقديمه على الثاني أو يزيد لفظة يقول كما قدرتها تبعا للمحرر
( و ) الثامن منها النهي ( عن بيعتين في بيعة ) رواه الترمذي وصححه ( بأن يقول بعتك ) هذا ( بألف نقدا أو ألفين إلى سنة ) فخذ بأيهما شئت أنت أو شئت أنا
وهو باطل للجهالة
( أو بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا ) أو تشتري داري مني بكذا
( و ) عدم الصحة للنهي ( عن بيع وشرط ) رواه عبد الحق في أحكامه وذلك ( كبيع بشرط بيع ) كما تقدم ( أو ) بشرط ( قرض ) كأن يبيعه عبده بألف بشرط أن يقرضه مائة والمعنى في ذلك أنه جعل الألف ورفق العقد الثاني ثمنا واشتراط العقد الثاني فاسد فبطل بعض الثمن وليس له قيمة معلومة حتى يفرض التوزيع عليه وعلى الباقي فبطل العقد
ولو عقد البيع الثاني لم يصح إن جهلا أو أحدهما بطلان الأول لأنهما أثبتاه على حكم الشرط الفاسد فإن علما فساد الأول صح
وسبب فساد الشرط كما قاله الغزالي أن انضمام الشرط إلى البيع يبقي علقة بعد البيع يثور بسببها منازعة بين المتبايعين فبطل أعني الشرط إلا ما استثني لمعنى كما سيأتي
( ولو اشترى زرعا بشرط أن يحصده البائع ) بضم الصاد وكسرها أو ويحصده البائع
( أو ثوبا ) بشرط أن يخيطه البائع أو ( ويخيطه ) البائع وما أشبه ذلك ( فالأصح ) من طرق ثلاثة ( بطلانه ) أي الشراء لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه المشتري الآن لأنه لم يدخل في ملك المشتري إلا بعد الشرط وذلك فاسد
والطريقة الثانية في البيع والشرط القولان في الجمع بين بيع وإجارة والطريقة الثالثة يبطل الشرط وفي البيع قولا تفريق الصفقة
تنبيه قد عبر في المحرر بلفظ الشرط في المثالين فقال أو ثوبا بشرط أن يخيطه
قال الإسنوي فعدل إلى ما ذكره للتنبيه على فائدة نفيسة وهي أنه لا فرق بين أن يصرح بالشرط أو يأتي به على صورة الإخبار وقد صرح
____________________
(2/31)
بذلك في شرح المهذب فقال وسواء أقال بعتكه بألف على أن تحصده أو وتحصده وقال الشيخ أبو حامد لا يصح الأول قط أو في الثاني الطريقان اه
ولم يتعرض الرافعي في كتبه إلى هذه الفائدة ولا المصنف في الروضة
ولو قال اشتريته بعشرة واستأجرتك لحصده أو خياطته بدرهم وقبل بأن قال بعتك وأجرتك صح البيع دون الإجارة لأنه استأجره قبل الملك لمحل العمل فإن اشتراه واستأجره بالعشرة فقولا تفريق الصفقة في البيع وتبطل الإجارة كما صرح به في المجموع
ولو اشترى حطبا مثلا على دابة بشرط إيصاله منزله لم يصح وإن عرف منزله لأنه بيع بشرط فإن أطلق العقد صح ولا يجب إيصاله منزله وإن اعتيد بل يسلمه له في موضعه
( ويستثنى ) من النهي عن بيع وشرط ( صور ) تصح كما سيأتي ( كالبيع بشرط الخيار أو البراءة من العيب أو بشرط قطع الثمر ) وسيأتي الكلام عليها في محالها ( أو ) بشرط ( الأجل ) في عقد لا يشترط فيه الحلول والتقابض كالربويات ( والرهن والكفيل المعينات لثمن ) أو مبيع ( في الذمة ) أما الأجل فلقوله تعالى { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } أي معين
نعم التأجيل بما يستبعد بقاء الدنيا إليه كألف سنة فاسد كما قاله في زوائد الروضة
وأما الرهن والكفيل فللحاجة إليهما في معاملة من لا يرضى إلا بهما والتعيين في الرهن بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم وفي الكفيل بالمشاهدة أو بالاسم والنسب ولا يكفي الوصف كموسر ثقة وبحث الرافعي الإكتفاء به وقال إنه أولى من الإكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله
وأجيب عنه بأن الأحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لعدم القدرة عليهم بخلاف المرهون فإنه مال يثبت في الذمة وهذا جرى على الغالب وإلا فقد يكون الضامن رقيقا
ويشترط أن يكون المرهون غير المبيع فإن شرطا رهنه لم يصح سواء اشترط أن يرهنه أباه بعد قبضه أم قبله لأنه لم يدخل في ملك المشتري إلا بعد الشرط فإن رهنه بعد قبضه بلا شرط صح
تنبيه أشار المصنف بقوله المعينات إلى تعيين الثلاثة وكان الأولى أن يقول المعينين تغليبا للعاقل وهو الكفيل على غيره ولو عبر بقوله بعوض حتى يشمل المبيع لاستغنى عما قدرته فإن المبيع قد يكون في الذمة أيضا كما لو قال اشتريت منك صاعا في ذمتك بصفة كذا فيصح فيه اشتراط الأجل والرهن والكفيل
وخرج بقيد في الذمة المعين كما لو قال بعتك بهذه الدراهم على أن تسلمها إلي وقت كذا أو ترهن بها كذا أو يضمنك بها فلان فإن العقد بهذا الشرط باطل لأنه رفق شرع لتحصيل الحق والمعين حاصل فشرط كل من الثلاثة معه واقع في غير ما شرع له
وأما صحة ضمان العوض المعين فمشروط بقبضه كما سيأتي في محله وبالثمن والمبيع ما لو شرط رهنا أو ضامنا بدين آخر فإنه لا يصح لأنه شرط مقصود لا يوجبه العقد وليس من مصالحه
ويستثنى من إطلاقه الكفيل ما لو باع سلعة من اثنين وشرط أن يتضامنا فإنه لا يصح كما في تعليق القاضي حسين والوسيط وغيرهما وعللوه بأنه شرط على المشتري أن يكون ضامنا لغيره وهو باطل لخروجه عن مصلحة عقده بخلاف عكسه
( و ) بشرط ( الإشهاد ) على الثمن أو المثمن سواء المعين وما في الذمة لعموم قوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } وللحاجة إليه
( ولا يشترط تعيين الشهود في الأصح ) لأن المقصود ثبوت الحق وهو يثبت بأي عدول كانوا
والثاني يشترط كما في الرهن والكفيل
وعلى الأول لو عينهم لم يتعينوا
ولا خيار لمن شرط له ذلك إذا امتنعوا فيجوز إبدالهم بمثلهم أو فوقهم في الصفات
( فإن لم ) يشهد من شرط عليه الإشهاد كأن مات قبله أو لم ( يرهن ) ما شرط رهنه كأن تلف المرهون أو أعتقه مالكه أو دبره أو بان معيبا قبل القبض ( أو لم يتكفل المعين ) كأن مات قبله ( فللبائع الخيار ) وإن شرط له أو شرط للمشتري فله إذا فات المشروط من جهة البائع لفوات المشروط وهو على الفور لأنه خيار نقص
ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بما شرط لزوال الضرر بالفسخ ولا يقوم غير المعين مقامه إذا تلف ولا خيار له إن تعيب بعد القبض إلا إن
____________________
(2/32)
استند إلى سبب سابق جهله كردة وسرقة سابقين فيثبت له الخيار بخلاف ما لو مات بمرض سابق
ولو تغير حال الكفيل بإعسار أو غيره قبل أن يتكفل أو تبين أنه كان قد تغير قبله فالقياس كما قال الإسنوي إلحاقه بالرهن
ولو علم المرتهن بالعيب بعد هلاك المرهون فلا خيار له لأن الفسخ إنما يثبت إذا أمكنه رد المرهون كما أخذه
نعم إن كان الهلاك يوجب القيمة فأخذها المرتهن رهنا ثم علم بالعيب فله الخيار كما جزم به الماوردي
( ولو باع ) رقيقا ( عبدا ) أو أمة ( بشرط إعتاقه ) مطلقا أو عن المشتري ( فالمشهور صحة البيع والشرط ) لتشوف الشارع إلى العتق ولخبر الصحيحين أن عائشة رضي الله تعالى عنها اشترت بريرة وشرط مواليها أن تعتقها ويكون ولاؤها لهم فلم ينكر صلى الله عليه وسلم إلا شرط الولاء لهم بقوله ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
والثاني لا يصحان كما لو شرط بيعه أو هبته
والثالث يصح البيع ويبطل الشرط كما في النكاح
أما إذا شرط إعتاقه عن البائع أو أجنبي فإنه لا يصح لأنه ليس في معنى ما ورد به الخبر
وخرج بإعتاق المبيع شرط إعتاق غيره فلا يصح معه البيع لأنه ليس من مصالحه وشرط اعتقاد بعضه
نعم إن عين المقدار المشروط فالمتجه كما قال شيخنا الصحة ولو باع بعضه بشرط إعتاق ذلك البعض صح كما هو قضية كلام البهجة ك الحاوي
ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو كان المشروط إعتاقه قريبه الذي يعتق عليه بالشراء كأبيه أو إبنه فإن البيع لا يصح لتعذر الوفاء بالشرط لأنه يعتق عليه قيل إعتاقه وهذا هو المعتمد وإن قال في المجموع وفيه نظر ويحتمل الصحة ويكون شرطه توكيدا للمعنى
قال الأذرعي والظاهر أن شراء من أقر بحريته بشرط العتق كشراء القريب ويحتمل الفرق بينهما اه
والأول أظهر للعلة المذكورة
( والأصح ) على الأول ( أن للبائع مطالبة المشتري بالإعتاق ) وإن قلنا الحق فيه ليس له بل لله تعالى وهو الأصح كالملتزم بالنذر لأنه ألزم باشتراطه ويثاب على شرطه فله غرض في تحصيله ولذلك قد يتسامح في الثمن
قال الأذرعي ولم لا يقال للآحاد المطالبة حسية لا سيما عند موت البائع أو جنونه والثاني ليس له مطالبته لأنه لا ولاية له في حق الله تعالى
فإن قلنا العتق حق للبائع فله المطالبة قطعا ولو أسقط البائع حقه سقط على المذهب كما لو شرط رهنا أو كفيلا ثم عفا عنه ولو امتنع المشتري من الإعتاق أجبره الحاكم عليه لأن الحق فيه لله تعالى كما مر فإن أصر على الامتناع أعتقه الحاكم عليه كما قاله القاضي و المتولي وقيل يحبسه حتى يعتقه
أما إذا قلنا الحق فيه للبائع لم يجبره بل يثبت للبائع الخيار وإذا أعتقه المشتري أو الحاكم عنه فالولاء له
وإن قلنا الحق فيه للبائع وللمشتري قبل العتق استخدامه وإكسابه وقيمته إن قتل ولا يكلف صرفها إلى عتق غيره ولو كان المشترى أمة كان له وطؤها على الأصح فإن أولدها لم يجزه عن الإعتاق بل عليه إعتاقها وليس له البيع ولو بشرط الإعتاق لأن عتقه متعين عليه ولا الإجارة على الأصح في المجموع
ولو جنى قبل إعتاقه لزمه فداؤه كأم الولد ولو أعتقه عن كفارته لم يجزه عنها وإن أذن له فيه البائع لاستحقاقه العتق بجهة الشرط فلا يصرف إلى غيرها كما لا يعتق المنذور عن الكفارة
وبما تقرر علم أنه لا يلزمه الإعتاق فورا وإنما يلزمه إذا طلبه منه الحاكم أو البائع أو ظن فواته لو لم يأت به فلو مات المشتري قبل إعتاقه فالقياس أن وارثه يقوم مقامه
هذا ظاهر في غير من استولدها أما من استولدها فينبغي أنها تعتق بموته ولا ينافي ذلك قولهم إن الاستيلاد لا يجزىء لأنه ليس بإعتاق إذ معناه أنه لا يسقط عنه طلب العتق لا أنها لا تعتق بموته لأن الشارع متشوف إلى العتق ما أمكن والحق في ذلك لله تعالى لا للبائع على المعتمد فعتقها بموته أولى من أن نأمر الوارث ليعتقها
ولو شرط عتق حامل فولدت ثم أعتقها لم يعتق الولد على الأصح في المجموع لانقطاع التبعية بالولادة
( و ) الأصح ( أنه لو شرط مع العتق الولاء له ) أي البائع ( أو شرط تدبيره ) أو تعليق عتقه بصفة ( أو كتابته أو إعتاقه بعد شهر ) مثلا ( لم يصح البيع ) أما في الأولى فلمخالفته ما تقرر في الشرع من أن الولاء لمن أعتق
وأجاب الشافعي رحمه الله تعالى عن قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/33)
واشترطي لهم الولاء بمعنى عليهم كما في قوله تعالى { وإن أسأتم فلها }
وشرط الولاء لأجنبي أولى بالبطلان
وأما في الباقي فلأنه لم يحصل في واحد منه ما تشوف إليه الشارع من العتق الناجز والثاني يصح البيع ويبطل الشرط واشتراط الوقف كاشتراط التدبير ونحوه
واحترز بقوله مع العتق عما إذا شرط الولاء فقط بأن قال إن أعتقه فولاؤه لي فإن البيع باطل قطعا لأن الولاء تابع للعتق وهو لم يشترط الأصل
ولو باع رقيقا بشرط أن يبيعه المشتري بشرط الإعتاق لم يصح البيع وكذا لو اشترى دارا بشرط أن يقفها أو ثوبا بشرط أن يتصدق به لأن ذلك ليس في معنى ما ورد به الشرع
( ولو شرط مقتضى العقد كالقبض والرد بعيب أو ) شرط ( ما لا غرض فيه كشرط أن لا يأكل إلا كذا ) كهريسة أو لا يلبسه إلا كذا كحرير ( صح ) العقد فيهما
أما في الأولى فلأن اشتراطه تأكيد وتنبيه على ما أوجبه الشارع عليه وأما في الثانية فلأن ذكره لا يورث تنازعا في الغالب فذكره فيها لغو وهذا ما جزم به في المجموع ونقله في أصل الروضة عن الإمام و الغزالي ثم قال لكن في التتمة أنه لو شرط إلزام ما ليس بلازم كما لو باع بشرط أن يصلي النوافل أو يصوم شهرا غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها فسد العقد لأنه إلزام ما ليس بلازم قال وقضيته فساد العقد في مسألة الهريسة والحرير
قال الإسنوي ومقتضاه أنه لم يجد تصريحا بالبطلان وإنما يؤخذ من مقتضى كلام التتمة
وهو عجيب فقد نص عليه الشافعي في الأم فقال وإذا باعه العبد على أن لا يبيعه من فلان أو على أن يبيعه منه أو على أن لا يستخدمه أو على أن ينفق عليه كذا وكذا فالبيع فاسد
فتلخص أن مذهب الشافعي في اشتراط ما لا غرض فيه البطلان وأن الرافعي لم يطلع فيه إلا على كلام بعض المتأخرين المعدودين في المصنفين لا في أصحاب الوجوه
قال وقد اختار ابن الصلاح و ابن الرفعة في لا يأكل إلا الهريسة أن يقرأ بتاء الخطاب فإنه حينئذ لا غرض فيه أصلا بخلاف ما إذا قريء بالياء آخر الحروف فقد يتخيل فيه الإفساد لأنه ينفع العبد كالإعتاق
وما قالاه بعيد عن السياق لكنه صحيح نقلا كما بينته
وأجاب عن ذلك الزركشي بأن ما في التتمة محله فيما لا يلزم السيد أصلا ومسألتنا محلها فيما يلزمه في الجملة إذ نفقة الرقيق مقدرة بالكفاية وقد شرط عليه أداؤها من أحد الأنواع التي تتأدى هي ببعضها فيصح ولا يلزمه الوفاء به لأن الواجب أحدها فأشبه خصال الكفارة لا يتعين أحدها بالتعيين
قال وأما قوله في الأم على أن ينفق عليه كذا وكذا ففيه إشارة إلى التقدير بقدر معلوم وإلى أنه يجمع له بين أدمين أو نوعين من الأطعمة وذلك لا يلزم السيد فإذا شرط فقد شرط ما لا يلزمه وهو مخالف لمقتضى العقد فأبطله
قال وفي التمثيل ببيع الحرير نظر إذا كان العبد بالغا فينبغي أن لا يصح البيع كما لو باع سيفا بشرط أن يقطع به الطريق
وأجاب عنه شيخي بأن لبس الحرير جائز في الجملة بخلاف المنظر به
قال البغوي ولو باعه إناء بشرط أن لا يجعل فيه محرما أو سيفا بشرط أن لا يقطع به الطريق أو عبدا بشرط أن لا يعاقبه بما لا يجوز صح البيع ويقاس به ما يشابهه
ولو قال بعتك الدار على أن لك نصفها بألف صح كما لو قال بعتكها بألف إلا نصفها
( ولو شرط ) البائع بموافقة المشتري حبس المبيع بثمن في الذمة حتى يستوفي الزمن الحال لا المؤجل وخاف فوت الثمن بعد التسليم ولم يقل بالبداءة بالبائع صح لأن حبسه من مقتضيات العقد بخلاف ما إذا كان مؤجلا أو حالا ولم يخف فوته بعد التسليم لأن البداءة حينئذ بالتسليم للبائع
( ولو شرط وصفا يقصد ككون العبد كاتبا أو الدابة ) أو الأمة ( حاملا أو ) الدابة ( لبونا ) أي ذات لبن ( صح ) العقد مع الشرط لأنه شرط يتعلق بمصلحة العقد وهو العلم بصفات المبيع التي تختلف بها الأغراض ولأنه التزم موجودا عند العقد ولا يتوقف التزامه على إنشاء أمر مستقبل فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط وإن سمى شرطا تجوزا فإن الشرط لا يكون إلا مستقبلا ويكفي في الصفة المشروطة ما يطلق عليها الاسم
نعم لو شرط حسن الخط
فإن كان غير مستحسن في العرف فله الخيار وإلا فلا قاله المتولي
ولو شرط وضع الحمل لشهر مثلا أو أنها نذر كل يوم صاعا مثلا لم يصح لأن ذلك غير مقدور عليه فيهما وغير منضبط في الثانية
____________________
(2/34)
فصار كما لو شرط أن يكتب العبد كل يوم عشر ورقات مثلا
تنبيه قال بعض شراح الكتاب ولو أبدل المصنف لفظ الدابة بالحيوان لكان أحسن ليشمل الأمة فإن حكمها كذلك ولذلك قدرتها في كلامه
ولعل هذا حمل الدابة على العرف فإن حملت على اللغة فهو كالتعبير بالحيوان
( وله الخيار ) فورا كما قاله الرافعي ( إن أخلف ) المشروط لفوات شرطه
( وفي قول يبطل العقد في الدابة ) بصورتيها بالشرط لا بالخلف لأنه شرط معها شيئا مجهولا فأشبه ما لو قال بعتكها وحملها
وأجاب الأول بأن المقصود الوصف به لا إدخاله في العقد لأنه داخل عند الإطلاق
وخرج ب يقصد ما لا يقصد بل هو من العيوب كالزنا والسرقة فإنه لا خيار بفواته بل إن كان من البائع فهو بيان للعيب وإن كان من المشتري فهو في حكم الرضا بالعيب
ولو شرط ثبوتها فخرجت بكرا فلا خيار له على الأصح خلافا للحاوي الصغير
ولو شرط أنه خصي فبان فحلا ثبت له الخيار قالوا لأنه لا يدخل على الحرم ولعل المراد به الممسوح وإلا فباقي الذكر كالفحل في وجوب الاحتجاب منه
( ولو قال بعتكها ) أي الدابة ومثلها الأمة ( وحملها ) أو بعتكها ولبن ضرعها ( بطل ) البيع ( في الأصح ) لجعله الحمل أو اللبن المجهول مبيعا مع المعلوم بخلاف بيعها بشرط كونها حاملا أو لبونا كما مر لأنه جعل ذلك وصفا تابعا وبيض الطير كالحمل
والثاني يجوز لأنه داخل في العقد عند الإطلاق فلا يضر التنصيص عليه كما لو قال بعتك هذا الجدار بأساسه
وفرق الأول بأن الأساس داخل في مسمى الجدار فذكره ذكر لما دخل في اللفظ فلا يضر التنصيص عليه والحمل غير داخل في مسمى البهيمة فإذا ذكر فقد ذكر شيئا مجهولا وباعه مع المعلوم ودخوله تبعا لا يستلزم دخوله في مسمى اللفظ
ويصح بيع الجبة بحشوها لدخول الحشو في مسمى الجبة فلا يضر ذكره لأنه تأكيد كما مر في الأساس
ولا فرق في هذه الأمثلة بين أن يأتي بالواو أو بالباء أو مع كما ذكره في المجموع في أثناء الأمثلة وإن فرق السبكي بين الواو والباء فقال بالبطلان في الواو وبالصحة مع الباء
( ولا يصح بيع الحمل وحده ) للنهي عن بيع الملاقيح
وهذه مكررة فإنه عين بيع الملاقيح وإنما ذكرها توطئة لقوله ( ولا ) بيع ( الحامل دونه ) لأنه لا يجوز إفراده بالعقد فلا يستثنى كأعضاء الحيوان ( ولا ) بيع ( الحامل بحر ) إلحاقا للاستثناء الشرعي بالاستثناء الحسي ولا بيع الحامل برقيق لغير مالك الأم فلو وكل مالك الحمل مالك الأم فباعهما دفعة لم يصح لأنه لم يملك العقد بنفسه فلا يصح منه التوكيل فيه
فإن قيل يشكل على عدم صحة بيع الحامل بحر أو برقيق لغير مالك الأم صحة بيع الدور المستأجرة مع أن المنفعة لا تدخل فكأنه استثناها
أجيب بأن الحمل أشد اتصالا من المنفعة بدليل جواز إفرادها بالعقد بخلافه وبأن استثناء المنفعة قد ورد في قصة جابر لما باع جمله من النبي صلى الله عليه وسلم واستثنى ظهره إلى المدينة فيبقى ما سواه على الأصل
( ولو باع حاملا ) حملها له ( مطلقا ) من غير تعرض لدخول أو عدمه ( دخل الحمل في البيع ) تبعا لها بالإجماع
أما إذا كان حملها لغيره فإن البيع لا يصح كما مر
ولو وضعت ولدا ثم باعها مالكها فوضعت عند المشتري ولدا آخر وبينه وبين الأول دون ستة أشهر ففي أواخر النهاية على النص أنه للبائع لأنه حمل واحد قال الإمام والقياس أنه للمشتري لانفصاله في ملكه وبهذا جزم الشيخان في باب الكتابة مستدلين به على نظائرها من الكتابة وقال المتولي في باب بيع الأصول والثمار إنه ظاهر المذهب فمن استثنى هذه الصورة من إطلاق المصنف فقد وهم
فصل فيما نهي عنه من البيوع نهيا لا يقتضي بطلانها وفيه أيضا ما يقتضي البطلان وغير ذلك
وقد شرع في بيان ذلك فقال ( ومن المنهي عنه ما لا يبطل ) بضم الياء بضبط المصنف أي مع كسر الطاء أي النهي فيه البيع
ويجوز فتح الطاء مع ضم الياء أيضا وعكسه
والضمير للمنهي عنه والضمير في ( لرجوعه ) يعود إلى النهي لدلالة المنهي
____________________
(2/35)
عليه
( إلى معنى يقترن به ) لا إلى ذاته لأن النهي ليس للبيع بخصوصه بل لأمر آخر
هذا هو القسم الثاني فجميع ما فيه من الصور يصح فيها البيع ويحرم إلا في الصورتين الأخيرتين آخر الفصل ولو قدمهما عليه كان أولى
ثم شرع في الصور التي لا يبطل البيع فيها وهي سبعة مبتدئا بواحدة منها فقال ( كبيع حاضر لباد بأن يقدم ) شخص ( غريب ) أو غيره ( بمتاع تعم الحاجة ) أي حاجة أهل البلد ( إليه ) كالطعام وإن لم يظهر بيعه سعة في البلد لقلته أو لعموم وجوده ورخص السعر أو لكبر البلد ( ليبيعه بسعر يومه ) أي حالا ( فيقول ) له شخص ( بلدي ) أو غيره ( اتركه عندي ) أو عند غيري ( لأبيعه ) لك ( على التدريج ) أي شيئا فشيئا ( بأعلى ) من بيعه حالا وذلك لخبر الصحيحين لا يبع حاضر لباد زاد مسلم دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقال ابن شهبة زاد مسلم دعوا الناس في غفلاتهم إلخ
والمعنى في التحريم التضييق على الناس فإن التمسه البادي منه بأن قال له ابتداء أتركه عندك لتبيعه بالتدريج أو انتفى عموم الحاجة إليه كأن لم يحتج إليه أصلا أو إلا نادرا أو عمت وقصد البدوي بيعه بالتدريج فسأله الحضري أن يفوضه إليه أو قصد بيعه بسعر يومه فقال له اتركه عندي لأبيعه كذلك لم يحرم لأنه لم يضر بالناس ولا سبيل إلى منع المالك منه لما فيه من الإضرار به ولهذا اختص الإثم بالحضري كما نقله في زيادة الروضة عن القفال وأقره
فإن قيل الأصح أنه يحرم على المرأة تمكين المحرم من الوطء لأنه أعانه على معصية فينبغي أن يكون هذا مثله
أجيب بأن المعصية إنما هي في الإرشاد إلى التأخير فقط وقد انقضت لا الإرشاد مع البيع الذي هو الإيجاب للصادر منه
وأما البيع فلا تضييق فيه لا سيما إذا صمم المالك على ما أشار به حتى لو لم يباشره المشير عليه باشره غيره بخلاف تمكين المرأة الحلال المحرم من الوطء فإن المعصية بنفس الوطء
ولو استشاره البدوي فيما فيه حظه ففي وجوب إرشاده إلى الادخار والبيع بالتدريج وجهان أوجههما يجب إرشاده كما قال الأذرعي إنه الأشبه وكلام الروضة يميل إليه والثاني لا توسيعا على الناس
ولو قدم البادي يريد الشراء فتعرض له حاضر يريد أن يشتري له رخيصا وهو المسمى بالسمسار فهل يحرم عليه كما في البيع تردد فيه في المطلب وقال ابن يونس في شرح الوجيز هو حرام وينبغي كما قال الأذرعي الجزم به
والحاضر ساكن الحاضرة وهي المدن والقرى والريف وهي أرض فيها زرع وخصب والبادي ساكن البادية وهي خلاف الحاضرة
والتعبير بالحاضر والبادي جرى على الغالب والمراد أي شخص كان كما مرت الإشارة إليه
ثم شرع في الصورة الثانية فقال ( وتلقي الركبان بأن يتلقى ) شخص ( طائفة يحملون متاعا ) طعاما أو غيره ( إلى البلد ) مثلا ( فيشتريه ) منهم ( قبل قدومهم ) البلد ( ومعرفتهم بالسعر ) فيعصي بالشراء ويصح وإن لم يقصد التلقي وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا تلقوا الركبان للبيع رواه الشيخان
والمعنى فيه احتمال غبنهم سواء أخبرهم المشتري كاذبا أم لم يخبر
( ولهم الخيار إذا ) أغبنوا و ( عرفوا الغبن ) ولو قبل قدومهم لما رواه البخاري لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار وهو على الفور قياسا على خيار العيب فإن التمسوا البيع منه ولو مع جهلهم بالسعر أو لم يغبنوا كأن اشتراه منهم بسعر البلد أو بدونه وهم عالمون فلا خيار لهم لانتفاء المعنى السابق وكذا لا خيار لهم إذا كان التلقي بعد دخول البلد ولو خارج السوق لإمكان معرفتهم الأسعار من غير المتلقين وإن كان ظاهر الخبر يقتضي خلافه وبعضهم نسب لظاهر الحديث خلاف ذلك فاحذره
ولو لم يعرفوا الغبن حتى رخص السعر وعاد إلى ما باعوا به ففي ثبوت الخيار وجهان في البحر أوجههما عدم ثبوته كما في زوال عيب المبيع وإن قيل بالفرق بينهما وتلقي الركبان للبيع منهم كالتلقي للشراء في أحد وجهين رجحه الزركشي وهو المعتمد نظرا للمعنى وإن رجح الأذرعي مقابله وبعضهم نسب للأذرعي خلاف ذلك فاحذره
والركبان جمع راكب والتعبير به
____________________
(2/36)
جرى على الغالب والمراد القادم ولو كان واحدا أو ماشيا
ثم شرع في الصورة الثالثة فقال ( والسوم على سوم غيره ) لخبر لا يسوم الرجل على سوم أخيه وهو خبر بمعنى النهي والمعنى فيه الإيذاء وذكر الرجل والأخ ليس للتقييد بل الأول لأنه الغالب
والثاني للرأفة والعطف فغيرهما مثلهما في ذلك ولهذا قال المصنف والسوم على سوم غيره وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن ) بالتراضي صريحا وقبل العقد كأن يقول شخص لمن يريد شراء شيء بكذا لا تأخذه وأنا أبيعك خيرا منه بهذا الثمن أو بأقل منه أو مثله بأقل أو يقول لمالكه لا تبعه وأنا أشتريه منك بأكثر فإن لم يصرح له المالك بالإجابة بأن عرض بها أو سكت أو كانت الزيادة قبل استقرار الثمن أو كان إذ ذاك ينادي عليه بطلب الزيادة لم يحرم ذلك لكن يكره فيما إذا عرض له بالإجابة
ثم شرع في الصورة الرابعة فقال ( والبيع على بيع غيره قبل لزومه ) أي البيع بأن يكون في زمن خيار المجلس أو الشرط لتمكنه من الفسخ أما بعد لزومه فلا معنى له
نعم لو اطلع بعد اللزوم على عيب ولم يكن التأخير مضرا كأن كان في ليل فاتجه كما قال الإسنوي التحريم لما ذكر
( بأن ) أولى منه كأن ( يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله ) أي المبيع بأقل من هذا الثمن أو خيرا منه بمثل ثمنه أو أقل
ثم شرع في الصورة الخامسة فقال ( والشراء على الشراء ) في زمن الخيار كما مر ( بأن ) أولى منه كأن ( يأمر البائع بالفسخ ليشتريه ) بأكثر من ثمنه وكلا الصورتين حرام ولو رأى المشتري في الأولى والبائع في الثانية مغبونا لعموم خبر الصحيحين لا يبع بعضكم على بيع بعض زاد النسائي حتى يبتاع أو يذر وفي معناه الشراء على الشراء والمعنى فيهما الإيذاء
وفي معنى البيع على البيع ما نص عليه الشافعي من نهي الرجل أن يبيع المشتري في مجلس العقد سلعة مثل التي اشتراها خشية أن يرد الأولى ومثل خيار المجلس في ذلك خيار الشرط
وألحق الماوردي بالشراء على الشراء طلب السلعة من المشتري بزيادة ربح والبائع حاضر لأدائه إلى الفسخ أو الندم
ثم محل التحريم عند عدم الإذن فلو أذن البائع في البيع على بيعه أو المشتري في الشراء على شرائه لم يحرم لأن الحق لهما وقد أسقطاه ولمفهوم الخبر السابق هذا كما قال الأذرعي إن كان الإذن مالكا فإن كان وليا أو وصيا أو وكيلا أو نحوه فلا عبرة بإذنه إن كان فيه ضرر على المالك
ولا يشترط للتحريم تحقق ما وعد به من البيع أو الشراء لوجود الإيذاء بكل تقدير خلافا لابن النقيب في اشتراطه
تنبيه الأمر بالفسخ وقع في كتب الشيخين وغيرهما
قال السبكي وليس الأمر شرطا والذي في كلام الأكثرين أن يعرض عليه سلعة مثلها بأرخص أو أجود منها بمثل الثمن اه
وقد تقدم ما يدل على ذلك
ثم شرع في الصورة السادسة فقال ( والنجش بأن يزيد في الثمن ) للسلعة المعروضة للبيع ( لا لرغبة ) في شرائها ( بل ليخدع غيره ) فيشتريها للنهي عنه في خبر الصحيحين والمعنى فيه الإيذاء
( والأصح أنه لا خيار ) للمشتري لتفريطه حيث لم يتأمل ولم يراجع أهل الخبرة والثاني له الخيار للتدليس كالتصرية
ومحل الخلاف عنده مواطأة البائع للناجش وإلا فلا خيار جزما
ويجري الوجهان فيما لو قال البائع أعطيت في هذه السلعة كذا فبان خلافه وكذا لو أخبره عارف بأن هذا عقيق أو فيروزج بمواطأة فاشتراه ثم بان خلافه
تنبيه قوله ليخدع غيره قد يوهم أنه لو زاد ليساوي قيمة السلعة أنه يجوز وجرى على ذلك بعض الشراح والمتجه التحريم لإيذاء المشتري ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض
ثم شرع في الصورة السابعة فقال ( وبيع الرطب والعنب ) ونحوهما كتمر وزبيب ( لعاصر الخمر ) والنبيذ أي لمتخذها لذلك بأن
____________________
(2/37)
يعلم منه ذلك أو يظنه ظنا غالبا
ومثل ذلك بيع الغلمان المرد ممن عرف بالفجور بالغلمان وبيع السلاح من باغ وقاطع طريق ونحوهما وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية كما نقله في زوائد الروضة عن الغزالي وأقره
أما إذا شك فيما ذكر أو توهمه فالبيع مكروه
ويحرم الاحتكار للتضييق على الناس وهو إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص لا يحرم مطلقا ولا إمساك غلة ضيعته ولا إمساك ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله أو ليبيعه بمثل ما اشتراه
وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفايته وكفاية عياله سنة وجهان أوجههما عدم الكراهة لكن الأولى بيعه كما صرح به في أصل الروضة
ويختص تحريم الاحتكار بالأقوات ومنها الذرة والأرز والتمر والزبيب فلا يعم جميع الأطعمة
ويحرم التسعير ولو في وقت الغلاء بأن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا للتضييق على الناس في أموالهم
وقضية كلامهم أن ذلك لا يختص بالأطعمة وهو كذلك فلو سعر الإمام عزر مخالفه بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة وصح البيع إذ لم يعهد الحجر على الشخص في ملكه أن يبيع بثمن معين
وظاهر كلام أصل الروضة أن التعزير مفرع على تحريم التسعير وجرى عليه ابن المقري لما مر وإن خالف في ذلك ابن الرفعة وغيره وقالوا إنه مفرع على جواز
وشرط التحريم في جميع المناهي علم النهي بها حتى في النجش كما نقل عن نص الشافعي خلافا لما جرى عليه ابن المقري تبعا لبحث الرافعي
ثم شرع في الصورتين الأخيرتين مبتدئا بواحدة منهما فقال ( ويحرم التفريق بين الأم ) الرقيقة ( والولد ) الرقيق الصغير المملوكين لواحد ببيع أو هبة أو فسخ بإقالة أو رد بعيب أو قسمة أو نحو ذلك لا بعتق ووصية ( حتى يميز ) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة رواه أبو داود وحسنه والحاكم وصححه ولقوله صلى الله عليه وسلم ملعون من فرق بين والد وولده رواه أبو داود
وسواء رضيت الأم بذلك أم لا رعاية لحق الولد
وخرج بما ذكر ما لو كانا لمالكين فيجوز لكل منهما أن يتصرف في ملكه وأما إذا كان أحدهما حرا فإنه يجوز لمالك الرقيق أن يتصرف فيه وما إذا فرق بعتق أو وصية أو وقف لأن العتق محسن وكذا الواقف والوصية لا تقتضي التفريق بوضعها فلعل الموت يكون بعد زمان التحريم
قال الأذرعي والمتجه منع التفريق برجوع المقرض ومالك اللقطة دون الواهب إذا كان أصلا لأن الحق في القرض واللقطة ثابت في الذمة فإذا تعذر الرجوع في العين رجع في غيرها بخلافه في الهبة فأما لو منعناه فيها الرجوع لم يرجع الواهب بشيء
ويؤخذ من ذلك أن الموصي لو مات قبل تمييز الولد لم تبطل الوصية وهو كذلك وله القبول حينئذ
أما بعد التمييز فلا يحرم لأنه حينئذ يستغني عن التعهد والحضانة
وخبر لا يفرق بين الأم وولدها قيل إلى متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية ضعيف
وظاهر كلامه الاكتفاء بالتمييز وإن حصل قبل السبع وعبارة المحرر إلى سن التمييز وعبارة الجمهور إلى سبع سنين فيجوز أن يكون إطلاقهم لذلك لأنه مظنه التمييز كما في الحضانة وغيرها
ويجوز أن يعتبر هنا منع التمييز قبلها ليحصل له قوة واستبدال على الانفراد اه
وهذا كما قال الأذرعي حسن
تنبيه قوله حتى يميز قد يفهم أنه لا يجوز التفريق بين الأم والولد المجنون البالغ وهو كذلك كما صرح به القاضي حسين وأتباعه لكن قوله ( وفي قول حتى يبلغ ) يدل على أن المراد التمييز المتقدم على البلوغ
وإنما اعتبر هذا القول البلوغ لنقصان تمييزه قبله ولهذا يجوز التقاطه ما لم يبلغ على الصحيح وأفهم جواز التفريق بعده جزما وهو كذلك خلافا للإمام أحمد وهو مكروه بعد التمييز وقبل البلوغ وكذا بعد البلوغ لما فيه من التشويش ويصح العقد
ويفهم من تعبيره بالتمييز أن غير الآدمي يجوز التفريق بينه وبين أمه وهو المذهب إن استغنى عن اللبن لكن يكره وقيل يحرم ويجوز بالذبح قطعا كما في زيادة الروضة
قال السبكي ومراده ذبح الولد
أما ذبحها مع بقائه فيظهر أنه غير الذبح وظاهر أن المراد ذبح المأكول إذ غيره لا يجوز ذبحه ولا بيعه لذبحه بحال
وأحسن ما قيل في حد التمييز أن يصير الطفل بحيث يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده وقيل أن يصير بحيث يفهم الخطاب ويرد الجواب
ولو اجتمع
____________________
(2/38)
الأب والأم حرم التفريق بينه وبينها وحل بينه وبين الأب أو اجتمع الأب والجدة للأم عند فقد الأم فهما سواء فيباع مع أيهما كان كما هو قضية كلام الحاوي الصغير والجدة للأم كالأم عند عدمها لا عند وجودها على الأصح
وفي الجدات والأجداد للأب عند فقد الأبوين وأم الأم ثلاثة أوجه حكاها الشيخان في باب السير من غير ترجيح ثالثها جواز التفريق في الأجداد دون الجدات لأنهم أصلح للتربية
قال الولي العراقي ويظهر تصحيح المنع وهو الذي أورده الروياني و الجرجاني وأما الجد للأم فقال المتولي إنه كالجد للأب وقال الماوردي إنه كسائر المحارم
والأقرب كما قال السبكي الأول
ولا يحرم التفريق بينه وبين سائر المحارم كالأخ والعم وإن قوى السبكي التحريم بينه وبينهم
( وإذا فرق ) بين الولد بعد سقيه اللبأ وبين من يمتنع التفريق بينه وبينه ( ببيع أو هبة بطلا في الأظهر ) لعدم القدرة على التسليم شرعا
والثاني لا لأن النهي للإضرار لا للخلل في نفس المبيع وعلى هذا لا نقرهما على التفريق بل إن تراضيا على ضم أحدهما إلى الآخر استمر العقد وإلا فسخ كما قالاه
ويجري القولان في جميع أنواع التمليك وأما قبل سقيه اللبأ فيبطل جزما
ويستثنى من الأول ما لو كان المبيع ممن يحكم بعتقه على المشتري فالظاهر كما قال الأذرعي وغيره عدم التحريم وصحة البيع لتحصيل مصلحة الحرية ولما مر من جواز التفريق الإعتاق
ويحرم بيع بعض أحدهما فقط وبيع أحدهما مع بعض الآخر وبيع بعض كل منهما عند عدم التساوي فإن تساوى البعضان كأن باع نصفهما معا جاز كما دل عليه كلام الرافعي في السير
وألحق الغزالي التفريق بالسفر بالتفريق بالبيع وطرده في التفريق بين الزوجة وولدها وإن كانت حرة بخلاف المطلقة لا يحرم لإمكان صحبتها له
ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو ملك كافر صغيرا وأبويه وهما كافران ثم أسلم الأب وتخلفت الأم فإن الولد يتبعه ويؤمر بإزالة الملك عنهما دونها قاله صاحب الاستقصاء
وينبغي أنه لو مات الأب أن يباع الولد للضرورة كما قاله بعض المتأخرين
قال الأذرعي ومثله ما لو تبع الطفل السابي في الإسلام ثم ملك أمه الكافرة فله بيع أحدهما دون الآخر فيما يظهر اه
وهذا ممنوع لأن الأصحاب لم يفرقوا بين الأم المسلمة والكافرة والتفريق وجه حكاه الدارمي وإنما فرق في الصورة المتقدمة للضرورة
تنبيه قوله ( بطلا ) قال الإسنوي كان الأحسن إسقاط الألف منه فإن الأفصح في الضمير الواقع بعد أو أن يؤتى به مفردا يقول إذا لقيت زيدا أو عمرا فأكرمه وقال الولي العراقي والصواب حذف الألف اه
والأولى ما قاله الزركشي من أنه إنما ثنى الضمير لأن أو للتنويع فهو نظير قوله تعالى { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما }
ثم شرع في الصورة الثانية فقال ( ولا يصح بيع العربون ) وهو ( بأن يشتري ) سلعة ( ويعطيه دراهم ) مثلا ( لتكون من الثمن إن رضي السلعة وإلا فهبة ) بالنصب للنهي عنه رواه أبو داود وغيره ولأن فيه شرطين فاسدين أحدهما شرط الهبة والثاني شرط الرد على تقدير أن لا يرضى
تنبيه في العربون ست لغات فتح العين والراء وهي الفصيحة
وضم العين وإسكان الراء وعربان بالضم والإسكان وإبدال العين همزة مع الثلاثة
وهو أعجمي معرب وأصله في اللغة التسليف والتقديم
فائدة البيع ينقسم إلى الأحكام الخمسة وهي الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح فالواجب كبيع الولي مال اليتيم إذا تعين بيعه وبيع القاضي مال المفلس بشروطه
وأما بيع الماء لمحتاجه والطعام من المضطر فالواجب فيهما التمليك لا البيع نفسه وبعضهم أدرجهما في البيع الواجب
وأما الحرام فغالب ما ذكره المصنف في هذا الفصل والذي قبله
وأما المندوب فكالبيع بالمحاباة وبيع الطعام زمن الغلاء ونحوه
وأما المكروه فكبيع دور مكة والبيع ممن أكثر ماله حرام أو فيه حرام ولم يتحقق أن المأخوذ من الحرام وإلا فحرام وبيع المصحف قيل وثمنه يقابل الدفتين لأن كلام الله لا يباع وقيل إنه بدل أجرة نسخه حكاهما الرافعي عن الصيمري
وبيع العينة وهي بكسر المهملة وإسكان التحتية وبالنون أن يبيعه عينا بثمن كثير مؤجل ويسلمها له ثم يشتريها منه بنقد يسير ليبقى الكثير في ذمته
____________________
(2/39)
وأما المباح فغالب البيوع
فرع المقبوض بشراء فاسد لفقد شرط أو لشرط فاسد يضمنه المشتري ضمان الغصب لأنه مخاطب كل لحظة
فإن كان تالفا لزمه رد مثله إن كان مثليا وأقصى قيمه إن كان متقوما وإن كان باقيا فعليه رده ومؤنة الرد وليس له حبسه لاسترداد الثمن ولا يتقدم به على الغرماء كالرهن الفاسد وإن أنفق عليه لم يرجع على البائع بما أنفق ولو جهل الفساد
وإن كان المشتري جارية ووطئها لم يحد وإن علم الفساد إلا إذا علمه
والثمن ميتة أو دم أو نحو ذلك مما لا يملك به أصلا بخلاف ما إذا كان الثمن نحو خمر كخنزير لأن الشراء به يفيد الملك عند أبي حنيفة
وحيث لا حد يجب المهر فإن كانت بكرا فمهر بكر قياسا على النكاح الفاسد وأرش بكارة لإتلافها بخلافه في النكاح الفاسد لأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه
وأرش البكارة مضمون في صحيح البيع دون صحيح النكاح لأن المشتري إذا اطلع على عيب بعد زوال البكارة لم يكن له الرد بغير أرش البكارة بخلاف ما لو طلقها بعد زوال بكارتها لا شيء عليه
ولا ينافي هذا ما قالوه في الغصب من أنه لو اشترى بكرا مغصوبة ووطئها جاهلا أنه يلزمه مع أرش البكارة مهر ثيب لوجود العقد المختلف في حصول الملك به هنا كما في النكاح الفاسد بخلافه ثم
ولو حذف العاقدان المفسد للعقد ولو في مجلس الخيار لم ينقلب صحيحا إذ لا عبرة بالفاسد بخلاف ما إذا ألحقا شرطا فاسدا أو صحيحا في مجلس الخيار فإنه يلحق العقد لأن مجلس العقد كالعقد
فصل في تفريق الصفقة وتعددها وتفريقها ثلاثة أقسام لأنها إما في الإبتداء أو في الدوام أو في اختلاف الأحكام وتأتي في كلامه على هذا الترتيب
وقد شرع في القسم الأول منها فقال لو ( باع ) في صفقة واحدة حلا وحرما كأن باع مذكاة وميتة أو ( خلا وخمرا ) أو شاة وخنزيرا ( أو عبده وحرا أو ) عبده ( عبد غيره أو مشتركا بغير إذن ) الشريك ( الآخر صح ) البيع ( في ملكه ) من الخل والمذكاة والشاة وعبده وحصته من المشترك وبطل في غيره ( في الأظهر ) إعطاء لكل منهما حكمه
والثاني يبطل فيهما
وفي علته وجهان أحدهما الجمع بين حلال وحرام لقول ابن عباس ما اجتمع حرام وحلال إلا وغلب الحرام الحلال
والثاني جهالة العوض الذي يقابل الحلال
ويستفاد من تمثيل المصنف بالمشترك أن العلة الصحيحة هي الأولى لأن الحصة من الثمن معلومة وجرى على ذلك في المجموع
فإن قيل ما صححه المصنف تبعا للرافعي خلاف مذهب الشافعي فإنه إذا كان للمجتهد في المسألة قولان وعلم المتأخر منهما كان الأول مرجوعا عنه فيكون مذهبه هو الثاني وقد رجع الشافعي عن القول بالصحة كذا ذكره الربيع في الأم وعبر بقوله إن البطلان هو آخر قوليه
قال الإسنوي وهي دقيقة غفلوا عنها
وقال الأذرعي إذا كان راوي المذهب قد شهد بذلك ففي النفس حزازة من ترجيح الصحة مع ذلك أجيب بأن قول الربيع إن البطلان آخر قوليه يحتمل أن يكون آخرهما في الذكر لا في الفتوى وإنما يكون المتأخر مذهب الشافعي إذا أفتى به أما إذا ذكره في مقام الاستنباط والترجيح ولم يصرح بالرجوع عن الأول فلا مع أن هذه اللفظة وهي آخر قوليه يحتمل أنها كانت أحد قوليه بالدال فقصرت فقرئت بالراء
تنبيه قول المصنف بغير إذن الآخر قال الإسنوي إنه يعود إلى المشترك فإنه مع الإذن يصح جزما ولا يصح عوده إليه وإلى عبد الغير معا لأنه إذا أذن له وباعه ولم يفصل الثمن لم يصح للجهل به حالة العقد وإن فصله صح جزما لكن ليس مما نحن فيه لأن الكلام في الصفقة الواحدة وتلك صفقتان
وقال ابن شهبة الظاهر عوده إليهما فإنه يصدق أنه إذا أذن كان الحكم بخلاف ذلك وهو صحيح ومحل القول بالصحة إذا كان كل من ملكه وغيره معلوما وإلا فلا يصح ولو كان الجهل في غير ملكه فقط لتعذر التقسيط
وعلى الأظهر ( فيتخير المشتري إن جهل ) الحال لضرر التبعيض وهو كما في المطلب على الفور لأنه خيار نقص فإن كان عالما فلا خيار له لتقصيره
____________________
(2/40)
( فإن أجاز ) البيع أو كان عالما بالحال ( فبحصته ) أي المملوك له ( من المسمى باعتبار قيمتها ) لأنهما أوقعا الثمن في مقابلتهما جميعا فلا يلزم المشتري في مقابلة أحدهما إلا قسطه
تنبيه ظاهر عبارة المصنف أنا نعتبر قيمة الخمر والخنزير عند من يرى لهما قيمة وهو احتمال للإمام صححه الغزالي
والصواب كما صححه المصنف أنا نقدر الخمر خلا والميتة مذكاة والخنزير شاة والحر رقيقا فإذا كانت قيمتها ثلاثمائة والمسمى مائة وخمسين وقيمة المملوك مائة فحصته من المسمى خمسون
( وفي قول بجميعه ) لأن العقد لا يتوجه إلا إلى ما يجوز بيعه فكان الآخر كالمعدوم
وعلى الأول لو لم يكن الحرام مقصودا كالدم فالظاهر كما قال الإسنوي إن الإجازة بكل الثمن كما يقتضيه كلامهم في الخلع والكتابة
وأجمعوا على جواز تفريق الصفقة في الطلاق والعتق ونحوهما مما هو مبني على السراية والتغليب واتفقوا على منعه فيما إذا كان كل واحد قابلا للعقد لكن امتنع لأجل الجمع كنكاح الأختين
والخلاف فيما عدا ذلك ويجري في أبواب كثيرة من البياعات والإجارات والأنكحة والشهادات وغيرها واستثنى من ذلك مسائل منها ما إذا أجر الراهن العين المرهونة مدة تزيد على محل الدين فإنه يبطل في الجميع على الأصح عند الشيخين
ومنها ما إذا استعار شيئا ليرهنه بدين فزاد عليه فإنه يبطل في الكل على الأصح
وفي استثناء هاتين الصورتين كما قاله بعض المتأخرين نظر لأن القاعدة في تفريق الصفقة أن يعقد على شيئين موجودين أحدهما حل والآخر حرم والمنفعة شيء واحد فلا وجه فيها إلا القول بالصحة أو البطلان والصحة متعذرة لعدم الإذن من جهة المرتهن وفي الصورة الثانية تصرف في ملك الغير على وجه لم يأذن له فيه فبطل صيانة لحق الغير
ومنها ما إذا فاضل في الربويات فإنه يبطل في الكل
ومنها ما إذا زاد في العرايا على القدر الجائز فإنه يبطل في الكل
ومنها ما لو زاد في خيار الشرط على ثلاثة أيام فإنه إن كان في صلب العقد لم ينعقد جزما أو في خيار المجلس يبطل قطعا
ومنها ما إذا أوصى من لا وارث له بأكثر من الثلث فإنه يصح في الثلث قطعا
قال الزركشي ومنها ما لو قدم الباطل كأن قال بعتك الحر والعبد فإنه يبطل في الكل لأن العطف على الباطل باطل كما قالوه فيما لو قال نساء العالمين طوالق وأنت يا زوجتي لا تطلق لعطفها على من لم يطلق اه
وليس هذا كما قال شيخي قياسه وإنما قياسه أن يقول هذا الحر مبيع منك وعبدي فإنه لا يصح بخلاف المثال المذكور فإنه يصح في العبد لأن العامل في الأول عامل في الثاني
وقياسه في الطلاق أن يقول طلقت نساء العالمين وزوجتي فإنها تطلق في هذه الحالة
( و ) إذا لم يجب إلا الحصة ( لا خيار للبائع ) لأنه المفرط حيث باع ما لا يملكه وطمع في ثمن ما لا يستحقه
ثم شرع في القسم الثاني منها فقال ( ولو باع عبديه ) مثلا ( فتلف أحدهما قبل قبضه ) انفسخ البيع فيه و ( لم ينفسخ في الآخر على المذهب ) وإن لم يقبضه ( بل يتخير ) المشتري بين الفسخ والإجازة
( فإن أجاز فبالحصة ) من المسمى باعتبار قيمتهما لأن الثمن قد توزع عليهما في الابتداء والقسم عليهما فلا يتغير بهلاك أحدهما
وقوله ( قطعا ) تبع فيه المحرر وفي الشرح والروضة عن أبي إسحق طرد القولين فيه
أحدهما بجميع الثمن وضعف بالفرق بين ما اقترن بالعقد وبين ما حدث بعد صحة العقد مع توزيع الثمن فيه عليهما ابتداء
وقضية كلامه أنه لا خيار للبائع وهو كذلك كما صرح به في المجموع ولكنه مشكل لأن علة المنع فيما تقدم التفريط وهو مفقود هنا
والطريق الثاني ينفسخ في أحد القولين وإن قبض المشتري أحد العبدين
ولو تلف المقبوض وغيره لم يثبت للمشتري الخيار فيما تلف في يده كما صححه في المجموع بل عليه حصته من الثمن لأن العقد استقر بقبضه
وفي معنى ما في المتن ما لو باع عصيرا صار بعضه خمرا قبل قبضه قاله الدارمي
ثم شرع في القسم الثالث فقال ( ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع ) كأن يقول
____________________
(2/41)
أجرتك داري شهرا وبعتك ثوبي هذا بدينار ( أو ) إجارة و ( سلم ) كأن يقول أجرتك داري شهرا أو بعتك صاع قمح في ذمتي سلما بكذا ( صحا في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتهما ) أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة وقيمة المبيع أو المسلم فيه
ووجه الاختلاف بين البيع والإجارة اشتراط التأقيت فيها وهو مبطل للبيع والإجارة تنفسخ بالتلف بعد القبض دونه
والاختلاف بين الإجارة والسلم اشتراط قبض العوض في المجلس في السلم دونها
والثاني يبطلان لأنه قد يعرض لاختلاف حكمهما باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ ما يقتضي فسخ أحدهما فيحتاج إلى التوزيع
ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلا منهما من العوض وذلك محذور
وأجاب الأول بأنه لا محذور في ذلك ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب وشقص من دار في صفقة وإن اختلفا في حكم الشفعة واحتيج إلى التوزيع بسببها ويؤخذ مما مثل به أن محل الخلاف أن يكون العقدان لازمين فلو جمع بين لازم وجائز كبيع وجعالة لم يصح قطعا كما ذكره الرافعي في المسابقة أو كان العقدان جائزين كشركة وقراض صح قطعا لأن العقود الجائزة بابها واسع
وإنما قال مختلفي الحكم ولم يقل عقدين مختلفي الحكم كما عبر به في المحرر ليشمل بيع عبدين بشرط الخيار في أحدهما أكثر من الآخر فإنه على القولين مع أن الحكم مختلف والعقد واحد
تنبيه المراد بالإجارة مع السلم إجارة العين فإن إجارة الذمة يشترط فيها القبض كالسلم
وشمل كلامه ما إذا اشتمل العقد على ما يشترط فيه التقابض وما لا يشترط كصاع بر وثوب بصاع شعير
( أو بيع ونكاح ) ومستحق الثمن والمهر واحد كقوله زوجتك بنتي وبعتك عبدها وهي في حجره أو زوجتك أمتي وبعتك ثوبي
( صح النكاح ) لأنه لا يفسد بفساد الصداق
( وفي البيع والصداق القولان ) السابقان أظهرهما صحتهما ويوزع المسمى على قيمة المبيع ومهر المثل
والثاني بطلانهما ويجب مهر المثل
والمصنف أعاد هذه المسألة في كتاب الصداق بأبسط مما ذكره هنا
أما إذا اختلف المستحق كقوله زوجتك بنتي وبعتك عبدي بكذا فإن البيع لم يصح ولا الصداق كما لو كان لكل منهما عبد فباعاهما بثمن واحد كمامر
ويصح النكاح بمهر المثل ولو جمع بين بيع وخلع صح الخلع وفي البيع والمسمى القولان
تنبيه شرط التوزيع في صورة المتن أن يكون حصة النكاح مهر المثل فأكثر فإن كان أقل وجب مهر المثل كما في المجموع إلا إن أذنت الرشيدة في قدر المسمى فيعتبر التوزيع مطلقا
( وتتعدد الصفقة بتفصيل الثمن ) من البائع ( كبعتك ذا بكذا وذا بكذا ) فيقبل فيهما سواء أفصل المشتري في القبول أم لا على الأصح وله رد أحدهما بالعيب فلو قال بعتك عبدي بألف وجاريتي بخمسمائة فقبل أحدهما بعينه لم يصح كما سيأتي في تعدد البائع والمشتري وإن قال القاضي الظاهر الصحة
( وبتعدد البائع ) كبعناك هذا بكذا والمبيع مشترك بينها فيقبل فيهما وله رد نصيب أحدهما بالعيب
فلو قبل المشتري نصيب أحدهما بنصف الثمن لم يصح في الأصح كما قاله البغوي وتبعه الشيخان لأن اللفظ يقتضي جوابهما جميعا وإن صحح السبكي تبعا للمتولي الصحة
( وكذا بتعدد المشتري ) كبعتكما هذا بكذا ( في الأظهر ) قياسا على البائع
والثاني لا لأن المشتري يبني على الإيجاب السابق
ولو قبل أحدهما نصفه بنصف الثمن لم يصح إن قلنا بالاتحاد وكذا إن قلنا بالعدد على الأصح وإن صحح السبكي الصحة كما مر
ومحل ما ذكره المصنف في غير العريا والشفعة أو فيهما فتتعدد بتعدد المشتري قطعا وكذا بتعدد البائع في الأظهر عكس ما هنا
( ولو وكلاه أو وكلهما فالأصح اعتبار الوكيل ) لأنه العاقد وأحكام العقد من الخيار وغيره تتعلق به
والثاني اعتبار الموكل لأن الملك له
وهذا هو الأصح في أكثر نسخ المحرر فأصلحه في المنهاج واعتذر عنه في الدقائق
ولم يتقدم في كلام المصنف ما يعود عليه الضمير المذكور ومعناه لو وكل اثنان واحدا أو وكل الواحد اثنين
ومحل ما قاله في غير الرهن والشفعة أما فيهما فالأصح
____________________
(2/42)
اعتبار الموكل لا الوكيل اعتبارا باتحاد الدين والملك وعدمه فلو وكل اثنان واحدا في رهن عبدهما عند زيد بما له عليهما من الدين ثم قضى أحدهما دينه انفك نصيبه
خاتمة قال في الإحياء يحرم أخذ المال من السلطان إذا كان أكثر ما في بيت المال حراما كما هو الغالب
قال المصنف وهذا شاذ ليس مذهبا بل المذهب الكراهة اه
أي بل الممنوع أن يتحقق أن ما أخذه من الحرام كما مرت الإشارة إليه ومن ذلك مبايعة من في يده الحلال والحرام كالظلمة والمكاسين والمنجمين والذي يضرب بالنفير والحصى والرمل فكل ما يأخذه هؤلاء بهذا الفعل حرام
ولو نهب متاع مخصوص ووجد من ذلك شيئا يباع واحتمل أن يكون من المنهوب فالورع تركه
والورع لمن اشترى شيئا للأكل أو غيره أن يشتريه بثمن في ذمته فإنه يملكه قطعا بخلاف ما اشتراه بالعين فإنه لا يقطع بأنه ملكه
وقد يقال في الأول يحتمل أن لا يكون ملكا للبائع فلا يملكه المشتري إلا أن يتحقق ملك البائع له بنحو اصطياد
باب الخيار لما فرغ المصنف من صحة العقد وفساده شرع في لزومه وجوازه
والخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه
والأصل في البيع اللزوم لأن القصد منه نقل الملك وقضية الملك التصرف وكلاهما فرع اللزوم إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقا بالمتعاقدين
وهو نوعان خيار تشه وخيار نقيصة فخيار التشهي ما يتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر في المبيع وسببه المجلس أو الشرط
وخيار النقيصة سببه خلف لفظي أو تغرير فعلي أو قضاء عرفي فمنه خيار العيب والتصرية والحلف وتلقي الركبان ونحو ذلك
وقد شرع في سبب الأول من النوع الأول فقال ( يثبت خيار المجلس في أنواع البيع ) لما روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر قال في المجموع وقوله أو يقول منصوب بأو تقديره إلا أن أو إلى أن ولو كان معطوفا لجزمه فقال أو يقل
وبين أنواع البيع بقوله ( كالصرف ) بيع ( الطعام بطعام والسلم والتولية والتشريك وصلح المعاوضة ) لظاهر الخبر السابق لأن اسم البيع يشمل الكل
وخرج بصلح المعاوضة صلح الحطيطة فلا خيار فيه لأنه إن ورد على دين فإبراء أو على عين فهبة ولا خيار فيهما لكنه يتناول الصلح على المنفعة ولا خيار فيه على الأصح لأنه أجازه وقد ذكر بعد ذلك أنه لا خيار فيها
ويتناول الصلح عن دم العمد ولا خيار فيه كما قاله القاضي حسين قال الأذرعي ولم أر ما يخالفه
ويثبت أيضا في عقد تولى الأب طرفيه لأنه أقيم مقام شخصين في صحة العقد فكذا في الخيار
ولفظ الخبر ورد على الغالب
ويستثنى من قوله في أنواع البيع صور لا خيار فيها منها الحوالة فإنها وإن جعلت معاوضة ليست على قواعد المعاوضات وربما يقال إن كلام المصنف في بيع الأعيان فلا تستثنى هذه الصورة لأنها بيع دين بدين
ومنها شراء العبد نفسه لأن مقصوده العتق كالكتابة كما رجحه في الشرح الصغير والمجموع وهذا هو المعتمد وإن قال الزركشي هذا بالنسبة للعبد فقط لأنه من جهة السيد بيع ومن جهة العبد يشبه الفداء كما لو أقر بحريته ثم اشتراه يثبت الخيار للبائع دونه
ومنها قسمتا الإفراز والتعديل سواء أجرنا بإجبار أم بتراض إذا قلنا إنهما في حالة التراضي بيع لأنه لو امتنع منهما الشريك أجبر عليهما والإجبار ينافي الخيار وهذا هو المعتمد وإن قال الأذرعي الذي جزم به القاضي أبو الطيب وغيره ثبوت الخيار
أما قسمة الرد ففيها الخيار لأنه لا إجبار فيها
ويثبت الخيار في شراء الجمد ولو في شدة الحر بحيث ينماع بها
واستشكل ابن عبد السلام ثبوت الخيار في الصرف لأن المقصد به تروي العاقد في اختيار الأفضل له والمماثلة شرط هم الربوي فالأمران مستويان فإذا قطع بانتفاء العلة كيف يثبت الخيار وما قاله لا يتأتى في بيع الربوي بغير جنسه بل فيما بيع بجنسه ولعله مراده بدليل قوله والمماثلة شرط بل الخيار ليس محصورا فيما
____________________
(2/43)
ذكر لأنه قد يكون لخلف أو غيره
( ولو اشترى من يعتق عليه ) من أصوله أو فروعه بني الخيار فيه على خلاف الملك ( فإن قلنا الملك في زمن الخيار للبائع ) على مرجوح ( أو موقوف ) على الأظهر ( فلهما الخيار ) لوجود المقتضى بلا مانع
( وإن قلنا ) الملك ( للمشتري ) على مرجوح ( تخير البائع دونه ) أما تخير البائع فلما مر وأما عدم تخير المشتري فلأن مقتضى ملكه له أن لا يتمكن من إزالة الملك ولا يحكم بعتقه على كل قول حتى يلزم العقد فيتبين أنه عتق من حين الشراء
ولو شرط نفي خيار المجلس لم يصح البيع لأنه ينافي مقتضاه فأشبه ما لو شرط أن لا يسلم المبيع فإذا قال لعبده مثلا إذا بعتك فأنت حر فباعه بشرط نفي خيار المجلس لم يعتق لعدم صحة البيع بخلاف ما إذا لم يشرطه فإنه يعتق لأن عتق البائع في زمن الخيار نافذ
( ولا خيار في الإبراء والنكاح والهبة بلا ثواب ) وهي التي صرح بنفي الثواب عنها أو أطلق وقلنا لا يقتضيه وهو الراجح لأن اسم البيع لا يصدق على شيء من هذه الثلاثة
ولا خيار أيضا في الوقف والعتق والطلاق وكذا العقود الجائزة من الطرفين كالقراض والشركة والوكالة أو من أحدهما كالكتابة والرهن
( وكذا ) الهبة ( ذات الثواب ) لا يثبت الخيار فيها في الأصح
وعللاه بأنها لا تسمى بيعا كذا قالاه هنا وقالا في باب الهبة الأصح أنها بيع فيثبت فيها الخيار
وعده في المهمات تناقضا وحمل بعضهم ما هنا على القول بأنها هبة وإن قيدت بثواب معلوم وما هنا على القول بأن المقيدة بثواب معلوم بيع
ويؤيده تعليلهم هنا بأنها لا تسمى بيعا والصواب كما قال الأذرعي ما هناك وهو مقابل الأصح هنا فقد جزم به القاضي أبو الطيب و المحاملي والشيخ أبو حامد وغيرهم
( و ) كذا ( الشفعة ) لا يثبت فيها الخيار في الأصح لأن الخيار يثبت فيما ملك بالإختيار فلا معنى لإثباته فيما أخذ بالقهر والإجبار ومقابل الأصح ثبوته لأن الأخذ بها ملحق بالمعاوضات بدليل الرد بالعيب
وصحح هذا الرافعي في الشرحين واستدرك عليه في الروضة وصحح الأول ونقله عن الأكثرين
( و ) كذا ( الإجارة ) لا يثبت فيها الخيار في الأصح لأنها عقد غرر إذ هو عقد على معدوم والخيار غرر فلا يضم غرر إلى غرر
ومقابل الأصح يثبت فيها الخيار لأنها معاوضة
قال القفال وطائفة ومحل الخلاف في إجارة العين أما إجارة الذمة فيثبت فيها الخيار قطعا كالسلم والمعتمد الإطلاق ويفرق بينها وبين السلم بأنها لا تسمى بيعا
والمعتمد في الخيار اسم البيع وبأن المنفعة فيه أقوى
وقيل يثبت أيضا في الإجارة المقدرة بمدة وصححه المصنف في تصحيح التنبيه والمشهور خلافه
( و ) كذا ( المساقاة ) لا يثبت فيها الخيار في الأصح كالإجارة حكما وتعليلا
( و ) كذا ( الصداق ) لا يثبت فيه الخيار
وقوله ( في الأصح ) راجع للمسائل الخمس كما تقرر ووجه عدم إثباته في الصداق أن المال تبع في النكاح لا مقصود ووجه إثباته أنه مستقل
ومثل الصداق عوض الخلع
( وينقطع ) خيار المجلس ( بالتخاير ) من العاقدين ( بأن يختارا لزومه ) أي العقد بهذا اللفظ كقولهما تخايرنا أو اخترنا أو غيره كقولهما أمضينا العقد أو ألزمناه أو أجزناه أو أبطلنا الخيار أو أفسدناه لأنه حقهما فيسقط بإسقاطهما كخيار الشرط
( فلو اختار أحدهما ) لزومه ( سقط حقه ) من الخيار ( وبقي ) الحق فيه ( للآخر ) كخيار الشرط وقيل لا يبقى لأن خيار المجلس لا يتبعض في الثبوت ولا يتبعض في السقوط
لكن على الأول لو كان المبيع ممن يعتق على المشتري واختار البائع سقط خيار المشتري أيضا للحكم بعتق المبيع قاله شيخنا في شرح بهجته
ولو قال أحدهما لصاحبه اختر سقط خيار القائل ولو لم يختر صاحبه لتضمنه الرضا باللزوم
واحترز المصنف باختيار أحدهما اللزوم عن اختياره الفسخ فإنه ينفسخ العقد وإن اختار الآخر اللزوم لأن إثبات الخيار إنما قصد به التمكن من الفسخ دون الإجازة لأصالتها وتبايعهما في العوضين ولو ربويين بعد قبضهما بيعا ثانيا إجازة للأول لأنه رضي بلزومه ويصح الثاني ويثبت فيه الخيار
ولو أجاز في الربوي قبل التقابض بطل وإن تقابضا قبل التفرق على
____________________
(2/44)
المعتمد كما تقدم في بابه
( و ) يبطل أيضا خيار المجلس ( بالتفرق ببدنهما ) عن مجلس العقد للخبر السابق
( فلو طال مكثهما أو قاما وتماشيا منازل دام خيارهما ) وإن زادت المدة على ثلاثة أيام أو أعرضا عما يتعلق بالعقد حتى لو تبايع شخصان ملتصقان دام خيارهما ما لم يختارا أو أحدهما بخلاف الأب إذا باع لابنه أو اشترى منه وفارق المجلس انقطع الخيار لأنه شخص واحد لكن أقيم مقام اثنين بخلاف الملتصقين فإنهما شخصان حقيقة بدليل أنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس
ويحصل التفرق بأن يفارق أحدهما الآخر من المجلس ولو ناسيا أو جاهلا وإن استمر الآخر فيه لأن التفرق لا يتبعض بخلاف التخاير
وكان ابن عمر راوي الخبر إذا ابتاع شيئا فارق صاحبه رواه البخاري وروى مسلم قام يمشي هنيهة ثم رجع
فإن قيل قضية ذلك حل الفراق خشية أن يستقيله صاحبه وقد قال صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذي وحسنه البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار
ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله
أجيب بأن الحل في الخبر محمول على الإباحة المستوية الطرفين
ولو حمل أحد العاقدين فأخرج من المجلس مكرها بغير حق لم ينقطع خياره لأنه لم يفعل شيئا وكذا لا ينقطع خياره إذا أكره على الخروج ولو لم يسد فمه لأن الفعل المكره فعل كلا والسكوت عن الفسخ لا يقطع الخيار كما في المجلس
فإن قيل قد مر أن الناسي والجاهل ينقطع خيارهما مع تسويتهما للمكره في أبواب كثيرة
أجيب بنسبتهما للتقصير هنا بخلاف المكره فإن فارقه الإكراه في مجلس فله الخيار فيه حتى يفارقه أو مارا فحتى يفارق مكانه الذي انقطع فيه الإكراه وأما صاحبه فإن لم يخرج معه انقطع خياره إلا إن منع من الخروج معه
ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر بطل خياره كخيار الهارب ولو لم يتمكن من أن يتبعه لتمكنه من الفسخ بالقول ولأن الهارب فارق مختارا بخلاف المكره فإنه لا فعل له
وقضية التعليل الأول أنه لو لم يتمكن من الفسخ بالقول بقي خياره حتى يتمكن منه
فإن قيل قياس ما قالوه في الأيمان أنه لو حلف لا يفارق غريمه ففارقه غريمه لم يحنث وإن أمكنه متابعته أن يكون الحكم هنا كذلك
أجيب بأن الحكم هنا منوط بالتفرق وهو يحصل بوجود الفرقة من كل منهما وهناك منوط بالمفارقة من الحالف نعم لو قال والله لا تفترق كان الحكم كما هنا أما إذا تبعه فالخيار باق ما لم يتباعدا كما حكاه في المجموع عن المتولي وأقره
ويبين هذا التباعد قول البسيط إن لحقه قبل انتهائه إلى مسافة يحصل بمثلها المفارقة عادة فالخيار باق وإلا فلا أثر للحوقه
ويحمل على هذا أيضا ما نقله في الكفاية عن القاضي من ضبطه يفوق ما بين الصفين فالمراد من هذه العبارات واحد
( ويعتبر في التفرق العرف ) فما يعده الناس تفرقا يلزم به العقد وما لا فلا لأن ما ليس له حد شرعا ولا لغة يرجع فيه إلى العرف فإن كانا في دار كبيرة فبالخروج من البيت إلى الصحن أو من الصحن إلى الصفة أو البيت وإن كانا في سوق أو صحراء أو في بيت متفاحش السعة فبأن يولي أحدهما الآخر ظهره ويمشي قليلا ولو لم يبعد عن سماع خطابه وإن كانا في سفينة أو دار صغيرة أو مسجد صغير فبخروج أحدهما منه أو صعوده السطح
ولا يحصل التفرق بإقامة ستر ولو ببناء جدار بينهما لأن المجلس باق
وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين أن يبنياه أو يبنى بأمرهما وهو كذلك كما صححه والد الروياني واعتمده شيخي وإن جزم الغزالي بالحصول وقال الأذرعي وهو المتجه
ولو تناديا بالبيع من بعد ثبت لهما الخيار وامتد ما لم يفارق أحدهما مكانه فإن فارقه ووصل إلى موضع لو كان الآخر معه بمجلس العقد عد تفرقا بطل خيارهما
وقول ابن الرفعة هذا إذا لم يقصد جهة الآخر وإلا فالذي يظهر القطع بدوام الخيار ليس بظاهر
وتقدم في أوائل البيع حكم ما لو تبايعا بالمكاتبة
( ولو مات ) أحدهما ( في المجلس أو جن ) أو أغمي عليه ( فالأصح انتقاله ) أي الخيار في المسألة الأولى ( إلى الوارث ) ولو عاما ( و ) في الثانية والثالثة إلى ( الولي ) من حاكم أو غيره إلى الموكل عند موت الوكيل وإلى السيد عند موت المكاتب أو المأذون له كخيار الشرط والعيب سواء فيه عقد الربا أو غيره
فإن كان الوارث طفلا أو مجنونا أو محجورا عليه بسفه نصب الحاكم من يفعل عنه ما فيه المصلحة من فسخ وإجازة
وعجز المكاتب كموته كما في المجموع
ثم إن كان من ذكر في المجلس ثبت له مع العاقد الآخر الخيار وامتد
____________________
(2/45)
إلى أن يتفرقا أو يتخايرا وإن كان غائبا ووصله الخبر امتد خياره إلى أن يفارق مجلس الخبر لأنه حليفة مورثه
والثاني يسقط الخيار لأن مفارقة الحياة أولى به من مفارقة المكان وفي معناها مفارقة العقد
وعلى الأول لو ورثه جماعة حضور في مجلس العقد لم ينقطع خيارهم بفراق بعضهم له بل يمتد حتى يفارقوه كلهم لأنهم كالمورث وهو لا ينقطع خياره إلا بمفارقة جميع بدنه أو غائبون عن المجلس ثبت لهم الخيار وإن لم يجتمعوا في مجلس واحد كما في بعض نسخ الروض وهي المعتمدة وفي بعضها إذا اجتمعوا في مجلس واحد
ويثبت الخيار للعاقد الباقي ما دام في مجلس العقد سواء أكان الوارث الغائب واحدا أم متعددا
ولو فارق أحدهما مجلسه دون الآخر لم ينقطع خيار الآخر خلافا لبعض المتأخرين وينفسخ العقد بفسخ أحدهم في نصيبه أو في الجميع ولو أجاز الباقون كما لو فسخ المورث في البعض وأجاز في البعض ولا يتبعض الفسخ للإضرار بالحي
فإن قيل لو مات مورثهم ثم اطلعوا على عيب المبيع ففسخ بعضهم لا ينفسخ في شيء منه لأن الوارث قائم مقام مورثه وهو ليس له الفسخ في البعض فهلا كان الحكم هنا كذلك أجيب بأن للضرر ثم جابرا وهو الأرش ولا جابر له هنا
ولو أجاز الوارث أو فسخ قبل علمه بموت مورثه نفذ ذلك بناء على أن من باع مال مورثه ظانا حياته أنه يصح وإن قال الإمام الوجه نفوذ فسخه دون إجازته
ولو خرس أحد العاقدين ولم تفهم إشارته ولا كتابة له نصب الحاكم نائبا عنه كما لو جن وإن أمكنت الإجازة منه بالتفرق وليس هو محجورا عليه وإنما الحاكم ناب عنه فيما تعذر منه بالقول
أما إذا فهمت إشارته أو كان له كتابة فهو على خياره
ولو اشترى الولي لطفله شيئا فبلغ رشيدا قبل التفرق لم ينتقل إليه الخيار كما في البحر ويبقى للولي على الأوجه من وجهين حكاهما في البحر وأجراهما في خيار الشرط
( ولو تنازعا في التفرق ) بأن جاءا معا وقال أحدهما تفرقنا وأنكر الآخر وأراد الفسخ ( أو ) في ( الفسخ قبله ) أي التفرق بأن اتفقا على حصول التفرق وقال أحدهما فسخته قبله وأنكر الآخر ( صدق النافي ) بيمينه لأن الأصل دوام الاجتماع وعدم الفسخ
ولو اتفقا على عدم التفرق وادعى أحدهما الفسخ فدعواه الفسخ فسخ
ثم شرع في السبب الثاني من النوع الأول مترجما له بفصل فقال فصل في خيار الشرط ( لهما ) أي لكل من المتعاقدين ( ولأحدهما شرط الخيار ) على الآخر المدة الآتية مع موافقة الآخر بالإجماع
نعم إن استعقب الملك العتق كأن اشترى من يعتق عليه وشرط الخيار له وحده لم يجز لعتقه عليه فيلزم من ثبوت الخيار عدم ثبوته ويجوز التفاضل فيه كأن يشرط لأحدهما خيار يوم وللآخر خيار يومين أو ثلاثة
ولو شرط خيار يوم فمات أحدهما في أثنائه فزاد وارثه مع الآخر خيار يوم آخر جاز
قال الروياني ويجوز للعاقد لنفسه شرطه لأجنبي أوالعبد المبيع لأن الحاجة تدعو لذلك لكونه أعرف بالمبيع ولا يثبت مع شرطه للأجنبي أو العبد المبيع للشارط اقتصارا على الشرط
قال الزركشي والأقرب اشتراط بلوغ الأجنبي لا رشده
وإذا مات الأجنبي ثبت الخيار للشارط ولو شرط الوكيل في البيع أو الشراء الخيار للموكل أو لنفسه ولو بلا إذن صح لأنه لا يضر موكله
وليس لوكيل أحد العاقدين أن يشرطه للآخر فإن فعل بطل العقد وله شرطه لأجنبي بإذن موكله ولا يتجاوز الخيار من شرط له فلو شرط للوكيل لم يثبت للموكل وبالعكس
فإن أذن له فيه موكله وأطلق بأن لم يقل لي ولا لك فاشترطه الوكيل وأطلق ثبت له دون الموكل لأن معظم أحكام العقد متعلقة به وحده ولا يلزم العقد برضا الموكل لأن الخيار منوط برضا وكيله
ولو باع مسلم عبدا مسلما لمسلم وجعل الخيار لكافر أو باع حلال لحلال صيدا وجعل الخيار لمحرم صح فيهما كما قاله الروياني خلافا لوالده إذ لا ملك ولا ولاية
وحيث ثبت للوكيل الخيار لا يفعل إلا ما فيه حظ الموكل لأنه مؤتمن بخلاف الأجنبي المشروط له الخيار لا يلزمه رعاية الحظ
ولا يبطل البيع بعزل الموكل وكيله في زمن خيار المجلس ولا بموت الوكيل ولا الموكل في المجلس وإن خالف في ذلك الروياني
تنبيه قول المصنف لهما ولأحدهما شرط الخيار يوهم جواز انفراد أحدهما بالشرط وليس مرادا بل لا بد من اجتماعهما عليه ولذلك قلت مع موافقة الآخر
ولم يرد المصنف بيان الشارط لوضوحه كما قاله الإسنوي فإنه لا يكون إلا
____________________
(2/46)
منهما
وإنما أراد بيان المشروط له لكن عبارته لا توفي بمقصوده فلو قال يجوز شرطهما الخيار لهما ولأحدهما لأفاد مقصوده ولكن يمكن رد عبارته إلى الصواب كما قاله الولي العراقي بأن لا يجعل قوله لهما ولأحدهما خبرا عن قوله شرط الخيار وإنما هو متعلق بالخيار والخبر قوله ( في أنواع البيع ) أي شرط الخيار الكائن لهما أو لأحدهما ثابت في أنواع البيع
ومع ذلك فعبارته توهم أنه لا يجوز شرطه لأجنبي وتوهم جواز اشتراط وكيل البائع الخيار للمشتري وجواز اشتراط وكيل المشتري الخيار للبائع وليس مرادا كما علم مما تقرر
وعلم من تقييده بالبيع أنه لا يشرع في غيره كالفسوخ والعتق والإبراء والنكاح والإجارة وهو كذلك
( إلا أن يشترطا القبض في المجلس كربوي وسلم ) فلا يجوز شرط الخيار فيه لأحد لأنه لا يحتمل التأجيل والخيار أعظم غررا منه لا مانع من الملك أو من لزومه
تنبيه إنما ذكر المصنف مثالين لينبه على أنه لا فرق بين ما يشترط فيه القبض من الجانبين كالربوي أو من أحدهما فقط كالسلم
وأورد على حصره فيما ذكر مسائل منها البيع الضمني
ومنها الحوالة إذا جعلناها بيعا
ومنها ما إذا اشترى من يعتق عليه كما مر
ومنها المصراة فإنه لا يجوز شرط خيار الثلاث فيها للبائع لأنه يمنع من الحلب وترك الحلب يضر بالبهيمة
قال الأذرعي ويجب طرده في كل حلوب وإن لم تكن مصراة إذ تركها ثلاثا بلا حلب يضرها بلا شك وإن كانت المصراة أشد ضررا
فإن قيل لك أن تقول ما المانع من حلب البائع لها إذا كان الخيار له لأن الملك له حينئذ واللبن في زمن الخيار لمن له الملك أجيب بأن اللبن الموجود حال البيع مبيع فهو كالحمل الموجود عند البيع فيمتنع على البائع الحلب لذلك والبائع إنما يملك لو تم البيع للبن الحادث بعد العقد كالولد الحادث بعده
ومنها ما إذا باع الكافر عبده المسلم بشرط الخيار ثم فسخ ثم باعه وشرط الخيار وفسخ وهكذا فإن الحاكم يلزمه أن يبيع بيعا باتا كما قاله المتولي وقضيته جواز الخيار للكافر في العبد المسلم ابتداء وهو ما نقله في المجموع عن القاضي حسين وأقره
فإن قيل قد أتى المصنف بالكاف في قوله كربوي وسلم فيقتضي أن لنا غيرهما يشترط فيه قبض العوض في المجلس ولم يوجد
أجيب بالمنع فإن الإجارة على عمل في الذمة يشترط قبض الأجرة فيها في المجلس
( وإنما يجوز ) شرط الخيار ( في مدة معلومة ) متصلة بالعقد المشروط فيه الخيار متوالية ( لا تزيد على ثلاثة أيام ) لأن الأصل امتناعه لكونه مخالفا لوضع البيع فإنه يمنع نقل الملك أو لزومه ثبت في الثلاث بما روي في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا من الأنصار كان يخدع في البيوع فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إذا بايعت فقل لا خلابة وفي رواية فقل لا خلابة وأنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال والخلابة بكسر الخاء المعجمة وبالباء الموحدة ومعناه لا غبن ولا خديعة فثبت خيار المشتري بالنص وألحق به البائع بالقياس عليه فبقي ما زاد على الأصل
وهذه الكلمة في الشرع عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثا فإذا كانا عالمين بمدلولها كان كالتصريح باشتراط الخيار وإن كانا جاهلين به أو أحدهما لم يثبت الخيار
وفي مصنف عبد الرزاق عن أنس أن رجلا اشترى من رجل بعيرا واشترط الخيار أربعة أيام فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع وقال الخيار ثلاثة أيام
ولأن الحاجة تندفع بها غالبا فلو زاد عليها بطل العقد
ولا يخرج على تفريق الصفقة لوجود الشرط الفاسد وهو مبطل للعقد لأن الشرط يتضمن غالبا زيادة في الثمن أو محاباة فإذا سقطت انجرت الجهالة إلى الثمن بسبب ما يقابل الشرط الفاسد فيفسد البيع فلهذا لم يصح الشرط في الثلاث ويبطل ما زاد عليها وقد نبهت على استثناء ذلك في الكلام على تفريق الصفقة
فإن شرط الثلاث من الغد أو فرقها لم يصح العقد لأن العقد إذا لزم لا يصير بعد ذلك جائزا
ويدخل في الأيام المشروطة ما اشتملت عليه من الليالي للضرورة كما في المجموع ومقتضى هذه العلة كما قاله الإسنوي أنه لو عقد وقت الفجر
____________________
(2/47)
لا يثبت الخيار في الليلة الثالثة بخلاف نظيره من مسح الخف وعلى هذا لو باع نصف النهار بشرط الخيار يوما ثبت إلى نصف اليوم الثاني
ويدخل الليل في حكم النهار للضرورة كما قاله المتولي وغيره
( وتحسب ) المدة المشروطة ( من ) حين ( العقد ) الواقع فيه الشرط كالأجل فإن ابتداءه من العقد لا من التفرق لأنه لو اعتبر من التفرق لصار أول مدة الخيار مجهولة لأنه لا يعلم متى يفترقان
( وقيل ) تحسب ( من التفرق ) أو التخاير ونسبه الماوردي إلى الجمهور لأن الظاهر أن الشارط يقصد بالشرط زيادة على ما يفيده المجلس
وعورض بأن التفرق مجهول كما تقدم واعتباره يؤدي إلى جهالة ابتداء المدة
ولو شرط الخيار بعد العقد في المجلس وقلنا بثبوته وهو الأصح فالحكم على الثاني لا يختلف وعلى الأول تحسب من الشرط لا من العقد فلو قال المصنف من الشرط بدلا عن العقد لدخلت هذه الصورة
ولو انقضت المدة المشروطة وهما في المجلس بقي خياره فقط وإن تفرقا والمدة باقية فبالعكس
ويجوز إسقاط الخيارين أو أحدهما فإن أطلقا الإسقاط سقطا ولأحد العاقدين الفسخ في غيبة صاحبه وبلا إذن حاكم لأنه فسخ متفق على ثبوته بخلاف الفسخ بالعنة
ويسن كما قال الخوارزمي أن يشهد حتى لا يؤدي إلى النزاع
( والأظهر ) في خيار المجلس أو الشرط ( أنه إن كان الخيار ) المشروط ( للبائع فملك المبيع ) مع توابعه كلبن ومهر وثمر وكسب وكنفوذ عتق وحل وطء في مدة الخيار
( له وإن كان للمشتري فله ) أي الملك لأنه إذا كان الخيار لأحدهما كان هو وحده متصرفا في المبيع ونفوذ التصرف دليل على الملك
( وإن كان ) الخيار ( لهما فموقوف ) أي الملك لأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر فتوقفنا
( فإن تم البيع بان أنه ) أي الملك فيما ذكر ( للمشتري من حين العقد وإلا فللبائع ) وكأنه لم يخرج عن ملكه
والثاني الملك للمشتري مطلقا لتمام البيع له بالإيجاب والقبول
والثالث للبائع مطلقا
والخلاف جار في خيار المجلس كما مر وكونه لأحدهما بأن يختار الآخر لزوم العقد
وحيث حكم بملك المبيع لأحدهما حكم بملك الثمن للآخر وحيث وقف وقف ملك الثمن ولو شرط الخيار لأجنبي
قال ابن النقيب لم أر من تعرض لمن ملك المبيع وذكر فيه خلافا
ونازعه الولي العراقي
وحاصله أنه إن كان الأجنبي من جهة أحدهما فملك المبيع له وإن كان من جهتهما فموقوف
ولو اجتمع خيار المجلس وخيار الشرط لأحدهما فهل يغلب الأول فيكون الملك موقوفا أو الثاني فيكون لذلك الأحد الظاهر وهو ما اقتضاه كلامهم كما قال شيخنا الأول لأن خيار المجلس كما قال الشيخان أسرع وأولى ثبوتا من خيار الشرط لأنه أقصر غالبا خلافا للزركشي في قوله الظاهر الثاني معللا له بأن خيار الشرط ثابت بالإجماع ومثل ذلك ما لو كان خيار المجلس لواحد بأن ألزم البيع من الآخر وخيار الشرط للآخر والحمل الموجود عند البيع مبيع كالأم فيقابله قسط من الثمن لا كالزوائد الحاصلة في زمن الخيار بخلاف ما إذا حدث في زمن الخيار فإنه من الزوائد
ومتى وطىء الأمة المبيعة من انفرد بالخيار حل له لنفوذ تصرفه فيها
فإن قيل حل وطء المشتري متوقف على الاستبراء وهو غير معتد به في زمن الخيار على الأصح
أجيب بأن المراد بحل الوطء حله المستند للملك لا للاستبراء ونحوه كحيض وإحرام على أنه قد لا يجب الاستبراء بأن يشتري زوجته فلا يحرم وطؤها في زمن الخيار من حيث الاستبراء
ولو اشترى زوجته بشرط الخيار ثم طلقها في زمنه فإن كان الخيار للبائع وقع لبقاء الملك له وكذا يقع إن كان الخيار لهما وفسخ البيع لتبين بقاء الملك له لا إن تم لتبين أنها ملك المشتري
وإن كان الخيار للمشتري وتم البيع لم يقع لأنها ملكه وإن فسخ فوجهان مبنيان على أن الفسخ برفع العقد من حينه أو من أصله والأصح الأول فلا يقع
ويحرم وطؤها في زمن الخيار إذا كان له وحده لجهالة جهة المبيع له لأنه لا يدري أيطأ بالملك أو بالزوجية وإذا اختلفت الجهة وجب التوقف احتياطا للبضع
أما إذا كان الخيار للبائع أو لهما فيجوز الوطء بالزوجية لبقائها
____________________
(2/48)
( ويحصل الفسخ ) للعقد ( والإجازة ) له في زمن الخيار ( بلفظ يدل عليهما ) ففي الفسخ ( كفسخت البيع ورفعته واسترجعت المبيع ) ورددت الثمن ( وفي الإجازة أجزته ) أي البيع ( وأمضيته ) وألزمته ونحو ذلك
وهذه الألفاظ صرائح
ويحصلان بالكناية أيضا
قال في المجموع والفسخ بالخيار هل يرفع العقد من أصله أو من حينه فيه الخلاف الآتي في الفسخ بالعيب والأصح فيه الثاني ومرت الإشارة إليه
( ووطء البائع ) الأمة المبيعة ( وإعتاقه ) الرقيق المبيع في زمن الخيار المشروط له أو لهما ( فسخ ) للبيع أي متضمن له
أما الإعتاق فلتضمنه الفسخ وأما الوطء فلإشعاره باختيار الإمساك
فإن قيل قياس ذلك أن الرجعة تحصل بالوطء
أجيب بأن الرجعة لتدارك النكاح وابتداؤه لا يحصل بالفعل فكذا تداركه والفسخ هنا لتدارك الملك وابتداؤه يحصل بالقول والفعل كالسبي والاحتطاب فكذا تداركه
ومقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة ليست فسخا كاستخدامه الرقيق وركوبه الدابة وإن قال في المطلب الأشبه أنها فسخ
ولا حد على من وطىء منهما مطلقا
وينفذ استيلاد البائع إن كان الخيار له أو لهما فإن وطئها المشتري بلا إذن والخيار للبائع دونه لزمه المهر وإن تم البيع لأنه وطىء أمة غيره بشبهة
وكذا يلزمه المهر إن كان الخيار لهما ولم يتم البيع بأن فسخ لا إن تم بناء على أن الملك موقوف فيهما والولد الحاصل منه حر نسيب في الأحوال كلها للشبهة وحيث يلزمه المهر لا يثبت استيلاده وإن ملك الأمة بعد الوطء لانتفاء ملكه لها حين العلوق ويلزمه قيمة الولد للبائع لأنه فوت عليه رقه وإن وطئها البائع والخيار للمشتري دونه فكما لو وطىء المشتري والخيار للبائع دونه في المهر والاستيلاد والقيمة
وقول البائع في زمن الخيار للمشتري لا أبيع حتى تزيد في الثمن أو تعجله وقد عقد بمؤجل فامتنع المشتري فسخ وكذا قول المشتري لا أشتري حتى تنقص من الثمن أو تؤجله وقد عقد بحال فامتنع البائع
( وكذا بيعه ) المبيع ( وإجارته ) ووقفه ( وتزويجه ) ورهنه المقبوض وهبته المقبوضة فسخ ( في الأصح ) لإشعاره بعدم البقاء عليه وصح ذلك منه أيضا وتقدم أنه لا يجوز له الوطء إلا إذا كان الخيار له
والثاني لا يكتفي في الفسخ بذلك لأن الأصل بقاء العقد فتستصحب إلى أن يوجد الفسخ صريحا وإنما جعل العتق فسخا لقوته
( والأصل أن هذه التصرفات ) الوطء وما بعده ( من المشتري ) في زمن الخيار المشروط له أو لهما ( إجازة ) للشراء لإشعارها بالبقاء عليه
والثاني لا يكتفي في الإجازة بذلك
وعلم مما مر أن وطأه حلال إن كان الخيار له وإلا فحرام وقول الإسنوي إنه حلال إن أذن له البائع مبني على أن مجرد الإذن في التصرف إجازة والمنقول خلافه
ويستثنى الوطء من الخنثى والوطء له فليس فسخا ولا إجازة
فإن اختار الموطوء في الثانية الأنوثة بعد الوطء تعلق الحكم بالوطء السابق ذكره في المجموع
وقياسه أنه لو اختار الواطىء في الأولى الذكورة بعد تعلق الحكم بالوطء السابق والظاهر كما قال الأذرعي أن محل كون الوطء فسخا أو إجازة إذا علم الواطىء أو ظن أن الموطوءة هي المبيعة ولم يقصد بوطئه الزنا لاعتقاده ذلك والإعتاق نافذ منه إذا كان الخيار له وإن كان لهما أو للبائع فإن أذن فيه البائع نفذ وكان إجازة من البائع أيضا وإن لم يأذن بموقوف فيما إذا كان الخيار لهما فإن تم البيع نفذ وإلا فلا وغير نافذ فيما إذا كان الخيار للبائع وإن تم البيع والبقية صحيحة إن كان الخيار له وكذا إن كان لهما أو للبائع أو باع للبائع نفسه وإلا فغير صحيحة
وعلى هذا التفصيل يحمل قول الشارح إنها غير صحيحة
( و ) الأصح ( أن العرض ) للمبيع في زمن الخيار ( على البيع والتوكيل فيه ) والهبة والرهن إذا لم يتصل بهما قبض ( ليس فسخا من البائع ولا إجازة من المشتري ) لعدم إشعارها من البائع بعدم البقاء عليه ومن المشتري بالبقاء عليه لأنه قد يقصد أن يستبين ما يدفع فيه ليعلم أربح أم خسر
والثاني أن ذلك فسخ وإجازة
فإن قيل إن ذلك رجوع في الوصية فهلا كان ذلك فسخا أجيب بضعف
____________________
(2/49)
الوصية لأنه لم يوجد في حياة الموصي إلا أحد شقي العقد
ثم شرع في النوع الثاني مترجما له بفصل فقال فصل في خيار النقيصة وهو المعلق بفوات مقصود مظنون نشأ الظن فيه من قضاء عرفي أو التزام شرطي أو تغرير فعلي
ثم شرع في الأمر الأول وهو ما يظن حصوله بالعرف وهو السلامة من العيب فقال ( للمشتري ) الجاهل بما يأتي ( الخيار بظهور عيب قديم ) والمراد بقدمه كونه موجودا عند العقد أو حدث قبل القبض كما يعلم من كلامه الآتي
أما المقارن فبالإجماع وأما الحادث قبل القبض فلأن المبيع حينئذ من ضمان البائع فكذا جزؤه وصفته
تنبيه إنما اقتصر المصنف على ثبوت الخيار للمشتري لأن حصول العيب في المبيع هو الغالب
ويستثنى من رده مسائل منها ما إذا حدث العيب قبل القبض بفعل المشتري كما سيأتي
ومنها ما إذا كان المشتري مفلسا أو ولي محجور أو عامل قراض وكانت الغبطة في الإمساك
ومنها ما إذا اشترى الوكيل ورضي الموكل بالعيب
وقضية إطلاقه أنه لا فرق بين أن يقدر المشتري على إزالة العيب أم لا وهو كذلك نعم لو أحرم العبد بغير إذن سيده ثم باعه فللمشتري تحليله كالبائع كما مر في بابه ولا خيار له كما في زوائد الروضة وإن قال البلقيني بثبوت الخيار
وفوات الوصف المقصود كالعيب في ثبوت الخيار فلو اشترى عبدا كاتبا أو متصفا بصفة تزيد على ثمنه ثم زالت تلك الصفة بنسيان أو غيره في يد البائع ثبت للمشتري الخيار وإن لم يكن فواتها عيبا قبل وجودها قاله ابن الرفعة
( كخصاء ) حيوان بالمد ( رقيق ) أو غيره لأن الفحل يصلح لما لا يصلح له الخصي والجب كالخصاء وإن زادت قيمتهما باعتبار آخر
تنبيه عبارته تفهم بغير ما قدرته أن الخصاء في البهائم ليس بعيب وليس مرادا فقد صرح الجرجاني وغيره بأنه عيب فيها ولذلك لم يقيده في الروضة بالرقيق
وقد يقال إن الثيران الغالب فيها الخصاء فلا يثبت فيها خيار لدخولها في قولهم إذا غلب في جنس المبيع عدمه وإذا كان في المفهوم تفصيل لا يعترض به ولذلك قال الأذرعي وفي الضأن المقصود لحمه توقف لغلبة ذلك فيه وكذا في البراذين والبغال بل الفحولة نقص فيها
( وزناه ) أي الرقيق ( وسرقته وإباقه ) أي كل منها وإن لم يتكرر ولو ناب منها لأن تهمة الزنا لا تزول ولهذا لا يعود إحصان الحر الزاني بالتوبة
وما تقرر من أن السرقة أو الإباق مع التوبة عيب هو المعتمد كما جرى عليه ابن المقري وصرح به القاضي في الإباق خلافا لبعض المتأخرين
واستثنى بعضهم من السرقة ما إذا دخل مسلم دار الحرب ومعه عبده فسرق العبد مال حربي قال والذي أراه أن لا يجعل ذلك عيبا مثبتا للرد ابتداء اه
والأولى عدم استثناء هذه لأنها غنيمة وإن وقع ذلك على صورة السرقة
واستثنى من إباق العبد ما لو خرج عبد من بلاد الهدنة بعد أن أسلم وجاء إلينا فللإمام بيعه ولا يجعل بذلك آبقا من سيده موجبا للرد لأن هذا الإباق مطلوب
وحيث قيل له الرد بالإباق فمحله في حال عوده
أما حال إباقه فلا رد قطعا ولا أرش في الأصح
( وبوله في الفراش ) ذكرا كان أو أنثى إن خالف العادة بأن اعتاده لسبع سنين فأكثر تقريبا لأنه يقل الرغبة فيه فلو لم يعلم به إلا بعد كبر العبد لم يرد ويرجع الأرش لأن علاجه في الكبر صعب فصار كبره عيبا حدث قاله الماوردي و الروياني
ومحل الرد كما قال بعضهم إذا كان يبول عند البائع وظهر أمره عند المشتري أما لو كان يبول عند البائع ثم لم يبل عند المشتري فلا رد له لأنه تبين أن العيب قد زال قبل البيع
( وبخره ) وهو الناشيء من تغير المعدة دون ما يكون من قلح الأسنان فإن ذلك يزول بتنظيف الفم
واعترض ذلك في الذخائر بأن التغير بالقلح لا يسمى بخرا قال الإسنوي وهو اعتراض صحيح
( وصنانه ) المستحكم دون ما يكون لعارض عرق أو حركة ونحو ذلك
وعيوب الرقيق لا تكاد تنحصر فمنها أن يكون نماما أو كذابا أو ساحرا أو قاذفا للمحصنات أو مقامرا أو تاركا للصلاة قال الزركشي وينبغي اعتبار ترك ما يقتل به منها
أو شاربا ما يسكر وإن لم يشربه
قال الزركشي وينبغي أن يقيد بالمسلم دون من يعتاد ذلك من الكفار فإنه غالب فيهم
أو خنثى
____________________
(2/50)
مشكلا أو واضحا أو مخنثا وهو بفتح النون وكسرها الذي تشبه حركاته حركات النساء خلقا وخلقا
أو ممكنا من نفسه وإن كان صغيرا أو مرتدا قال الماوردي وإن تاب
أو محرما بإذن من البائع أو كافرا لم يجاوره كفار لقلة الرغبة فإن جاوره كفار فليس بعيب
أو كون الأمة رتقاء أو قرناء أو مستحاضة أو يتطاول طهرها فوق العادة الغالبة أو لا تحيض وهي في سن الحيض غالبا بأن بلغت عشرين سنة قاله القاضي لأن ذلك إنما يكون لعلة
أو حاملا لأنه يخاف من هلاكها بالوضع لا في البهائم فإن الغالب فيها السلامة
أو معتدة ولو محرمة عليه بنحو نسب خلافا للجيلي في المحرمة
أو كافرة كفرها يحرم الوطء كوثنية
واصطكاك الكعبين وسواد الأسنان أو حمرتها كما بحثه بعضهم
أو خضرتها أو زرقتها أو تراكم الوسخ الفاحش في أصولها وذهاب الأشفار من الأمة وكبر أحد ثدييها والخيلان الكثيرة بكسر الخاء جمع خال وهو الشامة وآثار الشجاج
قال الروياني أو كونه أعسر
وفصل ابن الصلاح فقال إن كان أضبط وهو الذي يعمل بيده معا فليس بعيب لأن ذلك زيادة في القوة وإلا فهو عيب
ولعل الروياني لا يخالف ذلك
أو أشل أو أقرع وهو من ذهب شعر رأسه بآفة
أو أصم وهو من لم يسمع
أو أخفش وهو صغير العين ضعيف البصر خلقة ويقال هو من يبصر بالليل دون النهار وفي الغيم دون الصحو وكلاهما عيب كما ذكره في الروضة
أو أجهر وهو من لا يبصر في الشمس
أو أعشى وهو من يبصر بالنهار دون الليل وفي الصحو دون الغيم والمرأة عشواء
أو أخشم أو أبكم أو أخرس أو أرت لا يفهم كلام غيره أو فاقد الذوق أو أنملة أو الظفر أو الشعر ولو عانة
أو في رقبته لا في ذمته فقط دين
فإن قيل من تعلق برقبته مال لا يصح بيعه فكيف يعد من العيوب أجيب بأن صورته أن يبيعه ثم يجني جناية تتعلق برقبته قبل قبضه فإنها من ضمان البائع
أو له أصبع زائدة أو سن شاغبة وهي بشين وغين معجمتين الزائدة التي تخالف نبتها نبتة بقية الأسنان
أو سن مقلوعة لا لكبر
أو به قروح أو أبهق والبهق بياض يعتري الجلد يخالف لونه وليس من البرص فالبرص والجذام أولى
أو أبيض الشعر في غير سنه ولا تضر حمرته
أو مخبلا بالموحدة وهو من في عقله خبل أي فساد
أو أبله وهو من غلب عليه سلامة الصدر روي إن أكثر أهل الجنة البله أي في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها وهم أكياس في أمر الآخرة وحمل بعضهم الأبله على معنى لطيف وهو من يعمل لأجل النعيم وغيره هو الذي يعمل لوجه الله تعالى فأكثر أهل الجنة من القسم الأول فهو ليس بمذموم ولكن القسم الثاني أعلى
( وجماح الدابة ) بالكسر أي امتناعها على راكبها
( وعضها ) أو رمحها لنقص القيمة بذلك
وكونها تشرب لبنها أو لبن غيرها أو تكون بحيث يخشى من ركوبها السقوط لخشونة مشيها
أو ساقطة الأسنان لا لكبر أو قليلة الأكل بخلاف قلة الأكل في الآدمي
والحموضة في البطيخ لا الرمان عيب
ولا رد بكون الرقيق رطب الكلام ولا بكونه عقيما ولا بكون العبد عنينا وليس عدم الختان عيبا إلا في عبد كبير خوفا عليه من الختان بخلاف الأمة الكبيرة لأن ختانها سليم لا يخاف عليها منه وضبط بعضهم الصغير بعدم البلوغ
ومن العيوب ظهور مكتوب بوقفية المبيع ولم يثبت وكذا شيوعها بين الناس
وشق أذن الشاة مثلا إن منع الإجزاء في الأضحية
ولما كان لا مطمع في استيفاء العيوب المثبتة للرد ذكر ضابطا جامعا لها شاملا لما ذكره ولما لم يذكره فقال ( وكل ما ) بالجر ( ينقص العين ) بفتح الياء وضبط القاف بضبط المصنف أفصح من ضم الياء وكسر القاف المشددة قال تعالى { ثم لم ينقصوكم شيئا }
( أو القيمة نقصا يفوت به غرض صحيح إذا غلب في جنس المبيع عدمه ) إذ الغالب في الأعيان السلامة فبدل المال يكون في مقابلة السليم فإذا بان العيب وجب التمكن من التدارك
فقوله يفوت به غرض صحيح قيد في نقص العين خاصة ليحترز به عن قطع أصبع زائدة أو جزء يسير من الفخذ أو الساق لا يورث شينا ولا يفوت غرضا فلا رد به فلو ذكره عقبه إما بأن يقدم ذكر القيمة أو يجعل هذا القيد عقب نقص العين قبل ذكر القيمة لكان أولى
وقوله إذا غلب في جنس المبيع عدمه يرجع إلى القيمة والعين فأما القيمة فاحترز به عن الثيوبة في الأمة
____________________
(2/51)
الكبيرة السن
قال شيخي وكذا الخصاء في الثيران ومرت الإشارة إليه
قال الأذرعي وكترك الصلاة في الأرقاء فإن ذلك لا يقتضي الرد وإن نقصت القيمة بذلك ويمكن حمل هذا على الأرقاء الجلب وما تقدم على غيرهم
وأما في العين فاحترز به على قلع الأسنان في الكبير قاله الإسنوي قال وقد جزم في المطلب بامتناع الرد ببياض الشعر في الكبير وهو نظير ما نحن فيه
فائدة العيب ستة أقسام في البيع والزكاة والغرة والصداق إذا لم يفارق قبل الدخول ما مر وفي الكفارة ما ضر بالعمل إضرارا بينا وفي الأضحية والهدي والعقيقة ما نقص اللحم وفي النكاح ما نفر عن الوطء كما هو مبين في محله وفي الصداق إذا فارق قبل الدخول ما فات به غرض صحيح سواء أكان الغالب في أمثاله عدمه أم لا وفي الإجارة ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت في الأجرة
قال الدميري وينبغي أن يزاد عيب المرهون فالظاهر أنه ما نقص القيمة فقط
( سواء ) في ثبوت الخيار ( قارن ) العيب ( العقد ) بأن كان موجودا قبله ( أم حدث ) بعده و ( قبل القبض ) للمبيع لأن المبيع حينئذ من ضمان البائع فكذا جزؤه
ولو حدث قبل القبض بسبب متقدم رضي به المشتري كما لو اشترى بكرا مزوجة عالما فأزال الزوج بكارتها
قال السبكي لم أر فيه نقلا والأقرب القطع بأنه لا يوجب الرد لرضاه بسببه
فإن قيل إن هذه ستأتي في قول المصنف إلا أن يستند إلى سبب متقدم
أجيب بأن الذي يأتي في كلامه أن العيب إذا حدث بعد القبض بسبب سابق لا يمنع الرد والذي قاله السبكي أنه لو حدث العيب قبل القبض بسبب سابق رضي به المشتري فعلى كلام السبكي تستثنى هذه الصورة من كلام المصنف
( ولو حدث ) العيب ( بعده ) أي القبض ( فلا خيار ) في الرد به لأنه بالقبض صار من ضمانه فكذا جزؤه وصفته
قال ابن الرفعة ومحله بعد لزوم العقد أما قبله فينبني على ما إذا تلف حينئذ هل ينفسخ والأرجح ما قاله الرافعي إن قلنا الملك للبائع انفسخ وإلا فلا فإن قلنا ينفسخ أي وهو الراجح فحدوثه كوجوده قبل القبض
( إلا أن يستند إلى سبب متقدم ) على القبض أو العقد ويجهله المشتري ( كقطعه ) أي المبيع العبد أو الأمة ( بجناية ) أو سرقة ( سابقة ) على القبض ( فيثبت الرد ) بذلك ( في الأصح ) لأن قطعه لتقدم سببه كالمتقدم
وفي معنى القطع زوال البكارة واستيفاء الحد بالجلد
والثاني لا يثبت به الرد لأنه قد تسلط على التصرف بالقبض فيدخل المبيع في ضمانه وعلى هذا يرجع بالأرش وهو ما بين قيمته مستحق القطع وغير مستحقه من الثمن فإن كان عالما به فلا رد له به جزما ولا أرش لدخوله في العقد على بصيرة
( بخلاف موته ) أي المبيع ( بمرض سابق ) على القبض جهله المشتري فلا يثبت به لازم الرد المتعذر من استرجاع الثمن ( في الأصح ) المقطوع به
ولو عبر بالمذهب لكان أولى لأن المرض يزداد شيئا فشيئا إلى الموت فلم يحصل بالسابق
والثاني يثبت استرجاع الثمن لأن السابق أفضى إليه فكأنه سبق فينفسخ به البيع قبيل الموت
وعلى الأول للمشتري أرش المرض وهو ما بين قيمة المبيع صحيحا ومريضا من الثمن ومحل الخلاف في المرض المخوف كما في التذنيب وغيره أما غيره كالحمى اليسيرة إذا لم يعلم بها المشتري فإن زادت في يده ومات لا يرجع بشيء قطعا لموته بما حدث في يده والجراحة السارية كالمرض وكذا الحامل إذا ماتت من الطلق فإن كان المشتري عالما بالمرض فلا شيء له جزما
( ولو قتل ) المبيع ( بردة ) أو محاربة أو جناية توجب قصاصا ( سابقة ) على القبض جهلها المشتري ( ضمنه البائع في الأصح ) بجميع الثمن لأن قتله لتقدم سببه كالمتقدم فينفسخ البيع فيه قبيل القتل
والثاني لا يضمنه البائع ولكن تعلق القتل به عيب يثبت به الأرش وهو ما بين قيمته مستحق القتل وغير مستحقه من الثمن
وينبني على الخلاف في المسألتين
____________________
(2/52)
مؤنة التجهيز والدفن فهي على الأصح على المشتري في الأولى وعلى البائع وجوبا في الثانية
فإن كان المشتري عالما بالحال فلا شيء له جزما
تنبيه لو قال المصنف قتل بموجب سابق لكان أولى ليشمل ما زدته والقتل بترك الصلاة ونحو ذلك
فإن قيل تارك الصلاة لم يقتل بموجب سابق بل بتصميمه على ترك القضاء
أجيب بأن الترك موجب للقتل والتصميم على ترك القضاء موجب للاستيفاء كما في الردة فإنها السبب الموجب للقتل وبقاؤه عليها موجب للاستيفاء
قال الشارح ولو أخر عبارته الأولى وهي قوله بخلاف موته إلخ عن الثانية لاستغنى عن التأويل السابق أي وهو قولنا تبعا له لازم الرد إذ لا يتوهم أن الخلاف في الرد لأنه قد تعذر بموته
وقضية كلامه صحة بيع المرتد وهو الأصح وكذا المتحتم قتله بالمحاربة ولا قيمة على متلفهما كما قاله ابن المقري لاستحقاقهما القتل والثانية نقلها الشيخان عن القفال ولعله بناها على أن المغلب في قتل المحارب معنى الحد لكن الصحيح أن المغلب فيه معنى القصاص وأنه لو قتله غير الإمام بغير إذنه لزمه ديته وقضيته أنه يلزم قاتل العبد المحارب قيمته لمالكه نبه على ذلك الأذرعي
والمعتمد الأول مع أن الحكم لا ينحصر فيه وفي المرتد بل يجري في غيرهما كتارك الصلاة والصائل والزاني المحصن بأن زنى ذمي ثم التحق بدار الحرب ثم استرق فيصح بيعهم ولا قيمة على متلفهم
ثم شرع في الأمر الثاني وهو ما يظن حصوله بشرط فقال ( ولو باع ) حيوانا أو غيره ( بشرط براءته من العيوب ) في المبيع أو قال بعتك على أن لا ترد بعيب ( فالأظهر أنه يبرأ عن عيب باطن بالحيوان لم يعلمه ) البائع ( دون غيره ) أي العيب المذكور فلا يبرأ عن عيب بغير الحيوان كالثياب والعقار مطلقا ولا عن عيب ظاهر بالحيوان علمه أم لا ولا عن عيب باطن بالحيوان علمه
والمراد بالباطن كما قال شيخي ما لا يطلع عليه غالبا
والثاني يبرأ عن كل عيب عملا بالشرط
والثالث لا يبرأ عن عيب ما للجهل بالمبرأ منه وهو القياس وإنما خرج منه على الأول صورة من الحيوان لما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما باع غلاما بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة فقال الذي ابتاعه وهو زيد بن ثابت لعبد الله بن عمر بالعبد داء لم تسمه لي فاختصما إلى عثمان رضي الله تعالى عنه فقضى على ابن عمر أن يحلف لقد باعه العبد وما به داء يعلمه فأبى عبدالله أن يحلف وارتجع العبد فباعه بألف وخمسمائة وفي الشامل وغيره أن المشتري زيد بن ثابت كما أورده الرافعي وأن ابن عمر كان يقول تركت اليمين لله فعوضني الله عنها ذل قضاء عثمان رضي الله عنه على البراءة في صورة الحيوان المذكورة
وقد وافق اجتهاده فيها اجتهاد الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال الحيوان يغتدي في الصحة وتحول طباعه فقد لا ينفك عن عيب خفي أو ظاهر أي فيحتاج البائع فيه إلى شرط البراءة ليثق بلزومه البيع فيما لا يعلمه من الخفي دون ما يعلمه مطلقا في حيوان أو غيره لتلبيسه فيه وما لم يعلمه من الظاهر فيهما لندرة خفائه عليه أو من الخفي في غير الحيوان كالجوز واللوز إذ الغالب عدم تغيره بخلاف الحيوان
تنبيه لا فرق في الحيوان بين العبد الذي يخبر عن نفسه وغيره
وقول المصنف عن كل عيب باطن لفظة باطن ساقطة من بعض النسخ والصواب إثباتها لما مر أنه لا يبرأ عن عيب ظاهر
قال الولي العراقي وقد رأيت لفظة باطن مخرجة على حاشية أصل المصنف لكن لا أدري هل هي بخطه أم لا وليست في المحرر اه
وفي الدقائق لفظة باطن مما زاده المنهاج ولا بد منها على الصحيح
( وله ) أي المشتري ( مع هذا الشرط الرد بعيب حدث ) بعد العقد و ( قبل القبض ) لانصراف الشرط إلى الموجود عند العقد ولو اختلفا في القدم فوجهان في الحاوي
ويؤخذ من كلام المصنف الآتي في قوله ولو اختلفا في قدم العيب أن البائع هو المصدق
( ولو شرط البراءة عما يحدث ) من العيوب قبل القبض ولو مع الموجود منها ( لم يصح ) الشرط ( في الأصح ) لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته فلم يسقط كما لو برأه عن ثمن ما يبيعه له
والثاني يصح بطريق التبع فإن انفرد الحادث فهو أولى بالبطلان كما في الروضة وأصلها ولو شرط البراءة عن عيب عينه فإن كان مما يعاين كالبرص فإن أراه قدره وموضعه بريء منه قطعا وإلا فهو كشرط البراءة مطلقا فلا
____________________
(2/53)
يبرأ منه على الأظهر لتفاوت الأغراض باختلاف قدره وموضعه وإن كان مما لا يعاين كالزنا أو السرقة أو الإباق بريء منه قطعا لأن ذكرها إعلام بها
قال السبكي وبعض الوراقين في زماننا يجعل بدل شرط البراءة إعلام البائع المشتري بأن بالمبيع جميع العيوب ورضي به وهذا جهل لأنه كذب ولا يفيد لأن الصحيح أن التسمية لا تكفي فيما يمكن معاينته حتى يريه إياه
وأما ما لا يمكن معاينته فذكره مجملا بهذه العبارة كذكر ما يمكن معاينته بالتسمية من غير رؤية فلا يفيد
ولا يجوز للحاكم إلزام المشتري بمقتضى هذا الإقرار للعلم بكذبه وبطلانه وإذا وقع ذلك يكون كشرط البراءة
ولو شرط أن الأمة بكر أو صغيرة أو مسلمة فبان خلاف ذلك فله الرد لخلف الشرط وكذا لو شرط كون الرقيق المبيع كاتبا أو خبازا أو نحو ذلك من الأوصاف المقصودة فبان خلافه فإنه يثبت له الخيار لفوات فضيلة ما شرطه
ولو شرط أنها ثيب فخرجت بكرا لم ترد لأنها أكمل مما شرط وقيل ترد لأنه قد يكون له في ذلك غرض كضعف آلته أو كبر سنه وقد فات عليه
ولو شرط أن الرقيق كافر أو فحل أو مختون أو خصي فخرج مسلما في الأولى أو خصيا في الثانية أو أقلف في الثالثة أو فحلا في الرابعة ثبت له الرد لاختلاف لأغراض بذلك إذ في الكافر مثلا فوات كثرة الراغبين إذ يشتريه الكافر والمسلم بخلاف المسلم
والخصي بفتح الخاء من قطع أنثياه أو سلتا وبقي ذكره فلو شرط كونه أقلف فبان مختونا لم يثبت له الرد إذ لم يفت بذلك غرض مقصود إلا إن كان الأقلف مجوسيا بين مجوس يرغبون فيه بزيادة فيثبت له بذلك الرد
ولو شرط كونه فاسقا أو خائنا أو أميا أو أحمق أو ناقص الخلقة فبان خلافه لم يثبت له الرد لأنه خير مما شرط
ولو شرط كون الأمة يهودية أو نصرانية فبانت مجوسية أو نحوها ثبت له الرد لفوات حل الوطء بخلاف ما لو شرط كونها يهودية فبانت نصرانية أو بالعكس
ولو اشترى ثوبا على أنه قطن فبان كتانا لم يصح الشراء لاختلاف الجنس
( ولو هلك المبيع ) غير الربوي المبيع بجنسه ( عند المشتري ) سواء كان بآية سماوية أم بغيرها كأن أكل الطعام ( أو ) خرج عن قبول النقل كأن ( أعتقه ) والعبد مسلم أو وقفه ولو كافرا أو استولد الأمة أو جعل الشاة أضحية ( ثم علم العيب ) به ( رجع بالأرش ) لتعذر الرد بفوات المبيع حسا أو شرعا
فإن كان العبد كافرا قال الإسنوي لا يرجع لأنه لم ييأس من رده لإمكان لحوقه بدار الحرب فيسترق ثم يعود إلى الملك
قال ويجب حمل إطلاقهم على هذا اه
ومحله إذا كان المعتق كافرا أيضا إذ عتيق المسلم لا يسترق ومع هذا فهو بعيد فينبغي إطلاق كلام الأصحاب
ولو اشترى معيبا جاهلا بعيبه يعتق عليه أو بشرط العتق فأعتقه رجع بأرشه لأن المقصود وإن كان العتق قربة فبذل الثمن إنما كان في مقابلة ما ظنه من سلامة المبيع فإذا فات منه جزء صار ما قصد عتقه مقابلا ببعض الثمن فرجع في الباقي
ومسألة القريب أو من أقر بحريته ليست داخلة في كلام المصنف رحمه الله فإن الموجود إنما هو العتق لا الإعتاق
ولو قال اعتق عبدك عني على كذا ففعل ثم ظهر معيبا وجب الأرش واستمر العتق كما جزم به الشيخان في الكفار قالا ويجزىء عن الكفارة إن لم يمنع العيب الإجزاء
أما الربوي المذكور كذهب بيع بوزنه ذهبا فبان معيبا بعد تلفه فلا أرش فيه بل يفسخ البيع ويغرم البدل ويسترد الثمن وإلا لنقص الثمن فيصير الباقي منه مقابلا بأكثر منه وذلك ربا إن ورد على العين فإن ورد على الذمة ثم عين غرم بدل التالف واستبدل في مجلس الرد وإن فارق مجلس العقد
وهل يمتنع الرد على بائع الصيد إذا أحرم لأن رده إتلاف عليه قال الإسنوي فيه نظر اه
والذي يظهر أن له الرد لأن البائع منسوب إلى تقصير في الجملة
ولو وجد المسلم إليه برأس مال المسلم عيبا بعد تلفه عنده فإن كان معينا نقص من المسلم فيه بقدر نقص العيب من قيمة رأس المال أو في الذمة وعين غرم بدل التالف واستبدل في مجلس الرد وإن فارق مجلس العقد
( وهو ) أي الأرش ( جزء من ثمنه ) أي المبيع ( نسبته إليه ) أي نسبة الجزء إلى الثمن ( نسبة ) أي مثل نسبة ( ما نقص العيب من القيمة لو كان ) المبيع ( سليما ) إليها ولو ذكر هذه اللفظة وقال كما في المحرر والشرحين والروضة إلى تمام قيمة السليم
____________________
(2/54)
لكان أولى لأن النسبة لا بد فيها من منسوب ومنسوب إليه والنسبة هنا مذكورة مرتين فالأولى هي النسبة المذكورة في الجزء الذي هو الأرش وقد ذكر فيها الأمرين وأما الثانية فذكر معها المنسوب خاصة وهو المقدار الذي نقصه العيب من القيمة فيقال نأخذ نسبة هذا المقدار من تمام القيمة ولكنه ترك ذلك للعلم به فلو كانت قيمته بلا عيب مائة وبه تسعين فنسبة النقص إلى قيمة عشر فالأرش عشر الثمن وإنما كان الرجوع بجزء من الثمن لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن فيكون جزؤه مضمونا عليه بجزء الثمن فإن كان قبض الثمن رد جزئه وإلا سقط عن المشتري بطلبه وقيل بلا طلب
( والأصح اعتبار أقل قيمه ) أي المبيع ( من يوم ) أي وقت ( البيع إلى ) وقت ( القبض ) لأن القيمة إن كانت وقت البيع أقل فالزيادة حدثت في ملك المشتري فلا تدخل في التقويم وإن كانت وقت القبض أو بين الوقتين أقل فما نقص كان من ضمان البائع والزيادة في الثانية حدثت في ملك المشتري فلا تدخل في التقويم
والثاني اعتبار قيمة وقت البيع لأنه وقت مقابلة الثمن بالمبيع
والثالث قيمة وقت القبض لأنه وقت دخول المبيع في ضمان المشتري
تنبيه قول المصنف أقل قيمه قال في الدقائق وهو جمع قيمة وعلى هذا يقرأ بفتح الياء وبذلك ضبطه المصنف في أصله وقال إنه أصوب من قول المحرر أقل قيمتي العقد والقبض لاعتباره الوسط أي بين قيمتي اليومين
قال الإسنوي وما في الكتاب غريب لأنه ليس محكيا في أصوله المبسوطة وجها فضلا عن اختياره ولأن النقصان الحاصل قبل القبض إذا زال قبل القبض لا يثبت للمشتري الخيار فكيف يكون مضمونا على البائع اه
وعبر بالأصح دون الأظهر ليوافق الطريقة الراجحة وإن لم يشعر بها ولو عبر بالمذهب كان أولى لأن هذه أقوال محكية في طريقة فيما عدا ما بين الوقتين والطريقة الراجحة القطع باعتبار أقل قيمتي وقت العقد والقبض
وإذا اعتبرت قيم المبيع فإما أن تتحد قيمتاه سليما وقيمتاه معيبا أو تتحدا سليما وتختلفا معيبا وقيمته يوم العقد أقل أو أكثر أو يتحدا معيبا ويختلفا سليما وقيمته يوم العقد أقل أو أكثر أو يختلفا سليما ومعيبا وقيمته يوم العقد سليما ومعيبا أقل أو أكثر أو سليما أقل ومعيبا أكثر أو بالعكس فذاك تسعة أقسام أمثلتها على الترتيب اشترى عبدا بألف وقيمته وقت العقد والقبض سليما مائة ومعيبا تسعون فالنقص عشرة وهي عشر قيمته سليما فيرجع على البائع بعشر الثمن وهو مائة
ولو كانت قيمتاه سليما مائة وقيمته معيبا وقت العقد ثمانين ووقت القبض تسعين أو وقت العقد تسعين ووقت القبض ثمانين فالتفاوت بين قيمتيه سليما وأقل قيمتيه معيبا عشرون وهي خمس قيمته سليما فيرجع بخمس الثمن
ولو كانت قيمته معيبا ثمانين وسليما وقت العقد تسعين ووقت القبض مائة أو وقت العقد مائة ووقت القبض تسعين فالتفاوت بين قيمته معيبا وأقل قيمتيه سليما عشرة وهي تسع أقل قيمتيه سليما فيرجع بتسع الثمن
ولو كانت قيمته وقت العقد سليما مائة ومعيبا ثمانين ووقت القبض سليما مائة وعشرين ومعيبا تسعين أو بالعكس أو قيمته وقت العقد سليما مائة ومعيبا تسعين ووقت القبض سليما مائة وعشرين ومعيبا ثمانين أو بالعكس فالتفاوت بين أقل قيمتيه سليما وأقل قيمتيه معيبا عشرون وهي خمس أقل قيمتيه سليما فيرجع بخمس الثمن
وإذا نظرت إلى قيمته فيما بين الوقتين أيضا زادت الأقسام
( ولو تلف الثمن ) المقبوض حسا كأن تلف أو شرعا كأن أعتقه أو كاتبه أو وقفه أو استولد الأمة أو خرج عن ملكه إلى غيره أو تعلق به حق لازم كرهن
( دون المبيع ) المقبوض ثم اطلع على عيب وأراد رده به ( رده ) أي المبيع المشتري لوجوده خاليا عن الموانع ( وأخذ مثل الثمن ) إن كان مثليا ( أو قيمته ) إن كان متقوما لأنه لو كان باقيا لاستحقه فإذا تلف ضمنه بذلك قياسا على غيره
ويعتبر أقل قيمه من وقت البيع إلى وقت القبض كما في الروضة وأصلها وهو يخالف ما تقدم عنهما في الأرش لكنه يوافق ما في الكتاب هناك
قال الإسنوي والصواب التسوية ا ه
وعبارة الشرح الصغير هنا
ويعتبر الأقل من قيمة يوم العقد والقبض فهي موافقة لما تقدم والمعتمد أننا نعتبر الوسط هنا وهناك
ولو صالحه
____________________
(2/55)
البائع بالأرش أو غيره عن الرد لم يصح لأنه خيار فسخ فأشبه خيار التروي في كونه غير متقوم ولم يسقط الرد لأنه إنما سقط بعوض ولم يسلم إلا إن علم بطلان المصالحة فيسقط الرد لتقصيره وليس لمن له الرد إمساك المبيع وطلب الأرش ولا للبائع منعه من الرد ودفع الأرش
( ولو علم العيب ) بالمبيع ( بعد زوال ملكه ) عنه ( إلى غيره ) بعوض أو بدونه وهو باق بحاله في يد الثاني ( فلا أرش ) له ( في الأصح ) لأنه لم ييأس من الرد فقد يعود إليه فيرده وقيل علته أنه استدرك الظلامة
وخرجوا على هاتين العلتين زواله بلا عوض فعلى الأولى وهي الصحيحة لا أرش وعلى الثانية يجب
والوجه الثاني أن له الأرش كما لو تلف
( فإن عاد الملك ) إليه بعوض أو بغيره أو انفك رهنه أو نحو ذلك ( فله الرد ) لزوال المانع
( و ) على العلة الثانية ( قيل إن عاد ) المبيع إليه ( بغير الرد بعيب فلا رد ) له لأنه بالاعتياض عنه استدرك الظلامة وغبن غيره كما غبن هو ولم يبطل ذلك الاستدراك بخلاف ما لو رد عليه بعيب
وعلى الأصح لو تعذر العود لتلف أو إعتاق رجع بالأرش المشتري الثاني على الأول والأول على بائعه وله الرجوع عليه قبل الغرم للثاني ومع إبرائه منه
وقيل لا فيهما بناء على التعليل باستدراك الظلامة
( والرد ) بالعيب ( على الفور ) بالإجماع كما قاله ابن الرفعة ولأن الأصل في البيع اللزوم والجواز عارض فيه ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فكان فوريا كالشفعة فيبطل بالتأخير بغير عذر
وهذا في المبيع المعين أما الواجب في الذمة ببيع أو سلم إذ قبض فوجد معيبا فقال الإمام إن قلنا لا يملك لا بالرضا أي وهو الأصح فلا يعتبر الفور إذ الملك موقوف على الرضا
وكذا إن قلنا يملك بالقبض لأنه ليس معقودا عليه وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رده إلى رفع العقد
تنبيه يستثنى من اشتراط الفور صور منها لو آجر المبيع ثم علم بالعيب ولم يرض البائع بالعين مسلوبة المنفعة مدة الإجارة فإن المشتري يعذر في التأخير إلى انقضاء المدة
ومنها قريب العهد بالإسلام
ومن ينشأ ببادية بعيدة عن العلماء إذا ادعى الجهل بأن له الرد فإنه يقبل منه
ولو ادعى الجهل بالفورية وكان ممن يخفى عليه ذلك قبل
ومنها ما لو باع مالا زكويا قبل الحول ووجد المشتري به عيبا قديما وقد مضى حول من يوم الشراء ولم يخرج الزكاة بعد فليس له الرد حتى يخرجها سواء أقلنا الزكاة تتعلق بالعين أم الذمة لأن للساعي أخذ الزكاة من عينها لو تعذر أخذها من المشتري وذلك عيب حادث فلا يبطل الرد بالتأخير إلى أن يؤدي الزكاة لأنه غير متمكن منه قبله وإنما يبطل بالتأخير مع التمكن
ومنها ما لو اطلع المشتري على عيب بالشقص قبل أخذ الشفيع فأمسك عن رده انتظارا للشفيع فإن كان الشفيع غائبا بطل حقه بالانتظار وإن كان حاضرا فلا
ومنها ما إذا اشتغل بالرد بعيب وأخذ في تثبيته ولم يمكنه فله الرد بعيب آخر ويعذر فيه لاشتغاله بالرد بعيب غيره ففي فتاوى ابن الصلاح اشترى جارية ثم ادعى جنونهاوطلب ردها ولم يثبت جنونها فادعى عليه بعيب ثان فإن له الرد إذا ثبت ولا يمنع من ذلك ما ادعاه من جنون متقدم ولا تأخير إثباته إذا كان لعجزه ولو قال البائع
أنا أزيل ما به من عيب وأمكن في مدة لا أجرة لمثلها كنقل الحجارة المدفونة فإنه يقبل ولا رد للمشتري
( فليبادر ) مريد الرد ( على العادة ) ولا يؤمر بالعدو والركض ليرد
( فلو علمه وهو يصلي ) فرضا أو نفلا ( أو يأكل ) أو يقضي حاجته كما في المحرر أو وهو في حمام كما ذكر المصنف في الشفعة ( فله تأخيره حتى يفرغ ) لأنه لا يعد مقصرا ولا يلزمه تخفيف الصلاة والاقتصار فيها على ما يجزىء ولا يزيد فيها على ما يسن للمنفرد فيما يظهر
وكلامه يوهم أنه لو علمه وقد دخل وقت هذه الأشياء ولم يشرع فيها أن الحكم بخلافه وليس مرادا إذ لا فرق
ولو لبس ثوبه أو أغلق بابه فلا بأس
ولا يضر في الرد الابتداء بالسلام بخلاف الاشتغال بمحادثته
ولو اشترى عبدا فأبق قبل القبض وأجاز المشتري البيع ثم أراد الفسخ فله ذلك ما لم يعد العبد إليه
( أو ) علمه ( ليلا ) وقيده ابن الرفعة بكلفة السير فيه ونقل نحوه عن التتمة
____________________
(2/56)
( فحتى يصبح ) أما إذا لم يكن عليه كلفة في السير كأن كان جارا له فلا فرق بين الليل والنهار
( فإن كان البائع ) المالك ( بالبلد رده عليه بنفسه أو وكيله ) إن لم يحصل بالتوكيل تأخير ( أو على وكيله ) بالبلد كذلك لأنه قائم مقامه في ذلك
أما إذا كان البائع وكيلا فإنه يرده عليه أو على موكله
وعبارة المحرر رده بنفسه أو وكيله عليه أو على وكيله أي لكل منهما الرد على كل منهما فقدم المصنف لفظة عليه ففاته النص على التخيير عند الرد إلى الوكيل
ولو مات المالك رده على وارثه أو حجر عليه فعلى وليه
( ولو تركه ) أي البائع أو وكيله ( ورفع الأمر إلى الحاكم فهو آكد ) لأن الخصم ربما أحوجه في آخر الأمر إلى المرافعة إليه فيكون الإتيان إليه فاصلا للأمر جزما
وقضية كلام الشيخين أنه لا فرق في التخيير المذكور بين أن يكون الاطلاع بحضرة أحدهم أم في غيبة الكل وهو كذلك لما مر وإن قال في المطلب إذا علم بحضرة أحدهم فالتأخير لغيره تقصير وإذا جاء إلى الحاكم لا يدعي لأن غريمه غائب عن المجلس وهو في البلد غير متوار ولا متعذر وإنما يفسخ بحضرته ثم يطلب غريمه ليرد عليه
قال السبكي إذا قلنا القاضي لا يقضي بعلمه فما فائدة ذلك فلعل هذا تفريع على الصحيح أن القاضي يقضي بعلمه
قال الأذرعي ولأن الحاكم لا يخلو غالبا عن شهود أو يصير الحاكم شاهدا له
( وإن كان ) البائع ( غائبا ) عن البلد ولا وكيل له سواء أكانت المسافة قريبة أم بعيدة ( رفع ) الأمر ( إلى الحاكم ) ولا يؤخر لقدومه
وطريقه عند الرفع أن يدعي شراء ذلك الشيء من فلان الغائب بثمن معلوم قبضه ثم ظهر العيب وأنه فسخ البيع ويقيم بينة بذلك ويحلفه الحاكم أن الأمر جرى كذلك لأنه قضاء على غائب ويحكم بالرد على الغائب ويبقى الثمن دينا عليه ويأخذ المبيع ويضعه عند عدل ثم يعطيه القاضي الثمن من مال الغائب فإن لم يجد له سوى المبيع باعه فيه
فإن قيل ذكر الشيخان في باب المبيع قبل قبضه عن صاحب التتمة وأقره أن للمشتري بعد فسخه بالعيب حبس المبيع إلى استرجاع ثمنه من البائع فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن القاضي ليس بخصم فيؤتمن بخلاف البائع
فإن قيل إطلاق الشيخين الغيبة يشمل قصير المسافة كما تقرر مع أن القضاء على الغائب لا يصح فيه
أجيب بأن هذه المسألة مستثناة من القضاء على الغائب كما قاله السبكي في شرح المهذب لأن في تكليفه الخروج عن البلد مشقة وإن قال الأذرعي المراد من الرفع إلى الحاكم عند قرب المسافة ليفسخ عنده أو ليطلب الرد بفسخه قبل الحضور إذا شهد عليه أما القضاء به وفصل الأمر وبيع ماله فلا بد فيه من شروط القضاء على الغائب
( والأصح أنه يلزمه ) أي المشتري ( الإشهاد على الفسخ إن أمكنه ) ولو في حال عذره كمرض وغيبة وخوف من عدو لأن الترك يحتمل الإعراض
وأصل البيع اللزوم فتعين الإشهاد بعدلين كما قاله القاضي حسين و الغزالي أو عدل ليحلف معه كما قاله ابن الرفعة وهو الظاهر وإن قال الروياني في الشفعة إنه إن أشهد واحدا ليحلف معه لم يجز لأن من الحكام من لا يحكم بالشاهد واليمين فلم يصر مستوثقا لنفسه بالإشهاد
وقوله ( حتى ينهيه إلى البائع أو الحاكم ) يقتضي بقاء وجوب الذهاب وهو ما اقتضاه كلام الرافعي أيضا
وليس مرادا بل المراد ما قاله السبكي رحمه الله تعالى وهو أنه ينفذ الفسخ ولا يحتاج بعده إلى إتيان البائع أو الحاكم إلا للتسليم وفصل الخصومة
والثاني لا يلزمه الإشهاد لأنه إذا كان طالبا للمالك أو الحاكم لا يعد مقصرا
أما الإشهاد على الفسخ فلا يكفي على الأول كما هو مقتضى كلام الغزالي بخلافه في الشفعة قال السبكي لأنه يمكنه إنشاء الفسخ بحضرة الشهود وفي الشفعة لا يمكنه إلا بأمور مقصودة فليس المقدور في حقه إلا الإشهاد على الطلب
( فإن عجز عن الإشهاد ) على الفسخ ( لم يلزمه التلفظ بالفسخ في الأصح ) إذ يبعد إيجابه من غير سامع أو سامع لا يعتد به ولأنه ربما يتعذر عليه ثبوته فيتضرر بالمنع
والثاني
____________________
(2/57)
يجب ليبادر بحسب الإمكان وعلى هذا عامة الأصحاب كما قاله المتولي لقدرته عليه
( ويشترط ) في الرد ( ترك الاستعمال فلو استخدم العبد ) ولو شيء خفيف كقوله اسقني ولو لم يسقه كما في بعض نسخ الروضة الصحيحة ( أو ترك على الدابة سرجها أو إكافها ) وإن كان ملكا للبائع أو ابتاعه معها كما جرى عليه ابن المقري في روضته ولم يحصل بالنزع ضرر أو ركبها ( بطل حقه ) من الرد لإشعار ذلك الرضى
وإنما جعل الترك انتفاعا لأنه لو لم يتركه على الدابة لاحتاج إلى حمله أو تحميله
وقيل لا يضر الاستعمال الخفيف كقوله اغلق الباب وعلى الأول لا يضر ترك اللجام والعذار لخفتهما فلا يعد تركهما ولا تعليقهما انتفاعا ولأن سوق الدابة يعسر بدونهما
فائدة العذار ما على خد الدابة من اللجام أو المقود والإكاف بكسر الهمزة أشهر من ضمها ويقال أيضا الوكاف بكسر الواو وهو ما تحت البرذعة وقيل نفسها وقيل ما فوقها
ولا يضر علفها وسقيها أو حلبها في الطريق إذا حلبها وهي سائرة فإن حلبها واقفة بطل حقه كما جزم به السبكي ونقله في البحر عن الأصحاب وإن قال الأذرعي فيه وقفة
تنبيه أفهم كلام المصنف أن الرقيق لو خدم المشتري وهو ساكت لم يؤثر لأن الاستخدام طلب العمل
وهو متجه كما قاله الإسنوي ففي زوائد الروضة أنه لو جاءه العبد بكوز فأخذ الكوز منه لم يضر لأن وضع الكوز في يده كوضعه على الأرض فإن شرب ورد الكوز إليه فهو استعمال وأن مجرد الطلب يؤثر وإن لم يوجد العمل وهو ظاهر لدلالة الطلب على الرضا سواء أعمل أم لم يعمل
( ويعذر في ركوب جموح ) بفتح الجيم ( يعسر سوقها وقودها ) بسكون الواو للحاجة
فإن لم يعسر لم يعذر في الركوب
وإيغال الدابة في الطريق يسقط الرد إلا إن عجزت عن المشي للعذر
ولو لبس الثوب ثم علم عينه في الطريق لم يكلف نزعه لأنه غير معتاد بخلاف النزول عن الدابة لأن استدامة الركوب ركوب
ويتعين كما في المهمات تعيين عدم النزع في ذوي الهيئات لأن غالب المحترفة لا يمتنعون من ذلك ويأتي نحوه في النزول عن الدابة
( وإذا سقط رده بتقصير ) منه ( فلا أرش ) له لأنه هو المفوت بتقصيره
( ولو حدث ) بالمبيع ( عنده ) أي المشتري ( عيب ) بآفة أو غيرها لا بسبب وجد في يد البائع كما علم مما مر ثم اطلع على عيب قديم ( سقط الرد قهرا ) أي الرد القهري لأنه أخذه بعيب فلا يرده بعيبين والضرر لا يزال بالضرر ونسيان القرآن والحرفة بمثابة العيب لنقصان القيمة
ويستثنى من منع الرد بحدوث العيب عند المشتري ما لو لم يعلم بالعيب القديم إلا بعد زوال الحادث وما إذا كان العيب هو التزويج وقال الزوج قبل الدخول إن ردك المشتري بعيب فأنت طالق فله الرد لزوال المانع
( ثم إن رضي به ) أي المبيع ( البائع ) معيبا ( رده ) عليه ( المشتري ) بلا أرش للحادث ( أو قنع به ) بلا أرش عن القديم لأن المانع من الرد وهو ضرر البائع قد زال برضاه به
( وإلا ) بأن لم يرض البائع به معيبا ( فليضم المشتري أرش الحادث إلى المبيع ويرد أو يغرم البائع أرش القديم ولا يرد ) المشتري لأن كلا من ذلك فيه جمع بين المصلحتين ورعاية للجانبين
( فإن اتفقا على أحدهما ) في غير الربوي المبيع بجنسه ( فذاك ) ظاهر لأن الحق لهما أما الربوي المذكور فيتعين فيه الفسخ مع أرش الحادث لما مر فيه من الكلام على هلاك المبيع عند المشتري
فإن قيل قد مر أن أخذ أرش القديم بالتراضي ممتنع
أجيب بأنه عند إمكان الرد يتخيل أن الأرش في مقابلة سلطنة الرد وهي لا تقابل بخلافه عند عدم إمكانه
فإن المقابلة كون عما فات من وصف السلامة في المبيع
ولو زال العيب الحادث بعد أخذ المشتري أرش العيب القديم أو بعد قضاء القاضي له به ولم يأخذه فليس له الفسخ رد الأرش
____________________
(2/58)
لانفصال الأمر بذلك فإن زال قبل أخذه له أو قبل قضاء القاضي به للمشتري فسخ ولو بعد التراضي على أخذ الأرش وإن زال العيب القديم قبل أخذ أرشه لم يأخذه أو بعده وجب رده لزوال المقتضى لأخذه
( وإلا ) أي وإن بقي العيبان وتنازعا بأن طلب أحدهما الرد مع أرش الحادث والآخر الإمساك مع أرش القديم ( فالأصح إجابة من طلب الإمساك ) مع أرش القديم سواء أكان هو البائع أم المشتري لما فيه من تقرير العقد
والثاني يجاب المشتري مطلقا لتلبيس البائع عليه
والثالث يجاب البائع مطلقا لأنه إما غارم أو آخذ ما لم يرد العقد عليه بخلاف المشتري
هذا كله فيمن يتصرف لنفسه أما من يتصرف لغيره بولاية أو نيابة فإنه يفعل الأحظ له
فرع لو اشترى ثوبا ثم صبغه ثم اطلع على عيبه فطلب المشتري أرش العيب وقال البائع رد الثوب لأغرم لك قيمة الصبغ أجيب البائع وسقط مع أرش العيب عن المشتري
فإن قيل هلا أجيب من طلب الإمساك كما في حدوث العيب أجيب بأن المشتري هنا إذا أخذ الثمن وقيمة الصبغ لم يغرم شيئا وهناك لو ألزمناه الرد وأرش الحادث غرمناه لا في مقابلة شيء فنظير مسألتنا هذه إن يطلب البائع رده بلا أرش الحادث فإنه لا يجاب المشتري وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من كلام المصنف
فإن قيل كلامه في العيب الحادث عند المشتري والصبغ في هذه الصورة زيادة في المبيع لا عيب
أجيب بأن القفال قد صرح بأن الصبغ وإن زادت قيمته من العيوب كما نقله الأذرعي
هذا كله إذا لم يمكن فصل الصبغ بغير نقص في الثوب فإن أمكن فصله بغير ذلك فصله ورد الثوب كما اقتضاه تعليلهم وصرح به الخوارزمي وغيره
( ويجب أن يعلم المشتري البائع على الفور بالحادث ) مع القديم ( ليختار ) شيئا مما مر من أخذ المبيع وتركه وإعطاء الأرش
( فإن أخر إعلامه ) بذلك من فور الإطلاع على القديم ( بلا عذر فلا رد ) له به ( ولا أرش ) عنه كما لو أخر المشتري الرد فلو أخر وادعى الجهل بفورية الإعلام بالحادث فهو كما لو ادعى الجهل بفورية الرد بل هذا كما قال الأذرعي أولى لأنه لا يعرفه إلا الفقهاء
تنبيه لو كان الحادث قريب الزوال غالبا كرمد وحمى عذر في انتظار زواله في أحد قولين يظهر ترجيحه كما جزم به في الأنوار ليرد المبيع سالما وإن كان قد يؤخذ من كلام الشرح الصغير ترجيح ما يفهمه إطلاق المتن من المنع
ولو حدث عيب مثل القديم كبياض قديم وحادث في عينه ثم زال أحدهما وأشكل الحال واختلف فيه العاقدان
فقال البائع الزائل القديم فلا رد ولا أرش وقال المشتري بل الحادث في الرد وحلف كل منهما على ما قاله سقط الرد بحلف البائع ووجب للمشتري الأرش بحلفه وإنما وجب له مع أنه إنما يدعي الرد لتعذر الرد فإن اختلفا في قدره وجب الأقل لأنه المتيقن ومن نكل منهما عن اليمين قضي عليه كما في نظائره
قاعدة كل ما يثبت به الرد على البائع يمنع الرد إذا حدث عند المشتري وما لا يثبت به الرد عليه لم يمنع الرد إذا حدث عندالمشتري فتحريم الأمة الثيب بوطئها على البائع لكون المشتري إبنه أو أباه لا يمنع الرد كما لا يثبته وكذا لا يمنعه إرضاع بحرم الصغير على البائع كأن ارتضعت من أمه أو إبنته في يد المشتري ثم علم الغيب إلا في مسائل قليلة يمتنع فيها الرد وإن كانت لا يثبت فيها الرد منها الثيوبة في الأمة في أوانها فإنه لا يرد بها مع أنه لو اشتراها بكرا فوطئها امتنع الرد
ومنها وجود العبد غير قاريء أو عارف لصنعة فإنه لا يرد به مع أنه لو اشتراه قارئا أو عارفا لصنعة فنسي القرآن أو الصنعة امتنع الرد وإقرار العبد بدين معاملة لم يمنع الرد ويمنعه الرد بدين الإتلاف إن صدقه المشتري فيه وإلا فلا
وعفو المجني عليه عند التصديق كزوال العيب الحادث فيأتي فيه ما مر
( ولو حدث عيب لا يعرف القديم إلا به ككسر بيض ) لنعام وقد يعرف باللقلقة
( و ) ثقب ( رانج ) وهو بكسر النون الجوز الهندي
( وتقوير بطيخ ) بكسر
____________________
(2/59)
الباء الموحدة أفصح من فتحها ويقال فيه طبيخ بتقديم الطاء
( مدود ) بكسر الواو وبعضه ( رد ) ما ذكر قهرا ( ولا أرش عليه ) للحادث ( في الأظهر ) وكذا كل ما كان مأكوله في جوفه كالرمان والجوز واللوز لعذره في تعاطيه لاستكشاف العيب كما في المصراة ولا أرش عليه بسببه لذلك وكان البائع بالبيع سلطه عليه
والثاني يرد ولكن يرد معه الأرش رعاية للجانبين وهو ما بين قيمته صحيحا معيبا ومكسورا معيبا ولا نظر إلى الثمن
والثالث لا يرد أصلا كما في سائر العيوب الحادثة فيرجع المشتري بأرش القديم أو يغرم أرش الحادث إلى آخر ما تقدم
أما ما لا قيمة له كالبيض المذر والبطيخ المدود كله أو المعفن فيتبين فيه فساد البيع لوروده على غير متقوم ويلزم البائع تنظيف المكان منه
تنبيه قوله ورانج يوهم عطفه على كسر مع أنه إذا كسر امتنع الرد فكان حقه أن يقول وثقب رانج كما قدرته في كلامه
وخرج بيض النعام ببيض الدجاج ونحوه فإنه لا قيمة لمذره بعد كسره فلا يتأتى فيه الأرش
( فإن أمكن معرفة القديم بأقل مما أحدثه ) المشتري كالتقوير المستغنى عنه بالصغير وكشق الرمان المشروط حلاوته لإمكان معرفة حموضته بالغرز كتقوير البطيخ الحامض إذا أمكن معرفة حموضته بغرز شيء فيه
( فكسائر العيوب الحادثة ) فيما تقدم فيها
ولو أطلق بيع الرمان لم يقتض حموضة ولا حلاوة فلا تكون حموضته عيبا قاله القاضي حسين
فرع لو بان العيب وقد أنعل الدابة ونزع النعل يعيبها فبنزعه بطل حقه من الرد والأرش لقطعه الخيار بتعييبه بالإختيار وإن سلمها بنعلها أجبر البائع على قبول النعل إذ لا منة عليه فيه ولا ضرر وليس للمشتري طلب قيمتها فإنها حقيرة في معرض رد الدابة فلو سقطت استردها المشتري لأن تركها إعراض لا تمليك وإن لم يعيبها نزعها لم يجبر البائع على قبولها بخلاف الصوف يجبر على قبوله كما قاله القاضي لأن زيادته تشبه زيادة السمن بخلاف النعل فينزعها
فإن قيل قد مر أن الإنعال في مدة طلب الخصم أو الحاكم يضر فهلا كان هناك كذلك أجيب بأن ذلك اشتغال يشبه الحمل على الدابة وهذا تفريع
وقد ذكر القاضي أن اشتغاله بجز الصوف مانع له من الرد بل يرد ثم يجز
فرع لا يرد بعض المبيع في صفقة بالعيب قهرا وإن زال الباقي عن ملكه للبائع وفاقا لما جزم به المتولي و السبكي و البغوي لأنه وقت الرد لم يرد كما تملك خلافا لما في تعليق القاضي من أن له الرد إذ ليس فيه تبعيض على البائع أو كان المبيع مثليا بناء على أن المانع اتحاد الصفقة وهو المعتمد خلافا لبعض المتأخرين بناء على المانع ضرر التبعيض
ولو ( اشترى عبدين ) أو في معناهما من كل شيئين لا تتصل منفعة أحدهما بالآخر ( معيبين ) من واحد ( صفقة ) ولم يعلم عيبهما ( ردهما ) بعد ظهوره لوجود المقتضى لردهما
ويجري في رد أحدهما دون الآخر الخلاف المذكور في قوله ( ولو ظهر عيب أحدهما ) دون الآخر ( ردهما لا المعيب وحده ) قهرا ( في الأظهر ) لما فيه من تفريق الصفقة على البائع من غير ضرورة فإن رضي البائع بذلك جاز
وسبيل التوزيع بتقديرهما سليمين وتقويمهما أي سليمين ويقسط الثمن المسمى عليهما
والثاني له رده وأخذ قسطه من الثمن لاختصاصه بالعيب
تنبيه أشار بقوله عبدين إلى أن محل الخلاف في شيئين لا تتصل منفعة أحدهما بالآخر كما مر
أما ما تتصل منفعة أحدهما بالآخر كمصراعي باب وزوجي خف فلا يرد المعيب منهما وحده قهرا قطعا
( ولو ) تعددت الصفقة بتعدد البائع كأن ( اشترى عبد رجلين معيبا ) أو بتفصيل الثمن كأن اشترى عبدين كل واحد منها بمائة ( فله ) في الأولى ( رد نصيب أحدهما ) وله في الثانية رد أحدهما أو بعدد المشتري كما قال ( ولو اشترياه ) أي اثنان عبد واحد كما في المحرر ( فلأحدهما الرد ) لنصيبه ( في الأظهر ) لأنه رد جميع ما ملكه من المردود عليه
تنبيه ظاهر عبارة المصنف أنالضمير في اشترياه يعود على عبد الرجلين
____________________
(2/60)
لولا ما قدرته وحينئذ فيكون هذا البيع في حكم أربع عقود ويكون كل واحد منهما مشتريا للربع من هذا والربع من ذاك حتى يرد على من شاء منهما الربع
وهو صحيح من حيث الحكم لا من حيث الخلاف لأن الصفقة تنعدد بتعدد البائع قطعا وبتعدد المشتري في الأظهر كما تقدم وحينئذ يتعين إعادة الضمير في كلام المصنف على المبيع من رجل واحد
ولو اشتراه واحد من وكيل اثنين أو من وكيلي واحد جاء الخلاف في أن العبرة بالوكيل أو بالموكل وقد مر في تفريق الصفقة
ولو اشترى ثلاثة من ثلاثة فكل مشتر من كل تسعة وضابط ذلك أن تضرب عدد البائعين في عدد المشترين عند التعدد من الجانبين أو أحدهما عند الإنفراد في الجانب الآخر فما حصل فهو عدد العقود
ولو اشترى بعض عبد ثم علم العيب بعدما تعذر رده كأن خرج عن ملكه أو رهنه ثم اشترى باقيه ثم عاد إليه البعض الأول كان له رده دون الثاني لأنه اشتراه عالما بعيبه
( ولو اختلفا في قدم العيب ) وحدوثه كأن قال كل للآخر حدث عندك ودعواهما فيه ممكنة بأن احتمل قدمه وحدوثه كبرص ( صدق البائع ) لأن الأصل عدم العيب ( بيمينه ) لاحتمال صدق المشتري فالبائع يدعي الحدوث ويتصور أن يدعي قدمه وهو فيما إذا باع الحيوان بشرط البراءة من كل عيب والحكم فيها كالأولى على الظاهر وقيل المصدق في هذه المشتري
وإذا صدقنا البائع بيمينه في الأولى لا يثبت بيمينه حدوث العيب مطلقا لأنها صلحت للدفع عنه فلا تصلح لشغل ذمة المشتري فلو فسخ البيع مثلا بتحالف بعد ذلك لم يكن له أرش العيب وللمشتري أن يحلف الآن أنه ليس بحادث قاله القاضي والإمام و الغزالي
أما ما لا يحتمل حدوثه بعد البيع كأصبع زائدة وشين شجة مندملة وقد جرى البيع أمس أو لا يحتمل قدمه كشجة طرية وقد جرى البيع والقبض من سنة مثلا فالقول قول المشتري في الأولى وقول البائع في الثانية بلا يمين فيهما
تنبيه لو باعه عصيرا وسلمه إليه فوجد في يد المشتري خمرا فقال البائع عندك صار خمرا وقال المشتري بل عندك كان خمرا أو أمكن كل من الأمرين صدق البائع بيمينه لموافقته للأصل من استمرار العقد
ويستثنى من كلامه مسألتان الأولى ما لو ادعى المشتري وجود عينين في يد البائع فاعترف بأحدهما وادعى حدوث الآخر في يد المشتري كان القول قول المشتري لأن الرد يثبت بإقرار البائع بأحدهما فلا يبطل بالشك كما نقله ابن الأستاذ في شرح الوسيط عن النص
قال ابن الرفعة ولا بد من يمين المشتري فإن نكل لم ترد على البائع لأنها إنما ترد إذا كانت تثبت للمردد عليه حقا ولا حق له هنا ولكن لا يثبت للمشتري الرد
الثانية لو اشترى شيئا غائبا وكان قد رآه وأبرأ البائع من عيب به ثم أتاه به فقال المشتري قد زاد العيب وأنكر البائع فإن القول قول المشتري على الأصح المنصوص لأن البائع يدعي عليه علمه بهذه الصفة فلم يقبل كادعائه إطلاعه على العيب ذكراه في بيع الغائب
ولو اختلفا في وجود العيب أو صفته هل هي عيب أو لا صدق البائع بيمينه لأن الأصل عدم العيب ودوام العقد
وهذا إذا لم يعرف الحال من غيرهما فإن عرف من غيرهما فلا بد من قول عدلين عارفين بذلك كما جزم به القاضي وغيره وتبعهم ابن المقري وقيل يكفي كما قاله البغوي ولم يرجح الشيخان شيئا من المقالتين
وإذا حلف البائع يحلف ( على حسب ) بفتح السين أي مثل ( جوابه ) فإن قال في جوابه ليس له الرد علي بالعيب الذي ذكره أو لا يلزمني من قبوله حلف على ذلك ولا يكلف في الجواب التعرض لعدم العيب وقت القبض لجواز أن يكون المشتري علم العيب ورضي به
فلو قال البائع علم المشتري العيب ورضي به كلف البينة على ذلك
وإن قال في جوابه ما أقبضته وبه هذا العيب أو ما أقبضته إلا سليما من العيب حلف كذلك ولا يكفي في الجواب والحلف ما علمت به هذا العيب عندي ويجوز الحلف على البت اعتمادا على ظاهر السلامة إذا لم يعلم أو يظن خلافه
ولو ادعى البائع علم المشتري بالعيب أو تقصيره في الرد فالقول قول المشتري
قال الدارمي هذا إذا كان مثل العيب يخفى على المشتري أي عند الرؤية فإن كان لا يخفى كقطع أنفه أو يده فالقول قول البائع
( والزيادة المتصلة ) بالمبيع أو الثمن ( كالسمن ) وكبر الشجرة وتعلم الصنعة والقرآن ( يتبع الأصل ) في الرد لعدم إمكان إفرادها ولأن
____________________
(2/61)
الملك قد تجدد بالفسخ فكانت الزيادة المتصلة فيه تابعة للأصل كالعقد
( والمنفصلة ) عينا ومنفعة ( كالولد والأجرة ) وكسب الرقيق والركاز الذي يجده وما وهب له فقبله وقبضه وما وصى له به فقبله ومهر الجارية إذا وطئت بشبهة ( لا تمنع الرد ) بالعيب عملا بمقتضى العيب
نعم ولد الأمة الذي لم يميز يمنع الرد لحرمة التفريق بينهما على الأصح المنصوص خلافا لما جرى عليه ابن المقري هنا وتقدم في المناهي التنبيه عليه
( وهي ) أي الزيادة المنفصلة من البيع ( للمشتري ) ومن الثمن للبائع ( إن رد ) المبيع في الأول والثمن في الثانية ( بعد القبض ) سواء أحدث بعد القبض أم قبله لما روي أن رجلا ابتاع من آخر غلاما فأقام عنده ما شاء الله ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال يا رسول الله قد استعمل غلامي فقال الخراج بالضمان رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه
ومعناه أن فوائد المبيع للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه وقيس على المبيع الثمن
فإن قيل المغصوب والمبيع قبل قبضه لو تلف تحت ذي اليد ضمنه وليس له خراجه
أجيب بأن الضمان هنا معتبر بالملك لأنه الضمان المعهود في الخبر ووجود الضمان على ذي اليد فيما ذكر ليس لكونه ملكه بل لوضع يده على ملك غيره بطريق مضمن
( وكذا ) إن رده ( قبله في الأصح ) بناء على أن الفسخ يرفع العقد من حينه وهو الأصح ومقابله مبني على أنه يرفعه من أصله
تنبيه إنما جمع المصنف في التمثيل بين الأجرة والولد ليعرفك أنه لا فرق في عدم امتناع الرد بين أن يكون من نفس المبيع كالولد أم لا كالأجرة خلافا لأبي حنيفة فيما إذا كان من نفس المبيع
وإنما مثل للمتولد من نفس المبيع بالولد بخلاف الثمرة وغيرها ليعرفك أنها تبقى له وإن كانت من جنس الأصل خلافا لمالك قاله الإسنوي
قال وهو من محاسن كلامه
( ولو باعها ) أي الجارية أو البهيمة ( حاملا ) وهي معيبة مثلا ( فانفصل ) الحمل ( رده معها ) إن لم تنقص بالولادة ( في الأظهر ) بناء على أن الحمل يعلم ويقابل بقسط من الثمن والثاني لا بناء على مقابله
أما إذا نقصت بالولادة فإنه يمتنع عليه الرد كسائر العيوب الحادثة
نعم إن جهل الحمل واستمر إلى الوضع فله الرد لما مر أن الحادث بسبب متقدم كالمتقدم
ولو انفصل قبل القبض فللبائع حبسه لاستيفاء الثمن وليس للمشتري بيعه قبل القبض كأمه
واحترز بقوله فانفصل عما إذا لم ينفصل فإنه يردها كذلك
ولو حدث الحمل في ملكه لم يتبع في الرد بل هو له يأخذه إذا انفصل وعليه قال الماوردي وغيره وله حبس أمته حتى تضع اه
وحدوث حمل الأمة بعدالقبض يمنع الرد قهرا وكذا حمل غيرها إن نقصت به
والطلع كالحمل والتأبير كالوضع فإذا اشترى نخلة عليها طلع غير مؤبر وعلم عيبها بعد التأبير فالصحيح أنها على القولين
والصوف الموجود عند العقد يرد مع الأصل وإ جزه لأنه جزء من المبيع ويرد أيضا الحادث بعد العقد ما لم يجز فإن جز لم يرد كالولد المنفصل وهذا ما في فتاوى القاضي وجرى عليه الخوارزمي وجزم به في أصل الروضة ولكن كان قياس الحمل أن ما لم يجز لا يرد أيضا وبه جزم القاضي في تعليقه وألحق به اللبن الحادث
والأول وإن وجه بأنه كالسمن فالثاني كما قال شيخنا أوجه وعليه اقتصر ابن الرفعة وقال البلقيني إنه الأصوب
والحادث من أصول الكراث ونحوه التابعة للأرض في بيعها للمشتري لأنه ليس تبعا للأرض ألا ترى أن الظاهر منها في ابتداء البيع لا يدخل فيه
( ولا يمنع الرد الاستخدام ) إجماعا ( و ) لا ( وطء الثيب ) أو العور مع بقاء بكارتها من مشتر أوغيره وإن حرمت بالوطء على البائع كوطء أصله أو فرعه كما مرت الإشارة إليه لأنه إلمام من غير إيلام فلا يمنع الرد كالاستخدام
هذا إذا وطئها المشتري أو غيره شبهة أو مكرهة أما إذا كانت زانية فهو عيب حادث يمنع الرد إذا كان بعض القبض
( واقتضاض البكر ) بالقاف أي زوال بكارتها من المشتري أو غيره ولو بوثبة ولو عبر به كان أولى ليشمل ما ذكر
____________________
(2/62)
( بعد القبض نقص حدث ) فيمنع الرد كسائر العيوب الحادثة إلا إن كان بزواج سابق كما مر
( وقبله جناية على المبيع قبل القبض ) فيفصل فيه بين الأجنبي والبائع والمشتري والآفة السماوية
فإن كان من المشتري فلا رد له بالعيب واستقر عليه من الثمن بقدر ما نقص من قيمتها فإن قبضها لزمه الثمن بكماله وإن تلفت قبل قبضها لزمه قدر النقص من الثمن أو كان من غيره وأجاز هو البيع فله الرد بالعيب
ثم إن كان زوالها من البائع أو بآفة أو بزواج سابق فهدر أو من أجنبي فعليه الأرش إن زالت بلا وطء أو بوطء زنا منها وإلا لزمه مهر بكر مثلها بلا إفراد أرش ويكون للمشتري لكنه إن رد بالعيب سقط منه قدر الأرش
وما ذكر من وجوب مهر بكر هنا لا يخالف ما في الغصب والديات من وجوب مهر ثيب وأرش بكارة لأن ملك المالك هنا ضعيف فلا يحتمل شيئين بخلافه ثم ولهذا لم يفرقوا ثم بين الحرة والأمة ولا ما في آخر البيوع المنهي عنها في المبيعة بيعا فاسدا من وجوب مهر بكر وأرش لوجود العقد المختلف في حصول الملك به ثم كما في النكاح الفاسد بخلافه فيما ذكر أي فإن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه
وأرش البكارة مضمون في صحيح البيع دون صحيح النكاح فيجب أرش بكارة في البيع الفاسد كما يجب في البيع الصحيح ولا يجب في النكاح الفاسد كما لا يجب في صحيحه لأن المشتري لو أزال بكارتها بوطء أو غيره في البيع الصحيح ثم اطلع على عيب لم يكن له الرد بغير أرش البكارة ولو أزالها بأصبعه في النكاح الصحيح ثم طلقها لا شيء عليه فالتشبيه من حيث أن فاسد كل عقد كصحيحه لا أن النكاح الفاسد فيه أرش بكارة كما قد يتوهم
تتمة من علم في السلعة عيبا لم يحل له أن يبيعها حتى يبينه حذرا من الغش لخبر الشيخين من غشنا فليس منا والحديث المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه شيئا يعلم به عيبا إلا بينه أي فيجب على البائع أن يعلم المشتري بالعيب
ولو حدث بعد البيع وقبل القبض فإنه من ضمانه بل وعلى غير البائع إذا علم بالعيب أن يبينه لمن يشتريه سواء أكان المشتري مسلما أم كافرا لأنه من باب النصح وكالعيب في ذلك كل ما يكون تدليسا
ثم شرع في الأمر الثالث وهو ما يظن حصوله بالتغرير الفعل مصرحا بحكمه فقال فصل التصرية وهي أن يترك البائع حلب الناقة أو غيرها عمدا مدة قبل بيعها ليوهم المشتري كثرة اللبن
( حرام ) للتدليس على المشتري ولخبر الصحيحين لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك أي النهي فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر
وقيس بالإبل والغنم غيرهما بجامع التدليس
وتصروا بوزن تزكوا من صر الماء في الحوض جمعه وتسمى المصراة المحفلة أيضا بحاء مهملة وفاء مشددة من الحفل وهو الجمع ومنه قيل للجمع محفل بفتح الميم
تنبيه قضية إطلاق المصنف أنه لا فرق في التحريم بين أن يقصد البيع أم لا وبه صرح صاحب التتمة وعلله بأنه مضر للحيوان
وتعليل الرافعي بالتدليس يقتضي اختصاصه بما إذا أراد البيع وبه صرح الدارمي وهو محمول على ما إذا لم يحصل به ضرر
( تثبت الخيار ) للجاهل بها إذا علم بها بعد ذلك للخبر السابق وهو ( على الفور ) كخيار العيب ( وقيل يمتد ثلاثة أيام ) من العقد ولو مع العلم بها لخبر مسلم من اشترى ( شاة ) مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام وهذا ما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى في الإملاء كما نقله الروياني وصححه جمع كثير من الأصحاب وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة إنه الصواب
وأجاب القائلون بالأول عن الحديث بأنه محمول على الغالب إذ التصرية لا تظهر غالبا فيما دون الثلاث لإحالة نقص اللبن قبل تمامها على اختلاف العلف أو المأوى أو تبدل الأيدي أو غير ذلك
تنبيه قضية كلام المصنف عدم ثبوت الخيار إذا ترك حلبها ناسيا أو تحفلت بنفسها وبه قطع الغزالي و الحاوي الصغير لعدم التدليس والمعتمد ثبوته كما صححه البغوي وقطع به القاضي لحصول الضرر
ولو زاد اللبن بقدر ما أشعرت به التصرية واستمر فلا خيار لزوال المقتضى له
وإذا علم المشتري بالتصرية بعد الحلب وأراد ردها ( فإن ردها ) ها
____________________
(2/63)
( بعد تلف اللبن ) أو لم يتراضيا على رده ( رد معها صاع تمر ) وإن زادت قيمته على قيمتها بدل اللبن الموجود حالة العقد للخبر السابق والعبرة بغالب تمر البلد كالفطرة
تنبيه قوله بعد تلف اللبن يقتضي أنه لا يجب رد الصاع بعد الحلب وقبل التلف وليس مرادا فإنه إذا كان اللبن موجودا وطلب البائع رده لم يجبر المشتري عليه لأن ما حدث منه بعد البيع ملك له وإن طلبه المشتري لم يكلف البائع قبوله وإن لم يتغير لذهاب طراوته فلو عبر بقوله بعد الحلب كان أولى واستغنى عما قدرته في كلامه
فإن علم بها قبل الحلب ردها ولا شيء عليه
( وقيل يكفي صاع قوت ) لأنه ورد في رواية ذكر التمر كما مر وفي رواية ذكر الطعام كما رواه الترمذي وصححه وفي رواية ذكر القمح رواه أبو داود فدل ذلك على اعتبار القوت مطلقا
وعلى هذا هل يتخير بين الأقوات أو يتعين غالب كلام المصنف يقتضي الأول وهو وجه والأصح الثاني وعلى تعين التمر لو تراضيا بغير صاع تمر من مثلي أو متقوم جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما بل الظاهر كما قال الزركشي أنهما لو تراضيا على الرد بغير شيء جاز
فإن قيل لم تعين التمر هنا ولم يجز العدول عنه إلى غيره بغير رضا وإن كان أعلى منه في القيمة والإفتيات بخلاف الفطرة أجيب بأن المقصود هنا قطع النزاع مع ضرب تعبد والمقصود في الفطرة سد الخلة فإن تعذر عليه التمر فقيمته بالمدينة كما نقله الشيخان عن الماوردي وهو أحد وجهين له وجرى عليه ابن المري وهو المعتمد والوجه الآخر قيمته في أقرب بلاد التمر إليه وصححه السبكي و الأذرعي وغيرهما
ولو اشترى مصراة بصاع من تمر ردها وصاع تمر إن شاء واسترد صاعه
قال القاضي وغيره لأن الربا لا يؤثر في الفسوخ ولو تعددت المصراة في عقد تعدد الصاع بعددها كما نص عليه
ولو تعدد العقد بتعدد البائع أو المشتري أو بتفصيل الثمن ورد البعض بعيب هل يتعدد الصاع لم أر من تعرض له والذي يظهر تعدده لأنهم قالوا إنه لا فرق بين قلة اللبن وكثرته
ولو رضي بعيب هل يتعدد الصاع لم أر من تعرض له والذي يظهر تعدده لأنهم قالوا إنه لا فرق بين قلة اللبن وكثرته
ولو رضي بعيب التصرية بعد الحلب ثم وجد بها عيبا آخر فالمنصوص أنه يردها مع بدل اللبن وكذا لو رد غير المصراة بعد حلبها بعيب فإنه يرد معها صاع تمر بدل اللبن كما جزم به البغوي وصححه القاضي وابن الرفعة وقيل لا يرد لأنه قليل غير معتنى بجمعه بخلافه في المصراة
( والأصح أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن ) وقلته لظاهر الخبر وقطعا للخصومة بينهما كما لا تختلف غرة الجنين باختلاف ذكورته وأنوثته ولا أرش الموضحة مع اختلافها في الصغر والكبر
والثاني يختلف فيقدر التمر أو غيره بقدر اللبن فقد يزيد على الصاع وقد ينقص عنه
( و ) الأصح ( أن خيارها ) أي المصراة ( لا يختص بالنعم ) وهي الإبل والبقر والغنم ( بل يعم كل مأكول ) من الحيوان ( والجارية والأتان ) بالمثناة وهي الأنثى من الحمر الأهلية لأنه قد ورد في رواية مسلم من اشترى مصراة وفي رواية للبخاري من اشترى محفلة ولأن لبنها مقصود للتربية
والثاني مختص بالنعم لأن غيرها لا يقصد لبنه إلا على ندور
( ولا يرد معهما شيئا بدل اللبن لأن لبن الجارية لا يعتاض عنه غالبا ولبن الأتان نجس لا عوض له
( وفي الجارية وجه ) أنه يرد معها بدل لبنها لأنه كلبن النعم في صحة أخذ العوض عنه
وعلى هذا هل يرد بدله صاع تمر أو قيمته من تمر أو قوت آخر وجهان في النهاية وظاهر كلام المتن الأول وأن هذا الوجه لا يجري في الأتان وطرده الإصطخري فيها لأنه عنده طاهر مشروب وظاهر كلامهم أن رد الصاع جاز في كل مأكول
قال السبكي وهو الصحيح المشهور واستبعده الأذرعي في الأرنب والثعلب والضبع ونحوها
( وحبس ماء القناة و ) ماء ( الرحى ) الذي يديرها للطحن ( المرسل ) ماء كل منهما ( عند البيع وتحمير الوجه ) وإرسال الزنبور عليه ليظن بالجارية السمن ( وتسويد الشعر وتجعيده ) الدال على قوة البدن وهو الذي فيه التواء وانقباض لا المفلفل كشعر السودان
( يثبت الخيار ) قياسا على
____________________
(2/64)
المصراة بجامع التدليس
وقضية إطلاقه أنه لا فرق في ذلك بين العبد والأمة وهو الظاهر كما قاله الأذرعي وإن كان في الروضة وأصلها إنما ذكراه في الجارية لأن الجعودة كما قال الماوردي ومرت الإشارة إليه تدل على قوة البدن والسبوطة تدل على ضعفه
تنبيه قضية تعبيره بالحبس والتحمير والتجعيد والتسويد أن ذلك محله إذا كان بفعل البائع أو بمواطأته وبه صرح ابن الرفعة فلو تجعد الشعر بنفسه فكما لو تحفلت بنفسها
قال الإسنوي وتجعيد الشعر من زيادات الكتاب على المحرر
ولعل نسخة المحرر التي اطلع عليها ليس فيها ذلك وإلا فهي في كثير من نسخه كما قاله غيره
( لا لطخ ثوبه ) أي الرقيق بمداد ( تخييلا لكتابته ) فظهر كونه غير كاتب فلا رد له ( في الأصح ) إذ ليس فيه كبير غرر لأن الاستدلال به على الكتابة ضعيف فإنه ربما لبس ثوب غيره أو أصابه ذلك من حمل دواة ولأنه مقصر بعدم امتحانه والسؤال عنه
والثاني يثبت له الرد نظرا لمطلق التدليس
ويجري الخلاف في إلباسه ثوبا مختصا بحرفة كثياب الخبازين أو غيرهم من أرباب الصنائع كما لو اشترى زجاجة يظنها جوهرة بثمن كثير أو باع جوهرة يظنها زجاجة بمال قليل فإنه لا خيار في الأولى للمشتري ولا للبائع في الثانية
وظاهر إطلاقهم أن هذا ليس بحرام بخلاف التصرية كما أشار إليه الماوردي ولو قيل بحرمته لم يبعد كما قاله بعض المتأخرين لأن الضرر الحاصل بالتصرية يرتفع عن المشتري بإثبات الخيار بخلاف هذا
خاتمة سكت المصنف رحمه الله تعالى عن الفسخ بالإقالة وهو جائز ويسن إقالة النادم لخبر من أقال نادما أقال الله عثرته رواه أبو داود وصيغتها تقايلنا أو تفاسخنا أو يقول أحدهما أقلتك فيقول الآخر قبلت وما أشبه ذلك
وهي فسخ في أظهر القولين والفسخ من الآن وقيل من أصله
ويترتب على ذلك الزوائد الحادثة وتجري في السلم وفي المبيع قبل القبض
وللورثة الإقالة بعد موت المتعاقدين وتجوز في بعض المبيع وفي بعض المسلم فيه إذا كان ذلك البعض معينا
وإذا اختلفا في الثمن بعد الإقالة صدق البائع على الأصح وإن اختلفا في وجود الإقالة صدق منكرها وذكرت بقية أحكامها في شرح التنبيه
ولو وهب البائع الثمن المعين بعد قبضه للمشتري ثم وجد المشتري بالمبيع عيبا فهل له رده على البائع فيه وجهان أحدهما لا لخلوه عن الفائدة والثاني وهو الظاهر نعم وفائدته الرجوع على البائع ببدل الثمن كنظيره في الصداق وبه جزم ابن المقري ثم
ولو اشترى ثوبا وقبضه وسلم ثمنه ثم وجد بالثوب عيبا قديما فرده فوجد الثمن معيبا ناقص الصفة بأمر حادث عند البائع أخذه ناقصا ولا شيء له بسبب النقص وعلم مما مر ومما سيأتي أن أسباب الفسخ كما قال الشيخان سبعة خيار المجلس والشرط والخلف للشرط المقصود والعيب والإقالة كما مر بيانها والتخالف وهلاك المبيع قبل القبض كما سيأتي
وبقي من أسباب الفسخ أشياء وإن علمت من أبوابها وأمكن رجوع بعضها إلى السبعة فمنها إفلاس المشتري وتلقي الركبان وغيبة مال المشتري إلى مسافة القصر وبيع المريض محاباة لوارث أو أجنبي بزائد على الثلث ولم يجز الوارث
باب في حكم المبيع ونحوه قبل القبض وبعده وأحكام القبض والتنازع في البداءة بالتسليم والتصرف في ماله تحت يد غيره مع ما يتعلق بذلك
( المبيع قبل قبضه من ضمان البائع ) بمعنى انفساخ البيع بتلفه وثبوت الخيار بتعيبه وبإتلاف الأجنبي له لبقاء سلطنته عليه سواء أعرضه على المشتري فلم يقبله أم لا نعم إن وضعه بين يديه عند امتناعه بريء في الأصح كما في الروضة وأصلها في الكلام على حقيقة القبض لكن لو خرج مستحقا ولم يقبضه المشتري لم يكن للمستحق مطالبته وكذا لو باعه قبل نقله فنقله المشتري الثاني فليس للمستحق مطالبة المشتري الأول
قال الإمام وإنما يكون الوضع بين يدي المشتري قبضا في الصحيح
____________________
(2/65)
دون الفاسد وكذا تخلية الدار ونحوها إنما تكون قبضا في الصحيح دون الفاسد
تنبيه احترز المصنف بالمبيع عن زوائده المنفصلة الحادثة في يد البائع كثمرة ولبن وبيض وصوف وركاز يجده الرقيق وهو موهوب وموصى به فإنها للمشتري لأن الفسخ يرفع العقد من حينه لا من أصله وهي أمانة في يد البائع لأن ضمان الأصل بالعقد ولم يوجد العقد في الزوائد ولم تحتو يده عليها لتملكها كالمستام ولا للانتفاع بها كالمستعير ولم يوجد منه تعد كالغاصب حتى يضمن
وسبب ضمان اليد عندهم أحد هذه الثلاثة والثمن المعين قبل قبض البائع له كذلك
( فإن تلف ) المبيع بآفة سماوية ( انفسخ البيع ) لتعذر قبضه المستحق كالتفرق قبله في الصرف ( وسقط الثمن ) إن كان في الذمة فإن كان معينا وجب رده أو كان دينا على البائع عاد عليه كما كان
وينتقل الملك في المبيع للبائع قبيل التلف فتجهيزه على البائع لانتقال الملك فيه إليه
تنبيه استثنى من طرده ما لو وضع العين المبيعة بين يديه بعد امتناعه من قبضها كما مر ومن عكسه ما لو قبضه المشتري وديعة من البائع وقلنا بالأصح إنه لا يبطل به حق الحبس فتلف في يده فهو كتلفه في يد البائع وما لو قبضه المشتري من البائع في زمن الخيار والخيار للبائع وحده وتلف فهو كتلفه في يد البائع كما مر في بابه فينفسخ ويرجع المشتري بثمنه وللبائع بدله من مثل أو قيمة كالمستعار
وفي معنى التلف وقوع الذرة ونحوها في البحر إذا لم يمكن إخراجها منه وانفلات الصيد المتوحش والطير إذا لم يرج عوده واختلاط متقوم كثوب أو شاة بغيره ولم يتميز وانقلاب العصير خمرا على الأصح وإن عاد خلا كما أطلقه الشيخان هنا خلاف ما اقتضاه كلامهما في باب الرهن وجرى عليه ابن المقري هنا في بعض نسخ الروض من أنه متى عاد عاد حكمه وللمشتري الخيار لأن الخل دون العصير
ولو أبق الرقيق أو ضل أو غصب قبل القبض ثبت للمشتري الخيار ولم ينفسخ البيع لرجاء العود فإن أجاز البيع لم يطل خياره ما لم يرجع ولم يلزمه تسليم الثمن قبل العود فإن سلمه لم يسترده ما لم يفسخ
ولو غرقت الأرض بالماء أو سقطت عليها صخرة أو ركبها رمل قبل قبضها ثبت له الخيار لأنه عيب لا تلف
فإن قيل يناقضه ما في الشفعة من أن تغرق الأرض تلف لا عيب حتى لو حصل في بعضها لم يأخذ الشفيع إلا بالحصة وما في الإجارة من أنه كانهدام الدار فيكون تلفا
أجيب بأن الأرض لم تتلف والحيلولة لا تقتضي الإنفساخ كإباق العبد وإنما جعلت تالفة فيما ذكر لأن الشفيع متملك والتالف لا يصح تملكه ولأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الإبتداء والمستأجر غير متمكن من الانتفاع من حيلولة الماء ولا يمكن ترقب زواله لأن المنافع تتلف ولا تضمن
( ولو أبرأه المشتري عن الضمان لم يبرأ في الأظهر ولم يتغير الحكم ) المذكور للتلف لأنه أبرأ عما لم يجب
والثاني يبرأ لوجود سبب الضمان فلا ينفسخ به البيع ولا يسقط به الثمن
تنبيه الجمع بين البراءة وتغير الحكم تبع فيه المحرر قال الإسنوي لا فائدة فيه وقال الولي العراقي لا فائدة فيه إلا مجرد التأكيد وقال الزركشي فائدته نفي توهم عدم الإنفساخ إذا تلف وأن الإبراء كما لا يرفع الضمان لا يرفع الفسخ بالتلف وكذلك بقاء المنع من التصرف
( وإتلاف المشتري ) المبيع حسا أو شرعا ( قبض ) له ( إن علم ) أنه المبيع حال إتلافه كما لو أتلف المالك المغصوب في يد الغاصب
وفي معنى إتلافه ما لو اشترى أمة فأحبلها أبوه وما لو اشترى السيد من مكاتبه أو الوارث من مورثه شيئا ثم عجز المكاتب أو مات المورث
وقد ذكر الشيخان في مسألة الوارث جواز بيعه قبل القبض
وإن كان على الميت دين فيتعلق بالثمن فإن كان معه وارث آخر لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الوارث الآخر منه لو ورثه حتى يقبضه ويستثنى ما إذا قتله المشتري دفعا لصياله عليه وكذا القود كما بحثه في المطلب أو الردة والمشتري الإمام وقصد قتله عنها فينفسخ البيع فإن لم يقصد ذلك صار قابضا للمبيع وتقرر عليه الثمن كما حكاه الرافعي قبيل الديات عن فتاوى البغوي فإن كان غيره كان قابضا
إذ لا يجوز له قتله
فإن قيل لم لا يجوز لأن للسيد إقامة الحد على عبده فينبغي أن لا يستقر عليه الثمن لقتله كالإمام أجيب بأنه لو قتله وقلنا له ذلك لم يكن قاتلا إلا بحكم الملك فالملك هو الذي سلطه على ذلك فلو قلنا ينفسخ ولا يستقر عليه الثمن لتبين بالآخرة أنه قتل غير مملوك له فلذلك جعلنا قتله إياه قبضا
قال الإسنوي ويقاس بالمرتد تارك الصلاة وقاطع الطريق والزاني المحصن بأن زنى كافر حر ثم التحق بدار الحرب ثم استرق
فإن قيل
____________________
(2/66)
كيف يكون المشتري قابضا بقتل المرتد أو بمن ذكر معه مع أنه غير مضمون على قابله أجيب بأنه يتبين أنه قتل ملكه من غير ضرر عليه فيتسقر عليه ثمنه
واستثنى البلقيني تفقها ما لو مر بين يدي المشتري في الصلاة فقتله للدفع أي بشرطه المذكور في دفع المار وما لو قاتل مع البغاة أو أهل الذمة فقتله
( وإلا ) أي وإن لم يعلم المشتري أنه المبيع قال الشارح وقد أضافه به البائع ( فقولان ) وفي الروضة وأصلها وجهان ( كأكل المالك طعامه المغصوب ضيفا ) للغاصب جاهلا بأنه طعامه
والأصح أن الغاصب يبرأ بذلك تقديما للمباشرة وقضية البناء تصيره قابضا في الأصح
وإنما قيده الشارح بما تقدم لأجل محل الخلاف وإلا فالحكم كذلك فيما لو قدمه أجنبي أو لم يقدمه أحد مع أن الخلاف جار في الأولى أيضا
هذا كله إذا كان المشتري أهلا للقبض واشترى لنفسه وإن كان مجنونا كأن اشتراه قبل جنونه فالقياس أن إتلافه ليس بقبض وعليه البدل وعلى البائع رد الثمن إن كان باقيا ورد بدله إن كان تالفا أو كان وكيلا فكالأجنبي سواء أذن له المالك في القبض أم لا
( والمذهب أن إتلاف البائع ) المبيع ( كتلفه ) بآفة سماوية فينفسخ البيع فيه ويسقط الثمن عن المشتري لأنه لا يمكن الرجوع على البائع البدل لأن المبيع مضمون عليه بالثمن فإذا أتلفه سقط الثمن
وقطع بعضهم بهذا ومقابله قول أنه لا ينفسخ البيع بل يتخير المشتري فإن فسخ سقط الثمن وإن أجاز غرم البائع القيمة وأدى له الثمن وقد يتقاصان
ولو أخذ المشتري المبيع بغير إذن البائع حيث له حق الحبس فله الاسترداد فلو أتلفه البائع في يد المشتري في هذه الحالة فهل عليه البدل ولا خيار للمشتري لاستقرار العقد بالقبض أو يجعل مستردا بالإتلاف كما أن المشتري قابض به فيه قولان بلا ترجيح في كلام الشيخين ورجح ابن المقري الثاني وهو المعتمد
تنبيه سكت المصنف عما لو أتلفاه معا
وقال الماوردي يلزم البيع في نصفه
وأما النصف الآخر فينفسخ فيه لأن إتلاف البائع كالآفة ويرجع البائع عليه بنصف الثمن ولا خيار له في فسخ ما قد لزمه بجناية ولا أجرة على البائع في استعمال المبيع قبل قبضه
ولو تعدى بحبسه مدة لمثلها أجرة خلافا للغزالي لأن إتلافه كالآفة كما مر وإتلاف الأجنبي وغير المميز بأمر أحدهما أو بأمر الأجنبي كإتلافه عن أمره فلو أمره الثلاثة قال الإسنوي فالقياس أنه يحصل القبض في الثلث والتخيير في الثلث والفسخ في الثلث أما إتلاف المميز بأمر واحد منهم فكإتلاف الأجنبي بلا أمر وإذن المشتري للأجنبي أو للبائع في إتلافه لغو لعدم استقرار الملك بخلاف الغاصب فإنه يبرأ بإذن المالك له في إتلافه لاستقرار الملك ثم
وإتلاف عبد البائع ولو بإذنه إتلاف الأجنبي وكذا عبد المشتري بغير إذنه فإن أجاز البيع جعل قابضا كما لو أتلفه بنفسه فلا شيء له على عبده وإن فسخ اتبع البائع الجاني
وإنما لم يلحق عبد البائع بعبد المشتري في التقييد بغير الإذن لشدة تشوف الشارع إلى بقاء العقود ولو أتلفه دابة المشتري نهارا انفسخ الليل أو ليلا فله الخيار فإن فسخ طالبه البائع ببدل ما أتلفه وإن أجاز فقابض أو دابة البائع فكإتلافه
وإنما لم يفرق فيها بين الليل والنهار كدابة المشتري لأن إتلافها إن لم يكن بتفريط من البائع فآفة وإن كان بتفريط منه فقد مر أن إتلافه كالآفة بخلاف إتلاف دابة المشتري فنزل إتلافها بالنهار منزلة إتلاف البائع لتفريطه بخلافه ليلا
فإن قيل إتلافها ليلا إما بتقصير المشتري فيكون قبضا وإلا فيكون كالآفة فينفسخ به البيع فلا وجه لتخييره
أجيب بأنه بتقصيره سواء أكان معها أم لا ولما لم يكن إتلافها صالحا للقبض خير فإن أجاز فقابض أو فسخ طالبه البائع بالبدل كما تقرر
( والأظهر أن إتلاف الأجنبي لا يفسخ ) البيع القيام البدل مقام المبيع ( بل يتخير المشتري ) به على التراخي كما اقتضاه كلام القفال وإن نظر فيه القاضي
( بين أن يجيز ) البيع ( ويغرم الأجنبي ) البدل ( أو يفسخ فيغرم البائع الأجنبي ) البدل
وقطع بعضهم بهذا ومقابله أن البيع ينفسخ كالتلف بآفة
وهذه المسألة كالتي قبلها في حكاية الطريقين فلو حذف
____________________
(2/67)
لفظة الأظهر لكان أولى وأخصر
وهذا الخيار في غير الربوي وفيما إذا لم يكن الأجنبي حربيا ولم يكن إتلافه بحق وإلا فينفسخ البيع
فإن قيل إذا غصب أجنبي العين المستأجرة حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة ولم يخير المستأجر كما هنا
أجيب بأن المعقود عليه هنا المال وهو واجب على الجاني فتعدى العقد من العين إلى بدلها بخلاف المعقود عليه ثم فإنه المنفعة وهي غير واجبة على متلفها فلم يتعد العقد منها إلى بدلها
( ولو تعيب ) المبيع بآفة سماوية ( قبل القبض فرضيه ) بأن أجاز البيع ( أخذه بكل الثمن ) كما لو كان العيب مقارنا ولا أرش له لقدرته على الفسخ
( ولو عيبه المشتري فلا خيار ) له لحصوله بفعله فيمتنع بسببه الرد القهري بالعيوب القديمة ويكون قابضا لما أتلفه فلو قطع يده مثلا استقر عليه حصتها من الثمن وهو ما بين قيمته سليما ومعيبا هذا إذا مات عند البائع بعد الإندمال فإن سرى وجب الثمن لما مر أن إتلافه قبض وبهذا فارق ثبوت الخيار فيما لو عيب المستأجر العين المؤجرة وما لو جبت المرأة ذكر زوجها إذ لا يتخيل أن ذلك قبض لأن المستأجر والمرأة لم يتصرفا في ملكهما بل فيما يتعلق به حقهما فلا يكونان بذلك مستوفيين بخلاف المشتري
( أو ) عيبه ( الأجنبي ) غير الحربي بغير حق ( فالخيار ) بتعيينه ثابت للمشتري قياسا على ما مر في الإتلاف
( فإن أجاز ) البيع ( غرم الأجنبي الأرش ) لأنه الجاني ولكن بعد قبض المبيع أما قبله فلا لجواز تلفه فينفسخ المبيع
والمراد بالأرش في الرقيق ما يأتي في الديات ففي يده نصف قيمته لا ما نقص منه وفي غيرها ما نقص من قيمته
( ولو عيبه البائع فالمذهب ثبوت الخيار ) للمشتري ( لا التغريم ) أما الخيار فلا خلاف في ثبوته لأن فعل البائع إما كالآفة وإما كفعل الأجنبي وكلاهما مثبت للخيار قطعا وإنما الخلاف في التغريم والمذهب أنه لا يثبت بناء على أنه كإتلافه الذي هو كالتلف بآفة على الراجح المقطوع به كما مر
ومقابله ثبوت الخيار مع التغريم بناء على أن فعل البائع كفعل الأجنبي فصح تعبيره هنا بالمذهب كما هناك وكان الأولى في التعبير أن يقول ثبت الخيار لا التغريم على المذهب
ولو لم يعلم المشتري بالحال حتى قبض وحدث عنده عيب كان له الأرش لتعذر الرد
( ولا يصح بيع المبيع قبل قبضه ) ولا الإشراك فيه ولا التولية منقولا كان أو عقارا وإن أذن البائع في قبض الثمن لخبر من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس ولا أحسب كل شيء إلا مثله رواه الشيخان
ولقوله صلى الله عليه وسلم ل حكيم بن حزام لا تبيعن شيئا حتى تقبضه رواه البيهقي وقال إسناده حسن متصل
ولضعف الملك قبل القبض بدليل انفساخ العقد بالتلف قبله
فإن قيل يصح أن يؤجر ما استأجره قبل قبضه فلأي شيء ما امتنع كما في البيع أجيب بأن البيع قد ورد على العين والقبض يتأتى فيها حقيقة والإجارة واردة على المنفعة فلم يكن القبض لها حقيقة
( والأصح أن بيعه للبائع كغيره ) فلا يصح لعموم الإخبار ولضعف الملك
والثاني يصح كبيع المغصوب من الغاصب
ومحل الخلاف إذا باعه بغير جنس الثمن أو بزيادة أو نقص أو تفاوت صفة وإلا فهو إقالة بلفظ البيع كما نقلاه عن المتولي وأقراه فيصح وقيل لا يصح
وقد ذكر القاضي القولين وبناهما على أن العبرة في العقود باللفظ أو بالمعنى والأصحاب تارة يعتبرون اللفظ وهو الأكثر كما لو قال بعتك هذا بلا ثمن لا ينعقد بيعا ولا هبة على الصحيح وكما لو قال اشتريت منك ثوبا صفته كذا بكذا ينعقد بيعا لا سلما على الصحيح
وتارة يعتبرون المعنى كما لو قال وهبتك هذا الثوب بكذا ينعقد بيعا على الصحيح فلم يطلقوا القول باعتبار اللفظ بل يختلف الجواب بقوة المدرك كالإبراء في أنه إسقاط أو تمليك وفي أن النذر يسلك به مسلك الواجب أو الجائز وفي أن الطلاق الرجعي يزيل الملك أم لا
وتارة لا يراعون اللفظ ولا المعنى فيما إذا قال أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد فإن الصحيح أنه لا ينعقد بيعا ولا سلما
وكان الأولى للمصنف أن يعبر بالمذهب ففي شرح المهذب أن مقابله شاذ ضعيف والأكثرون على القطع بالبطلان
____________________
(2/68)
( و ) الأصح ( أن الإجارة ) والكتابة ( والرهن والهبة ) والصداق والإقراض وجعله عوضا في نكاح أو خلع أو صلح أو سلم أو غير ذلك ( كالبيع ) فلا يصح بناء على أن العلة في البيع ضعف الملك
والثاني يصح بناء على أن العلة فيه توالي الضمانين
تنبيه لا فرق في بطلان الرهن من البائع بين أن يكون رهن ذلك بالثمن أو بغيره ولا بين أن يكون له حق الحبس أم لا كما هو ظاهر إطلاق كلام الأصحاب وإن قيده السبكي بما إذا رهن ذلك بالثمن وكان له حق الحبس
وخرج بالمبيع زوائده الحادثة فلو اشترى نخلا مثلا منه فأثمرت قبل القبض جاز بيعها قبل قبضها لأنها ليست بمضمونة على البائع قاله الأردبيلي
وقال الرافعي ينبني على أنها تعود للبائع لو عرض انفساخ أو لا فإن أعدناها لم يتصرف فيها كالأصل وإلا تصرف
تنبيه قوله قبل قبضه يفهم الجواز بعد قبضه مطلقا وليس مرادا بل محله ما إذا لم يكن للبائع خيار فإن كان امتنع أيضا كما علم مما مر
واستثنى ابن الرفعة من عدم صحة بيع المبيع قبل قبضه صورتين الأولى إذا اشترى من مورثه شيئا ومات مورثه قبل قبضه ولا وارث له غيره فيجوز له بيعه قبل قبضه لأنه صار في يده شرعا ويمتنع أن يقبض من نفسه لنفسه
الثانية إذا اشترى جزءا شائعا وطلب قسمته قبل قبضه فإنه يجاب إليه وإن قلنا القسمة بيع لأن الرضا غير معتبر فيها وإذا لم يعتبر الرضا جاز أن لا يعتبر القبض كالشفعة نقله الرافعي عن المتولي وأقره واستثنى غيره صورة أخرى وهي ما لو اشترى رقيقا وباعه المشتري من نفسه قبل قبضه فيصح إن قلنا إنه عقد عتاقه وهو الأصح
وهذه تعلم من قول المصنف ( و ) الأصح ( أن الإعتاق بخلافه ) فيصح لتشوف الشارع إليه ونقل ابن المنذر فيه الإجماع
وسواء كان للبائع حق الحبس أم لا لقوته وضعف حق الحبس ولهذا يصح إعتاق المرهون من الراهن المعسر فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الراهن حجر على نفسه
والثاني لا يصح كالبيع لاشتراكهما في إزالة الملك
والثالث إن لم يكن له حق الحبس لتأجيل الثمن صح وإلا فلا لما فيه من إبطال حقه
نعم لا يصح على الأول إعتاقه على مال لأنه كما قاله القاضي في فتاويه ولا إعتاقه عن كفارة غيره لأنه هبة والاستيلاد والتزويج والوقف سواء احتاج إلى قبول أم لا كما في المجموع خلافا لما في الشرح والروضة نقلا عن التتمة من أن الوقف إن شرط فيه القبول كان كالبيع وإلا فكالإعتاق مع أن الأصح أن الوقف على معين لا يحتاج إلى قبول كما سيأتي إن شاء الله تعالى في بابه كالعتق
ويصح تدبيره والوصية به وإباحته للفقراء طعاما اشتراه جزافا ويصير المشتري بإعتاقه وإيلاده وإيلاد أبيه وإباحة ما ذكر إن قبضوه ووقفه قابضا للمبيع وإن كان للبائع حق الحبس لا بتزويجه ولا بوطء الزوج أما إذا اشترى الطعام مقدرا بكيل أو غيره فلا يصح قبضه إلا كذلك أو اشتراه جزافا وأباحه كما مر ولم يقبضوه فإنه لا يصير قابضا بذلك فإن لم يرفع البائع يده بعد الوقف والإستيلاد ضمنه بالقيمة لا بالثمن
( والثمن المعين ) نقدا كان أو غيره ( كالمبيع ) قبل قبضه فيما مر فيأتي فيه جمع ما تقدم لعموم النهي عنه
ولو أبدله المشتري بمثله أو بغير جنسه برضا البائع فهو كبيع المبيع للبائع فقوله ( فلا يبيعه البائع قبل قبضه ) لا حاجة إليه بل تركه أولى لأنه يوهم جواز غير البيع وليس مرادا ولهذا عبر في المحرر بالتصرف ليعم
( وله بيع ) وأولى منه وله التصرف في ( ماله ) وهو ( في يد غيره أمانة ) فهو ( كوديعة ومشترك وقراض ومرهون بعد انفكاكه ) أو قبله وأذن له فيما ذكر المرتهن ( وموروث ) كان يجوز للمورث التصرف فيه ( وباق في يد وليه بعد رشده ) وأولى منه بعد فك الحجر عنه ليدخل المجنون فإن حجره ينفك بنفس الإفاقة لتمام ملكه على ذلك وقدرته على تسليمه
نعم لو أكرى صباغا أو قصارا
____________________
(2/69)
لعمل في ثوب وسلمه له فليس له بيعه قبل العمل وكذا بعده إن لم يكن سلم الأجرة لأن له الحبس للعمل ثم لاستيفاء الأجرة ومثل ذلك صوغ الذهب ونسج الغزل ورياضة الدابة
وخرج بيجوز للمورث التصرف فيه ما مات عنه ولم يقبضه فليس للوارث بيعه قبل قبضه
فإن قيل هل هذه مستثناة من كلام المصنف أو لا أجيب بلا لأن المبيع حينئذ ليس في يد بائعه أمانة بل هو مضمون عليه
( وكذا ) له بيع ماله وهو في يد غيره ( عارية ومأخوذ بسوم ) وهو ما يأخذه من يريد الشراء ليتأمله أيعجبه أم لا لما ذكر
فإن قيل ما فائدة عطفه بكذا أجيب بأن فائدته التنبيه على أنه قسيم الأمانة لأنه مضمون ضمان يد فلا ينحصر في الأمانة لكن لا ينحصر فيما ذكره بل ما رجع إليه بفسخ عقد بعيب أو غيره وهو باق في يد المشتري بعد رد الثمن له ومقبوض بعقد فاسد لفوات شرط أو نحوه ورأس مال سلم فسخ لانقطاع المسلم فيه أو غيره ومغصوب يقدر على انتزاعه وما أشبه ذلك
تنبيه فصل الماوردي في بيع العارية فقال إن أمكن الرد كالدار والدابة صح وإن لم يمكن كالأرض غرست فالبيع باطل في الأصح لجهالة المدة واسترجاعها غير ممكن إلا ببذل قيمة البناء والغراس أو أرش النقص وذلك غير واجب على البائع ولا على المشتري اه
ويحمل إطلاق الشيخين على هذا للتفصيل
فرع لو أفرز السلطان لشخص عطاء ورضي به جاز له بيعه قبل قبضه للرفق بالجند ولأن يد السلطان في الحفظ للمفرز كيد المفرز له
ويصح بيع أحد الغانمين لقدر معلوم ملكه من الغنيمة شائعا
ويصح بيع موهوب رجع فيه الولد قبل قبضه وله بيع مقسوم قسمة إفراز قبل قبضه بخلاف قسمة البيع ليس له بيع ما صار له فيها من نصيب صاحبه قبل قبضه ولا بيع شقص أخذه بشفعة قبل قبضه لأن الأخذ بها معاوضة
وله بيع ثمر على شجر موقوف عليه قبل أخذه وكذا سائر غلات وقف حصلت لجماعة وعرف كل قدر حصته كما نقله في المجموع عن المتولي وأقره
( ولا يصح بيع المسلم فيه ولا الإعتياض عنه ) قبل قبضه لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض
والمبيع الثابت في الذمة إذا عقد عليه بغير لفظ السلم لا يعتاض عنه وإن كان غير سلم على الصحيح
وتناقض في ذلك كلام الشيخين والمعتمد عدم الصحة
( والجديد جواز الاستبدال عن الثمن ) الثابت في الذمة وإن لم يكن نقدا لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع الدراهم وآخذ مكانها الدنانير فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء رواه الترمذي وغيره وصححه الحاكم على شرط مسلم
وسواء أقبض الثمن أم لا فقوله في الخبر وليس بينكما شيء أي من عقد الاستبدلال لا من العقد الأول بقرينة رواية أخرى تدل لذلك
والقديم المنع لعموم النهي السابق لذلك
وللمضمونات ضمان العقود كبدل خلع وصداق وأجرة حكم الثمر لاستقرارها بخلاف دين السلم كما مر
وفرق بينه وبين الثمن بأنه معرض بانقطاعه للانفساخ أو الفسخ وبأن عينه تقصد بخلاف الثمن فيهما
ويجوز استبدال الحال عن المؤجل وكان صاحبه عجله بخلاف عكسه لعدم لحوق الأجل
فائدة الثمن النقد إن قوبل بغيره للعرف فإن كانا نقدين أو عرضين فما التصقت به الباء المسماة بباء السببية هو الثمن والمثمن ما يقابله فلو قال بعتك هذه الدراهم بعبد ووصفه فالعبد مبلغ لا يجوز الاستبدال عنه والدراهم ثمن أو بعتك هذا الثوب بعبد ووصفه فالعبد ثمن يجوز الاستبدال عنه لا عن الثوب لأنه مثمن
فإن قيل مقتضى كلامهم أنه لو باع عبده بدراهم سلما كانت ثمنا وصح الاستبدال عنها وقد تقدم أنه لا يصح الاستبدال عن المسلم فيه
أجيب بأن دخول الباء عارضه كونه مسلما فيه فلا يصح فكلامهم على إطلاقه من أن الثمن مدخول الباء ولكن عارض مانع في هذه الصورة فلا ترد نقصا
وقيل إن قولهم يجوز الاستبدال عن الثمن جرى على الغالب حتى لا ترد هذه الصورة
هذا كله فيما لا يشترط قبضه في المجلس ( فإن استبدل موافقا في علة الربا كدراهم عن دنانير ) أو عكسه
____________________
(2/70)
( اشترط قبض البدل في المجلس ) كما دل عليه الخبر السابق حذرا من الربا فلا يكفي التعين عنه
( والأصح أنه لا يشترط التعيين ) للبدل أي تشخيصه ( في العقد ) لأن الصرف على ما في الذمة جائز
والثاني يشترط ليخرج عن بيع الدين بالدين
( وكذا ) لا يشترط ( القبض ) للبدل ( في المجلس ) في الأصح ( إن استبدل ما لا يوافق في العلة ) للربا ( كثوب عن دراهم ) كما لو باع ثوبا بدراهم في الذمة لكن لا بد من التعيين في المجلس قطعا
وفي اشتراط التعيين في العقد الوجهان في استبدال الموافق
والثاني يشترط القبض لأن أحد العوضين دين فيشترط قبض الآخر كرأس مال السلم
فإن قيل كان الأولى أن يقول كطعام عن دراهم لأن الثوب ليس بربوي فلا يحسن أن يقال إن الثوب لا يوافق الدراهم في علة الربا أجيب بأن النفي يصدق بنفي الموضوع فيصدق بأن لا ربا أصلا
( ولو استبدل عن الفرض ) بمعنى المقرض جاز ولو لم يتلف خلافا لبعض المتأخرين وإن كان قبل تلفه غير مستقر في الذمة من حيث أن للمقرض أن يرجع في عينه
( و ) لو استبدل عن ( قيمة المتلف ) أو مثله وكذا عن كل دين ليس بثمن ولا مثمن كالدين الموصى به أو الواجب بتقدير الحاكم في المتعة أو بسبب الضمان أو عن زكاة الفطر إذا كان الفقراء محصورين ( جاز ) لاستقرار ذلك ( وفي اشتراط قبضه ) أي البدل ( في المجلس ) وتعيينه ( ما سبق ) من كونه مخالفا في علة الربا أو لا قال الإسنوي وفي الدين الثابت بالحوالة نظر ويحتمل تخريجه على أن الحوالة بيع أم لا ويحتمل أن ينظر إلى أصله وهو المحال به فيعطى حكمه اه
والثاني أوجه
( وبيع الدين ) بعين ( لغير من عليه باطل في الأظهر بأن اشترى عبد زيد ) مثلا ( بمائة له على عمرو ) لأنه لا يقدر على تسليمه
وهذا ما صححه في المحرر والشرحين والمجموع هنا وجزم به الرافعي في باب الكتابة
والثاني يصح وهو المعتمد كما صححه في زوائد الروضة هنا موافقا للرافعي في آخر الخلع واختاره السبكي وحكي عن النص لاستقراره كبيعه ممن هو عليه وعلى هذا قال في المطلب يشترط أن يكون المديون مليا مقرا وأن يكون الدين حالا مستقرا
وصرح في أصل الروضة ك البغوي باشتراط قبض العوضين في المجلس وهذا هو المعتمد وإن قال في المطلب مقتضى كلام الأكثرين يخالفه
ولا يصح أن يحمل الأول على الربوي والثاني على غيره كما قال بعض المتأخرين لأن مثالهم يأبى ذلك لأن الشيخين مثلا ذلك بعبد
تنبيه القول بالصحة إنما يجري في غير المسلم فيه كما يؤخذ من تعليله ومما مر
( ولو كان لزيد وعمر دينان على شخص فباع زيد عمرا دينه بدينه بطل قطعا ) اتفق الجنس أو اختلف لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالىء بالكالىء
رواه الحاكم وقال إنه على شرط مسلم
وفسر ببيع الدين بالدين كما ورد التصريح به في رواية البيهقي
ثم شرع في بيان القبض والرجوع في حقيقته إلى العرف فيه لعدم ما يضبطه شرعا أو لغة كالإحياء والحرز في السرقة فقال ( وقبض العقار ) أي إقباضه وهو الأرض والنخل والضياع كما قاله الجوهري وأراد بالضياع الأبنية ( تخليته للمشتري ) أي له تركه بلفظ يدل عليها من البائع كما اقتضاه كلام المطلب نقلا عن الأصحاب
( وتمكينه من التصرف ) فيه بتسليم المفتاح إليه وإن لم يتصرف فيه ولم يدخله
ويشترط كما في الكفاية أن لا يكون هناك مانع حسي ولا شرعي لأن الشارع أطلق القبض وأناط به أحكاما ولم يبينه ولا له حد في اللغة فيرجع فيه إلى العرف كما مر والعرف قاض بما ذكره المصنف في هذا وما بعده
قال الرافعي وفي معنى العقار الأشجار الثابتة والثمرة المبيعة على الشجرة قبل أوان الجذاذ
وتقييده بذلك يشعر بأن دخول وقت قطعها يلحقها بالمنقول وهو كما قال الإسنوي متجه وإن نازع فيه الأذرعي
____________________
(2/71)
تنبيه قال الشارح لو أتى المصنف بالباء في التخلية كما في الروضة وأصلها والمحرر كان أقوم إلا أن يفسر القبض بالإقباض اه
أي لأن القبض فعل المشتري والتخلية فعل البائع فلو لا التأويل المذكور كما قدرته في عبارته لما صح الحمل
( بشرط فراغه من أمتعة البائع ) لأن التسلم في العرف موقوف على ذلك فيفرغها بحسب الإمكان ولا يكلف تفريغها في ساعة واحدة إذا كانت كثيرة وسيأتي في باب الأصول والثمار أن الأرض المزروعة يحصل تسليمها بالتخلية مع بقاء الزرع لتأتي التفريغ هنا في الحال بخلافه ثم
ولو جمعت الأمتعة في بيت من الدار وخلي بين المشتري وبينها حصل القبض فيما عداه فإن نقلت الأمتعة منه إلى بيت آخر حصل القبض في الجميع
تنبيه تقييد المصنف بأمتعة البائع يخرج به أمتعة المشتري فقط أما أمتعة غير المشتري من مستأجر ومستعير وموصى له بالمنفعة فكأمتعة البائع كما قاله الأذرعي وإن خالف في ذلك غيره فاحذره
( فإن لم يحضر العاقدان المبيع ) وحضورهما لا يشترط على الأصح لما فيه من المشقة ( اعتبر ) في حصول قبضه ( مضي زمن يمكن فيه المضي إليه في الأصح ) سواء أكان في يد المشتري أم لا منقولا كان أو لا لأنا لا نعتبر الحضور للمشقة ولا مشقة في مضي الزمان فاعتبر
والثاني لا يعتبر لأنه لا معنى لاعتباره مع عدم الحضور
وعلى الأول لايعتبر نفس المضي ولا يفتقر في مضي الزمان فاعتبر
والثاني لا يعتبر لأنه لا معنى لاعتباره مع عدم الحضور
وعلى الأول لا يعتبر نفس المضي ولا يفتقر في الغائب عن العاقدين ولا في الحاضر بيد المشتري إلى إذن البائع إن لم يكن له حق الحبس وإلا افتقر
( وقبض المنقول ) من حيوان أو غيره ( تحويله ) لما روى الشيخان عن ابن عمر كنا نشتري الطعام جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه
وقيس بالطعام غيره فيأمر العبد بالانتقال من موضعه ويسوق الدابة أو يقودها ولا يكفي ركوبها واقفة ولا استعمال العبد كذلك ولا وطء الجارية
وقول الرافعي في كتاب الغصب لو ركب المشتري الدابة أو جلس على الفراش حصل الضمان
ثم إن كان ذلك بإذن البائع جاز له التصرف أيضا وإن لم ينقله وإلا فلا صحيح في الضمان غير صحيح في التصرف
ويكفي في قبض الثوب ونحوه مما يتناول باليد التناول ومر أن بيع الثمرة على الشجرة قبل أوان الجداد يكفي فيها التخلية وكذا بيع الزرع في الأرض وأن إتلاف المشتري المبيع قبض له فيستثنى ذلك من كلامه هنا ويستثنى أيضا القسمة فلا حاجة إلى تحويل المقسوم ولو جعلنا القسمة بيعا إذ لا ضمان فيها حتى يسقط بالقبض
تنبيه يؤخذ من التعبير بالنقل أن الدابة مثلا لو تحولت بنفسها ثم استولى عليها المشتري لا يحصل القبض وهو كذلك سواء استولى عليها بغير إذن البائع أو بإذنه لما مر أن كلام الرافعي في الغصب ضعيف
ولو كان المبيع تحت يد المشتري أمانة أو مضمونا وهو حاضر ولم يكن للبائع حق الحبس صار مقبوضا بنفس العقد بخلاف ما إذا كان له حق الحبس فإنه لا بد من إذنه كما مر
ولو باع شجرة بشرط القطع كفى فيها التخلية كما ذكره القفال في فتاويه
ولو اشترى الأمتعة مع الدار صفقة اشترط في قبضها نقلها كما لو أفردت وقيل لا تبعا لقبض الدار
ولو اشترى صبرة ثم اشترى مكانها لم يكف خلافا للماوردي كما لو اشترى شيئا في داره فإنه لا بد من نقله وما فرق به بينهما غير معتبر
والسفينة من المنقولات كما قاله ابن الرفعة فلا بد من تحويلها وهو ظاهر في الصغيرة وفي الكبيرة في ماء تسير فيه أما الكبيرة في البر فكالعقار فتكفي فيها التخلية لعسر النقل وعلى كل تقدير لا بد فيها من تفريغها من أمتعة البائع ونحوه
ولو بيع ظرف دون مظروفه اشترط في تسليمه تفريغه كالسفينة وكذا كل منقول لا بد من تفريغه
( فإن جرى البيع ) في أي مكان كان والمبيع ( بموضع لا يختص بالبائع ) بأن اختص بالمشتري بملك أو وقف أو وصية له بالمنفعة أو إجارة أو إعارة أو نحو ذلك كتحجر على ما سيأتي في الأحياء إن شاء الله تعالى أو لم يختص بأحد كموات وشارع ومسجد ( كفى ) في قبضه ( نقله ) من حين ( إلى حين ) آخر من ذلك الموضع
وشمل كلامه المغصوب من أجنبي والمشترك بين المشتري وغيره وبين البائع وغيره فإنه يصدق أنه لا اختصاص للبائع به وإن قال الإسنوي فيه نظر
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يزيد ( والمبيع ) بالميم فإن جريان البيع لا مدخل له فيما نحن فيه كما قدرته في
____________________
(2/72)
كلامه لكنه تبع المحرر في ذلك ولعله من غير تأمل
وقوله لا يختص بالبائع قال الولي العراقي إنه مقلوب وصوابه لا يختص البائع به لأن الباء تدخل على المقصور الذي لا يتعدى اه
وفي التعبير بالصواب نظر لأن دخولها على المقصور أكثري لا كلي
( وإن جرى ) البيع في أي مكان كان كما مر والمبيع ( في دار البائع ) أي في موضع يستحق منفعته أو الانتفاع به بملك أو وقف أو وصية أو إجارة أو إعارة أو نحو ذلك كتحجر كما مر ( لم يكف ذلك ) النقل في قبضه ( إلا بإذن البائع ) فيه لأن يد البائع عليها وعلى ما فيها
نعم لو جعله أي المشتري في أمتعة له أو مستعارة من البائع كفى كما نقله في الكفاية عن القاضي حسين وأقره
ويستثنى من إطلاقه ما إذا كان المنقول خفيفا فقبضه بتناوله باليد كما مر إذ لا فرق بين وقوعه فيما يختص البائع أو لا
ويشترط في المقبوض كونه مرئيا للقابض وإلا فكالبيع نبه على ذلك الزركشي
أما إذا أذن له البائع ( فيكون معيرا للبقعة ) التي أذن في النقل إليها كما لو استعارها من غيره
تنبيه قوله لم يكف أي بالنسبة إلى التصرف أما بالنسبة إلى نقل الضمان فإنه يكون كافيا لاستيلائه عليه وكذا لو أذن له في مجرد التحويل
هذا كله في منقول بيع بلا تقدير فإن بيع بنقدين فسيأتي
فرع زاد الترجمة به ( للمشتري قبض المبيع ) استقلالا ( إن كان الثمن مؤجلا ) لانتفاء حق الحبس وكذا لو حل قبل التسليم وإن خالف في ذلك الإسنوي
( أو ) كان حالا و ( سلمه ) لمستحقه ( وإلا ) أي وإن كان حالا ولم يسلمه كله أو بعضه ( فلا يستقل به ) بل لا بد من إذن البائع فيه لأن حق الحبس ثابت له
فإن استقل به لزمه رده ولا ينفذ تصرفه فيه لكن يدخل في ضمانه باليد الحسية لا الشرعية ليطالب به إن خرج مستحقا واستقر ثمنه عليه
( ولو بيع الشيء تقديرا كثوب وأرض ذرعا ) بإعجام الذال ( وحنطة كيلا أو وزنا اشترط ) في قبضه ( مع النقل ) في المنقول ( ذرعه ) إن بيع ذرعا بأن كان يذرع ( أو كيله ) إن بيع كيلا بأن كان يكال ( أو وزنه ) إن بيع وزنا بأن كان يوزن أو عده أن بيع عدا بأن كان يعد لورود النص في الكيل في خبر مسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله دل على أنه لا يحصل فيه القبض إلا بالكيل وليس بمعتبر في بيع الجزاف إجماعا فتعين فيما قدر بكيل الكيل وقيس عليه الباقي
ويعتبر أن يكيل البائع أو وكيله فلو قال لغريمه اكتل حقك من صبرتي لم يصح لأن الكيل أحد ركني القبض وقد صار نائبا فيه من جهة البائع متأصلا لنفسه
ولو تنازعا فيمن يكيل نصب الحاكم كيالا أمينا يتولاه
ويقاس بالكيل غيره وأجرة كيال المبيع أو وزانه أو من ذرعه أو عده ومؤنة إحضاره إذا كان غائبا إلى محل العقد أي تلك المحلة على البائع وأجرة كيال الثمن أو وزانه أو من ذرعه أو عده ومؤنة إحضاره إذا كان غائبا إلى محل العقد أي تلك المحلة على البائع وأجرة كيال الثمن أو وزانه أو من ذرعه أو عده ومؤنة إحضار الثمن الغائب إلى محل العقد على المشتري
وأجرة النقل المحتاج إليه في تسليم المبيع المنقول على المشتري أي وقياسه أن يكون في الثمن على البائع وأجرة نقاد الثمن على البائع أي وقياسه أن يكون في المبيع على المشتري لأن القصد منه إظهار عيب إن كان ليرد به
ولا فرق في الثمن بين أن يكون معينا أو لا كما أطلقه الشيخان وإن قيده العمراني في كتاب الإجارة بما إذا كان الثمن معينا
ولو أخطأ النقاد فظهر بما نقده غش وتعذر الرجوع على المشتري فلا ضمان عليه وإن كان بأجرة كما أطلقه صاحب الكافي وإن قيده الزركشي بما إذا كان متبرعا لكن لا أجرة له كما لو استأجره للنسخ فغلط فإنه لا أجرة له
فإن قيل إنه يغرم هناك أرش الورق فقياسه أن يكون هنا ضامنا وهو ما استند إليه الزركشي
أجيب بأنه هناك مقصر وهنا مجتهد والمجتهد غير مقصر
ثم إن المصنف رحمه الله تعالى بين لك القدر
____________________
(2/73)
في المكيل بمثالين لتقيس عليه غيره فقال ( مثاله بعتكها ) أي الصبرة ( كل صاع بدرهم أو ) بعتكها بخمسة مثلا ( على أنها عشرة آصع ) لكن في المثال الثاني كما قال ابن شهبة نظر لأنه جعل ذلك وصفا كالكتابة في العبد فينبغي أن لا يتوقف ذلك على الكيل
ويخالف ما إذا باعها كل صاع بدرهم فإن التقدير يحتاج إلى معرفة الثمن فلو قبض ما ذكر جزافا لم يصح القبض لكن يدخل المقبوض في ضمانه
( ولو كان له ) أي لبكر ( طعام ) مثلا مقدر كعشرة آصع ( على زيد ولعمرو عليه مثله فليكتل ) بكر ( لنفسه ) من زيد ( ثم يكيل لعمرو ) لأن الإقباض هنا متعدد ومن شرط صحته الكيل فلزم تعدد الكيل وللنهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان كما روي مرفوعا يعني صاع البائع وصاع المشتري
قال القاضي حسين والمعنى فيه أن كل واحد منهما يستحق على من له عليه الحق قبضه بالكيل
والكيلان قد يقع بينهما تفاوت فلم يجز الاقتصار على الكيل الأول لجواز أن لو حدده لظهر فيه تفاوت فإذا كال لنفسه وقبضه ثم كاله لغريمه فزاد أو نقص بقدر ما يقع بين الكيلين لم يؤثر فتكون الزيادة والنقص عليه أو بما لا يقع بين الكيلين فالكيل الأول غلط فيرد بكر الزيادة ويرجع بالنقص ولو قبضه في المكيال وسلمه لغريمه فيه صح لأن استدامة المكيال كابتدائه وقد يقال في الذرع كذلك
( فلو قال ) بكر لعمرو ( اقبض من زيد ما لي عليه لنفسك ) أو احضر معي لأقبضه أنا لك ( ففعل فالقبض فاسد ) له لاتحاد القابض والمقبض وضمنه القابض لاستيلائه عليه لغرضه وبرىء زيد من حق بكر لإذنه في القبض منه في الأولى وقبضه بنفسه في الثانية
وإن قال له اقبضه لي ثم لنفسك أو أحضر معي لأقبضه لي ثم لك ففعل صح القبض الأول إذ لا مانع منه دون الثاني لاتحاد القابض والمقبض وضمنه القابض والمقبض وضمنه القابض وبرىء زيد من حق بكر
فروع لا يجوز للمستحق أن يوكل في القبض من يده يد المقبض كرقيقه ولو مأذونا له في التجارة كما لا يجوز أن يوكل فيه المقبض بخلاف ابنه وأبيه ومكاتبه
ولو قال لغريمه وكل من يقبض لي منك أو قال لغيره وكل من يشتري لي منك صح ويكون وكيلا له في التوكيل في القبض أو الشراء منه
ولو وكل البائع رجلا في الإقباض ووكله المشتري في القبض لم يصح توكيله لهما معا لاتحاد القابض والمقبض
ولو قال لغريمه اشتر بهذه الدراهم لي مثل ما تستحقه علي واقبضه لي ثم لنفسك صح الشراء والقبض الأول دون الثاني لاتحاد القابض والمقبض أو قال واقبضه لنفسك فسد القبض لأن حق الإنسان لا يتمكن غيره من قبضه لنفسه وضمنه الغريم لاستيلائه عليه وبرىء الدافع من حق الموكل لإذنه في القبض منه
أو قال اشتر بها ذلك لنفسك فسدت الوكالة إذ كيف يشتري بمال الغريم لنفسه والدراهم أمامه بيده فإن اشترى بعينها بطل أو في الذمة صح ووقع عنه وأدى الثمن من ماله
وللأب وإن علا أن يتولى طرفي القبض كما يتولى طرفي البيع كما مر في بابه
فرع زاد الترجمة به أيضا إذا ( قال البائع ) مال نفسه بثمن حال في الذمة بعد لزوم العقد ( لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه وقال المشتري في الثمن مثله ) أي لا أسلمه حتى أقبض المبيع وترافعا إلى حاكم ( أجبر البائع ) على الإبتداء بالتسليم لأن حق المشتري في العين وحق البائع في الذمة فيقدم ما يتعلق بالعين كأرش الجنابة مع غيره من الديون
( وفي قول المشتري ) لأن حقه متعين في المبيع وحق البائع غير متعين في الثمن فيؤمر بالتعيين ليتساويا في تعين الحق
( وفي قول لا إجبار ) أولا وعلى هذا يمنعهما الحاكم من التخاصم
( فمن سلم أجبر صاحبه ) على التسليم لأن كلا منهما ثبت له إيفاء واستيفاء ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء قبل الاستيفاء حكاه الشافعي في الأم عن غيره ثم رده لأن فيه ترك الناس يتمانعون من الحقوق
( وفي قول يجبران ) لأن التسليم واجب عليهما فيلزم الحاكم كلا منهما بإحضار ما عليه إليه أو
____________________
(2/74)