كتاب غاية تلخيص المراد
من فتاوى ابن زياد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شيّد أركان الدين بأقوال وأفعال العلماء العاملين، ونصر شريعة سيد المرسلين بفتاوى ورثته صلى الله عليه وآله وسلم من الفحول المنقحين، وجعلها شموسا وأقمارا يستضيئ بها من بعدهم من سائر المسلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المتقين وخاتم النبيين والمرسلين القائل: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وعلى آله الذين هم أمان لأهل الأرض أجمعين، وأصحابه المجتهدين المخلصين، وعلينا معهم إلى يوم الدين.
(أما بعد): فإنّ فتاوى الشيخ الإمام عبد الرحمن بن زياد الزبيدي، مفتى الديار اليمنية من أصح الفتاوى وأجمعها، فاستعنت بالله في تلخيصها بأوجز عبارة وأدنى إشارة حسب فهمي القاصر وذهني الفاتر، وذكرت ما حضرني حال الكتابة، مما خالفه أو وافقه فيه الشيخ ابن حجر المكي في كتبه أو فتاويه، لكونه معتمد الفتاوى عند أهل حضرموت خصوصا بل وسائر قطر اليمن عموما، فلا يقدمون أحدا عليه وإن خالفه جُلّ معاصريه، كما حرره سلفنا وقرّره، وقد أذكر غيره من المشايخ حسب التيسير، وأرجو من الله سبحانه إصلاح النية والقبول، وممن وقف على ذلك أن يصلح الخلل، فأقول وبالله أستعين:
المقدمة
الطهارة(1/1)
(مسألة): ماء الطلّ والندى مطلق لشمول اسم المطهر لهما، وقول ابن العماد: إنه نفس دابة في البحر مردود. قلت: وافقه ابن حجر اهـ. (مسألة): المعتمد أن الماء الداخل إلى الفم بعد غسل طرفي الشفتين عن الفرض مستعمل كما في الخادم في سنن الوضوء، وما في العباب من عدم الاستعمال مرجوح، وسبقه إليه الخادم في بعض المواضع. قلت: وافقه ابن حجر و (م ر). (مسألة): يعفى عما يشق الاحتراز عنه من قليل قيء الصبي بالنسبة للمرضعة لا عن قليل بوله وغائطه، إذ الابتلاء بإرضاعه أقوى منه بحمله. (مسألة): الماء القليل الجاري الذي كثر اغتراف الناس منه لا يحكم باستعماله ولا بنجاسته بتوهم نجاسة أيدي المغترفين منه، وإن كان المغترف جنباً أو ذا حدث، بل إن تيقن وقوع نجاسة وجرت بجري الماء فما قبلها طاهر، والجرية التي تعقب النجاسة لها حكم الغسالة. (مسألة): الماء الذي يدخل الإسكافي فيه النعال محكوم بطهارته ما لم يتحقق نجاسته تغليباً للأصل، ولو عرفت الرجل المتنجسة هي أو نعلها بطين الشارع المعفوّ عنه وانتشر عرقها عفي عنه، كما لو عرق محل الاستنجاء، بخلاف النعل المتنجسة بغير ذلك فينجس ما تحقق إصابته محل النجاسة. (مسألة): يعفى عن ذرق الطيور وروث الفيران الذي تعمّ به البلوى في المياه القليلة والمساجد وغيرها، إذ العفو دائر مع عموم البلوى وهو موجود في ذلك.
النجاسات(1/2)
(مسألة): ما ارتفعت إليه الخمر من أجزاء الدنّ بغير الغليان نجس، فلو صب عليه خمر حتى غمر موضع الارتفاع ففيه ثلاثة آراء: تظهر مطلقاً، وتقييد من قيد قبل جفاف الموضع هو لتحقق الانغمار. لا تطهر مطلقاً وإليه ميل الشيخ زكريا في شرح البهجة، التفصيل بين ما قبل الجفاف وبعده وهو الحقيقي بالاعتماد، لأنه قبل الجفاف في معنى المائع فهو ملحق به، فأشبه ما لو صب خمر على خمر، وما بعد الجفاف لا يلحق بالمائع، فأشبه النجاسة الجامدة بإناء صب عليه خمر ثم تخلل فهو نجس، ومنه يؤخذ أنه لو صب خمر في إناء ثم أخرجت منه، وصب فيه خمر أخرى بعد جفافه أنها لا تطهر، قلت: رجح ابن حجر في الفتاوى الطهارة إذا غمر المحل فيهما مطلقاً قبل الجفاف أو بعده انتهى. (مسألة): شعر الحيوان وعظمه الذي لم يعلم أهو من مأكول أو غيره، أو أخذ بعد ذكاته أو موته طاهر، لأنا تيقنا طهارته في الحياة ولم يعارضها أصل ولا ظاهر، واحتمال كونه من مغلظ أو حيوان ولد ميتاً في غاية الندور. قلت: وافقه ابن حجر في الفتاوى، وخالفه أبو حميش اهـ. (مسألة): الزباد طاهر ويصح بيعه، ويعفى عن يسير شعر الحيوان المختلط به. قلت: وافقه ابن حجر وغيره انتهى. (مسألة): الخلاف في وجوب الاستعانة بنحو الأشنان في غسل النجاسة وندبها منتشر، والمعتمد الذي يقتضيه النقل، الدليل وجوب الحت والقرص إن توقفت الإزالة عليهما، ولا تجب الاستعانة بنحو الأشنان وإن توقفت الإزالة عليه كما نص عليه في الأم، نعم إن توقفت إزالة الطعم أو اللون والريح المجتمعين في محل واحد وجب. (مسألة): متى تعسرت إزالة الريح أو اللون بشرطه فالمحل طاهر لا نجس معفو عنه ولو من مغلظ، كما استوجهه السمهودي في حاشية الخادم خلافاً لظاهر عبارة الإرشاد وبعض شراحه. (مسألة): إذا تحقق وقوع النجاسة الكلبية في نحو الحياض أو في أحد باشرها، وجب اجتنابها واجتناب من باشرها، وإن قلد المباشر مالكاً إلا إذا قلد وهو مثله، وهكذا وإن(1/3)
عمت البلوى بذلك قاله الناشر، لكن خالفه ابن جعمان فقال: نظائر ذلك قاضية بالعفو، كمسألة الخزف المعمول بالسرجين، وهذا أقرب وأشبه بمسائل العفو. (مسألة): وضع ثوبه في الماء الكثير حتى غمره فمشى كلب عليه تنجس ولا يكون الماء حائلاً كما قاله السمهودي. (مسألة): المنقول في الرغوة المرتفعة عند البول في البحر أنها نجسة، ومن أفتى بطهارتها فقد خالف المنقول، وأما الرشاش المتقاطر بسبب صدم البول أو البعرة للماء الكثير فطاهر والفرق ظاهر للمتأمل.
الاجتهاد
(مسألة): لا يقبل خبر الفاسق إلا إذا أخبر جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وأو أخبر عن فعل نفسه كقوله: بلت في الإناء، أو طهرت الثوب خلافاً لمن فرق، وكما لو استؤجر للحج وقال: حججت بلا نية ولا يمين، ويقبل قول المرأة في انقضاء العدة ولو فاسقة، ويصحّ الاقتداء بالفاسق، ومعلوم أنه لا بد من الطهارة وغيرها من الشروط، ولا يشترط مشاهدة ذلك منه بل نعوّل عليه وإن شاهدنا سبق حدثه، ويقبل خبره في تغسيل الميت.
خصال الفطرة(1/4)
(مسألة): يكره الأخذ من جوانب اللحية والشارب والعنفقة بحلق أو قصّ أو نتف أو غيرها، والمعنى واحد، لكن النتف أشد كراهة لما فيه من الإيلام، ومثله سائر شعور البدن لغير حاجة، وأما حلق اللحية لغير علة ففي الروضة كراهته، والصواب كما نص عليه الشافعي والحليمي تحريمه. (مسألة): نقل الشيخان عن الغزالي أنه لا بأس بترك السبالين، وفي الحديث: "قصوا سبالاتكم ولا تشبهوا باليهود". ويمكن حمله على القدر الذي يحصل به التشبه وهو عند فحش طولها فلا منافاة حينئذ. (مسألة): صرح الأذرعي بكراهة حلق الشعر الذي في الحلقوم، ونقل عن فتاوى محمد الكرماني أنه مباح وفيه نظر يعرف مما مر. (مسألة): يحرم لغير حاجة خضب الرجل والخنثى يديهما ورجليهما بالحناء كما صرح به في الروضة لحديث: "لعن الله المتشبهين" الخ، وقال بعض علماء اليمن يجوز، وهو مقتضى كلام الماوردي وصاحب البيان والرافعي، ولم يصح أنه خضب، وأما لحيته الشريفة فالمختار كما قاله النووي الجمع بين من روى الخضاب كأم سلمة ومن نفاه كأنس، بأنه عليه الصلاة والسلام خضب في وقت وتركه في أكثر الأوقات، فأخبر كل بما رآه وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعين.
الوضوء(1/5)
(مسألة): من عبد الله لأجل الثواب أو خوفاً من العقاب صحت عبادته، لكنها ليست كمن عبده لإجلاله ولاستحقاقه الخدمة والعبودية، وهذه كما قال الغزالي أعز النيات وأعلاها، ويعز من يفهمها فضلاً عمن يتعاطاها، ونيات الناس إما لباعث الخوف أو الأجر، وهو وإن كان نازلاً فهو من جملة النيات، نعم من عبد الله لذلك فقط، ولو لم يكن ثواب ولا عقاب لما عبد الله، فهذا الذي تفسد عبادته، وقد قال ابن عبد السلام: إرادة الله تعالى بالأعمال الصالحة خمسة أقسام: أن يعمل طمعاً في الثواب، أو خوفاً من العقاب، أو حياء من أن يخالفه، أو صار ورداً أو إجلالاً له وتعظيماً، أي امتثالاً لأمره الواجب على العباد، ولا يخطر بباله طمع في الثواب ولا خوف من العقاب، وهو أولى بالصحة من سائر الأقسام وأفضلها إن كان كل ذلك حسناً وبعضه أفضل، ولو قيل له صلّ ولك دينار فصلى أجزأته صلاته ولا يستحق الدينار. (مسألة): نوى بوضوئه الصلاة في وقت الكراهة لم يصحّ لتلاعبه، والمراد النفل المطلق، كما لو نوى الصلاة بمحل نجس، أو نوت بغسلها عن الحيض الوطء المحرم. (مسألة): تجزىء نية رفع الحدث ونحوها في الوضوء المجدد على الأوجه، وأما الجنب المريد أكلاً ونحوه فينوي بوضوئه الغسل من الجنابة ثم يغسل الأعضاء المذكورة، ولا يحتاج الوضوء المذكور إلى إفراده بنية، وترتفع به الجنابة عن الأعضاء المذكورة، ويحسن أن يقال: ينوي رفع الحدثين، وسنة الغسل جمعاً بين الاختلاف في ذلك، ولا شك أنه أحوط وأنا أفعله. (مسألة): لا يجزىء الاقتصار في مسح الرأس على البياض الذي وراء الآذان كما جرى عليه في الخادم، وإو وجبت الفدية بستره في الإحرام، والفرق الاحتياط، قلت: وافقه أبو مخرمة، ورجح ابن حجر الإجزاء اهـ. (مسألة): قدمت المضمضة على الاستنشاق لشرف منافع الفم، لأنه محل الذكر والاستنشاق آكد منها لأخبار تخصه، ولو أراد الاقتصار على أحدهما فهي أولى، إذ لا خلاف في الاعتداد بها قبله،(1/6)
ومعنى آكديته أنه إذا أتى بهما معاً أثيب عليه أكثر.
مسح الخف
(مسألة): اقتصر في مسح الخف على الشعر الذي بظاهره لم يجزه كما قاله الأذرعي، قلت: وافقه (م ر) وقال ابن حجر بإجزائه قياساً على مسح الرأس اهـ.
الحدث
(مسألة): أخبر عدل نائماً أي ممكناً أنه سمع منه صوت حدث، أو أنها لمسته أجنبية، فالظاهر الجاري على القواعد وجوب الأخذ بقوله، لأن خبر العدل معمول به في أكثر أبواب الفقه، وقول القماط لا يلزمه الأخذ لأنه يفيد الظن فيه نظر. (مسألة): لا ينتقض الوضوء بلمس العظم الموضح كالسن كما أخرج ذلك الإرشاد بقوله: وتلاقي بشرته وبشرتها، وكما أخرج به السنّ والظفر والشعر أيضاً، وأما باطن العين فينتقض الوضوء بمسه كاللسان واللثة، قلت: وافقه (م ر) في الكل، وخالفه ابن حجر في باطن العين فقال: ونقض به اهـ. (مسألة): يكره كتابة الطلسمات وقراءتها إذا كان فيها أسماء أعجمية لا يعرف معناها، وقيل: يحرم جميع ذلك لاحتمال أن يكون فيها كفر أو أسماء يعظمها الكفار، وقد وقع للبوني من نوع المكروه بل من نوع المحرم إن لم يكن مكفراً ما ذكره في شمس المعارف من دعواه الكواكب والقسم على زحل، ذكره النووي في فتاويه. (مسألة): نقل ابن الملقن عن الحناط أنه لا يجوز جعل الذهب والفضة في كاغد كتب فيه البسملة وجرى عليه المزجد، وقال السمهودي: ويراعى الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها ومصنفيها وجلالتهم، فيضع الأشرف أعلى، ثم على التدريج، فيقدم المصحف، ثم الحديث الصرف كصحيح مسلم، ثم تفسير القرآن، ثم تفسير الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الفقه، ثم النحو، فإن استوى كتابان في فن واحد أعلى أكثرهما قرآناً أو حديثاً، فإن استويا فبجلالة المصنف، وقد أفتى بعض المشايخ بأنه لا يجوز وضع كتاب من كتب الشرع ليضع عليه كتاباً آخر يطالعه أو يقرؤه لما فيه من الامتهان للعلم. (مسألة): الظاهر الذي أميل إليه أنه لا يجوز التصليب بأوراق المصحف(1/7)
لما فيه من الامتهان كما أفتى به الريمي والبكري، وما تفرق من الأوراق أو تناثر تجب صيانته بحفظ أو بلّ في ماء أو إحراق، لكن في تبيان النووي أنه لا يجوز حرق القرآن، وقولي ابن كبن يجوز تصليب جلد المصحف وغيره من الكتب بأوراق مكتوب فيها قرآن، وقال: إنه أخذه من فتاوى ابن الصلاح وغيره غير ظاهر، فليس في فتاوى ابن الصلاح دلالة على ما ذكره.
الغسل
(مسألة): يجنب الصبي بإيلاجه والإيلاج فيه مطلقاً، والمعتمد وفاقاً للنووي أنه لا يمنع من مس المصحف كالمحدث خلافاً لمن فرق، قلت: وافقه ابن حجر و (م ر) اهـ. (مسألة): لو ثنى ذكره فأدخل قدر الحشفة وجب عليه الغسل وغيره من الأحكام المترتبة على الإيلاج، ولا فرق بين وجود الحشفة وعدمه، قلت: خالفه ابن حجر ورجح عدم الوجوب. (مسألة): لو كان في السرة أو تحت الأظفار وسخ يحتاج في إزالته إلى تعهد، فإن نشأ عن البدن كما هو الغالب إذ هي مستورة عن الغبار فهو جزء منه، فلا يشترط إيصال الماء إلى ما تحته، كما قاله القفال والجويني، وإن نشأ من اجتماع بخار ونحوه فلا بد من إزالته ولو بمشقة ما لم يؤدّ إلى ضرر، كما لو كان بشقوقه وسخ وكان في إزالته ضرر، بحيث يكون له غور في اللحم لم تجب إزالته أيضاً. (مسألة): الراجح وفاقاً للعباب أنه يضر تغير الماء بما على عضو المتطهر، نعم لو كان به دموع سائلة لا يمكن الاحتراز عنها لم تضر للمشقة، وكذا لو احتاج للتيمم حينئذ واختلط بالتراب حتى صار طيناً، لأن المشقة تجلب التيسير والرخص لا يضايق فيها، بل أقول بصحة تيمم من ابتلي بكثرة العرق في بدنه.
التيمم(1/8)
(مسألة): لا تجزىء نية الطهارة للصلاة في التيمم كما يظهر من فحوى كلامهم وإن أجزأت في حق دائم الحدث، والفرق أن دائم الحدث تجزئه نية الوضوء ونحوها بخلاف المتيمم، قلت: خالفه ابن حجر وقال بالإجزاء. (مسألة): التراب المتناثر من أعضاء المتيمم لا يحكم باستعماله ما لم يعرض عنه، كما رجحه الرافعي وغيره كالمتقاذف من الماء، وحينئذ فلو بادر إلى أخذه من الهواء بعد انفصاله صح، ولا يجزىء التيمم بالتراب المختلط بالمستعمل، كما لا يجزىء المختلط بدقيق ونحوه وإن قلّ. (مسألة): لو كان بوجهه ويديه جراحتان فتيمم بعد غسل صحيح الوجه انصرف عن جراحته فلا يحتاج إلى تعيين.
الحيض
(مسألة): يجب على المستحاضة أن يكون غسل الفرج والتعصيب وما بعده في الوقت لا قبله، كما صرح به في العباب، وهو ظاهر عبارة الإرشاد. (مسألة): لو تأخرت رؤية الدم عن الولادة بأقل من خمسة عشر يوماً كان ابتداء الستين من الولادة، ويكون زمن النقاء المذكور لا نفاس فيه، وإن كان محسوباً من الستين ذكره البلقيني وهو الأحوط فحينئذ تصلي الصلاة في البقاء الحاصل عقب الولادة، وفي الدم المجاوز للستين من يوم الولادة، ولا بأس باعتماده، قلت: رجحه ابن حجر.
الصلاة
(مسألة): شخص حصل عليه وجد ومضى عليه وقت فأكثر، فإن كان حاله حال المغمى عليه لم يجب عليه قضاء ما فاته وينتقض طهره لأن مناط التكليف العقل، وإن لم يكن كذلك قضى ولم ينتقض الطهر، وستأتي في الخاتمة حقيقة الوجه. (مسألة): تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه خلاف الأولى، وقيل مكروه، ولا يسن حينئذ رفع الصوت بالأذان لأنه يشوّش فللإمام المنع منه. قلت: يفهم منه أنه إذا لم يكن ثم تشويش بأن كان غالب أهل البلد يفعلونه كما في رمضان في بعض النواحي لا منع من رفع الصوت حينئذ.
الأذان(1/9)
(مسألة): قولهم يسن لمؤذن أن يقول: ألا صلوا في رحالكم في الليلة الممطرة، أو ذات الريح أو الظلمة جرى على الغالب، بل لو اتفق ذلك نهاراً كذلك كما هو صريح الخبر ويقولها مرة واحدة، وإن قلنا بالمرجوح إنها بدل الحيعلتين، والمعتمد الذي جرى عليه النووي أنه يقولها بعد الأذان أو بعد الحيعلتين، قلت: اعتمد هذا ابن حجر و (م ر) وقال الخطيب: إنها بدل الحيعلتين اهـ. (مسألة): إذا أذن المؤذن للجماعة المعهودة فحضر منفرد أو جماعة أخرى موضع الأذان قبل إقامة الجماعة المعهودة لم يسن لهم الأذان، بل حكم الأذان باق ما لم يصلوا يعني الجماعة المعهودة، وإنما يستحب الأذان بخفض الصوت لمن حضر بعد إقامة الجماعة المعهودة بالأذان.
صفة الصلاة(1/10)
(مسألة): لو قال المصلي: وجهت وجهي وأسلمت، فالظاهر عدم البطلان، فقد اشتملت الصلاة على أنواع من ذلك ففي الركوع: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، ثم رأيت عبد الله بن أحمد مخرمة قال: والذي يظهر أن ذلك لا يبطل، ولا يبعد إلحاقه بما نص عليه الأئمة من أنه قال المأموم: آمنت بالله عند قراءة إمامه: {فبأي حديث بعده يؤمنون} لم تبطل صلاته اهـ. (مسألة): عامي عجز عن القراءة والبدل لم يجب عليه تحريك لسانه وشفتيه، بل لا يجوز ذلك فتبطل به الصلاة بشرطه، وليس هو كأخرس طرأ خرسه، لأن ذلك محله في أخرس علم القراءة والذكر الواجبين، بحيث يحفظهما بقلبه ولا يطاوعه لسانه على النطق بهما، فيلزمه تحريك لسانه بهما قاصداً القراءة. (مسألة): لا بد من الطمأنينة ببقية أعضاء السجود كالجبهة، وأن يضعها حالة وضع الجبهة، حتى لو وضعها ثم رفعها ثم وضع الجبهة أو عكس لم يكف، نعم لا يشترط التحامل بها خلافاً للشيخ زكريا، قلت: وافقه ابن حجر و (م ر) فيهما اهـ. (مسألة): لا يجب رفع اليدين بين السجدتين، بل يجوز استدامة وضعهما على الأرض، كما قاله الإمام والسمهودي خلافاً للريمي، قلت: وافقه في التحفة. (مسألة): تشترط موالاة التشهد لكن لا كالفاتحة، إذ العلة فيها فوات الإعجاز فيضر فيها تخلل الأجنبي وإن قل، كأن زاد بعد يوم الدين سبحانه وتعالى، أو بعد نستعين اللهم أعني على ذكرك، وكذا لو قال المأموم حينئذ: استعنا بالله ولم يقصد قراءة ولا دعاء على ما نقل عن البيان، بخلاف ما لو قال بعد ولا الضالين: اللهم إني أعوذ بك من الضلال لفراغ القراءة، والذي يظهر في التشهد أنه كتكبيرة الإحرام، فلا يضر تخلل يسير وصف فيهما كالله لا إله إلا هو، الله أكبر، وكعز وجل لا شريك له بعد التحيات لله، ومثله بعد عباد الله الصالحين وملائكته المقربين، وكالسلام عليك يا أيها النبي وفاقاً لزكريا.
سنن الصلاة(1/11)
(مسألة): المعتمد كما رجحه الشيخان سنّ المداومة على قراءة الم تنزيل، وهل أتى في صبح الجمعة مطلقاً، وإن خيف أن يعتقدهما العوامّ فرضاً، خلافاً لابن دقيق العيد وغيره، لأن ذلك يؤدي إلى ترك كثير من السنن، كالتشهد الأول وغيره، ودواء الجهل التعلم، والذي يدل تركه للشيء على عدم الوجوب هو الشارع لا غير. (مسألة): يستحب تطويل الركعة الأولى على الثانية، ولا بأس بعكسه للمحافظة على السنة، أكدت كمراعاة ترتيب المصحف، لكن محل ذلك فيما ورد فيه نص كما في {سبِّح اسم ربك} و{هل أتاك} ونظائرهما، وإلا كان خلاف السنة، وبهذا يجمع بين كلام من أطلق المنع ومن أطلق الجواز. (مسألة): يسنّ قنوت النازلة في جميع المكتوبات ولو جمعة، وإن خيف التشويش على المأمومين، وليس الجهل عذراً في تركه بل دواء الجهل كما قاله السمهودي بكون ذلك سنة تعلم كونه سنة لا تركه، ولو هوى بعض المأمومين إلى السجود لم يجب عليه العود للمتابعة، لأنه إنما ترك إطالة الاعتدال ولا فحش فيه. (مسألة): تستحب الصلاة على النبي في القنوت، وكذا على الآل دون الصحب، فلم يقل بسنها عليهم أحد، والفرق أن لنا قولاً بوجوب الصلاة على الآل في التشهد الأخير، اختاره البيهقي والحليمي وغيرهما وأنا أختاره. قلت: رجح ابن حجر استحباب الصلاة عليهم والسلام على الكل اهـ. (مسألة): المنقول لأصحابنا في ندب القنوت في غير الصبح من المكتوبات ثلاثة أقوال: القنوت مطلقاً عكسه الثالث الأظهر أنه يقنت للنازلة كالوباء والقحط والعدوّ والجراد وقلة المطر، بحيث لا تزول الحاجة بما حصل منه، إذ يستحب صلاة الاستسقاء لانقطاع المطر أو قلته، بحيث لم تحصل به الكفاية أو تحصل وكان في الزيادة نفع، وإذا كان هذا في الصلاة وهي يحتاط لها أكثر، فأولى استحباب القنوت لذلك في المكتوبات، ولو قنت لنازلة في نافلة كاستسقاء لم يكره على المعتمد أو لغير نازلة كره، لكن يسجد فيهما للسهو لأنه نقل ذكره إلى غير محله(1/12)
بنيته، وعلى الكراهة لو طوله بطلت صلاته، ويقنت لكل نازلة بما يليق بها، ولا يأتي بقنوت الصبح معه، بل ولا يكتفي به عن قنوت النازلة، إذ قنوت الصبح وإن كان من الأدعية الجامعة المشتملة على الطلب لكل خير والاستعاذة من كل شر، وأعظم به دعاء جامعاً، فقد دل الدليل على أنه يختار في كل نازلة ما يليق بها من الأدعية الخاصة بها زيادة في الاهتمام بالتصريح بالمقصود كما هو معلوم، ولا يكره ختم القنوت بنحو ربنا تقبل منا إلى آخره، بقصد الدعاء، بل هذه الآية أنسب بالمقام من آخر البقرة، ولم تزل الأئمة يختمون قنوت النوازل بهذه الآية ويواظبون عليها، ويستحب كما في الأذكار أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وسلم. قلت: خالفه ابن حجر فقال: يأتي بقنوت الصبح ثم يدعو برفع النازلة. (مسألة): إذا رفع المسبحة في التشهد عند إلا الله أدامها مرتفعة، ولا يضعها بالضاد المعجمة لا بالصاد وفاقاً للمقدسي والسمهودي وخلافاً للجوجري، وإن نظر في العباب أي قال يضعها اهـ.
الذكر والدعاء خلف الصلاة(1/13)
(مسألة): يستحب قراءة الفاتحة عقب الصلاة، ولم يزل العلماء يواظبون عليها، وقد صنف في فضلها كتب كثيرة، وقد ألهم الله هذه الأمة قراءة هذه السورة العظيمة والإكثار منها عند حضور الجماعة وعند افتراقها من غير إشعار منهم، بما فيها من الفضل وكثرة الثواب ودفع الضرر، وغير ذلك من الفوائد والأسرار المودعة فيها، فإنها أعظم سورة بمعنى أفضل، بل في تفسير الواحدي عن علي كرم الله وجهه مرفوعاً ما يدل على استحباب قراءتها عقب كل صلاة مع آية الكرسي، وشهد الله، وقل اللهم إلى آخرها، ولا ينبغي للمصلي على النبي خفض رأسه، بل الأوفى تركه، ولزوم الأدب والسكينة والوقار عند ذكره، نعم إن كان ذلك ناشئاً عن خضوع وخشوع بسبب ذكر النبي واستحضار حرمته ورفعة منزلته فلا بأس، وربما كان لاستغراق المصلي فهذا أمر محبوب. (مسألة): ظاهر كلام الأصحاب أن التحول إلى الجانب الأيمن بأن يجعل يساره إلى المحراب ويمينه إليهم وقيل عكسه خاص بالإمام فقط، وهذا لا ينافي استحباب الذكر والدعاء بعد السلام، إذ لا يلزم من القيام ترك الذكر، ولا من الذكر ترك القيام، ولا فرق في التحوّل بين الظلمة وغيرها، ولا يغنيه عنه جهر المبلغ بالأذكار، واختار الحافظ ابن حجر في فتاويه أن الإمام إن كان ممن يذكر المأمومين أو يدرسهم أو يفتيهم فأولى أن يستقبلهم وإلا فيستقبل القبلة، قال البلقيني: كما استمر عليه الأئمة في الأمصار ليصير الكل مستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبلهم في الدعاء: (مسألة): قال الحافظ ابن حجر وتبعه السمهودي: مقتضى الحديث أن الذكر والدعاء عقب الصلاة يقال عقب الفراغ منها وإن تأخر يسيراً، بحيث لا يعدّ معرضاً أو ناسياً أو متشاغلاً اهـ. وظاهره أنه يفوت بالإعراض، وما قاله السمهودي إن كونه قبل الراتبة هو من حيث الأكمل، والأولى لا أنها تفوت بالتأخير، وإذا قلنا باستحباب قضائها، فأتى بها عند النوم قاصداً بها ذكر الصلاة، والنوم لم تتأدّ بها السنتان،(1/14)
ولا تقاس بإجزاء خطبة واحدة عن الكسوف والعيد لأن المقصود ثم الوعظ. (مسألة): قال ابن العماد: يحرم الجلوس في المحراب بعد الصلاة، وتوجيه كلامه أن الوقف يعتمد على القرائن التي حكمها حكم شرط الواقف، والواقف لم يقصد بالمحراب القعود فيه والغالب فيه قصد الصلاة للإمام.
شروط الصلاة
(مسألة): تصح صلاة العامي الذي لا يميز فرائض الصلاة من سننها بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض، كما صححه في المجموع عن فتاوى الغزالي، نعم هو مأثور بترك التعلم، إذ معرفة ذلك من فروض الأعيان، قلت: وافقه (م ر) وجزم ابن حجر بالصحة حتى من العالم. (مسألة): لو كان بسترة مصلّ خرق ولم يجد ما يسده وجب وضع كفه عليه لكن يراعي السجود، كما أن القارىء يتم الأركان، وفي حاشية السمهودي عن الأذرعي القياس وجوب وضع ظهر كفه على قبله، والأخرى على دبره في معظم الصلاة إذا لم يجد شيئاً، فقوله في معظم الصلاة واحد لما ذكرنا، قلت: وافقه (م ر) وقال ابن حجر يتخير بين الوضع على الخرق والوضع على الأرض، لأنه تعارض في حقه واجبان، ومال الخطيب إلى إبقائها على الخرق قال: لأن وضعها في السجود مختلف فيه بين الشيخين، وقوله ولم يجد ما يسده مثله في التحفة فظهر بذلك أنه إذا وجده يلزمه قطع الصلاة والستر به اهـ. (مسألة): إذا كثر ذرق الطيور وعمت البلوى به عفي عنه، سواء في المسجد وغيره ما لم يتعمد المشي عليه. (مسألة): إذا تعدى المكلف ووشم، قال في الخادم ومثله الصبي: إذا فعل به ذلك ثم بلغ وجب عليه إزالته، كما إذا وصل عظمه بنجس ما لم يخف محذور تيمم، وفي الأم ما يؤيد ذلك، قلت: وافقه (م ر) وخالفه ابن حجر في غير المكلف فقال: لا يجب عليه إذا بلغ. (مسألة): إذا لاقت النجاسة المعفوّ عنها رطوبة حصلت من خارج تعين الغسل، نعم لو كانت الرطوبة من نحو الوضوء عفي عنها كما أفتى به الشيخ زكريا، ويحتمل وهو الأقرب إلحاق بلل رأس المحلوق بتمام حلقه بذلك والجامع بينهما الحاجة.(1/15)
(مسألة): يعفى عن ذرق الطيور وأرواث الفيران الذي تعم به البلوى في المياه القليلة والمساجد وغيرها، إذ العفو دائر مع عموم البلوى وهو موجود في ذلك. (مسألة): لو كان على رجله نجاسة حامل لها فأمسكه مصلّ لم يضر، وليس كمن أمسك حبلاً متصلاً بحيوان حامل لها لأنه يعدّ به حاملاً لها، بخلاف إمساك الآدمي الحامل لها، قلت: خالفه ابن حجر وغيره وقالوا: لو أمسك مستجمراً بطلت صلاته. (مسألة): قولهم تصير المفروضة نفلاً بمناف فرضية بعذر محله إذا قبل الوقت التنفل، فلو ظن دخول وقت المغرب فأحرم بها ثم بان في الثانية عدمه لم تنعقد لامتناع التنفل المطلق قبيل الغروب،ومثله لو بان إحرامه بالظهر قبل وقت الاستواء. (مسألة): في الأحياء للغزالي: لو سقط رداؤه في الصلاة كره له رده وحمل كلامه على رده حيث لم يحتج إليه ولم ينكشف شيء من عاتقه.
السجدات(1/16)
(مسألة): كرر الفاتحة أو التشهد سجد لعدم مشروعية ذلك، وللخلاف في بطلان الصلاة به، ويعبر عنه بتركه التحفظ المأمور به في الصلاة. (مسألة): نقل تسبيح الركوع إلى السجود أو عكسه أو إلى القيام، قال الأسنوي: يسجد للسهو، وقال غيره: لم يسجد، ويدل له أنه لو قرأ السورة قبل الفاتحة لم يسجد، لأن القيام محل القراءة، وهو محل التسبيح أيضاً في الاستفتاح وصلاة التسبيح. (مسألة): رجل كثير الوسواس شك في أفعاله وأقواله في الصلاة والطهارة، ليس له أن يأخذ بغالب ظنه، وإن كان اليقين متعذراً في حقه، لأن الوسوسة مذمومة، ولهذا لم يغتفروا له في تكبيرة الإحرام ولا في التخلف عن الإمام وغيرهما، فلا بد من اليقين على القاعدة. (مسألة): الراجح فيما إذا سجد الإمام للسهو قبل إكمال المأموم أقل تشهده أنه لا يتابعه بل يتمه، وتخلفه لإتمام ما بقي من واجب تشهده ليدخل وقت سجوده لا يعد فحشاً كما في التخلف لإتمام القراءة، خلافاً لما جرى عليه شيخنا في عبابه من أن الأوجه المتابعة، فعليه فهل يعيد السجود بعد إتمامه التشهد أم لا؟ الراجح من القولين إعادته، لأن الأول إنما كان لمحض المتابعة قبل أوانه، قلت: جرى ابن حجر على ما في العباب لكن قال: ولا يعيد السجود بعد إكمال تشهده، وجرى (م ر) على ما جرى عليه صاحب الفتاوى اهـ. ولو شرع في سجود السهو ثم عنّ له تركه جاز، ولو بعد أن سلم ناسياً ثم عاد له، بخلاف ما لو قصد الاقتصار على سجدة حال شروعه فتبطل به صلاته، نعم لا يؤثر نيته العود بعد السلام مع الاقتصار على سجدة، فلا يبطل بها سلامه الأول وإن سجد. (مسألة): ترك التشهد الأوّل سهواً ثم عاد إليه بعد ما صار إلى القيام أقرب سجد للسهو على المعتمد كما في الروضة وغيرها، خلافاً لشرح المهذب. قلت: وافقه ابن حجر و (م ر) اهـ. (مسألة): الجلوس بين السجدتين ركن طويل على المعتمد لا الاعتدال اتفاقاً، ولا يحسبان في التخلف بعذر حتى على القول بالطول، إذ هما(1/17)
غير مقصودين لأنفسهما، وأما بغير عذر فيحسبان على كلا القولين، قلت: اعتمد ابن حجر و (م ر) أنهما قصيران. (مسألة): شك المأموم بعد إتيانه ببعض التشهد مع الإمام في سجدة من هذه الركعة سجدها وأعاد التشهد معه، ولا يتخلف حتى يسلم، لأنه بان أنه في الجلوس بين السجدتين، قلت: وافقه ابن حجر، قال: ومثله ما لو اعتدلا فشك المأموم في الركوع فيأتي به الخ اهـ. (مسألة): قرأ آية سجدة في الصلاة لمجرد قصد السجود بطلت صلاته بسجوده لا قبله، كما يؤخذ من سياق شرح الروض، وما في فتاوى الردّاد من الصحة مطلقاً ضعيف. (مسألة): سجدة ص شكر لقبول توبة داود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، لإنعام الله على داود بقبول توبته، ويجب اعتقاد عصمة الأنبياء عليهم السلام حتى من الصغائر ولو سهواً، كما نص عليه العلماء المحققون، ولا تغتر بما يذكره نقلة الأخبار، وليس في الحقيقة ما صدر من داود، فقد قيل: إنه خطبها على خطبته، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد زوجها ليتزوجها، وقال ابن عباس ما زاد على أن قال لرجل: تخل عن امرأتك، وأما قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه} أي اختبرناه وقوله: {أوّاب} قال قتادة: مطيع، هذا التفسير أولى، واستغفاره من ذلك، لأن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله تعالى وسنته في عباده مما تحملهم على الخوف منه جلّ جلاله، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به. (مسألة): مصلي فرض ظن أنه في صلاة أخرى ولو نفلاً فأتم جاهلاً ثم بان له الحال لم تبطل صلاته، خلافاً للقاضي ومن تبعه، كما لو قنت في ركعتي الفجر ظاناً أنها الصبح، بخلاف ما لو شك في الطهارة في التشهد الأول فقام إلى الثالثة ثم ذكر أنه متطهر فتبطل صلاته، والفرق ظاهر، قلت: وافقه ابن حجر، وقوله شك في الطهارة أي تيقن الحدث كما هو معلوم اهـ.
النفل(1/18)
(مسألة): أحرم بالوتر ولم ينو عدداً جاز واقتصر على ما شاء من ركعة إلى إحدى عشرة، قلت: وافقه ابن حجر. وقال (م ر) : يقتصر على ثلاث اهـ. وكذا لو نوى عدداً فله الزيادة والنقص بشرط تغيير النية قبله، ومثل الوتر الرواتب والضحى في المسألتين، أي إن قلنا بجواز جمع أربع منها بتسليمة على ما أفتى به النووي، لكن الذي اعتمده السبكي أنه لا يجوز جمع أربع منها بتسليمة، ووافقه عبد الله بن أحمد مخرمة في الرواتب، واختار الجواز في الضحى، قلت: خالفه ابن حجر و (م ر) فقالا: يجوز في غير التراويح الجمع بتسليمة في جميع النوافل، بل قال (م ر) يجوز جمع القبلية والبعدية بتسليمة واحدة، ورجحا أيضاً عدم جواز الزيادة والنقص في غير النفل المطلق اهـ. (مسألة): يسن الإتيان بسورة الأعلى والكافرون والمعوّذات لمن اقتصر على ثلاث من الوتر، وكذا إن زاد عليها مفصولة أو موصولة، وإن نسي سبح اسم ربك في الأولى أو الكافرون في الثانية أتى بها فيما بعدها، بل لو اقتصر على ركعة قرأ الكل فيها، خلافاً لما يظهر من قولهم يستحب لمن أوتر بثلاث، وللبلقيني القائل محل ذلك حيث فصلها أو اقتصر على ثلاث، قال السمهودي: وإليه أميل. (مسألة): يسن تخفيف سنة الصبح تخفيفاً نسبياً أي بالنسبة إلى التطويل في نوافل الليل، وبه يعلم أن ضم ألم نشرح، وألم تر إلى الوارد فيهما لا يخرجهما عن التخفيف النسبي، إذ ورد أن من داوم فيهما على ألم نشرح في الأولى، وألم تر في الثانية زالت عنه علة البواسير، لكن لا ينبغي المداومة على هاتين السورتين في النوافل خصوصاً ركعتي الفجر، إذ يؤدي ذلك إلى مخالفة السنة، فقد ثبت في مسلم أنه كان يقرأ في سنة الصبح بقولوا آمنا بالله الخ في الأولى، وقل يا أهل الكتاب الخ في الثانية، وبسورتي الإخلاص فيهما، واتباع السنة أولى، نعم لو أتى بألم وألم في ركعتين قبل الفجر كان أولى وتألقاً مما ذكر. (مسألة): يسن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ولم يتقيد(1/19)
من حيث نقل الطلب بكونه في البيت بل يستحب في المسجد وغيره، ويحل ما ورد عن عمر رضي الله عنه من النهي عن ذلك في المسجد إن صح عنه على حال ازدحام الناس في المسجد، ويكون ذلك عذراً في عدم الاضطجاع، فيفصل حينئذ بكلام، أما كون الاضطجاع في المسجد خارماً للمروءة فبعيد لإطلاق الأمر به في حديث أبي هريرة، وقد يكون فعل الشيء الواحد خارماً للمروءة من وجه ومحموداً من وجه آخر. (مسألة): من عليه فوائت وأراد قضاءها مع الرواتب قدم الراتبة المتقدمة على الفائتة، نعم إن فاتته بغير عذر فينبغي تأخير الراتبة المتقدمة عنها لوجوب الفور في قضائها خروجاً من المعصية، كما هو المعتمد فيمن فاتته الظهر بعذر والعصر بلا عذر، أنه يجب تقديم العصر خلافاً للبارزي وهو محتمل. قلت: وافقه ابن حجر فقال: يجب ذلك وإن فقد الترتيب، وقال (م ر) : الترتيب أولى مطلقاً اهـ. (مسألة): من اقتصر من الرواتب على ركعتين انصرف للمؤكد، ولا يشترط في نيته التمييز بين المؤكد من غيره، كما أفتى به بعض أئمة المتأخرين. (مسألة): لم يصرح أحد من الأصحاب باستحباب الصلاة على النبي بين تسليمات التراويح، لكن الذي يفهم من عموم كلامهم أنه يستحب الدعاء عقب كل صلاة، والمراد عقب التسليم، وقد صرحوا بأنه يستحب افتتاح الدعاء وختمه بالصلاة على النبي وعلى آله وأصحابه وسلم، فاستحباب الصلاة حينئذ من هذه الحيثية. (مسألة): وقت التراويح بين أداء العشاء وطلوع الفجر، فلو صلاها قبل أداء العشاء فإن كان عالماً لم تنعقد، أو جاهلاً يحتمل وقوعها نفلاً مطلقاً، كمن صلى سنة الظهر ظاناً دخول وقتها فبان عدمه، ويحتمل وهو الأوجه عدم انعقادها، ويفرق بأن ذاك عالم بوقتها وإنما أخطأ في الاجتهاد، بخلاف هذا إذ من شروط الصلاة معرفة وقتها ولو ظناً بالاجتهاد. (مسألة): لا تفوت التحية بسجود التلاوة أو ركعة واحدة فيأتي بها بعد ذلك كما أفهمته عبارة الروضة. (مسألة): صلاة الإشراق غير الضحى على(1/20)
المنقول كما قاله الغزالي والمزجد، لكن في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صلاة الإشراق صلاة الأوّابين وهي صلاة الضحى اهـ. فعلى المنقول لا بد في نيتها من التعيين كغيرها من ذوات الوقت وينوي بها صلاة الإشراق، بخلاف صلاة الأوّابين بين العشاءين، فالمقصود بها إحياء الوقت، فيكفي في نيتها مطلق الصلاة، ويسن قضاء صلاة الإشراق، وكذا صلاة الأوّابين ينبغي قضاؤها لمن اعتاده، وحكي أن بعض العارفين كان ينوي بركعتي الإشراق الشكر، ولعله أراد الشكر على طلوع الشمس من مشرقها. (مسألة): صلاة الرغائب من البدع المنكرة كما ذكره ابن عبد السلام وتبعه النووي في إنكارها، وهي جائزة بمعنى لا إثم على فاعلها، والجماعة فيها جائزة أيضاً، نعم لو صلاها معتقداً صحة أحاديثها الموضوعة أثم.
أحكام المساجد(1/21)
(مسألة): مسجد بجانبه موضع في طرفه داخل في حده دلت القرائن على أنه من المسجد بأن لم يعلم حدوثه، أو دلت على أنه من مرتفقاته، بأن كانت فيه زيادة نفع له، كمن مرض من المدرسة أو استمطر وهو بالبرك أو المستحم يجلس فيه ويسرج فيه بالليل، ونحو ذلك من الارتفاقات، لم يجز للناظر ولا لغيره تغييرها وجعلها بركاً ولا غرس شجر فيها، لأن منافع الموضع المذكور مستحقة للانتفاع المذكور، ويأثم الناظر ومن عاونه، ويجب إعادة ما هدمه من جدران المسجد إن أدى فعله لهدم شيء من جدرانه، وليس ذلك كهدم جدار الغير يجب أرش نقصه لا إعادته، ولا كجدار الموقوف وفناء غير تحريز لأنهما مالان، والمسجد ليس بمال بل هو كالحر، ولذلك لا تجب أجرته بالاستيلاء حتى يستوفى، نبه عليه السبكي، وعلى وليّ الأمر منع الناظر من ذلك، ويضمن ما صرفه فيه من غلة المسجد، وإذا وجد مكان غير مسجد ينتفع به انتفاعاً خاصاً، ودلت القرائن على ذلك من غير طعن ولا إنكار حكم له بذلك. (مسألة): يحرم أن يحدث في المسجد جملون ويجعل فيه ميازيب صغاراً للوضوء، إذا كان بحيث يكون المتوضىء في صحن المسجد المذكور، ما فيه من تغيير هيئة المسجد عما كان عليه من غير مسوّغ شرعاً، بل في ذلك تضييق على المصلين، وتنجيس المسجد بالبول، واستعمال لبقعة من المسجد المهيأ للصلاة في غير ما وضعت له، وفي ذلك امتهان للمسجد بما لا يجوز شرعاً، والمفتى بامتناع ذلك مصيب، والمرخص في ذلك مخطىء آثم. (مسألة): قول شيخنا في العباب: يكره تعليق العمر الملهية في المسجد يعني بالعمر أوراقاً طوالاً فيها آيات من القرآن مكتوبة بأقلام غلاظ، وفيها مثال للحرمين الشريفين، قال ابن عبد السلام: يكره كراهة شديدة إذا كان بحيث يراها المصلي وتشوّش عليه وإلا فلا بأس، قال الأذرعي: إلا أن يتولد من ذلك تلويث الجدار بإلصاقها فيه أو إفساد تجصيصه ونحوه بضرب المسامير فيه فيحرم. (مسألة): يحرم وضع المنبر والخزائن والسرر في(1/22)
المسجد، وإن كان لطلبة العلم المنقطعين عن أوطانهم ولم يتضرر بها المصلون، لأن في ذلك تحجيراً وتضييقاً على المصلين، كما لا يجوز وضع المصطبة في الشارع المتسع للمسلمين، وليس هذا كالخيمة المضروبة في المسجد للحاجة فإن ذلك جائز لأنه لا يدوم. (مسألة): رحبة المسجد بفتح الحاء هي المكان الراحب أي المتسع الذي يجعل غالباً أمام باب المسجد، وهو المكان المحوط لأجل المسجد، وهو أرخص من الحريم، وليس كل مسجد له رحبة ولا كل مسجد له حريم، فقد يوجدان معاً، وقد يوجد واحد، وقد لا، فإذا وقف إنسان بقعة وخط فيها البناء وترك أمام الباب قطعة من تلك البقعة الموقوفة فهي رحبة لها أحكام المسجد، وقد يقف الإنسان داراً محفوفة بالدور ومسجداً، فهذه لا رحبة لها ولا حريم، وتارة يقف البقعة مسجداً، ويكون بجوارها أرض موات، ويتخذ له رحبة، فالمسجد ههنا له رحبة وحريم، ويجب على الناظر تمييز الرحبة من الحريم، ليحترز منها الجنب وتحترم، ويصلى فيها التحية، إذ أحكام المسجد ثابتة لها، والمراد بالحريم ما يحتاج إليه لطرح القمامات والزبالات وقشور الفاكهة ونحوها مما يحتاج إليه عمارة المسجد والمترددون إليه، ولو وقف تلك البقعة وحوّطها ولم يترك منها بقعة خارج الباب، فهذا المسجد لا رحبة له وله حريم، وهذا معنى كلامهم فاعلمه، ويتحقق كون الرحبة من المسجد إما بوقف أو بإطلاق المسجد عليها، وكذا إن جهل حالها أهي من المسجد أم لا، كما قاله السمهودي. (مسألة): يستحب عقد حلق العلم في المساجد، قال في الجواهر: الأولى بالمعتكف قراءة العلم وتعليمه ومطالعته وكتابته، ومن لازم ذلك الاحتياج إلى وضع الكتب فيه، فارتفاق المدرس بوضع كتبه فيما ذكر، بحيث لا يضيق على المصلين جائز، لأن وضع الكتب وسيلة إلى التعليم المستحب، وللوسائل حكم المقاصد، ولا بأس بإغلاقه في غير وقت الصلاة، كبعد العشاء الآخرة صيانة له وحفظاً لآلته، وهذا إذا خيف امتهانها وضياع ما فيها ولم تدع(1/23)
إلى فتحها حاجة، وإلا فالسنة فتحها مطلقاً كما في المجموع، ويجوز النوم فيه بلا كراهة بقيد عدم التضييق أيضاً، سواء المعتكف وغيره، وإن وضع له فراش، وكذا لا بأس بالأكل والشرب والوضوء إذا لم يتأذ به الناس، ولم يكن للمأكول رائحة كريهة كالثوم وإلاّ كره، وينبغي أن يبسط شيئاً ويحترز من التلويث، ويحرم بناء بيت في سطح المسجد أو رحبته كالبيوت التي بسطوح الجامع الأزهري، والجامع الحاكمي، لأن فيه تحجيراً وتضييقاً على المصلين، ولأنه يثقل سقف المسجد وجداره: كما لا يجوز بناء المصطبة في الشارع المتسع للمسلمين، ولأن ذلك يحول بين اتصال الصفوف، وقد نهى النبي عن الصلاة بين السواري، وليس هذا كالخيمة لما تقدم، ويجب إخراب البيوت المذكورة ونحوها، وإن أدّى إلى تغيير جدار المسجد، ويلزم المتعدي إعادة جدار المسجد كما كان، نعم إن كان في إبقائها شدّ لبنيان المسجد، فينبغي أخذاً مما في فتاوى البلقيني إبقاؤها، ويجوز استعارة أرض الغير وجداره ليبنى عليهما مسجداً، وللمالك الرجوع، وفائدته أخذ الأجرة من غلة المسجد حيث دعت الضرورة إلى الاستعارة للجدار، وليس هذا كمن أعار للدفن ثم رجع بعده لا أجرة له لأن الميت لا ملك له، بخلاف المسجد، ولو كان للمسجد مرافق لم يجز للناظر أن يبنيها مسجداً لما فيه من تغير الوقف، إذ الواقف للمسجد وقفها مرافق، ولا تصير مسجداً بالتخصيص ونحوه، والأحوط كما أفتى به القفال منع الصبيان من تعلم القرآن في المسجد لما فيه من الامتهان وعدم صيانته كما هو مشاهد، وقولهم يجوز إدخال الصبي المسجد أي لغير التعليم لأن ضرر التعليم أكثر، ولا يجوز وضع خزانة فيه، وإن كانت لحاجة من يحيى في المسجد أو يدرس ولم تضيق على المصلين، لأنه قد يتفق فيه الجمع، ولأن فيه تحجيراً، والناظر وغيره في ذلك سواء، ومثلها المنبر في مسجد لا جمعة فيه. (مسألة): يجوز فتح باب في حائط جداره إلى المسجد بغير إذن الإمام والناظر، قال الأذرعي:(1/24)
مع الكراهة سواء كان المسجد محوّطاً أم لا، بخلاف ما لو كان الجدار للمسجد، فلا يجوز فتحه لأنه تصرف في جدار المسجد. (مسألة): يجوز إغلاق المسجد في غير وقت الصلاة صيانة له ولآلته عن الامتهان والضياع، فلو فرض أن ناسخاً دخل لنسخ القرآن وكان في جلوسه امتهان للمسجد بسبب من يدخل عليه، وأراد الناظر غلقه لذلك أجيب، ومنع الناسخ المذكور من الجلوس فيه. (مسألة): استأجر الناظر ذمياً لطلس المسجد فجاء يوم السبت فأُذن له أن يسبت فيه حرم عليه ذلك حيث علم عدم جوازه، كما أشار إلى نحو ذلك السبكي في باب الجزية.
الجماعة(1/25)
(مسألة): لا يسقط فرض الكفاية بصلاة الجماعة دائماً في البيوت، كما صححه في الروضة عن ابن إسحاق خلافاً لما في العباب، وقال في الخادم وغيره: وحيث اكتفى به عند ظهور الشعار في البيوت فإنما يتصور ذلك إذا لم يمنع البيت من الأجانب عند إقامة الصلاة حتى يكون مساوياً للمسجد في ذلك وإلا فلا شعار حينئذ. (مسألة): لا يجوز نصب العامي الذي لا يميز فرائض الوضوء والصلاة من سننها لإمامة الصلاة، وإن كان مخالطاً للعلماء، ويستفيد منهم ما احتاج إليه من الفقه، لأن ذلك ولاية وهو ليس من أهلها، وإذ قد اشترطوا في الخارص أو الساعي أو الجارح أن يكون فقيهاً فيما ولي عليه، فأولى في نصب الإمام أن يكون فقيهاً بالصلاة، وقد عمت البلوى بتولية العوامّ الجهال في كثير من المساجد، فيجب إنكار ذلك ورفعه إلى ولاة الأمور. (مسألة): يجب منع الأبرص والمجذوم من الجماعة ومن مخالطة الناس، سواء الإمام وغيره ممن قدر على ذلك، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (مسألة): تستحب إعادة الصلاة مع جماعة مرة واحدة، فإن زاد على مرة فالظاهر من كلامهم أنه خلاف الأولى، فعلى الجواز يكون استغراق الوقت بالنوافل أولى من استغراقه بالمعادة وهو ظاهر. قلت: خالفه ابن حجر و (م ر) فقالا: لا تجوز في غير الجنازة إلا مرة واحدة. (مسألة): المعتمد أنه ينوي بالمعادة الفرض ولا تجزيه لو بان فساد الأولى. قلت: وافقه ابن حجر و (م ر) اهـ. (مسألة): لا يجوز لمن صلى الجمعة إعادتها ظهراً ولا جمعة مع من يصلي الظهر أو الجمعة، بأن جوّزنا التعدد أو أدركها بموضع آخر، إذ مبنى الجمعة على منع التعدد، قلت: خالفه ابن حجر في شرح الإرشاد فقال: تسن إعادة الجمعة جمعة مطلقاً لا إعادة الظهر جمعة إلا للمعذورين. (مسألة): لا يصح الاقتداء بمن يبدل حرفاً بحرف، أو يسقط بعض الحروف، كما هو الغالب في الأخنّ الذي يخرج القراءة من خيشومه، إلا لمن يساويه في الإبدال والإسقاط، وإذا تصدى(1/26)
هذا للإقراء وكان إقراؤه يورث فيمن يقرأ عليه الإبدال والإسقاط منعوا القراءة عليه. (مسألة): الصلاة خلف الفاسق مكروهة إلا أن لا يوجد غيره، ومن اشتهرت سرقته، فإن أقيمت بها بينة أو أقرّ بها كان فاسقاً، فإن سرق مستحلاً لذلك كان مرتداً يجب ضرب عنقه إن لم يتب، وتحرم الصلاة خلفه بل لا تصح، ولا يجوز للإمام تولية الفاسق الإمامة. (مسألة): لا تجب على الإمام نية الإمامة على الصحيح، وتنعقد صلاته فرادى، ولا ينال فضل الجماعة على الأصح، ومن فوائد الخلاف نية وجوب الإمامة في الجمعة والمعادة والمجموعة بالمطر والمنذورة جماعة إن كان إماماً، ووجوب نية الاقتداء إن كان مأموماً. (مسألة): تصح القدوة بالمخالف إذا علم المأموم إتيانه بما يجب عنده وكذا إن جهل، فإن أخلّ بواجب في عقيدة المأموم لم تصح القدوة به عند الشيخين، وتصح عند القفال، وقال الإمام المجتهد المطلق السبكي ما صححه الشيخان هو قول الأكثرين، لكن قول القفال أقرب إلى الدليل وفعل السلف اهـ. واعلم أن عقيدتنا أن الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة والسفيانين وأحمد والأوزاعي وإسحاق وداود وسائر أئمة المسلمين رضي الله عنهم على هدى من ربهم ويعتدّ بخلافهم حتى داود الظاهري خلافاً لمن استثناه. (مسألة): إمام المسجد الراتب أحق من غيره مطلقاً، ومحله في المسجد غير المطروق، أما هو وهو الذي جرت العادة بإقامة جماعة فيه بعد أخرى كمساجد الأسواق فلا تكره إقامة الجماعة فيه قبل صلاة إمامه الراتب وبعدها، نعم لو تعنت واحد وقصد الإيذاء والافتيات على الإمام الراتب الذي يواظب على الصلوات في أوقاتها، فكأن يعلم المصلين بالوقت الذي يصلي فيه قبل الإمام وكان ذلك ديدنه، والحال أن فعله يخل بالجماعة المواظبين مع الإمام الراتب ويفرقهم، حرم عليه ذلك لاشتمال تجمعه على مفاسد لم تجر العادة بها على الهيئة المذكورة، فلا يدخل ذلك في استثناء المطروق لا سيما وقد انضم إلى ذلك ما لا يشك أحد في المنع(1/27)
منه، والمتصدي لذلك مرتكب لخطر الفتنة الذي هو مؤدّ للقدح في مروءته، فإن عاند قصره الحاكم وكل من قدر على منعه. (مسألة): قوله : "ما يأمن الذي يرفع رأسه قبل الإمام" الخ، أي من السجود كما في رواية، قال ابن حجر في شرح البخاري: ويلحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن الفرق بأن السجود له مزيد مزية لقرب الساجد من ربه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء وهو ذكر أحد السببين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية، وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود فقيل يلحق به، ويمكن الفرق بأن الركوع والسجود مقصودان، ودخول النقص في المقصود أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام ملخصاً اهـ. (مسألة): إذا قارن الإمام في جميع أفعال الصلاة فاتته الفضيلة في الجميع، وإن قارن في بعضها فاتته في ذلك البعض. (مسألة): يكره ارتفاع موقف المأموم على إمامه وعكسه، إلا أن يكون مبلغاً عنه، فلا تكره الصلاة في المحل المهيأ للمبلغين للحاجة، وكذا لو حصل ازدحام ولم يجد المأموم إلا موضعاً مرتفعاً على الإمام للعذر. (مسألة): الانفراد عن الصف مكروه مفوّت لفضيلة الجماعة، وأما تقطع الصفوف وبعدها عما قبلها بحيث يمكن وقوف صف آخر بينهما فخلاف الأولى، ويبعد القول بتفويت الجماعة بترك تسوية الصفوف وسد الفرج وإدراك الصف الأول أولى من إدراك تكبيرة الإحرام، وإدراك الركعة الأخيرة أولى من الصف الأول، للخروج من خلاف الغزالي المصرح بأن فضيلة الجماعة لا تدرك بجزء بل بركعة. قلت: رجح ابن حجر فوات الفضيلة بتقطع الصفوف وتأخرها أكثر من ثلاثة أذرع. (مسألة): سجد إمامه للتلاوة وهو في أثناء فاتحته فسجد معه ثم أعادها من أولها، فركع الإمام قبل إتمامها عذر إلى ثلاثة أركان طويلة إن كان ناسياً أو جاهلاً أو ذا وسوسة خفيفة وإلا فلا. (مسألة): انتظر سكتة الإمام ليقرأ فيها الفاتحة فركع الإمام عقب فاتحته، كان حكمه حكم الناسي، أي(1/28)
فيعذر إلى ثلاثة أركان طويلة على المعتمد، خلافاً للزركشي والقماط، قلت: وافقه في التحفة والنهاية. (مسألة): إذا قام الإمام لخامسة وتحقق المأموم ذلك لم تجز له متابعته موافقاً كان أو مسبوقاً، ويجوز حينئذ مفارقته وانتظاره، وإن لم يعلم المسبوق أنها خامسة فتابعه فيها حسبت له.
باب صلاة المسافر
(مسألة): أرسل السلطان رسولاً إلى آخر لقضاء حاجة، فأقام عنده مدة لقضائها، ومراده الارتحال إذا قضيت، قصر في سفره إليه ورجوعه ومدة الإقامة عنده إلى ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج لا فيما زاد عليها، لكن بشرط أن يعرف الجهة التي هو فيها، ويعلم أنه لا يلقاه قبل مرحلتين، فحينئذ يقصر فيهما، وكذا فيما زاد عليهما خلافاً للخادم. قلت: وافقه في جواز القصر فيما زاد (م ر) وخالفه ابن حجر.
صلاة الجمعة(1/29)
(مسألة): إذا عرف شخص من أهل بلد أنهم لا يصلون الجمعة والحال أنها واجبة عليهم وتحقق الترك منهم جاز له أن يصلي الظهر أول الوقت، ولا يجب عليه التأخير حتى يضيق الوقت، نعم هو سنة، قلت: وافقه ابن حجر. و (م ر) اهـ. (مسألة): أهل بلد يخرجون عنها في بعض السنة إلى المصايف أو البادية، فإن كانوا ينقلون عنها بالكلية بحيث يطلق عليهم اسم السفر ولو قصيراً لم تنعقد بهم في بلدهم حينئذ، وإن لم يكونوا كذلك بأن يتركوا أموالهم بالمساكن انعقدت بهم، وصحت منهم في أماكنهم إن عد من البلد، كما لو لم يطلق عليهم اسم السفر أصلاً بأن كانوا في بساتين خارج البلد وإن خرجوا بأموالهم. (مسألة): أهل قرية تلزمها الجمعة لاستكمال شروطها فيهم، وكانوا يتركونها في بعض الأحيان فهم آثمون في ذلك، ولا يصح ظهرهم ولا الاقتداء بإمامهم، وإن علم المقتدي أنه يصلي الظهر لبطلانها حينئذ، نعم إن ضاق الوقت عن واجب خطبتين وركعتين انعقدت ظهرهم، وإن فرض في قرية تارة تجتمع فيها الشروط وتارة لا فدخل رجل والإمام في التشهد فلم يدر هل صلاتهم ظهر أو جمعة؟ فالأحوط نية الجمعة إن دلت القرائن ككثرة العدد، فإن بان أنها ظهر استأنف ولا يبني. (مسألة): إذا خرج أهل بلد منها لسبب واختطوا قرية قريبة من الأولى منفصلة عنها ولو بنحو ذراع بقصد استيطانها، ولم ينووا العود إلى بلدهم وبلغوا أربعين، لزمهم إقامة الجمعة في تلك القرية، فإن صلوها في البلد الأولى أجزأتهم وأثموا بذلك، قاله جماعة، وقال آخرون بالجواز. (مسألة): إذا اتصلت القريتان بحيث يعدان في العرف قرية واحدة امتنع تعدّد الجمعة حينئذ. (مسألة): مؤذن الجمعة ابتدع بدعة يوم الجمعة عند دخول الوقت، وإن دخل الناس فيتقدم أمام المنبر قبل دخول الخطيب، ويطلب من الحاضرين الفاتحة لجمع من الناس بعددهم، وكان ذلك يفوت فضيلة أول الوقت، زجر عن فعله ذلك، ومنع من بدعته. (مسألة): لا يجوز لمن صلى الجمعة إعادتها ظهراً ولا(1/30)
جمعة مع من يصلي الظهر أو الجمعة، بأن جوّزنا التعدد أو أدركها بموضع آخر، إذ مبنى الجمعة على منع التعدد. قلت: خالفه ابن حجر في شرح الإرشاد فقال: تسن إعادة الجمعة جمعة مطلقاً لا إعادة الظهر جمعة إلا للمعذورين.(مسألة): لو أمكن المعذور عن الجمعة في بلده لخوف نحو ظالم أو غريم إدراكها في غيرها مما يسمع منها النداء وجب عليه المضيّ بشرطه. (مسألة): إذا أتم الأربعون الجمعة في الركعة الثانية منفردين صحت، بخلاف ما لو انفضوا، لأن الشرط بقاء العدد إلى السلام. (مسألة): اقتدى بإمام الجمعة بعد رفع رأسه من ركوع الأولى، ثم أحدث الإمام فاستخلف، فأظهر الأقوال جواز ذلك فعليه يتمونها جمعة، وأما هو فالصحيح المنصوص أنه يتمها ظهراً، لأن ما بعد ركوع الأولى حكمه حكم الركعة الثانية. قلت: وافقه ابن حجر و (م ر) اهـ. (مسألة): مسبوق أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فقام ليأتي بالثانية فاقتدى به آِخر لم يكن مدركاً للجمعة بل يتم ظهراً خلافاً لابن أبي ريف. قلت: وافقه (م ر) وقال ابن حجر: يدرك بذلك الجمعة، وهكذا من أدرك ركعة مع هذا المدرك وهلم جراً حتى يخرج الوقت اهـ. (مسألة): شخص ممن تلزمهم الجمعة أتى والإمام في الركعة الثانية منها ولم يبق من الوقت ما يسع مجزي ركعتين أحرم بالظهر ابتداء، ولا معنى لإحرامه حينئذ بالجمعة، لأن من شروطها بقاء الوقت يقيناً. (مسألة): ينبغي للمرقي يوم الجمعة أن يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي : "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت" ذكره السبكي في الطبقات استطراداً. (مسألة): يستحب للخطيب لبس الطيلسان، وصرح القاضي بأنه يستحب لكل مصل أن يتعمم ويتطيلس وهو شعار أكابر العلماء، ويستحب رفع اليدين في الدعاء بعد الخطبتين سواء الخطيب وغيره، نعم إن خاف السقوط بسبب الرفع تركه. (مسألة): لا يشترط قصد الآية في الخطبة، بل لو قصد بالآية الوصية وقراءة الآية انصرف للآية، وكذا(1/31)
لا يشترط قصد بقية الأركان، بل الشرط عدم الصارف، ولا يشترط للخطبة نية كما جزم به في العباب، ولو ترك الخطيب الآية وجلس للفصل فلما قام تذكر فقرأها ثم جلس ثانياً كان جلوسه الأول للفصل، لأن الأصح أن الآية لا تتعين في الأولى، وجلوسه الثاني قاطع للموالاة إن طال. (مسألة): قال ابن عبد السلام: ذكر الصحابة والخلفاء الراشدين والسبطين والسلاطين بدعة غير محبوبة، فينبغي الاقتصار في الصلاة على رسول الله على ما صح في الحديث، وصح أنه نص على أزواجه وذريته وآله في الصلاة عليه اهـ. قال السمهودي: وفيه نظر لأنه صار شعاراً ظاهراً يورث تركه سوء أدب تاركه، وتخصيص الكراهة بما إذا جازف في وصف السلاطين، بل قال الفارقي وغيره في زماننا: تركه يفضي إلى ضرر وفساد، فيستحب لدفع الضرر فقط، ويقيد بما إذا لم يقطع نظم الخطبة بأن لا يطول إطالة تقطع الموالاة ولم يصفه بما ليس فيه. (مسألة): يسن لمستمع الخطبة رفع الصوت بالصلاة على النبي، ومثلها الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم عند ذكرهم بحيث يسمع نفسه، ويكره زيادة الرفع لأنها تقطع عن سماع الخطبة، ويكره أيضاً ترك الصلاة عليه عند ذكره لحديث: "رغم أنف رجل" الخ، بل أوجب ذلك بعض علماء المذاهب الأربعة وهو المختار، وإذا جرى في الخطبة ذكر اسم الله تعالى جاز للمستمع أن يقول: جل الله أو عز الله ونحوه تعظيماً، إذا لم يكن فيه قطع لسماع واجب الخطبة ممن يعتبر سماعه. (مسألة): يكره الاحتباء حال الخطبة، وكذا حال دراسة القرآن العظيم ومجالس العلم، لأنه يجلب النوم وينافي هيئة الخشوع، نعم إن كان يعلم من نفسه عادة أن الاحتباء يزيد في نشاطه فلا بأس به حينئذ.
صلاة الخوف
(مسألة): لا يستحب حمل السلاح في صلاة الخوف إلا إذا كان في تركه خطر، لأنه لم ينقل عن السلف حمله إلا في حال الاحتياج إليه، بل لو خاف تعرض الهلاك ظاهراً لو تركه وجب الأخذ قطعاً.
باب اللباس(1/32)
(مسألة): نقل الطبري عن ابن الحاج أنه قال: وردت السنة بالرداء أو العمامة والعذبة، وكان الرداء أربعة أذرع ونصفاً أو نحوها، والعمامة سبعة أذرع أو نحوها ويخرجون منها التلحية، أي ما يخرج تحت اللحية والعذبة والباقي عمامة. وحكى الحافظ ابن حجر عن الواقدي أن طول ردائه ستة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبران في عرض ذراعين وشبر، وذكر ابن بريدة في ذرع الرداء كالذي ذكره الواقدي في الإزار والأوّل أولى. وعن ابن الزبير أن طول ردائه أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر، ويحمل اختلافهم على اختلاف الأحوال. (مسألة): حظي ثوبه بحرير وجعل فيه قليل ذهب لا يحصل منه شيء بالعرض على النار حرم لبسه، والفرق بينه وبين الأواني أن الثوب ملبوس متصل بالبدن. (مسألة): كان نقش خاتمه محمد رسول الله ثلاثة أسطر، وظاهر السياق أنه على هذا الترتيب، وأما قول بعضهم: إن محمداً سطر أسفل ورسول فوقه والله السطر الأعلى فلم أر التصريح به في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، والأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الخاتم مستوياً، وورد النهي عن فعل مثله لكن في حياته وكذا بعده إن كان مقلوباً لما فيه من التشبه به لا سيما، وقد قال بعض العلماء: كان في خاتمه شيء من السر الذي في خاتم سليمان عليه السلام فافهم، والذي صنع الخاتم ونقشه له يعلى بن أمية.
باب العيد
(مسألة): مذهبنا فيما إذا اجتمع عيد وجمعة سقوط الجمعة عمن حضر العيد من أهل القرى، ولا تسقط عن أهل البلد، وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد: تسقط حتى عن أهل البلد، ونقل عن عليّ كرم الله وجهه وابن الزبير وعطاء سقوط الجمعة والظهر، ولا تجب إلا لعصر ذلك اليوم، وقال أبو حنيفة: تجب الجمعة على الكل وإن حضر العيد.
الجنائز(1/33)
(مسألة): لا يكون الزوج موسراً بما ورثه من مال زوجته، بل إن لم يكن له مال كفنت من مالها من أصل التركة لا من خصوص نصيبه، كما قاله أبو حميش والردّاد وولده، خلافاً للجوهري وابن شكيل والقماط. قلت: وافق الأوّلين ابن حجر وخالفهم (م ر) اهـ. (مسألة): في فتاوى ابن الصلاح يحرم كتابة شيء من القرآن على الكفن صيانة له عن الصديد، وقال السمهودي: وقد روي عن طاوس أنه أمر بكتابة دعاء العهد الذي يسن دبر كل صلاة وهو: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إلى الميعاد، فكتب في كفنه، فإن ثبت عنه هذا فيبعد فعله له من غير توقيف بلغه اهـ. (مسألة): قوله في حديث جابر في قتلى أحد كان يجمع بين الرجلين في ثوب واحد، حمله شيخنا الربيع على أنه كان يشقّ الثوب بينهما، وسبقه إليه ابن النحوي وابن حجر، ولا يلزم من جمعهما في ثوب تلاقي بشرتيهما كما لا يخفى، ويمكن حمل ذلك على ضيق الحال، فإن الجمع حينئذ أولى من عدم تكفين البعض، وينبغي حمله على تبرع شخص بكفن الجميع، وإلا فمن وجد له ما يجب تكفينه به ولم يوجد للآخر يبعد جواز اشتراكه في كفن الأوّل. (مسألة): الحكمة في كون الميت لا يكفن في الحرير أن تكفينه في غير لائق بالمقام، وإنما جوّز للمرأة استصحاباً، ولو قيل بتحريمه فيها لكان وجه الحكمة فيه ظاهراً، ويكره كتابة شيء من القرآن على القبر. (مسألة): المذهب ندب المشي أمام الجنازة للاتباع، وظاهر إطلاق الأصحاب أنه لا فرق بين كون الميت صغيراً أو كبيراً وقولهم لأنهم يعني المشيعين شفعاء لا يقتضي تخصيص ذلك بالكبير، لأنهم شفعاء في الجملة مع ما فيه من الاتباع ويستحب أن يعقد الملقن عند رأسه إي تلقاء وجهه، وأما الحاضرون فيستحب حضورهم التلقين والوقوف. (مسألة): نطق مميز من أولاد الكفار بالشهادتين، وخالط المسلمين وتزيا بزيهم مواظباً على الصلوات والصوم وقراءة القرآن، ثم مات قبل البلوغ لم تجز الصلاة عليه فضلاً عن أولويتها، إذ جواز(1/34)
الصلاة عليه متوقف على الحكم بإسلامه، والمعتمد الذي صححه الجمهور عدم صحة إسلامه، ووجهه أن الإسلام رأس العبادات وأصلها، وصحة العبادة موافقتها للأمر، والأمر بالإسلام لا يتوجه على نحو الصبي، إذ لا خطاب يتعلق بفعل غير البالغ العاقل، فكيف يوصف إسلامه بالصحة مع عدم الأمر، وإنما صحت صلاة الصبي ونحوها لتوجه الأمر المتعلق بالولي إليه بواسطة ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه وهي نوافل، والإسلام لا ينتفل به، فلا يتعلق به إلا الأمر الجازم الخاص بالبالغ، وأما إسلام عليّ كرم الله وجهه فإن الأحكام علقت بالبلوغ عام الخندق، وأما قبل ذلك فكانت منوطة بالتمييز. (مسألة): روى الشيخان: "الطاعون شهادة لكل مسلم" وفي البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم به ـ يعني الطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا فراراً منه". وورد: "الطاعون شهادة لأمتي، وخز أعدائكم من الجن، غدّة كغدة الإبل يخرج في الآباط، والمراق، من مات منه كان شهيداً، ومن أقام فيه كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فرّ منه كان كالفارّ من الزحف" قال الحافظ ابن حجر: وزعم بعضهم أن النهي للتنزيه، وقال بعضهم: يحرم لظاهر الأحاديث وهذا أرجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد وجعله كالفرار من الزحف، وأن الصابر المحتسب له أجر شهيد، ومن مات به كان شهيداً، ويستنبط من الحديث أن من صبر واحتسب ثم وقع به الطاعون كان له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب، كمن يموت غريباً بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيداً بوقوع الطاعون به، ويضاف إليه مثل أجر الشهيد بصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء وأجر الشهادة شيء، ويحصل أجر الشهادة لكل مسلم ولو غير مكلف، وإن كان عاصياً مصرّاً، كما هو الأقرب من احتمالين، وتكفر عنه السيئات غير التبعات، فتبقى عليه وهل يعدي؟ قال الطيبي: وأما ما ثبت(1/35)
عنه أنه قال: "لا عدوى" فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من العيوب سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال : "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" وغير ذلك من الأحاديث. (مسألة): دخل حربي دار الإسلام فقتل مسلماً اغتيالاً فليس بشهيد، بخلاف ما لو قاتله حتى قتل، ولو وقع شخص بين كفار فهرب منهم فقتلوه فليس بشهيد أيضاً، وإذا التقى المسلمون والكفار فتقاتلوا بالبنادق والسهام من بعيد فمن قتل من المسلمين فهو شهيد، إذ يطلق عليه أنه قتل في قتال الكفار. (مسألة): قولهم: ولا ينحى سابق لأولى محله في غير الأنبياء، أما لو حضر نبي كعيسى عليه السلام فيقدم وإن تأخر، لأن فضيلته قطعية وتصويره بعيد، لأنه يجب أن تدفن الأنبياء في موضع موتهم فكيف ينقلون؟ وورد أنه يدفن عند النبي، وأما كيفية وضع يد الميت في اللحد فلم أر من ذكرها، والأولى أن توضع اليمنى على الأرض مبسوطة وبطن كفها إلى السماء، وتبقى الأخرى على صدره على حالها حال التكفين، أذ لا يخاف سقوطها. (مسألة): إذا تعينت صلاة الجنازة على الخناثي فالظاهر أنه لا يسقط الفرض بصلاة البعض عن الباقين لاحتمال أنوثته وذكورتهم. (مسألة): دفن شخص قتله الكفار من غير غسل ولا صلاة بزعم أنه شهيد مع أنه ليس كذلك لجهل الدافنين بالحكم، وجب نبشه للغسل على المعتمد، فإن وجد منتفخاً أو منتناً وعسر إخراجه يمم بناء على الأرجح أنه ينبش للتيمم كالغسل. (مسألة): دفن ميت بأرض التركة فباعها مالكها ولو وارثه لعالم بذلك لم يخير، ثم لو نقله نحو سيل لم يجبر المشتري على إعادته بمحله الأول إلا لضرورة، بأن لم يوجد مكان غيره يصلح للدفن، وفارق ما لو أعار أرضاً للدفن فإن الميت يعاد إذا أظهره نحو سيل ما لم يبل، لأن المشتري لم يأذن في الدفن بخلاف المعير. (مسألة): الصحيح أن السؤال في القبر من خواص هذه الأمة، وهو معدود من(1/36)
خواصه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "فأما فتنة القبر فيَّ تفتنون وعني تسألون" وكانت الأمم قبله تأتيهم رسلهم، فإن أطاعوا فذاك، وإن اعتزلوهم عوجلوا بالعذاب، ولما كان إرسال نبي هذه الأمة رحمة للعالمين، أمسك عن عذابها، وقبل منهم الإسلام ممن أظهره، سواء أسر الكفر أم لا، فإذا ماتوا قيض الله لهم فتانَي القبر يستخرج بهما سرهم، والحكمة فيه ما فيه من إظهار إيمان المؤمن وتمحيص ذنوبه، قال بعضهم: من فعل سيئة فالعقوبة تدفع عنه بعشرة أشياء: أن يتوب فيتوب الله عليه، أو يستغفر فيغفر الله له، أو يعمل حسنات فينجو بها، أو يبتلى بالمصائب في الدنيا فيكفر عنه، أو في البرزخ بالضغطة والفتنة فيكفر عنه، أو يدعو له إخوانه من المؤمنين ويستغفرون له، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه، أو يبتلى في عرصات القيامة بأهوال تكفر عنه، أو تدركه شفاعة نبيه أو رحمة ربه. (مسألة): من لم تبلغه الدعوة من الكفار وصبيان الكفار ومجانينهم فيهم أقوال كثيرة أقواها قولان: أحدهما أنهم من أهل الجنة مطلقاً من غير امتحان لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار. والثاني ونقله الحافظ ابن حجر عن جمع، وحكى عن الأشعري وغيره أن أولاد المشركين يمتحنون في الآخرة، بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، من أبى عذب، روي ذلك عن أنس وأبي سعيد ومعاذ، وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب الاعتقاد أنه المذهب الصحيح ولا مانع من ذلك. (مسألة): جمع يجلسون يقرأون القرآن ويحضرون المقدمات التي فيها أجزاء القرآن العظيم، ثم يقوم بعض من يتغانى بذلك ويرفع المقدمات، ثم يتبعون ذلك بالدعاء. الأدب إبقاء مقدمات حال الدعاء عقب قراءة القرآن ليكون متشفعاً به في قبول الدعاء، وكذلك الأدب في حمل المقدمات أمام الجنازة إذا حملت للتبرك، والشفاعة بها إلى الرب(1/37)
جل وعلا أن تكون أمام المشيعين والميت تعظيماً للقرآن، وهو اللائق بحال الشافع، إذ يتقدم أمام المشفوع، والقرآن شافع للجميع كما وردت به الأخبار. (مسألة): لا مانع من الجمع بين الأختين في الآخرة حتى في حق بنات الأنبياء، كما فعل عثمان رضي الله عنه، بأن يتزوج إحداهما وتموت في عصمته، ثم يتزوج الثانية وتموت، أو يموت وتبقى بلا تزوّج حتى تموت، لأن الله قد أذهب الغل والتحاسد الذي بسببه حرم الجمع في الدنيا، وإن كان من خصائصه أنه لا يجوز لأزواج بناته التزوّج على بناته لما ذكرنا من سبب التحريم، وإذا تزوج المرأة زوجان فأكثر فتكون لآخر الأزواج لما ورد في الأحاديث والآثار أنها لآخر أزواجها، ولا ينافي ذلك ما ورد عن أم حبيبة أنها قالت: يا رسول الله، أرأيت المرأة منا ربما يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان فيدخلون الجنة لأيهما هي؟ قال: "لأحسنهما خلقاً، كان عندها في الدنيا" الخ، لأن ذلك خرّج مخرج المآل، أي لأن حسن خلقه كان سبب دوام الألفة والمحبة فلا يفارقها، وإن مات حزنت عليه ولم ترغب في غيره، أو أن سؤالها كان كناية لتعلم هي لمن في الآخرة، فأجابها إطلاعاً منه على ذلك، ولا ينافيه أيضاً ما ورد في صلاة الجنازة وأبدله زوجاً خيراً من زوجه بأن يراد به ما يعم إبدال الذات وإبدال الصفات.
الزكاة(1/38)
(مسألة): الزكاة أحد أركان الإسلام، بل هي أخت الصلاة وقرينتها، حتى قال الصدّيق الأكبر رضي الله عنه: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فمن جحد وجوبها كفر وقتل بكفره، ومن منعها بخلاً واعتقاداً أن ما يدفعه إلى الظلمة وأهل المكس مجزىء عن الزكاة كما هو مشاهد، فهو فاسق مرتكب الكبيرة مردود الشهادة، حتى يتوب التوبة المعتبرة شرعاً، ويجب على الإمام أخذها منه قهراً، وما يدفعه الزراع وأهل النخل من العاشرة بنية الزكاة لا يجزيهم ذلك أبداً ولا يبرأون عن الزكاة، بل هي واجبة على من وجبت عليه. (مسألة): تقدم الزكاة مطلقاً على دين الآدمي المسترسل في الذمة، أما الدين المتعلق بمال الزكاة تعلقاً سابقاً عليها كالمرهون والمحجور فيقدم قطعاً، هذا في سورة كون الزكاة ديناً مسترسلاً في الذمة لتلف النصاب بعد التمكن، أما إذا كان النصاب باقياً فالزكاة مقدّمة على ما ذكر أيضاً. (مسألة): مذهبنا وجوب الزكاة في مال المحجور عليه بصبا أو جنون أو سفه، فيجب على وليه كقاض إخراجها منه، بل يضمن بتركه وإن نهاه الإمام، إذ العبرة بعقيدة الولي لا المحجور، فحينئذ لا يضمن الولي إذا أخرجها على عقيدته لا عكسه، ولو أودع مالاً زكوياً لم يجز إخراجها، فلو صار المحجور عليه فاستحفظ الوديع أو وارثه قاض عليه لم يخرجها أيضاً إلا إن أقامه القاضي على المال، وحينئذ يجب عليه البحث عن المال المودع ليتمكن من الإخراج. (مسألة): المذهب عدم جواز نقل الزكاة إلا لحاكم إلى بلد داخل تحت ولايته، كما يجب صرفها إلى الأصناف الثمانية وإن عسر، لإمكانه التخلص منه بالخلط وإن لم يجب، فمن اختار الإفتاء بغير ذلك وهو مجتهد فقد راعى المشقة، ويجوز تقليده في النقل وفي الصرف إلى ثلاثة أو واحد، وليس من تتبع الرخص، نعم إن خاف من إظهار الزكاة من ظالم جاز النقل مطلقاً، وينبغي أن يلحظ التقليد لمن يراه فهو واسع شائع. (مسألة): اشترى نخلاً بعد بدوّ صلاحه لزم(1/39)
البائع زكاته، قلت: معنى لزومها أنه إن أخرجها منه أو من غيره قبل البيع أو قال: بعتك هذا إلا قدر الزكاة وعرفاه صح البيع في الأولى في الجميع، وفيما عدا قدرها الثانية بكل الثمن، وإن باعه الكل ولم يستثن صح فيما عدا قدرها في الأصح بحصته من الثمن، وليس للمشتري أن يخرج الزكاة بغير إذن البائع فليتنبه لذلك اهـ. (مسألة): ظاهر الأدلة يقتضي فضيلة النخل على العنب، ففي الصحيح تشبيهها بالمسلم، وفيه أن من الشجر ما بركته كبركة المسلم، وبركة النخل ظاهرة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، والنخل مقدم في جميع القرآن على العنب، وانظر ما فائدة الأفضلية إذ هي ترجع إلى الثواب، وقد يقال عليه: إن غرس النخل أفضل من غرس العنب لعموم نفعه. (مسألة): قال لآخر: استقم لي على أرض، وأخرج عشر الغلة، وأعط الحاضرين منه، وخذ ما فضل، ففعل ذلك وأخذ الفاضل ثم دفعه إلى صاحب الغلة بدين له عليه، لم يصر الفاضل بمجرد ما ذكر زكاة لاتحاد القابض والمقبض، بل هو باق بملك مالكه، ولا يجوز دفعه عن الدين، بل الزكاة والدين باقيان بحالهما. (مسألة): حصة الأوقية المعروفة بزبيد تسعة دراهم إسلامية وثلث درهم وسبع درهم، والرطل البغدادي على طريقة الشيخ النووي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وهو بأواقي زبيد ثلاث عشرة أوقية ونصف، والمد رطل وثلث، فيبلغ ثمان عشرة أوقية، والصاع الذي هو أربعة أمداد اثنتان وسبعون أوقية، والثلثمائة الصاع بأواقي زبيد 21600، إذا علمت ذلك وعرفت أن المدّ على طريقة النووي ثمان عشرة أوقية بأواقي زبيد، وعرفت أن الربيعة الزبيدية ثمان عشرة أوقية بأواقي زبيد أيضاً، ظهر لك أن المد ربيعة، وأن الصاع أربعة ربيعات، وهو الزبيدي في عرف أهل زبيد، وأن الوسق ستون صاعاً، فيكون مجموع الوسق ستة أثمان بأثمان زبيد الذي كل ثمن عشرة آصع، وأن النصاب الزكوي خمسة أوسق، فيكون ذلك ثلاثين ثمناً، وهو النصاب الزكوي، هذا(1/40)
تحريره على طريقة النووي. وأما على طريقة الرافعي فالرطل مائة وثلاثون درهماً، فيزيد في المدّ خمس أوقية، فالأحوط في الفطرة طريقة الرافعي، ويزيد على الزبيدي أربعة أخماس أوقية، والأحوط في الزكاة طريقة النووي. (مسألة): جرت عادة الملوك ونوابهم بمسامحة العلماء والصلحاء في أراضيهم ونخيلهم، احتراماً لهم ودفعاً لما ينالونه من الولاة والعمال من المطالبة بالديوان، ومعنى المسامحة المذكورة أن المسامحين يتولون تفرقة عشر أراضيهم ونخيلهم على نظرهم على ذوي رحمهم ومن يستحق ذلك، وهذا أمر جائز لا شك في جوازه، وقواعد الشرع تقتضيه، فلو تعرض لهذا المسامح رجل وزعم أنه ضامن العشر وطلب تسليم عشر نخله حرم عليه ذلك، فلو أن المسامح صالحه على مال لبعد ولي الأمر عنه لم يستحقه ووجب رده إليه، وأثم هو ومن أعانه إثماً شديد، وإذا رفع الأمر إلى الحاكم وجب قصره عن ذلك، وبيان أن لا حق له ولا مطالبة بشيء. (مسألة): طريق استخراج الزكاة فيما إذا أخرج مائة دينار مثلاً، ومضت على ذلك ثلاثون سنة بالقاعدة الحسابية، يعلم بما ذكره ابن الهائم في معونة الطلاب فقال: مائة مثقال من الذهب حبس زكاتها خمسة أعوام كم الواجب؟ فمعلوم أن الواجب في السنة الأولى ربع عشر المائة، وفي الثانية ربع عشر الباقي، وفي الثالثة ربع عشر الباقي بعد الواجبين الأوّلين وهكذا، فالعمل أن يحصل مخرج هذه الكسور الخمسة، فيكون نسبة قسطها إلى مخرجها كنسب المطلوب إلى المائة، إلى آخر ما أطال به الأصل. (مسألة): أفتى البلقيني بجواز إخراج الفلوس الجدد المسماة بالمناقير في زكاة النقد والتجارة وقال: إنه الذي أعتقده وبه أعمل وإن كان مخالفاً لمذهب الشافعي، والفلوس أنفع للمستحقين وأسهل، وليس فيها غش كما في الفضة المغشوشة، ويتضرر المستحق إذا وردت عليه ولا يجد لها بدلاً اهـ. ويسع المقلد تقليده لأنه من أهل التخريج والترجيح، لا سيما إذا راجت الفلوس وكثرت رغبة الناس فيها، وقد(1/41)
سلف البلقيني في ذلك البخاري وهو معدود من الشافعية، فإنه قال في صحيحه باب العروض في الزكاة، وقال طاوس: قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي بالمدينة اهـ. قال شارحه ابن حجر: باب العرض أي جواز أخذ العرض بسكون الراء ما عدا النقدين، ووافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن ساقه إلى ذلك الدليل اهـ. ولا شك أن الفلوس إذا راجت رواج النقدين فهي أولى بالجواز من العرض لأنها أقرب إلى النقود، فهي مترقية عن العرض، بل قضية كلام الشيخين وصريح كلام المحلي أنها من النقد، وحينئذ فسبيل من أراد إخراجها تقليد من قال بجوازه، ويسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى ويبرأ عن الواجب، وقد أرشد العلماء إلى التقليد عند الحاجة، فمن ذلك ما نقل عن ابن عجيل أنه قال: ثلاث مسائل في الزكاة يفتي بهن بخلاف المذهب، نقل الزكاة ودفعها إلى صنف واحد، ودفع زكاة واحد إلى واحد، ومن ذلك ما في الخادم أنه إذا انقطع خمس الخمس عن آل النبي جاز صرف الزكاة إليهم عند الاصطخري والهروي والرازي وغيرهم، ومن ذلك ما أفتى به السبكي في بيع النحل بالكوارة بما فيها من شمع وعسل مجهول القدر والصفة إذا عمت البلوى، بأن البيع الغائب قد صححه أكثر العلماء وأتباعهم، ومثل هذا للفقير لا بأس به لأنه قول الأكثرين، والدليل يعضده، ولاحتياج غالب الناس إليه في أكثر الأموال الخ. ومن ذلك ما حكي أن الأمام الطبري لما أراد أن يكبر في بعض الصلوات إذا بطائر قد ذرق عليه فقال: أنا حنبلي وأحرم، ومعلوم أنه كان شافعياً يجتنب الصلاة بذرق الطائر.
الفطرة(1/42)
(مسألة): تجب زكاة الفطر في الموضع الذي كان الشخص فيه عند الغروب، فيصرفها لمن كان هناك من المستحقين، وإلا نقلها إلى أقرب موضع إلى ذلك المكان، ولا يجزئه المعجل لو كان قد عجلها والحالة هذه بل يخرج ثانياً، نعم لو كان حين الغروب بموضع لا فقراء فيه وكان المكان المعجلة هي فيه أقرب المواضع إليه أجزأه حينئذ.
قسم الصدقات
(مسألة): قول العباب في مبحث ابن السبيل: ولا إن سافر للكدية فلا يعطى، والكدية هي السفر بلا غرض كما أفتى به القفال فإنه قال: لا يجوز صرف سهم ابن السبيل إلى الصوفية، لأن سفرهم لا غرض فيه لأنهم يسافرون للكدية اهـ. (مسألة): لا يجوز إعطاء من يستخدمه بالنفقة والكسوة باسم الفقر والمسكنة وإن لم يجز عقد إجارة، لأنهم مكفيون بنفقة وكسوة، نعم له أن يعطيهم من سهم الغارمين بشرطه.
صدقة التطوّع(1/43)
(مسألة): تصدق على سائل ملحّ ولو ترك الحاجة لم يعطه، لكن نوى عند التصدق وجه الله تعالى، فهذا قريب من نية التبرد مع نية رفع الحدث، والظاهر كما قال السمهودي ما حققه الغزالي من أنه إذا قارن نية العبادة باعث آخر فلا يخلو إما أن يكون موافقاً أو مقارناً أو مشاركاً، فالموافق كمن له غرض في الصوم والحمية الحاصلة من الصوم للتداوي، وكل منهما لو انفرد لاستقل، فهذا يرجى أن يثاب لكن لا يقع موقع الرضا. والمقارن كما إذا كان يأتي بالعبادة بتكلف، فإذا رآه الناس خف عليه، فهذا ينقص من ثوابه بقدر خفة العبادة. والمشارك كمن يعمل لأجل الثواب ولأجل الناس، ولو انفرد كل منهما لم يعمل، فهذا لا شك في بطلانه وإحباط ثوابه، إلا أن يكون باعث أحدهما أقوى، فيثاب أو يأثم بقدر حاله. ويتلخص من كلامه في مواضع أخر أنه إذا كان الباعث الدنيوي هو الأغلب فلا ثواب، أو الديني فله ثواب بقدره، وإن تساويا تساقطا، ولو تصدق على فقير لفقره أو على قريب من غير إحضار نية وجه الله تعالى فالأليق بكرم الله تعالى أن يثاب على ذلك، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله تعالى ازداد أجره بذلك، وقال ابن دقيق العيد: لا ثواب في الإنفاق على نحو الزوجة إلا إن ابتغى به وجه الله تعالى. (مسألة): يجوز أخذ مال السلطان إذا لم يتحقق أن المأخوذ حرام، وإن كان أكثر ماله حراماً، كما نقله النووي عن الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم قال: وشذ الغزالي في الإحياء بقوله: إنه يحرم مبايعة من أكثر ماله حرام، وأخذ المال من السلطان إذا كان أكثر ما في بيت المال حراماً كما هو الغالب، وفي الأنوار تفصيل في جواز الأخذ حاصله أنه إذا كتب السلطان إدراراً لفقيه أو غيره إن كان على نحو جزية وكان من أهل الفيء أو على ميراث مما هو بيت مال حل، وإن كان على نوع المكس فحرام الخ اهـ
الصوم(1/44)
(مسألة): المعتمد أن العبرة في البعد باختلاف المطالع، فقد يكون اختلاف المطالع في دون مسافة القصر، ونقل الناشري عن يوسف الحباني أن مطلع تعز وعدن وزبيد وصنعاء واحد وقد رصدوا ذلك وحققوه. (مسألة): إذا شهد العدل أثناء رمضان بتقديم الرؤية على صوم الناس وجب الأخذ بقوله ولزم قضاء يوم، كما قاله السمهودي خلافاً للزركشي. ومن فوائد قبول الشهادة غير ما ذكر معرفة ابتداء وقت القنوت وصحة الإحرام بالحج في اليوم المحكوم بأنه من شوّال بالشهادة المذكورة وزكاة الفطر وغيرها، ولو صام أهل بلد الجمعة مثلاً، ثم نبت أثناء الشهر أن أهل بلد أخرى شرقية صاموا الخميس، لزم أهل البلد الغربية قضاء يوم اتحد مطلعهما أم لا، لما ذكره الإمام المجتهد الزركشي من أن رؤية الهلال في البلد الشرقية مستلزم رؤيته في الغربية ولا عكس، وذلك لأن سير القمر معاكس سير الشمس ولزمهم فطر السبت وإن لم يروا الهلال، قلت: اعتمده ابن حجر في الفتاوى. (مسألة): بلدان متحدا المطلع صام أهل واحدة قبل الأخرى، ثم ثبت عند حاكمها صوم أهل تلك قبلهم لزمهم الفطر قبل تمام العدة وقضاء اليوم الأول وقضاؤه على الفور، كمن فاته الحج كما نقله المتولي، وإن نظر فيه بعضهم، ولا يكون يوم شك لأن يوم الشك أن يرى الهلال عدد يردّ أو تشيع رؤيته. (مسألة): إذا تقارن الإيلاج ونحو الأكل لم تجب كفارة كما قاله الزركشي والرداد لأنها تسقط بالشبهة. (مسألة): لا يبطل صوم ولا صلاة من فتح فاه حتى دخل دخان البخور أو غبار الطريق أو غربلة الدقيق وإن تعمده كما قاله الشيخان، إلا إن قصد وصوله جوفه. (مسألة): مذهبنا أن الصوم للمسافر أحب إن لم يتضرر به براءة للذمة ومحافظة على الوقت، ولأنه الأكثر من فعله وإلا فبالعكس، ويؤخذ من حديث: "ليس من البر" الخ كراهة الصوم لمن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي إلى ترك ما هو أولى من القربات وعليه ينزل الحديث. (مسألة): من سنن الصوم كف نفسه عن الشهوات من(1/45)
المسموعات والمبصرات والمشمومات والملابس بكف الجوارح وإن كانت مباحة فهو سرّ الصوم ومقصوده الأعظم لتنكسر نفسه عن الهوى وتقوى على التقوى بكفّ الجوارح عن تعاطي ما تشتهيه، بل يكره شم الرياحين، ولا يفطر بشمها وشم ماء الورد، لأن المفطر وصول عين جوفه، والريح ليس بعين بشرطه السابق في نحو الغبار. (مسألة): يستحب التطيب لمريد الصوم قبل طلوع الفجر قياساً على مريد الإحرام، وعلى السواك قبل الزوال.
الاعتكاف
(مسألة): المضاعفة المختصة بمسجده بالموجود في زمن فيه قاله النووي والسمهودي المعتمد أنها تعم ما زيد بعده، ونقله عن ابن تيمية والطبري، وليست مسألة الحلف على أن لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه من هذا، لأن الأيمان يلحظ فيها العرف اهـ. والأصح عند النووي أن تضعيف الصلاة يعم جميع الحرم المكي ولا يختص بالمسجد ولا بمكة. قلت: وافق النووي ابن حجر فيهما لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة في مسجدي هذا" الخ اهـ.
الحج
(مسألة): إذا بذل الوالي أو آحاد الرعية للرصدي المال الذي يطلبه من الحاج وجب عليهم الحج، ولا يقال: إن في بذل الآحاد منة، إذ لا نظر إليها فيما يتعلق بالأمور العامة، لأنه إذا بذل عن جميع الحاج ضعفت المنة جداً بالنسبة لكل فرد، بحيث لا يمنع ذلك الوجوب، ومن مات والحالة هذه وجب أن يقضي من تركته إن كان مستطيعاً. (مسألة): إذا ملك من العقار غير مسكنه المعتاد وما يكفيه إذا باعه لمؤنة الحج ذهاباً وإياباً لزمه بيعه وإن بقي مسكيناً. (مسألة): يجوز أن يحج عن ميت غير مستطيع وإن لم يوص به، كما أشعر به كلام الرافعي، ويقع عن حجة الإسلام ويثاب الحاج المتطوّع على ذلك.(1/46)
(مسألة): يجوز للمستطيع تأخير النسك بعد سنة الإمكان بشرط العزم على الفعل في المستقبل كما في الصلاة، فلو مات بعد انتصاف ليلة النحر ومضى إمكان الرمي والطواف والسعي إن دخل الحاج بعد الوقوف مع اعتبار ما يسع زمن الحلق أو التقصير مات عاصياً لاستقرار الوجوب عليه، ولأنه إنما جوّز له التأخير لا التفويت، فيلزمه الإحجاج من تركته، ويتبين عصيانه من وقت خروج الناس إلى الموت، ويختلف ذلك في كل بلدة باختلاف خروج أهلها، فلو تمكن من الحج سنين ثم مات فالصحيح أنه من السنة الأخيرة، فيتبين فسقه فيها من حينئذ، هذا إن علم الحال وإلا لم يفسق، إذ شرط العصيان العلم، وحيث حكم بفسقه انسلبت عنه الولايات مما شرطه العدالة وينقض ما شهد به، وكذا أحكامه إن كان قاضياً، ويفرق بينه وبين ما ذكروه من عدم نقض أحكامه الواقعة بين العزل وبلوغ الخبر ببقاء الأهلية ثم لا هنا. ويفرق بين الحج والصلاة من عدم عصيان من مات والوقت يسعها بأن آخر وقتها معلوم، فلا تقصير ما لم تؤخر عنه، والإباحة في الحج بشرط المبادرة قبل الموت، وقولهم يزول عصيان المسافر يوم الجمعة من غير عذر بفواتها، فالمراد زوال معصية السفر حتى يكون سفره مباحاً، وابتداؤه من حينئذ لا ترك الجمعة، فلا تزول معصيته إلا بالتوبة بشرطها. (مسألة): شك بعد الفراغ من أعمال الحج هل أحرم أم لا لم يؤثر، كما إذا شك في نية الصوم بعد الغروب أفتى به القماط وغيره، وهذا بخلاف الشك في نية الصلاة أو الوضوء بعد فراغهما فإنه يؤثر خلافاً للسمهودي، لأن المشقة فيهما أخفّ منها في ذينك. (مسألة): من ركب البحر من جهة اليمن وحاذى يلملم من جهة البحر فهذا ميقاته، فإذا جاوزه إلى جهة جدة فقد ذكر أهل الخبرة أن مجاوزة ذلك ليست مجاوزة للميقات إلى جهة الحرم، بل إلى جهة يسار الميقات وهو لا يضر إلا إن كان إلى جهة الحرم، فإن صح ما قالوه وأحرم من جدة وكان بينها وبين مكة كما بين يلملم ومكة أو أكثر فلا دم(1/47)
عليه، وقد كتب بعض محققي مكة أن النشيلي مفتي مكة في عصره أفتى بذلك، وهو ظاهر إن كان كما ذكرنا فيكون هو منقول المذهب، قلت: رجح ابن حجر في التحفة وغيرها جواز الإحرام من جدة مطلقاً، لأن بينها وبين مكة مرحلتين، وخالفه بعض تلامذته.
(مسألة): يشترط علم المتعاقدين أعمال النسكين الواجبة أركاناً وغيرها، فلو جهلها المستأجر فسد العقد واستحق الأجير أجرة المثل، كما لو استأجره على الحج والعمرة على الإبهام ويقع لمن استؤجر عنه فيهما. (مسألة): لا يشترط في عقد الإجارة ذكر الواجبات والسنن ولا ذكر الميقات، وإنما يشترط علم المتعاقدين بأعمال النسكين الواجبة، وبيان أنه إفراد أو تمتع أو قران، وصفة الإجارة كأن يقول: ألزمت ذمتك حجة أو عمرة عن فلان ابن فلان بأركانها وواجباتها وسننها بكذا، أو استأجرتك لتحج مثلاً عن فلان ابن فلان حجة بواجباتها وأركانها وسننها بكذا..
محرمات الإحرام
(مسألة): أحرم الولي عن الصبي وفي ملكه صيد صح إحرامه، وزال ملك الصبي عن الصيد وغرمه الولي كالكفارة التي لزمت بالإحرام. (مسألة): لا يجوز لبس الطاقية الجبلية المعروفة بزبيد وهي المكعب عند الفقهاء وتسمى المداس، فإن لم يجد النعل المعروف جاز لبسها ولبس الخف إذا قطع أسفل من الكعبين، وإن ستر ظهر القدمين كله خلافاً للخادم.
البيع(1/48)
(مسألة): يصح بيع القطاط الذي تأكله النساء الحوامل، وإن حرم ما يضر منه لما فيه من منافع يذكرها الأطباء كالأفيون والسقمونيا فلا شك في صحة بيع الكل، ويملك ثمنه على المذهب، خلافاً للدميري في تحريم بيعها مطلقاً، والزركشي القائل بتحريم الكثير. (مسألة): لا يصح بيع المعجون المصنوع من الحشيش والبنج وغيرهما وكذا البرش، وأما نفس الحشيش فإن كان ينفع للتداوي صح بيعه حتى الكثير وإلا فلا. (مسألة): لا يصح بيع المريض مرض الموت ماله لبعض ورثته بمحاباة على المعتمد، كما نقله في الروضة عن القفال. (مسألة): اشترى شمطاً مطوياً لم يره الرؤية المعتبرة لم يصح الشراء، فلو خطأه المشتري كان حكمه كما لو صبغ الثوب، إذا زادت قيمة الثوب بالخطية كان شريكاً بالزيادة، وإن نقصت فضمان النقص على الخطأ، وليس له أن يرجع على البائع لأن التنقيص حصل بفعله، فيستقر الضمان عليه. (مسألة): اشترى من آخر أرضاً بأن قال: بعتك هذه الأرض بكذا، فبان أن للمشتري نصف هذه الأرض بالإرث بطل البيع فيه وصح في النصف الآخر بنصف الثمن عملاً بتفريق الصفقة، ويصح بيع الأرض المجهولة الذرع إذا علم المتبايعان حدودها وإلا فلا. (مسألة): تعاقد اثنان عقد بيع ثم نذر المشتري للبائع في المجلس أنه إن أتى له بالثمن في وقت كذا أن يبيعه عليه فسد البيع لأن النذر لاحق للعقد، فكأنه شرط له أن يبيعه إياه في ذلك الوقت حال العقد. قلت: وإذا فسد البيع هل يصح النذر أم لا؟ نقل الشيخ محمد باسودان عن الكردي البطلان، وسيأتي في الإقالة التصريح بالبطلان أيضاً. (مسألة): اشترى ذرباً صيباً مما لا يقتات كصيب الحور بشرط أن ينبت فلم ينبت مع صلاحية الأرض للإنبات، فإن كان غير صالح للإنبات وكان حينئذ لا قيمة له فالبيع باطل، لأن من شروطه أن يكون متقوّماً فيجب على البائع رد الثمن. (مسألة): باع شيئاً وعبر عن الثمن بمائة دينار مثلاً، واطردت عادتهم في التعبير بالدينار عن قدر معلوم من(1/49)
الدراهم صح وحمل على ما يتعارفونه، قاله جماعة من المتأخرين وهو المختار، ونقل عن الماوردي وابن الصباغ وصاحب البيان عدم الصحة، ووجهوه بأن الدينار لا يعبر به عن الدراهم ولا غيره حقيقة ولا مجازاً. (مسألة): باع أرضاً ونخلاً برؤية سابقة، والحال أن الأرض قد تغيرت بخراب زبر وإصلاح وزوال عناء وتغير النخل بزيادة ونقص لطول المدة لم يصح البيع. (مسألة): لو كان له عناء محترم من زبر وحرث في أرض وزادت به قيمتها كان شريكاً في الأرض بقدر ما زادت به قيمتها بسبب العناء المذكور، لأن الأعيان التي أحدثها وهي الزبر وغيره بالتراب الذي استولى عليه مما ساقه الماء من التراب الجبلي صارت ملكاً له، وإذا كان شريكاً فالذي حققناه في رسالتنا مزيل العناء أنه ليس لمالك العناء بيعه منفرداً عن الأرض ولا هبته، وأنه يصح النذر والوصية به منفرداً لسعة بابهما. (مسألة): العناء الذي يحدثه الرعية في أراضي الوقف والسلطانية بمثابة العمارة التي من وظائف الناظر في ذلك الواجب تقديمها على أرباب الوظائف، بل على الموقوف عليه، كما هو مسطور في كتب المذهب، وحينئذ إذا مات مدين وخلف عناء محترماً لا يملك غيره وطلب أرباب الديون دينهم أخذ الناظر العناء المذكور بقيمته ويصير وقفاً على الجهة بمجرد أخذه بطريق التبعية للأراضي، وما قيل من امتناع بيع العناء محله إذا بيع من غير الناظر أو منه ليصير ملكاً له لا ليصير ملكاً للجهة، وأما بيعه من الغرماء فلا يمكن، وأفتى بعضهم في أرض موقوفة بأنه يجوز بيع التراب الذي زاد علينا بعد الوقف، ومنه يعلم أن العناء إذا أحدثه المستأجر من تراب أجنبي عن الأرض الموقوفة جاز له بيعه. (مسألة): اشترى أرضاً فوقفها ثم انتقل انتقل الوقف إلى ذرية الواقف عملاً بشرطه، ثم بعد سنتين ثبتت وقفية الأرض المذكورة على مصرف آخر تبين بطلان البيع والوقف المذكورين، وطولب الباسطون بأجرة الأرض مدة بسطهم عليها في السنتين المذكورتين، وإن(1/50)
لم تحصل لهم غلة لا للمدة التي كانت تحت يد غيرهم إن لم تقع يدهم على شيء من تركة الباسط الأول، ولهم الرجوع على بائع الأرض إن لم يستوفوا منفعتها في المدة المذكورة، وإذا عنوا الأرض عناء عينياً بتراب جبلي أو نحوه وزادت به قيمة الأرض فهو باق بملكهم لهم المطالبة بقيمته. (مسألة): اشترى أمة فشهدت بينة حسبة أنها حرة الأصل ولم يسبق منها إقرار بالرق تبين فساد البيع، وكذا لو ادعت الأمة المذكورة أنها حرة الأصل ولم يسبق منها الإقرار المذكور كان القول قولها بيمينها، ولا تحتاج إلى بينة في ذلك، بل لا تسمع بينتها لأن حجتها اليمين، ويرجع المشتري على البائع بالثمن في الصورتين. (مسألة): اشترى صبغاً معيناً وغلب على ظنه أنه صبغ من نوع معتاد كمداد فبان خلافه فلا خيار له في ذلك، وإن بان دون ما ظنه، لما علم من مذهبنا أنه لا خيار بالغبن، نظير ما لو اشترى زجاجة يظنها جوهرة. (مسألة): باع عيناً معلومة بمائة مولدة خرط كل مولدة ضمنها قصعتين إحداهما في ضمن الأخرى، وكل ذلك من الخشب الأثل، مصبوغ بألوان معلومة حال في ذمة المشتري، لم يصح البيع لما ذكر أصحابنا أنه لا يصح السلم في الخشب المخروط إلا أن ينضبط وضبطه متعسر، وعلى تقدير استيفاء ضبطه فالصبغ الذي يصبغ به الخشب من أجزاء مقصودة غير منضبطة، كالترياق والحلوى والمعجونات، ومثل ذلك لا يصح السلم فيه ولا بيعه في الذمة، لا سيما إذا كانت المولدة المذكورة منقوشة فإن النقش غير منضبط. (مسألة): لا يصح التأجيل بالخير لمجيء الغيث ونحوه لأنه غير معلوم، فيلزم من اشترى شيئاً أو باعه إلى ذلك رد ما قبضه والمبيع باق على ملك البائع. (مسألة): لا يصح بيع الأرض المحفوفة بالأملاك ممن لا ملك له عندها وإن اعتقد رضا الأجوار في بعض الأوقات. (مسألة): رسم على امرأة عند حاكم السياسة بسبب أن ابنها أخطأ على جعلاء معه فحبسها الحاكم وخسرها مالاً، فلم تجد الخلاص إلا إن باعت من المرسم المذكور(1/51)
أرضاً لولدها من غير وكالة ولا إذن منه لم يصح البيع. (مسألة): رجل بينه وبين جماعة نخل مشترك فألزمه حاكم السياسة تسليم عاشرة النخل وحبسه وأكرهه على بيع جميع النخل المشترك، فلم يجد مخلصاً إلا أن باعه النخل بين يدي حاكم الشريعة، فإن وجدت شروط الإكراه وهي أن يكون المكره له قادراً على إيقاع ما تهدد به من ضرب شديد أو حبس طويل ونحوه، والمكره عاجز عن الدفع بفرار ونحوه، وأن يغلب على ظنه أنه إن امتنع مما طلبه منه أوقع به المحذور، وإن لم يقل المكره أفعل بك الآن خلافاً لمن وهم فيه، بل الشرط عدم تأجيل العقوبة كقوله: أفعل بك غداً، على أن شيخنا المزجد نظر في ذلك لم يصح البيع في الجميع، وإن لم توجد الشروط المذكورة صح في نصيبه بقسطه من الثمن عملاً بتفريق الصفقة، كما لو مات شخص عن ورثة وخلف عقاراً فباعه أحدهم بغير إذن الباقين، فيصح في نصيبه بقسطه من الثمن، ويلزم المشتري أجرة المثل للمدة التي بسط عليها بعد الشراء للباقين، هذا إن لم يكن على الميت دين ولا هناك وصية وإلا بطل في الجميع. (مسألة): رهن داراً بدين معلوم إلى أجل كذلك، ثم أجرها المرتهن إلى انتهاء الأجل بأجرة معلومة مسلمة، ثم باعها له في أثناء المدة صح الكل، ولا يستحق المستأجر شيئاً فيما بقي من مدة الإجارة، فلو أن المشتري باعها لأجنبي انتقلت الدار إليه بمنافعها، ولا يستحق حبسها إلى انقضاء مدة الإجارة على المعتمد، كما رجحه شيخنا المزجد والناشري وغيرهما. قلت: وفي التحفة ولو ردّ المبيع بعيب استوفى بقية المدة أو فسخت الإجارة بعيب أو تلفت العين رجع بأجرة باقي الإجارة، فإن باعها لغير المستأجر وانفسخت الإجارة فمنفعة بقية المدة لبائعها. (مسألة): له في ثور ثلاثة أرباعه فباع من آخر ربع الثور كان المبيع ثلاثة أرباع ربع الثور ثلاثة أسهم من ستة عشر سهماً، إذ هذه المسألة فرد من أفراد قاعدة الحصر والإشاعة، والمعتمد هنا التنزيل على الإشاعة. قلت: رجح(1/52)
ابن حجر في التحفة في نظير هذه الحصر فقال: لو كان له نصف عبد فباعه نصف اختص بملكه، قال: وألحقوا به نحو الهبة والإقرار والوصية والصداق والرهن والعتق.
الربا
(مسألة): يجوز بيع سمن الغنم بلبن البقر وعكسه لاختلاف جنسهما باختلاف أصلهما، وقولهم: لا يباع السمن باللبن مرادهم حيث كانا من جنس واحد. (مسألة): عامل من جهة السلطان يضرب النقدين، وعليه قطيعة للمملكة ضمان بمال معلوم في كل سنة، وسعر النقدين مقنن في الديوان بسعر بينه وبين الصيارفة الذين يأتونه بالذهب والفضة، فإن وجدت الشروط الثلاثة في بيع النقد بجنسه وهي الحلواء، والتقابض والمماثلة صح ذلك، وإلا فلا، فلو اشترى العامل من الصارف الفضة بدراهم مغشوشة فالبيع باطل، سواء كانت الدراهم مساوية للسعر المقنن أم أقلّ أم أكثر، ويجب رد كل مال لصاحبه أو بدله إن تلف، وهكذا الحكم في الذهب بالذهب المغشوش، هذا إذا عقد المعاوضة مما ذكرناه، فإن ملك كل معوّضه بنذر أو هبة أو تمليك مجاناً صح، وإن اشترى العامل الذهب بالفضة ومغشوشة أو بالعكس فالبيع صحيح بشرط التقابض والحلول فقط.
البيوع المنهى عنها
(مسألة): الصحيح أنه يحرم تلقي القافلة للشراء منهم وإن كانوا قاصدين بلداً أخرى غير مكان التلقي، كما هو ظاهر الحديث ورجحه السبكي. قلت: وافقه ابن حجر قال: وإن لم يقصد التلقي اهـ. (مسألة): تعاطي العقود الفاسدة حرام إذا قصد بها تحقيق حكم شرعي، ويأثم العالم بذلك ويعزر، لا ما صدر منه تلاعباً، أو لم يقصد به تحقيق حكم لم يثبت مقتضاه عليه، ومن أمثلة ما لم يقصد به تحقيق حكم مشروع، لكن قصد به التوصل إلى صحة العقد ما ذكروه عن الروياني فيمن يملك حصة شائعة لا يعلم قدرها وأراد بيعها، فالحيلة في ذلك أن يبيع الكل، فيصح في قدر حصته بناء على تجويز تفريق الصفقة. قلت: وافقه ابن حجر في الإمداد وخالفه في التحفة وأبو مخرمة.
الخيار(1/53)
(مسألة): تبايع شخصان ثم مات أحدهما في المجلس قبل اختيار اللزوم، بقي خيار الحي كما يبقى خيار وارث الميت، وينقطعان معاً بمفارقة الوارث مجلس بلوغ الخبر، فللحي الخيار وإن فارق مجلسه، كما رجحه في المطلب واختاره الغزالي والإمام، ومثله لو كتب شخص إلى آخر بالبيع فله الخيار، وإن فارق مجلس كتابه حتى ينقطع خيار المكتوب إليه وذلك بمفارقته مجلس القبول. (مسألة): اشترى بقرة ذات لبن وولدها بشرط الخيار له ثلاثاً وقبضه فمات ولدها في مدة الخيار فنقصت الأم بموت الولد، فللمشتري فسخ البيع ورد الأم وقيمة الولد وأرش نقص الأم، ولا يمتنع الرد القهري بالعيب الحادث كما في التحالف بخلاف خيار النقص. (مسألة): البيع بشرط البراءة من عيب المبيع أو أن لا يرده بعيب جائز، ولا يبرأ البائع بهذا الشرط إلا من عيب باطن في الحيوان موجود عند العقد لم يعلمه البائع والباطن ما لا تسهل معرفته، كمرض باطن في الجوف، وعند الاختلاف يرجع لأهل الخبرة وإلا فالقول قول البائع، هذا هو الأوجه الذي قاله ابن ظهيرة، خلافاً للزركشي القائل بأنه الذي لا يطلع عليه المشتري لعدم اشتراط رؤيته، ولمن قال إنه ما في العورة. (مسألة): اشترى بذر حور فزرع فلم ينبت بسبب منع المطر مع صلاحيته لذلك، فالبيع صحيح ولا يرجع بالثمن على بائعه. (مسألة): اشترى بذراً صالحاً للإنبات فبذره في أرض صالحة له فلم ينبت، رجع على بائعه بالأرش وهو ما بين قيمته بذراً وغير بذر، هذا إن كانت له قيمة حينئذ، وإلا كصيب حور اشتراه على أنه ينبت فلم ينبت لعدم صلاحيته رجع بكل الثمن على المعتمد لفساد البيع نظير مسألة البيض. (مسألة): اشترى جارية حاملاً ولم يعلم بالحمل حتى أسقطه، فحصل بسببه نقص في قيمتها ثم ماتت تحت يده رجع بأرش النقص، لأن العيب الحادث بسبب متقدم كالمتقدم. (مسألة): اشترى بناً بقشره بعد أن نظره وقشر منه جزءاً، ثم أودعه البائع بعد قبضه ثم ادعى أن به عيباً نظرت، إن كان(1/54)
العيب من حيث رداءة نوعه وقد رآه المشتري فليس بعيب ولا خيار فيه، وإن كان مما يطلق عليه اسم العيب في النوع المذكور ثبت الخيار. (مسألة): اشترى عبداً به أثر قرحة قد اندملت، ثم بعد الشراء تورم حول القرحة ثبت له الخيار، إن شهد عدلان خبيران أن هذا الورم سببه تلك القرحة وإن مثلها وإن اندملت يحصل فيه الورم في بعض الأحيان ولم يعلم المشتري بذلك وإلا فلا. (مسألة): اشترى ثوراً ظنه يحرث منفرداً ولم يشترط ذلك في العقد بان خلافه فلا خيار، وإن كان عادة أهل المحل أن الثور إذا لم يحرث وحده لم يشتر ويعدّ ذلك عيباً. (مسألة): وكل آخر يشتري له قطعة أرض ونخلاً عدته ثمانية وعشرون عوداً بكذا فاشتراها، ثم وجدها الموكل ناقصة العدد المسمى، فإن قال له: اشترها على أن عددها ما ذكر فاشتراها كذلك فبانت ناقصة ثبت الخيار، فإن أجاز فبالمسمى، وإن فسخ استرد جميع الثمن، وإن ذكر له العدد ولم يقل ذلك فلا خيار لتقصيره بعدم الاشتراط والبيع صحيح فيهما. (مسألة): اشترى ثوباً بعشرة فلبسه مدة فنقصت قيمته إلى خمسة، فظهر به عيب المسمى بالبرّ أو يقال له العوار ونحوه مما يظهر في الثياب لا سيما الكتان، فلا خيار إذ يمكن الاطلاع على العيب المذكور بالفرك ونحوه كما قاله أهل الخبرة، وقول من قال: إنه لا يتوصل إلى معرفة العيب المذكور إلا باللبس لا يوافق عليه، بخلاف ثوب مطوي صححنا شراءه ولا يمكن الاطلاع على عيبه إلا بنشره المنقص لقيمته فيرده ولو بعده بلا أرش وحيث امتنع الردّ، فإن رضي به أحدهما بلا أرش فذاك، وإلا فليضم المشتري أرش الحادث وهو اللبس إلى المبيع أو البائع أرش القديم، فإن اتفقا على أحد هذين وإلا فالأصح إجابة طالب الإمساك والرجوع بأرش العيب القديم. (مسألة): اشترى دابة فماتت عنده بعد قبضها وتسليم الثمن، ثم بعد عام أن ادّعى بها عيباً قديماً وأنه فسخ العقد، لم تسمع دعواه إلا إن ادعى عيباً قديماً وعينه، وأنه فسخ به حال اطلاعه(1/55)
عليه، وأقام بينة شهدت بما ذكر، فحينئذ يرجع على البائع بالثمن، وتكون الدابة مضمونة عليه ضمان يد، وقد يحصل التقاصّ بشرطه، فإن فضل لأحدهما شيء على الآخر رجع به، فإن لم يعين العيب لم تسمع الدعوى والبينة، إذ العيوب اجتهادية غير منحصرة ولها ضابط، فقد يظنّ ما ليس بعيب عيباً، ولهذا رجع عند الاختلاف إلى الخبرة.
الإقالة
(مسألة): تبرع الوارث باستئجار من يحج عن الميت من مال نفسه لم تصح المقابلة، لأنه ربما يفوت على الميت الحج ويؤدي إلى عود المال إلى ملك الوارث بعد تعلق حق الميت به، ويفرق بينه وبين صحة الإقالة فيما لو أجر عيناً فأجرها المستأجر لغيره، ثم تقابل المؤجر والمستأجر الأوّل بأن الأجير الثاني لا يفوت عليه شيء بالمقابلة، بل يرجع له من الأجرة قسط ما بقي من المدة، أما لو أوصى الميِّت بأن يحج عنه من مال نفسه، فاستأجر الوصي من التركة على حسب الوصية فيصح التقابل بلا شك إن كان ثم مصلحة، كأن يجد أعلم أو أعدل أو أورع من الأجير، وينفق باستئجاره هذا إن كان الأجير الأوّل عدلاً عارفاً بالأركان، وإلا لم يصح استئجاره عن الميت أصلاً، وفي فتاوى البلقيني ما يقتضي أن ناظر الوقف ليس له أن يقابل المستأجر للوقف إلا إن وجد من يستأجره واقتضت المصلحة ذلك. (مسألة): باع داراً ثم نذر المشتري للبائع بعد العقد بأنه إذا جاء بمثل الثمن بعد انسلاخ شهر كذا نادماً وطلب منه الإقالة أقاله نظر، فإن جرى النذر المذكور قبل لزوم العقد أي بأن كان في صلب العقد أو في مجلس الخيار فالبيع والنذر فاسدان، وإن جرى بعد صح، ثم لو سار إلى بلد المشتري فمنع في بعض الطريق ولم يقدر على المشي خوفاً عليه وعلى من معه، ولم يأت بلد المشتري إلا غرّة الشهر الذي بعد الشهرالمعلق على سلخه فطلب الإقالة فامتنع المشتري للتأخير فليس له امتناع، كما لا يخفى أن النذر تعليق للإقالة بطلبها في الزمن المذكور بفعل الغير، فيخرج على ما إذا علق الطلاق على عدم(1/56)
فعله أو فعل غيره فمنع من الفعل، فإنه لا يقع الطلاق، فكذا إذا وجد مانع عن طلب الإقالة على الوجه المذكور لم يسقط حقه من الإقالة. (مسألة): باع أرضاً وقبض بعض الثمن، ثم بعد مدّة طلب باقيه فقال المشتري له: فسخت لك بيع الأرض، فقال: قبلت الفسخ صحّ إن نوى الإقالة ويملكها بذلك، فلو انتفع بها المشتري بعده لزمته الأجرة مدة انتفاعه.
المبيع قبل قبضه
(مسألة): باع نيلاً كل رقعة بكذا، ورآه المشتري وجعل عليه قفلاً وتركه عند البائع ودفع إليه بزاً بثمن معلوم، فاحترق النيل والبز قبل أن يوزن النيل، كان النيل مضموناً على المشتري بتفضيله عليه وإن لم ينقله، كما لو اشترى دابة فركب عليها ولم ينقلها كانت مضمونة عليه، فإن أذن له البائع كان قبضاً، وأما البز المحترق بعد القبض فمن ضمان مشتريه.
الأصول والثمار
(مسألة): أرض لها شرب معلوم، باعها مالكها وسكت عن الشرب، لم يدخل شربها في المبيع إلا إن صرح به أو قال: بعتكها بحقوقها، ذكره الرافعي، ولو قال: بعتكها وأبحت لك شربها بكذا فالظاهر بطلان البيع، لأنه جعل الثمن في مقابلة البيع والإباحة وهي لا تقابل بالعوض إلا إن نوى بإباحته البيع وقلنا إنها كناية في البيع على الخلاف في ذلك، فإن اختلفا في الإرادة فالقول قول البائع، وفي فتيا أخرى له يصح بيع الأرض مع شربها. (مسألة): عروق القوّة التي تبقى سنين لكن تؤخذ دفعة واحدة لا تدخل في البيع عند الإطلاق كالزرع الذي يؤخذ دفعة واحدة.
تصرف الرقيق(1/57)
(مسألة): ادعى العبد المأذون له ديناً اقتضته المعاملة المأذون فيها وأقام بينة واقتضى الحكم يمين الاستظهار لم يحلفها الرقيق ولو فيما باشره كالوكيل والقيم، لأن وجود المباشرة لا تأثير لها في يمين الاستظهار، ولا يشكل على ذلك ما في الدعاوى من أن الولي والوكيل يحلفان يمين الرد فيما باشراه لأنها حلف على إثبات فعلهما، بخلاف يمين الاستظهار فإنها لنفي المسقط وهو لا يتأتى منهما. (مسألة): حيث لم يثبت عتق الرقيق ولا الإذن له من سيده بشاهدين، أو بقول السيد، أو بشيوع بين الناس لا بقول العبد إنه مأذون له في ذلك لم تصح معاملته ببيع ولا نكاح وغير ذلك، فليحترز من معاملة العبيد الذين يملكونهم الملوك ويخرجون إلى سائر الجهات ويتزوّجون ولا يعلم أهم مأذون لهم أو معتقون أم لا؟ ولو أقر بالرق لشخص ثم ادعى أنه أعتقه ثبت رقه، ولم تسمع دعواه بالعتق إلا ببينة تشهد بعتقه لا بالحرية المطلقة. (مسألة): أذن لعبده أن يتجر لآخر فاتجر بحسب الإذن، ثم حصل تخالف بين العبد ومن اتجر له والمال المتجر فيه مال السيد وإنما ذاك سفير للسيد، كان القول قول العبد في الرد على من ائتمنه، وإن كان لا يقبل قوله فيما يضر السيد لأنه وكيل مأذون له في ذلك. (مسألة): كل حق ثبت عند الرقيق بغير اختيار ربه كإتلاف وتلف بغصب تعلق برقبته أو باختياره كالمعاملات، فإن كان بغير إذن سيده تعلق بذمّته يتبع به بعد عتقه، أو بإذنه تعلق بذمته وكسبه ومال تجارته.
اختلاف المتبايعين(1/58)
(مسألة): دفع لآخر عيناً وأذن له في بيعها في بلد كذا بكذا وأن يعتاض بثمنها، فباعها واعتاض له بثمنها أعياناً وأرسلها إليه فتصرف فيها، ثم بعد قدوم المدفوع إليه بلد الدافع وقع بينهما اختلاف في الإذن في التعويض وعدمه فأنكره الدافع وادعاه المدفوع إليه، كان القول قول الدافع بيمينه أنه لم يأذن في التعويض ويضمن الأعيان التي لم تصرف فيها، فيردها إن كانت باقية، وإلا فمثلها في المثلية وقيمتها في المتقوّمة، ولا يكون ما ذكر إقرار منه بالإذن. (مسألة): اشترى سلعة بمائة فلقيه رجلان فقالا: بكم ابتعت هذه؟ فقال: بمائة وعشرة، ثم استخبرا البائع فأخبرهما أنها بمائة فقط فقالا له: المشتري أخبرنا أنه اشتراها منك بمائة وعشرة فادعى البائع العشرة بناء على إخبارهما، فليس ذلك من اختلاف المتبايعين الذي حكمه أن كلاً يحلف يميناً تجمع نفياً وإثباتاً إذ ذاك مفروض فيما إذا كان ما يدعيه البائع أكثر، وغاية هذه المسألة أن المشتري مقر للبائع بعشرة والبائع ينكرها، فيأتي فيه ما ذكروه، فيما إذا كذب المقر له المقر فإنه يبطل الإقرار، فإن صدق المقر له بعد تكذيبه احتاج إلى إقرار جديد. (مسألة): اشترى عيناً فادعى أنه لم يقبضها فالقول قوله بيمينه، فإن أقام البائع بينة بإقراره بالقبض فقال: لم يكن إقراري عن حقيقة وطلب يمين البائع بأن الإقرار بالقبض كان عن حقيقة أجيب إلى ذلك، وحينئذ فلو أقام المشتري بينة بأن البائع أقرّ بعد ذلك أن المشتري لم يقبض المبيع منه ولا من نائبه سمعت، كما لو نكل البائع عن يمين الإنكار وحلف المشتري يمين الرد، إذ هي كالإقرار في أظهر القولين، بل سماع بينته أولى بالقبول. (مسألة): اشترى أعياناً متعددة ثم ادعى أنه لم ير بعضها الرؤية المعتبرة شرعاً وأنكر البائع صدق بيمينه لأنه مدعي الصحة، فلواشترى أعياناً متعددة ثم ادعى أنه لم ير بعضها الرؤية المعتبرة شرعاً وأنكر البائع صدق بيمينه لأنه مدعي الصحة، فلو أقام(1/59)
المشتري بينة على عدم رؤيته للبعض لم تسمع لكونها شهادة على نفي غير محصور. قلت: ومثله عكسه كما قال في الإرشاد وفي صحة مدعيها غالباً اهـ.
السلم
(مسألة): لا يجوز السلم في العجور كما أفتى به البجلي والطنبداوي لعدم انضباطه. (مسألة): يجوز السلم في النيل اليابس دون الأخضر، فيذكر فيه الأوصاف التي يختلف بها الغرض اختلافاً ظاهراً، ولا يشترط ذكر الجودة ومطلقه يحمل عليه، ولا يجب قبول المعيب ولا الرديء. (مسألة): يجوز السلم في السمك والجراد حياً وميتاً، ويذكر في الحي العدد وفي الميت الوزن، ولا يجوز في نحو الوزن وهو السمك الصغار كيلاً لأنه يتجافى في المكيال، هذا هو المنقول في المذهب، وصحح عليه ابن جعمان والناشري والخزرجي. (مسألة): أفتى أحمد الناشري بصحة السلم في الزنجبيل المطبوخ، وتبعه ولده أبو الطيب الناشري والأزرق، لأن ناره لطيفة لا يقصد بها إلا حفظه عن النقص لا حقيقة الطبخ، ففي تسمية ذلك طبخاً تسمح. (مسألة): أسلم إليه في طعام سليم من العيوب، فوقع في الطعام جائحة عامة لجميعه، ولم يوجد فيما دون مسافة القصر طعام بصفة السلم ثبت للمسلم الخيار بين الفسخ واسترداد رأس المال والصبر إلى وجود المسلم فيه بصفته، أما إذا وجد ولو بثمن غال وجب تحصيله، هذا حكم المسألة، لكن الأولى لأرباب الديون ترك المضايقة والتجاوز في التقاضي، لما روى البخاري في قصة الذي كان يداين الناس ويتجاوز عنهم ولم يعمل خيراً قط الحديث. (مسألة): لا يصح السلم في ورق الحناء والحور إلا وزناً، وإن اعتيد كيله بمكيال معروف لأنه يتجافى في المكيال. (مسألة): لا يجوز الاعتياض عن دين السلم، فلو باعه أرضاً بدين السلم لم يصح.
القرض(1/60)
(مسألة): عمت البلوى أن أهل الثروة لا يقرضون أحداً إلاّ بزيادة، إما من نوع المستقرض أو غيره بصيغة النذر، أو يتأجر المقرض من المقترض أرضاً بمال يسير يستغلها مدة بقاء الدين المذكور، أو يردها على المستقرض بأجرة تقابل تلك الزيادة، فالعقود المذكورة صحيحة إذا توفرت شروطها، ولا يدخل ذلك في أبواب الربا. (مسألة): إعطاء الربا عند الاقتراض ولو للضرورة بحيث إنه إن لم يعطه لم يقرضه لا يدفع الإثم، إذ له طريق إلى حل إعطاء الزائد بطريق النذر أو غيره من الأسباب المملكة، لا سيما إذا قلنا بالمعتمد إن النذر لا يحتاج إلى القبول لفظاً. قلت: وهذا أعني النذر المذكور في هذه والاستئجار في التي قبلها إن وقع شرطهما في صلب العقد أو مجلس الخيار أبطلا وإلا كره، إذ كل مفسد أبطل شرطه كره إضماره كما في التحفة، وهذه الكراهة من حيث الظاهر، أما من حيث الباطن فحرام، كما نصّ عليه الفحول المتقون من العلماء الجامعين بين الظاهر والباطن كالقطب الحداد وغيره، إذ كل قرض جرّ ربحاً فهو ربا، فانظره في شرح الخطبة لباسودان. (مسألة): أقرضه خمسمائة دينار ثم نذر له بأنه إذا سلم إليه ألفي درهم صفتها كذا تمليكاً من غير عوض فللَّه عليه أن يقبل منه ويبرئه عن دين القرض، والحال أن وقت القرض والنذر والدنانير المذكورة تقوم الألفان مقامها، ثم اختلفت ضريبة الدراهم المذكورة، بحيث إن الدنانير المذكورة تقاوم ثلاثة آلاف، لم يجب على المقرض إلا قبول الألفين من الدراهم القديمة الموصوفة لا المتأخرة، ولو أحال المقرض بالدنانير شخصاً آخر قبل إتيان المقرض بالدراهم صحت الحوالة بشرطها وللمحال له الاعتياض عنها. (مسألة): أقرضه عشرة دنانير بشرط أن يحمله في جلبته إلى مكان كذا ودفعها إليه، فحمله إلى المكان كان القرض فاسداً لا يجوز له التصرف فيه، بل هو مضمون عليه كالغصب وعليه ردّ الدنانير وله أجرة المثل لجلبته.
الرهن(1/61)
(مسألة): وكل آخر في رهن أرض بعشرين، خالف ورهنها بعشرة، فالذي يظهر بطلان الرهن للضرر العائد على الموكل، لأنه قد يكون محتاجاً إلى العشرين، ومعلوم أنه إذا رهن بالعشرة امتنع عليه الزيادة في الدين ليكون رهناً بالجميع، وقد لا يساعده المرتهن على الزيادة وفسخ الرهن ليرهن بالجميع. (مسألة): رهن أرضاً وأقبضها ثم وقفها بغير إذن المرتهن لم يصح الوقف. (مسألة): رهن أرضاً ثم غاب، فجاء المرتهن إلى الحاكم وأثبت الدين والغيبة فأذن له في بيعها فباعها، ثم وقفها المشتري وحكم به حاكم، ثم ادعاها آخر غير الراهن وأقام بينة بملك سابق على الرهن بان بطلان البيع والوقف، وحكم أجرة مثل تلك الأرض يؤخذ مما في فتاوى الغزالي ولفظها، وقف ضيعة على أهل العلم فصرفت ثم خرجت مستحقة، فقرار الضمان على الواقف لتغريره، فإن عجز عنه فكل من سكن الموضع وانتفع به يغرم الأجرة، فإن أجرها الناظر وسلم الأجرة إلى العلماء فرجوع المستحق على المستأجر، ورجوع المستأجر على من سلم إليه، إذ هي لم تخرج عن ملكه لفساد الإجارة، وقرار غرم الدراهم على من تلفت في يده، اهـ ملخصاً نقله الرداد والمزجد وغيرهما وأقروه. (مسألة): أتى إلى دائنه ببعض الدين فامتنع من قبضه إلا جملة، فإن كان المدين معسراً أجبر على قبوله، وإلا وجب أداء الكل دفعة واحدة، وإذا كان بأحد الدينين رهن فالعبرة بقصد الدائن الأداء عن جهة الرهن أو عن الدين الآخر، بل لو أطلق حال الأداء صرفه لما شاء. (مسألة): رهن بذراً ثم بذره بإذن المرتهن كان الزرع وما تولد منه مرهوناً، وإن رهن زرعاً أخضر فسنبل لم تدخل السنابل في الرهن، أجاب به بعض علماء اليمن والفرق واضح. (مسألة): رجلان ادعى كل منهما أن زيداً رهنه جميع أرض معينة وأقبضه إياها عن جهة الرهن، وأقام أحدهما بينة بسبق الرهن فقط، وأقر زيد أن الآخر سابق بالعقد والقبض، قضي للآخر المقر له بالرهن، ولا أثر للبينة المذكورة إذا لم تشهد بالقبض.(1/62)
(مسألة): رهن عقاراً أقر بملكه له حال الرهن وأقبضه، ثم ادعى أنه وقفه قبل الرهن وأقام بينة لم تسمع كما نقل عن النص، وإذا علم صدور الوقف بعد الاستدانة والرهن بطل لامتناع وقف المرهون، وإن صدر بينهما وكان لا يقدر على وفاء الدين من غيره، فالذي نعتمده تبعاً لابن الرفعة والفتى والطنبداوي بطلانه أيضاً، بل يتعين العمل في هذه الأعصار، إذ كثير من يفعل ذلك فراراً من قضاء الدين. (مسألة): رهن عشرة دكاكين دخل قرارها في الرهن، إذ لفظ الدكاكين شامل للأرض والبناء لا بمعنى التبعية حتى يفصل بين ما ينقل الملك وغيره، فلو مات الراهن وأراد بعض ورثته فك بعض الدكاكين بحصته من الدين لم يجب إليه، ولا ينفك إلا بأداء جميع الدين كما في مورثهم، لأن الرهن صدر ابتداء ومن واحد. (مسألة): طفل صغير رهنه بعض قرابته عند آخر لعدم من ينفق عليه وليس هناك بيت مال، ولو ترك لأدّى إلى هلاكه، لم يستحق شيئاً بمجرد ما ذكر، ولا يثبت له الرجوع به إذ الرهن باطل، فلو أصلح بينهما ثالث فإن جرى الصلح بوجه شرعي فذاك وإلا فلا. (مسألة): رهن عيناً وأقبضها ثم طلبها من المرتهن فجحدها فأقام بينة بالرهن والقبض عن جهة، فادعى المرتهن تلف العين المذكورة صدق بيمينه وضمن البدل لخيانته، سواء قال في جحوده لا شيء لك عندي أو لم ترهن كالوديعة. (مسألة): له سهمان من ثلاثة في شجر حور، فاستعار الثالث ليرهنه في ثلث دين معلوم، ووكل المرتهن المعير أن يرتهن له جميع آلة الشجر بالدين المعلوم فارتهن له صح، ثم لو ظهر أن الراهن لا يستحق في الشجرة المذكورة إلا سهماً واحداً كان سهم المعير المذكور مرهوناً بثلث الدين يستحقه الراهن مرهوناً بالباقي. (مسألة): نقل على آخر أرضاً النقلة العرفية، ثم نظر له بما يستحقه من العناء والزبر والحرث والزيادة التي يملكها، والحال أن الأرض من أراضي بيت المال، فقرر ناظره هذا المنتقل على ذلك صارت من محارث المنتقل، فلو زرع الناقل فيها(1/63)
حوراً لزمه قلعه مجاناً ولو رهنه، والحال أنه لو قوّم مستحق القلع لم تكن له قيمة فالرهن باطل، إذ شرط المرهون أن يكون قابلاً للبيع، وهو لا يصح بيعه لأنه غير متمول. (مسألة): باع سهمين في أرض مشاعاً من أصل ستة أسهم، ثم فدى من المشتري سهماً ونصفاً وبقي نصف سهم، ثم باعه ثانياً ثلاثة أسهم فصار جملة المشتري ثلاثة أسهم ونصفاً، ثم ثبت أن البائع رهن جميع الأرض بعد بيع السهمين الأولين، وقبل الفداء صح الرهن في أربعة أسهم فقط، وصح الشراء الثاني في السهم والنصف الذي فداه البائع من المشتري بعد الرهن، وبطل في سهم ونصف، فيرجع المشتري بحصته على البائع، فإن لم يكن له سوى المرهون وطلب الحجر عليه فيما زاد على ما يساوي دين الراهن أجيب على الأوجه، وعلى البائع أجرة مثل ما يسقط عليه مما صححنا بيعه إن كان بسطه بعد قبض المشتري وإلا فلا، إذ إتلافه قبله كالآفة السماوية. (مسألة): رهن ثوباً وأقبضه ثم أذن للمرتهن في لبسه لم يضمنه المرتهن بمجرد الإذن، بل يلبسه ويعتبر حينئذ عارية كما لو أودعه وأذن له في اللبس، فهو قبل اللبس وديعة وبعده عارية، ومثل ما لو رهنه شاة وأذن له في حلبها ففعل ضمنها إن ماتت، نعم لو سافر المرتهن بالثوب بلا إذن ضمنه، وإن لم يلبسه كالوديع، إلا إذا لم يجد المالك أو وكيله أو الحاكم أو الأمين على الترتيب الذي ذكروه في الوديعة، فإن أذن له في السفر واللبس فسافر به ولم يلبسه فنهب في طريقه فلا ضمان إلا إن قصر في الدفع وقد أمكنه، وهذا محمل كلام الكمراني. (مسألة): رهن أرضاً بدار لم يقبضها لم يصح، فلو قال له الراهن: إذا أتى عليّ تسليم للدولة فسلم عني فسلم عنه لم يرجع عليه بشيء لأن الإذن مفروض قبل طلب الدولة وإن طلبوا بعد، بخلاف الإذن بعد صدور الطلب فيرجع بما سامه. (مسألة): حكم المرتهن بعد قبض المرهون حكم الوديع في الضمان وعدمه، فإذا أراد سفراً وجب رده إلى المالك أو وكيله أو الحاكم كما أفتى به(1/64)
الرداد. (مسألة): أراد فك العين المرهونة والمرتهن غائب، لزم الحاكم الإذن في بيعها وقبض دين المرتهن بعد ثبوت غيبته، كما أفتى به السبكي، وقولهم: وليس للقاضي قبض مال الغائب محله إذا لم يكن هناك رهن، أراد صاحبه فكه، بل مقتضى كلام الماوردي أن الراهن إذا عجز عن المرتهن وترافعا إلى القاضي باع العين المرهونة، وجرى عليه في العباب، وينبغي أن محله إذا عرضت ضرورة إلى بيعه كالعجز عن مؤنته وحفظته، والحاجة إلى ما زاد عن دين المرتهن من ثمنه، وأن يشهد إذا باع لنفسه للتهمة. (مسألة): رهن عيناً ثم طلبه المرتهن بالدين فقال: إذا جاء الوقت الفلاني ولم أوفك فهذا المرهون نذر لله تعالى ثم عليك، فقبل المرتهن وانتظر الأجل فلم يأته بشيء ثم باع العين فالنذر نذر لجاج، يخير الناذر عند حلول الأجل بين الوفاء وبين كفارة يمين والبيع باطل. (مسألة): رهن عيناً بدين ثم قضاه وطلب العين فقال المرتهن: رهنتها عند شخص وأقر الشخص بارتهانها وقال: وأنا أيضاً رهنتها عند ثالث، ولم يأذن المالك لأحد منهم في الرهن، فطلب العين ممن هي بيده فأنكر استحقاقه لها، والحال أن الذي رهن على هذا مقر بالعين للمدعي وأنه متعدّ بالرهن، وأقام المالك أيضاً بينة أن العين ملكه فطلب المدعى عليه يمين المدعي على صدق بينته لم يجب إلى ذلك لأنه مرتهن بزعمه، وهو لا يخاصم عند الشيخين، بمعنى أنه لا يثبت ملك راهنه، ورجح جمع متأخرون أنه يخاصم في العين دون البدن، وهي أي المخاصمة متعذرة هنا لأن راهنه مقر بالملك لغيره. (مسألة): عليه دينان لشخصين وبأحدهما عين مرهونة لا يملك غيرها وهي تفي بضعف الدينين، فطلب من المرتهن أن يتثمن من العين بقدر دينه، أو يأذن في بيع ما يفي بقدر دين الآخر منها لم يجبر، وإن كان ثم من لا يرغب في شراء جميعها، نعم يجبر على الإذن في بيع جميع المرهون ليأخذ قدر حقه من الثمن ويصرف من الفاضل ما يفي بدين الآخر أو الإبراء من الدين. (مسألة): رهن(1/65)
أرضاً ثم تعدى وزرعها لم تلزمه للمرتهن أجرة الأرض، وإذا أعسر عند حلول الأجل عن وفاء الدين من النقد، أو مات ومعه عرض من جملته الأرض المرهونة، تخير المرتهن بين أن يتثمن منه بدينه بثمن المثل أو يصبر إلى أن يوجد راغب يشتري بثمن المثل، وهو ما انتهت إليه رغبات الناس في ذلك المكان والزمان، وليس للراهن كوارثه المنع من الابتياع إلا بما يقوّمه المتقوّمون، إذ ثمن المثل ما انتهت إليه رغبات الناس بعد النداء والإشهاد كما حققه السبكي، ويجب على المدين السعي في ذلك. (مسألة): أرسل شخصاً يستقرض له مالاً معلوماً ويرهن في ذلك عيناً له، ففعل الوكيل ما أمر به مع ثقة مأمون ودفع المال إلى الآمر، فطلب المدين فك عينه في غيبة المرتهن، لم يكلف الرسول إحضاره ولا يضمن الرهن.
تعلق الدين بالتركة(1/66)
(مسألة): تقدم الزكاة على دين الآدمي المسترسل في الذمة، أما المتعلق بمال الزكاة تعلقاً سابقاً عليها كالمرهون والمحجور فيقدم قطعاً، هذا في صورة كون الزكاة ديناً مسترسلاً في الذمة لتلف النصاب بعد التمكن، أما إذا كان النصاب باقياً فالزكاة مقدمة على ما ذكر أيضاً. (مسألة): مات شخص وعليه دين وخلف مالاً قدر الدين أو أكثر لا تبرأ ذمته حتى يؤدي عنه، فلو تحمل الولي أو غيره الدين لينتقل إلى ذمته ويبرىء الميت بصيغة الضمان لم تبرأ على المشهور، ولا دلالة في حديث عليّ رضي الله عنه على براءة ذمة الميت بالضمان، وإنما فيه دلالة على صحة الضمان، وقوله: "فككت رهان أخيك" أي بالأداء لا بالضمان، كما في شرح المهذب في حديث أبي قتادة، واختلفوا في فكاك درعه التي رهنها عند اليهودي فقيل فكها، والصحيح أنه مات وهي مرهونة. وقوله : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" أي محبوسة في القبر غير منبسطة مع الأرواح في البرزخ، وفي الآخرة معوقة عن دخول الجنة حتى يوفى عنه محله في غير الأنبياء. (مسألة): مات مدين وخلف تركة تفي بالدين، فاتفق الورثة أو بعضهم وأهل الدين على إبقاء الدين بحاله بذمة الميت إلى أن يحصل في الموجود زيادة في الأثمان، أو قصدوا إشهارها رجاء الظفر بزيادة، والحال أن الموجود له أثمان يرغب في شرائه بها، لم يجز ذلك نظراً إلى مصلحة الميت لما فيه من تأخير براءة ذمته، بل الميت أولى بمراعاة حقه، كما لا يخفى فيجبرهم الحاكم على ذلك. (مسألة): أثبت شخص عند حاكم بدين على ميت من غير إحضار ورثته مع وجودهم في البلد من غير تعذر ولا توار، فليس للقاضي أن يبيع التركة بمجرد ما ذكر، بل لو فرض ثبوت الدين بشروطه المعتبرة فليس له بيعها من غير عرض على البالغين من الورثة وأولياء الأطفال منهم، فلو تصرف والحال ما ذكر لزم من أخذ شيئاً منها أجرة المثل مدة بسطه إن كانت، ثم أجره لعدم صحة التصرف. (مسألة): مات شخص فوجد تحت يده(1/67)
مساطير بأسماء أناس غيره بخط غيره من الكتاب، وعليها خطوط القضاة الماضين والباقين، كانت يده على ذلك دالة على ملكه لها دلالة شرعية فتكون تركة، وكون المساطير بأسماء أشخاص لا تدل على ملكهم لها ما لم تقم حجة شرعية بملكهم فتسلم لهم، فقد يكتبها المالك لنفسه للتذكر والمراجعة، ولو أثبت شخص بأن الميت أوصى بتسليمها إليه سلمت له إذ الإيصاء برد الودائع جائز. (مسألة): توفي وعليه دين فقبض الحاكم بعض التركة وقسم الباقي على الورثة، وقال لأهل الدين: أنا أقضيكم من مالي، فما أخذه الحاكم حكمه حكم المغصوب ولا يحل له إمساكه وإعطاء أهل الدين من عنده، بل هو بذلك آثم معزول شرعاً لا تنفذ أحكامه، ولا يجوز للورثة التصرف فيما بأيديهم ما لم يقضوا الدين. (مسألة): مات وعليه دين مهر وغيره وقد دبر جارية وهي لا تخرج من الثلث لم تعتق، لأن الدين مقدم على الوصية، ولا يصح شراء الوصي الجارية عن أجنبي من غير إذن الحاكم. (مسألة): أذن الوارث أو وليه لآخر أن يقضي دين الميت أو يجهزه ويرجع على التركة رجع عليها، كما لو قضى الدين بعض الورثة بإذن الباقين ليرجع وإن لم يكن وصياً.
التفليس(1/68)
(مسألة): الفرق بين الزوجة الحادثة والولد حيث ينفق عليه دونها أنه لا اختيار له في الولد بخلافها، قال البلقيني: ينفق عليه وإن استلحقه بعد الحجر، أي لأن إقرار النسب واجب. (مسألة): معلم أسلف رجلاً مالاً لكونه يشتغل تحته في صنعته بأجرة، ثم خرج المدين من عنده واشتغل بمكان لنفسه فطلب رجوعه لم يجبر، وله أن يكتسب بصنعته في أي موضع شاء، ولا يكلف الاكتساب لقضاء دينه، قلت: بل هذا السلف المذكور إذا كان للعلم غرض بأن ينقص من أجرة الأجير أو يقدم شغله على غيره من الربا المحرم الداخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: "كل قرض جرّ ربحاً فهو ربا" كما ذكره في الرابطة المعروفة بحضرموت. (مسألة): من عليه دين ثم وهب أو تصدق أو وقف جميع ما يملكه وكان لا يرجو الوفاء من غيره، فالذي نعتمده في الفتوى تبعاً لشرح المهذب في صدقة التطوع وغيره البطلان، فلو طولب من عليه ديون فقال: أراضي وبيوتي موقوفة على أولادي، فالذي حققه الكمال الردّاد أنها صيغة إنشاء، فحينئذ لا ينفذ منه، فإن قال: أردت بذلك الإقرار لم يؤثر، ولم يخالف هذا ما في فتاوى الكمال الرداد من أنه لو أقر عند الحاكم لشخص بدين معاملة، ثم أقر إقراراً آخر أن جميع ما كان معه لولده الطفل ثبت بذلك إعساره وانصرفت عنه المطالبة، لأن ذلك مفروض في إقرار، والإقرار يخالف الإنشاء، إذ الإقرار إخبار عن حق سابق فصححناه وإن كان عليه دين مستغرق. (مسألة): رهن عيناً بدين وهي تزيد عليه زيادة ظاهرة وغاب، فأثبت آخر بدين حالّ له على الراهن المذكور عند الحاكم، وطلب منه أن يبيع الرهن ويعطي المرتهن دينه أجيب إلى ذلك وأعطاه الزائد، وإن كان للراهن أعيان أخر لا تساوي دينه، ويجبر المرتهن على قبول حقه ولو قبل الحلول حيث لا ضرر عليه في ذلك.
الحجر(1/69)
(مسألة): انتقل بزوجته وولده إلى بلد آخر ثم مات بها، جاز للمرأة أن تنتقل بالولد بإذن القاضي، بل لها أن تسافر به في البحر إذا تضررت بالإقامة في الغربة حفظاً لنسبه، كما نقله الأذرعي عن الجويني، وللقاضي أن يقرض مال الطفل ملياً أميناً، ويسافر به في البحر ليوصله إلى بلد أبي الطفل اهـ، لكن للمصنف فتيا أخرى بخلاف ما ذكر، وهي مسألة إذا كان اليتيم وماله معاً ببلد فيها قاض فولايتهما لقاضي تلك البلد، وإن كان اليتيم ببلد وماله بأخرى فولاية اليتيم لقاضي بلده وماله لقاضي بلد المال، فإذا أرسل قاضي بلد اليتيم ثقة عدلاً أميناً إلى قاضي بلد المال ليقبض مال اليتيم، وجب دفعه إليه بعد ثبوت جميع ما ذكر عنده، ولا يخفى أنه لا يجوز المسافرة بمال اليتيم في البحر ويضمن بذلك، وكذا لا يجوز السفر باليتيم في البحر أيضاً، كما اعتمده الأسنوي وتبعه ابن المقري، وما فرق به بينهما لا يخفى ما فيه من التحمل والتكلف اهـ. وقرر هذه المسألة في درسه وقال: قد أفتيت به مراراً واستقر الأمر عليه. (مسألة): يجوز لنحو الأخ والعم تعليم الصبي وتأديبه والإنفاق عليه وكسوته من ماله عند تعذر مراجعة الولي من حاكم أو غيره وإلا ضمن. (مسألة): أقرّ صبي بالاحتلام لإمكانه وهو تسع سنين، فباع شيئاً من ماله، ثم بعد سنين ادّعاه وقال: كنت حال البيع صبياً وإقراري بالاحتلام جهل وكذب، كان إقراره بالاحتلام صحيحاً، وأما البيع فلا يصح منه حتى يثبت رشده حال البيع. (مسألة): يقبل قول الشخص ذكراً كان أو أنثى في البلوغ بالاحتلام، ولا بد في الشهادة بالبلوغ بالسنّ أو بالإقرار بنحو الاحتلام من رجلين، ولا يقبل إخبار امرأة كالأم بقول بنتها بأنها بلغت، وكذا لا يقبل قول عدل واحد على المنقول المعتمد، خلافاً للحاوي الكبير وابن عجيل، نعم لو أخبر العدل أو المرأة الثقة بالبلوغ وصدّقه الزوج أو الوليّ جاز لهما الإقدام وعقد النكاح بناء على إخبارهما، نظير ما أفتينا به(1/70)
من أنه إذا أخبر العدل برؤية هلال شوّال وجب الفطر على من صدقه، إذ هو من باب الخبر لا من باب الشهادة وبينهما فرق، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بالعلم. (مسألة): باع شيئاً أو أقر به ثم ادعى أنه صدر منه ذلك وهو صبي فالقول قوله إن أمكن صباه، فإن أقاما بنيتين قدمت بينة البلوغ لأن معها زيادة علم. (مسألة): المعتمد الذي رجحه الشيخان المعتمد عليهما في تحرير المذهب وتنقيحه وجوب تنمية قدر المؤن من مال الأيتام ونحوهم على المولى إن أمكن بلا مبالغة، فعليه إذا تركها مع إمكانها انعزل لتركه الواجب عليه كما لا يخفى، والذي ذكره العراقيون أن الاتجار ونحوه مستحب، قال الأذرعي وهو المنقول عن عامة الأصحاب: فلو قالت الأم الرشيدة الثقة المليئة القادرة على حفظ المال: أنا ألتزم مؤنة الأيتام من مالي بطريقة النذر، وأحفظ مالهم وأنميه، ورأى القاضي الأهل المصلحة للأيتام في ذلك، فله نزع المال من الوصي التارك للتنمية ويدفعه إليها وينصبها عليهم. (مسألة): استولى الأب على مال الأطفال وتصرف فيه بالبيع وغيره من غير مصلحة، كان ذلك قادحاً في ولايته، وتسمع دعوى الحسبة من الأقارب والجيران وغيرهم عليه، ولهم إقامة البينة عليه وتحليفه كما قال الغزي، وهذه مسألة نفيسة، فكثيراً ما يدعي بعض الجيران أو أقارب الطفل على وصيه أنه أتلف مالاً له ولا يسمع القاضي كلامه ويقول إنه فضولي. (مسألة): لا يجب على من أراد معاملة شخص البحث عن رشده وأهليته، وإن غلب على الناس السفه بترك نحو الصلاة، كما يجوز معاملة من أكثر ماله حرام حيث لم يتحقق تحريم ما وقع العقد عليه، ومتى علمنا سفه العاقد المستمر من صغره لم تجز معاملته، وبذلك يعلم الفرق بين معلوم السفه ومن جهل حاله، نعم لو ابتلي شخص بعدم وجود من يعامله إلا جماعة يعلم سفههم واحتاج لمعاملتهم فليقلد من قال بصحة معاملتهم ليتخلص من هذه الورطة قاله السمهودي. (مسألة): يجوز لولي المحجور أن يسلم(1/71)
خراج الدولة ومطالبهم من مال محجوره بلا ضمان، ولو لم نقل بذلك لرغب الناس عن الوصاية والفقه مبناه على درء المفاسد وجلب المصالح. (مسألة): إذا خاف الولي على مال محجوره جاز له تخليصه ببعضه، وله أن يصالح وأن يؤجر أعيانه بدون أجرة المثل إذا خاف تعطيلها، وجوّز عز الدين تعييب ماله إذا خاف غصبه سليماً كما في قصة الخضر وموسى. (مسألة): الرشد صلاح الدين والمال هذا مذهب إمامنا الشافعي رحمه الله، وفي وجه حكاه المتولي أنه إذا بلغ مصلحاً لماله سلم إليه ونفذ تصرفه فيه وإن كان فاسقاً، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وبهذا الوجه قضى البدر ابن جماعة، وأفتى به قاضي القضاة ابن زين وابن عجيل وغيرهم، قلت: ولا يسع في هذا الزمان إلا تقليد هؤلاء الأئمة، وأنى يوجد من يبلغ مصلحاً لدينه في أولاد الأخيار فضلاً عن النساء والأنذال اهـ. وعلى الأوّل المعتمد لو كانت امرأة بلغت سفيهة تاركة للصلاة ولم تزل كذلك فباعت أرضاً لها لم يصح البيع، ولا يجوز للحاكم الحكم بصحته، وعليه أيضاً يجب على الولي إخراج زكاة السفيه كالمجنون، فلو فرض أن للسفيه شركاً في مال بينه وبين صبي، وخاف ولي الصبي إن أعلم السفيه بالشركة ضياع المال المذكور وأخذ ظالم له، جاز إخفاء شرك السفيه حتى يبلغ المحجور، وكذا يجب الإخفاء على وارث الوديع أيضاً لذلك، وليس للقاضي الامتناع من قبض المال من غير مسوّغ شرعي، إذ عليه حفظ أموال الأيتام الداخلين تحت نظره والبحث عنها، وليت شعري أيّ قاض في زماننا عامل بما شرعه الله تعالى ورسوله، لعمري إنه لعزيز، وفقنا الله تعالى لطرق الهدى آمين.
الصلح(1/72)
(مسألة): مذهبنا أن الصلح على الإنكار غير جائز، فعليه لو ادعى على آخر شيئاً فأنكره فليس للقاضي أن يأمر بالصلح، ولو اصطلح الخصمان على الإنكار تقليداً منهما للمجوّزين ذلك جاز، بناء على أن التقليد يتجزأ كما هو مقرر في محله، وقد بسطت الكلام على ذلك في الأدلة الواضحة في الجهر بالبسملة وأنها من الفاتحة. (مسألة): عليه دين دراهم معلومة لآخر وبه رهن، فأتى ببعض الدراهم وقال للدائن: صالحني عن الدين الذي تستحقه بذمتي بهذه الدراهم فصالحه صح، خلافاً للروض في قوله: ولو كانت الخمسمائة المصالح بها عن الألف معينة لم يصح الصلح، ومقتضى الروضة الصحة، وجرى عليه في العباب. (مسألة): وكلته زوجته أن يصالح عن حق في تركة مورثها وأطلقت الوكالة، ولم تعين له قدراً من حط الثلث أو الربع بل فوضت الأمر إليه فصالح ببعض العقار ثم باعه، لم يصح الصلح والبيع، قال في العباب. (فرع) لو وكله بصلح معاوضاً صالح بثمن المثل أو حطيطة فليبين القدر، فإن قال بما شئت جاز وفيه نظر، وعليه فينبغي أن يصالح بمتموّل اهـ. (مسألة): الصلح على المجهول باطل، فلو صالحت المرأة عن إرثها في الزوج وهي جاهلة بقدر التركة، ثم أقرت عقب الصلح أنها لا تستحق شيئاً ظناً منها صحة الصلح فالإقرار باطل، كما لو جرى الصلح على الإنكار، ثم قال: أبرأتك عن الحق أو برئت عنه فلا يصح الإبراء ولا يؤخذ بالإقرار كما نص عليه الشافعي، ومنه يؤخذ أن من عقد عقداً ثم استظهر بالإقرار ثم بان فساد العقد لم يؤاخذ بإقراره، كما أشار إليه ابن الصلاح في فتاويه. (مسألة): صالح أحد الورثة بقية شركائه في التركة بمال معلوم، ثم نذر لهم بكل ما يستحقه في التركة، ثم ظهر عين في التركة غير ما جرى عليه الصلح، فالصلح على ما علم من التركة صحيح، والنذر المذكور صدر منه على سبيل الاستظهار لما وقع عليه عقد الصلح، فلا يشمل غيره ويشارك فيما يظهر.
الحقوق المشتركة(1/73)
(مسألة): انتشرت أغصان شجر إلى هواء أرض جاره، فلصاحب الأرض مطالبته بتحويلها، فإن امتنع فله التحويل، فإن تعذر فله قطعها ولو بغير إذن القاضي. (مسألة): السكة المنسدة مشتركة بين أرباب الدور النافذة أبوابها إليها، فإذا رأينا فيها ميزاباً لأحدهم فحكمه حكم الميزاب الذي يصب في أرض الغير، وهو أنه إذا لم يعلم ابتداؤه فالقول قول صاحب الميزاب أنه يستحق ذلك، وحينئذ لا يضمن ما تولد من ضرره من نحو تلف ورشاش، كما قاله الرافعي، ولا يشكل ذلك بما نقل عن البغوي أنه لو ترشش بالماء السائل من الميزاب ثوب ضمن يعني نقصه، لأن ذلك مفروض في ميزاب مثقوب إلى الشارع، ووجه الضمان فيه أن الارتفاق بالشارع مشروط بسلامة العاقبة، بخلاف السكة المنسدة لتعين أهلها. (مسألة): ميزابان يجريان إلى دار جاره، فادعى المجري أنه بعادة قديمة لا يعلم لها ابتداء، وادعى الجار أنهما محدثان، فالقول قول مدعي الحدوث بيمينه، لأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن، فلو أقاما بيتين قدمت الشاهدة بالقدم. (مسألة): له بيت مجلس وبجانبه خزانة، وضلوع المجلس على الحاجز الذي بينه وبين الخزانة، ثم إنه رفع سقف المجلس ثم باع الخزانة وأدخل في بيعها الحاجز المذكور، ثم أراد إعادة سقف المجلس هو أو من انتقل إليه ذلك، وأراد وضع الضلوع على الحاجز المذكور لم يمنع منه، وفي فتاوى البغوي فرع يشهد لذلك، وأقره في التوسط، وأفتى به الرداد وهو المعتمد وإن خالف فيه ابن الصلاح. (مسألة): جعل في داره مسيل ماء يجري إلى دار له أخرى، وجعل في الدار الأخرى مصباً محكماً لذلك الماء الذي يجري من داره، ثم باع هو أو ووارثه الدار التي فيها المصب، فليس للمشتري المنع من إجراء الماء إلى المصبّ المذكور، وليس له أيضاً أن يفتح مسيلاً إليه لأنه صار من حقوق التي يسيل منها الماء إلى المصب المذكور. (مسألة): يحرم أخذ شيء من جانب الطريق وإدخال بدله من ملك الآخذ لذلك من الجانب الآخر، ويعزر(1/74)
فاعل ذلك إن علم التحريم بما يراه الحاكم من ضرب أو نفي أو حبس، وله أن يجمع بين نوعين إن رأى ذلك، ويجب على ولي الأمر إزالة ذلك الأمر ويثاب عليه، قلت: وافقه ابن حجر في الفتاوى وجعله داخلاً تحت حديث: "من ظلم قيد شبرّ". الخ، وإذا كان هذا فيمن أخذ وردّ مثلها فما بالك فيمن لم يرد ذلك أو أدخل الكل في ملكه؟ عافانا الله من ذلك.
الحوالة
(مسألة): له دين على آخر وبه وثيقة فأحال الآخر بالدين، لم تنتقل الوثيقة بوجه حتى بالنذر والإقرار، وقول الكمراني تنقل بهما غلط. (مسألة): أحال المدين دائنه على آخر بدينه، فقال الدائن: لا أقبل الحوالة حتى أسأل المحال عليه فإن أقر بالدين قبلت، فسأله فأنكر فلم يقبل الدائن فله مطالبة مدينه بدينه المذكور، ولا يكون مجرد ما فعله الدائن مانعاً من مطالبة الدين.
الضمان(1/75)
(مسألة): كفل ببدل شخص عليه مال معلوم وأنه متى طلب أحضره، وإن غاب ضمن المال صحت الكفالة، وانتهت بموت المكفول وبطل الضمان المذكور، فلا يغرم المال مطلقاً. (مسألة): ضمن عن شخص أو قضى دينه بغير إذنه لم يلزم الدائن القبول، كما في العباب وكما قاله زكريا في شرح الروض، ولا يقدح في ذلك تقدير دخوله في ملك المدين، لأن ملك المدين إنما قدر لضرورة الإبقاء، فليس مقصوداً في نفسه، لا جرم أن المعتمد في الفتوى فيما إذا تبرع أجنبي بأداء الثمن عن المشتري ثم فسخ البيع أن الثمن يرجع إلى الأجنبي كما رجحه المزجد وغيره. (مسألة): كان لامرأته عليه دين ولها في ذمته صداق غير الدين المذكور فقالت له: أبرأتك من درهم إلى ألف درهم ولم تستثن الصداق، ولكن مرادها الدين فقط، وكانا لا يزيدان على الألف، برىء من دين الصداق ظاهراً، وفي الباطن وجهان، وفي الرافعي لو قال لمن له عليه ألف: أبرأتك من ألف، ثم قال: لم أعلم وقت الإبراء أنه كان لي عليه شيء لم يقبل قوله في الظاهر، وفي الباطن وجهان اهـ. وجرى في العباب على عدم القبول مطلقاً. (مسألة): قال لزوجته: أبرئيني من مهرك إلى ألف، فقالت: أبرأتك أو أبرأت، أو أبرئيني إلى ألف، فقالت: أبرأتك ونويا البراءة من المهر صحت في الكل واستحقت الألف، إذ الإبراء في مقابلة مال معين أو موصوف في الذمة صحيح، وفي العباب لو قال لغريمه بلا خصومة: أبرئني من دينك على كذا فأبرأه جاز، وجرى عليه الزركشي والأنوار. (مسألة): مات وعليه دين فضمن بعض الورثة للمستحق جميع الدين المذكور صح الضمان اتفاقاً كما في الروضة، فلو مات الضامن فطلب المضمون له إبقاء الدين من تركته أجيب، ولا يصح تصرف الورثة في شيء من التركة قبل براءة مورثهم. قلت: وكذلك لا يصح التصرف في تركة المضمون عنه، فلا تبرأ ذمته إلا بالأداء، ولا يكون الضمان مجوّزاً للتصرف كما ذكره غيره، وتقدم في الجنائز نحوه. (مسألة): رجل قال لآخر: سلم عني وعن(1/76)
أخوتي وبني عمي مكتباً إلى الدولة، وعليّ ضمان ما تسلمه إليهم، فسلم الآخر الذي يطلبه الدولة من الآخر وبني عمه وإخوته رجع بما دفعه على الآذن له، كما لو قال: افد هذا الأسير أو أعط هذا الفقير درهماً لترجع علي، وقال السمهودي: وبالجملة كل موضع أمر إنساناً حتى يعطي من جهته مالاً، وللآمر فيه غرض يعود عليه منه نفع أو مثوبة رجع الدافع اهـ. (مسألة): زرع في أرض الغير بإذنه وكتبها الممشى في اسم صاحب الأرض بإذن الزارع وسلم صاحب الأرض المكتب رجع على الزارع، ذكره ابن عجيل وعلته أنه ورّطه في الخسارة، وقيل لأن نفعه عاد إليه
الشركة
(مسألة): إذا بنى أحد الشريكين بغير إذن شريكه كان للآخر قلعه مجاناً ولا شيء عليه في ذلك، فلو قلعه عبد الشريك، فإن كان بإذن سيده فلا شيء عليه، وإلا تعلق الضمان برقبته لأنه باشر الإتلاف بنفسه. (مسألة): اشتركا في مال شركة صحيحة، وأذن كل لصاحبه في التصرف بحسب المصلحة، ثم نهى أحدهما صاحبه عن شراء جنس من البضائع كالنيل مثلاً، فاشتراه بعد النهي، فإن كان الشراء بعين المال المشترك صح في نصيب المشتري فقط، وانفسخت الشركة في نصيب شريكه، وصار البائع شريكاً له، وإن كان في الذمة اختص به فيزن الثمن من ماله، فإن أدى من مال الشركة ضمن نصيب شريكه بالتسليم، ثم لو خلط ما اشتراه بعد النهي ولم يتميز ضمن أيضاً حصة صاحبه من المخلوط بما ذكر. (مسألة): شريكان في أرض غرسا شجراً فعطب، ثم بعد تشققه وخروج ثمره باع أحد الشريكين الشجر بثمره بغير إذن شريكه صح في قدر حصته فقط بقسطها من الثمن. (مسألة): له أرض بذرها هو وآخر ببذر دخن مشترك بينهما، وبعد أن حصد زرع الدخن سقيت الأرض فنبت فيها زرع كثير من الحب المتناثر من الدخن المشترك، كان الزرع النابت مشتركاً بينهما، إن كانت يدهما باقية على الأرض بتجديد العمل فيها، وإلا فاز به صاحب الأرض فقط، ذكره حسين الأهدل.
الوكالة(1/77)
(مسألة): يجوز التوكيل في قبض الزكاة ممن يحل له ذلك، قاله النووي في زيادة الروضة، قلت: خالفه ابن حجر في الفتاوى فقال: لا يجوز إلا إن انحصر المستحقون في محل، فلمن سافر منهم أن يوكل لأنهم ملكوها حقيقة. (مسألة): قال لآخر: أعطيت بيدك طلاق فلانة أو سلمته إليك، ولا تطلقها إلا في الوقت الفلاني، أو لا تعطه إياها إلا في وقت عينه، كان ذلك وكالة، ولا يؤثر فيه تعليق التصرف.( مسألة): قال له: اشتر لي جارية لأطأها، فاشترى له محرماً، بنسب أو رضاع لم يصح، كصغيرة لا يمكن وطؤها كبنت ثلاث سنين على الأوجه، كما لو كان تحته أختها عملاً بالقرينة كما قالوه فيما إذا كان يأكل خبزاً فأعطى آخر درهماً وقال: اشتر به لحماً تعين شراء المطبوخ. (مسألة): وكل آخر أن يستأجر له داراً من زيد بأجرة معلومة وذكر له المدة ولم يذكر ابتداءها صح، وحمل على أن ابتداء المدة من العقد على الأصح. (مسألة): وكلت امرأة ابن زوجها في قبض ما تستحقه بذمة أبيه من صداق وغيره من الديون والمطالبة به، وفي قبض ما سيحدث لها من الملك بإرث وغيره صح بناء على صحة التوكيل في بيع ما يملكه الآن وفيما سيملكه كما قاله المزجد. (مسألة): أودع إنساناً عيناً يوصلها إلى وكيل في بلد كذا، فلما وصل طالبه المرسل إليه وقال له: إن فلاناً أرسل معك عيناً توصلها إليّ، فأنكر المودع وقال: إن فلاناً لم يعطني شيئاً، فليس للوكيل الدعوى وإقامة البينة عليه، لأن المرسل لم يوكل إلا في القبض وهو لا يدعي. (مسألة): وكل في بيع عين فأخر بيعها حتى تلفت بعد تمكنه لم يضمنها، ولو وكله في طلاق زوجته وأطلق مطلق الوكيل ثلاثاً وقعت واحدة فقط، ذكرهما في العباب. (مسألة): إذا اختلف الموكل والوكيل في أنه أدى بحضوره أي الموكل أو في الإشهاد، فادعاه الوكيل وقال: مات الشهود أو غابوا فأنكره الموكل، ففي الصدق منهما وجهان: المعتمد ما رجحه الشيخان وغيرهما أن المصدق فيهما الموكل، فما نقله زكريا عن(1/78)
المتولي من أن القول قول الوكيل في الإشهاد مرجوح، كما أن قولي المتولي القول قول الوكيل في الحضور كذلك أيضاً.
الإقرار
(مسألة): أقر شخص أنه لا حق له في الوقف ثم بان كذبه، وأن شرط الواقف يقتضي استحقاقه لم يؤخذ بإقراره، سواء تعمد ذلك أو جهل استحقاقه، لأن ثبوت هذا الحق لا ينتقل بكذبه. (مسألة): قال رجلان لآخر: أقر لنشهد عليك، فأقر كما أمر صح إقراره ولهما أن يشهدا وعليه هو ظاهر، ولا يتخيل أنه إكراه لفقد شرطه. (مسألة): عبد مسلم بالغ رشيد تحت يد مالك مقر له بالملك يستخدمه مستفاض بين الناس أنه عبد، ثم أعتقه السيد بحضرة بعض العلماء عتقاً صحيحاً، فانتقل العتيق إلى بلد أخرى وأقرّ أنه ملك لشخص آخر لم يقبل إقراره بعد ثبوت العتق، لأن العتيق المسلم لا يتصوّر حدوث الرق عليه سواء كان سيده مسلماً أو كافراً، نعم لو كانا كافرين تصوّر حدوث رقه بأن يعتقه سيده ثم يلتحق بدار الحرب، فإنه يجوز سبيه واسترقاقه على الأصح في الروضة. (مسألة): شخص بذمته دين لآخر، فرهن ابن المدين أرضاً مشتركة بينه وبين والده بإذنه في رهن الجميع لم يصر بذلك مقراً بحصته لوالده، لأن للإنسان أن يرهن ملكه عن غيره بإذن ودونه، ولا يكون بذلك مقراً به لمن رهنه عنه، بل ضامن للدين في عين المرهون، فإن كان بإذن رجع وإلا فلا. (مسألة): قال لجماعة: اشهدوا عليّ بأن لفلان أو في ذمتي لفلان كذا، كان إقراراً على المعتمد كما اقتضاه كلام الشيخين، لا سيما مع شيوع ذلك في الإقرار، فلا فرق بينه وبين أشهدكم كما قرره السبكي خلافاً لابن الصلاح وزكريا. (مسألة): أكره شخص على الإقرار لغي، سواء كان الإكراه على الإقرار للكره أو لغيره. (مسألة): أقرّ بأن عنده ثمان أواقي، ثم ادعى أن أصل هذه الدراهم من عقد فاسد بأن قال: أعطاني أربع أواقي بثمان سمعت دعواه وبينته بذلك، وسقط ما زاد على أربع، نظير ما لو قال لزيد: عليّ كذا صفته ومحله كذا، ثم قال: هو سلم فاسد لكون(1/79)
ثمنه ديناً عليّ وأقام بينة قبلت إذا لم ينكر السلم بل أثبت صفة العقد اهـ عباب. (مسألة): كتب شهادته على حجة مكتوب فيها: باع فلان بن فلان الفلاني العين الفلانية وهو يملكها بيعاً صحيحاً ثابتاً منبتراً نافذاً، فكتب شهادته وصورة كتابته: شهد على ذلك فلان بن فلان لا يكون بمجرد الكتابة المذكورة مقرًّا بالملك للبائع وإن أقرّ بها أو شهدت عليه بينة بكتابته. (مسألة): أقرّ لبعض أولاده بأن ما تحت يده من أعيان ملكه ورثه من أمه المستولدة اكتسبتها هي لُغي إقراره، فتكون الأعيان المذكورة من تركة المقرّ، إذ كسب المستولدة ملك السيد، فلا بد فيه من ناقل يزيد الملك إلى الأولاد، والإقرار ليس من العقود المملكة للمقرّ به، وإنما هو إخبار عن حق عنده أو عليه للمقرّ له، ومن ثم لو قال: ملكي لفلان لُغي. (مسألة): أقرّ لورثة أخيه أن المال الذي بيده لفلان المقارض له وهو كذا لهم، وأقرّ أيضاً أن لهم في ذمته كذا وكذا عينه تعدّد الإقرار، إذ الأوّل إقرار بعين، والثاني بدين، والعين والدين متغايران. (مسألة): الدعوى على الغائب لإقامة البينة على إقراره صحيحة، فحيث ثبت إقراره بقوله: عندي لفلان كذا وكذا ديناراً، ثم فسره بعد ذلك بقراض قبل تفسيره، فإن ادعى التلف وأسنده إلى ما قبل الإقرار لم يقبل، لأن التلف ليس عنده بحال، كما ذكره السبكي والأسنوي وغيرهما فيما إذا فسر بالوديعة. (مسألة): مات شخص وله على آخر دين فادعاه ورثته وثبت بالبينة، فأقام المدين بينة أن الميت أقرّ له في ربيع سنة 951 أن المدين يستحق بذمته كذا وكذا، فثبت الدينان عند الحاكم وألزمهم تسليم الدينين، فحصل بين المدين والورثة مقاررة وإبراء، ثم بعد ذلك أثبت الورثة المذكورون بينة بأن المدين المذكور أقرّ في رمضان سنة 951 بأنه ليس له على الميت حق من الحقوق الشرعية، وادعوا أن إبراءهم وإقرارهم إنما صدرا منهم على ظن صحة ثبوت الدين على مورثهم، والحال أنهم لم يكونوا(1/80)
عالمين بهذه البينة إذ ذاك، سمعت دعواهم، فلا يلزمهم حكم إبرائهم الذي بنوه على ظن صحة ثبوت الدين على مورثهم ثم بان لهم عدم الاستحقاق، كما لو قال لزوجته: أبرئيني وأعطيك كذا فأبرأته، ثم امتنع من الوفاء لم يصح الإبراء. (مسألة): العناء قد يكون عيناً كالزبر ونحوه، وقد يكون أثراً كالحرث مثلاً، فإذا أقر إنسان بعناء بأن قال له: عليّ عناء في هذه الأرض، فإن أشار إليه عند الإقرار فذاك، وإلا رجع في تفسيره إلى قوله: فإن فسره بأنه أثر كالحرث والطيب قبل. (مسألة): ادعى ورثة ميت على زوجته أنها أقرّت بالعناء الذي تحت يدها لمورثهم، فإذا طلبت المرأة المذكورة يمين الورثة أن إقرارها صدر عن حقيقة أجيبت. (مسألة): أقرّ بالرقّ لميت مدين فطلب الغرماء بيعه، فقامت بينة بحريته مطلقة حكم بالرقّ، لأن البينة تشهد من حيث الظاهر وهو أعرف بحاله، فإن شهدت بعتقه قدمت على بينة الرقّ وحكم بمقتضاها. (مسألة): أقرّ لمتغلب متصف بالجور بحضرته ثم قال: أقررت لا كراهة لي على ذلك صدق بيمينه كما قاله الرداد. (مسألة): مات شهود الإقرار أو الوقف أو العتق ونحوها ولم يبق إلا واحد، فأقرب الحيل في ثبوت ذلك كما نقل عن الأذرعي أن ينصب الحاكم الشاهد المذكور فيحكم بعلمه في هذه المسألة إذا جوّزنا الحكم بالعلم، ويكون الحكم المذكور كحكم قاض آخر، وإذا أنهى المحكم ذلك إلى القاضي وحكم القاضي بصحته صحيح، وللقاضي ذلك إذا كان في تركته تضييع حق ثابت، بل ربما يجب عليه ذلك إذا خاف فوت الحق المذكور حالاً أو مالاً. (مسألة): ادعى على آخر أنه وقعت يده على أعيان معينة تعدياً، فأخرج المدعى عليه مسطوراً فيه أن المدعي المذكور أقر أنه لا يستحق عليه شيئاً من الأشياء، ولا حقاً من الحقوق، فادعى المدعي أنه لم يرد هذه الأعيان وإنما أراد غيرها صدق بيمينه في ذلك كما أفتى به ابن الصلاح، ولا يخفى أن محل قبول قوله حيث لم يكذبه ظاهر الحال كما يرشد إليه كلام(1/81)
البليقيني. (مسألة): ادعى على آخر ديناً فأنكر فأقام بينة فلما ثبتت قال: أنا عبد مملوك لفلان، وصدقه المقر له لم يقبل إقراره بالرق في حق صاحب الدين إذا لم يعهد رقه، بل لا بد من بينة. (مسألة): أقر عند الحاكم لآخر بدراهم معلومة من أصل قرض وطعام معلوم القدر والصفة من أصل مبيع قبضه من يد المقر له وصدّقه الآخر، ثم ادعى المقر أن الطعام المذكور نفع في مقابلة الدراهم، وأنه يطلب الحكم ببطلانه لزعمه أنه ربما لم تسمع دعواه لإقامة البينة، نعم له تحليفه أنه لا يعلم ذلك، فإن نكل حلف المقر.
الإقرار بالنسب(1/82)
(مسألة): لا يصح استلحاق المرأة للنسب، فلو قالت لصغيرة مجهولة النسب: هذه بنتي لم تلحقها على الأصح لإمكان إقامة البينة على الولادة، وكذا لو قالت المرأة لأخرى: أنت أمي وصدقتها لم تصر أمها بذلك، فلو كانتا بملك رجل جاز له وطؤهما مع الكراهة ما لم يصدقهما وإلا حرم عليه الجمع، فإذا وطىء إحداهما حرمت الأخرى أبداً. (مسألة): أقر في صحته أو مرضه لآخر أنه وارثه لا وارث له سواه، أو أوصى أن فلان بن فلان وارثي بالفرض والتعصيب، ويجمعنا فلان ننسب إليه، ولم يعلم ذلك إلا بوصيته أو إقراره ولا بينة، فلا أثر لذلك، لأن المقر له إن كان معروف النسب فلا فائدة في إقراره هنا، وإن كان مجهول النسب فلا يصح أيضاً ما لم يفسره، لأنه قد يريد بقوله عصبتي أنه أخوه، وربما يريد أنه ابن عمه، ثم بعد التفسير ينظر فيه، فإن قال: هو أخي يجب أن يكون هو جميع وارث أبيه، وإن قال: عمي فيكون جميع وارث جده، فإن كان ابن عمه يجب أن يكون هو جميع وارث عمه ليصح منه الإقرار بالنسب على طريق الخلافة عنه، ثم الميراث مبني عليه عندنا، ذكره القفال في فتاويه وهو المعتمد خلافاً لبعض المتأخرين، ولا بد من إثبات أنه وارث حائز. (مسألة): أقر شخص بأنه لم تكن له إلا بنت واحدة وشهدت بذلك بينة، ثم بعد ذلك أقر بأن له ابناً وبنتاً في جهة الهند، قبل منه الإقراران، ولا ينتفي الإقرار الثاني بمجرد إقراره الأول، لأن النسب حق لله تعالى لا ينتفي بمثل ذلك، بل لو نفى ولده باللعان ثم استلحقه لحقه. (مسألة): ادعى زيد أنه ابن عم عمرو ووارثه، وأقام بينة شهدت له بأن عمراً أقر بأن زيداً المذكور ابن عمه ووارثه، فلا أثر لإقرار عمرو، فلا يثبت به نسب ولا إرث حتى تتوفر شروط الإلحاق بالغير، ومنها أن تتعرض البينة لكون المقر المذكور كان وارثاً حائزاً لتركة الملحق به.
العارية(1/83)
(مسألة): ليس للولي إعارة مال الطفل ولو مشتركاً بينهما ككتاب ودابة ونحوهما كما صرح به في الروضة. (مسألة): أفتى ابن عجيل وأقره السمهودي أنه إذا كانت بهيمة بين اثنين وانتفع بها أحدهما برضا صاحبه وتلفت في يده ضمن نصيب الآخر لأن ذلك عارية، وحكم ضمان ولدها حكم ضمان ولد المستعارة، ولو نهبت أو سرقت ضمن القيمة للحيلولة، فلو فداها فإن كان بإذن رجع وإلا فلا، فإن كان بينهما مهايأة كان حكمه حكم المستأجرة، ولو أعطاه بقرة وملكه أوأباحه درها ونسلها، فإن لم يشرط عليه علفها فعارية فاسدة مضمونة هي فقط لا الدر والنسل، وإن شرطه فبالعكس، لأن لها حكم الإجارة الفاسدة، وما أفتى به بعضهم فيما إذا شرط عليه العلف أنه يفصل بين قصد المعطي المتبرع على الآخر بنحو الدر فيضمن الدابة كالمستعارة، وبين قصده ذلك في مقابلة العلف، فلا تضمن كالإجارة الفاسدة ضعيف. (مسألة): ادعى المالك العارية فأنكر القابض وادعى الأمانة والحال أن العين تالفة، صدق المدعى عليه القابض بيمينه، كما اعتمده البلقيني والرداد.
الغصب(1/84)
(مسألة): رفع شيئاً من بين يدي مالكه لينظر إليه فيتخذ مثله أو ليشتريه إن رضيه فتلف أو ضاع، فالمعتمد في الروضة أنه يضمنه، وقال الغزالي والإمام وصاحب العباب: لا. (مسألة): أرض سلطانية له فيها عناء محترم زادت به قيمة الأرض فهو ملكه وموروث عنه، فلو بسط أحد الورثة على الأرض بغير إذن الباقين لزمه أجرة مثل حصصهم من القدر الذي زادت به قيمة الأرض فقط، إذ هو المنتقل إليهم من مورثهم، وكذا لو كان تحت يد مورثهم وقف على قراءة أبيه مثلاً لم يجز لبعض الورثة الاستيلاء عليه من غير وصاية ونظر، خصوصاً إن كان فيه غبطة زائدة على أجرة القراءة. (مسألة): نصب شيخاً على أراض مزروعة لها أنهار صغار تنزع الماء من الوادي الكبير، تسقي الأراضي الأقنع فالأقنع ليعدل بين الناس بحسب الحقوق، وله على تلك الأنهار أراض، فصار يتطرق بذلك الماء ليتوصل به لسقي أرضه، فإذا سقيت أرضه تقدم إلى والي الأمر وليس عليه الأمر، وأماله إلى نقل الماء إلى نهر آخر، فيفعل فيه كما فعل في النهر الأوّل، فتضرّرت الرعايا ورسبت أراضيهم، وكل من تعرّض له منهم تهدده، ورفعه إلى والي الأمر وأغراه عليه بسبب ذلك، وقرائن حاله تدل على أنه يفعل ذلك ليعطوه أراضيهم بما يريده، فهذا الشيخ المذكور قد ارتكب أنواعاً من الفساد لا ترضى، ويصير بذلك خائناً للرعايا والسلطان، فاسقاً مأثوماً مردود الشهادة حتى يتوب، ويخاف عليه سوء الخاتمة، ولا يقبل قوله على الرعايا، ويجب عليه أجرة مثل أراضيهم مسقية، ولكل من خسر مالاً من الرعايا بسببه الرجوع عليه بجميع ما خسره، ويجب على والي الأمر قصره عن هذه الوظيفة وزجره وتعزيره. (مسألة): أمة تحت يد شخص وله منها أولاد، فادعى آخر أنها ملكه غصبت عليه وباعها الغاصب على المدعى عليه وأقام بذلك بينة، فإذا ثبت ذلك والحال أن المشتري جاهل بالحال، فعليه بالنسبة للوطء مهر ثيب وأرش بكارتها إن كانت بكراً، وأولاده أحرار نسيبون، وعليه غرم قيمة(1/85)
كل واحد منهم يوم الانفصال، وأرش ما نقص بالولادة، فإذا غرم ما ذكر رجع على الغاصب بقيمة الأولاد، وأرش نقص الولادة لا بالمهر. (مسألة): غصبت عليه أرض وهو ضعيف، فشرط لآخر سهماً معلوماً منها على أنه يخاصم ويقوم معه بالحجة وينزعه له من الغاصب، فجاء المشروط له السهم إلى آخر، وجعل له نصفه على أن يتعاونا في رد المغصوب، فالمرجح في ذلك أنه إن انتزعاها بعد المنازعة وإقامة الحجة استحق الأول أجرة المثل على مالك الأرض، واستحق المعين له أجرة مثل عمله على الشارط لا على المالك، وإن ردها الغاصب من غير منازعة لم يستحقا شيئاً. (مسألة): غصب شيئاً وخلطه بغيره ملكه، لكن يمتنع عليه التصرف فيه حتى يؤدي منه أو من غيره قدر المغصوب، كما قاله ابن المقري وغيره. (مسألة): الأفيون السالمة من العيوب مثلية، وأما المعيبة فمتقومة، صرّح ابن الصلاح أن المثلى المعيب متقوم. (مسألة): جعلته الدولة نقيباً على قوم من الرعية، أنه إذا كان للدولة مطلبة إن سلم الرعوى ما طلبه النقيب وإلا أمر الدولة بنهبه ضمن ذلك، فقد صرّح سلطان العلماء ابن عبد السلام فيمن سعى بغيره إلى ظالم فصادره، بأنه يرجع على الساعي بالمال الذي أخذ على المظلومين بسبب سعايتهم، وأفتى به الرداد قال: ويتعين العمل به في هذه الأعصار، وأفتى به الطنبداوي وقد أفتيت به مراراً، وهذا كما لو سعى بآخر إلى حاكم الدولة المعروف بالجور، فإنه يغرم ما غرمه المسعي به بسبب السعاية، وقول بعضهم إنه يغرم باطناً يعني أن السعاية لا تكون غالباً إلا خفية، فيغرم باطناً فيما بينه وبين الله، فلو فرض أنه أظهر السعاية وأعلن بها ضمن ظاهراً. (مسألة): سعى بقوم مسلمين إلى قوم آخرين على صورة الخداع، فأخدوا أموالهم وأرواحهم إن لم يوجد منه إلا مجرد الدلالة فلا غرم ولا قصاص، هذا هو المشهور، لكن يأثم بذلك إثماً عظيماً، ويستحق التعزير بما يراه الحاكم، وله أن يجمع بين نوعين فأكثر، ولا يبلغ به أدنى(1/86)
الحدود، فإن اعتقد حل الدلالة عليهم وإباحة أموالهم وأرواحهم فمرتد تجري عليه أحكامه. (مسألة): امتنع من الحضور بين يدي القاضي لمقابلة خصمه، فأذن القاضي للخصم أن يرفع أمره إلى حاكم السياسة، وتعين ذلك طريقاً إلى إحضاره، فما خسره الممتنع للحاكم وخدامه فلا يرجع به على أحد. (مسألة): استأجر ناخوداً لحمل معين مثلى في مركبه إلى الهند، فحمله في البحر، ثم خالف الريح ورماه في بلاد المهرة، فباعه الناخود من غير إذن وتلف بالبيع صار متعدياً، فإن طالبه المالك به في بلد التلف لزمه مثله، أو في غيرها لزمه قيمته يوم التلف في بلد البيع إن كان له قيمة، وليس للمالك تغريمه المثل وتكليفه نقله إلى الهند. (مسألة): غصب مالاً من دار مالكه وباعه على جماعة معينين، وجب على كل من وقعت يده على شيء من ذلك ضمانه ورده إلى مالكه إن بقي وبدله إن تلف، ويأثم المتعدي المذكور إن كان عالماً، ولا تقبل شهادته حتى يتوب توبة صحيحة، ومن شروطها رد ما وقع بيده لمالكه، ولو تعدى جماعة على الدار المذكورة ومالكها غائب، وأخذوا أبوابها، وغيروا سقوفها، ثم أجدروا بابها الخارج، ومنعوا مالكها عن دخولها، وبيعها بثمن مثلها، حتى ألجأوه إلى بيعها بثمن بخس، مع عدم رؤيته ما تغير منها، لم يصح البيع لعدم الرؤية، ويجب على المشتري أجرة مثل الدار مدة بسطه عليها بالشراء الفاسد، فلو أصلح فيها ما قد غير لم يستحق شيئاً، ويجب على والي الأمر نصر ذلك المظلوم والقيام معه، وزوال مثل هذه المفاسد، فإن بقاءها فضيحة موجبة لفاعلها، والرضى بها سوء الخاتمة والعياذ بالله. (مسألة): جنى على آخر فوقعت يد المجني عليه على مال للجاني فأخذه في قبل الجناية، فحبسه الجاني وأكرهه على تأجير ماله، وطلب منه زيادة على ما أخذه من ماله كثيرة لتغلبه، فتشفع جماعة من مناصب البلد في إطلاقه، فلم يرض إلا بأن يلتزم المحبوس بطريق النذر شيئاً، أو بأن يضمنوا له المال المطلوب ويبيعهم(1/87)
المحبوس شيئاً من ماله لكي يكون الثمن بذمتهم ففعلوا ذلك، لم يلزم المحبوس شيء مما التزمه، وكانت الإجارة والبيع باطلين للإكراه، وليس ذلك إكراهاً بحق، وما ترتب عليه من ضمان مناصب البلد والتزام الثمن للحابس باطل أيضاً، لأنه ضمان ما لم يجب، ولا يلزمهم تسليم شيء من المال، نظير ما لو امتنع الولي من تزويج موليته إلا بأن تعطيه شيئاً فأعطته إياه لم يملكه، وإن ملكته إياه بنحو نذر كما قاله الرداد، ويلزم المجني عليه رد ما وقعت يده عليه من مال الجاني، ويأثم بالتعدي المذكور. (مسألة): أرض موقوفة صالحة بحالها، وهي قطع متجاورات يسقى بعضها قبل بعض، ولا يتضرر بشيء منها لقلة ما تحويه من الماء، فجعلها شخص قطعة واحدة بلا إذن شرعي، فصارت تقبل ماء كثيراً، وربما خربت خراباً عظيماً لا يمكن جبره، وكان ما أحدثه سبباً من أسباب خرابها ونقصها عيناً وقيمة، فالمعتمد كما قاله العامري وجوب إعادتها كما كانت، ولا يستحق لما أحدثه من الزبير شيئاً، إذ لا حرمة لذلك مع التعدي. (مسألة): استأجر أرضاً لها مسقى من أرض أعلى منها، ولها زبيران من قبليها ومن يمانيها، فنسف المستأجر الزبير في معقم أقامه لها، ولا أرض أخرى أسفل منها لم تكن لإقامته عادة في ذلك المكان، وأخرج ترابها إلى المعقم المذكور، فانتقصت الأرض بذلك نقصاً فاحشاً، فللمالك إجباره على رده إن كان باقياً، ورد مثله إن تلف، ووضعه على هيئته كما كان من انبساط وارتفاع، وأرش نقصه إن بقي نقص. (مسألة): دور موقوفة تعدى بعض الموقوف عليهم ببيع أعيان منها على متغلب وتعذر استردادها منه، لزم المتعدي قيمتها للحيلولة، فإن قدر الناظر على الاسترداد بعد رد ما أخذه المتعدي. (مسألة): أرض ثلثاها من أعلاها لقوم، وثلثها الأسفل لآخرين، ولها مشرع نازع للماء من واد، وعادتهم أن يقتسموا الماء على قدر أراضيهم، فمنع أصحاب العلو أصحاب السفل من السقي ظلماً، فالذي نعتمده ويتعين الفتوى به تبعاً(1/88)
للبلقيني وابن أبي شريف والرداد ضمان منفعة الأرض لكونهم تسببوا في إبطالها، ويقاس عليه منع الظالم المالك من سقي أرضه كما عمت به البلوى. (مسألة): تضارب امرأتان ثم عفت إحداهما عن الأخرى، فشكت الأخرى إلى وال معروف بمصادرة من شكي به إليه، فصادر المشكو بها بمال معلوم بسبب الشكاية أثمت بذلك، لا سيما وقد تكرمت عليها الأخرى بالعفو عنها ورجعت عليها من صودرت. (مسألة): زرع مشترك بين اثنين أثلاثاً، فأتلف صاحب الثلث جميعه، فإن كان مما ينمو ويرجى منفعته غرم قيمة حصة صاحبه بتقويم عدلين من أهل الخبرة بتقدير بقائه والانتفاع به إلى مدة انتهائه، فيقال: كم يسوى لو أراد المشتري أن يشتريه من مالكه قبل أن يتلف على حاله، يرجى بقاؤه وسلامته وتمام زرعه وحصول غلته على ما يعتاده أهل الزرع في ذلك على غالب السلامة، ولا نظر لطرؤ آفة نادرة، فإذا قيل كذا لزمه ضمان ذلك به. (مسألة): تصرف أخو الميت في تركته وله محاجير بغير ولاية شرعية عليهم، ثم توفي فادعى الأطفال بعد رشدهم على وارثه فأنكر، فأقاموا بينة بتصرفه في ذلك وقبض ثمنه، وحلفوا يمين الاستظهار ضمن الأخ المذكور، ثم إن خلف تركة رجعوا فيها وإلا فلا. (مسألة): أرض موقوفة خربها رجل في أرضه تعدياً لأجل السقيا ولم يكن له عادة فالمعتمد أنه يجب عليه تسوية الأرض كما كانت قبل الكسر، وأرش النقص وهو ما بين قيمتها والماء فيها مستول عليها، وبين قيمتها الآن يابسة مكسرة، ويأثم بذلك ويعزر. (مسألة): بسط على بيت فسكنه مدة ثم وهبه زوجته فأعارته من يسكنه، فللمالك مخاصمة من شاء من المتعدين المذكورين، فيدعي البيت على من هو تحت يده ويدعي القيمة على غيره. (مسألة): لو زوَّج الغاصب الأمة المغصوبة فتلفت عند الزوج، فالمذهب كما في أوائل الغصب من الروضة أنه لا يطالب بقيمتها قطعاً، وقيل كالمودع، وفي الإرشاد وضمن آخذ من غاصب لا بنكاح. (مسألة): استولى أحد البنين على أعيان من التركة، فتصرف(1/89)
فيها وأتلفها، مدعياً أن أباه وهبه إياها حال صحته وعجز عن إقامة البينة، لزمه أقصى قيمتها من حين الاستيلاء إلى حين التلف حيث اختلفت قيمتها، وإلا فقيمتها يوم التصرف، ولا عبرة بالزيادة بعد. (مسألة): اختلفت الغاصبة والمالكة في قيمة المغصوب، فأقامت المالكة شاهداً بقدر القيمة، وأرادت تكميل حجتها بيمين أجيبت إلى ذلك، كما صرح به الغزي ونقله صاحب الأنوار عن أبي إسحاق.
الشفعة
(مسألة): باع شريك حصته في أرض على بعض شركائه دون بعض، كان للآخرين الشفعة فيه على قدر حصصهم، ويشاركهم المشتري بحصته في الأظهر. (مسألة): ادعى المشتري تقصير الشفيع في الطلب، وأنكر الشفيع وقال: بل شفعت على الفور صدق الشفيع بيمينه، فلو كان للمشتري بينة غائبة واستمهل أمهل ثلاثة أيام، فإن مضت وحكم الحاكم ثم حضرت وشهدت نقض الحكم، وتقدم بينة الشفيع على بينة المشتري لأن معها زيادة علم. (مسألة): اشترى شقصاً من دار بنقد جيد، ثم علم الشفيع بعد سنين فشفع وأراد إعطاء نقد دون الأول، لم يجبر المشتري على أخذه وإن كان نقد البلد الآن، بل إن لم يوجد مثله عدل إلى قيمته، كما هو الأرجح في المسألة، وحيث اعتبرنا القيمة وكان نقد البلد المعدوم فضة قوّم بقيمته ذهباً كما هو معروف في محله.
القراض(1/90)
(مسألة): دفعت إليه أموال كثيرة لأرباب متعددة، وأذنوا له في الدخول إلى البنادر والمدن ليتجر لهم بها، وجعلوا له شيئاً معلوماً في كلّ سنة مثلاً، فتأجر لها أماكن للحفظ، وسلم الأجرة من المال على الإشاعة، كان على كل منهم أجرة حصته موزعة على الأموال المستأجر لحفظها، ويستحق العامل على كل منهم أجرة مثل عمله، وإن لم يربح إلا المسمى، لأن ذلك قراض فاسد، ويستحق في الفاسد أجرة المثل، وإن علم الفساد على المعتمد كما اقتضاه إطلاق الشيخين، خلافاً لما بحثه الإمام والغزالي وينفذ تصرُّفه فيه كالصحيح، لأنه متضمن للإذن، وإنما فساده بالنسبة للمسمى. (مسألة): قارض شخصاً وأذن له في السفر إلى جهة معينة، فسافر وباعه ورجع بالثمن فنهبت قافلته في الطريق وهو ملاحظ للمال لم يغب عن نظره لم يضمن. (مسألة): لا يصح القراض إلا على الدراهم والدنانير الخالصة لا المغشوشة ولا غيرها من سائر العروض، فإن عقد على ما يصح ومالاً دفعة واحدة كان لكل حكمه، ففيما يصح يكون الربح بينهما على ما شرطاه، وفيما لا يكون جميع الربح للمالك، وللعامل أجرة المثل ربح أم لا، وينفذ تصرفه في الجميع، ويده على الكل يد أمانة، فلا يضمن إلا بتقصير، ومنه أن يدفع المال إلى غيره بلا إذن مالكه، فيضمن المثلى بمثله، والمتقوم بأقصى قيمه من الدفع إلى التلف. (مسألة): قارض آخر على دنانير ذهب ليبيعها حالاً ويشتري بثمنها عروضاً للتجارة، فيكون الربح بينهما، ففعل العامل ثم مات بعد مدة فجأة، فلم توجد الأعيان التي اشتراها أو التي يمكن أن يشتريها بمال القراض، فلا ضمان في تركته، إذ لا تفسير، هذا حاصل ما حرره زكريا في عماد الرضا.
المساقاة(1/91)
(مسألة): قصر العامل في المساقاة حتى أدى التقصير إلى فوات بعض الثمرة ضمن حصة المالك، إذ يجب عليه التنمية والحفظ بالسقي ونحوه، وحينئذ فالواجب بدل ما فوته من الطلع بتقدير تبقيته إلى أوان الجذاذ، كما في الزرع إذا أتلفه في أول النبات، ويستحق العامل تمام نصيبه من الثمرة الظاهرة، كما صرح به الماوردي والروياني خلافاً للإمام. (مسألة): ساقاه على نخل مدة معلومة، وشرط المساقي في العقد أن يقرضه دراهم معلومة لم تصح المساقاة. (مسألة): ظاهر إطلاق حديث مسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد أي ينقصه إلا كان له صدقة" أنه يثاب على ذلك، وإن لم يتلفظ بقوله ما أخذ من زرعي فهو صدقة، ومقتضاه أيضاً أنّ أجر ذلك يستمر ما دام الغراس أو الزرع باقياً مأكولاً منه، ولو مات غارسه أو زارعه وانتقل ملكه إلى غيره، ونكر مسلم في سياق النفي وزاد من الاستغراقية، وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أي مسلم كان حراً أو عبداً مطيعاً أو عاصياً يعمل أي عمل من المباح فينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه. (مسألة): بيع النخل المساقى عليه بعد إثماره جائز، ويكون المتساقي مع المشتري كهو مع البائع، وليس للمشتري أن ينقص المتساقي من سهمه. (مسألة): ساقى رجلاً على عينه مدة معلومة، فليس له أي المتساقي أن يساقي غيره، فإن فعل ومضت المدة انفسخ العقد، والثمار جميعها لمالك النخل، وعليه زكاة الجميع، ولا شيء للمتساقي الأول مطلقاً، وأما الثاني فإن علم فساد العقد فلا شيء له أيضاً، وإن جهل الفساد فله أجرة مثل عمله على المتساقي الأول لتغريره لا على مالك النخل.
الإجارة(1/92)
(مسألة): ما يأخذه المالك من المستأجر وقت عقد الإجارة غير الأجرة إن كان يدفعه إليه بطيب نفس من غير إكراه حل تناوله ويكون في معنى الهدية، لا يحتاج إلى لفظ، ولا يؤثر في ذلك كونه في مقابلة العقد فقد عهد ذلك، فيما إذا أهدى الزوج للزوجة بعد العقد بسببه، وما يدفعه إليها إذا غضبت الزوجة أو تزوّج عليها، فإنها تملكه بمجرد الدفع إليها، كما أفتى به الحناطي. (مسألة): أجر دكاناً وشرط على المستأجر أن لا يقعد فيه إلا مزيناً بطلت الإجارة بالشرط المذكور. (مسألة): استأجر أرضاً مدة معلومة وبذر فيها شجر العطب فانقضت المدة وهو باق، فإن وقعت الإجارة على العطب أو أذن المؤجر في بذره كان المؤجر بالخيار، بين أن يبقي الشجر بأجرة المثل أو يتملكه بالقيمة أو يقلعه ويغرم أرش نقص قيمته، وهو ما بين قيمته ومقلوعاً. (مسألة): استأجر سحباً جديداً مدة فانقضت وبقي السحب عند المستأجر لم ينتفع به ولم يطلبه مالكه لم تلزمه أجرته حينئذ. (مسألة) : الأرض البيضاء التي تصلح لمنافع كثيرة لا يصح تأجيرها مطلقاً، بل لا بد من ذكر ما ينتفع به منها، بخلاف ما لا تصلح إلا لانتفاع خاص كأرض السكنى، أو كان الغالب استئجارها له، وللمستأجر أن يبني بما جرت العادة ببنائه من خوص أو طين أو آجرّ عملاً بالعادة، وكذا له حفر البئر لأنه من كمال الانتفاع، كما قاله المزجد والرداد، وقال الناشري بامتناعه والتحقيق اعتبار العادة، ولا شك أن عرف زيد عدم الإذن ولا يريدون به عقد الإجارة، ومثلها السنداس المغلب فيه العادة، ولا فرق فيما ذكر بين الوقف والملك. (مسألة): استئجار الكافر للمسلم صحيح سواء الذمية والعينية، لكن مع الكراهة في الأخيرة، وحينئذ يؤمر بإزالة يده فيها بخلاف الذمية، إذ المسلم متمكن من العمل فيها بغيره. (مسألة): استأجر سواراً ليرهنه كان ذلك إجارة فاسدة، وتكون يد المستأجر عليه يد أمانة، وكذا يد المرتهن، لأن وضعه تحت يده مأذون فيه من جهة(1/93)
المالك. (مسألة): جرى الشيخان على أنه يكفي إطلاق الخدمة في إجارة الشخص لها، وأما إخراج الخادم من البلد والسفر به إلى غيرها فالمعتمد الرجوع فيها إلى عادة الخدام في تلك البلد وذلك الوقت، ويختلف أيضاً باختلاف مراتب المستأجرين ومراتب الأجراء، والذكورة والأنوثة، وعليه يحمل كلام من أطلق المنع ومن أطلق الجواز. (مسألة): استأجر آخر لحمل شيء معلوم إلى مكان معلوم، وشرط حمله في يوم كذا لم تصح الإجارة، لأن من شرط إجارة العين الشروع في العمل، ومن شرطها أيضاً عدم التقدير بالزمان والعمل معاً، إلا إن قصد التقدير بالعمل وذكر اليوم للتعجيل، كما لو كان ثوباً صغيراً يفرغ منه عادة في يوم فيصح التقدير بهما على الأوجه، ولو نهب الشيء المستأجر لحمله لم يضمنه الأجير، وإن كان سبب نهبه تأخيره العمل صحت الإجارة أو فسدت. (مسألة): استأجر شخصاً على حرث أرض فحرث بعضها وهرب أو امتنع من الإتمام، فإن كانت ذمية استأجر القاضي من ماله ثم اقترض، فإن تعذر ذلك أو كانت عينية فنسخ المؤجر، وللأجير قسط ما عمل، بأن يوزع المسمى على أجرة مثل جميع العمل. (مسألة): استأجر أرضاً موقوفة سنتين ليبني فيها صح، وليس للمؤجر ولا غيره قلع البناء قبل انقضاء المدة ولا أن يتملكه، فإن قلعه أثم ولزمه أرش نقصه، فإن انقضت المدة واقتضت المصلحة تبقيته بأجرة المثل وجب على الناظر إبقاؤه، وليس له أن يقلعه بالأرش إذا كان إبقاؤه أصلح. (مسألة): أرض موقوفة فيها عناء محترم، يستحقه شخصان على الشيوع مناصفة، وزادت به قيمة الأرض كزبر وتراب استوليا عليه مما ساقه الماء من التراب الجبلي المباح، كانا شريكين في الأرض بما زادت من قيمته، فليس للناظر إجارة نصفها من أحدهما، ولا جميعها منهما أو من أحدهما، ولا إجارتها لثالث وفيها العناء المذكور، إذ لا يتمكن مستأجرها من الانتفاع إلا بالمهايأة التي لا يدخلها الإجبار، والطريق في صحة تأجيرها أن يراضيهما الناظر في(1/94)
عنائهما ثم يؤجرها من شاء، وتجوز قسمة العناء المذكور وهي إفراز لاتحاد التراب. لا يقال: الأرض موقوفة ولا تصح قسمة الموقوف. لأنا نقول: القسمة ليست لذات الأرض، بل لما هو مملوك مما زاد من التراب الجبلي الذي ساقه ماء النهر، فهو نبع الماء في الإباحة، فيملكه من استولى عليه. (مسألة): استأجر أرضاً بعضها فارغ وبعضها مشغول بشجر الحور أو العطب مثلاً، صحت في الفارغ وبطلت في المشغول عملاً بتفريق الصفقة، فإن شغلت كلها لم تصح. (مسألة): لا يصح استئجار الأرض لرعي نباتها أو ليصنع من نباتها فرشاً ونحوه، لأن شرط الإجارة أن لا تتضمن استيفاء عين قصداً. (مسألة): استأجر أرضاً لإصلاح سهمين بسهم منها، وشرط عليه المؤجر في العقد أن يحرثها عودين حجراً روى لم تصح الإجارة بهذه الصورة لعدم اجتماع شروطها من رؤية الآلات والدواب التي يحرث بها وغير ذلك من الجهالة، وحينئذ إذا حرثها المستأجر بحسب الشرط المذكور، أو نقص عنه بأن حرثها عوداً روى وبذرها ببذرهما بحسب الشركة لزم المؤجر، حيث وقع العمل مسلماً له للمستأجر أجرة مثل عمله ودوابه في ثلثي الأرض الذي استعمله فيها، ويجب على المستأجر للمؤجر أجرة مثل ثلث الأرض الذي استعمله في بذره، والغلة بينهما بحسب البذر. (مسألة): بناء موضوع بحق في أرض وقف انقضت مدة إجارته، فأراد الناظر تأجير الأرض من غير مالك البناء لم يصح ما دامت مشغولة بالبناء، وليس له أن يقلعه، ويغرم الأرش حيث لا مصلحة للوقف فيه، ويحرم على غير مالك البناء بدل زيادة على أجرة المثل لأجل المصادرة، ولا يكلف صاحب البناء بذل الزيادة، ويجب على الناظر أن يؤجره بأجرة المثل، ولا عبرة بالزيادة المذكورة. (مسألة): استأجر آخر أن يكلم ولي الأمر في طلب وظيفة معينة مباحة شرعاً بأجرة معلومة، فإن كان في التكلم كلفة تقابل بأجرة بتردد ومراقبة وقت صحة الإجارة بالمسمى إن انضبطت الكلفة، وإلا استحق أجرة مثل عمله حصل المطلوب فيهما أم(1/95)
لا، وإن لم تكن كلفة أو استأجره بشرط حصول الوظيفة لم تصح، ولو نذر له بشيء على حصول الوظيفة صح النذر. (مسألة): أرض موقوفة مؤجرة بعضها لزيد وبعضها لعمرو، وقصد زيد مضاررة عمرو، فطلب من الناظر تأجير ما تحت يده بأكثر من أجرة المثل رغبة في أن يدعها كلها عمرو له ويأخذها بالزيادة المبذولة أثم بذلك، ولم يجز للناظر المذكور موافقته، بل لا تصح الإجارة والحال ما ذكر، لأن الناظر مأمور بما فيه حظ ومصلحة للوقف، ومن ذلك أنه ليس له التصرف بما يقلل الرغبات فيه، وإن ظهر بذلك مصلحة عاجلة، فتقل الرغبات ويؤدي إلى تعطيله بلا شك، كما أفتى به الطنبداوي. (مسألة): دار موقوفة خربت فأراد القاضي تأجيرها من الموقوف عليه للعمارة، فالذي يظهر جواز ذلك لا يقال: هو ملك للمنفعة فكيف يؤجر عليه ملكه، لأنا نقول: هذه المدة يؤجر فيها للعمارة كأنها مستثناة من استحقاق الموقوف عليه المنفعة. (مسألة): له عناء محترم في أرض وقف زادت به قيمتها كزبر وتطييب، فهو شريك بما زادت به من الزبر وغيره بالتراب الذي استولى عليه مما ساقه الماء من الجبل إليه، فليس للناظر أن يؤجرها غير صاحب العناء ولا يرفع يده، فلو تعدى شخص وحرثها وجب على من له ولاية رفع يد الباسط، وعليه أجرتها مدة بسطه، ولعموم البلوى بهذه المسألة أفردتها بمصنف سميته: مزيل العناء في حكم ما أحدث في الأراضي المرزوعة من العناء. (مسألة): أرض موقوفة على مساجد تعطلت وخربت وقلت رغبة الناس فيها، فأجرها الناظر بقدر خمس غلتها وهو أجرة المثل في ذلك الزمان، ولم يوجد راغب بأكثر من ذلك، وأذن لمن عمرها أن يكون ما صرفه وزاد في ثمن الأرض ديناً متعلقاً برقبة الوقف، ورأى المصلحة في ذلك، كانت الإجارة صحيحة وإذنه أيضاً صحيح، فيكون الأجير شريكاً بمقدار ما زادت به الأرض، فإذا مضى على التأجير بالقدر المذكور نظار متأهلون للنظر، ورأوا أن ذلك هو الأصلح للوقف، ثم جاء من بعدهم من النظار وأرادوا نقض(1/96)
ما فعلوه وطلب الزيادة في الأجرة المذكورة وهو يؤدي إلى تعطيل الوقف أو تقليل الرغبات فيه فليس لهم ذلك. (مسألة): لا يصح تأجير الوقف إلا من الناظر له، سواء كان عاماً كالوقف على الفقراء مطلقاً أو خاصاً كذرية زيد، هذا إن كان للاستغلال، فإن وقف على ذريته مثلاً لانتفاع الموقوف عليهم مطلقاً أو زاد بما شاء، فله الانتفاع بنفسه أو بغيره، وله تأجير حصته المدة الطويلة بدون أجرة المثل، وتنفسخ بموته، ويرجع المستأجر في تركة المؤجر لا على الموقوف عليهم كما هو في محله، وأما تأجير الناظر الوقف بطريق النظر فلا يصح بدون أجرة المثل، بل يجب عليه الاحتياط في الأجرة والمدة، فلا يؤجر إلا بأجرة المثل فأكثر من مليء غير مماطل ولا متغلب، وإذا أجر شيئاً ولا يعرفه المعرفة التامة المعتبرة شرعاً لم يصح، بل طريقه التوكيل. (مسألة): وقف على ذريته وجعل النظر له، ثم للأرشد من ذريته، ثم الحاكم، فأجره الحاكم عند فقد الأرشد مدة ثم مات، لم تنفسخ الإجارة بموته، وإنما تنفسخ بموت البطن إذا جعل الواقف النظر لكل بطن في حصته. (مسألة): مما عمت البلوى به أن مستأجري أرض الوقف أو الأملاك يحرثونها ويزبرونها بترابها، ثم يزرعونها وينتفعون بها انتفاعاً مساوياً للزيادة الحاصلة بسبب الحرث، فإن كان بإذن شاركه بزيادة القيمة وإلا فلا. (مسألة): استأجر أرضاً مائة سنة ثم اشتراها ومات المؤجر، ثم ظهرت بينة بوقفية الأرض بطناً بعد بطن، وأن النظر لكل بطن لكن لم يصرح الواقف لكل بطن في حصته، وظهر أيضاً أن المؤجر حال تأجيره كان مستحقاً للوقف ناظراً عليه عاملاً بشرط الواقف، تبين بذلك بطلان الشراء، ولا تنفسخ الإجارة بموت المؤجر، فإذا حكم حاكم شافعي بصحة التأجير المذكور لم ينقض حكمه. (مسألة): أجر الناظر الموقوف المستحق المنفعة مائة سنة بدون أجرة المثل، ومات الشهود إلا واحداً، ودلت القرائن على ذلك، ومات المؤجر، وانتقل النظر والاستحقاق إلى من بعده،(1/97)
فينبغي للقاضي أن يحكم الشاهد الموجود ليحكم بعلمه إن رأى المصلحة في ذلك وخاف اندراس الوقف، فإذا حكم انفسخت الإجازة بموت المؤجر. (مسألة): له يد على أرض بوجه شرعي، وله عناء محترم فيها، فليس للناظر إجباره على أخذ قيمة العناء ويؤجرها لغيره إن رغب بأكثر من أجرة المثل إذا كان صاحب العناء ملياً باذلاً غير مماطل لما في ذلك من تفويت مال محقق في مقابلة مصلحة متوهمة، نبه عليه البلقيني في نظير ذلك، ولصاحب العناء غرض صحيح في إبقاء عنائه، بل ربما كان الإبقاء أصلح للوقف من تسليم قيمته إلى صاحب العناء، لأنه يزول بمضي الزمان، ويندرس بالاستعمال وسفّ الريح فلا يبقى، وحينئذ فلا يحتاج الناظر إلى تسليم شيء من قيمته بعد اندراسه. (مسألة): انقضت مدة الإجارة في الأرض الموقوفة وله عناء محترم، وهي مشغولة بشجر الحور، فليس للناظر قلعه وتغريم الوقف أرشه، ولا رفع يد المستأجر، بل يبقيه بأجرة المثل. (مسألة): نقل على آخر أرضاً سلطانية بمال معلوم، ونذر له بجميع ما يستحقه فيها من عناء ونحوه، فإن كان العناء محترماً وزادت به قيمتها ملكه بالنذر، فليس لأحد الانتفاع بالأرض بغير إذنه، وليس للناظر أن يؤجر الأرض قبل تسليم العناء للمنذور له على المعتمد، فلو سفحها الناذرحوراً بغير إذن المنذور له فله طلب قلعه، فإن رهنه الناظر فإن كان له قيمة بتقدير أنه مستحق القطع صح الرهن وإلا فلا. (مسألة): استأجر أرضاً موقوفة، فادعى آخر أن له فيها عناء محترماً لم تسمع دعواه على المستأجر، لا لإقامة البينة ولا لإقرار المدعى عليه، إذ لا يثبت العناء بإقراره، فحينئذ لو أقرّ المستأجر بالعناء لم يطالب بقيمته، ولا تبطل الإجارة لتعلق حق الوقف والناظر بالإجارة. (مسألة): استأجر أرضاً مدة معلومة واستغلها، ثم استأجرها ثانياً ثلاث سنين على إصلاح ثلاثة أسهم للمؤجر وسهم للمستأجر، وعلى كل حصته من البذر كما يفعله الرعايا فاستغلاها كذلك ثم استحق بعض(1/98)
الأرض، غرم المستأجر المثل للمدة الأولى، ولا يرجع على المؤجر بشيء، لأنه فوت المنفعة باستغلاله، بل يرجع عليه بما دفعه له لعدم صحة الإجارة، وغرم أجرة المثل للمدة الثانية، ورجع بثلاثة أرباعها فقط لاستيفائه منفعة الأرض بنصيبه في الربع، واستيفاء المؤجر منفعة الثلاثة بسبب نصيبه، وكأنه استعان بالمستأجر وهو جاهل. (مسألة): عناء محترم بين شخصين أرباعاً في أرض سلطانية زادت به قيمتها، فزرع كل بقدر ما يستحقه تخميناً، رجع صاحب الثلاثة الأرباع على الآخر بثلاثة أرباع أجرة مثل الثلاث، ورجع الآخر عليه بربع أجرة مثل ثلاثة أرباع العناء. (مسألة): له على آخر دين معلوم من الذرة، فما طالبه به أذن له أن يزرع أرضه ويأخذ دينه منها، فزرعها الدائن وبذرها ببذره، كان جميع الغلة لصاحب البذر، ولزمه أجرة مثل الأرض لصاحبها والدين بحاله. (مسألة): استأجر أرضاً سنتين، فحرثها وأقام جسرها للسقي، فلما وقع الماء في الجسر كسره المؤجر، فرسبت الأرض لكونها لم تسق بدون ذلك، ثم عمل المستأجر للسنة الثانية كذلك فكسره المؤجر ثانياً، فحكمه على المختار من أن من منع غيره ظلماً من سقي أرضه كما عمت به البلوى يلزمه أجرة الأرض مسقية مدة الانتفاع بها لو سقيت بذلك الماء، كما أفتى به الرداد وغيره، إنا هنا نقول: قد حال المؤجر بين المستأجر وبين استيفاء المنفعة، فتنفسخ الإجارة من حين الكسر لا فيما قبله، ويسقط ما يقابل ذلك من الأجرة، ويضمن الكاسر ما أتلفه من الجسر، ويصير المستأجر شريكاً في الأرض بما زادت به قيمتها. (مسألة): استأجره على تعليم أولاده القرآن، فتعلموا نصفه وخرجوا ولم يرجعوا، استحق قسطه من المسمى باعتبار أجرة المثل، فإن كانت أجرة ما علمهم مثل أجرة ما لم يعلمهم استحق نصف المسمى أو ثلثيه فثلثاه وهكذا. (مسألة): استأجر أرضاً ثم أجرها غيره، ثم تقايل هو والمؤجر الأوّل لم تنفسخ إجارة الثاني ويدفع الأجرة لمؤجره، ويرجع المؤجر الأوّل(1/99)
على المستأجر الذي وقعت معه الإقالة بأجرة المثل، لأن الإقالة هنا كالمصادرة بعد التلف قرره البلقيني. (مسألة): أجر الناظر أرض الوقف بأجرة المثل، ثم وجد راغب بزيادة لم يمكن تأجيرها قبل انقضاء الأولى ولو بعد تولي ناظر آخر. (مسألة): استأجر أرضاً فعناها، ثم تممها المؤجر بصيبه من غير إذن المستأجر صار مستولياً عليها، فتنفسخ الإجارة في المدة التي استولى عليها، وعليه للمستأجر قيمة عنائه وهو ما زادت به قيمة الأرض. (مسألة): استأجر أرضاً وحرثها وأصلحها، ثم حدث فيها مطر كثير أعشبت منه الأرض عشباً نقص منفعتها نقصاً تتفاوت به الأجرة، كان ذلك عيباً مثبتاً للخيار، بل المطر وحده إذا كثر ونقص منفعة الأرض النقص المذكور كان عيباً، فإن أجاز فبالمسمى، وإن فسخ بعد مضي مدة لها أجرة لزمه قسط الباقي من المسمى بحسب أجرة مثل المدتين لا على قدرهما إن اختلف. (مسألة): أرض سلطانية بين شخصين أثلاثاً، أجر أحدهما الأرض كلها بغير إذن أخيه لم يصح في حصة أخيه، بل ولا في حصته أيضاً لعدم ملكه المنفعة، وقد عمت البلوى في الباسطين على الأراضي السلطانية من غير استئجار أنهم يؤجرونها من غير إذن لهم في الإيجار، وذلك مما يجب إنكاره. (مسألة): لا يكفي تسليم الضرائب في الأراضي الموقوفة على نحو المساجد، بل ينظر في المستولي عليها، فإن كان يستأجر الأرض من ناظرها بأجرة مسماة لمدة مسماة فعليه المسمى الذي استأجر به وإن كان لا يستأجرها من الناظر وإنما هو باسط عليها، كغالب حراث أراضي الوقف المستولين عليها استيلاء الملاك، فيجب عليهم لكل مدة أجرة مثل أعلاها منفعة، إذا كانت الأرض مما ينتفع بها لمنافع متعددة، وأما الاقتصار على الضرائب الناقصة عن أجرة المثل فبعيد عن قواعد الشرع، لأن ذلك مؤدّ إلى أن الواقف وقف على المسجد والحارث وذلك لا يقصده الواقفون، وإنما جازت الضرائب في أرض السواد، لأن ذلك لمصالح المسلمين العامة، وما نقل أن العلماء(1/100)
والقضاة المتقدمين فعلوا ذلك فلا إخال ذلك يثبت عنهم بطريق معتبر شرعاً، وعلى تقدير ثبوته عنهم فيجب حمله صيانة لمنصبهم عن المخالفات، على أن ذلك هو أجرة المثل، وبالجملة ففي الأوقاف مفاسد غفلت عنها الحكام وولاة الأمور فالله يصلح الكل. (مسألة): توفي شخص وله عناء محترم في أرض موقوفة وعليه ديون، فالعناء المذكور بمنزلة العمارة التي هي من وظائف الناظر في ذلك الواجب تقديمها على أرباب الوظائف، بل على الموقوف عليهم، إذا علمت ذلك فيأخذه الناظر بقيمته ليصير وقفاً على الجهة بطريق التبعية، ولا يحتاج إلى إنشاء وقف لذلك، ولا يصح بيع العناء منفرداً لا للغرماء ولا لغيرهم، فإن أحدث المستأجر العناء من تراب أجنبي جاز بيعه. (مسألة): القول قول القصار والصباغ والصائغ والحائك في الرد على المالك بيمينه. (مسألة): استأجر أرض الوقف مدة، فلما طولب بالأجرة ذكر أن معه في الأرض صاحب وبعاق وجائحة ومضرة، وطلب حط شيء معلوم من الأجرة، أجابه الناظر إلى ما يؤدي إلى توفر الرغبات، فإن مطالبته بجميع الأجرة تقلل الرغبات وتنفر عن استئجارها، بحيث تؤدي إلى تعطيلها، وفي كلام السبكي وابن الخياط إشارة إلى ذلك. (مسألة): استأجر أرضاً على أنها قد سقيت واستوفت سقيها فعناها المستأجر وبذرها، فلم ينبت البذر لعدم سقيها ثبت له الخيار، فإن فسخ لزمه أجرة حصة ما مضى من المدة، ورجع بما غرمه فيها إذا بان كذب المؤجر. (مسألة): أجر نفسه من آخر ليخدمه، وحكم بصحة الإجارة قاض شافعي، ثم في أثناء المدة أقرّ بدين حال لآخر فرفعه إلى قاض حنفي فألزمه تسليمه فامتنع، لم يتمكن الحنفي من حبسه وإن كان يرى حبسه، لأنه نقض لحكم القاضي الشافعي، وقد ذكر أبو زرعة في رسالته في الحكم بالموجب والحكم بالصحة، أن ما كان من الأحكام المختلف فيها قد جاء وقت الحكم به كهذه المسألة ومسألة حكم الحنفي بمنع بيع المدبر نفذ الحكم ولا ينقض وما لم كمسألة تعليق طلاق أجنبية على(1/101)
تزويجها إذا حكم بموجبه مالكي أو حنفي لم يُنفد. (مسألة): استأجر أرضاً للزراعة فتعذر سقيها أو أنه تخير، فإن فسخ شارك بعنائه، وإن لم يفسخ حتى مضت المدة وجب المسمى، فإن عناها عناء زادت به قيمتها تقاصا، فإن زاد لأحدهما شيء أخذه من صاحبه، وإن استأجر أرضاً على إصلاح سهمين بسهم ومضت المدة ولم تسق وله عناء مشارك بالزيادة، وإن سقيت ومضت المدة وفيها أصول حور مشترك بينهما تخير صاحب الأرض بين قلعه وغرم نقصه وإبقائه بأجرة المثل، وتملك حصة الشريك بقيمتها، فإن انتفع المستأجر بعنائه فتلف بالانتفاع فلا شيء له. (مسألة): يصح الاستئجار للخدمة، وتحمل إن أطلقت على المتعارف في الأجير والمستأجر، فلو نذر المستأجر للأجير كأن قال: نذرت لله عليّ أنك متى خدمتني مدة الإجارة على أن أنذر لك بقدر أجرة مثلك، لم يصح النذر لأن فيه شبه المعاوضة، إذ جعله في مقابلة الخدمة، والنذر لا يقبل العوض إلا من الله تعالى، والطريق في صحته أن يقول: إن عافاني الله إلى انقضاء مدة خدمتك لي فلله عليّ لك كذا. (مسألة): الزبر داخل في مسمى الأرض، فإذا استأجر شخص أرضاً كل أربع معاود بالمعاد الشرعي بمد طعام مثلاً، كان قرار الزبر داخلاً في الزرع محسوباً على المستأجر. (مسألة): إذا كان لجماعة عناء محترم في أرض موقوفة، فأذن الناظر لأجنبي أن يعمر تلك الأرض، فليس له أن يحدث عناء فوق المذكورين بغير رضاهم، ولا يكفي إذن الناظر، فإن فعل فعناؤه غير محترم. (مسألة): استأجر أرضاً للبناء من ناظر بيت المال وبنى فيها، ثم باع الناظر الأرض من غيره، فإذا انقضت المدة خير المشتري بين القلع وضمان الأرض والتملك بالقيمة والتبقية بأجرة المثل. (مسألة): استأجر حمالاً على حمل معلوم إلى محل كذا لم يلزمه الخروج معه وإن قصده أولاً معه، ويلزم الأجير إيصال ما استؤجر عليه، فإن امتنع المستأجر من تسليم ذلك حتى مضى زمان إمكان ذلك استقرت الأجرة وليس له الفسخ بلا عذر.(1/102)
(مسألة): استأجر داراً للسكنى وبجانب بعض جدرانها تنور قديم لأجنبي، فليس للمستأجر مخاصمة صاحب الجدار بكون التنور يضر الجدار، لأن مستحق المنفعة بنحو وقف وإجارة لا يخاصم على المعتمد، لا سيما إن انضم إلى ذلك حضور المالك وعلمه وقدم التنور. (مسألة): استأجر سفينة لحمل متاع إلى بندر معين، فلما سافر بان فيها خلل، فرمى بعض الحمل عند إشرافها على الغرق رجاء للسلامة، ثم زاد الخلل وخيف تلفها، فدخل إلى بندر آخر لتعذر الوصول إلى البلد المعين، انفسخت الإجارة، ولزم المستأجر قسط الماضي من المسمى موزعاً على قيمة المنفعة باعتبار وقت العقد. (مسألة): استأجر أرض وقف وبنى بها وسكنها، ثم قبل انقضاء المدة أثبت آخر أنه استأجرها قبل هذا، بان فساد الإجارة الثانية، وقلع بناءه مجاناً، ولزمه تسليم الأجرة إلى الناظر لا إلى المستأجر الأول، ويرجع الأول بقسطه من الأجرة المذكورة على الناظر. (مسألة): آجر أرضاً من آخر، وشرط في صلب العقد أن يدخله شريكاً بالثلث حيث لم توافقه الإجارة فسد العقد. (مسألة): استأجر أرضاً موقوفة من ناظرها، ثم أثبت شخص بعناء يملكه فيها، وطلب من صاحب الزرع بيعه أو قلعه، لم يجب إلى ذلك، بل على الناظر الإبقاء بالأجرة، وإنما جاز طلب القلع في الأملاك، لأن المالك لا يتعين عليه أن يفعل لنفسه الأصلح، والناظر يلزمه ذلك وعليه لصاحب العناء أجرة مثل عنائه. (مسألة): استأجر أرضاً مدة طويلة ثم اشتراها، ثم ثبت بعد موت المؤجر أنها وقف وأنه مستحق النظر من جهة الواقف، بان بطلان البيع، وأما الإجارة فإن كانت بأجرة المثل حال العقد وظهر أن في التأخير تلك المدة مصلحة ظاهرة للوقف بأن كان حال عقد الإجارة دامراً أو مخرّباً، وكان التأجير سبباً لعمارتها، وشهد بذلك أهل الخبرة فصحيحة ولا تنفسخ بموت المؤجر. (مسألة): دفع لآخر ثورين استأجره على العمل بهما في أراض معلومة للمالك ولغيره بأجرة معلومة يأخذها من الغير ويسلمها(1/103)
للمالك، ثم بعد مدة ادعى الأجير أنه عمل بهما للمالك في أراضيه مدة، وعمل لغيره بأجرة دفعها لأم المالك بإذنه، لم يثبت له من دعواه شيء، بل لا بد من بينة على العمل في أرض المالك وعلى الإذن في الدفع لأمه، فإن عجز فالقول قول المالك بيمينه. (مسألة): أرض موقوفة تعطلت قناتها وعجز حارثوها عن سقيها من غير قناتها، فأراد الناظر أن يؤجرها من آخر قادر على سقيها من قناتها أو غيرها، فطريقه أن يرضي صاحب العناء في عنائه ثم يؤجرها من غيره، فإن امتنع عن قبول ثمن عنائه وعجز عن سقيها أجرها بإذن الحاكم، ولصاحب العناء أجرة عنائه من أجرة الأرض.
إحياء الموات(1/104)
(مسألة): له أرض تسقى هي وغيرها من قصبة نازعة للماء من شريج نازع للماء من الوادي المباح، فحصل في الأرض ساق أخرب بعضها مع القصبة، فأقام صاحب الأرض زبيراً دون الخلل يعرف بالعقص، ثم أصلح القصبة أهلها، فلما سقى صاحب الأرض أرضه وامتلأت كسر الزبير لسقي مكان الخلل، والخلل باق بحاله، فتولد منه خراب ما أصلح من القصبة لزمه إصلاحه، إذ لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يضر ملك الغير، وقد أفتيت أوّلاً بأنه يلزمه أرش النقص، ثم رأيت في الروضة موافقة الأوّل فرجعت إليه. (مسألة): زهب مشتركة بين اثنين، وللزهب ساقية لهما، وللأرض زبير واحد يحتوي الماء على القسمين، ثم لما امتلأ الزهب وقطعت عنه الساقية أنزل أحدهما الماء من غير إذن شريكه فنقصت غلته عن معتادها، وجب عليه أرش ما نقص من نصيب شريكه، وهو ما بين قيمته والماء فيه بتقدير بقائه إلى استيفاء شربه، وبين قيمته عند الكسر قبل استيفاء شربه. (مسألة): واد مباح على جانبيه اليماني والقبلي شرج متعددة تنزع الماء منه، فأراد صاحب أعلاها قطع الوادي ورد مائه إلى شريجه بحاجز من تراب وأحجار، بحيث لا يصل الماء إلى من بعده من أهل الشرج فليس له ذلك، كما أفتى به القماط، ولا عبرة بما اعتاده أهل الشرج الأعلى، لأنا على يقين من حدوثه بعد انحفار الوادي المباح، وذلك لا يجوز، ويجب منعه ونسفه، وأن لا يقطع إلا ما يحمله شريجه، ولا يحبس من الماء إلا ما يحمله. (مسألة): مزارع دامرة قريبة من الوادي، وتليها مزارع عامرة، فأراد أهل الدامرة إحياءها وسقيها من الوادي، وشريج الدامرة مادّ من النهر إليها وزبرها قائمة، فليس لأهل العامرة التي هي أسفل من الدامرة منعهم من ذلك، لأن قربها من النهر دالّ على تقدمها، ووجود الشريج الممتد دال على اليد، فلو قامت بينة بعدم استحقاقهم للسقي منه فأقاموا بينة به قدمت بينتهم لاعتضادها بالشريج المذكور. (مسألة): جماعة تحت أيديهم أراض تسقى الأعلى(1/105)
فالأعلى من شريج نازع للماء من الوادي، فاتفق أن خرب الشريج وبطل السقي منه، فأحدثوا شريجاً آخر جاز إحداثه إن لم يحصل منه ضرر على غيرهم، ولو أقام صاحب العليا معقماً يسقي أرضه منه على العادة فكسره آخر إلى أرض أسفل منها فسقيت قبل هذه لزمه إعادة المعقم، وإذا حصل للعليا رسوب بسبب الكسر وجب عليه أجرة مثل الأرض مسقية.(مسألة): من حفر بئراً بموات بقصد التملك ملكها وماءها، أو بقصد الارتفاق لم يملكها، لكنه أحق بها ما لم يرتحل أو ليرتفق بها المارة أو أطلق فهو كأحدهم بقي ما إذا جهل حاله، كما إذا كانت بئر بين قرى وجرت عادة سكانها بورودها لسقيهم وسقي بهائمهم، والظاهر أنه كما لو أُطلق حافرها رجوعاً إلى أصل إباحة الماء، فيكون ماؤها مشتركاً بمثابة الماء البدّ أي الكثير يشترك الناس فيه، وحكمه أنه إذا ازدحم اثنان فأكثر على الاستقاء منه، فإن جاؤوا معاً وضاق المشرع قدم العطشان، فإن كانوا عطاشاً أو غير عطاش أقرع بين الآدميين، ثم بين البهائم على أعيانها لا بين أربابها، فإن سبق أحدهم قدم لعطشه لا دابته على عطشان تأخر. (مسألة): أهل قرية لهم بركة يجتمع فيها ماء المطر، وعادتهم الاستقاء من ذلك الماء عمل بعادتهم القديمة، فإذا لم تكن لهم عادة فنقل أحدهم الماء إلى بيت له في قرية أخرى فلهم منعه من النقل عملاً بالعادة وليس لهم قسمته، والحال أنه مسيل لأهل القرية، إذ يدخل في ذلك كل من سكن فيها ولو حادثاً. (مسألة): شريجان ينزعان الماء من الوادي، وأحدهما أعلى من الآخر، وادعى كل من أربابهما أنه أقنع من الآخر، وأنه يستحق التقدم بالسقي وأقاما بينتين تعارضتا، وقدم الأعلى رجوعاً إلى الأصل وهو سقي الأعلى فالأعلى. (مسألة): أرض سلطانية جعلت للسكنى، فأراد شخص أن يحفر فيها بئراً للمسلمين ينتفعون بها جاز، كما نقله الناشري في نظير ذلك من الوقف، وليس لأحد الاعتراض عليه، ولا يحتاج إلى إذن أحد، إذ هي أولى من الوقف. (مسألة):(1/106)
أرض سفل استمرت لها عادة قديمة بالسقي من أرض أعلى منها من شريج فخرب الشريج، فأبدلت ساقية أخرى لماء الشريج، واستمر السقي المذكور، فليس لصاحب العلوّ المنع منه بعده إجراء للعادة القديمة. (مسألة): طلب أحد الشريكين من صاحبه أن يعمر معه لم يجبر، فإن عمر أحدهما فمتبرع، وليس له الرجوع على شريكه إلا إذا قال: اعمر وترجع عليّ فيرجع حينئذ. (مسألة): تحوّل السيل عن طريقه المعتاد، فأراد الذي أرضه بالشق المحوّل عنه إحياء موضعه لم يجز له ذلك، لأن مواضع السيل لا يجوز إحياؤها كما قاله الرداد. (مسألة): أرض يستحق سقيها من أرض جارة لها استحقاقاً قديماً، وكلتا الأرضين تستحقان ذلك من قناة، فتعذر السقي من مجراتها المعتادة، فجاء مالك الأرض المتقدمة بماء من مجراة أخرى تنزع الماء من القناة المذكورة برضا مالكي المجراة الأخرى، لم يستحق المجاور شيئاً من السقي المذكور على فرض تعطل القناة. (مسألة): الشرج النازعة للماء من الوادي إذا لم يثبت شرعاً العلم بالسابق إحياء فإنا نقدم الأعلى فالأعلى، فنقدم من يستحق التقدم إلى أن يستغني، ولا يتقدر الاستحقاق بقدر من الأشهر أو الأيام مثلاً، وإذا وجدنا مكتتباً بين الرعايا فيه أن لأهل العليا كذا من الأشهر ثم لأهل الوسطى الخ، فهذه مهايأة غير لازمة، لكل من أهلها الرجع متى شاء، والذي نعتقده وهو الحق الجاري على قواعد الشرع بطلان هذا المكتتب، وأنه يجب إنكاره، وإن صدر من قاض فإنه غبي جاهل، وليس لأحد من القضاة وغيرهم الإلزام به. (مسألة): رجل له وظيفة قراءة الحديث النبوي على المنبر في مسجد معين، وله معلوم في مقابلة ذلك من القاضي، فوقف آخر أرضاً على من يقرأ الحديث في المسجد المذكور وجعل النظر له، ثم إنه أقام الحديث في المسجد المذكور وجعل النظر له، ثم إنه أقام آخر للقراءة، فله أن يجلس على المنبر المذكور إذا لم يزاحم الأوّل بأن جاء في غير وقته وليس لأحد منعه. (مسألة): جرت عادة رجل(1/107)
وآبائه باصطياد من محل من البحر، فليس له منع غيره من الاصطياد منه بزعم أنه أحياه، ولا نظر إلى كونه جرت عادته بذلك. (مسألة): أرض تستحق إجراء الماء في أرض مملوكة أو موقوفة فوقها استحقاقاً قديماً فخربت العليا، وجب على مالكها عمارتها ليصل الماء إلى السفلى إن كان الخراب بفعله، وكذا إن لم يكن بفعله على الأوجه، ومثله ناظر الوقف لكن الوجوب عليه من غلته فقط، وكذا تجب عمارة الأرض الموقوفة للمحاماة حفظاً لها من الوادي الذي بجانبها، بحيث لو لم تحام لأخذها. (مسألة): له أرض ولآخر أرض أسفل منه، والعادة جارية بسقي العليا قبل السفلى، فتعذر السقي من المكان الذي تسقى منه، فأراد صاحب العليا أن يجري الماء من الوادي من مكان آخر إلى أرضه، ويسقيها قبل السفلى على عادته، فليس لصاحب السفلى منعه من ذلك، حيث لم يتأخر سقي أرضه عن وقتها المعتاد، وليس له أن يسقي قبله. (مسألة): أرض تسقى دفعة واحدة وهي قسمان، أراد مالك القسم الأعلى حجر الماء عن صاحب الأسفل بعود يمنع جريه في حفظه بالنسبة إلى مرافع أرضه لأن المخرج لا يحول الماء حينئذ إلا في مرافع أرض جاره إن كان الماء كثيراً، وإلا فاز بالقليل إذ لا يخرج من الأعلى وكانت العادة بالعكس، بحيث لا يكون الأعلى إلا وسيلة لسقي ما يسقى من الأسفل، إذ لا يستقر القليل إلا فيه، كما هو معلوم من قضية العلو والسفل، مع أن ساقيتهما معاً إنما كانت تجري غالباً في أرض جارهما، فتنزل أوّلاً في الأسفل مصعدة إلى الأعلى، إذا كان على حكم عادته بقرينة قصبة تنزع الماء من أرض جارهما هنالك إلى الأسفل ثم يستعلي سقيها، فليس لصاحب الأعلى إحداث الزبير المذكور، والحال أن القسمين يسقيان دفعة واحدة، وأولى إن كانت السفلى تسقى قبل العليا لارتفاعها، فإن فعل وجب إزالته وضمان أرش ما حدث من نقص منفعة الأرض، وإذا جعل الزبير في الحد المشترك وجب عليه أرشه. (مسألة): جرت عادة شخص بإقامة معقم في الوادي لسقي(1/108)
أراضي أملاك وسلطانية ثم أراضي وقف، وله النظر في ذلك، فانكسر المعقم ونزل الماء إلى جاره، فادّعى الجار أنه يستقي السقي لأرضه بكسر المعقم قبل أراضي الوقف، وأن الشخص المذكور متعدّ بسقيها قبل أرضه وأقام بينة بذلك، فأقام الأول بعد ذلك بينة شهدت باستحقاق أراضي الوقف قبل أرض الجار، وأن يده ثابتة بحق قدمت على بينة المتعدي. (مسألة): أرضان سفلى وعليا، أراد صاحب العليا السقي من الوادي فمنعه الأسفل، فإن شهدت بينة بسبق إحيائه وإلا قدم الأعلى فالأعلى حتى يستغنى، ولا يتقيد بنحو يوم للجهل بالسابق إحياء، فالبينة الشاهدة بأن أحدهما أقنع من الآخر من غير استناد إلى العلم بسبق الإحياء مع قرب الأخذ من الوادي يكذبها الشرع فلا تسمع، والأيمان المترتبة على ذلك والحكم المترتب عليه غير صحيح. (مسألة): وقع تنازع وفتنة بين أرباب الأراضي من أجل السقي من الوادي، فأجمع رأي أهل الحل والعقد من العلماء والصلحاء والقضاة وولاة الأمور على أوضاع رتبوها على الأشهر الرومية بين أهل الأراضي المذكورة تندفع بها الفتنة، فهذه مهايأة غير لازمة شرعاً لكل من تمكن من الرجوع أن يرجع، وهؤلاء الفاعلون ذلك لأجل سد الفتن ودفع الحروب وإصلاح ذات البين، إذا لم يمكن إلا بذلك معذورون مأجورون على قصدهم. (مسألة): استحق مرور الماء لسقي أرضه في أرض جاره بعادة قديمة لا يعرف لها ابتداء فزرعت الأرض دام استحقاقه وإن تضرّرت بذلك. (مسألة): أراضي وقف على مساجد منع إنسان تلك الأراضي من سقيها الذي تستحقه وعدل بقناعتها أثم بذلك وحرج حرجاً شديداً، ويجب على والي الأمر أن يجري الناس على قناعتهم، بأن يقدم الأقنع فالأقنع، ويعاقب من خالف، ويسوّي بين الوقف وبيت المال والملك، فإن كان المانع للسقي المذكور مفتخراً فهو من أكبر أهل الضلال الشياطين المتعرّضين لأذى العلماء بالوقيعة في أعراضهم التي هي من أعظم الكبائر، ويخشى عليه سوء الخاتمة، ويفسق بذلك ولحوم(1/109)
العلماء مسمومة، ومن أطلق لسانه بالثلب في العلماء ابتلاه الله قبل موته بموت القلب وهو الكفر نعوذ بالله من ذلك. (مسألة): عين ماء جارية وهناك بساتين بعضها أعلىمن بعض، ولا يعلم إحياء الأسفل منها قبل الأعلى، قدِّم الأعلى فالأعلى عند ضيق الماء، ويجوز لهم إذا كانوا كاملين متصرفين عن أنفسهم لا نحو نظار بيت المال والوقف أن يفعلوا مهايأة بينهم، وهي مسامحة ممن له التقدم كما في الروضة فلا تلزم، فلكل منهم الرجوع متى شاء.
الوقف(1/110)
(مسألة): يجوز للإمام أن يقف من أراضي بيت المال على جماعة أو واحد كما قاله النووي وغيره، ويجوز له أن يهب منه ويملك أيضاً، وحينئذ لا يجوز لمن تولى بعده نقض التمليك. (مسألة): لو قال أراضي موقوفة ولم يبين المصرف، فحيث قلنا إنه إنشاء فالوقف غير صحيح بناء على أنه لا بد من بيان المصرف وهو الراجح. (مسألة): وقف أراضي وحوانيت على أن تؤجر الجميع وتقسم غلاتها على جماعة من قرّاء القرآن يقرؤون أحزاباً معينة، ويهدون ثوابها إلى جهة معينة من زمان قديم، ولم يبق للوقف سجلّ يرجع إليه في تعيين الموقوف عليهم وعدتهم، بل علم الوقف وعلم شرطه والجهة الموقوف عليها، فجعل السلطان ناظراً عليه، فعين الناظر عدداً معلوماً من الدرسة يقرؤون ويهدون على الشرط المذكور، وقسم غلات الأراضي والحوانيت بينهم بالسوية ومضى على ذلك، ثم انتقل النظر إلى شخص آخر فزاد في عدد الدرسة، وسوّى بينهم وبين الأوّلين في غلة الأرض، ولم يتعرض لأجرة الحوانيت، بل بقيت بيد الأوّلين بلا منازعة، فانتقل إلى ثالث ورابع وهكذا، وكل ناظر يزيد في عدد الدرسة اجتهاداً منهم ويسوي بينهم، كمثل الأوّل من غير تعرض لغلة الحوانيت، ثم انتقل إلى شخص آخر فتفقد أمر الوقف ورأى في غلاته زيادة في أجرة الحوانيت، فأجرها بأجرة معلمة وقسمها، ورأى أن يسوي بين الدرسة جميعاً الأوّلين والآخرين في أجرة الحوانيت كالأراضي، وأن لا اختصاص لأحد منهم على آخر لعدم ما يقتضيه، جاز للنظار المذكورين زيادة الدرسة بشرط أن يكون على وجه النظر والمصلحة منهم بعد بذل وسعهم واجتهادهم في تحقيق المصلحة، ولا تجوز الزيادة على المرتبين بمجرد التشهي كما عمت به البلوى في هذا الزمان، وحيث جاز للنظار الزيادة بشرطها، فلهم أن يسووا بين الأولين والآخرين في قسمة أجرة الحوانيت، ويجري عليها حكم علة الأراضي لعدم ما يقتضي التخصيص، وعلى الناظر بذل وسعه فيما فيه المصلحة. (مسألة): أرض وقف تعطل شريجها الذي(1/111)
يسقيها وتعذر سقيها منه، فرأى الناظر عليها أن المصلحة أن يجري الشريج في جانب من الوقف لسقيها وسقي غيرها من أراضي الوقف التي شملها نظره جاز له ذلك، بل وجب إذا تعين طريقاً لموافقته غرض الواقف، وقد صرح القفال بأن أغراض الواقفين منظور إليها وإن لم يصرحوا بها، ونحن نقطع بأن غرض الواقف توفير الربع على جهة الوقف، قال الأذرعي: وقد تحدث على تعاقب الزمان مصالح لم تظهر في الزمن الماضي، وتظهر الغبطة في شيء يقطع، بأن الواقف لو وقع له لم يعدل عنه، فينبغي للناظر أو الحاكم فعله، والله يعلم المفسد من المصلح اهـ. (مسألة): بسط شخص على أراض موقوفة على الحرم الشريف بسبب نقلة وعناء له، وزعم أن يده مترتبة كيد الملاك، بحيث يرى أنه لا يجب أن يستأجر من الناظر، ولا ترفع يده فهو يبسطه من غير استئجار مأثوم فاسق داخل في حديث: "من ظلم قيد شبر" الخ، ويجب عليه رفع يده وأجرة المثل مدة بسطه وتسليمها للناظر وإن ثبت أن له فيها نقلة، إذ هي لا تسقط النظر، وعلى الناظر ومثله الباسط بحق الاحتياط، فلا يؤجر إلا بالغبطة والمصلحة بأجرة المثل فأكثر على مليء ثقة، سواء المستأجر الأول أو غيره، لكن ثبت للباسط عناء لم يصح التأجير من غيره حتى يرضيه في عنائه فيأخذه الناظر، ويصير وقفاً بمجرد أخذه بطريق التبعية وله ذلك بل عليه، إذ العناء بمثابة العمارة الواجب تقديمها على أرباب الوظائف، بل على الموقوف عليه، وقد عمت البلوى بالبسط على أراضي الوقف واستغلالها من غير استئجار من الناظر، وأدى ذلك إلى اندراس الوقف وتملكه، وقد نقل الرافعي عن المتولي والبغوي أن الحكام اصطلحوا على منع إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين، قال زكريا: وما قالوه هو الاحتياط اهـ، وهو الحق الذي يتعين المصير إليه، فعلى الناظر العمل بالمصلحة، وتكرير عقد الإجارة كل سنة أو سنتين أو ثلاث مثلاً، وبذلك يؤمن اندراس الوقف ويحصل اشتهاره. (مسألة): إذا لم يشرط الواقف النظر لأحد أو(1/112)
جهل الشرط فالنظر على الوقف لحاكم بلد الوقف، كما رجحه السبكي وغيره، ولو كان الموقوف عليه ببلد أخرى كالوقف الذي بجهة اليمن على مدارس الحرم المكي، فالنظر لولي الأمر باليمن، وعليه العمل فيه بما يتوجه شرعاً من البداءة بعمارته وتأجيره بالغبطة والمصلحة بأجرة المثل فأكثر على ثقة مليء أمين، وحفظ غلتها، وإيصالها إلى ناظر المدارس الكافي العدل الأمين ليصرفها على شرط الواقف. (مسألة): تصدى شخص لتضييع غلة الوقف، وبذله لغير مستحقه، وقبض ما أراد من رأس الغلة، وقصده بذلك التضييق على الموظفين من المدرسة والمدرسين وتضاررهم، ومنعهم حال قبض الغلة من أخذ ما يستحقون شرعاً، لا يتركه لهم حتى يأخذ منه جزءاً لنفسه ولمن يعينه، أثم بذلك وفسق ووجب عزله، وغرم جميع ما أخذه هو أو أخذه بسببه، ومثل المتصدي المذكور في جميع ما مر الحرّاث الذين يبذلون من غلة الوقف لمن يمنع المستحقين عن بعض ما يستحقونه شرعاً، حتى يقللوا عليهم معلومهم، ويخشى عليهم سوء الخاتمة والعياذ بالله إن لم يتوبوا. (مسألة): وقف على أولاده الموجودين، ثم من مات منهم وله أولاد فنصيبه لأولاده، وإلا فلمن في درجته من إخوته ما تناسلوا، وجعل النظر له مدة حياته، ثم إلى الأصلح الأرشد من ذريته، فأجر الموقوف عليهم الوقف مائة سنة، فالمنقول صحة التأجير، لكن المختار كما قاله القاضي وارداد بطلان تأجير الوقف أكثر من ثلاث سنين كما مر، فلو انتقل الوقف إلى البطن الثاني بموت البطن الأوّل فالمعتمد بطلان الإجارة مطلقاً وإن كانت أقل من ثلاث سنين، فالحاصل أن الإجارة تبطل بالزيادة على ثلاث سنين كما هو المختار، وفيما إذا انتقلت إلى البطن الثاني، ويلزم الحاكم بطلب الناظر أو الموقوف عليهم رفع يد المستأجر وتغريم أجرة ما زاد على ثلاث سنين أو بعد موت المؤجر الأوّل، ويرجع المستأجر في تركة المؤجر. (مسألة): دار وقفت على من ولي القضاء للسكنى والحكم خربت ورغب القضاة عن سكناها(1/113)
وعن إصلاحها، جاز للناظر الخاص أو العام أن يؤجرها لمن يعمرها من ماله ويسكنها مائة سنة مثلاً، إن لم يمكن تأجيرها أقلّ من ذلك، وحينئذ لا تنفسخ بموت المؤجر ولا عزله ولا بموت المستأجر. (مسألة): مساجد ومدارس لها أوقاف على وظائف معلومة من مؤذن وإمام ومدرس وغيرهم، ولكل منهم قدر معلوم، واندرس شرط الواقف، ولم يكن هناك من يؤخذ بقوله من واقف أو غيره، وضاقت الغلة عن الجميع، فالمذهب المعتمد كما هو مصرح به وجوب التسوية في الإعطاء بين أرباب الوظائف، ولا يقدم بعضهم على بعض اتسعت الغلة أم ضاقت، ولا ينافيه ما ذكره البلقيني من تقديم الفراش والبواب عند ضيق الغلة بأقل الأمرين من أجرة مثل عملهما ومسماهما، لأن ذينك داخلان تحت العمارة وشبيهان بها، ومعلوم وجوب تقديمها على الوظائف. (مسألة): مسجد عليه أراض موقوفة وفيه وظائف حصل من علة الأراضي بعد عمارته شيء يسير لا يفي بمعاليم أرباب الوقف، فقسمه الناظر بينهم على قدر حصصهم على ما يقتضيه التقسيط، فرد بعضهم حصته من ذلك لقلتها بقيت على ملكه، إذ لا يشترط قبضه لها، ولهذا يجوز له التصرف فيها قبل قبضها، فيحفظها الناظر أو يرفعه إلى الحاكم ليقبض حصته، وإذا حدث الاحتياج إلى العمارة بعد استحقاق أرباب الوظائف قدمت من رأس الغلة لا من هذا المردود فقط. (مسألة): وقف على مسجد، ثم بعد تمام الوقف جعل النظر فيه له، ثم إلى الوصي على أولاده، إلى أن يتأهلوا للنظر أو أحدهم، ثم إلى المتأهل من أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا، فترتب النظر على الوجه المذكور صحيح، فيعمل بترتيبه ذلك، وللناظر الذي جعله الواقف أن يستنيب غيره إذا آل النظر إليه، وللواقف عزل من ولاه ناظراً بعد تمام الواقف. (مسألة): وقف على مصرف مباح وجعل النظر له ثم إلى ولديه، فإذا انقرض أحدهما فللثاني، ثم إلى الأرشد من ذرّيته المنتسبين إليه، فانقرض الولدان وللواقف ابنتا إبن وابن إبن غائب في درجتهما، فأقامت كل واحدة(1/114)
بينة أنها الأرشد من ذرّية الواقف، شرّك الحاكم بينهما في النظر، ثم لو قدم الغائب وأقام بينة بأنه الأرشد، وأن البنتين تاركتان للصلاة من غير عذر بطل نظرهما واستحقه ابن الابن استقلالاً، لأن من شرط الرشد في النظر كونه عدلاً، ومعلوم أن ترك الصلاة من الفسق المجمع عليه وإن أقام البينة بأنه الأرشد حال إثباتهما الرشد ولم يتعرض لفسقهما شاركهما في النظر، بناء على أن التعارض عندنا بعد الحكم كهو قبله كما صرح به السبكي. (مسألة): لجامع هذه الفتاوى كتاب سماه بالإنصاف فيما حدث في الأوقاف. حاصله أنه تجب التسوية بين أرباب وظائف الأوقاف على المدارس ببلد زبيد كل بحسب وظيفته، لا يجوز لأحد منهم في كل مدرسة أن يستقل بغلة أرض في مقابلة وظيفة من غير رضا باقي أرباب الوظائف، قال: ومن نسب إلي غير ذلك فقد كذب في نسبته إليّ، وأن المهايأة في أراضي الوقف الصادرة من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين غير لازمة لأحد من أرباب الوظائف، لكل منهم الرجوع والنقض متى شاء، ولا يجوز لأحد أن ينسب إلى الفقهاء الإلزام بذلك. والعجب من كتب القضاة التي يفهم منها الإلزام في المهايأة شرعاً، وليس لهم ذلك. من المنكرات تولية غير الأهل ومزاحمة المتوظفين والنقص من معلومهم. ومنها إهمال شروط الواقفين من عدم مباشرة الوظائف، وإهمال المدارس والمساجد، واستنابة الطلبة في وظيفة الطلب غيرهم ويأخذون المعلوم، وكذا استنابة المدرس والإمام حيث لا عذر لهما. (مسألة): أرض موقوفة كان بعضها مسجداً قد اندرس، فجعلها حاكم البلد مزرعة، ثم باعها ورثته على النصارى فجعلوها مقبرة لدفن موتاهم فالبيع باطل، ويأثم الحاكم وورثته، وعليهم أجرها مدة بسطهم، وتنبش قبور الكفار مطلقاً، وإذا كان المسلم إذا دفن في أرض مغصوبة ينبش فالكافر أولى. (مسألة): يرجع في وظائف نحو المساجد إلى الدفاتر المتقدمة بتقرير النظار المعتمدين، فيدفع ما فيها إلى أهل الوظائف المسببين، لأن الظاهر(1/115)
استنادهم إلى أصل لا يجوز لمحدث مزاحمتهم بوظائف محدثة، أو بإرادة الدخول معهم في وظائفهم ليأخذ من معلومهم المعين، ولو صدرت تولية هذا المحدث من ولي الأمر، ففي نفوذها نظر إن كان عالماً بالحال، أما إذا لم يكن الوالي كذلك بحيث لو بين له لم يفعل، فينبغي أنه لا أثر لفعله، ولا يحل للمحدث تناول المعلوم ولا يمكن منه، ولو سلم النفوذ والحل فللناظر قطعه ليسلم معلوم الأولين عن النقص. (مسألة): العبد الموقوف على معين أو جهة لا يزوّج مطلقاً، وكذا عبد بيت المال، نعم يباع هذا ويزوجه مشتريه، وأما الأمة الموقوفة فيزوّجها القاضي بإذن الموقوف عليهم، ومثلها أمة بيت المال يزوّجها القاضي بالغبطة. (مسألة): أرض موقوفة على آلة الاستقاء من بئر مسبلة، فاستغني عن الاستقاء منها فهجرت، وخيف على الآلة من ظالم لعدم من يستقي منها، صرفت غلة الأرض لأقرب بئر مسبلة إليها كما في المسجد المعطل. (مسألة): يجوز للناظر من قبل الواقف الاستنابة في النظر مطلقاً، ويقدم على الحاكم بدليل تقديم وكيل الولي الغائب في النكاح على الحاكم، وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الحاكم ينظر إذا غاب الناظر وهو مفيد بما إذا لم يستنب. واعلم أن التمسك بالإطلاقات إنما يكون حيث لم يكن في كلام المطلقين ما يقتضي تقييد ذلك الإطلاق، وإذا كانت الأرض تؤجر بأجرة المثل وتشرك بالسهم، فعلى الناظر الأغبط منهما وجوباً إن كانت الشركة صحيحة بأن وجدت شروطها المذكورة في مواضعها. (مسألة): وقف داراً على أولاده وأولاد أولاده المنتسبين إليه للسكنى فيها فخربت، فآجرها الحاكم الناظر مدة معلومة اقتضتها المصلحة، وأذن له أن يعمرها بالأجرة فعمرها ثم مات، وانتقلت المنفعة إلى ذريته، ثم خربت الدار أيضاً في أثناء المدة، فأراد الناظر المستحق حينئذ أن يعمرها، فليس لوارثه المستأجر منعه من العمارة، لأن العمارة من أهم وظائف الناظر، ولا مشاركته في النظر، ولا طلب محاسبته على العمارة، إذ(1/116)
القول قوله في الإنفاق المحتمل للعمارة. (مسألة): لو كان تحت يد الناظر أوقاف على مساجد خربت وغلة كل واحدة منها يسيرة لا تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا باستغلال وقفه سنين، ورأى المصلحة في إقراضها لعمارة مسجد آخر يحتاج إلى العمارة وليس له متحصل حالاً، لكنه يرجو رجاء ظاهراً قضاء ذلك من غلته، وكان ذلك أصلح من حفظها سنين، إذ ربما يخاف ضياعها فله ذلك، كما قاله البلقيني في مسجد مستغن عن العمارة، وثم آخر محتاج إليها وليس له متحصل أن لناظره أن يقترض من متحصل المستغني عن العمارة إذا تعين طريقاً. (مسألة): إذا نقصت غلة الوقف في سنة عن الوظائف المترتبة عليه، وزادت غلة السنة التي بعدها عنها، وجب على الناظر تكميل ما نقص على المتوظفين من السنة الماضية مع معلوم المستقبلة، كما أفتى به الرداد تبعاً للبلقيني فيمن وقف على مصارف ثم الفقراء وفضلت فضلة بعد عمارة الوقف، وللمصارف مدة مكسورة أنه يصرف الفاضل لهم إلى أن يستوفوا مستحقهم الذي قدمهم به الواقف، فعليه لو امتنع الناظر أجبره الحاكم. (مسألة): وقف على أولاده الذكور فقط أبداً ما تناسلوا بطناً بعد بطن، على أن من مات وله ابن فنصيبه له، وجعل لمن احتاجت من البنات وبنات البنين الكفاية من ريع الوقف، ومن استغنت بزوج أو ولد فلها المهاداة والمبارأة على عرف البلد من الريع أيضاً، صح الوقف الذي للبنين وبنيهم، وأما ما شرطه للبنات وبنات الابن، فإن كان قدراً معلوماً بأن قال: يعطين في كل سنة مثلاً من الغلة كذا وكذا فالوقف صحيح، نظير ما إذا وقف على الفقراء وشرط أن يصرف من ريعه دينار لمسجد كذا وما فضل لهم، فلو لم يزد ربع الوقف على دينار صرف للمسجد دونهم، وإن كان مجهول القدر فالظاهر بطلانه لجهل المدة مع القدر، هذا وقد عم الوقف على الذكور دون الإناث في جهة الجيال والقرائن تشعر بقصد حرمانهن، بل ربما يصرحون بذلك، فالواجب القيام في إبطال ذلك، وإن كان لا تشترط القربة في(1/117)
الوقف لقيام القرينة الدالة على قصد الحرمان الذي هو معصية، وأفتى ببطلانه الرداد وغيره، وقد أفتيت به مراراً. (مسألة): لا تجوز قسمة العقار الموقوف بين أرباب الوقف، لأن في ذلك تغييراً لشرط الوقف، وتجوز لأهل الوقف المهايأة وليست لازمة، فإن تراضوا بالمهايأة. وتمييز لبعضهم أكثر من بعض مع وجود التراضي جاز له أخذه، ولا يرجع عليه بما زاد لتراضيهم بذلك، فكأنهم سامحوه ببعض ما يستحقونه، ولا عبرة بظنهم لزوم المهايأة ظاهراً، فإذا انقرض البطن الأول لم تلزم المهايأة في حق البطن الثاني، فإن صدر منهم تراض صريحاً بالمهايأة المذكورة استمرت، فلو بسط كل من البطن الثاني وما بعده على ما تميز لمن انتقل منه إليه ولم يوجد صريح التراضي لزم الباسط أجرة مثل حصص شركائه، وإذا حدث مستحق للوقف بعد المهايأة نقضت، ويرجع المستحق على من اشتغل بعد استحقاقه أجرة مثل حصته في الوقف، وإذا تعذر تأجير الوقف لم يجبروا على المهايأة، بل يعرض عنهم الحاكم حتى يصطلحوا إما على المهايأة أو التأجير. (مسألة): أراض موقوفة على مدرسة وفيها وطائف معلومة ولها ناظر، فتهايأ أرباب الوظائف الأراضي على قدر معاليمهم وتراضوا بذلك، ثم احتاج بعض الأراضي المميز لأحد الأقسام إلى عمارة، ولم يرض أرباب القسم المذكور بالصرف من معاليمهم قدم الناظر وجوباً عمارة الأراضي المذكورة على أرباب الوظائف، بل على عمارة المدرسة، سواء شرط الواقف ذلك أم لا، ويكون صرف العمارة من رأس الغلة لا من خصوص غلة القسم المحتاج لذلك، لما فيه من الإضرار بغلته وتوفيرها في البقية، ويقسم الباقي بين أرباب الوظائف في جميع الأقسام بحسب أنصبائهم، ولا يقدح في ذلك ما جرى من المهايأة والتراضي المذكورين. (مسألة): أرض موقوفة للمسلمين للبناء، حفر فيها رجل بئراً لانتفاعهم وسبل عليها، فبنى آخر داراً منتزحة عن البئر، وبقيت هي على ما هي عليه للمسلمين، وأراد صاحب الدار أن ينتفع بالبئر(1/118)
المذكورة، فليس لأحد منعه من الانتفاع لا من سبلها ولا غيره. (مسألة): وقف أرضاً على ابنيه وبنتيه ثم على أولادهم ما تناسلوا، فمات الابنان ولم يعقبا، وماتت إحدى البنتين عن أولاد وبقيت الأخرى ولها أولاد أيضاً، فالوقف بعد موت البنت الباقية لأولادها وأولاد أختها عملاً بما شرطه الواقف. (مسألة): وقف مصحفاً للقراءة وجعل النظر له ثم لذرّيته بعده، فرهنه أحدهم وأذن للمرتهن في الانتفاع به وتصليحه لم يصح الرهن، لكن للمرتهن القراءة فيه لأنه أحد المستحقين ويده أمانة على المعتمد، خلافاً للبلقيني، وله إصلاحه إذا احتاج إليه، وحينئذ لو بعث به إلى المجلد بيد ثقة ليصلحه فضاع عنده بلا تفريط لم يضمنه أحد. (مسألة): وقف وقفاً على أن ثلثي غلته تصرف لأولاده ثم أولادهم ما تناسلوا، والثلث الباقي يصرف لمحتاجي ذرية أبيه، فتزوّج أحد أولاده امرأة من ذرية أبيه فأتت بولد فانتقل الوقف إلى هذا الولد ومن في درجته، وكانت حصته من غلة الوقف لا تفي بكفايته سنة وليس له غيرها، كمل له من الثلث الذي لمحتاجي ذرية أبي الواقف إذا وسعه ووسع بقية محتاجي ذرية الأب وإلا أعطي قسطه. (مسألة): بقعة وقفت سكنى فسكنت ثم خربت القرية والمساكن وانتقل أهلها، فخرّب البقعة شخص لزم الإمام أخذ الأجرة منه وصرفها في مصالح المسلمين نظير ما لو انتفع بالمقبرة، وتتعلق الأجرة بنظر الإمام إن انتظم وإلا تولى الحاكم ذلك، وإن كان الواقف أو وارثه موجوداً حيث لم يكن لهم النظر. (مسألة): وقف على معين كزيد فمات انتقل إلى أقرب الناس إلى الواقف ملكاً، ويختص بفقرائهم إن لم يتمحضوا أغنياء وإلا تعين الصرف إليهم، قاله السبكي، ونقل ابن شهبة عن الكفاية أنه يصرف حينئذ للفقراء والمساكين، كما لو كانوا فقراء وانقرضوا، وقال الروياني: ولو كانوا أغنياء جعلها الإمام حبساً على المسلمين، وتصرف غلاتها إلى مصالحهم اهـ. وإذا اجتمع قريب وأقرب منه والبعيد فقير قدم، فإن افتقر(1/119)
الأقرب انتقل إليه، بخلاف ما لو شرط النظر للأفضل من أولاده فتولاه أفضل ثم حدث أفضل منه فلا ينتقل إليه. قلت: الأظهر كما في المنهاج واعتمده في التحفة وغيرها أنه يعني منقطع الآخر يبقى وقفاً ويصرف إلى فقراء أقرب الناس إلى الواقف، فإن كانوا أغنياء صرف لمصالح المسلمين، وقال بعضهم: إلى الفقراء والمساكين. (مسألة): وقف مصحفاً على معين فانقطع، انتقل إلى الأقرب إلى الواقف وإن كان أميًّا، إذ هو متمكن من الانتفاع به بتأجير أو إعارة لمن يقرأ فيه، هذا إن لم يقل الواقف لمن يقرأ فيه، وكذا إن قال كما أفتى به الناشري لإمكان تعليمه، وبناه على صحة الوقف على العامي ابتداء، فإن لم نقل بالصحة صرفه الإمام لمن يقرأ فيه ما لم يتعلم الأقرب، وإلا عاد إليه على احتمال فيه، نعم إن كان فيهم قرّاء وغيرهم صرف للقرّاء، فقط (مسألة): أوقاف المساجد والآبار والرّباطات المسبلة إذا تعذر صرف متوجهاتها إليها على ما شرطه الواقف لخراب المساجد والعمران، عندها يتولى الحاكم أمر ذلك، وفي صرفه خمسة أوجهّ أحدها قاله الروياني والماوردي والبلقيني: يصرف إلى الفقراء والمساكين. الثاني: حكاه الحناطي وقاله الماوردي أيضاً: أنه كمنقطع الآخر. الثالث: حكاه الحناطي: أيضاً يصرف إلى المصالح. الرابع: قاله الإمام وابن عجيل: يحفظ لتوقع عوده. الخامس: وهو المعتمد وجرى عليه في الأنوار والجواهر وزكريا أنه يصرف إلى مثلها المسجد إلى المسجد الخ، والقريب أولى، وعليه يحمل قول المتولي لأقرب المساجد. قلت: وافق هذا الأخير ابن حجر وأبو مخرمة اهـ. (مسألة): كتب علم على بعضها مكتوب وقف أو واقف فلان ابن فلان على مدرسة أو طلبة علم تحت يد شخص مستمرة يده عليها، فليس لقاض ولا غيره انتزاعها من صاحب اليد بمجرد الكتاب، إذ اليد كما قاله السبكي حجة شرعية، فإن ثبت الوقف بإقرار أو بينة، فإن كان من هي بيده ممن يستحق الانتفاع بها لم تنزع إن كان محتاجاً لها، فإن أقام بينة(1/120)
بالملك قدمت على بينة الوقف كما قاله الشيخان، وللناظر تحليفه حيث لا بينة، فإن نكل حبس ليقر أو يحلف. (مسألة): سقاية جرت العادة بالوضوء من مائها دون الغسل ولم تعلم نية الواقف لم يجز الوضوء ولا الغسل، ولا عبرة بالعادة إلا إذا كانت موجودة حال إنشاء السبيل. (مسألة): الأرض الموقوفة أو الموصى بها للدفن فيها لا يجوز لأحد ولو الواقف الانتفاع بما لم يقبر فيها، ويلزم المنتفع بها أجرة المثل، يصرفها الإمام في مصالح المقبرة، أي مصالح الأحياء والأموات، كشراء الأكفان ونحوها، أما الموصي بها قبل موت الموصى فله منافعها لأنها ملكه كما علم. (مسألة): للأشجار النابتة في المقبرة حكمها فتكون أثمارها مباحة للناس، لكن صرفها إلى مصالح المقبرة أولى، ومثلها أشجارها التي أسقطتها الرياح تصرف في مصالح المقبرة كما مر، كبيت المال والصارف الإمام إن لم يكن ناظر خاص. (مسألة): وقف مقبرة واستثنى أنه يزرع ما لم يقبر فيه، أو أن ما نبت من حشيش وغيره لم يصح الوقف، كما لو وقف على الفقراء وشرط أن يقضي من غلة الوقف زكاته أو دينه، فالصحيح أنه لا يصح كما في الروضة. (مسألة): وقف على موجود ومعدوم كأن قال: وقفت على زيد وأولاده ولا ولد له ولا حمل حال الوقف، صح في نصفه على زيد فقط، كما لو قال: وقفت هذا المصحف على من سيولد لي وعلى إخوتي، فيصح في نصفه للإخوة، وليس هذا كمن وقف على زيد وعلى من سيحدث له من الأولاد فليتنبه له فإنه مما يغلط فيه قاله السبكي. (مسألة): وقف على أولاده ثم أولادهم، فقتل البطن الثاني الواقف لم يؤثر في استحقاقهم ريع الوقف بعد البطن الأوّل، وليس هذا كمن قتل مورثه، قلت: بل لو قتله البطن الأوّل استحق أيضاً، إذ يستحق الموقوف على الوقف وإن كان الواقف حياً. (مسألة): وقف في حال صحته نصف ماله على ولد صلبه، ونصفه الآخر على ولدي ولده، وشرط أنه إذا حدث له ابن شاركهم، فحدث له ابنان، فقضية ما اقتضاه لفظه من مشاركة الحادث(1/121)
للموقوف عليهم في الموقوف، أن للابنين الحادثين نصف غلة النصف الذي بيد ولدي الولد، وثلثي غلة النصف الذي بيد ولد الصلب وهو أخوهما، فحينئذ تقسم المسألة من أربعة وعشرين، لولد الصلب القديم أربعة، وللابنين الحادثين أربعة عشر، ولولدي الولد ستة. (مسألة): وقف على أولاده ثم أولادهم أبداً ما تناسلوا، على أنه إذا مات أحد من الموقوف عليهم ولا وارث له انتقل نصيبه إلى أخوته الأشقاء، ثم من الأب، ثم الذين يلونه من بعدهم، فمات واحد بلا ذرية وله أخوة وأخوات أشقاء انتقل نصيبه إليهم جميعاً، اشترك فيه الذكر والأنثى بالسوية، ذكره البلقيني. (مسألة): وقف دابة على معين، وشرط أن يكون أولادها الحادثون موقوفين مثلها صح فيها فقط، لأن من شرط الموقوف أن يكون معيناً يقبل النقل، فلا يصح وقف الجنين، وأولى منه عدم صحة وقف الولد الحادث، ولا يشكل بصحة الوصية به، فإنم توسعوا فيها ما لا يتوسع في الوقف والتبعية إنما اغتفروها في الموقوف عليه. (مسألة): عليه دين ولو لولده، وفي ملكه بيت فوقفه وهو غير قادر على وفاء الدين لم يصح وقفه، كما جرى عليه جمهور المتأخرين، وأفتى به القماط والفتى والعامري والطنبداوي وغيرهم، وقد ألفت في ذلك ثلاث رسائل وذيلاً وخلاصة، قلت: خالفه ابن حجر وأفتى بصحة التصدق ونحوه ممن عليه دين وله في ذلك رسالة. (مسألة): ليس لمن وقف على أولاده الرجوع فيه، لأن الملك في الموقوف ينتقل إلى الله، بمعنى أنه ينفك عن اختصاص الآدمي، إذ المالك حقيقة في كل الأشياء هو الله تعالى. (مسألة): وقف مخزناً لمن يقرأ على قبره، فإن قال: وقفته بعد موتي على من يقرأ على قبري فهو تعليق للوقف بالموت والراجح فيه الصحة، وله قبل الموت حكم الوصية وإلا فلا، لأنه منقطع الأوّل، وإن وقف مخزناً ليتصدق بما يحصل من أجرته كل ليلة جمعة وجعل النظر لبعض الورثة صح، فلو أراد الناظر عدم المخزنين المذكورين واتخاذ مكانهما داراً لم يجز، إذ لا يجوز(1/122)
تغيير الوقف عن هيئته، إلا إذا جعل الواقف إلى الناظر ما يرى فيه مصلحة الوقف، بل إن فعل ذلك الناظر انعزل وضمن، ويردّ على حالته، وعليه أجرته من وقت تعديه إلى رفع يده، وإذا انعزل الناظر انتقل إلى من بعده، ولو كان له حق البناء على الوقف وأعيد على هيئته لم يبطل حقه. (مسألة): يصح الوقف على من يقرأ على قبر الشيخ الفلاني، وتتعين القراءة على القبر مراعاة لشرط الواقف، ويتعين أيضاً القدر الذي قدره الواقف، فلو استناب الأصل الذي هو صاحب الوظيفة في القراءة غيره، فإن كان في شرط الواقف ما يقتضي جوازها، أو كان ثم عذر يبيح الاستنابة، فالمعلوم كله للأصل إذا حصل القيام بها على مقصود الواقف، والأمر بين الأصل والنائب على ما اتفقا عليه، وإلا لم يستحق الأصل الذي لم يقم بالوظيفة شيئاً من المعلوم، ويستحقه النائب إن كان الاستحقاق معلقاً على سد الوظيفة، فإن كان معلقاً على تولية أصلية وقيام الوظيفة فلا استحقاق لهما معاً. (مسألة): مهاداة الناظر وعامل الخراج والصدقات يجوز أخذها إن كان المهدى من غير عمله، فإن كان من أهل عمله وكان قبل استيفاء الحق أو بعد استيفائه بسبب جميل واجب على العامل، وكذا إن لم يكن واجباً على الأوجه فهي رشوة يحرم قبولها وإن لم يكن للهدية سبب، فإن كافأه ملكها، وإن لم يكافئه لم يجب ردها، وهل تقر في يده أو تضم إلى بيت المال الذي استعمل فيه؟ فإن رأى أن يعطيه إياها جاز إذا كان مثله يجوز أن يهدى بمثلها، وإن رأى أن يستأجره عليها فعل، أو يفرق بين أن يكون مرزوقاً قدر كفايته فتؤخذ في بيت المال، أو لا فتقرّ أوجه، ويصدق الناظر في الإنفاق المحتمل والصرف لجهة عامة كالفقراء، فإن اتهم حلف فيهما، ولا يصدق في الصرف لمعين بل يصدق للمستحق، ووظيفة الناظر العمارة والإجارة وجمع الغلة وخلطها وتفريقها على أهلها، والتولية والعزل في التدريس وتنزيل الدرسة، نعم ليس له عزل أحد بلا وجه شرعي، بل لا ينفذ ويفسق بذلك،(1/123)
ويستحق المدرس ما شرط له، إذ الوقف على من يشتغل بالعلم أو يصلي الصلوات الخمس من باب الأرصاد والارتزاق لا المعاوضات، كما قاله ابن عبد السلام، وله أن يستنيب بعذر شرعي كما صرحوا به لا بغير عذر، خلافاً للسبكي القائل بجوازه مطلقاً إذا استناب مثله أو فوقه. (مسألة): صرح الأصحاب بجواز الاستنابة في نحو التدريس عند الحاجة، ومن ذلك ما إذا سافر لحاجة على عزم العود، وحينئذ فالغائب باق على سببه لا يحل لأحد معارضته، وليس للناظر عزله عن سببه، وهذا كما لو جنّ إمام المسجد فولي آخر لم يجز عزله وإعادة الأول بعد، بل لا ينفذ وعلى الحاكم بإنكاره. (مسألة): رجل كان بيده درسة القرآن العظيم على تربة، أو كان متوظفاً على مدرسة العلم، فغاب أو مات وخلف ورثة غير متأهلين لم يجز نصبهم ولا إقامتهم فيها، ولا يصح استنابة القاضي شخصاً آخر عنهم، وإذا أقام القاضي في الوظيفة شخصاً متأهلاً لها فهو أحق بها وبمعلومها ولا تجوز معارضته فيها. (مسألة): وقف مسجداً ووقف عليه أرضاً يصرف من غلتها إلى المتوظفين في مصالح المسجد، وجعل النظر في ذلك إلى شخصين، وجعل لهما شيئاً معلوماً من الوقف، ثم عزل أحدهما، لم ينفذ عزله إن شرط النظر لهما في صلب الوقف، وكان المعزول بصفة العدالة والكفاية، كما ليس له أن يرجع فيما شرطه في صلب الوقف، وإذا لم ينفذ عزله فهو باق على نظره ومعلومه. (مسألة): الموقوف على المسجد أو على مصالحه يصرف منه للمؤذن والإمام والدهن ونحوهم على المعتمد في الفتوى، بخلاف الموقوف على عمارته لا يصرف منه شيء لذلك.(مسألة): شخص له إمامة أو تدريس في مسجد، وله في مقابلة ذلك معلوم من غلة وقفه يأخذه كل سنة، فمات في بعض السنين قبل أوان أخذه، فلا خفاء أن الغلة المذكورة منفعة ما مضى من الزمان وما يستقبل، وأن الميت يستحق حصته منها، فإن مات بعد زراعة الأرض وقبل أن يسنبل الزرع وكان البذر للعامل وجوزناه أو للمستأجر كما هو المعتمد فيتجه(1/124)
كما قاله الغزي أن يقال: يوزع الزرع الحاصل على ما مضى وما يستقبل من المدة، وإن مات وقد سنبل فالقياس أنه بعد الاشتداد كبعد تأبير النخل، من أنه إذا مات الموقوف عليه بعد خروج ثمرة النخل وتأبيرها تكون الثمرة له، فعليه تكون الغلة حينئذ لورثة الميت وهو ظاهر. (مسألة): وقف أرضاً على ذريته ومساجد معلومة، على أن ما حصل من غلتها يقسم ثلاثة أسهم: اثنان للمساجد يصرفان في مصالحها وعلى المرتبين فيها، ومن ذلك أجرة الناظر عليها وعلى الأرض المذكورة، والسهم الثالث لذريته المنتسبين إليه ما تناسلوا بطناً بعد بطن، ثم من بعدهم لذوي الأرحام، وشرط النظر على المساجد والأرض المذكورة للأصلح الأرشد ممن انتقل إليه الوقف المذكور من الموقوف عليهم ما تناسلوا، فوجد اثنان أخوان هما أقرب رحمه إليه بعد انقراض ذريته المنتسبين إليه، متصفان بصفة ما شرطه الواقف في الناظر اشتركا في النظر على المساجد والأرض المذكورة، كما نقله النووي عن ابن الصلاح، وليس لأحد الناظرين إحداث مدرسة ودرسة مما ليس في شرط الواقف، بل لا ينفذ ذلك، وإذا مات أحدهما وخلف بنين لم يشاركوا عمهم كنّ في درجتهم من بني عمهم في النظر المذكور، بل يختص به عملاً بقول الواقف بطناً بعد بطن المقتضي ذلك الترتيب، كما ذهب إليه الجمهور كالسبكي والمزجد وابن شهبة وفي فتاوى أخرى للمصنف. (مسألة): وقف على أولاده وأولادهم ما بقوا وتناسلوا بطناً بعد بطن، فقول الواقف بطناً بعد بطن فيه وجهان: أحدهما التشريك وهو الذي صححه الشيخان، وهو الذي اعتمده تبعاً لهما، وإن كنت قد أفتيت بالثاني سابقاً قبل أن أمعن النظر ورجعت عنه، نعم لو حكم حاكم بالوجه الثاني القائل بالترتيب تقليداً لمن قال به لم ينقض حكمه. قلت: وافق الشيخين ابن حجر، فقال: المعتمد في بطن بعد بطن أنه ليس للترتيب اهـ. (مسألة): وقف أرضاً على مدرسة وجعل فيها متوظفين، ولكل واحد منهم شيئاً معلوماً في مقابلة قيامه بوظيفته،(1/125)
ثم جهل شرط الواقف، وتنازع أرباب الوظائف في شرطه، وبدأ أحدهم على قطعة من أرض الوقف يستغلها وله ولآبائه مدة على ذلك، خلفاً عن سلف، وقرر ذلك علماء البلد وحكامها، وادعى اختصاصه بما في يده واستحقاقه ذلك في مقابلة وظيفته، فالمنصوص أنه إذا جعل شرط الواقف في مقادير الاستحقاق لأرباب الوظائف، ولم تكن بينة يرجع إلى الواقف ثم وارثه ثم الناظر من جهة الواقف لا الحاكم، وإلا فالقول قول صاحب اليد بيمينه، حيث لم يعلم أن ترتب ذلك ناشىء عن المهايأة التي أحدثها الفقهاء، والواجب إبقاؤه على وظيفته وتقريره على الأرض المذكورة، لا سيما إذا قرره النظار المتقدمون المعتمدون، والأئمة المعتبرون من القضاة المفتين، ولا يظن بهم أنهم أجمعوا على ذلك من غير اجتهاد ووجود نص من الواقف والمتوجه على الناظر تقليد من ذكر على ما ذكر، ولا يجوز له عزل صاحب الوظيفة، ولا رفع يده عن الأرض المذكورة وقبض غلتها بغير وجه شرعي. (مسألة): يجوز للحنفي أخذ معلوم مدرسة مدرسها شافعي إذا كان يحضر ويتفهم مذهب الشافعي، لأن الاستحقاق متوقف على التفقه في المذهب المذكور لا على انتحاله، ذكره ابن عبد السلام. ومثله مدرس يدرس في مذهب أبي حنيفة له معلوم في مقابلة ذلك فله أخذه وإن كان ينتحل غير ذلك المذهب. (مسألة): وقف أرضاً وجعل النظر له ثم إلى الأصلح الأرشد من ذريته، فأثبتت امرأة أنها تصلح للنظر على شرط الواقف استحقته، فلا عبرة بحدوث الأرشدية والأصلحية بعد ذلك لو أثبتها آخر فلا يشارك في النظر، وأولى بعدم المشاركة لو ثبت أنه أي المثبت للأرشدية يسيء التدبير غير صالح للنظر. (مسألة): وقف داراً على أولاده للسكنى، ثم مات هو وأولاده، وبقي أولاد الأولاد وأولادهم وجهل شرط الواقف، استحقها أولاد الموقوف عليهم، ويختص بها فقراؤهم وجوباً، ولا يستحق معهم البطن الأسفل بشيء، وإن انهدم شيء من الوقف لم تجب عمارته على مستحقي السكنى، بل إن كان له حاصل يعمر به(1/126)
فذاك، وإلا أجره الناظر مدة لا تندفع حاجة العمارة بأقل منها بأجرة المثل حال صدور الإجارة ويعمر بها، كما حقق ذلك أبو زرعة، وليس للمستأجر أن يجعل أحد المساكن حانوتاً إذا كان في ذلك تغيير للوقف عن هيئته. (مسألة): وقف على أولاده وفيهم أرقاء، فإن قصدهم بالوقف لم يدخلوا لأنهم لا يملكون، وإن أطلق صح الوقف وصرف ما يخصهم لسيدهم، لأن الوقف وقع له ولا ينتقل إليهم إذا عتقوا. (مسألة): ادعى الناظر صرف شيء من الغلة إلى العمارة، وشراء الآلات وأجرة الصناع، صدّق بيمينه إن كان ما ادعاه محتملاً ولا يقبل دعواه الصرف إلى الموقوف عليهم المعينين، بل القول قوله بيمينه لأنه لم يأتمنه، وفي معناهم فقهاء المدرسة، وإمام المسجد، وأرباب الوظائف المعينين، وليس للناظر الثاني مطالبة الناظر قبله بالحساب، والكلام في الناظر الأهل أما غيره فتعتبر محاسبته. (مسألة): الشهادة بالشغور لا بد فيها من التفصيل، وإلا فهي غير مسموعة، لأن للشغور شروطاً لا يعرفها إلا الخواص، إذ من شرطه غيبة صاحب الوظيفة عن البلد غيبة مسقطة لحقه، بأن يكون سفره لغير حاجة، ولا بد من إقامة البينة على ذلك، فعلى الحاكم استفسار الشاهد بالشغور وتبيين سببه كسائر ما شرط في الشهادة، ثم بعد ثبوته لا بد من تولية من الناظر لمدعي الوظيفة المقيم لبينة الشغور. (مسألة): وقف على شخص ثم على أولاده ثم على إخوته وأخواته ما تناسلوا، فمات الشخص المذكور ولم يكن له أولاد، فالذي يظهر اعتماده ما أفتى به عمر الفتى، وصححه الرداد والقمار والناشري أنه ينتقل حينئذ لأقرب الناس إلى الواقف لأنه منقطع الوسط، ومال الطنبداوي إلى أنه ينتقل إلى الإخوة فصار في منقطع الوسط، بين أن يكون له أمد ينتظر كوقفت على زيد ثم على فلان الحربي، ثم الفقراء فينتظر موته، ويصرف مدة الانتظار لأقرب الناس إلى الواقف ثم يصرف إلى الفقراء، وإلا كهذه المسألة فيصرف للإخوة المذكورين بعد موت الشخص المذكور(1/127)
وكلاء اليها يومىء إلى ما قاله، وليس من منقطع الوسط ما لو قال: على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، فإنه ينتقل بعد زيد إلى بكر على المعتمد الذي جرى عليه في العباب وزكريا، لا الفقراء خلافاً للماوردي والروياني، إذ لو كان منه لما صح كون الخلاف في الصرف إلى بكر أو إلى الفقر، ولكان الصرف إلى بكر أو إلى أقرب الناس، ومنه يؤخذ أنه لو وقف على جماعة موجودين ورتبهم ثم مات أحدهم قبل استحقاقه أنه يرد الوقف إلى من بعده، ولا يكون من قبيل منقطع الوسط. (مسألة): وقف على أولاده بطناً بعد بطن على الترتيب، والنظر في ذلك للأكبر من كل بطن، فأجر الناظر الأكبر حال الإجازة ذلك مدة معلومة بأجرة المثل ثم مات لم تنفسخ بموته على إشكال في ذلك، وإنما تنفسخ فيما إذا جعل الواقف لكل بطن أن ينظر في حصته، فإذا لم يصرح بالحصة يكون النظر عاماً فلا تنفسخ بالموت، وإن كان هو البطن الأول مثلاً. (مسألة): يجب على ناظر الوقف خاصاً أو عاماً فعل الأصلح، وما هو أقرب إلى أغراض الواقفين، وإن لم يصرحوا به إذا لم يخالف شرطهم، فإذا أراد نصب مدرس مثلاً في مدرسة وهناك متأهلون وهو عالم بهم وبتفاضلهم فعليه نصب أفضلهم وأعلمهم إن أهل لذلك، ولا يجب عليه البحث عن الأفضل لما فيه من الحرج، ولو قلنا بوجوبه لأدى إلى انعزال كثير من المتأهلين بوجود من هو أفضل منهم، ولا يساعد على ذلك نقل ولا فعل، ولا يقصده الواقفون، بل لا يجوز عزل المتأهل بوجود من هو أفضل منه بلا مسوّغ لعزله، ويتجه وجوب البحث عن الأفضل في تولية القضاء، والفرق أن باب التدريس أوسع، وحيث قلنا بصحة التولية في المدرس جاز القبول والطلب، ولا يخفى أن هذا فيمن تحققت أهليته، قال السمهودي: فاللبيب من صان نفسه عن تعرضه لما يعدّ به ناقصاً، وبتعاطيه ظالماً، وبإصراره على تناول ما لا يستحقه فاسقاً، ولو شرط الواقف كون المدرس عامياً أو جاهلاً لم يصح شرطه، وإن شرط جعل ناقص(1/128)
مخصوص مدرساً سقط الفسق والإثم ويبقى التنقص والاستهزاء بحاله. (مسألة): أقام الناظر مدرساً في مسجد، وعين له كل شهر شيئاً معلوماً في مقابلة التدريس، فضاقت الغلة ولم يحصل في جميع السنة إلا بقدر أربعة أشهر مثلاً، لزم المدرس المذكور أن يدرس بقدر ما قبض من أشهر السنة، كما إذا استولت النظار على الغلات ولم يعطوهم جميع معاليمهم، كان عذراً في المباشرة في أيام المنع، ولا ينعزلون عن وظائفهم بذلك. (مسألة): إذا اندرس شرط الواقف في مقادير الاستحقاق وترتيب أهله، ولم يكن للواقف وارث يؤخذ بقوله، ولا ناظر من جهته، ولا يد مترتبة لأحد من أهل الوقف، وهناك دفاتر معتمدة متقدمة من النظار المعتمدين اتسع ما فيها، كما صرح به الزركشي قال: لأن الظاهر استناد تصرفهم إلى أصل، وفي فتاوى النووي: ولا سيما الدفاتر التي علم وضعها بحضرة العلماء، ولا يجوز العدول عنها ولا الزيادة على ما فيها، ويعزل المحدثون بعدها، إذ لا مسوّغ لإحداثهم والحال ما ذكر. (مسألة): شخص يستحق منفعة أرض موقوفة، ويده عليها مترتبة في مقابلة وظيفة معلومة، وليس لناظر الأرض المذكور مزاحمة المستحق، وإذا أخذ شيئاً منها أو لزم حارثها تسليم شيء منها إلى غير المستحق وجب رده، ولا تبرأ ذمة الحارث بالتسليم إلى غير المستحق، فله مطالبته بما دفعه لغيره، ولورثة المستحق المطالبة بما لمورثهم، فإن مات الحارث رجع على تركته. (مسألة): الأراضي الموقوفة التي وقفها بنو غسان في الجبال، والتهايم الذي استقرّ بناؤه ووقفنا عليه في بصائر، جعلت لها أن كلاًّ من الواقفين اشترى لنفسه عقاراً ووقفه على مدرسة أنشأها، أو مسجد أو مصرف من مصارف الخير، وعين في كل مدرسة مدرسين ودرسة وأئمة ومؤذنين وغيرهم من الوظائف، وجعل لكل متوظف قدراً معلوماً من الغلة يجري عليه، وجعل كل من الواقفين على وقفه ناظراً يؤجر بأجرة المثل إذا صلح الزرع وسلم من الآفات وسموه قشاً، ولما كان الغالب عدم خلوّ(1/129)
الزرع من الآفات أركبوا مباشراً يحط عن زراع الأرض قدراً يرغبون بسببه في حراثتها لما في ذلك من المصلحة، ولو قدّرنا أن أحداً منهم وقف أرضاً من بيت المال على شيء من المدارس ليصرف للعلماء القائمين بوظائف عينها، ولو قلنا بجواز ذلك وهو الراجح كما هو مقرر في كتب الفقه، ويؤجرها الناظر ويصرف غلتها لمصارف عينها اتبع ذلك وعمل به، وليست الأوقاف المذكورة كسواد العراق تصرف مصرف مصالح المسلمين، بل مصرفها في وظائف عينها الواقفون، فلا يجوز مخالفة ماشرط، فإن ذلك يجر إلى فساد كثير، وقد ألفت رسالة في الأوقاف الغسانية. (مسألة): لا يصح وقف المسجد الذي أرضه وقف على مصرف آخر، لأنه مستحق للإزالة وموضوع بغير حق، وحينئذ فالوقف عليه باطل، (مسألة): وقف شيئاً وجعل النظر له، ثم إلى الأصلح الأرشد من ذريته، ثم إلى فلان، ثم إلى ذريته، فقوله: ثم إلى فلان الخ لا تشترط الأرشدية فيهم، لأن العطف بثم ففي الروضة الصفة والاستثناء عقب الجمل المعطوف بعضها على بعض يرجعان للجميع، كذا أطلقه الأصحاب، ورأى الإمام تقييده بقيدين: أحدهما أن يكون بالواو، فإن كان بثم اختصت الصفة والاستثناء بالأخير، ووافقه القفال والبقيني، وجرى بعضهم على التسوية بين الواو وثم، وأطالوا الكلام على ذلك بما لا يخلو عن تأمل وتنقيب، قلت: وافقه ابن حجر في الفرق بين الواو وبين الفاء وثم، وعمم محمد الرملي والخطيب وأبو مخرمة فجعلوا الثلاثة بمنزلة واحدة، هذا إذا عطف بعضها بحرف العطف، فإن لم يعطف بحرف فمشتركة اتفاقاً. (مسألة): أقرّ شخص أنه وقف داره على أولاده الذكور دون الإناث، وشرط في الوقف أن للإناث السكنى ما لم يتزوجن، ورفعت إلى الحاكم فحكم بصحة الوقف، فالوقف المذكور وحكم الحاكم صحيحان، لكن قد عمت البلوى في الحال بالوقف عل الذكور دون الإناث، وقصد الحرمان به في ذلك ظاهر وهو معصية وذلك مبطل للوقف، كما أفتى به الردّاد وأفتيت به مراراً كثيرة، وهذا لا يخالف(1/130)
كلام الشيخين في أنه لا يشترط في الوقف وجود القربة، بل بناء على المذهب وهو وجود المعصية، فإذا تحققت المعصية وهو قصد الحرمان فالوقف باطل عند الشيخين وغيرهما وينقض الحكم بصحته. (مسألة): دمنة موقوفة للسكنى وجد في باطنها آجرّ، فإن كان محفوظاً في باطن الدمنة غير داخل في بنيان الوقف فهو ملك لورثة الواقف بحسب أرثهم، وليس لأحد منعهم من إخراجه والتصرف فيه. (مسألة): وقف دمنة على ذريته للسكنى، فإن اتسع الموقوف للكل مع المرافق فذاك، وإلا لم تجز القسمة بل يتهايئوا للسكنى، إذ هو كما قال إمامنا الشافعي كالغلة فإذا ضاق كان الموقوف عليهم فيه سواء، فيكون شهراً بشهر، وأسبوعاً بأسبوع ونحوه، إذ لا يجوز اجتماع غير المحارم مع اختلاف وضيق المساكن، وكذا مع اتحاده إذا ضاق عنهم، حيث لم يتراضوا بالمساكنة مع الضيق وإلا جاز هنا، ولا تجوز إجارته على الغير وكذا الإعارة، وحينئذ فيدعوهم الحاكم إلى المهايأة فإن امتنعوا أعرض عنهم. (مسألة): وقف بيتاً على بنته فلانة وعلى من سيولد له وأولادهم ما تناسلوا، ثم على قارىء يقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن بمسجد كذا، وشرط بعد صدور الوقف السكنى لأم ابنته مع بنتها المذكورة، فالأقرب صحة الشرط المذكور واستحقاق الأم للسكنى لأنه الأقرب لغرض الواقف، ويفرق بينه وبين ما إذا شرط الواقف النفقة والكسوة لمن ذكر من غير تقدير لهما، بأن النفقة والكسوة المجهولين يكثر الغرر فيهما فيبطل بخلاف السكنى، وإذا كان الوقف للسكنى لم يجز تأجيره إلا للعمارة، وإن كان لينتفع به الموقوف عليه مطلقاً أو كيف شاء، فلكل من الموقوف عليهم تأجير حصته وإن كان للاستغلال بأن نص الواقف على أنه يؤجر وتقسم الأجرة على الموقوف عليهم، فهذا التأجير لا يجوز إلا من الناظر على وفق الحظ والمصلحة، وإذا نذر مستأجر الوقف للموقوف عليهم أنهم إذا جاؤوه في أثناء المدة نادمين أنه يقبلهم في باقيها فعليه إجابتهم إلى ذلك وفاء بما(1/131)
التزمه. (مسألة): وقف أرضاً وبيتاً على بناته الثلاثة، فالمذهب امتناع قسمة الوقف المذكور لما فيه من تغيير شرط الواقف ولاتحاد الواقف والجهة الموقوف عليها، نعم لهن المهايأة بالتراضي وليست بلازمة فلكل الرجوع متى شاء. (مسألة): غرس نخلاً في أرض موقوفة بلا إذن من أهل الوقف، لزمه أجرة مثل الأرض مدة بقاء النخل من نقد البلد على المعتمد في الفتوى لا غير. (مسألة): وقف على أولاده ثم أولادهم ما تناسلوا، وجعل النظر في ذلك للأرشد من الرجال فقط، فانقرض بعض البطون المستحقين ولم يبق إلا امرأتان، انتقل النظر للأرشد من البطن الذي بعده عملاً بشرطه. (مسألة): من وظائف الناظر عمارة الوقف، فإذا احتاج لعمارة خراب حدث فيه عمره من ريعه، إن كان، وإلا احتاج إلى إذن ولي الأمر أو القاضي في الاستقراض أو العمارة من ماله ليرجع في ريع الوقف، هذا ما جرى عليه الشيخان، فإذا عمر بإذن كان عناؤه محترماً ويصير شريكاً بما زادت به القيمة بسبب عمارته، وإذا أراد أن يزرع الأرض احتاج إلى استئجارها ممن ذكر أيضاً، وأفتى ابن الصلاح والبلقيني بجواز اقتراض الناظر للعمارة بلا إذن من ذكر، والتحقيق أن يقال: إن كان الناظر مولى على أوقاف المساجد من قبل وليّ الأمر وهو كامل الأهلية في النظر والاجتهاد والاحتياط فيما الأصلح للوقف جاز له الاقتراض من غير إذن، وهو محمل فتيا ابن الصلاح، وإن كان على وقف خاص منحط الرتبة عن كمال أهلية النظر والاجتهاد احتاج إلى الإذن، ويجري هذا التفصيل فيما إذا عمره من ماله ليرجع عليه، لا يقال هذا تول للطرفين من الناظر، فإن هذا تقديري لا حقيقي، فيتسامح فيه كما تسامحوا في أن للناظر أن يقبض معلوم نفسه من نفسه، كما أفتى به البلقيني لما في الرفع إلى الحاكم من المشقة. قلت: وافق البلقيني أبو مخرمة، وخالفه ابن حجر فقال: لا بدّ من أقباض من القاضي أو وكيله اهـ. وحيث ثبت له عناء محترم في الأرض وكان ثقة غير مماطل فهو أحقّ(1/132)
بها من غيره، فله استغلالها بالاستئجار ممن له ذلك كغيره من الحراث، وإن تعدى شخص على الأرض المذكورة وزرعها وجب عليه أجرة مثلها مدة بسطه، ويكون للناظر أجرة مثل حصة عنائه والباقي لأرباب الوظائف يصرفه الناظر حسبما شرطه الواقف. (مسألة): المتحصل من كلام الأصحاب أنه يشترط في الناظر من قبل الواقف أو القاضي أن يكون عدلاً عدالة باطنة على المعتمد، أميناً كافياً أي مهتدياً إلى جميع التصرفات التي هي من وظائف الناظر، وهي العمارة والتأجير من مليء غير متغلب بأجرة المثل فأكثر، وقبض الأجرة وصرفها على ما شرطه الواقف وحفظ الغلات والأصول، إذا عرفت ذلك، فإذا وقف شخص أوقافاً على مصارف مباحة، ووقف مالاً لإصلاحها، وجعل النظر بعده إلى صلحاء ذريته جميعاً، وإن كثروا وكان بعضهم كثير السفر إلى مسافة القصر والاشتغال بأمر السلطان علمت أن السفر قادح في النظر على جميع الأوقاف المذكورة، سيما وقد شرط الواقف صلاحية الناظر للنظر وهي مفقودة هنا، وينعزل شرعاً بالسفر المذكور، ولا يستحق شيئاً مما يستحقه الناظر الصالح، ولا يجوز له منازعة المتأهل للنظر المتوطن بالبلد من بقية الذرّية في شيء مما هو على الناظر كالحفظ والتأجير والعمارة. (مسألة): وقف أرضاً وجعل النظر لأولاده وأولادهم، فإذا ثبت شرعاً أهلية أحد من ذريّة الواقف ولو جماعة كان له النظر، وحيث كان لجماعة فليس لأحد منهم التصرف في شيء من الوقف، ولا يستبد بحرث وتأجير إلا بإذن الباقين ورضاهم وإلا كان قادحاً في نظره، وعلى وفق الحظ فإن أجر بدون أجرة المثل بلا مسوّغ شرعاً فسدت ولزم الباسط مثل أجرة الأرض يدفعها للناظر، ولو أجرها أكثر من المدة التي شرطها الواقف بطلت في الزائد عملاً بتفريق الصفقة كما قاله زكريا، ومن غاب من المستحقين للنظر لحاجة وأقام متأهلاً مقامه جاز وله عزله وتولية متأهل غيره، ولا يصدق الناظر في صرف الغلة إلى المعين بل القول قوله وقول وارثه، وعليه إقامة(1/133)
البينة بالإيفاء أو بالإقرار بالاستيفاء. (مسألة): وقف على أولاده الحائزين أبداً ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فعلى المسجد الفلاني، والحال أن الوقف صدر عن ظهور الطاعون وانتشاره صح فيما يسع الثلث، ويحتاج إلى إجازة الورثة المذكورين، فإن لم يجيزوا لم ينفذ. (مسألة): أقرّ بعض الورثة بوقفية التركة أو بعضها قبل قوله في نصيبه والقول قول البقية بأيمانهم. (مسألة): إذا لم يقم إمام المسجد بالوظيفة القيام المتوجه عليه شرعاً، بأن شغرت بالكلية وقامت بينة بذلك وفصلت الشغور انعزل بذلك، نعم قد يكون العذر في بعض الوظائف مسقطاً للزوم المقصود، فلا يحتاج إلى الاستنابة كالطلب في درسي مثلاً حصل له مرض يمنعه من الحضور، قاله البلقيني. (مسألة): منع ذو وظيفة كإمام وصاحب قراءة من مباشرة وظيفته، فالذي يميل إليه استحقاقه العلوم مدة المنع، لأنه من باب الأرصاد والأرزاق لا المعاوضة، وليس لناظر على الأوقاف حادث عزل متول قديم خاص على نحو مدرسة من غير مسوّغ بل لا ينفذ. (مسألة): يجوز للناظر على المدارس أن يؤجر الأراضي الموقوفة عليها من أرباب الوظائف كالمدرس مطلقاً، ولا حرج عليه في ذلك، سواء كانت معاليمهم بالجزئية أم لا على المعتمد، بخلاف الوقف على معين، لا يجوز لهم استئجاره مطلقاً، والفرق أن الوقف على نحو المدرسة وقف على الجهة، ولا حق للمتوظفين في عين الموقوف وإنما حقهم فيما يحصل، بخلاف المعينين فإنهم ملاك للرقبة على قول وللمنفعة على آخر، ولا يصح أن يستأجر الإنسان منفعة بملكها. (مسألة): امرأة لها بنتان وابن ابن، وقفت أرضاً، على ابن ابنها النصف وعلى البنتين النصف الثاني ولم تزد على ذلك، كانا وقفين لكل واحد حكمه كما أشار إليه السبكي، فإذا ماتت البنتان وخلفتا أولاداً انتقل الوقف الذي لهما وهو النصف إلى أقرب الناس إلى الواقفة، وهم أولاد البنات وابن الابن المذكور أي للفقراء منهم يقسم بينهم بالسوية.(مسألة): نزل لآخر عن(1/134)
وظيفته في مدرسة بغير عوض، وهو محتاج لنفقة عياله مع عدم صبره على الإضافة، لم يصح النزول قياساً على التصدق بجميع ماله، ويجب على الحاكم إبقاؤه على وظيفته اهـ. وفي فتيا أخرى له: أنه إذا نزل عن وظيفته لآخر كان له الرجوع مطلقاً ولا يصح النزول. (مسألة): له وظيفة القراءة بمسجد نزل في مرض موته عنها لشخص غير أهل لها لكونه ممن يتعاطى السحر والتنجيم يقصده النسائي لذلك، وربما حصلت خلوة لم تجز توليته وإن قرره نائب القاضي، لأنه يشترط في المنزول له وجود الأهلية الشرعية وتقرير الناظر. (مسألة): ترك المتوظف على مدرسة المباشرة للوظيفة بغير عذر شرعي لم يستحق معلوم المدة التي لم يباشر فيها، وإن باشر في بعض المدة استحق حصته، كما أفتى به ابن الصلاح واقتضاه كلام النووي وهو المعتمد، خلافاً لابن عبد السلام، فلو قبض شيئاً من معلوم الوظيفة مما لا يستحقه ضمنه ووجب رده، وحيث ترك المباشرة من غير عذر شرعي فوظيفته شاغرة، فإذا ثبت ذلك احتاج إلى تولية جديدة، ولا تنفذ تولية الناظر العام مع وجود الخاص كما في الخادم. (مسألة): شخص من أهل العلم مستمر على الاشتغال به، وينفع المسلمين إفتاء وتدريساً ومسامحة في أراضي بيت المال، معلومة مدوّنة في الدفاتر السلطانية المعتمدة التي جرت عليها الباشات وأمناء السلطان، وكلما تولى باشة أجراه على ذلك، يجوز له تناول ذلك اعتماداً على ما ذكر، وقد اعتمد العلماء ومنهم النووي رضي الله عنهم على الدفاتر المعتمد، فيما هو أضيق من أموال بيت مال المسلمين وأشد احتياطاً، وهو دفاتر الوقف المعتمدة وجروا على ما فيها واكتفوا بذلك، وأولى أن يعتمد على ذلك في بيت مال المسلمين الذي يعد لمصالحم، ومن أهمها القيام بكفاية العلماء منه، فقد قال السبكي: ومن وظائف السلطان الفكرة في العلماء والفقراء المستحقين، وتنزيلهم منازلهم وكفايتهم من بيت المال الذي هو في يده أمانة عنده ليس هو إلا كواحد منهم، ولا يستكثر(1/135)
ما في أيدي الفقهاء، وأن ينظر في أوقافهم، ولا يكلهم إليها بل يرزقهم من بيت المال ما تتم به كفايتهم.
الهبة
(مسألة): أقرّ لولده بأعيان معلومة القدر والوزن، ثم بعد موت الولد المذكور ادّعى الأب أني كنت وهبت هذه الأعيان له، فدعوان الهبة مقبولة ليرجع، لكن الرجوع هنا ممتنع لانتقال الملك إلى ورثة الولد. (مسألة): تصح هبة المنافع ويملكها المهب له بقبضها، ويحصل بقبض العين وتكون أمانة، خلافاً لقول الزركشي إنها عارية (مسألة): ما جرت به عادة الناس في الأفراح كالعرس والختان وغيرهما من أن نحو المزين الذي يخدم صاحب الفرح يضع طاسة بين يدي صاحب الفرح، فيطرح كل واحد من الناس شيئاً لصاحب الفرح من الدراهم بقدره على طريقة المعاونة له في ذلك، ويطرح في الطاسة المذكورة أيضاً شيئاً من الدراهم يقصد به المزين، ومن حضر معه من المزينين المعاونين له في الخدمة المحتاج إليها في الفرح المذكور، وجرت العادة بقسمة ذلك بين من حضر كل بما يليق به بحسب معاونته وما بقي يأخذه المزين المذكور، فالمجتمع من الدراهم في الطاسة المذكورة يكون بين المذكورين على ما جرت به العادة والعرف في كيفية قسمته، أخذاً مما ذكر ابن الصلاح في الوقف أن العادة المقارنة للوقف بمنزلة الشرط، فليس للمزين أخذ الكل، ولا ينافيه ما ذكره الشيخان فيمن اتخذ دعوة ختان ولده، أن الهدايا المحمولة إليه لا لولده، لأن ذلك مفروض في الهدايا المطلقة عن ذكر واحد منهما وقصده، فإذا قصد أصحاب الهدايا الولد فهي له، وهنا مفروض أياً في قصد المزين ومن معه مع قيام العرف المعمول به، ولا ينافيه أيضاً أن ما يعطاه خدام الصوفية يكون له دونهم لما ذكرناه، ومن هنا أفتى جماعة من المتأخرين فيما لو نذر لولي ميت إذا كان العرف يقتضي أن ما يجتمع من ذلك يقسم على جماعة معلومين فالنذر منزل عليه. (مسألة): كتب إلى آخر ورقة ولم يشرط عليه الجواب في ظاهرها كان هدية للمكتوب إليه، فإن كانت من(1/136)
أموال الظلمة والولاة فالورع عدم الانتفاع بها، وأما من حيث الجواز فإن علم أنها من الحرام لم يجز استعمالها، وإن لم يعلم فحكمها حكم معاملة من أكثر ماله حرام، والمنقول كراهتها، ومجرّد الكراهة لا يقتضي الإثم في الآخرة، مع عدم العلم ودلالة اليد على الملك، كما نقله في المجموع عن الشافعي والأصحاب خلافاً للغزالي. (مسألة): لا تنفسخ الهبة بموت الواهب قبل الإقباض ويقوم وارثه مقامه، ولا بد في دعوى الهبة والرهن والشهادة بها من التعرض للإقباض بشرطه فلا يكفي الإطلاق. (مسألة): ألبس بناته في صحته حلياً، وملك كل واحدة ما ألبسها ملكته، ولا يصير تركة إذا مات الأب، ولو دفع إلى أهل المرأة مالاً ليزوّجوا ابنه موليتهم ومات الدافع قبل العقد كان المدفوع تركة، لأن الدفع في عرف بلدنا كسوة معجلة لا تستقرّ إلا بالعقد والتمكين، فإذا مات الدافع قبل الوجوب عاد إلى ملك وارثه.
اللقيط وحكم الإماء(1/137)
(مسألة): الجواري المجلوبة الآن قد حرر السبكي أحكامها وحاصله: إما أن يجهل حالها فالرجوع في ظاهر الشرع إلى السيد في الصغيرة وإلى إقرارها، واليد في الكبيرة، واليد حجة شرعية، وكذا الإقرار والورع الترك، وأما أن يعلم حالها وله مراتب: أحدها أن يتحقق إسلامها في بلادها، ولم يجر عليها رق قبل ذلك، فلا تحل هذه بوجه من الوجوه إلا بزواج شرعي. ثانيها: كافرة ممن لهم ذمة وعهد فكذلك. ثالثها: كافرة من أهل الحرب مملوكة للكافر حربياً أو غيره باعها فهي حلال لمشتريها. رابعها: كافرة من أهل الحرب قهرها وقهر سيدها كافر آخر فإنه يملكها ويبيعها لمن شاء وتحل لمشتريها، وهذان النوعان الحل فيهما قطعي وليس محل الورع كما أن الأوّلين الحرمة فيهما قطعية. خامسها كافرة من أهل الحرب لم يجر عليها رق وأخذها مسلم قهراً فلا يخلو إما أن يأخذها جيش بإيجاف فهي غنيمة فهذا لا خلاف فيه، وغلط الفزاري فقال: إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام يفعل ما يراه المصلحة، ورد عليه النووي في ذلك: وإما أن يغزو واحد فأكثر بإذن الإمام أو دونه، فماله من الغنيمة يختص بأربعة أخماسه والخمس لأهله أيضاً، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ويكره الغزو بغير إذنه، وإما أن يصير الواحد أو الجماعة لا على صورة الغزو بل متلصصين، فالصحيح أنه يخمس ما أخذوه كالغنيمة، وقال الإمام المشهور عدم التخميس، وفي موضع آخر: ادعى إجماع الأصحاب على أنه مختص به، وجعل أموال الكفار على ثلاثة أقسام: غنيمة وفيء وغيرهما كالسرقة، فيملكه من أخذه قياساً على المباحات، ووافقه الغزالي على ذلك وهو مذهب أبي حنيفة، وقال البغوي تبعاً للأكثرين: ما أخذه من حربي على جهة السوم فجحده أو هرب عنه اختص به وفيه نظر، وقال بعض المالكية: ما أخذه العبد لا يخمس مطلقاً لأن المخاطب بقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم} الأحرار وقياسه أن ما أخذه النساء والصبيان كذلك، وإما أن ينجلي الكفار عنها من غير(1/138)
إيجاف أو يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة وما أشبه ذلك، فهذه فيء يصرف الخمس لأهله، والباقي فيه قولان: أصحهما للمقاتلة، والثاني للمصالح، فكل جارية علم أنها من الفيء، أو حصل من المتولي على أهله أو الوكيل عنهم، أو ممن انتقل الملك إليهم من جهتهم ولو بقي فيها قيراط لم تحل حتى يتملكه من هو له، وما قاله السبكي من حل الجارية في حال الجهل هو المعتمد خلافاً للقفال والرداد.
الوديعة
(مسألة): أكره الوديع حتى دل على الوديعة أو أقرَّبها أو سلمها، فالمعتمد ضمانه بمعنى أنه طريق في الضمان والقرار على الآخذ. (مسألة): طلب بعض ورثة المودع من الوديع حصته من الوديعة فأنكر وقال: ما عندي لمورثك شيء، ثم أقرّ بها عند الحاكم وادعى التلف صدق بيمينه إذا كانت صيغة الإنكار هكذا، إذ لا تناقض في كلامه. (مسألة): أرسل طفلاً لأخذ الوديعة فسلمها الوديع بإذن المالك برىء من الضمان، فلو ادعى المالك نقص شيء منها وأنكر الوديع فالقول قوله. (مسألة): أودع بقرة عشاراً فنتجت في يد الوديع فقصر في حفظ ولدها فتلف بتقصيره وانقطع لبن أمه لكونها لا تحلب إلا عليه ضمن الولد، وكذا نقص أمه وهو بين قيمتها حلوباً وغير حلوب، كما أفتى به ابن عجيل وغيره. (مسألة): باع مشتركاً بأذن شريكه وقبض الثمن وجعله في الجيب المعروف في ظهر القميص مما يلي جانب اليمين، فضاع منه عند الازدحام، لم يضمن إن ضاق الجيب أو كان مزروراً بالأزرار، ولم ينص له في حفظ الدراهم على شيء وإلا ضمن. (مسألة): أودع آخر ثوباً فجعله في حرز مثله، ثم حصل حريق في البيت الوديع فأخرج ما كان خفيفاً من الأمتعة، فلما طالبه المودع بالثوب ادعى أنه احترق وأنه نسيه بسبب الدهش ولم يذكره إلى الآن لم يعدّ بذلك مقصراً فلا يضمنه، والقول قوله بيمينه في تلفه بالحريق، ولا يشكل على ذلك ما ذكروه من أن الناسي للوديعة يضمنها لأن هذا دهش لا نسي.
الفرائض(1/139)
(مسألة): ليس للأجنبي أن يجهز الميت من تركته إلا بإذن القاضي، فإن لم يكن حاكم تمكن مراجعته قبل التغير جاز لأحد الثقات من المسلمين تجهيزه من ماله أي الميت للضرورة قاله ابن عجيل. (مسألة): مات عن زوجة وعصبة وعليه للزوجة ألف ومائة وخلف عيناً قيمتها ألف ومائتان، فبمجرد موته يسقط عنه من الدين ربعه ويستقر له من الدين ربعه وقيمتها ثلثمائة، فتفوز حينئذ بخمسة وعشرين وهي حصتها من المائة الفاضلة عن الدين، وللعصبة بقية المائة خمسة وسبعون. (مسألة): مات عن ابني عم شقيق وابن أخ لأم، وهو ابن ابن عم لأب، فعصبة الميت لابني العم الشقيق ولا شيء للآخر لنزوله. (مسألة): مات عن بنت ابن وابن ابن أنزل منها كان لها النصف فرضاً وله الباقي. (مسألة): ماتت وخلفت أماً حاملاً لغير الأب وأخاً لأب، فالمسألة من ستة، فتعطى الأم سهماً لأنه المتيقن، والأخ للأب ثلاثة، ويوقف سهمان إلى أن تضع الأم، فإن ولدت واحداً ذكراً أو أنثى حياً فله سهم، ويأخذ الأخ السهم الآخر، أو ولدين فأكثر حيين فلهما السهمان، وإن ولدت ميتاً أخذت الأم من الموقوف سهماً تكملة الثلث، والأخ السهم الباقي. (مسألة): ماتت عن زوج وابن منه، فللزوج الربع والباقي للابن، فإذا مات الزوج عن ابنين وبنتين قسمت تركته على ستة للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو ادعى أخ الزوج أنه وصيه فيما خلفته الزوجة وأنه أوصى به لابنها لم يقبل قوله فيهما. (مسألة): مات ولم يخلف وارثاً غير بنت أخت استحقت جميع التركة حيث لم ينتظم بيت المال، كما هو المشاهد والمحكوم به في ذوي الأرحام توريثهم بشرطه وهو المعتمد، فلا يحل لمن يخشى الله تعالى أن يفتي أو يحكم بخلافه. (مسألة): مات وله وارث علم وجوده قبل موته ورث منه وقضى الحاكم من إرثه ديونه الثابتة شرعاً وهذا ظاهر، وإنما الإشكال فيمن لا يعلم حياته قبل موت مورثه، ومات مورثه وهو مفقود، والحكم فيه أنا نوقف نصيبه، فإذا حكم الحاكم بموته قسم ماله بين(1/140)
ورثته، ولا يدخل فيه نصيبه الذي وقف له من قريبه، بل هو لورثة قريبه، قلت: وافقه في التحفة قال: إذ لا إرث بالشك. (مسألة): دخل كفار قرية فقتلوا رجلاً وزوجته وعمته ولم يعلم السابق فلا توارث بينهم، بل يجعل مال كل واحد لباقي ورثته، فإذا خلف المقتول ابنين أحدهما صبي مأسور كان ماله بينهما أنصافاً، وإن فرض أن الطفل المأسور تلفظ بكلمة الكفر فلا أثر لها في الحكم بإسلامه، إذ من شرط الردة التكليف فيوقف نصيبه تحت نظر الحاكم العدل لا حيث وصى، فإذا تحقق موته بعد ذلك، أو مضت مدة يحكم الحاكم بأن مثله لا يعيش فيها وحكم بموته قسم ماله بين ورثته، فإذا كان الحاضر بالغاً رشيداً أعطي حصته من مال مورثه، ويجوز للحاكم أن يؤجر حصة المفقود من أخيه الحاضر بأجرة المثل ويحتاط في تقليل المدة، وإذا خلفت العمة بنتاً وأخاً لأب وابني أخ شقيق فللبنت النصف والباقي لأخيها من أبيها، ولا شيء لابني الأخ الشقيق. (مسألة): مات ذمي عن بنتين فقط ولم يترافعوا إلينا جاز لنا أخذ الباقي عن فرض البنتين ويكون فيئاً، وإن كان اعتقادهم إرث الكل. (مسألة): إذا مضت مدة لا يعيش فيها المفقود ولم تظهر حياته، فلا بد من حكم الحاكم بموته، خلافاً للأذرعي والرداد لأنه في محل الاجتهاد، نعم في الخادم ينبغي تخصيص الخلاف بالظن، وأما المدة التي يقطع فيها بالموت فالأشبه كما في المطلب أنه لا حاجة إلى الحكم لأنه لا يحتاج إليه إلا في محل الاجتهاد.
الوصية(1/141)
(مسألة): قال: ثلث مالي للفقراء، ولم يقل بعد موتي، مقتضى عبارة المنهاج أن ذلك من صرائح الوصية، وأولى بالصراحة قوله في مرض موته: ثلث مالي لزيد، لأن قرينة ذكر الثلث وكون ذلك في المرض تصرفه إلى الوصية، والأولى أولى بالصحة لفرضها للفقراء. (مسألة): أوصى بزبدين طعام لشخص كل سنة صحت الوصية في السنة الأولى فقط، إذ لا يعرف قدر الموصى به في المستقبل ليخرج من الثلث، كما لو أوصى له بدينار كل سنة. (مسألة): أوصى بعتق عبده بعد أن يخدم أولاده خمس سنين صحت الوصية، فإذا خدمهم تلك المدة قوّم بعدها لا فيها لأنه ملكهم، فإن خرج من الثلث أو أجاز الورثة الكاملون عتق جميعه، وإلا عتق منه ما خرج من الثلث. (مسألة): أوصى لأولاد بنته بمثلي نصيب إحدى بناته مدة حياتهم، فإذا هلكوا رجع نصيبهم إلى ورثته، فهذه وصية بالعمرى فيملكها الموصى له وتورث عنه، ولا ترجع بعده لورثة الموصي، ولا أثر لقول الموصي: فإذا هلكوا الخ، فلو كان بعض التركة مرهوناً بدين على الميت، فإن انفك قبل قبول الموصى لهم صحت فيه أيضاً، وإلا فتصح في غيره فقط. (مسألة): أوصى بحلية يعمل له منها حجة ولزوجته حجة، وما زاد عن أجرة الحجتين يقرأ به القرآن، فمات والزوجة وارثة ولم تجز باقي الورثة لها الوصية، أخذ من الحلية المذكورة بقدر أجر المثل لحجتها ويكون تركة، ويقرأ بالباقي بعد إخراج حجته. (مسألة): الوصية بالإقالة كالمحاباة فتعتبر من الثلث إن كانت لغير وارث، وإلا فلا بد من ذلك مع الإجازة. (مسألة): أوصى لابنه بعين ولبنته بعين أخرى مثل وصية الابن، كان ذلك وصية لوارث، فإذا أجاز الابن ما فعله مورّثه وكان رشيداً صحت إجازته في نصيبه، ولا تقبل دعواه أنه لا يعرف حكم الإجازة لأنه جهل بالحكم وهو لا يقبل، إذ كان من حقه أن يتثبت في ذلك، ولا تصح من البنت الإجازة حال حجرها ولا من القيم عليها. (مسألة): وقف نخلاً على بعض ورثته في مرض موته، توقفت صحته على إجازة الباقين(1/142)
بعد موت الواقف، ولو أوصى بتبرعات مستحبات ولم يعين لذلك قدراً معلوماً لم تصح الوصية، لأنه لا يعرف قدر الموصى به فيخرج من الثلث، أو أوصى بواجبات الجهاز قدمت على غيرها، بل وإن لم يوص بها كما لا يخفى. (مسألة): أوصى بأن يحج عنه بأرض معينة، وأوصى بذلك لوارثه حتى من تأكيده عليه قال له: إن تحج لي وإلا فأرضي للمسجد، وجب على الوصي الإحجاج بها، فإن استأجر بغيرها تعذر الإحجاج بها فتصير وصية للمسجد. (مسألة): أوصى لجيرانه قسم على عدد الدور، ولا عبرة بنقص بعض الجهات عن أربعين داراً، إذ الوصية لجميعهم، ولا يقال كل جهة كصنف فيعطى الربع، وإذا أوجبنا الاستيعاب فرد بعض الجيران الوصية فنصيب الرادّ للباقين. (مسألة): أوصى لجيرانه أو أقاربه وفيهم عبد دخل وصرف ما يخصه لسيده كما نقله الناشري عن ابن أبي شريف. (مسألة): أوصى بأن يعمل من غلة أرضه كل سنة أربعة دراهم أجرة لمن يحمل ماء إلى سقاية كذا، وكانت غلة الأرض أضعاف الوصية بكثير صحت الوصية، والمعتمد في كيفية حسابها من الثلث، أن تقوّم الأرض بجميع منافعها بقطع النظر عن إخراج الأربعة الدراهم، ثم تقوّم مسلوبة المنفعة الموصى بها، فما نقص عن القيمة الأولى حسب من الثلث، فلو أراد الوارث إقطاع قطعة من الأرض تقوم غلتها بالأربعة الدراهم والتصرف في الباقي لم يصح، لأن الأجرة تختلف، فقد تنقص فيعود إلى الأربعة الدراهم وأقل فيكون الجميع للموصى له. قلت: وافقه ابن حجر في الإمداد في نظير هذه المسألة اهـ. نعم يجوز للوارث أن يوصي بالفاضل من غلة الأرض بعدما ذكر إلى مسجد أو سقاية أخرى إذا قلنا بالمعتمد، إذ لو نقصت الأجرة لم يكملها مما بعدها. (مسألة): أوصى بنخل لمن يقرأ على قبره كل يوم كذا من القرآن العظيم ولم يجعل وصياً، صحت وصيته وتعيين من يقرأ إلى القاضي، فإذا قرأ القارىء على قبره كل يوم القدر المعين مدة حياته استحق الوصية وإلا فلا كما أفتى به الرداد. (مسألة): أوصى لأهل(1/143)
البلد بغلة زرع موضع كذا يجتمعون عليه ثم يأكلونه ويقرؤون ما تيسر من القرآن ويهدون ثوابه للموصي، فإن كانوا محصورين تعين ذلك لجميعهم، وإلا جاز جعل الغلة لثلاثة منهم، كما لو أوصى للفقراء، وللقاضي أن يعين من شاء حتى عياله إن كانوا من أهل البلد. (مسألة): الدعاء والصدقة ينفعان الميت بلا خلاف، ومعنى نفع الصدقة أن يصير كأنه تصدق، وهذا ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه يلحق الميت ما تطوّع به عنه من صدقة ويؤيده قوله: وفي وسع الله تعالى أن يثيب المتصدّق أيضاً، قال ابن عبد السلام: إن ما ذكره الأصحاب من وقوعها عن الميت وأن للمتصدّق ثواب برّه له هو ظاهر السنة ويفارق الدعاء فإنه شفاعة أجرها للشافع ومقصودها للمشفوع له. (مسألة): يستحب للشخص إذا قرأ القرآن أن يعقب ذلك بالدعاء بإيصال الثواب للنبي، كما طلب أن يدعو له بالوسيلة، ويثاب فاعل ذلك، وكالمستأجر، للقراءة والدعاء، وإن كانت صحيفته مملوءة من كل خير، وكل من عمل عملاً من أعمال البر صلاة أو غيرها كان ثواب ذلك واصلاً إليه من حيث إنه المبلغ لذلك عن رب العالمين، واحتج السبكي لذلك بأن عمر رضي الله عنه كان يعتمر عنه صلوات الله وسلامه عليه عمراً كثيرة بعد موته، وحج علي بن الموفق عنه حججاً كثيرة، وعن محمد بن إسحاق أنه ختم عنه أكثر من عشرة آلاف ختمة وضحى عنه كذلك. (مسألة): أدى عن غيره زكاة أو فطرة بغير إذنه لم يجزه بلا خلاف، هذا إن كان المؤدى عنه حياً، أما الميت فيجوز أن يتبرع عنه على الأظهر كالحج عنه.
الإيصاء(1/144)
(مسألة): شرع في حفر سدّ في ملكه ولم يتمه وأحضر الحجارة لطيه، فلما حضره الموت أوصى إلى أرشد أولاده أن يتمه ويطويه من التركة ويكون سبيلاً للمسلمين، فالوصية بإتمامه نافذة من الثلث، فيفعل الوصي ما أمر به، فإن عجز رفع الأمر إلى الحاكم، فلو أذن الوصيّ لأحد أقارب الميت أن يعمره، فإن كان بالآلة التي خلفها الميت وأذن له في التصرف وأن يشتري ما يحتاج إليه من الآلات ليرجع بذلك في الثلث ففعل وأتمه رجع وكان كما لو أتمه الوصي، أو بآلة للمأذون لم يصح الإذن ولم يرجع بشيء والآلة باقية على ملك المأذون وعليه قلعها مجاناً لتعديه، نعم إن رأى الوصي المصلحة في شرائها وصرف الثمن من الثلث المذكور فعل أيضاً. (مسألة): يجوز للوصي أن يبدل جزءاً من التركة إذا خاف عليها صيانة للباقي، كما نقله الشيخان عن أبي عاصم وأقراه، ويكفي في الخوف غلبة ظنه أنه إن لم يعط شيئاً استولى عليها. (مسألة): ليس لأحد الورثة إذا لم يكن وصياً أن يستبدّ بقضاء دين مورثه كما صرح به في الروض، وحكى وجهاً أنه إذا كان في الورثة رشيد قام بذلك وإن لم ينصبه الحاكم والمعتمد أن الميت إذا لم يوص إلى أحد في قضاء دينه يكون أمره إلى القاضي العدل. (مسألة): توفي شخص ولم يحج وقد استطاع، وكان قد أوصى أن يجهز من ثلث مخلفه ويتصدق بصدقة معينة منه أيضاً ثم قال: وما بقي لحجة الإسلام، ففعل الوصي ما أمره ثم حج عنه بنفسه، وقع ذلك عن الميت واستحق ما بقي من الثلث، أخذاً مما ذكره البغوي أن لناظرالوقف أن ينصب نفسه في وظيفة من الوظائف إن تأهل لها، وأفتى به الطنبداوي خلافاً لمن منعه. (مسألة): أوصى إلى أخر في أمر أطفاله فرد الوصية في حياته، فأوصى بهم إلى أمهم، ثم بعد الموت قبل كل من الراد الأوّل والأم صحّت لكل منهما وصار كل وصياً ويشتركان ولا يستقل أحدهما بالتصرف. (مسألة): قاض حنفي مأذون له في الاستخلاف، استخلف رجلاً في قرية معينة على مقتضى مذهبه، فمات شخص من أهل(1/145)
تلك القرية وخلف ورثة بالغين ومحاجير وعليه ديون، فتولى هذا الخليفة بيع شيء من التركة لقضاء الدين بحكم الوكالة والولاية جاز له ذلك، وليس لخليفة من قبل الشافعي الاعتراض عليه، بل هو غير مصيب في ذلك، لا سيما وسلطان الوقت لا يطلق القاضي إلا على الحنفي لأنه متمذهب بمذهبه. (مسألة): أوصى إلى الأطفال أو نصبها القاضي عليهم ثم تزوّجت انعزلت به كما صرح به محمد الحبيشي، وتعليل الأصحاب منع الأم المزوّجة من الحضانة، بأن في التزوّج نوع رق يقتضي انعزالها من الوصاية، نبه عليه الطنبداوي ونسب إلى ابن عجيل. (مسألة): مات وصيّ على طفل، فادعى وارثه أن المال تلف في يده بغير تفريط صدق بيمينه، كما لو ادعى وارث الوديع تلف الوديعة في يد مورثه بغير تفريط بلا فرق، وفي باب القراض من العباب لو ادعى على وارث عامل أو وديع لم تسمع إلا إن ادعى أن المال بأيديهم أو تفريط مورثهم فيحلف الورثة على نفي العلم في الثانية. (مسألة): ليس للأخ الوصي على المحاجير أن ينفق على أولاده من المال المشترك بينه وبين إخوته المحاجير، وإن جرت عادة أبيهم بالإنفاق على الكل في حياته، ويجوز التصدق بما فضل من الطعام عن أكل المحاجير لقلته ولجريان العادة بذلك، والله يعلم المفسد من المصلح. قلت: هل يلحق بذلك ما يعطاه السؤال عند جذاذ النخل وقنامته لجريان العادة المؤدي تركها إلى انتهاك عرض المانع، وإن كان المال لوقف أو محجور حرره انتهى، وللولي أن يخلط طعامه بطعام محجوره، وأن يضيف من المخلوط إذا لم يكن على المحجور حيف، وليس له إعارة مال الطفل كما صرح به في الروضة. (مسألة): عزل نفسه من الوصاية ثم أراد العود إليها وهو أهل لها جاز له ذلك، أخذاً مما ذكره السبكي في نظير ذلك من الوقف بالشرط، إذ المعنى يجمعهما في قرن واحد، والفرق بينها وبين الوكيل واضح. (مسألة): أشهد شاهدين عند توجهه لنحو سفر بأنه متى مات كان ابنه البالغ وصياً على أخواته المحاجير فيما(1/146)
اتجر لهم بالإرث، صحت الوصاية إذا قبل الابن. (مسألة): أوصى إلى آخر بأولاده بأن ينفق عليهم ويكسوهم ويتصرف في مالهم، فقبل الوصي بعد الموت، وأشهد على نفسه أنه ينفق عليهم من ربح المال، فمكث مدة ثم عجز عن ذلك لعدم حصول الربح، عمل بقول الموصي في المؤن من رأس المال، ولا يحتاج إلى رفع إلى الحاكم لأن تصرفه بالوصاية صحيح، فلو طلب المال غيره والتزم مؤنتهم من الربح لم يجب إلى ذلك عملاً بالوصاية الصحيحة، ولما في ذلك من المنة عليهم، بل في طلبه ذلك دليل على تساهله وعدم أمانته وذلك قادح، لا سيما إن كان الطالب غير مليء، بل يحرم نزع المال من الوصي المليء ودفعه إلى غير مليء، ويضمن الفاعل ذلك. (مسألة): وصى على قضاء دين وردّ وديعة علم بذلك من الموصي جاز له، بل وجب عليه المبادرة إلى ذلك عند طلب أربابها ولا يأثم، فقد قال الأذرعي: يظهر أنه إذا علم الوصي حقيقة الحال أنه يسعه ذلك فيما بينه وبين الله، بل قد يجب عليه باطناً إذا كان لا يقبل قوله بمفرده حيث لا شاهد سواه، والحاكم مما لا يقضي بشاهد ويمين ونحو ذلك، أو كان الحق لمن لا يمكن تحليفه في الحال كالأطفال ونحوهم. (مسألة): جعل أمّ الأولاد وصية على أولاده، وجعل شخصاً ناظراً عليها أي مشرفاً فمات المشرف، وجب على الحاكم نصب آخر مقامه كما ذكروا فيما إذا مات أحد وصيين، والمشرف على الموصي إليها وصي آخر بجامع أن الوصي لا يتصرف إلا بإذنه والوصاية باقية حينئذ. (مسألة): طلب البالغون الرشداء من القيم أن يبين لهم أصل التركة وأعيانها وقدرها ليتوصلوا بذلك إلى تصحيح دعواهم ليسمعها الحاكم أجيبوا إلى ذلك، لأن دعواهم لا يتبين تصحيحها إلا على معرفة أصل التركة، فعلى القيم بيان ذلك، ولا يكفيه أن يقول: أنفقتها في مستحقها، كما جرى على ذلك الأذرعي في قوته، وكذا لا يقبل قوله: كلما دخل خرج لأنه كلام لا يهتدى منه إلى شيء، ثم إذا ادعى القيم أنه أنفق عليهم قدراً محتملاً وبينه(1/147)
فالقول قوله بيمينه، أو غير محتمل في مدة الإنفاق لم يصدق في الزائد، وإن ادعى البالغون أن يد القيم ترتبت على شيء معين من التركة وأنكره صدق بيمينه، فإن أقاموا بينة بعد ذلك سمعت. (مسألة): أوصى إلى ابنه البالغ على أخواته المحاجير، وثبتت يده علىالتركة من عين ودين، فكل ما صدق عليه أنه من التركة وثبت إقراره به فلا تقبل دعواه بعد أنه ملكه، بل يكون تركة، فلو ثبت أنه خان في التركة أو أخفى أو جحد شيئاً منها أو تصرف بغير مصلحة ولا غبطة كان ذلك قادحاً في وصايته، كما لو صالح بعض الغرماء ببعض ديونهم مع تمكنه من المطالبة بالجميع لكونهم مليين فلا يصح الصلح، وينعزل بذلك، وينزع المال من يده، ويعطى الرشداء حصصهم، ويجعل حصة المحجور تحت يد عدل أمين يتصرف على وجه الحظ ويمونهم بالعرف، ولا يثبت طلاق الزوجة بدعوى الوارث، بل لا بد من شهادة عدلين على طلاق الزوج أو إقراره بالطلاق البائن، وإذا لم يثبت وجب إيصال الزوجة إلى ما تستحقه من الإرث، وكذا البنت البالغة يجب إيصالها إلى حصتها.
النكاح(1/148)
(مسألة): إذا سأل رجل آخر: هل ليلة كذا أو يوم كذا يصلح للعقد أو النقلة؟ فلا يحتاج إلى جواب، لأن الشارع نهى عن اعتقاد ذلك وزجر عنه زجراً بليغاً، فلا عبرة بمن يفعله، وذكر ابن الفركاح عن الشافعي أنه إن كان المنجم يقول ويعتقد أنه لا يؤثر إلا الله، ولكن أجرى الله العادة بأنه يقع كذا عند كذا، والمؤثر هو الله عز وجل، فهذا عندي لا بأس به، وحيث جاء الذم يحمل على من يعتقد تأثير النجوم وغيرها من المخلوقات، وأفتى الزملكاني بالتحريم مطلقاً، وأفتى ابن الصلاح بتحريم الضرب بالرمل وبالحصى ونحوها، قال حسين الأهدل: وما يوجد من التعاليق في الكتب من ذلك فمن خرافات بعض المنجمين والمتحذلقين وترّهاتهم لا يحل اعتقاد ذلك، وهو من الاستقسام بالأزلام، ومن جملة الطيرة المنهيّ عنها، وقد نهى عنه عليّ وابن عباس رضي الله عنهما. (مسألة): يحرم على الرجال النظر إلى النساء وعكسه، خصوصاً ذوات الهيئة والجمال، وإن لم تكن خلوة، ويأثم كل بذلك، ويجب نهيهم وتعزيرهم، ويثاب الناهي عن ذلك ثواب الفرض، لأن الأمر بالمعروف من مهمات الدين. (مسألة): وجد بالمرأة علة فأرادت التطبب، قدمت المرأة المسلمة، فالصبي المسلم غير المراهق، فالصبي الكافر كذلك، فالمرأة الكافرة، فالمسلم الأجنبي، فإن تعزر فالأجنبي الكافر. (مسألة): المعتمد في الفتوى أنه لا يشترط أن يقول الولي: زوجتك فلانة بنت فلان، بل يكفي فلانة فقط مع نيتها من الولي والزوج ولا يعتبر علم الشهود. (مسألة): اعلم أن في مسألتي التحكيم والتولية تناقضاً واضطراباً نشأ من خلط إحداهما بالأخرى، والتحقيق أنهما مسألتان، كل منهما لها شروط تخصها، فمن شروط التحكيم صدوره من كلا الزوجين وأهلية المحكم للقضاء للواقعة، ولا يكفي فيه مجرد كونه عدلاً خلافاً لشرح الروض، ومن شروطه أيضاً فقد الولي الخاص بموت ونحوه، ولا يجوز مع غيبة الولي مطلقاً كما في الخادم، ووقع لبعض المتأخرين جوازه مع غيبة الولي وهو(1/149)
ممنوع، إذ الكلام مفروض في التحكيم مع وجود القاضي، وأما مسألة التولية وهي تولية المرأة نفسها عدلاً في تزويجها فهذه يشترط فيها فقد الولي الخاص والعام وهو الحاكم، فيجوز للمرأة إذا كانت في سفر أو حضر وبعدت عن القضاة ولم يكن هناك من يصلح للتحكيم أن تولي أمرها عدلاً، كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه. (مسألة): قاض له بنت أخ هو وليها، وكان قد نهي عن الاستخلاف وأراد تزويجها بطفله، فطريقه في ذلك أن تحكم هي وأبو الطفل المذكور من هو أهل للتحكيم، كما لو لم يكن بالبلد قاض، ولا بد من رضاها ورضى وليّ الطفل في التحكيم وإن كان قاضياً، لأن فرض المسألة فيمن نهي عن الاستخلاف، كما لو أراد الولي تزويج طفله بموليته فتنتقل ولايتها للحاكم. (مسألة): أراد أن يتزوج بنت عم له وليس لها ولي غيره في درجته، جاز له معها أن يحكما رجلاً أهلاً للتحكيم، بناء على أن فعل المحكم ليس كفعل المحكم له. (مسألة): غاب ولي وهو صغير علم بلوغه دون رشده، فالذي يؤخذ من كلام السبكي في نظير هذه أنه يزوّج موليته الحاكم لا الأبعد الذي تنتقل الولاية له لو فرض عدم أهلية الغائب، ولكن الأحوط أن تأذن لهما ثم يوكل أحدهما الآخر في الترويج. قلت: بل ينبغي لمن وليها غائب أن تأذن للحاكم وللولي الأبعد مطلقاً احتياطاً، فربما الغائب حال العقد ميت أو غير أهل للولاية بنحو فسق معنون وإحرام كما لا يخفى. (مسألة): زوّج القاضي في غيبة العاضل، ثم قامت بينة أنه قد كان رجع عن العضل قبل تزويجه، فالأوجه صحة النكاح، ويفرق بينه وبين ما لو زوج لغيبة الولي، ثم بان أنه كان قريباً حال العقد من بطلان النكاح في تلك بعصيان العاضل بعضله فهو آثم بخلاف الغيبة. (مسألة): أخذ رجل امرأة عن أهلها قهراً وبعدها عن وليها إلى مسافة القصر وكذا دونه، إن تعذرت مراجعته لنحو خوف صح نكاحها بإذنها إن زوّجها الحاكم من كفء، إذ لم يفرق الأصحاب بين غيبة الولي وغيبتها، ولا في غيبتها بين(1/150)
أن تكون مكرهة على السفر أو مختارة، بل أقول: لو كان لها وليّ بالبلد وعضلها بعد أن دعته إلى كفء وتعسر لها إثبات عضله فسافرت إلى موضع بعيد عن الوليّ وأذنت لقاضي البلد الذي انتقلت إليه في تزويجها من الكفء صح النكاح، وليس تزويج الحاكم في الأوّل من رخص السفر التي لا تناط بالمعاصي كما يتخيل ذلك، نعم قد ارتكب المتعاطي لذلك بقهره الحرة والسفر بها وتغريبها عن وطنها ما لا يحل في الدين ولا يرتضى، بل ذلك من الكبائر العظام التي تردّ بها الشهادة ويحصل بها الفسق. (مسألة): أذن الولي لغيره أن يعقد بموليته، فإن كان بعد استئذانها حيث يعتمد إذنها صح أذنه وإلا فلا، وهذا بخلاف ما لو أمر الحاكم بتزويج من لا ولي لها قبل إذنها فزوّجها المأذون بإذنها فيصح، كما في العباب والروض وغيرهما. (مسألة): أراد وليّ المرأة أن يزوجها من زوجها الأول الذي طلقها ثلاثاً، وجب عليه أن يسألها هل الثاني وطئها وطئاً محللاً أم لا؟ ولا يكفي الظن، لأن النكاح لا يصح مع الشك في حل المنكوحة، كما إذا شك في انقضاء عدتها. (مسألة): قالت امرأة مزوجة لوليها: أذنت لك في تزويجي إذا طلقني زوجي وانقضت عدتي، ثم طلقها الزوج وانقضت عدتها ثم زوجها الولي بإذنها السابق صح النكاح، كما أفهمه كلام الروضة في بعض المواضع. (مسألة): أذنت لوليها أن يزوّجها مطلقاً، فزوّجها من صبيّ لا يتأتى منه الوطء، وهي تظن أنه لا يزوجها إلا من بالغ لشدة توقانها إلى النكاح، فالذي يظهر لي أنه لا يصح النكاح إذا علم الولي من حالها ذلك ودلت القرائن عليه، كما أفتى به الطنبداوي قياساً على منع تزويج الصغيرة من هرم ونحوه، إذ لا حظ لها في ذلك، وليس ذلك من باب فقد الكفاءة، بل من باب كون المتصرف عن غيره مأموراً بالاحتياط. (مسألة): يتيمة صغيرة زوّجها ابن عمها من شافعي، لم يصح النكاح عندنا إلا إذا قلد الزوج في الصحة من يرى ذلك، أو حكم بصحة النكاح حاكم يراه أيضاً، فحينئذ إذا طلقها(1/151)
الزوج ثلاثاً لم تحل له إلا بمحلل لعد بعد بلوغها بشرطه، أما إذا لم يقلد الزوج من يرى صحة النكاح ولم يحكم بصحته حاكم يراه فالنكاح غير صحيح عندنا، فلا يقع الطلاق المذكور وتحل له من غير محلل. (مسألة): ادعت من غاب زوجها أنه طلقها وانقضت عدتها، فأنكرها وليها فالقول قوله، فإن نكل حلفت وزوجها الحاكم، قاله البغوي، وأفتى الطنبداوي بأن المذهب الجواز من غير إقامة بينة، والمختار الوقوف، فإقامة البينة أولى وأبرأ للدّين والعرض، لا سيما مع غلبة الكذب على نساء الزمان. (مسألة): إذا أخبر الولي ببلوغ موليته وصدقه الزوج جاز له الإقدام على العقد، ولا يشكل بأن البلوغ لا يثبت إلا بعدلين، لأن محله في إثباته عند الحاكم، لتترتب عليه أحكام البلوغ من اختبار رشده وغيره، ويكون من باب الشهادة وهذا من باب الإخبار، والفرق بينهما لائح عند ذوي التحقيق، فإذا عقد القاضي بينهما هنا فالنكاح صحيح، وليس القاضي في هذه الحالة ولياً حتى يشترط الثبوت عنده، بل وعلى تقدير كونه ولياً أيضاً لو أخبرته الأم مثلاً ببلوغ بنتها وصدقها هو والزوج جاز له الإقدام على التزويج بناء على المعتمد أن تصرفه ليس بحكم كما نصّ عليه الشافعي رضي الله عنه. (مسألة): المعتمد تقديم ابن عم لأب، لكنه أخ لأم على ابن عم شقيق في ولاية النكاح كما في الروضة. (مسألة): امرأة تنسب إلى قبيلة كبيرة، ولم يحفظ نسبها إلى رجل معين منها تكون كفاقدة الولي، لأن الاعتبار بثبوت النسب بأن يعلم اتصال ثبوته إلى أب، ثم أبيه إلى من فوقه، إلى أن يقال: فلان بن فلان بن فلان، فإذا انتهى العلم بالبنوة إلى أب تعلقت الأحكام به من ميراث وولاية وإسلام طفل وغيرهما. (مسألة): يزوج السفيهة من على حاشية النسب عند فقد الأب والجد، سواء بلغت كذلك أو طرأ سفهها، أخذاً من قول الأصحاب إنهم يزوجون البالغة العاقلة وهي داخلة في عموم ذلك، كما أفتى به القماط، والفرق بينها وبين المجنونة أن المجنونة(1/152)
إنما تزوج للحاجة فقط وهي تحتاج إلى مزيد نظر والحاكم أولى بذلك. (مسألة): المعتمد في الفتوى أنه لا يشترط في تزويج البكر بالإجبار، أن يكون الزوج موسراً بمهر المثل، كما رجحه زكريا والبلقيني والزركشي والقماط، وأفهمه كلام الشيخين ورجحه المزجد، فحينئذ لو زوّجها أبوها من معسر بالمهر، فجاء والد الزوج المذكور إلى قاض شافعي وسأله عن حكم النكاح فأجابه بأنه غير صحيح وحكم له بعدم صحته، ثم تزوّجها الوالد اعتماداً على ذلك لم يصحّ نكاحه، وحرم على القاضي فعل ذلك بل ينعزل به، لأن أكثر العلماء يقولون بصحة النكاح المذكور، فلا يجوز للقاضي الشافعي نقضه بناء على المعتمد أن القاضي المقلد لا يحكم بالضعيف في المذهب ولا ينفذ حكمه به، وأثم والد الزوج أيضاً بتزوجه زوجة ابنه، فإن وطئها فوطؤه شبهة فتحرم عليه بعد ابنه وهو عقد صحيح وعلى الولد أيضاً لأنها موطوءة أبية بشبهة، ويجب على الأب مهران: مهر لها ومهر لابنه لإتلافه البضع عليه، قلت: رجح ابن حجر و (م ر) وغيرهما أنه لا بد في تزويج المجبر بغير إذنها من يسار الزوج بمهر المثل وإلا لم يصح النكاح، فكلام صاحب الفتاوى وما بنى عليه ضعيف فتأمله اهـ. (مسألة): لا يصح تزويج ابنته الصغيرة من معسر بالنفقة والكسوة، إذ لا حظ ولا مصلحة في ذلك، ولو فرض أن أبا الزوج نذر بمؤنها ما دام ابنه معسراً إذ قد يموت الناذر. (مسألة): زوّج ابنته الصغيرة الثيب بالوطء لم يصح ما لم يحكم به حاكم يراه، وحيث حكمنا بفساده فوطئها فهو آثم إن علم الفساد، ولا حد للشبهة وعليه مهر، ولا يتكرر بتكرر الوطء لاتحاد الشبهة، وإذا بلغت وعقد بها الوالي ثانياً من المذكور صح عقده، وإن لم تنقضِ عدتها من وطئه الأول لأنه صاحب العدة. (مسألة): زوج ابنته الثيب البالغة بلا إذن منها، فمذهب الشافعي بطلان هذا العقد، ومذهب أبي حنيفة انعقاده موقوفاً على إجازتها، وتحصل الإجازة بوطئها مختارة، فحينئذ يكون صحيحاً عنده(1/153)
بالوطء المذكور، فيكون شبهة عندنا في هذا التزويج، له حكم النكاح الفاسد ما لم يحكم بصحته حاكم يراه، ولا حد على الواطىء والموطوءة لقيام الشبهة، وعلى الزوج مهر مثلها سواء علم الفساد أم لا ولا يتكرر بتكرر الوطء لاتحاد الشبهة، نعم إن أدّى مهر كل مرة ثم وطىء تعدد كما قاله الماوردي. (مسألة): تزوج بغير ولي ولا منصوب قاض لم يصح النكاح ما لم يحكم بصحته حاكم يراه، وحيث قلنا بفساده فوطئها الزوج وجبت عليه العدة، ولا يجوز أن تتزوّج بغير عدة طالت المدة أو قصرت، وابتداء العدة من التفريق بينهما بالقاضي، أو من اتفاقهم على التفريق، أو من طلاق الزوج بظن الصحة، أو غيبته بنية عدم العود أو موته. (مسألة): أتت امرأة إلى القاضي أو منصوبه وقالت: لا وليّ لها، أو لها وليّ غائب، وأنها خلية عن النكاح والعدة، فله تزويجها والأحوط إثبات ذلك بالبينة، وحيث قلنا بالصحة وحضرت مجلس القاضي أو منصوبه، فإن كان يعرفها بالاسم والنسب فذاك، وإلا فلا يكتفي في ذلك بقولها: أنا فلانة بنت فلان، ولا بخبر عدلين، فلا يجوز التحمل على نسبها بذلك، كما في الروضة عن الأكثرين، وفيه وجه عن أبي محمد أنه يكفيه لتحمل الشهادة معرفة واحد، وقال جماعة منهم القاضي شريح والروياني: يجوز التحمل إذا سمع من عدلين أنها فلانة بنت فلان، وشهدا على اسمها ونسبها عند الغيبة، قال في المنهاج كأصله والعمل على هذا قال زكريا وفيه إشارة إلى الميل إليه إذا علمت ذلك، وأنه يجوز التحمل بقولها المذكور وأرادت التزويج فلا بد من ثبوت ذلك عنده بشرطه، فحينئذ يزوّجها بالاسم والنسب، ولا يحتاج إلى الإشارة إليها إن كانت حاضرة، وإن لم يعرف اسمها ولا نسبها، فلا سبيل إلى تزويجها إلا بالإشارة إليها وإلا لم يصح. (مسألة): المذهب المشهور منع ولاية الفاسق، ولا فرق في ذلك بين الفسق بترك الصلاة أو بالقتل أو غير ذلك، وسواء المجاهر وغيره، وذكر الردّاد أن ما يأخذه الولي في مقابلة عقده(1/154)
بموليته شبيه بالرشوة قال: ولا يملكه كالقاضي إذا أهدي إليه، وحينئذ يكون عاضلاً بمجرد قوله: لا أزوّج حتى تعطيني كذا وإن لم يعطه، فإن أعطيه صار فاسقاً، ويزوج في العضل القاضي، وفي الفسق الأبعد المتصف بالأهلية، فإن فقدت في الكل بأن كانوا كلهم فسقة زوّج القاضي العدل، لكن لا يزوج إلا من كفء، لأن وإن سلبنا الولاية عن الولي بالفسق فلا يسقط حقه من الكفاءة على المعتمد، بخلاف ما لو زوج الأبعد من غير كفء لعدم أهلية الأقرب فلا اعتراض للأقرب عليه، لأن حق الكفاءة انتقل للأبعد نسباً، وقد أسقط حقه برضاه ولا كذلك القاضي. (مسألة): وكل من يزوج موليته من معين عند غيبته فامتنع المعين من تزوجها فطلبها آخر فزوجها حاكم شافعي منه صح النكاح إن كانت بالغة وأذنت له في ذلك وإلا فلا، وهذا التفصيل هو المعتمد. (مسألة): تزوجت امرأة ببلوغها بالحيض ثم طلقت، فادّعى أهلها أنها لم تر الدم إلا ساعة واحدة، فإن كان بلوغها بالحيض مستنداً إلى إقرارها والزمن محتمل فالقول قولها، فلا يقدح مجرّد قولهم في صحة النكاح، ومعلوم أنه إنما يحتاج لذلك إذا كانت يتيمة، وإلا فتزويج الأب لها صحيح بكل حال حيث كان مجبراً، وإذا قلنا بصحة إقرارها بالبلوغ بالحيض فلا معنى لتعرض البينة في بلوغها بالسنّ، وحيث لم يكن إقرار وشهدت بيِّنة بالبلوغ بالسنّ وأخرى بعدمه قدمت الأولى المثبتة إذا كانت خبيرة بذكر عدد السنين، كما هو مشروط في الشهادة بالبلوغ بالسنّ. (مسألة): غيب الزوج حشفته في فرجها ولم تزل بكارتها لكونها غوراء صارت ثيباً بذلك على المعتمد، كما حققه ابن الرفعة وجرى عليه ابن أبي شريف، فحينئذ لا بد من إذنها لنكاح ثان، ويطرد ذلك في سائر الأحكام من تحليل وغيره، قلت: وافقه في التحفة على الثيوبة لا على التحليل، وجرى (م ر) على الحكم ببكارتها مطلقاً اهـ. (مسألة): لا يجوز للأمة أن تمتنع من تمكين سيدها لكونه أبرص، كما صححه في الروضة عن المتولي، فعليه(1/155)
لا يجبر على بيعها، ورجح في الخادم أن لها الامتناع وهو مفرع على مقابل الأصح. (مسألة): طلقها ثلاثاً فتزوجت، ثم فارقها الثاني قبل الدخول ولم يكن عليها عدة لم تحل للأول عند جميع العلماء إلا ابن المسيب، ولا يعتد بخلافه لمخالفته السنة، فلو تزوّجها الأوّل ووطئها حدّ وإن حكم بصحته إذ ينقض الحكم بذلك.(مسألة): أخبرها ووليها عدل بطلاق زوجها أو موته وصدقاه جاز لها أن تتزوّج ولا إثم عليها ولا عقوبة، وليس للقاضي أن يعترضها بخلافه هو فلا يجوز له تزويجها إلا بالبينة، فلو وصل الزوج وأنكر الطلاق ولم تقم به بينة صدق بيمينه وتبين بطلان النكاح الثاني، لكن وطؤه شبهة لا حد فيه، والأولاد الحاصلون منه منسوبون إلى الواطىء، ونكاح الأول باق وعليها عدة الشبهة.
الكفاءة(1/156)
(مسألة): الفاسق بالقتل مثلاً كفء للفاسقة، وإن زاد فسق أحدهما أو كان متجاهراً به دونها كما صرح به الناشري، وإن بحثت أولاً أنه ليس كفؤاً لها وإنما استثنى الخمر لدناءته، على أن جماعة أسقطوا الفسق إذا عم، ويثبت التجاهر بالفسق بتظاهره بذلك أو بقوله لا أصلي، فالشهادة عليه بأن يعلم الشهود منه التجاهر بترك الصلاة عمداً بمضيّ أوقات كثيرة تدل على تجاهره، وتجوز الشهادة على ذلك بالاستفاضة، وصيغة الشهادة بالتجاهر أن يقول: أشهد أنه لا يصلي أو قاتل ومتجاهر بذلك، وبالجملة فقد عم الفسق في بعض النواحي، وقد أفتى بعض العلماء بقبول شهادتهم دفعاً للحرج. (مسألة): الكفاءة حق للمرأة والولي واحداً كان أو جماعة مستوين في درجة، فلا بد من رضاها ورضاهم نطقاً، ولا يكفي الحضور والسكوت، فلو كان لها أولياء خمسة في درجة واستأذنها واحد منهم في التزويج بغير كفء فلا بد من رضا الباقين، إما بصريح الرضا أو بأن يعقدوا بها دفعة واحدة بأن يقولوا للزوج: زوجناك، ويقوم فعلهم مقام الرضا بل أولى، ومثله الولي الواحد إذا عقد بغير الكفء. (مسألة): لا يكافىء من أبوه دباغ من أبوها فاسق لعدم الاتحاد، وأما ما ذكره في الروضة بقوله فرع الحرف الدنية والاشتهار بالفسق إلى قوله مع من أبوها عدل، إنما ذكره على سبيل المقابلة، يدل عليه ما ذكره في الخادم حيث قال: سقط من الكلام شيء وصوابه مع من أبوها عدل أو شريف، حتى يرجع لصاحب الحرفة الدنية ضدها، ويجوز أنه حذفه لدلالة مقابله عليه. (مسألة): بحث الشيخان أن الحرف في الآباء معتبرة في الكفاءة، والمنقول عن جمع اعتبار الزوجين فقط في الحرفة، قال الرداد: إنه الموافق لطريقة العراقيين وللقواعد، وصححه الأذرعي وغيره، فإذا حكم الحاكم الأهل للترجيح بذلك اعتماداً على ما رجحه هؤلاء فليس لحاكم يرى خلافه نقضه، على أن الذي أفتى به ما بحثه الشيخان، وأما نقض الحكم بمقابله فلا أقول به ولا أفتي. (مسألة): جرت(1/157)
العادة في جهة بأنه يتعاطى قطع محل الختان للأطفال أناس يسمون بالرياحة وهم الذين يضربون بالطبل والطاسة هذا هو الغالب، وقد يتعاطى غيرهم من أبناء الناس الرفعاء القدر فتسقط كفاءتهم بذلك، وإن كان أهل البلد لا يعبرون بذلك فلا عبرة بعادتهم فيما عده الأصحاب من الحرف الدنية، وقد عدوا من الحرف الدنية، الختان صرح به في الأنوار، كما لا عبرة بعادتهم فيما إذا كانوا لا يعبرون بتزويج الحرائر الأصل بمن مس أحد آبائه الرق أو كانوا لا يعيرون بدنيء النسب، وإنما نظر الأصحاب إلى عادتهم فيما إذا شك في الحرفة أهي شريفة أم دنية؟ أما ما نص عليه من الحرف الدنية فلا عبرة بعادتهم كغيرها من خصال الكفاءة. (مسألة): لا يصح تزويج موليته بالإجبار من فاسق وإن عم الفسق، نعم إن كانت مكلفة وأذنت في تزويجها من الفاسق وزوّجها به الولي جاز، إذ الكفاءة حق لها وللولي، فإذا رضيا بغير الكفء صح النكاح إذ ليست شرطاً لصحة النكاح.
ما يحرم من النكاح(1/158)
(مسألة): تزوّج بنت رجل، وتزوّج الرجل بأم الزوج، فولد لكل ابن، فولد الأم عم ابن البنت وخاله، هذا صواب عبارة العباب، وصورة كون أحدهما عماً والآخر خالاً أن يقال: رجل تزوّج امرأة، وزوّج ابنه أمها، فولدتا ابنين، فابن الأب عم ابن الابن، وابن الابن خال ابن الأب. (مسألة): تحريم الجمع بين المرأة ونحو عمتها أو خالتها مجمع عليه إلا ما شذ به طائفة من الخوارج والشيعة، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين. (مسألة): طلق زوجته طلاقاً بائناً صحيحاً حلت له بنت أخيها أو أختها. (مسألة): أنكر السبكي استدلال الأصحاب في كون نكاح الكفار صحيحاً بحديث: "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: إنه يعني الاستدلال به غير مرضي لأمرين: أحدهما تنزيه نسبه عن ذكره في هذا المقام والثاني أن الأنكحة التي في نسبه صلوات الله وسلامه عليه إلى آدم مستجمعة لشروط الصحة كأنكحة الإسلام، فاعتقد هذا بقلبك وإلا خسرت الدنيا والآخرة، فقد نقل عن الجاحظ أن من اعتقد غير هذا فقد كفر، فظهر بهذا سر قول الأذرعي وليتهم أي الأصحاب سكتوا عن هذا الاستدلال.
خيار النكاح
(مسألة): وجد أحد الزوجين بالآخر المرض المسمى بحب الأفرنج الذي يسمونه أهل الجهة بالشحر لم يثبت به خيار فسخ النكاح لانحصار العيوب العامة في البرص والجنون والجذام، ولا يلحق بذلك غيره كما نقله في الروضة عن الجمهور.
الصداق(1/159)
(مسألة): مهر المثل ما يرغب به في مثلها والركن الأعظم النسب، وتعتبر المشاركة في الصفات المرغبة كالعفة والجمال والسن والعقل واليسار والنضارة والعلم والفصاحة وسائر الصفات التي تختلف بها الأغراض، فحينئذ لا عبرة بما اعتادوا تسميته أو تسليمه، ومن قال: إن مهر المثل ما يثبت به العقد، يحمل كلامه على ما جرى به عرفهم من تسميته ما يرغب به فيه، ولهذا يسمون للبكر والشابة ما لا يسمون للثيب والعجوز. (مسألة): أزال الزوج بكارتها بنحو أصبعه ثم طلقها قبل الدخول لزمه نصف المهر فقط ولا أرش، ولكن تحرم إزالتها بغير كره ويعزر، كما صرح به ابن الرفعة. (مسألة): طلق زوجته رجعياً لم تجب لها المتعة في الحال حتى تنقضي العدة ولم يراجعها. (مسألة): ادعت الزوجية والمهر، فاعترف بالنكاح وأنكر المهر ولم يدع تفويضاً، لم يسمع إنكاره لاعترافه بما يقتضي المهر لكن يكلف البيان، فإن ذكر قدراً وادعت زيادة تحالفا، فإن أصرّ على الإنكار ردت اليمين عليها وحكم لها بمهر المثل، قاله في الروضة وجرى عليه في العباب. (مسألة): أصدقها منفعة أرض للزراعة سنة، ثم طلقها قبل الدخول وقد حرثتها، فليس له الرجوع في نصف الأرض إلا برضاها، فهي مخيرة بين تسليم النصف مع الزيادة ويجبر الزوج على القبول، وبين تسليم قيمة منفعة النصف غير زائد وهي أجرة مثل نصف الأرض. (مسألة): خطب امرأة ودفع لها حلياً قبل العقد، فسرق من يدها بعد الدخول، فادعى الزوج أنه دفعه إليها عن جهة الصداق، وادعت هي أنه وهبه لها صدقت بيمينها، والحال ما ذكر من الدفع قبل العقد ولا دين لها عليه، صرح به في الأنوار. (مسألة): تزوج امرأة بشرط البكارة فوطئها فقالت: كنت بكراً ففتني وأنكر، صدقت بيمينها لدفع الفسخ، وصدق هو بيمينه أيضاً لدفع كمال المهر. (مسألة): عقد بامرأة وسمى دراهم كذا معاملة البلد، وكان أهل البلد يتعاملون بالشرفية، فطالبته في وقت آخر لزمه تحصيل الشرفية الموجودة حال العقد،(1/160)
فإن عدمت لزمه قيمتها ذهباً. (مسألة): زوج ابنته بكراً أو ثيباً بدون مهر المثل بلا إذنها في ذلك، صح النكاح بمهر المثل على المعتمد، ثم لو طلقها الزوج قبل الدخول وجب لها نصف مهر المثل وهو ما يرغب به فيها مسلماً حال العقد. (مسألة): الكسوة التي جرت عادة البلدان باشتراطها على الزوج قبل العقد للبكر والثيب ولم يشرطوها حال العقد، فالتحقيق أن حكمها حكم المهر بجامع أنهما لا يتكرر وجوبهما، فحينئذ لها حبس نفسها حتى تقبضها كالصداق، نعم لو كسا الزوج زوجته الصباحية ثم نشزت استردها، كما أفتى به الرداد والمزجد، إذ هم يجعلونها وقاية لكسوة العروس المتقدمة، فألحقها بكسوه الفصل أولى.
الوليمة
(مسألة): تجب إجابة الوليمة على من يسمع النداء خارج البلد على الأقرب، لأنه موضع معدود من البلد، ولا يعد الخروج إليه سفراً، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فلا تجب لما ذكر، قلت: استقر به ابن حجر في فتاويه قال: ويحتمل ضبطه بمسافة العدوى وأقرب منهما الضبط بعرف كل قوم في ناحيتهم قرب أو بعد اهـ. (مسألة): ليس للوصي والقيم، بل ولا للجد والأب اتخاذ الوليمة من مال الطفل عند نحو الختان وختم القرآن ولعرس.
القسم والنشوز(1/161)
(مسألة): أراد أن يسافر بزوجته سفر نقلة بعد الدخول، فلها الامتناع حتى يؤدي لها الصداق، كما لو كان يضربها وعجز الحاكم عن منعه منه، وكذا لو أراد أبوها السفر بها إلى بلدة فليس للزوج منعه حيث لم تقبض صداقها، كما قاله القاضي وأقره القمولي وصاحب العباب، وقياسه ما لو زوّجها الحاكم ولم تقبض الصداق أن لها السفر إلى بلدها مع محرم، قال الردّاد: وظاهره وإن دخل بها. (مسألة): طلب الزوج النقلة بزوجته وجب عليها موافقته إن كانت قد قبضت الصداق وكان الطريق أمناً، وكذا المقصد المنتقل إليه صالحاً لسكنى مثلها بأن لا يكون وبيئاً، كما قاله الروياني وكان السفر في غير البحر، فإذا وجدت هذه الشروط وجب عليها السفر، وليس لها الامتناع بغير عذر شرعي، وإلا فهي ناشزة تسقط مؤنها ما دامت ممتنعة. (مسألة): نشزت عن زوجها وامتنعت من الوصول والطاعة وهي في بيت لها ولأيتام لم يجز كسر بابه، ولا تمهل بمجرد نظرها في أمرها لو طلبت الإمهال، لأن للإمهال أسباباً غير ذلك. (مسألة): نشزت عن زوجها وادعت أنها محتاجة إلى كسوة فكساها، ثم بعد ذلك ردت الكسوة وامتنعت من الطاعة، وتعصب لها أجنبي وأدخلها مسكنه أثمت بذلك ولزمها التوبة، ومن تمامها عودها إلى منزل زوجها لحديث: "إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح" وأثم المتعصب لها أيضاً، فقد ورد: "من خبب، أي أفسد زوجة على زوجها، فعليه لعنة الله" ويجب على المنصوب بالبلد إلزامها السير مع زوجها، فإن عجز رفع الأمر إلى الحاكم، ويجتهد الحاكم في ذلك ويعزر الأجنبي بما يراه. (مسألة): دعا امرأته إلى فراشه في بيت فيه بقّ وبعوض فامتنعت، لم تكن ناشزة بسبب ذلك إذا لم تعم البلوى به أو عمت، ونسب الزوج إلى تقصير في عدم تعهد الفراش التعهد الذي يعتاده أهل البلد، أو لم ينسب إليه، وكانت من بلد لا يوجد فيها ذلك، وأراد نقلها إلى بلد عمت بها البلوى بما ذكر، فالظاهر أنها لا تجب عليها النقلة.(1/162)
الخلع
(مسألة): قال لزوجته: أنت طالق حسبما تبرئيني، لم يشترط الفور في الإبراء فيما يظهر، كمتى أبرأتني فمتى أبرأته عما علق عليه، وهي عالمة بقدره وقع الطلاق بائناً. (مسألة): بذلت صداقها على صحة طلاقها فقال مجيباً لها إذا أبرأتيني من حقوق الزواج ومما تستحقينه في ذمتي من الدراهم وأبرأني أبوك فأنت طالق، فقالت: أنت البريء، والحال أن لها دراهم بذمته معلومة غير الصداق، ولم يكن لأبيها بذمته شيء، ولم يحصل منه إبراء وحقوق الزواج مجهولة لم يقع الطلاق، لأنه علق على الإبراء من مجهول ومعلوم وعلى إبراء أبيها، ولم يصح الإبراء من المجهول، ولم يصدر من الأب إبراء، فلم يوجد مجموع المعلق، والمعتمد أنه لا يبرأ من المهر والدراهم المعلومين، لأنها إنما سمحت بالبراءة في مقابلة الطلاق ولم يقع. (مسألة): حصل بينه وبين أم زوجته نزاع فقالت له: طلق بنتي على هذه الدراهم وعلى صداقها، فطلق على الفور وقع بائناً بالدراهم المذكورة ولا يبرأ من الصداق مطلقاً، ولا يلزم الأم شيء من المهر إلا إن قالت: وعلي نظير صداقها، أو دلت قرينة على إرادة ذلك. (مسألة): طلبت منه الطلاق فقال: إذا ثبت الطلاق فأعطيني سبعين ديناراً، فأعطته سبعين ديناراً وبذلت له صداقها فقال لها: أنت طالق إذا لم تتزوّجي بفلان وأما غيره إذا تزوّجتيه فأنت طالق، أو إذا ما تزّوجت بشيء إلى أن تموتي فأنت طالق، وقع الطلاق على المعتمد من اضطراب وقع في فتاوى المتأخرين، كما لو قال لها: أنت طالق لبني عمك وأما غيرهم فالزوجة زوجتي، لأن ما ذكره من الشرط إلزامي لا تعليقي، ومعناه أنت طالق حلال لكل زوج سوى فلان، أو حلال لبني عمك فقط، يريد إلزامها أن لا تتزوج فيقع الطلاق رجعياً في الكل، ويكون معرضاً بذلك عن جوابها ويُلغى إلزامه لها ما لا يلزم شرعاً لحدي بريرة المشهور. (مسألة): اختصم هو وزوجته في عجله قد ملكها إياها وطلبت منه الطلاق فقال لها: أنت طالق ألفاً بلا عجلة،(1/163)
فهذه الصيغة كالصريح في عدم اشتراط العوض فكأنه قال: أنت طالق ألفاً بغير عجلة أي بغير عوض، فتقع عليه الثلاث ولا تحل إلا بمحلل، وإن دلت قرينة المخاصمة على إرادة الزوج رد العجلة، وهذا هو الأحوط وغيره تكلف. (مسألة): قال: أنت طالق على صحة البراءة، أو أنت طالق ثلاثاً على صحة براءتي من مهرك، وعلى صحة براءتي من ثلث البقرة التي لك عندي، وكانت قد أبرأته من المهر الذي لها عليه، فإن قصد تعليق الطلاق على إيجاد براءة من المهر ومن ثلث البقرة فأبرأته فوراً وقع الطلاق الثلاث بمهر المثل، وكذا لو جعل البراءة سبباً لا عوضاً لعدم صحة الإبراء من ثلث البقرة، إذ الأعيان لا يدخلها الإبراء، فالحاصل وقوع الطلاق فيهما بائناً بمهر المثل. (مسألة): قال: إن أعطيتني جميع ما صار مني إليك فأنت طالق، فأعطته شيئاً وادعت أنه جميع ما صار إليها منه، فأنكر ذلك وادعى أنه بقي شيء من الذي صار إليها منه كذا وكذا فأنكرت ذلك، فلا بد لوقوع الطلاق من شاهدين بالذي تدعيه، فلا يكفي شاهد ويمينها. (مسألة): إذا قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فعقب ذلك فوراً بالطلاق وقع بائناً، ويكون ذلك كقولها: أبرأتك على الطلاق. قلت: رجح ابن حجر في التحفة وفتاويه وقوع الطلاق رجعياً سواء كانت رشيدة أم لا، لأن هذا البذل لغو لا يستعمل إلا في الأعيان فليتنبه لذلك، فكثيراً ما يأتي في هذه الفتاوى ذكر البذل والتفريق بين الرشيدة وغيرها، نعم لو قالت له: جعلت لك صداقي على طلاقي، فقال المزجد: إنه كناية والفرق بينها وبين بذلت ظاهر ومثل جعلت أجزت. (مسألة): أبرأته من مهرها ثم ادعت الجهل بقدره، فإن أمكن بأن لم تستأذن أصلاً لكونها مجبرة أو استؤذنت في النكاح دون المهر صدقت بيمينها وإلا فلا. (مسألة): قال لزوجته: المدخول بها: إن أبرأتيني من الدين الذي تستحقينه في ذمتي فأنت طالق ثلاثاً، فقالت: أبرأتك من حقوق الزوجية دون الدين لم يقع الطلاق لأنها لم توجد براءة من(1/164)
المعلق عليه. (مسألة): قالت له: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال: أنت طالق إذا أبرأتيني، فلم تبرىء لم يقع الطلاق لأنه علق على البراءة ولم توجد. (مسألة): قال لها: إذا أبرأتيني فأنت طالق، فقالت على الفور: أبرأتك من جميع حقوق الزوجية، وكانا عالمين بها، وبقدرها العلم المعتبر في صحة الإبراء وقع بائناً، وإن لم يعلما أو أحدهما فلا طلاق، هذا إن أراد البراءة من جميع حقوق الزوجية، فإن أطلق ولم ينو شيئاً فأبرأته منها مع العلم بها وقع رجعياً، وإن جعلتها لم يقع شيء. (مسألة): مما عمت البلوى به أنه إذا حصل بين الزوجين تشاجر تأتي المرأة إلى شخص فتقول: اكتب إلى فلان، فيكتب من عند نفسه على لسانها من غير تلفظ منها، أقول وأنا فلانة بنت فلان إني بذلت صداقي على صحة طلاقي، فيؤتى بالورقة إلى الزوج فيأتي هو إلى شخص آخر فيقول: جاوب على هذا، فيقول الكاتب من تلقاء نفسه: فلانة بنت فلان طالق من غير تلفظ من الزوج، فلا يقع بذلك طلاق ولا إبراء. (مسألة): قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال مجيباً لها: أنت مع الله كان كناية أو تكون بالله طالقاً ثلاثاً إن شاء الله تعالى، وقع عليها الثلاث إلا إن نوى التعليق بالمشيئة. (مسألة): صغيرة بذلت صداقها إلى آخر فقال لها الزوج: أنت طالق إن أبرأتني، فقالت له: أنت البريء، ثم قال: وأنت كلما حللت حرمت، فالبذل الصادر منها في حال صغرها وطلاقه بعده وإبراؤها المذكورات لغو، وقوله لها بعد: أنت كلما حللت حرمت فهو تعليق تحريمها على ما إذا حلت له وهي الآن حلال، فلا يجب عليه شيء الآن، فإذا وجد منه بعد ذلك طلق رجعي وكان قد نوى بقوله حرمت الطلاق وقع الطلاق عليه ثانياً، فإن راجعها بعده وقعت الثالثة، وإن لم ينو الطلاق بأن نوى تحريم عينها أو أطلق فعليه كفارة يمين فليتأمل. (مسألة): الخلع مع الصغيرة والسفيهة ولو بترك الصلاة من حال بلوغها واستمرارها على المذهب القائل: إن الرشد صلاح الدين(1/165)
والدنيا إن كان بصيغة المعاوضة كأنت طالق على ألف وكذا على تمام البراءة فقبلت، أو أبرأت فوراً يقع رجعياً فيهما، ولا يبرأ الزوج على المعتمد، خلافاً لمن ألحق هذه بما لو علق الطلاق على صحة البراءة فأبرأته وهي سفيهة، فإنه لا يقع به طلاق أصلاً لعدم وجود الصفة، ولو قالت السفيهة: بذلت صداقي الخ، فقال مجيباً: أنت طالق على ذلك لم يقع شيء لأنه صار مبتدئاً بذلك لا مجيباً، نعم لو حذف على ذلك وقع رجعياً مطلقاً علمت المهر أم لا، علم الزوج سفهها أم لا، ومما عمت البلوى به أن يحلف الزوج بالطلاق الثلاث على امتناعه من شيء، ثم يعنّ له أن يفعله فيرشد إلى أن يخالع زوجته ثم يجدد نكاحها، فيتعين البحث عن رشدها في هذه الصورة، لأنه بعدم الرشد يقع رجعياً، ولا تنحلّ اليمين بالطلاق الرجعي والبحث عن ذلك سهل، ولا يترتب عليه مفسدة ومشقة، ويجب البحث أيضاً فيما لو بذلت صداقها على صحة طلاقها، فطلقها ثم طلقها ثانياً في العدّة، إذ بسفهها يقع رجعياً، فالحاصل وجوب البحث حيث كان في ذلك انحلال يمين أو لحوق الطلاق لا في غير ذلك، إذ الطلاق واقع لا محالة ولا يختلف الحال، وأما من حيث المال فلا يجب، كما أنه لا يجب البحث على من أراد معاملة شخص عن حاله وإن غلب السفه، إلا إن تيقن عدم الرشد، وأنه مستمرّ من حال البلوغ، فلا تجوز معاملته والفرق الاحتياط في الأبضاع. (مسألة): قالت له: بذلت لك مهري على أن تطلقني، فقال: لا أطلقك حتى تبرئيني من دينك، فقالت: أبرأتك من ديني، فقال: أنت طالق على ذلك أو على صحة ذلك، فقوله على ذلك يستدعي جواباً منها، فإن قالت بعده: أنت البريء أو أبرأتك وقع بائناً، وإلا لم يقع الطلاق أصلاً. (مسألة): قال لوكيله: إذا بذلت فلانة صداقها على صحة طلاقها فقد وكلتك تطلقها، فقبل الوكيل وسار إليها فقالت: بذلت صداقي على طلاقي فطلقها الوكيل وقع الطلاق، كما لو قالت ذلك والزوج غائب، فلما بلغه الخبر طلق فيقع بائناً.(1/166)
(مسألة): تواطأ هو وزوجته من غير تمليك على أن يعطيها أربع أواق، ثم باعها على لسان وكيلها بقرة بأربع أواق، ثم نذر الوكيل أنه إذا سلم للزوجة أربع أواق فسخ له في البقرة، فاختصما بعد ذلك فقالت له: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال لها: إذا أبرأتيني من الأربع الأواقي فأنت طالق، فقالت: أنت البريء، فالمواطأة المذكورة غير لازمة إذ لا تأثير لها في الالتزام، فإذا باعها البقرة بأربع أواق صارت ملكها، والثمن ديناً له في ذمتها، والنذر المذكور غير صحيح، إذ لا يصح نذر الوكيل، ثم إذا علق طلاقها بعد أن بذلت على إبرائها من الأربع الأواقي فأبرأته لم يقع الطلاق لأنها لم تستحقها عليه فلم يصح الإبراء. (مسألة): قال لها: أنت طالق ظاناً أنها أبرأت، فبان أنها لم تبرىء وقع الطلاق لتقصيره، نعم لو صرح بتعليق الطلاق على البراءة فلم تبرىء لم يقع الطلاق. (مسألة): قالت لزوجها: بذلت ولم تذكر المبذول، فأجابها بقوله: أنت طالق وقع رجعياً لعدم ذكر العوض المبذول، إذ لا بد من ذكره في جعله بائناً، ويحتمل جعله كناية تحتاج إلى نيتها. (مسألة): بذلت له رشيدة فقال: أنت طالق، فقيل له: قل ثلاثاً، فقال ثلاثاً، فإن كان في عزمه حال التلفظ بالطلاق أن يطلق ثلاثاً وقعن، وإن كان في عزمه واحدة أو لم تكن له نية ثم عزم على الثلاث بعد فراغه من لفظ الطلاق أو طال فصل فواحدة، وهذا كما لو سكت قليلاً ثم قال ثلاثاً. قلت قال في التحفة: والحاصل الذي ينبغي اعتماده أنه متى لم يفصل في ثلاث بأكثر من سكتة التنفس والعيّ أثر مطلقاً، ومتى فصل بذلك ولم تنقطع نسبته عنه عرفاً كان كناية، فإن نوى أنه من تتمة الأوّل وبان له أثر وإلا فلا، وإن انقطعت نسبته عنه عرفاً لم يؤثر مطلقاً، كما لو قال لها ابتداء ثلاثاً اهـ. (مسألة): كسا امرأته ثوبين فطلبت طلاقها منه، فقال لها: لا أطلقك حتى تعطيني المهر والثوب الفلاني، فأحدثت بالثوب عيباً ينقص قيمته وبذلت الثوب والصداق(1/167)
على طلاقها فطلقها حينئذ ولم يعلم بعيب الثوب وقع بائناً وله رد الثوب ويرجع بمهر المثل، لكن لا يبرأ من الصداق حينئذ. (مسألة): قال لزوجته: خالعتك بمائة درهم فقبلت، فلما سألها المائة قالت: إني لم أرض ببذل العوض، وادّعت أنها بهذا اللفظ لا تعرف أنه يجب عليها العوض قبل قولها بيمينها إن كان يخفى عليها ذلك بأن لم تخالط الفقهاء. (مسألة): قالت له: طلقني، فقال: اخلسي الإزار وابذلي، فخلست وقبضه ثم قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال: أنت طالق ثلاثاً طلقت ثلاثاً وصح البذل، وأما الإزار فهو باق على ملكها لأنه لم يصدر فيه لفظ يدل على انتقال الملك إلى الزوج، إذ الخلع معاوضة وما فعلته لا يحصل به انتقال الملك في المعاوضات. (مسألة): قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فجرى بينه وبين أجنبي محاورة قدر الفاتحة ثم قال: اشهدوا أنها يعني زوجته طالق، فهذا التراخي يصيره مبتدئاً بالطلاق، ويكون رجعياً إن كانت مدخولاً بها ولم تكن الثالثة، فإن قصد جوابها وكان ممن يخفى عليه ذلك لم يقع الطلاق. (مسألة): قال لها: إذا أبرأتيني مما تستحقينه بذمتي فأنت طالق، فقالت: هل كان لي عليك حق؟ فقال: لا أدري ثم أبرأته لم يقع الطلاق، لأن الكلام المتخلل مشعر بالإعراض فيما يظهر. (مسألة): التحقيق المنقول عن أبي زرعة أن قول الزوج أنت طالق على تمام البراءة صيغة معاوضة كأنت طالق على كذا لا صيغة تعليق، فإذا لم توجد براءة صحيحة وقع بمهر المثل، بخلاف قوله: إن أبرأتني فأنت طالق فلا يقع إن لم توجد براءة صحيحة، ولو قال لها على تمام البراءة، فقال لها آخر: هذا زوجك قد طلقك فأبرئيه فقالت: كيف أقول؟ فقال لها: قولي أنت البريء فقالته طلقت بائناً إن وجدت براءة صحيحة بأن نويا معيناً كالمهر وإلا فبمهر المثل، وما وجد من التخلل ليس قاطعاً لأنهم اغتفروا في الخلع تخلل الكلام اليسير. قلت: قال في التحفة: ولو قال أنت طالق على صحة البراءة، فإن أبرأت براءة(1/168)
صحيحة وقع رجعياً وإلا فلا، ومثلها على المعتمد طلقتك على صحة براءتك. (مسألة): طلبت منه طلاقها وبذلت فقال: ما أنا بمطلق، ثم وكل في طلاقها فطلقها الوكيل وقع رجعياً إذ قوله: ما أنا بمطلق إعراض حقيقة، وقد عدوا الكلام الكثير مشعراً بالإعراض فهذا أولى، ويدل لذلك أنه لو طلق فوراً وقال: قصدت الابتداء قبل قوله وليس فيه إلا وجود الإعراض قصداً وهذا إعراض حقيقة. (مسألة): الإبراء والتحليل من واد واحد من صريح الإبراء، فإذا قال لزوجته: أنت طالق على صحة براءة ذمتي من صداقك، فأجابته فوراً بقولها: أنت في حل من ذلك، وقع الطلاق وبرىء من المهر، بخلاف النذر والإرادة والمشيئة والرضا، وإن كانت مترادفة فلا يقع بها الطلاق المعلق بالإبراء لأنها في حكمه لا حقيقة. (مسألة): طلاق ثلاثاً على تمام البراءة فقالت له فوراً: أنت البريء، ثم قالا: لم نقصد البراءة من المهر قبل قولهما فلا يقع طلاق، وإن كانت الصيغة صيغة معاوضة إذ لم يتفقا على شيء. (مسألة): خالعها على أرض سلطانية وفيها عناء وشقاء لها وقع بمهر المثل إن كانت الصيغة صيغة معاوضة لفساد العوض والعناء باق بملكها، أما الأرض فلعدم ملكها لها، وأما العناء فلعدم صحة جعله عوضاً عن الطلاق لما قررناه في رسالتنا مزيل العناء أنه ليس لمالك العناء بيعه منفرداً عن الأرض ولا رهنه ولا هبته، ويصح النذر والوصية به. (مسألة): خالعته وهي محجور عليها لخلل في عقلها، فإن بدأ الزوج فقال: خالعتك على كذا فقبلت فلغو، وإن بدأت هي فقالت: خالعني على كذا أو طلقني عليه فقال لها: أنت طالق، فإن قصد جوابها لم يقع الطلاق، وإن قصد الابتداء أو أطلق وقع رجعياً هذا هو المعتمد.(مسألة): طلب من زوجته المسير إلى مكان معين فعصته فقال: إما تسير معي أو توكل أباها لإبراء ذمتي بعد طلاقها، فقالت: وكلت والدي على ما يصلح لي، ثم قال الزوج: اشهدوا أن زوجتي فلانة طالق ثلاثاً على صحة براءة ذمتي، فأبرأه أبوها من(1/169)
صداق ابنته فوراً لم تطلق ولم يصح الإبراء، ولا يكون بذلك وكيلاً في الإبراء، بل ذلك كما لو قال: فلانة طالق على صحة براءة ذمتي فأبرأه أجنبي، ثم أجاب ثانياً بما حاصله أنها إن أرادت بقولها على ما يصلح لي من مخالعتي بالمهر استفاد والدها الخلع بصداقها ويقع الطلاق وإن لم ترد ذلك، فالظاهر أنه لا يستفيد الإبراء عنه بمجرد التوكيل فيما يصلح لها إذا لم يجر منها تصريح ببذل مال في مقابلة الطلاق. (مسألة): قال لها: أنت طالق إن خرجت بعلمي أو بغير علمي، فطريق الخلاص أن يخالعها بصداقها أو غيره، فيقع بائناً إن كانت رشيدة ديناً ودنيا، فإن لم تكن كأن كانت لا تصلي، فإن بلغت كذلك واستمرت عليه فلا يحصل التخلص بذلك، إذ الطلاق الواقع جواباً لبذلها يكون رجعياً، وطريقه فيها أن يبذل له رشيد مالاً فيطلقها عليها. (مسألة): قال لها: إن نذرت لي بمائة دينار فأنت طالق، فنذرت له في الحال وقع رجعياً كما قاله السمهودي، خلافاً للرادد لأن النذر من القرب، ومثله إن تصدقت، فذكر النذر يلحق بما لوجود التعليق عن إرادة المعاوضة، كأن قال: إن أبرأتني عن صداقك فأنت طالق رجعية فأبرأته فإنها تطلق رجعياً مع حصول البراءة، بخلاف الضمان والالتزام والإعطاء ونحوها، فإنه يلحظ فيها المعاوضة. قلت في التحفة: وفي أبرأتني من صداقك فقالت: نذرت لك، قال جمع: لا يقع شيء والنذر صحيح، ومحله حيث لم ينو سقوط الدين من ذمته وإلا بانت بذلك وبرىء. (مسألة): قال: أنت طالق ثلاثاً على صحة البراءة إلى مقابلة أوقية ونصف درهم من فلان، والحال أن المطلق يستحق على فلان هذا القدر من الدراهم، فأبرأت عن الصداق وقبلت الحوالة صحت البراءة ووقع الطلاق واستحقت الدراهم، وكأنها قالت: أبرأتك عن الصداق على الطلاق وعلى الأوقية والنصف، وذلك صحيح ولا ربا فيه، بناء على أن الإبراء إسقاط. (مسألة): بذلت صداقها على جواز طلاقها فقال لها: أنت طالق ثلاثاً على صحة براءة ذمتي، أو إن(1/170)
صحت براءتك فأنت طالق ونوى بذلك براءته من الصداق وجميع ما يلزم بذمته لها ولم تبرىء لم يقع الطلاق، لأن حقيقة البذل غير حقيقة الإبراء، ولأنه علقه على صحة إبرائه ولم توجد هذا هو الصحيح كما أفتى به ابن عجيل وغيره. (مسألة): قالت له: أبرأتك من المهر فطلقني حصلت البراءة، ثم إن شاء طلق ويقع رجعياً، وإن شاء لم يطلق، نعم إن صرحت بأنها أرادت جعل الإبراء عوضاً عن الطلاق وساعدها الزوج على ذلك، فإن كان طلقها في مجلس التواجب بانت وبرىء وإلا فلا. (مسألة): قال لآخر: بادلت زوجتي إلى زوجتك، فقال: بادلت كان كالخلع على الحرام، فيقع عليهما بائناً على المعتمد لكن مع النية، إذ التبادل ليس من ألفاظ الطلاق، ويستحق كل على الآخر مهر المثل كما قال: طلق امرأتك على أن أطلق امرأتي، وفعلاً فإن الطلاقين يقعان بائناً بمهر المثل، إذا قصد كل الطلاق في مقابلة طلاق زوجته، كما رجحه ابن كج وزكريا. (مسألة): شهد عليه شاهدان بأنه أقر بطلاق زوجته ثلاثاً على صحة البراءة من صداقها، وأنها أبرأته عنه ولم يتعرضا للفورية، فادعى أنها إنما أبرأته بعد طول الفصل صدق بيمينه. (مسألة): قال لها: إذا خليت لي البقرة والمدرعة فأنت طالق ثلاثاً، فقالت: خلاهما الله لك، وقعت الثلاث وملك البقرة والمدرعة إن قصد بتعليقه المذكور كونها عوضاً عن الطلاق الذي علقه، وقصدت هي عند قولها خلاهما الله خليتهما لك عوضاً عن الطلاق، ولا عبرة بقولها بعد ذلك لا أرضى له بذلك، فإن لم تقصد ذلك فهما على ملكها ولا طلاق، وليس هذا كقوله: إن خليت ولدي فأنت طالق فخلته ثم أخذته وقلنا بوقوعه بمجرد التخلية، لأن التعليق على تخلية الولد لا يقصد منه المعاوضة، بل هو تعليق بصفة بخلافه هنا. (مسألة): قالت له: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال له شخص: قل وأنا طلقت، فقال: طلقت وقع الطلاق إن قاله جواباً لسؤالها له. (مسألة): قال لزوج ابنته الطفلة: طلق بنتي على كذا في ذمتي وذلك قدر(1/171)
مهرها المستقر شرعاً، فأجابه الزوج: ابنتك طالق على ما بذلته لي، ثم أحال المطلق البنت على ذمة أبيها وقبل الأب الحوالة لكونها تحت حجره وقع الطلاق بائناً بالعوض المذكور الذي التزمه الأب، وأما الحوالة فإن كان الأب موسراً بالصداق ملياً به وكان انتقاله إلى ذمته أصلح من بقائه بذمة الزوج فالحوالة صحيحة ويبرأ بذلك وإلا فلا. (مسألة): اختصم هو وزوجته المدخول بها فقالت له: بذلت صداقي على صحة طلاقي، وهي حينئذ وراء ظهره وامرأة أجنبية أمامه فأشار إليها وقال: هذه طالق وشهدت بينة بإشارته صدق بيمينه في عدم قصد الزوجة، إذ هذه أولى من مسألة العجوز، لأن فيها الإشارة إلى الأجنبية. (مسألة): قالت له: طلقني وأبرئك من المهر وثمن الطعام الذي أستحقه عليك، فقال: أنت طالق وقع رجعياً بشرطه ولا يلزمها إبراؤه. (مسألة): طلب من زوجته البذل مجاناً ليطلق فأبت، فأقبضها عيناً قبضاً فاسداً، فبذلت صداقها على طلاقها بظن صحة القبض، فطلق على ذلك البذل، كان البذل المذكور الذي بنته على ظن صحة المعاوضة عن الصداق غير صحيح فلا يبرأ منه، كما لو صالح على الإنكار ثم أبرأه بعده ظاناً صحة الصلح وطلاق الزوج المذكور المعلق على صحة البذل ولم يكن منها جواباً بعد غير نافذ. (مسألة): قال لزوجته: إن أبرأتني فأنت طالق الثلاث، فجلست إلى آخر النهار ثم أبرأت لم يقع الطلاق، ولم يصح الإبراء إن بنته على ظن صحة الطلاق، فإن علمت الفساد فالبراءة صحيحة لأنها متبرعة بها. (مسألة): بقي له على زوجته طلقة واحدة، فحلف بالطلاق لا يدخل مكان كذا أو لا يفعل أو لا يأكل كذا، فسألته زوجته أن يختلعها خلع فسخ عار عن لفظ الطلاق، وبنته على شيء على مذهب من يراه من العلماء، فاختلعها على ذلك الشيء ولم ينو طلاقاً بانت منه بذلك من غير نقص عدد الطلاق، فإذا أعادها بعقد جديد ثم فعل المحلوف عليه لم يقع الطلاق، وإذا عقد النكاح حاكم بتبع ما أفتيت به كان حسناً قاله(1/172)
البلقيني، وقال في جواب آخر: لا يكون طلاقاً ولا ينقص به العدد، وهذا الذي نصره جماعة ورجحوه وإن كان خلاف الجديد، وأفتيت به للخلاص من الحلف بالطلاق، وهذا بناء على جواز تقليد العلماء المجتهدين لا سيما عند الحاجة، وإن كان المقلد منتسباً إلى غير ذلك المجتهد اهـ. (مسألة): اتهم زوجته بسرقة شيء وادّعى عليها فأنكرت، فطلب يمينها فحلفت له إني ما أخذت عليه المال المذكور ثم قالت له: بذلت صداقي على شرط طلاقي، فقال: أنت مطلقة إن كنت بريئة أو إن كنت ما أخذتيه، فقال له أجنبي: نجز الطلاق، فقال: أنت مطلقة إن كنت الخ، فإن شهدت بينة على سرقتها لم يقع الطلاق وإلا وقع، لأنها برئت شرعاً بإنكارها وحلفها، لأن الأصل براءة ذمتها، وحيث وقع فهو رجعي لأنه أعرض عن جواب بذلها بصورة التعليق، ولا يقع بتكريره ثانياً إلا إن قصد الاستئناف. (مسألة): قال لها: أنت طالق الثلاث على صحة البراءة فأبرأته بعد أن مشت في البيت ساعة لم يقع الطلاق. (مسألة): سألته الطلاق فقال: أعطيني مائة أوقية وأنت طالق، فهذه صيغة التزام فلا يقع إن لم تعطه المال، سواء قصد التعليق أو أطلق. (مسألة): طلبت طلاقها فقال: ما تشهدون أنها طالق على صحة البراءة، فقالت: قبلت، ثم قال لها: كيفما حليت لي حرمت، فقوله: على صحة البراءة من صيغ المعاوضة التي يكفي في جوابها قبلت فيقع بائناً، فلا يضر قوله بعد ذلك، كيفما حليت حرمت عليّ وإن كرره. (مسألة): قال: متى حصلت براءتي من صداق زوجتي فهي طالق قبل موتي، فوجدت البراءة بعد موت الزوج تبين وقوع الطلاق قبل موته بائناً كما حققه الرداد.
الطلاق(1/173)
(مسألة): لا ينبت طلاق الزوجة بدعوى الوارث، بل لا بد من شهادة عدلين على طلاق الزوج أو إقراره بالطلاق البائن، وإذا لم يثبت وجب إيصال الزوجة إلى ما تستحقه من الإرث. (مسألة): طلق زوجته طلقتين بحضور شهود، ثم سئل بعد ذلك فقال ثلاثاً ناسياً من غير قصد، لم يقبل دعواه النسيان، ويحكم عليه بالثلاث ظاهراً، فلا تحل له إلا بمحلل، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. (مسألة): قال لزوجته: أنت دالق بالدال المهملة أو تالق بالمثناة فوق، أو طالك بالكاف عوضاً عن طالق لئلا يقع عليه الطلاق لم يقع، اللهم إلا أن تكون لغته النطق بالطاء تاء أو دالاً، وبالقاف كافاً فيقع عليه، ويكون صريحاً في حقه كبعكك طلقكك بإبدال تاء المتكلم كافاً لمن لغته ذلك. (مسألة): قال لزوجته: اسرحي بلفظ الأمر، فإن كان ممن لغته استعمال ذلك اللفظ في الذهاب بحيث لا يستعملونه في الطلاق كلغة أهل الجبال لم يقع به طلاق إلا إن نواه ويكون كناية في حقه، لأن استعماله فيما وضع له قد هجر، ويكون من باب تقديم العرف المطرد على الوضع، وإن كان ممن لا يستعمله في الذهاب فهو صريح في حقه، كما أن اطلقي صريح أيضاً كما أفتى به بعض أهل اليمن. (مسألة): قالت له: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فأجابها بقوله: قده طلاقي لم يقع، لأن هذا اللفظ لا يصلح أن يكون طلاقاً، إذ لا بد من ربط الطلاق بها بأن يخاطبها كطلقتك، أو بذكر المبتدأ كأنت طالق، وكل منهما لم يوجد هنا، نعم لو قال: أنت طلاق كان كناية، ولو أراد أن يقول أنت أمطارق فسبق لسانه فقال: أنت أمطالق لم يقع.(مسألة): ذكر الأصحاب أن الألفاظ التي لا تحتمل الطلاق إلا بتعسف لا تكون كناية فلا يقع بها الطلاق وإن نواه، فحينئذ فما اشتهر عند أهل مليبار في الطلاق كقولهم يأنم أينم ونحوهما لا دلالة فيهما على الطلاق، وأما مسألة الاشتهار فهي في لفظ فيه دلالة على الطلاق، كحلال الله عليّ حرام، أو الحرام يلزمني، فإن اللفظ يحتمله، وكما لو(1/174)
قالت له طلقني، قال: طلقت رجلك، كما أفتى به الطنبداوي خلافاً لمن قال إنه صريح، فلو راجعها ظاناً وقوعه من غير نية لم يؤاخذ بذلك. (مسألة): قال لها: أنت طالق بقدرة الله تعالى، وقصد التعليق، ثم خرج فتبعه شخص فقال له: أفصح فقال، ثلاثاً: وقع المعلق بالقدرة، وأما قوله ثلاثاً فإن كان في عزمه حال التلفظ بالطلاق أن يطلق ثلاثاً وقصر الفصل وقعت وإن طال، أو لم تكن له نية أو كان في نيته واحدة ثم عزم على الثلاث بعده فلا. (مسألة): قوله: عليّ الطلاق صريح على المعتمد، كما قاله زكريا وغيره خلافاً للعباب. (مسألة): قوله: أنت مخلص ثلاثاً كناية في الطلاق، فإن نوى به الطلاق الثلاث وقعن، ولا تحل إلا بمحلل بشرطه، وإلا فالقول قوله بيمينه إن لم ينو ولا يقع عليه شيء. (مسألة): قال لها بعد أن طلبت منه الطلاق: كلمتك معك كان كناية، لا سيما وقد اشتهر في العرف استعماله، ولهذا تقول المرأة لزوجها إذا طلبت منه الطلاق: أعطني كلمتي، فيجيبها بالطلاق أو بكلمتك معك. (مسألة): قال لزوجته: أنت طالق، وقال: أردت مخاطبة أصبعي وأشهد على إرادته ذلك شاهدين قبل تلفظه بما ذكر، ثم تلفظ به لم يقبل منه ظاهراً، وفي قبوله باطناً وجهان: أصحهما لا، ولا يعرج على ما تقدم مما يقتضي الإصلاح على صرف ألفاظ الصريح عن موضوعه، بل يطرح ذلك ويعمل بمقتضى وضع اللفظ، وإلا لقدر كل أحد على الإشهاد أنه متى طلق فإنما يريد استدامة النكاح ونحوه، ويتخذ ذلك ذريعة إلى إبطال صرائح الإقرارات والإنشاءات وهذا لا سبيل إليه، قاله السمهودي خلافاً للأزرق. (مسألة): قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً، وألقى حال تلفظه بذلك حصاة أو عجوزة كانت في يده وقال: قصدتها لم تطلق للقرينة، نظير ما إذا قال لها عند إطلاقها من الوثاق: أنت طالق كما أفتى به ابن عجيل في العجورة وإن كان بحضرة شهود، بخلاف ما إذا نوى أصبعه فإنه لا يقبل منه ويقع الطلاق كما في الجواهر، وكما لو كانت العجورة بالأرض(1/175)
أو كانت عليه جبة وقال: أردتها فلا يقبل قوله والفرق ظاهر. (مسألة): خاطب زوجته بإحدى كنايات الطلاق، فلا بد للمفتي من استفصاله لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته، وإذا دلت القرينة على مبادرته بقوله: لم أنو الطلاق وعظه وخوّفه وقال له: إن كنت قصدت الطلاق وأردت الآن عدم وقوعه فوطؤك لها حرام. (مسألة): أقر أنه فصى زوجته بالفاء والصاد المهملة، أو قال لفقيه: اكتب لي إلى زوجتي أني فصيتها، فهذا اللفظ كناية في الطلاق وإن اشتهر في بلد المقرّ أن المراد به الطلاق، واطرد عرفهم بذلك على الراجح المعتمد عند النووي في نظيره كحلال الله عليّ حرام، وحينئذ فإذا أقرّ به فلا يكون مقراً بالطلاق حتى يقر بأنه نواه بذلك، وإذا أقر بعدد فذاك وإلا حمل على واحدة. (مسألة): له زوجة اسمها حسان فسافرت هي وأخرى اسمها حسان أيضاً، فواطأ شاهدين أنه إذا قال حسان طالق فإنما يريد رفيقتها ثم قال: اشهدوا أن حسان طالق ثلاثاً، فالمعتمد الذي قرره السمهودي وقوع الطلاق، ولا نظر إلى المواطأة السابقة، خلافاً لمن أفتى بعدم الوقوع، أما لو قال: زوجتي حسان طالق، ثم قال: أردت غيرها لم يقبل قطعاً لملازمة الزوجية لها. (مسألة): لقيه قطاع الطريق فلزموه ولم يطلقوه حتى يحلف بالطلاق أن لا يخبر بهم أحداً، فحلف لهم لدفع ضررهم ثم أخبر بهم لم يقع الطلاق كما في الروضة لأنه مكره، ولا يخفى أن ذلك فيما إذا هددوه بإضرار ناجز في نفسه، أما مجرد قولهم لا ندعك حتى تحلف فليس بإكراه. (مسألة): شخص يقود بهائم له ولغيره فلقيه آخر، فأراد نهب ما كان لغيره فحلف بالطلاق أن جميع البهائم له وقع الطلاق لعدم الإكراه الشرعي. (مسألة): جاءه عدّاد البقر فأقر له بعدد معلوم، فقال العداد: معك أكثر وخوفه بالضرب وهو مترسم قادر على ضربه وقال له: احلف بالطلاق الثلاث إن ما معك إلا هذا، وكان قد أخفى ثلاثاً منها فحلف ولم يعين التي غيبهن، وقع عليه الطلاق الثلاث وليس هذا إكراهاً على(1/176)
الطلاق فقط، وإنما خيره بين الطلاق والإخبار بما معه فكأنه اختار الطلاق وفدى به ماله. (مسألة): سألته امرأته الطلاق فقال: طالق ثم طالق ثم طالق، فإن ادعى أنه أراد غير امرأته وإلا حكم بوقوع الطلاق، وهذا ما أشار إليه الشيخان. قلت: فإن لم يكن في جواب سؤال بأن قاله ابتداء لم يقع شيء وإن نوى الطلاق، إذ لا بد في وقع الطلاق من الإيمان بالمبتدأ أو ربط الطلاق بها كطلقتك كما مر، وكما في الفتح والتحفة والنهاية وحيث حكمنا بالطلاق فثلاث ما لم ينو التأكيد اهـ. ولو قيل له: ما تصنع بهذه الزوجة طلقها؟ فقال: طلقت وقع لأنه جواب مترتب على السؤال. (مسألة): طلق زوجته وراجعها وملكها عقوداً مقابلة الرجعة فقبلته ولم تقبضه ثم قال لها: إن فسخت لي في العقود فأنت طالق، ففسخت له فيه لم تطلق، لأن العقود باقية على ملكه فلم ينفذ الفسخ فيه، وإذا لم ينفذ لم يقع الطلاق المعلق لعدم وجود الصفة حقيقة. (مسألة): اختصم هو وزوجته وأمها وجدتها، فقالت أم الزوجة لبنتها: ابذلي فبذلت، فأشار إلى الأم والجدة والزوجة أنتن طالق ثلاثاً، فإن قصد بذلك الزوجة طلقت ثلاثاً، وكذا إن قصد توزيع كل طلقة عليهن في الثلاث أيضاً، وإن قصد توزيع الثلاث عليهن أو لم يقصد شيئاً طلقت زوجته طلقة بائناً، فليتق الله في قصده ولا يتساهل. (مسألة): طلب من آخر أن يسير معه إلى مكان لأمر اقتضى ذلك فامتنع فحلف بالطلاق الثلاث أنه إن لم يسر معه لذلك الأمر لا أمشي إلا وقد رفق أي رسم عليه من والي نعمان، وكان ذلك الحلف قبل الغروب، ولو سعى بقية يومه وسار بالليل لم يمكنه الترفيق من والي نعمان لأن واليها يقفل بابها قبل الغروب، ولا يمكن الاتصال بالوالي لذلك، وتعذر الوصول إليه لذلك الوقت لم يقع الطلاق إذ هو في معنى المكره. (مسألة): قال في البحر ونحوه العباب: لو قال لها وهي حامل: إن ألقيت ما في رحمك فأنت طالق فألقته نظر، فإن كان ذلك الولد مخلقاً وقد مضى عليه أكثر من(1/177)
أربعين يوماً لم تطلق، وإن أسقطت في الأربعين من أوّل العلوق طلقت، وهذا إن لم تكن له نية، وإلا فإن قصد بذلك إسقاط الولد ثم ألقته أي وقت كان طلقت، وإنما فرّقنا بين الحالين لما ورد في الخبر عنه، وزعم أهل الخبرة أن الولد يكون في الرحم أربعين ثم يخرج بعد ذلك إلى البطن، فإن صح ما ذكروه فأقرب ما يتلمح من توجيه التفصيل المذكور أن إطلاق ذكر الرحم بعد الأربعين من باب الاستصحاب. (مسألة): الأموال التي تؤخذ بالمكوس والمصادرات لا يجوز أن يقال فيها مال السلطان أو حق السلطان ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقاً أو لازماً، قال النووي: وهذا من أشد المنكرات، بل يكفر إن اعتقده حقاً مع علمه بأنه ظلم، والصواب أن يقال فيه المكس أو ضريبة السلطان ونحو ذلك إذا علمت ذلك، فإذا أخذ شخص شيئاً من هذا المال فلما اتهم بأخذه حلف بالطلاق الثلاث أنه لم يأخذ من مال السلطان شيئاً معتقداً أن ما أخذه ليس مالاً للسلطان لم يحنث، وكذا لو أطلق ولم يرد شيئاً أخذاً مما لو حلف لا يدخل دار زيد فإنه يحمل على الدار التي يملكها، إلا أنه يبعد هنا أن لا يخطر ببال الحالف شيء، بل المتبادر إرادة الأموال المذكورة فليتق الله فاعله، ولو أمسك أعوان السلطان بعض التجار وقالوا له: بعت بضاعة بلا مكس أو خفية أو حدت عن الطريق، أو أمسك الحاكم من يكتب المكوس وقال: سرقت مما أخذته من الرعايا، فأنكر كل وحلف بالطلاق الثلاث أنه ما فعل شيئاً أو ما أخذ، والحال أنه كاذب لكن خاف أنه لو أقرّ ضرب وأخذ ماله حنث بذلك، إذ لا غرض للأعوان أو الحاكم في حلف من ذكر ولم يكرهوه عليه عيناً خلافاً لمن غلط فيه فأفتى بعدم الحنث. (مسألة): طلق امرأته ثم ادعى أنه استثنى، فإن كان بإن شاء الله لم يقبل قوله، أو بغير المشيئة كإن دخلت الدار مثلاً، فإن قال الشهود: لم نسمعه فالقول قوله بيمينه، وإن قالوا رأينا فمه منطبقاً عقب الطلاق لم يقبل قوله. (مسألة): قال لها:(1/178)
أنت طالق على صحة البراءة فلم تجبه، ثم قال لها: أنت طالق ثلاثاً فلم تجبه أيضاً، ثم أجابت بعد ربع النهار بقولها: أنت البريء وقع الطلاق الثلاث. (مسألة): إذا علق الطلاق على أمر فبان خلافه لم يقع إن حلف على ما في ظنه كما قاله الجمهور، بل لو حلف على أنه كذا في نفس الأمر فبان خلافه لم يقع أيضاً، لأنه من باب عذر الناسي والساهي ذكره البكري، فحينئذ لو كان شخص يشقى ويأتي بما يشقاه لزوجته فاتهم فحلف بالطلاق الثلاث أنه يأتي بجميع ما يشقاه ولا بينة فالقول قوله بيمينه بناء على ما ذكر. (مسألة): حلف بالطلاق الثلاث ليبيعن ما تحت يده من أموال المسلمين بالغصب والنهب من زوجته فباعه من غيرها، لم يحكم بالطلاق بمجرد ذلك، فإنه ما دامت الأعيان باقية فملكه لها ممكن، فإذا ملكها وباعها ثانياً من زوجته برّ في يمينه ولا حنث، وإن تلفت العين حنث لامتناع البر، إذ البيع في الأيمان إنما ينصرف إلى الصحيح، وحلفه بالقسمة كحلفه بالبيع. (مسألة): قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال مجيباً لها: أنت طالق طلقت طلقة بائناً، فلو قيل له بعد ذلك على سبيل الاستخبار: طلقت؟ قال: نعم خمس عشرة طلقة كان ذلك إقراراً منه بالطلاق المذكور، فيقضي عليه بوقوعه ظاهراً مؤاخذة بإقراره، فإن كان كاذباً ولم يصدر منه إلا أنت طالق الأولى لم ينو بها الثلاث حلت له في الباطن بلا محلل إن لم تكن الثالثة. (مسألة): قال: اشهدوا عني أنها يعني زوجته إذا حملت بنيتي ولم تخرج من بيتي بشيء أنها طالق، فقال له الحاضرون: قل ثلاثاً، فقال: ثلاثاً طلقت كذلك إن كان في عزم حال التلفظ بالطلاق تعليق الطلاق الثلاث ولم يطل الفصل وإلا فواحدة، هذا إن لم تخرج بشيء من بيته، وإلا لم يقع الطلاق أصلاً، فلو شهد شاهدان أنه نجز الطلاق وكان أحدهما تاركاً للصلاة لم تقبل شهادته ولا يقع الطلاق بشهادة الثاني. (مسألة): طلق زوجته ثلاثاً بلفظ واحد، ثم ادعى أنه زيدي المذهب لتحل له بلا(1/179)
محلل لم يقبل، بل لو حكم حاكم بذلك نقض حكمه على الصحيح، لأن المسألة إجماع ولا اعتبار بالخلاف الحادث، وعلى النقض لو وطئها لزمه الحد ولم يثبت به نسب ولا عدة قاله الروياني. (مسألة): حلف بالطلاق الثلاث أن قلبه أقسى من الحجر لم يقع عليه الطلاق لاحتمال ما ذكره، وفي التنزيل: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} ونحن نوقع الطلاق بالشك، هذا ما ظهر في حكم المسألة. (مسألة): قال: يلزمني الطلاق الثلاث أني أقدر أقاتل زيداً وأزلقه وأمجه، وأراد بذلك غلبته في القتال ومقاتلته بغلبة، وكان عرفهم ذلك قبل إرادته ذلك، كما أفتى به النووي فيما إذا حلف أن زيداً يعرف أين يسكن إبليس وأراد الحذق أنه لا يحنث، نعم إن دل الحال على خلاف ما قاله فالظاهر وقوع الطلاق، كما إذا حلف أنه لا يخاف ابن عمه، ودل الحال على خلافه لقوة شوكة المحلوف عليه أو شدة بأسه وفرط هجومه. (مسألة): تخاصم هو وزوجته فقالت: بذلت صداقي على طلاقي، فلم يجبها وخرج، ثم رجع بعد مدة وحصل بينهما خصام فقال: قدك شيء مطلقه، ولم ينو بذلك الطلاق وإنما مراده دفعها وقع الطلاق رجعياً. (مسألة): تزوج امرأة وتعيب عليه أبوها بحلية، فلما طالبه بها امتنع وحلف بالطلاق الثلاث لا يعمل لها خرزة منها، فحلف الأب بالطلاق الثلاث أيضاً لا يرجع إلا بالعتبة وأطلق لم يبر الأب بإعطاء أجنبي ذلك، بل لا بد من إعطاء الزوج أو إعطاء أجنبي بإذنه، لأنه إذا أعطى بإذنه رجع عليه، فكان الزوج هو المعطي، أي فيبرّ الأب ويكون الأجنبي وكيل الزوج، ولا يحنث الزوج بإعطاء وكيله، لكن قد يقال: إذا قلنا إن الزوج لا يحنث الخ فيؤدي إلى حنث الأب، وحينئذ فيمتنع البر فيهما، نعم لو قصد الأب في يمينه إعطاء الزوج بنفسه أو بوكيله برًّا جميعاً بإعطاء الأجنبي حيث صار وكيلاً للزوج، وما نقل عن الخادم من أنه إذا قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً فدخلت أنه لا يقع(1/180)
الطلاق غير صحيح على المعتمد، بل المعتمد في الفتوى وقوع المنجز. (مسألة): قال: أنت طالق ثلاثاً إلا إن يشاء الله، فإن قصد التعليق بالمشيئة قبل فراغ اليمين حلف أنه قصد ذلك لم تطلق، وإن قصد التبرك أو أطلق طلقت وليس لقاض مقلد الحكم بعدم وجوب اليمين، لا سيما بعد طلب المرأة بل وإن لم تطلبها لأنها حق الله تعالى. (مسألة): قال لها: يلزمني الحرام والطلاق الثلاث أن ما عاد تنظرين وجهي وخرج عنها طلقت ثلاثاً بنظرها إلى وجهه وإن كان خراج البيت وهي داخله، وخلاصه من هذه اليمين أن يخالعها إذا كانت رشيدة فتنحل اليمين، ثم يجدد نكاحها إذا لم تكن الثالثة. (مسألة): قال لزوجته: إن ولدت حملك وقده يأتي إلى مكان كذا فأنت طالق من اليوم لم تطلق نظير ما إذا قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، أو أنت طالق الساعة إذا دخلت الدار، فلا تطلق وإن وجدت الصفة لأنه علق بوجودها فلا يقع قبله، وإذا وجدت فقد مضى الوقت الذي جعله محلاً للإيقاع، ذكره في الروضة قال: وهو من التعليق بالمحال. (مسألة): مريض طلق زوجته ثم ادعى أنه عند طلاقها زائل العقل، فإن عهد منه زوال الشعور قبل قوله بيمينه فلا يقع الطلاق حينئذ، وإن لم يعهد ذلك فلا بد من بينة. (مسألة): طلقها على عدد الأحجار وقعت الثلاث، والمعتمد وقوع الثلاث أيضاً على من طلق عدد التراب خلافاً للروض. (مسألة): قال لزوجاته الأربع: أنتن طوالق مني مثنى وثلاث ورباع قاصداً عدد الزوجات لا الطلاق، طلقن واحدة واحدة اعتباراً بقصده إذا كان عارفاً بذلك. (مسألة): قال لزوجته: عليك طلقة أو لك طلقة كناية بخلاف أوقعت أو وضعت عليك طلقة فإنه صريح، وقوله: عليّ الحرام مائة طلقة أولى بكونه كناية في طلاق زوجته، وحينئذ فإن نوى طلاق زوجته ثلاثاً وقعن، وإن نواه من غير عدد فواحدة وإلا لم يقع شيء. (مسألة): أتى بزوجته إلى شهود محكمة وقال: هذه أختي وصدقته على ذلك، ثم أتى إلى قاضين وشهود محكمة واعترف بذلك لدى(1/181)
حاكم شافعي وحكم بموجبه لم تحرم عليه، بل ينظر أولاً هل يمكن أن تكون بنتاً للملحق به أم لا؟ فإن لم يمكن لم تحرم عليه لأنه ذكر محالاً، كما إذا قال لعبده: أنت ابني ولم يتصوّر كونه ابنه، وإن أمكن كونها منه وهي معروفة النسب من غيره لم تحرم أيضاً إلا إن نوى استلحاقها أو مجهولة النسب، فإن دلّ الحال على خلاف لفظه كان ذلك صارف للفظه عن المؤاخذة بظاهره، كما إذا أتى بزوجته للقاضي وقال: هذه أختي تريد تبريني عن الدين الذي تستحقه عليّ فاستمع منها البراءة، ويكون ذكر الأخوة منصرفاً إلى أخوّة الإسلام، ألا ترى أنه لو قال لعبده: أنت ابني على وجه الملاطفة لا يحكم عليه بالعتق، فتحصل أن قول الرجل لزوجته: أنت بنتي أو بابنتي ليس من صريح الفرقة المؤبدة، فالإفتاء بتحريمها عليه مؤبداً بمجرد ذلك غير صحيح، ومن باب أولى هذه أختي أو أنت أختي وأنه كناية طلاق. (مسألة): قال بمحضر جماعة: لو تزوج زوجتي منعاً مع فلان وفلان فهي طالق ثلاثاً، والحال أن كلاً من الزوجين ببلد، وقصد الزوج إعلامها ومنعها، فخرجت مع المعينين اللذين سماهما جاهلة بالحلف لم يقع عليها الطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يتمكن الحالف ومن سمعه من إعلامها وأن لا، خلافاً لأبي زرعة لعدم تحقق المخالفة. (مسألة): قال لزوجته: إن نكحتك فأنت طالق ثلاثاً، فإن نوى به الوطء أو دلت قرينة على أنه أراد به ذلك حنث به وإلا لم يحنث، لأن النكاح عندنا حقيقة في العقد مجاز في الوطء، فلو علت المرأة على الحالف على ترك الوطء، فإن تحرك حركة ينسب الجماع إليه حنث وإلا فلا. (مسألة): حلف بالطلاق الثلاث أنه لا بد له أن يقتل زيداً، لم يحنث إلا باليأس من قتله بموت الحالف أو المحلوف عليه لا الزوجة فقط، خلافاً لبعض العصريين، إذ ما يحصل به البرّ لا فرق بين فعله حال الزوجية أو البينونة، بخلاف ما به الحنث، فلو خرجت من بيته فحلف بالثلاث إن لم ترجع برّ برجوعها ولو بعد موته وحنث بموتها(1/182)
قبل الرجوع. (مسألة): قالت: بذلت صداقي على صحة طلاقي، فقال لها: أنت طالق خلف جزء من عمري ولم يقل المتصل بموتي ومات بعد أيام، فقوله أنت طالق الخ بعد بذلها لا يصلح أن يكون جواباً لها، إن ما أجاب به صيغة تعليق، فيعد بذلك معرضاً عن جوابها فيكون ابتداء وإن أجابها فوراً، وقوله خلف جزء من عمري صادق بكل جزء من أجزاء عمره، فيقع الطلاق بعد مضيّ جزء من عمره، ونقدره بأقل زمن يمضي بعد التعليق، ويكون رجعياً حيث لم ينو الثلاث، فيلزمها الإحداد وعدة الوفاة وترث منه ولا يسقط المهر بالبذل المذكور. (مسألة): قال لزوجته: إن شاء تفسخي لي دابتي شاء أطلقك، وكان قد أعطاها دابة رضوة فقالت له: خذ دابتك فسخها الله عليك، وهم من قوم يستعملون الفسخ في التمليك، خصوصاً فيما وهبه الشخص لزوجته وأراد رجوعها إليه ثم طلقها بعد مدة وقع الطلاق أي رجعياً، وأما الدابة فلا يملكها بمجرد الفسخ. (مسألة): قال لزوجته في صحته أو مرضه: أنت طالق ثلاثاً آخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بموتي، طلقت قبل موته اتفاقاً، وكذا إن لم يقيد بالاتصال بموته على المعتمد. (مسألة): أصمت عن الكلام مع بقاء شعور وقوّة حركته فقيل له ثلاث مرات، نشهد عليك أن زوجتك طالق آخر جزء من عمرك، فقال في جواب كل مرة: أها أي نعم، فإن قصد الزوج بكل مرة الاستئناف وقع الطلاق الثلاث قبل موته ولا ترثه ولا إحداد عليها، وإن قصد التأكيد، أو أطلق أو لم يعرف قصده طلقت قبيل موته رجعية بشرطها، وتنتقل إلى عدة الوفاة وتحدّ وترثه وإن تركت الإحداد. (مسألة): قال لها: إن خرجت من بيتي فعلي الطلاق الثلاث لا أطلقك بمد اللام الجاري على ألسنة العوام، وقصدهم بذلك لأطلقك فخرجت، فإن طلقها برّ في يمين الثلاث، وإن لم يطلقها لم يقع عليها الثلاث إلا باليأس من الطلاق، لأنه لم يقيِّد لطلاقها وقتاً معلوماً. (مسألة): اتهم بسرقة فقال: يلزمني الطلاق الثلاث ما لي بدّ ما أشتكي بكم إلى الوالي، ولم(1/183)
يعين وقتاً للشكوى ولا الوالي ولا نواه لم يقع الطلاق إلا باليأس من الشكوى، ولا يتعين الوالي الموجود حال الحلف، بل متى شكاهم إلى أيّ وال في بلد الحلف ولو بعد عزل الأول برّ. (مسألة): حلف بالطلاق الثلاث أنه لا يمس ما هو كذا لشيء مأكول فوهب منه ناسياً لليمين لم تطلق إلا إن قال: لا أمسه عامداً ولا ناسياً. (مسألة): قال لآخر: فعلت كذا، فقال: ما فعلته وإلا فعليّ ذاك اليمين وقصد الطلاق لم يقع عليه طلاق وإن فعله، إذ غايته أنه التزم يمين الطلاق واليمين ليست مما يثبت في الذمة، بخلاف التزام الطلاق نفسه كقوله: فعليّ الطلاق. (مسألة): في الروضة إذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، لم يقع الطلاق حتى يحصل اليأس منه بموت أحدهما، ولو قال إذا بدل: إن طلقت بمضيّ جزء يمكن أن يطلق فيه ولم يطلق، هذا هو المذهب المنصوص في الصورتين، وقيل هما سواء فلا يقع إلا بموت أحدهما، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، نعم إن قال: أردت بإذا لم معنى إن لم، قبل قوله ظاهراً، بقي ما لو كان الحالف عامياً لا يفرق بين الحرفين، ولم تكن له إرادة حال التعليق، فالظاهر ما أفتى به الطبنداوي من حمل ذلك على التراخي، ووجهه قيام أحد الحرفين مقام الآخر مع اعتماد ذلك بأصل بقاء العصمة وهو أبعد من الحمل على الفور، وبه فارق بقية الأدوات كمتى ونحوها وحكم إلى كإذا. (مسألة): قال: عليّ من نسائي الطلاق الثلاث إن ما أفعل كذا، ثم فعله وله زوجتان فقط، فالظاهر أن كلاًّ منهما تطلق ثلاثاً، لأن الضمائر عامة، فمدلولها كل فرد لا المجموع وهي محتملة للمجموع، فإن أراد التشريك بينهما في الثلاث قبل منه ووقع على كل طلقتان، لأن اللفظ يحتمل إرادة التشريك. (مسألة): حلف بالطلاق الثلاث لا يخدمني فلان وله زوجتان، فله أن يعين إحداهما ولو قبل الخدمة، فإذا عينها تعينت وصار التعليق خاصاً بها دون الأخرى، فلو أبان المعينة قبل الخدمة انحلت يمينه حتى لا يعود الحنث بعد تجديد نكاحها،(1/184)
ولو قال من له زوجتان الطلاق الثلاث يلزمني لا أنام عند واحدة منهما، فخلاصه أن يعين إحداهما لذلك ثم يخالعها ثم يجدد النكاح وينام عند من شاء منهما، فإن نام عند إحداهما قبل الخلع وقع الطلاق مبهماً وله تعيينه فيمن شاء. (مسألة): قال لها: يلزمني الطلاق منك ما بقيت تكون لي زوجة طلقت بمضي زمن يمكن فيه الطلاق ولم يطلق، إذ معناه يلزمني الطلاق منك لا استدمت نكاحك. (مسألة): ألقى على امرأته طلاق الدور ثم طلقها، ثم أقرّ أنه لم يكن ألقى عليها ذلك أوخذ بإقراره، فإن كان كاذباً طلقت ظاهراً لا باطناً عند من يرى صحة الدور وهو ضعيف لا يجوز العمل به، والمعتمد الذي رجحه الشيخان والمتأخرون بطلان الدور، فقد نص إمامنا الشافعي رحمه الله على الدور الشرعي ولم يعرّج على الدور الجعلي فقط، ومن خالف ونسب سواه لإمامنا الشافعي فقد غلط وجهل، وليحذر المخالف غاية الحذر، فهو شبيه بقول النصارى: لا فراق إلا بالموت، وسدّ لما شرع الشارع من الطلاق، فلو حكم به حاكم يراه وهو مقلد للشافعي نقض حكمه، وحينئذ فلو تزوجت المرأة بعد الطلاق المنجز وانقضاء العدة صح تزويجها بشرطه، هذا الذي نعتمده ونفتي به. (مسألة): قال لها: يلزمني الطلاق إن دخلت بيت أخي ما تصبحين لي زوجة، وقع الطلاق إذا دخلت وأصبحت له زوجة، ويكون القول قوله في أنه لم يذكر الثلاث ولا نواها ولا يقبل شاهد واحد، فليتق الله الحالف ولا يقدم على اليمين. (مسألة): اكترى دابة بعشرة وأخرى بتسعة وله شريك فقال لشريكه: اكتريت هذه يعني التي اكتراها بتسعة بعشرة، فقال له الشريك: يلزمك الطلاق أنك اكتريت بعشرة، فقال نعم اكتريت بعشرة، ثم قال: أردت تلك التي اكتريتها بعشرة قبل منه ذلك للقرينة الدالة على ذلك وهي اكتراؤه الدابة بعشرة، وإن لم يدّع إرادة ذلك وقع الطلاق، هذا إن قال نعم الخ، أما إذا اقتصر على نعم ولم يزد عليها لم يقع الطلاق مطلقاً كما في الروضة خلافاً للرداد. (مسألة): طلبت(1/185)
منه الطلاق فقال لها: إذا وقع لك زوج في ثمانية أيام فأنت طالق، فالمتبادر من لفظه تعليق الطلاق بوجود خاطب في تلك الأيام، فإذا خطب فيها وقع الطلاق، فإن قصد مكافأتها وقال: أردت وقوع الطلاق حالاً فقد غلظ على نفسه فيقع حالاً، وإن أراد التعليق بزواجها في الثمانية الأيام لم يقع أصلاً لأنه تعليق بمستحيل شرعاً. (مسألة): طلبت منه أن يطلقها وله ولد صغير منها فقال: إذا لم ترد به لا غداً ولا بعد غد إلى يوم القيامة فأنت طالق، فإن ردته ولو بعد استغنائه عن حضانتها لم يقع الطلاق وانحلت اليمين، وإن لم ترده لم يقع أيضاً إلا باليأس من رده بموت أحد الثلاثة. (مسألة): قال: عليه الحرام والطلاق الثلاث من زوجته إذا لم ترجع هذه الليلة من بيت أهلها ما تكون له زوجة، فقوله ما تكون له زوجة كناية في الطلاق كما أفتى به الفتى وغيره إذا علمت ذلك، فإن قصد حثها على الخروج فلا بد من علمها بالحلف، فإن علمت وخرجت من بيت أهلها بر، وإن لم تخرج وكان قد نوى الطلاق بقوله ما تكون لي زوجة ولم يطلقها وأصبحت له زوجة وقعت الثلاث التي التزمها أولاً، وإن لم تصبح له زوجة بأن، طلقها طلقت بالثاني رجعياً، ولم تطلق بقوله: عليّ الحرام الخ، لأنه قد برّ بتطليقه قبل أن تصبح. (مسألة): طلبت منه أن ينتقل بها إلى مكان معين فقال: يلزمني الطلاق الثلاث منك أن ما تدعين ذلك المكان ساعة، فانحلال اليمين أن يخالعها قبل السكنى خلعاً صحيحاً تحصل به البينونة، كما لو حلف بالثلاث لا يتنقب عليه فلان ثم خالعها ثم نكحها ثم تنقب عليه الشخص المذكور لم تعد اليمين. (مسألة): طلبت منه الكساء حلف بالطلاق إنه يحصل لها الكساء بعد مضي ثلاثة أو عاد، فما مضت الثلاثة إلا وهو مريض زائل الشعور، فلما تماثل من المرض رسم عليه من قبل الدولة بالسفر إلى بلد ولم يتمكن من دفعه، فإذا ثبت المرض والعجز عن التخلص من الدولة لتحصيل الكساء لم يحكم عليه بوقوع الطلاق، فلو نكحت غيره(1/186)
كان باطلاً. (مسألة): مستأجر دابة سئل هل ركبتها؟ فحلف بالطلاق من زوجته أنه لم يركبها، ثم ثبت ركوبه بشاهدين، ولو كان الولي أو المؤجر طلقت رجعياً بشرطه، يأثم بإقدامه على اليمين الكاذبة، فإن بقي معها مع علمه بالطلاق فسق وعزر. (مسألة): تزوّج امرأة في بلد أمها ونذر أنه إن نقلها إلى غيرها بغير إذن أبويها وجدّها أن يسلم لجدها ما بدت به لسانه وهي طالق صح تعليق الطلاق لا النذر، لاشتماله على غرر يتعذر الوصول إلى معرفته، وإذا سافر بها بغير رضاهم وقع الطلاق رجعياً. (مسألة): أمسكت ثوبه بيدها فقال لها: إذا ما فلت يدك من ثوبي فأنت طالق، طلقت بمضي لحظة من التعليق ولم تفلت. (مسألة): علق الطلاق على مطلق البراءة ولم ينو شيئاً فأبرأته من المهر فوراً أو على التراخي وهي عالمة بقدره وقع الطلاق رجعياً، وحيث اعتبرنا الفورية في غير هذه فادعتها هي وأنكرها الزوج صدق بيمينه إن لم تكن ثم بينة، وإذا أرادت إثبات طلاق زوجها الغائب عند الحاكم ليحكم لها بذلك لم تسمع دعواها كما قاله المزجد، ولعله مفروض فيما إذا لم تدع الضرورة إليه. (مسألة): أقر أنه طلق زوجته ثلاثاً ثم قال: إنما طلقتها على تمام البراءة ولم تبرىء وادعى نسيان ذلك حال الإقرار وأخذناه بإقراره، نعم له تحليفها أنها لا تعلم نسيانه في الإقرار كما أفتى به الطنبداوي. (مسألة): اتهم بشيء فأنكر، ثم قال المدعى عليه للمدعي: يلزمني الطلاق الثلاث الحرام إذا لم تثبت عليّ بما ادعيته لأتشكى بك إلى حاكم السياسة، فإذا لم يثبت ذلك طلقت باليأس من الشكوى. (مسألة): خرجت من بيته فقال لها: إن لم تروحي إلى بيتي هذه الليلة وإلا فأنت طالق، فقالت أنت البريء، فقال: وأنت طالق إن لم تروحي فراحت إليه تلك الليلة لم تطلق، فإن قال الشاهدان: لم تسمع قوله إن لم تروحي فالقول قوله بيمينه في ذلك لأنهما لم ينفيا تلفظه وإنما نفيا السماع، ولا يلزم منه عدم التلفظ، نعم لو قالا: شاهدنا فاه(1/187)
عقب الطلاق ولم نره ينطق بشيء فالظاهر عدم قبول الزوج، وأن القول قولها لوجود البينة. (مسألة): قالت له: أشتهي منك عرف القبيلة، فقال: إذا كنت تشتهي ذلك أطلقك ثلاثاً لم يقع به طلاق إلا إن أراد الإنشاء بذلك فيقع في الحال. (مسألة): قيل له: بنت فلان زوجتك والحال أنه متزوّج بها، فقال: لا أعرفها ولا أمّها كان كناية في الطلاق، كما إذا قيل له: لك زوجة؟ فقال: لا، ولها تحليفه أنه لم يرد طلاقها. (مسألة): عزم على السفر فأراد آخر أن يستودعه عيناً فامتنع، فقال له المودع: خذها بيعاً وشراء، فقبضها منه، ثم جاء آخر ليودعه فامتنع أيضاً فقال له: أراك قبضت وديعة فلان، فحلف بالطلاق ما قبضتها وديعة بل قبضتها بيعاً وشراء صحيحاً على ظن صحة ذلك وقع عليه الطلاق ولا يعذر بالجهل في الحكم كما حققه الرداد.
الرجعة
(مسألة): أبرأته من مهرها ثم طلقها رجعياً، ثم راجعها قبل انقضاء العدة ووطئها، لم يجب عليه مهر ثان، لأن حقيقة الرجعة الإمساك بالمهر الأول وقد حصلت البراءة فلا يتكرر. (مسألة): أقرّت بالوطء وأنكر الزوج وجب عليها العدة، ولا تسقط بإكذابها نفسها لأنه رجوع عن إقرارها كما في الروضة، فحينئذ لو أقرت بأنه لم يطأها الزوج وصدقها، ثم ثبتت بينة حسنة بإقرارها بالوطء قبل إقرارها بعدمه لزمتها العدّة، ولا يقبل رجوعها بالإقرار الثاني وليست هذه، كما إذا أقرت بعدم انقضاء العدّة ثم أقرت ولوفوراً بانقضائها وقالت: أقررت بالأولى كاذبة فإنها تصدق في ذلك إذا لم يتعلق به حق آدمي بأن كانت بائناً.
الظهار
(مسألة): قوله لزوجته: أنت كأمي أو كأختي كناية في الظهار والطلاق، إذ يحتمل أنه أراد كأمي في الكرمة فلا يقع به شيء عند الإطلاق، فإن نوى به الطلاق فطلاق، أو الظهار فهو أو تحريم عينها فعليه كفارة يمين. (مسألة): قال لها حال الخصام: نظري عليك حرام، فإن نوى بذلك طلاقاً أو ظهاراً فما نوى أو نوى تحريم عينها فعليه كفارة يمين.
اللعان(1/188)
(مسألة): ادّعت على رجل أنه زوج لها وأنها مطيعة له في مسكنه وتستحق نفقة سنة، فأقرّ لها بالزوجية وادّعى أنه لاعنها منذ سنة، وأشهد شهوداً تحملوا عن شاهدين أشهداهم أنهما حضرا لعانهما قبلت الشهادة المذكورة بشرطها بالنسبة لسقوط النفقة والفرقة المؤبدة لا لوجوب الحد عليها، إذ لا تسمع الشهادة على الشهادة في حدود الله تعالى، فحينئذ لا تحتاج المرأة إلى اللعان في دفع الحد عنها.
العدد
(مسألة): نكح حاملاً من الزنا، فأتت بولد لزمن إمكانه منه بأن ولدت لستة أشهر ولحظتين من عقده، وإمكان وطئه لحقه، وكذا إن جهلت المدة ولم يدر هل ولدته لمدة الإمكان أو لدونها على الراجح وإن ولدته لدونها لم يلحقه، ولو طلق امرأته ولم تتزوّج، ثم أتت بولد لدون أربع سنين من طلاقه لحقه أيضاً، ولا ينتفي عنه نسب الولدين المذكورين إلا باللعان لا بمجرد الإنكار. (مسألة): من انقطع دمها لعلة تعرف كرضاع ومرض وخوف وضيق عيش، فالمجزوم به في المذهب أن عدتها بالأقراء، وأنها تصبر حتى تحيض أو تبلغ سنّ الإياس اثنتان وستون سنة، فتعتد حينئذ بالأشهر، وإن انقطع لا لعلة فالجديد كذلك، والقديم المختار تتربص تسعة أشهر ثم تعتدّ بعدها، ويسع المقلد تقليد القائلين به ويسوغ له ذلك ولا يأثم، أما الحكم له لغير المجتهد فغير جائز بناء على الأصبح أن القاضي ليس له الحكم، بخلاف غير المعتمد لا سيما أكثر قضاة الوقت. (مسألة): فإذا اشتملت الدار على مسكنين فأكثر، فسكن الزوج في أحدهما والمعتدة في الآخر، وكان معها في الدار محرم بصير مميز أو امرأة ثقة جاز، وحينئذ فتجوز الخلوة بها مع وجود من ذكر، قاله في الروضة، لكن الأحوط خصوصاً في هذا الزمان سد هذا الباب، فلا يجوز أن يساكنها في بيت مع اتحاد المرافق ووجود من ذكر كما قاله الأذرعي لأنه قد يخرج لحاجته وقد يغفل، ولا سيما إذا كان الزوجان أو أحدهما ليس أهلاً للتقوى، وأما نظره إلى وجه وكفي المعتدة والأجنبية ففي(1/189)
الروضة نقلاً عن أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمين لا يحرم، وصوّبه الأسنوي وجرى عليه في العباب واشترط مع أمن الفتنة أن لا يقصد التلذذ بالنظر وهو كذلك، والذي في المنهاج ووجهه الإمام التحريم مطلقاً، وهو المعتمد المفتى به لفساد الزمان، وحيث قلنا بالجواز فالمرجع في خوف الفتنة إلى الناظر. (مسألة): عقد بامرأة عقداً فاسداً ثم مات بعد دعواه وطأها وأنكرته، فلا بد من يمينها على نفي الوطء، وإن شهدت أربع نسوة ببكارتها فلا تسقط عنها اليمين لحق الله تعالى، فإذا حلفت تزوجت من دون عدة.
الاستبراء(1/190)
(مسألة): وطىء مملوكته واستولد منها ولدين فأكثر وتوفي عنها لم يجب عليها الإحداد، لأن عدة الوفاة والإحداد من خصائص النكاح الصحيح، بل يجب عليها الاستبراء بنحو حيضة. (مسألة): إذا وطىء السيد أمته صارت فراشاً، فإن ظهر بها حمل بعد أن استبرأها بحيضة بعد الوطء لم يلحقه لانقطاع فراشه باستبرائه، ولو ادعت أن الحمل لابن السيد لم يلحقه بمجرد دعواها، وللسيد وطؤها حينئذ مع الكراهة إذا كان الحمل من زنا من ولد السيد أو غيره، والولد ملك للسيد ما لم يطأها وتلد بعد ستة أشهر من الوطء، فحينئذ يكون الولد حراً لاحقاً بالسيد وهي أم ولد، ويجوز للسيد بيعها حاملاً حيث لم يحكم بحرية الحمل بأن كان من زنا، أو ظن الواطىء أنها زوجته الأمة، أما إذا ظنها زوجته الحرة أو أمته المملوكة فلا يصح بيعها للحكم بحرية الحمل حينئذ، ومعلوم أنه لا يصح بيع الحامل بحرّ. (مسألة): أسلم في جارية وقبضها ثم ردها بعيب يجب على المسلم إليه الاستبراء بناء على الأصح أن ملك الدافع لم يزل. (مسألة): اشترى جارية وأراد تزويجها، فإن استبرأها بائعها أو كان صبياً أو امرأة جاز له التزويج، وإلا وجب استبراؤها أولاً قبل تزويجها، وحيث جوزنا تزويجها فزوجها ثم طلقها الزوج ولو قبل الدخول في المجلس لم يجز للمشتري المذكور وطؤها إلا بعد الاستبراء، وهذا بخلاف ما لو أعتقها المشتري ممن ذكر، فإنه يجوز له تزويجها من غير استبراء ويقال لها الهارونية.
النفقات(1/191)
(مسألة): لا تستحق الزوجة النفقة بالعقد بل بالتمكين التام. (مسألة): إذا دفع الحلي والكسوة للعروس، فإن كان قبل العقد من غير لفظ تمليك معتبر فلا تملكه بنفس القبض، ويكون دفع الكسوة إليها حينئذ من باب التعجيل، فإن حصل بعد ذلك عقد وتمكين ملكها، لأنها تملك بالتمكين التام كالنفقة. (مسألة): أذن لآخر أن ينفق على زوجته وأولاده ويعمر ماله صدّق المأذون له في الإنفاق وفي قدره المحتمل ليرجع على الآذن بما أنفقه على الكل، لكن لو أنكرت الزوجة الإنفاق فالقول قولها بالنسبة لرجوعها على الزوج لأنها لا تأتمن الوكيل، وإن صدقنا الوكيل بالنسبة للآذن، هذا هو التحقيق في المسألة فهي ذات وجهين. (مسألة): تجب نفقة البائن الحامل، وهي كنفقة الزوجة في التقدير وغيره، تصير ديناً على الزوج إذا ترك الإنفاق، ويصح الإبراء عن الماضي إذا علمت قدره لا عن المستقبل، لأنها تجب يوماً بيوم إلى الوضع. (مسألة): غاب غيبة بعيدة وانقطع خبره وله زوجة وأولاد عاجزون عن الكسب وبذمته مهر الزوجة قدم القاضي النفقة من ماله الحاضر، ولا يجوز له تسليم الموجود في المهر وترك النفقة حتى يحوج الحال إلى الفسخ بالإعسار، لأن الحاكم إنما يتصرف عن الغائب بالمصلحة، والأقرب من وجهين: استواء نفقة الزوجة والأولاد. (مسألة): تعذر تحصيل النفقة من الزوج بغيبة ونحوها وهو موسر، فالأصلح عند الشيخين ونقل عن النص أنه لا يجوز لزوجته الفسخ، والمختار المفتي به الجواز، وعليه عمل أكثر متأخري فقهاء اليمن كابن عجيل والأزرق والحصني وغيرهم، ولا بأس بالفتوى به عند الضرورة، وقد أفتى به جماعة من مشايخنا وصححنا أجوبتهم، ويؤيد جواز الفسخ ما ذكره الشيخان أنه لو كان له عقار ونحوه ولا يرغب في شرائه ينبغي أن يكون لها الخيار. (مسألة): لا تعد المرأة ناشزة بخروجها من بيت زوجها أو إخراج أهلها لها للخوف على نفسها من اقتحام الفجرة، وإذا ثبت إعسار الزوج وتعذرت عليه النفقة والكسوة(1/192)
فلها الفسخ بأن ترفع الأمر إلى الحاكم ليقع الفسخ بطريقه الشرعي. (مسألة): مات عن زوجته المطلقة بائناً وهي حامل استمرت نفقتها من تركته على المعتمد. (مسألة): غاب زوجها عن البلد وتعذر عليها إثبات إعساره عند الحاكم، جاز لها أن تستقل بالفسخ عى المعتمد، وإن صدقها الولي الخاص جاز له تزويجها، بخلاف الحاكم لا يجوز له التزويج قطعاً إذا أقرّت بأنها زوجة فلان وأنها فسخت بالإعسار حتى تقيم بينة بذلك بشروط الفسخ، ونظير ذلك فيما إذا أخبر المرأة عدل بموت زوجها فيحل لها التزوج في الباطن، أي لا يزوجها الحاكم ولا يعترض عليها، نعم له الاعتراض والتفريق بينهما إذا كان عالماً بنشوز المرأة المذكورة وعدم استحقاقها النفقة، بل يجب عليه إزالة المنكر، فلو شهد اثنان بملازمتها المسكن على خلاف ما يعلمه منها لم يحكم بعلمه ولا الشاهدين للتعارض. (مسألة): أنفقت امرأة على بنتها الصغيرة مدة من غير إذن أبيها ولا إذن الحاكم مع تمكنها منه لم ترجع عليه بشيء، نعم ترجع عليه إذا أنفقت من مالها بقصد الرجوع مع الإشهاد على أنها أنفقت لترجع، ولا يشترط إذن الحاكم على المعتمد. (مسألة): نفقة القريب تستقرّ بفرض القاضي بالفاء إن استدان القريب لها، فإن أكل من كسبه بأن تكلفه أو سأل الناس، فينبغي أن ليس له المطالبة بها هذا هو المتعين، ويحمل عليه كلام الشيخين. (مسألة): غاب زوجها مدة أربع سنين ولم يترك لها إلا نفقة أربعة أشهر، وله بالبلد جارية وولدها، فأثبتت المرأة نكاحها من ذلك الرجل بأن ادّعت أنه تزوجها تزوجاً صحيحاً بوليّ أهل وشاهدي عدل ورضاها حيث اعتبر وعدم علم الشاهدين بالفراق وتزيد لدعوى المؤن أنها ممكنة إلى حال غيبته، وأقامت بينة بجميع ذلك، وحلفت يمين الاستظهار، فحينئذ يبيع الحاكم الجارية وولدها، ويقدم نفقة الحال على نفقة الماضي إن أدى الحال إلى أنه إن عوّض نفقة الماضي حكم بإعساره بنفقة المستقبل، فيؤدي إلى الفسخ بالإعسارعنها،(1/193)
كما استنبطه السمهودي فيما إذا كان عليه مهر ونفقة أنه يقدم القاضي النفقة لأنه يتصرّف في مال الغائب بالمصلحة.
الرضاع
(مسألة): اشترى جارية وبنتها من الرضاع ووطىء الأم فليس له أن يطأ البنت، لأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. (مسألة): تجبر الأم على إرضاع ولدها إذا لم يكن ثم من ترضعه غيرها لكن بأجرة وتأثم هي وغيرها بالامتناع.
الحضانة
(مسألة): امرأة بالغة عاقلة خلية عن الزوج ساكنة عند أمها، أراد من له ولاية النكاح كأخ إسكانها عنده وادّعى الريبة، صدق بيمينه إن كان عدلاً وظهر منه إرادة المصلحة والستر لا الطمع في نحو مالها، وإلا لم يصدق إلا ببينة، وليس للأبعد اعتراض على الأم، وثم أقرب حاضر ساكت ولا مانع به. (مسألة): إذا أنفق الإمام من بيت المال على محاويج المسلمين فلا رجوع عليهم، وإن أنفق على محاويج أهل الذمة رجع. (مسألة): لا يجب على الأب تسليم نفقة الولد الذي بلغ نحو ثلاث سنين إلى أمه، بل يكفيه أن يقول: يأكل معي وإن كانت الحضانة للأم. (مسألة): ترك الصلاة من أكبر الكبائر ويفسق تاركها، ولا يستحق حضانة، فحينئذ لا حق لأم تاركة الصلاة في حضانة بنتها، وإن اختارتها البنت لعدم الأهلية. (مسألة): فارق زوجته وله منها أولاد محضونون كان سكناهم عليه، لكن لا يكلف استئجار بيت لسكناهم، بل يجوز أن يخلي لهم بيتاً في داره، حيث لا خلوة بينه وبين الأم، ولا يلزمه قبول تبرّع الأم عليه بإسكانهم معها للمنة، إلا إن كان يستأجر لهم من مالهم وتبرعت هي بإسكانهم معها في مسكن صالح، ولا مصلحة لهم في الاستئجار، ولو مرض الطفل تخير الأب بين تمريضه في بيته مع اجتناب الخلوة أو في بيتها إن كان، ولم يمنع وليها من دخول الولد بيته وإلا تعين بيت الأب للتمريض. (مسألة): مات رجل غريباً وخلف أولاداً عند أمهم وأخوالهم، فأراد عمهم نقلهم إلى بلده والسفر بهم برًّا، أجيب إلى ذلك إن كان أهلاً للحضانة وكان الطريق والمقصد آمنين،(1/194)
والمقصد أيضاً صالحاً لإقامة الطفل رعاية لحفظ النسب، وإن كان ببلد الأم أحد العصبة الأباعد على المعتمد. (مسألة): ادّعى الأب عدم أهلية الأم لحضانة بنتها، فلا بد من إقامتها البينة بالأهلية عند الحاكم، وإذا أراد إسكان بنته في بيت له وتسكن أمها معها للحضانة أجيب، ويمكن من سفر النقلة بالبنت، ولو قربت البلد المنتقل إليها، حيث كان الطريق والمقصد آمنين. (مسألة): تزوجت الأم بمن ليس له حق في الحضانة انتقلت لأمها فتقدم على الأب. (مسألة): له ولد مميز مقيم عند أمه وهو ببلد آخر، فوكل من يأتي به إليه، والحال أن الولد في سن لا تجوز الخلوة به، لم يجز للوكيل حينئذ أخذه بل يحرم تمكينه منه، وقد صرح النووي بحرمة النظر إليه ولو بلا شهوة، وإذا منعناه منه للخلوة والنظر فأولى بالمنع إذا كان السفر بحراً أو في حر شديد ولو براً لحرمة السفر به حينئذ على المعتمد.
الجنايات(1/195)
(مسألة): أفتى ابن عبد السلام وابن يونس بأنه لا يحل للمرأة أن تستعمل دواء يمنع الحبل ولو برضا الزوج، قال السبكي: ونقل عن بعضهم جواز استقاء الأمة الدواء لإسقاط الحمل ما دام نطفة أو علقة، قال: والنفس مائلة إلى التحريم في غير الحامل من زنا فيهما، والتحليل مطلقاً عند الحنفية، والتحريم كذلك عند الحنابلة اهـ. وفي فتاوى القماط ما حاصله جواز استعمال الدواء لمنع الحيض، وأما العزل فمكروه مطلقاً إن فعله تحرزاً عن الولد. (مسألة): امرأة حامل من زوجها بنكاح صحيح، أمرتها أمها أن تتسبب في إسقاط حملها، فشربت دواء حتى أسقطت ذكراً وأنثى ميتين، فإن قال الأطباء: إن مثل هذا الدواء يسقط الحمل فعلى الشاربة غرتان وكفارتان، وكل غرة عبد أو أمة مميز سليم من عيب المبيع تبلغ قيمته نصف عشر الدية المغلظة، والكفارة عتق رقبة مؤمنة ثم صيام شهرين متتابعين، وتأثم الشاربة والآمرة لها بذلك. (مسألة): أقر بأنه جعل لفلان الميت سماً، فإن أوجره إياه في طعام وكان مما يقتل مثل الوجر غالباً فمات وجب القصاص بشرطه، وإن قال له كله أو قربه له ضيافة أو دسه في طعام يأكل منه غالباً فأكله وهو مميز جاهل بكونه مسموماً ومات وجب دية شبه العمد. (مسألة): نصب سكيناً أو حربة في ملكه لم يضمن ما تولد من ذلك كما في الروضة، وإن نصبهما في غير ملكه عدواناً ضمن. (مسألة): جنى على آخر جناية توجب القصاص فصالحه على نحو عبد جاز، وإن لم تكن الدية معلومة لهما، بخلاف ما إذا أوجبت الجناية الدية ابتداء، فإن علمت صفات الإبل صح الصلح على المرجح وإلا فلا، والمراد بعلمها العلم بأعدادها وأسنانها لا معرفة ألوانها. (مسألة): رمى إلى شاخص فأصاب إنساناً في فخذه وخرج من الجانب الآخر كان خطأ، فتجب الحكومة وهي جزء من الدية، نسبته إليها نسبة ما تقتضيه الجناية من قيمة المجني عليه على تقدير تقويمه رقيقاً، فيقوّم المجني عليه بصفاته التي هو عليها وينظر كم نقصت الجناية(1/196)
من قيمته، وتكون الحكومة من جنس الإبل، وعلى العاقلة على المشهور، وأما التقويم فبالإبل أو بالنقد، فإن فقدت العاقلة أو لم تف وتعذر بيت المال فعلى الجاني مؤجلة على التفصيل الذي ذكروه في محله. (مسألة): ضرب صلبه ومثانته بمثقل عمداً، فأشلّ ذكره وأبطل مشيه ثم مات بالسراية وجب القصاص بشرطه وسقطت دية الذكر والمشي بموت المجني عليه، فلو أبرأ المجني عليه في حياته عن دية الذكر لم يصح الإبراء لتبين سقوطها بموته، فهو إبراء عما لم يجب، ولورثته أن يقتصوا في النفس بشرطه، ويجب رد ما أخذه المجني عليه من الدية وبدله من التركة إن تلف. (مسألة): جرحه جرحاً خفيفاً بأن لم يظهر فيه نقص إلا في حال جريان الدم اعتبر، فإن لم يظهر النقص أصلاً لخفة الجراحة وجهان: المعتمد أن الحاكم يوجب شيئاً من الدية باجتهاده. والثاني أنه كاللطم فيعزره بما يراه زاجراً له عن مثله سواء تعددت الجراحات أم لا، كأن لطمه لطمات كثيرة فلا يقال لكل لطمة تعزير. (مسألة): حديث: "ما ترك القاتل على المقتول ذنباً إلا اجتثه"، ذكر السيوطي والدبيعي عن ابن كثير أنه لا أصل له، قالا: وبمعناه حديث: "إن السيف محاء للخطايا"، أخرجه أحمد وابن حبان، وأخرج الديلمي وأبو نعيم: "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه" ومعنى الاجتثاث الاستئصال. (مسألة): الصحيح عند الريمي أن السمع أفضل من البصر، وقال الدميري: هو أشرف عند أكثر الفقهاء، وقال أكثر المتكلمين: البصر أفضل.
القسامة
(مسألة): شهدت بينة بأنه أقر بقتل فلان إقراراً مطلقاً من غير ذكر عمد أو ضديه استفاد بها كرر ذلك لوثاً تثبت به القسامة إن فصل الوارث في الدعوى، كما ذكره صالح البلقيني، وإلا لم تسمع دعواه ولا بينته.
الردة(1/197)
(مسألة): رجل قال في حلفه: ورأس علي بن عمر الشاذلي الذي ما مثله إلا النبي أجريت عليه أحكام الردة فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل بردته لفعله هذا الشنيع من تشبيه سيد الكونين صلوات الله وسلامه عليه بغيره، كيف وقد قال في الشفاء في أبي نواس إنه كفر أو قارب بتشبيه محمد الأمين بالنبي، وهذا أعظم منه. (مسألة): امرأة مزوّجة قالت: يلزمني الكفر والإشراك لأفعلنّ كذا ولم تفعله، فإن قصدت بذلك حقيقة الكفر والعياذ بالله فهي مرتدة، فتنجز فرقتها إن كانت غير مدخول بها، وإلا وقفت على انقضاء العدة، فإن عادت إلى الإسلام دام النكاح، وإلا ثبتت الفرقة من حين الحلف، وإن لم تقصد حقيقته وإنما قصدت حثها على الفعل فلا كفر، لكنها تأثم إثماً عظيماً، وتجب عليها التوبة، ويندب النطق بالشهادتين، إذ لا يصدر هذا ممن مازج الإيمان لحمه ودمه.
حد القذف(1/198)
(مسألة): سبّ آخر بالفسق وشرب الخمر ولم يكن المسبوب بهذه الصفة بل هو طالب علم وعفيف عما ذكره أثم السابّ واستحق التعزير بما يراه الحاكم من الضرب والنفي والحبس وغيرها، وله أن يجمع بين نوعين فأكثر، ولا يبلغ به أدنى الحدود، ولا يخفى أن الوقوع في أهل العلم من كبائر الذنوب كما اتفق عليه أصحابنا، ففاعله فاسق مردود الشهادة، وعلى والي الأمر المبالغة في التنكيل به لئلا يكون ذلك ذريعة إلى احتقار العلماء، وهذا إن لم يستحل أذاهم واحتقارهم عالماً بذلك، وإلا فهو مرتدّ يقتل بردته إذا لم يتب، وقد جرّب أن من وقع في العلماء أو طلبة العلم امتحن بسوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى. (مسألة): قال لآخر: يا مخنث يا قوّاد يا علق، صار قاذفاً بقوله أنت مخنث، فعليه حدّ القذف بشرطه، وعليه التعزير في يا قواد يا علق. (مسألة): تسابا ثم تشاكيا، فإن كان ما تسابا به كذباً محضاً أثما بذلك وعزرا، ويكون تعزير المبتدي أبلغ، ويجوز لمن سبه آخر أن يقتصّ بمثل ما سبه بما لا كذب فيه، ولا قذف ظالم ويا أحمق، إذ لا ينفك أحد من ذلك غالباً، وإذا سبه فقد استوفى ظلامته، وبقي على المبتدي إثم الابتداء لحق الله تعالى. (مسألة): مر في الطريق فوجد غصن شوك فنخزه، فقالت له امرأة: تدير الشوك من الطريق لعن الله والديك، فقال لها: تلعنين والديّ يا أم الخفية، فقالت له: سروالي خير منك، فالمرأة المذكورة بعد أن سبها المذكور استوفت ظلامتها بقولي سروالي الخ، وبقي عليها لعن والديه فتستحق التعزير بالطلب حيث ثبت ذلك.
السرقة(1/199)
(مسألة): دار في بلدة محرزة بشروطها من حارس وغلق وغير ذلك، وفي داخلها بيت أو بيوت مغلقة بلا حارس، كان البيت أو البيوت حرزاً لما فيها كما في العباب. (مسألة): دار متصلة بالدور الآهلة مفتوح بابها وفيها بيت مغلق كان حرزاً لما فيه لكن نهاراً في زمن الأمن فقط، وإن لم يكن ثم حارس والمخزن الصغير المغلق والصندوق الكبير الذي لا يمكن حمله ملحق بالبيت المغلق في الدار المفتوح بابها بشرطه فلا يضمن نحو الوديعة بوضعها في ذلك. (مسألة): الدور التي هي طبقات لا يكفي أن يكون الملاحظ في الطبقة العليا وباب السفلى مفتوح إلا إن لاحظ جميع الطبقات.
ضمان المتلفات(1/200)
(مسألة): يحرم على من لم يعرف الطب وقوانينه المعروفة عند أهله الإقدام على التطبب من الكتب المصنفة في ذلك من غير خبرة بمعرفة العلة جنساً ونوعاً، والتمييز بين البلدان والأزمان والأسنان، ويفسق بتعاطيه لذلك وتردّ شهادته، ويضمن ما تولد من تطببه لقوله عليه الصلاة والسلام: "من طبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" رواه أبو دواد والنسائي، ويعرف عدم تطببه بقول عدلين طبيبين غير عدوين، فلو قال غير العارف للمريض: ابلع هذا الدواء فبلعه، فإن كان مميزاً وجبت الدية، وإلا فالقصاص بشرطه، أما العارف بالطب فلا ضمان عليه إن كان صدوقاً عدلاً صاحب ذكاء وحذق ومهارة، بأن استفاض في الناس منه ذلك كله وصدقوه من كثرة تجاريبه في المعالجة، وعليه يحمل كلام من أطلق الضمان وعدمه. (مسألة): ما اعتاده الناس من الشلي عند ظهور الجدري المسمى بالمساباة، ويجعلونه لأجل تخفيف العلة ودفعه، وذلك أمر استقرائي كاف في جواز الإقدام على ذلك، كما يجوز الإقدام على قطع اليد المتأكلة لغلبة ظن السلامة، بل ظن السلامة في الشلي أغلب منه في قطع المتأكلة، وبلغني عن بعض الحكماء الصلحاء العارفين بالطب أنه قال: إذا وقع الجدري في جهة فينبغي أن يسابي لمن لم يكن قد أتاه قبل حدوث مبادي الحمى فيه، فإن ذلك ينفعه نفعاً بيناً على ما أفاده الاستقراء، وبعد حدوث المبادي لا ينفعه في الدفع ولا التخفيف، وأما نفس المساباة فلا يتولد منها ضرر أصلاً، وإن وجد هلاك فلا يحال عليه، وهي أحسن ما يداوى به صاحب هذه العلة قبل حدوث مباديها اهـ. (مسألة): جرى في الإحياء على تحريم تثقيب آذان الصبية لأجل تعليق الحليّ ووجوب المنع منه وحرمة الاستئجار عليه، وتبعه الدميري والمزجد، وقال السمهودي: يجوز، بل نقل عن ابن عباس أن تثقيب آذان الصبي من السنّة فضلاً عن الأنثى، وعن بعض الحنابلة يجوز للبنات ويكره للصبيان، وقال السهيلي: أول امرأة ثقبت أذنها وأول امرأة ختنت هاجر أم إسماعيل عليه(1/201)
السلام، وذلك أن سارة غضبت عليها فحلفت أن تقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها، فأمرها إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن تبرّ قسمها بتثقيب أذنيها وخفاضها فصار سنة في النساء. (مسألة): يحرم جعل شواهد للعبد في وجهه وهي اللعوط ليتميز عن الأحرار، وإن كان معتاداً فيجب المنع منه لأنه جرح مؤلم، ولا يجوز الجرح إلا لحاجة مهمة كفصد وحجامة.
التعزير
(مسألة): إذا امتنع العبد من خدمة سيده الخدمة الواجبة عليه شرعاً فله ضربه ضرباً غير مبرح إن أجدى فيه ذلك، وليس له الضرب المبرح بل يمنعه الحاكم منه، فإن لم يمتنع فهو كما لو كلفه من العمل ما لا يطيق بل أولى، إذ هذا ربما أدى إلى الزهوق بجامع التحريم، فحينئذ يبيعه عليه إن تعين طريقاً بما انتهت إليه الرغبات في ذلك الزمان والمكان. (مسألة): لا يجوز التعزير بأخذ الأموال ولا يكفر بمجرد أخذها. (مسألة): حبس بين جماعة فغلبه الحدث وخرج منه صوت من غير قصد وفي كتم ذلك ضرر بين، فسبه الحاضرون بقوله: أنت قليل الحياء ما لك إلا التعزير، فطلبه المسبوب إلى الحاكم عزره بما يراه، لأن السابّ المذكور ارتكب أنواعاً من الفساد بارتكابه ما نهي عنه من الاستهزاء والسخرية والسب.
متلفات البهائم(1/202)
(مسألة): بقرة عهد منها التعدي على ردع البهائم واعتادت ذلك، وجب على من هي تحت يده ربطها كالهرة الضارية، حتى لو قصر في حفظها ولم يربطها أو ربطها وقصر في عدم توثيق الرباط فانفلتت وأتلفت بهيمة ضمن، وإن كان غائباً حال الانفلات والإتلاف، كما ذكروه في الهرة فهي مثال وغيرها من كل حيوان يعهد بالتعدي، وإعناد هذا يضمن من هو تحت يده من مالك أو غيره، والمراد بالعادة في الردع المذكور أن يكون مثله يتلف غالباً، ولا عبرة بالردع الخفيف الذي لا تخلو منه الدواب. (مسألة): نحل عرف من عادته أنه متى فك من كوارته آذى الناس، لم يجب على مالكها نقلها ولا ضمان ما أتلفته وما ضرت به الثمار، فلو أنها قتلت إنساناً، أو غيره لم يلزم مالكها الغرامة لأنه لا يمكن ضبطها. (مسألة): بكرة لم تحبل ومن عادة الإبل إذا تعاظمت ولم تحبل أن يدخل رجل من أهل المعرفة في فرجها عوداً قدراً معلوماً يقطع به شيئاً يشبه العذرة ويطرقها الفحل فوراً تحبل ويقال لذلك شوار، فقال مالكها لرجل: ألك معرفة تشور؟ قال: نعم فشور له فمرضت البكرة من تلك الساعة وماتت بعد أيام، ففتش فرجها فوجد المشوّر قد خرقها وكان موتها بسبب ذلك، ضمنها المشور المذكور ما لم يكن خبيراً بذلك ببينة أو استفاضة، نعم إن قال مالكها: أدخل في فرجها هذا القدر من العود لم يكن ضامناً.
(مسألة): بقرة معروفة بنطح البهائم فلم يربطها صاحبها فنطحت حينئذ بقرة آخر غائباً وجرحت بالنطح جراحات متعددة وصارت كالتالفة ولم ترج حياتها، فأمر نائب البلد بذبحها، ضمن صاحب البقرة المقصر في ربطها البقرة المنطوحة بقيمتها مجروحة حال الذبح، وضمنها الذابح حال الذبح إن كان لها قيمة هناك، وإلا اعتبرت قيمتها بأقرب البلاد إليها ولا تهدر.
السير(1/203)
(مسألة): ليس استحباب الخروج من الخلاف بشرطه خاصاً بالأئمة الأربعة فقط، بل الخلاف المذهبي كذلك، وللخروج من الخلاف شروط ذكرها الزركشي في قواعده، وحينئذ يجوز للقاضي تحليف المقرة ببلوغها بالحيض خروجاً من الخلاف حيث وافقته عليه، فلو امتنعت فليس له ولا لولي نكاحها الامتناع من تزويجها حتى تحلف بل يصير بها عاضلاً، ولهذا قال ابن عبد السلام: قد يتعذر الورع على الحاكم في مسائل الخلاف. (مسألة): يحرم التفرج على الكفار في حال قتالهم لأن ذلك تكثير لسوادهم، ويحرم إعانة إحدى الطائفتين في حروبهم وتحريضها وقتال الآخرين لأجلهم من غير ضرورة، ومن قتل من المسلمين حينئذ لم يكن كشهيد المعركة بل يغسل ويصلى عليه.
الفيء والغنيمة والجزية
(مسألة): جارية من الغنيمة لم تقسم القسمة الشرعية، أعتقها شخص من أهل الغنيمة وكان عتقه بعد اختيار الملك وهو موسر عتقت وقوّم عليه الباقي. (مسألة): يمنع الذمي بدار الإسلام من الجهر بنحو التوراة ومن إشهارها والاجتماع عليها في كنائسهم، وإن لم يشرط عليهم ذلك في عقد الجزية، بل يعزرون إن فعلوا شيئاً من ذلك بأنواع التعزيرات من حبس أو نفي أو تسويد وجه، ويجب على كل من رآهم يفعلون ذلك رفعهم إلى الحاكم، ويمنعون أيضاً من إظهار دفن موتاهم ولا يخرجون جنائزهم ظاهراً، نعم إن خافوا اللصوص في الدفن ليلاً جاز نهاراً وليس لأحد منعهم حينئذ. (مسألة): أحدث الذمي كوة في قبالة حارة المسلم يطلع منها على عورات المسلم وبينهما نحو خمس عشرة ذراعاً أجبر على إزالتها وعزر تعزيراً بليغاً ليرتدع عن إيذاء المسلمين.
المسابقة(1/204)
(مسألة): لا يحل أن يتراهن شخصان على قوة يختبران بها أنفسهما على عمل فيقول أحدهما مثلاً: إن قدرت على رقيّ هذا الجبل أو إن قللت هذا فلك كذا، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، ومن هذا النمط أن يقول واحد لآخر: إن حملت كذا من بلد كذا إلى كذا فلك كذا، يجعل للساعي الذي يقطع مسيرة أيام في يوم، ومنه أن يقول لآخر: إن تخرج من أوّل النهار إلى بلد كذا وترجع قبل الغروب فلك كذا، ويقول الآخر: وأنت لك عندي كذا إن لم أقدر وأشباه ذلك، فلا يلزم المال في الحالين.
العقيقة ولواحقها
(مسألة): التسمية بعبد النبي ونحوه لا تحرم إلا إذا قصد حقيقة العبودية، وقد غلب على الفقراء المنتسبين إلى المشايخ من أهل الله تعالى أن يقول أحدهم: أنا عبد سيدي الشيخ ولا يريدون بذلك إلا شرف النسبة لا حقيقة العبودية التي لله تعالى، ولو قيل لإنسان: ما اسمك؟ قال: عبدكم محمد يريد اسمي محمد وقصد به الأدب كما هو المعروف لم يحرم، ومثل ذلك قوله: سيدي فلان، ففي الحديث: "قوموا لسيدكم" وقال عمر: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا يعني بلالاً رضي الله عنهم. (مسألة): قولهم: تعطى القابلة رجل العقيقة ظاهر إطلاقهم أنها تعطاها من أصل الفخذ.
الأطعمة(1/205)
(مسألة): يحل أكل الضبع وإن تقوّى بنابه كضبع الحبشة لثبوت حله بالنص والإجماع، فلا يلحق بما يتقوى بنابه، بخلاف نحو الزرافة إذا تقوّت بنابها فتلحق كما قال السبكي بما يحرم، والفرق وجود النص فيه دونها. (مسألة): روث السمك نجس، ويجوز أكل صغاره قبل شقّ جوفه، ويعفى عن روث تعسر تنقيته وإخراجه، لكن يكره كما في الروضة، ويؤخذ منه أنه لا يجوز أكل كباره قبل إخراج روثه لعدم المشقة في ذلك، ومثله أخذ دهنه قبل شق جوفه إذا لاقى شيئاً من روثه. (مسألة): لا يجوز لمسلم أن يدفع ميتة لكافر يأكلها لأنه من جملة المعاصي المأمور بتركها وإن أقرّ عليها كشرب الخمر ونحوه. (مسألة): دلت الأحاديث على أن النبي يعجبه اللحم والحلو والعسل، وذلك يدل على أن هذه الثلاثة أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء، لكن ورد: "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم". وعن علي كرم الله وجهه يرفعه: سيد طعام الدنيا اللحم والأرز. قال الأزهري: وأكل اللحم يزيد سبعين قوة، ومن تركه أربعين يوماً ساء خلقه، فظهر بذلك أن اللحم من حيث صلاحيته للغذاء أو نفعه للبدن أفضل، والخبز أفضل من حيث كونه قوام الجسد ومتخذاً من الحبوب المقتاتة، ولهذا لا يجزي اللحم في الفطرة. (مسألة): يجوز للمضطر أخذ طعام الغير الفاضل عن حاجته الناجزة قهراً وقتاله عليه، ويهدر الممتنع العالم بوجوب البذل، ولا فرق في المضطر بين المسلم والذميّ والمستأمن، والفرق بينه وبين عدم جواز أكل الذمي المضطر من ميتة المسلم على الممتنع بوجوب البذل.
الأيمان(1/206)
(مسألة): حلف ليقرأ بأفضل سور القرآن برّ بفاتحة الكتاب أو بأفضل آي القرآن فبآية الكرسي، وقال الروياني: البسملة أفضل، ومعنى الأفضلية أن ثواب بعضه أفضل من بعض، فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني لا من حيث الصفة، فلهذا ينبغي التأدب معه فيقال أعظم لا أفضل، ولعل هذا هو السر في منع الأشعري المفاضلة يعني التصريح بها بلفظ الأفضل. (مسألة): أفضل الذكر لا إله إلا الله، ولم أقف على مفاضلة بين التسبيح والتحميد والاستغفار، وفي بهجة المحافل للعامري: أن الصلاة على النبي مشتملة على ذكر الله تعالى وذكر رسوله فهي أفضل الأذكار اهـ. وقال عليّ كرم الله وجهه: لولا أن أنسى ذكر الله تعالى ما تقربت إلى الله عز وجل إلا بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فإني سمعته يقول: "قال جبريل: يا محمد إن الله تعالى يقول: من صلى عليك عشر مرات استوجب الأمان". ولولا قوله : "أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله" لقلت: إنها أفضل الأذكار مطلقاً، فهي أفضلها بعد لا إله إلا الله". وقد أطال في القول البديع في فضائلها: منها تكفير الخطايا، وتزكية الأعمال، ورفع الدرجات، ومغفرة الذنوب، واستغفارها لقائلها، وكتاب قيراط مثل أحد من الأجر، وكفاية أمر الدنيا والآخرة لمن جعل صلاته كلها صلاة عليه، وفضلها على عتق الرقاب، والنجاة بها من الأهوال، وشهادة الرسول بها، ووجوب الشفاعة، ورؤية النبي في المنام، ورضا الله تعالى عنه، والدخول تحت ظل العرش والجواز على الصراط، ورؤية المقعد المقرب من الجنة قبل الموت ورجحانها على أكثر من عشرين غزوة، وقيامها مقام الصدقة للمعسر، وتقضى بها مائة حاجة بل أكثر، وإنها أحب الأعمال إلى الله تعالى، وتنفي الفقر، وتطهر القلب، وهي من أبرك الأعمال، فأخلق بما هذا ثوابه أن يكون أفضل الأذكار، رزقنا الله المداومة عليها آمين. (مسألة): صحب شخصاً لما أظهر له من الصداقة والديانة، حتى جرأه ذلك على معاملته(1/207)
ومخالطته بالأموال الكثيرة، ثم خانه ذلك الشخص وأنكره وحلف له أثم بذلك باطناً إثماً عظيماً، وصدق عليه أن فيه خصلة من النفاق حتى يدعها كما في الحديث الصحيح، ويدخل بيمينه الفاجرة في وعيد قوله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} الآية، وفي وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" وهي اليمين الغموس التي يغمس صاحبها في النار، وهي الحالقة للدين والولد، ويخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله.
النذر(1/208)
(مسألة): اشترى بناء موضوعاً بحق في أرض موقوفة، ثم استأجر الأرض من ناظر الوقف فأذن لشخص أن ينتفع به، فنذر المأذون له للآذن بخمسة دراهم كل يوم ما دام مقيماً في مكانه الذي يملك منفعته صح الاستئجار والنذر المذكوران، فلو انقضت مدة إجارة المنذور له واستأجرها الناذر وملك المنفعة واستمرّ مقيماً، فالذي يظهر وتقتضيه القواعد بقاء النذر وهو الخمسة الدراهم كل يوم للمنذور له تغليباً للإشارة، لأن قوله: ما دام مقيماً في مكانه الخ مراده بالمكان الأرض المشار إليها في صدر الكلام، فكأنه أشار إليها وألغى الوصف المذكور، فلا يضرّ زواله بملك المنفعة، لأن الوصف لا يجري مجرى الشرط بدليل طلقتك بهذا الهروي فبان مروياً فيقع بخلافه وهو هروي. (مسألة): نذر لآخر بما يخصه من شقاء وعناء في أرض سلطانية على أن ينذر له بأربعين أوقية فقال يعني المنذور له: لله عليّ نذر عليك بأربعين أوقية معلقاً إن صح نذرك الأوّل عليّ، أو قال قائل: لله عليّ أن أتصدق عليك بكذا إن نذرت أن تتصدق عليّ بكذا، فنذر الثاني بناء على الأوّل لم يصح النذر في الصور الجميع، لأن النذر والصدقة لا يقبلان المعاوضة. (مسألة): نذر لآخر بأربعين أشرفياً، ثم نذر الآخر عليه بما يقابل ذلك بأربعين أوقية أشرفية على صحة نذره له بصيغة: إن رزقت قول لا إله إلا الله فلك عليّ أربعون أوقية أشرفية، إن صح نذرك صح النذر المذكور، كما أفتى به أبو زرعة في نظير ذلك، وليس هو كمن نذر للمشتري بكذا إذا خرج المبيع مستحقاً، لأن ذلك نذر لجاج فلا يجب الوفاء به، كما نقله الشيخان عن الغزالي وأقره، ولا يصدق على هذا أنه نذر تبرر بل نذر مجازاة، وضابطه بأن يعلق القربة على حصول ما يجوز أن يدعو الله به ويسأله إياه فإذا حصل لزمه الوفاء به. (مسألة): ليس للأب الرجوع فيما نذر به لولده على المعتمد كما أفتى به القماط ومال إليه الأزرق. (مسألة): المعتمد في نذرت لك بكذا أو نذرت عليك بكذا أنه(1/209)
كناية، فإن نوى به النذر عمل به، وإن أطلق ولا بينة فينبغي إلغاؤه تمسكاً بأصل براءة ذمته، والقول قوله بيمينه، كما قرر ذلك السمهودي وأفتى به ابن قاضي شهبة والكمال الرداد مرة، وأفتى الريمي والكمال الرداد مرة أخرى بصراحته واقتضاه كلام ابن زرعة. واعلم أن نذر التبرر قسمان: أحدهما وهو الأولى للخروج من الخلاف أن يلتزم قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة، كأن شفى الله مريضي فعليّ كذا، أو لله عليّ كذا، فيلزم ذلك إذا حصل بلا خلاف، ومنه ما يعتاد الناس: إن عافاني الله إلى أن أقول لا إله إلا الله فللَّه عليّ كذا، أو فللَّه عليّ لفلان كذا. الثاني أن لا يعلقه بشيء كللَّه علَّي صوم يوم أو لفلان كذا، فيلزمه ذلك في الأظهر، وفيه قول أنه لا يصح. (مسألة): نذر لآخر بالمرور معه في بيته إلى بئر ماء يستقي منها نذراً معلقاً، فالذي يتبادر إلى الذهن أنه نذر له بالمرور كذلك، وكذا بالاستقاء من البئر وذلك صحيح فليس له الرجوع، وللمنذور له أن يستقي بحسب حاجته، وله أن ينذر بذلك لآخر، كما لو أوصى لآخر بسكنى فإنه تمليك لا إباحة، فإن نذر له أن يمر فهو كما لو أوصى له أن يسكن هذه الدار، فليس له في هذه الصورة أن يؤجر ولا أن يعير، والفرق بينه وبين المرور الذي هو نظير السكنى أنه عبر بالفعل وأسنده إلى المخاطب، فاقتضى قصوره على مباشرته بخلافه في ذينك نص على ذلك الشيخ زكريا، والوصية والنذر من واد واحد، وبخلاف ما لو أوصى أو نذر بمنفعة دار لآخر فإنه يصح أن يسك غيره بإجارة أو إعارة أو نذر. (مسألة): نذرت بصداقها قبل أن تقبضه صح النذر إن كان عيناً كعبد أو أرض مثلاً، وكذا إن كان ديناً بناء على صحة النذر بالدين لأجنبي وهو المعتمد، كما أفتى به الرداد والفتى والبكري خلافاً لابن عطيفي. (مسألة): أسلم إليه مائة دينار في عشرة أثمان طعام موصوف بصفات السلم، ثم نذر له أنه إذا أوفاه للأجل المذكور بقدر من الطعام الموصوف بما ذكر قيمته مائة(1/210)
وخمسون ديناراً أن يبرئه عن الطعام المسلم فيه، ثم ألزم المسلم إليه ذمته قدراً للمسلم بما ثمنه المائة والخمسون لم يصح نذر الإبراء، إذ قد يجيء الرجل وقيمة المسلم فيه أقل من مائة وخمسين ديناراً أو مساو لها، فلا قربة في الإبراء حينئذ، نعم لو نذر له أنه إذا أوفاه من الطعام الموصوف كذا أن يبرئه عن الزائد بذمته صلح لوجود القربة حينئذ، وإذ لم يصح النذر فلا حاجة إلى التزام المسلم إليه الدراهم المذكورة لأن ذلك يضره. (مسألة): تزوّج امرأة في بلد أمها ونذر أنه إن نقلها إلى غيرها بغير إذن أبويها وجدها أن يسلم لجدّها ما بدت به لسانه وهي طالق، صح تعليق الطلاق لا النذر لاشتماله على غرر يتعذر الوصول إلى معرفته، ومحل صحة النذر بالمجهول إذا كانت الجهالة يحيط العلم بها ولو من بعض الوجوه، وإذا سافر بها من غير رضاهم وقع الطلاق رجعياً. (مسألة): نذر له بمنفعة الشجر أو النخل مدة معلومة ملك جميع فوائده من ثمر وسعف وليف وعراجين وكف وكرب، إذ يطلق على الجميع منافع، ومنه يعلم أن المنفعة أعم من الثمر. (مسألة): نذر على آخر بجميع ما يستحقه في ذمته، فلما تبين له كثرته قال: ما نذرت إلا لظني قلته صح النذر المذكور، ولا عبرة بظنه غايته أنه نذر بمجهول وهو صحيح. (مسألة): يصح النذر بمنفعة الوقف من الموقوف عليه مطلقاً، علم الناذر المنذور بمنفعته أو جهله على المعتمد، وكذا إجارته بدون أجرة المثل إن انحصر الوقف فيه وكان هو الناظر على المعتمد أيضاً، وإذا مات الناذر المؤجر بطل النذر والإجارة المذكوران. (مسألة): نقل أرضاً يملك فيها عناء محترماً له قيمة على آخر بمال سلمه، ثم نذر المنتقل للناقل أنه إذا سلم إليه مال النقلة عند نجم كذا، بعد أن يسلم إليه دينه الذي يستحقه عليه غير مال النقلة، أن ينزل عن النقلة وينذر له بالعناء المحترم الموجود في الأرض صح، فلو مات الناقل قبل تسليم ما ذكر ومضي المدة المعينة بطل النذر بموته ولا(1/211)
ينتقل إلى وارثه. (مسألة): نذر بماله إلى آخر وهو محتاج إليه لنفقة عياله ودينه وقصد الفرار من قضائه لم يصح النذر لانتفاء القربة وهو ظاهر، وقد أفتى به الطنبداوي تبعاً للرداد، قلت: خالفه ابن حجر وصحح الجواز وصنف في ذلك كتاباً سماه قرة العين بحكم جواز التصرف لمن عليه دين. (مسألة): النذر للميت بقصد تمليكه باطل، وعليه يحمل كلام من أفتى ببطلانه كالأزرق، إذ لا سبيل إلى تمليكه غالباً على أنه يبعد من الناذر قصد تمليكه حتى من الجهال، إذ قرائن أحوالهم تدلّ على أنهم يقصدون التصدق بذلك على خدامه وأقاربه، ولا يقدح في ذلك ما قد يقصدونه من التقرب إلى الميت بمعنى حصول الخير لهم أو دفع الضرر عنهم ببركته، وقد قال الخطيب في مشهد عبد الله بن محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم المشهور ببغداد بقبر النذور، سمي بذلك لأنه ما قصد لحاجة إلا قضيت، وأنا قصدته مراراً كثيرة ونذرت له وحصل لي المقصود اهـ. وناهيك به ونعم القدوة فإنه كان حافظ أهل زمانه بالاتفاق، إذا علمت ذلك فحيث قصد الناذر الخدام والصرف إلى مصالح التربة حمل عليه ولا يستحق أولاد الميت شيئاً بطريق الإرث، فإن قصدهم الناذر بذلك عمل بقصده وإلا فلا اعتراض لهم حينئذ. (مسألة): النذر لبعض الأولاد باطل على الراجح المعتمد المفتى به لانتفاء القربة إذ هو شديد الكراهة، بل قال بتحريم تفضيل بعض الأولاد في العطية مطلقاً ابن حبان من أئمتنا وأحمد لما في الصحيحين في قصة الذي نحل بعض بنيه وقال له : "لا تشهدني أذاً فإني لا أشهد على جور" وممن أفتى بالبطلان أيضاً الفتى والرداد والقماط والطنبداوي، هذا إذا لم يكن في المنذور عليه ما يبيح تفضيله، كحاجة وزمانة وكثرة عائلة أو اشتغال بعلم، والأصح كما قاله الدميري وابن الرفعة والقمولي وغيرهم، وأفتى بالصحة مطلقاً جماعة منهم الحباني وعبد الله بن أحمد مخرمة واقتضاه كلام السمهودي، نعم إن نذر لبعضهم بنية أن ينذر للباقين(1/212)
وكان موسراً بعد النذر بما تمكن التسوية بينهم صح نذره. (مسألة): رجل قيم على تركة أبيه، تواطأ هو وبعض أخواته على أن تنذر له بما يخصها من التركة في مقابلة حفظه خوفاً عليه من زوجها وهو باق لها لا يختلف عليها، فنذرت بما جره الإرث إليها بالقصد المذكور ولم تنو القربة، وإنما قصدت حفظ مالها لكونها عامية لا تعرف أنواع النذر بالقرب من غيرها، فهذا النذر لا يصح في مقابلة ما ذكر لا سيما إذا كانت الناذرة عامية، فقد صرّح ابن عبد السلام في قواعده بأن من نطق بكلام لا يعرف مدلوله ولا معناه أنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك وهو ظاهر، وقد عمت البلوى بتلقين العوام عقوداً ونذوراً لا يفهمون معناها، ويضع قضاة الوقت خطوطهم على ذلك من غير بحث فلا عبرة به، وإذا ادعت المرأة أنها لا تعرف مدلول النذر الذي تلفظت به وكانت ممن يخفى ذلك عليها لعاميتها فالقول قولها بيمينها، وإن صدر ذلك منها في حال صغرها أو بعد بلوغها وقبل رشدها فغير صحيح مطلقاً، وينعزل القيم المذكور بطلبه للنذر منها إذ هو حينئذ فاسق ويصير كالغاصب المتعدي. (مسألة): قال: نذرت لله بتحمل ما ثبت على فلان من الديون قليلة أو كثيرة صح وكان صريحاً لتصريحه باسم الله تعالى، ولو قال: نذرت لفلان بمائة دينار إذا نازعه أو عارضه أحد فيما اشتراه من فلان فالتحقيق أنه كناية، فإن نوى به النذر كان نذر لجاج يخير عند وجود المنازعة أو المعارضة بين الوفاء بما التزمه وبين كفارة يمين. (مسألة): خطب امرأة إلى وليها فأجابه ثم قال: أخاف أن تطلب الانتقال بها إلى منزلك بعد التزويج بها، فقال الخاطب: نذرت لله تعالى أنه إن منّ الله عليّ وتزوّجت بموليتك فلله عليّ إذا طلبت إخراجها من المنزل الذي تختاره ولا رغبة لكما في الخروج منها ورغبتها في الإقامة فيه أن أسعفكما برغبتكما ولا أخرجها من المنزل المذكور صح النذر، فليس له إخراجها والحال ما ذكر ما دامت رغبتهما في الإقامة في المنزل وفاء(1/213)
بالنذر. (مسألة): عليه لآخر مائة دينار، فجاء إليه بنصفها وطلب منه الإمهال في الباقي إلى شهر كذا، فأبى الدائن فقال له المدين: إن لم أسلم لك النصف الآخر إلى شهر كذا فقد نذرت لك بهذه الخمسين فأخذها منه صح نذره، وكان نذر لجاج يخير الناذر بين الوفاء وكفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، يخير بين هذه الثلاثة فإن عجز عنها صام ثلاثة أيام. (مسألة): نذرت بجميع ما تملك من عقار وغيره لآخر قاصدة به حرمان ورثتها صح النذر على المعتمد، خلافاً للطنبداوي وأبي قضام، كما لو نذرت لبنتها بمال وماتت فادعى أبوها أنها قصدت حرمانه عن الإرث لم تسمع دعواه كما قاله الناشري، بل لو صرحت بعد نذرها أنها قصدت الحرمان لم يقبل منها لتعلق حق المنذور له به، فلا يقدر الناذر على إبطاله، ولهذا لا تسمع الدعوى بذلك بل وإن صدّقها المنذور له عكس الإقرار، فإنه إذا كذب المقرّ له بطل إذ هو إخبار وهذا إنشاء وهو أقوى. (مسألة): لا يصح التصرف في المنذور به المعلق بصفة قبل وجودها، قلت: وافقه ابن عبسين وعبد الله بن أحمد مخرمة وغيرهما، وخالفه أبو مخرمة وأبو قشير، واختلف جواب ابن حجر في ذلك. (مسألة): رهنه عشرة دكاكين بدين له وأقبضه إياه، ثم نذر له بمنفعتها مدة بقاء الدين في ذمته صح النذر على المعتمد وفاقاً لحسين الأهدل والقماط والطنبداوي، فلو مات الناذر قبل وفاء الدين فالذي أعتمده وفاقاً للقماط بطلان النذر، فربما يكون سبباً لمبادرة الورثة إلى براءة ذمة الميت، ولا يحسب من الثلث لوقوعه حال الصحة. (مسألة): نذر على ذمي معين صح نذره، وكذا إن قال على أهل الذمة فيما يظهر لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل كبد رطبة أجر. (مسألة): يصح نقل العناء المحرم في أرض الوقف بالنذر، وأما النقل الذي يتعامل به الناس في النخل الظاهري فلا أصل له، وقول من قال: إن النقل في مقابلة طول النخل غير صحيح، إذ الزيادة تابعة للأصل، بخلاف(1/214)
العناء المحدث في الأراضي المزروعة فإن الناقل يملك عينه. (مسألة): رهنه قطعة أرض بدراهم وآجره إياها ثلاث سنين، ثم نذر المستأجر للمؤاجر بأنه إن سلم له الدراهم فسخ له فيما بقي من المدة، فإن كانت صيغة النذر أنه إذا سلم إلي الدراهم وطلب مني الإقالة في الإجارة أقلته، فإذا سلم الدراهم وطلب منه إقالة وجب عليه إقالته بحكم النذر، ولا تنفسخ الإجارة بمجرد التسليم، بل لا بد من التقابل، ولا يرجع المستأجر بما عمره في الأرض بلا إذن إلا إذا زادت بها الأرض وتناولها عقد الإجارة بأن توقف الانتفاع عليها وكانت بقية العمارة موجودة فيرجع بما زادت قيمة الأرض، أما نذر الفسخ من غير ذكر الإقالة ولا نيتها فلا يصح كما اقتضاه كلام الأسنوي. (مسألة): نذر لآخر بمال ثم أبرأه المنذور له صحت البراءة، ويفرق بينه وبين إبراء الفقراء المحصورين عن الزكاة من وجبت عليه، بأن وجوبها في العين والأعيان لا يبرأ منها، وبأن الزكاة تعبدية، وواجب الشرع لا يجوز إسقاطه. (مسألة): نذر التصدق بما يحصل له من ميراث مورثه والحال أن مورّثه حي صح نذره ولزمه الوفاء به، وليس له الرجوع فيه، وهو واضح لا تردد فيه كما قاله عبد الله بن أحمد مخرمة، وللمنذور له سؤال الحاكم الحكم له بصحة النذر وإلزام الوفاء به عند الوجوب. (مسألة): نذر لآخر بعين أرض مسلوبة المنفعة مدة حياة الناذر لأجل انتفاعه بها، وعمر الناذر الأرض ثم مات عادت الأرض ومنفعتها للمنذور له، وليس لورثة الناذر الانتفاع بها حينئذ. (مسألة): بعث شمعاً إلى مسجد وأسرجه فيه فبقي بعضه، نظر إلى قصد الباعث فإن قصد إسراجه في المسجد لم يجز لأحد المتوظفين كالإمام والمؤذن والمقيم أخذ شيء منه عملاً بقصده، وإن لم يعرف قصده وكان هناك عرف مطرد في ذلك بأن الباقي للمتوظفين فلهم، ويصرفه الناظر بحسب العادة الجارية، وليس لأحد منهم الاستبداد بأخذ شيء حينئذ، فإن أخذه ضمن للباقين، وإن اطرد العرف بأن يأخذه من(1/215)
سبق إلى أخذه استحقه السابق إليه، ويجب على الحاكم زجر المتعدي عن التعرض للمذكورين، وإجراء الجميع على ما يستحقونه شرعاً، وإن اطردت العادة بحفظه لإسراج المسجد أو بيعه وصرف ثمنه إلى مصالح المسجد عمل بذلك والمتولي لذلك الناظر أيضاً. (مسألة): نذر لبعض أولاده بنخل وأرض، وليس في المنذور له ما يبيح التخصيص من حاجة أو زمانة، فالمعتمد عدم النذر صحة، فلو حكم حاكم يرى صحة النذر بصحته فليس لحاكم آخر يرى بطلانه نقض الحكم بل عليه إمضاؤه لأنه من المسائل الاجتهادية، لا سيما وقد أفتى جماعة من أكابر الشافعية بصحته كالسمهودي وغيره. (مسألة): نذر لآخر بثمرة النخل عاماً معيناً، دخل فيه جميع تمر العام المذكور حتى ما أطلع ثانياً قبل جذاذ الأوّل. (مسألة): أرض فيها عناء محترم لورثة بعضهم محجور عليهم، فتهايأ البالغون وقيم المحجور عليهم الأرض من غير قسمة شرعية، ونذر القيم بما يخص المحجور لشركائه، فالنذر باطل والمهايأة غير لازمة لكل نقضها متى شاء. (مسألة): نذر أن لا يطالب مدينه إلا في البلد الفلانية، فالذي تقتضيه أصول قواعد المذهب بطلان النذر لما فيه من الإغرار، إذا اجتماعهما في البلد المعينة غير موثوق به، لا سيما إذا كانت بعيدة تحتاج إلى سفر، بخلاف النذر إلى الحصاد وقدوم الحاج مثلاً فإن له أمداً ابتداء وانتهاء فيصح تعليق النذر به، واغتفر هذا الغرر اليسير للوثوق بزمن الحصاد. (مسألة): قال: نذرت عليك هذا بكذا ونويا البيع لم ينعقد نذراً ولا بيعاً، إذ النذر لا يقبل العوض ولا يقاس على الهبة ذات الثواب إذ هي تقبله، وما نقل عن الأذرعي من أن الإبراء يقبل العوض فيما لو قال: أبرأتك من ديني بكذا صحيح، نقله الزركشي وصاحب العباب وأفتيت به مراراً وقياس النذر عليه بعيد.
القضاء(1/216)
(مسألة): قولهم: إنما يلزم القاضي القيام بالقضاء في ناحيته فقط، المراد بالناحية الجهة فالبلد وأعمالها يطلق عليها جهة فأنكر، وقد صرحوا بأن الإمام إذ اولاه قضاء بلد أو مدينة وصرح بدخول أعمالها أو خروجه اعتمده وإلا فالعرف المتقدم، فإن اختلف روعي الأكثر ثم أقربهما عهداً. (مسألة): يجب على الحاكم الوقوف على أحكام الشريعة التي أقيم لها ولا يتعداه إلى أحكام السياسة، بل يجب عليه قصر من تعدى ذلك وزجره وتعزيره وتعريفه أن الحق كذا (مسألة): القاضي المتعين للقضاء سواء كان مجتهداً مطلقاً أو مقلداً، لا ينعزل بعزله نفسه ولا بعزل من ولاه، لأنه إذا لم يوجد مجتهد وجب نصب مقلد. (مسألة): لا يستحق القاضي شيئاً من معلوم الوظيفة حتى يشرع في العمل أو التصدي لذلك بعد وصوله البلد، ولا شيء له مما قبضه القاضي الأوّل واستحقه قبل وصول الثاني واستحقاقه. (مسألة): ليس للقاضي أخذ عشر ما حكم به من نقد أو عقار، بل أخذه لذلك من أخذ مال الناس بالباطل وينعزل به ولا تنفذ أحكامه، وقول العباب للقاضي عشر أموال الأيتام فذاك في مقابلة أجرته في عمله في أموالهم لا في مقابلة القضاء، والعشر ليس بقيد، وإنما المقصود اعتبار أجرة مثل عمله، وليت شيخنا أضرب عن ذكر هذه المسألة في عبابه فإنها جرأت الحكام على أكل مال الأيتام، وقد بالغ ابن كج في إنكار ذلك أشد الإنكار وأقره عليه الرافعي، فإطلاق جواز ذلك باطل ليس لأحد نسبته للعلماء المعتمدين، نعم لو قال القاضي الذي لا رزق له في بيت المال ولا كفاية له للخصمين: لا أحكم بينكما حتى تجعلا لي رزقاً جاز بعشرة شروط: أن ينقطع عن كسبه، ويعلم به الخصمان قبل الترافع، ويكون عليهما معاً، ويأذن له الإمام، ويعجز عن رزقه، ويفقد متطوع، ولم يضر بالخصوم، ولا جاوز حاجته، واشتهر قدره، ويساوي بين الخصوم فيه إن استوى قدر نظره فيه وإلا جاز التفاوت، وقال السبكي: إذا ابتلي إنسان بالقضاء لا يحل له أن يأخذ عليه(1/217)
شيئاً إلا أن لا يرزقه الإمام أو يكتب مكتوباً يستحق أجرة مثله إذا لم يكن كتاب ذلك واجباً عليه، ولا يجوز أن يأخذ على الحكم، ولا على توليته نيابة القضاء، ولا مباشرة وقف أو مال يتيم شيئاً، وكذلك حاجب القاضي، وكل من تولى أمور المسلمين. (مسألة): النذر للقاضي إذا صدر من أهل محل ولايته فالظاهر الصحة والاحتياط التعفف. (مسألة): لا يكفي أن يكون في كل إقليم مفت واحد لعسر مراجعته، بل يجب لكل مسافة قصر مفت، وفرق بينه وبين قولهم: لا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاض لكثرة الخصومات وتكررها في اليوم الواحد من كثيرين، بخلاف الاستفتاء في الواقعة. (مسألة): حيث قلنا يجوز التقليد في بعض المسائل لا يشترط لذلك قصد التقليد ابتداء بل يكفي دواماً، كما لو تزوج شافعي على مذهب أبي حنيفة ولم يخطر بباله الانتقال حال العقد ثم عنّ له بعد ذلك، فإنه يجوز ذلك وينقلب صحيحاً، كما ينقلب كذلك بالحكم بصحته من غير تقليد بالأولى، إذ التقليد بالنسبة إلى جواز التعاطي أقوى من الحكم الخالي عن التقليد لأنه فعل المتعاطي، والحكم أمر اصطلاحي، ولا يشترط لصحة الانتقال اعتقاد صحة ذلك. (مسألة): الذي يفهم من كلامهم في التقليد أن التركيب القادح فيه إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، كمن توضأ ومس تقليداً لأبي حنيفة وافتصد تقليداً للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، وكذا لو توضأ ومس بلا شهوة تقليداً لمالك، ولم يدلك تقليداً للشافعي، ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا قلد شافعي أبا حنيفة في استقبال جهة القبلة ولم يمسح ربع الرأس لا تبطل صلاته، لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحالة، لا يقال: اتفقا على بطلان صلاته، لأنا نقول: هذا الاتفاق نشأ من التركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد،(1/218)
ومثله إذا قلد أحمد في أن العورة السوأتان وكان قد ترك المضمضة والاستنشاق والتسمية الذي يقول أحمد بوجوبها، فالذي يظهر صحة صلاته لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة. (مسألة): لا تنفذ تولية غير المجتهد والجاهل والفاسق مع وجود أضدادهم إلا إن ولاه ذو شوكة ولو كافراً والعياذ بالله تعالى إذا كان متغلباً، لا إن ولاه أهل الحل والعقد إذ لا ضرورة إليه، وإذا زالت شوكة من ولاه بموت أو غيره انعزل المذكور لزوال المقتضي لنفوذ قضائه. (مسألة): إذا حكم الحاكم في حادثة من الاجتهادات على مقتضى مذهبه وكان مما لا ينقض ثم رفع إلى حاكم لا يراه، فظاهر كلام الروضة الميل إلى أنه ينفذه، ويؤيده قول السبكي: إنّ حكم الحاكم في الاجتهاديات يرفع الخلاف في المحكوم به، وصيغة حكم الحاكم حكمت أو قضيت له على فلان بكذا، أو نفذت الحكم به، وألزمت خصمه الحق أو الإخراج من حقه، أو كلفتك أو ألزمتك الخروج منه، وأما ثبت عندي كذاباً بالبينة العادلة أو صح أو أقر عندي، فليس بحكم عندنا بالحق المشهود به المختلف فيه ويعبر عنه بالثبوت، ومعناه أنه ظهر للقاضي صدق المدّعي، فإذا سمع شهادة الشهود في واقعة وعمل بمقتضاها كان حكماً منه بعدالة الشهود ليس إلا، والفرق بين الحكم والثبوت أن الثبوت يكتفي فيه بثبوت أهلية المتعاقدين صحة الصيغة، فإذا أراد الحكم بعد ذلك احتاج معه إلى ثبوت الملك للبائع، فإن ثبت ملك البائع للمبيع حكم بالصحة، فكل حكم ثبوت ولا عكس، والحكم يقبل النقل في البلد، ولا يقبله الثبوت إلا فرق مسافة العدوى، وإذا صدر الثبوت ممن يراه حكماً بعد توفر شرائط الحكم عنده كان ذلك من الخلاف اللفظي، فإن صيغ الحكم مما اصطلح عليها ولا مشاحة في الاصطلاح، والمعنى يدور على وجود الحكم ممن يراه وإن اختلفت الصيغ، وإذا صدر من الحاكم حكم فلكلّ من حضره أو سمعه أن يشهد به وإن لم يشهده الحاكم على حكمه، ولا يشترط في الشهادة على حكم(1/219)
الحاكم أن يكتب كتاباً حكمياً، بل الشهادة على اللفظ كافية من غير احتياج إلى كتب مسطور بذلك، بل المساطير الحكمية لا يجوز لأحد الشهادة عليها بالحكم إلا بعد سماعه من الحاكم. (مسألة): المعتمد الذي جرى عليه الشيخان المعوّل عليهما في الترجيح أن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية ينفذ ظاهراً وباطناً، ونقله القاضي والإمام عن الجمهور، وجرى عليه السبكي والعباب، وأما قول الروض ينفذ ظاهراً فالمراد كما قال شارحه زكريا ما إذا بناه على أصل كاذب، كما إذا حكم بشاهدي زور بظاهر العدالة، وقول ابن الصلاح: حكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر مرجوح كما ذكره السمهودي. (مسألة): إذا قضى القاضي بالشهادة على الخط، كأن شهد عنده أن هذا الخط خط فلان القاضي فحكم بها لم ينفذ قضاؤه، بل لو قضى به قاض مالكي ورفع إلى قاض شافعي لم ينفذه، لأن الشهادة بالخط مما اتفق العلماء على عدم جوازها إلا مالكاً، بل قد ثبت رجوع مالك وجلّ أصحابه عنها، فلا تجوز الشهادة بالخط ولا الحكم به حينئذ. (مسألة): رجل أعجمي الجنس تولى القضاء ببلد ثم قامت نفسه وبقي يلعن أهل البلد بالجمع بل بالإفراد والتخصيص في بعض الأحيان، وفي بعضها يقول: هؤلاء عرب النبي، والنبي من هؤلاء العرب، فهذا الشخص قد ارتكب إثماً عظيماً باللعن المذكور، بل يخاف عليه سوء الخاتمة، إذ لا يجوز لعن شخص بعينه ولو كافراً حتى يموت على الكفر، فإذا انضم إلى ذلك ما يشعر بالاستخفاف بالعرب وإخراجه للمسلمين أهل بلده من الأمة انعزل عن ولايته، وإن صدر منه ذلك من غير تأويل فهو مرتد تجري عليه أحكام الردة. (مسألة): التقسيم هو أن يقال للشخص: احضر عند القاضي وقسم بكذا وكذا من المال للدولة إن بان الأمر خلاف ما تقول، فإذا لم يعط ما قسم به عاقبوه، فهو في الحقيقة ملجأ إلى ذلك، كما هو مشاهد من أحوالهم، ومنه يعلم أن التصوير بكونه طائعاً مختاراً غير صحيح مخالف للواقع، وحقيقة التقسيم عندهم التزام(1/220)
مال في المستقبل إن بان الأمر بخلاف ما يدّعونه عليه، ومثل ذلك لا يلزم منه تسليم المال بمجرد التقسيم، ومن أجاب بأنها صيغة إقرار فقد جهل وغلط، ولم يفرق بين الإخبار والإنشاء، فإن حقيقة الإقرار إخبار عن حق واقع سابق على المقر والواقع في مقابلة التقسيم المذكور، خلاف ذلك فإنه منشىء لالتزام المال، وكذلك البينة الشاهدة بأن ذلك إقرار فهي كاذبة لأنها تعلم خلاف ذلك، وأشنع من ذلك قول المجيب المذكور: إن القاضي يقضي بعلمه في ذلك، فإن هذا في الحقيقة قضاء، بخلاف العلم المتفق على منعه، لأن القاضي وغيره يعلم أنه ملجأ إلى التقسيم ملتزم له في المستقبل، ويعلم أيضاً أنهم يلزمونه بالتزام ما ذكر لا أنه يلتزم طائعاً مختاراً، وبالجملة فقد فتح المجيب المذكور بفتواه على المسلمين باباً عظيماً من أبواب الفساد المؤدّي إلى أكل أموال الناس بالباطل لا يرضى، وليس التقسيم في الشرع بشيء، فالحذر الحذر من جعله إقراراً، بل هو من أكل أموال الناس بالباطل. (مسألة): ليس قول القاضي: ثبت عندي كذا أو صح بحكم حتى لا يجوز للقاضي والشهود الرجوع عنه، سواء كان مختلفاً فيه أو متفقاً عليه، وما في العباب مما يوهم الفرق غير مراد. (مسألة): ادّعى متولي الوقف على متول قبله معزول جملاً من الدعاوى عند الحاكم، فأجاب المدعى عليه بإيصال ما قبضه إلى مستحقه، فطلب من القاضي محاسبته تفصيلاً، فأجابه القاضي بعدم الوجوب بتفصيل ما ادعاه، فقول القاضي هذا حكم منه، إذ لا يشترط في الحكم تفصيل، كما لو قال: اخرج من حقه أو اقضه فهو حكم بالدين، فليس لحاكم يرى خلافه نقضه. (مسألة): ليس للقاضي ولا غيره محاسبة القيم أو الوصي الأمين، لا سيما إذا اشتهرت ديانته واستفاض ذلك عند الخاص والعام، فإن القول قوله بيمينه فيما يدعي من التصرف المأذون فيه، بل لو ادعى عليه أنه قبض شيئاً فأجابه أنه أوصله إلى من ائتمنه، صدق، كما في العباب وأدب القضاء، وحينئذ يزجر القاضي من(1/221)
تعرّض لإيذاء هذا الأمين وطلب منه ما لا يجب عليه. (مسألة): حكم الشافعي بحكم في حادثة فرفع إلى حاكم حنفي فنفذه وأمضاه، ثم ظهر بطلان ما ترتب عليه الإمضاء والتنفيذ عند الحاكم الأوّل بنحو بينة أقامها المحكوم عليه بطل الحكم وما ترتب عليه من التنفيذ والإمضاء، لأن المنفذ إنما هو منفذ بما قامت به الحجة عند الأوّل لا مبتدىء الحكم، لا سيما إذا كان الحنفي لا يرى الدعوى والبينة التي أقامها المحكوم عليه. (مسألة): إذا استأذن شخص القاضي في إحضار آخر للدعوى عليه، فلا يتوقف إحضاره على استفصال القاضي المستأذن هل هذا المطلوب كبير أو صغير، لكن الاستفصال أولى كما في الجواهر. (مسألة): يحرم على القاضي التشديد بغير مقتضى الشرع، وأن يقول لمسلم: يا يهودي، أو يغري ظالماً على أحد الرعية، أو ينقص عالماً ويفسق بذلك وينعزل، بل في الروضة: لو قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفراً، وهذا قبيح ومن القاضي أقبح، ولا يخفى أن الوقوع في أهل العلم والتنقيص لهم من كبائر الذنوب اتفاقاً. (مسألة): ادعى على آخر عند حاكم حنفي دعوى شرعية، فقامت الحجة للمدعى عليه وحكم بها الحاكم المذكور، ثم رفع المدعي دعواه إلى حاكم شافعي ليبطل حكم الحنفي، لم يجبه الحاكم إلى ذلك إن كان مما لا ينقض فيه حكم الحنفي، بل إن طلب من الحاكم الشافعي تنفيذه نفذه. (مسألة): ليس للنائب في الأحكام الحكم بخلاف مذهبه، بل إن حكم به فحكمه باطل، كما قاله ابن عبد السلام وابن الصلاح، هذا في التقليد في الحكم والفتوى، أما التقليد في حق نفسه فجائز بشرطه، وأما الرشوة فحرام مطلقاً، سواء كانت لأجل الحكم بغير الحق وهي أشد حرمة، أو ليحكم بالحق ولولاها لما قضى به ولا أعلم فيها خلافاً لكنها أخفّ من الأولى، وقد لعن النبي الراشي والمرتشي والرائش أي الساعي بينهما، نعم إنما يحرم على الراشي إذا توصل بها إلى أخذ ما ليس له، أو إبطال حق عليه، أما لو حيل بينه(1/222)
وبين حقه وعلم أنه لا يصل إليه إلا بسحت يبذله لقاض سوء فالوزر خاص بالمرتشي، وحكم الرائش حكم موكله منهما، ويحرم على القاضي التعصب مع أحد الخصمين والقيام معه، وقبض ما لا يستحقه من أموال الناس ومنع مستحقه، ويجب على وليّ الأمر صرف النائب المذكور عن النيابة لانعزاله بهذه المثالب، ولا يجوز إقامته في شيء من الوظائف الدينية ولا توليته إماماً يصلي بالناس وإن صحت خلفه، وهذه مفاسد تؤدي بفاعلها والراضي بها إلى سوء الخاتمة ولا يرضى بها إلا منافق. (مسألة): لا مدخل للفراسة والإلهام في الأحكام الشرعية، فلو ادعى شخص وديعة وأنكره المدعى عليه فأقام شاهداً فقط، فليس للحاكم أن يلزم المدعى عليه بالتسليم بمجرد فراسته كما أنه لا مدخل للكشف في ذلك أيضاً، وليس للقاضي أن يمتنع من سماع دعوى للمدعى عليه إذا طلب سماعها هو لاأجنبي. (مسألة): أطلق القاضي محبوساً وقال: إنما حبسته لإقامة البينة على حريته لا على تسليم الدين للمدعي فالقول قوله بيمينه حال ولايته فقط، وحينئذ لو طلب الخصم من القاضي أن يمهله ليأتي ببينة وكان لا يمكن استحضارها إلا بعد أكثر من ثلاثة أيام لم يجبه بل يحكم بمقتضى الحال، ثم إن أتى بدافع بعد ذلك رتب عليه حكمه، ولي جواب أنه يجب على القاضي إحضار الخصم ورده إلى الحبس، وذاك مصوّر بما إذا كان الحبس على الدين وأن القاضي أخرجه من غير مسوّغ شرعي فافهم ذلك ولا يختلف عليك الكلامان. (مسألة): تولى القاضي قسمة تركة ميت بين ورثته بعد أن ثبت عنده بشهادة عدلين انحصار الإرث فيهم، ثم بعد قبض كل حصته ظهر وارث آخر فحقه في التركة، ولا يضمن من القاضي التركة بل ولا حصته لأنه نائب الشرع، والدعوى على الشرع لا تسمع، بل قال السبكي: لو أقام بينة بما يقتضي الضمان لم تسمع، فقول القاضي أصدق من البينة، وليس للوارث المذكور تحليف القاضي إنه لم يبق تحت يده شيء لأنه يدعي خيانته وهي لا تسمع وهذا مفروض في القاضي العدل المتصف(1/223)
بالأهلية شرعاً. (مسألة): ثبت على سجان القاضي حق وامتنع عن تسليمه، فطلب خصمه من القاضي حبسه، حبسه في المحل المتخذ للحبس ومنعه من الخروج من الحبس وهو ممنوع منه، ولا يمنع من دخول أهله وعياله عليه.
القضاء على الغائب
(مسألة): يشترط حضور الخصم للدعوى وإقامة البينة عليه عند الحاكم حتى لو كانت شاهداً ويميناً فلا بد من حضوره اليمين بشرطه، وقول الريمي: لا يشترط فيه نظر، ولا يشترط حضور الخصم يمين المدعى عليه ولا يمين الاستظهار، ومما عمت به البلوى في عصرنا المعلوم حال قضاته المبادرة إلى تنفيذ الكتاب الحكمي من غير بحث عن حال القاضي الكاتب ولا معرفة عدالته، والذي يجب على القاضي أن لا يبادر إلى تنفيذ كتاب حكمي على غائب، لا سيما من البلدان الشاسعة التي لا يعرف أحوال قضاتها، ومن شرط العمل بكتاب القاضي أن يكون الثاني عالماً بصحة ولاية الأول وأحكامه وبكمال عدالته، ولا سيما في هذه الأعصار التي شوهد فيها تولية غير الأهل ممن جمع بين الفسق والجهل، والأصل براءة الذمة. (مسألة): أثبت عند حاكم بإقرار ميت معين له بدين معلوم، وبأنه أحاله به على شخص معين غائب عن البلد حوالة شرعية مستوفية للشروط وقبل الحوالة، فلما جاء إلى بلد المحال عليه أنكرها، فأقام بيِّنة بقبولها عند الحاكم الأول، احتاج إلى يمين الاستظهار التي لم يحلفها عند الحاكم الأوّل بعد صحة الدعوى عنده وإقامة البينة، ويكفيه في هذه الصورة أن يحلف أن الذي ادعاه باق في ذمة الميت إلى أن أحال لي به، وإني الآن أستحق هذا المال المحال به بحكم الحوالة المذكورة، ويكفي ذلك عن يمين الإقرار لشمول يمين الاستظهار لمعنى يمين حقيقة الإقرار. (مسألة): يجوز للقاضي سماع الدعوى والبينة والحكم بها على الغائب في غير محل ولايته وإن كان دون مسافة العدوى، كما نقله الرداد والمزجد والقمولي عن الماوردي، وإنما تعتبر مسافة العدوى فيما إذا كان الخصم في محل ولايته. (مسألة): كتب(1/224)
قاض إلى قاض آخر فوق مسافة العدوى ما لفظه: ثبت عندي بالإنهاء الصحيح الشرعي أن فلاناً نذر على فلان بما هو كذا من العقار، أو بما هو تحت يده من الأعيان، ثم وصل شهود بذلك الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، فله حينئذ الحكم بشرطه، وله تنفيذ ذلك الثبوت ولا يكون تنفيذه حكماً. (مسألة): الثبوت عند القاضي لا يكون حكماً، ولا يجوز نقله إلا إلى فوق مسافة العدوى، والثبوت المجرد هو الذي لم يقترن به حكم بالمدعي، فإن اقترن به حكم كان ثبوتاً غير مجرد إذا علمت ذلك، فإذا نقل الحاكم ثبوتاً بعقد بيع أو نكاح مثلاً مجرداً عن الحكم فهو نقل للثبوت فقط، هذا في الثبوت الصحيح، وأما الثبوت الفاسد ففائدته فيما إذا أراد الحاكم إبطال عقد فيشترط ثبوته عنده، فحينئذ إذا حكم بإبطاله ونقل إبطاله إلى حاكم آخر فله تنفيذ ذلك الإبطال بشرطه، وكماله تنفيذ الصحة له تنفيذ الإبطال. (مسألة): يمين الاستظهار ليست حجة مثبتة لحق المدعي ولا دافعة له، وإنما هي شرط لحكم الحاكم على نحو الغائب على الأصح، فإذا حلفها المدعي حكم له الحاكم، وإن لم يحلفها لم يحكم له كما قاله الأصحاب، فكما أن الحكم بعد تعديل البينة لا يجوز إلا بطلب المدعي، كذلك الحكم على الغائب ونحوه لا يجوز إلا بعد يمين الاستظهار على الأصح، ولا يحكم على الممتنع منها بالنكول على إشكال فيه، ولو طلب القيم من المدعي على اليتيم يميناً بأنه لا يعلم كذب شاهديه فنكل حلف القيم يمين الردّ وبطلت شهادتهم. (مسألة): دار مرهونة طلب المرتهن من الحاكم بيعها واستيفاء دينه من ثمنها بغيبة الراهن وجبت إجابته بأن يبيعها بثمن مثلها، وهو ما انتهت إليه رغبات الناس بعد الاشتهار والنداء في ذلك الزمان والمكان لا ما قوّمه المقوّمون. (مسألة): يجوز للحاكم أن ينصب من يدعي للغائب ويحكم له إن دعت حاجة إلى ذلك، كأن خيف فلس الغريم، أو كان على الغائب دين أو نفقة ممون، وله قبض دين له بذله المدين، بل إن خيف(1/225)
عليه وجب طلبه، ولا ينافي هذا ما في الروضة من بطلان القضاء للغائب لأن ذاك فيما لم تدع إليه حاجة. (مسألة): غاب شخص وفي ذمته ديون حالة لجماعة، وبيده شجر حور لم يتعلق به حق أحد من الغرماء برهن ولا غيره، باعه الحاكم ووزع ثمنه على غرمائه على قدر ديونهم، فلو كان لأحدهم شرك في شيء منه فباع الكل من غير إذن الغائب والحاكم بطل في نصيب الغائب. (مسألة): ادعى على ميت ديناً وأقام شاهداً فقط، احتاج إلى يمين تكمل البينة، ويمين للحكم المسماة يمين الاستظهار. (مسألة): ادعى وكيل المرأة على زوجها الغائب فوق مسافة العدوى أنه علق طلاقها على البراءة من مهرها، وأنها أبرأته عنه فوراً وأقام بذلك شاهدين سمعها القاضي ولا يحتاج إلى ذكر انقضاء العدة، إذ القول في انقضائها قول المرأة بيمينها حيث نازعها الزوج في الانقضاء، وإلا فاليمين مستحبة في حقها، وإذا ثبت الطلاق بالشهادة بالإبراء عن المهر فوراً، ثم ادعى الزوج أنه علق الطلاق على الإبراء عن حقوق الزوجية من المهر وغيره، وشهدت البينة على أنه لم يذكر غير المهر وأنها شاهدت فاه بعد النطق بالمهر منطبقاً لم يقبل قوله ظاهراً.
القسمة(1/226)
(مسألة): أخوان يملكان داراً محتوية على جملة مساكن، فأجرا مسكناً منها مدة معلومة كل شهر بكذا، ثم اقتسما الدار، وتميز المسكن المؤجر لأحدهما صحت القسمة بناء على صحة بيع المؤجر وبقيت الأجرة بينهما، ولا يرجع المتميز له ذلك على أخيه بشيء قبضت الأجرة أم لا، بناء على أن من اشترى عقاراً مؤجراً لا يرجع إلا بأجرة بل هي للمؤجر. (مسألة): اقتسما عرصة وتراضيا على القسمة من غير قرعة صح، ولا يجاب طالب النقض من غير مسوغ إذ القرعة ليست ركناً في القسمة. (مسألة): دار صغيرة لا يمكن قسمتها بالإجبار مشتركة بين اثنين، ولم يرضيا بالمهايأة، ولم يوجد من يستأجرها، فطلب أحدهما استئجار نصيب الآخر، وطلب الآخر بأن تسمر وتعطل عن الانتفاع. أجيب طالب الاستئجار، ويؤجرها منه الحاكم بأجرة المثل، ويقتصر على أقل مدة يؤجر المذكور فيها عادة، إذ قد يتفقان عن قرب، وأما قول الشريك إنها تسمر وتعطل فمذهب فاسد وزلة من قائله. (مسألة): للقاضي إجابة الحاضر من الشركاء طالب القسمة إذ كانت إجباراً، فإن لم تكن إجباراً فلا بد من رضا الجميع، وأجرة القسمة على قدر حصص الجميع لا على الرؤوس.
الشهادات(1/227)
(مسألة): الحناء حرام، أما كونه صغيرة فلا شك فيه، ولم أر من عده من الكبائر، والمعتمد أن مجرد الإصرار على الصغيرة من غير نظر إلى غلبة الطاعات لا يمنع من قبول الشهادة، فعلى أنه صغيرة لا تردّ به الشهادة من قبل إخلاله بالمروءة كما قاله الأذرعي. (مسألة): لا يجوز هجو المسلم مطلقاً وإن صدر في حال كفره، فلا تجوز حكايته بعد الإسلام، وكذا لكافر لغير الذب عن الله أو رسوله إن كان له ذمّة أو تأذى به مسلم أو ذمي. (مسألة): اختصم هو وآخر فقال له الآخر: والله لأخرجنك من بلدك وهو يكره الخروج منها، ثم أراد الشهادة عليه عقب ذلك لم تقبل شهادته، إذ حلفه على إخراجه من أعظم العداوة، إذ الإنسان يكره الخروج من بلده، بل هو أشدّ من بذل المال، فتحصل من ذلك أنه يججب ما يكره ويلزم منه أنه يكره ما يحب. (مسألة): مات عن أخ وزوجة فطلبت الزوجة ميراثها، فشهد ابن الأخ المذكور مع آخر حسبة بأن الزوج الميت طلقها قبل موته ثلاثاً، لم تقبل شهادة ابن الأخ للتهمة لأن شهادته لأبيه كشهادته لنفسه. (مسألة): من لا يصح الفاتحة لغير عذر أو الصلاة أو الوضوء، أو لا يعلم واجبات الإيمان مع مضي مدة في الإسلام يمكنه التعلم فيها لم تقبل شهادته. (مسألة): تقدم في الغصب أن من عنده شهادة لشخص فدعي ليشهد له عند حاكم جائر لا يجب بل لا يجوز له الأداء. (مسألة): امتنع عن أداء الشهادة عند القاضي لاعتقاده أن القاضي غير صحيح الولاية بفسقه أو عاميته، أو لكون موليه بهذه الصفة أثم بامتناعه كالكاتم لها ووجب عليه الأداء، ولا يكون اعتقاده ما ذكر عذراً فيه. (مسألة): للابن أن يتحمل عن أبيه وبالعكس، وإن كان المتحمل عنه مجهول العدالة بناء على الأصح من عدم اشتراط تزكية الفرع للأصل خلافاً للعباب. (مسألة): ادعى على آخر وديعة وقدّرها بمقدار معلوم، وطلب إحضارها إلى مجلس الحاكم لسماع الدعوى على عينها فأحضرت، فطلب الحاكم البينة بعد ثبوت الدعوى، فشهد الشاهد لما(1/228)
رأى العين المدعاة وهو إناء وفيه دراهم مثلاً بأن هذا الإناء وما فيه للمدّعي، وعدة ما فيه كذا للقدر الذي ادعاه المدعي أم لا، ثم فتح الرباط وعدت الدراهم فوجدت ناقصة عما ذكره الشاهد لم يقدح في شهادته، إذ يحتمل سرقة شيء من المشهود به ولو على بعد، ويحتمل الغلط في العدد. (مسألة): أرسل إليه أحمال هدف على كل حمل قطعتان فاختلفا في واحد منهما، فشهد للمرسل شاهدان بأنه أرسل هذا الحمل المذكور وعليه قطعتان من غير ذكر وزنهما لم تصح الشهادة. (مسألة): سبق لسان الشاهدين بين يدي الحاكم إلى غلط في التاريخ، كأن أراد أن يقول 48 سنة فسبق لسانه إلى 28 سنة، لم يكن قادحاً في شهادته إذا رجع وأعادها على الصواب على الراجح، كما صرّح بذلك إسماعيل الحضرمي، لا سيما إذا كان الشاهد مشهوراً بالعدالة والضبط، ولا يشكل بما إذا قال الشاهد قبل الحكم: غلطت في شهادتي فإنه لا تقبل منه تلك الشهادة كما في الروضة وغيرها، لأن هذه مفروضة في سبق اللسان مع اعتقاد الشاهد أن السنة وصورة تلك أن يقول ظاناً إن الواقع كذلك ثم تبين له أنه 47 سنة، فهذا لا يقبل فيه ذلك لتقصيره بعد التثبت. (مسألة): شهدت له بينة بأنه اشترى داراً معينة بثمن معلوم مسلم بيد البائع من غير ذكر قدّره كأن نسيته لم يكن ذلك قادحاً في الشهادة على المعتمد، وما في فتاوى البغوي مما يخالف ذلك مفروض فيما إذا لم تذكر تسليم الثمن. (مسألة): ادعى المشهود عليه جرحاً في الشاهد الذي يشهد عليه، لم يشترط حضور الشاهد المجروح ولا المدعي عند الجرح لأنه تقبل فيه شهادة الحسبة، بل إن حضر المجروح وإشار إليه الجارح وإلا ذكره باسمه ونسبه المعروف، ولا معنى لإنكار المدعي والشاهد الجرح، فإن بينة الجرح مقدمة على بينة التعديل. (مسألة): ادعى قوم أرضاً أنها وقف عليهم لكون الواقف وقفها على مدرسة كذا، وخص بوظائفها جدّهم فلان الفلاني ثم بنوه ما تناسلوا، وأنكر الخصم الاختصاص بهم مع إقرارهم(1/229)
الوقف، وشهدت بينة بأن هذا وقف خاص لبني فلان، فادعى الخصم أن الواقف مات قبل ظهور جد المدعين المذكورين ووافقه على ذلك نقلُ العلماء والفقهاء في الطبقات والتواريخ أن الواقف مات سنة 667، وجدّهم الذي يزعمون أنه مختص بالوقف قد درس اثنان في المدرسة قبله، وبين موت جدّهم وبين الواقف 137 سنة، فالحق الذي لا يرتاب فيه ولا ينقدح غيره بطلان الشهادة المذكورة وما ترتب عليها، لا سيما إذا قال الشاهد: مستندي التسامع، إذ من شرطه أن لا تكون هناك دلالة يرتاب بها، وأيّ دلالة على بطلان الشهادة بانحصار الوقف فيه أعظم من وجود نقل العلماء في طبقاتهم وتواريخهم التي يبعد فيها التدليس قدّم عصر الواقف على عصر الموقوف عليهم بزمن العادة فيه قاطعة بعدم اجتماعهما وتعاصرهما وتدريس غير المشهود له، ويجب على الحكام الاجتهاد وبذل الوسع في الكشف عن شهود التسامع وتحقيق وجود الشروط المعتبرة في ذلك، ولا تقبل الشهادة بشرط الواقف اعتماداً على التسامع إلا إن كانت متصلة بالشهادة بأصل الوقف إلا إن كانت منفردة عنه، وإذا بتّ الشاهد الشهادة وقال بعد ذلك: مستندي التسامع لم يقدح في شهادته، وإن قال حال الشهادة: أشهد بالتسامع أن كذا وكذا كذا وكذا لم يُقبل حرر ذلك السبكي. (مسألة): عتيق احتاج أن يثبت عتقه، فشهد له اثنان أحدهما بإقرار سيده أنه أعتقه والآخر بالاستفاضة بشرطها لفقت الشهادتان كما صرح به في العباب. (مسألة): جماعة يملكون أرضاً من مخلف مورثهم، فباع أحدهم جميع الأرض من غير إذن الباقين، فأراد أحد المستحقين فيها أن ينازع في سهمه، لم يكن له أن يقيم بينة من بقية المستحقين فيها أنه يستحق كذا لاستلزام ما يشهدون به حصول شيء لهم فيه، إذ لا تقبل شهادة الشريك لشريكه في المشترك إلا إن كان ما يشهد به لا يستلزم حصول شيء له فيه. (مسألة): يقبل في النذر شاهد ويمين، إذ المقصود الأعظم منه المال كالوقف والوصية، إذ النذر والوصية من واد واحد،(1/230)
ولهذا يصحان بالمجهول والمعدوم. (مسألة): إذا توجهت دعوى المرأة إلى إثبات النكاح وموت الزوج وهي في عصمته، فلا بد من شروط دعوى النكاح وإثبات قدر المهر، ولا يكفي فيه شاهد ويمين، وإن توجهت دعواها إلى المهر بأن قالت: أدعي أني أستحق في ذمة هذا المتوفي مهراً قدره وصفته كذا بسبب نكاح صحيح قبل في ذلك شاهد ويمين. (مسألة): ادعى على آخر مائة سليماني حالة في ذمته فادعى المدعى عليه بأنه كان عليه المبلغ المذكور وأنه صالحه عنه بخمسبن وأحاله بها على شخص سماه حال كونه يستحق عليه مثل المبلغ المحال به وأنكر الخصم جميع ذلك فأتى المدعى عليه بشاهدين على ذلك أحدهما المحال عليه قبلت شهادة المحال عليه إذا كان مقراً بالدين للمحيل وأنه باق إلى حال الشهادة والمحيل أيضاً باق على إقراره بالحوالة إذ لا تهمة في حق المحال عليه لأنه لم يدفع عن نفسه بشهادته طلب المحيل له فله الشهادة بها والحال ما ذكر وقول الأصحاب قول المقر كان لفلان عليّ كذا لا يكون إقراراً محله إذا لم يكن في جواب دعوى وإلا فهو إقرار كما هنا. (مسألة): طلب ليشهد على آخر بشيء فقال: ليس عندي شهادة عليه في ذلك ثم شهد به، فإن قال ذلك حال تصديه للشهادة لم يقبل، وإن قال قبله بيوم أو شهر مثلاً لم يضر، لأنه قد لا يكون شاهداً ثم يصير، ولو بسط رجلان على مال لامرأة بغير وجه شرعي، ثم طالبت أحدهما بما عنده فشهد له الآخر بأنه وكيل لها لم تقبل شهادته لتعديه كما أفتى به الرداد. (مسألة): تجوز شهادة الحسبة بالاستفاضة بالنسب إلى رجل أو قبيلة أو بلد إذا وقف على أهله شيء وإن علم الحاكم أن مستند الشاهد الاستفاضة إذا بتّ شهادته، وكذا تجوز الشهادة بنسبة القرية إلى جهة من الجهات، أو إلى عمل من أعمال بلدة، فيستفاد من ذلك ما يفتقر إليه حاكم الشريعة، كتزويج من لا ولي لها خاص في القرية المضافة إلى البلد، وأعد قاضي البلد من استعداه على خصيمه من القرية المشهود بها، والنظر(1/231)
في أمر أيتامها وغير ذلك. (مسألة): شهد اثنان حسبة عند الحاكم أن فلاناً الغائب طلق زوجته فلانة بنت فلان أو أعتق عبده فلاناً، فله أن يحكم عليه بالطلاق أو العتق طلبا ذلك منه أم لا، إذا لاحظ في حكمه جهة الحسبة معرضاً عن طلبهما. (مسألة): خطب امرأة فلما أجابته ودفع إليها ما تراضيا عليه علم بذلك زوجها الأوّل الذي تدعي أنها مطلقة منه، فادعى أنها زوجته إلى حال الدعوى، فأقامت شاهدين على طلاقه لها أحدهما الخاطب المذكور قبلت شهادته، ولا يقدح في ذلك خطبتها وقصد تزويجها. (مسألة): ذكر الشيخان وغيرهما أن من خوازم المروءة الذي ترد به الشهادة أن يلبس العامي لباس العلماء الذين يعرفون ويتميزون به من بين آحاد الناس، فيجب على حكام الشريعة بل على كل من قدر عليه منعهم من ذلك وزجرهم بالتعزير على ذلك بما يراه زاجراً لهم. (مسألة): إذا غلب على ظن الشاهد ظناً مؤكداً مستنداً إلى قرينة كتوعد أنه إن شهد سعى به المشهود عليه إلى ظالم، وكان معروفاً بالسعاية بالناس والإخبار بأموالهم ظلماً، لم تجب عليه الشهادة ولا يدخل في وعيد ترك الأداء، كما قالوا فيمن دعي ليشهد عند وال جرت عادته أن يقابل على الجناية بأكثر من عقوبتها أنه لا تجوز لها لشهادة حينئذ. (مسألة): شهد شاهد بالإقرار وآخر بالاستفاضة لفقتا لأنهما مستندان إلى إخبار، بخلاف ما لو شهد واحد بالعقد في نحو وقف والآخر بالاستفاضة فلا تلفيق، لأن شهادة العقد شهادة على الإنشاء والاستفاضة إخبار، ولو شهدا معاً بعقد الوقف أو بالاستفاضة سمعت، فلو أقام المدعي بينة شهدت له باليد والملك قدمت بينته لترجيحها باليد، بناء على ما رجحه الشيخان أن تعارض بينتي الوقف والملك كتعارض بينتي الملك، فترجح بينة صاحب اليد سواء مدعي الوقف أو الملك، ويمكن مدعي الملك من جرح شهود الوقف وعكسه. (مسألة): شهد واحد بالبيع لمال محجور بإذن الحاكم، وآخر شهد عن الحاكم صحة البيع لم تلفق الشهادتان، لأن(1/232)
الأولى على الإنشاء والثانية على الإقرار. (مسألة): لا تقبل شهادة الأجير لمؤجره فيما استؤجر عليه كما صرح به القاضي شريح. (مسألة): المعتمد الذي صححه في أصل الروضة أنه يعتبر في الشيوع، والمراد به الاستفاضة المسوّغة للشهادة أو يكون استناد شهادته إلى جمع لا يمكن تواطؤهم على كذب، وأقله أحد عشر رجلاً ولا تحصل بأقل من ذلك، وقول التنبيه والخادم إن أقلهما اثنان مرجوح، ويجوز الحكم والإفتاء بالمرجوح في المذهب، بل ينقض إذا لم يتصل به حكم يراه، فحينئذ لو قدم اثنان من سفر وأخبرا بمعاينة موت رجل ونشأت الاستفاضة من خبرهما، فأراد اثنان أن يشهدا بالاستفاضة لم تصح الشهادة إذا كان مستند شهادتهما إخبار المذكورين، ولو سمع فقيه من اثنين غير القادمين وعلمت الزوجة ووليها بذلك وزوّجها الولي بعد انقضاء عدتها ولفظ الفقيه لم يصحّ التزويج المذكور، ويحرم على الفقيه المذكور الإقدام على ذلك، وإن قال مستندي قول الفقيه لما علمت أنه مرجوح، وطريق الصحة أن يخبر الرجلان المعاينان أو أحدهما الزوجة ويقع في قلبها صدق المخبر، فيجوز لها التزويج بغير الحاكم. (مسألة): رجل مشهور بالفضل والصلاح من بيت علم وصلاح عند الخاص والعام، أمره بعض ولاة الأمر أن يصلح بين طائفة من العرب وبين حاكمها أصلح بينهما، ثم حصل بينهما وبين الحاكم مخالفة، فجاء الحاكم باثنين من الطائفة المذكورة وأكرههما الإكراه الشرعي على أن يشهد بأن الرجل المذكور هو الذي أمرهم بالفساد والمخالفة فشهدا بذلك، كانت الشهادة باطلة، وشهادة من شهد عليهما كذلك، ولا يجوز الحكم بها ولا تنفيذه بل لا يصحان، ولا يجوز لأحد أن يحكم على هذا الرجل الساعي بالإصلاح بشيء من العقوبات، ولا تجب عليه شيء بل هو مأجور مثاب على سعيه، ووجب على الوالي منع من أراد عقوبته. (مسألة): أهل الجهات الذين يتلفظون بالشهادتين ولا يصلون ولا يصومون، ويأخذون أموال الناس، ولا شيء معهم غير عقود الأنكحة(1/233)
لنسائهم يتولونه أنفسهم إيجاباً وقبولاً وشهودهم منهم، فهؤلاء محكوم بإسلامهم بتلفظهم بالشهادتين، وأما فسقهم بما ذكر فمجمع عليه، أما حكم أنكحتهم فمبني على أن العامي هل له مذهب أو يلزمه التزام مذهب معين؟ والذي حققه السمهودي في العقد الفريد أن العامي لا مذهب له، ولا يلزمه التزام مذهب معين، فإذا فعل شيئاً صحيحاً عند بعض العلماء المجتهدين من أئمة المذاهب لم يعاقب عليه، وإن كان غيره يقول بعدم صحته، ومعلوم أن في ولاية الفاسق خلافاً إذا زوّج موليته، وكذا إذا عقد النكاح بشاهدين فاسقين فحينئذ يحكم بصحة أنكحتهم بناء على ما قلناه. (مسألة): أقرّ بأنه لا بينة له على فلان فيما يدعيه عنده ثم أقام بينة سمعت دعواه وبينته وإن تقدمها ما ذكر، بل لو قال: لا شهادة لي عند فلان، ثم قال: لي عنده شهادة وكنت أظن عدمها فأعلمني بها قبلت. (مسألة): المعروف في المذهب أن البلوغ لا يثبت إلا بشهادة رجلين عدلين، زاد القفال من أهل الخبرة عند الحاكم، فحينئذ يحكم ببلوغه وتكون شهادة لا خبراً، وأما الإخبار فيكفي فيه الواحد، فحينئذ إذا أخبر عدل أباً كان أو أماً أو غيرهما عن بلوغ الصبية وصدقه الزوج أو الولي المجبر وكذا القاضي بناء على المعتمد أن تصرفه ليس بحكم جاز له الإقدام على النكاح، وإذا اطلع عليه الحاكم لم يجز له نقضه، نعم لو طلب منه الحكم بصحته لم يحكم بها إلا بعد ثبوت البلوغ عنده بشاهدين، ويجوز للمفتي أن يعلم والزوج بجواز الإقدام بما ذكر. (مسألة): لا تقبل شهادة مشايخ السياسة والخرص وكفى بذلك في رد الشهادة. (مسألة): تقبل شهادة الحسبة في الجرح والتعديل حيث صرحت ببيان سبب الجرح، وللشاهد الاعتماد في هذين على الاستفاضة لحصول العلم والظن بذلك، وتقدم بينة الجرح على بينة التعديل لأن معها زيادة علم، صرح بذلك الشيخان، ويجب الجرح التعديل حسبة إذا تعين طريقاً إلى حفظ دم أو بضع أو مال ومن لا يعبر عن نفسه، ومثله الشهادة بجرح(1/234)
من أقيم في وظيفة دينية العدالة شرط فيها، وتعين ذلك طريقاً إلى صرفه عن الوظيفة المذكورة. (مسألة): تقبل شهادة أهل البدع كمنكري صفات الله تعالى وخلقه أفعال العباد وجواز رؤيته يوم القيامة، لاعتقادهم أنهم مصيبون في ذلك لما قام عندهم إلا الخطابية فلا تقبل شهادتهم لمثلهم، وإن علمنا أنهم لا يستحلون دماءنا وأموالنا لأنهم يرون جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول: لي علي فلان كذا فيصدقه بيمين وعدمه، ويشهد له اعتماداً على أنه لا يكذب إذ الكذب عندهم كفر، وإلا المنكري العلم لله تعالى بالمعدوم والجزئيات، ومنكري حدوث العالم والبعث للأجسام فلا تقبل شهادتهم أيضاً، وأما قوله صلى الله وعلى آله وصحبه وسلم في حديث الترمذي وأبي داود والحاكم وابن حبان: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" فالمراد بالأمة هنا من تجمعهم دائرة الدعوى من أهل القبلة كقوله: أمتي أمة مرحومة، نعم ورد في الحديث ما يصح أن تحمل الأمة فيه على ما انتهت إليه الدعوة كحديث الشفاعة، فعلى هذا لو ذهب ذاهب في تأويل الأمة في هذا الحديث أنه من توجهت عليهم الدعوة لانخراطهم في سلك واحد من بلوغ الدعوة فله وجه، وحينئذ فيتناول أهل الكفر والضلال، وأما قوله سبعين ملة فالملة في الأصل ما شرعه الله تعالى لعباده على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، حتى قيل الكفر كله ملة واحدة، ومعنى الحديث أنهم يفترقون فرقاً تدين كل واحدة منها، بخلاف ما تتدين به الأخرى، فسميت طريقهم ملة على الاتساع، وفيه كلهم في النار إلا ملة واحدة، فإن أطلق الحديث على أهل القبلة فقط فمعناه أنهم يتعرضون لما يدخلهم النار كقوله: "القاتل والمقتول في النار"، أو يكون المعنى أنهم يدخلونها بذنوبهم، ثم يخرج منها من لم نقض به بدعته إلى الكفر، وقوله: "إلا ملة واحدة"(1/235)
أي أهل ملة.
الدعوى والبينات
(مسألة): اليد كما قال السبكي حجة شرعية، فإذا كان لأحد المتداعين يد على أرض مثلاً فهو مدعى عليه وتسميه الفقهاء داخلاً، ومن لا يد له مدع وتسميه خارجاً، فإذا ادعى الخارج على الداخل أنه يملك الأرض المدعاة فأجابه صاحب اليد بالإنكار وأنها ملكه فحيث لا بينة، فالقول قول صاحب اليد بيمينه، لأن اليد تدل على الملك دلالة ظاهرة، فلو أقام الخارج بينة شهدت له بالملك، ثم أقام الداخل بينة شهدت له أن اليد يده وملكه، فمذهبنا تقديم بينة الداخل لترجيحها باليد، فلو أقام الخارج بينة أن يد الداخل غاصبة للأرض منه، أو ممن ترتبت يده على يده، سمعت وقدمت على بينة صاحب اليد لأن معها زيادة علم، فلو أقام الداخل بينة أنها ملكه وأن يده ثابتة عليها بحق، قدمت على بينة الغصب، وحيث حكم للخارج بالملك لم تجب له على ذي اليد أجرة المثل لما مضى وهي تحت يده على المعتمد، نعم إن أضيف الملك المحكوم به إلى وقت سابق فالوجه انعطافه على ما مضى إلى ذلك الوقت. (مسألة): ادعى عليه أعيان دعوى صحيحة عند الحاكم فأجاب بلا يستحق على المدعي هذه الأعيان ولا بعضها، فأوجب الحاكم عليه اليمين فنكل وأصر على السكوت بعد عرضها ثلاثاً، وعرفه حكم النكول فطلب المدعي من الحاكم أن يحكم بنكوله، فحكم بذلك ورد اليمين على المدعي، فحلف على استحقاق الأعيان المدعاة، ثم بعد إلزام المدعى عليه هذه الأعيان قال: لي بينة تشهد بالشراء من وكيل المدعي لم تسمع بينته، لأن الذي ذكره الشيخان أن اليمين المردودة كالإقرار وهو الصحيح، وإن كنت أفتيت قديماً بالسماع تبعاً للعباب فالمعتمد هذا، ولا سيما إذا قال له القاضي: هل اشتريت هذه الأعيان؟ فقال: لا أعلم الشراء. (مسألة): أقر عند الحاكم بشيء فألزمه بموجب إقراره، فادعى سبق اللسان وأنه لم يكن عنده ذلك فألزمه الحاكم به، فطلب من المقر له يمين حقيقة الإقرار أجابه الحاكم إلى التحليف، فإن حلف المقر له(1/236)
وإلا حلف يمين الرد، وحينئذ ليس للمقر له المطالبة بشيء، ولو أراد أن يقيم بينة قبل أن يحلف المقر له اليمين المردودة لم يلتفت إليه كما صرح به القاضي فهو المنقول في المذهب، ولا يؤثر فيه قول بعض المتأخرين وفيه نظر، إذ النظر لا يدفع المنقول كما لا يخفى. (مسألة): وكلته أخته في شراء دمنة للسكنى فاشتراها لها، ثم بعد موتها ادعى الأخ على الورثة أنه يملك بعضاً معيناً منها لم تسمع دعواه حتى يدعي انتقالاً منها لأنه بالشراء كالمقر لها. (مسألة): تسمع دعوى من ادعى أن خصمه يعلم فسق شهوده أو كذبهم لأنه لو أقرّ بذلك نفعه، ولو فرق في السماع بين أن تكون الدعوى قبل الحكم أو بعده بشرط أن يؤرخ علمه بذلك بحال الشهادة أو قبلها بدون زمن الاستبراء. (مسألة): استأجر أرضاً موقوفة مدة معلومة فانقضت المدة فآجرها الناظر من آخر بعد رفع يد الأوّل عنها، ثم أقام المستأجر الأوّل بينة على الناظر المذكور أنه يملك فيها عناء وزبراً قيمته كذا وطلب من الحاكم الحكم له فحكم بذلك، ثم إن المستأجر الثاني أقام بينة أن المستأجر الأوّل أجره الأرض من مدة قديمة وحال أن استأجرها وهي دامرة، وأن جميع العناء والزبر الموجود فيها الآن ملكه، قدمت بينة الثاني لأن معها زيادة علم، وينقض الحكم الأوّل، إذ لا فرق في تعارض البينتين عندنا بين ما قبل الحكم وما بعده، وعند الحنفية لا أثر للتعارض بعده. (مسألة): لو جعل المدعى عليه اليمين ابتداء في جنب المدعي قبل أن يعرضها القاضي على المدعى عليه لم يكن ناكلاً كما قاله ابن عبد السلام، وإذا لم يكن ناكلاً فحلف المدعي حينئذ ولو بتحليف الحاكم إياه وردها عليه قبل عرضها على المدعى عليه لا، فلا يسوغ للحاكم الحكم بصحته، فإن صمم على ذلك لعدم علمه بالنقل أثم بذلك، وكان قادحاً فيه ودخل في الوعيد. (مسألة): أقام الخارج بينة شهدت بأن الداخل غصب الدار منه، وأقام الداخل بينة أنها ملكه، وأن يده عليها ثابتة بحق، قدمت(1/237)
بينته على بينة الخارج التي شهدت بالغصب منه لأن معها زيادة علم، وكذا الحكم لو قالت بينة الداخل اشتراها من زيد وهو يملكها ويده عليها ثابتة بحق، واستفيد من ذلك أن قول البينة ويده ثابتة بحق أخص من الشاهدة بالملك المطلق، فإنه يحتمل أن البينة أسندت إلى مجرد اليد والتصرف، وهذا يخرج من قول الشيخين بتقديم بينة الغصب على بينة اليد والملك المطلق، وإذا اقتصرت بينة الداخل على أنه اشتراها من زيد وهو يملكها ولم تزد قدمت بينة الخارج والفرق ما مر. (مسألة): أرض تحت يد بكر وبيده مسطور شرعي حكمي بأنه اشتراها من عمرو وهو يملكها، وبيد عمرو مسطور حكمي أيضاً بأنه اشتراها من زيد وهو يملكها، فجاء خارج وادعى أنه يملك الأرض المذكورة من دون صاحب اليد وهو بكر المذكور، وأن عمراً غصبها، وأقام بذلك بينة مع إقراره بأن الأرض المذكورة كانت مرهونة من زيد، وأن يده يد ارتهان منه أو من مورثه، احتاج إلى إقامة بينة أخرى أن يد زيد يد رهن لإقراره بأن يد زيد بحق لكونه يدعي الرهنية فيحتاج إلى إثباتها، وقد أفتى ابن الصلاح وتبعه زكريا بتقديم بينة الداخل التي شهدت بأن يده عليها ثابتة بحق على بينة الغصب وما أبعد الغصب في مثل هذه، فيتعين على القاضي أن يبحث عن شهود الغصب، عن كيفيته وشروطه المسوغة للشهادة وأكثر الناس يجهلون ذلك. (مسألة): أقرّ بأنه ملك أولاده في حال صحته واختياره أرضاً وقبضوها، وحكم بذلك حاكم فمات المملك، فادعى بعض الورثة أن الملك الصادر من المملك في حال مرضه وأقام بينة قدمت على بينة الصحة لأن معها زيادة علم، وإن كان ذلك بعد حكم الحاكم، إذ التعارض بعد الحكم كهو قبله، والمعتمد أن حكم الحاكم لا يرجح، وحيث لا بينة فالقول قول المتهب بيمينه. (مسألة): اكترى شخصاً لحمل حديد إلى بلد فأوصله، ثم ماطله المكتري بالأجرة وامتنع أو توارى جاز له أخذ قدر أجرته من الحديد المذكور إن لم يظفر بجنس الأجرة، ويبيعه بإذن الحاكم إن(1/238)
كان عالماً بثبوت الحق، وإلا استقل بالبيع وبملك الثمن من جنس دينه، كما لو كان له دين على مقرّ مماطل وظفر بماله جاز له أخذ قدر حقه منه. (مسألة): طلب ولي الأمر أو عاشرة النخل من مالكه فقال: قد بعته أو هو لغيري فالقول قوله لكن بيمينه استحباباً، فإذا امتنع منها لم يجب عليه التسليم لبناء الزكاة على التخفيف، ولأن الأصل براءته، فلو أجبر النائب على التسليم فطريقه أن يدعي عليه أنه يعارضه في ماله وتصح دعواه بذلك، لكن بشرط أن يذكر ما طولب به وأنه غير مستحق عليه، وأن يذكر ما استقر علمه به ليكون الكف عنه متوجهاً إليه، ثم يسأل الحاكم المدعى عليه فإن اعترف بذلك منعه الحاكم من المعارضة، وإن أنكر المعارضة خلى سبيل المدعي ولا يمين عليه كما مر، وإن ذكر أنه يعارضه بحق وصفه وصار مدعياً وحيث وجب على الحاكم منعه فليس له ترك الحكم عليه، بل إذا عجز عن الحكم عليه بترك المطالبة رفعه إلى الوالي، فإن قصر الحاكم في ذلك كان قادحاً في ولايته، ولو طلب مدعي المبيع المذكور من المشتري منه الإقرار بالشراء عند النائب المطالب وتعين ذلك طريقاً إلى خلاصه من التسليم وجب عليه الإقرار له دفعاً للضرر، فإن امتنع رفعه إلى الحاكم. (مسألة): لا تسمع بينة الداخل قبل إقامة الخارج بينته، لأن الأصل في جانبه اليمين فلا يعدل عنها ما دامت كافية، نعم إن كان في إقامتها دفع ضرر عن الداخل كتهمة سرقة أو نحوها سمعت قبل إقامة الخارج البينة، فإذا أقامها الخارج احتاج الداخل إلى إعادتها ثانياً. (مسألة): أقام الخارج بينة أن يد الداخل ويد مورثه ترتبت بالإجارة منه ومن مورثه، قدمت على بينة الداخل المدعي بالملك واليد، كما لو أقام بينة أن يد الداخل عادية فتقدم على بينة الداخل كما صرحوا بذلك. (مسألة): باع أرضاً وأقرّ عند البيع أنها ملكه، ثم ادعى أنها وقف لم تسمع دعواه ولا بينته كما نص عليه الشافعي، قال زكريا: وظاهر أن محل عدم سماعها إذا لم يبد(1/239)
تأويلاً، فإن لم يصرح حال البيع بأنها ملكه سمعت كما نص عليه أيضاً. (مسألة): أثبت شخص أن البئر الفلانية ملك له مختص بها وأقام بذلك بينة، فأقام آخر بينة أنها وقف على المسلمين من غير اختصاص بأحد نظرت، فإن كانت اليد للأوّل بالتصرف فيها قدمت بينته، وإن كانت اليد للمسلمين بأن كانوا ينزحون منها على العموم مدة من غير منازع قدمت الثانية. (مسألة): ادّعى عيناً معلومة تحت يد المدعى عليه أنها ملكه وأقام بذلك بينة، فادّعى ذو اليد أنها ملكه انتقلت إليه بالشراء من رجل سماه وأقام بينة قدمت سواء قالت إنها ملك البائع أم سكتت. (مسألة): إذا قلنا تسمع دعوى الحسبة وإن فائدة سماعها تحليف المدعى عليه، فليس للمدعي أن يحلف يمين الرد أخذاً من تعليلهم القول بالسماع أن البينة قد لا تساعده، ويراد استخراج إقرار المدعى عليه، والمراد إقراره الحقيقي لا الحكمي، وإذا كان ولي اليتيم ونحوه لا يحلف يمين الردّ فيما إذا ادعى حقاً لموليه لم يباشر سببه، فأولى في دعوى الحسبة أن لا يحلف مدعيها، وتسمع دعوى الحسبة على قيم الصبي أنه أتلف مالاً له وله تحليف القيم، وقد مر في الإيصاء ولا تسمع في حدود الله تعالى بلا خلاف، فلو ادّعى على رجل أنه دخل في بيته واختلى بزوجته وقبلها لم تسمع دعواه. (مسألة): ادّعى على آخر أنه شتمه بما يوجب التعزير فالقول قول المدعى عليه، ولا يقال هذه دعوى حسبة إذ المدعي يدعي حقاً لنفسه، فإذا نكل المدعى عليه عن اليمين فالقياس أنه لا يجب التعزير بيمين الرد، كما أنه لا قطع في السرقة بها على المعتمد، وحينئذ لا يحلف المدعي يمين الرد إذ لا فائدة. (مسألة): عبد مأذون له في التجارة أراد الدعوى على ميت. وصورتها أن يدعي أن سيده يستحق في ذمة الهالك كذا، وأنه يعني العبد يستحق تسليمه، وإذا ثبت أن الميت أقرّ للعبد المذكور بكذا فهو إقرار لسيده، فإذا طلب ورثة المقرّ يمين حقيقة الإقرار فهي على السيد، إذ الإقرار في(1/240)
الحقيقة للسيد لا له. (مسألة): أقرّ بعقار لأمه عند الحاكم وحكم بصحته واستمرّ في يدها مدة، ثم ادعى آخر أن العقار مرهون مع أخته من المقر المذكور، وأثبت بذلك حكم بالتعارض أي فيتساقطان حيث لم يعلم سبق التاريخ فإن علم عمل به. (مسألة): الدعوى على الناظر أو الوكيل أو الوصي إنما تسمع الإقامة البينة لا ليحلف، إذ إقرار من ذكر غير مقبول، وحينئذ فلو ادعى الناظر على آخر أن الأرض الموقوفة تستحق السقي على أرض المدعى عليه من جانب كذا شرعاً وأقام بينته، فليس للمدعى عليه طلب يمينه بأنه لا يعلم كذب شهوده ولا إقامة بينة عليه بأنه مقر بكذبهم لما قلنا إن إقراره لاغ، فالدعوى عليه بذلك كذلك. (مسألة): ادعى على آخر دعوى مسموعة وأقام بينة ثبتت عند القاضي، فلما طلب منه الحكم بموجبها وإلزام المدعى عليه بما ثبت عنده ادعى أن معه دافعاً، وأن البينة غائبة الغيبة المسقطة حرم على الحاكم تأخير الحكم بسبب ما ذكر. (مسألة): له دين على آخر مقرّ به غير أنه مماطل فظفر له بمال، جاز له أن يأخذ منه بقدر حقه حينئذ. (مسألة): اشترى داراً في غير بلده ثم مات، فبسط أجنبي عليها فأراد ورثة المشتري ثبوت شراء مورّثهم عند الحاكم الذي في بلد الدار، وجب عليه سماع هذه الدعوى والمبينة وتنفيذ مستندهما ورفع يد الباسط وإلزامه أجرة المثل مدة بسطه، ويجب على كل من له قدرة إيصال الوارث إلى حقه. (مسألة): له بذمة آخر دين معلوم، فمات الدائن فادعاه ورثته على المدين، فأقام بينة بالإبراء الصحيح من الميت، احتاج إلى يمين الاستظهار مع البينة كما قاله العزي، خلافاً لابن الصلاح إذ قد يقارن الإبراء مفسد فيحلف أن مورثهم لا يستحق الآن عليه شيئاً مما ادعوه. (مسألة): جرت له عادة قديمة لا يعرف ابتداؤها بإقامة معقم في الوادي المباح يسقي منه أراضي أملاك سلطانية ثم أراضي وقف، فتكسر المعقم ونزل الماء إلى جاره فادعى الجار أنه يستحق السقي بكسر المعقم قبل أراضي(1/241)
الوقف، وأن الشخص هذا متعد يسقيها قبل أرضه وأقام بينة، ثم أقام الأوّل بينة شهدت باستحقاق الأراضي المذكورة قبل أرض الجار، وأن يده ثابتة بحق، قدمت على بينة التعدي. (مسألة): ارتهن داراً أو استأجر أو تساقى نخلاً، فرفع به آخر وادعى أنه يملكها من دون الراهن أو المؤجر أو المتساقي، والحال أن المالك حاضر بالبلد، فإن أضاف المدعى عليه الملك إلى الرهن وما بعده انصرفت عنه الدعوى فلا تسمع عليه، نعم للمدعي تحليفه أنه لا يلزمه تسليمها إليه، وأن ما أقرّ به ملك للمقر له رجاء أن يقرّ به للمقرّ له أو ينكل، فيحلف ويغرمه القيمة، بناء على أن من أقرّ بشيء لشخص بعدما أقرّ به لغيره غرم القيمة للثاني. (مسألة): مات عن زوجة حامل منه وأخ شقيق فولدت غلاماً، فادعت أنه استهلّ صارخاً ثم مات وأنكر الأخ صدق بيمينه، وإذا أقامت بينة على حياته ولو بأربع نسوة ثبتت حياته وثبت الإرث ضمناً، كما يثبت النسب والإرث بشهادتهن بالولادة، وهذا بخلاف الطلاق والعتق المعلقين بالولادة فلا يثبتان بشهادتهن بهما. (مسألة): تعارض البينتين بعد الحكم كالتعارض قبله، كما حققه السمهودي والسبكي إذا علمت ذلك، فإذا باع أرضاً معلومة الذرعان فأقام آخر بينة بوقفية بعضها وثبت ذلك شرعاً، فأراد البائع أن يقيم بينة بالملك واليد حال ثبوت الوقف كان له ذلك ولو بعد الحكم بالوقف، وتقدم بينة الشهادة باليد والملك على بينة الوقف، بناء على ما جرى عليه النووي وغيره من أن تعارض بينتي الملك والوقف، كتعارض بينتي الملك، فتقدم بينة صاحب اليد وتقام البينة المذكورة في وجه مدعي الوقف بشرطه (مسألة): قطعتا أرض متجاورتان إحداهما ملك والأخرى أرض سلطانية، وفي وسط السلطانية زبير يمنع الماء لزراعتها، فادعى مالك الأولى أن الزبير المتوسط في الأرض السلطانية محدث وأنه يضر بأرضه، والحال أن حارث الأرض المذكورة لم يحدثه فالخصم في ذلك هو الناظر، نعم إن كان على الحارث في ذلك ضرر(1/242)
فله أن يطلب من الحاكم دفع ضرره بالطريق الشرعي، وقول الشيخين: إن المستأجر لا يخاصم محله في البدل، أما في العين فالمنقول المعتمد الذي قرره السمهودي أن له المخاصمة فيها. (مسألة): له دين معلوم بذمة آخر، فمات المدين وله عين تحت يد وارثه، فادعى الوارث أنها ملكه دون مورّثه، فليس للدائن إقامة البينة بأنها ملك الميت، إذ ليس للغرماء الدعوى ولا الحلف إذا تركها الوارث، وليس لهم إثبات حق غيرهم لمصلحتهم، بل إذا ثبت تعلق حقهم به، وللقاضي الشافعي أن يقيم من يدعي للميت، ذكره السبكي. (مسألة): تقدم بينة ذي اليد ولو شاهداً ويميناً على بيِّنة الخارج وإن كانت شاهدين على المعتمد. (مسألة): جرت له عادة قديمة بالسقي لأرضه قبل جيرانه وهو يخشى المنازعة من بعضهم وأراد التسجيل بذلك، جاز لمن هو أسفل منه من الجيران، وإن كان بينه وبين مريد التسجيل أراض تسقى قبل أرضه أن ينصب نفسه خصماً للدعوى فيما ذكر، ثم يقيم مريد التسجيل البينة على ذلك ويحكم الحاكم بمقتضاها وجوباً. (مسألة): ادعى الوارث دابة تحت يد آخر وأقام بينة أنها ملك مورثه لم تسمع الدعوى حتى يقول مع ذلك وأنه مات وخلفها إليّ إرثاً، ويشترط أن يقول الشهود: ونحن من أهل الخبرة الباطنة، فإن لم يقولوا ذلك ولم يعلم الحاكم لم يحكم بها. (مسألة): عناء تحت يد شخص في أرض سلطانية، فادعى آخر أنه ملكه ورثه من أمه، فأجاب صاحب اليد باليد والملك من والد المدعي، وادعى الخارج أن أمه انتقلت العناء من والده قبل أن ينتقله منه صاحب اليد، وأقام كل بينة بما ادعاه، قدمت بينة صاحب اليد، ذكره زكريا وهو الأقعد. (مسألة): ادعى على آخر بين يدي الحاكم أنه شكا به إلى الوالي، فهذه دعوى غير مسموعة والبينة المرتبة عليها كذلك، وإذا أكثر المدعي من الدعاوى الباطلة شرعاً زجره الحاكم عن ذلك بما يراه. (مسألة): ادعى على آخر أنه باع منه معاود معلومة من أرضه، فأنكر المدعى عليه وحلف، فادعى ثانياً(1/243)
أنه أقر له بملك الأرض المذكورة ولم يدع الحق نفسه وأقام بينة شهدت على وفق دعواه، ولم يذكر أيضاً أنه أذن له في قبض الأرض بعمد الإقرار، فالدعوى غير مسموعة، والشهادة المذكورة بمجردها غير مقبولة، كما رجحه صاحب المطلب والكمال الرداد. (مسألة): ادعى على آخر دعوى مسموعة وأقام شاهداً بما ادعاه ثم مات المدّعي، فلوارثه أن يقيم شاهداً آخر ويبني على شهادة مورثه، كما قاله الفتى في أنوار الأنوار. (مسألة): ادعى على آخر أن يده وقعت على حمار صفته كذا ووصفه بصفات السلم، فأقر المدعى عليه بوضع يده على الحمار، ثم ادعى أنه اشتراه من شخص لا يعرفه لم يقبل ذلك منه، فللمدعي مطالبته بالقيمة للحيلولة. (مسألة): عبد مقر بالملك عند الحاكم وجماعة لمن هو تحت يده يستخدمه فباعه السيد، فادعى أنه حر الأصل وأقام بذلك بينة، وحكم له القاضي بالحرّية، فأقام السيد الأوّل بينة بإقراره بالرق، قدمت على بينة حرّية الأصل ونقض حكم الحاكم، بخلاف ما لو شهدت بينة بالرق وأخرى بأنه أعتقه فتقدم بينة العتق. (مسألة): لا يجب على المدعي ذكر سبب استحقاق ما ادّعاه، كأن ادّعى ديناً ثابتاً صحيحاً فطلب المدعى عليه بيان سبب الدين.
العتق
(مسألة): قال لمملوكه: أنت حرّ قبل موتي بشهر، فمرض السيد ثلاثة أشهر ومات، عتق العبد من رأس المال مقدّماً على الديون اعتباراً بحال التعليق لا بوجود الصفة، وكذا لو قال له: أنت حرّ آخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بمرض موتي إن مت من مرضي وآخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بموتي إن مت من غير مرض ومات بعد ذلك بمرض أو دونه فإنه يعتق من رأس المال أيضاً. (مسألة): قيل له: عبدك مخنث أو حر؟ فقال: بل حرّ، ثم قال: أردت العفة لا العتق صدق بيمينه.
أمهات الأولاد
(مسألة): ملك المبعض أمة فأولدها، فالمعتمد نفوذ استيلاده، نص عليه في الأم، وجرى عليه الشيخ زكريا وغيره في بعض كتبه، ولا يحل له وطؤها ولو بإذن سيده.(1/244)
خاتمة في فوائد متفرقة
(مسألة): قول الجنيد سيد الطائفة: إن الصادق ينقلب في اليوم أربعين مرّة، والرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة، معناه ما ذكره الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب قال: إن الصادق يدور مع الحق حيثما دار، فإن كان الفضل الشرعي في الصلاة مثلاً صلى، وإن كان في مجالسة العلماء أو الصالحين أو الصبيان أو العيال أو في قضاء حاجة مسلم وجبر قلب مكسور ونحو ذلك فعل الأفضل وترك عادته، وكذلك الصوم والقراءة والأكل والشرب والمزاح والجد والخلطة والعزلة والتنعم والابتذال. والمرائي بضد ذلك فلا يترك عادته فهو مع نفسه لا مع الحق اهـ. فانظر إلى كلامه المختصر الوجيز، فإن ألفاظه كليات تحتها جزئيات، وهذا من مقام الوراثة المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بجوامع الكلم" الخ. (مسألة): الفناء الذي تذكره الصوفية ويعبرون عنه بالفناء عما سوى الله تعالى مقام شريف أطبق عليه علماء أهل الطريق ومشايخهم، قال الأستاذ القشيري: ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لا يشهد من الأغيار لا عيناً ولا أثراً ولا رسماً ولا طللاً يقال له فني عن الخلق وبقي بالحق الخ اهـ، وقال في العوارف: إنه ليس من ضرورة الفناء أن يغيب الإحساس، وقد تتفق غيبة الإحساس لبعض الأشخاص، والكلام في طريق القوم وأحوالهم شديد الأخطار عند ذوي العقول والأبصار، ولا ينتقض الطهر، كما أجاب الناشري بعدم النقض بما يطرق أرباب الأحوال إذا حصل عليهم وجد، وإذا خوطبوا لم يحسوا مع الحركة والإخبار عن الكشف. (مسألة): حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما. وفي لفظ آخر: "من كل مائة سنة رجلاً من أهل بيتي" ذكره الإمام أحمد، قال السيوطي: وهذا حديث مشهور برواية الحفاظ المعتبرين، ففي المائة الأولى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وفي الثانية الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وفي الثالثة ابن سريج أو(1/245)
الأشعري، وفي الرابعة الصعلوكي أو أبو حامد الاسفرائيني أو القاضي أبو بكر الباقلاني، وفي الخامسة الإمام الغزالي بلا خلاف، وفي السادسة الفخر الرازي أو الرافعي، وفي السابعة ابن دقيق العيد، وفي الثامنة البلقيني وزين الدين العراقي أو ابن بنت المليق، وكان شيخنا الطنبداوي يذكر أن الشيخ زكريا مجدد المائة التاسعة، وكان السيوطي ينسب التجديد فيها إلى نفسه، ولا شك أن الانتفاع بالشيخ زكريا أكثر وأشهر، فهو المجدد إن شاء الله تعالى. قلت: والذي تلقيناه من المشايخ أن المجدد في المائة العاشرة الشيخ أحمد بن حجر الهيثمي أو الإمام محمد الرملي ورجحه بعضهم لكون الإمام ابن حجر مات قبل مضي القرن، وفي الحادية عشرة سيدنا القطب عبد الله بن علوي الحداد علوي، وفي الثانية عشرة القطب أحمد بن عمر بن سميط علوي. وهذا آخر القرن الثالث عشر نرجو من المولى تجديده بأحد من خواصه المقربين اهـ. وفي الطبقات للسبكي في الكلام على رواية رجل من أهل بيتي ما يفيد أنه يعني المجدد بعد المائة الثانية يكون من أصحاب الشافعي لا غير، قال: لأنا لما لم نجد من أهل البيت من هو بهذه المثابة علمنا أنه المقرر لمذهبه، ومن شروط المجدد أن تمضي المائة وهو باق يشار إليه، وينصر السنة في كلامه، وأن يكون جامعاً لكل فنّ، وكونه فرداً كما هو المشهور في الحديث وعند الجمهور. (مسألة): معنى قول الشيخ أحمد بن موسى المشرّع: من اتصلت نعم الله إليه كثرت مؤن الخلق عليه، ومن لم يتحمل بتلك المؤن عرّض نفسه لزوال تلك النعم، هو معنى حديث البيهقي وغيره مرفوعاً: "ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه، فمن لم يتحمل تلك المؤنة فقد عرض تلك النعمة للزوال". ثم اعلم أن النعم الحقيقية وهو ما رزقه العبد من مقام الخلافة والخلفاء متفاوتون في ذلك، بحسب ما أعطوا من الخلافة والمؤن، تختلف كثرة وقلة بحسب ذلك، قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} الآية. (مسألة): معنى(1/246)
قول النبي لعائشة رضي الله عنها لما قالت له: إن أبا بكر رجل أسيف - حين قال - : "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس: إنكن صواحبات يوسف، هو أنك أظهرت الأسف وأبطنت تشاؤم الناس بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما أن زليخا صاحبة يوسف أظهرت للنسوة الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وفي فتح الباري: أن السائل لعائشة أبو بكر رضي الله عنهما إذ فهم من الإمامة الصغرى الإمامة الكبرى وخاف عدم القيام بها. (مسألة): قوله : "فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" حامل لها ولأولادها، فيكونون بواسطتها بضعة منه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لما ثبت من قول عمر رضي الله عنه في خطبته لأم كلثوم ابنة فاطمة رضي الله عنهما: إني أحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقال ابن عمر للحسين: إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بواسطة فاطمة، بل جاء أن أم الفضل رأت أن بضعة من جسده عليه الصلاة والسلام وضعت في حجرها، فقال لها : "خيراً رأيت تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيوضع في حجرك،" فولدت الحسن فقد جعله بضعة منه بواسطتها، قال السمهودي في جواهر العقدين وهو كتاب جيد مشتمل على ما فيه، مقنع لمن امتلأ قلبه بحب النبي ما لفظه: وكل من شوهد اليوم من ولد فاطمة فهو بضعة من تلك البضعة وإن تعدّدت الوسائط، ومن تأمل ذلك كيف لا ينبعث من قلبه داعي الإجلال والتعظيم لهم ويجتنب بغضهم على أيّ حال كانوا، واحذر أن تمني النفس في بغضهم لما يرى في بعضهم من الابتداع وعدم الاتباع فلا يخرجهم عن دائرة الذرية ولا النسبة النبوية، وأما سبّ فاطمة رضي الله عنها فإن صدر من مستحل له فهو كافر مرتد، أو غير مستحل ففاسق بالإجماع ملعون، بل أخذ البيهقي من حديث: "يغضبني ما يغضبها" أنه كفر، وسبّ عائشة رضي الله عنها بالفاحشة الكبرى فسق بالإجماع. وقال(1/247)
القاضي: من سبّ أزواجه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قتل لأنه سبّ له، والمنافق هو الذي يبطن الكفر والعياذ بالله تعالى، وهو من أقبح أنواع الكفر، ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار، لكنا نجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام من حدود وغيرها، كما أن الكافر المتظاهر إذا قذف مسلماً حدّ إن كان ملتزماً للأحكام. (مسألة): حديث عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً منهم الرسل ثلثمائة وثلاثة عشر صححه ابن حبان، ولا حرج في ذكر الأنبياء، والاحتياط أن لا يقتصر على عدد في التسمية، إذ لا يؤمن في العدد أن يدخل أو يخرج من ليس كذلك. (مسألة): جماعة يجتمعون على قهوة فيقول أحدهم: النور سيد المرسلين، ويقول الباقون:، فقوله النور الخ ليس بذكر فلا يثاب عليه ويثاب المجيبون ثواب الصلاة على النبي، فيكون هو قد ارتكب المكروه بترك الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فالأولى له المشاركة، واجتماعهم على الصلاة المذكورة يكون ذكراً لأنها من أفضل الذكر، نعم الأولى لهم ترك الألحان المرجعة بينهم، فقد صرح السيوطي بتحريمها لكن إن كان فيها إساءة أدب أو تغيير للمعنى. (مسألة): من ادعى أنه رأى الحق سبحانه وتعالى في المنام سلمت له دعواه، فإن كان كاذباً فعليه كذبه، قال الإمام النووي عن القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله جلّ وعلا في المنام وصحتها، وإن رآه على صفة لا تليق بجلاله تعالى من صفات الأجسام، لأن ذلك المرئي غير ذاته سبحانه وتعالى، إذ لا يجوز عليه التجسيم ولا اختلاف الأحوال، بخلاف رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فهي كسائر أنواع الرؤيا من التمثيل والتخييل، قال الغزالي: معنى رؤية الله تعالى في المنام أنه رأى مثاله لا أنه رأى ذاته، والمثال في حقه تعالى جائز والمثل باطل إذ هو عبارة عن المساوي في جميع الصفات والمثال لا يحتاج فيه إلى المساواة، ومن رأى الحق سبحانه وتعالى في منامه(1/248)
على نوره ومهابته ولم يعاين صورة ولا مثالاً بعينه، بل رآه بقلبه عظيماً ورأى أنه كلمه وأكرمه وأدناه وبشره بدخول الجنة فتلك الرؤيا بشرى له، وكذا إن رآه ينظر إليه أو معه في بيت، أو أنه مسح على صدره، أو كأنه نظره تعالى، فمثل هذه المرائي لا يراها إلا أهل الأنوار المخلصون المشمرون، وأن رأى كأنّ الحق نزل إلى الأرض، فإن كان على صورة جمال ولطف فإن العدل يبسط في تلك الأرض وينالون خصباً ونعمة، وإن كان على صفة هيبة وقهر دلّ على خراب المكان، ومن رآه في صورة أبيه أو أمه أو ولده أو أخيه أو ذي مودة له دلّ على فضل ولطف من الله تعالى وشفقة بقدر ذلك. (مسألة): ما يفعله بعض الصالحين من تكرير بعض سور القرآن في حزب له أصل في السنة كحديث: "من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرّة" الخ. وحديث: "اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرات يكفيك من كلّ شيء". وسورة الكهف ليلة الجمعة ويومها والاستكثار منها فلا حجر على من كرر آية أو سورة، وليس ذلك من البدع المذمومة بل من المحمودة المثاب عليها، ويجب منع من أنكر على من فعل ذلك إذ إنكاره هو المنكر. (مسألة): حديث: يس لما قرأت له لا أصل له ولم أر من عبر بأنه موضوع، فيحتمل أنه لا أصل له في الصحة، والذي أعتقده جواز روايته بصيغة التمريض نحو بلغنا كما يفعله أصحاب الشيخ إسماعيل الجبرتي رضي الله عنه، والله أعلم.(1/249)