روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 1(1/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ على محمد معوض الجزء الاول دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(1/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (1) * (يا أيها الذين اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام، أن الله كان عليكم رقيبا) * (2). * (يا الذين آمنوا اتقوا الله قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا علظيما) * (3) أما بعد: فنستهل تقدمتنا على روضة الطالبين ببيان فضل العلم وأهله وشروط تعلمه فنقول ولله الحمد والمنة.
اعلم هدانا الله وإياك إلى سبيل والرشاد ورزقنا الحرص على تحصيل مرضاته فلا بد للعبد حتى يستقيم مع منهج الله سبحانه وتعالى من أربعة أشياء : العلم والعمل والاخلاص والخوف - فمن لم يعلم فهو أعمى ومن لم يعمل بما(1/3)
علم فهو محجوب ومن لم يخلص العمل فهو مغبون ومن لم يلازم الخوف فهو مغرور كما هو معلوم ومشهور. فأما فضائل العلم وأهله فأكثر من أن تحصى وأعظم من أن تستقصى من الآيات والاحاديث النبوية ولنتبرك بذكر شئ منها. فأما الكتاب :
قال الله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (1) وقال تعالى: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * (2) وقال تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) * (3) بدأ الله سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالعلماء دون سائر خلقه فيكون من عداهم دونهم وهو المطلوب. وقال تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (4) وعادة العرب في سياق الامتنان تأخير الافضل وتقديم المفضول على الافضل فتكون موهبته عليه السلام من العلم أفضل من موهبته من الانزال المتضمن للبنوة والرسالة وهذا أشرف. وقال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام في أمر الهدهد: * (لاعذبنه عذابا شديدا) * فلما جاء الهدهد قال: * (أحطت بما لم تحط به) * (5) اشتدت نفسه واستعلت بما عليه على سيد أهل الزمان ورسول الملك الديان مع عظم ملكه وهيبة مجلسه وعلم الهدهد بحقارة نفسه. فلولا أن العلم يرفع من(1/4)
الثرى إلى الثريا لما عَظُم الهدهد بعد أن كان نسيا منسيا. فلا جرم أبدل له العقوبة الاكرام النفيس وأسبع عليه خلع الرسالة إلى بلقيس. وقال تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري عن تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) * (1) فنقول إن خير البرية من يخشى الله وكل من يخشى الله تعالى فهو عالم فخير البرية عالم فأثبت الخشية لخير البرية وهو المطلوب. وقال الله تعالى: * (إنما يخشى الله من عبادة العلماء) (2). أضاف الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم وهو المطلوب. وأما السنة : - فعن معاوية رضي الله عنه قال : قال : رسول - صلى الله عليه وسلم - من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (3) والقاعدة أن المبتدأ مخصور في الخير والشرط اللغوي محصور في مشروطه لانه سبب فيكون المراد: الخير محصور في المتفقة فمن ليس بمتفقه لا خير فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وخفت بهم الملائكة وذكر هم الله فيمن عنده (4)(1/5)
فالريق الذي يسلك به فيها إلى الجنة فمعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الانبياء وإن الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1) وأما وضع الملائكة أجنحتها فقيل تكف عن الطيران لتجلس فتسمع منه وقيل تكف عن الطيران توقيرا له وقيل ستكف عن الطيران لتبسط أجنحتها له بالدعاء ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك له فعلته. وأما استغفار هم فهو طلب ودعاء له بالمغفرة ظنك بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمر هم ويفعلون بالبدر ففيه أمور: منها: أن العالم يكمل بقدر اتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - لان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الشمس لقوله تعالى: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيان إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * (2). والسراج الشمس لقوله تعالى: * (وجعلنا سراجا وهاجا) * (3) ولما كان القمر يستفيد من الشمس وكلما كثر توجهه إليها كثر ضوءه حتى يصير بدرا(1/6)
فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإقباله عليه توفر كماله. ومنها: أن العالم إذا أعرض عن فهم النبي صلى الله عليه وآله فسد حاله كما أن القمر إذا حيل بينه وبين الشمس كسف. ومنها: ان الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له وضوء البدر عظيم المنفعة منتشر الاضواء منبعث الاشعة في الاقطار برا وبحرا وهذا هو شأن العالم، وأما العابد فكالكوب حينئذ لا يتعدى نوره محله ولا يصل نفعه إلى غيره. وعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكة وأهل السموات والارض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير (1) وهذا الحديث أبلغ من الحديث السابق فإن فضله عليه السلام على أدنا هم أعظم من فضل القمر على الكواكب أضعافا مضاعفة. أولا: إن العلم معتبر في الالهية وكفى بذلك شرفا عند كل عاقل على العبادات وغيرها. ثانيا: إن كل خير مكتسب في العالم بسبب العلم وكل شريكتسب في العالم فهو بسبب الجهل. ثالثا: إن الله تعالى لما أراد بيان فضل آدم على الملائكة وإقامة الحجة عليهم علمه أسماء الاشياء كلها ثم سألهم فلم يعلموا وسأله فعلم فاعترفوا حينئذ بقضيلة وأمرهم بالسجود له في لعنته وهذا حال العلم بأسماء الاشياء أو علامتها على الخلاف في من الله تعالى بقبيح لعنته وهذا حال العلم بأسماء أو علامتها على الخلاف في ذلك فكيف العلم بحدود الدين وما يتوصل به إلى رب العالمين. فإن العالم ينقل عن الحق للخلق فيقول: إن الله تعالى حرم عليكم كذا(1/7)
وأوجب عليكم كذا وأذن لكم في كذا فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه وموصله إلى مستحقه والدافع عن تحريف المحرفين وتبديل المبدلين وشبه المبطلين. وكفى بذلك شهيدا على فضل العلم والعلماء. شروط تعلمه فأما عن شروط تعلم العلوم وتعليمها فكثيرة: أحد ها: أن يقصد بها ما وضع ذلك العلم له فلا يقصد غير ذلك كاكتساب مال أوجاه أو مغالبة خصم أو مكابرة. ثانيا: أن يقصد العلم الذي تقبله طباعه إذ ليس كل أحد يصلح لتعلم العلوم ولا كل من يصلح لتعلمها يصلح لجميعها لجميعها بل كل ميسر لما خلق له. ثالثا: أن يعلم غاية العلم ليكون على ثقة من أمره. رابعا: أن يستوعب ذلك العلم من أوله إلى آخره تصورا وتصديقا. خامسا: أن يقصد فيها الكتب الجيدة المستوعبة لجميع مسائل العلم. سادسا: أن يقرأ على شيخ مرشد وأمنى ناصح ولا يستبد بنفسه وذكائه. والله در القائل: - من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة * يكن عن الزيغ والتحريف في حرم من يكن آخذا للعلم عن صحت * فعلمه عند أهل العلم كالعدم وقال آخر: أمدعيا علما وليس بقاري * كتابا على شيخ به يسهل الحزن أتزعم أن الذين يوضح مشكلا * بلا مخبر تالله قد كذب الذهن وإن ابتغاء العلم دون معلم * كموقد مصباح وليس له دهن سابعها: أن يذاكر الاقران والانظار طالبا للتحقيق لا المغالبة بل للمعاونة على الفائدة بل للاستفادة.(1/8)
ثامنا: أنه إذا علم ذلك العلم لا يضيعه بإهماله ولا يمنعه مستحقه ولا يؤتيه غير مستحقه. تاسعا: أن لا يعتقد في علم أنه حصل مقدارا لا تمكنه الزيادة عليه فذلك نقص وحرمان. عاشرا: أن يعلم أن لكل علم حدا فلا يتجاوزه ولا ينقص عنه. وبهذا يتضح لنا أن العلم حياة للقلوب وبه يعرف الحلال والحرام فمن تحلى به فقد ساد.
الفقه وتطوره
إن المقصد الأسنى من علم الفقه تطبيق الاحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم فالفقه هو مرجع القاضي في قضائه والمفتي في فتواه ومرجع لكل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال وهذه الغاية منه. فيطلن الفقه في اللغة على الفهم مطلقا سواء كان المفهوم دقيقا أم غيره وسواء كان غرضا لمتكلم أم غيره (1). وفي الاصطلاح: هو العلم بالاحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية (2). وقيل الفقه علم مستنبط يعرف منه أحكام الدين. وقال النسفي: الفقه هو الوقوف على المعنى الخفي الذي يحتاج في حكمه إلى النظر والاستدلال. يقول ابن خلدون (3) رحمه الله. الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والاباحة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصه الشارع لمعرفته من الادلة فإذا استخرجت الاحكام من تلك الادلة قيل لها فقه.(1/9)
ومن تتبع تاريخ النظم والشرائع يستبين أن أي نظام في الحياة منذ بدأت وكان لها تاريخ لم يقم طفرة ولم يتكون جملة على نحو متماسك بل لابد أن يمر بجميع الادوار التي يمر بها كل كائن ذي حياة حتى يصل إلى غايته من النضج وهكذا شأن تحت ظل قواعد كلية وأصول عامة بوحي من الله تعالى وتلك القواعد والاصول قد الحتواها القرآن الكريم وسنة وسوله صلى الله عليه وآله التشريعية قولا وعملا و تقريرا. ثم جاء دور البناء على تلك الاصول والاسس ثم جاء دور النضج واستكمال مقوماته والارتفاع به على يد طائفة من الائفة المجتهدين المخلصين الذين كان لهم صدق في القول والفعل فوصلوا به إلى غايته. وتنحصر هذه الادوار فيما يأتي: - أولا: التشريع في عهد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله لقد جاء الاسلام إلى كافة لكنه بدأ بإصلاح شأن العرب الذين اختارهم. الله لنصرة دينه ودعاء إليه وكان حال العرب آنذاك قائما على الوثنية في الدين والفوضى في نظان المجتمع فكان لابد من خلاصهم من هذه الفوضى واستخلاصهم لنصرة سبحانه وتعالى ويوجهم نحو إخلاص العبادة له تعالى ويمحو من بينهم العادات المستخبثة ويطبعهم على غرار حسن من الاخلاق الفاضلة والنوايا الكريمة، وبأن يصح لهم نظاما حكما يتناول كل شؤونهم ليسيروا على هدية في نواحي الحياة المختلفة ولقد اتجه الاسلام في أول أمره إلى إصلاح القيده فإنها القاعدة التي بنى عليها ما عداه حتى إذا تم له الغرض الاول أخذ فيما يليه من وضع نظم الحياة فشرع لهم الاحكام التي تتناول شؤونهم وتفصل بحياة الفرد والجماعة في كل ناحية من نواحيها في العبادات والمعاملات والجهاد والجنايات والمواريث والوصايا والزواج والطلاق والايمان النذور والقضاء ومتعلقاته وكل مسائل الفقة الاسلامي. وطريقة التشريع في هذا العصر كانت سائرة على نهج واحد لان السلطة التشريعية كانت للنبي صلى الله عليه وآله وحده دون أن يتدخل فيها أحد سواه وأن المرجع الاساسي له صلى الله عليه وآله كان الوحي بقسميه المتلو وهو القرآن وغيره المتلو وغير المتلو وهو السنة.(1/10)
قال الله تعالى * (وما ينطق عن الهوى طن هو إلا وحى يوحى) *. فلم يكن ثمة خلاف لان المصدر الالهي قد أفاض بالنور على الامة البشرية. ثم يأتي الدور الثاني وهو بعد التقاء النبي صلى الله عليه وآله بالرفيق الاعلى وهو ما يسمى عند البحاحثين بالتشريع في عهد الخلفاء الراشدين فلما توفى الحيبب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله تاركا وراءه أصحابه رضي الله عنهم الذين رأوه وحفظوا كلامه وشاهدوا أفعاله فلم يترك لهم فقها مدونا إنما ترك لهم جملة من الاصول والتشريعات كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سواء كانت أقوال أو أفعال أو تقريرات وكان هذا كفاية لهم في شؤونهم آنذاك ولكن لما استعت رقعة الاسلام وامتد سلطانه إلى أمم إلى تنظيم ذلك وتقعيده سواء في هذا أمور الدين أو أمور الدنيا فبدأ الفقه حينئذ يتطور وأخذ يخطو الصحابة للاحكام في ذلك العصر. قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله صلى عليه وسلم فضاء فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشار هم فإن أجمع رأيهم على شئ قضى به. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فكان اعتماد هم في فتاوا هم على الكتاب والسنة والاجماع والقياس (1). وبعد عصر الخلفاء الراشدين وكبار أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل القرن الثاني من هجرة سيد الانام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/11)
وكان التشريع في هذا الدور يسير على سنن ماكان عليه في الدور السابق من حيث الاعتماد على الكتاب والسنة والاجماع والقياس ويضاف إلى ذلك فتاوى أصحاب الصدر الاولى فالخطة التشريعية في هذا العصر هي بعينها في العصر الاول غير أن مبدأ الشورى لم يعدله من المنزلة وما كان له في العصر السابق لاحتلاف المسلمين وتفرقهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وانقسموا بسبب ذلك إلى خوارج وشيعة وأهل السنة والجماعة وهو جمهور الامة وانتج هذا الخلاف تشعب الخلافات الفقهية وظهور المدارس الكثيرة وانقسام العلماء في ذلك العصر إلى أهل حديث وأهل رأي ولكل منهما مدرسته إلى الخاصة التي أنشأها وكان لها دور كبير في نشأة الفقه الاسلامي وتطوره ثم بدأ الفقه إلى نمو آخر في أول القرن الثاني من هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهي في منتصف القرن الرابع من الهجرة وهذا العصر كما يقول عنه الباحثون هو العصر الذهبي للتشريع الاسلامي فقد نضج وأثمر ثروة تشريعية أغنت الدولة الاسلامية بالقوانين والاحكام على سعة أرجائها وإختلاف شؤونها وتعدد مصالحها واتجه المسلمون في هذا العصر إلى ما لم يتسع له زمن أسلافهم ولم تتهيأ لهم أسبابه فأفرغوا كثيرا من جهود هم في التدوين والتصنيف وتنظيم المسائل وفي تتهيأ لهم أسبابه فأفرغوا كثيرا من جهودهم في التدوين والتصنيف وتنظيم المسائل وفي هذا العهد نشأ أعلام الهم مواهبهم واستعداداتهم وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات فتكونت الملكات التشريعية لكثير من أفذاذ هم أمثال أبي حنيفة ومالك وبهذا فقد تضخم الفقه الاسلامي ونما وعلا وأصبح شاملا لما تجدد مع الحضارة الحديثة من الوقائع ومقتضيات العمران.
في ذكر شئ من كتب المذهب وبيان المعتمد منها
اعلم أن كتب الامام الشافعي رحمه الله تعالى صنفها في صنفها في الفقه أربعة: الام - الاملاء - البويطي ومختصر المزني. هذا في الجديد وأما القديم فالأمالي ومجمع الكافي وعيون المسائل والبحر المحيط. فاختصر الاربعة الاولى المتحدثة بلسان الجديد من مذهب الامام الشافعي إمام(1/12)
الحرمين في كتابه النهاية وقيل غير ذلك واختصر الغزالي رحمه الله النهاية إلى البسيط ثم اختصر البسيط إلى الوسيط وهو إلى الوجيز ثم اختصر الوجيز إلى الخلاصة واختصر المصنف رحمه الله المحرر للرافعي إلى المنهاج ثم اختصر الشيخ زكريا الانصاري المنهاج إلى المنهج ثم اختصر الجوهري المهنج إلى النهج وشرح الرافعي الوجيز بشرحين صغير لم يسمه وكبير سماه العزيز فاختصر المصنف رحمه الله العزيز إلى الروضة وهو الكتاب الذي نحن بصدده ثم اختصر ابن مقري الروضة إلى الروض وشرحه شيخ الاسلام زكريا الانصاري في كتاب سماه أسنى المطالب ثم اختصر ابن حجر الروض في كتاب سماه النعيم واختصر الروضة أيضا المزجد في كتاب سماه العباب فشرحه ابن حجر شرحا جمع فيه فأوعى سماه الايعاب واختصر الروضة الحافظ السيوطي مختصرا سماه الغيثية ونظمها نظما سماه الخلاصة واختصر القزويني العزيز شرح الوجيز إلى الحاوي الصغير فنظمنه ابن الودري في بهجته فشرحه شيخ الاسلام بشرحين فأتى ابن المقري فاختصر الحاوي الصغير إلى الارشاد فشرحه ابن حجر في شرحين. قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: في أثناء كلام من ذيل تحرير المقال بعد أن تكلم عن المختصرات قال: ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح يريد العزيز - ونقحه وحرره واستدرك على كثير من كلامه مما وجده محلا للاستدراك وسمى هذا المختصر روضه الطالبين - وهو الذين نحن بصدد تحقيقة - قال: ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم فمنهم المحشون وهم كثيرون أطالوا النفس في ذلك حتى بلغت حاشية الامام الاذرعي وهي التوسط والفتح بين الروضة والشرح إلى فوق الثلاثين سفرا وكذلك الاسنوي حشى في كتاب سماه المهمات وكذلك ابن العماد والبلقيني فجمع الزركشي حواشيهم في كتابه المشهور الخادم وقد مرت الاشارد إليه. قال العلامة ابن حجر وغيره من المتأخرين. قد أجمع المحققون على أن الكتب المتقدمة على الشخين لا يعتد بشئ منها إلا بعد كمال البحث والتحرير حتى يغلب على الظن أنه راجح في مذهب الشافعي ثم قالوا هذا في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحد هما تعرضا له فالذي أطبق عليه المحققون أن المعتمد ما اتفقا عليه فإن اختلفا ولم يوجد لهما مرجح أو وجد ولكن على السواء فالمعتمد ما قاله(1/13)
النووي وإن وجد لاحدهما دون الآخر فالمعتمد ذو الترجيح. قال الكردي رحمه الله تعالى في المسلك العدل والفوائد المدنية: فإن تحالفت كتب النووي فالغالب أن المعتمد التحقيق فالمجموع فالتنقيح فالروضة والمنهاج ونحو فتواه معتمدا لكنه نادر حدا وقد تتبع من جاء بعدهما كلامهما وبينوا المتعمدمن عيره بحسب ما ظهر لهم ثم إن لم يكن للشيخ ترجيح فإن كان المفتى من أهل الترجيح في المذهب أفتى بما ظهر له ترجيحه مما اعتمد أئمة مذهبة ولا تجوز له الفتوي بالضعيف عندهم وإن ترجح عنده لانه إنما يسأل عن الراجح في المذهب لا عن الراجح عنده إلا إن نبه على ضعفه وأنه لا يجوز تقليده للعمل به حيث كان كذلك فلا بأس وإن لم يكن من أهل الترجيح.
المخطوطات التي استعنا بها في كتابة الحاشية
1 - البيان. تأليف الامام أبي الخير يحيى بن سالم بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن موسى به عمران الشهير بالعمراني اليمني المولود سنة 558. - نسخة تحت رقم (1543).
2 - التاج في زوائد الروضة على المنهاج: تأليف نجم الدين محمد بن عبد الله ابن قاضي عجلون المتوفي سنة 786. نسخة تحت رقم (17017).
3 - التدريب: لشيخ الاسلام سراج الدين أبي حفص عمربن رسلان بن نصير بن صالح الكناني البلقيني المولود الثاني عشر من رمضان سنة 724 المتوفى عاشر ذي القعدة سنة 805. نسخة (527).
4 - التعقبيات على المهمات: تأليف العلامة شهاب الدين أمحمد بن العماد ابن يوسف الافقهيسي المتوفي سنة 808. - نسخة تحت رقم (1584).
5 - مختصر الروضة: اختصار العلامة الاصفوني من علماء القرن الثامن.(1/14)
- نسخة تحت رقم (16790)
6 - المهمات في شرح الرافعي والروضة صاحب جواهر البحرين. - نسخة تحت رقم (1684).
7 - فتح العزيز على كتاب الوجيز: للامام أبي القاسم عبد الريم الرافعي القسم المخطوط منه. - نسخة تحت رقم (1681)
8 - قوت المحتاج شرح المنهاج: للاذرعي صاحب التوسط ذكره. - نسخة (1723)، (17825).
9 - زوائد روضة الطالبين: جمعها الصدر الكبير شرف الدين أبي عمر عثمان بن حمزة بن عثمان الرومي من علماء القرن السابع. - نسخة تحت رقم (1652).
10 - الشامل: تأليف العلامة أبي نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر المعروف بابن الصباغ المولود ببغداد سنة 400 المتوفى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الاولى سنة 477 ببغداد. - نسخة تحت رقم (1658).
11 - الحاوي: تأليف الامام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوري المتوفي يوم الثلاثاء من شهر ربيع الاول سنة 4 50 وعمره ست وثمانون سنة - نسخ رقم (1600)، (19303).
12 - جواهر البحرين في تناقض الحبرين: تأليف جمالدين أبي محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الامولي الاسنوي المولود بإسنا من صعيد مصر في العشر الاخير من ذي الحجة سنة 704 المتوفي سنة 772. - نسخة تحت رقم (159 6).
13 - تعليقة الفوائد على شرح الرافعي والروضة. تأليف أبي عبد الرحمن بن زهرة الشافعي.(1/15)
- نسخة تحت رقم (6985).
14 - التوسط والفتح بين الروضة والشرح تأليف الامام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجربن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف بن خالد الاذرعي المولود بأذرعات في وسط سنة 807 المتوفي في خامس عشر جمادى الآخرة سنة 783. - نسخ 1576، (1718)، (19259).
15 - ارشاد المختاج إلى شرح المنهاج: تأليف قاضي القضاة بدر الدين أبي الفضل محمد بن أبي بكر المعروف بقاضي شهبة الاسدي المتوفي سنة 874.
- نسخة دار الكتب المصرية تحت رقم (1528).
16 - الاعتناء في الفرق والاستثناء تأليف الشيخ الامام بدر الدين محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري وهو بتحقيقنا (فمنا بتحقيقه على ثلاث نسخ).
17 - البحر المحيط في الشرح الوسيط: تأليف الامام نجم الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي الحرم مكي المخزومي المشهور بالقمولي المتوفى في سنة 727 وهو في الثمانين.
- نسخة دار الكتب تقع تحت رقم (19258).
18 - بحر المذهب : تأليف الشيخ الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن اسماعيل بن أحمد بن محمد المشهور بالروياني المولود سنة 415 من ذي الحجة المتوفى 502 .
19 - المعاياة في العقل لابي العباس أحمد بن محمد الجرجاني الشافعي المتوفى سنة 482. - نسخة تحت رقم (915) فقه شافعي.
20 - خادم الرافعي والروضة في الفروع. قال ابن حجر عنه ثم جمع الخادم طريق المهمات فاستمد من التوسط للاذرعي كثيرا وهي كثيرا وهي تقع في أثني عشر جزءا وهي خزانة دار الكتب المصرية.(1/16)
21 - حاشية الكبري: وهي نكت على روضة الطالبين وهي نسخة محفوظة بمكتبة مسجد بدمياط بمصر ونسخة أخرى بمكتبة البلدية بالاسكندرية (1).
المصنف وزوائده
قال لفيف من أهل العلم: إن الشارح إذا زاد على الاصل فالزائد لا يخلوا إما أن يكون بحثا أو اعتراضا إن كان بصيغة البحث والاعتراض أو تفضيلا لما أجمله أو نكميلا لما نقصه وأهمله والتكميل إن كان له مأخذ من كلام سابقة أو لا حقه فابراز وإلا فاعتراض وضيغ الاعتراض ويتوجه وما اشتق منه أعم منه من غيره ونحو إن قيل له لمالا يندفع له يزعم المتعرض ويتوجه وما اشتق منه أعم منه من غيره ونحو إن قيل له مع ضعف فيه وقد يقال ونحوه لما فيه من ضعف شديد ونحوه لقائل لما فيه ضعف ضغيف وفيه بحث ونحوه لما فيه قوة سواء تحقق الجواب أولا وصيغة المجهول ماضيا أو مضارعا ولا بيعد. ويمكن كلها ضيغ التمريض تدل على ضعف مدخولها بحثان كان أو جوابا. وأقول وقلت لما هو خاصة القائل. وإذا قيل حاصله أو محصله أو تحريره أو تنقيحه أو نحو ذلك فذلك إشارة إلى قصور في الاصل أو اشتماله على حشو. وتراهم يقولون في مقام إقامة شئ مقام آخر مرة تنزل منزلة وأخرى أنيب منابه وأخرى أقيم مقامه فالاول في إقامة الاعلى مقام الادني والثاني بالعكس والثالث في المساواة وإذا رأيت واحد منها مقام آخر فهناك نكته. يقول السبكي في طبقاته (2): ولا يخفي على ذي بصيرة أن لله تبارك وتعالى عناية بالنووي ومصنفاته ويستدل على ذلك بما يقع في ضمنه من فوائد حتى لا تخلو ترجمته عن الفوائد. فنقول: ربما غير لفظا من ألفاظ الرافعي إذا تأمله المتأمل استدركه عليه وقال: لم يف بالاختصار ولا جاء بالمراد نجده عند التنقيب قد وافق الصواب ونطق بفصل(1/17)
الخطاب وما يكون من ذلك عن قصد منه لا يعجب منه فإن المختصر ربما غير كلام من يختصر كلامه لمثل ذلك وإنما العجب من تغيير يشهد العقل بأنه لم يقصد إليه ثم وقع فيه على الصواب وله أمثله: منها قال الرافعي رحمه الله في كتاب الشهادات في فصل التوبة عن المعاصي الفعلية في التاوب أنه يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه أصلح عمله وسريرته وأنه صادق في توبته. وهل تتقدر تلك المدة ؟ قال قائلون: لا، إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه ويختلف الامر فيه بالاشخاص وأمارات الصدق هذا ما اختاره الامام والعبادي واليه أشار صاحب الكتاب بقوله حتى يستبرئ مدة فيعلم إلى آخره، وذهب آخرون إلى يقدير ها وفيه وجهان قال أكثر هم يستبرأ سنة، انتهى بلفظه فإذا تأملت قوله قال أكثر هم وجدت الضمير فيه مستحق العود على الآخرين الذاهبين إلى تقديرها، لا إلى مطلق الاصحاب، فلا يلزم أن يكون أكثر الاصحاب على التقدير، فضلا عن التقدير بستة، فهذا ما يعطيه لفظ الرافعي، في الشرح الكبير وصرح النووي في الروضة بأن الاكثرين على تقدير المدة بسنة فمن عارض بينها وبين الرافعي بتأمل قضى بمخالفتها له لان عبارة الشرح لا تنقضي أن أكثر الاصحاب على التقدير، وأنه سنة، بل إن أكثر المقدرين الذين هم من الاصحاب على ذلك، ثم يتأيد هذا القاضي بالمخالفة بأن عبارة الشافعي رضى الله عنه ليس فيها تقدير بسنة، ولا بستة أشهر، وإنما قال: أشهر، وأطلق الاشهر رضي الله عنه إطلاقا، إلا أن هذا إذا عاود كتب المذهب وجد الصواب ما فعله النووي، فقد عزا التقدير، وإن مقداره سنة إلى أصحابنا قاطبة، فضلا عن أكثر هم، الشيخ أبو حامد الاسفراييني في تعليقة وهذه عبارته: قال الشافعي: ويختبر مدة أشهر ينتقل فيها من السيئة إلى الحسنة، ويعف عن المعاصي. وقال أصحابنا: يختبر سنة انتهى. وكذلك قال القاضي الحسين في تعليقته ولفظه قال الشافعي: مدة من المدد. قال أصحابنا: سنة انتهى. وكذلك الماوردي، ولفظه: وصلاح عمله معتبر بزمان اختلف الفقهاء في(1/18)
حده، فاعتبر بعضهم بستة أشهر، واعتبره أصحابنا بسنة كاملة) انتهى. وكذلك الشيخ أبو إسحاق، فإنه قال في المهذب: وقدر أصحابنا المدة بسنة وكذلك البغوي في (التهذيب)، وجماعات كلهم عزوا التقدير بالسنة إلى الاصحاب، فضلا عن أكثر هم، ولم يقل: بعض الاصحاب إلا القاضي أبو الطيب، وإلامام، ومن تبعهما، فإنهم قالوا: قال بعض أصحابنا تقدر بسنة، وقال بعضهم، زاد الامام أن المتحققيق على عدم التقدير. ومن تأمل ما نقلناه، أيقن بأن الاكثرين على التقدير بسنة، وبه صرح الرافعي في (المحرر) ولوح إليه تلويحا في الشرح العصير)، فظهر حسن صنع النووي، وإن لم يقصد، عناية من الله تعالى به.
وصف مخطوطات الكتب
وهي تنقسم إلى قسمين: أولا: النسخ التي اعتمدنا عليها في ضبط النص. الاولى: وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية مكتوبة بخطوط مختلفة بخط جيد واضح وهي كاملة لا نقص فيه وقع في آخرها قوله: فرغ من نسخ هذه المجلدة يوم الجمعة قبل الزوال خامس عشرين جمادى الاولى سنة إحدى واربعين وسبعمائة بمدينة السلام بغداد حماها الله وصانها مع سائر المسلمين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وقد جعلنا تلك النسخة أصلا للكتاب ورمزنا له بالرمز (أ). الثانية: وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية مكتوبة نسخ غير أنها تنتهي إلى نهاية كتاب الطلاق وقد أشرنا إلى ذلك في حاشيتنا على الكتاب ورمزنا لها بالرمز (ب). الثالثة: وهي النسخة المطبوعة التي قام المكتب الاسلامي فيها بجهد مشكور ورمزنا لها بالرمز (ط). وقد قمنا بمقابلة هذه النسخ فأنبتنا فروقها وبذلنا جل جهدنا حتى خرج النص سليما خاليا من التصحيف والتخريف وقد تكلمنا عن طريقة الامام النووي - رضي الله(1/19)
عنه - من خلال تقدمتنا على الكتاب ووضعنا في أسفل الكتاب حاشية استعنا فيها بما سبق ذكره من المخطوطات فضلا عن المطبوعات وسميناها (هداية الراغبين بتحقيق روضة الطالبين) ولله الحمد والمنة. ثانيا: النسخ التي ألحقنا بالكتاب. الاول: المنتقى من الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ السيوطي وهي نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (521) مجاميع (5066) ميكروفيلم مكتوبة بحظ جيد واضح، وقد ألحقتها بالكتاب تتميما للفائدة بعد بند نصها وتحقيقها. الثانية: المنهج السوي في ترجمة الامام النووي للحاظ جلال الدين السيوطي وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (3943) تاريخ (35323) ميكروفيلم مكتوبة بحظ جيد واضح وقد ألحقتها في بداية الكتاب تكميلا لتقدمتنا على هذا الكتاب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملنا خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به المسلمين. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المحققان(1/20)
صور مخطوطات كتاب الروضة وبعض الكتب الاخرى التي استفيد منها في كتاب الحاشية(1/21)
بداية كتاب روضة الطالبين(1/23)
باب تارك الصلاة من الروضة(1/24)
كتاب الزكاة من الروضة(1/25)
بداية كتاب الجنايات من الروضة(1/26)
آخر ربع النكاح من الروضة(1/27)
التحقيق للنووي(1/28)
مسائل الخلاف للصيمري(1/29)
طريقة القاضي حسين(1/30)
أول ورقة من طريقة القاضي حسين(1/31)
آخر المجلد الاول من طريقة القاضي حسين(1/32)
تعليقة القاضي حسين(1/33)
أول روقة من التعليقة للقاضي حسين(1/34)
آخر ورقة من التعليقة(1/35)
كتاب الفروق للجرجاني(1/36)
أول ورقة من الفروق(1/37)
آخر ورقة من الفروق(1/38)
كتاب الحدود والاحكام الفقهية(1/39)
أول ورقة من كتاب الحدود والاحكام الفقهية(1/40)
آخر ورقة من كتاب الحدود والاحكام الفقيهة(1/41)
منحة الراغبين للبكري(1/42)
الشرح الكبير للرافعي(1/43)
التاج في زوائد المنهاج لابن قاضي عجلون(1/44)
خادم الرافعي والروضة(1/45)
كتاب المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي(1/47)
صورة الورقة الاولي من المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي(1/49)
صورة الورقة الاخيرة من المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي(1/50)
بسم الله الرحمن الرحيم المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي الحمد لله العزيز الحكيم، الرؤوف الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السموات والارض وما بينهما، ورب العرش الكريم.. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المخصوص بالاصطفاء والتكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولى الفضل الجسيم. هذه أوراق ترجمت (1) فيها الشيخ الامام، شيخ، الاسلام، ولي الله تعالى: محيي الدين، أبا زكريا النووي، رحمه الله ذكرت فيها بعض مناقبه الكريمة، وسميتها: المهناج السوي، في ترجمة الامام النووي، فأقول: هو الامام أبوذكريا محيي الدين، يحيى بن شرف بن مري بضم الميم، وكسر الراء، كما رأيته مضبوطا بخطه - ان حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حرام - بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المعجمة - الحزامي، النووي، ثم الدمشقي.(1/51)
محرر المذهب ومهذبه، ومحققه ومرتبه، امام أهل عصره علما وعبارة، وسيد أوانه ورعا وسيادة، العلم الفرد، فدونه واسطة الدر والجوهر، السراج الوهاج فعنده يخفي الكوكب الازهر، عابد العلماء وعالم العبادة، وزاهد المحققين ومحقق الزهاد. لم تسمع بعد التابعين بمثله أذن، ولم ما يدانيه عين، وجمع له في العلم والعبادة محكم النوعين. راقب الله في سره وجهره، ولم يبرح طرفة عين عن امتثال أمره، ولم يضيع من عمره ساعة في غير طاعة مولاه، إلى أن صار قطب عصره، وحوى من الفضل ما حواه، وبلغ مانواه، فتشرفت به نواه، ولم يلف له من ناواه. وإذا الفتى الله أخلص سره * فعليه منه رداء طيب يظهر وإذا الفتى جعل الاله مراده * فلذكره عرف ذكي ينشر أثنى عليه الموافق والمخالف وقبل، الناني والآلف، وشاع ثناوه الحسن بين المذاهب، ونشرت له راية مجد تخفق في المشارق والمغارب من سلك منهاجه أيقن بروضة قطوفها دانية، ومن تتبع آثاره فهو مع الصالحين في رياض عيونها جارية ومن لزم اذكاره ومهذب أخلافه، فالخير فيه مجموع، ومن استقى من بحره ظفر بأروى وأصفى ينبوع، فيه ثبت الله أركان المذهب والقواعد، وبين مهمات وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد وقال فيه الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته: أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، ما رأت الاعين أزهد منه في يقظة ولا منام، ولا عاينت أكثر اتباعا منه لطرق السالفين من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، له التصانيف المفيدة، والمناقب المحميدة، والخصال التي جمعت طاوف كل فضل وتليده، والورع الذي به خرب دنياه وجعل دينه معمورا، والزهد الذي كان به يحيا سيدا وحصورا، هذا إلى قدر في العلم لو أطل على المجرة لما ارتضى شربا في اعطانها، أو جاور الجوزاء لما استطاب مقاما في أوطانها، أو حل في دارة الشمس لانف من مجاروة سلطانها، وطالما فاه بالحق لا تأخذه لومة لائم، ونادى بحضرة الاسود الضراغم، وصدع بدين الله تعالى مقال ذي سريرة، يخاف يوم تبلى السرائر، ونطلق معتصما بالباطن والظاهر، غير ملتفت إلى الملك الظاهر، وقبض على دينه والجمر(1/52)
ملتهب، وصمم على مقاله والصارم للارواح منتهب، لم يزل - رحمه الله، طول عمره على طريق أهل السنة الجماعة، مواطبا على الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة. وقال ابن فضل الله في المسالك: شيخ الاسلام، وعلم الاولياء، قدوة الزهاد ورجل علم وعمل، ونجاح سؤل وأمل، وكامل مثله في الناس من كمل، وفق للعلم وسهل عيه، ويسر له ويسر إليه، من أهل بيت من نوى من كرام القرى، وكرامة أهل القرى، لهم بها بيت مضيف لا تخمد ناره، ودار قرى لا يخمل مناره، طلع من أمم سادات، وجمع لكرمهم عادات، وجمع لهممهم أطراف السعادات، ونبت فيهم نباتا حسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، وأتى دمشق متلقيا للاخذ من علمائها متقلا من عيشها، حتى كاد يعف فلا يشرب من مائها، فنبه ذكره، ونهب مدى الآفاق شكره، وحلا اسمه، وذكر تصنيفه وعلمه. فلما توسد الملك الظاهر امانيه وحدثته نفسه من الظلم بما كاد يأتي قواعده من مبانية، وكتب له من الفقهاء، من كتب، وحمله من الظلم بما كاد يأتي قواعده من مبانيه، وكتب له ن الفقهاء من كتب، وحمهله سوء رأيه على بيع آخرته بشئ من الذهب ولم يبق سواه فلما حضر هابه، وألقى إليه الفتيا، فألقاها وقال لقد أفتوك بالباطل، ليس لك أخذتم معونة، حتى تنفد أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائد عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه. وأغلظ له في القول، فلما خرج قال: فمن أين يأكل ؟ قالوا مما يبعث إليه أبوه فقال: والله لقد هممت بقتله، فرأيت كأن أسدا فتحا فاه بيني وبينه، لو عرضت له لا لتقمني ثم وقرله في صدره ما وقر، ومد له يد المسالمة يسأله وما افتقر. ثم كانت سمعة النواوي التي شرفت وغربت، وبعدت وقربت، وعظم شأن تصانيفه، وبان البيان في مطاوي تآليفه، ثم هي اليوم محجة الفتوى، وعليها العمل، وما ثم سوى سببها الاقوى. وقال تلميده الشيخ علاء الدين بن العطار في ترجمة التي جمعها له: أوحد عصره، وفريد دهره. الصوام القوام، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، صاحب الاخلاق الرضية، والمحاسن النسبة، العالم الرباني المتفق على علمه(1/53)
وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته له الكرامات الواضحة، والمؤثر نفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين. ولد في العشر الاوسط من المحرم سنة احدى وثلاثين وسمتائة، بنوى قال ابن العطار: وذكر لي بعض الصالحين الكبار، أنه ولد وكتب من الصادقين، ونشأ بها وقرأ القرآن، فلما بلغ سبع سنين، وكانت ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. قال ولده: وكان نائما إلى جنبى، فانتبه نحو نصف الليل وإيقظني وقال: يا ابت، ماهذا النور الذي قد ملا الدار ؟ فاستيقظ أهله جميعا، ولم نرشيئا فعرفت أنها ليلة القدر. ولما بلغ عشر سنين، وكان بنوي الشيخ وياسين ين يوسف المراكشي من أولياء الله تعالى، قرأه والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم وبيكي لاكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال: فوقع في قلبي محبته وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشغل بالبيع والشراء عن القرآن. قال الشيخ ياسين: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيت به، وقلت له هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال أمنجم أنت ؟ فقال لا، وإنما انطقني الله بذلك فذكر ذلك الوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام. قال ابن العطار: قال الشيخ، فلما كان عمري تسع عشرة سنة، قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الارض وكان قوتي فيها جراية المدرسة لاغير: قال: وحفظت لاتنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظت ربع المهذب في بافي السنة قال. ولما قرأت مدة اغتسل منها بالماء البارد، حتى تشقق ظهري قال: وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الامام البارد، حتى ظهري قال: وجعلت أشرح وأصحح على شخننا الامام العالم، الزاهد الورع، أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان، المغربي الشافعي، ولازمته فأعجب بي لما رأى من اشتغال وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأجبني محبة شديدة، وجعلني أعيد الدرس في حلقته الاكثر الجماعة.(1/54)
قال: فلما كانت سنة إحدى وخمسين، حججت مع والدي، وكانت وفقة الجمعة، وكانت رحلتنا من أول رجب، فأقمت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو من شهر ونصف. قال والده: ولما توجهنا للرحيل من نوى، أخذته الحمى، إلى يوم عرفة قال ولم يتأوه قط. فلما عدنا إلى نوى، ونزل إلى دمشق صب الله عليه العلم صبا فلم يزل يشتغل بالعلم، ويقتفي آثار أبي إبراهيم إسحاق في العبادة، من الصلاة وصيام الدهر والزهد والورع، فلما توفي شيخه ازاداد اشتغاله بالعلم والعمل. وحج مرة أخرى، قال ابن العطار. وقال لي شيخنا القاضي أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الانصاري، لو أدرك القشيري صاحب الرسالة شيخكم وشيخه، لما قدم عليهما في ذكره لمشائخها أحدا، لما جمع فيهما من العلم والعمل، والزهد الورع، والنطق بالحكمة، وغير ذلك. قال: وذكر لي الشيخ قال: كنت أقرأ كل يوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا، درسين في الوسيط ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جنى، ودرسا في إصلاح المنطلق لابن السكيت في اللغة ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين. وقال: وكنت اعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح، عبارة، وضبط لغة. قال: وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه و.. قال وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت القانون وعزمت على الاشتغال بشئ، ففكرت في أمري، ومن أين علي الداخل فألهمني الله تعالى الاشتغال بشئ، ففكرت في أمري، ومن أين دخل على الداخل فالمهني الله تعالى أن سببه اشتغالي بالطب، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بالطب، فاستنار قلبي، ورجع إلى حالي، وعدت إلى ما كنت عليه أولا. قال: وكنت مريضا بالمدرسة الرواحية، فبينما، أنا في بعض اليالي، في الصفة الشرقية يبمنها، ووالدي واخوتي وجماعة من أقاربي نائمون إلى جنبي، إذ نشطني الله تعالى وعافاني من الحمى، فاشتافت نفسي، إلى الذكر، فجعلت أسبح، فبينا أنا كذلك بين الجهر والاسرار، إذا شيخ حسن الصورة جميل المنظر، يتوضا على حافة(1/55)
البركة وقت نصف الليل أو قريب منه، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال لي يا ولدي، لا تذكر الله تعالى تشوش على والدك وأخوتك وأهلك ومن في هذه المدرسة، فقلت: ياشخ، من أنت ؟ فقال، أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع بالتسبيح، فأعرض عني ومشى إلى ناحية باب المدرسة، فأنبهت والدي والجماعة على صوتي فقمت إلى باب المدرسة فوجدته مقفلا، وفتشتها فلم أجد فيها أحد غير من كان فيها، فقال لي ولدي: يا يحيى، ما خبرك ؟ فأخبرته الخبر، فجعلوا يتعجبون، وقعدنا كلنا نسبح ونذكر. قال ابن العطار: نقلت من خط الشيخ - رحمه الله - أنه قرأ على: * القاضي أبي الفتح عمر بن بندار التفليسي * القاضي أبي الفتح عمربن بندار التفليسي المنتخب للرازي، وقطعة من المستصفى وغير ذلك. * وعلى فخر المالكي اللمع لابن جني. * وعلى أبي العباس أحمد بن سالم المصري، النحوي إصلاح المنطق في اللغة، بحثا، وكتابا في التصريف قال: وكان عليه درس، اما في سيبويه أو غيره - الشك مني. * وعلى الامام جمال الدين بن مالك، كتابا من تصانيفه، وعلق عليه أشياء كثيرة. * وعلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي صحيح مسلم شرحا، ومعظم البخار 0، وقطعة من الجمع بين الصحيحين للحميدي. * وقرأ على جماعة من أصحاب ابن الصلاح علوم الحديث له. * وعلى أبي البقاء خالدين يوسف النابلسي الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة. * وأخذ النفقة عن شيخة إسحاق المغربي، وكان يتأدى معه كثيرا، ويملا الابريق ويحمله معه إلى الطهارة. * أخذ عن اكمال سلاربن الحسن الاربلي.(1/56)
* وعن الامام عبد الرحمن بن نوح المقدس. * وأبي حفص عمربن أسعد بن أبي غالب الربعي الاربلي، * وإسماعيل بن عبد الدائم. * وخالد النابلسي. * وعبد العزيز بن محمد بن عبد الحسن الانصاري. * والضياء ابن تمام الحنفي. * والحافظ أبي الفضل البكري. * وأبي الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد، خطيب دمشق. * وعبد الرحمن بن سالم الانباري. * وأبي زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي. * إبراهيم بن علي الواسطي: وغيرهم. ومن مسموعاته. الكتب الستة، والموطأ، ومسانيد. الشافعي: وأحمد، والدارمي، وأبي عوانة، وأبي يعلى وسنن الدارفطني، والبيهقي، وشرح السنة للبغوي، وتفسيره، والانساب اللزبيري، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم واليلية لابن السني، وأدب السامع والراوي للخطيب، وغير ذلك. وسمع منه خلق من العلماء الحفاظ، والصدور الروساء، وتخرج به خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق وانتفع الناس في سائر البلاد الاسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيلها. قال ابن العطار: وذكر لي أنه كان لا يضيع وقتا ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه، يشتغل في تكرار ومطالعد، أنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست، سنين، ثم اشتغل بالتصينف والاشتغال والافادة، والمناصحة للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة النفسه والعمل بدقائق الفقة والاجنهاد على الخروج من خلاف العلماء وإن(1/57)
كان بعيدا، والمراقبة لاعمال القلوب وتصفيها من الشوائب، يحاسب نفسه على الخطوة بع الخطوة. وكان محققا في علمه وفنونه مدققا، حافظا لحديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم، عارفا بأنواعه كلها، وغربيه، ومعانيه، واستنباط فقهه، حافظا، الشافعي وقواعد، وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، سالكا طريق السلف، قد صرف أقاته كلها في الخير، فبعضها للتأليف وبعضها للتعليم وبعضها للصلاة، وبعضها للتدبير وبعضها للامر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الكمال الاذفوي في البدر السافر ونوزع مرة في النقل عن الوسيط فقال: أتنازعوني وقد طالعته أربعمائة مرة ؟ قال: وواقف الملك الظاهر بيبرس لما ورد دمشق في أمور، فظن أنه من أصحاب الوظائف يعزله فذكر له حاله فقال: وكان بعد ذلك يقول إني أفزع منه. قال ابن العطار: وذكر أبو عبد الله بن أبي الفتح البعلي: الحنبلي، العلامة، قال كنت ليلة في جامع دمشق الشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة، وهو يردد قوله تعالى: وقفوهم انهم مسؤولون مرارا. بحزن وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك ما الله به عليم. وكان إذا ذكر الصالحين ذكر هم يتعظيم وتوقير واحترام، وذكر مناقبهم. قال: وأخبرني الشيخ القدرة المسلك، ولي الدين أبو الحسن، المقيم بجامع بيت لهيا، قال مرضت بالنقرس في رجلي فعادني الشيخ محيي الدين، فلما جلس، عندي، جعل يتكلم في الصبر، فكلما تكلم جعل الالم يدهب قيلا، حتى زال، فعرفت أنه من بركته. وكان لا يدخل الحمام، ولا يأكل في اليوم والليلة إلا أكله واحدة بعد العشاء، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولا يشرب المبرد، أي الملقى فيه الثلج ولم يتروج.(1/58)
قال ابن العطار: وأخبرني العلامة رشيد الدين الحنفي، قال عذلت الشيخ في تضييق عيشة، وقلت له أخشى عليك مرضا يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده، فقال: إن فلانا صام وعبد الله حتى عظمه قال: فعرفت أنه ليس له غرض في المقام في هذه الدار، ولا يلتفت إلى ما نحن فيه. قال: ورأيت رجلا من أصحاب قشر خيارة ليطعمه إياها، فامتنع من أكلها وقال أخشى ان ترطب جسمي وتجلب النوم قال الادفوى في البدر السافر: حكى لي قاضي، الفضاة بدر الدين ابن جماعة، أنه سألة عن نومه فقال، إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة أنتبه. قال: وحكى لي أيضا أنه كان إذا أتى إليه ليزوره يضع بعض الكتب على بعض، ليوسع له موضعا يجلس فيه قال: وكان لا يجمع بين أدمين، ولا يأكل اللحم إلا عندما يتوجه إلى نوى. قال: وحكى عنه قاضي القضاة جمال الدين الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب قال: فجئت إليه في يوم عبد، فوجدته يأكل حريرة مدخنة فقال سليمان. كل، فلم يطلب له، فقام أخوه وتوجه إلى السوق واحضر شويا، وحلوى، وقال له: كل فلم يأكل، فقال: يا أخي أهذا حرام ؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة. قال ابن العطار: وكان لا يأكل فاكهة دمشق، فسألته عن ذلك فقال: دمشق الغبطة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء، ومن جوزها شرط الغبطة، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك ؟ قال: وقال لي الشيخ العارف المحقق، أبو عبد الرحيم محمد الاخميمي: كان الشيخ محيي الدين سالكا منهاج الصحابة ولا أعلم أحدا في عصرنا سالكا منها جهم غيره. قال: وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد بن الاربلي، الحنفي، شيخ الادب في وقته تصحيح التنبيه، ليكون له عنه رواية، فلما فرع من قال لي ما وصل(1/59)
ابن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ من الفقه والحديث والغة وعذوبة الفظ والعبارة وقال الاسنوي: كان يلبس ثوبا قطنا وعمامة سختيانية، وكان في لحيته شعرات بيض، وعليه سكينة ووقار، في حال البحث وغيره. قال الشيخ تقي السبكي، ما اجتمع بعد التابعين المجموع الذي الجتمع في النووي ورأيت في مجموع بخط الشيخ شمس الدين الغيزري الشافعي، أو بواب الرواحية حكى قال: خرج الشيخ في الليل فتبعته، فانفتح له الباب من غير مفتاح، فخرج، مشيت معه خطوات، فإذا نحن مكة، فأحرم الشيخ وطاف وسعى ثم طاف إلى أثناه الليل، ورجع، فمشيت خلفه، فإذا نحن بالرواحية. قال الذهبي: تولى مشيخة دار الحديث الاشرفية بعد موت أبي شامة، سنة خمس وستين، وفي البلد من هو أسن منه وأعلى سندا، فلم يأخذ من معلومها شيئا إلى أن مات. قال ابن العطار: وأقرأ بها بحثا وشرحا. صحيح البخاري، ومسلم، وقطعة من أبي داود، ورسالة القشيري وصفوة، والحجة على تارك المحجة لنصر المقدسي، وغير ذلك. قال: وذكر لي تلميذه أبو العباس بن فرج قال: كان الشيخ محيي الدين قد صار إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص لشدت إليه آباط الابل من أقطار الارض. المرتبة الاولى: العلم والقيام بوظائفه، الثانية: الزهد في الدينا. الثالثة: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: وأخبرني الشيخ الصدوق أبو القاسم المزي - وكان من الاخبار - أن رأى في النوم بالمزة رايات كثيرة، وطبلا يضرب قال فقلت: ما هذا ؟ فقيل لي: الليلة قطب يحيى النووي، فاستيقظت من منامي، ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قيل ذلك، فدخلت دمشق، في حاجة، فذكرت ذلك لشخص فقال: هو شيخ دار الحديث، وهو الآن جالس فيها، فدخلتها، فلما وقع بصره علي نهض إلى جهتي، الحديث، وهو الآن جالس فيها، فدخلتها، فلما وقع بصره علي نهض إلى جهتي، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحدا، ثم رجع إلى موضعه.(1/60)
ورأيت في الدار الكامنة ليشخ الاسلام، حافظ العصر أبي الفضل، بن حجر، قال الشيخ، محيي الدين لتلميذه الشيخ الدين بن النقيب. يا شيخ شمس الدين، لا بد أن تلي الشامية البرانية، فما مات حتى وليها. ورأيت فيها عن بعضهم قال، توجهت لزيارة لاشيخ فرج الصفدي الزاهد، فرجرت مسألة النظر إلى الامرد، وأن الرافعي حرمه بشرط الشهورة، والنووي يقول: يحرم مطلقا، فقال الشيخ فرج، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: الحق في هذه المسألة مع النووي. وكان الشيخ محيي الدين إذا جاءه أمرد ليقرأ عليه، امتنع، وبعث به إلى الشيخ أمين الدين الحلبي، لعلمه بدينه وصيانته. وقال الشيخ تاج الدين السبكي، في الترشيح: وافق الوالد مرة وهو راكب على بغلته شيخا عاميا ماشيا، فتحادثا، فوقع في كلام ذلك الشيخ أنه رأى النووي ففي الحال نزل عن بغلته وقبل يد ذلك الشيخ العامي، وسألة الدعاء، وقال له: اركب خلفي فلا اركب وعين رأت وجه النووي تمشي بين يدي. قال وكان الوالد سكن دار الحديث الاشرفية، وكان يخرج في الليل يتهجد، ويمرغ خديه على الارض فوق البساط الذي يقال: إنه من زمن الواقف، ويقال إن النووي كان يدرس عليه، وينشد: وفي دار الحديث لطيف معنى * على بسط لها اصبو وآوي عسى اني أمس بحر وجهي * مكانا مسه قدم النواوي(1/61)
* والعلامة رشيد الدين الحنفي. * والحمدث أبو العباس الاشبيلي. وخلائق غيرهم. قال الشيخ الدين - رحمه الله - لما تأهل للنظر والتحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه، تصينفا ينتفع به النظار فيه، فجعل تصنيفه تحصيلا، وتحصيله تصنيفا، وهو غرض صحيح جميل، ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر له. وأما الرافعي فإنه سلك الطريقة العالية، فلم يتصد للتأليف إلا بعد كمال انتهائة، وكذا ابن الرفعة، رحمة الله عليهم أجمعين، ونفعنا بهم. وقال الشيخ جمال الدين الاسنوي في اوائل المهمات: اعلم ان الشيخ محيي الدين - رحمه الله - لما تأهل للنظر والتحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن حعل ما يحصله ويقف عليه، تصنيفا ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنفيه تحصيلا، وتحصيله تصنيفا، وهو غرض صحيح، وقصد جميل، ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر له وأما الرافعي فإنه سلك الطريقة العالية، فلم يتصد للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، انتهائه، وكذا ابن الرفعة، رحمة الله عليهم أجمعين، ونفعنا بهم، وقال الاذرعي في أول التوسط والفتح بلغني أن الشيخ محيي الدين كان يكتب إلى أن يعيى فيضع القلم يستريح وينشد: تشوقت ليلى حين فارقت أرضها * فقلت، وعيني عند ذلك تدمع لئى كان هذا الدمع يجري صبابة * على غير سعدى، فهو دمع مضيع وذكر ابن العطار في تأليف له في الشعر: أن الشيخ لم ينظم شعرا قط، فمن تصانيفه: الروضة: مختصر الشرح الكبير للرافعي، وهو بخطه، في أربع مجلدات ضخمات، مائة كراس، وتقع غالبا في ستة مجلدات وثمانية لا ورأيت بخطه فيها أنه ابتداء في تأليفها يوم الخميس، الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وستين وسمتائة، وختمها يوم الاحد خامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وستين وستمائة، وختمها يوم الاحد خامس عشر ريبع الاول سنة تسع وستين هي عمدة المذهب الآن، وفيها يقول الاسنوى، في المهمات: وكانت أنفس ما تأثر من تصانيفه ببركات أنفاسه، وثمرة من ثمرات غراسه، غرس فيها أحكام الشرع ولقحها، وضم إليها فروعا كانت منتشرة فهذبها ونقحها، فلذلك حلا ينبرعها، وبسقت فروعها، وطابت أصولها، ودنت قطوفها، إلى أن قال: وتلك منقبة قد أطاب الله ذكرها وسناها، وموهبة قد رفها سمكها وبناها، ومن أسر سريرة حسنة، ألبسه الله رداها. وفي الجواهر: فإن الروضة لما اشتاب المهذهب، وقطت أسباب غلق(1/62)
المطلب لاشتمالها على أحكام الشرح واختصاصها بزيادات يحجم عنها الكثير، وردت من قبول الكافة موردا لا صدر منه لبعض، وعقدت لوقوفهم عند حكمها موثقها فلن تبرح الارض، فلذلك تمسكوا بفروعها وأعصانها، وتعلقوا بأصولها وأقيالها، حتى صارت منزل قاصد هم، ومنهل واردهم وقد استدرك فيها على الامام الرافعي في التصحيح مواضع جمة، وزاد عليه مسائل وقيودا وشروطا، وقد أفرد بعضهم زياداتها في مجلدين لطيفين. وقد ذكر الاذرعي في التوسط أنه هم قبل موته بغسلها، فقيل له سارت بها الركبان، فقال: في نفسي منها أشياء وقد أكثر الناس من الكتابة عليها، والكلام على مواضع وتصحيحات فيها ظاهرها التناقض، ومواضع فيها مخالفة لما في الشرح كالاسنوي، والاذرعي، والبلقيني، والزركشي، وغيرهم. وقد ذكر أن سبب ما وقع مخالفا للشرح. أنه اختصرها من نسخة منه سقيمة، مع أنه بحمدالله أجيب عن كثير مما زيفوه وجمع بين غالب ما زعموا تناقضه. وقد شرعت في تلخيص أحكامها من غير ذكر الخلاف، وضممت إليها زيادات شرح المهذب وبقية تصانيفه من بعده، كابن الرفعة، والسبكي، والاسنوي، ووصلت فيه الآن إلى... أعان الله على إتمامة. ومنها شرح صحيح مسلم، سماه - ب المنهاج قريب من حجم الروضة. وشرح المهذب، سماه ب المجموع وقد وصل فيه - قال ابن العطار - إلى باب المصراه، وقال الاسنوى: إلى أثناء الربا وهو قدر الروضة مرة ونصف أو هو أكثر، وقد ذكر في خطبة: أنه كتب قبل ذلك شرحا مبسوطا جدا وصل فيه إلى أثناء الحيض، في ثلاث مجلدات ضخمات، ثم رأى أن ذلك يكون سبب قلة الانتفاع في الخطبد إلا هذا الشرح. قال الاسنوي: وهذا الشرح من أجل كتبه وأنفسها، وكلامه فيه يدل على أنه اطلع على أنه يموت قبل إتمامه، فإنه يجمع النظائر في موضع ويقول فعلنا ذلك فلعلنا لا نصل إلى محله. وقال ابن العطار. كتب لي ورقة فيها أسماء الكتب التي كان يجمعه منها،(1/63)
وقال إذا انتقلت إلى الله فأتمه من هذه الكتب وقد شرع في تكميله جماعة ولم ينهوه، فكتب الشيخ تقي الدين السبكي من الموضوع الذي انتهى إليه إلي أثناء التفليس، وفي خطبة تكملته يقول واصفا هذا الشرح: وبعد: فقد رغب إلي بعض الاصحاب في أن أكمل شرح المذهب للشيخ الامام العلامة علم الزهاد، إلي بعض الاصحاب في أن أمكمل شرح المذهب للشيخ الامام العلامة علم الزهاد، وقدوة العباد، واحد عصره، وفريد رهره، محيى علوم الاولين، ومهذب سنن الصالحين، أبي ركريا النووي وطالب رغبة إلى، وكثر إلحاحه علي، أنا في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى، واستهون الخطب فرآه شيئا امرا، وهو في ذلك لا يقبل عذرا وأقول: قد يكون في تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشارح اساءة إليه، وجناية مني عليه، فأنى لي أن أنهض بها نهض به وقد أسعف بالتأييد، وساعدته المقادير فقربت منه كل بعيد ؟ ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الاهلية إلى ثلاثة أشياء: فراغ البال، واتساع الزمان، وقد كان - رحمه الله - قد أوتي من ذلك الحظ الاوفر، بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من نفس ولا أهل. الثاني: جمع الكتب التي استعان بها على النظر والاطلاع على كلام العلماء، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك وافر، لسهو لة ذلك في بلده في ذلك الوقت. الثالث: حسن النية، وكثرة الورع والزهد، والاعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها، وكان قد اكتان من ذلك بالمكيال الاوفى. فمن يكون قد اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث، أني يضاهيه، أو يدانيه من ليس من واحدة منها، فنسأل الله أن يحسن نياتنا وأن يمدنا بمعونته وعونه، وقد نفسي لعل ببركة صاحبه ونيته يعنينني الله، انه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فإن من الله تعالى بإكماله، فلا شك من فضل الله ببركة صاحبه ونيته، إذ كان مقصوده النفع للناس ممن كان، انتهى. ومنها المنهاج مختصر المحرر. مجلد لطيف. ودقائقه، نحو ثلاث كراريس، ورأيت، بخطهه أنه فرع منه تاسع عشر شهر(1/64)
رمضان سنة تسع وستين وهو الآن عمدة الطالبين والمدرسين والمفتين. قال ابن العطار: وقال لي العلامة جمال الدين ابن مالك: والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لحفظته. وأثنى على حسن اختصاره، وعذوبة ألفاظه. قال: ووقف عليه في حياته العلامة رشيد الدين الفارقي، شيخ الادب فامتدحه بأبيات وقف عليها الشيخ وهي هذه: عتنى بالفضل يحيى فاغتنى * عن بسيط بوجيز نافع وتحلى بتقاه فضله * فتحلى بالطيف جامع ناصيا أعلام علم، جازما * بمقال، رافعا للرافعي فكأن ابن الصلاح حاضر * وكأن ما غاب عنا الشافعي وقال فيه الشيخ جمال الدين الاسنوي: يا ناهجا منهاج حبر ناسك * دقت دقائق فكره وحقائقه بادر ل محيى الدين فيما رمته * ياحبذا منهاجه ودقائقه وينسب للشيخ تقي الدين السبكي: ما صنف العلماء كالمنهاج * في شرعة سلفت، ولا منهاج فاجهد على تحصيله متيقنا * أن الكفاية فيه للمحتاج ولبعضهم: الشيخ محيي الدين هو القطب الذي * طلعت شموس العلم من أبراجه لا يرتقي أحد إلى شرف العلا * إلا فتى يمشي على منهاجه وقلت أنا: للناس سبل في الهداية والهوى * ما بين اصباح وليل داج فإذا أردت سلوك سبل المصطفي * حقا، فلا تعدل عن المنهاج قلت: ومن جلالة هذا الكتاب، أن الشيخ تاج الدين الفركاح، كتب عليه تصحيحا، وهو في مرتبة، شيوخ الشيخ محيي الدين، فإنه لما جاء إلى دمشق، واحضر إليه ليقرأ عليه، فبعث به إلى الرواحية، وأيضا فإنه كان بينهما أخيرا مقاطعة، كما ذكر ذلك الصفدي في تذكرته، وأنه لما توفي الشيخ(1/65)
محيي الدين، لم يحضر الشيخ تاج الدين الصلاة عليه. ومن العجب أن الشيه علاء الدين الباجي شيخ السبكي اختصر المحرر، وسماه: التحرير، ومولده سنة مولد محيي الدين. وانظر ما بين المختصرين شهرة واعتمادا. وقد كنت في أول اشتغالي رأيت الشيخ في النوم، وكأني حضرت درسه، فقلت له في شأن المنهاج والاعتراضات التي أوردت عليه، فأخذ يصلح العبارة، إلى أن خرج عن هيئته، فقلت له: يا سيدي، اجعل هذا كتابا على حدة غير المنهاج لانه شرح وحفظ على تلك الهيئة، ثم إنه ركب حمارا عاليا، ومشيت خلفه مسافة يسيره، فأعطاني عمامته، وفارقته، فانتبهت. ورأيته مرة أخرى فأنشدني: من شاحح العالم في كلامه ليذهبن رونق انتظامه فاستيفظت وأنا أحفظه: ومنها: تهذيب الاسماء واللغات مجلدان ضخمان، ويقع غالبا في أربعة قال الاسنو: وقد مات عنه مسودة، وبيضه الحافظ جمال الدين، المزي. وفي هذا شئ، فقد وقفت على المجلد الاول بخطه مبيضا بالخزانة المحمودية، لكن فيه بياضات يسيرة. ورياض الصالحين مجلد. والافكار مجلد. ونكت التنبيه، مجلد، وتسمى: التعليقة، وقال الاسنوي: وهي من أوائل ما صنف، ولا ينبغي الاعتماد على ما فيها من التصحيحات المخالفة لكتبه المشهورة، ولعله جمعها من كلام شيوخه. وما استفدته منها في قص الاظفار، أنه يسن البداءة بمسبحة اليد اليمنى، ثم بالوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر ثم خنصر اليس ولاء الابهام، ثم يختم بابهام اليمنى. وفي الرجل يبدأ بخنصر اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى ولاء، وذكر لذلك حديثا ومعنى لطيفا ذكرته في دقائق مختصر الروضة.(1/66)
ولايضاح مناسك الحج، مجلد الطيف. والايجاز فيه. والمناسك الثالث والرابع والخامس. والتبيان في أدب حملة القرآن، مجلد ومختصره. وشرح التنبيه مطول، سماه تحفة الطالب النبيه، وصل فيه إلى أثناه الصلاة. وشرح الوسيط، المسمى ب التنقيح قال الاسنوي: وصل فيه إلى شروط الصلاة. قال: وهو كتاب جليل، من أواخر ما صنف، جعله مشتملا على أنواع متعلقة به ضرورية، كافية لمن يريد كثرة المسائل المأخوذة والمرور على الفقه كله في زمن قليل، لتصحيح مسائله، وتوضيح أدلته، وذكر غير ذلك من الانواع التي أكثر منها ولم يتعرض فيه لفروع الوسيط، قال وهي طريقة يتيسر معها اقراء الوسيط في كل عام مرة. ونكت على الوسيط، في نحو مجلدين. والتحقيق، وصل فيه إلى صلاة المسافر، ذكر فيه غالب ما في شرح المهذب ما الاحكام والخلاف، على سبيل الاختصار. ومهمات الاحكام، قال الاسنوي: وهو قريب من التحقيق من كثرة الاحكام إلا أنه لم يذكر فيه خلافا، وقد وصل فيه إلى أثنا طهارة الثوب والبدن. وشرح البخاري، كتب منه مجلدة. والعمدة في تصحيح التنبيه. والتحرير في لغات التنبيه. ونكت المهذب. ومختصر التذنيب للرافعي، سماه المنتخب قال الاسنوي: وقد أسقط من آخر الفصل السادس أوراقا، فلم يختصرها، ومن هنا تعلم أن قول من قال: إن الشيخ محيي وقف على النووي، نعم قول من الرافعي ذكره في خطبة التذنيب، وقد وقف عليه النووي: نعم، من قال يقف عليه ممكن. ودقائق الروضة. كتب منها إلى أثناه الاذان.(1/67)
وطبقات الشافعية، مجلد، قال الاسنوي: ومات عنها مسودة، فبيضها المزي. وختصر الترمذي، مجلد وقفت عليه بخطه مسودة، وبيض منه أوراقا. وقسمه الغنائم، ومختصره، قال الاسنوي: وهذا الكتاب من أواخر ما صنف، وهو مشتمل على نفائس. وجزء في القيام لاهل الفضل. قال الاسنوي: وهما من أواخر تصانيفه وأمتعها. ومختصر تأليف الدارمي في المحيرة. ومختصر تصنيف أبي شامة في البسملة. ومناقب الشافعي. وهذه الكتب الثلاثة أحال عليها هو في شرح المهذب. والتقريب في علوم الحديث. والارشاد فيه. والخلاصة في الحديث. ومختصر مبهمات الخطيب. والاملاء على حديث: إنما الاعمال بالنيات، لم يتمه. وشرح سنن أبي داود، كتب منه يسيرا. وبستان العارفين. ورؤوس المسائل، والاصول والضوابط، كتب منه أوراقا. ومختصر التنبيه، كتب منه روقة واحدة. والمسائل المنثورة، وهي المعروفة بالفتاوى، وضعها غير مرتبة فرتبها تلميذه. ابن العطار، وزاد عليها أشياء سمعها منه. والاربعين، وشرح ألفاظها. هذا ما يحضرني من مصنفاته بعد الفحض. وقد قال في شرح المهذب في رفع اليدين في الركوع: أرجو أن أجمع فيه كتابا مستقلا، فلا أدري أفعل أولا ؟(1/68)
قال الاسنوي: وينسب له تصنيفان، ليساله، النهاية اختصار الغاية الثاني: أغاليط على الوسيط، مشتملة على خمسين موضعا، بعضها فقهية، وبعضها حديثية. وممن نسبه له هذا ابن الرفعة في المطلب، فاحذره، فإنه لبعض المحويين، ولهذا لم يذكره ابن العطار حين عدد تصانيفه واستوعبها، انتهى. وقوله: إن ابن العطار: وله شرح ألفاظ، ومسودات كثيرة، ولقد أمرني مرة بجمع نحو ألف كراس بخطه، وأمرني أن أقف على غسلها في الوراقة، وخوفني ان خالفته في ذلك، فما أمكنني إلا طاعته وإلى الآن في قلبي منها حسرات. ذكر شئ من مكاتباته: قال ابن العطار: كتب ورقة إلى الملك الظاهر تتضمن العدل في الرعية وإزالة المكوس، وكتب معه فيها جماعة، ووضعها في ورقة كتبها إلى الامير بدر الدين بيلبك الخزندار بإيصال ورقة العلماء إلى السلطان، وصورتها. بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله تعالى ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الامراء بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من أقصى الآخرة والاولى كل آماله، وبارك له قي جميع أحواله، آمين. وينهى إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في مذه السنة في ضيق عيش، وضعف حال، بسبب قلة الامطار، وغلاء الاسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه يجب الشفقة على الرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة. وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان، النحبون له، كتابا يذكره النصيحة. وقد كتب خدمه الشرع الناصخون للسلطان، المحبون له، كتابا يذكره النظر في أحوال الرعية والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة، وشفقة، وذكرى لاولي الالباب. المسؤول من الامير - أيده الله تعالى - تقديمه إلى السلطان أدام الله له الخيرات، ويتكلم عنده من الاشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخرا له عند الله تعالى * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ومات عملت من سوء تود لو أن بينها(1/69)
وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه) * وهذا الكتاب العلماء أمانة ونصيحة للسلطان، أعز الله أنصاره، والمسلمين كلهم في الدنيا والآخرة فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسؤولون عن هذه الامانة، ولا عذر لكم في التأخر عنها ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، وتسألون عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل أمرئ منهم يومنذ شأن يغنيه، وأنتم بحمد الله تحبون الخير وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات، وأفضل الطاعات، وقد اهلتم له وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الامر شدة، إن لم يحصل النظر في الرفق بهم، قال الله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) *، وقال تعالى: * (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليهم) *. والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، فإذا فعلتموه فأجركم عند الله * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما وصلت الورقتان إليه، أوقف عليهما السلطان، فرد جوابهما ردا عنيفا مؤلفا، فتنكدت خواطر الجماعة الكاتبين، فكتب - رضي الله عنه - جوابا لذلك الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد من عبد الله يحيي النووي، ينهي أن خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالانكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الاحكام عند الحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * فوجب علينا حينئذ بيانه، وحرم علينا السكوت وقال تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) *. وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصار بالاجناد، وهذا أمر لم ندعه، ولكن الجهاد فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجنادا مخصوصين، ولهم اخباز معلومة من بيت المال، كما هو(1/70)
الواقع، تفرغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والاجناد وغير هم، من الزراعة والصنائع وغيرها، مما يحتاج الناس كلهم إليها، فجهاد الاجناد مقابل بالاخباز المقدرة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شئ مادام في بيت المال شئ من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع، أو غير ذلك. وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان - أعز الله انصاره - متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله تعالى معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيرا وبركة في حياة السلطان المقرونة بكمال السعادة والتوفيق والتسديد، والظهور على أعداء الدين، وما النصر إلا من عند الله، وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتبارع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وملازمة أحكام الشرع. وجميع ما كتبناه أولا وثانيا، هو النصيحة التي نعتقدها وندين الله بها، ونسألة الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعيد، وليس فيها ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا أنه يجب الشرع ومتابعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية، والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم. ول ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتباه. وأما ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد، فكيف يقاس ملوك الاسلام وأهل الايمان وأهل الايمان والقرآن بطغار ؟ وبأي شئ كنا نذكر طغاة الكفارة وهم لا يعتقدون شيئا من ديننا ؟ وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، تهديد طائفة العلماء، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفار المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به ؟ وكيف يؤاخدون به ولو كان فيه ما يلام عليه ؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإنى أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى، * (إنما هذه الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) * وأفوض أمري إلى الله، ان الله بصير بالعباد وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول بالحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لانم، ونحق نحب للسطان أكمل الاحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سببا لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره على ممر الايام، ويخلد به في الجنة، ويجد نفعه * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) *(1/71)
وأما ما ذكر من تمهد السلطان البلاد، وإدامة الجهاد، وفتح الحصون، وقهر الاعداء، فهذا بحمد الله من الامور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة وطارت في أقطار الارض، فلله الحمد، وثواب ذلك مدخر للسطان إلى * (يوم تجد كل نفس من خير محضرا) *، ولا حجة لنا عند الله تعالى إذا تركنا هذه النصيحد الواجبة علينا. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وكتب للملك الظاهر لما احتيط على أملاك دمشق: بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * وقال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * وقال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) * وقد أوجب الله على المكلفين نصيحد السلطان - أعز الله أنصاره - ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: الدين النصيحة لله وكتابه وأئمة الدين وعامتهم. ومن نصيحة السلطان - وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته - أن ننهي إليه الاحكام، إذا جرت على غير قواعد الاسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفة، إزالة الضرر عنهم. قال الله تعالى: * (واخفض جناحك للمؤمنين) *. وفي الحديث الصحيح. (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدينا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق اللهم به، ومن شق عليهم فاشقق اللهم عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسطان، أعزه الله وأعز أنصاره، وأذل له الاعداء من جميع الطوائف، وفتح أعداء الدين، وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسيقه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالاعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم الظاهره، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له(1/72)
وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية، آمين. وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد للشاكرين، فقال تعالى: * (لئن شكر تم لازيد نكم) *. وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن العتبير عنها، وطلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين بل من في يده شئ فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف بإثبات. وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يجب العمل بالشرع فيوصي نوابه فهو أول من عمل به، والمسؤول إطلاق الناس من هذه الحوطة، والافراج عن جميعهم، فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفه، وفيهم الايتام والارامل، والمساكين والضعفه، والصالحون، وبهم تنصر وتغاث وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات. ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم ولكن لا تنهى إليه الامور على جهتها. فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجل لهم الافراج قبل وقوع الامطار وتلف غلاتهم، فإن أكثر هم ورثوا هذه الاملاك من أسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم. وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، ونصره على أعدائه، فقد قال تعالى: * (إن تنصروا الله ينصر كم) *. ويتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعلية ورزها ووزر من عمل بها إلى يوم لا قيامة). واسأل الله الكريم أن يوفق السلطان للسنن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحمية من السنن السيئة. فهذه يصيحتنا الواجبة علينا للسطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته. وكتب إليه لما رسم، بأن الفقيه لا يكون منزلا في أكثر من مدرسة واحدة:(1/73)
بسم الله الرحمن الرحيم. خدمة الشرع ينهون أن الله أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الامور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين، ومناصحة المسلمين، وحيث على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين وإكرام العلماء وابتاعهم. وقد بلغ الفقهاء أنه رسم في حقهم بأن يغيروا عن وظائفهم، ويقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكدت بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون ولهم عيال، وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم، منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا يخفى مراتب أهل العلم وفضلهم، وثناء الله عليهم وبيانه مرتببهم على غير هم، وأنهم ورثة الانبياء صلوات الله عليهم، فإن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم ويستغفر لهم كل شئ، حتى الحوت في الماء. واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة، والاحسان إليهم ومعاضدتهم، ورفع المكروهات عنهم، والنظر في في أحوالهم، بما فيه من الرفق بهم، فقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (اللهم من ولى أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به) وروى أبو عيسى التزمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه كان يقول لطلبة العلم: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجالا يأتونك يتفقهون، فاستوصوا بهم خيرا) والمسؤول أن لا يغير هذه الطائفة شئ، وتستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة. وقد ثبت في صحيح البخاري، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزفون إلا بضعفائكم) قود أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك، حين أنكر عليه السلطان صرفه الاموال الكثيرة في جهة طلب العلم، فقال، أقمت لك بها جندا لا ترد سهامه بالاسحار. فاستصوب فعله وساعده عليه. والله الكريم يوفق الجناب دائما لمرضاته والمسارعة إلى طاعته، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ذكر وفاته رحمه الله. قال ابن العطار: كان الشيخ لا يأخذ من أحد شيئا إلا ممن تحقق دينه(1/74)
ومعرفته، ولا له به علقة من اقراء أو انتفاع به. قال: وكنت جالسا بين يديه، قبل انتقاله بشهرين، وإذا بفقير قد دخل عليه، وقال: الشيخ فلان من بلاد صرخد يسلم وأمرني بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت منه لقبوله، فشعر بتعجبي فقال، أرسل، إلي بعض الفقراء زربولا، وهذا إبريق، فهذه آلة السفر. قال الذهبي، وعزم عليه شخص في رمضان ليفطر عنده فقال: احضر طعامك هنا نفطر جملة. قال ابن العطار: ثم بعد أيام يسيرة كنت عنده، فقال لي: قد أذن لي في السفر، فقلت: كيف أذن لك ؟ قال: أنا جالس هاهنا يعني بيته بالمدرسة الرواحية، وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبل القبلة، إذ مر علي شخص في الهواء من هنا، ومن كذا يشير من غربي المدرسة إلى شرقيها - وقال: قم، سافر إلى بيت المقدس. ثم قال: قم حتى نودع أصحابنا وأحبابنا، فخرجت معه إلى القبور التى دفن فيها بعض شيوخه، فزارهم وبكى، ثم زار أصحابه الاحياء، ثم سافر صبيحة ذلك اليوم. قال: وجري لي معه وقائع، ورأيت منه أمورا تحتمل مجلدات. فسار إلى نوى، وزار القدس، والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى، ومرض بها في بيت ولده، فبلغني مرضه، فذهبت من دمشق لعيادته، ففرح بي وقال: ارجع إلى أهلك، وودعته وقد أشرف لعى الغافية، يوم السبت العشرين من رجب، سنة ست وسبعين وستمائة، ثم توفي ليلة، الاربعاء، الرابع، والعشرين، من رجب، ودفن صبيحتها، بنوى. قال: فبينا أنا نائم تلك الليلة، إذ مناد ينادي بجامع دمشق: الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع، فساح الناس لذلك، فاستيقظت، فبلغنا ليلة الجمعة موته، وصلي عليه بجامع دمشق، وتأسف المسلمون عليه تأسفا بليغا، الخاص والعام والمادح والذام.(1/75)
ورأيت في تاريخ الذهبي، أن بعض الكبار قتل الشيخ بالحال لامر، ثم ندم على ذلك، وأنه قال الوالده: اتحب أن يموت عندكم أو في دمشق ؟ فقال: عندنا. قلت: فهو رضي الله عنه شيهد، جمع بين مرتبتي العلم والشهادة، نفعا الله به. قال ابن العطار: وذكر لي جماعة من أقاربه، أنهم سألوه أن لا ينساهم في عرصات القيامة، فقال لهم: إن كان ثم جاه والله لا دخلت الجنة وأحد ممن أعرفه عرصات القيامة، فقال لهم: إن كان ثم جاه والله لا دخلت الجنة واحد ممن أعرفه ورائي، ولا أدخلها إلا بعد هم. ولما دفن أراد أهله أن يبنوا عليه قبة، فجاء في النوم طلى عمته وقال لها: قولي لاخي أو للجماعة، لا يفعلوا هذا الذي عزموا من البينان، فانهم كلما بنوا شيئا ينهدم فامتنعوا وحوطوا على قبره بحجارة. وقال ابن فضل الله: حكى لنا أخوه الشيخ عبد الرحمن، أنه لما مرض مرض موته، اشتهى أكرم نزلي، وتقبل عملي، وأول قراي جاءني الفتاح. وأخبرني بعض الطلبة أن شخصا جاء إلى قبره وجعل يقول: أنت الذي تخالف الرفعي وتقول: قلت.. قلت، ويشير إليه بيده، فما قام حتى لدغته عقرب. ورأيت في (إنباه الغمر) الشيخ الاسلام ابن حجر في ترجمة الجمال الريمي شارح التنبيه أنه كان كثير الازدراء، بالشيخ محيي الدين فلما مات جاءت هرة وهو على المغتسل، فانتزعت لسانه قال: فكان ذلك عبرة للناس. ذكر شئ مما رثي به: قال الشيخ الادب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن أبي شاكر الحنفي الاربلي: عز العزاء، وعم الحادث الجلل * وخاب بالموت في تعميرك الامل واستوحشت بعدما كنت الانيس بها * وساءها فقدك: الاسحار والاصل أسلى قوامك عن قوم مضوا بدلا * وعن قوامك لا مثل ولا بدل فمثل فقدك ترتاع العقول به * وفقد مثلك جرح ليس يندمل(1/76)
وكنت تتلو كتاب الله معتبرا * لا يعتريك على تكراره ملل قد كنت للدين نورا يستضاء به * مسدد منك فيه القول والعمل وكنت في سنة المختار مجتهدا * وأنت بالمن والتوفيق مشتمل وكنت زينا لاهل العلم مفتخرا * على جديد كساهم ثوبك السمل وهذت في باطل الدنيا وزخرفها * عزما وحزما، فمضروب بك المثل أعرضت عنها احتقارا غير محتفل * وأنت بالسعي في أخراك محتفل عزفت عن شهوات ما لعزم فتى * بها - سواك - إذا عنت له قبل عزفت عن شهوات ما لعزم فتى * بها - سواك - عنت له قبل أسهرت في العلم عينا لم تذق سنة * إلا وأنت به في الحكم مشتغل ترى ذرى تربة من غيبوه به * أو نعشه من على أعواده حملوا يا محيي الدين، كم عادرت من كبد * حرى عليك، وعين دمعها هطل وكم مقام كحد السف، لا جلد * يقوى على صولة فيه ولا جدل أمرت فيه بأمر الله منتضيا * سيفا من العزم لم يصفع له خلل وكم تواضعف عن فضل، وعن شرف * وهمة هامة الجوزاء تنتعل فجعت بالامس ليلا كنت ساهره * لله، والنوم قد خيطت به المقل رجاك نور نهار كنت صائمة * إذا الهجير بنار الشمس تشتعل * * * يا لاهيا لاهيا عن هول مصرعه * وضاحك السن منه يضحك الاجل لا تخل نفسك من زاد، فإنك من * حين الولاد مع الانفاس مرتحل وما مقام يديم اليسر يتبعه * إلى محل تلاة سابق عجل وقال أيضا: نبأ أصم به واصمى الناعي * فجنى على الابصار والاسماع غدت النفوس به شعاعاإذ بدت * شمس الضحى حزنا بغير شعاع أودى بها خوف التفرق قبله * ما أشبه الاوجال بالاوجاع حل المصاب برب كل فضيلة * وبباب كل ثنية طلاع هاد إلى السنن القويم وسنة ال * هادي جميل مناقب ومساع يحيى الذي أحيا الفضائل سعيه * وهدى ببارق ذهنه اللماع القانت، القوام، والصوام، والس * - اعي بخطو في العلوم وساع(1/77)
ما زال وأحد عصره في دهره * إلى سبيل الحق أفضل داع حبر جليل، جل في تأبينه * عن رتبة الاشعار والاشجاع وقال قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم بن الحسن بن صصري: أعيني جودا بالدموع الهوامل * وجودا بها كالساريات الهواطل على الشيخ محيي الدين ذي والتقي * ورب الهدى والزهد، حاوي الفضائل على قانت، بر، طهور، موفق على عالم بالنسك والدين عامل وسيلا دما، فالدمع ليس بناقع * غليلي، ولا مطف أوام مفاصلي لقدم كان فردا في الزمان مكفلا * عديم نظير أو شبيه مساجل لقد كان عن دين الاله مناضلا * فأكرم به من دين لقد كان فردا في الزمان مكفلا * عديم نظير أو شبيه مساجل لقد كان عن دين الاله مناضلا * فأكرم به من دين دومناضل لقد كان فج الدنيا الدنية زاهدا * فلم يله منها فظ يوما بطائل لقد كان في الاخرى العلية جاهدا فنوله منها رب أشرف نائل لقد كان بالمعروف للناس آمرا * وناهيهم عن منكرات وباطل فكم قام في الاسلام حق قيامه * وما عاقه عن قصده عذل عاذل وكم اذوي الجاهات واجه معلنا * بانكاره عند الصحى والاصائل وكم بالهدى والحق شافه منكرا * إذا لم يكن يصغي لاقوال قائل فإو هو عن رؤياه أصبح عاجزا * يبلغه إنكاره في الرسائل وقال الشيخ أبو الحسن علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي: لهفي عليه سيدا وحصورا * سندا لاعلام الهدى، وظهيرا ومجاهدا ومجاهرا في الله لا * يخشى مليكا قاهرا، وأميرا ومشيدا ركن الشريعة، ناصحا، * بالباقيات الصالحات مشيرا عف من الدنيا، وكم عرضت له * جلا فأولاها قلى ونفورا هجر الكرى والطيبات تورعا، * إذ قام ديجورا، وصام هجيرا أحيى شريعة أحمد، وأفاضها * فأفادنا نشرا لها ونشروا(1/78)
يفتي، فيفتن كل حبر علمه * مع أنه يهدي الهدى والنورا ما مات يحيى، إنما جبل هوى * قأخاف ذلك يذبلا وثبيرا إن المدارس وحشة لفراقه * أضحت دوارس لا تبين، دثورا وكذا المساجد بالمصابيح انثنت * تبدي عليه حرقة وزفيرا تلك الزوايات والثيات الخشن قد * عادت عليه جنة وحريرا آها على الاواه والاواب من * صدق المقال لنفسه، هجيرا والطاهر الاعراض والاعراض لا * يبدي رياء للانام وزورا وزر به عند الحوادث تتقى * عند الملوك به الورى المحذورا ضمن توى الجولان من أخلاقه * نورا إذا ظن السحاب غديرا وتقدست بقدومه من قدسه فيها قبورك طاهرا وطهورا وقال أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، قال ابن فضل الله - وكان قرأ عليه قطعة من الروضة: أأكتم حزني والمدامع تبديه * لفقد امرئ كل البرية تبكيه رأى الناس منه زهد يحيى سميه * وتقواه، فيما كان يبدي ويخفيه ولم يرض بالدنيا، ولا مال لحظة * إلى عيشها، فالله لا شك يرضيه تحلى بأوصاف النبي وصحبه * وأتباعه هديا فمن ذا يدنيه ؟ حديث رسول الله والفقه دأبه * يصنفه في ذا، وهذاك يرويه يرى الموت يحيى في اماته بدعة * وكم سنة أحيى بحستن مساعيه شكافقده علم الحديث وحفظه * وأهلوه، والكتب الصحاح، وقاريه ولاح على وجه العلوم كآبة * تخبر أن الدين قد مات محييه إذا عدم الاسلام أشرف أهله * فلا غرو أنا في المصاب نعزيه وقال الفقيه سليمان بن أبي الحارث الانصاري الحنفي: مصاب أصاب القلب للجفن أرقا * وخطب أتى بالحزن للصبر فرقا ورزء تغشى المسلمين بأسرهم * وسهم إلى عين الشريعة فوقا ولم يعد قبل الشافعية فضله * وإن كان قد عم الطوائف مطلقا وضاق القضاء الرحب، حتى لقد غدا * كسم حياط، أو من السم أضقا(1/79)
بمن كان حليا للزمان وأهله * وعقد نظام العلم والحلم والتقى إذا ما اقتضاه الشرع من أجل حادث * فرى هامة الخطب الجسيم، وفرقا فأصبحت الاقطار والكون كله * لفقدك محيي الدين بيدا سملقا فأرثيك لا أني طننتك مينا * وكيف وإحياء العلوم هو البقا أبا زكريا للمرء ملجا * يرد الردى عنه، ولو جر فيلقا أحيى ولو أن الموت يثنيه عن فتى * ثبات جنان، لانثنى عنه أخرقا وما مد صرف الدهر نحوك باعه * ولا ضم جنبيك الصفيح مطبقا وكيف يواري المرء علما غدا به * على سعة - صدر البسيطة ضيقا فطوبى لقبر ضمه، فلقد غدا * يباهي به دار المقامة والبقا وقال الفقيه أبو عبد الله محمد المنبجي، أحد فقهاء الناصرية بدمشق: سبل العلوم تقطعت أسبابها * وتعطلت من حليها طلابها لمصبية عز العزاء لها، كما * في الناس قد جلت وجل مصابها يا أيها الحبر الذي من بعده كل الفضائل غلقت أبوابها أضحى على الدنيا لفقدك وحشه * ما اعتادها من قبل ذا أربابها مسودة أيامها، متغير * أحوالها، مستوحش محرابها لله أي بحار فضل غيضت * من بعد ما زخرت، وعب عبابها من للمسائل اعضلت ؟ من للفتا * وى أشكلت عن أن يرد جوابها ؟ من للتقى ؟ من للحجى * طويت - لفقد أليفها - أثوابها وقال أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله الكاتب، قارئ دار الحديث، من قصيدة يرثي بها أشياخه، بعد ذكر ابن الصلاح، والسخاوي، وأبي شامة، وغير هم. وكذاك محيي الدين فاق بزهده * وبفقهه الفقها مع الزهاد القانت الاواب، والحبر الذي * نصر الشريعة دائما بجهاد تبكيه دار للحديث وأهلها * لخلوها من فضله المعتاد لم يبق بعدك للصحيح معرف * قد كنت فيه جهبذ النقاد من ذا يبين مسندا من مرسل * أو من حديث عد في الافراد(1/80)
أو كان مقطوعا ضعيفا معضلا * أو كان مضوعا لذي الحساد أو من يبين منكرا في متنه * أو من يعرف علة الاسناد ؟ من ذا لرفع المنكرات وقد غدت * بين الانام كثيرة الترداد ؟ ونصرت دين الله وحدك جاهدا * ودفعت عنه شبهة المراد وقال العفيف التلمساني: نعم بعد يحيى معهد الفضل دارس * فما أنصفت إن لم تنحه المدارس فيا صبرمت عندي، ويا حزن فلتعش * فإن النواوي قد حوته الروامس بكته مساعيه التي بذت الالى * سعوا للعلى في أرضهم وهو جالس وناحت عليه ورق أوراقه، وما * لهامن سوى الاقلام قصب بوائس وأقسم ما نفس بكته نفيسه * إذا لم تساعدها الدموع النفائس تلهب قلب البرق، والدعد ضارخ * اسى، ودموع الغاديات بواجس وظل وبات اللؤلؤ الرطب حاسدا * مدامع فيه تقول المجالس ومثوى الربى فيه حسد الثرى * فماذا عسى فيه تقول المجالس لقد كان يحيي الليل يحيى ساهدا * وجفن سمير النجم في الافق ناعس ويطوي على الداء الدفين من الطوى * اضالع ما فيها سوى الذكر هاجس ويرضى جليس الخير ممتع بحثه * فينقاد للحق المماري الممارس فان تضحك الاخرى سرورا بمثله * فوجهك يا دنيا من الفقد عابس وكنت به مثل العروس فأصبحت * لديه من الحور الحسان عرائس فلله عضن عندما تم زهره * وأ ينع: أضحى رطبه وهو يابس وبدر تمام، والبدور متى تغب * تراح، وهذا منه قلبي آيس فأقسم ما النعمى بها القلب ناعم * عليه ولا البؤسى بها القلب بائس وهبهات لو اني صديق ومات لم * اعش بعده لما حوته الروامس فيا دهر هل كانت مناياه أكؤسا * ملئت بها سكرا، فرأسك ناكس ؟ لقد اجفلت غر المسائل بعده * وعهدي بها من قبل وهي أوانس نطار منهن الشرود كأنها * مها تدريها بالقسي الفوارس ولو أنه فينا لعدن وكنس ال * - جواري لدينا، لا الظياء الكوانس(1/81)
له في رسول الله والآل اسوة * وأصحابه، عنهم تقول الفرادس أبوا أن يؤوبوا نحو دنيا دنيه * ملابسه تعرى بها وهو لابس وكيف نبكيه ونعلم أنه * على ما إليه صار كان ينافس خاتمة الاولى: روى الحاكم في المستدرك، وأبو داود، وغيرهما، عن أبي هريرة، قال الامام أحمد: فكان على رأس المائة الاولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس الثانية الامام الشافعي. قالوا: وعلى رأس الثالثة أبو العباس بن سريج، وقيل: الاشعري، والرابعة أبو الطيب سهل الصعلوكي، وقيل الشيخ أبو حامد إمام العراقيين والسادسة الفخر الرازي، وقيل: الرافعي، والسابعة ابن دقيق العيد. وهكذا ذكره ابن السبكي في الطبقات. قلت: وقد ذكر شيخ شيوخنا حافظ العصر زين الدين العراقي في ترجمة جمعها للشيخ جمال الدين الاسنوي، أنه المبعوث على رأس المائة الثامنة. والشيخ محيي الدين أحق بأن يكون على رأس المائة السابعة، بل هو أقرب إلى القرن من الاسنوي، فإن وفاته - كما تقدم - سنة 676، ووفاة الاسنوي سنة 673 وفي ظني أن الشيخ زين الدين العراقي نقل في ترجمته المذكورة، أن بعضهم ذكر ذلك في شأن النووي، وأنه قاس الاسنوي عليه من حيث تأخر زمنه عن رأس القرن. وقيل: إن المبعوث على رأس المائة الثامنة شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني. وقد نظم فيمن تقدم أبيات مفرقة، فقال بعضهم يخاطب ابن سريج. اثنان قد مضيا، فبورك فيهما * عمر الخليفة، ثم حلف السودد الشافعي، الالمعي محمد * ارث النبوة، وابن عم محمد ابشر أبا العباس، أنك ثالث * من بعدهم، سقيا لتربة أحمد وقال بعضهم مذيلا: والرابع المشهور سهل محمد * أضحى إماما عند كل موحد يأوي إليه المسلمون بأسرهم * في العلم إن جاؤوا لخطب مؤيد(1/82)
لا زلت فيما بيننا خير الورى * للمذهب المختار خير مجمدد وقال الشيخ تاج الدين السبكي مذيلا: ويقال: إن الاشعري الثالث ال * - مبعوث للدين القويم الايد والحق ليس بمنكر هذا، ولا * هذا وعلهما أمران فعدد هذا لنصرة أصل دين محمد * كنظير ذلك في فروع محمد وضرورة الاسلام داعية إلى * هذا وذاك ليهتدي من يهتدي وقضى أناس أن أحمد الا سفرا * ييني رابعهم، ولا تستبعد فكلا هما فرد الورى المعدود من * حزب الامام الشافعي محمد الخامس الحبر الامام محمد * هو حجة الاسلام دون تردد وابن الخطيب السادس المبعوث إذ * هو للشريعة كان أي مؤيد السابع ابن دقيق عيد فاستمع * فالقوم بين محمد أو أحمد وانظر لسر الله أن الكل من * أصحابنا، فافهم، وانصف ترشد هذا على أن المصيب أمامنا * أجلى دليل واضح لمهتدي يا أيها الرجل المريد نجابة * دع ذا التعصب والمراء، وقلد هذا ابن عن المصطفى وسميه * والعالم المبعوث، خير مجدد وضح الهدى بكلامه وبهديه * يا أيها المسكين لم لا تقتدي ؟ وقلت أنا مذيلا: ويقال: إن السادس الشيخ الامام * م الرافعي، وليس بالمستبعد فهو المجدد للفروع وذلك ال * - محيي حقيقا أصل دين محمد والسابع الشيخ النواوي الذي، قد حرر الدين الرضى للمقتدي والثامن الشيخ الجمال الاسنو * ي منقح الاحكام للمسترشد والعالم الاسمى سراج الدين ذو * يلقينة، نقلوا، ولا تستبعد فكلاهما شيخ لذلك العصر قد * كانا لاهل الدين أفضل مرشد والحق أن البعث لا * يختص فردا عنده عن مفرد بل كل حبر كان موجودا فهوا * ما قد أراد به حديث المرشد ودليله أن الغموس لمن يرى * فمفادها للجمع أظهر فاهتد(1/83)
الثانية: في سلسلة الفقه للشيخ قال الشيخ في تهذيب الاسماء واللغات: هذ من المطلوبات المهمات، والنفائس الجليلات، التي للمتفقة والفقيه معرفتها، ويقبح بهما جهالتها، فإن شيوخه في العالم آباء له في الدين، ووصله بينه وبين وبين رب العالمين. وكيف لا يقبح جهله الانساب والوصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب، مع أه مأمور بالدعاء لهم، وبرهم، وذكر مآثر هم، والثناء عليهم، وشكر هم فأذكر هم مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يعرف من كان في عصرنا وبعده طريقة، باجتماعها هي وطريقي قريبا. وحينئذ يعرف من كان في عصرنا وبعده طريقة، باجتماعها هي وطريقي قريبا. قال: فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحا، ذ وسماعا، وشرحا وتعليقا، عن جماعات: أولهم: شيخي الامام أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي: ثم شيخنا: عبد الرحمن بن نوح المقدسي. ثم شيحنا: أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الربعي الاربلي: ثم شيخنا: أبو الحسن سلار بن الحسن الاربلي: وتفقه شيوخنا الثلاثة الاولون على الامام أبي عمرو بن الصلاح، وتفقه هو على والده في طريق العراقيين على أبي سعد بن أبي عصرون، وأبو سعد على أبي علي الفارقي، والفار في على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والشيخ على القاضي أبي الطيب الطبري، والقاضي على أبي الحسين الماسرجي، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سريج، وهو على أبي القاسم الانماطي، وهو على المزني، وهو على الشافعي، وهو على مالك وهو على ربيعية، ونافع، وهما على ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وأما طريق الخراسانيين فأخذتها عن شيوخنا المذكورين عن ابن الصلاح، عن والده، عن أبي القاسم بن البزري، عن الكيال، عن أبي المعالي إمام الحرمين، عن والده، عن أبي عبد الله بن أحمد القفان الصغيره، عن أبي زيد المروزي، عن أبي إسحاق المروزي، عن ابن سريج بسنده السابق.(1/84)
قال: وتفقه شيخنا سلار على الامام أبي بكر الماهاني، وهو عن ابن البزري بطريقه السابق. قلت: وأنا أخذت الفقه عن جماعة أجلهم: والده شيخ الاسلام سراج الدين عمربن رسلان البلقيني، وهو عن جماعة منهم الشيخ شمس الدين بن علان، وهو عن الوجيه عن الوهاب بن حسن البهنسي، وهو عن البهاء الجميري، وهو عن عبد الوهاب بن حسن البهنسي، وهو عن البهاء الجميزي، وهو عن ابن أبي عصرون بطريقه السابق، فباعتبار طريقنا هذا كان شيخي أخذه عن النووي. الثالثة: في نسبة الشيخ الحزامي قال ابن العطار: ذكر لي الشيخ - قدس الله روحه -: ان بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حكيم بن حزام. قال الشيخ: وهو غلط، بل إلى حزام، جد لنا نزل الجولان، بقرية نوى، على عادة العرب، فأقام بها، الله ذرية، إلى أن صار منهم خلق كثير. الرابعة: نوى وفيها يقول بعضهم: لقيت خيرا يا نوى * وكفيت من شر النوى فلقد نشا بك عالم * لله أخلص ما نوى وعلى عداه فضله * فضل الحبوب على النوى والنسبة إليها نووي، بحذف الالف بين الواوين على الاصل، وقلب الالف الاصلية واوا. ويقال: نواوي، بتخفيف الياء والالف بدلا عن إحدى ياءي النسب، كما يقال: يمني ويماني بتخفيف الياء في الثانية. ورأيت كلا الامرين بخطه رحمه الله تعالى. ورأيت في تعليقة للقاضي عز الدين ابن جماعة بخطه. قال ابن العطار: لما ودعت الشيخ محيي الدين النووي بنوى حين أردت حين اردت السفر للحج، حملني السلام إلى الامام أبي اليمن عساكر، فلما بلغته سلامه، رد علي وسألني: أين تركته ؟ قلت: ببلدة نوى، فأنشدني بديها: أمجمعين على نوى اشتاقكم * شوقا يجدد لي الصبابة والجوى(1/85)
فأروم قربكم لابي مرتج * يا سادتي قرب المقيم على نوى الخامسة: والد الشيخ شرف ذكره الصلاح الصفدي في تاريخه، وقال: توفي (1). إسناد حديث الشيخ رحمه الله تعالى أخبرني (1) شيخ الاسلام علم الدين البلقيني اجازة عن والده، عن الحافظ أبي الحجاج المزي، أخبرنا الامام أبو زكريا النووي، أخبرنا الامام ابن قدامة المقدسي، حدثنا أبو حفص بن طبرزد. وكتب لي عاليا بدر جتين أبو عبد الله الحلبي، عبد الصلاح بن أبي عمرو عن أبي الحسن بن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو الفتح الكرخي، أخبرنا أبو عامر الازدي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا عبد الله بن أبي زياد، أخبرنا سيار، أخبرنا عبد الواحد بن زياد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقيت إبراهيم حين أسري، بي، فقال: اقرئ امتك مني السلام، وأخبر هم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها فيعان، وان غراسها سبحان الله، والحمد الله ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الترمذي: حديث حسن: قال الشيخ في التهذيب: قد من الله علينا، ان جعل لنا رواية متصلد، وسببا متعلقا، بخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. أخبرني أبو الفضل محمد بن عمر، أخبرنا أبو إسحاق التنوخي، أخبرنا الحافظ أبو الفضل محمد بن عمر، أخبرنا أبو إسحاق التنوخي، أخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي، أخبرنا علي بن إبراهيم بن العطار، أخبرنا يحيى بن شرف الفقيه، أخبرنا خالد بن يوسف. وكبت إلى عاليا بثلاث درجات، أبو عبد الله الحلبي، عن ابن الصلاح أبي عمرو، عن أبي الحسن بن البخاري قالا: أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا(1/86)
المبارك بن الحسين، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله بن شيبان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب الشهادة صادقا من قلبه أعطيها ولو لم تصبه... أخرجه مسلم. وقد ختمنا بهذا الحديث كتابا، رجاء أن يختم الله لنا بالشهادة، وأن يجعلنا من الدين لهم الحسنى وزيادة. وهذا آخرة والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.(1/87)
الامام السيوطي نسبه (1) هو الامام المتأخرين، علم أعلان الدين، خاتمة الحفاظ أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكربن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الاسيوطي، ولقب رحمه الله بجلال الدين. وكنيته أبو الفضل: وكان سبب كنيته أنه عرض على العز الكناني الحنبلي فقال له ما كنيتك. قال: كنية لي. أبو الفضل وأما نسبه بالخضيري. فقد تحدث عنها رحمه الله في ترجمة لنفسه في حسن المخاضرة فقال: وأما نسبتنا بالخضيري فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة إلا الخضيرية محلة ببغداد وقال أيضا. وقد حدثني من أثق به أنه سمع والدي رحمه الله تعالى يذكر أن جده الاعلى كان أعجميا أو من الشرق فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة. مولده ولد رحمه اللهبعد المغرب ليلة الاحد مستهل رجب سنة وأربعين وثمانمائة(1/89)
هجرية، فقد ولد رحمه الله في بيت عرف بالعلم والادب وسمو المكانة وعلو المننزلة، ولا عجب فقد كان أبوه، علما من الاعلام وفقيها من فقهاء الشافعية المرموقين، فقد ولي رحمه الله في مستهل حياته منصب القضاء في أسيوط ثم انتقل إلى مصر حيث أسند إليه بها منصب الافتاء على مذهب الامام الشافعي. وتوقي ولده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر وقد وصل من حفظ القرآن إذا ذاك إلى سورة التحريم ولكن الله تعالى قد كلاه بعنايته وأحاطه برعايته فقيض له العلامة الكمال ابن الهمام، فكان رحمه الله يرعاه ويتابعه في تحفيظ القرآن وذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم. نشأته نشأ رحمه الله نشأة علمية منذ نعومة أظفاره، فقد كان ولده رحمه الله شديد الحرص على توجيهه الوجهة الصالحة إذ كان يحفظ القرآن الكريم في صغره ويستصحبه إلى دور العلم ومجالس القضاء ودروس الفقهاء وسماع الحديث. ويذكر المؤرخون الذين ترجموا له رحمه الله أن أباه قد طلب من الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني صاحب الفتح أن يدعو له بالبركة والتوفيق، وكان رحمه الله يرى في الحافظ ابن حجر مثله الاعلى وكان يترسم خطاه ويحذو حذوه فيما بعد حتى قيل إنه شرب من ماء زمزم بنية أن يجعله الله مثل ابن حجر فاستجاب الله سبحانه وتعالى له فكان من أكبر الحفاظ. طلبه للعلم كان السيوطي رحمه الله شديد الذكاء، قوي الذاكرة، حفظ القرآن وهو دون ثماني سنين حفظ عمدة الاحكام وشرحه لابن دقيق العيد ثم حفظ منهاج الامام النووي في فقه الشافعية ثم منهاج البيضاوي في الاصول ثم ألفية ابن مالك في النحو ثم تفسير البيضاوي. وعرض ذلك رحمه الله على طائة من مشايخ الاسلام مثل البلقيني وعز الدين الحنبلي وشيخ الاقصراني فأجازه هؤلاء وغيرهم. ولم يدع رحمه الله من فروع المعرفة ولا نوعا من أنواع العلم إلا وقد أدلى(1/90)
فيه بدلو وتلفاه عند أهله، فأخذ الفقه عن شيخ الشيوخ سراج الدين البلقيني وقد لازمه إلى أن توفي فلازم من بعده ولده علم الدين. أخذ الفرائض عن فرضي زمانه الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، ولازم الشرف المناوي أبا زكريا محمد بن عبد الرؤوف شارح الجامع الصغير. وأخذ العلوم العربية عن الامام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك. ولزم العلامة محيي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة فأخذه عنه التفسير والاصول والعربية والمعاني وأخذ عن جلال الدين المحلي وعن المعز الكناني أحمد بن إبراهيم الحنبلي، وحضر على الشيخ سيف الدين الحنفي دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشية عليه وتلخيص المفتاح في البلاغة، وقد أجيز بتدريس في مستهل سنة ست وستين وثمانمائة، أي في سن الخامسة عشرة وأخذ أيضا عن المجد بن السباع وعبد العزيز الوقائي الميقات، وأخذ الطب عن محمد بن إبراهيم الدواني الرومي. والمتتبع لنشأة السيوطي يجد أنه قد أخذ الكثير من العلوم عن الكثير من المشايخ. وقد ذكر بعض أهل العلم ممن ترجعوا له أن شيوخه قد وصلوا نحو ستمائة ولا غرابة في ذلك ولا عجب فإن السيوطي قد عاش حياته يأخذ العلم حيث وجده وعن كل من يلقاه وأنه أكثر من السفر والترحال في سبيل تحصيل العلم ورواية الحديث. وذكر أيضا في بعض الروايات أنهم مائة وخمسون شيخا وشيخة وفي بعضها قارب عدد هم الستمائة على ما ذكر آنفا. قيامه بالتدريس كان الامام السيوطي رحمه الله خير مؤدبي عصره وأفضل مدرسيه إذ اشتهر بالبراعة في الشرح والروعة في الاملاء ومن ثم شدت إليه الرحال من كل مكان فكان رحمه الله يدرس العربية في سن مبكرة إذ كان عمره وقت إجازته بالتدريس خمسه عشر عاما فقط وهي قصيرة من أعمار العلماء الاعلام ثم شرع أيضا في تدريس الفقة وإملاء الحديث سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة أي بعد مباشرته تدريس العربية بنحو(1/91)
ست سنوات ثم شرع بعد ذلك يزاول التدريس والاملاء، في مختلف العلوم وشتى الفنون فقال متحدثا عن نفسه متحدثا بنعمة الله أنه رزق التبحر في سبعة علوم: التفسير والفقه والحديث والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب البلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. وكان رحمه الله يقول أيضا إنه بلغ الاجتهاد إذ قال: وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد وبحمد الله تعالى أقول ذلك متحدثا بنعمة الله تعالى لا فخر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوحها وأجوبتها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله مصنفاته لم يدع السيوطي فناإلا وكتب فيه، وبدأ في التأليف في سن مبكرة إذ ذكر المترجمون له أنه شرع في التصنيف سنة ست وستين وثمانمائة هجرية وكان أول شئ ألفه في التفسير وهو تفسير للاستعاذة والبسملة وقد عرضه على شيخ الاسلام علم الدين البلقيني فأجازه وكتب له تقريظا حسنا، ثم توالى بعد ذلك تأليفه. وقد اختلف البالحثون في عدد المصنفات التي أثرى بها الحافظ الجلال السيوطي المكتبة اختلف الباحثون في عدد المصنفات التي أثرى بها الحافظ الجلال السيوطي المكتبة الاسلامية فمنهم من يرى أنها تبلغ إحدى وستين وخمسائة وهو ما ذهب إليه فلوجل وأما ما ذهب إليه بوركلمان فقد عدله خمسة عشر وأربعمائة كتاب. ولقد حدثنا رجل فاضل أنه ألف كتابا للحافظ السيوطي تكلم عنه وترجم له وعد مصنفاته حتى بلغت ستأ وألف كتاب وهذا إن دل إنما يدل على سعة يتحره كما ذكرنا. وهنا أورد بعض مصنفات هذا الامام الجليل. فمن أهم تصانيفة على سبيل المثال لا الحصر: 1 - الاخبار المروية في سبب وضع العربية. 2 - الاشباه والنظائر في النحو. 3 - الافتراح في علم أصول النحو.(1/92)
4 - الالفاظ المعربة. 5 - البهجة المرضية في شرح الالفية. 6 - الفريده. وهي ألفية وله شرح عليها. 7 - التارج في إعراب شكل المهناج. 8 - المصاعد العلية في القواعد النحوية. 9 - النكت على الالفية والشافية والشذور والنزهة. 10 - المزهر في علوم اللغة. 11 - السيف الصقيل في حواشي ابن عقيل. 12 - الشمعة المضيئة شرح كافية ابن مالك. 13 - تعريف الاعجم بحروف المعجم. 14 - جمع الجوامع في النحو. 15 - رفع السنة في نصب الزنة. 16 - شرح جمع الجوامع. 17 - شرح القصيدة الكافية في التعريف. 18 - شرح تصريف العزى. 19 - شرح لمعة الاشراف في الاشتقاق. 20 - شذا العرف في إثبات المعنى للحرب. 21 - شرح شواهد المغني. 22 - شرح أبيات تلخيص المفتاح. 23 - عقود الجمان في علم المعاني والبيان. 24 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد. 25 - قطر الندى في ورود الهمزة للندى. 26 - نكت على التلخيص يسمى الافصاح. 28 - نكت على شرح الشواهد لليعني. 29 - نظم البديع في مدح خير شفيع. 30 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور.(1/93)
31 - تناسق الدرر في تناسب السور. 32 - المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة. 33 - إتمام النعمة في اختصاص الاسلام بهذه الامة. 34 - الديباح على صحيح مسلم بن الحجاج. 35 - كشف الغطاء على موطأ مالك. 36 - تنوير السافرة عن أمور الآخرة. 37 - البدور السافرة عن أمور الآخرة. 38 - نتيجة الفكر في الجهر بالذكر. 39 - مسالك الحنفا في إسلام والدي المصطفى. 40 - نشر العلمين في إحياء الابوين الشريفين. 41 - ذم القضاء. 42 - ذم زيادة الامراء. 43 - التنفيس عن ترك الافتاء والتدريس. 44 - الاحاديث الحسان في فضل الطيلسان. 45 - طي اللسان عن ذم الطيلسان. 46 - التضلع في معنى المتقنع. 47 - عين الاصابة في ما استدركته عائشة على الصحابة. 48 - الاحتفال بالاطفال. 49 - الاوج في خبر عوج. 50 - الوديك في الديك. 51 - الوثوث في فوائد البرغوث. 52 - مختصر النهاية لابن الاثير. 53 - الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع. 54 - مختصر الخادم. 55 - شرح الروض لابن المقرى. وغير ذلك مما حوته كتب التراجم.(1/94)
ثناء العلماء عليه لم أجد ترجم لهذا الامام إلا وقد شهد له بالبراعة والتبحر، ولقد أثنى عليه شيوخه وأقرانه وتلاميذه والعلماء من بعده ممن قرأ كتبه. فيقول أبو الحسنات محمد محمد عبد الحلي اللكنوي في حواشيه على الموطأ بعد أن ذكر السيوطي: وتصاننفه كلها مشتملة على فوائد لطيفة وفرائد شريفة تشهد كلها بتبحره وسعة نظره ودقة فكره وأنه حقيق بأن يعد من مجددي الملة المحمدية في بدء المائة العاشرة وآخر التعاسعة كما ادعاه بنفسه وشهد بكونه حفيا به ممن جاء بعده كعلي القارئ المكي في المرآة. انقطاعه عن التدريس والقضاء والافتاء انقطع الشيخ رحمه الله عن التدريس والافتاء لما بلغ أربعين سنة من عمره وأخذ في التجرد والانقطاع لله تعالى والاشتغال ووالاعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم وشرع في تحرير مؤلفاته التي سبقت الاشارة إليها وألف رسالة يعتذر فيها عن التدريس سماها (التنفيس في الاعتذار عمن ترك الافتاء والتدريس). وأقام رحمه الل في روضه المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات. فيردها، وفي ذات يوم من الايام أرسل له السلطان الغوري خصيا وألف دينار، فرد الالف وأخذ الخصي وأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية وقال لقاصده لا تعد تأتينا قط بهدية فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وقيل له مرة إن بعض الاولياء كان يتردد أسلم لدين المسلم. وقد طلبه السلطان مرارا يحضر إليه وألف كتابا سماه (ما رواه الاساطين في عدم التردد إلى السلاطين.). وفاته توفي رضي الله عنه في سحر ليلة الجمعة تاسع جمادى الاولى سنة إحدى وعشرة(1/95)
وتسعمائة في منزله بروضة المقياس عن عمر بلغ اثنين وستين عاما وكان له مشهد عظيم، ودفن في حوش قوصون خارج باب القرافة، وصلي عليه بدمشق بالجامع الاموي يوم الجمعة، وقيل أخذ الناس قميصه وقبعته فاشترى بعض الناس قميصه من الناس بخمسة دنانير للتبرك به وباع قبعته بثلاثة دنانير لذلك أيضا. وقد رثاه عبد الباسط بن خليل الحنفي بقوله: مات جلال الدين غيث الورى * مجتهد العصر إمام الوجود وحافظ السنة مهدي الهدى * ومرشد الضال بنفع يعود فيا عيون انهملي بعده * ويا قلوب انفطري بالوقود واظلمي يا دنيا إذ حق ذا * بل حق أن ترعد فيك الرعود وحق للضوء بأن ينطفى * وحق للقائم فيك القعود وحق للنور بأن يختفى * ولليالي البيض أن تبقى سود وحق للناس بأن يحزنوا * بل حق أن كل بنفس يجود وحق للاجيال خسرا وأن * تطوى السماء طيا كيومالوعود وأن يفور الماء والارض ان * تميد وعم المصاب الوجود مصيبة حلت فحلت بنا * وأرثت نار اشتعال الوجود صبرنا الله عليها وأولاده * نعيما حل دار الخلود والله يقول الحق ويهدي السبيل(1/96)
كتاب منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع تأليف الحافظ جلال الدين السيوطي(1/97)
بسم الله الرحمن الرحيم فرع: قال في شرح المهذب: من البدع المنكرة ما يفعل في كثير من البلدن من إيقاد العظيمة السرف في ليالي معروفة من السنة كليلة نصف شعبان فيحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة. منها: مضاهاة جلوس المجوسي في الاعتناء بالنار والاكثار منها. ومنها: إضاعة المال في غير وجهه. ومنها: ما يترتب على ذلك في كثير من المساجد من اجتماع الصبيان وأهل اليطالة ولعبهم ورفع أصواتهم ولقربانهم المساجد وانتهاك حرمتها وحصول أساخ فيها وغير ذلك من المفاسد التي يجب صيانه المسجد من أفادها (1). انتهى. قال ابن العماد: ومن المفاسد أيضا ما يفعل في الجوامع من إيقاد الفناديل وتركها إلى أن تطلع الشمس وترتفع، وهو من فعل اليهود في كنائسهم كما نبه على ذلك الشيخ زين الدين الكناني وأكثر ما يفعل ذلك في يوم العيد وهو حرام. قال: ويشبه ذلك وقود الشمع الكثير ليلة عرفة، وقد ذكر النووي في شرح المهذب أنه حرام شديد التحريم. وقال ابن الحاج في المدخل: ليس للانسان في المسجد إلا موضع قيامه(1/99)
وسجوده وجلوسه وما زاد على ذلك فلسائر المسلمين (1) فإذا بسط لنفسه شيئا ليصلي عليه احتاج لاجل سعة ثوبه أن يبسط شيئا كثيرا ليعم ثوبه على سجادته فيكون في سجادته اتساع فيمسك بسبب ذلك موضع رجلين أو نحوهما إن سلم من الكبر من أنه لا يضم إلى سجادته أحدا. قال فإن لم يسلم من ذلك وولى الناس عنه وتباعدوا منه هيبة لكمه وثوبه وتركهم وهو لم بالقرب إليه فيمسك ما هو أكثر من ذلك فيكون غاصبا لذلك القدر من المسجد فيقع بسبب ذلك في المحرم المتفق عليه المنصوص عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من غصب شبرا من الارض طوقه يوم القيامة إلى سبع أرضين) (2) وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب إلا وقت الصلاة وهو في وقت الصلاة وهو في وقت الصلاة غاصب له فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته وزيه، فإن بعث بسجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمثلئ المسجد بالناس ثم يأتي كان غاصبا لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه لانه ليس له أن يحجره وليس لاحد فيه إلا موضع صلاته انتهى. فرع: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد (3): وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى اعراض قامت بأجرامها وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة الجماعات والجمعات فيها وذلك الاعتكاف فيها، ولذلك منع من البيع والشراء فيها، وإيداع الامكان والازمان لهذه الفضائل كإيداع الانبياء والرسل النبوة والرسالة ليست إلا جودا من الله ولذلك قالت الرسل لقومهم (إن نحن إلا بشر مثلهم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)(1/100)
وكذلك سائر الاوصاف الشراف لم يضعها الرب سبحانه في من شاء من عباده لمعنى اقتضاها واستدعاها بل ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء، كذلك من من به من المعارف والاحوال وحسن الاخلاق، ولم يكن ذلك إلا فضلا من فضله وجودا من جوده على من يشاء من عباده. وكذلك الامكان والازمان أودع الله في بعضها فضلا لاجودله في غيرها مع القطع بالتماثل والمساواة. وكذلك الاجسام التي فضلت بأعراضها كالذهب والفضة وسائر الجواهر النفيسة. فرع: قال ابن العماد: قال بعض مشايخنا: الابخر ومن به صنان مستحكم حكمه حكم من أكل الثوم والبصل (1) في منع دخول المسجد وأولى، وفي فتاوى ابن تيمية وبه صرح المالكية أن من بالجذام والبرص وهو من سكان المدارس والرباطات أزعج وأخرج لقوله صلى الله عليه وسلم لا يورد عاهة على مصح) (2). قال ابن العماد: وعلى هذا فيمنع من به برض أو جذام أو صنان مستحكم أو(1/101)
يخر من الجماعات والجمعات ولا يمنع وحده خلف الصفوف ولا يمنع الغير من الصلاة معه وللغير من الوقوف معه ويمنع المجذوم والارص من الشرب من السقايا المسبلة في المساجد وغيرها للحديث السابق، وحكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين ونحو هم حكم آكل الثوم (1). وقد نقل الخصوصي مسألة الابخر ومن به صنان عن شيخه البلقيني فهو الذي أشار به ابن العماد قال: ويستحب لقاصد المسجد أن يتوضا في بيته لحديث: قال الله تعالى إن بيوتي في أرضى المساجد وإن زواري فيها عمارها وطوبى لعبد تطهر في بيته زارني في بيتي انتهى. قال الزركشي: يجوز دخول الذمي المسجد بلا إذن لحاجة إلى مسلم أو حاجة مسلم إليه. ذكره الروياني وفيه نظر (2). انتهى. قال في شرح المهذب: جاء في دخول الحمام عن السلف آثار متعارضة في الاباحة والكراهة. وأما أصحابنا فكلا مهم فيه قليل وممن تكلم فيه من أصحابنا الامام الفقيه الحافظ أبو بكر السمعاني: جملة القول في دخول الحمام أنه مباح للرجال بشرط الستر (3) وغض البصر ومكروه للنساء إلا لعذر من نفاس أو مرض.(1/102)
وللداخل آداب: منها أن ينذكر بحره حر النار ويستعيذ بالله من حرها ويسأله الجنة وأن يكون قصده التنظيف والتطهير دون التنعيم والترفه. وأن لا يدخله إذا رأى فيها عاريا، ويستغفر الله إذا خرج ويصلي ركعتين. وقال الغزالي في الاحياء: لا بأس بدخول الحمام، دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام، وعلى داخله واجبات وسنن فعليه واجبات في عورته صونها عن نظر غيره ومسه فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده، وواجبات في عورة غيره أن يغض بصره عنها وأن ينهاه عن كشفها، لان النهى عن النكرات واجب فعليه ذلك وليس عليه القبول (1).(1/103)
قال: ولا يسقط الانكار إلا لخوف ضرر أشتم أو نحوه، ولا يسقط عنه بظنه أنه لا يفيد. قال: ولهذا صار الحزم في هذه الازمان ترك دخول الحمام إذ لا يخلو عن عوراث مكشوفة لا سيما ما فوق العانة وتحت السرة، ولهذا يستحب إخلاء الحمام. قال: والسنن عشرة: النية بأن لايدخل عبثا ولا لغرض من الدنيا بل بقصد التنظيف المحبوب، وأن يعطي الحمام أجرة قبل دخوله، ويقدم رجله اليسرى في دخوله قائلا بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم، وأن يدخل وقت الخلوة أو يتكلف إخلاء الحمام، فإنه وإن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطون في العورات، ثم لا يخلو الناس في الحركات عن اكتشاف العوارت فيقع عليها البصر. وأن لا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الاول، وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فهو المأذون فيه، وأن يذكر بحرارته نار جهنم لشبهه بها، وأن لا يكثر الله إذا فرع على هذه النعمة وهي النظافة، ويكره من جهة الطب صب الماء البارد على الرأس عند الخروج من الحمام وشربه، ولا بأس بقوله لغيره عافاك الله، ولا بالمصافحة ولا بأن يدلكه غيره يعني في غير العورة. انتهى. قال ابن عبد السلام: وليس له أن يقيم به أكثر مما جرت به العادة (1). قلت: وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل القدمين بالماء البادر بعد الخروج من الحمام أمان من الصداع (2). فرع: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن الرجل يدخل الحمام فيجلس بمعزل عن الناس إلا أنه يعرف بالعادة أن يكون معه في الحمام من هو كاشف عروته فهل يجوز له حضوره على هذه الحالة أم لا ؟(1/104)
فأجاب: يجوز حضور الحمام، فإن قدر عن الانكار أنكر فيكون مأجورا على إنكاره وإن عجز على الانكار أنكر بقلبه فيكون مأجورا على كراهته، ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع ولا يلزمه الانكار، إلا في السوءتين لان العلماء الختلفوا في قدر العورة فقال بعضهم: لا عورة إلا في السوء تين (1) إلا أن يكون فاعل ذلك معتقدا لتحريمه فينكر عليه حينئذ، وما زال الناس يقلدون (2) العلماء في مسائل الخلاف ولا ينكر عليهم ولا يجوز للشافعي أن ينكر على المالكي فيما يعتقد الشافعي تحريمه والمالكي تخليله (3)، وكذلك سائر مذاهب العلماء (4) اللهم إلا أن يكون(1/105)
ذلك المذهب بعيد المأخوذ بحيث يجب نفضه فينكر حينئذ على الذاهب إليه وعلى من يقلده (1). انتهى. وسئل عما يعتاده الوعاظ من قص بعض الشعر لمن تاب من ذنوبه على أيديهم، ومن حلق جميع الرأس هل لهم مستند في ذلك أو هو بدعة ؟ فأجاب: أما خلق الرأس من غير النسك فإن كان لمرض فهو ضرب من التداوي المأمور به، وإن كان لغير عذر فهو مباح والمساعدة عليه محبوبة إذا كان تداويا، وجائزة إن كان مباحا، وقد كان الغالب على الصحابة قصا الشعر، ولذلك كان الحلق من شعار الخوارج وليس تعاطي ذلك بمحرم.(1/106)
أما القص فهو على وفق كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنه فعله الشيخ بالتائب كان مساعدا له على عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وليس ذلك ركنا من أركان التوبة ولا شرطا من شروطها. والبدع (1) أضرب (2) منها: أحدها: ما دلت الشريعة على أنه مندوب أو واجب ولم يفعل مثله في العصر الاول فهذا بدعة حسنة. الثانية: ما دلت الشريعة على تحريمه أو كراهته مع كونه لم يعهد العصر الاول فهذا بدعة قبيحة. الثالث: ما دلت الشريعة على إباحته مع كونه لم يعهد في العصر الاول، فهذا من البدع المباحة، وقص الشعر على وفق السنة ليس بمكروه ولا من البدع. وأما الحلق الذي تمس الحاجة إليه فلا بأس به أبضا (3).(1/107)
وقد أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلام قد حلق بعض رأسه فقال: احلقوه كله أو اتركوه كله (1). انتهى. تم الكتاب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبح وسلم.(1/108)
روضة الطالبين للامام أبى زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676(1/109)
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن الحمد (1) لله ذي الجلال والاكرام، والفضل والطول والمنن الجسام، الذي هدانا للاسلام، وأسبغ علينا جزيل نعمه ألطافه العظام، وأنافض علينا من خزائن ملكه أنواعا من الانعام وكرم الادميين وفضلهم على غيرهم من الانام، وجعل فيهم قادة يدعون بأمره إلى دار السلام، واجتبى من لطف به منهم فجعلهم من الاماتل والاعلام، فطهر هم من أنواع الكدر (2) ووضر (3) الآثام، وصيرهم بفضله من أولي النهى والاحكام، ووفقهم للدوام على مراقبته ولزوم طاعته على تكرر السنين والايام، واختار من جميعهم حبيبه وخليله وعبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فمحا به عبادة الاصنام، وأدحض (4) به آثار الكفر ومعالم الانصاب والازلام، واختصه بالقرآن العزيز المعجز وجوامع الكلام. فبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أرسل به من أصول الديانات والآداب، وفروع الاحكام،(1/111)
وغير ذلك مما يحتاجون إليه على تعاقب الاحوال والاعوام، صلى الله وسلم عليه وعلى جميع الانبياء والملائكة وآله كل وأتباعهم الكرام، صلوات متضاعفات دائمات بلا انفصام. أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأعظمه وأتمه وأشمله، وأشهد أن لا إله إلا الله اعتقادا لربوبيته، إذعانا لجلاله وعظمته وصمديته، وأشهد أن محمدا، عبده ورسوله المصطفى من خليقته، والمختار المجتبى من بريته، صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلا لديه وكرم. أما بعد: فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الاوقات، وشمر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الانفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى المكرمات، وسارع إلى التحلي به مستبقو الخيرات، وقد تظاهر على ما ذكرته جمل ما آيات القرآن الكريمات (1)، والاحاديث الصحيحة النبوية المشهورات (2)، ولا ضرورة إلى الاطناب بذكرها هنا لكونها من الواضحات الجليات. وأهم أنواع العلم في هذه الازمان الفروع الفقهيات، لافتقار جميع الناس إليها في جميع الحالات، مع أنها تكاليف محضة فكانت من أهم المهمات. وقد أكثر العلماء من أصحابنا الشافعيين وغيرهم من العلماء من التصنيف في الفروع من المبسوطات والمختصرات (3)، وأودعوا فيها من الاحكام والقواعد والادلة وغيرها من النفائس الجليلات، ما هو معلوم مشهور عند أهل العنايات. وكانت مصنفات أصحابنا رحمهم الله في نهاية من الكثرة فصاوت منتشرات، مع ما هي عليه من الاختلاف في الاختبارات، فصار لا يحقق المذهب من أجل ذلك إلا أفراد من(1/112)
الموفقين الغوضين المطلعين أصحاب الهمم العاليات، فوفق الله سبحانه وتعالى، وله الحمد - من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو إلامام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي (1) ذو التحقيقات (2)، فأتى في كتاب (شرح الوجيز) بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الايجاز والاتقان وإيضاح العبارات، فشكر الله الكريم له سعيه وأعظم له المثوبات، وجمع بينن وبينه مع أحبابنا في دار كرامته مع أولى الدرجات وقد عظم انتفاع أهل عصرنا بكتابه لما جمعة من جميل الصفات، ولكنه كبير الحجم لا يقدر على تحصيله أكثر الناس في معظم الاوقات. فألهمني الله سبحانه - وله الحمد - أن أختصره في قليل من المجلدات، فشرعت فيه قاصدا تسهيل الطريق إلى الانتفاع به لاولي الرغبات، أسلك فيه - إن شاء الله - طريقة متوسطة بين المنالغة في الاختصار والايضاح فإنها من المطلوبات، وأحذف الادلة في معظمه وأشير إلى الخفي منها إشارات، وأستوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغربية المنكرات، وأقتصر على الاحكام دون المؤاخذات اللفظيات، وأضم إليه في أكثر المواطن تفريعات، وتتمات، وأذكر مواضع يسيرة على الامام الرافعي فيها استدراكات (3)، منبها على ذلك - قائلا في أوله: قلت: وفي آخره: والله أعلم - في جميع الحالات. وألتزم ترتيب الكتاب - إلا نادرا - لغرض من المقاصد الصالحات، وأرجو - إن تم هذا الكتاب - أن من حصله أحاط بالمذهب(1/113)
وحصل له أكمل الوثوق به أدرك حكم جميع ما يحتاج إليه من المسائل الواقعات. وما أكره غريبا من الزيادات، غير مضاف إلى قائله، قصدت به الاختصار، وقد بينتها في (شرح المهذب) وذكرتها فيه مضافات. وحيث أقول: على الجديد، فالقديم خلافه، أو: القديم، فالجديد خلافه، أو: على قول أو وجه، فالصحيح خلافه. وحيث أقول: على الصحيح أو الاصح، فهو من الوجهين. وحيث أقول: على الاظهر، أو: المشهور، فهو من القولين. وحيث أقول: على المذهب، فهو من الطريقين أو الطرق. وإذا ضعف الخلاف، قلت: على الصحيح، أو المشهور. وإذا قوي، قلت: الاصح، أو الاظهر، وقد أصرح ببيان الخلاف في بعض المذكورات. واستمدادي المعونة والهداية والتوفيق والصيانة في جميع أموري من رب الارضين والسموات. أسأله التوفيق لحسن النيات، الاعانة على جميع أنواع الطاعات. وتيسيرها والهداية لها دائما في ازدياد حتى الممات. وأن يفعل ذلك بوالدي ومشايخي وأقربائي وإخواني وسائر من أحبه ويحبني فيه وجميع المسلمين والمسلمات، وأن يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته وغير ذلك من وجوه المسرات وأن لا ينزع منا ما وهبه لنا ومن به علينا من الموهوبات، من وجوه أجمعين، وكل من يقرأ هذا الكتاب به، وأن يجزان لنا العطيات، وأن يطهر قوبنا والاعراض عما سواه في جميع اللحظات. اعتصمت بالله، توكلت على الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. وحسبي الله ونعم الوكيل، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.(1/114)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب (1) الطهارة (2)
باب الماء الطاهر قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (3). المطهر للحدث والخبث من المائعات، الماء المطلق خاصة، وهو العاري عن الاضافة اللازمة. وقيل: الباقي على وصف خلقته. وأما المستعمل في رفع حدث (4)، فطاهر، وليس بطهور على المذهب. وقيل: طهور في القديم. والمستعمل في نقل الطهارة، كتجديد الوضوء، والاغسال المسنونة (5)،(1/115)
والغسلة الثانية، والثالثة، وماء المضمضة، طهور على الاصح. وأما ما اغتسلت به كتابية عن حيض لتحل لمسلم (1)، فإن قلنا: لا يجب إعادة الغسل إذا أسلمت، فليس بطهور. وإن أوجبناها - وهو الاصح - فوجهان، الاصح أنه ليس بطهور، وما تطهر به لصلاة النفل، فمستعمل، وكذا ما تطهر به الصبي على الصحيح. والمستعمل الذي لا يرفع الحدث، لا يزيل النجس على الصحيح. والمستعمل في النجس إذا قلنا: إنه طاهر، لا يرفع الحدث على الصحيح. ولو جمع المستعمل فبلغ قلتين، عاد طهورا في الاصح، كما لو انغمس جنب في قلتين، فإنه طهور بلا خلاف (2). ولو انغمس جنب فيما دون قلتين حتى عم جميع بدنه، ثم نوى (3)، ارتفعت جنابته بلا خلاف، وصار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره على(1/116)
الصحيح. ومقتضى كلام الاصحاب أنه لا يصير مستعملا بالنسبة إلى المنغمس حتى يخرج منه، وهو مشكل. وينبغي أن يصير مستعملا لارتفاع الحدث. ولو انغمس فيه جنبان، ونويا معا بعد تمام الانغماس، ارتفعت جنابتهما بلا خلاف، ولو نوى الجنب قبل تمام الانغماس، إما في أول الملاقاة، وإما بعد غمس بعض البدن، ارتفعت جنابة الجزء الملاقي بلا خلاف، ولا يصير الماء مستعملا، بل له أن يتم الانغماس ويرتفع عن الباقي (1) على الصحيح المنصوص. وقال الخضري (2): يصير مستعملا، (3) فلا ترتفع عن الباقي. قلت: ولو انغمس جنبان، ونوى أحدهما قبل صاحبه، ارتفعت جنابة الناوي، وصار مستعملا بالنسبة إلى الآخر على الصحيح. وإن (4) نويا معا بعد غمس جزء منهما، ارتفع عن جزءيهما، وصار مستعملا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح. والله أعلم. وما دام الماء مترددا على العضو، لا يثبت له حكم الاستعمال. قلت: وإذا جرى الماء من عضو المتوضئ إلى عضو، صار مستعملا، حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الاخرى، صار مستعملا، وفي هذه الصورة وجه شاذ محكي في باب التيمم. من (البيان) أنه لا يصير، لان اليدين كعضو. ولو انفصل من بعض أعضاء الجنب إلى بعضها، فوجهان، الاصح عند صاحبي (الحاوي) و (البحر): لا يصير. والراجح عند الخراسانيين (5) يصير، وبه قطع جماعة منهم. وقال إمام الحرمين (6): إن نقله قصدا، صار، وإلا،(1/117)
فلا (1). ولو غمس المتوضئ يده في الاناء قبل الفراغ من غسل الوجه، لم يصر مستعملا. وإن غمسها بعد فراغه من الوجه بنية رفع الحدث، صار مستعملا. وإن نوى الاغتراف، لم يصر، وإن لم ينو شيئا، فالصحيح أنه يصير، وقطع البغوي (2) بأنه لا يصير. والجنب بعد النية، كالمحدث (3) بعد غسل الوجه. وأما الماء الذي يتوضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب نية الوضوء، فالاصح أنه يصير (4). والثاني: لا يصير. والثالث: إن نوى، صار، وإلا، فلا، ولو [ نوى ] (5) غسل رأسه بدل مسحه، فالاصح أنه مستعمل، كما لو استعمل في طهارته أكثر من قدر حاجته (6)، والله أعلم.(1/118)
فصل فيما يطرأ على الماء 6 وضابط الفصل: أن ما يسلب اسم الماء المطلق، يمنع الطهارة به، وما لا، فلا. فمن ذلك المتغير تغيرا يسيرا بما يستغنى عنه، كالزعفران، فالاصح أنه طهور، والمتغير كثيرا بما يجاوره ولا يختلط به، كعود، ودهن، وشمع (1)، طهور على الاظهر. والكافور نوعان. أحدهما: يذوب في الماء ويختلط به. والثاني: لا يذوب. فالاول يمنع، والثاني كالعود. وأما المتغير بما لا يمكن صون الماء عنه، كالطين، والطحلب (2)، والكبريت، والنورة (3)، والزرنيخ (4)، في مقر الماء وممره، والتراب الذي يثور وينبث في الماء، والمتغير بطول المكث، والمسخن، فطهور. قلت: ولا كراهة في استعمال شئ من هذه المتغيرات بما لا يصان عنه، ولا في ماء البحر وماء زمزم (5)، ولا في المسخن ولو بالنجاسة. ويكره شديد الحرارة والبرودة. والله أعلم. والمشمس في الحياض والبرك غير مكروه بالاتفاق، وفي الاواني مكروه على الاصح، بشرط أن يكون في البلاد الحارة، والاواني المنطبعة كالنحاس إلا الذهب والفضة على الاصح. وعلى الثاني (6) يكره مطلقا (7).(1/119)
قلت: الراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقا، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد. وإذا قلنا بالكراهة، فهي كراهة تنزيه، لا تمنع صحة الطهارة، وتختص باستعماله في البدن، وتزول بتبريده على أصح الوجوه (1)، وفي الثالث: يراجع الاطباء، والله أعلم. وأما المتغير بما يستغنى عنه، كالزعفران، والجص، تغيرا كثيرا، بحيث يسلب اسم الماء المطلق، فليس بطهور. ولو حلف لا يشرب ماء، لم يحنث بشربه. ويكفي تغير الطعم أو اللون أو الرائحة على المشهور، وعلى القول الغريب الضعيف يشترط اجتماعها، وعلى قول ثالث اللون وحده يسلب، وكذا الطعم مع الرائحة. وفي الجص، والنورة، وغيرهما من أجزاء الارض وجه شاذ أنها لا تضر. وأما المتغير بالتراب المطروح قصدا، فطهور على الصحيح، وقيل: على المشهور. والمتغير بالملح فيه أوجه، أصحها يسلب الجبلي منه دون المائي. والثاني: يسلبان. والثالث: لا يسلبان. والمتغير بورق الاشجار المتناثرة بنفسها إن لم تتفتت في الماء، فهي كالعود، فيكون طهورا على الاظهر، وإن تفتتت واختلطت، فثلاثة أوجه. الاصح: لا يضر. والثاني: يضر. والثالث: يضر الربيعي دون الخريفي. قاله الشيخ أبو زيد (2). وإن طرحت الاوراق قصدا، ضر.(1/120)
وقيل: على الاوجه (1). فرع إذا اختلط بالماء الكثير أو القليل مائع يوافقه في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، وماء الشجر، والماء المستعمل، فوجهان. أصحهما: إن كان المائع قدرا لو خالف الماء في طعم أو لون أو ريح لتغير التغير المؤثر، سلب (2) الطهورية، وإن كان لا يؤثر مع تقدير المخالفة، لم يسلب (3). والثاني: إن كان المائع أقل من الماء، لم يسلب. وإن كان أكثر منه أو مثله، سلب. وحيث لم يسلب، فالصحيح أنه يستعمل الجميع. وقيل: يجب أن يبقى قدر المائع. وقيل: إن كان الماء وحده يكفي لواجب الطهارة، فله استعمال الجميع، وإلا بقي. فإن جوزنا الجميع، ومعه من الماء ما لا يكفيه وحده، ولو كمله بمائع يهلك فيه لكفاه - لزمه ذلك، إذا لم يزيد قيمة المائع (4) على ثمن ماء الطهارة (5). ويجري الخلاف في(1/121)
استعمال الجميع فيما إذا استهلكت النجاسة المائعة في الماء الكثير. وفيما إذا استهلك الخليط الطاهر في الماء، لقلته مع مخالفة أوصافه أوصاف الماء. قال الاصحاب: فإن لم يتغير الماء الكثير، لموافقة النجاسة له في الاوصاف، فالاعتبار بتقدير المخالفة بلا خلاف، لغلظ النجاسة، واعتبروا في النجاسة بالمخالف أشده صفة، وفي الطاهر اعتبروا الوسط المعتدل، فلا يعتبر في الطعم حدة الخل، ولا في الرائحة ذكاء المسك. قلت: المتغير بالمني ليس بطهور على الاصح. ولو تطهر بالماء الذي ينعقد منه الملح قبل أن يجمد، جاز على المذهب (1). ولا فرق في جميع مسائل الفصل بين القلتين، وفوقهما، ودونهما. ولو أغلي الماء، فارتفع من غليانه بخار، وتولد منه رشح، فوجهان. المختار منهما عند صاحب (البحر) أنه طهور (2). والثاني: طاهر ليس بطهور. ولو رشح من مائع آخر، فليس بطهور بلا خلاف، كالعرق. والله أعلم.
باب بيان النجاسات (3) والماء النجس الاعيان (4): جماد، وحيوان. فالجماد: ما ليس بحيوان، ولا كان حيوانا، ولا جزءا من حيوان، ولا خرج من حيوان، وكله (5) طاهر، إلا الخمر، وكل نبيذ مسكر. وفي النبيذ وجه شاذ(1/122)
مذكور في (البيان) أنه طاهر، لاختلاف العلماء في إباحته (1). وفي الخمر المحترمة وجه شاذ، وكذا في باطن العنقود المستحيل خمرا وجه أنه طاهر. وأما الحيوانات، فطاهرة، إلا الكلب، والخنزير، وما تولد من أحدهما. ولنا وجه شاذ، أن الدود المتولد من الميتة نجس العين، كولد الكلب، وهذا الوجه غلط، والصواب: الجزم بطهارته. وأما الميتات، فكلها نجسة، إلا السمك والجراد، فإنهما طاهران بالاجماع، وإلا الآدمي، فإنه طاهر على الاظهر، وإلا الجنين الذي يوجد ميتا بعد ذكاة أمه، والصيد الذي لا تدرك ذكاته، فإنهما طاهران بلا خلاف. وأما الميتة التي لا نفس لها سائلة، كالذباب وغيره. فهل تنجس الماء وغيره من المائعات إذا ماتت فيها ؟ فيه قولان. الاظهر لا تنجسه، وهذا في حيوان الاجنبي (2) من المائع، أما ما منشؤه فيه، فلا ينجسه بلا خلاف. فلو أخرج منه وطرح في غيره، أو رد إليه، عاد القولان. فإن قلنا: تنجس المائع، فهي [ أيضا ] (3) نجسة، وإن قلنا: لا تنجسه (4)، فهي أيضا نجسة على قول الجمهور وهو المذهب. وقال القفال (5): ليست بنجسة. ثم لا فرق في الحكم بنجاسة هذا الحيوان بين ما تولد من الطعام، كدود الخل، والتفاح، وما [ لا ] (6) يتولد منه، كالذباب، والخنفساء، لكن يختلفان في(1/123)
تنجيس ما ماتا فيه، وفي جواز أكله، فإن غير المتولد، لا يحل أكله، وفي المتولد أوجه. الاصح: يحل أكله مع ما تولد منه، ولا يحل منفردا. والثاني: يحل مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا (1). والاوجه جارية، سواء قلنا بطهارة هذا الحيوان على قول القفال (2)، أو بنجاسته على قول الجمهور. قلت: ولو كثرت الميتة التي لا نفس لها سائلة، فغيرت الماء أو المائع، وقلنا: لا تنجسه من غير تغير، فوجهان مشهوران. الاصح تنجسه، لانه متغير بالنجاسة. والثاني: لا تنجسه، ويكون الماء طاهرا غير مطهر، كالمتغير بالزعفران. وقال إمام الحرمين: هو كالمتغير بورق الشجر (3). والله أعلم. فرع في أجزاء الحيوان: الاصل أن ما انفصل من حي فهو نجس، ويستثنى الشعر المجزوز من مأكول اللحم في الحياة، والصوف، والوبر، والريش، فكلها طاهرة بالاجماع (4). والمتناثر والمنتوف طاهر على الصحيح، ويستثنى أيضا شعر الآدمي، والعضو المبان منه، ومن السمك، والجراد، ومشيمة (5) الآدمي، فهذه كلها طاهرة على المذهب وهذا الذي ذكرناه في الشعور(1/124)
تفريع على المذهب في نجاسة الشعر بالموت. فرع في المنفصل عن باطن الحيوان: هو قسمان: أحدهما: ليس له اجتماع، واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحا. والثاني: يستحيل ويجتمع في الباطن ثم يخرج. فالاول، كاللعاب، والدمع، والعرق، والمخاط، فله حكم الحيوان المترشح منه، إن كان نجسا فنجس، وإلا، فطاهر. والثاني: كالدم (1)، والبول، والعذرة (2)، والروث (3)، والقئ (4). وهذه كلها نجسة من جميع الحيوان (5)، أي (6) مأكول اللحم وغيره. ولنا وجه: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران. وهو أحد قولي أبي سعيد الاصطخري (7) من أصحابنا، واختاره الروياني (8) وهو مذهب مالك (9) وأحمد (10).(1/125)
والمعروف من المذهب النجاسة. وهل يحكم بنجاسة هذه الفضلات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وجهان. قال الجمهور: نعم (1). وفي بول السمك، والجراد، ودمهما وروثهما، وروث ما ليس له نفس سائلة، والدم المتحلب من الكبد، والطحال، وجهان. الاصح: النجاسة (2). وأما اللبن، فطاهر من مأكول اللحم (3) بالاجماع، ونجس من الحيوان النجس، وطاهر من الآدمي على الصحيح، وقيل: نجس (4). ولكن يربى (5) به(1/126)
الصبي للضرورة. وأما غير الآدمي مما لا يؤكل، فلبنه نجس على الصحيح. وقال الاصطخري: طاهر. وأما الانفحة، فإن أخذت من السخلة بعد موتها، أو بعد أكلها غير اللبن، فنجسة بلا خلاف (1) وإن أخذت من السخلة المذبوحة قبل أن يأكل غير اللبن، فوجهان، الصحيح الذي قطع به كثيرون طهارتها. وأما المني، فمن الآدمي طاهر، وقيل: فيه قولان. وقيل: القولان في مني المرأة خاصة (2)، والمذهب الاول. لكن إن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة، نجس منيها بملاقاتها، كما لو بال (3) الرجل ولم يغسل ذكره بالماء، فإن منيه ينجس بملاقاة (4) المحل النجس. وأما مني غير الآدمي، فمن الكلب والخنزير وفرع أحدهما نجس،(1/127)
ومن غيرهما فيه أوجه، أصحها نجس. والثاني: طاهر. والثالث: طاهر من مأكول اللحم، نجس من غيره، كاللبن. قلت: الاصح عند المحققين والاكثرين، الوجه الثاني، والله أعلم. وأما البيض، فطاهر من المأكول، وفي غيره الوجهان في منيه، ويجريان في بزر القز، فإنه أصل الدود، كالبيض. وأما دود القز، فطاهر بلا خلاف، كسائر الحيوان، وأما المسك فطاهر، وفي فأرته المنفصلة في حياة الظبية وجهان. الاصح: الطهارة، كالجنين. فإن انفصلت بعد موتها، فنجسة على الصحيح، كاللبن. وطاهرة في وجه، كالبيض المتصلب، وأما الزرع النابت على السرجين. فقال الاصحاب: ليس هو نجس العين، لكن ينجس بملاقاة النجاسة. فإذا غسل، طهر، وإذا سنبل، فحباته الخارجة طاهرة. قلت: القيح نجس، وكذا ماء القروح إن كان متغيرا، وإلا فلا على المذهب. ودخان النجاسة نجس في الاصح، وهو مذكور في باب: ما يكره لبسه. وليست رطوبة فرج المرأة، والعلقة، بنجس في الاصح (1)، ولا المضغة على الصحيح، والمرة نجسة، وكذا جرة البعير. وأما الماء الذي يسيل من فم النائم، فقال المتولي (2): إن كان متغيرا، فنجس. وإلا فطاهر. وقال غيره: إن كان من اللهوات، فطاهر، أو من المعدة، فنجس. ويعرف كونه من اللهوات بأن ينقطع إذا طال نومه. وإذا شك، فالاصل عدم النجاسة، والاحتياط غسله. وإذا حكم بنجاسته، وعمت بلوى شخص به، لكثرته منه، فالظاهر أنه يلتحق بدم البراغيث، وسلس البول، ونظائره.(1/128)
قال القاضي حسين (1) والمتولي والبغوي وآخرون: لو أكلت بهيمة حبا ثم ألقته صحيحا، فإن كانت صلابته باقية، بحيث لو زرع نبت، فعينه طاهرة، ويجب غسل ظاهره، لانه وإن صار غذاء لها فما تغير إلى فساد، فصار كما لو ابتلع نواة. وإن زالت صلابته، بحيث لا ينبت، فنجس العين. قال المتولي: والوسخ المنفصل من الآدمي في حمام وغيره، له حكم ميتته، وكذا الوسخ المنفصل عن سائر الحيوان له حكم ميتته. وفيما قاله نظر. وينبغي أن يكون طاهرا قطعا، كالعرق. والله أعلم. فصل في الماء الراكد: إعلم أن الراكد: قليل، وكثير، فالكثير: قلتان، والقليل: دونه. والقلتان: خمس قرب. وفي قدرها بالارطال أوجه. الصحيح المنصوص: خمسمائة رطل بالبغدادي (2). والثاني: ستمائة. قاله أبو عبد الله الزبيري (3). واختاره القفال، والغزالي (4). والثالث: ألف رطل. قاله أبو زيد. والاصح أن هذا التقدير تقريب، فلا يضر نقصان القدر الذي لا يظهر بنقصانه(1/129)
تفاوت في التغير بالقدر المعين من الاشياء المغيرة (1). والثاني: أنه تحديد: فيضر أي شئ نقص. قلت: الاشهر (2) - تفريعا على التقريب - أنه يعفى عن نقص رطلين، وقيل: ثلاثة ونحوها، وقيل: مائة رطل (3). وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة وشك: هل هو قلتان، أم لا ؟ فالذي جزم به صاحب (الحاوي) وآخرون: أنه نجس (4)، لتحقق النجاسة. ولامام الحرمين فيه احتمالان، والمختار، بل الصواب: الجزم بطهارته، لان الاصل طهارته، وشككنا في نجاسة (5) منجسة، ولا يلزم من النجاسة التنجيس (6). وقدر القلتين بالمساحة: ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا (7). والله أعلم. ثم الماء القليل ينجس بملاقاة النجاسة المؤثرة، تغير أم لا. وأما غير المؤثرة، كالميتة التي لا نفس لها سائلة، ونجاسة لا يدركها طرف، وولوغ هرة تنجس فمها ثم غابت واحتمل طهارته، فلا ينجس على المذهب، كما سبق في الصورة الاولى، وسيأتي الاخريان إن شاء الله تعالى. واختار الروياني من أصحابنا: أنه لا ينجس إلا بالتغير، والصحيح المعروف، الاول. وأما الكثير، فينجس بالتغير بالنجاسة للاجماع (8)، سواء قل التغير أم كثر،(1/130)
وسواء تغير الطعم أو اللون أو الرائحة، وكل هذا متفق عليه ها هنا، بخلاف ما تقدم في الطاهر. وسواء كانت النجاسة الملاقية مخالطة أم مجاورة، وفي المجاورة وجه شاذ: أنها لا تنجسه. وأما إذا تروح الماء بجيفة ملقاة على شط النهر، فلا ينجس، لعدم الملاقاة، وإن لاقى الكثير النجاسة ولم يتغير لقلة النجاسة واستهلاكها، لم ينجس، ويستعمل جميعه على الصحيح. وعلى وجه يبقى قدر النجاسة. وإن لم يتغير لموافقتها الماء في الاوصاف، قدر بما يخالف، كما سبق في (باب الطاهر). وأما إذا تغير بعضه، فالاصح نجاسة جميع الماء، وهو المذكور في (المهذب) وغيره. وفي وجه لا ينجس إلا المتغير. قلت: الاصح ما قاله القفال، وصاحب التتمة وآخرون: أن المتغير، كنجاسة جامدة. فإن كان الباقي دون قلتين، فنجس وإلا، فطاهر. والله أعلم. ثم إن زال تغير المتغير بالنجاسة (1) بنفسه، طهر على الصحيح. وقال الاصطخري: لا يطهر. وهو شاذ. وإن لم يوجد رائحة النجاسة، لطرح المسك فيه، أو طعمها، لطرح الخل، أو لونها، لطرح الزعفران، لم يطهر بالاتفاق (2). وإن ذهب التغير بطرح التراب، فقولان: أظهرهما لا يطهر، للشك في زوال التغير. وإن ذهب بالجص والنورة وغيرهما مما لا يغلب وصف التغير، فهو كالتراب على الصحيح، وقيل: كالمسك. ثم قال بعضهم: الخلاف في مسألة التراب إذا كان التغير بالرائحة. وأما تغير اللون، فلا يؤثر فيه التراب قطعا. والاصول المعتمدة ساكتة عن هذا التفصيل. قلت: بل قد صرح المحاملي (3)، والفوراني (4)، وآخرون: بجريان(1/131)
الخلاف في التغير بالصفات الثلاث، وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب) (1). والله أعلم. فرع النجاسة التي لا يدركها الطرف (2)، كنقطة خمر، وبول يسيرة، لا تبصر لقلتها وكذبابة تقع على نجاسة، ثم تطير عنها، هل ينجس الماء والثوب كالنجاسة المدركة، أم يعفى عنها ؟ فيه سبع طرق: أحدها: يعفى عنها فيهما. والثاني: لا. والثالث: فيهما قولان. والرابع: تنجس الماء، وفي الثوب قولان، والخامس: ينجس الثوب، وفي الماء قولان، والسادس: ينجس الماء دون الثوب. والسابع: عكسه. واختار الغزالي العفو فيهما، وظاهر المذهب - عند المعظم - خلافه. قلت: المختار عن جماعة من المحققين ما اختاره الغزالي، وهو الاصح، والله أعلم. فرع الماء القليل النجس إذا كوثر فبلغ قلتين، نظر، إن كوثر بغير الماء، لم يطهر، بل لو كمل الطاهر الناقص عن قلتين بماء ورد بلغهما به وصار مستهلكا، ثم وقع فيه نجاسة، نجس، وإن لم يتغير. وإنما لا تقبل النجاسة قلتان من الماء المحض. وإن كوثر بالماء المستعمل، عاد مطهرا على الاصح. وعلى الثاني: هو كماء الورد. وإن كوثر بماء غير مستعمل، طاهر أو نجس، عاد مطهرا بلا خلاف، وهل يشترط أن لا يكون فيه نجاسة جامدة ؟ فيه خلاف التباعد، هذا كله إذا بلغ قلتين ولا تغير فيه. أما إذا كوثر فلم يبلغهما، فالاصح أنه باق على نجاسته.(1/132)
والثاني: أنه طاهر غير طهور، بشرط أن يكون المكاثر به مطهرا، وأن يكون أكثر من المورود عليه، وأن يورده على النجس، وأن لا يكون فيه نجاسة جامدة فإن اختل أحد هذه (1) الشروط، فنجس بلا خلاف. ولا يشترط شئ من هذه الشروط الاربعة فيما إذا كوثر فبلغ قلتين. قلت: هذا الذي صححه هو الاصح، وعند الخراسانيين: وهو الاصح. والاصح عند العراقيين: الثاني. والله أعلم. والمعتبر في المكاثرة الضم والجمع، دون الخلط، حتى لو كان أحد البعضين صافيا، والآخر كدرا، وانضما، زالت النجاسة من غير توقف على الاختلاط المانع من التمييز. ومتى حكمنا بالطهارة في هذه الصور ففرق، لم يضر، وهو باق على طهوريته. فرع: إذا وقع في الماء الكثير الراكد نجاسة جامدة، فقولان: أظهرهما وهو القديم، أنه يجوز الاغتراف من أي موضع شاء، ولا يجب التباعد لانه طاهر كله. والثاني: الجديد: يجب أن يبعد عن النجاسة بقدر قلتين، فعلى هذا لا يكفي في البحر التباعد بشبر نظرا إلى العمق، بل يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق وسائر الجوانب لبلغ قلتين. فلو كان الماء منبسطا بلا عمق، تباعد طولا وعرضا قدرا يبلغ قلتين في ذلك العمق. وقال محمد بن يحيى (2): في هذه الصورة يجب أن يبعد إلى موضع يعلم أن النجاسة لم تنتشر إليه. أما إذا كان الماء قلتين فقط، فعلى الجديد: لا يجوز الاغتراف منه. وعلى القديم: يجوز على الاصح. ثم في المسألة الاولى يحتمل أن يكون الخلاف في جواز استعمال الماء عن (3) غير تباعد، مع القطع بطهارة الجميع، ويحتمل أن يكون في الاستعمال مبنيا على خلاف في نجاسته، وقد نقل(1/133)
عن الشيخ أبي محمد (1)، نقل الاتفاق على الاحتمال الاول (2). قلت: هذا التوقف من الامام الرافعي عجب، فقد جزم وصرح بالاحتمال الاول جماعات من كبار أصحابنا، منهم الشيخ أبو حامد الاسفراييني (3)، والقاضي أبو الطيب (4)، وصاحب (الحاوي) والمحاملي، وصاحبا (الشامل) و (البيان) وآخرون من العراقيين والخراسانيين. وقطع جماعة من الخراسانيين على قول التباعد بأن يكون المجتنب نجسا، كذا قاله القاضي حسين، وإمام الحرمين، والبغوي، وغيرهم. حتى قال هؤلاء الثلاثة: لو كان قلتين فقط، كان نجسا على هذا القول. والصواب: الاول. والله أعلم. إذا غمس كوز ممتلئ ماء نجسا في ماء كثير طاهر، فإن كان واسع الرأس، فالاصح أنه يعود طهورا، وإن كان ضيقه، فالاصح أنه لا يطهر. وإذا حكمنا بأنه(1/134)
طهور في الصورتين، فهل يصلح ذلك على الفور، أم لا بد من زمان يزول فيه التغير لو كان متغيرا ؟ فيه وجهان. الاصح: الثاني. ويكون الزمان في الضيق أكثر منه في الواسع. فإن كان ماء الكوز متغيرا، فلا بد من زوال تغيره، ولو كان الكوز غير ممتلئ، فما دام يدخل فيه الماء، فلا اتصال، وهو على نجاسته. قلت: إلا أن يدخل فيه أكثر من الذي فيه، فيكون حكمه ما سبق في المكاثرة. قال القاضي حسين، وصاحب (التتمة): ولو كان ماء الكوز طاهرا، فغمسه في ماء (1) نجس ينقص عن القلتين بقدر ماء الكوز، فهل يحكم بطهارة النجس ؟ فيه الوجهان (2). والله أعلم. فرع: ماء البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها، فإن كان قليلا وتنجس بوقوع نجاسة، فلا ينبغي أن ينزح لينبع الماء الطهور بعده، لانه وإن نزح، فقعر البئر يبقى نجسا، وقد تنجس جدران البئر أيضا، بالنزح، بل ينبغي أن يترك ليزداد (3) فيبلغ حد الكثرة. وإن كان نبعها قليلا لا تتوقع كثرته، صب فيها ماء ليبلغ الكثرة، ويزول التغير إن كان تغير. وطريق زواله على ما تقدم من الاتفاق والخلاف. وإن كان الماء كثيرا طاهرا، وتفتت فيه شئ نجس، كفأرة تمعط شعرها، فقد يبقى على طهوريته لكثرته، وعدم التغير، لكن يتعذر استعماله، لانه لا ينزح دلوا إلا وفيه شئ من النجاسة، فينبغي أن يستقى الماء كله، ليخرج الشعر منه. فإن كانت العين فوارة، وتعذر نزح الجميع، نزح ما يغلب على الظن أن الشعر [ خرج كله ] (4) معه، فما بقي بعد ذلك في البئر وما يحدث، طهور، لانه غير مستيقن النجاسة، ولا مظنونها، ولا يضر احتمال بقاء الشعر. فان تحقق شعرا بعد ذلك، حكم به. فأما قبل النزح إلى الحد المذكور، إذا غلب على ظنه أنه لا يخلو كل دلو عن شئ من النجاسة، لكن لم يتيقنه، ففي جواز(1/135)
استعماله القولان في تقابل الاصل والظاهر. وهذا الذي ذكرناه في الشعر تفريع على نجاسته بالموت. فان لم تنجسه، فرضت المسألة في غيره من الاجزاء. فصل في الماء الجاري: هو ضربان: ماء الانهار المعتدلة، وماء الانهار العظيمة، أما الاول: فالنجاسة الواقعة فيه مائعة وجامدة، والمائعة: مغيرة وغيرها. فالمغيرة: تنجس المتغير. وحكم غيره معه كحكمه مع النجاسة الجامدة. وغير المغيرة: إن كان عدم التغير للموافقة في الاوصاف، فحكمه ما سبق في الراكد. إن كان لقلة النجاسة وأمحاقها فيه، فظاهر المذهب، وقول الجمهور: أنه كالراكد. وإن كان قليلا ينجس. وإن كان كثيرا فلا. وقال الغزالي: هو طاهر (1) مطلقا، وفي القديم: لا ينجس الجاري إلا بالتغير. [ قلت: واختار جماعة الطهارة، منهم إمام الحرمين وصاحب (التهذيب) ] (2). والله أعلم. وأما النجاسة الجامدة، كالميتة، فإن غيرت الماء، نجسته، وإن لم تغيره، فتارة تقف، وتارة تجري مع الماء، فان جرت جرية (3)، فما قبلها وما بعدها طاهران. وما على يمينها وشمالها وفوقها وتحتها، إن وإن كان قليلا، فنجس، وإن كان قلتين، فقيل: طاهر، وقيل: على قولي التباعد. وإن وقفت النجاسة، وجرى الماء عليها، فحكمه حكم الجارية، ويزيد ها هنا أن الجاري على النجاسة وهو قليل، ينجس بملاقاتها، ولا يجوز استعماله إلا أن يجتمع في موضع قلتان منه، وفيه وجه أنه إذا تباعد واغترف من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، جاز استعماله، والصحيح الاول. وعليه يقال: ماء هو ألف قلة، نجس بلا تغير، فهذه صورته. أما النهر العظيم، فلا يجتنب فيه شئ، ولا حريم النجاسة، ولا يجئ فيه(1/136)
الخلاف في التباعد عما حوالي النجاسة. وفيه وجه شاذ أنه يجزئ، ووجه أنه يجب اجتناب الحريم خاصة، وبه قطع الغزالي، وطرده في حريم الراكد أيضا. والمذهب: القطع بأنه لا يجب اجتناب الحريم في الجاري، ولا في الراكد. ثم العظيم: ما أمكن التباعد فيه عن جوانب النجاسة كلها بقلتين. والمعتدل: ما لا يمكن ذلك فيه. ومن المعتدل: النهر الذي بين حافتيه قلتان فقط. وقال إمام الحرمين: المعتدل: ما يمكن تغيره بالنجاسات المعتادة. والعظيم: ما لا يمكن تغيره بها. وأما الحريم: فما ينسب إلى النجاسة بتحريكه إياها، وانعطافه عليها، والتفافه بها. قلت: غير الماء من المائعات ينجس بملاقاة النجاسة وإن كثر. وإنما لا ينجس الماء لقوته (1). ولو توضأ من بئر، ثم أخرج منها دجاجة منتفخة، لم يلزمه أن يعيد من صلاته إلا ما تيقن أنه صلاها بالماء النجس. ذكره صاحب (العدة) (2). والله أعلم.
باب إزالة النجاسة
النجس ضربان: نجس العين، وغيره، فنجس العين: لا يطهر بحال، إلا الخمر، فتطهر بالتخلل، وجلد الميتة بالدباغ. والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيضة، إذا نجسنا الثلاثة فاستحالت حيوانات (3). وأما غير نجس العين، فضربان: نجاسة عينية، وحكمية، فالحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس، كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على محلها مرة، ويسن ثانية،(1/137)
وثالثة. وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم، ولون، وريح، فان فعل ذلك فبقي (1) طعم، لم يطهر، وإن بقي اللون وحده وهو سهل الازالة، لم يطهر. وإن كان عسرها، كدم الحيض يصيب الثوب، وربما لا يزول بعد المبالغة، والاستعانة بالحت والقرص، طهر. وفيه وجه شاذ أنه لا يطهر، والحت والقرص ليسا بشرط، بل مستحبان عند الجمهور، وقيل: هما شرط، وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الازالة، كرائحة الخمر، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما يطهر. وإن بقي اللون والرائحة معا، لم يطهر على الصحيح، ثم الصحيح الذي قاله الجمهور، إن ما (2) حكمنا بطهارته مع بقاء لون أو رائحة، فهو طاهر حقيقة، ويحتمل أنه نجس معفو عنه. وقد أشار إليه في (التتمة) ثم بعد زوال العين يسن غسله، ثانية، وثالثة، ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الاصح، بناء على طهارة الغسالة. وإن قلنا بالضعيف: إن العصر شرط، قام مقامه الجفاف على الاصح، لانه أبلغ في زوال الماء. فرع: ما ذكرناه من طهارة المحل بالعصر أو دونه: هو فيما إذا ورد الماء على المحل، أما إذا ورد الماء المحل النجس، كالثوب يغمس في إجانة فيها ماء ويغسل فيها، ففيه وجهان: الصحيح الذي قاله الاكثرون: لا يطهر، وقال ابن سريج (3): يطهر، ولو ألقته الريح فيه والماء دون قلتين، نجس الماء أيضا بلا خلاف. فرع: إذا أصاب الارض بول فصب عليها ماء غمره واستهلك فيه، طهرت بعد نضوب الماء، وقبله وجهان. إن قلنا: العصر لا يجب، طهرت. وإن قلنا:(1/138)
واجب، لم يطهر. فعلى هذا لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل يكفي أن يغيض الماء كالثوب المعصور. ويكفي أن يكون الماء المصبوب غامرا للنجاسة على الصحيح، وقيل: يشترط أن يكون سبعة أضعاف البول، وقيل: يشترط أن يصب على بول الواحد ذنوب، وعلى بول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدا، ثم الخمر، وسائر النجاسات المائعة كالبول، يطهر الارض عنها بغمر الماء بلا تقدير على المذهب. فرع: اللبن النجس: ضربان. مختلط بنجاسة جامدة، كالروث وعظام الميتة، وغير مختلط. فالاول: نجس لا طريق إلى تطهيره، لعين النجاسة. فان طبخ، فالمذهب - وهو الجديد - أنه على نجاسته. وفي القديم قول: أن الارض النجسة تطهر بزوال أكثر (1) النجاسة، بالشمس، والريح، ومرور الزمن. فخرج أبو زيد، والخضري، وآخرون منه قولا: ان النار تؤثر، فيطهر ظاهره بالطبخ. فعلى الجديد: لو غسل، لم يطهر على الصحيح المنصوص. وقال ابن المرزبان (2) والقفال: يطهر ظاهره. وأما غير المختلط كالمعجون بماء نجس، أو بول، فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه، ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه، كالعجين بمائع نجس. هذا إن لم يطبخ، فإن طبخ، طهر - على تخريج أبي زيد - ظاهره، وكذا باطنه، على الاظهر، وأما على الجديد، فهو على نجاسته، ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه، وإنما يطهر باطنه بأن يدق حتى يصير ترابا، ثم يفاض الماء عليه، فلو كان بعد الطبخ رخوا لا يمنع نفوذ الماء، فهو كما قبل الطبخ. قلت: إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا، كسيف، وسكين، ومرآة، لم يطهر(1/139)
بالمسح عندنا، بل لابد من غسلها. ولو سقيت سكين ماء نجسا، ثم غسلها، طهر ظاهرها. وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل، أم لا يطهر حتى يسقيها مرة ثانية بماء طهور ؟ وجهان. ولو طبخ لحم بماء نجس، صار ظاهره وباطنه نجسا، وفي كيفية طهارته وجهان. أحدهما: يغسل ثم يعصر (1)، كالبساط. والثاني: يشترط أن يغلى بماء طهور. وقطع القاضي حسين (2)، والمتولي، في مسألتي السكين واللحم: بأنه يجب سقيها مرة ثانية وإغلاؤه. واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل، وهو المنصوص. قال الشافعي (3) رحمه الله (4) في (الام) في (باب صلاة الخوف): لو أحمى حديدة ثم صب عليها سما نجسا، أو غمسها فيه فشربته، ثم غسلت بالماء، طهرت، لان الطهارات كلها إنما جعلت ما يظهر، ليس على الاجواف. هذا نصه بحروفه. قال المتولي: وإذا شرطنا سقي السكين، جاز أن يقطع بها الاشياء الرطبة قبل السقي، كما يقطع اليابسة (5). ولو أصابت الزئبق نجاسة، فإن لم يتقطع، طهر(1/140)
بصب الماء عليه، وإن تقطع، كالدهن، لا يمكن تطهيره على الاصح، ذكره المحاملي، والبغوي. وإزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه، ليست على الفور، وإنما يجب عند إرادة الصلاة ونحوها. ويستحب المبادرة بها. قال المتولي، وغيره: للماء قوة عند الورود على النجاسة، فلا ينجس بملاقاتها، بل يبقى مطهرا، فلو صبه على موضع النجاسة من ثوب فانتشرت الرطوبة في الثوب، لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة، ولو صب الماء في إناء نجس، ولم يتغير بالنجاسة، فهو طهور. فإذا أداره على جوانبه، طهرت الجوانب كلها. قال: ولو غسل ثوب عن نجاسة، فوقعت عليه نجاسة عقب عصره. هل يجب غسل جميع الثوب، أم يكفي غسل موضع النجاسة ؟ وجهان: الصحيح: الثاني (1). والله أعلم. فرع: الواجب في إزالة النجاسة الغسل، إلا في بول صبي لم يطعم، ولم يشرب سوى اللبن، فيكفي فيه الرش (2)، ولا بد فيه من إصابة الماء جميع موضع البول. ثم لايراده ثلاث درجات، الاولى: النضج المجرد. الثانية: النضح مع الغلبة والمكاثرة. الثالثة: أن ينضم إلى ذلك السيلان، فلا حاجة في الرش إلى الثالثة قطعا، ويكفي الاولى على وجه، ويحتاج إلى الثانية على الاصح. ولا يلحق ببول الصبي، بول الصبية ؟ بل يتعين غسله على الصحيح. قلت: وفي (التتمة) وجه شاذ: أن الصبي، كالصبية، فيجب الغسل. قال البغوي: وبول الخنثى كالانثى من أي فرجيه خرج. والله أعلم. فصل: طهارة ما ولغ فيه الكلب أو تنجس بدمه، أو بوله، أو عرقه، أو شعره، أو غيرها من أجزائه وفضلاته، أن يغسل سبع مرات، إحداهن بتراب، وفيما سوى الولوغ وجه شاذ أنه يكفي غسله مرة، كسائر النجاسات. والخنزير،(1/141)
كالكلب على الجديد، وفي القديم: يكفي مرة كغيره، وقيل: القديم كالنجاسات (1)، ولا يقوم الصابون والاشنان ونحوهما مقام التراب على الاظهر (2)، كالتيمم. ويقوم في الثاني: كالدباغ والاستنجاء. والثالث: إن وجد ترابا، لم يقم. وإلا، قام. وقيل: يقوم فيما يفسده التراب، كالثياب، دون الاواني. أما إذا اقتصر على الماء وغسله ثماني مرات، ففيه أوجه. الاصح: لا يطهر. والثاني: يطهر. والثالث: يطهر عند عدم التراب دون وجوده. ولا يكفي غمس الاناء والثوب في الماء الكثير (3) على الاصح. ولا يكفي التراب النجس على الاصح، كالتيمم (4). ولو تنجست أرض ترابية بنجاسة الكلب، كفى الماء وحده على الاصح، إذ لا معنى لتعفير التراب، ولا يكفي في استعمال التراب ذره على المحل، بل لا بد من مائع يمزجه (5) به، ليصل التراب بواسطته إلى جميع أجزاء المحل. فإن كان المائع ماء، حصل الغرض، وإن كان غيره، كالخل وماء الورد، وغسله ستا بالماء (6)، لم يكف على الصحيح، كما لو غسل السبع بالخل والتراب.(1/142)
قلت: لو ولغ في الاناء كلاب، أو كلب مرات، فثلاثة أوجه. الصحيح يكفيه للجميع سبع. والثاني: يجب لكل ولغة سبع. والثالث: يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع. ولو وقعت نجاسة أخرى في الاناء الذي ولغ فيه الكلب (1)، كفى سبع، ولو كانت نجاسة الكلب عينية، كدمه، فلم تزل إلا بست غسلات مثلا، فهل يحسب ذلك ستا أم واحدة، أم لا يحسب شيئا ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: واحدة (2). ويستحب أن يكون التراب في غير السابعة. والاولى أولى. ولو ولغ في ماء لم ينقص بولوغه عن قلتين، فهو باق على طهوريته، ولا يجب غسل الاناء. ولو ولغ في شئ نجسه، فأصاب ذلك الشئ آخر، وجب غسله سبعا. ولو ولغ في طعام جامد، ألقى ما أصابه وما حوله، وبقي الباقي على طهارته، وإذا لم يرد استعمال الاناء الذي ولغ فيه، لا يجب إراقته على الصحيح التي قطع به الجمهور. وفي (الحاوي) وجه أنه يجب إراقته على الفور، للحديث الصحيح (3) بالامر بإراقته. ولو ولغ في ماء كثير متغير بالنجاسة، ثم أصاب ذلك الماء ثوبا، قال الروياني: قال القاضي حسين: يجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، لان الماء المتغير بالنجاسة، كخل تنجس. ولو ولغ حيوان تولد من كلب، أو خنزير وغيره، أو من كلب وخنزير، فقد نقل فيه صاحب (العدة) الخلاف في الخنزير لانه ليس كلبا. والله أعلم. فرع: سؤر الهرة طاهر، لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها، ثم(1/143)
ولغت في ماء قليل فثلاثة أوجه. الاصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت، لم تنجسه، وإلا نجسته. والثاني: تنجسه مطلقا. والثالث: عكسه. قلت: وغير الماء من المائعات، كالماء. والله أعلم. فصل في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة، فنجسة. وإلا فإن كان قلتين، فطاهرة بلا خلاف. قلت: ومطهرة على المذهب (1). والله أعلم. وإن كان (2) دونهما، فثلاثة أقوال. وقيل: أوجه. أظهرها: وهو الجديد، أن حكمها حكم المحل بعد الغسل، إن كان نجسا بعد، فنجسة. وإلا، فطاهرة غير مطهرة. والثاني: - وهو القديم - حكمها حكمها قبل الغسل، فيكون مطهرة. والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل، فيكون نجسة. ويخرج على هذا الخلاف غسالة ولوغ الكلب، فإذا وقع من الغسلة الاولى شئ على ثوب، أو غيره، لم يحتج إلى غسله على القديم. ويغسل لحصول المرة وطهورية الباقي ستا على الجديد، وسبعا على المخرج. ولو وقع من السابعة، لم يغسل على الاول والثاني. ويغسل على الثالث مرة. ومتى وجب الغسل عنها، فإن سبق التعفير، لم يجب لطهوريته، وإلا وجب. وفي وجه، لكل غسلة سبع، حكم المحل، فيغسل منها مرة، وهذا يتضمن التسوية بين غسلة التعفير وغيرها.(1/144)
فرع: إذا لم تتغير الغسالة، ولكن زاد وزنها، فطريقان. أصحهما القطع بالنجاسة. والثاني على الاقوال (1)، واعلم أن الخلاف المذكور هو في المستعمل، في واجب الطهارة. أما المستعمل في مندوبها، كالغسلة الثانية، فطهور على المذهب. وقيل: على القولين الاولين دون الثالث.
باب الاجتهاد (2) في الماء المشتبه
إذا اشتبه إناءان: طاهر، ونجس، فثلاثة أوجه. الصحيح: أنه لا يجوز استعمال أحدهما إلا بالاجتهاد، وظهور علامة تغلب على الظن طهارته، ونجاسة المتروك. والثاني: يكفي ظن الطهارة بلا علامة. والثالث: يستعمل أحدهما بلا اجتهاد ولا ظن، وسواء علم نجاسة أحدهما بمشاهدتها، أو ظنها بإخبار من تقبل روايته من حر، أو عبد، أو امرأة. وفي الصبي المميز وجهان. قلت: الاصح عند الجمهور لا يقبل قول المميز، ويقبل قول (3) الاعمى بلا خلاف (4). والله أعلم. ويشترط أن يعلم من حال المخبر، أنه لا يخبر (5) عن حقيقة (6)، وسواء أخبره(1/145)
بنجاسة أحدهما على الابهام، أم بعينه، ثم اشتبه، فيجتهد في الجميع. ولو انصب أحدهما، أو صبه، فثلاثة أوجه. أصحها: يجتهد في الباقي. والثاني: لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم. والثالث: يستعمله بلا اجتهاد عملا بالاصل. قلت: الاصح عند المحققين والاكثرين - أو الكثيرين -: أنه لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم ويصلي ولا يعيد وإن لم يرقه. والله أعلم. وللاجتهاد شروط. الاول: أن يكون للعلامة مجال، كالاواني، والثياب. أما إذا اختلط بعض محارمه بأجنبية، أو أجنبيات محصورات، فلا يجوز نكاح واحدة منهن بالاجتهاد. الثاني: أن يتأيد الاجتهاد باستصحاب الطهارة. فلو اشتبه ماء ببول، أو بماء ورد، أو ميتة بمذكاة، أو لبن بقر بلبن أتان. لم يجتهد على الصحيح، بل يتيمم في مسألة البول. وفي مسألة ماء الورد، يتوضأ بكل واحدة مرة. وقيل: يجتهد. ولا بد من ظهور علامة بلا خلاف، ولا يجئ فيه الوجه الثاني في أول الباب. الثالث: مختلف فيه، وهو العجز عن اليقين، فلو تمكن منه، جاز الاجتهاد على الاصح، فيجوز في المشتبهين، وإن كان معه ثالث طاهر بيقين، أو كان على شط نهر أو اشتبه ثوبان ومعه ثالث طاهر بيقين، أو قلتان: طاهرة، ونجسة، وأمكن خلطهما بلا تغير، أو اشتبه ماء مطلق بمستعمل، أو بماء ورد، قلنا: يجوز الاجتهاد فيه على الاصح في الجميع. الرابع: أن تظهر علامة، وقد تقدم أن الصحيح، اشتراط العلامة، فلو لم تظهر، تيمم بعد إراقة الماءين، أو صب أحدهما في الآخر، فلا إعادة عليه. فإن تيمم قبل ذلك، وجبت إعادة الصلاة. وأما الاعمى، فيجتهد على الاظهر. فإن لم يغلب على ظنه شئ، قلد على الاصح. قلت: فان قلنا: لا يقلد، أو لم يجد من يقلده، فوجهان. الصحيح أنه يتيمم، ويصلي، وتجب الاعادة. والثاني: يخمن ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه، وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه، واختاره القاضي أبو الطيب قال: ويعيد. والله أعلم.(1/146)
فرع إذا غلب على ظنه طهارة إناء، استحب أن يريق الآخر، فلو لم يفعل وصلى بالاول الصبح، فحضرت الظهر، فإن لم يبق من الاول شئ، لم يجب الاجتهاد للظهر. فلو اجتهد فظن طهارة الباقي، فالصحيح المنصوص أنه يتيمم ولا يستعمله، وخرج ابن سريج أنه يستعمله، ولا يتيمم فيغسل جميع ما أصابه الماء الاول، ثم يتوضأ، وعلى هذا لا يعيد واحدة من الصلاتين. وعلى المنصوص: لا يعيد الاولى، ولا الثانية أيضا على الاصح. أما إذا بقي من الاول شئ، فان كان يكفي طهارته، فهو كما إذا لم يبق شئ، إلا أنه يجب الاجتهاد للصلاة الثانية. وإذا صلاها بالتيمم، وجب قضاؤها على الصحيح المنصوص. وإن كان الباقي لا يكفي، فإن قلنا: يجب استعماله، كان كالكافي، وإلا كان كما إذا لم يبق من الاول شئ. ولو صب الماء الباقي مع بقية الاول، أو الباقي إذا كان وحده، ثم صلى بالتيمم، فلا إعادة عليه بلا خلاف. فرع الشئ الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته، والغالب في مثله النجاسة، فيه قولان، لتعارض الاصل (1). والظاهر: أظهرهما: الطهارة، عملا بالاصل، فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وأوانيهم، وثياب القصابين، والصبيان(1/147)
الذين لا يتوقون النجاسة، وطين الشوارع حيث لا يستيقن، ومقبرة شك في نبشها، وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس، وثياب المنهمكين في الخمر، والتلوث بالخنزير من اليهود والنصارى. ولا يلحق بهؤلاء الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود، والنصارى. فإن ألحقنا غلبة الظن باليقين، واشتبه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النجاسة، اجتهد فيهما. وإن رجحنا الاصل، فهما طاهران، وربما أطلق الاصحاب القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة، لكن له شرط، وهو أن تكون غلبة الظن مستندة إلى كون الغالب في مثله النجاسة. فان لم يكن كذلك، لم يلزم طرد القولين، حتى لو رأى ظبيه تبول في ماء كثير وهو بعيد منه، فجاءه، فوجده متغيرا، وشك، هل تغير بالبول، أم بغيره ؟، فهو نجس، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، والاصحاب رحمهم الله. قلت: الجمهور حكموا بالنجاسة مطلقا، وبعضهم قال: إن كان عهده عن قرب غير متغير، فهو النجس. وإن لم يعهده أصلا، أو طال عهده، فهو طاهر، لاحتمال التغير بطول المكث. واعلم أن الامام الرافعي اختصر هذا الباب جدا، وترك أكثر مسائله. وأنا إن شاء الله تعالى (1) أشير إلى معظم ما تركه. قال أصحابنا: يجوز الاجتهاد في المشتبهين من الطعامين، والدهنين، ونحوهما، في الجنس، والجنسين، كلبن وخل تنجس أحدهما، وثوب وتراب، وطعام وماء، ولنا وجه منكر أنه لا يجوز في الجنسين. حكاه الشيخ أبو حامد وغلطه، ولو اشتبه لبنان ومعه ثالث متيقن الطهارة، إن لم يكن مضطرا إلى شربه، جاز الاجتهاد فيهما، وإن اضطر، فعلى الوجهين في الماءين ومعه ثالث. ولو أخبره بنجاسة أحد المشتبهين بعينه من يقبل خبره، عمل به، ولم يجز الاجتهاد، فإن كان معه إناءان، فقال عدل: ولغ الكلب في هذا دون ذاك، وقال آخر: في ذاك دون هذا، حكم بنجاستهما، لاحتمال الولوغ في وقتين، فإن عينا وقتا بعينه، عمل بقول أوثقهما عنده على المختار الذي قطع به إمام الحرمين. فإن استويا، فالمذهب(1/148)
أنه يسقط خبرهما، وتجوز الطهارة بهما (1)، وفيه طرق للاصحاب، وتفريعات طويلة أوضحتها في شرحي (المهذب) (2) و (التنبيه) ولو قال عدل: ولغ في هذا الاناء، هذا الكلب في وقت كذا، فقال آخر: كان هذا الكلب في ذلك الوقت ببلد آخر، فالاصح طهارة الاناء، للتعارض، والثاني: النجاسة لاشتباه الكلاب. ولو أدخل الكلب رأسه في الاناء، وأخرجه ولم يعلم ولوغه، فان كان فمه يابسا، فالماء على طهارته، وإن كان رطبا، فالاصح، الطهارة للاصل. والثاني: النجاسة، للظاهر. وإذا توضأ بالمظنون طهارته، ثم تيقن أنه كان نجسا، أو أخبره عدل، لزمه إعادة الصلاة، وغسل ما أصابه الماء من بدنه وثوبه. ويكفيه الغسلة الواحدة عن النجاسة والحدث جميعا إذا نوى الحدث، على أصح الوجهين عند العراقيين، وهو المختار، خلاف ما جزم به الرافعي وجماعة من الخراسانيين: أنه لا بد من غسلتين. ولنا قول شاذ في (الوسيط) وغيره: أنه لا تجب إعادة هذه الصلاة، كنظيره من القبلة. ولو توضأ بأحد المشتبهين من غير اجتهاد، وصلى، وقلنا بالصحيح: أنه لا يجوز، فبان أن الذي توضأ به هو الطاهر، لم تصح صلاته قطعا، ولا وضوؤه على الاصح، لتلاعبه، وكنظيره في القبلة والوقت. ولو اشتبه الاناءان على رجلين، فظن كل واحد طهارة إناء باجتهاده، لم يقتد أحدهما بالآخر. فلو كانت الآنية ثلاثة، نجس، وطاهران، فاجتهد فيها ثلاثة رجال، وتوضأ كل باناء، وأمهما واحد في الصبح، وآخر في الظهر، وآخر في العصر، فثلاثة أوجه. الصحيح الاشهر: قول ابن الحداد (3): يصح لكل واحد التي أم فيها. والاقتداء(1/149)
الاول، ويتعين الثاني للبطلان. والثاني: قول ابن القاص (1): لا يصح له إلا التي أم فيها. والثالث: قول أبي إسحق المروزي (2): تصح التي أم فيها. والاقتداء الاول إن اقتصر عليه. فان اقتدى ثانيا، بطلا جميعا. وإن زادت الآنية والمجتهدون، أو سمع من الرجال صوت حدث، فتناكروه، فحكم كله خارج على ما ذكرته، وقد أوضحت كل هذا بأمثلته وأدلته في شرحي (المهذب) و (التنبيه). وقد ذكر الرافعي رحمه الله المسألة في باب (صفة الائمة) وهذا الموضع أنسب. ولو وجد قطعة لحم ملقاة، فان كان في البلد مجوس ومسلمون، فنجسة، فإن تمحض المسلمون، فان كانت في خرقة، أو مكتل، فطاهرة، وإن كانت ملقاة مكشوفة، فنجسة. ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد، فله أخذ بعضها بالاجتهاد بلا خلاف، وإلى أي حد ينتهي ؟ فيه وجهان مذكوران في (البحر) أصحهما إلى أن يبقى واحد. والثاني: إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء، منع الجواز (3). ولو كان له دنان فيهما مائع، فاغترف منهما في إناء، فرأى فيه فأرة لا يدرى من أيهما هي، تحرى، فان ظهر له أنها من أحدهما بعينه، فإن كان اغترف بمغرفتين، فالآخر طاهر، وإن كان بمغرفة، فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة في الثاني، فالاول على طهارته، وإلا، فهما نجسان. وقد أكثرت الزيادة في هذا الباب لمسيس الحاجة إليها، فبقيت منه بقايا حذفتها كراهة كثرة الاطالة. والله أعلم.(1/150)
باب الاواني هي ثلاثة أقسام. الاول: المتخذ من جلد والجلد يحكم بطهارته في حالين. أحدهما: إذا ذكي مأكول اللحم، فجلده باق على طهارته كلحمه، ولو ذكي غير مأكول، فجلده نجس كلحمه. قلت: ولو ذبح حمارا زمنا، أو غيره مما لا يؤكل، للتوصل إلى دبغ جلده، لم يجز عندنا. والله أعلم. والثاني: أن يدبغ جلد الميتة، فيطهر بالدباغ من مأكول اللحم وغيره، إلا جلد كلب، أو خنزير، وفرعهما، فانه لا يطهر قطعا، وإذا قلنا بالقديم: إن الآدمي ينجس بالموت، طهر جلده بالدباغ على الاصح، ولنا وجه شاذ منكر في (التتمة) أن جلد الميتة لا ينجس، وإنما أمر بالدبغ لازالة الزهومة (1)، ثم قال الاصحاب: يعتبر في الدباغ ثلاثة أشياء نزع الفضول، وتطييب الجلد، وصيرورته بحيث لو وقع (2) في الماء، لم يعد الفساد والنتن. ومن الاصحاب من يقتصر على نزع الفضول، لاستلزامه الطيب والصيرورة. قالوا: ويكون الدباغ بالاشياء الحريفة، كالشب (3)، والقرظ (4)، وقشور الرمان، والعفص. وفي وجه: لا يحصل إلا بشب أو قرظ، وهو غلط، ويحصل بمتنجس، وبنجس العين، كذرق حمام على الاصح فيها، ولا يكفي التجميد بالتراب، أو الشمس على الصحيح. ولا يجب استعمال الماء في أثناء الدباغ على الاصح، ويجب الغسل بعده إن دبغ بنجس قطعا، وكذا إن دبغ بطاهر على الاصح، فعلى هذا إذا لم يغسله، يكون طاهر العين، كثوب نجس، بخلاف ما إذا أوجبنا الماء في(1/151)
أثناء الدباغ فلم يستعمله، فانه يكون نجس العين، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء، أم لا بد من استعمال الادوية ثانيا ؟ وجهان. قلت: أصحهما الثاني. وبه قطع الشيخ أبو محمد، والآخر: احتمال لامام الحرمين، والمراد نقعه في ماء كثير. والله أعلم. وإذا أوجبنا الغسل بعد الدباغ، اشترط سلامته من التغير بأدوية الدباغ، ولا يشترط ذلك إذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ. فرع: يطهر بالدباغ ظاهر الجلد قطعا، وباطنه على المشهور الجديد. فيجوز بيعه، ويستعمل في المائعات، ويصلى فيه. ومنع القديم: طهارة الباطن، والصلاة، والبيع، واستعماله في المائع. قلت: أنكر جماهير العراقيين، وكثيرون من الخراسانيين هذا القديم، وقطعوا بطهارة الباطن، وما يترتب عليه (1). وهذا هو الصواب. والله أعلم. ويجوز أكل المدبوغ على الجديد، إن كان مأكول اللحم، وإلا، فلا، على المذهب. قلت: الاظهر عند الاكثرين، تحريم أكل جلد المأكول (2)، وقد بقي من هذا القسم مسائل منها: الدباغ بالملح. نص الشافعي رحمه الله: أنه لا يحصل، وبه قطع أبو علي الطبري (3)،(1/152)
وصاحب (الشامل) وقطع إمام الحرمين بالحصول، ولا يفتقر الدباغ إلى فعل. فلو ألقت الريح الجلد في مدبغة، فاندبغ، طهر، ويجوز استعمال جلد الميتة قبل الدباغ في اليابسات، لكن يكره، ويجوز هبته (2)، كما تجوز الوصية. وإذا قلنا: لا يجوز بيعه بعد الدباغ، ففي إجارته وجهان. الصحيح: المنع. والله أعلم. القسم الثاني: الشعر والعظم، أما الشعر، والصوف، والوبر، والريش، فينجس بالموت على الاظهر، وكذا العظم على المذهب، وقيل: كالشعر. فإن نجسنا الشعر، ففي شعر الآدمي قولان. أو وجهان. بناء على نجاسته بالموت. والاصح أنه لا ينجس شعره بالموت، ولا بالابانة. فإن نجسنا، عفي عن شعرة وشعرتين. فإن كثر، لم يعف. قلت: قال أصحابنا: يعفى عن اليسير من الشعر النجس في الماء، والثوب الذي يصلى فيه، وضبط اليسير: العرف. وقال إمام الحرمين: لعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال. واختلف أصحابنا في هذا العفو، هل يختص بشعر الآدمي، أم يعم الجميع ؟ والاصح: التعميم (3). والله أعلم.(1/153)
وإذا نجسنا شعر الآدمي، فالصحيح: طهارة شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا نجسنا شعر غير الآدمي، فدبغ الجلد وعليه شعر، لم يطهر الشعر على الاظهر، وإذا لم تنجس الشعور، ففي شعر الكلب والخنزير وفرعهما وجهان. الصحيح: النجاسة. سواء انفصل في حياته أو بعد موته. وأما الاناء من العظم، فإن كان طاهرا، جاز استعماله، وإلا فلا. وطهارته لا تحصل إلا بالذكاة في مأكول اللحم، إلا إذا قلنا (بالضعيف): إن عظام الميتة طاهرة. قلت: قال أصحابنا: ويجوز استعمال الاناء من العظم النجس في الاشياء اليابسة، لكن يكره (1)، كما قلنا في جلد الميتة قبل الدباغ، ويجوز إيقاد عظام الميتة. ولو رأى شعرا لم يعلم طهارته، فإن علم أنه من مأكول اللحم، فطاهر، أو من غيره، فنجس. أو لم يعلم، فوجهان. أصحهما: الطهارة، ولو باع جلد ميتة بعد دباغه وعليه شعر، وقلنا: يجوز بيع الجلد، ولا يطهر الشعر بالدباغ، فإن قال: بعتك الجلد دون شعره، صح، ولو قال: الجلد مع شعره، ففي صحة بيع الجلد القولان في تفريق الصفقة. وإن قال: بعتك هذا وأطلق صح. وقيل: وجهان. والله أعلم. القسم الثالث: إناء الذهب والفضة، يكره استعماله كراهة تنزيه في (القديم) وكراهة تحريم في (الجديد) وهو المشهور (2)، وقطع به جماعة. وعليه التفريع، ويستوي في التحريم الرجال والنساء، وسواء استعماله في الاكل، والشرب، والوضوء، والاكل بملعقة الفضة، والتطيب بماء الورد من قارورة(1/154)
الفضة، والتجمر بمجمرة الفضة إذا احتوى عليها. ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد، ويحرم إتخاذ الاناء من غير استعمال على الاصح، فلا يستحق صانعه أجرة، ولا أرش على كاسره. وعلى الثاني: لا يحرم، فتجب الاجرة والارش، ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بها على الصحيح. ويحرم الاناء الصغير، كالمكحلة، وظرف الغالية من الفضة على الصحيح، ولا يحرم الاواني من الجواهر النفيسة، كالفيروزج، والياقوت، والزبرجد، ونحوها على الاظهر (1). ولا خلاف أنه: لا يحرم ما نفاسته لصنعته، ولا يكره لو اتخذ إناء من حديد، أو غيره، وموهه بذهب، أو فضة، إن كان يحصل منه شئ بالعرض على النار، حرم استعماله، وإلا، فوجهان. ولو اتخذه من ذهب، أو فضة، وموهه بنحاس أو غيره، فعلى الوجهين. ولو غشي ظاهره وباطنه بالنحاس، فطريقان. قال إمام الحرمين: لا يحرم. وقال غيره: على الوجهين. قلت: الاصح من الوجهين: لا يحرم. والله أعلم. فرع المضبب بالفضة، فيه أوجه. أحدها: إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة، لا يحرم استعماله، ولا يكره. وإن كانت كبيرة فوق الحاجة، حرم. وإن كانت صغيرة فوق الحاجة أو كبيرة قدر الحاجة، فوجهان. الاصح: يكره. والثاني: يحرم. والوجه الثاني: إن كانت الضبة تلقى فم الشارب، حرم، وإلا، فلا. والثالث: يكره، ولا يحرم بحال. والرابع: يحرم في جميع الاحوال. قلت: أصح الاوجه وأشهرها، الاول، وبه قطع أكثر العراقيين. والله أعلم. ومعنى الحاجة: غرض إصلاح موضع الكسر، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير الفضة، فان الاضطرار يبيح استعمال أصل إناء الذهب والفضة، وفي ضبط الصغر والكبر أوجه. أحدها: يرجع فيه إلى العرف. والثاني: ما يلمع على بعد كبير، وما لا،(1/155)
فصغير. والثالث: ما استوعب جزءا من الاناء، كأسفله، أو عروته، أو شفته، كبير، وما لا، فصغير. قلت: الثالث: أشهر. والاول: أصح. والله أعلم. وأما المضبب بذهب، فقطع الشيخ أبو إسحاق (1) بتحريمه بكل حال. وقال الجمهور: هو كالفضة. قلت: قد قطع بتحريم المضبب بالذهب - بكل حال - جماعات غير الشيخ أبي إسحاق، منهم صاحب (الحاوي) وأبو العباس الجرجاني (2) والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (3) والعبدري (4) ونقله صاحب (التهذيب) عن العراقيين مطلقا. وهذا(1/156)
هو الصحيح. والله أعلم. وهل يسوى بين الذهب والفضة في الصغر والكبر ؟ قياس الباب: نعم. وعن الشيخ أبي محمد: لا، فإن قليل الذهب، ككثير الفضة، فيقوم ضبة الفضة المباحة، ويباح قدرها من الذهب، ولو اتخذ للاناء حلقة فضة، أو سلسلة، أو رأسا. قال في (التهذيب): يجوز، وفيه نظر واحتمال. قلت: قد وافق صاحب (التهذيب) جماعة، ولا نعلم فيه خلافا. قال أصحابنا: لو شرب بكفيه وفي أصبعه خاتم، أو في فمه دراهم، أو في الاناء الذي شرب منه، لم يكره. ولو أثبت الدراهم في الاناء بالمسامير، فهو كالضبة. وقطع القاضي حسين بجوازه. ولو باع إناء الذهب أو الفضة، صح بيعه. ولو توضأ منه، صح وضوؤه، وعصى بالفعل. ولو أكل، أو شرب، عصى بالفعل، وكان الطعام والشراب حلالا. وطريقه في اجتناب المعصية، أن يصب الطعام وغيره في إناء آخر، ويستعمل المصبوب فيه. والله أعلم.
باب صفة الوضوء (1) له فروض وسنن. فالفروض ستة. الاول: النية (2): وهي فرض في طهارات الاحداث (3)، ولا تجب في إزالة النجاسة على الصحيح. ولا يصح وضوء كافر أصلي، ولا غسله على الصحيح، ويصحان على وجه. ويصح الغسل دون الوضوء على وجه فيصلي به إذا أسلم.(1/157)
والكتابية المغتسلة من الحيض لحل وطئها لزوج مسلم، كغيرها على الصحيح (1)، ولا يصح طهارة المرتد بلا خلاف (2). ولو توضأ مسلم أو تيمم، ثم ارتد، فثلاثة أوجه. الصحيح: يبطل تيممه دون الوضوء. والثاني: يبطلان. والثالث: لا يبطلان. ولا يبطل الغسل بالردة، وقيل: هو كالوضوء، وليس بشئ. أما وقت النية: فلا يجوز أن يتأخر عن غسل أول جزء من الوجه (3). فإن قارنت الجزء المذكور ولم يتقدم ولم تبق بعده، صح وضوؤه، لكن لا يثاب على سنن الوضوء المتقدمة. قلت: وفي (الحاوي) وجه أنه يثاب عليها. والله أعلم. وإن تقدمت النية من أول الوضوء واستصحبها إلى غسل جزء من الوجه، صح، وحصل ثواب السنن، وإن اقترنت بسنة من سننه المتقدمة، وهي التسمية، والسواك، وغسل الكف، والمضمضة، والاستنشاق، ثم عزبت قبل الوجه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يصح وضوؤه. والثاني: يصح. والثالث: يصح إن اقترنت بالمضمضة أو الاستنشاق دون ما قبلهما. ولنا وجه ضعيف أن ما قبلهما ليس من سنن الوضوء، بل مندوبة في أوله، لا منه. والصواب: أنها من سننه. قلت: هذا (4) المذكور في المضمضة والاستنشاق، هو فيما إذا لم ينغسل معهما شئ من الوجه، فإن انغسل بنية الوجه، أجزأه ولا يضر العزوب بعده. وإن(1/158)
لم ينو بالمغسول الوجه، أجزأه أيضا على الصحيح، وقول الجمهور، فعلى هذا يحتاج إلى إعادة غسل ذلك الجزء مع الوجه، على الاصح. والله أعلم. أما كيفية النية، فالوضوء ضربان: وضوء رفاهية، ووضوء ضرورة. أما الاول: فينوي أحد ثلاثة أمور. أحدها: رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث. ويجزئه ذلك. وفيه وجه: أنه إن كان ماسح خف، لم يجزئه نية رفع الحدث، بل تتعين نية الاستباحة، ولو نوى رفع بعض الاحداث، فأوجه. أصحها: يصح وضوؤه مطلقا. والثاني: لا. والثالث: إن لم ينف ما عداه صح، وإلا، فلا، والرابع: إن نوى رفع الاول، صح، وإلا، فلا. والخامس: إن نوى الاخير، صح، وإلا، فلا. هذا إذا كان الحدث المنوي واقعا منه. فان لم يكن، بأن بال ولم ينم، فنوى حدث النوم، فان كان غالطا، صح وضوؤه قطعا. وإن تعمد، لم يصح على الاصح. الامر الثاني: استباحة الصلاة، أو غيرها مما لا تباح إلا بالطهارة، كالطواف، وسجود التلاوة، والشكر. فإذا نوى أحدها، ارتفع حدثه، ولنا وجه: أنه لا يصح الوضوء بنية الاستباحة، وهو غلط. وإن نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيرها، صح الوضوء لها ولغيرها. وإن نفى أيضا، صح، على الاصح. ولا يصح في الثاني، ويصح في الثالث، لما نوى فقط، ولو نوى ما يستحب له الوضوء، كقراءة القرآن، والجلوس في المسجد، وسماع الحديث وروايته، لم يصح على الاصح. ولو نوى تجديد الوضوء. فعلى الوجهين. وقيل: لا يصح قطعا. ولو شك في الحدث فتوضأ محتاطا فتيقن الحدث، لم يعتد به على الاصح، لانه توضأ مترددا وقد زالت الضرورة بالتيقن. ولو تيقن الحدث، وشك في الطهارة فتوضأ، ثم بان محدثا، أجزأه قطعا، لان الاصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه. ولو نوى ما لا يستحب له الوضوء، كدخول السوق، لم يصح. الامر الثالث: فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، وذلك كاف قطعا وإن كان الناوي صبيا. فرع: إذا نوى أحد الامور الثلاثة، وقصد ما يحصل معه بلا قصد، بأن نوى رفع الحدث والتبرد، أو رفع الجنابة والتبرد، فالصحيح: صحة طهارته. ولو اغتسل جنب يوم الجمعة بنية الجمعة والجنابة، حصلا على الصحيح. ولو اقتصر على نية الجنابة، حصلت الجمعة أيضا في الاظهر.(1/159)
قلت: الاظهر عند الاكثرين: لا تحصل. والله أعلم. ولو نوى بصلاته الفرض، وتحية المسجد، حصلا قطعا، ولو نوى رفع الحدث، ثم نوى في أثناء طهارته التبرد. فان كان ذاكر النية، رفع الحدث، فهو كمن نواهما ابتداء، فيصح على الصحيح. وإن كان غافلا، لم يصح ما أتى به بعد ذلك على الصحيح. أما وضوء الضرورة، فهو وضوء المستحاضة، وسلس البول ونحوهما ممن به حدث دائم، والافضل: أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصلاة. وفي الواجب أوجه. الصحيح: أنه يجب نية الاستباحة دون رفع الحدث (1). والثاني: يجب الجمع بينهما. والثالث: يجوز الاقتصار على أيهما شاءت. ثم إن نوت فريضة واحدة، صح قطعا، لانه مقتضى طهارتها. وإن نوت نافلة معينة ونفت غيرها، فعلى الاوجه الثلاثة المتقدمة في غيرها. فرع: لو كان يتوضأ ثلاثا، فنسي لمعة في المرة الاولى، فانغسلت في الثانية أو الثالثة، وهو يقصد التنفل، أو انغسلت في تجديد الوضوء، فوجهان. الاصح: في الصورة الاولى يجزئه، وفي مسألة التجديد لا يجزئه. قلت: ولو نسي اللمعة في وضوئه أو غسله، ثم نسي أنه توضأ، أو اغتسل، فأعاد الوضوء أو الغسل بنية الحدث، أجزأه، وتكمل طهارته بلا خلاف. والله أعلم. ولو فرق النية على اعضائه، فنوى عند الوجه رفع الحدث عنه، وعند اليد والرأس والرجل كذلك، صح وضوؤه على الاصح. والخلاف في مطلق التفريق على الصحيح المعروف. وقيل: هو فيمن نوى رفع الحدث عن كل عضو، ونفى غيره، دون من اقتصر عليه، وإذا قلنا في مسألة اللمعة: لا يعتد بالمغسول في(1/160)
الثانية، فهل يبطل ما مضى، أم يبني عليه ؟ فيوجها تفريق النية، إن جوزنا التفريق، جاز البناء، وإلا، فلا. ولا يشترط إضافة الوضوء إلى الله تعالى على الاصح. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن ينوي بقلبه، ويتلفظ بلسانه، كما سيأتي في سنن الوضوء. فإن اقتصر على القلب، أجزأه، أو اللسان، فلا. وإن جرى على لسانه حدث، أو تبرد، وفي قلبه خلافه، فالاعتبار بالقلب، ولو نوى الطهارة ولم يقل: عن الحدث، لم يجزئه على الصحيح المنصوص (1). ولو نوت المغتسلة عن الحيض تمكين زوج من وطئها، فأوجه. الاصح: تستبيح الوطئ والصلاة وكل شئ يقف على الغسل. والثاني: لا تستبيح شيئا. والثالث: تستبيح الوطئ وحده. ولو نوى أن يصلي بوضوئه صلاة، وأن لا يصليها، لم يصح، لتلاعبه وتناقضه. ولو ألقي انسان في نهر مكرها فنوى فيه رفع الحدث، صح وضوؤه. ولو غسل المتوضئ أعضاءه إلا رجليه، ثم سقط في نهر فانغسلتا وهو ذاكر النية، صح، وإلا، لم يحصل غسل رجليه على الاصح. ولو أحرم بالصلاة، ونوى الصلاة ودفع غريمه، صحت صلاته. قاله في (الشامل) ولو نوى قطع الوضوء بعد الفراغ منه، لم يبطل على الصحيح. وكذا في أثنائه على الاصح. ويستأنف النية لما بقي إن جوزنا تفريقها وإلا استأنف الوضوء. والله أعلم. الفرض الثاني: غسل الوجه، ويجب استيعابه بالغسل وحده، من مبدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الاذن إلى الاذن عرضا، وتدخل الغايتان في حد الطول، ولا تدخلان في العرض، فليست النزعتان من الوجه، وهما: البياضان المكتنفان للناصية أعلى الجبينين، ولا موضع الصلع، وهو: ما انحسر عنه(1/161)
الشعر فوق ابتداء التسطيح. وأما الصدغان وهما: في جانبي الاذن يتصلان بالعذارين (1) من فوق، فالاصح (2): أنهما ليسا من الوجه. ولو نزل الشعر فعم الجبهة أو بعضها، وجب غسل ما دخل في الحد المذكور، وفي وجه ضعيف: لا (3) يجب إلا إذا عمها. وموضع التحذيف: من الرأس، لا من الوجه على الاصح. وهو الذي ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة (4). وأما شعور الوجه فقسمان: حاصلة في حد الوجه، وخارجة عنه. والحاصلة نادرة الكثافة وغيرها. فالنادرة: كالحاجبين، والاهداب، والشاربين، والعذارين، وهما: المحاذيان للاذنين بين الصدغ والعارض، فيجب غسل ظاهر هذه الشعور وباطنها مع البشرة تحتها وإن كثفت. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب غسل منبت كثيفها، وغير النادرة، شعر الذقن والعارضين، وهما: الشعران المنحطان عن محاذاة الاذنين. فان كان خفيفا، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة، وإن كان كثيفا، وجب غسل ظاهر الشعر فقط، وحكي قول قديم، وقيل وجه: إنه يجب غسل البشرة أيضا، وليس بشئ. ولو خف بعضه وكثف بعضه، فالاصح أن للخفيف حكم الخفيف المتمحض، وللكثيف حكم الكثيف المتمحض. والثاني: للجميع حكم الخفيف. وأما ضبط الخفيف والكثيف، فالصحيح الذي عليه الاكثرون، وهو ظاهر النص، أن الخفيف: ما تتراءى البشرة تحته في مجلس التخاطب. والكثيف: ما يمنع الرؤية. والثاني: أن الخفيف: ما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة. والكثيف: ما لا يصله إلا بمبالغة، ويلحق بالنادر في حكمه المذكور، لحية امرأة، وخنثى مشكل، وكذا عنفقة الرجل الكثيفة على الاصح. وعلى الثاني: هي كشعر الذقن.(1/162)
القسم الثاني: الخارجة عن حد الوجه من اللحية، والعارض، والعذار، والسبال طولا وعرضا، والاظهر وجوب إفاضة الماء عليها، وهو غسل ظاهرها (1). والثاني: لا يجب شئ. وقيل: يجب غسل الوجه الباطن من الطبقة العليا، وقيل: يجب غسل السبال قطعا. والمذهب الاول. قلت: قال أصحابنا: يجب غسل جزء من رأسه، ورقبته، وما تحت ذقنه مع الوجه، ليتحقق استيعابه. ولو قطع أنفه، أو شفته، لزمه غسل ما ظهر بالقطع في الوضوء، والغسل على الاصح. ولو خرج من وجهه سلعة (2) ونزلت عن حد الوجه، لزمه غسل جميعها على المذهب. وقيل: في النازل قولان. ويجب غسل ما ظهر من حمرة الشفتين، ويستحب غسل النزعتين. ولو خلق له وجهان، وجب غسلهما، ويستحب أن يأخذ الماء بيديه جميعا. والله أعلم. الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، فإن قطع من فوق المرفق، فلا فرض عليه، ويستحب غسل باقي العضد، لئلا يخلو العضو من طهارة. وإن قطع من تحت المرفق، وجب غسل باقي محل الفرض. وإن قطع من مفصل المرفق، وجب غسل رأس العظم الباقي على المذهب، وقيل: فيه قولان. ولو كان له يدان من جانب، فتارة تتميز الزائدة عن الاصلية، وتارة لا. فإن تميزت وخرجت من محل الفرض، إما من الساعد، وإما من المرفق، وجب غسلها مع الاصلية، كالاصبع الزائدة، والسلعة، سواء جاوز طولها الاصلية، أم لا. وإن خرجت من فوق محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض، لم يجب غسل شئ منها. وإن حاذته، وجب غسل المحاذي وحده على الصحيح المنصوص. وإن لم تتميز، وجب غسلهما(1/163)
معا. سواء خرجتا من المنكب، أو الكوع، أو الذراع. ومن أمارات الزائدة، أن تكون فاحشة القصر، والاخرى معتدلة. ومنها نقص الاصابع، ومنها فقد البطش وضعفه. قلت: ولو طالت أظفاره وخرجت عن رؤوس الاصابع، وجب غسل الخارج على المذهب. وقيل: قولان، كالشعر النازل من اللحية. ولو نبت على ذراعه، أو رجله، شعر كثيف، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة تحته، لندوره. ولو توضأ، ثم قطعت يده، أو رجله، أو حلق رأسه، لم يلزمه تطهير ما انكشف. فإن توضأ، لزمه غسل ما ظهر. وإن حصل في يده ثقب، لزمه غسل باطنه، لانه صار ظاهرا. وإن لم يقدر الاقطع والمريض على الوضوء، لزمه تحصيل من يوضئه، إما متبرعا، وإما بأجرة المثل إذا وجدها. فإن لم يجد من يوضئه، أو وجده ولم يجد الاجرة، أو وجدها فطلب أكثر من أجرة المثل، لزمه أن يصلي بالتيمم، ويعيد، لندوره. فان لم يقدر على التيمم، صلى على حاله وأعاد. والله أعلم. الفرض الرابع: مسح الرأس، والواجب منه: ما ينطلق عليه الاسم، ولو بعض شعرة، أو قدره من البشرة (1). وفي وجه شاذ: يشترط ثلاث شعرات. وعلى هذا الشاذ: لا يشترط قدرها من البشرة إذا اقتصر عليها. وقيل: يشترط. وحيث اقتصر على البشرة يجوز، وإن كانت مستورة بالشعر على الصحيح. وشرط الشعر الممسوح، أن لا يخرج عن حد الرأس لو مد، سبطا كان أو جعدا، ولا يضر مجاوزته منبته على الصحيح. ولو غسل رأسه بدل مسحه، أو ألقى عليه قطرة ولم تسل عليه، أو وضع يده التي عليها الماء، على رأسه ولم يمرها، أجزأه على الصحيح. ولا يستحب غسل الرأس قطعا، ولا يكره على الاصح، بخلاف الخف، فإن غسله تعييب. قلت: ولا تتعين اليد للمسح، بل يجوز بأصبع، أو خشبة، أو خرقة، أو(1/164)
غيرها. ويجزئه مسح غيره له. والمرأة كالرجل في المسح. ولو كان له رأسان أجزأه مسح أحدهما. وقيل: يجب مسح جزء من كل رأس. والله أعلم. الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين. وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وحكي وجه: أنه الذي فوق مشط القدم. قلت: هذا الوجه شاذ منكر، بل غلط. والله أعلم. وحكم الرجل الزائدة ما سبق في اليد. ومراد الاصحاب بقولهم: غسل الرجلين فرض، إذا لم يمسح على الخف، أو أن الاصل الغسل والمسح بدل. فرع: من اجتمع عليه حدثان: أصغر. وأكبر. فيه أوجه. الصحيح: يكفيه غسل جميع البدن بنية الغسل وحده، ولا ترتيب عليه. والثاني: يجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل. والثالث: يجب وضوء مرتب، وغسل جميع البدن. فإن شاء قدم الوضوء، وإن شاء أخره. والرابع: يجب وضوء مرتب، وغسل باقي البدن (1). هذا كله إذا وقع الحدثان معا، أو سبق الاصغر، وإما إذا سبق الاكبر، فطريقان. أصحهما: طرد الخلاف. والثاني: القطع بالاكتفاء بالغسل. ولو غسل جميع بدنه إلا رجليه، ثم أحدث، فإن قلنا بالوجه الثالث، وجب وضوء كامل للحدث، وغسل الرجلين للجنابة، يقدم أيهما شاء، فتكون الرجل مغسولة مرتين. وإن قلنا بالرابع، وجب غسل الرجلين بعد أعضاء الوضوء، ويكون غسلهما واقعا عن الحدث والجنابة جميعا. وإن قلنا بالصحيح الاول، فعليه غسل الرجلين عن الجنابة، وغسل سائر أعضاء الوضوء عن الحدث، فان شاء قدم الرجلين، وإن شاء أخرهما، أو وسطهما. وعلى هذا يكون المأتي به وضوء خاليا عن غسل الرجلين، فإنهما يغسلان عن الجنابة خاصة، ولا يختص هذا بالرجلين،(1/165)
بل لو غسل الجنب من بدنه ما سوى الرأس والرجلين، أو اليدين والرأس والرجلين، كان حكمه ما ذكرنا. قلت: الصحيح في الصورة المذكورة، أنه يجب الترتيب في أعضاء الوضوء الثلاثة. وهو مخير في الرجلين، كما ذكرنا. وقيل: هو مخير في الجميع، وقيل: يجب الترتيب في الجميع، فيجب غسل الرجلين بعد الاعضاء الثلاثة. والله أعلم. الفرض السادس: الترتيب (1): فلو تركه عمدا لم يصح وضوؤه، لكن يعتد بالوجه وما غسله بعده على الترتيب. ولو تركه ناسيا، فقولان: المشهور الجديد لا يجزئه. ولو غسل أربعة أنفس أعضاءه دفعة باذنه، لم يحصل إلا الوجه على الاصح (2). وعلى الثاني يحصل الجميع. أما إذا غسل المحدث جميع بدنه، فإن أمكن حصول الترتيب، بأن انغمس في الماء ومكث زمانا يتأتى فيه الترتيب أجزأه على الصحيح. وإن لم يتأت، بأن انغمس ولم يمكث، أو غسل أسافله قبل أعاليه، لم يجزه على الاصح. ولا خلاف في الاعتداد بغسل الوجه في الصورتين إذا قارنته النية، هذا كله إذا نوى رفع الحدث. فان نوى الجنابة، فالاصح أنه كنية رفع الحدث. والثاني لا يجزئه بحال إلا الوجه. قلت: الاصح عند المحققين في مسألة الانغماس بلا مكث الاجزاء (3). والله أعلم. فرع: إذا خرج منه بلل يجوز أن يكون منيا ومذيا، واشتبه، ففيه أوجه. أحدها: يجب الوضوء فقط، فلو عدل إلى الغسل، كان كمحدث يغتسل. والثاني: يجب الوضوء، وغسل سائر البدن، وغسل ما أصابه البلل. والثالث، وهو الاصح: يتخير بين التزام حكم المني، وحكم المذي. فإن اختار الوضوء وجب الترتيب فيه، وغسل ما أصابه. وقيل: لا يجبان وليس بشئ، ويجري هذا(1/166)
الخلاف فيما إذا أولج خنثى مشكل في دبر رجل، فهما بتقدير ذكورة الخنثى جنبان، وإلا فمحدثان. وإذا توضآ، وجب عليهما الترتيب، وفيه الوجه المتقدم، وليس بشئ. فصل: وأما سنن الوضوء، فكثيرة: إحداها: السواك. وهو: سنة مطلقا (1)، ولا يكره إلا بعد الزوال لصائم (2). وفي غير هذه الحالة مستحب في كل وقت. ويتأكد استحبابه في أحوال عند الصلاة وإن لم يكن متغير الفم، وعند الوضوء وإن لم يصل، وعند قراءة القرآن، وعند اصفرار الاسنان وإن لم يتغير الفم، وعند تغير الفم بنوم، أو طول سكوت، أو ترك أكل، أو أكل ما له رائحة كريهة، أو غير ذلك. ويحصل السواك بخرقة، وكل خشن مزيل، لكن العود أولى، والاراك منه أولى، والافضل أن يكون بيابس ندي بالماء، ولا يحصل بأصبع خشنة على أصح الاوجه. والثالث: يحصل عند عدم العود، ونحوه. ويستحب أن يستاك عرضا. قلت: كره جماعة من أصحابنا الاستياك طولا. ولنا قول غريب: أنه لا يكره السواك لصائم بعد الزوال. ويستحب أن يبدأ بجانب فمه الايمن، وأن يعود الصبي السواك ليألفه. ولا بأس أن يستاك بسواك غيره بإذنه. ويستحب أن يمر السواك على سقف حلقه إمرارا لطيفا، وعلى كراسي أضراسه. وينوي بالسواك السنة. ويسن السواك أيضا عند دخوله بيته، واستيقاظه من نومه، للحديث الصحيح فيهما (3). والله أعلم.(1/167)
والثانية: أن يقول في ابتداء وضوئه: بسم الله (1)، فلو نسيها في الابتداء، أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، كما في الطعام. فان تركها عمدا فهل يشرع التدارك ؟ فيه احتمال. قلت: قول الامام الرافعي فيه احتمال عجيب، فقد صرح أصحابنا بأنه يتدارك في العمد، وممن صرح به المحاملي في (المجموع) والجرجاني في (التحرير) وغيرهما، وقد أوضحته في (شرح المهذب) (2) قال أصحابنا: ويستحب التسمية في ابتداء كل أمر ذي بال من العبادات وغيرها حتى عند الجماع. والله أعلم. الثالثة: غسل الكفين قبل الوجه. سواء قام من النوم وشك في نجاسة اليد وأراد غمس يده في الاناء، أم لم يكن شئ من ذلك، لكن إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما، كره إن لم يتيقن طهارتهما (3). فإن تيقنها، فوجهان. الاصح لا يكره الغمس. قلت: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثا قبل الغمس. نص عليه البويطي (4)، وصرح به الاصحاب للحديث الصحيح (5). وقال أصحابنا: إذا كان(1/168)
الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة، بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به، استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه. والله أعلم. الرابعة: المضمضة، والاستنشاق، ثم أصل هذه السنة يحصل بوصول الماء إلى الفم، والانف. سواء كان بغرفة، أو أكثر. وفي الافضل طريقان. الصحيح: أن فيه قولين: أظهرهما: الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل. والثاني: الجمع بينهما أفضل، والطريق الثاني: الفصل أفضل قطعا. وفي كيفيته وجهان. أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثا، ويستنشق من أخرى ثلاثا. والثاني: بست غرفات، وتقديم المضمضة على الاستنشاق شرط على الاصح. وقيل: مستحب. وفي كيفية الجمع وجهان، الاصح: بثلاث غرفات، يتمضمض من كل غرفة، ويستنشق. والثاني: بغرفة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا، وقيل (1): يتمضمض منها ثم يستنشق مرة، ثم كذلك ثانية وثالثة. قلت: المذهب من هذا الخلاف، أن الجمع بثلاث أفضل، كذا قاله جماعة من المحققين، والاحاديث الصحيحة مصرحة به (2) وقد أوضحته في (شرح المهذب) (3). والله أعلم. الخامسة: المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فيبلغ ماء المضمضة أقصى الحنك، ووجهي الاسنان، وتمر الاصبع عليها، ويصعد ماء الاستنشاق بنفسه إلى الخيشوم مع إدخال الاصبع اليسرى، وإزالة ما هناك من أذى. فإن كان صائما لم يبالغ فيهما. قلت: ولو جعل الماء في فيه ولم يدره، حصلت المضمضة على الصحيح. والله أعلم.(1/169)
السادسة: التكرار ثلاثا في المغسول (1) والممسوح المفروض والمسنون (2)، ولنا قول شاذ: أنه لا يكرر مسح الرأس، ووجه أشذ منه: أنه لا يكرره، ولا مسح الاذنين. ولو شك هل غسل أو مسح مرة، أو مرتين، أم ثلاثا ؟ أخذ بالاقل على الصحيح، وقيل: بالاكثر. قلت: تكره الزيادة على ثلاث، وقيل: تحرم، وقيل: هي خلاف الاولى، والصحيح: الاول، وإنما تجب الغسلة مرة، وإذا استوعبت العضو. والله أعلم. السابعة: تخليل ما لا يجب إيصال الماء إلى منابته (3)، من شعور الوجه، بالاصابع. ولنا وجه شاذ: أنه يجب التخليل. قلت: مراد قائله، وجوب إيصال الماء إلى المنبت، وليس بشئ، وقد نقلوا الاجماع على خلافه. والله أعلم. الثامنة: تقديم اليمين على اليسار في يديه ورجليه. وأما الاذنان والخدان، فيطهران دفعة. فان كان أقطع، قدم اليمين. قلت: والكفان، كالاذنين وفي البحر وجه شاذ: أنه يستحب تقديم الاذن اليمنى. ولو قدم مسح الاذن على مسح الرأس، لم يحصل على الصحيح. والله أعلم.(1/170)
التاسعة: تطويل الغرة (1) والتحجيل. فالغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه. والتحجيل: غسل بعض العضدين مع الذراعين، وبعض الساقين مع الرجلين. وغايته: استيعاب العضد والساق (2)، وقال كثيرون: الغرة: غسل بعض العضد والساق فقط. والصحيح: الاول. العاشرة: استيعاب الرأس بالمسح. والسنة في كيفيته: أن يضع يديه على مقدم رأسه، ويلصق سبابته بالاخرى، وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المبتدأ، فالذهاب والرد مسحة واحدة. وهذا الاستحباب لمن له شعر ينقلب بالذهاب والرد، ويصله البلل. أما من لا شعر له أو له شعر لا ينقلب، لصغره (3)، أو طوله، فيقتصر على الذهاب. فلو رد، لم يحسب ثانية، ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة أو غيرها، مسح ما يجب من الرأس. ويسن تتميم المسح على العمامة، والافضل أن لا يقتصر على أقل من الناصية. ولا يكفي الاقتصار على العمامة قطعا. الحادية عشرة: مسح الاذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد. ولو أخذ بأصابعه ماء لرأسه، ثم أمسك بعض أصابعه فلم يمسحه بها، فمسح الاذن بمائها، كفى لانه جديد، ويمسح الصماخين بماء جديد على المشهور. وفي قول شاذ: يكفي مسحهما ببقية بلل الاذن. قلت: ويمسح الصماخين ثلاثا، ونقلوا: أن ابن سريج رحمه الله، كان يغسل أذنيه مع وجهه، ويمسحهما مع رأسه ومنفردتين احتياطا في العمل بمذاهب(1/171)
العلماء فيهما، وفعله هذا حسن. وقد غلط من غلطه فيه زاعما أن الجمع بينهما لم يقل به أحد. ودليل ابن سريج، نص الشافعي والاصحاب على استحباب غسل النزعتين مع الوجه، مع أنهما يمسحان في الرأس. والله أعلم. الثانية عشرة: مسح الرقبة. وهل هو سنة، أم أدب ؟ فيه وجهان. والسنة والادب يشتركان في أصل الاستحباب، لكن السنة يتأكد شأنها، والادب دون ذلك. ثم الاكثرون، على أنه يمسح بباقي بلل الرأس، أو الاذن، وقيل: بماء جديد. قلت: وذهب كثيرون من أصحابنا، إلى أنها لا تمسح، لانه لم يثبت فيها شئ أصلا، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الاصحاب. وهذا هو الصواب. والله أعلم. الثالثة عشرة: تخليل أصابع الرجلين بخنصر يده اليسرى من أسفل الرجل، مبتدئا بخنصر الرجل اليمنى، خاتما بخنصر اليسرى (1). وقيل: يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يده، ولم يذكر الجمهور تخليل أصابع اليدين، واستحبه القاضي ابن كج (2) من أصحابنا، وورد فيه حديث. قال الترمذي (3): إنه حسن. فعلى هذا تخليلها بالتشبيك بينها. ولو كانت أصابع رجليه ملتفة لا يصل الماء ما بينهما إلا بالتخليل، وجب الايصال. وإن كانت ملتحمة، لم يجب فتقها، ولا يستحب. قلت: بل لا يجوز. والله أعلم.(1/172)
الرابعة عشرة: الدعوات على أعضاء الوضوء، فيقول عند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حسابا يسيرا. وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري. وعند الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار. وعند الاذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الاقدام. قلت: هذا الدعاء، لا أصل له، ولم يذكره الشافعي، والجمهور (1). والله أعلم. الخامسة عشرة: ترك الاستعانة، وهل تكره الاستعانة ؟ وجهان. قلت: الوجهان فيما إذا استعان بمن يصب عليه الماء، وأصحهما: لا يكره. أما إذا استعان بمن يغسل له الاعضاء، فمكروه قطعا. وإن استعان به في إحضار الماء، فلا بأس به، ولا يقال: إنه خلاف الاولى، وحيث كان له عذر، فلا بأس بالاستعانة مطلقا. والله أعلم. السادسة عشرة: الاصح أنه يستحب ترك التنشيف. والثاني: لا يستحب، ولا يكره. والثالث: يكره (2) والرابع: يكره في الصيف دون الشتاء. والخامس: يستحب. السابعة عشرة: أن لا ينفض يده والنفض: مكروه. قلت: في النفض أوجه. الارجح: أنه مباح، تركه وفعله سواء. والثاني: مكروه. والثالث: تركه أولى. والله أعلم. الثامنة عشرة: في مندوبات أخر، منها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله(1/173)
الذي جعل الماء طهورا، وأن يستصحب النية في جميع الافعال، وأن يجمع في النية بين القلب واللسان، وأن يتعهد الموقين (1) بالسبابتين (2)، ويحرك الخاتم، ويتعهد ما يحتاج إلى الاحتياط، ويبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمه، وفي اليد والرجل بأطراف الاصابع، إن صبه على نفسه. وإن صب عليه غيره، بدأ بالمرفق والكعب. وأن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف، ولا يزيد على ثلاث مرات، ولا يتكلم في أثناء الوضوء، ولا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع إليه رشاش الماء، وأن يمر يده على الاعضاء، وأن يقول بعد الفراغ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين (3) سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. واعلم أن معظم هذه السنن يجئ مثلها في الغسل، وفي التسمية وجه: أنها لا تستحب في الغسل. فرع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء، لا يضر بلا خلاف، وكذا الكثير، على الجديد المشهور. والكثير: هو أن يمضي زمن يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. والقليل: دون ذلك. وقيل: تؤخذ القلة والكثرة من العرف. وقيل: الكثير: مضي زمن يمكن فيه إتمام الطهارة. ومدة التفريق تعتبر من آخر المأتي به من أفعال الوضوء. ولو فرق بعذر، كنفاد الماء، لم يضر على المذهب، وقيل: فيه القولان. والنسيان عذر على الاصح. وحيث جاز التفريق، فبنى، لا يحتاج إلى تجديد النية في الاصح. والموالاة في الغسل، كهي في الوضوء على المذهب. وقيل: لا يجب مطلقا بلا خلاف. قلت: بقيت مسائل مهمة من صفة الوضوء. منها: غسل العينين. فيه(1/174)
أوجه. أحدها: سنة. والثاني: مستحب. والثالث: لا يفعل، وهو الاصح عند الاصحاب. ولو لم يكن لرجله كعب، أو ليده مرفق، اعتبر قدره، ولو تشققت رجله، فجعل في شقوقها شمعا أو حناء، وجب إزالة عينه، فإن بقي لون الحناء، لم يضر، وإن كان على العضو دهن مائع، فجرى، الماء على العضو، ولم يثبت، صح وضوؤه، ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء، لم يصح وضوؤه على الاصح. ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف، لم يحسب الكف على الاصح. ولو شك في غسل بعض أعضائه في أثناء الطهارة، لم يحسب له، وبعد الفراغ لا يضره الشك على الاصح. ويشترط في غسل الاعضاء: جريان الماء على العضو بلا خلاف. ويرتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله. وقال إمام الحرمين: يتوقف على فراغ الاعضاء، والصواب: الاول. وبه قطع الاصحاب. ويستحب لمن يتوضأ أن يصلي عقبه ركعتين في أي وقت كان. والله أعلم (1).
باب الاستنجاء (2) الاستنجاء واجب. ولقضاء الحاجة آداب. منها: أن يستر عورته عن العيون بشجرة، أو بقية جدار، ونحوهما، فإن كان في بناء يمكن تسقيفه، كفى، ولو جلس في وسط عرصة دار واسعة، أو بستان، فليستر بقدر مؤخرة الرحل، وليكن بينه وبينها ثلاثة أذرع فما دونها. ولو أناخ راحلته وتستر بها، أو جلس في وهدة، أو نهر، أو أرخى ذيله، حصل الغرض. ومنها: أن لا يستقبل الشمس، ولا القمر بفرجه، لا في الصحراء ولا في البنيان. وهو نهي تنزيه (3).(1/175)
قال جماعة: ويجتنب الاستدبار أيضا. والجمهور: اقتصروا على النهي عن الاستقبال. ومنها: إن كان في بناء، أو بين يديه ساتر، فالادب أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. فإن كان في صحراء ولم يستتر بشئ، حرم استقبالها واستدبارها، ولا يحرم ذلك في البناء (1). ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس (2)، وأن لا يبول في الماء الراكد الكثير، والنهي عن القليل أشد (3)، وفي الليل أشد. وأن لا يبول في ثقب (4)، وأن لا يجلس تحت شجرة مثمرة لغائط، ولا بول، ولا يبول في مهب ريح. وأن يعتمد في جلوسه على رجله اليسرى، وأن يعد أحجار الاستنجاء عنده قبل جلوسه، وأن لا يستنجي بالماء، موضع قضاء الحاجة، بل ينتقل عنه. فإن كان يستنجي بالحجر، لم ينتقل. قلت: هذا في غير الا خلية المتخذة لذلك. أما الا خلية، فلا ينتقل منها للمشقة، ولانه لا يناله رشاش. والله أعلم. وأن لا يستصحب (5) ما فيه شئ من القرآن، أو ذكر الله سبحانه وتعالى، أو(1/176)
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كخاتم ودرهم ونحوهما، ولا يختص هذا الادب بالبنيان، بل يعم الصحراء على الصحيح. فلو غفل عن نزع الخاتم حتى اشتغل بقضاء الحاجة، ضم كفه عليه. وأن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج اليمنى (1)، وسواء في هذا الادب، الصحراء والبنيان على الصحيح، فيقدم اليسرى إذا بلغ مقعده في الصحراء، ويقدم اليمنى في انصرافه، وقيل: يختص بالبنيان. وأن يستبرئ بتنحنح، ونتر ذكره عند انقطاع البول، ويكره حشو الاحليل بقطن ونحوه. قلت: يكره استقبال بيت المقدس، واستدباره، ببول أو غائط، ولا يحرم، ولا يكره الجماع مستقبل القبلة، ولا مستدبرها، لا في بناء ولا في صحراء عندنا. واستصحاب ما عليه ذكر الله تعالى. على الخلاء مكروه، لا حرام. والسنة أن يقول عند دخول الخلاء: (باسم الله (2)، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (3). ويقول إذا خرج: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافاني) (4). وسواء في هذا البنيان والصحراء، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الارض، ويسبله عليه إذا قام قبل انتصابه. ويكره أن يذكر الله تعالى، أو يتكلم بشئ قبل خروجه، إلا لضرورة. فإن عطس حمد الله تعالى بقلبه، ولا يحرك لسانه، وكذا يفعل في حال الجماع، والسنة أن يبعد عن الناس، وأن يبول في مكان لين لا يرتد عليه فيه بوله. ويكره في قارعة الطريق، (5) وعند القبور، ويحرم البول على القبر. وفي المسجد(1/177)
فلو بال في إناء في المسجد فهو حرام على الاصح. ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافيا ولا مكشوف الرأس، وأن لا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى السماء، ولا يعبث بيده، ولا يكره البول في الاناء، ويكره قائما بلا عذر، ويكره إطالة القعود على الخلاء. والله أعلم (1). فصل فيما يستنجى منه إذا خرج من البدن نجس لا ينقض الطهر، لم يجزئ فيه الحجر. وأما الخارج الذي ينقض الطهر، فإن كان ريحا، لم يجب الاستنجاء. وإن كان غيره، وخرج من منفتح غير السبيلين، ففي إجزاء الحجر فيه خلاف، يأتي في الباب الآتي إن شاء الله تعالى وإن كان خارجا من السبيلين، يوجب الطهارة الكبرى، كالمني، والحيض، وجب الغسل، ولا يمكن الاقتصار على الحجر. قلت: قد صرح (2) صاحب (الحاوي) وغيره: بجواز الاستنجاء بالحجر من دم الحيض. وفائدته فيمن انقطع حيضها واستنجت بالحجر، ثم تيممت لسفر أو مرض، صلت ولا إعادة. والله أعلم. وإن أوجب الصغرى، فإن لم يكن ملوثا كدود، وحصاة بلا رطوبة، لم يجب الاستنجاء على الاظهر. قلت: والبعرة اليابسة، كالحصاة، وصرح به صاحب (الشامل) وآخرون. والله أعلم.(1/178)
وإن كان ملوثا نادرا، كالدم، والقيح، والمذي، فثلاثة طرق (1). الصحيح قولان. أظهرهما: يجزئه الحجر. والثاني: يتعين الماء. والثاني: يجزئ الحجر قطعا. والثالث: إن خرج النادر مختلطا بالمعتاد، كفى الحجر. وإن تمحض النادر، تعين الماء. وإن كان الخارج ملوثا معتادا ولم يجاوز المخرج، فله الاقتصار على الحجر قطعا. وكذا إن جاوز المخرج، ولم يجاوز المعتاد على المذهب، وشذ بل غلط من قال: فيه قول آخر: أنه يتعين الماء. فإن جاوز المعتاد، ولم يخرج الغائط عن الاليتين، أجزأ الحجر أيضا على الاظهر. وقيل: قطعا. وقيل: يتعين الماء قطعا. والبول: كالغائط، والحشفة: كالاليتين. وقال أبو إسحاق المروزي: إذا جاوز البول الثقب، تعين الماء قطعا. والمذهب: الاول. ولو جاوز الغائط الاليتين، والبول الحشفة، تعين الماء قطعا لندوره، سواء المجاوز، وغيره. وقيل في غير المجاوز: الخلاف، وليس بشئ. وحيث اقتصر على الحجر فشرطه: أن لا تنتقل النجاسة عن الموضع الذي أصابته عند الخروج، وأن لا يجف ما على المخرج. فإن فقد أحدهما، تعين الماء قطعا (2). وقيل: إن كان الجاف بحيث يقلعه الحجر، أجزأ الحجر. فصل فيما يستنجى به غير الماء وله شروط. أحدها: أن يكون طاهرا، فلو استنجى بنجس، تعين بعده الماء، على الصحيح. وعلى الثاني: يجزئه الحجر إن كان النجس جامدا. الشرط الثاني: أن يكون منشفا قالعا للنجاسة، فلا يجزئ زجاج، وقصب، وحديد أملس، وفحم رخو، وتراب متناثر، ويجزئ فحم وتراب صلبان. وقيل في التراب والفحم: قولان مطلقا، وليس بشئ. وإن استنجى بما لا يقلع، لم يجزئه وإن أنقى. فإن نقل النجاسة، تعين الماء، وإلا أجزأ الحجر. ولو استنجى برطب من(1/179)
حجر، أو غيره، لم يجزئه على الصحيح. الشرط الثالث: أن لا يكون محترما، فلا يجوز الاستنجاء بمطعوم، كالخبز، والعظم. ولا بما كتب عليه علم، كحديث، وفقه، وفي جزء الحيوان المتصل به، كاليد والعقب، وذنب حمار، وجهان. الصحيح: لا يجوز. وقيل: يجوز بيد نفسه، دون يد غيره. وقيل: عكسه. ويجوز بقطعة ذهب، وفضة، وجوهر نفيس خشنة على الصحيح، كما يجوز بالديباج قطعا (1). وإن استنجى بمحترم، عصى، ولا يجزئه على الصحيح، لكن يجزئه الحجر بعده، إلا أن ينقل النجاسة، وأما الجلد الطاهر، فالاظهر: أنه إن كان مدبوغا، جاز الاستنجاء به. وإلا، فلا. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: لا يجوز مطلقا. ولو استنجى بحجر، ثم غسله ويبس، جاز الاستنجاء به، وإن استنجى بحجر، فلم يبق على المحل شئ، فاستعمل الثاني والثالث ولم يتلوثا، جاز استعمالهما من غير غسل على الصحيح. فصل في كيفية الاستنجاء: إذا استنجى بجامد، وجب الانقاء، واستيفاء بثلاث مسحات بأحرف حجر، أو ما في معناه، أو بأحجار. ولو حصل الانقاء بدون الثلاث، وجب ثلاث. وفي وجه: يكفي الانقاء، وهو شاذ، أو غلط. وإذا لم يحصل الانقاء بثلاث، وجبت الزيادة. فإن حصل برابع، استحب الاتيان بخامس ولا يجب. وفي كيفية الاستنجاء أوجه، أصحها: يمسح بكل حجر جميع المحل، فيضعه على مقدم الصفحة اليمنى، ويديره على الصفحتين إلى أن يصل موضع ابتدائه، ويضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى، ويفعل مثل ذلك، ويمسح بالثالث الصفحتين والمسربة. والوجه الثاني: يمسح بحجر الصفحة اليمنى، وبالثاني اليسرى، وبالثالث الوسط. والوجه الثالث أن يمسح بالاول من مقدم المسربة إلى آخرها. وبالثاني، من آخرها إلى أولها، ويحلق بالثالث، وهذا الخلاف في الافضل على الصحيح. فيجوز عند كل قائل العدول إلى الكيفية الاخرى، وقيل: لا يجوز. قلت: وقيل: يجوز العدول من الكيفية الثانية إلى الاولى دون عكسه. والله أعلم.(1/180)
وينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة، ثم يمره على المحل، ويديره قليلا قليلا. فإن أمره ونقل النجاسة من موضع إلى موضع، تعين الماء، فإن أمر ولم يدره ولم ينقل، فالصحيح: أنه يجزئه. والثاني: لا بد من الادارة. فرع: المستحب أن يستنجي باليسار. فإن استنجى بماء، صبه باليمنى، ومسح باليسرى. وإن استنجت امرأة من بول، أو غائط، أو رجل من غائط بالحجر، مسح بيساره، ولم يستعن بيمينه في شئ. وإذا استنجى الرجل من البول بجدار أو صخرة عظيمة ونحو ذلك، أمسك الذكر بيساره ومسحه على ثلاث مواضع (1). وإذا استنجى بحجر صغير، أمسكه بين عقبيه، أو إبهامي رجليه، أو تحامل عليه إن أمكنه، والذكر في يساره. فإن لم يتمكن واضطر إلى إمساك الحجر بيده، أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى، وحرك اليسار وحدها. فإن حرك اليمنى، أو حركهما جميعا، كان مستنجيا باليمين. وقيل: يأخذ الذكر باليمين، والحجر باليسار ويحركها، وليس بشئ. فرع: الافضل: أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والجامد، ويقدم الجامد. فإن اقتصر، فالماء أفضل. فرع: الخنثى المشكل في الاستنجاء من الغائط، كغيره، وليس له الاقتصار على الحجر في البول، إلا إذا قلنا: من انفتح له دون المعدة مخرج، مع انفتاح الاصلي، ينتقض وضوؤه بالخارج منه، ويجوز له الاقتصار على الحجر. أما الرجل، فمخير في فرجيه، بين الماء والحجر، وكذا المرأة البكر، وكذا الثيب (2). فإن مخرج بولها، فوق مدخل الذكر. والغالب أنها إذا بالت، نزل البول(1/181)
إلى مدخل الذكر. فإن تحققت ذلك، تعين الماء، وإلا، جاز الحجر على الصحيح. والواجب على المرأة، غسل ما يظهر إذا جلست على القدمين. وفي وجه ضعيف: يجب على الثيب غسل باطن فرجها. قلت: ينبغي أن يستنجي قبل الوضوء والتيمم، فإن قدمهما على الاستنجاء، صح الوضوء، دون التيمم، على أظهر الاقوال. والثاني: يصحان. والثالث: لا يصحان. ولو تيمم وعلى يديه نجاسة، فهو كالتيمم قبل الاستنجاء، وقيل: يصح قطعا، كما لو تيمم مكشوف العورة (1). وإذا أوجبناه في الدودة، والحصاة، والبعرة، أجزأه الحجر على المذهب. وقيل: فيه القولان في الدم وغيره من النادر، وهذا أشهر، وقول الجمهور، ولكن الصواب: الاول. ولو وقع الخارج من الانسان على الارض، ثم ترشش منه شئ فارتفع إلى المحل، أو أصابته نجاسة أخرى، تعين الماء، لخروجه عما يعم به البلوى. ويستحب أن يبدأ المستنجي بالماء (2) بقبله، ويدلك يده بعد غسل الدبر، وينضح فرجه، أو سراويله بعد الاستنجاء دفعا للوسواس. ويعتمد في غسل الدبر على أصبعه الوسطى، ويستعمل من الماء ما يغلب على الظن زوال النجاسة به، ولا يتعرض للباطن، ولو غلب على ظنه زوال النجاسة، ثم شم من يده ريحها، فهل يدل على بقاء النجاسة في المحل كما هي في اليد، أم لا ؟ فيه وجهان، أصحهما: لا (3). والله أعلم.
باب الأحداث (4)
الحدث (5) يطلق على ما يوجب الوضوء، وعلى ما يوجب الغسل. فيقال:(1/182)
حدث أكبر، وحدث أصغر، وإذا أطلق، كان المراد الاصغر غالبا، وهو مرادنا هنا (1). ولا ينتقض الوضوء عندنا بخارج من غير السبيلين، ولا بقهقهة المصلي، ولا بأكل لحم الجزور، ولا بأكل ما مسته النار، وفي لحم الجزور قول قديم شاذ. قلت: هذا القديم وإن كان شاذا في المذهب، فهو قوي في الدليل، فإن فيه حديثين صحيحين ليس عنهما جواب شاف. وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين، وقد أوضحت كل ذلك مبسوطا في شرح (المهذب) (2) وهذا القديم مما اعتقد رجحانه. والله أعلم. وإنما ينتقض بأحد أربعة (3) أمور. الاول: الخارج من أحد السبيلين، عينا كان، أو ريحا، من قبل الرجل والمرأة، أو دبرهما، نادرا كان، كالدم والحصى، أو معتادا نجس العين، أو طاهرها، كالدود والحصى، إلا المني (4)، فلا ينقض الوضوء بخروجه، وإنما(1/183)
يوجب الغسل. ولنا وجه شاذ: أنه يوجب الوضوء أيضا، ودبر الخنثى المشكل، كغيره. فإن خرج (1) شئ من قبليه (2)، نقض. وإن خرج من أحدهما، فله حكم المنفتح تحت المعدة. فرع: إذا انسد السبيل المعتاد وانفتح ثقبه تحت المعدة، وخرج منه المعتاد، وهو البول والغائط، نقض قطعا، وإن خرج نادر، كدم ودود وريح، نقض على الاظهر. وإن انفتح فوق المعدة مع انسداد المعتاد، أو تحتها مع انفتاحه، لم ينقض الخارج المعتاد منه، على الاظهر فإن نقض، ففي النادر القولان، وإن انفتح فوقها مع انفتاح الاصلي، لم ينقض قطعا. قلت: ذهب كثيرون من الاصحاب إلى أن فيه طريقين. الثاني: على قولين. والمذهب: أن الريح، من الخارج المعتاد، ومرادهم بتحت المعدة: ما تحت السرة، وبفوقها: السرة، ومحاذاتها، وما فوقها. والله أعلم. وحيث نقضنا، فهل يجوز الاقتصار في الخارج منه على الحجر ؟ فيه ثلاثة أقوال. وقيل: أوجه، الاظهر: لا. والثالث: يجوز في المعتاد دون النادر، والاصح: أنه لا يجب الوضوء بمسه، ولا الغسل بالايلاج فيه، ولا يحرم النظر إليه إذا كان فوق السرة، أو محاذيا لها، ولا يثبت بالايلاج فيه شئ من أحكام الوطئ قطعا، سوى الغسل على وجه. وقيل: يثبت المهر وسائر أحكام الوطئ. قلت: لو أخرجت دودة رأسها من فرجه، ثم رجعت، انتقض على الاصح (3)، والخنثى الواضح: إذا خرج من فرجه الزائد شئ، فله حكم منفتح تحت المعدة. ولو خرج من أحد قبلي مشكل، فكذلك على المذهب. و: ينتقض قطعا وقيل: عكسه. ومن له ذكران، ينتقض بكل منهما. والله أعلم. الناقض الثاني: زوال العقل، فإن كان بالجنون والاغماء والسكر، نقض بكل(1/184)
حال. والسكر الناقض: ما لا شعور معه دون أوائل النشوة. وحكي وجه: أن السكر لا ينقض بحال، وهو غلط. وأما النوم، فحقيقته: استرخاء البدن، وزوال الاستشعار، وخفاء كلام من عنده. وليس في معناه النعاس، وحديث النفس، فإنهما لا ينقضان بحال، فإن نام ممكنا مقعده من مقره، لم ينقض. وقيل: إن استند إلى ما يسقط بسقوطه، نقض، وليس بشئ، وإن نام غير ممكن مقعده، نقض. وفي قول: لا ينقض النوم على هيئة من هيئات الصلاة، وإن لم يكن في صلاة. وفي قول: لا ينقض في الصلاة كيف كان. وفي قول: لا ينقض النوم قائما. وفي قول: ينقض وإن كان ممكنا مقعده. وهذه أقوال شاذة. قلت: لا فرق عندنا بين قليل النوم وكثيره. ولو نام محتبيا، فثلاثة أوجه. أصحها: لا ينتقض. والثالث: ينتقض وضوء نحيف الاليين دون غيره. ولو نام ممكنا مقعدته (1) فزالت إحدى أليتيه عن الارض، فإن كان قبل الانتباه، انتقض، وإن كان بعده، أو معه، أو شك، لم ينتقض. ولو شك، هل نام أم نعس ؟ أو هل نام ممكنا أم لا ؟ لم ينتقض. ولو نام على قفاه ملصقا مقعده بالارض، انتقض، ولو كان مستثفرا بشئ، انتقض أيضا على المذهب. قال الشافعي، والاصحاب: يستحب الوضوء من النوم ممكنا للخروج من الخلاف (2). والله أعلم. الناقض الثالث: لمس بشرة امرأة مشتهاة، فإن لمس شعرا، أو سنا، أو ظفرا، أو عضوا مبانا من امرأة، أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة، لم ينتقض وضوؤه، على الاصح. وإن لمس محرما بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، لم ينتقض على الاظهر. وإن لمس ميتة، أو عجوزا لا تشتهى، أو عضوا أشل، أو(1/185)
زائدا، أو لمس بغير شهوة، أو عن غير قصد، انتقض على الصحيح (1) في جميع ذلك، وينتقض وضوء الملموس على الاظهر. والمرأة كالرجل في انتقاض طهرها بلمسها من الرجل ما ينقضه منها. ولنا وجه شاذ: أنها لا تزال ملموسة، فإذا لمست رجلا، كان في انتقاضها القولان، وليس بشئ. قلت: ولو التقت بشرتا رجل وامرأة بحركة منهما، انتقضتا قطعا وليس فيهما ملموس. ولو لمس الشيخ الفاقد للشهوة شابة، أو لمست الفاقدة للشهوة شابا، أو الشابة شيخا لا يشتهى، انتقض على الاصح. والمراهق، والخصي، والعنين، ينقضون وينتقضون. ولو لمس الرجل أمرد حسن الصورة بشهوة، لم ينتقض على الصحيح. ولو شك هل هو لامس أو ملموس ؟ فهو ملموس، أو هل لمس محرما، أو أجنبية ؟ فمحرم. ولو لمس محرما بشهوة، فكلمسها بغير شهوة. ولمس اللسان، ولحم الاسنان، واللمس به، ينتقض قطعا. والله أعلم. الناقض الرابع: مس فرج الآدمي، فينتقض الوضوء إذا مس ببطن كفه فرج آدمي، من نفسه، أو غيره، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت، قبلا كان الممسوس، أو دبرا. وفي فرج الصغير، والميت، وجه ضعيف، وفي الدبر قول شاذ: أنه لا ينتقض. والمراد بالدبر: ملتقى المنفذ، ومس محل الجب ينقض قطعا إن بقي شئ شاخص، فإن لم يبق شئ، نقض أيضا على الصحيح، ومس الذكر المقطوع (2) والاشل، والمس باليد الشلاء، وناسيا، ناقض على الصحيح. ولو مس بباطن أصبع زائدة، إن كانت على استواء الاصابع، نقضت على الاصح، وإلا، فلا، على الاصح. ولو كان له كفان عاملتان، نقض كل واحدة منهما (3). وإن كانت إحداهما عاملة، نقضت، دون الاخرى. وقيل: في الزائدة خلاف مطلقا. ولا ينقض مس دبر البهيمة قطعا، ولا قبلها، على الجديد المشهور. قلت: أطلق الاصحاب الخلاف في فرج البهيمة، ولم يخصوا به القبل. فإن(1/186)
قلنا: لا ينقض مسه، فأدخل يده في فرجها، لم ينقض على الاصح. والله أعلم. هذا كله في المس ببطن كفه، فإن مس برؤوس الاصابع، أو بما بينها، أو بحرفها، أو حرف الكف، لم ينتقض على الاصح. ومن نقض برؤوس الاصابع قال: باطن الكف: ما بين الاظفار والزند طولا. ومن لم ينقض به يقول: هو القدر المنطبق إذا وضعت إحدى اليدين على الاخرى، مع تحامل يسير. وأما الممسوس فرجه، فلا ينتقض قطعا. قلت: وقيل: فيه قولان، كالملموس. والله أعلم. فرع: إذا مس الخنثى المشكل فرج واضح، فحكمه ما سبق، وإن مس فرجي نفسه، انتقض، أو أحدهما، فلا. وإن مس أحدهما، ثم صلى الصبح، ثم توضأ، ثم مس الآخر، ثم صلى الظهر، فالاصح: أنه لا يجب قضاء واحدة منهما. والثاني: يجب قضاؤهما، ولو مس أحدهما وصلى الصبح، ثم مس الآخر، وصلى الظهر من غير وضوء، أعاد الظهر قطعا فقط، أما إذا مس الواضح خنثى، فإن مس منه ما له مثله، انتقض، وإلا، فلا ينتقض (1) وضوء الرجل بمس ذكر الخنثى والمرأة بفرجه، ولا عكس. هذا إذا لم يكن بين الماس والخنثى محرمية، أو غيرها مما يمنع النقض، وحيث نقضنا الواضح، فالخنثى ممسوس لا ملموس، ولو مس المشكل فرجي مشكل، أو فرج نفسه، وذكر مشكل، انتقض. ولو مس أحد فرجي مشكل، لم ينتقض. ولو مس أحد المشكلين فرج صاحبه، ومس الآخر ذكر الاول، انتقض أحدهما لا بعينه، لكن لكل واحد منهما أن يصلي، لان الاصل: الطهارة. من القواعد التي يبنى عليها كثير من الاحكام، استصحاب حكم اليقين، والاعراض عن الشك (2)، فلو تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو(1/187)
عكسه، عمل باليقين فيهما. ولو ظن الحدث بعد يقين الطهارة، فكالشك، فله الصلاة. ولنا وجه: أنه إذا شك في الحدث خارج الصلاة، وجب الوضوء، وهذا شاذ، بل غلط. ومن هذا الباب ما إذا مس الخنثى فرجه مرتين، وشك، هل الممسوس ثانيا الاول، أم الآخر ؟ أو شك من نام قاعدا، ثم تمايل وانتبه، أيهما كان أسبق ؟ أو شك هل ما رآه، رؤيا، أم حديث نفس ؟ أو هل لمس البشرة، أم الشعر ؟ فلا يلزمه الوضوء في جميع هذا. وكذا الشك في الحدث الاكبر. ولو تيقن بعد طلوع الشمس حدثا، وطهارة، ولم يعلم اسبقهما، فثلاثة أوجه. أصحها، وقول الاكثرين: أنه إن كان قبل طلوع الشمس محدثا، فهو الآن متطهرا، وإن كان متطهر فالآن محدث إن كان ممن يعتاد تجديد الوضوء، وإلا فمتطهر أيضا، وإن لم يعلم ما كان قبل طلوع الشمس، وجب الوضوء. والوجه الثاني: أنه على ما كان قبل طلوع الشمس، ولا نظر إلى ما بعده، فإن لم يعلم ما كان قبله، وجب الوضوء. والثالث: لا نظر إلى ما قبل الطلوع، بل يجب الوضوء بكل حال. قلت: الوجه الثاني: غلط صريح، وكيف يؤمر بالعمل بما تيقن بطلانه ؟ ! والوجه الثالث: هو الصحيح عند جماعات من محققي أصحابنا. وفيه وجه رابع: يعمل بغلبة الظن، وقد أوضحت دلائله في شرح (المهذب) (1). والله أعلم. فرع في بيان الخنثى المشكل لزوال إشكاله صور. منها: خروج البول. فإن بال بفرج الرجال وحده، فهو رجل، أو بفرج النساء، فامرأة. فإن بال بهما، فوجهان. أحدهما: لا دلالة فيه. وأصحهما: يدل للسابق إن اتفق انقطاعهما، وللمتأخر إن اتفق ابتداؤهما، فإن سبق واحد وتأخر آخر، فللسابق، فإن اتفقا فيهما وزاد أحدهما، أو زرق بهما، أو(1/188)
رشش، فلا دلالة على الاصح، وعلى الثاني: يعمل بالكثرة، ويجعل بالتزريق رجلا، وبالترشيش امرأة. فإن استوى قدرهما، أو زرق بواحد ورشش بآخر، فلا دلالة. ومنها خروج المني والحيض في وقتهما. فإن أمنى بفرج الرجال، فرجل، أو بفرج النساء، أو حاض، فامرأة بشرط تكرره. فإن أمنى منهما، فوجهان: أحدهما: لا دلالة. والاصح أنه إن أمنى منهما بصفة مني الرجال، فرجل، أو بصفة مني النساء، فامرأة. فإن أمنى من أحدهما بصفة، ومن الآخر بالصفة الاخرى، فلا دلالة. وحكي وجه: أنه لا دلالة في المني (1) مطلقا وهو شاذ. ومنها خروج الولد، وهو يفيد القطع بالانوثة، فيقدم على جميع العلامات. ولو تعارض البول بالحيض، أو المني، فالاصح: لا دلالة. والثاني يقدم البول. ومنها نبات اللحية، ونهود الثدي، وتفاوت الاضلاع. والصحيح أنه لا دلالة فيها. والثاني: تدل اللحية (2)، أو نقصان ضلع من الجانب الايسر للذكورة، والنهود وتساوي الاضلاع للانوثة. ولا يدل عدم اللحية والنهود في وقتهما على الانوثة والذكورة بلا خلاف. ومنها الميل. فإذا قال: أميل إلى النساء، فرجل، أو إلى الرجال، فامرأة، بشرط العجز عن الامارات السابقة، فإنها مقدمة على الميل. ولا يرجع إليه إلا بعد بلوغه وعقله. وفي وجه: يقبل قول المميز ثم يتعلق باختياره. فروع أحدها: إذا بلغ ووجد من نفسه أحد الميلين، لزمه أن يخبر به. فإن أخر، عصى.(1/189)
الثاني: يحرم عليه أن يخبر بالتشهي، وإنما يخبر عما يجده. الثالث: إذا قال: أميل إليهما، أو لا أميل إلى واحد منهما، استمر الاشكال. الرابع: إذا أخبر بميل، لزمه، ولا يقبل رجوعه إلا أن يخبر بالذكورة، ثم يلد، أو يظهر به حمل، فيبطل قوله، كما لو حكم بشئ من العلامات الظاهرة، ثم ظهر الحمل، فإن ذلك يبطل. الخامس: لو حكمنا بقوله، ثم ظهرت علامة غير الحمل، فيحتمل أن يرجع إليها، ويحتمل أن يبقى على قوله. قلت: الاحتمال الثاني، هو الصواب، وظاهر كلام الاصحاب. قال أصحابنا: وإذا أخبر بميله، عملنا به فيما له وعليه، ولا نرده لتهمة، كما لو أخبر صبي ببلوغه للامكان. والله أعلم. فصل يحرم على المحدث جميع أنواع الصلاة، والسجود، والطواف، ومس المصحف، وحمله، ويحرم مس حاشية المصحف، وما بين سطوره، وحمله بالعلاقة قطعا ويحرم مس الجلد على الصحيح، [ والغلاف، والصندوق ] (1) والخريطة، إذا كان فيهن المصحف، على الاصح. ولو قلب أوراقه بعود، حرم على الاصح. قلت: قطع العراقيون بالجواز، وهو: الراجح، فإنه غير حامل ولا ماس (2). ولو لف كمه على يده، وقلب به الورق، حرم عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: وجهان. والله أعلم.(1/190)
ولا يحرم حمل المصحف في جملة متاع، على الاصح. وكتابة القرآن على شئ بين يديه من غير مس، ولا حمل جائزة على الاصح، ويجوز مس التوراة، والانجيل، وما نسخت (1) تلاوته من القرآن، وحملها على الصحيح. ولا يحرم مس حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمله، ولكن الاولى، التطهر له. وأما ما كتب عليه شئ من القرآن، لا للدراسة، كالدراهم الاحدية، والثياب، والعمامة، والطعام، والحيطان، وكتب الفقه، والاصول، فلا يحرم مسه، ولا حمله على الصحيح. وكذا لا يحرم كتب التفسير على الاصح. وقيل: إن كان القرآن أكثر، حرم قطعا. وقيل: إن كان القرآن بخط متميز، حرم الحمل قطعا. قلت: مقتضى هذا الكلام، أن الاصح: أنه لا يحرم إذا كان القرآن أكثر، وهذا منكر. بل الصواب: القطع بالتحريم، لانه، وإن لم يسم مصحفا، ففي معناه. وقد صرح بهذا صاحب (الحاوي) وآخرون. ونقله صاحب (البحر) عن(1/191)
الاصحاب. والله أعلم. ويحرم على البالغ مس، وحمل اللوح المكتوب فيه قرآن، للدراسة على الصحيح، ولا يجب على الولي والمعلم منع الصبي المميز من مس المصحف واللوح اللذين يتعلم منهما، وحملهما على الاصح. ولا يحرم أكل الطعام، وهدم الحائط المنقوش بالقرآن. قلت: ويكره إحراق الخشبة المنقوشة به (1). ويكره كتابته على الحيطان، سواء المسجد وغيره، وعلى الثياب، ويحرم كتابته بشئ نجس. ولو كان على بعض بدن المتطهر نجاسة، حرم مس المصحف بموضعها، ولا يحرم بغيره على المذهب. ومن لم يجد ماء، ولا ترابا، يصلي لحرمة الوقت، ويحرم عليه مس المصحف وحمله. ولو خاف على المصحف من غرق، أو حرق، أو نجاسة، أو كافر، ولم يتمكن من الطهارة، أخذه مع الحدث للضرورة (2). والله أعلم (3).
باب الغسل (4)
موجباته أربعة.(1/192)
الاول: الموت. ويأتي في الجنائز إن شاء الله تعالى (1). والثاني: الحيض. ثم وجوبه بخروج الدم، أم بانقطاعه ؟ أم الخروج موجب عند الانقطاع ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث (2). والنفاس، كالحيض في الغسل ومعظم الاحكام. والثالث: إذا ألقت الحامل ولدا، أو علقة، أو مضغة، ولم تر دما، ولا بللا، لزمها الغسل على الاصح. والرابع: الجنابة، وهي بأمرين: الجماع، والانزال. أما الجماع، فتغييب قدر الحشفة في أي فرج كان، سواء غيب في قبل (3) امرأة، أو بهيمة، أو دبرهما، أو دبر رجل، أو خنثى صغير، أو كبير حي، أو ميت. ويجب على المرأة بأي ذكر دخل فرجها، حتى ذكر البهيمة، والميت، والصبي. وعلى الرجل المولج في دبره. ولا يجب إعادة غسل الميت المولج فيه على الاصح. قلت: ويصير الصبي والمجنون المولجان، [ و ] (4) المولج فيهما، جنبين بلا(1/193)
خلاف. فإن اغتسل الصبي وهو مميز، صح غسله، ولا يجب إعادته إذا بلغ. ومن كمل منهما قبل الاغتسال، وجب عليه الغسل. وعلى الولي أن يأمر الصبي المميز بالغسل في الحال، كما يأمره بالوضوء. والله أعلم. هذا كله إذا غيب قدر الحشفة، فإن غيب دونها، لم يتعلق به حكم على الصحيح. ولنا وجه: أن تغييب قدر الحشفة من مقطوعها لا يوجب الغسل، وإنما يوجبه تغييب جميع الباقي، إن كان قدر الحشفة فصاعدا. قلت: هذا الوجه مشهور، وهو الراجح عند كثير من العراقيين، ونقله صاحب (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، ولكن الاول: أصح. والله أعلم. ولو لف على ذكره خرقة فأولجه، وجب الغسل على أصح الاوجه، ولا يجب في الثاني. والثالث إن كانت الخرقة خشنة، وهي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، وتمنع وصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر، لم يجب، وإلا، وجب. قلت: قال صاحب (البحر): وتجري هذه الاوجه في إفساد الحج به، وينبغي أن تجري في جميع الاحكام. والله أعلم. فرع: ولو أولج خنثى في فرج خنثى أو دبره، أو أولج كل واحد منهما في فرج صاحبه، أو دبره، فلا غسل، ولا وضوء على أحد، إلا من نزع الذكر من دبره، فعليه الوضوء، لخروج خارج من دبره. قلت: وكذا إذا نزع من قبله. وقلنا: المنفتح تحت المعدة ينتقض الخارج منه مع انفتاح الاصلي. والله أعلم. ولو أولج الخنثى في بهيمة، أو امرأة، أو دبر رجل، فلا غسل على أحد. وعلى المرأة الوضوء بالنزع منها. وكذلك الوضوء على الخنثى، والرجل المولج فيه (1). ولو أولج رجل في فرج خنثى، فلا غسل، ولا وضوء عليهما، لاحتمال أنه(1/194)
رجل. ولو أولج رجل في فرج خنثى، والخنثى في فرج امرأة، فالخنثى جنب، والرجل والمرأة غير جنبين، وعلى المرأة الوضوء بالنزع (1). قلت: إذا أولج ذكرا أشل، وجب عليهما الغسل على المذهب. ولو استدخلت ذكرا مقطوعا، فوجهان، كمسه. ولو كان لرجل ذكران يبول بهما، فأولج أحدهما، وجب الغسل، ولو كان يبول بأحدهما، وجب الغسل لو كان بإيلاجه، ولا يتعلق بالآخر حكم في نقض الطهارة (2). والله أعلم. الامر الثاني: الجنابة بإنزال المني. وسواء خرج من المخرج المعتاد، أو ثقبة في الصلب، أو الخصية على المذهب. وقيل: الخارج من غير المعتاد، له حكم المنفتح المذكور في باب الاحداث (3)، فيعود فيه الخلاف والتفصيل. والصلب هنا كالمعدة هناك. ثم للمني خواص ثلاث. أحدها: رائحة، كرائحة العجين، والطلع رطبا، وكرائحة بياض البيض يابسا. الثانية: التدفق بدفعات. الثالثة: التلذذ بخروجه، واستعقابه فتور الذكر، وانكسار الشهوة. ولا يشترط اجتماع الخواص، بل واحدة منهن تكفي في كونه منيا بلا خلاف. وله صفات أخر، كالبياض والثخانة في مني الرجل، والرقة والاصفرار في مني المرأة في حال الاعتدال. وليست هذه الصفات من خواصه، فعدمها لا ينفيه، ووجودها لا يقتضيه. فلو زالت الثخانة والبياض لمرض، أو خرج على لون الدم لكثرة الجماع،(1/195)
وجب الغسل اعتمادا على بعض الخواص. وحكي وجه: أنه لا يجب بها على لون الدم، وهو شاذ. ولو تنبه من نومه، فلم ير إلا الثخانة والبياض، فلا غسل، لان الودي يشارك المني فيهما، بل يتخير بين جعله منيا ومذيا على ظاهر المذهب، وفيه الخلاف السابق في آخر صفة الوضوء. فإن قلنا بالمذهب، فغلب على ظنه المني، لكون المذي لا يليق بحاله، أو لتذكر جماع، قال إمام الحرمين: يحتمل أن تستصحب الطهارة، وأن يحمل على الظن. والاحتمال الاول مقتضى كلام معظم الاصحاب. ولو أنزل فاغتسل، ثم خرجت بقية المني، وجب الغسل ثانيا قطعا. سواء خرجت قبل البول، أو بعده. فرع: المرأة، كالرجل في وجوب الغسل بخروج منيها. قال إمام الحرمين والغزالي: لا تعرف منيها إلا بالتلذذ. وقال الاكثرون تصريحا وتعريضا: يطرد في معرفة منيها الخواص الثلاث، كالرجل. ولو اغتسلت من جماع، ثم خرج منها مني الرجل، لزمها الغسل على المذهب بشرطين. أحدهما: أن تكون ذات شهوة دون الصغيرة. والثاني: أن تقضي شهوتها بذلك الجماع، كنائمة ومكرهة. فإن اختل شرط، لم يجب الغسل قطعا. فرع: إذا استدخلت منيا في قبلها أو دبرها، لم يلزمها الغسل على المذهب. فرع: لا يجب الغسل من غسل الميت على الجديد المشهور، ولا بجنون وإغماء على المذهب. قلت: لو رأى المني في ثوبه، أو فراش لا ينام فيه غيره، ولم يذكر احتلاما، لزمه الغسل، على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور. قال أصحابنا: ويجب إعادة كل صلاة لا يحتمل حدوث المني بعدها. ويستحب إعادة كل صلاة يحتمل كونه فيها. ثم إن الشافعي والاصحاب أطلقوا المسألة. وقال الماوردي (1):(1/196)
هذا إذا رأى المني في باطن الثوب، فإن رآه في ظاهره، فلا غسل، لاحتمال إصابته من غيره. وإن كان ينام معه في الفراش من يجوز كون المني منه، لم يلزمه الغسل، ويستحب أن يغتسلا، ولو أحس بانتقال المني ونزوله، فأمسك ذكره، فلم يخرج منه شئ في الحال، ولا علم خروجه بعده، فلا غسل عندنا. والله أعلم. فصل: يحرم على الجنب ما يحرم على المحدث (1)، وشيئآن: قراءة القرآن، واللبث في المسجد. فأما القرآن، فيحرم، وإن كان بعض آية على قصد القرآن (2)، فلو لم يجد الجنب ماء ولا ترابا، فهل يباح له قراءة الفاتحة في صلاته ؟ وجهان. الاصح: يحرم كما يحرم ما زاد عليها قطعا، ويأتي بالتسبيح الذي يأتي به من لا يحسن القراءة، لانه عاجز شرعا. قلت: الاصح (3) الذي قطع به جماهير العراقيين: أنه يجب عليه قراءة الفاتحة، لانه مضطر إليها. والله أعلم. ولو قرأ شيئا منه ولم يقصد القرآن، جاز، كقوله: بسم الله، والحمد لله، أو قال: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (4) * على قصد سنة الركوب. ولو جرى هذا على لسانه ولم يقصد قرآنا ولا ذكرا، جاز. ويحرم على الحائض والنفساء ما يحرم على الجنب من القراءة على المذهب، وأثبت جماعة من المحققين قولا قديما أنها لا تحرم. قلت: ولو كان فم غير الجنب والحائض نجسا، ففي تحريم القراءة عليه(1/197)
وجهان، الاصح يكره ولا يحرم. ولا تكره القراءة في الحمام. ويجوز للحائض والجنب قراءة ما يستحب تلاوته. والله أعلم. وأما اللبث في المسجد، فحرام على الجنب، ولا يحرم عليه العبور، لكن يكره إلا لغرض (1)، بأن يكون المسجد طريقه إلى مقصده، أو أقرب الطريقين إليه، وفي وجه: إنما يجوز العبور إذا لم يكن طريق سواه، وليس بشئ. ويحرم التردد في جوانبه، فإنه كالمكث. ويجوز المكث للضرورة، بأن نام في المسجد، فاحتلم ولم يمكن الخروج، لاغلاق الباب، أو خوف العسس، أو غيره على النفس، أو المال. ويجب أن يتيمم إن وجد غير تراب المسجد، ولا يتيمم بترابه (2). قلت: يجوز لغير الجنب (3) والحائض النوم في المسجد (4)، نص عليه الشافعي في (الام) والاصحاب رحمهم الله. ولو احتلم في مسجد له بابان، أحدهما أقرب، فالاولى أن يخرج منه، فإن عدل إلى آخر لغرض، لم يكره، وإن لم يكن غرض، لم يكره على الاصح. والله أعلم. فرع: فضل ماء الجنب والحائض طهور لا كراهة في استعماله. ويجوز للجنب أن يجامع، وأن ينام، ويأكل، ويشرب، لكن يسن أن لا يفعل شيئا من ذلك إلا بعد غسل فرجه والوضوء. قلت: قال أصحابنا: لا يستحب هذا الوضوء، و (كذا) غسل الفرض للحائض والنفساء، لانه لا يفيد، فإذا انقطع دمها، صارت كالجنب. والله أعلم. فصل في كيفية الغسل: أقله شيئان: أحدهما: النية، وهي واجبة، وتقدم ذكر فروعها في صفة الوضوء. ولا يجوز أن يتأخر عن أول الغسل المفروض، فإن اقترنت به، كفى، ولا ثواب له في(1/198)
السنن المتقدمة. وإن تقدمت على المفروض وعزبت قبله، فوجهان، كما في الوضوء، ثم إن نوى رفع الجنابة، أو رفع الحدث عن جميع البدن، أو نوت الحائض رفع حدث الحيض، صح الغسل (1). وإن نوى رفع الحدث، ولم يتعرض للجنابة ولا غيرها، صح غسله على الاصح (2)، ولو نوى رفع الحدث الاصغر متعمدا، لم يصح غسله على الاصح، وإن غلط، فظن حدثه الاصغر، لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء. وفي أعضاء الوضوء وجهان، أحدهما: لا يرتفع، وأصحهما: يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين، دون الرأس على الاصح، ولو نوى استباحة ما يتوقف عن الغسل، كالصلاة، والطواف، وقراءة القرآن، أجزأه. ولو نوت الحائض استباحة الوطئ، صح على الاصح. وإن نوى ما لا يستحب له الغسل، لم يصح. وإن نوى ما يستحب له، كالعبور في المسجد، والاذان، وغسل الجمعة، والعيد، لم يجزه على الاصح، كما سبق في الوضوء. ولو نوى الغسل المفروض، أو فريضة الغسل، أجزأه قطعا. الثاني: استيعاب جميع البدن بالغسل، ومن ذلك ما ظهر من صماخي الاذنين، والشقوق في البدن، وكذا ما تحت القلفة (3) من الاقلف، وما ظهر من أنف المجدوع على الاصح فيهما، وكذا ما يبدو، من الثيب إذا قعدت لقضاء الحاجة، على أصح الاوجه، وعلى الثاني: لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين، وعلى الثالث: يجب في غسل الحيض والنفاس خاصة، لازالة دمهما، ولا يجب ما وراء ما ذكرناه قطعا، ولا المضمضة، والاستنشاق. ويجب إيصال الماء (4) جميع الشعور التي (5) على البشرة، وإلى منابتها، وإن كثفت، ولا يجب غسل شعر نبت في(1/199)
العين، ويسامح ببطن العقد التي على الشعرات على الاصح، وعلى وجه، يجب قطعها. [ قلت: هذا الذي صححه، هو الذي صححه صاحب (البحر) والصحيح: أنه لا يعفى عنه، لانه يمكن قطعها بلا خلاف، وهو ظاهر نص الشافعي والجمهور، وقد أوضحته في شرح (المهذب). والله أعلم ] (1). ويجب نقض الظفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، ولا يجب إن وصل. أما أكمل الغسل فيحصل بأمور. الاول: أن يغسل ما على بدنه من أذى أولا، كالمني ونحوه من القذر الطاهر، وكذا النجس. وتقديم إزالة النجاسة شرط لصحة الغسل. فلو غسل غسلة واحدة بنية الحدث والنجس، طهر عن النجس. ولا يطهر عن الحدث على المذهب (2).(1/200)
قلت: الاصح أنه يطهر عن الحدث أيضا، وقد تقدم. والله أعلم. وإذا قلنا: الغسلة الواحدة تكفي عن الحدث والنجس، كان تقديم إزالة النجاسة من الكمال. وإن قلنا: لا يكفي، لم تكن الازالة من الكمال، ولا من الاركان، بل تكون شرطا، خلافا لكثير من أصحابنا، حيث قالوا: واجبات الغسل ثلاثة: غسل النجاسة إن كانت، والنية، والاستيعاب. الثاني: أن يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة. وتحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والاذن. وأيهما أفضل، قولان. المشهور أنه لا يؤخر. ثم إن تجردت الجنابة عن الحدث، فالوضوء مندوب. وإن اجتمعا، فقد قدمنا في آخر باب صفة الوضوء الخلاف في اندراجه في الغسل، فإن قلنا بالمذهب: أنه يندرج، فالوضوء مندوب، ويعد من سنن الغسل. وإن أوجبنا الوضوء، امتنع عده من سنن الغسل، فإنه لا صائر إلى أن (1) يأتي بوضوءين، بل يقتصر على وضوء. فإن شاء قدمه على الغسل، وإن شاء أخره. وعلى هذا لا بد من إفراد الوضوء بالنية. وإذا قلنا بالاندراج، لا يحتاج إلى إفراده بنية. قلت: المختار أنه إن تجردت الجنابة، نوى بوضوئه سنة الغسل، وإن اجتمعا، نوى به رفع الحدث الاصغر. والله أعلم. واعلم أنه يتصور تجرد الجنابة في صور. منها أن يولج في بهيمة أو دبر رجل. ومنها أن يلف على ذكره خرقة ويولجه، وإذا قلنا: إنه يجب الغسل. ومنها إذا أنزل المتوضئ المني بنظر، أو فكر، أو في النوم قاعدا. وأما جماع المرأة بلا حائل، فيقع به الحدثان على الصحيح، وقيل: تقتضي الجنابة فقط، ويكون اللمس مغمورا.(1/201)
الثالث: أن تتعهد مواضع الانعطاف، والالتواء، كالاذنين، وغضون البطن، ومنابت الشعر. ويخلل أصول الشعر بالماء قبل إفاضته. الرابع: يفيض الماء على رأسه، ثم على شقه الايمن، ثم الايسر، ويكون غسل جميع البدن ثلاثا، كالوضوء، فإن اغتسل في نهر ونحوه، انغمس ثلاث مرات، ويدلك في كل مرة ما يصل يده. ولا يستحب تجديد الغسل على الصحيح. الخامس: إذا اغتسلت عن حيض، أو نفاس، يسن لها أن تأخذ طيبا وتجعله في قطنة، أو نحوها، وتدخلها فرجها (1)، والمسك أولى من غيره. فإن لم تجده، فطيبا آخر، فإن لم تجد، فطينا، فإن لم تفعل، فالماء كاف (2). السادس: ماء الوضوء والغسل غير مقدر، ويستحب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وماء الغسل عن صاع تقريبا. قلت: الاصح المد هنا: رطل وثلث بالبغدادي على المذهب. وقيل: رطلان. والصاع أربعة أمداد. والله أعلم. السابع: يستحب أن يستصحب النية إلى آخر الغسل، وأن لا يغتسل في الماء الراكد، وأن يقول بعد الفراغ: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) وقد تقدم في باب صفة الوضوء سنن كثيرة تدخل هنا. قلت: لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة (3). ويجوز في الخلوة(1/202)
مكشوفها، والستر أفضل. ولو ترك المغتسل المضمضة والاستنشاق، أو الوضوء، قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: فقد أساء، ويستحب أن يتدارك ذلك، ولا يجب ترتيب في أعضاء المغتسل، لكن يستحب البداءة بأعضاء الوضوء ثم بالرأس وأعالي البدن. ولو أحدث في أثناء غسله، جاز أن يتمه، ولا يمنع الحدث صحته، لكن لا يصلي حتى يتوضأ (1). ويجوز الغسل من إنزال المني قبل البول، والافضل بعده لئلا يخرج بعده مني. ولا يجب غسل داخل العين، وحكم استحبابه على ما سبق في الوضوء. ولو غسل بدنه إلا شعرة أو شعرات ثم نتفها، قال الماوردي: إن كان الماء وصل أصلها، أجزأه، وإلا لزمه إيصاله إليه. وفي فتاوى ابن الصباغ: يجب غسل ما ظهر، وهو الاصح. وفي (البيان) وجهان (2). أحدهما: يجب. والثاني: لا لفوات ما يجب غسله، كمن توضأ وترك رجله فقطعت. والله أعلم.(1/203)
كتاب التيمم (1)
وفيه ثلاثة أبواب.
الاول: فيما يبيحه. وإنما يباح بالعجز عن استعمال الماء بتعذره، أو بعسره، لخوف ضرر ظاهر. وأسباب العجز سبعة. أحدها: فقد الماء. وللمسافر فيه أربعة أحوال. أحدها: أن يتيقن عدم الماء حوله، كبعض رمال البوادي، فيتيمم ولا يحتاج إلى طلب الماء على الاصح (2). الثاني: أن يجوز وجوده تجويزا بعيدا، أو قريبا، فيجب تقديم الطلب قطعا. ويشترط في الطلب أن يكون بعد دخول وقت الصلاة (3). وله أن يطلب بنفسه،(1/205)
ويكفيه طلب من أذن له على الصحيح (1)، ولا يكفيه طلب من لم يأذن له قطعا (2). والطلب: أن يفتش رحله، فإذا لم يجد، نظر يمينا، وشمالا، وقداما، وخلفا، إن استوى موضعه، ويخص مواضع الخضرة، واجتماع الطير بمزيد احتياط. وإن لم يستو الموضع، نظر، إن خاف على نفسه، أو ماله، لو تردد، لم يجب التردد، وإن لم يخف، وجب التردد إلى حد يلحقه غوث الرفاق مع ما هم عليه من التشاغل بشغلهم، والتفاوض في أقوالهم. ويختلف ذلك باستواء الارض واختلافها صعودا وهبوطا، فإن كان معه رفقة، وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم، أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة في الاصح. وفي وجه: إلى أن يبقى ما يسع ركعة. وفي وجه: يستوعبهم وإن خرج الوقت (3). قلت: قال أصحابنا: ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء ؟ من يجود بالماء ؟ ونحوه. حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة، لم يطلب من كل واحد بعينه، ولو بعث النازلون ثقة يطلب لهم، كفاهم كلهم. والله أعلم. ومتى عرف معهم ماء، وجب استيهابه على الاصح. هذا كله إذا لم يسبق منه تيمم وطلب. فإن سبق، نظر، إن جرى أمر يحتمل بسببه حصول ماء، بأن انتقل من موضعه، أو طلع ركب، أو سحابة، وجب الطلب أيضا. لكن كل موضع تيقن بالطلب الاول (4) أن لا ماء فيه، ولم يحتمل حدوثه فيه، لم يجب الطلب منه على(1/206)
المذهب. وإن لم يجر الامر المذكور، نظر، فإن كان تيقن عدم الماء، لم يجب على الاصح، وإن كان ظنه، وجب على الاصح، لكنه أخف طلبا من الاول. وسواء في هذا كله تخلل بين التيممين زمن طويل، أو قصير، أو لم يتخلل. الحالة الثالثة: أن يتيقن وجود الماء حواليه. وله ثلاث مراتب. الاولى: أن يكون على مسافة ينتشر إليها النازلون للحطب والحشيش والرعي، فيجب السعي إليه (1)، ولا يجوز التيمم. وهذا فوق حد الغوث الذي يقصده عند التوهم. قال محمد بن يحيى: لعله يقرب من نصف فرسخ. المرتبة الثانية: أن يكون بعيدا، بحيث لو سعى إليه فاته فرض الوقت، فيتيمم على المذهب، بخلاف ما لو (2) كان واجدا للماء، وخاف فوت الوقت لو توضأ، فإنه لا يجوز التيمم على المذهب. وفي (التهذيب) وجه شاذ: أنه يتيمم ويصلي في الوقت، ثم يتوضأ ويعيد، وليس بشئ. ثم الاشبه بكلام الائمة، أن الاعتبار في هذه المسافة من أول وقت الصلاة الحاضرة لو كان نازلا في ذلك الموضع. ولا بأس باختلاف المواقيت في الطول والقصر، ولا باختلاف المسافة في السهولة والصعوبة. فإن كان التيمم لفائتة أو نافلة، اعتبر بوقت الفريضة الحاضرة، وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت، والماء في حد القرب، وجب قصده والوضوء وإن فات الوقت، كما لو كان الماء في رحله، فإنه يتوضأ وإن فات الوقت. قلت: هذ الذي ذكره الامام الرافعي، ونقله عن مقتضى كلام الاصحاب، من اعتبار أول الوقت، ليس كما قاله، بل الظاهر من عباراتهم، أن الاعتبار بوقت الطلب. هذا هو المفهوم من [ عباراتهم في ] (3) كتبهم المشهورة والمهجورة، وهو(1/207)
ظاهر نص الشافعي رحمه الله في (الام) وغيره، فإن عبارته وعبارتهم: وإن دل على ماء، ولم يخف فوت الوقت، ولا ضررا، لزمه طلبه. هذا نصه ونصهم، وهو صريح، أو كالصريح فيما قلته، وقد تتبعت ذلك وأتقنته. والله أعلم. المرتبة الثالثة: أن يكون بين المرتبتين، فيزيد على ما ينتشر إليه النازلون، ويقصر عن خروج الوقت. فهل يجب قصده، أم يجوز التيمم ؟ نص الشافعي رحمه الله، أنه إن كان على يمين المنزل أو يساره، وجب. وإن كان صوب مقصده، لم يجب، فقيل بظاهر النصين، وقيل: فيهما قولان. والمذهب جواز التيمم وإن علم وصوله إلى الماء في آخر الوقت. وإذا جاز ذلك للسائر إلى جهة الماء، فالنازل الذي عن يمينه أو يساره أولى. والسائر وهو على يمينه أو يساره أولى، هذا في المسافر. أما المقيم، فلا يجوز له التيمم وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء، لانه لا بد له من القضاء. ثم إذا قلنا في المسافر بالمذهب: وهو جواز التيمم مطلقا، فإن تيقن وجود الماء آخر الوقت، فالافضل تأخير الصلاة ليؤديها بالوضوء. وفي (التتمة) وجه شاذ: أن تقديمها بالتيمم أفضل، لفضيلة أول الوقت. وإن لم يتيقن الماء، ولكن رجا، فقولان. أظهرهما: التقديم أفضل. وموضع القولين إذا اقتصر على صلاة واحدة. أما إذا صلى بالتيمم أول الوقت، وبالوضوء مرة أخرى آخره، فهو النهاية في إحراز الفضيلة (1). وإن ظن عدم الماء، أو تساوى احتمال وجوده وعدمه، فالتقديم أفضل قطعا. وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين، فيما إذا لم يظن الوجود. ولا وثوق بهذا النقل. قلت: قد صرح الشيخ أبو حامد، وصاحب (الحاوي) و (المحاملي) وآخرون بجريان القولين فيما إذا تساوى الاحتمال. والله أعلم. أما تعجيل المتوضئ وغيره الصلاة في أول الوقت منفردا، وتأخيرها لانتظار(1/208)
الجماعة، ففيه ثلاثة طرق. قيل: التقديم أفضل، وقيل: التأخير، وقيل: وجهان. قلت: قطع معظم العراقيين، بأن التأخير للجماعة أفضل. ومعظم الخراسانيين، بأن التقديم منفردا أفضل. وقال جماعة: هو كالتيمم. فإن تيقن الجماعة آخر الوقت، فالتأخير أفضل. وإن ظن عدمها، فالتقديم أفضل. وإن رجاها، فقولان. وينبغي أن يتوسط فيقال: إن فحش التأخير، فالتقديم أفضل. وإن خف، فالتأخير أفضل. وموضع الخلاف، إذا اقتصر على صلاة. فأما إذا صلى أول الوقت منفردا، وآخره مع الجماعة، فهو النهاية في الفضيلة، وقد جاء به الحديث، في صحيح مسلم) (1) وغيره. قال صاحب (البيان): قال أصحابنا: والقولان في التيمم، يجريان في مريض عجز عن القيام، ورجاه آخر الوقت، أو رجا العريان السترة آخره، هل الافضل تقديم الصلاة على حالهما، أم التأخير ؟ قال: ولا يترك الترخص بالقصر في السفر. وإن علم إقامته آخر الوقت بلا خلاف. قال: قال صاحب (الفروع): إن خاف فوت الجماعة، لو أكمل الوضوء، فإدراكها أولى من الانحباس، لاكماله. وفي هذا نظر. والله أعلم. الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضرا، بأن يزدحم مسافرون على بئر لا يمكن أن يستقي منها إلا واحد بعد واحد، لضيق الموقف، أو اتحاد الآلة، فإن توقع حصول نوبته قبل خروج الوقت، لم يجز التيمم. وإن علم أنها لا تحصل إلا بعد الوقت، فنص الشافعي رحمه الله، أنه يجب الصبر ليتوضأ. ونص في عراة معهم ثوب واحد يتناوبونه، أنه يصبر ليستر عورته، ويصلي بعد الوقت. ونص في جماعة في موضع ضيق لا يمكن أن يصلي فيه قائما إلا واحد، أنه يصلي في الوقت(1/209)
قاعدا، إذا علم أن نوبته لا تحصل إلا بعد الوقت. وهذا يخالف النصين في المسألتين السابقتين، فالاصح ما قاله أبو زيد وغيره: أن في الجميع قولين. أحدهما: يصلي في الوقت بالتيمم، وعاريا، وقاعدا، لحرمة الوقت. والثاني: يصبر، للقدرة. والطريق الثاني: تقرير النصين، فيصبر للوضوء واللبس، دون القيام، لسهولة أمره. وقال كثيرون: لا نص في مسألة البئر، ونص في الاخريين على ما سبق، وألحقوا الوضوء بالقيام لحصول بدلهما. فقالوا: يتيمم في الوقت ويصلي. وأجرى إمام الحرمين، والغزالي، هذا الخلاف فيما إذا لاح للمسافر الماء، ولا عائق دونه، ولكن ضاق الوقت، وعلم أنه لو اشتغل به، فاته الوقت. وهذا يقتضي إثبات الخلاف في المرتبة الثانية، من الحالة الثالثة، وقد أشرنا إليه هناك. قلت: الاصح من الطريقين، إجراء القولين في الجميع. وأظهرهما: يصلي في الوقت بالتيمم، وعاريا، وقاعدا، ولا إعادة على المذهب. وفي (التهذيب) في وجوب الاعادة، قولان. والله أعلم. فرع (1): إذا وجد الجنب، أو المحدث، ما لا يكفيه لطهارته، وجب استعماله على الاظهر، ثم يجب التيمم بعده للباقي، فيغسل المحدث وجهه، ثم يديه على الترتيب، ويغسل الجنب من جسده ما شاء. والاولى: أعضاء الوضوء. فإن كان محدثا جنبا، ووجد ما يكفي الوضوء وحده، فإن قلنا بالمذهب: أنه يدخل الاصغر في الاكبر، فهو كالجنب المحض. وإن قلنا: لا يدخل، توضأ به عن الاصغر، وتيمم عن الجنابة، يقدم أيهما شاء. هذا كله إذا صلح الموجود للغسل، فإن لم يجد المحدث إلا ثلجا، أو بردا لا يقدر على إذابته، لم يجب استعماله على المذهب. وقيل: فيه القولان. فإن أوجبنا، تيمم عن الوجه واليدين، ثم مسح به الرأس، ثم تيمم للرجلين. هذا كله إذا وجد ترابا. فإن لم يجده، وجب استعمال الناقص على المذهب. وقيل: فيه القولان. قلت: ولو لم يجد إلا ترابا لا يكفيه للوجه واليدين، وجب استعماله على(1/210)
المذهب. وقيل: فيه القولان. ولو لم يجد ماء، ووجد ما يشتري به بعض ما يكفيه من الماء، ففي وجوبه القولان. فإن لم يجد ماء، ولا ترابا، ففي وجوب شراء بعض ما يكفي من الماء، الطريقان. ولو تيمم، ثم رأى ما لا يكفيه، فإن احتمل عنده أنه يكفيه، بطل تيممه، وإن علم بمجرد رؤيته، أنه لا يكفيه، فعلى القولين في استعماله. إن أوجبناه، بطل. وإلا، فلا. ولو كان عليه نجاسات، ووجد ما يغسل بعضها، وجب على المذهب، ولو كان جنبا، أو محدثا، أو حائضا، وعلى بدنه نجاسة، ووجد ما يكفي أحدهما، تعين للنجاسة، فيغسلها ثم يتيمم. فلو تيمم ثم غسلها، جاز على الاصح (1)، وبقيت لهذه المسألة فروع، استقصيتها في شرحي (المهذب) و (التنبيه). والله أعلم. فصل (2): إذا كان معه ماء يصلح لطهارته، فأتلفه بإراقة، أو شرب، أو تنجيس، تيمم قطعا. ثم إن كان الاتلاف قبل الوقت مطلقا، أو بعده لغرض، كشرب للحاجة، أو غسل ثوب للنظافة، أو تبرد، أو اشتبه الاناآن واجتهد، ولم يظهر له شئ، فأراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، فلا إعادة عليه. وإن كان بعد الوقت لغير غرض، فلا إعادة أيضا، على الاصح، لفقده. وقيل: يجب لعصيانه قطعا. ولو اجتاز بماء في الوقت، فلم يتوضأ، فلما بعد منه، صلى بالتيمم، لم يعد على المذهب. وقيل: فيه الوجهان. وهو شاذ. ولو وهب الماء في الوقت، أو باعه من غير حاجة للمتهب والمشتري، كعطش ونحوه، ولا حاجة للبائع إلى ثمنه، ففي صحة البيع والهبة، وجهان. الاصح: لا يصحان. فإن صح، فحكمه في القضاء، حكم الاراقة. وإن لم يصح، لم يصح تيممه، ما دام الماء في يد المبتاع والموهوب له، وعليه الاسترداد. فإن لم يقدر وتيمم، وجب القضاء. وإن أتلف في يده، فهو كالاراقة. ثم في المقضي في الصور، ثلاثة(1/211)
أوجه. الاصح: تقضى الصلاة التي فوت الماء في وقتها. والثاني: تقضى أغلب ما يؤديه بوضوء واحد. والثالث: تقضى كل صلاة صلاها بالتيمم. قلت: وإذا وجب القضاء، لا يصح في الوقت بالتيمم، بل يؤخره إلى وجود الماء، أو حالة يسقط الفرض فيها بالتيمم. قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يصح هبة هذا الماء، وتلف في يد الموهوب له، فلا ضمان عليه على المذهب (1). والله أعلم. السبب الثاني: الخوف على نفسه، أو ماله، فإذا كان بقربه ما يخاف من قصده على نفسه، أو عضوه، من سبع، أو عدو. أو على ماله الذي معه، أو المخلف في رحله، من غاصب، أو سارق. أو كان في سفينة، وخاف لو استقى من البحر، فله التيمم. ولو خاف من قصده الانقطاع عن رفقته، تيمم إن كان عليه منه ضرر، وكذا إن لم يكن ضرر على الاصح. ولو وهب الماء لخادمه، وجب قبوله على الصحيح. ولو أعير الدلو والرشاء، وجب قبوله قطعا. وقيل: إن زادت قيمة المستعار على ثمن الماء، لم يجب قبوله. ولو أقرض الماء، وجب قبوله على الصحيح. ولو وهب له أجنبي ثمن الماء، أو آلة الاستقاء، لم يجب قبوله. وكذا لو وهبه الاب، أو الابن، على الصحيح. ولو أقرض ثمن الماء وهو معسر، لم يجب قبوله. وكذا إن كان موسرا بمال غائب على الاصح. ولو بيع الماء بنسيئة وهو معسر، لم يجب قبوله. وإن كان موسرا، وجب على الصحيح. قلت: وصورة المسألة، أن يكون الاجل ممتدا إلى أن يصل إلى بلد ماله. والله أعلم. ولو وجد ثمن الماء، واحتاج إليه لدين مستغرق، أو نفقة حيوان محترم معه، أو لمؤنة من مؤن سفره، في ذهابه وإيابه، لم يجب شراؤه. وإن فضل عن هذا(1/212)
كله، وجب الشراء إن بيع بثمن المثل، ويصرف إليه أي نوع كان معه من المال. وإن بيع بزيادة، لم يجب الشراء وإن قلت الزيادة. وقيل: إن كانت مما يتغابن بمثلها، وجب، وهو ضعيف. ولو (1) بيع نسيئة، وزيد بسبب الاجل ما يليق به، فهو ثمن مثله على الصحيح. وفي ضبط ثمن المثل أوجه. الاصح: أنه ثمنه في ذلك الموضع وتلك الحالة. والثاني: ثمن مثله في ذلك الموضع، في غالب الاوقات. والثالث: أنه قدر أجرة نقله إلى ذلك الموضع، وهو ضعيف. ولم يتقدم الغزالي أحد باختياره إياه. ولو بيع آلة الاستقاء، أو أجرها بثمن المثل وأجرته، وجب القبول. فإن زاد، لم يجب. كذا قاله الاصحاب. ولو قيل: يجب التحصيل ما لم يجاوز الزيادة ثمن مثل الماء، لكان حسنا. ولو لم يجد إلا ثوبا وقدر على شده في الدلو ليستقي، لزمه ذلك. فلو لم يكن دلو وأمكن إدلاؤه في البئر ليبتل، ويعصر ما يوضئه، لزمه، فلو لم يصل الماء وأمكن شقه، وشد بعضه ببعض، لزمه. هذا كله إذا لم يحصل في الثوب نقص يزيد على أكثر الامرين: ثمن الماء، وأجرة الحبل. السبب الثالث: الحاجة إلى الماء، لعطش ونحوه. فيه مسائل. أحدها: إذا وجد ماء واحتاج إليه لعطشه، أو عطش رفيقه، أو حيوان محترم في الحال، أو في المآل بعوض، أو بغيره، جاز التيمم (2). وذكر إمام الحرمين، والغزالي: ترددا في التزود لعطش رفيقه. والمذهب: القطع بجوازه. وضبط الحاجة يقاس بما سيأتي في (المرض المبيح) إن شاء الله تعالى. وللعطشان أن يأخذه من صاحبه قهرا (3)، إذا لم يبذله. وغير المحترم من الحيوان، هو الحربي، والمرتد، والخنزير، والكلب العقور، وسائر الفواسق الخمس، وما في معناها. ولا يكلف أن يتوضأ بالماء، ثم(1/213)
يجمعه ويشربه على المذهب. قال أبو علي الزجاجي (1) - بضم الزاي - والماوردي وآخرون: من كان معه ماءان: طاهر، ونجس، وعطش، توضأ بالطاهر، وشرب النجس. قلت: ذكر الشاشي كلام الماوردي هذا، ثم أنكره، واختار: أنه يشرب الطاهر ويتيمم، وهذا هو الصحيح، وهذا الخلاف فيما بعد دخول الوقت، أما قبله، فيشرب الطاهر بلا خلاف. صرح به الماوردي وغيره. قال المتولي: ولو كان يرجو وجود الماء في غده ولا يتحققه، فهل له التزود (2) ؟ وجهان. الاصح: جوازه. والله أعلم. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: إذا مات رجل له ماء ورفقته عطاش، شربوه ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه. وصورة المسألة: أنهم رجعوا إلى البلد، وأراد بالثمن القيمة، موضع الاتلاف ووقته. وقيل: أراد مثل القيمة (3). الثالثة: إذا أوصى، أو وكل بصرف ماء إلى أولى الناس به، فحضر ميت، وجنب، وحائض، ومن على بدنه نجاسة، ومحدث، فالميت وصاحب النجاسة أولاهم، والميت أولاهما على الاصح. فلو كان على الميت أيضا نجاسة، فهو أولى قطعا. ولا يشترط لاستحقاق الميت قبول وارث، كما لو تطوع انسان بكفنه، وفيه وجه شاذ: أنه يشترط. ولو مات اثنان، أحدهما قبل الآخر، وكان قبل موتهما ماء يكفي أحدهما، فالاول أولى. فإن ماتا معا، أو وجد الماء بعد موتهما، فأفضلهما أولى، فإن استويا أقرع بينهما. أما إذا اجتمع الجنب والحائض، فثلاثة أوجه.(1/214)
الاصح: الحائض أولى. والثاني: الجنب. والثالث: سواء. فعلى هذا، إن طلب أحدهما القسمة، والآخر القرعة، فإن لم نوجب استعمال الناقص، أقرع. وإن أوجبناه، أقرع على الاصح. وعلى الثاني: يقسم. وإن اتفقا على القسمة، جاز إن أوجبنا استعمال الناقص، وإلا فلا. ولو اجتمع جنب ومحدث، فإن كان الماء يكفي للوضوء دون الغسل، فالمحدث أولى إن لم نوجب استعمال الناقص، وإن أوجبناه، فأوجه. الاصح: المحدث أولى. والثاني: الجنب. والثالث: سواء. وإن لم يكف واحدا منهما، فالجنب أولى إن أوجبنا استعماله، وإلا فهو كالمعدوم. وإن كفى وفضل عن الوضوء شئ دون الغسل، فالجنب أولى إن لم نوجب استعمال الناقص، وإن أوجبناه. فعلى الاوجه الثلاثة. أصحها: الجنب أولى. ولو (1) فضل عن كل واحد، أو لم يفضل عن واحد، أو كفى الجنب دون المحدث، فالجنب أولى قطعا. ولو انتهى هؤلاء المحتاجون إلى ماء مباح، واستووا في إحرازه وإثبات اليد عليه، ملكوه بالسوية، ولا يجوز لاحد أن يبذل نصيبه لغيره، وإن كان أحوج منه وإن كان ناقصا، إلا إذا قلنا: لا يجب استعمال الناقص. كذا قاله إمام الحرمين، والغزالي. وقال أكثر الاصحاب: إن المستحب تقديم الاحوج فالاحوج كالوصية، ولا منافاة بين الكلامين. وأراد الاصحاب: أن المستحب تقديم الاحوج، وأنهم لو تنازعوا، كان كما قاله إمام الحرمين. ويمكن أن ينازعهم في الاستحباب ويقول: لا يجوز العدول عن ماء يتمكن منه للطهارة (2).(1/215)
السبب الرابع: العجز بسبب الجهل، هذا قد جعله الغزالي سببا. ولقائل أن يقول: ليس هو سببا، فإن السبب هو ظن العدم، وذلك موجود. وأما قضاء الصلاة، فأمر آخر. واللائق ذكره في آخر سبب الفقد، أو فيما يقضى من الصلوات. قلت: بل له هنا وجه ظاهر، فإن من جملة صوره، إذا أضل راحلته أو ماءه، فهذا من وجه كالواجد، فيتوهم أنه لا يجوز له التيمم، ومن وجه عادم، فلهذا ذكره الغزالي في (الاسباب المبيحة) للاقدام على التيمم. والله أعلم. وفيه مسائل: الاولى: لو نسي الماء في رحله، أو علم موضع نزوله بئرا، فنسيها، وصلى بالتيمم، فطريقان. أحدهما: تجب الاعادة قطعا. وأصحهما: على القولين. الجديد المشهور وجوبها، كنسيان عضو الطهارة، وساتر العورة. ولو نسي ثمن الماء، فكنسيان الماء. وقيل: يحتمل غيره. الثانية: لو أدرج في رحله ماء لم يعلم به، فتيمم وصلى، ثم علم، أو تيمم، ثم علم بقربه بئرا لم يكن علمها، فطريقان. أحدهما: لا إعادة. وأصحهما على قولين. أظهرهما: لا إعادة (1). الثالثة: لو أضل الماء في رحله، وصلى بالتيمم، إن لم يمعن في الطلب، وجبت الاعادة. وإن أمعن حتى ظن العدم، وجبت أيضا على الاظهر. وقيل: الاصح (2).(1/216)
الرابعة: أضل رحله في الرحال، إن لم يمعن في الطلب، أعاد، وإن أمعن، فالمذهب أنه لا إعادة. وقيل: قولان. وقيل: وجهان. وقيل: إن وجده قريبا، أعاد، وإلا، فلا. السبب الخامس: المرض، وهو ثلاثة أقسام. الاول: ما يخاف معه من الوضوء فوت الروح، أو فوت عضو، أو منفعة عضو، فبيح التيمم. ولو خاف مرضا مخوفا، تيمم على المذهب. الثاني: أن يخاف زيادة العلة، وهو كثرة ألم، وإن لم تزد المدة، أو يخاف بطء البرء، وهو طول مدة المرض. وإن لم يزد الالم، أو يخاف شدة الضنا، وهو المرض المدنف الذي يجعله زمنا، أو يخاف حصول شين قبيح، كالسواد على عضو ظاهر، كالوجه وغيره، مما يبدو في حال المهنة، ففي الجميع ثلاث طرق. أصحها: في المسألة قولان. أظهرهما: جواز التيمم. والثاني: لا يجوز قطعا. والثالث: يجوز قطعا. الثالث: أن يخاف شيئا يسيرا، كأثر الجدري، وسواد قليل. أو شينا قبيحا على غير الاعضاء الظاهرة (1)، أو يكون به مرض لا يخاف من استعمال الماء معه محذورا في العاقبة. وإن كان يتألم في الحال بجراحة، أو برد، أو حر، فلا يجوز التيمم لشئ من هذا بلا خلاف. فرع يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصا. على معرفة نفسه إن كان عارفا. ويجوز اعتماد طبيب حاذق، بشرط الاسلام (2)، والبلوغ، والعدالة،(1/217)
ويعتمد العبد والمرأة. ولنا وجه شاذ: أنه يعتمد الصبي المراهق، أو الفاسق. ووجه شاذ: أنه لا بد من طبيبين. فرع: إذا عمت العلة أعضاء الطهارة، اقتصر على التيمم. وإن كانت في البعض، غسل الصحيح. وفي العليل، كلام مذكور في (الجريح). قلت: وإذا لم يوجد طبيب بشرطه. قال أبو علي السبخي: لا يتيمم (1). ولا فرق في هذا السبب، بين الحاضر، والمسافر، والحدث الاصغر، والاكبر، ولا إعادة فيه. والله أعلم. السبب السادس: إلقاء الجبيرة. وهي تكون لكسر، أو انخلاع. فتارة (2) يحتاج إلى الجبيرة على الكسر أو الانخلاع، وتارة لا يحتاج، ويعتبر في الحاجة ما تقدم في المرض. فالحالة الاولى: إذا احتاج، ووضع الجبيرة، فإما أن يقدر على نزعها عند الطهارة من غير ضرر من الامور المتقدمة في المرض، وإما أن لا يقدر، فإن لم يقدر، لم يكلف النزع. ويراعي في طهارته أمورا. الاول: غسل الصحيح. وهو واجب على المذهب. وقيل: قولان. فعلى المذهب: يجب غسل ما يمكن حتى ما تحت أطراف الجبيرة من الصحيح، بأن يضع خرقة مبلولة عليها، ويعصرها لتغسل تلك المواضع بالمتقاطر (3). الثاني: مسح الجبيرة بالماء، وهو واجب على الصحيح المشهور. وحكي قول ووجه: أنه لا يجب، بل يكفي الغسل مع التيمم. فعلى الصحيح: إن كان جنبا، مسح متى شاء، وإن كان محدثا، مسح إذا وصل إلى غسل العضو الذي عليه الجبيرة. ويجب استيعاب الجبيرة بالمسح على الاصح، كالوجه في التيمم. وعلى(1/218)
الثاني: يكفي ما يقع عليه الاسم: كمسح الرأس، والخف، ولا تتقدر مدة المسح على الصحيح. وعلى الثاني: تتقدر ثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للحاضر. والخلاف فيما إذا تأتى النزع بعد المدة المقدرة بلا ضرر. فإن حصل ضرر، لم يجب قطعا. وإن تأتى في كل طهارة، وجب (1) قطعا. الثالث: التيمم في الوجه واليدين. ففيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: يجب. والثاني: لا. والطريق الثاني: إن كان ما تحت الجبيرة عليلا، بحيث لا يجب غسله لو ظهر، لم يجب التيمم، وإلا وجب. وإذا وجب، فلو كانت الجبيرة على موضع التيمم، لم يجب مسحها بالتراب على الاصح. ثم إن كان جنبا، فالاصح أنه مخير، إن شاء قدم غسل الصحيح على التيمم، وإن شاء أخره (2). وعلى الثاني: يتعين تقديم الغسل. وإن كان محدثا، فثلاثة أوجه. هذان الوجهان في الجنب. والثالث: وهو الصحيح (3)، أنه لا ينتقل من عضو حتى يتم طهارته. فعلى هذا، إن كانت الجبيرة على الوجه، وجب تقديم التيمم على غسل اليدين. فإن شاء غسل صحيح الوجه، ثم تيمم عن عليله، وإن شاء عكس. وإن كانت على اليدين، وجب تقديم التيمم على مسح الرأس، وتأخيره عن غسل الوجه. ولو كان على عضوين أو ثلاثة جبائر، تعدد التيمم. فإن كانت على الوجه جبيرة، وعلى اليد جبيرة، غسل صحيح، الوجه، وتيمم عن عليله. ثم اليد كذلك. وعلى الوجه الاول والثاني، يكفي تيمم واحد وإن تعددت الجبائر. قلت: ولو عمت الجراحات أعضاءه الاربعة. قال القاضي أبو الطيب والاصحاب: يكفيه تيمم واحد عن الجميع، لانه سقط الترتيب لسقوط الغسل. قالوا: ولو عمت الرأس، ولم تعم الاعضاء الثلاثة، وجب غسل صحيح الاعضاء، وأربع تيممات على ما ذكرنا. قال صاحب (البحر): فإذا تيمم في هذه الصورة أربع تيممات، وصلى، ثم حضرت فريضة أخرى، أعاد التيممات الاربعة، ولا يلزمه غسل صحيح الوجه، ويعيد ما بعده. وهذا الذي ذكره في الغسل، فيه خلاف(1/219)
سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى. قال صاحب (البيان): وإذا كانت الجراحة في يديه، استحب أن تجعل كل يد كعضو، فيغسل وجهه، ثم صحيح اليمنى، وتيمم عن جريحها، ثم يطهر اليسرى غسلا وتيمما، وكذا الرجلان. وهذا حسن، لان تقديم اليمنى سنة، فإذا اقتصر على تيمم، فقد طهرهما دفعة. والله أعلم. ثم ما ذكرناه الامور الثلاثة، إنما يكفي بشرطين. أحدهما: أن لاد يأخذ تحت الجبيرة من الصحيح، إلا ما لا بد منه للاستمساك. والثاني: أن يضعها على طهر. وفي وجه: لا يشترط الوضع على طهر، والصحيح اشتراطه. فيجب النزع، واستئناف الوضع على طهر إن أمكن، وإلا فيترك، ويجب القضاء بعد البرء على المذهب، بخلاف الوضع على طهر على الاظهر، هذا كله إذا لم يقدر على نزع الجبيرة عند الطهر، فإن قدر بلا ضرر، وجب النزع، وغسل الصحيح إن أمكن، ومسحه بالتيمم إن كان في موضع التيمم ولم يمكن غسله. الحالة الثانية: أن لا يحتاج إلى الجبيرة، ويخاف من إيصال الماء، فيغسل الصحيح بقدر الامكان، ويتلطف بوضع خرقة مبلولة، ويتحامل عليها، ليغسل بالمتقاطر باقي الصحيح. ويلزمه ذلك بنفسه، أو بأجرة، كالاقطع. وفي افتقاره إلى التيمم الخلاف السابق في الحالة الاولى. ولا يجب مسح موضع العلة بالماء وإن كان لا يخاف منه. كذا قاله الاصحاب. وللشافعي رضي الله عنه: نص سياقه يقتضي الوجوب. وإذا أوجبنا التيمم، والعلة في محل التيمم، أمر التراب عليه. وكذا لو كان للجراحة أفواه منفتحة، وأمكن إمرار التراب عليها، وجب. قلت: هذا الذي ذكره الرافعي من ثبوت خلاف في وجوب التيمم، غلط. ولم أره لاحد من أصحابنا، فكأنه (1) اشتبه عليه. فالصواب: الجزم بوجوب التيمم في هذه الصورة، لئلا يبقى موضع الكسر بلا طهارة. والله أعلم. السبب السابع: الجراحة. اعلم أن الجراحة قد تحتاج إلى لصوق، من خرقة، وقطنة، ونحوهما، فيكون لها حكم الجبيرة في كل ما سبق. وقد لا(1/220)
تحتاج، فيجب غسل الصحيح، والتيمم عن الجريح. ولا يجب مسح الجريح بالماء، ولا يجب وضع اللصوق، أو الجبيرة عليه، ليمسح عليها على الصحيح. وقول الجمهور: وأوجبه الشيخ أبو محمد. ويقرب منه من هو متطهر وأرهقه حدث، ومعه ماء يكفيه لما عدا رجليه، ومعه خف، فالصحيح الذي عليه الاصحاب، أنه لا يلزمه لبس الخف. وفيه احتمال لامام الحرمين. فرع: إذا غسل الصحيح، وتيمم لمرض، أو كسر، أو جرح، مع المسح على حائل، أو دونه إذا لم يكن، وصلى فريضة بطهارته، فله أن يصلي بها ما شاء من النوافل، ولا بد من إعادة التيمم للفريضة الاخرى. وهل يجب إعادة الوضوء إن كان محدثا، أو الغسل إن كان جنبا ؟ فيه طريقان. أصحهما: لا يجب. والثاني: على قولين. فإن قلنا بالاصح، فليس على الجنب غير التيمم إلى أن يحدث، وفي المحدث وجهان. أحدهما: كالجنب. وأصحهما: يجب أن يعيد مع التيمم كل عضو يجب ترتيبه على العضو المجروح. قلت: بل الاصح عند المحققين: أنه كالجنب. قال البغوي وغيره: وإذا كان جنبا، والجراحة في غير أعضاء الوضوء، فغسل الصحيح، وتيمم للجريح، ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة، لزمه الوضوء، ولا يلزمه التيمم، لان تيممه عن غير أعضاء الوضوء، فلا يؤثر فيه الحدث. ولو صلى فريضة، ثم أحدث، توضأ للنافلة، ولا يتيمم. وكذا حكم الفرائض كلها. والله أعلم. ولو تطهر العليل كما ذكرنا فبرأ، وهو على طهارته، غسل موضع العذر، جنبا كان أو محدثا، ويغسل المحدث ما بعد العليل بلا خلاف. وفي استئنافهما الوضوء والغسل، القولان في نازع الخف. ولو تحقق البرء بعد الطهارة، بطل تيممه، ووجب غسل الموضع. وحكم الاستئناف ما ذكرنا. ولو توهم الاندمال، فرفع اللصوق، فرآه لم يندمل، لم يبطل تيممه على الاصح، بخلاف توهم وجود الماء، فإنه يبطل التيمم، لان توهم الماء يوجب طلبه. وتوهم الاندمال، لا يوجب البحث عنه. كذا قاله الاصحاب. وتوقف إمام الحرمين في قولهم: لا يجب البحث. وبالله التوفيق (1)(1/221)
الباب الثاني في كيفية التيمم له سبعة أركان. الركن الاول (1): التراب (2). وشرطه أن يكون طاهرا خالصا، غير مستعمل. فالتراب متعين، ويدخل فيه جميع أنواعه، من الاحمر، والاسود، والاصفر، والاغبر، وطين الدواة (3)، وطين الارمني الذي يؤكل تداويا وسفها. والبطحاء، وهو التراب الذي في مسيل الماء. والسبخ: الذي لا ينبت دون الذي يعلوه ملح. ولو ضرب يده على ثوب، أو جدار، ونحوهما، وارتفع غبار، كفى. والتراب الذي أخرجته الارضة من مدر، يجوز التيمم به، كالتراب المعجون بالخل إذا جف، يجوز التيمم به، ولا يصح التيمم بالنورة، والجص، والزرنيخ، وسائر المعادن، والذريرة، والاحجار المدقوقة، والقوارير المسحوقة، وشبهها. وقيل: يجوز في وجه بجميع ذلك وهو غلط، ولو أحرق التراب حتى صار رمادا، أو سحق الخزف، فصار ناعما، لم يجز التيمم به. ولو شوى الطين وسحقه، ففي التيمم به وجهان. وكذا لو أصاب التراب نار، فاسود، ولم يحترق، فعلى الوجهين. قلت: الاصح في الاولى، الجواز. والصحيح في الاخيرة (4) القطع بالجواز. والله أعلم. وأما الرمل، فالمذهب: أنه إن كان خشنا لا يرتفع منه غبار، لم يكف ضرب اليد عليه. وإن ارتفع، كفى. وقيل: قولان مطلقا (5). وأما كونه طاهرا، فلا بد(1/222)
منه، فلا يصح بنجس مطلقا. فإن كان على ظهر كلب تراب، فإن علم التصاقه برطوبة عليه، من ماء، أو عرق، أو غيره، لم يجز التيمم به. وإن علم انتفاء ذلك جاز، وإن لم يعلم واحد منهما، فعلى القولين في اجتماع الاصل والظاهر. قلت: كذا قاله جماعة من أصحابنا: فيما إذا لم يعلم، أنه على القولين، وهو مشكل، وينبغي أن يقطع بجواز التيمم به (1) عملا بالاصل، وليس هنا ظاهر يعارضه. والله أعلم. وأما كونه خالصا، فيخرج منه المشوب بزعفران، ودقيق، ونحوهما. وإن كثر المخالط، لم يجز بلا خلاف. وكذا إن قل على الصحيح. قال إمام الحرمين: الكثير: ما يظهر في التراب. والقليل: ما لا يظهر. ولم أر لغيره فيه ضبطا. ولو اعتبرت الاوصاف الثلاثة كما في الماء، لكان مسلكا (2). وأما كونه غير مستعمل، فلا بد منه على الصحيح. والمستعمل: ما لصق بالعضو. وكذا ما تناثر عنه، على الاصح. الركن الثاني: قصد التراب. فلا بد منه. فلو وقف في مهب ريح، فسفت عليه ترابا، فأمر يده عليه بنية التيمم، إن كان وقف بغير نية، لم يجزئه. وإن قصد تحصيل التراب، لم يجزئه أيضا، على الاصح، أو الاظهر. ولو يممه غيره. إن كان بغير إذنه، فكالوقوف في مهب الريح. وإن كان بإذنه لعذر، كقطع، وغيره، جاز. وإن كان بغير عذر، جاز أيضا على الصحيح. الركن الثالث: نقل التراب الممسوح به إلى العضو. فإن كان على الوجه تراب، فردده عليه، لم يجزئه. وإن نقله منه إلى اليد، أو من اليد إليه، أو أخذه من الوجه، ثم رده إليه، أو سفت الريح ترابا على كمه، فمسح به وجهه، أو أخذ التراب من الهواء، بإثارة الريح، جاز في كل ذلك على الاصح. وإن نقله من عضو غير أعضاء التيمم إليها، جاز بلا خلاف. وإن تمعك في التراب لعذر، جاز. وكذا لغير عذر على الاصح.(1/223)
الركن الرابع: النية. فلا بد منها، فإن نوى رفع الحدث، أو نوى الجنب رفع الجنابة، لم يصح تيممه على الصحيح. وإن نوى استباحة الصلاة، فله أربعة أحوال. أحدها: أن ينوي استباحة الفرض والنفل معا، فيستبيحهما، وله التنفل قبل الفريضة وبعدها، في الوقت وبعده، وفي وجه ضعيف: لا يتنفل بعد الوقت إن كانت الفريضة معينة. ولا يشترط تعيين الفريضة على الاصح. فعلى هذا لو نوى الفرض مطلقا، صلى أية فريضة شاء. ولو نوى معينة، فله أن يصلي غيرها. الحال الثاني: أن ينوي الفريضة، سواء كانت إحدى الخمس، أو منذورة ولا تخطر له النافلة، فتباح الفريضة. وكذا النافلة قبلها على الاظهر، وبعدها على المذهب في الوقت، وكذا بعده على الاصح. ولو تيمم لفائتتين، أو منذورتين، استباح إحداهما على الاصح. وعلى الثاني: لا يستبيح شيئا. ولو تيمم لفائتة فلم يكن عليه شئ. أو لفائتة الظهر، فكانت العصر، لم تصح. قلت: ولو (1) ظن عليه فائتة، ولم يجزم بها، فتيمم لها، ثم ذكرها، قال المتولي والبغوي والروياني: لا يصح. وصححه الشاشي (2)، وهو ضعيف. والله أعلم. الحال الثالث: أن ينوي النفل، فلا يستبيح به الفرض على المشهور. وقيل: قطعا. فإن أبحناه، فالنفل أولى، وإلا استباح النفل على الصحيح. ولو نوى مس المصحف، أو سجود التلاوة، أو الشكر، أو نوى الجنب الاعتكاف، أو قراءة القرآن، فهو كنية النفل، فلا يستبيح الفرض على المذهب. ويستبيح ما نوى على الصحيح. وعلى الآخر يستبيح الجميع. ولو تيمم لصلاة الجنازة، فهو كنية النفل على الاصح. ولو تيممت منقطعة الحيض لاستباحة الوطئ، صح على(1/224)
الاصح، ويكون كالتيمم للنافلة. الحال الرابع: أن ينوي الصلاة فحسب، فله حكم التيمم للنفل على الاصح. وعلى الثاني: هو كمن نوى النفل والفرض معا. أما إذا نوى فرض التيمم، أو إقامة التيمم المفروض، فلا يصح على الاصح. قلت: ولو نوى التيمم وحده، لم يصح قطعا. ذكره الماوردي. ولو تيمم بنية استباحة الصلاة، ظانا أن حدثه أصغر، فكان أكبر، أو عكسه، صح قطعا، لان موجبهما واحد. ولو تعمد ذلك، لم يصح في الاصح. ذكره المتولي (1). ولو أجنب في سفره ونسي، وكان يتيمم وقتا، ويتوضأ وقتا، أعاد صلوات الوضوء فقط، لما ذكرنا. والله أعلم (2). واعلم أنه لا يجوز أن تتأخر النية عن أول فعل مفروض في التيمم. وأول أفعاله المفروضة نقل التراب. ولو قارنته وعزبت قبل مسح شئ من الوجه، لم يجزئه على الاصح. ولو تقدمت على أول فعل مفروض، فهو كمثله في الوضوء. الركن الخامس: مسح الوجه. ويجب استيعابه. ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور التي يجب إيصال الماء إليها في الوضوء على المذهب (3). ويجب إيصاله إلى ظاهر ما استرسل من اللحية على الاظهر، كما في الوضوء. الركن السادس: مسح اليدين. ويجب استيعابهما إلى المرفقين على المذهب. وقيل: قولان. أظهرهما هذا، والقديم يمسحهما إلى الكوعين. واعلم أنه تكرر لفظ الضربتين في الاخبار، فجرت طائفة من الاصحاب على(1/225)
الظاهر، فقالوا: لا يجوز النقص من ضربتين، ويجوز الزيادة. والاصح ما قاله آخرون: أن الواجب إيصال التراب، سواء حصل بضربة أو أكثر، لكن يستحب أن لا يزيد على ضربتين، ولا ينقص. وقيل: يستحب ثلاث ضربات. ضربة للوجه، وضربتان لليدين، وهو ضعيف. قلت: الاصح: وجوب الضربتين. نص عليه. وقطع به العراقيون، وجماعة من الخراسانيين. وصورة الاقتصار على ضربة بخرقة ونحوها. والله أعلم. وصورة الضرب ليست متعينة. فلو وضع اليد على تراب ناعم وعلق بها غبار، كفى. ويستحب أن يبدأ بأعلى الوجه. وأما اليدان، فيضع أصابع اليسرى سوى الابهام، على ظهور أصابع اليمنى سوى الابهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغت الكوع، ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع. ويمرها إلى المرفق، ثم يدير كفه إلى بطن الذراع فيمرها عليه وإبهامه مرفوعة، فإذا بلغ الكوع، مسح ببطن إبهام اليسرى ظهر إبهام اليمنى، ثم يضع أصابع اليمنى على اليسرى فيمسحها كذلك. وهذه الكيفية ليست واجبة، لكنها مستحبة على المذهب. وقيل: غير مستحبة. وأما تفريق الاصابع، فيفعله في الضربة الثانية. وأما الاولى، فالاصح، وظاهر المذهب، والذي نص عليه الشافعي، وقاله الاكثرون: أنه يستحب التفريق فيها. وقال آخرون: لا يستحب. ثم قال الاكثرون من هؤلاء: هو جائز، حتى لو لم يفرق في الثانية، كفاه التفريق في الاولى بين الاصابع. وقال قليلون، منهم القفال: لا يجوز: ولو فعله، لم يصح تيممه. ثم إذا فرق في الضربتين وجوزناه، أو في الثانية وحدها، يستحب تخليل الاصابع بعد مسح اليدين على الهيئة المذكورة، ولو لم يفرق فيهما (1)، وفرق في الاولى وحدها، وجب التخليل، ثم يمسح إحدى الراحتين بالاخرى. وهو مستحب على الاصح، وواجب على الآخر. والواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين كيف كان، سواء حصل بيد، أو خرقة، أو خشبة. ولا يشترط إمرار اليد على العضو على الاصح. ولو كان يمسح بيده فرفعها في أثناء العضو، ثم ردها، جاز، ولا يفتقر إلى(1/226)
أخذ تراب جديد في الاصح. الركن السابع: الترتيب. فيجب تقديم الوجه على اليدين. فلو تركه ناسيا لم يصح على المذهب، كما في الوضوء. ولا يشترط الترتيب في أخذ التراب للعضوين على الاصح. فلو ضرب يديه على الارض، وأمكنه مسح الوجه بيمينه، ويمينه بيساره، جاز. فرع: لو أحدث بعد أخذ التراب قبل مسح وجهه، بطل أخذه، وعليه النقل ثانية. ولو يممه غيره حيث يجوز، فأحدث أحدهما بعد أخذ التراب قبل المسح، قال القاضي حسين: لا يضر. وينبغي أن يبطل الاخذ بحدث الآمر. ولو ضرب يده على بشرة امرأة ينقض وعليها تراب، فإن كان كثيرا يمنع التقاء البشرتين صح تيممه. وإن لم يمنع، لم يصح. وقيل: يصح أخذه للوجه. فإن ضرب بعده لليد، بطل. والصواب: الاول. فرع: للتيمم سنن سبق بعضها في كيفية مسح الوجه واليدين، وبقي منها التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، وإمرار التراب على العضد على الاصح، والموالاة على المذهب، وتخفيف التراب المأخوذ إذا كان كثيرا، وأن لا يكرر المسح على المذهب، وأن لا يرفع اليد عن العضو الممسوح حتى يتم مسحه على الاصح. وعلى الثاني: هو واجب. وقد سبق. وأن ينزع خاتمه في الضربة الاولى. قلت: وأما الضربة الثانية، فيجب نزعه فيها، ولا يكفي تحريكه، بخلاف الوضوء، لان التراب لا يدخل تحته. ذكره صاحب (العدة) وغيره. ومن مندوباته: استقبال القبلة. وينبغي استحباب الشهادتين بعده، كالوضوء والغسل. ولو كانت يده نجسة، وضرب بها على تراب ومسح وجهه، جاز في الاصح. ولا يجوز مسح النجسة قطعا، كما لا يصح غسلها عن الوضوء مع بقاء النجاسة. ولو تيمم، ثم وقع عليه نجاسة، لم يبطل على المذهب، وبه قطع الامام. وقال المتولي: هو كردة المتيمم. ولو تيمم قبل الاجتهاد في القبلة، ففي صحته وجهان، حكاهما الروياني، كما لو كان عليه نجاسة. والله أعلم.(1/227)
الباب الثالث في أحكام التيمم هي ثلاثة. الاول (1): أنه يبطل بما يبطل به الوضوء (2). ثم هو قسمان. أحدهما: يجوز مع وجود الماء، كتيمم المريض. والثاني: لا يجوز إلا مع عدمه، أو الخوف في تحصيله، أو الحاجة إليه، وما أشبه هذا. فالاول: لا تؤثر فيه رؤية الماء. وأما الثاني: فيبطل بتوهم القدرة على الماء قبل الدخول في الصلاة، كما إذا رأى سرابا فتوهمه ماء، أو أطبقت بقربه غمامة، أو طلع عليه جماعة يجوز أن يكون معهم ماء، هذا إذا لم يقارن التوهم مانع من القدرة، فإن قارنه، لم يبطل تيممه، كما إذا رأى ما يحتاج إليه للعطش، أو دونه حائل، من سبع، أو عدو، أو قعر بئر يعلم حال رؤيته تعذر تحصيله، أو سمع انسانا يقول: أودعني فلان ماء وهو يعلم غيبة فلان، وما أشبه هذا. أما إذا رأى الماء في الصلاة، فإن لم تكن مغنية عن القضاء، كصلاة الحاضر بالتيمم، بطلت على الصحيح. وعلى الثاني: يتمها (3) ويعيد. وإن كانت مغنية كصلاة المسافر، فالمذهب المنصوص: أنه لا تبطل صلاته ولا تيممه. فلو نوى في أثناء الصلاة الاقامة بعد وجدان الماء، أو نوى القصر ثم وجد الماء، ثم نوى الائتمام، بطلت صلاته على الاصح فيهما. وحيث لم تبطل وكانت فريضة، هل يجوز الخروج منها ليتوضأ ؟ فيه أوجه. أصحها: الخروج أفضل. والثاني: يجوز الخروج، لكن الاستمرار أفضل. والثالث: إن قلبها نفلا وسلم من ركعتين،(1/228)
فهو أفضل. وإن أراد إبطالها مطلقا، فالاستمرار أفضل. والرابع: يحرم قطعها مطلقا. والخامس: إن ضاق الوقت، حرم الخروج، وإلا لم يحرم. قاله إمام الحرمين (1)، وطرده في كل مصل، سواء المتيمم وغيره. قلت: هذا الذي حكاه عن (2) إمام الحرمين اختيار له لم يتقدمه به أحد، واعترف إمام الحرمين بهذا، وهو خلاف المذهب، وخلاف نص الشافعي رحمه الله، فقد نص في (الام) ونقله صاحب (التتمة) والغزالي في (البسيط) عن الاصحاب: أنه يحرم على من تلبس بالفريضة في أول وقتها، قطعها بغير عذر، وقد أوضحت نقله، ودلائله في شرح (المهذب).... والله أعلم. وإذا أتم الفريضة بالتيمم، وبقي الماء الذي رآه إلى أن سلم، بطل تيممه، فلا يستبيح به نافلة، حتى حكى الروياني عن والده: أنه لا يسلم التسليمة الثانية. قلت: وفيما حكاه الروياني نظر، وينبغي أن يسلم الثانية، لانها من جملة الصلاة. والله أعلم. وأما إذا فني الماء قبل سلامه، ولم يعلم حتى يستبيح النافلة أيضا (3)، وإن علم بفنائه قبل سلامه، ففي بطلان تيممه ومنعه النافلة وجهان. قلت: الاصح: منعه النافلة، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين.. والله أعلم. أما إذا رأى الماء وهو في نافلة، فأوجه. أصحها: إن كان نوى عددا، أتمه ولم يزد، وإلا اقتصر على ركعتين. والثاني: لا يزيد على ركعتين وإن نواه. والثالث: له أن يزيد ما شاء وإن لم ينوه. والرابع: تبطل صلاته. الحكم الثاني - فيما يؤدى بالتيمم - لا يصلي بالتيمم الواحد إلا فريضة(1/229)
واحدة، وسواء كانت الفريضتان متفقتين أو مختلفتين، كصلاتين، وطوافين، أو صلاة وطواف. أو مقضيتين، كظهرين، أو مكتوبة ومنذورة، أو منذورتين، فلا يجوز الجمع بينهما بتيمم. وفي قول أو وجه ضعيف: يجوز في منذورتين، وفي منذورة ومكتوبة، وفي وجه شاذ: يجوز في فوائت وفائتة ومؤداة. والصبي كالبالغ على المذهب. وقيل: وجهان. الثاني: يجمع بين مكتوبتين بتيمم. ويجوز أن يجمع بتيمم بين فريضة ونوافل. وأما ركعتا الطواف، فإن قلنا بالاصح: إنهما سنة، فلهما حكم النوافل. وإن قلنا: واجبتان، لم يجز أن يجمع بينهما وبين الطواف الواجب على الاصح. وكذا لا يجمع بين خطبة الجمعة وصلاتها على الاصح. إذا شرطنا الطهارة في الخطبة. وأما صلاة الجنازة، ففيها ثلاثة طرق. أحدها: في المسألة قولان. أحدهما: لها حكم النافلة مطلقا، فيجوز الجمع بين صلوات الجنائز، وبين جنائز ومكتوبة بتيمم واحد. ويجوز صلاتها قاعدا مع القدرة على القيام، ويجوز على الراحلة. والثاني: لها حكم الفرائض. فلا يجوز شئ من هذا. والطريق الثاني: إن تعينت، فكالفرائض، وإلا، فكالنوافل. والثالث: لها حكم النوافل مطلقا، إلا أنه لا يجوز القعود فيها، والمذهب: أنه يجوز الجمع بتيمم بكل حال. ولو صلى على جنازتين صلاة واحدة، فقيل: يجوز قطعا، وقيل: على الخلاف. فرع: إذا نسي صلاة من صلوات، نظر، إن كانت متفقة، كظهر من أسبوع، لزمه ظهر واحدة بتيمم. وإن نسي صلاة من الخمس، لزمه الخمس، وكفاه تيمم واحد للجميع على الصحيح. وعلى الثاني: يجب خمسة تيممات. ثم قال الشيخ أبو علي: الخلاف تفريع على أن تعيين الفريضة التي تيمم لها غير واجب، فإن أوجبناه، لزمه خمس تيممات قطعا. ويحتمل خلاف ما قال أبو علي. قلت: هذا المحكي عن أبي علي، قد حكاه الدارمي (1) عن ابن المرزبان،(1/230)
واختار الدارمي طرد الخلاف وإن أوجبنا التعيين. وهذا أصح. والله أعلم. ولو نسي صلاتين مختلفتين من الخمس، لزمه الخمس. فإن قلنا: في الواحدة يلزمه خمس تيممات. فكذا هنا (1). وإن قلنا يكفيه تيمم واحد، فقال ابن القاص: يتيمم لكل واحدة، ويقتصر على الخمس. وقال ابن الحداد: يقتصر على تيممين، ويزيد في الصلوات، فيصلي بالاول الصبح والظهر والعصر والمغرب. وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال الاكثرون: وهو مخير، إن شاء عمل بقول ابن القاص، وإن شاء [ عمل ] بقول ابن الحداد. فظاهر كلام ابن القاص في التلخيص: أنه لا يجوز ما ذكره ابن الحداد. وحكي وجه: أنه يتيمم تيممين، ويصلي بكل واحد الخمس، وهو شاذ. والمستحسن عند الاصحاب: طريقة ابن الحداد. وعليها يفرعون ما زاد من المنسي. ولها ضابط، وشرط. فضابطها: أن تزيد على قدر المنسي فيه عددا لا ينقص عما تبقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي، وينقسم المجموع صحيحا على المنسي. مثاله: مسألتنا، المنسي صلاتان، والمنسي فيه خمس، تزيده ثلاثة، لانه لا تنقص عما يبقى من الخمس بعد إسقاط الاثنين بل تساويه. والمجموع: وهو ثمانية، ينقسم على الاثنين صحيحا. ولو صلى عشرا كما قاله الوجه الشاذ، أجزأه، وكان قد زاد خيرا لدخوله في الضابط. وأما شرطها: فأن يبتدئ من المنسي فيه بأية صلاة شاء، ويصلي بكل تيمم ما تقتضيه القسمة، ويترك في كل مرة ما ابتدأ به في التي قبلها، ويأتي في المرة الاخيرة بما بقي من الصلوات. ولو نسي ثلاث صلوات من يوم وليلة، فعلى طريقة ابن القاص، يصلي كل واحدة من الخمس بتيمم، وعلى الوجه الشاذ: يتيمم ثلاث مرات، يصلي بكل واحد الخمس، وعلى طريقة ابن الحداد، يقتصر على ثلاث تيممات، ويصلي بالاول: الصبح والظهر والعصر. وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب. وبالثالث: العصر والمغرب والعشاء. وله مخالفة هذا الترتيب إذا وفى بالشرط.(1/231)
أما إذا نسي صلاتين متفقتين، فعليه أن يصلي كل واحدة من الخمس مرتين، فعلى الوجه الضعيف في أول المسألة: يجب لكل صلاة تيمم، فيتيمم عشر تيممات. وعلى الصحيح: يكفيه تيممان يصلي بكل واحد الخمس، ولا يكتفي بثمان صلوات لاحتمال كون المنسيين، صبحين أو عشاءين، وما صلاهما إلا مرة مرة. أما إذا لم يعلم، هل الفائتتان مختلفتان، أم متفقتان ؟ فيلزمه الاحوط، وهو أنهما متفقتان. إما إذا ترك صلاة مفروضة، أو طوافا مفروضا، واشتبه عليه، فيأتي بطواف، وبالصلوات الخمس بتيمم واحد على الصحيح. وعلى الضعيف: بست تيممات، ولو صلى منفردا بتيمم، ثم أراد إعادتها مع جماعة بذلك التيمم، جاز إن قلنا: الثانية سنة. وكذا إن قلنا: الفرض (1) إحداهما لا بعينها على الصحيح، كالمنسية. ولو صلى الفرض بالتيمم على وجه، يجب معه القضاء، وأراد القضاء بذلك التيمم. فإن قلنا: الفرض الاول جاز. وإن قلنا: الثاني أو كلاهما فرض، لم يجز، وإن قلنا: أحدهما لا بعينه، جاز على الصحيح. قلت: ينبغي إذا قلنا: الثانية فرض أن يجوز، لانه جمع بين فرض ونافلة. والله أعلم. فصل: لا يجوز التيمم لفريضة قبل وقتها، فلو فعل، لم يصح للفرض، ولا للنفل أيضا على المذهب، ولو جمع بين الصلاتين بالتيمم، جاز على الصحيح. ويكون وقت الاولى، وقتا للثانية. ولو تيمم للظهر فصلاها، ثم تيمم للعصر ليجمعها، فدخل وقت العصر قبل فعلها، بطل الجمع والتيمم. ووقت الفائتة بتذكرها. ولو تيمم لمؤداة في أول وقتها، وصلاها به في آخره، جاز قطعا. نص عليه. قلت: وفيه وجه مشهور في (الحاوي) وغيره: أنه لا يجوز التأخير إلا بقدر الحاجة، كالمستحاضة. والفرق ظاهر. والله أعلم. ولو تيمم لفائتة ضحوة، فلم يصلها حتى دخلت الظهر، فله أن يصلي به الظهر على الاصح، ولو تيمم للظهر، ثم تذكر فائتة، قيل: يستبيحها به قطعا.(1/232)
وقيل: على الوجهين، وهو الاصح. هذا كله تفريع على الاصح أن تعيين الفريضة، ليس بشرط. فإن شرطناه، لم يصح غير ما نواه. أما النوافل: فمؤقتة وغيرها. أما المؤقتة: فكالرواتب مع الفرائض، وصلاة العيد، والكسوف. وأوقاتها معروفة. ووقت الاستسقاء، الاجتماع لها في الصحراء. ووقت الجنازة: انقضاء الغسل على الاصح، والموت، على الثاني، فإن تيمم لمؤقتة قبل وقتها، لم يصح على المذهب. وقيل: وجهان. وإن تيمم لها في وقتها، استباحها، وفي (1) استباحة الفرض، القولان المتقدمان. فإن استباحه، فله ذلك إن كان تيممه في وقت الفريضة، وإن كان قبله، فعلى الوجهين في التيمم لفائتة ضحوة. وأما غير المؤقتة، فيتيمم لها كل وقت، إلا وقت الكراهة، فلا يصح فيه على الاصح. هذا كله تفريع على المذهب، في أن التيمم للنافلة وحدها، صحيح. وفيه الوجه المتقدم في الركن الرابع من الباب الثاني. قلت: ولو تيمم لنافلة لا سبب لها قبل وقت الكراهة، لم تبطل بدخول وقت الكراهة، بل يستبيحها بعده بلا خلاف. ولو أخذ التراب قبل وقت الفريضة، ثم مسح الوجه في الوقت، لم يصح، لان أخذ التراب من واجبات التيمم، فلا يصح قبل الوقت، ولو تيمم شاكا في الوقت، وصادفه، لم يصح. وكذا لو طلب شاكا في دخول الوقت، وصادفه، لم يصح الطلب (2). وكذا لو طلب شاكا في دخول الوقت، فصادفه (3)، لم يصح الطلب. الله أعلم. الحكم الثالث: قضاء الصلاة لعذر ضربان: عام، ونادر. فالعام: لا قضاء معه، كصلاة مسافر محدث، أو جنب، بالتيمم - لعدم ما يجب استعماله، إذا لم يكن سفر معصية. وفي سفر المعصية أوجه. الاصح: يجب التيمم والقضاء. والثاني: يتيمم ولا يقضي. والثالث: لا يجوز التيمم (4).(1/233)
وقصير السفر كطويله على المذهب. وقيل: في وجوب القضاء معه قولان - وكصلاة المريض بالتيمم، أو قاعدا، أو مضطجعا، والصلاة بالايماء في شدة الخوف. وأما النادر: فقسمان. قسم يدوم غالبا، وقسم لا يدوم. فما يدوم يمنع القضاء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذي، والجرح السائل، واسترخاء المقعد، ودوام خروج الحدث، سواء كان له بدل، أم لا. وما لا يدوم نوعان. نوع معه بدل، ونوع لا بدل معه، فما لا بدل معه يوجب القضاء، وذلك صور. منها: من لم يجد ماء، ولا ترابا. وفيه أقوال. المشهور: وجوب الصلاة بحسب حاله، ووجوب القضاء. والثاني: تحرم الصلاة. والثالث: تستحب، ويجب القضاء على هذين. والرابع: تجب الصلاة بلا قضاء، وإذا قلنا: يصلي، لا يجوز مس المصحف، ولا قراءة القرآن للجنب والحائض، ولا وطئ الحائض، وإذا قدر على ماء أو تراب في الصلاة، بطلت. ومنها: المربوط على خشبة، ومن شد وثاقه بالارض، يصلي بالايماء ويعيد. وقال الصيدلاني (1). إن صلى مستقبل القبلة، لم يعد، وإلا عاد. قال: وكذا الغريق يصلي على خشبة بالايماء. وذكر البغوي نحوه. ومنها: من على جرحه نجاسة يخاف التلف من غسلها، أو حبس في موضع وصلى فيه على النجاسة للضرورة، فتجب الاعادة على المشهور. وفي القديم: لا(1/234)
يجب إعادة صلاة وجبت في الوقت، وإن كانت مختلة. وأما ما معه بدل فصور: منها: المقيم إذا تيمم لعدم الماء، فيجب عليه الاعادة على المشهور، لان فقد الماء في الاقامة نادر، وإنما لا يجب القضاء على المسافر، لان فقد الماء فيه (1) يعم. هذا هو الضابط عند الاصحاب، وليس مخصوصا بالسفر، أو الاقامة، حتى لو أقام في مفازة، أو موضع يعدم فيه الماء غالبا، وطالت إقامته وصلاته بالتيمم، فلا إعادة. ولو دخل المسافر في طريقه قرية، وعدم الماء وصلى بالتيمم، وجبت الاعادة على الاصح، وإن كان حكم السفر باقيا. وأما قول الاصحاب: المقيم يقضي، والمسافر لا يقضي، فمرادهم: الغالب من حال المسافر والمقيم، وحقيقته ما ذكرناه. ومنها: التيمم لعذر في بعض الاعضاء، فإن لم يكن على العضو ساتر من جبيرة، أو لصوق، فلا إعادة. وإن كان ساتر من جبيرة ونحوها، فثلاثة أقوال. الاظهر: أنه إن وضعها على طهر، فلا إعادة، وإلا وجبت. والثاني: لا يعيد مطلقا. والثالث: يعيد. وقال ابن الوكيل (2) من أصحابنا: الخلاف إذا لم يتيمم. أما إذا قلنا: يجب التيمم، فتيمم، فلا إعادة قطعا. والمذهب طرد الخلاف مطلقا. هذا كله إذا لم تكن الجبيرة على محل التيمم، فإن كانت عليه، أعاد بلا خلاف. ومنها: التيمم لشدة البرد، والاظهر: أنه يوجب الاعادة. والثاني: لا. والثالث: يجب على الحاضر دون المسافر. أما العاجز عن ستر العورة، ففيه قولان ووجه. وقيل: ثلاثة أوجه. أصحها: يصلي قائما ويتم الركوع والسجود (3)، والثاني: يصلي قاعدا. وهل يتم(1/235)
الركوع والسجود أم يومئ ؟ فيه قولان: والثالث: يتخير بين الامرين. ويجري هذا الخلاف فيما لو حبس في موضع نجس، لو سجد لسجد على نجاسة. وفيما لو وجد ثوبا طاهرا لو فرشه على النجاسة، لبقي عاريا. وفيما لو وجد العاري ثوبا نجسا، هل يصلي فيه، أم عاريا ؟ ثم إن قلنا: العريان لا يتم الاركان، أعاد على المذهب، وفيه خلاف من لم يجد ماء ولا ترابا. وإن قلنا: يتمها، فلا إعادة على المذهب. سواء كان في السفر أو الحضر ممن يعتاد العري، أو ممن لا يعتاد العري. وقيل: يجب على من لا يعتاد العري. قلت: ولو لم يجد المريض من يحوله للقبلة، لزمه الصلاة بحسب حاله، وتجب الاعادة على المذهب. قال الروياني: وقيل: قولان. وهو شاذ. قال إمام الحرمين وغيره: ثم ما حكمنا من الاعذار: بأنه دائم، وأسقطنا به الفرض فزال بسرعة، فهو كدائم، وما حكمنا أنه (1) لا يدوم فدام، فله حكم ما لم يدم إلحاقا لشاذ الجنس بالجنس. ثم كل صلاة أوجبناها في الوقت، وأوجبنا إعادتها، فهل الفرض الاولى، أم الثانية، أم كلاهما، أم إحداهما لا بعينها ؟ فيه أربعة أقوال. أظهرها: عند الجمهور: الثانية. وعند القفال والفوراني وابن الصباغ: كلاهما، وهو أفقه، فإنه مكلف بهما - وهذه مسائل منثورة لا يستحب (فيها) تجديد التيمم على المذهب - وبه قطع الجمهور. وفي المستظهري: وجهان. ويتصور في مريض وجريح ونحوهما ممن تيمم مع وجود الماء، إذا تيمم وصلى فرضا ثم أراد نفلا، ويتصور في متيمم، لعدم الماء إذا صلى فرضا ولم يفارق موضعه، ولم نوجب طلبا لتحققه العدم أو لم نوجبه ثانيا (2). وحكم اليد المقطوعة كهو في الوضوء، حتى إذا(1/236)
لم يبق شئ من محل الفرض، استحب مسح العضد. قال الدارمي: وإذا لم يكن مرفق، استطهر حتى يعلم. ولو وجد المسافر على الطريق خابية ماء مسبلة، تيمم، ولا يجوز الوضوء منها، لانها انما توضع للشرب. ذكره المتولي، ونقله الروياني عن الاصحاب. ولو منع من (1) الوضوء إلا منكوسا، فهل له الاقتصار على التيمم، أم عليه غسل الوجه لتمكنه منه ؟ فيه القولان فيمن وجد بعض ما يكفيه، حكاه الروياني عن والده. قال: ولا يلزمه قضاء الصلاة إذا امتثل المأمور على القولين. وفي القضاء نظر، لندوره، لكن الراجح ما ذكره، لانه في معنى من غصب ماؤه فلا (2) قضاء. قال صاحب (الحاوي) و (البحر): لو مات رجل معه ماء لنفسه لا يكفيه لبدنه، فإن أوجبنا استعمال الناقص، لزم رفقته غسله به، وإلا يمموه. فإن غسلوه به، ضمنوا قيمته لوارثه. ولو تيمم لمرض فبرأ في أثناء الصلاة، فكرؤية الماء في صلاة المسافر. ولو تيمم عن جنابة أو حيض، ثم أحدث، حرم ما يحرم على محدث. ولا يحرم قراءة القرآن، واللبث في المسجد. ولو تيمم جنب فرأى ماء، حرمت القراءة، وكل ما كان حراما، حتى يغتسل. قال الجرجاني: ليس أحد يصح إحرامه بصلاة فرض دون نفل، إلا من عدم ماء وترابا، أو سترة طاهرة، أو كان على بدنه نجاسة عجز عن إزالتها. والله أعلم.
باب مسح الخف (3) وهو جائز بشرطين: أحدهما: لبسه على طهارة كاملة. فلو غسل رجلا فلبس خفها، ثم غسل الاخرى، لم يجز المسح، فلو نزع الاولى ثم لبسها، كفاه، وجاز المسح بعده(1/237)
على الصحيح (1). وعلى الثاني: لا بد من نزعهما. ولو أدخل الرجلين ساقي الخفين بلا غسل، ثم غسلهما، ثم أدخلهما قرار الخف، صح لبسه، وجاز المسح. ولو لبس متطهرا، ثم أحدث قبل وصول الرجل قدم الخف، أو مسح بشرطه، ثم أزال القدم من مقرها ولم يظهر من محل الفرض شئ، ففي الصورتين ثلاثة أوجه. الصحيح: جواز المسح في الثانية، ومنعه في الاولى. والثاني: يجوز فيهما. والثالث: لا يجوز فيهما. ولو لبست المستحاضة على وضوئها، ثم أحدثت بغير الاستحاضة، فوجهان. أحدهما: لا يصح مسحها لضعف طهارة لبسها. والصحيح: المنصوص جوازه. فعلى هذا لو انقطع دمها، وشفيت قبل المسح، لم يجز المسح على المذهب، وقيل: فيه الوجهان. وحيث جوزنا، فإنما يستبيح بلبسها المسح لما شاءت من النوافل، ولفريضة إن لم تكن صلت بوضوء اللبس فريضة، بأن أحدثت بعد وضوئها ولبسها قبل أن تصلي تلك الفريضة ولا غيرها من الفرائض، فإن أحدثت بعد فعل الفريضة، مسحت، واستباحت النوافل، ولا تستبيح فريضة مقضية، ولا مؤداة تحضر. فإن أرادت فريضة، وجب نزع الخف، واستئناف اللبس بطهارة. ولنا وجه شاذ أنها تستوفي مدة المسح يوما وليلة حضرا، وثلاثة سفرا، ولكن تعيد الوضوء والمسح لكل فريضة. وفي معنى طهارة المستحاضة، طهارة سلس البول، وكل من به حدث دائم، وكذا الوضوء المضموم إليه التيمم لجراحة أو كسر، فحكمهم حكمها بلا فرق. وأما من محض التيمم بلا وضوء، فإن كان بسبب غير إعواز الماء، فهو كالمستحاضة. وإن كان للاعواز، فقال ابن سريج: هو كهي. والصحيح: أنه لا يستبيح المسح أصلا. الشرط الثاني: أن يكون الملبوس صالحا للمسح، وصلاحيته بأمور:(1/238)
الاول: أن يستر محل فرض غسل الرجلين، فلو قصر عن محل الفرض، لم يجز قطعا، وفي المخروق قولان. القديم: جواز المسح ما لم يتفاحش الخرق، بأن لا يتماسك في الرجل، ولا يتأتى المشي عليه، وقيل: التفاحش: أن يبطل اسم الخف. والجديد: الاظهر لا يجوز إذا ظهر شئ من محل الفرض وإن قل. ولو تخرقت البطانة أو الظاهرة، جاز المسح إن كان الباقي، صفيقا، وإلا فلا على الصحيح. ويقاس على هذا ما إذا تخرق من الظهارة موضع، ومن البطانة موضع آخر لا يحاذيه. أما الخف المشقوق القدم إذا شد محل الشق بالشرج، فإن ظهر شئ مع الشد، لم يجز المسح. وإلا جاز على الصحيح المنصوص. فلو فتح الشرج، بطل المسح في الحال وإن لم يظهر شئ. الامر الثاني: أن يكون قويا، بحيث يمكن متابعة المشي عليه بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال (1)، فلا يجوز المسح على اللفائف والجوارب المتخذة من صوف ولبد، وكذا الجوارب المتخذة من الجلد الذي يلبس مع المكعب، وهي جوارب الصوفية، لا يجوز المسح عليها حتى يكون بحيث يمكن متابعة المشي عليها، ويمنع نفوذ الماء إن شرطناه، إما لصفاقتها، وإما لتجليد القدمين والنعل على الاسفل، أو الالصاق على المكعب. وقيل: في اشتراط تجليد القدم مع صفاقتها قولان. ولو تعذر المشي فيه لسعته المفرطة، أو ضيقه، لم يجز المسح على الاصح. ولو تعذر لغلظه، أو ثقله، كالخشب والحديد، أو لتحديد رأسه بحيث لا يستقر على الارض، لم يجز. ولو اتخذ لطيفا من خشب، أو حديد يتأتى المشي فيه، جاز قطعا. ولو لم يقع عليه اسم الخف، بأن لف على رجله قطعة أدم وشدها، لم يجز المسح. الامر الثالث: - في أوصاف مختلف فيها - فالخف المغصوب، والمسروق، وخف الذهب أو الفضة، يصح المسح عليه على الاصح. والخف من جلد كلب أو ميتة قبل الدباغ، لا يجوز المسح عليه قطعا، لا لمس مصحف ولا لغيره. ولو وجدت في الخف شرائطه، إلا أنه لا يمنع نفوذ الماء، لم يجز المسح على الاصح.(1/239)
واختار إمام الحرمين والغزالي: الجواز. قلت: ولو لبس واسع الرأس يرى من رأسه القدم، جاز المسح عليه على الصحيح. ويجوز على خف زجاج قطعا (1) إذا أمكن متابعة المشي عليه. والله أعلم. فرع: الجرموق: هو الذي يلبس فوق الخف لشدة البرد غالبا. فإذا لبس خفا فوق خف، فله أربعة أحوال. أحدها: أن يكون الاعلى صالحا للمسح عليه دون الاسفل، لضعفه، أو لخرقه، فالمسح على الاعلى خاصة. الثاني: عكسه، فالمسح على الاسفل خاصة. فلو مسح الاعلى فوصل البلل إلى الاسفل، فإن قصد مسح الاسفل، أجزأه. وكذا إن قصدهما على الصحيح. وإن قصد الاعلى، لم يجز. وإن لم يقصد واحدا، بل قصد المسح في الجملة، أجزأه على الاصح، لقصده إسقاط فرض الرجل بالمسح. الثالث: أن لا يصلح واحد منهما فيتعذر المسح. الرابع: أن يصلحا كلاهما، ففي المسح على الاعلى وحده قولان: القديم والاملاء (2) جوازه، والجديد: منعه. قلت: الاظهر عند الجمهور الجديد، وصحح القاضي أبو الطيب في شرح (الفروع) القديم. والله أعلم. فإن جوزنا المسح على الجرموق، فقد ذكر ابن سريج فيه ثلاثة معان. أظهرها: أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن الرجل. والثاني: الاسفل كلفافة، والاعلى هو الخف. والثالث: أنهما كخف واحد، فالاعلى ظهارة، والاسفل بطانة. وتتفرع على المعاني مسائل. منها: لو لبسهما معا على طهارة فأراد(1/240)
الاقتصار على مسح الاسفل، جاز على المعنى الاول دون الآخرين. ومنها: لو لبس الاسفل على طهارة، والاعلى على حدث، ففي جواز المسح على الاعلى طريقان. أحدهما: لا يجوز. وأصحهما فيه وجهان. إن قلنا بالمعنى الاول أو الثاني (1): لم يجز. وبالثالث: يجوز. فلو لبس الاسفل بطهارة، ثم أحدث ومسحه، ثم لبس الجرموق، فهل يجوز مسحه ؟ فيه طريقان. أحدهما: يبنى على المعاني إن قلنا بالاول أو الثالث جاز. وبالثاني: لا يجوز. وقيل: يبنى الجواز على هذا الثاني، على أن مسح الخف يرفع الحدث، أم لا ؟ إن قلنا: يرفع، جاز، وإلا فلا. الطريق الثاني: القطع بالبناء على رفع الحدث. وإذا جوزنا مسح الاعلى في هذه المسألة، قال الشيخ أبو علي: ابتداء المدة من حين إحداث أول لبسه الاسفل، وفي جواز الاقتصار على الاسفل الخلاف السابق. ومنها: لو لبس الاسفل على حدث، وغسل رجله فيه، ثم لبس الاعلى على طهارة كاملة، فلا يجوز مسح الاسفل قطعا، ولا مسح الاعلى إن قلنا بالمعنى الاول، أو الثالث. وبالثاني يجوز. ومنها: لو تخرق الاعلى من الرجلين جميعا، أو نزعه منهما بعد مسحه وبقي الاسفل بحاله، فإن قلنا بالمعنى الاول، لم يجب نزع الاسفل، بل يجب مسحه، وهل يكفيه مسحه أم يجب استئناف الوضوء ؟ فيه القولان في نازع الخفين. وإن قلنا بالمعنى الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالثاني، وجب نزع الاسفل أيضا وغسل القدمين. وفي استئناف الوضوء القولان، فحصل من الخلاف في المسألة خمسة أقوال. أحدها: لا يجب شئ. والثاني: يجب مسح الاسفل فقط. والثالث: يجب المسح واستئناف الوضوء. والرابع: يجب نزع الخفين وغسل الرجلين. والخامس: يجب ذلك مع استئناف الوضوء. ومنها: لو (2) تخرق الاعلى من إحدى الرجلين أو نزعه. فإن قلنا بالمعنى الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالثاني، وجب نزع الاسفل أيضا من هذه الرجل، ووجب نزعهما من الرجل الاخرى، وغسل القدمين. وفي استئناف الوضوء القولان. وإن قلنا بالمعنى الاول، فهل يلزمه نزع(1/241)
الاعلى من الرجل الاخرى ؟ وجهان: أصحهما نعم، كمن نزع إحدى الخفين. فإذا نزعه، عاد القولان: في أنه (هل) يجب استئناف الوضوء، أم يكفيه مسح الاسفل ؟ والثاني: لا يلزمه نزع الثاني. وفي واجبه القولان. أحدهما: مسح الاسفل الذي نزع أعلاه. والثاني استئناف الوضوء، ومسح هذا الاسفل، والاعلى من الرجل الاخرى. ومنها: لو تخرق الاسفل منهما، لم يضر على المعاني كلها. فلو (1) تخرق من إحداهما، فإن قلنا بالمعنى الثاني أو الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالاول، وجب نزع واحد من الرجل الاخرى، لئلا يجمع بين البدل والمبدل، قاله في (التهذيب) وغيره. ولك أن تقول: هذا المعنى موجود فيما إذا تخرق الاعلى من إحدى الرجلين، وقد حكوا وجهين في وجوب نزعه من الاخرى، فليحكم بطردهما هنا. ثم إذا نزع، ففي واجبه القولان. أحدهما: مسح الخف الذي نزع الاعلى من فوقه. والثاني: استئناف الوضوء والمسح عليه وعلى الاعلى الذي تخرق الاسفل تحته. ومنها: لو تخرق الاسفل والاعلى من الرجلين، أو من إحداهما، لزم (2) نزع الجميع على المعاني كلها، لكن إن قلنا بالمعنى الثالث، وكان الخرقان في موضعين غير متحاذيين، لم يضر كما تقدم بيانه. ومنها: لو تخرق الاعلى من رجل، والاسفل من الاخرى، فإن قلنا بالثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالاول، نزع الاعلى المتخرق، وأعاد مسح ما تحته. وهل يكفيه ذلك، أم يحتاج إلى استئناف الوضوء ماسحا عليه وعلى الاعلى من الرجل الاخرى ؟ فيه القولان. هذا كله تفريع على جواز مسح الجرموق. فإن منعناه، فأدخل يده بينهما ومسح الخف الاسفل، جاز على الاصح. ولو تخرق الاسفلان، فإن كان عند التخرق على طهارة لبسه الاسفل، مسح الاعلى، لانه صار أصلا لخروج الاسفل عن صلاحيته للمسح. وإن كان محدثا، لم يجز مسح الاعلى، كاللبس على حدث. وإن كان على طهارة مسح، فوجهان، كما ذكرنا في التفريع على القديم. أما إذا لبس جرموقا في رجل، واقتصر على الخف في الاخرى، فعلى الجديد: لا يجوز مسح الجرموق. وعلى القديم: يبنى على المعاني الثلاثة، فعلى الاول لا يجوز، كما لا(1/242)
يجوز المسح في خف، وغسل الرجل الاخرى. وعلى الثالث يجوز، وكذا على الثاني على الاصح. قلت: وإذا جوزنا المسح على الجرموق، فكذا إذا لبس ثانيا وثالثا. ولو لبس الخف فوق الجبيرة، لم يجز المسح عليه على الاصح. والله أعلم. فصل في كيفية المسح أما أقله، فما ينطبق عليه اسم المسح من محل فرض الغسل في الرجل، إلا أسفلها، فلا يجوز الاقتصار عليه على الاظهر، وقيل: يجوز قطعا، وقيل: لا يجوز. وإلا العقب، فلا يجزئ على المذهب. وقيل: هو أولى بالجواز من الاسفل، وقيل: أولى بالمنع. قلت: وحرف الخف كأسفله. قاله في (التهذيب). والله أعلم. وأما الاكمل: فمسح أعلاه وأسفله، ولكن ليس استيعاب جميعه سنة على الاصح. ويستحب مسح العقب على الاظهر، وقيل: الاصح، وقيل: قطعا. ولو كان عند المسح على أسفله نجاسة، لم يجز المسح عليه. ويجزئ غسل الخف عن مسحه على الصحيح، لكن يكره. ويكره أيضا تكرار المسح على الصحيح. وعلى الثاني: يستحب تكراره ثلاثا كالرأس. قلت: قال أصحابنا: لا تتعين اليد للمسح، بل يجوز بخرقة وخشبة وغيرهما. ولو وضع يده المبتلة ولم يمرها، أو قطر الماء عليه، أجزأه على الصحيح كما تقدم في الرأس. والله أعلم. فصل في حكم المسح: يباح المسح على الخف للصلاة، وسائر ما يفتقر إلى الوضوء. وله المسح إلى إحدى غايات أربع: الاولى: مضي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن (1) للمسافر على(1/243)
المشهور الجديد. وفي القديم: يجوز غير مؤقت. والتفريع على الجديد. وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس. وأكثر ما يمكن المقيم أن يصلي من الفرائض المؤداة، ست صلوات إن لم يجمع. فإن جمع لمطر، فسبع، والمسافر ست عشرة، وبالجمع سبع عشرة. وأما المقضيات فلا تنحصر. واعلم أن المسافر إنما يمسح ثلاثة أيام إذا كان سفره طويلا، وغير معصية، فإن قصر سفره، مسح يوما وليلة، وإن كان معصية، مسح يوما وليلة على الاصح. وعلى الثاني: لا يمسح شيئا. ويجزئ الوجهان في العاصي بالاقامة، كالعبد المأمور بالسفر إذا أقام. فرع: إذا لبس الخف في الحضر، ثم سافر، ومسح في السفر، مسح مسح مسافر، سواء كان أحدث في الحضر، أم لا، وسواء سافر بعد الحدث وخروج وقت الصلاة، أم لا، وقال المزني (1): إن أحدث في الحضر، مسح مسح مقيم. وقال أبو إسحاق المروزي: إن خرج الوقت في الحضر ولم يصل، ثم سافر، مسح مسح مقيم. أما إذا مسح في الحضر ثم سافر، فيتم مسح مقيم. والاعتبار في المسح بتمامه، فلو مسح إحدى الخفين في الحضر، ثم سافر ومسح الآخر في السفر، فله مسح مسافر، لانه تم مسحه في السفر. قلت: هذا الذي جزم به الامام الرافعي رحمه الله في مسألة المسح على أحد الخفين في الحضر، هو الذي ذكره القاضي حسين وصاحب (التهذيب). لكن الصحيح المختار، ما جزم به صاحب (التتمة) واختاره الشاشي: أنه يمسح مسح مقيم، لتلبسه بالعبادة في الحضر. والله أعلم. أما إذا مسح في السفر ثم أقام، فإن كان بعد مضي يوم وليلة فأكثر، فقد انقضت مدته، ويجزئه ما مضى. وإن كان قبل يوم وليلة، تممها. وقال المزني:(1/244)
يمسح ثلث ما بقي من ثلاثة أيام ولياليهن مطلقا. ولو شك الماسح في السفر أو الحضر في انقضاء مدته، وجب الاخذ بانقضائها. ولو شك المسافر هل ابتدأ المسح في الحضر، أم السفر ؟ أخذ بالحضر، فيقتصر على يوم وليلة، فلو مسح في اليوم الثاني شاكا، وصلى به، ثم علم في اليوم الثالث أنه كان ابتدأ في السفر، لزمه إعادة ما صلى في اليوم الثاني. وله المسح في اليوم الثالث، فإن كان مسح في اليوم الاول، واستمر على الطهارة فلم يحدث في اليوم الثاني، فله أن يصلي في الثالث بذلك المسح، لانه صحيح. فإن كان أحدث في الثاني، ومسح شاكا، وبقي على تلك الطهارة، لم يصح مسحه، فيجب إعادة المسح. وفي وجوب استئناف الوضوء القولان في الموالاة. وقال صاحب (الشامل) يجزئه المسح مع الشك. والصحيح الاول. الغاية الثانية: نزع الخفين أو أحدهما، فإن وجد ذلك وهو على طهارة مسح، لزمه غسل الرجلين، ولا يلزمه استئناف الوضوء على الاظهر. واختلف في أصل القولين (1)، فقيل: بنفسيهما، وقيل: مبنيان على تفريق الوضوء، وضعفه الاصحاب. وقيل: على أن بعض الطهارة هل يختص بالانتقاض، أم يلزمه من انتقاض بعضها انتقاض جميعها ؟ وقيل: مبنيان على أن مسح الخف يرفع الحدث عن الرجل، أم لا ؟ فإن قلنا: لا يرفع، اقتصر على غسل الرجلين، وإلا استأنف الوضوء. قلت: الاصح عند الاصحاب أن مسح الخف يرفع الحدث عن الرجل، كمسح الرأس. ولو خرج الخف عن صلاحية المسح، لضعفه، أو تخرقه (2)، أو غير ذلك، فهو كنزعه. ولو انقضت المدة، أو ظهرت الرجل وهو في صلاة، بطلت. فلو لم يبق من المدة إلا ما يسع ركعة، فافتتح ركعتين، فهل يصح الافتتاح وتبطل صلاته عند انقضاء المدة، أم لا تنعقد ؟ وجهان في (البحر) أصحهما: الانعقاد. وفائدتهما: أنه لو اقتدى به إنسان عالم بحاله، ثم فارقه عند انقضاء(1/245)
المدة، هل تصح صلاته، أم لا تنعقد ؟ فيه الوجهان، وفيما لو أراد الاقتصار على ركعة. والله أعلم. الغاية الثالثة: أن يلزم الماسح غسل جنابة، أو حيض، أو نفاس، فيجب استئناف اللبس بعده. الغاية الرابعة: إذا نجست رجله في الخف ولم يمكن غسلها فيه، وجب النزع لغسلها. فإن أمكن غسلها فيه فغسلها، لم يبطل المسح. فرع: سليم الرجلين إذا لبس خفا في إحداهما، لا يصح مسحه. فلو لم يكن له إلا رجل، جاز المسح على خفها، ولو بقيت من الرجل الاخرى بقية، لم يجز المسح حتى يواريها بما يجوز المسح عليه. قلت: لو كان إحدى رجليه عليلة، بحيث لا يجب غسلها، فلبس الخف في الصحيحة، قطع الدارمي بصحة المسح عليه. وصاحب (البيان) بالمنع. وهو الاصح، لانه يجب التيمم عن الرجل العليلة، فهي كالصحيحة. والله أعلم.(1/246)
كتاب الحيض (1)
فيه خمسة أبواب.
الاول : في حكم الحيض والاستحاضة. أما سن الحيض، فأقله استكمال تسع سنين على الصحيح، وما رأته قبله: دم فساد. والثاني: بالطعن في أول التاسعة. والثالث: مضي نصف التاسعة. والمراد: السنون القمرية على الاوجه كلها. وهذا الضبط للتقريب على الاصح. فلو كان بين رؤية الدم واستكمال التسع على الصحيح ما لا يسع حيضا وطهرا، كان ذلك الدم حيضا، وإلا فلا. وسواء في سن الحيض، البلاد الحارة، وغيرها على الصحيح. وقال الشيخ أبو محمد: في الباردة وجهان. قلت: الوجه الذي حكاه أبو محمد: هو أنه إذا وجد ذلك في البلاد الباردة (2) التي لا يعهد ذلك في مثلها، فليس بحيض. والله أعلم. وأقل الحيض يوم وليلة على المذهب، وعليه التفريع. وأكثره: خمسة عشر(1/247)
يوما. وغالبه: ست أو سبع. وأقل الطهر بين حيضتين: خمسة عشر يوما، وغالبه: تمام الشهر بعد الحيض، ولا حد لاكثره. ولو وجدنا امرأة تحيض على الاطراد أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر، أو بطهر أقل من خمسة عشر، فثلاثة أوجه. الاصح: لا عبرة به. والثاني: يتبعه. والثالث: إن وافق ذلك مذهب بعض السلف، أتبعناه. وإلا فلا. والاول: هو المعتمد: وعليه تفريع مسائل الحيض، ويدل عليه الاجماع على أنها لو رأت النقاء يوما، والدم يوما على الاستمرار، لا نجعل كل نقاء طهرا كاملا. فصل: يحرم على الحائض ما يحرم على الجنب، ولا يجب عليها قضاء الصلاة (1). ولو أرادت العبور في المسجد، فإن خافت تلويثه لعدم إحكامها الشد، أو لغلبة الدم، حرم العبور عليها، ولا يختص هذا بها، بل المستحاضة، والسلس، ومن به جراحة نضاخة، يحرم عليهم العبور إذا خافوا التلويث. فإن أمنت الحائض التلويث، جاز العبور على الصحيح، كالجنب ومن عليه نجاسة لا يخاف تلويثها. ويحرم عليها الصوم، ويجب قضاؤه. وهل يقال: إنه واجب حال الحيض ؟ وجهان. قلت: الصحيح الذي عليه المحققون والجماهير: أنه ليس واجبا، بل يجب القضاء بأمر جديد. والله أعلم. وأما الاستمتاع بالحائض، فضربان. أحدهما: الجماع في الفرج، فيحرم ويبقى تحريمه إلى أن ينقطع الحيض، وتغتسل، أو تتيمم عند عجزها عن الغسل. فلو لم تجد ماء ولا ترابا، صلت الفريضة، وحرم وطؤها على الصحيح. ومتى جامع في الحيض متعمدا عالما بالتحريم، فقولان. المشهور الجديد: لا غرم عليه، بل يستغفر الله ويتوب، لكن يستحب أن يتصدق بدينار إن جامع في إقبال الدم، أو بنصف دينار إن جامع في(1/248)
إدباره والقول (1) والقديم: يلزمه غرامة. وفيها قولان. المشهور منهما ما قدمنا استحبابه في الجديد. والثاني: عتق رقبة بكل حال. ثم الدينار الواجب، أو المستحب، مثقال الاسلام من الذهب الخالص، يصرف إلى الفقراء والمساكين. ويجوز صرفه إلى واحد. وعلى قول الوجوب: يجب على الزوج دون الزوجة. وفي المراد بإقبال الدم وإدباره: وجهان. الصحيح المعروف: أن إقباله: أوله وشدته. وإدباره: ضعفه وقربه من الانقطاع. والثاني: قول الاستاذ أبي إسحاق الاسفراييني: إقباله: ما لم ينقطع، وإدباره: إذا انقطع ولم تغتسل. أما إذا وطئها ناسيا، أو جاهلا التحريم، أو الحيض، فلا شئ عليه قطعا. وقيل: يجئ وجه على القول (2) القديم: أنه يجب الغرم. الضرب الثاني: الاستمتاع بغير الجماع. وهو نوعان. أحدهما: الاستمتاع بما بين السرة والركبة، والاصح المنصوص: أنه حرام (3)، والثاني: لا يحرم. والثالث: إن أمن على نفسه التعدي إلى الفرج لورع، أو لقلة (4) شهوة، لم يحرم، وإلا حرم. وحكي الثاني (5) قولا قديما. النوع الثاني: ما فوق السرة وتحت الركبة، وهو جائز، أصابه دم الحيض، أم لم يصبه. وفي وجه شاذ: يحرم الاستمتاع بالموضع المتلطخ بالدم. ومن أحكام الحيض: أنه يجب الغسل (6) عند انقطاعه، وأنه يمنع صحة الطهارة ما دام الدم مستمرا، إلا الاغسال المشروعة، لما لا يفتقر إلى طهارة، كالاحرام، والوقوف، فإنها تستحب للحائض، وإذا قلنا بالضعيف: إن الحائض تقرأ القرآن، فلها أن(1/249)
تغتسل إذا أجنبت لتقرأ. ومن أحكام الحيض: أنه يوجب البلوغ، وتتعلق به العدة والاستبراء، ويكون الطلاق فيه بدعيا، وحكم النفاس حكم الحيض إلا في إيجاب البلوغ وما بعده. قلت: ومن أحكامه: منع وجوب طواف الوداع، ومنع قطع التتابع في صوم الكفارة، وقول الامام (1) الرافعي: وحكم النفاس حكم الحيض إلا في إيجاب البلوغ، وما بعده، يقتضي أن لا يكون الطلاق فيه بدعيا، وليس كذلك، بل هو بدعي، لان المعنى المقتضي بدعيته في الحيض موجود فيه، وقد صرح الرافعي أيضا في كتاب (الطلاق) بكونه بدعيا. والله أعلم. وإذا انقطع الحيض، ارتفع تحريم الصوم وإن لم تغتسل، وكذا الطلاق، وسقوط قضاء الصلاة، بخلاف الاستمتاع وما يفتقر إلى الطهارة. قلت: ومما يزول بانقطاع الحيض، تحريم العبور في المسجد إذا قلنا بتحريمه في زمن الحيض، ولنا وجه شاذ في (الحاوي) و (النهاية) أنه لا يزول تحريمه وليس بشئ. والله أعلم. فصل في الاستحاضة (2): الاستحاضة ضربان (3) قد تطلق على كل دم تراه المرأة، غير دم الحيض والنفاس. سواء اتصل بالحيض المجاوز أكثره أم لم يتصل، كالذي تراه لسبع سنين مثلا. وقد تطلق على المتصل به خاصة، ويسمى غيره: دم فساد، ولا تختلف الاحكام في جميع ذلك، والخارج حدث دائم،(1/250)
كسلس البول، فلا يمنع الصلاة والصوم، ويجوز وطؤها، وإنما أثر الحدث الدائم: الاحتياط في الطهارة، وإزالة النجاسة، فتغسل المستحاضة فرجها قبل الوضوء أو التيمم (1)، وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعا للنجاسة وتقليلا. فإن اندفع به الدم، وإلا شدت مع ذلك خرقة في وسطها، وتلجمت بأخرى مشقوقة الطرفين، فكل هذا واجب، إلا أن تتأذى بالشد أو تكون صائمة فتترك الحشو وتقتصر على الشد. وسلس البول (2) يدخل قطنة في إحليله، فإن انقطع، وإلا عصب (2) مع ذلك رأس الذكر. ثم تتوضأ المستحاضة بعد الاحتياط الذي ذكرناه. ويلزمها تقديم هذا الاحتياط على الوضوء (3)، ويجب الوضوء لكل فريضة، ولها ما شاءت من النوافل بعد الفريضة، ويجب أن تكون طهارتها بعد الوقت على الصحيح. وفي وجه شاذ: تجزئها الطهارة قبل الوقت إذا انطبق آخرها على أول الوقت. وينبغي لها أن تبادر بالصلاة عقب طهارتها. فإن تطهرت في أول الوقت، وصلت في آخره أو بعده. فإن كان تأخيرها لسبب الصلاة، كالاذان، والاجتهاد في القبلة، وستر العورة، وانتظار الجمعة والجماعة ونحوها، لم يضر، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: المنع. والثاني: الجواز. والثالث: الجواز ما لم يخرج الوقت. أما تجديد غسل الفرج، وحشوه، وشده لكل فريضة، فإن زالت العصابة عن موضعها زوالا له وقع، أو ظهر الدم في جوانبها، وجب التجديد. وإن لم تزل، ولا ظهر الدم، أو زالت زوالا يسيرا، وجب التجديد على الاصح. وقيل: الاظهر. كما يجب تجديد الوضوء،(1/251)
ويجري الخلاف فيما لو أحدثت بريح ونحوه قبل أن تصلي، فلو بالت، وجب التجديد قطعا. ولو خرج منها الدم بعد الشد لغلبة الدم، لم يبطل وضوؤها. وإن كان لتقصيرها في الشد، بطل، وكذا لو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد، وزاد خروج الدم بسببه. ولو (1) اتفق ذلك في صلاة، بطلت، وإن كان بعد فريضة، حرم النفل بعدها. فرع: طهارة المستحاضة تبطل بالشفاء، وفي وجه شاذ: لو اتصل الشفاء بآخر الوضوء، لم يبطل، وليس بشئ. ولو شفيت في صلاة، بطلت على المذهب. ومتى انقطع دمها وهي تعتاد الانقطاع والعود، أو لا تعتاده، لكن أخبرها به من يعتمد من أهل البصر، نظر، إن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تسع الطهارة والصلاة التي تطهرت لها، فلها الشروع في الصلاة. فلو امتد الانقطاع، بان بطلان الطهارة، ووجب قضاء الصلاة. وإن كانت مدة الانقطاع تسع الطهارة والصلاة، لزمها إعادة الوضوء بعد الانقطاع. فلو عاد الدم على خلاف العادة، قبل الامكان، لم يجب إعادة الوضوء على الاصح. لكن لو شرعت في الصلاة بعد هذا الانقطاع، ولم تعد الوضوء، فعاد الدم قبل الفراغ، وجب إعادة الصلاة على الاصح. أما إذا انقطع دمها وهي لا تعتاد الانقطاع والعود، ولم يخبرها أهل البصر بالعود، فيجب إعادة الوضوء. فلو عاد الدم قبل إمكان الوضوء والصلاة، فالاصح أن وضوءها السابق يبقى على صحته. والثاني: يجب إعادته. ولو خالفت أمرنا، وشرعت في الصلاة من غير إعادة الوضوء بعد الانقطاع، فإن لم يعد الدم، لم تصح صلاتها، لظهور الشفاء. وكذا إن عاد بعد مضي إمكان الطهارة والصلاة، لتمكنها من الصلاة بلا حدث، وكذا إن عاد قبل الامكان على الاصح، لترددها عند الشروع. ولو توضأت عند انقطاع دمها وهي لا تدري أنه شفاء، أم لا ؟ فسبيلها أن تنظر هل تعتاد الانقطاع، وتجري على مقتضى الحالين كما بينا. قلت: ولنا وجه شاذ: أن المستحاضة لا تستبيح النفل بحال. وإنما استباحت الفريضة مع الحدث الدائم للضرورة. والصواب المعروف أنها تستبيح النوافل مستقلة، وتبعا للفريضة ما دام الوقت باقيا، وبعده أيضا على الاصح. والمذهب:(1/252)
أن طهارتها تبيح الصلاة ولا ترفع الحدث. والثاني: ترفعه. والثالث: (1) ترفع الماضي دون المقارن والمستقبل. وإذا كان دمها ينقطع في وقت، ويسيل في وقت، لم يجز أن تصلي وقت سيلانه، بل عليها أن تتوضأ وتصلي في وقت انقطاعه، إلا أن تخاف فوت الوقت، فتتوضأ وتصلي في سيلانه. فإن كانت ترجو انقطاعه في آخر الوقت، فهل الافضل أن تعجل الصلاة في أول الوقت، أم تؤخرها إلى آخره ؟ فيه وجهان مذكوران في (التتمة)، بناء على القولين في مثله في التيمم. قال صاحب (التهذيب) لو كان سلس البول، بحيث لو صلى قائما سال بوله، ولو صلى قاعدا، استمسك، فهل يصلي قائما، أم قاعدا ؟ وجهان. الاصح: قاعدا حفظا للطهارة، ولا إعادة عليه على الوجهين. والله أعلم.
الباب الثاني في المستحاضات هن أربع: الاولى: المبتدأة المميزة وهي: التي ترى الدم على نوعين، أو أنواع، أحدها أقوى، فترد إلى التمييز، فتكون حائضا في أيام القوي، مستحاضة في أيام الضعيف. وإنما يعمل بالتمييز بثلاثة شروط. أحدها: أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يوما، والثاني: أن لا ينقص عن يوم وليلة ليمكن جعله حيضا. والثالث: أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوما ليمكن جعله طهرا بين حيضتين، والمراد بخمسة عشر الضعيف، أن لا (2) تكون متصلة فلو رأت يوما أسود، ويومين أحمر (3)، وهكذا أبدا، فجملة الضعيف في الشهر تزيد على خمسة(1/253)
عشر، لكن لا يعد هذا تمييزا لعدم إتصاله. هذا الذي ذكرناه من أن (1) الشروط ثلاثة هو الصحيح المعروف في المذهب. ولنا وجهان شاذان باشتراط شرط رابع. أحدهما قاله صاحب (التتمة): أنه يشترط أننا يزيد القوي والضعيف، على ثلاثين يوما. فإن زاد، سقط التمييز. والثاني: مذكور في (النهاية): أن الدمين إن كانا تسعين يوما فما دونها، عملنا بالتمييز، فإن جاوز تسعين، ابتدأت حيضة أخرى بعد التسعين. وجعل دورها تسعين أبدا. وفي المعتبر في القوة والضعف وجهان. أصحهما هو قول العراقيين وغيرهم، أن القوة تحصل بإحدى ثلاث خصال: اللون، والرائحة، والثخانة. فالاسود أقوى من الاشقر. والاشقر أقوى من الاصفر ومن الاكدر إذا جعلناهما حيضا. وما له رائحة أقوى مما لا رائحة له. والثخين أقوى من الرقيق. ولو كان دمها بعضه موصوفا بصفة من الثلاث، وبعضه خاليا عن جميعها، فالقوي هو الموصوف بالصفة. ولو كان للبعض صفة، وللبعض صفتان، فالقوي ما له صفتان. فإن (2) كان للبعض صفتان، وللبعض ثلاث، فالقوي ما له الثلاث. وإن وجد لبعضه صفة، ولبعضه أخرى، فالقوي: السابق منهما. كذا ذكره في (التتمة) وهو موضع تأمل. والوجه الثاني: أن المعتبر في القوة اللون وحده، وادعى إمام الحرمين إتفاق الاصحاب على هذا الوجه، واقتصر عليه أيضا الغزالي. والصحيح عند الاصحاب: الوجه الاول. فرع إذا وجدت شروط التمييز، فتارة يتقدم الدم القوي، وتارة الضعيف. فإن تقدم القوي، نظر. فإن استمر بعده ضعيف واحد، بأن رأت خمسة سوادا، ثم حمرة مستمرة، فحيضها السواد. والحمرة طهر وإن طال زمانها، وفيه الوجهان الشاذان المتقدمان عن (التتمة) و (النهاية) وإن وجد بعده ضعيفان، وأمكن جعل أولهما مع القوي حيضا (3)، بأن رأت خمسة سوادا، ثم خمسة حمرة، ثم صفرة مطبقة،(1/254)
فطريقان. أحدهما: القطع بأن القوي مع الضعيف الاول حيض. والثاني: وجهان، أحدهما: هذا. والثاني: حيضها القوي وحده، فإن لم يمكن جعلهما، بأن رأت خمسة سوادا، ثم أحد عشر حمرة، ثم صفرة مطبقة، فالمذهب: أن حيضها السواد. وقيل: فاقدة التمييز، فكأنها رأت ستة عشر أسود. أما إذا تقدم بعد القوي أضعف الضعيفين، فرأت سوادا، ثم صفرة، ثم حمرة، فإنه يبنى على ما إذا توسطت الحمرة. فإن الحقناها بما بعده، وقلنا: الحيض هو السواد وحده، فهنا أولى. وإن ألحقناها بالسواد، فحكمها كما إذا رأت سوادا، ثم حمرة، ثم عاد السواد. وذلك يعلم بما ذكرناه من شروط التمييز. أما إذا تقدم الضعيف أولا، فإن أمكن الجمع بين القوي وما تقدمه، بأن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سوادا، ثم حمرة مطبقة، فثلاثة أوجه. الصحيح: أن الحكم للون، فحيضها السواد، وأما ما قبله وبعده، فطهر والثاني: يجمع بينهما، فحيضها السواد وما قبله. والثالث: أنها فاقدة للتمييز. وإن لم يمكن الجمع، بأن رأت خمسة حمرة، ثم أحد عشر سوادا، فإن قلنا في حالة الامكان، حيضها السواد، فهنا أولى. وإن قلنا بالآخرين، ففاقدة للتمييز على الصحيح المعروف. وقيل: حيضها الحمرة المتقدمة مراعاة للاولية. فلو صار السواد ستة عشر، ففاقدة للتمييز بالاتفاق، إلا على الشاذ فإنه يقدم الاولية. وإذا فرعنا على الصحيح وهو تقديم اللون، فرأت المبتدأة خمسة عشر حمرة، ثم خمسة عشر سوادا، تركت الصوم والصلاة في جميع الشهر. فإن زاد السواد على خمسة عشر، فقد فات التمييز، فيرد إلى يوم وليلة في قول، وإلى ست أو سبع في القول الآخر، فتترك الصلاة والصوم أيضا بعد الشهر يوما وليلة، أو ستا، أو سبعا. ولا يتصور مستحاضة تؤمر بترك الصلاة أحدا وثلاثين يوما أو ستة أو سبعة وثلاثين، إلا هذه. فرع: وإذا بلغت المرأة سن الحيض، فرأت دما، لزمها ترك الصوم والصلاة والوطئ بمجرد رؤية الدم على الصحيح. وقيل: لا يترك الصوم والصلاة حتى ترى الدم يوما وليلة. فعلى الصحيح لو انقطع لدون يوم وليلة، بان أنه ليس حيضا، فتقضي الصلاة. واعلم أن المبتدئة المميزة لا تشتغل بالصوم والصلاة عند انقلاب الدم من القوة إلى الضعف، لاحتمال انقطاع الضعيف قبل مجاوزة خمسة عشر، فيكون الجميع(1/255)
حيضا، فتتربص إلى انقضاء الخمسة عشر. فإن انقضت والدم مستمر، عرفنا أنها مستحاضة، فتقضي صلوات ما زاد على الدم القوي. هذا حكم الشهر الاول. وأما الثاني وما بعده، فبانقلاب الدم تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يخرج ذلك على الخلاف في ثبوت العادة بمرة، فلو اتفق الشفاء في بعض الادوار، فانقطع الدم قبل مجاوزة الخمسة عشر، فالضعيف حيض مع القوي، كالشهر الاول. وسواء في كون جميعه حيضا إذا لم يجاوز، وتقدم الضعيف أو القوي على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ إن تقدم القوي، فالجميع حيض، وإن تقدم الضعيف، وبعده قوي وحده، أو قوي، ثم ضعيف آخر، كمن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سوادا، ثم خمسة حمرة، فحيضها في الصورة الاولى: السواد. وفي الثانية: السواد وما بعده. فرع: مفهوم كلام الاصحاب وما صرح به إمام الحرمين: أن المراد بانقلاب الدم القوي ضعيفا، أن تتمحض ضعيفا، حتى لو بقيت خطوط من السواد، وظهرت خطوط من الحمرة، لا ينقطع حكم الحيض، وإنما ينقطع إذا لم يبق شئ من السواد أصلا. المستحاضة الثانية: مبتدأة لا تمييز لها بأن يكون جميع دمها بصفة واحدة، أو يكون قويا وضعيفا، وفقد شرط من شروط التمييز، فينظر فيها، فإن لم تعرف وقت ابتداء الدم، فحكمها حكم المتحيرة - ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى - وإن عرفته، فقولان. أظهرهما: تحيض يوما وليلة، والثاني: ستا أو سبعا وعلى هذا في الست أو السبع وجهان. أحدهما: للتخيير، فتحيض إن شاءت ستا وإن شاءت سبعا، وأصحهما ليس للتخيير، بل إن كانت عادة النساء ستا، تحيضت ستا، وإن كانت سبعا، فسبعا. وفي النساء المعتبرات أوجه. أصحها: نساء عشيرتها من الابوين. فإن لم يكن عشيرة، فنساء بلدها. والثاني: نساء العصبات خاصة. والثالث: نساء بلدها وناحيتها، فإن كانت المعتبرات يحضن كلهن ستا أو سبعا، أخذت به. وإن نقصت عادتهن كلهن عن ست، أو زادت على سبع، فوجهان. أصحهما: ترد إلى ست في صورة النقص، وسبع في الزيادة. والثاني: ترد إلى عادتهن. ولو اختلفت عادتهن، فحاض بعضهن ستا، وبعضهن سبعا، ردت إلى الاغلب. فإن استوى البعضان، أو حاض بعضهن دون ست، وبعضهن فوق سبع، ردت إلى الست.(1/256)
هذا بيان مردها في الحيض. أما الطهر: فإن قلنا: ترد في الحيض إلى غالبه، فكذا في الطهر، فترد إلى ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين. وإن رددناها في الحيض إلى الاقل، فالصحيح أن طهرها تسع وعشرون تتمة الشهر. والثاني: أنه ثلاث وعشرون، أو أربع وعشرون، وقيل: على هذا يتعين الاربع والعشرون. والصواب المعروف ترديده بين الاربع والعشرين والثلاث والعشرين كما ذكرنا. والثالث: وهو نص غريب للشافعي رحمه الله: أنه أقل الطهر. فعلى هذا دورها ستة عشر، وهو شاذ ضعيف. واعلم أن ابتداء مردها في الحيض في حين رأت الدم، سواء كان بصفة واحدة، أم متميزا لفقد (1) منه شرط التمييز. ولنا وجه ضعيف عن ابن سريج رحمه الله: أنه إذا ابتدأ الضعيف، وجاوز القوي بعده أكثر الحيض، فابتداء حيضها من أول القوي. فرع: غير المميزة كالمميزة في ترك الصوم والصلاة في الشهر الاول إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن جاوزها الدم، تبينا الاستحاضة، فإن رددناها إلى أقل الحيض، قضت صلوات أربعة عشر يوما، وإن رددناها إلى الست أو السبع، قضت صلوات تسعة أيام أو ثمانية. وأما الشهر الثاني وما بعده، فإن وجدت فيه تمييزا بشرطه قبل تمام المرد أو بعده، فهي في ذلك الدور: مبتدأة مميزة. وإن استمر فقد التمييز، وجب عند مجاوزة المرد، الغسل، والصوم، والصلاة. فإن شفيت في بعض الشهور، قبل مجاوزة خمسة عشر، بان أنها غير مستحاضة في ذلك الشهر، وجميع دمها فيه حيض، فتقضي ما صامته في أيام الدم. وتبينا أن غسلها لم يصح، ولا تأثم بالصوم والصلاة والوطئ، فيما وراء المرد، وإن كان قد وقع في الحيض لجهلها. وإن لم تشف، فهل يلزمها الاحتياط فيما وراء المرد إلى تمام خمسة عشر، أم تكون طاهرا كسائر المستحاضات الطاهرات ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. فإن قلنا: تحتاط، لم تحل للزوج، إلا بعد خمسة عشر، ولا تقضي في هذه المدة فوائت الصوم والصلاة والطواف. ويلزمها أداء الصوم والصلاة والغسل لكل صلاة، وتقضي الصوم كله، ولا تقضي الصلاة. وإذا قلنا: لا تحتاط، صامت وصلت، ولا تقضيهما، ولا غسل عليها، ولها قضاء الفوائت. ويباح وطؤها.(1/257)
المستحاضة الثالثة: المعتادة غير المميزة، فترد إلى عادتها. ولها حالان. أحدهما: أن لا تختلف عادتها، فإن تكررت عادت حيضها وطهرها مرارا، ردت إليها في قدر الحيض، والطهر، ووقتها. والصحيح: أنه لا فرق بين أن تكون عادتها، أن تحيض أياما من كل شهر، أو من كل سنة، وأكثر. وقيل: لا يجوز أن يزيد الدور على تسعين يوما، وسنعيد المسألة في النفاس إن شاء الله تعالى. وإن لم تتكرر. فالاصح: أن العادة تثبت بمرة. والثاني: لا بد من مرتين. والثالث: لا بد من ثلاث مرات. فلو كانت تحيض خمسا، فحاضت في شهر ستا، ثم استحيضت بعده، فإن اثبتنا العادة بمرة، ردت إلى الست، وإلا، فإلى الخمس. ثم المعتادة في الشهر الاول من شهور استحاضتها، تتربص كالمبتدأة، لجواز انقطاع دمها على خمسة عشر، فإن جاوزها، قضت صلوات ما وراء العادة. وأما الشهر الثاني وما بعده، فتغتسل وتصلي وتصوم عند مضي العادة. ولا يجئ هنا قول الاحتياط المتقدم في المبتدأة، لقوة العادة. الحال الثانية: أن تختلف عادتها، ولها صور. منها: أن تستمر لها عادات مختلفة منتظمة بأن كانت تحيض في شهر ثلاثة، ثم في شهر خمسة، وفي شهر سبعة، ثم في الرابع ثلاثة، ثم في الخامس خمسة، وفي السادس سبعة، وهكذا أبدا، فهل ترد بعد الاستحاضة إلى هذه العادة ؟ وجهان. أصحهما: ترد، ويجري الوجهان، سواء كانت عادتها منتظمة على هذا الترتيب، أم على ترتيب آخر، بأن كانت ترى خمسة، ثم ثلاثة، ثم سبعا، ثم تعود الخمسة. وسواء رأت كل قدر مرة، كما ذكرنا، أم مرتين، بأن ترى في شهرين ثلاثة ثلاثة. وفي شهرين بعدهما خمسة خمسة، وفي شهرين بعدهما سبعة سبعة. ثم محل الوجهين إذا تكررت العادة الدائرة. فأما إذا رأت الاقدار الثلاثة، في ثلاثة أدوار، ثم استحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى الاقدار، لانا إن أثبتنا العادة بمرة، فالاخير ينسخ ما قبله، وإن لم نثبتها بمرة، فلانه لم تتكرر الاقدار لتصير عادة، ولهذا قال الائمة: أقل ما تستقيم فيه العادة في المثال المذكور ستة أشهر، فإن رأت هذه الاقدار مرتين، فأقله سنة. ثم إذا قلنا: ترد إلى هذه العادة، فاستحضيت عقب شهر الثلاثة، ردت في أول شهور الاستحاضة إلى الخمسة. وفي(1/258)
الثاني: إلى السبعة. وفي الثالث: إلى الثلاثة. وإن استحيضت بعد شهر الخمسة، ردت إلى السبعة، ثم الثلاثة، ثم الخمسة. وإن استحيضت بعد شهر السبعة، ردت إلى الثلاثة، ثم الخمسة، ثم السبعة. وإن قلنا: لا ترد إليها، فقد ذكر الغزالي ثلاثة أوجه. أحدها: ترد إلى ما قبل الاستحاضة أبدا. والثاني: إلى القدر المشترك بين الحيضتين السابقتين للاستحاضة. فإن استحيضت بعد شهر الخمسة، ردت إلى الثلاثة. والثالث: أنها كالمبتدأة. ولم أر هذه الاوجه بعد البحث لغيره، ولا لشيخه، بل المذهب والذي عليه الاصحاب في كل الطرق، أنها ترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة. وعلى هذا، هل يجب عليها الاحتياط فيما بين أقل العادات وأكثرها ؟ وجهان. أصحهما: لا. كصاحبة العادة الواحدة، فإنها لا تحتاط بعد المرد. والثاني: يجب. فعلى هذا، يجتنبها الزوج في المثال المذكور إلى انقضاء السبعة. ثم إن استحيضت بعد شهر الثلاثة، تحيضت من كل شهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم. وتغتسل مرة أخرى في آخر الخمسة، ومرة أخرى في آخر السبعة. وتقضي صوم السبعة دون صلاتها. وإن استحيضت بعد شهر الخمسة، تحيضت من كل شهر خمسة. ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، وتغتسل مرة أخرى في آخر السابع، وتقضي صوم السبعة، وتقضي صلوات اليوم الرابع، والخامس، لاحتمال عدم الحيض فيهما، ولم تصل فيهما. وإن استحيضت بعد شهر السبعة، تحيضت من كل شهر سبعة، واغتسلت في آخر السابع، وقضت صيام السبعة، وصلوات الرابع، والخامس، والسادس، والسابع. هذا كله إذا ذكرت العادة المتقدمة. فإن نسيتها، تحيضت من كل شهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، ثم تغتسل في آخر الخامس، وآخر السابع. وتتوضأ فيما بينهما لكل فريضة. سواء قلنا: ترد إلى العادة الدائرة، أم لا ؟ هذا مقتضى كلام الاصحاب. وقال امام الحرمين: هذا مخصوص بقولنا: ترد إلى الدائرة. فأما إن قلنا: ترد إلى ما قبل الاستحاضة، فقيل: هنا ترد إلى أقل العادات. وقيل: هي كمبتدأة. وقد تقدم قولان في أمرها بالاحتياط إلى آخر الخمسة عشر. الصورة الثانية. أن لا تكون تلك العادات منتظمة. بل تتقدم هذه مرة، وهذه مرة. فقال إمام الحرمين والغزالي إن لم نردها في حال الانتظام إلى العادة الدائرة، فهنا أولى، وترد إلى ما تقدم على الاستحاضة. وإن رددنا المنتظمة(1/259)
إلى الدائرة، فغير المنتظمة كناسية النوبة المتقدمة، فتحتاط كما سبق. وذكر غيرهما أوجها، أصحها: الرد إلى ما تقدم في الاستحاضة، بناء على ثبوت العادة بمرة. والثاني: ترد إلى المتقدم إن تكرر مرتين، أو ثلاثة، وإلا فإلى الاقل. والثالث، أنها كالمبتدأة. فإن قلنا بالاصح، أو الثاني، احتاطت إلى آخر أكثر العادات. وإن قلنا: كالمبتدأة، ففي الاحتياط إلى آخر الخامس عشر الخلاف المذكور في المبتدأة. هذا إذا عرفت القدر المتقدم على الاستحاضة، فإن نسيته، فوجهان. قال الاكثرون: ترد إلى أكثر (1) العادات. وقيل: كالمبتدأة، فعلى الثاني في الاحتياط، الخلاف المذكور في المبتدأة، فعلى الاول يجب الاحتياط إلى آخر أكثر العادات. وقيل: يستحب ولا يجب، فحصل من المجموع خلاف في أنها: هل تحتاط في الحال الثاني، سواء عرفت القدر المتقدم، أم نسيته ؟ وإذا احتاطت، فإلى آخر الخمسة عشر، أو آخر المقادير فيه. وفي حالة الانتظام، سواء نسيت، أو علمت، الخلاف. لكن الصحيح عند العلم في حالة الانتظام، أنها لا تحتاط. والصحيح: عند النسيان. وفي حالة عدم الانتظام، أنها تحتاط لكن إلى آخر الاقدار، لا إلى تمام الخمسة عشر. هذا كله حكم العادة المختلفة الدائرة. ومن المختلفة، أن يكون في المتقدم من عادتها، اختلاف قدر أو وقت. وتسمى: المتنقلة. فمن صورها، لو كانت تحيض أول كل شهر خمسة وتطهر باقيه، فحاضت في دور أربعة من الخمسة، ثم استحيضت، فإن أثبتنا العادة بمرة، رددناها إلى ما قبل الاستحاضة، وإلا فإلى العادة القديمة. ولو كانت المسألة بحالها، فرأت في دور ستة، وفي دور بعده سبعة، ثم استحيضت، فإن أثبتنا العادة بمرة، رددناها إلى السبعة. وإن لم نثبتها إلا بثلاث مرات، رددناها إلى الخمسة. وإن أثبتناها بمرتين، فالاصح: ترد إلى الستة. والثاني: إلى الخمسة. ولو كانت بحالها، فحاضت في دور الخمسة الثانية، فقد تغير وقت حيضها، وصار دورها المتقدم على هذه الخمسة خمسة وثلاثين، خمسة حيض، والباقي طهر. فإن تكرر هذا، بأن حاضت في الدور الآخر الخمسة الثالثة هكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه، فتحيض من أول الدم الدائم الخمسة، وتطهر ثلاثين، وهكذا أبدا. وإن لم يتكرر،(1/260)
بل استمر الدم في الدور الاول من الخمسة الثانية، فوجهان. قال أبو إسحاق: لا تحيض (1) في هذا الشهر، فإذا جاء الشهر الثاني، ابتدأت منه دورها القديم حيضا وطهرا. والصحيح، قول الجمهور: أنا نحيضها خمسة من ابتداء الدم المبتدئ من الخمسة الثانية، ثم إن اثبتنا العادة بمرة، حكمنا بالطهر ثلاثين، وأقمنا عليه الدور أبدا. وإن لم نثبتها بمرة، فوجهان. أصحهما: أن خمسة وعشرين بعدها طهر، لانه المتكرر. والثاني: أن طهرها باقي الشهر لا غير، وتحيض الخمسة الاولى من الشهر الثاني، وتراعي عادتها القديمة قدرا ووقتا. ولو رأت الخمسة الثانية دما، وانقطع، وطهرت بقية الشهر، وعاد الدم في أول الشهر، فقد صار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر ذلك، بأن رأت الخمسة الاولى من الشهر بعده دما وطهرت عشرين، وهكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه. وإن لم يتكرر، بأن رأت الخمسة الاولى، فاستمر، فالخمسة الاولى حيض بلا خلاف. وأما الطهر، فإن أثبتنا العادة بمرة، فهو عشرون، وإلا فخمسة وعشرون. ولو كانت بحالها، فطهرت بعد خمستها المعهودة عشرين، وعاد الدم في الخمسة الاخيرة، فقد تغير وقت حيضها بالتقدم، وصار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر الدور، بأن رأت الخمسة الاخيرة دما، وانقطع، وطهرت عشرين، وهكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه. وإن لم يتكرر، بل استمر الدم العائد، فأربعة أوجه في هذا ونظائره. أصحها: تحيض خمسة من أوله، وتطهر عشرين، وهكذا أبدا. والثاني: تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين. والثالث: تحيض عشرة منه، وتطهر خمسة وعشرين، ثم تحافظ على الدور القديم، والرابع: أن الخمسة الاخيرة استحاضة. وتحيض من أول الشهر خمسة، وتطهر خمسة وعشرين على عادتها القديمة. ولو كانت بحالها، وحاضت خمستها، وطهرت أربعة عشر يوما، ثم عاد الدم، واستمر، فأربعة أوجه. أصحها: أن يوما من أول الدم العائد، استحاضة، تكميلا للطهر. وخمسة بعده حيض، وخمسة عشر طهر، وصار دورها عشرين. والثاني: أن اليوم الاول استحاضة، والعشرة الباقية من الشهر مع خمسة من الشهر بعده حيض، ثم تطهر خمسة وعشرين، وتحافظ على دورها القديم. والثالث: أن اليوم(1/261)
الاول استحاضة، وبعده خمسة حيض وخمسة (1) وعشرون طهر، وهكذا أبدا. والرابع: جميع الدم العائد إلى آخر الشهر، استحاضة. وتفتتح من أول الشهر دورها القديم. المستحاضة الرابعة: المعتادة الذاكرة المميزة. إن اتفقت عادتها، والتمييز، بأن كانت تحيض خمسة من أول الشهر، وتطهر باقيه، فاستحيضت، ورأت خمسها سوادا، وباقي الشهر حمرة، فحيضها تلك الخمسة. وإن لم تتوافق العادة والتمييز، ولم يتخلل بينهما أقل الطهر، بأن كانت تحيض خمسة، فرأت في دور عشرة سوادا، ثم حمرة مستمرة، فثلاثة أوجه. أصحها: تعمل بالتمييز، فحيضها العشرة. والثاني: بالعادة، فحيضها خمسة من أوله. والثالث: إن أمكن الجمع بينهما، عمل بالدلالتين، وإلا سقطتا، وكانت كمبتدأة لا تمييز لها، وفيها القولان. مثال إمكان الجمع ما ذكرنا من عشرة السواد. وعدم إمكانه، بأن ترى خمستها حمرة، وأحد عشر عقبها سوادا. أما إذا تخلل بينهما أقل الطهر، بأن رأت عشرين فصاعدا دما ضعيفا، ثم خمسة قويا، ثم ضعيفا، وعادتها القديمة خمسة، فقدر العادة حيض للعادة، والقوي حيض آخر، لان بينهما طهرا كاملا. هذا هو الصحيح. ومنهم من بنى هذه الصورة على السابقة، فقال: إن قدمنا التمييز، فحيضها خمسة السواد، وطهرها المتقدم عليه خمسة وأربعون، وصار دورها خمسين. وإن قدمنا العادة فحيضها من (2) أول الشهر، خمسة. وبعدها، عشرون طهرا. وإن جمعنا، فحيضها الخمسة الاولى بالعادة، وخمسة السواد بالتمييز. فرع: العادة التي ترد إليها المعتادة، ليس من شرطها أن تكون عادة حيض وطهر صحيحين بلا استحاضة، بل قد تكون كذلك، وقد تكون مستفادة من التمييز، بأن ترى المبتدأة خمسة سوادا، ثم خمسة وعشرين حمرة، وهكذا مرارا، ثم يستمر السواد والحمرة في بعض الشهور، فقد عرفنا، أن عادتها خمسة من أول كل شهر، فترد إليه (3) على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ: هي كمبتدأة غير(1/262)
مميزة. ولو كانت بحالها، فرأت في بعض الادوار عشرة سوادا، وباقي الشهر حمرة، ثم استمر السواد في الذي بعده، فقال الائمة: فحيضها عشرة السواد، ومردها بعد ذلك عشرة. ولو اعتادت خمسة سوادا، ثم استمر الدم، ثم رأت في بعض الادوار عشرة، ردت في ذلك الدور إلى العشرة. وفي هاتين الصورتين إشكالان. أحدهما: أن الصورة الثانية، ينبغي أن تخرج على الخلاف في اجتماع العادة والتمييز. والثاني: أن ردها إلى العشرة في الصورة الاولى، طاهر إذا أثبتنا العادة بمرة، وإلا فينبغي ألا تكتفق بسبق العشرة مرة. قال الغزالي في الجواب عن هذا: هذه عادة تمييزية، فتنسخها مرة، فلا يجري فيها الخلاف كغير المستحاضة، إذا تغيرت عادتها القديمة مرة، فإنا نحكم بالحالة الناجزة. وللمعترض أن يقول: لم اختص الخلاف بغير التمييزية ؟ قلت: قد نقل الخلاف في هذه الصورة وتخريجها على الخلاف في ثبوت العادة بمرة، جماعة كثيرة. منهم، القاضي أبو الطيب، والمحاملي، والسرخسي (1)، والشيخ أبو الفتح المقدسي وصاحب (البيان) وغيرهم. وقد أوضحت ذلك في (شرح المهذب) ونقلت فيه عباراتهم. وعجب من الامام الرافعي، كونه لم يذكر هذا الخلاف. والله أعلم. فصل في الصفرة والكدرة الصفرة: شئ كالصديد، تعلوه صفرة. والكدرة: شئ كدر. وليسا على لون الدماء، وهما حيض في أيام العادة بلا خلاف (2). وفي غيرها أوجه. الصحيح: أن لها حكم السواد. والثاني: ليس لها حكمه. والثالث: إن سبق دم قوي.(1/263)
من سواد، أو حمرة، فالصفرة، والكدرة بعده حيض، وإلا فلا. والرابع: إن سبقهما دم قوي وتعقبهما قوي، فهما حيض، وإلا فلا. وعلى الثالث والرابع: يكفي في تقدم القوي وتأخره أي قدر مكان، ولو لحظة على الاصح. وقيل: لا بد من يوم وليلة. والمبتدأة في مردها على القولين: الاقل، والغالب، إذا رأت الصفرة، والكدرة، كالمعتادة فيما وراء العادة على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقيل: كأيام العادة.
البالب الثالث في المستحاضة المعتادة الناسية
الناسية ضربان: مميزة، وغيرها. فالمميزة: ترد إلى التمييز على الصحيح. وعلى الثاني: هي كغير مميزة، أما غير المميزة، فلها أحوال. الاول: أن تنسى عادتها قدرا ووقتا، لغفلة، أو علة، أو جنون، ونحو ذلك، وتسمى: المتحيرة (1)، والمحيرة، وفي حكمها طريقان. جحدهما: أنها مأمورة بالاحتياط. والثاني: على قولين. المشهور: الاحتياط. والثاني: أنها كالمبتدأة، فيكون فيما ترد إليها القولان، إلى يوم وليلة (2). والثاني: ست، أو سبع. وقيل: ترد على هذا القول إلى يوم وليلة قطعا. وعلى هذا القول ابتداء حيضها أول الهلال، حتى لو أفاقت المجنونة في أثناء الشهر الهلالي، كان باقي الشهر استحاضة. هذا هو المعروف وقول الجمهور تفريعا على هذا القول. وقال القفال: ابتداء حيضها، من وقت الافاقة. قال الائمة: قول القفال: ضعيف، لاحتمال الافاقة في الحيض. وكذا قول الجمهور ضعيف، لان تعيين أول الهلال تحكم. وهذا مما ضعف به أصل هذا القول. وعلى هذا القول: في أمرها بالاحتياط، في انقضاء المرد إلى آخر الخمسة عشر، القولان في المبتدأة. ومتى أطلقنا الشهر في مسائل المستحاضات، أردنا به ثلاثين يوما. سواء كان ابتداؤه من أول الهلال، أم لا. ولا نعني به الشهر الهلالي، إلا في هذا الموضع. وأما قول(1/264)
الاحتياط وهو المعمول به، وعليه التفريع، فيجب الاحتياط في ستة أشياء. الاول: يحرم وطؤها أبدا على الصحيح. وقيل: يباح للضرورة. فعلى الصحيح، لو وطئ فلا كفارة قطعا. والاستمتاع بغير الوطئ لها فيه حكم الحائض. الثاني: يحرم عليها، مس المصحف، والقراءة خارج الصلاة إذا حرمناها على الحائض. ولا تحرم في الصلاة الفاتحة، ولا تحرم السورة أيضا على الاصح. وحكمها في دخول المسجد، حكم الحائض. الثالث: يجب عليها الصلوات الخمس أبدا، ولا تحرم النوافل على الاصح وقيل تحرم. وقيل: يحرم غير الراتبة. ويجري الخلاف في نفل الصوم، والطواف. ويجب الغسل لكل فريضة، ويشترط وقوعه في الوقت. وفي وجه شاذ: يجوز غسلها قبل الوقت، إذا انطبق أول الصلاة على أول الوقت وآخر الغسل، ويلزمها المبادرة بالصلاة عقب الغسل على وجه. والاصح أنها لا تلزم. لكن إن أخرت، لزمها لتلك الصلاة وضوء آخر إذا لم نجوز للمستحاضة تأخير الصلاة عن الطهارة. الرابع: يجب عليها صوم جميع شهر رمضان، ويحسب لها منه خمسة عشر يوما على المنصوص وقول طائفة من الاصحاب. وأربعة عشر على قول أكثرهم. وتأولوا النص، على ما إذا علمت أن دمها كان ينقطع في الليل، فإن نقص الشهر، حصل على الاول أربعة عشر، وعلى الثاني ثلاثة عشر، وقال صاحب (المهذب): تحصل أربعة عشر، ووافقه صاحب (البيان) وهو غلط. قلت: لم يغلط صاحب (المهذب)، بل كلامه محمول على شهر تام. وقد أوضحته في شرح (المهذب). والله أعلم. أما الصلوات الخمس، إذا أدتها، فوجهان. أحدهما: لا يجب قضاؤها، والصحيح عند الجمهور، وجوب القضاء (1). وقطع به بعضهم، فعلى هذا تغتسل في أول وقت الصبح، وتصليها، ثم بعد طلوع الشمس تغتسل، وتعيدها. ولا يشترط البدار بالاعادة بعد خروج الوقت، بل متى أعادتها، قبل انقضاء خمسة عشر(1/265)
يوما من أول الصبح، أجزأها، ولا يشترط تأخير جميع الصلاة الثانية عن الوقت. بل لو وقع بعضها في آخر الوقت، جاز بشرط أن يكون دون تكبيرة، إذا قلنا: تلزم الصلاة بإدراك تكبيرة. أو دون ركعة، إذا قلنا: لا تلزم إلا بإدراك ركعة، لانه إن فرض الانقطاع قبل الثانية، فقد اغتسلت، وصلتها، والانقطاع لا يتكرر وإن فرض في أثنائها. فلا (1) شئ عليها، كذا قاله إمام الحرمين فلك (2) أن تقول أشكالا. المرة الثانية، يتقدمها الغسل، فإذا وقع بعضها في الوقت، والغسل سابق، جاز أن يقع الانقطاع في أثناء الغسل، ويكون الباقي من وقت الصلاة من حينئذ قدر ركعة أو تكبيرة، فيجب أن ينظر إلى زمن الغسل سوى الجزء الاول منه. وإلى الجزء الواقع من الصلاة في الوقت. ويقال: إن كان ذاك دون ما يلزم به الصلاة، جاز، وإلا، فلا، ولا يقتصر النظر على جزء الصلاة. ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون ذلك دون تكبيرة، ويبعد أن يكون دون ركعة. هذا الكلام في الصبح. وأما العصر، والعشاء، فيصليهما مرتين كذلك. وأما الظهر، فلا يكفي وقوعها المرة الثانية في أول وقت العصر، ولا وقوع المغرب في أول وقت العشاء، لاحتمال انقطاع الحيض في الوقت المفروض، فيلزم الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيجب إعادة الظهر في الوقت الذي يجوز إعادة العصر فيه. وهو بعد ذهاب وقت العصر، وتعيد المغرب بعد ذهاب وقت العشاء. ثم إذا أعادت الظهر والعصر بعد المغرب (3)، نظر، إن قدمتهما على أداء المغرب، فعليها أن تغتسل للظهر، وتتوضأ للعصر، وتغتسل للمغرب. وإنما كفى للظهر والعصر غسل، لان دمها إن انقطع قبل الغروب، فقد اغتسلت بعده. وإن انقطع بعد الغروب، فليس عليها ظهر، ولا عصر. وإنما لزمها إعادة الغسل للمغرب، لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر، أو العصر، أو عقبيهما. وهكذا الحكم إذا قضت المغرب، والعشاء، قبل أداء الصبح بعد طلوع الفجر. وحينئذ، تكون مصلية الصلوات الخمس مرتين بثمانية أغسال، ووضوءين. وإن أخرت الظهر، والعصر، عن أداء المغرب، اغتسلت للمغرب، وكفاها ذلك للظهر والعصر، لانه إن انقطع حيضها قبل الغروب، لم تعد إلى إتمام(1/266)
مدة الطهر. وإن انقطع بعده، لم يكن عليها ظهر ولا عصر، لكن تتوضأ لكل واحدة منهما كسائر المستحاضات. وكذا القول في المغرب والعشاء، إذا أخرتهما عن الصبح. وحينئذ، تكون مصلية الخمس مرتين. بالغسل ستا، وبالوضوء أربعا. ثم بالطريق الثاني، تخرج عن عهدة الصلوات الخمس. وأما بالطريق الاول، فقد أخرت المغرب والصبح، عن أول وقتهما، لتقديمها القضاء عليهما، فتخرج عن عهدة ما عداهما، وأما هما، فقد قال في (النهاية): إذا أخرت الصلوات عن أول الوقت، حتى مضى ما يسع الغسل، فتلك الصلاة لم يكف فعلها مرة أخرى، في آخر الوقت، أو بعده، على التصوير السابق. لاحتمال طهرها في أول الوقت، ثم حدوث الحيض، فتجب الصلاة، وتكون المرتان واقعتين في الحيض. بل تحتاج إلى فعلها مرتين أخريين بغسلين. ويشترط أن تكون إحداهما بعد انقضاء وقت الرفاهية. والضرورة، قبل تمام خمسة عشر يوما من افتتاح الصلاة، المرة الاولى. وتكون الثانية، في أول السادس عشر، من آخر الصلاة، المرة الاولى، فتخرج عن العهدة بيقين. ومع هذا كله، لو اقتصرت على أداء الصلوات في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئا، حتى مضت خمسة عشر يوما، أو مضى شهر، لم يجب عليها لكل خمسة عشر، وإلا قضاء صلوات يوم وليلة. لان القضاء لا يجب إلا لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور الانقطاع في الخمسة عشر، إلا مرة. ويجوز أن يجب به قضاء صلاتي جمع، وهما الظهر، والعصر، أو المغرب والعشاء. فإذا أشكل الحال، أوجبنا قضاء يوم وليلة، كمن نسي صلاة أو صلاتين من خمس. ولو كانت تصلي في أوساط الاوقات، لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات، يومين وليلتين، لجواز أن يطرأ الحيض في وسط صلاة، فيبطل، وينقطع في وسط أخرى، فيجب. ويجوز أن يكونا مثلين. ومن فاتته صلاتان متماثلتان، لم تعرف عينهما، لزمه صلوات يومين وليلتين، بخلاف ما إذا كانت تصلي في أول الوقت، فإنه لو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة، لم يجب، لانها لم تدرك من الوقت ما يسعها. الخامس: إذا أرادت قضاء صوم يوم، فأقل ما يحصل بصيام ثلاثة، فتصوم يوما، وتفطر يوما، وتصوم الثالث، ثم السابع عشر. ولا يتعين الثالث، للصوم الثاني. ولا السابع عشر، للصوم الثالث. بل لها أن تصوم بدل الثالث، يوما بعده إلى آخر(1/267)
الخامس عشر. وبدل السابع عشر، يوما بعده، إلى آخر تسعة وعشرين يوما. ولكن الشرط، أن يكون المخلف، من أول السادس عشر، مثل ما بين صومها الاول، والثاني، أو أقل منه. فلو صامت الاول، والثالث، والثامن عشر، لم يجز، لان المخلف من أول السادس عشر، يومان. وليس بين الصومين الاولين إلا يوم. فلو صامت الاول، والرابع، والثامن عشر، أو السابع عشر، جاز. ولو صامت الاول، والخامس عشر، فقد تخلل بين الصومين ثلاثة عشر، فلها أن تصوم التاسع والعشرين، ولها أن تصوم يوما قبله، غير السادس عشر. ولنا وجه شاذ: أن يكفيها في صوم اليوم، أن تصوم يومين، بينهما أربعة عشر. وحكي هذا عن نص الشافعي رحمه الله، وهو قول من قال: يحسب لها من رمضان، خمسة عشر. وقطع الجماهير: بأنه لا يكفي اليومان، لاحتمال ابتداء الحيض في اليوم الاول، وانقطاعه في السادس عشر. وتأولوا النص، على ما إذا علمت الابتداء والانقطاع في الليل. أما إذا أرادت قضاء أكثر من يوم فتضعف ما عليها، وتزيد يومين، فتصوم نصف الجموع متواليا متى شاءت، وتصوم النصف الآخر من أول السادس عشر. فإذا أرادت يومين، صامت ثلاثة متوالية متى شاءت. ثم أفطرت تمام خمسة عشر، ثم صامت السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر. وإن أرادت ثلاثة، صامت أربعة، ثم أربعة، أولها السادس عشر. وإن أرادت أربعة عشر، صامت الشهر كله. ولو أنها صامت ما عليها على الولاء متى شاءت من غير زيادة، وأعادته من أول السابع عشر، وصامت بينهما يومين مجتمعين، أو متفرقين، إما متصلين بالصوم الاول أو الثاني، وإما غير متصلين، لخرجت عن (1) العهدة. هذا كله في قضاء الصوم الذي لا تتابع فيه، وأما المتتابع، بنذر، أو غيره. فإن كان قدرا يقع في شهر، صامته (2) على الولاء، ثم صامته (3) مرة أخرى من السابع عشر. مثاله: عليها يومان متتابعان. تصوم يومين، وتصوم السابع عشر، والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين. فإن كان عليها شهران متتابعان، صامت مائة وأربعين يوما متوالية. أما إذا أرادت تحصيل صلاة فائتة، أو منذورة، فإن كانت(1/268)
واحدة، صلتها بغسل متى شاءت ثم أمهلت زمانا يسع الغسل، وتلك الصلاة، ثم تعيدها بغسل آخر، بحيث تقع في خمسة عشر، من أول الصلاة الاولى. وتمهل من أول السادس عشر قدر الامهال الاول، ثم تعيدها بغسل آخر قبل تمام شهر من المرة الاولى. ويشترط أن لا يؤخر الثالثة عن أول السادس عشر أكثر من الزمان المتخلل بين آخر المرة الاولى، وأول الثانية، كما ذكرنا في الصوم. وإن أرادت صلوات. فلها طريقان. أحدهما: أن تنزلها منزلة الصلاة الواحدة فتصليها متوالية ثلاث مرات كما ذكرنا في الواحدة. وتغتسل في كل مرة للصلاة الاولى، وتتوضأ لكل واحدة بعدها. وسواء اتفقت الصلوات، أو اختلفت. والطريق الثاني: ينظر ما عليها، إن لم تختلف، ضعفته وزادت صلاتين، وصلت نصف الجملة متواليا. ثم النصف الآخر من أول السادس عشر من أول الشروع في النصف الاول. مثاله: عليها خمس صلوات صبح، تضعفها، وتزيد صلاتين، فتصلي ستا متى شاءت، وستا أول السادس عشر. وإن كان العدد مختلفا، صلت ما عليها بأنواعه متواليا متى شاءت، ثم صلت صلاتين، من كل نوع مما عليها، بشرط أن يقعا في خمسة عشر يوما من أول الشروع. وتمهل من أول السادس عشر زمانا يسع الصلاة المفتتح بها، ثم تعيد ما عليها، على ترتيب فعلها في المرة الاولى. مثاله: عليها ظهران، وثلاث أصباح، تصلي الخمس متى شاءت، ثم تصلي بعدها في الخمسة عشر صبحين وظهرين، وتمهل من السادس عشر ما يسع صبحا، ثم تعيد الخمس كما فعلت أولا. وفي هذا الطريق، تفتقر لكل صلاة إلى غسل، بخلاف الطريق الاول. وأما الطواف، فكالصلاة، واحدا كان، أو عددا، ويصلي مع كل طواف ركعتيه ويكفي غسل واحد للطواف وركعتيه إن لم نوجب الركعتين. فإن أوجبناهما، فالاصح، أنه يجب وضوء للركعتين بعد الطواف. والثاني: يجب غسل آخر لهما. والثالث: لا يجب شئ. السادس: في عدة المتحيرة. الصواب: الذي عليه الجماهير، أن عدتها، ثلاثة أشهر في الحال (1). وفي وجه شاذ: تقعد إلى سن اليأس، ثم تعتد بالاشهر.(1/269)
فرع: اعلم أن إمام الحرمين مال إلى رد المتحيرة إلى مرد المبتدأة في قدر الحيض، وإن لم نجعل الهلال، ابتداء دورها. ومما استشهد به، مسألة عدتها، فإنها تدل على تقريب أمرها من المبتدأة في عدد الحيض، والطهر. وهذا توسط بين القول الضعيف، والاحتياط التام. وفيه تخفيق أمرها، في المحسوب من رمضان، فإن غاية حيضها على هذا، سبعة، يفسد به ثمانية، فيحصل لها من شهر رمضان الكامل، اثنان وعشرون يوما. وكذا قضاء الصوم، والصلاة، فيكفيها على هذا، إذا أرادت صوم يوم، أن تصوم يومين، بينهما سبعة. لكن الذي عليه الجمهور، ما تقدم. قلت: قد أتقن الامام الرافعي رحمه الله، باب المتحيرة ولخص مقاصده في أوراق قليلة. وقد بسطت أنا في شرح (المهذب) جميع مسائله. وذكرت في عدتها طريقة أخرى، اختارها الدارمي، فيها إنكار على الاصحاب في المذكور هنا. وكذا في صومها المتتابع، وكذا في غير المتتابع. ومن جملة ذلك، أن من عليها صوم يومين، يحصل لها ذلك بصيام خمسة أيام. فتصوم الاول، والثالث، والسابع عشر، والتاسع عشر. وتخلي الرابع، والسادس عشر، يبقى بينهما أحد عشر يوما. تصوم منها يوما، أيها شاءت. ثم بسط تفريع ذلك، وتقسيمه. وعلى زوج المتحيرة، نفقتها. ولا خيار له في فسخ نكاحها، لان جماعها متوقع. بخلاف الرتقاء. ولا تصح صلاة طاهرة خلف متحيرة، ولا صلاة متحيرة خلف متحيرة على الصحيح. ولا يلزمها الكفارة بالجماع، في نهار شهر رمضان على الصحيح، إن قلنا: يجب على المرأة، ولا فدية عليها إذا أفطرت لارضاع على الصحيح، إن أوجبناها على غيرها. ولا يصح جمعها بين الصلاتين بالسفر أو المطر في وقت الاولى (2). وإذا وجب عليها صوم يوم، فشرعت في الصيام على التفصيل المتقدم، فصامت يوما شكت بعد فراغها منه، هل نوت صومه، أم لا ؟ حكم بصحته على الصحيح، لانه شك بعد الفراغ. وعلى الثاني: لا يصح. لان هذا(1/270)
الصيام، كيوم واحد. فصار كالشك في أثنائه. والله أعلم. الحال الثاني: للناسية أن تحفظ زمن عادتها. وضابطه، أن كل زمن تيقن فيه الحيض، ثبت فيه أحكام الحيض كلها. وكل زمن تيقن فيه الطهر، ثبت في حكم الطهر. لكن بها حدث دائم، وكل زمن يحتمل الحيض والطهر، فهي في الاستمتاع، كالحائض. وفي لزوم العبادات، كالطاهر. ثم إن كان ذلك الزمن محتملا للانقطاع، وجب الغسل لكل فريضة، ووجب الاحتياط على ما يقتضيه الحال. فإذا عينت ثلاثين يوما، وقالت: كان حيضي يبتدئ لاولها، وكذا كل ثلاثين بعدها، فيوم وليلة من أول الثلاثين حيض بيقين. وبعده، يحتمل الحيض والطهر. والانقطاع إلى آخر الخمسة عشر، وبعده إلى آخر الشهر، طهر بيقين. وكذا الحكم في كل ثلاثين، والمراد بالشهر، في هذه المسائل، الايام التي تعينها هي، لا الشهر الهلالي. ولو عينت ثلاثين، وقالت: أعلم أن الدم كان ينقطع آخر كل شهر، فالنصف الاول، طهر بيقين. وبعده، يحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. وليلة الثلاثين ويومها حيض بيقين. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر، أي كنت في آخر كل شهر، [ وأول ما بعده حائضا فلحظة من أول كل شهر ] (1) ولحظة من آخره، حيض بيقين. ولحظة من آخر الخامس عشر، ولحظة من أول ليلة السادس عشر، طهر بيقين. وما بين اللحظة من أول الشهر، واللحظة من آخر الخامس عشر، يحتمل الحيض، والطهر، والانقطاع. وما بين اللحظة من أول ليلة السادس عشر، واللحظة من آخر الشهر، يحتملهما دون الانقطاع. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر طهرا، فليس لها حيض بيقين، ولها لحظتا طهر بيقين في أول كل شهر، وآخره. ثم قدر أقل الحيض بعد اللحظتين، لا يمكن فيه الانقطاع، وبعده يحتمل. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر حيضا، أو كنت اليوم الخامس حائضا، فلحظة من كل آخر شهر، إلى آخر خمسة أيام من الذي بعده، حيض بيقين، ولحظة من آخر الخامس عشر، إلى آخر العشرين، طهر بيقين، وما بينهما، كما سبق. الحال الثالث: أن تحفظ قدر عادتها. وإنما تخرج الحافظة (2) عن التحير(1/271)
بحفظ قدر الدور وابتدائه، وقدر الحيض. إذ لو قالت: حيضي خمسة وأضللتها في دوري، ولا أعرف سوى هذا، فلا فائدة في حفظها، لاحتمال الحيض، والطهر، والانقطاع كل زمان. وكذا لو قالت: حيضي خمسة، ودوري ثلاثون، لا أعرف ابتداءه. وكذا لو قالت: حيضي خمسة وابتداؤه يوم كذا، ولا أعرف قدره. فإن حفظتهما مع قدر الحيض، فإضلالها بعد ذلك يكون لاضلال الحيض. والاضلال، قد يكون في كل الدور، وقد يكون في بعضه. فإن كان في كله، فكله يحتمل الحيض والطهر. وقدر الحيض، من أول الدور، لا يحتمل الانقطاع [ وبعده يحتمله ] (1). مثاله: قالت: دوري ثلاثون، أولها كذا، وحيضي عشرة. فعشرة في أولها، لا يحتمل الانقطاع، والباقي يحتمله، والجميع، يحتمل الحيض والطهر. فلو قالت: حيضي إحدى عشرات الشهر، فهذه كالاولى، إلا أن احتمال الانقطاع هنا، لا يكون إلا في آخر كل عشرة. ومثال الاضلال في بعض الدور أن تقول: أضللت عشرة، في عشرين من أول الشهر، فالعشرة الاخيرة، طهر بيقين، والعشرون، تحتمل الحيض والطهر. ولا يمكن الانقطاع في الاولى، ويمكن في الثانية. ولو قالت: أضللت خمسة عشر، في عشرين من الاول، فالعشرة الاخيرة، طهر بيقين. والخمسة الثانية، والثالثة، حيض بيقين. فالاولى، تحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. والرابعة، تحتمل الجميع، ولو قالت: حيضي خمسة. وكنت اليوم الثالث عشر طاهرا، فخمسة من أول الدور، تحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. وما بعده، تحتمل الجميع، إلى آخر الثاني عشر. ثم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، طهر بيقين. ومن أول السادس عشر، إلى آخر العشرين، تحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع. ومنه إلى آخر الشهر، تحتمل الجميع. ومتى كان القدر الذي أضلته، زائدا على نصف المضل فيه، حصل حيض بيقين، من وسطه، وهو الزائد على النصف مع مثله. فهذا ضابطه وقد ذكرنا مثاله في قولها: أضللت خمسة عشر، في عشرين.(1/272)
الباب الرابع في التلفيق إذا انقطع دمها، فرأت يوما دما، ويوما نقاء. أو يومين، ويومين. فتارة، يجاوز التقطع خمسة عشر، وتارة لا يجاوزها. فإن لم يجاوزها، فقولان. أظهرهما عند الاكثرين: أن الجميع، حيض. ويسمى: قول السحب. والثاني: حيضها الدماء خاصة. وأما النقاء، فطهر. ويسمى: قول التلفيق. وعلى هذا القول: إنما نجعل النقاء طهرا، في الصوم، والصلاة، والغسل ونحوها دون العدة. والطلاق فيه بدعي. ثم القولان: إنما هما في النقاء الزائد على الفترة المعتادة. فأما الفترة المعتادة بين دفعتي الدم، فحيض بلا خلاف. قال إمام الحرمين في الفرق بين الفترة والنقاء: دم الحيض يجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطره شيئا فشيئا، فالفترة: ما بين ظهور دفعة، وانتهاء أخرى من الرحم إلى المنفذ. فما زاد على ذلك، فهو النقاء. قال الرافعي: وربما تردد الناظر، في أن مطلق الزائد، هل يخرج عن الفترة، لان تلك مدة يسيرة ؟ قلت: الصحيح المعتمد في الفرق، أن الفترة: هي الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم، ويبقى أثر، بحيث لو أدخلت فرجها قطنة، لخرج عليها أثر الدم من حمرة، أو صفرة، أو كدرة، فهذه حالة حيض قطعا، طالت، أم قصرت. والنقاء: أن يصير فرجها بحيث لو أدخلت القطنة، لخرجت بيضاء، فهذا الضبط، هو الذي ضبطه الامام الشافعي رضي الله عنه (1) في (الام) والشيوخ الثلاثة: أبو حامد الاسفراييني، وصاحبه القاضي أبو الطيب، وصاحبه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في تعاليقهم. فلا مزيد عليه، ولا محيد عنه. والله أعلم. ولا فرق في جريان القولين بين أن يستوي قدر الدم والنقاء، أو يزيد أحدهما لو رأت صفرة، أو كدرة بين سوادين، وقلنا: إنها في غير أيام العادة، ليست حيضا، فهي كالنقاء. وإذا قلنا بالسحب، فشرطه كون النقاء محتوشا بدمين في الخمسة عشر. فإن لم يقع بينهما، فهو طهر بلا خلاف.(1/273)
مثاله: رأت (الدم) يوما، ويوما، إلى الثالث عشر، ولم يعد الدم في الخامس عشر، فالرابع عشر، والخامس عشر، طهر قطعا، لان النقاء فيهما لم يتعقبه دم في الخمسة عشر. فرع: الدماء المتفرقة، إن بلغ مجموعها أقل الحيض، نظر، إن بلغ الاول، والآخر، كل منهما أقل الحيض، فعلى القولين. وقيل: النقاء هنا حيض قطعا (1). وإنما القولان، إذا لم يبلغ كل طرف الاقل. وإن لم يبلغ واحد منهما الاقل، بأن رأت نصف يوم دما، ونصفه نقاء، إلى آخر الخمسة عشر، فثلاثة طرق. أصحها: طرد القولين. فعلى قول التلفيق: حيضها أنصاف الدم سبعة ونصف. وعلى السحب، حيضها أربعة عشر ونصف، فإن النصف الاخير لم يحتوشه دمان. والثاني: القطع بأن لا حيض أصلا، وكله دم فساد. والثالث: أن توسطهما قدر أقل الحيض متصلا، فعلى القولين، وإلا فالجميع دم فساد. وإن بلغ أحدهما الاقل، دون الآخر، فثلاثة طرق. أصحها: طرد القولين. والثاني: ما بلغه حيض، وما سواه، دم فساد. والثالث: إن بلغ الاول أقل الحيض، فالجميع حيض. وإن بلغ الآخر، فهو حيض دون ما سواه. هذا كله إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض. فإن لم يبلغه، فطريقان. أصحهما: طرد القولين. فإن لفقنا، فلا حيض، وكذا إن سحبنا، على الاصح. وعلى الضعيف: الدم والنقاء كله حيض. والطريق الثاني: القطع بأن لا حيض. فحصل في المعتبر من الدمين لنجعل ما بينهما حيضا على قول السحب أوجه. أصحهما: يشترط بلوغ مجموع الدماء قدر أقل الحيض. والثاني: يشترط أن يكون كل واحد من الدمين قدر أقل الحيض، حتى لو رأت دما ناقصا عن الاقل، ودمين آخرين غير ناقصين، فالاول: دم فساد، والآخران، وما بينهما من النقاء، حيض. والثالث: لا يشترط، بل لو كان مجموع الدماء، نصف يوم، أو أقل، فهي وما بينهما من النقاء حيض، على قول التلفيق (2). قاله الانماطي (3).(1/274)
والرابع: يشترط بلوغ أولهما، وحده أقل الحيض. والخامس: يشترط أن يكون أحدهما أقل الحيض. والسادس: يشترط الاقل في الاول، أو الاخير، أو الوسط. فرع: إذا انقطع دم المبتدأة، فعند انقطاعه وهو بالغ أقل الحيض، يلزمها على القولين الغسل، والصلاة، والصوم، ولها الطواف، والجماع. وفي وجه: لا يحل الجماع إذا قلنا بالسحب. ثم إذا عاد الدم، تركت الصوم، والصلاة، والجماع، وغيرها. وبينا على قول السحب وقوع العبادات، والجماع في الحيض. لكن لا تأثم، وتقضي الصوم، والطواف، دون الصلاة. وعلى قول التلفيق: ما مضى، صحيح، ولا قضاء. وهكذا حكم الانقطاع الثاني، والثالث، وما بعدهما في الخمسة عشر. وفيه وجه شاذ ضعيف: أن ما سوى الانقطاع الاول، يبنى على أن العادة بماذا ثبتت. فإذا ثبتت، توقفنا في الغسل، وسائر العبادات ارتقابا للعود. وأما الشهر الثاني، وما بعده، فعلى قول التلفيق: لا يختلف الحكم. وعلى السحب، في الدور الثاني، طريقان. أصحهما: يبنى على الخلاف في العادة، إن أثبتناها بمرة، فقد عرفنا التقطع بالشهر الاول، فلا تغتسل، ولا تصلي ولا تصوم، حملا على عود الدم. فإن لم يعد، بان أنها كانت طاهرة، فتقضي الصوم، والصلاة. وإن لم نثبتها بمرة، فحكمها كما مضى في [ الشهر الاول وفي ] (1) الشهر الثالث. وما بعده، تثبت العادة بالمرتين السابقتين. فلا تغتسل عند الانقطاع، ولا تصلي. وإذا قلنا: لا تثبت العادة إلا بثلاث مرات، لم يخف قياسه. والطريق الثاني: أن التقطع وإن تكرر مرات كثيرة، فحكم المرة الاخيرة، حكم الاولى. قاله أبو زيد. قلت: قطع بالطريق الثاني، الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل)(1/275)
وغيرهما. وهو ظاهر نصه في (الام) وهو الاصح. والله أعلم. هذا كله إذا كان الانقطاع بعد بلوغ الدم أقل الحيض، فإن رأت المبتدأة نصف يوم دما، وانقطع، وقلنا بطرد القولين، فعلى قول السحب، لا غسل عليها عند الانقطاع الاول، وتتوضأ وتصلي. وفي سائر الانقطاعات إذا بلغ مجموع ما سبق دما ونقاء أقل الحيض، صار حكمها ما سبق في الحالة الاولى. وعلى قول التلفيق: لا غسل في الانقطاع الاول أيضا على الاصح، لشكنا في الحيض، وفي سائر الانقطاعات إذا بلغ ما سبق من الدم وحده أقل الحيض، يلزمها الغسل، وقضاء الصوم، والصلاة. وحكم الدور الثاني، والثالث، على القولين جميعا. كما ذكرنا في الحالة الاولى. فصل إذا جاوز الدم بصفة التلفيق، الخمسة عشر، صارت مستحاضة. كغيرها إذا جاوز دمها، ولا صائر إلى الالتقاط من جميع الشهر وإن لم يزد مبلغ الدم على أكثر الحيض. وإذا صارت مستحاضة، فالفرق بين حيضها، واستحاضتها، بالرجوع إلى العادة، أو التمييز، كغير ذات التلفيق. وقال محمد (1) بن بنت الشافعي رحمهم الله تعالى: إن اتصل الدم المجاوز، بدم الخمسة عشر، فالحكم كذلك. وإن انفصل بتخلل نقاء، فالمجاوز استحاضة. وجميع ما في الخمسة عشر من الدماء، حيض. وفي نقائها، القولان. مثال المتصل: رأت ستة دما، ثم ستة نقاء، ثم ستة دما. ومثال غير المتصل: رأت يوما، ويوما، فالسادس عشر نقاء، هذا قول ابن بنت الشافعي. وبه قال أبو بكر المحمودي (2)، وغيره. والصحيح: أنها مستحاضة(1/276)
في الجميع، وعليه التفريع. فالمستحاضات، خمس. الاولى: المعتادة الحافظة عادتها. وهي ضربان: (الضرب الاول) عادة لا ينقطع فيها. والثاني عادة منقطعة. فالتي لا ينقطع لها كل عادة، ترد إليها عند الاطباق. والمجاوزة، ترد إليها عند التقطع والمجاوزة. ثم على قول السحب: كل دم يقع في أيام العادة، وكل نقاء يتخلل دمين فيها، فهو حيض. والنقاء الذي لا يتخلل، ليس بحيض. وأيام العادة، كالخمسة عشر عند عدم المجاوزة، فلا معدل عنه. وعلى قول التلفيق: فيما يجعل حيضا، وجهان. أصحهما: قدر عادتها من الدماء الواقعة في الخمسة عشر. فإن لم تبلغ الدماء في خمسة عشر قدر عادتها، جعل الموجود فيها حيضا. والثاني: حيضها الدماء الواقعة في أيام العادة لا غير. مثاله: كانت تحيض خمسة متوالية من أول الشهر، فيقطع دمها يوما يوما، فعلى السحب: حيضها خمسة من أول الدور. وعلى التلفيق: من الخمسة عشر، حيضها الاول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع. وعلى التلفيق من العادة: حيضها الاول، والثالث، والخامس. ولو كانت تحيض ستة، فعلى السحب: حيضها خمسة، وسقط السادس، لانه ليس محتوشا بدمي حيض في أيام العادة. وعلى التلفيق من الخمسة عشر: حيضها أيام الدماء، آخرها الحادي عشر. وعلى التلفيق من العادة: حيضها الاول، والثالث، والخامس. ولو انتقلت عادتها بتقدم، أو تأخر، ثم استحيضت، عاد الخلاف كما ذكرنا في حالة الاطباق. وكذا الخلاف فيما تثبت به العادة. مثال التقدم: كان عادتها خمسة من ثلاثين، فرأت في بعض الاشهر يوم الثلاثين دما، واليوم الذي بعده نقاء، وهكذا إلى أن انقطع دمها، وجاوز الخمسة عشر، قال أبو إسحاق: حيضها، أيامها القديمة، وما قبلها استحاضة. فإن سحبنا، فحيضها، اليوم الثاني، والثالث، والرابع (1). قال الجمهور - وهو المذهب -: تنتقل العادة بمرة. فإن سحبنا، فحيضها(1/277)
خمسة متوالية. أولها: الثلاثون. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الثلاثون. والثاني، والرابع، إن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها السادس، والثامن. ومثال التأخر: أن ترى في بعض الاشهر، اليوم الاول: نقاء. والثاني: دما، واستمر التقطع. فعند أبي إسحاق: الحكم كما سبق في الصورة السابقة. وعلى المذهب: إن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية، أولها الثاني. وإن لفقنا من العادة، فالثاني، والرابع، والسادس. وهو: إن خرج عن (1) العادة القديمة، فبالتأخر انتقلت عادتها، وصار الثاني: أولها. والسادس: آخرها. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الثامن، والعاشر. وقد صار طهرها السابق على الاستحاضة في هذه الصورة، ستة وعشرين. وفي صورة التقدم، أربعة وعشرين. ولو لم يتقدم الدم في المثال المذكور، ولا تأخر، لكن تقطع، هو والنقاء يومين يومين، لم يعد خلاف أبي إسحاق، بل مبني على القولين. فإن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية. والسادس استحاضة، كالدماء بعده. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الاول، والثاني، والخامس. وإن لفقنا من الخمس عشر، ضممنا إليها السادس، والتاسع. وحكي وجه شاذ: أن الخامس لا يجعل حيضا، إذا لفقنا من العادة، ولا التاسع، إذا لفقنا من الخمسة عشر، لانهما ضعفا باتصالهما بدم الاستحاضة. ويجرى هذا الوجه في كل نوبة دم يخرج بعضها عن أيام العادة، إن اقتصرنا عليها، أو عن الخمسة عشر، إن اعتبرناها. هذا بيان حيضها. فأما قدر طهرها بعده، إلى استئناف حيضة أخرى، فينظر، إن كان التقطع، بحيث ينطبق الدم على أول الدور، فهو ابتداء الحيضة الاخرى. وإن لم ينطبق، فابتداؤها أقرب نوب الدماء إلى الدور، تقدمت أو تأخرت، فإن استويا في التقدم، والتأخر، فابتداء حيضها النوبة المتأخرة، ثم قد يتفق التقدم والتأخر في بعض أدوار الاستحاضة، دون بعض. وطرائق معرفة ذلك، أن تأخذ نوبة دم ونقاء، وتطلب عددا صحيحا يحصل من مضروب مجموع النوبتين فيه مقدار دورها، فإن وجدته، فاعلم انطباق الدم على أول الدور، وإلا، فاضربه في عدد يكون الحاصل منه، أقرب إلى دورها، زائدا كان، أو ناقصا. واجعل حيضها الثاني، أقرب الدماء إلى أول الدور، فإن استوى(1/278)
طرف الزيادة والنقص، فالاعتبار بالزائد. مثاله: عادتها خمسة من ثلاثين، وتقطعا يوما يوما، وجاوز، فنوبة الدم، يوم، ونوبة النقاء، مثله. وتجد عددا إذا ضربت الاثنين فيه، بلغ ثلاثين، وهو خمسة عشر، فيعلم انطباق الدم، على أول دورها أبدا، ما دام التقطع بهذه الصفة. ولو كانت المسألة بحالها، وانقطع يومين يومين، فلا تجد عددا يحصل من ضرب أربعة، فيه ثلاثون. فاطلب ما يقرب الحاصل فيه من الضرب فيه، من ثلاثين، وهنا عددان، سبعة وثمانية. أحدهما: يحصل منه ثمانية وعشرون. والآخر: اثنان وثلاثون. فاستوى طرفا الزيادة والنقص، فخذ بالزيادة، واجعل أول الحيضة الاخرى، الثالث والثلاثين. وحينئذ، يعود خلاف أبي إسحاق، لتأخر الحيض، فحيضها عنده في الدور الثاني، هو اليوم الثالث، والرابع، فقط على القولين. وأما على المذهب، فإن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية. أولها: الثالث. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الثالث، والرابع، والسابع. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الثامن، والحادي عشر. ثم في الدور الثالث، ينطبق الدم على أول الدور، فلا يبقى خلاف أبي إسحاق، ويكون الحكم كما ذكرنا في الدور الاول. وفي الدور الرابع، يتأخر الحيض، ويعود الخلاف. وعلى هذا أبدا. ولو كانت المسألة بحالها، ورأت ثلاثة أيام دما، وأربعة نقاء، فمجموع النوبتين، سبعة. ولا تجد عددا إذا ضربت السبعة فيه، بلغ ثلاثين، فاضربه في أربعة، لتبلغ ثمانية وعشرين. واجعل أول الحيضة الثانية، التاسع والعشرين. وقد تقدم الحيض على أول الدور. فعلى قياس أبي إسحاق ما قبل الدور، استحاضة، وحيضها اليوم الاول فقط على القولين. وقياس المذهب، لا يخفى. ولو كانت عادتها ستة من ثلاثين، ويقطع الدم في بعض الادوار، ستة ستة، وجاوز، ففي الدور الاول حيضها، الستة الاولى بلا خلاف. وأما الدور الثاني، فإنها ترى ستة من أوله نقاء، وهي أيام العادة. فعند أبي إسحاق: لا حيض لها في هذا الدور أصلا، وعلى المذهب، وجهان. أصحهما: تحيضها الستة الثانية، على قولي السحب والتلفيق جميعا. والثاني: حيضها الستة الاخيرة من الدور الاول. ويجئ هذا الوجه، حيث خلا جميع أيام العادة عن الحيض. هذا كله، إذا لم ينقص الدم الموجود في زمن العادة عن أقل الحيض. فإن نقص، بأن كانت عادتها يوما وليلة، فرأت في بعض الادوار يوما دما، وليلة(1/279)
نقاء. واستحيضت، فثلاثة أوجه، على قول السحب: الاصح، لا حيض لها في هذه الصورة. والثاني، تعود إلى قول التلفيق. والثالث: حيضها الاول، والثاني، والليلة بينهما. وأما على قول التلفيق، فلا حيض لها إن لفقنا على العادة. فإن لفقنا من الخمسة عشر: حيضها الاول، والثاني، وجعلنا الليلة بينهما طهرا. قلت: قوله: لا حيض لها إن لفقنا من العادة، هو الاصح. وذكر الامام وجها آخر عن المحمودي: أنه تلفق من الخمسة عشر. وادعى في (الوسيط) أنه لا طريق غيره. والله أعلم. الضرب الثاني: العادة المتقطعة. فإذا استمرت لها عادة متقطعة قبل الاستحاضة، ثم استحيضت مع التقطع، نظر، إن كان التقطع بعد الاستحاضة كالتقطع قبلها، فمردها قدر حيضها على اختلاف القولين. مثاله: كانت ترى ثلاثة دما، وأربعة نقاء، وثلاثة دما، وتطهر عشرين، ثم استحيضت، والتقطع على هذه الصفة، فإن سحبنا، كان حيضها قبل الاستحاضة عشرة، وكذا بعدها. وإن لفقنا، كان حيضها ستة، بتوسط بين نصفيها أربعة، وكذا الآن. فإن اختلف التقطع، بأن تقطع في المثال المذكور في بعض الادوار يوما يوما، ثم استحيضت، فإن سحبنا، فحيضها الآن تسعة أيام. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الاول، والثالث، والتاسع، إذ ليس لها (1) في أيام حيضها القديم على هذا القول دم، إلا في هذه الثلاثة. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الخامس، والسابع، والحادي عشر. المستحاضة الثانية: المبتدأة: قد تقدم أنها تصلي وتصوم عند الانقطاع الاول. وكذا في سائر الانقطاع الواقع في خمسة عشر. فإذا جاوز دمها الخمسة عشر المنقطعة، علمت استحاضتها. فإن قلنا: ترد المبتدأة، إلى يوم وليلة، وكان التقطع يوما يوما فحيضها يوم وليلة، والباقي طهر. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع، فإن سحبنا، ورددناها إلى ست، فحيضها خمسة متوالية، لان السادس نقاء لم يحتوشه دمان في المرد. وإن رددناها إلى سبع، فحيضها سبع متوالية. وإن لفقناها من العادة،(1/280)
ورددناها إلى ست، فحيضها الاول، والثالث، والخامس. وإن رددناها إلى سبع، ضممنا إليها السابع. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ورددناها إلى ست، فحيضها ستة من أيام الدماء. وإن رددناها إلى سبع، فحيضها سبعة من أيام الدماء. وكل هذا على ما تقدم في المعتادة. وابتداء الحيضة الثانية، طريقه ما ذكرناه في المعتادة. ثم إن صامت، وصلت في أيام النقاء حتى جاوز الدم الخمسة عشر، وتركتها في أيام الدم كما أمرناها، قضت صيام أيام الدم بعد المرد، وصلواتها بلا خلاف. وأما صلوات أيام النقاء، فلا تقضيها، ولا تقضي صيامها أيضا إن لفقنا. وكذا إن سحبنا على الاظهر. ويجري القولان في الادوار كلها. خرج من هذا، أنا إن حكمنا بالتلفيق، لم تقض من الخمسة عشر، إلا صلوات سبعة أيام، وصيامها. وإن رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة، وهي أيام الدم سوى الاولى. وإن رددناها إلى ست، أو سبع فإن لفقنا من العادة، وكان الرد إلى ست، قضت صيام خمسة أيام وصلواتها. وإن ردت إلى سبع، قضت الصوم والصلاة عن أربعة أيام. وإن لفقنا من الخمسة عشر، وردت إلى ست، قضتهما عن يومين. وإن ردت إلى سبع، فعن يوم واحد. وأما إذا سحبنا، فإن رددناها إلى يوم، قضت صلوات سبعة أيام، وهي أيام الدماء سوى الاول. وفي الصوم، قولان. الاظهر: تقضي ثمانية فقط. وهي أيام الدماء. والثاني: تقضي الخمسة عشر. وإن رددناها إلى ست، أو سبع. فإن ردت إلى ست، قضت صلوات خمسة أيام. وهي أيام الدماء التي لم تصل فيها بعد المرد. فإن ردت إلى سبع، قضت صلوات أربعة أيام. وأما الصوم، فعلى أحد القولين: تقضي الخمسة عشر. وعلى أظهرهما: إن ردت إلى ست، قضت صيام عشرة أيام، ثمانية منها أيام الدماء في الخمسة عشر، ويومان نقاء وقعا في المرد لتبين الحيض فيهما. وإن ردت إلى سبع، قضت صيام أحد عشر يوما. المستحاضة الثالثة: المبتدأة المميزة. تمييزها تارة يكون مع وجود شروط التمييز كلها، وتارة بفقد بعضها. فإن فقد بأن رأت يوما دما أسود، ويوما أحمر، وهكذا إلى آخر الشهر، فقد فات أحد الشروط. وهو عدم مجاوزة القوي خمسة عشر، فلها حكم المبتدأة غير مميزة، وقد تقدم. وإن وجدت شروط التمييز كلها، فإن سحبنا، فحيضها الدماء القوية في الخمسة عشر، مع النقاء المتخلل، أو الضعيف المتخلل. وإن لفقنا، فحيضها القوي دون ما تخلله.(1/281)
مثاله: رأت يوما سوادا، ويوما حمرة، إلى آخر الخمسة عشر، ثم استمرت الحمرة وحدها، متصلة، أو منقطعة، فإن سحبنا، فحيضها جميع الخمسة عشر. وإن لفقنا، فأيام السواد الثمانية. المستحاضة الرابعة: المميزة المعتادة. وقد تقدم الخلاف في المميزة المعتادة التي لا تقطع في دمها، بل يرجح التمييز، أو العادة. وحكم هذه، حكم تلك بلا فرق، فأي الامرين قلنا به، صارت كالمنفردة به. المستحاضة الخامسة: الناسية. قد تنسى عادتها من كل وجه، وهي المتحيرة، وقد تنساها من وجه دون وجه، كما في حالة الاطباق، فالمتحيرة يعود فيها القولان في حالة الاطباق، وإن قلنا: هي كالمبتدأة، فحكمها ما تقدم في المبتدأة. وإن قلنا بالمشهور: إنها تحتاط، بنينا أمرها على قولي التلفيق. فإن سحبنا، احتاطت في أزمنة الدم، من الوجوه المذكورة في حالة الاطباق بلا فرق. وتحتاط في زمن النقاء أيضا، لان كل زمن منه يحتمل الحيض. لكن لا تؤمر بالغسل زمن النقاء، ولا تؤمر أيضا فيه بتجديد الوضوء، بل يكفيها لكل نقاء الغسل في أوله. وإن لفقنا، فعليها أن تحتاط في أيام الدم، وعند كل انقطاع. وأما أزمنة النقاء، فهي طاهر فيها، في الجماع، وسائر الاحكام. وأما الناسية من وجه دون وجه، فتحتاط على قول التلفيق، مع رعاية ما تذكره. مثاله: قالت: أضللت خمسة في العشرة الاولى من الشهر وتقطع الدم والنقاء يوما يوما، واستحيضت، فإن سحبنا، فالعاشر طهر، لانه نقاء لم يحتوشه دما حيض. ولا غسل في الخمسة الاولى، لتعذر الانقطاع. فإذا انقضت، اغتسلت. ولا تغتسل بعدها في أيام النقاء. وتغتسل في آخر السابع، والتاسع. ولا تغتسل في أثنائهما على الصحيح، وقول الجمهور. وإن لفقنا من العادة، فالحكم ما ذكرنا على قول السحب. إلا أنها طاهر في أيام النقاء في كل حكم. وإنها تغتسل عقب كل نوبة من نوب الدم في جميع المدة. وإن لفقنا من الخمسة عشر، فحيضها خمسة أيام. وهي: الاول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، على تقدير انطباق الحيض على الخمسة الاولى. وعلى تقدير تأخره إلى الخمسة الثانية، فليس لها في(1/282)
الخمسة الثانية، إلا يوما دم. وهما: السابع، والتاسع، فتضم إليها الحادي عشر، والثالث عشر، والخامس عشر. فهي إذا حائض في السابع، والتاسع، لتيقن دخولهما في كل تقدير.
الباب الخامس في النفاس أكثره، ستون يوما على المشهور. وحكى أبو عيسى الترمذي، عن الشافعي (1): أنه أربعون. وغالبه: أربعون. ولا حد لاقله، بل يثبت حكم النفاس لما وجدته، وإن قل. وقال المزني: أقله: أربعة أيام. وسواء في حكم النفاس، كان الولد كامل الخلقة، أو ناقصها، أو حيا أو ميتا ولو ألقت مضغة، أو علقة. وقال القوابل: إنه مبتدأ خلق آدمي، فالدم الموجود بعده، نفاس. فصل: ما تراه الحامل من الدم على ترتيب أدوارها، فيه قولان. القديم: أنه دم فساد. والجديد الاظهر: أنه (2) حيض. وسواء ما تراه قبل حركة الحمل وبعدها، على المذهب. وقيل: القولان فيما بعد الحركة، فأما قبلها، فحيض قطعا. ثم على القديم: هو حدث دائم، كسلس البول. وعلى الجديد: يحرم فيه الصوم، والصلاة. وتثبت جميع أحكام الحيض، إلا أنه لا تنقضي به العدة (3). ولا يحرم فيه الطلاق. قلت: عدم انقضاء العدة به، متفق عليه إذا كان عليها عدة واحدة لصاحب الحمل. فإن كان (لها) عدتان، ففي انقضاء إحداهما بالحيض على الحمل، خلاف. وتفصيله يأتي في كتاب (العدة) إن شاء الله تعالى. وقد نبهت عليه هنا في شرحي (المهذب) و (التنبيه). والله أعلم.(1/283)
وعلى الجديد، إذا رأت الدم، ثم ولدت بعد خمسة عشر يوما، فهو حيض قطعا. وكذا إن ولدت قبل الخمسة عشر، أو متصلا بآخر الدم على الاصح فيهما. وعلى الثاني: يكون دم فساد، وليس بنفاس بلا خلاف، لان النفاس، لا يسبق الولادة، بل هو عند الفقهاء: الدم الخارج عقب الولادة. وقطع معظم الاصحاب، بأن ما يبدو عند الطلق، ليس بنفاس. وقالوا: ابتداء النفاس يحسب من وقت انفصال الولد، وليس هو حيضا أيضا على الصحيح. وفي وجه شاذ: أنه نفاس. وفي وجه: حيض. وأما الدم الخارج مع الولد، ففيه أوجه. أصحها: أنه كالخارج قبل الولادة. والثاني: أنه نفاس. والثالث: أنه كالخارج بين التوأمين. فإن قلنا: إنه نفاس، وجب به الغسل، وبطل به الصوم، وإن لم تر بعده دما أصلا. وإذا قلنا: ليس بنفاس، لم يجب به الغسل، ولم يبطل الصوم. فحصل من الخلاف المذكور في هذه المسائل، أن في ابتداء مدة النفاس، أوجها. أحدها: من وقت الدم البادئ عند الطلق. والثاني: من الخارج مع ظهور الولد. والثالث وهو الاصح: من انفصال الولد. وحكى إمام الحرمين وجها: أنها لو ولدت ولم تر الدم أياما، ثم ظهر الدم، فابتداء مدة النفاس، تحسب من وقت خروج الدم، لا من وقت الولادة. فهذا وجه رابع. وموضعه، إذا كانت الايام المتخللة، دون أقل الطهر. فصل: في الدم الذي تراه بين التوأمين، وجهان. أصحهما: ليس بنفاس. والثاني: نفاس. فإن قلنا: ليس بنفاس، فقال الاكثرون: يبنى على دم الحامل. فإن جعلناه حيضا، فهذا أولى، وإلا، فقولان. وفي كلام بعض الاصحاب: ما يقتضي كونه دم فساد، مع قولنا: الحامل تحيض. وإذا قلنا: هو نفاس، فما بعد الولد الثاني معه، نفاس واحد، أم نفاسان ؟ وجهان. الاصح: نفاسان. ولا تبالي مجاوزة الدم ستين من الولادة الاولى. الثاني: نفاس واحد. فعلى هذا إذا زاد الدم على ستين من الولد الاول، فهي مستحاضة. قال الصيدلاني: موضع الوجهين، إذا كانت المدة المتخللة بين الدمين دون الستين، فإن بلغت ستين، فالثاني: نفاس آخر قطعا. وقال الشيخ أبو محمد: لا فرق. قلت: الاصح، قول الصيدلاني. ولم يحكه الامام الرافعي على وجهه. قال إمام الحرمين: قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة، أنها تستأنف بعد الولد(1/284)
الثاني نفاسا. إذا كان بينهما ستون. واختار إمام الحرمين هذا. وضعف قول والده أبي محمد. والله أعلم. وإذا ولدت الثاني بعد الستين، وقلنا باتخاذ النفاس، فما بعده استحاضة. ولو سقط عضو من الولد، وباقيه مجتن، ورأت بينهما دما، ففي كونه نفاسا، الوجهان في الدم بين التوأمين. فصل: إذا جاوز دم النفساء ستين، فقد اختلط نفاسها باستحاضتها. وطريق التمييز بينهما، ما تقدم في الحيض. هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه: نفاسها ستون. وما بعدها استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد، أو المردود إليه إن كانت مبتدأة، وما بعده حيض. في وجه ثالث: نفاسها، ستون. وما بعدها حيض متصل به. واتفق الجمهور على تضعيف هذين الوجهين، والتفريع على الصحيح. والمستحاضات: خمس. الاولى: المعتادة. فإن كانت معتادة أربعين مثلا، كان نفاسها الآن أربعين. ولها في الحيض حالان. أحدهما: أن تكون معتادة فيه، فطهرها بعد الاربعين، قدر عادتها في الطهر، ثم تحيض قدر عادتها في الحيض. الحال الثاني: أن تكون مبتدأة فيه، فتجعل القدر الذي ترد إليه المبتدأة في الطهر، طهرا لها بعد الاربعين. والذي ترد إليه في الحيض، حيضا لها بعده. ثم الخلاف فيما تثبت به العادة، وفيما تقدم من العادة والتمييز إذا اجتمعا يجري هنا كما في الحيض. ولو ولدت مرارا ولم تر دما، ثم ولدت، واستحيضت، لم يكن عدم النفاس عادة، بل هي مبتدأة فيه، كالتي لم تلد أصلا. المستحاضة الثانية والثالثة: المبتدأة المميزة، وغير المميزة. أما غير المميزة، فترد إلى لحظة على الاظهر. وإلى أربعين على الثاني. هذا هو المذهب. وفي قول غريب: ترد إلى ستين. وفي وجه: إلى اللحظة جزما. ثم إن كانت هذه النفساء معتادة في الحيض حسب لها بعد مرد النفاس طهرها ثم حيضها المعتادان. وإن كانت مبتدأة فيه، أقمنا طهرها ثم حيضها على ما تقتضيه حال المبتدأة. وأما المميزة، فترد إلى التمييز بشرطه. كالحائض، وشرط تمييز(1/285)
النفساء، أن لا يزيد القوي على ستين يوما. ولا ضبط في أقله، ولا أقل الضعيف. المستحاضة الرابعة: المعتادة المميزة. تقدم حكمها هنا في المعتادة. المستحاضة الخامسة: الناسية لعادة نفاسها، فيها القولان، كناسية الحيض. فعلى قول ترد إلى مرد المبتدأة. ورجحه إمام الحرمين هنا. وعلى قول: تؤمر بالاحتياط. وعلى هذا، إن كانت مبتدأة في الحيض أيضا، وجب الاحتياط أبدا. وكذا، إن كانت معتادة في الحيض ناسية عادتها. وإن كانت ذاكرة لعادة الحيض، فهي كناسية وقت الحيض، العارفة بقدره. وقد سبق بيانها. فرع: إذا انقطع دم النفساء، فله حالان. أحدهما: أن لا يجاوز ستين، فينظر، إن لم تبلغ مدة النقاء بين الدمين أقل الطهر، بأن رأت يوما دما، ويوما نقاء، فأزمنة الدم نفاس قطعا. وفي النقاء، القولان، كالحيض. وإن بلغته، بأن رأت عقب الولادة دما أياما، ثم رأت النقاء خمسة عشر فصاعدا، ثم عاد الدم، فالاصح، أن العائد دم حيض. والثاني: أنه نفاس. ولو ولدت ولم تر الدم خمسة عشر يوما فصاعدا، ثم رأته، فعلى هذين الوجهين. فإن جعلناه حيضا، فلا نفاس لها أصلا. وفي هذه الصورة الاخيرة: لو نقص العائد في الصورتين عن أقل الحيض، فالاصح، أنه دم فساد. والثاني: أنه نفاس، لتعذر جعله حيضا. ولو زاد العائد على أكثر الحيض، فهي مستحاضة. فينظر، أهي معتادة، أم مبتدأة ؟ ويحكم بما تقتضيه الحال. وإن جعلنا العائد نفاسا، فمدة النقاء على القولين في التلفيق. إن سحبنا، فنفاس. وإن لفقنا، فطهر. هذا هو المذهب. وقيل: هو طهر على القولين. الحال الثاني: أن تجاوز ستين. فإن بلغ زمن النقاء في الستين أقل الطهر، ثم جاوز العائد، فالعائد حيض قطعا (1)، ولا يجئ فيه الخلاف المذكور في الحال الاول. وإن لم تبلغه، فإن كانت مبتدأة مميزة، ردت إلى التمييز. وإن لم تكن مميزة، فعلى القولين في المبتدأة. وإن كانت معتادة، ردت إلى العادة. وفي(1/286)
الاحوال يراعى قولا التلفيق. فإن سحبنا، فالدماء في أيام المرد مع النقاء، نفاس. وإن لفقنا، فتلفق من أيام المرد، أم من أيام الستين ؟ فيه الخلاف المذكور في الحيض. قلت: والصفرة، والكدرة، في النفاس، كهي في الحيض وفاقا وخلافا، هذا هو المذهب. وبه صرح الفوراني، والبغوي، وصاحب (العدة)، وغيرهم. وقطع الماوردي: بأنها نفاس قطعا، لان الولادة شاهد للنفاس، بخلاف الحيض. وإذا انقطع دم النفساء، واغتسلت، أو تيممت حيث يجوز، فللزوج وطؤها في الحال بلا كراهة. حتى قال صاحب (الشامل) و (البحر): لو رأت الدم بعد الولادة ساعة، وانقطع، لزمه الغسل، وحل الوطئ. فإن خافت عود الدم، استحب له التوقف احتياطا. والله أعلم.(1/287)
كتاب الصلاة (1)
فيه سبعة أبواب.
الباب الأول في المواقيت (2) أما وقت الظهر، فيدخل بالزوال. وهو زيادة في الظل بعد استواء الشمس، أو حدوثه، إن لم يكن عند الاستواء (3) ظل. وذلك يتصور في بعض البلاد، كمكة،(1/289)
وصنعاء اليمن، في أطول أيام السنة. ويخرج وقتها إذا صار ظل الشخص مثله سوى الظل الذي كان عند الزوال، إن كان ظل، وما بين الطرفين وقت اختيار. وأما العصر، فيدخل وقتها، بخروج وقت الظهر بلا خلاف، ويمتد إلى غروب الشمس. وفي وجه ضعيف قاله الاصطخري: يخرج وقتها، إذا صار ظل الشئ مثليه. وعلى الصحيح: لها أربعة أوقات (1)، وقت فضيلة، وهو الاول. ووقت اختيار، إلى أن يصير ظله مثليه. وبعده جواز بلا كراهة، إلى اصفرار الشمس. ومن الاصفرار، إلى الغروب: وقت كراهة، يكره تأخيرها إليه. وأما المغرب، فيدخل وقتها بغروب الشمس بلا خلاف (2). والاعتبار بسقوط قرصها، وهو ظاهر في الصحاري. وأما في العمران، وقلل (3) الجبال، فالاعتبار، بأن لا يرى شئ من شعاعها على الجدران، ويقبل الظلام من المشرق. وفي آخر وقتها قولان. القديم: أنه يمتد إلى مغيب الشفق. والجديد: أنه إذا مضى قدر وضوء وستر عورة (4)، وأذان، وإقامة، وخمس ركعات (5)، انقضى الوقت. وما(1/290)
لا بد منه من شرائط الصلاة، لا يجب تقديمه على الوقت، فيجوز التأخير بعد الغروب بقدر اشتغاله بها. والاعتبار في جميع ذلك، بالوسط المعتدل (1). ويحتمل أيضا أكل لقم يكسر بها حدة الجوع (2). وفي وجه: ما يمكن تقديمه على الوقت، كالطهارة، والسترة، يسقط من الاعتبار. وفي وجه: يعتبر ثلاث ركعات، لا خمس. وهما شاذان، والصواب الاول. ثم على الجديد: لو شرع في المغرب في الوقت المضبوط، فهل له استدامتها إلى انقضاء الوقت ؟ إن قلنا: الصلاة التي يقع بعضها في الوقت، وبعضها بعده أداء وأنه يجوز تأخيرها إلى أن يخرج عن الوقت بعضها، فله ذلك قطعا. وإن لم نجوز ذلك في سائر الصلوات، ففي المغرب وجهان. أصحهما: يجوز مدها إلى مغيب الشفق. والثاني: منعه كغيرها (3). ثم الاظهر من القولين، الجديد. واختار طائفة من الاصحاب، القديم، ورجحوه، وعندهم المسألة مما يفتى فيه على القديم.(1/291)
قلت: الاحاديث الصحيحة (1)، مصرحة بما قاله في القديم، وتأويل بعضها متعذر، فهو الصواب. وممن اختاره من أصحابنا، ابن خزيمة (2)، والخطابي، والبيهقي (3)، والغزالي في (الاحياء) والبغوي في (التهذيب) وغيرهم (4). والله أعلم. وأما العشاء، فيدخل وقتها بمغيب الشفق. وهو الحمرة. وقال المزني: البياض. وقال إمام الحرمين: يدخل وقتها بزوال الحمرة، والصفرة. قال: والشمس إذا غربت، تعقبها حمرة، ثم ترق حتى تنقلب صفرة، ثم يبقى البياض. قال: وبين غروب الشمس، إلى زوال الصفرة، كما بين الصبح الصادق، وطلوع قرن الشمس. وبين زوال الصفرة، إلى انمحاق البياض، قريب مما بين الصبح الصادق، والكاذب. هذا قول إمام الحرمين. والذي عليه المعظم، ويدل عليه، نص الشافعي رضي الله عنه: أنه الحمرة. ثم غروب الشفق، ظاهر، في معظم النواحي. أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم، ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون(1/292)
العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليهم. وأما وقت الاختيار للعشاء، فيمتد إلى ثلث الليل على الاظهر. وإلى نصفه، على الثاني (1). ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني على الصحيح. وقال الاصطخري: يخرج الوقت بذهاب وقت الاختيار. وأما وقت الصبح، فيدخل بطلوع الفجر الصادق. ويتمادى وقت الاختيار، إلى أن يسفر. والجواز إلى طلوع الشمس على الصحيح. وعند الاصطخري يخرج وقت الجواز بالاسفار. فعلى الصحيح، للصبح أربعة أوقات، فضيلة أوله، ثم اختيار إلى الاسفار، ثم جواز بلا كراهة إلى طلوع الحمرة، ثم كراهة وقت طلوع الحمرة إذا لم يكن عذر. قلت: مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء أن صلاة الصبح من صلوات النهار. ويكره أن يقال للمغرب: عشاء، وأن يقال للعشاء: عتمة (2). والاختيار. أن يقال للصبح: الفجر، أو الصبح. وهما أولى من الغداة. ولا تقول: الغداة مكروه. ويكره النوم قبل العشاء (3)، والحديث بعدها لغير عذر، إلا في خير (4). واختلف العلماء في الصلاة الوسطى. فنص الشافعي رضي الله عنه (5): أنها الصبح (6). وقال صاحب (الحاوي): نص الشافعي أنها الصبح. وصحت الاحاديث، أنها(1/293)
العصر (1). ومذهبه، إتباع الحديث، فصار مذهبه: أنها العصر. قال: ولا يكون في المسألة قولان. كما وهم بعض أصحابنا. والله أعلم. فصل: تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا (2)، بمعنى أنه لا يأثم(1/294)
بتأخيرها إلى آخره. فلو أخرها من غير عذر، فمات في أثناء الوقت، لم يأثم بتأخيرها على الاصح، بخلاف الحج (1). ولو وقع بعض الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت، نظر، إن كان الواقع في الوقت ركعة فصاعدا، فالاصح: أن جميع الصلاة أداء. والثاني: جميعها قضاء. والثالث: ما في الوقت أداء، وما بعده قضاء. وإن كان الواقع في الوقت أقل من ركعة، فالمذهب الجزم بأن الجميع قضاء. وقيل: هو كالركعة. وحيث قلنا: الجميع قضاء، أو الخارج، لم يجز للمسافر قصر تلك الصلاة على قولنا: لا يجوز قصر المقضية. ولو أراد تأخير الصلاة إلى حد يخرج بعضها عن الوقت، إن قلنا: كلها قضاء، أو البعض، لم يجز قطعا. وإن قلنا: الجميع أداء، لم يجز أيضا على المذهب. وفيه ترديد جواب للشيخ أبي محمد. ولو شرع فيها وقد بقي من الوقت ما يسع جميعها، فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت، لم يأثم قطعا. ولا يكره على الاصح. قلت: وفي تعليق القاضي حسين، وجه: أنه يأثم. والله أعلم. فصل: تعجيل الصلاة في أول الوقت أفضل، وفيما يحصل به فضيلة أوله، أوجه. أصحها: يحصل بأن يشتغل أول دخول الوقت بأسباب الصلاة، كالطهارة، والاذان، وغيرهما، ثم يصلي. ولا يشترط على هذا تقديم ستر العورة، على الاصح. وشرطه أبو محمد. ولا يضر الشغل الخفيف، كأكل لقم، وكلام قصير. ولا يكلف العجلة على خلاف العادة. والوجه الثاني: يبقى وقت الفضيلة إلى نصف الوقت. كذا أطلقه جماعة. وقال آخرون: إلى نصف وقت الاختيار. والثالث: لا يحصل إلا إذا قدم قبل الوقت ما يمكنه تقديمه من الاسباب، لتنطبق الصلاة على أول(1/295)
الوقت. وعلى هذا قيل: لا ينال المتيمم فضيلة الاولية. قلت: هذا الوجه الثالث، غلط صريح. مخالف للسنة المستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والصواب: الاول. والله أعلم. وهذا المذكور من فضيلة التعجيل، هو في الصبح، والعصر، والمغرب، على الاطلاق. وأما العشاء، فتعجيلها أيضا أفضل على الاظهر. وعلى الثاني: تأخيرها أفضل، ما لم يجاوز وقت الاختيار، وأما الظهر، فيستحب فيها التعجيل، في غير شدة الحر بلا خلاف (1). وفي شدة الحر، يستحب الابراد على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: أن الابراد رخصة. وأنه لو تحمل المشقة، وصلى في أول الوقت، كان أفضل. والصواب: أن الابراد سنة. وهو: أن يؤخر إقامة الجماعة عن أول الوقت في المسجد (2) الذي يأتيه الناس من بعد، بقدر ما يقطع للحيطان ظل يمشي فيه طالب الجماعة. ولا يؤخر عن النصف الاول من الوقت. فلو قربت منازلهم من المسجد، أو حضر جماعة في موضع لا يأتيهم غيرهم، لا يبردون على الاظهر. وكذا لو أمكنه المشي إلى المسجد في ظل، أو صلى في بيته منفردا فلا إبراد على الاصح. ويختص باستحباب الابراد بالبلاد الحارة على الاصح المنصوص، ولا تلحق الجمعة بالظهر، في الابراد على الاصح. فصل: إذا اشتبه عليه وقت صلاة، لغيم، أو حبس في مظلم، أو غيرهما، اجتهد فيه، واستدل بالدرس، والاعمال، والاوراد، وشبهها. ومن الامارات، صياح الديك المجرب إصابة صياحه الوقت. وكذا أذان المؤذنين في يوم الغيم إذا كثروا، وغلب على الظن - لكثرتهم - أنهم لا يخطؤون. والاعمى يجتهد في الوقت كالبصير. وإنما يجتهدان، إذا لم يخبرهما ثقة بدخول الوقت عن(1/296)
مشاهدة. فلو قال: رأيت الفجر طالعا، أو الشفق غاربا، لم يجز الاجتهاد، ووجب قبول قوله. فإن أخبر عن اجتهاد، لم يجز للبصير القادر على الاجتهاد تقليده. ويجوز للاعمى على الاصح. والمؤذن الثقة العالم بالمواقيت في يوم الصحو، كالمخبر عن مشاهدة. وفي الغيم، كالمجتهد. وحكى في (التهذيب) وجهين في تقليد المؤذن، من غير فرق بين البصير، والاعمى. وقال: الاصح: الجواز. وذهب إليه ابن سريج. والتفصيل المتقدم، أقرب. واختاره الروياني، وغيره. قلت: الاصح، ما صححه صاحب (التهذيب). وقد نقله عن نص الشافعي، وبه قال الشيخ أبو حامد. وصححه البندنيجي (1)، وصاحب (العدة) وغيرهم. والله أعلم. وحيث لزم الاجتهاد، فصلى بلا اجتهاد، وجبت الاعادة وإن صادف الوقت. وإذا لم تكن دلالة، أو كانت، فلم يغلب على ظنه شئ، صبر إلى أن يغلب على قلبه دخول الوقت. والاحتياط: أن يؤخر إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخر، خرج الوقت. ولو قدر على الصبر إلى استيقان دخول الوقت، جاز الاجتهاد على الصحيح، كالاواني. قلت: لو علم المنجم دخول الوقت بالحساب. حكى صاحب (البيان): أن المذهب: أنه يعمل به بنفسه، ولا يعمل به غيره. والله أعلم. فرع: حيث جاز الاجتهاد، فصلى به، إن لم يتبين الحال، فلا شئ عليه. وإن بان وقوع صلاته في الوقت أو بعده، فلا قضاء عليه. لكن الواقعة بعده، قضاء على الاصح. فلو كان مسافرا، وقصرها، وجب إعادتها تامة. إذا قلنا: لا يجوز قصر القضاء. وإن بان وقوعها قبل الوقت، وأدركه، وجبت الاعادة. وإلا، فقولان. المشهور: وجوبها، ومثل هذا الخلاف، والتفصيل، يجري فيمن اشتبه عليه شهر رمضان.(1/297)
قلت: قال أصحابنا: لو أخبره ثقة، أن صلاته وقعت قبل الوقت، إن أخبره عن علم ومشاهدة، وجبت الاعادة، وإن أخبره عن اجتهاد، فلا. والله أعلم. فصل في وقت أصحاب الاسباب المانعة من وجوب الصلاة: وهي: الصبا، والكفر، والجنون، والاغماء، والحيض، والنفاس. ولها ثلاثة أحوال. الاول: أن توجد في أول الوقت، ويخلو عنها آخره، بأن تطهر عن حيض، أو نفاس في آخر الوقت، فينظر، إن بقي من الوقت قدر ركعة، لزمها فرض الوقت. والمعتبر في الركعة، أخف ما يقدر عليه أحد. وشرط الوجوب: أن تمتد السلامة من المانع قدر إمكان الطهارة، وتلك الصلاة. فإن عاد مانع قبل ذلك، لم يجب. مثاله: بلغ الصبي في آخر وقت العصر، ثم جن، أو أفاق المجنون، ثم عاد جنونه، أو طهرت. ثم جنت، أو أفاقت مجنونة، ثم حاضت، فإن مضى في حال السلامة ما يسع طهارة وأربع ركعات، وجبت العصر، وإلا، فلا. هذا إذا كان الباقي من الوقت قدر ركعة. فإن كان قدر تكبيرة، أو فوقها دون ركعة، ففي وجوب الفرض، قولان. الاظهر: الوجوب بالشرط المتقدم في الركعة. ويستوي في الوجوب، بإدراك الركعة، أو ما دونها، جميع الصلوات. فإن كانت المدركة صبحا، أو ظهرا، أو مغربا، قصر الوجوب عليها. وإن كانت عصرا، أو عشاء، وجب مع العصر الظهر، ومع العشاء المغرب. وبماذا يجب الظهر ؟ قولان. أظهرهما: يجب بما يجب به العصر. وهو ركعة قبل الغروب على قول، وتكبيرة على قول. والثاني: لا يجب إلا بإدراك أربع ركعات زائدة على ما يجب به العصر، وتكون الاربع للظهر، والركعة أو التكبيرة للعصر، على الصحيح. وقيل: الاربع للعصر. والركعة، أو التكبيرة، للظهر. وتظهر فائدة الوجهين، في المغرب مع العشاء، فإن المغرب معها، كالظهر مع العصر. فإن قلنا: بالاظهر، وجبت المغرب بما تجب العشاء. وإن قلنا: بالثاني. وقلنا: الركعات الاربع الزائدة للظهر، اعتبرنا هنا ثلاث ركعات للمغرب، مع ما تلزم به العشاء. وإن قلنا: الاربع للعصر، اعتبرنا أربعا للعشاء. وهل يعتبر مع القدر المذكور للزوم الصلاة الواحدة، أو صلاتي الظهر(1/298)
والعصر والمغرب، والعشاء، إدراك زمن الطهارة ؟ قولان. أظهرهما: لا. وإذا جمعت (1) الاقوال، حصل فيما يلزم به كل صلاة من إدراك آخر وقتها، أربعة أقوال. أظهرها: قدر تكبيرة. والثاني: تكبيرة، وطهارة. والثالث: ركعة. والرابع: ركعة وطهارة. وفيما يلزم به الظهر، مع العصر، ثمانية أقوال. هذه الاربعة. والخامس: قدر أربع ركعات وتكبيرة. والسادس: هذا، وزمن طهارة. والسابع: قدر خمس ركعات. والثامن: هذا، وزمن طهارة. وفيما يلزم المغرب، مع العشاء، اثنا عشر قولا، هذه الثمانية. والتاسع: ثلاث ركعات وتكبيرة. والعاشر: هذا وزمن طهارة. والحادي عشر: أربع ركعات. والثاني عشر: هذا وزمن طهارة. فرع: جميع ما ذكرناه، هو فيما إذا كان زوال العذر قبل أداء صلاة الوقت. وهذا يكون حال من سوى الصبي، من أصحاب الاسباب، فإنها كما تمنع الوجوب، تمنع الصحة. وأما الصبي إذا صلى وظيفة الوقت، ثم بلغ قبل خروج الوقت، فيستحب له أن يعيدها. ولا تجب الاعادة على الصحيح. والثاني: تجب. قاله ابن سريج: سواء قل الباقي من الوقت، أم كثر. والثالث: قاله الاصطخري: إن بلغ، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة، وجبت الاعادة. وإلا، فلا. أما إذا بلغ بالسن في أثنائها، فالصحيح، وظاهر النص، وما عليه الجمهور: أنه يجب إتمامها، ويستحب الاعادة. والثاني: يستحب الاتمام، وتجب الاعادة. والثالث قاله الاصطخري: إن بقي ما يسع الصلاة، وجبت الاعادة. وإلا، فلا. هذا كله في غير الجمعة. أما إذا صلى الظهر يوم الجمعة، ثم بلغ، وأمكنته الجمعة. فإن قلنا: في سائر الصلوات، تجب الاعادة (2)، وجبت الجمعة. وإلا، فالصحيح: أنها لا تجب، كالمسافر، والعبد إذا صليا الظهر، ثم زال عذرهما، وأمكنتهما الجمعة، لا تلزمهما قطعا. الحال الثاني: أن يخلو أول الوقت من الاعذار المذكورة، ثم يطرأ ما يمكن أن يطرأ، وهو الحيض، والنفاس، والجنون، والاغماء، ولا يتصور طريان الكفر المسقط للاعادة. فإذا حاضت في أثناء الوقت، قبل أن تصلي، نظر في القدر(1/299)
الماضي من الوقت. إن كان قدرا يسع تلك الصلاة، وجب القضاء، إذا طهرت على المذهب. وخرج ابن سريج قولا: أنه لا يجب إلا إذا أدركت جميع الوقت. ثم على المذهب المعتبر: أخف ما يمكن من الصلاة. حتى لو طولت صلاتها، فحاضت فيها، وقد مضى من الوقت ما يسعها لو خفقها، وجب القضاء. ولو كان الرجل مسافرا، فطرأ عليه جنون، أو إغماء، بعد ما مضى من وقت الصلاة المقصورة ما يسع ركعتين، لزمه قضاؤها، لانه لو قصر، يمكنه أداؤها. ولا يعتبر مع إمكان فعلها، إمكان الطهارة، لانه يمكن تقديمها قبل الوقت، إلا إذا لم يجز تقديم طهارة صاحب الواقعة. كالمتيمم، والمستحاضة. قلت: ذكر في (التتمة) في اشتراط زمن الطهارة، لمن يمكنه تقديمها، وجهين، وهما كالخلاف في آخر الوقت. ولا فرق، فإنه وإن أمكن التقديم، فلا يجب. والله أعلم. أما إذا كان الماضي من الوقت لا يسع تلك الصلاة، فلا يجب على المذهب. وبه قطع الجماهير. وقال أبويحيى البلخي، وغيره من أصحابنا: حكم أول الوقت، حكم آخره. فيجب القضاء بإدراك ركعة، أو تكبيرة على الاظهر. وغلطه الاصحاب. أما العصر، فلا يجب بإدراك الظهر، ولا العشاء، بإدراك المغرب. ولو أدرك جميع وقتها على الصحيح الذي عليه الجماهير. وقال البلخي (1) إذا أدرك من وقت الظهر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر، لزمه الظهر والعصر جميعا. كما يلزم الاولى، بإدراك الثانية، وهو غلط، لان وقت الظهر، لا يصلح للعصر، إلا إذا صليت الظهر جمعا. واعلم أن الحكم بوجوب الصلاة، إذا أدرك من وقتها ما يسعها، لا يختص بأوله. بل لو كان المدرك من وسطه، لزمت الصلاة. مثل أن أفاق المجنون في أثناء الوقت، وعاد جنونه في الوقت، أو بلغ صبي، ثم جن، أو أفاقت مجنونة، ثم(1/300)
حاضت. وقد تلزم الظهر بإدراك أول وقت العصر، كما تلزم بآخره، بأن أفاق مغمى عليه، بعد أن مضى من وقت العصر ما يسع الظهر والعصر. فإن كان مقيما، فالمعتبر قدر ثمان ركعات. وإن كان مسافرا يقصر، كفاه قدر أربع. وتقاس المغرب مع العشاء في جميع ما ذكرناه، بالظهر مع العصر. الحال الثالث: أن يعم السبب جميع وقت الرفاهية، ووقت الضرورة، وهو الوقت الذي يجوز فيه الجمع. أما الحيض، والنفاس. فإنه يمنع وجوب الصلاة، وجوازها، ولا قضاء. وأما الكافر الاصلي، فهو مخاطب بالصلاة وغيرها من فروع الشرع على الصحيح. لكن إذا أسلم، لا يجب عليه قضاء صلاة أيام الكفر بلا خلاف. وأما المرتد، فيجب عليه قضاء صلوات أيام الردة. وأما الصبي، فلا تجب عليه الصلاة، أداء (1)، ولا قضاء. ولا يؤمر أحد ممن لا تجب عليه الصلاة بفعلها، إلا الصبي، والصبية، فإنه يؤمر بها إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها، إذا بلغ عشرا. قال الائمة: فيجب على الآباء، والامهات، تعليم الاولاد، الطهارة، والصلاة، والشرائع، بعد السبع. والضرب على تركها بعد العشر. ويؤمر بالصوم إن أطاقه، كما يؤمر بالصلاة. وأجرة تعليم الفرائض في مال الصبي. فإن لم يكن له مال، فعلى الاب. فإن لم يكن، فعلى الام. وهل يجوز أن يعطي الاجرة من مال الصبي، على تعليم ما سوى الفاتحة، والفرائض، من القرآن، والادب ؟ وجهان. قلت: الاصح، في مال الصبي. وهذا كله إذا كان الصبي، والصبية، مميزين. والله أعلم. وأما من زال عقله، بجنون، أو أغمي عليه، فلا تجب عليه الصلاة، ولا قضاؤها، سواء قل الجنون والاغماء، أو كثر، إذا استغرق الوقت. ولو زال عقله بسبب محرم، كشرب مسكر، أو دواء مزيل للعقل، وجب القضاء. هذا إذا تناول الدواء لغير حاجة، وعلم أنه يزيل العقل، وعلم أن الشراب مسكر. فإن لم يعلم(1/301)
كون الشراب مسكرا أو كون الدواء مزيلا، فلا قضاء، كالاغماء. ولو علم أن جنسه مسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، وجب القضاء، لتقصيره. ولو وثب من موضع، لحاجة، فزال عقله، فلا قضاء. وإن فعله عبثا، وجب القضاء. فرع: لو ارتد، ثم جن، ثم أفاق وأسلم، وجب قضاء أيام الجنون، وما قبلها، تغليطا عليه. ولو سكر، ثم جن، وجب قضاء المدة التي ينتهي إليها السكر. وفيما بعدها من مدة الجنون، وجهان. الاصح: لا يجب القضاء، ولو ارتدت، ثم حاضت. أو سكرت، ثم حاضت، لم تقض أيام الحيض. ولو شربت دواء حتى حاضت، لم يلزمها القضاء. وكذلك لو شربت دواء حتى ألقت جنينا، ونفست، لم يجب القضاء على الصحيح، لان ترك الصلاة في حق الحائض والنفساء عزيمة. والحاصل، أن من لم يؤمر بالترك، لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء. فإذا لم يؤمر، كان تخفيفا. ومن أمر بالترك، فامتثل الامر، لا يتوجه أمره بالقضاء، إلا الحائض، فإنها مأمورة بترك الصوم، وبقضائه. وهو خارج عن القياس، للنص. فصل في الاوقات المكروهة وهي خمسة (1) (2): أحدها: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح (3) على الصحيح. وعلى الشاذ: تزول الكراهة، بطلوع قرص الشمس بتمامه. والثاني: استواء الشمس. والثالث: عند الاصفرار حتى يتم غروبها. والرابع: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.(1/302)
والخامس: بعد العصر حتى تغرب. وفي هذين الوقتين إذا قدم الصبح والعصر في أول الوقت، طال وقت الكراهة، وإذا أخرهما، قصر. هذا هو المعروف لاكثر الاصحاب: أن الاوقات خمسة كما ذكرنا. وفي الصبح، وجهان آخران. أحدهما: تكره الصلاة بعد طلوع الفجر، سوى ركعتي سنة الصبح. سواء صلى الصبح، وسنتها، أم لا. قال صاحب (الشامل) هذا الوجه: هو ظاهر المذهب. وقطع به صاحب (التتمة) والثاني: يكره ذلك لمن صلى السنة، وإن لم يصل الفريضة. والصحيح: ما سبق. وهو الموافق لكلام الجمهور. فرع: النهي والكراهة في هذه الاوقات، إنما هو في صلاة ليس لها سبب (1)، فأما ما لها سبب، فلا كراهة. والمراد بقولهم: صلاة لها سبب، أي: سبب متقدم على هذه الاوقات، أو مقارن لها، والتي لا سبب لها، هي التي ليس لها سبب متقدم، ولا مقارن. وقد يفسر قولهم: لا سبب لها، بأن الشارع لم يخصها بوضع وشرعية، بل هي التي يأتي بها الانسان ابتداء. فمن ذوات الاسباب، الفائتة، فإنه يجوز في هذه الاوقات، قضاء الفرائض، والسنن، والنوافل التي اتخذها الانسان وردا له. وتجوز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وركعتا الطواف، وصلاة الكسوف. ولو تطهر في هذه الاوقات، صلى ركعتين. ولا تكره صلاة الاستسقاء فيها على الاصح (2). وعلى الثاني: تكره، كصلاة الاستخارة. وقد يمنع الاول الكراهة في صلاة الاستخارة. ويكره ركعتا الاحرام على الاصح. وأما تحية المسجد، فإن اتفق دخوله لغرض، كإعتكاف، أو درس علم، أو انتظار صلاة، ونحو ذلك، لم تكره. وإن دخل لا لحاجة، بل ليصلي التحية فقط، فوجهان، أقيسهما: الكراهة. كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الاوقات (3). ومن الاصحاب، من لم يفصل، ويجعل في التحية وجهين على(1/303)
الاطلاق. وينسب القول بالكراهة إلى أبي عبد الله الزبيري (1). قلت: هذه الطريقة غلط. والله أعلم. ولو فاتته راتبة، أو نافلة اتخذها وردا، فقضاها في هذه الاوقات، فهل له المداومة على مثلها في وقت الكراهة ؟ وجهان. أحدهما: نعم، للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاته ركعتا الظهر، فقضاهما بعد العصر، وداوم عليهما بعد العصر (2). وأصحهما: لا. وتلك الصلاة من خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرع (3): الصلاة المنهي عنها في هذه الاوقات، يستثنى منها زمان، ومكان. أما الزمان، فعند الاستواء يوم الجمعة، ولا يلحق به باقي الاوقات يوم الجمعة على الاصح. فإن ألحقنا، جاز التنفل يوم الجمعة في الاوقات الخمسة لكل أحد. وإن قلنا بالاصح، فهل يجوز التنفل لكل أحد عند الاستواء ؟ وجهان. أصحهما: نعم. والثاني، لا يجوز لمن ليس في الجامع. وأما من في الجامع، ففيه وجهان. أحدهما: يجوز مطلقا والثاني: يجوز بشرط أن يبكر، ثم يغلبه النعاس. وقيل: يكفي النعاس بلا تبكير. وأما المكان، فمكة - زادها الله شرفا - لا تكره الصلاة فيها في شئ في هذه الاوقات، سواء صلاة الطواف، وغيرها. وقيل: إنما يباح ركعتا الطواف. والصواب، الاول. والمراد بمكة، جميع الحرم. وقيل: إنما يستثنى نفس المسجد الحرام. والصواب المعروف هو الاول.(1/304)
فرع: متى ثبتت الكراهة فتحرم بالصلاة المكروهة (1) لم تنعقد على الاصح. كصوم العيد. وتنعقد على الثاني. كالصلاة في الحمام. ولو نذر أن يصلي في هذه الاوقات، فإن قلنا: تنعقد الصلاة، صح نذره، وإلا فلا. وإذا صح نذره، فالاولى أن يصلي في وقت آخر، كمن نذر أن يضحي بشاة يذبحها بسكين مغصوب، يصح نذره، ويذبحها بغير مغصوب. ولو نذر صلاة مطلقة، فله فعلها في هذه الاوقات قطعا، فإن لها سببا. قلت: النهي عن الصلاة في هذه الاوقات حيث أثبتناه مكروها (2)، كراهة تحريم على الاصح. وبه قطع الماوردي في (الاقناع) وصاحب (الذخائر) وآخرون: وهو مقتضى النهي في الاحاديث الصحيحة (3). والثاني: كراهة تنزيه وبه قطع أبو علي البندنيجي. والله أعلم. [ وقول بعض المتأخرين: أنه لا يحرم، شاذ متروك، علته أنه مخالف لما صرح به كثيرون، واقتضاه كلام الباقين ] (4).
الباب الثاني في الأذان (5)
الاذان والاقامة سنتان على أصح الاوجه، وفرضا كفاية على الثاني. والثالث:(1/305)
هما سنة في غير الجمعة، وفرضا كفاية فيها. فإذا قلنا: سنة، فاتفق أهل بلد على تركها، لم يقاتلوا على الاصح، كسائر السنن. وإذا قلنا: فرض كفاية، قوتلوا على تركها بلا خلاف. وإنما يسقط الاثم عنهم، بإظهارها في البلدة، أو القرية، بحيث يعلم جميع أهلها، أنه قد أذن فيها لو أصغوا. ففي القرية الصغيرة، يكفي في موضع، وفي البلد الكبير، لا بد منه في مواضع. وإذا قلنا: الاذان فرض كفاية في الجمعة، فقيل: الواجب، هو الذي بين يدي الخطيب. وقيل: يسقط الوجوب بالاذان المأتي به لصلاة الجمعة، وإن لم يكن بين يدي الخطيب. أما ما يؤذن له فلا خلاف أنه يؤذن للجماعة الاولى من صلوات الرجال في كل مكتوبة مؤداة. فإن فقد بعض هذه القيود، ففيه تفصيل. أما المنفرد في الصحراء، أو بلد، فيؤذن على المذهب والمنصوص في الجديد. وقيل: لا يؤذن في القديم. وفي وجه: إن رجا حضور جماعة، أذن، وإلا فلا. هذا إذا لم يبلغ المنفرد أذان المؤذنين، فإن بلغه، فالخلاف مرتب، وأولى بأن لا يؤذن. فإن قلنا: لا يؤذن، فهل يقيم ؟ وجهان. أصحهما: نعم. وإن قلنا: يؤذن، فهل يرفع صوته ؟ نظر، إن صلى في مسجد أقيمت فيه جماعة، وانصرفوا، لم يرفع، لئلا يوهم دخول وقت صلاة أخرى. وإلا فوجهان. الاصح: يرفع. والثاني: إن رجا جماعة، رفع، وإلا، فلا. أما إذا أقيمت جماعة في مسجد، فحضر قوم، فإن لم يكن له إمام راتب، لم يكره لهم إقامة الجماعة فيه، وإن كان، كرهت على الاصح (1). وإذا أقاموا جماعة مكروهة،(1/306)
أو غير مكروهة، فقولان. أحدهما: لا يسن لهم الاذان. وأظهرهما: يسن، ولا يرفع فيه الصوت، لخوف اللبس. وسواء كان المسجد مطروقا، أو غير مطروق. قال إمام الحرمين: حيث قلنا في الجماعة الثانية، في المسجد الذي أقيم فيه جماعة، وأذان الراتب: لا يرفع الصوت، لا نعني به أنه يحرم الرفع، بل نعني به أن الاولى أن لا يرفع. وإذا قلنا: المنفرد لا يرفع صوته، فلا نعني به أن الاولى أن لا يرفع، فإن الرفع أولى في حقه. ولكن نعني، أنه يعتد بأذانه دون الرفع (1). أما جماعة النساء، ففيها اقوال: المشهور المنصوص في (الام) و (المختصر): يستحب لهن الاقامة، دون الاذان. فلو أذنت على هذا، ولم ترفع صوتها، لم يكره. وكان ذكرا لله تعالى. والثاني: لا أذان، ولا إقامة. والثالث: يستحبان معا. ولو صلت امرأة منفردة. إن قلنا: الرجل المنفرد. لا يؤذن، فهي أولى. وإلا، فعلى هذه الاقوال لا ترفع صوتها بحال، فوق ما تسمع صواحبها. ويحرم عليها الزيادة على ذلك (2). أما غير الفرائض الخمس، فلا أذان لها، ولا إقامة. سواء كانت منذورة، أو سنة، سواء سن لها الجماعة، كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، أم لم يسن، كالضحى. لكن ينادى للعيد، والكسوف، والاستسقاء: الصلاة جامعة. وكذا ينادى للتراويح، إذا صليت جماعة. وفي استحباب هذا النداء في الجنازة، وجهان. قلت: الاصح، لا يستحب. وبه قطع كثيرون، وهو المنصوص في (الام). والله أعلم. أما الفريضة الفائتة، فيقيم لها بلا خلاف. وفي الاذان ثلاثة أقوال: الجديد الاظهر: لا يؤذن، والقديم: يؤذن، والثالث: نصه في (الاملاء) إن رجا اجتماع(1/307)
جماعة يصلون معه، أذن. وإلا، فلا. قال الائمة: الاذان في الجديد، حق الوقت. وفي القديم، حق الفريضة. وفي (الاملاء) حق الجماعة. قلت: الاظهر: أنه يؤذن للفائتة. وقد ثبت ذلك في الصحيح (1) عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصححه كثير من أصحابنا. والله أعلم. وإذا أقيمت الفائتة جماعة، سقط القول الثالث. ولو قضى فوائت، فعلى التوالي أقام لكل واحدة قطعا بلا خلاف. ولا يؤذن لغير الاولى قطعا. وفي الاولى هذه الاقوال. ولو والى بين فريضة الوقت، ومقضية، فإن قدم فريضة الوقت، أذن لها، وأقام للمقضية. وإن قدم المقضية، أقام لها. وفي الاذان لها، الاقوال. وأما فريضة الوقت، فقال إمام الحرمين: إن قلنا: يؤذن للمقضية، لم يؤذن لفريضة الوقت، وإلا أذن. والاصح: أنه لا يؤذن لفريضة الوقت بعد المقضية بكل حال. قلت: إلا أن يؤخرها عن المقضية، بحيث يطول الفصل بينهما، فإنه يؤذن للحاضرة قطعا بكل حال. كذا قاله أصحابنا. والله أعلم. أما إذا جمع بين صلاتي الجمع، بسفر، أو مطر، فإن قدم الثانية إلى وقت الاولى، أذن للاولى، وأقام للثانية. وإن أخر الاولى إلى وقت الثانية، أقام لكل واحدة، ولا يؤذن للثانية. وفي الاذان للاولى، الاقوال في الفائتة. والاظهر: لا يؤذن. قال إمام الحرمين: وينقدح أن يقال: يؤذن لها، وإن لم يؤذن للفائتة. قلت: بل الاظهر، أنه يؤذن. ففي (صحيح مسلم) (2) عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت الثانية. بأذان، وإقامتين، وهو مقدم عند العلماء على رواية أسامة، وابن عمر: أنه صلاهما(1/308)
بإقامتين، لانه زيادة (1) ثقة حفظ ما لم يحفظ غيره. والله أعلم. وخرج أبو الحسين بن القطان من أصحابنا وجها: أنه يؤذن لكل واحدة من صلاتي الجمع، قدم، أو أخر. قلت: قال إمام الحرمين: لا سبيل إلى توالي أذانين، إلا في صورة على قول. وهي إذا صلى فائتة قبيل الزوال، وأذن لها على قول، فلما فرغ منها، زالت الشمس، فأراد إقامة الظهر، أذن لا محالة. هذا كلام الامام. ويتصور التوالي قطعا فيما لو أخروا المؤداة إلى آخر الوقت، فأذنوا لها، وصلوها، ثم دخلت فريضة أخرى. والله أعلم. فصل في صفة الاذان فيه مسائل: الاولى: الاذان، مثنى، والاقامة فرادى. والمراد: معظم الاذان مثنى. وإلا، فقول: لا إله إلا الله، في آخره مرة، والتكبير في أوله، أربع مرات. فكذا المراد، معظم الاقامة، فإن التكبير في أولها، وآخرها، ولفظ الاقامة بالتثنية على المذهب والمنصوص في الجديد. وقال: في القديم يقول هذه الكلمات مرة. وقيل: إنما أفرد في القديم الاقامة دون التكبير. وللشافعي قول: أنه إن رجع في الاذان، ثنى جميع كلمات الاقامة، وإلا، أفردها. واختاره محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا.(1/309)
الثانية: يستحب ترتيل الاذان، وإدراج الاقامة. فالترتيل: تبيين كلماته بلا بطء يجاوز الحد. والادراج: أن يحدرها بلا فصل. الثالثة: يرجع في أذانه. وهو أن يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، بصوت مخفوض، ثم يرفعه، ويأتي بهما مرتين مرتين. والترجيع، سنة. لو تركه لم يفسد أذانه على الصحيح. وقيل: المشهور. الرابعة: التثويب: أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم، مرتين، وهو سنة على المذهب الذي قطع به الاكثرون. وقيل: قولان: القديم الذي يفتى به: أنه سنة. والجديد: ليس سنة. ثم ظاهر إطلاق الغزالي، وغيره، أن التثويب، يشمل الاذان الذي قبل الفجر، والذي بعده. وصرح في (التهذيب) بأنه إذا ثوب في الاذان الاول، لا يثوب في الثاني على الاصح. (1). ثم إن التثويب ليس بشرط. هكذا صرح به الاصحاب. وقال إمام الحرمين: في اشتراطه احتمال. وهو بالخلاف، أولى من الترجيع. الخامسة: ينبغي أن يؤذن ويقيم قائما مستقبل القبلة. فلو ترك القيام والاستقبال مع القدرة، صح أذانه وإقامته، على الاصح، لكن يكره، إلا إذا كان مسافرا، فلا بأس بأذانه راكبا، وعلى الثاني: لا يعتد بهما. قلت: أذان المضطجع، كالقاعد. إلا أنه أشد كراهة. وفي وجه شاذ: لا يصح وإن صح أذان القاعد. والله أعلم. السادسة: يسن (2) الالتفات في الحيعلتين، يمينا، وشمالا، فيلوي رأسه، وعنقه، ولا يحول صدره عن القبلة، ولا يزيل قدمه عن مكانها. وفي كيفية الالتواء، ثلاثة أوجه. أصحها، يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح. والثاني: يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يعود إلى القبلة، ثم يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي(1/310)
على الفلاح، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، والثالث، قول القفال: يقسم كل حيعلة على الجهتين، فيقول: حي على الصلاة، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ثم حي على الفلاح، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ويستحب الالتفات في الاقامة على الاصح، ولا يستحب على الثاني، إلا أن يكبر المسجد، ويحتاج إليه. قلت: وإذا شرع في الاقامة في موضع، تممها فيه، ولا يمشي في أثنائها قاله أصحابنا. والله أعلم. السابعة: ينبغي أن يبالغ في رفع الصوت ما لم يجهده. وأما الاجزاء، فإن كان يؤذن لنفسه، أجزأه أن يسمع نفسه على قول الجمهور. وقال إمام الحرمين: الاقتصار على إسماع النفس، يمنع كون المأتي به أذانا وإقامة، فليزد عليه قدر ما يسمع من عنده. والخلاف المتقدم في المنفرد، أنه هل يرفع صوته ؟ هو على قول الجمهور، في أنه هل يستحب الرفع ؟ وعلى قول إمام الحرمين: هل يعتد به بلا رفع ؟. أما إذا أذن لجماعة، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يجزئ الاسرار بشئ منه، لفوات الاعلام. والثاني: لا بأس بالاسرار. كالاسرار بقراءة صلاة جهرية. والثالث: لا بأس بالاسرار بالكلمة، والكلمتين، ولا يجزئ الاسرار بالجميع. وأما الاقامة، فلا يكفي فيها إسماع النفس على الاصح أيضا. لكن الرفع فيها أخفض من الاذان. الثامنة: ترتيب كلمات الاذان شرط. فلو عكس، لم يصح أذانه. لكن يبنى على المنتظم منه. ولو ترك بعض الكلمات في خلاله، أتى بالمتروك. وأعاد ما بعده. التاسعة: الموالاة بين كلماته، مأمور بها، فإن سكت بينهما يسيرا، لم يضر. وإن طال، ففي بطلان أذانه قولان. ولو تكلم بينها كلاما يسيرا، لم يضر على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في تنزيل الكلام اليسير - إذا رفع به الصوت - منزلة السكوت الطويل. وإن تكلم طويلا، فقولان مرتبان على السكوت الطويل. وأولى بالبطلان. ولو خرج في أثناء الاذان عن أهليته، بإغماء أو نوم، فإن زال عن قرب، لم يضر. وإن طال، فعلى القولين. واعلم أن العراقيين جوزوا البناء في(1/311)
جميع هذه الصور، مع طول الفصل. وحكوه عن نص الشافعي رحمه الله (1). لكن الاشبه، وجوب الاستئناف عند الفصل الطويل، وحمل النص على الفصل اليسير، ومع الطول على أحد القولين يستحب الاستئناف. وكذا يستحب في السكوت والكلام الكثيرين إذا لم نوجبه، ولا يستحب إذا كانا يسيرين، ويستحب أن لا يتكلم في أذانه بشئ أصلا فلو عطس، حمد الله تعالى في نفسه، ويبني. ولو سلم عليه إنسان، أو عطس، لم يجبه، ولم يشمته حتى يفرغ. فإن أجابه، أو شمته، أو تكلم بمصلحة، لم يكره. وكان تاركا للمستحب. ولو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئر، وجب إنذاره. فرع: إذا لم نحكم ببطلان الاذان بالفصل المتخلل، فله أن يبني عليه بنفسه. ولا يجوز لغيره على المذهب أو المشهور. فرع: لو ارتد بعد فراغه من الاذان، ثم أسلم، وأقام، جاز. لكن المستحب، أن لا يصلي بأذانه، وإقامته، بل يعيدهما غيره، لان ردته تورث شبهة في حاله. ولو ارتد في خلال الاذان، لم يصح بناؤه عليه في الردة. فإن أسلم وبنى عليه، فالمذهب: أنه إن لم يطل الفصل، جاز البناء. وإلا فقولان. وقيل: قولان مطلقا. وقيل: وجهان. وإذا جوزنا له البناء، ففي بناء غيره الخلاف المتقدم في الفرع الذي قبله. وكذا لو مات في خلال الاذان. فصل في صفة المؤذن وآدابه: وشرطه أن يكون، مسلما، عاقلا، ذكرا. وإذا نطق بالشهادتين في الاذان، إن كان عيسويا (2)، لم يحكم بإسلامه. وإن كان غيره، حكم بإسلامه على الصحيح الذي قطع به الاكثرون. ولا يصح أذان السكران على الصحيح، ويصح أذان من هو في أول النشوة. ولا يصح أذان المرأة، والخنثى المشكل، للرجال على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وأما(1/312)
أذانها لنفسها، أو جماعة نساء، فتقدم حكمه. ويصح أذان الصبي المميز على الصحيح المعروف في المذهب. قلت: قال صاحب (الشامل) و (العدة) وغيرهما: يكره أذان الصبي، ما لم يبلغ. كما يكره أذان الفاسق، والله أعلم. وأما آدابه: فيستحب أن يكون متطهرا، فإن أذن، أو أقام محدثا، أو جنبا، كره. وصح أذانه. والكراهة في الجنب أشد، وفي الاقامة أشد. ويستحب أن يكون صيتا، حسن الصوت، وأن يؤذن على موضع عال. من منارة أو سطح، ونحوهما. وأن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه. وأن يكون عدلا وهو: الثقة، وأن يكون من أولاد من جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعض أصحابه الاذان فيهم، إذا وجد، وكان عدلا صالحا له. وأن يصلي المؤذن. ومن سمع الاذان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الاذان. ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته (1). وأن يجيب كل من سمع الاذان. وإن كان جنبا، أو حائضا، فيقول: مثل قول المؤذن في جميع الاذان، والاقامة، إلا في الحيعلتين، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإلا في كلمتي الاقامة. فيقول: أقامها الله، وأدامها، وجعلني من صالحي أهلها. وإلا في التثويب، فيقول: صدقت وبررت. وفي وجه، يقول: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة خير من النوم. فإن كان في قراءة، أو ذكر، استحب قطعهما ليجيب. ولو كان في صلاة، لم يجب حتى يفرغ، فإن أجاب، كره على الاظهر، لكن لا تبطل صلاته إن أجاب بما استحببناه، لانها أذكار. فلو قال: حي على الصلاة، أو الصلاة خير من النوم، بطلت صلاته، لانه كلام. قلت: وكذا لو قال: صدقت وبررت (2)، تبطل. صرح به القاضي حسين، وغيره. والله أعلم. ولو أجاب في خلال الفاتحة، وجب استئنافها، لان الاجابة في الصلاة غير محبوبة.(1/313)
قلت: ويستحب للمجيب، أن يجيب في كل كلمة عقبها. والله أعلم. ويستجب أن يقول من سمع أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك: فاغفر لي (1). ويستحب الدعاء بين الاذان والاقامة. وأن يتحول المؤذن إلى موضع آخر للاقامة. فرع: الاذان، والامامة، كلاهما فيه فضل، وأيهما أفضل، فيه أوجه. أصحها وهو المنصوص: الامامة أفضل. والثاني: الاذان. والثالث: هما سواء. والرابع: إن علم من نفسه القيام بحقوق الامامة، وجمع خصالها، فهي أفضل، وإلا، فالاذان. قاله أبو علي الطبري، والقاضي ابن كج، والقاضي حسين، والمسعودي (2). قلت: كذا رجح الرافعي أيضا في كتابه (المحرر) الامامة، والاصح: ترجيح الاذان، وهو قول أكثر أصحابنا. وقد نص الشافعي رحمه الله في (الام) على كراهة الامامة، فقال: أحب الاذان، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اغفر للمؤذنين) وأكره الامامة للضمان وما على الامام فيها، هذا نصه. والله أعلم. وأما الجمع بين الاذان، والامامة، فليس بمستحب. وأغرب ابن كج، فقال: الافضل لمن صلح لهما، الجمع بينهما. ولعله أراد الاذان لقوم، والامامة لآخرين. قلت: صرح بكراهة الجمع بينهما، الشيخ أبو محمد، والبغوي. وصرح باستحباب جمعهما، أبو علي الطبري، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وادعى الاجماع عليه، فحصل ثلاثة أوجه. الاصح: استحبابه، وفيه حديث حسن في الترمذي (3). والله أعلم.(1/314)
فرع: يستحب للمؤذن، التطوع بالاذان، فإن لم يتطوع، رزقة الامام من مال المصالح. وهو خمس خمس الفئ، والغنيمة. وكذا أربعة أخماس الفئ، إذا قلنا: إنها للمصالح. وإنما يرزقه عند الحاجة، وعلى قدرها. ولو وجد فاسقا يتطوع، وأمينا لا يتطوع، فله أن يرزق الامين على الصحيح. ولو وجد أمينا يتطوع، وأمينا أحسن منه صوتا لا يتطوع، فهل يجز أن يرزقه ؟ وجهان. قال ابن سريج: نعم. والقفال: لا. قلت: قول ابن سريج أصح إن رآه الامام مصلحة، لظهور تفاوتهما. والله أعلم. وإذا كان في البلد مساجد، فإن لم يمكن جمع الناس في مسجد واحد، رزق عددا من المؤذنين، يحصل بهم الكفاية. ويتأدي الشعار. وإن أمكن، فوجهان. أحدهما: يجمع ويرزق واحدا. والثاني، يرزق الجميع، لئلا تتعطل المساجد. قلت: هذا الثاني، أصح. والله أعلم. فلو لم يكن في بيت المال سعة، بدأ بالاهم. وهو رزق مؤذن الجامع. وأذان صلاة الجمعة، أهم من غيره. وللامام أن يرزق من مال نفسه. ويجوز للواحد من الرعية. وحينئذ، لا حجر فيرزق كم شاء، ومتى شاء. وأما الاستئجار على الاذان، ففيه أوجه. أصحها: يجوز للامام من بيت المال، ومن مال نفسه، ولآحاد الناس من أهل المحلة وغيرهم، من مال نفسه. والثاني: لا يصح الاستئجار مطلقا. والثالث: يجوز للامام، ومن أذن له: ولا يجوز لآحاد الناس: وإذا جوزنا للامام الاستئجار من بيت المال، فإنما يجوز حيث يجوز الرزق، خلافا، ووفاقا. قال في (التهذيب) وإذا استأجر، من بيت المال، لم (1) يفتقر إلى بيان المدة، بل يكفي أن يقول: استأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة، كل شهر بكذا. ولو استأجر من مال نفسه، أو استأجر واحد من الرعية، ففي اشتراط بيان المدة، وجهان. قلت: أصحهما: الاشتراط. والله أعلم. والاقامة تدخل في الاستئجار للاذان. ولا يجوز الاستئجار للاقامة إذ لا كلفة(1/315)
فيها، بخلاف الاذان. وليست هذه الصور بصافية عن الاشكال. فرع: يستحب أن يكون للمسجد مؤذنان. ومن فوائدهما: أن يؤذن أحدهما للصبح قبل الفجر، والآخر بعده. وتجوز الزيادة على اثنين. والمستحب أن لا يزاد على أربعة. قلت: هذا الذي ذكره من استحباب عدم الزيادة على أربعة، قاله أبو علي الطبري. وأنكره كثيرون من أصحابنا. وقالوا: إنما الضبط بالحاجة، ورؤية المصلحة. فإن رأى الامام المصلحة في الزيادة على أربعة، فعله. وإن رأى الاقتصار على اثنين، لم يزد. وهذا هو الاصح المنصوص. والله أعلم. وإذا ترتب للاذان اثنان فصاعدا، فالمستحب: أن لا يتراسلوا. بل إن اتسع الوقت، تجبوا فيه. فإن تنازعوا الابتداء، أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت. فإن كان المسجد كبيرا، أذنوا متفرقين في أقطاره. وإن كان صغيرا وقفوا معا، وأذنوا. وهذا إذا لم يؤد اختلاف الاصوات إلى تهويش. فإن أدى، لم يؤذن إلا واحد. فإن تنازعوا، أقرع. وأما الاقامة، فإن أذنوا على الترتيب، فالاول: أولى بها، إن كان هو المؤذن الراتب، أو لم يكن هناك مؤذن راتب. إن كان الاول غير الراتب، فالاصح: أن الراتب أولى، والثاني: الاول أولى. ولو أقام في هذه الصورة، غير من له ولاية الاقامة، اعتد به، على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ: لا يعتد بالاقامة من غير السابق بالاذان. تخريجا من قول الشافعي رحمه الله: لا يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر. أما إذا أذنوا معا، فإن اتفقوا على إقامة واحد، وإلا أقرع. ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد. وقيل: لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى التهويش. فرع: وقت الاذان منوط بنظر المؤذن، لا يحتاج فيه إلى مراجعة الامام. ووقت الاقامة، منوط بالامام، وإنما يقيم المؤذن بإشارته. فرع ذكره الامام الرافعي في أوقات الصلاة وأشار إلى أنه هنا أنسب قال: صلاة الصبح تختص بالاذان بأمور. منها: أنه يجوز تقديم أذانها على دخول الوقت. وذكر في (البيان) وجها: أنه إن جرت عادة أهل بلد بتأخير(1/316)
بالاذان، بعد طلوع الفجر، لم يقدم أذانها، [ على دخول الوقت ] (1) لئلا يلتبس. وهذا غريب. ثم في وقت جواز التقديم أوجه. أصحها: يقدم في الشتاء لسبع بقي من الليل. وفي الصيف: لنصف سبع. وهذا الضبط، تقريب لا تحديد. والثاني: يدخل بذهاب وقت الاختيار، للعشاء. وهو ثلث الليل، أو نصفه. والثالث: وقته: النصف الاخير من الليل، ولا يجوز قبله. والرابع: جميع الليل وقت له. ولم يفرق صاحب (التهذيب) بين الشتاء، والصيف. واعتبر السبع مطلقا تقريبا. قلت: الاصح: الوجه الثالث. واعتمد من رجح الاول: حديثا باطلا محرفا. والله أعلم. أما الاقامة للصبح، فلا يجوز قبل الفجر بلا خلاف. ويسن أن يؤذن للصبح مرتين (2). فيؤذن أحد المؤذنين قبل الفجر، والآخر بعده. ويجوز أن يقتصر على مرة قبل الصبح، أو بعده، أو بعض الكلمات قبل الصبح، وبعضها بعده. وإذا اقتصر على مرة، فالاولى أن يكون بعد الصبح على المعهود في سائر الصلوات. قلت: بقيت فروع تتعلق بالاذان. يكره التثويب في غير الصبح. قال في (التهذيب): لو زاد في الاذان ذكرا، أو زاد في عدده، لم يفسد أذانه. قال غيره: يستحب أن يجمع المؤذن، كل تكبيرتين بنفس واحد. وأما باقي الالفاظ، فيفرد كل كلمة بصوت، لطول لفظها، بخلاف التكبير. قال صاحب (العدة): وإذا كانت ليلة مطيرة، أو ذات ريح وظلمة، يستحب أن يقول: إذا فرغ من أذانه: ألا صلوا في رحالكم. فإن قاله في أثناء الاذان بعد الحيعلة، فلا بأس. وكذا قاله الصيدلاني، والبندنيجي، والشاشي، وغيرهم. واستبعد إمام الحرمين، قوله في أثناء الاذان، وليس هو ببعيد، بل هو الحق، والسنة. فقد نص عليه الشافعي رضي(1/317)
الله عنه في آخر أبواب الاذان، في (الام): وقد ثبت في (الصحيحين) (1) عن ابن عباس (2) رضي الله عنهما، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير. إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة. وقل: صلوا في بيوتكم. وكأن الناس استنكروا ذلك. فقال: أتعجبون من ذا ؟ ! قد (3) فعل ذا، من هو خير مني - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - ويكره أن يكون الاعمى مؤذنا وحده، فإن كان معه بصير، لم يكره. ويسن أن يكون الاذان بقرب المسجد. ويكره قوله: حي على خير العمل. ولو لقن الاذان، صح. ولو أذن بالعجمية وهناك من يحسن بالعربية، لم يصح، وإلا، فيصح. ولو قال: الله الاكبر، صح. وتركه في السفر أخف من الحضر. وترك المرأة الاقامة أخف من ترك الرجل. والله أعلم.
الباب الثالث في استقبال القبلة (4)
وهو شرط لصحة الفريضة، إلا في شدة خوف القتال المباح، وسائر وجوه الخوف. وشرط لصحة النافلة، إلا في الخوف، والسفر المباح. والعاجز، كالمريض لا يجد من يوجهه. والمربوط على خشبة، يصلي حيث توجه. ولا يجوز فعل الفريضة على الراحلة، من غير ضرورة، فإن خاف انقطاعا عن رفقته لو نزل لها، أو خاف على نفسه، أو ماله، فله أن يصليها على الراحلة، وتجب الاعادة، ولا تصح المنذورة، ولا الجنازة، على الراحلة، على المذهب فيهما. وتقدم(1/318)
بيانهما في التيمم (1). فرع: شرط الفريضة أن يكون مصليها مستقرا. فلا تصح من الماشي المستقبل، ولا من الراكب المخل بقيام، أو استقبال. فإن استقبل، وأتم الاركان في هودج، أو سرير، أو نحوهما على دابة واقفة، صحت الفريضة، على الاصح الذي قطع به الاكثرون. منهم: صاحبا (المعتمد) و (التهذيب)، وصاحبا (التتمة)، و (البحر)، وغيرهم. والثاني: لا يصح. وبه قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن كانت الدابة سائرة، لم تصح الفريضة على الاصح المنصوص. وتصح الفريضة في السفينة الجارية، والزورق المشدود على الساحل قطعا. وكذا في السرير الذي يحمله رجال (2)، وفي الارجوحة المشدودة بالحبال، والزورق الجاري، للمقيم ببغداد ونحوه، على الاصح في الثلاثة. فصل: يجوز التنفل ماشيا، وعلى الراحلة سائرة إلى جهة مقصده في السفر الطويل (3). وكذا القصير، على المذهب. ولا يجوز في الحضر على الصحيح، بل لها فيه حكم الفريضة في كل شئ، إلا القيام. وقال الاصطخري: يجوز للراكب، والماشي في الحضر، مترددا في جهة مقصده. واختار القفال: الجواز، بشرط الاستقبال في جميع الصلاة، وحيث جازت النافلة على الراحلة، فجميع النوافل سواء على الصحيح الذي عليه الاكثرون. وعلى الضعيف: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء. أما راكب السفينة، فلا يجوز تنفله فيها إلى غير القبلة، لتمكنه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وكذا من تمكن في هودج على دابة، على الصحيح. واستثنى صاحب (العدة) ملاح السفينة التي يسيرها. وجوز تنفله، حيث توجه لحاجة.(1/319)
قلت: واستثناه أيضا صاحب (الحاوي) وغيره، ولا بد منه. والله أعلم. فرع: إذا لم يتمكن المتنفل راكبا، من إتمام الركوع، والسجود، والاستقبال في جميع صلاته، ففي وجوب الاستقبال عند الاحرام، أوجه. أصحها: إن سهل، وجب، وإلا، فلا. فالسهل: بأن تكون الدابة واقفة، وأمكن انحرافه عليها (1)، أو تحريفها، أو كانت سائرة وبيده زمامها، وهي سهلة. وغير السهل: أن تكون مقطورة، أو صعبة. والثاني: لا يجب أصلا. والثالث: يجب مطلقا. فإن تعذر، لم تصح صلاته. والرابع: إن كانت الدابة عند الاحرام متوجهة إلى القبلة، أو إلى طريقه، أحرم كما هو. وإن كانت إلى غيرهما، لم يجز الاحرام إلا إلى القبلة. والاعتبار باستقبال الراكب دون الدابة، فلو استقبل عند التحرم، أجزأه بلا خلاف وإن كانت الدابة منحرفة عن القبلة، واقفة أو سائرة. وإذا شرطنا الاستقبال عند الاحرام، لم نشترطه عند السلام على الاصح، ولا يشترط فيما سواهما من أركان الصلاة، ولكن يشترط لزوم جهة المقصد في جميعها، إذا لم يستقبل القبلة. وتتبع ما يعرض في الطريق من معاطف. ولا يشترط سلوكه في نفس الطريق، بل الشرط جهة المقصد. فرع: ليس لراكب التعاسيف (3)، ترك الاستقبال في شئ من نافلته. وهو الهائم الذي يستقبل تارة، ويستدبر تارة، وليس له مقصد معلوم. فلو كان له مقصد معلوم (4)، لكن لم يسر في طريق معين، فله التنفل مستقبلا جهة مقصده على(1/320)
الاظهر. وعلى الثاني: لا، لانه لم يسلك طريقا مضبوطا، فقد لا يؤدي سيره إلى مقصده. فرع: إذا انحرف المصلي على الارض، عن القبلة، نظر، إن استدبرها، أو تحول إلى جهة أخرى عمدا، بطلت صلاته. وإن فعله ناسيا، أو عاد إلى الاستقبال على قرب، لم تبطل. وإن عاد بعد طول الفصل، بطلت على الاصح. ككلام الناسي. وإن أماله غيره عن القبلة قهرا، فعاد إلى الاستقبال بعد الطول، بطلت. وكذا على القرب، على الاصح، لندوره. كما لو أكره على الكلام، فإنها تبطل على الصحيح، لندوره. ولو انحرف المتنفل ماشيا عن مقصده، أو حرف دابته، فإن كان إلى جهة القبلة، لم يضره. وإن كان إلى غيرها عمدا، بطلت صلاته (1)، وإن كان ناسيا، أو غالطا ظن أن الذي توجه إليه طريقه، وعاد على قرب، لم تبطل. وإن طال، بطلت على الاصح. ولو انحرف بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت على الصحيح، كالامالة قهرا. وإن قصر، لم تبطل على المذهب. وبه قطع الجمهور، لعموم الجماح. وإذا لم تبطل في صورة النسيان، فإن طال الزمان، سجد للسهو. وإن قصر، فوجهان. المنصوص: لا يسجد. وفي صورة الجماح أوجه. أصحها: يسجد. والثاني: لا. والثالث: إن طال، سجد، وإلا فلا. وهذا تفريع على المشهور أن النفل يدخله سجود السهو. فرع: هذا الذي قدمناه، هو في استقبال الراكب على سرج، ونحوه، وليس عليه وضع الجبهة على عرف الدابة، ولا على السرج، والاكاف، بل ينحني للركوع، والسجود، إلى طريقه. والسجود، أخفض من الركوع. قال إمام(1/321)
الحرمين: الفصل بينهما عند التمكن محتوم. والظاهر: أنه لا يجب مع ذلك أن تبلغ غاية وسعه في الانحناء. وأما سائر الاركان، فكيفيتها ظاهرة. وأما الراكب في مرقد ونحوه، مما يسهل فيه الاستقبال، وإتمام الاركان، فعليه الاستقبال في جميع الصلاة، وإتمام الاركان في جميع الصلاة (1) على الاصح، كراكب السفينة. والثاني: لا يشترط. وهو منصوص. وأما الماشي، ففيه أقوال. أظهرها: أنه يشترط أن يركع، ويسجد على الارض، وله التشهد ماشيا. والثاني: يشترط التشهد أيضا قاعدا، ولا يمشي إلا حالة القيام. والثالث: لا يشترط اللبث بالارض في شئ، ويومئ بالركوع والسجود، كالراكب. وأما استقباله، فإن قلنا بالقول الثاني، وجب عند الاحرام، وفي جميع الصلاة غير القيام. وإن قلنا بالاول، استقبل في الاحرام، والركوع، والسجود، ولا يجب عند السلام على الاصح. وإن قلنا بالثالث، لم يشترط الاستقبال في غير حالة الاحرام، والسلام. وحكمه فيهما حكم راكب بيده الزمام. وإذا لم نوجب استقبال القبلة، شرطنا ملازمة جهة مقصده. فرع: يشترط أن يكون ما يلاقي بدن المصلي على الراحلة، وثيابه، من السرج، وغيره، طاهرا. ولو بالت الدابة، أو وطئت نجاسة، أو كان على السرج نجاسة، فسترها، وصلى عليه، لم يضر. ولو أوطأها الراكب نجاسة، لم يضر أيضا على الاصح. ولو وطئ مصل ماشيا، نجاسة عمدا، بطلت صلاته، ولا يكلف التحفظ والاحتياط في المشي. ولو انتهى إلى نجاسة يابسة، ولم يجد عنها معدلا، قال إمام الحرمين: هذا فيه احتمال. فإن كانت رطبة، فمشى عليها، بطلت صلاته. فرع: يشترط في جواز النفل راكبا وماشيا دوام السفر، فلو بلغ المنزل في خلال الصلاة، اشترط إتمامها إلى القبلة متمكنا. وينزل إن كان راكبا. ولو دخل بلد إقامته، فعليه النزول، وإتمام الصلاة مستقبلا بأول دخوله البنيان (2)، إلا إذا(1/322)
جوزنا للمقيم التنفل على الراحلة، وكذا لو نوى الاقامة بقرية. ولو مر بقرية مجتازا، فله إتمام الصلاة راكبا، فإن كان له بها أهل، فهل يصير مقيما بدخولها ؟ قولان. إن قلنا: يصير، وجب النزول والاتمام مستقبلا. قلت: الاظهر، لا يصير. والله أعلم. وحيث أمرناه بالنزول، فذلك عند تعذر البناء على الدابة، فلو أمكن الاستقبال، وإتمام الاركان عليها وهي واقفة، جاز. ويشترط الاحتراز عن الافعال التي لا يحتاج إليها. فلو ركض الدابة للحاجة، فلا بأس. ولو أجراها بلا عذر، أو كان ماشيا، فعدا بلا عذر، بطلت صلاته على الاصح. فصل في استقبال المصلي على الارض: وله أحوال.. أحدها: أن يصلي في جوف الكعبة، فتصح الفريضة، والنافلة. قلت: قال أصحابنا: والنفل فيها أفضل منه خارجها. وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، فإن رجاها، فخارجها أفضل (1). والله أعلم. ثم له أن يستقبل أي جدار شاء. وله استقبال الباب، إن كان مردودا، أو مفتوحا، وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا. هذا هو الصحيح. ولنا وجه: أنه يشترط في العتبة، أن تكون بقدر قامة المصلي طولا وعرضا. ووجه: أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان. الحال الثاني: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - وبقي موضعها عرصة، فوقف(1/323)
خارجها، وصلى إليها، جاز. فإن صلى فيها، فله حكم السطح. الحال الثالث: وهو أن يقف على سطحها، فإن لم يكن بين يديه شئ شاخص، لم يصح على الصحيح. وإن كان شاخص من نفس الكعبة، فله حكم العتبة. إن كان ثلثي ذراع، جاز. وإلا، فلا، على الصحيح. وفيه الوجهان الآخران. ولو وضع بين يديه متاعا، واستقبله، لم يكف. ولو استقبل بقية حائط، أو شجرة ثابتة، جاز. ولو جمع تراب العرصة، واستقبله، أو حفر حفرة ووقف فيها، أو وقف في آخر السطح، أو العرصة، وتوجه إلى الجانب الآخر وهو مرتفع عن موقفه، جاز. ولو استقبل حشيشا نابتا عليها، أو خشبة، أو عصا مغروزة غير مسمرة، لم يكف على الاصح. وإن كانت العصا مثبتة، أو مسمرة، كفت قطعا. لكن قال إمام الحرمين: إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها، كان على الخلاف الآتي، فيمن خرج بعض بدنه عن محاذاة الكعبة. قلت: لم يجزم إمام الحرمين بأنه يكون على ذلك الخلاف. بل قال: في هذا، تردد ظاهر عندي. وظاهر كلام الاصحاب: القطع بالصحة في مسألة العصا، لانه يعد مستقبلا، بخلاف مسألة طرف الركن. والله أعلم. الحال الرابع: أن يصلي عند طرف ركن الكعبة، وبعض بدنه يحاذيه، وبعضه يخرج عنه، فلا تصح صلاته على الاصح. ولو وقف الامام بقرب الكعبة عند المقام، أو غيره، ووقف القوم خلفه مستديرين بالبيت، جاز. ولو وقفوا في أخريات المسجد، وامتد صف طويل، جاز. وإن وقفوا بقربه، وامتد الصف، فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة. الحال الخامس: أن يصلي بمكة خارج المسجد. فإن عاين الكعبة، كمن يصلي على جبل أبي قبيس (1)، صلى إليها. ولو بنى محرابه على العيان، صلى إليه أبدا، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة. وفي معنى المعاين: من نشأ بمكة، وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة، فإن لم يعاين، ولا تيقن(1/324)
الاصابة، فله اعتماد الادلة، والعمل بالاجتهاد، إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي، كالجبل. وكذا إن كان الحائل طارئا، كالبناء، على الاصح، للمشقة في تكليف المعاينة. الحال السادس: أن يصلي بالمدينة، فمحراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، نازل منزلة الكعبة. فمن يعاينه، يستقبله، ويسوي محرابه عليه، بناء على العيان، أو الاستدلال، كما ذكرنا في الكعبة. ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال. وفي معنى المدينة، سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا ضبط المحراب. وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطريق التي هي جادتهم، يتعين استقبالها، ولا يجوز الاجتهاد. وكذا القرية الصغيرة، إذا نشأ فيها قرون من المسلمين. ولا اعتماد على علامة بطريق يندر مرور الناس به، أو يستوي مرور المسلمين والكفار به، أو بقرية خربة، لا يدرى، بناها المسلمون، أو الكفار ؟ بل يجتهد. ثم هذه المواضع التي منعنا الاجتهاد فيها في الجهة، هل يجوز في التيامن، والتياسر. إن كان محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لا يجوز بحال. ولو تخيل حاذق، في معرفة القبلة فيه، تيامنا، أو تياسرا، فليس له ذلك، وخياله باطل. وأما سائر البلاد، فيجوز على الاصح الذي قطع به الاكثرون، والثاني: لا يجوز. والثالث: لا يجوز في الكوفة خاصة. والرابع: لا يجوز في الكوفة والبصرة، لكثرة من دخلهما من الصحابة رضي الله عنهم. الحال السابع: إذا كان بموضع لا يقين فيه. اعلم أن القادر على يقين القبلة، لا يجوز له الاجتهاد. وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها، وجهان. الاصح: المنع، لان كونه من البيت، غير مقطوع به. بل هو مظنون. ثم اليقين، قد يحصل بالمعاينة، وبغيرها. كالناشئ بمكة، العارف يقينا بأمارات. وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين، لا يجوز اعتماد قول غيره. وأما غير القادر على اليقين، فإن وجد من يخبره بالقبلة عن علم، اعتمده، ولم(1/325)
يجتهد، بشرط عدالة المخبر، يستوي فيه الرجل والمرأة والعبد. ولا يقبل كافر قطعا، ولا فاسق، ولا صبي، ولا مميز على الصحيح فيهما. ثم قد يكون الخبر صحيح (1) صرح لفظ، وقد يكون دلالة، كالمحراب المعتمد. وسواء في العمل بالخبر، أهل الاجتهاد وغيرهم. حتى الاعمى، يعتمد المحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمده البصير، وكذا البصير في الظلمة. وقال صاحب (العدة): إنما يعتمد الاعمى على المس، في محراب رآه قبل العمى. فإن لم يكن شاهده، لم يعتمده. ولو اشتبه عليه مواضع لمسها، فلا شك أنه يصبر، حتى يخبره غيره صريحا. فإن خاف فوت الوقت، صلى على حسب حاله، وأعاد. هذا كله، إذا وجد من يخبره عن علم، وهو ممن يعتمد قوله. أما إذا لم يجد العاجز من يخبره، فتارة يقدر على الاجتهاد، وتارة لا يقدر. فإن قدر، لزمه، واستقبل ما ظنه القبلة. ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة. وهي كثيرة فيها كتب مصنفة. وأضعفها، الرياح، لاختلافها. وأقواها، القطب، وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى، بين الفرقدين والجدي، إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى، كان مستقبلا القبلة، إن كان بناحية الكوفة (2)، وبغداد (3)، وهمدان، وقزوين (4)، وطبرستان، وجرجان، وما والاها (5). وليس للقادر على الاجتهاد، تقليد غيره. فإن فعل، وجب قضاء الصلاة. وسواء خاف خروج الوقت، أم لم يخفه. لكن إن ضاق الوقت، صلى كيف كان،(1/326)
وتجب الاعادة. هذا هو الصحيح، وفيه وجه لابن سريج: أنه يقلد عند خوف الفوات. وفي وجه ثالث: يصبر إلى أن تظهر القبلة، وإن فات الوقت. ولو خفيت الدلائل على المجتهد، لغيم، أو ظلمة، أو تعارض أدلة، فثلاثة طرق. أصحها: قولان. أظهرهما: لا يقلد. والثاني: يقلد. والطريق الثاني: يقلد. والثالث: يصلي بلا تقليد كيف كان، ويقضي. فإن قلنا: يقلد، لم يلزمه الاعادة على الصحيح، وقول الجمهور. قال إمام الحرمين: هذه الطرق إذا ضاق الوقت، وقبل ضيقه، يصبر، ولا يقلد قطعا، لعدم الحاجة. قال: وفيه احتمال من التيمم أول الوقت. أما إذا لم يقدر على الاجتهاد، فإن عجز عن تعلم أدلة القبلة، كالاعمى، والبصير الذي لا يعرف الادلة، ولا له أهلية معرفتها، وجب عليه تقليد مكلف، مسلم، عدل، عارف بالادلة، سواء فيه، الرجل، والمرأة، والعبد. وفي وجه شاذ: له تقليد صبي مميز. والتقليد: قبول قوله المستند إلى الاجتهاد. فلو قال بصير: رأيت القطب، أو رأيت الخلق العظيم من المسلمين يصلون إلى هنا، كان الاخذ به، قبول خبر، لا تقليدا. ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين، قلد من شاء منهما على الصحيح. والاولى تقليد الاوثق والاعلم. وقيل: يجب ذلك. وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين، وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبنى على أن تعلمها فرض كفاية، أم عين ؟ والاصح: فرض عين. قلت: المختار ما قاله غيره، أنه إن أراد سفرا، ففرض عين، لعموم حاجة المسافر إليها، وكثرة الاشتباه عليه، وإلا ففرض كفاية، إذا لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم السلف، ألزموا آحاد الناس بذلك، بخلاف أركان الصلاة وشروطها. والله أعلم. فإن قلنا: ليس بفرض عين، صلى بالتقليد، ولا يقضي كالاعمى. وإن قلنا: فرض عين، لم يجز التقليد. فإن قلد، قضى لتقصيره. وإن ضاق الوقت عن التعلم، فهو كالعالم إذا تحير. وتقدم الخلاف فيه. فرع: المصلي بالاجتهاد، إذا ظهر له الخطأ في الاجتهاد، له أحوال. أحدها: أن يظهر قبل الشروع في الصلاة، فإن تيقن الخطأ في اجتهاده، أعرض عنه، واعتمد الجهة التي يعلمها، أو يظنها الآن. وإن لم يتيقن، بل ظن أن الصواب جهة أخرى. فإن كان دليل الاجتهاد الثاني عنده أوضح من الاول الآن،(1/327)
اعتمد الثاني. وإن كان الاول أوضح، اعتمده. وإن تساويا، فله الخيار فيهما، على الاصح. وقيل: يصلي إلى الجهتين مرتين. الحال الثاني: أن يظهر الخطأ بعد الفراغ من الصلاة. فإن تيقنه، وجبت الاعادة على الاظهر، سواء تيقن الصواب أيضا، أم لا. وقيل: القولان إذا تيقن الخطأ، وتيقن الصواب. أما إذا لم يتيقن الصواب، فلا إعادة قطعا. والمذهب: الاول. ولو تيقن الخطأ الذي قلده الاعمى، فهو كتيقن خطأ المجتهد. وأما إذا لم يتيقن الخطأ، بل ظنه، فلا إعادة عليه. فلو صلى أربع صلوات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة على الصحيح. وعلى وجه شاذ: يجب إعادة الاربع. وقيل: يجب إعادة غير الاخيرة. ويجري هذا الخلاف، سواء أوجبنا تجديد الاجتهاد، أم لم نوجبه ففعله. الحال الثالث: أن يظهر الخطأ في أثناء الصلاة. وهو ضربان. أحدهما: يظهر الصواب مقترنا بظهور الخطأ. فإن كان الخطأ متيقنا، بنيناه على القولين في تيقن الخطأ بعد الفراغ. فإن قلنا بوجوب الاعادة، بطلت صلاته، وإلا فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: ينحرف إلى جهة الصواب، ويتم صلاته. والثاني: تبطل. وإن لم يكن الخطأ متيقنا، بل مظنونا، فعلى هذين الوجهين، أو القولين، الاصح: ينحرف، ويبني. وعلى هذا: الاصح لو صلى أربع ركعات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة كالصلوات، وخص صاحب (التهذيب) الوجهين بما إذا كان الدليل الثاني أوضح من الاول. قال: فإن استويا، تمم صلاته إلى الجهة الاولى، ولا إعادة. الضرب الثاني: أن لا يظهر الصواب مع الخطأ، فإن عجز عن الصواب بالاجتهاد على القرب، بطلت صلاته. إن قدر عليه على القرب، فهل ينحرف ويبني، أم يستأنف ؟ فيه خلاف مرتب على الضرب الاول، وأولى بالاستئناف. قلت: الصواب هنا، وجوب الاستئناف. والله أعلم. مثاله، عرف أن قبلته يسار المشرق، فذهب الغيم، وظهر كوكب قريب من الافق، هو مستقبله، فعلم الخطأ يقينا، ولم يعلم الصواب، إذ يحتمل كون(1/328)
الكوكب في المشرق، ويحتمل المغرب. لكن يعرف الصواب على قرب، فإنه يرتفع، فيعلم أنه مشرق، أو ينحط، فيعلم أنه مغرب، ويعرف به القبلة. وقد يعجز عن ذلك بأن يطبق الغيم عقب الكوكب. فرع في المطلوب بالاجتهاد: قولان. أحدهما: جهة الكعبة. وأظهرهما: عينها. اتفق العراقيون والقفال على تصحيحه. ولو ظهر الخطأ في التيامن، أو التياسر، فإن كان ظهوره بالاجتهاد، وظهر بعد الفراغ، لم يؤثر قطعا. وإن كان في أثنائها، انحرف، وأتمها قطعا. وإن كان ظهور باليقين، وقلنا: الفرض جهة الكعبة، فكذلك. وإن قلنا: عينها، ففي وجوب الاعادة بعد الفراغ، والاستئناف في الاثناء، القولان. قال صاحب (التهذيب) وغيره: ولا يستيقن الخطأ في الانحراف مع البعد عن مكة، وإنما يظن. ومع القرب يمكن التيقن، والظن. وهذا كله كالتوسط بين اختلاف أطلقه أصحابنا العراقيون: أنه هل يتيقن الخطأ في الانحراف من غير معاينة الكعبة، من غير فرق بين القرب من مكة والبعد ؟ فقالوا: قال الشافعي رحمه الله: لا يتصور إلا بالمعاينة. وقال بعض الاصحاب: يتصور. فرع: إذا صلى باجتهاد، ثم أراد فريضة أخرى، حاضرة، أو فائتة، وجب إعادة الاجتهاد على الاصح (1). ثم قيل الوجهان، إذا لم يفارق موضعه. فإن فارقه وجب إعادته قطعا، كالتيمم. ولكن الفرق ظاهر، ولا يحتاج إلى تجديد الاجتهاد للنافلة قطعا ولو رأى اجتهاد رجلين إلى جهتين، عمل كل باجتهاده، ولا يقتدي بصاحبه. ولو اجتهد جماعة، واتفق اجتهادهم فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد مأموم، لزمه المفارقة، وينحرف إلى الجهة الثانية. وهل له البناء، أم عليه الاستئناف ؟ فيه الخلاف المتقدم في تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة، وهل هو مفارق بعذر، أو بغير عذر لتركه كمال البحث ؟ وجهان. قلت: الاصح: الاول. والله أعلم. ولو تغير اجتهاد الامام، انحرف إلى الجهة الثانية، بانيا أو مستأنفا، على(1/329)
الخلاف. ويفارقه المأمومون. ولو اختلف اجتهاد رجلين في التيامن، والتياسر، والجهة الواحدة، فإن أوجبنا على المجتهد رعاية ذلك، فهو كالاختلاف في الجهة، فلا يقتدي أحدهما بالآخر، وإلا فلا بأس. ولو شرع المقلد في الصلاة بالتقليد، فقال له عدل: أخطأ بك فلان، فله حالان. أحدهما: أن يكون قوله عن اجتهاد. فإن كان قول الاول أرجح عنده، لزيادة عدالته، أو هدايته للادلة، أو مثله، أو لم يعرف هل هو مثله، أم لا ؟ لم يجب العمل بقول الثاني. وهل تجوز العمل به ؟ يبني على أن المقلد إذا وجد مجتهدين، هل يجب الاخذ بأعلمهما، أم يتخير ؟ فإن قلنا: بالاول، لم يجز، وإلا، ففيه خلاف. قلت: الصحيح: أنه لا يجوز. والله أعلم. وإن كان الثاني أرجح، فهو كتغير اجتهاد البصير، فينحرف. ويجئ الخلاف في أنه يبني، أم يستأنف ؟ ولو قال له المجتهد الثاني بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزم الاعادة قطعا وإن كان الثاني أرجح، كما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ. الحال الثاني: أن يخبر عن علم، ومعاينه، فيجب الرجوع إلى قوله وإن كان قول الاول أقوى عنده. ومن هذا القبيل، أن يقول للاعمى: أنت مصل إلى الشمس، والاعمى يعلم أن قبلته إلى غير الشمس، فيلزم الاستئناف على الاظهر. ولو قال الثاني: أنت على الخطأ قطعا، وجب قبوله قطعا. وسواء أخبره هذا القاطع بالخطأ عن الصواب، متيقنا أو مجتهدا، يجب قبوله (1)، لان تقليد الاول بطل بقطع هذا. وكل المذكور في الحالين، مفروض فيما إذا أخبر الثاني بالخطأ والصواب: جميعا. فإن أخبره عن الخطأ وحده، على صورة يجب قبولها، ولم يخبر هو، ولا(1/330)
غيره بالصواب، فهو كاختلاف المجتهدين عليه في أثناء الصلاة. وقد سبق في الفرع (1).
الباب الرابع في صفة الصلاة (2)
الصلاة تشتمل على أركان وسنن تسمى: أبعاضا، وسنن لا تسمى أبعاضا. فالاركان المتفق عليها، سبعة عشر (3). النية، والتكبير، والقيام، والقراءة، والركوع. والطمأنينة فيه، والاعتدال، والطمأنينة فيه، والسجود، والطمأنية فيه والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة(1/331)
فيه، والقعود في آخر الصلاة، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه والسلام، وترتيبها هكذا. ومن فرض فيها الموالاة، ونية الخروج ألحقهما بالاركان. وضم صاحب (التلخيص) والقفال، إلى الاركان استقبال القبلة. ومن الاصحاب، من جعل نية الصلاة شرطا. والكثرون على أنها ركن، وهو الصحيح. وأما الابعاض، فستة. أحدها: القنوت في الصبح، وفي الوتر في النصف الثاني من شهر رمضان. والثاني: القيام للقنوت. والثالث: التشهد الاول. والرابع: الجلوس له. والخامس: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول، إذا قلنا: تسن. والسادس (1): والصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول، والآخر، إذا قلنا: هي سنة فيهما. وأما السنن التي ليست أبعاضا، فما يشرع سوى ما قدمناه. فصل في النية: يجب مقارنتها التكبير. وفي كيفية المقارنة، وجهان. أحدهما: يجب أن يبتدئ النية بالقلب، مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها، مع فراغه منه. وأصحهما: لا يجب هذا، بل لا يجوز لئلا يخلو أول التكبير عن تمام النية. فعلى هذا قيل: يجب أن تقدم النية على التكبير، ولو بشئ يسير. والصحيح الذي قاله الاكثرون: لا يجب ذلك، بل الاعتبار بالمقارنة. وسواء قدم، أم لم يقدم، يجب استصحاب النية إلى انقضاء التكبير على الاصح وعلى الثاني، لا يجب. والنية: هي القصد، فيحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة، وما يجب التعرض له من صفاتها، كالظهرية، والفرضية، وغيرهما. ثم يقصد هذه العلوم، قصدا مقارنا لاول التكبير (2). ولا يجب استصحاب النية بعد التكبير، ولكن يشترط(1/332)
أن لا يأتي بمناقض لها. ولو نوى في أثناء الصلاة، الخروج منها، بطلت. وإن تردد في أن يخرج، أو يستمر، بطلت. والمراد بالتردد: أن يطرأ شك مناقض للجزم. ولا عبرة بما يجري في الفكر، أنه لو تردد في الصلاة، كيف يكون الحال، فإن ذلك مما يبتلى به الموسوس. وقد يقع ذلك في الايمان بالله تعالى، فلا مبالاة بذلك، قاله امام الحرمين. ولو نوى في الركعة الاولى، الخروج في الثانية، أو علق الخروج بشئ يوجد في صلاته قطعا، بطلت في الحال على الصحيح، وعلى الشاذ: لا تبطل في الحال، بل لو رفض هذا التردد قبل الانتهاء إلى الغاية المنوية، صحت صلاته. ولو علق الخروج بدخول شخص ونحوه، مما يحتمل حصوله في الصلاة. وعدمه، بطلت في الحال على الاصح، كما لو دخل في الصلاة هكذا، فإنه لا ينعقد بلا خلاف، وكما لو علق به الخروج من الاسلام، فإنه يكفر في الحال قطعا. والثاني: لا تبطل في الحال. وهل تبطل بوجود الصفة إذا وجدت وهو ذاهل عن التعليق ؟ وجهان. أحدهما: لا، وأصحهما، وقول الاكثرين: تبطل. قال إمام الحرمين: ويظهر على هذا، أن يقال: تبين بالصفة بطلانها من حين التعليق. أما إذا وجدت، وهو ذاكر للتعليق،. فتبطل قطعا. ولو نوى فريضة، أو سنة راتبة، ثم نوى فيها فريضة أخرى، أو راتبة، بطلت التي كان فيها، ولم تحصل المنوية. وفي بقاء أصل الصلاة نافلة قولان نذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو تردد الصائم في الخروج من صومه، أو علقة على دخول شخص ونحوه، لم يبطل على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: وجهان. ولو جزم نية الخروج منه، لم يبطل على الاصح، كالحج، فإنه لا يبطل قطعا. ولو شك في صلاته، هل أتى بكمال النية، أم تركها، أو ترك بعض شروطها ؟ نظر إن تذكر أنه أتى بكمالها قبل أن يحدث شيئا على الشك وقصر الزمان، لم تبطل صلاته وإن طال، بطلت على الاصح لانقطاع نظمها. وإن تذكر بعد أن أتى على الشك بركن فعلي، كالركوع، أو السجود، بطلت. وإن أتى بقولي، كالقراءة، والتشهد، بطلت أيضا على الاصح المنصوص، والذي قطع به العراقيون. قلت: قال الماوردي: لو شك، هل نوى ظهرا، أو عصرا ؟ لم يجزئه عن واحدة، فإن تيقنها، فعلى التفصيل المذكور. والله أعلم. فرع في كيفية النية أما الفريضة، فيجب فيها قصد أمرين بلا خلاف.(1/333)
أحدهما: فعل الصلاة، لتمتاز عن سائر الافعال. ولا يكفي إحضار نفس الصلاة بالبال، غافلا عن الفعل. والثاني: تعيين الصلاة المأتي بها، ولا تجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر، أو العصر على الاصح، لان الفائتة التي يتذكرها تشاركها في كونها فريضة الوقت. ولا تصح الظهر بنية الجمعة على الصحيح الصواب. ولا تصح الجمعة بنية مطلق الظهر، ولا تصح بنية الظهر المقصورة إن قلنا: إنها صلاة بحيالها. وإن قلنا: ظهر مقصورة، صحت. واختلفوا في اعتبار أمور سوى هذين الامرين. أحدها: الفرضية، وهو شرط على الاصح عند الاكثرين، سواء كان الناوي بالغا، أو صبيا. وسواء كانت الصلاة قضاء، أم أداء. الثاني: الاضافة إلى الله تعالى، بأن يقول: لله، أو فريضة الله. والاصح: أنه لا يشترط. الثالث: القضاء، والاداء، الاصح: أنه لا يشترط، بل تصح أداء بنية القضاء، وعكسه. ولك أن تقول: الخلاف في اشتراط نية الاداء في الاداء، ونية القضاء في القضاء، ظاهر. أما الخلاف في صحة الاداء بنية القضاء وعكسه، فليس بظاهر، لانه إن جرت هذه النية على لسانه، أو في قلبه، ولم يقصد حقيقة معناها، فينبغي أن تصح قطعا. وإن قصد حقيقة معناه، فينبغي أن لا يصح قطعا، لتلاعبه. قلت: مراد الاصحاب بقولهم: يصح القضاء بنية الاداء، (1) وعكسه، من(1/334)
نوى ذلك جاهل الوقت لغيم، ونحوه. والالزام الذي ذكره الرافعي، حكمه صحيح، ولكن ليس هو مرادهم. والله أعلم. الرابع: التعرض لاستقبال القبلة، وعدد الركعات. المذهب: أنه لا يشترط. وقيل: يشترط، وهو غلط. لكن لو نوى الظهر ثلاثا، أو خمسة، لم تنعقد. وأما النافلة، فضربان. أحدهما: ما لها وقت، أو سبب، فيشترط فيها نية فعل الصلاة، والتعيين. فينوي صلاة الاستسقاء، أو الخسوف، أو عيد الفطر، أو النحر، أو الضحى، وغيرها. وفي الرواتب، يعين بالاضافة. فيقول: سنة الفجر، أو راتبة الظهر، أو سنة العشاء، وفي وجه ضعيف: يكفي فيما عدا ركعتي الفجر من الرواتب، نية أصل الصلاة، لتأكد ركعتي الفجر، فألحقت بالفرائض. وأما الوتر، فينوي سنة الوتر، ولا يضيفها إلى العشاء، لانها مستقلة. فإن أوتر بأكثر من واحدة، نوى بالجميع الوتر، كما ينوي في جميع ركعات التراويح. وفي وجه: ينوي بما قبل الواحدة، صلاة الليل. وفي وجه: ينوي به سنة الوتر. وفي وجه: مقدمة الوتر. والظاهر: أن هذه الاوجه في الاولوية، دون الاشتراط. وفي اشتراط نية النفلية في هذا الضرب، والاداء، والقضاء، والاضافة إلى الله تعالى، الخلاف المتقدم في الفريضة (1). الضرب الثاني: النوافل (2) المطلقة. فيكفي فيها نية فعل الصلاة. ولم يذكروا هنا خلافا في اشتراط التعرض للنفلية. ويمكن أن يقال: مقتضى اشتراط الفرضية في الفرض، اشتراط النفلية هنا. قلت: الصواب، الجزم بعدم اشتراط النفلية في الضربين. ولا وجه للاشتراط في الاول. والله أعلم.(1/335)
فرع: النية في جميع العبادات معتبرة بالقلب. ولا يكفي فيها نطق اللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط ولا يضر مخالفته القلب. كمن قصد بقلبه الظهر، وجرى لسانه بالعصر، انعقد ظهره. ولنا وجه شاذ: أنه يشترط نطق اللسان، وهو غلط. ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله تعالى، بالقلب، أو باللسان، فإن قصد به التبرك، ووقوع الفعل بمشيئة الله تعالى، لم يضر. وإن قصد الشك، لم تصح صلاته (1). فرع: من أتى بما ينافي الفريضة، دون النفلية في أول صلاته، أو في أثنائها، وبطل فرضه، هل تبقى صلاته نافلة، أم تبطل ؟ قولان. اختلف في الاصح منهما الاصحاب بحسب الصور. فمنها: إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، فإن كان عالما بحقيقة الحال، فالاظهر: البطلان. وإن جهل، فالاظهر: انعقادها نافلة. ومثله: لو وجد المسبوق الامام راكعا، فأتى ببعض تكبيرة الاحرام في الركوع، لا ينعقد الفرض. فإن كان عالما بتحريمه، فالاظهر: البطلان، وإلا فالاظهر: انعقادها نفلا. ومنها: لو أحرم بفريضة منفردا، ثم أقيمت جماعة، فسلم من ركعتين ليدركها، فالاظهر: صحتها نفلا. ومنها: لو وجد المصلي قاعدا خفة في صلاته، فلم يقم، أو أحرم القادر على القيام بالفرض قاعدا، أو قلب المصلي فرضه نفلا بلا سبب، فالاظهر: البطلان في الثلاثة. فصل في تكبيرة الاحرام أما القادر عليها، فيتعين عليه كلمة التكبير. ولا يجزئ ما قرب منها، ك: الرحمن أجل، والرب أعظم، أو: الرحمن الرحيم أكبر. وفي وجه شاذ: يجزئه: الرحمن أكبر، أو: الرحيم أكبر. ولو قال: الله الاكبر، أجزأه على المشهور. كما لو قال: الله أكبر من كل شئ، أو: الله أكبر(1/336)
وأجل وأعظم. ولو قال: الله الجليل أكبر، أجزأه على الصحيح. ويجري الخلاف، فيما إذا أدخل بين كلمتي التكبير لفظا آخر من صفات الله تعالى، بشرط أن يقل لفظه، كقوله: الله عزوجل أكبر. فإن طال، كقوله: الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر، لم يجزئه قطعا، لخروجه عن اسم التكبير، ولو قال: أكبر الله، أو: الاكبر الله، لم تنعقد صلاته على المذهب. وقيل: قولان. وقيل: لا ينعقد الاول. وفي الثاني الطريقان. ويجب الاحتراز في لفظ التكبير، عن وقفة بين كلمتيه، وعن زيادة تغير المعنى، بأن يقول: الله أكبر، بمد همزة الله. أو: الله أكبار، أو يزيد واوا ساكنة، أو متحركة بين الكلمتين. ولا يضر المد في موضعه، ويجب أن يكبر بحيث يسمع نفسه، ويجب أن يكبر قائما حيث يجب القيام. ولا يجزئه ترجمة التكبير بغير لسان العرب مع القدرة عليه. أما العاجز عن كلمة التكبير، أو بعضها، فله حالان. أحدهما: أن لا يمكنه كسب القدرة. فإن كان بخرس، أو نحوه، حرك لسانه، وشفتيه، ولهاته بالتكبير قدر إمكانه، وإن كان ناطقا لا يطاوعه لسانه، أتى بترجمة التكبير، ولا يعدل إلى ذكر آخر. ثم جميع اللغات في الترجمة سواء، فيتخير بينها على الصحيح. وقيل: إن أحسن السريانية، أو العبرانية، تعينت، لشرفها بإنزال الكتاب بها. والفارسية بعدهما أولى من التركية، والهندية. الحال الثاني: أن يمكنه القدرة بتعلم، أو نظر في موضع كتب عليه لفظ التكبير، فيلزمه ذلك. ولو كان ببادية، أو موضع لا يجد فيه من يعلمه، لزمه السير إلى قرية يتعلم بها على الاصح. والثاني: يكفيه الترجمة. ولا يجوز في أول الوقت لمن أمكنه التعلم في آخره. وإذا صلى بالترجمة في الحال الاول، فلا إعادة. وأما الحال الثاني، فإن ضاق الوقت عن التعلم لبلادة ذهنه، أو قلة ما أدركه من الوقت، فلا إعادة أيضا. وإن أخر التعلم مع التمكن، وضاق الوقت، صلى بالترجمة، وتجب الاعادة على الصحيح والصواب. قلت: ومن فروع الفصل، ما ذكره صاحب (التلخيص) والبغوي، والاصحاب. أنه لو كبر للاحرام أربع تكبيرات، أو أكثر، دخل في الصلاة بالاوتار، وبطلت بالاشفاع. وصورته، أن ينوي بكل تكبيرة، افتتاح الصلاة، ولم ينو(1/337)
الخروج عن الصلاة بين كل تكبيرتين. فبالاولى: دخل في الصلاة. وبالثانية: خرج. وبالثالثة: دخل. وبالرابعة: خرج. وبالخامسة: دخل. وبالسادسة: خرج. وهكذا أبدا. لان من افتتح صلاة، ثم نوى افتتاح صلاة، بطلت صلاته. ولو نوى افتتاح الصلاتين بين كل تكبيرتين، فبالنية يخرج، وبالتكبير يدخل، ولو لم ينو بالتكبيرة الثانية وما بعدها افتتاحا، ولا خروجا، صح دخوله بالاولى، وباقي التكبيرات ذكر لا تبطل به الصلاة. والله أعلم. فرع: رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام سنة. والمذهب: أنه يرفعهما بحيث تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وكفاه منكبيه، وهذا معنى قول الشافعي والاصحاب رحمهم الله (1) عنهم: يرفعهما حذو منكبيه. وأما حكاية الغزالي: فيه ثلاثة أقوال، فمنكرة. ولو كان أقطع اليدين، أو واحدة من المعصم، رفع الساعد. وإن قطع من المرفق، رفع العضد على الاصح. ولو لم يمكنه الرفع إلا بزيادة على المشروع، أو نقص، أتى بالممكن. فإن قدر عليهما، أتى بالزيادة. قلت: يستحب أن يكون كفه إلى القبلة عند الرفع، قاله في (التتمة) ويستحب الرفع لكل مصل، قائم، وقاعد، مفترض، ومتنفل، إمام، ومأموم. والله أعلم. وفي وقت الرفع، أوجه. أحدها: يرفع غير مكبر، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين، وينهيه مع انتهائه. والثاني: يرفع غير مكبر، ثم يكبر، ويداه قارتان، ثم يرسلهما. وصححه البغوي. والثالث: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، وينهيهما معا. والرابع: يبتدئهما معا، وينهي التكبير مع انتهاء الارسال. والخامس وهو الاصح: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير ولا استحباب في الانتهاء (2)، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس، أتم الباقي. وإن فرغ منهما، حط يديه ولم يستدم الرفع. ولو ترك رفع اليدين، حتى أتى ببعض التكبير، رفعهما في الباقي، فإن أتمه، لم يرفع بعده. ويستحب كشف اليدين عند الرفع، وأن يفرق(1/338)
أصابعهما تفريقا وسطا، وأن لا يقصر التكبير بحيث لا يفهم، ولا يمططه بأن يبالغ في مده، بل يأتي به مبينا. والاولى فيه: الحذف على الصحيح. وعلى الشاذ: المد أولى. فرع: السنة بعد التكبير، حط اليدين، ووضع اليمنى على اليسرى، فيقبض بكفه اليمنى، كوع اليسرى، وبعض رسغها، وساعدها. قال القفال: ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل، وبين نشرها في صوب الساعد. ثم يضع يديه كما ذكرنا تحت صدره، وفوق سرته، على الصحيح. وعلى الشاذ: تحت سرته. واختلفوا في أنه إذا أرسل يديه، هل يرسلهما إرسالا بليغا ثم يستأنف رفعهما إلى تحت صدره ووضع اليمنى على اليسرى، أم يرسلهما إرسالا خفيفا إلى تحت صدره فحسب، ثم يضع ؟. قلت: الاصح: الثاني. والله أعلم. فصل في القيام: اعلم أن القيام، أو ما يقوم مقامه، ركن في الصلاة، ويقوم القعود مقامه في النافلة، وفي الفريضة عند العجز. ويشترط في القيام، الانتصاب. وهل يشترط الاستقلال، بحيث لا يستند ؟ فيه أوجه. أصحها: وهو المذكور في (التهذيب) وغيره: لا يشترط. فلو استند إلى جدار، أو انسان، بحيث لو رفع السناد لسقط، صحت صلاته مع الكراهة. والثاني: يشترط، ولا يصح مع الاسناد عند القدرة بحال. والثالث: يجوز إن كان بحيث لو رفع السناد لم يسقط، وإلا، فلا. هذا في استناد لا يسلب اسم القيام. فإن استند متكئا، بحيث لو رفع قدميه عن الارض لامكنه البقاء، فهذا معلق نفسه بشئ وليس بقائم. أما إذا لم يقدر على الاستقلال، فيجب أن ينتصب متكئا على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا يلزمه القيام في هذا الحال، بل له الصلاة قاعدا. وأما الانتصاب المشروط، فلا يخل به إطراق الرأس، وإنما المعتبر، نصب فقار الظهر، فليس للقادر أن يقف مائلا إلى اليمين، أو اليسار، زائلا عن سنن القيام، ولا أن يقف منحنيا في حد الراكعين. فإن لم يبلغ انحناؤه حد الركوع، لكن كان إليه أقرب منه إلى الانتصاب، لم يصح على الاصح. قلت: ولو لم يقدر على النهوض للقيام إلا بمعين، ثم لا يتأذى بالقيام، لزمه(1/339)
أن يستعين بمن يقيمه. فإن لم يجد متبرعا، لزمه الاستئجار بأجرة المثل إن وجدها. والله أعلم. هذا في القادر على الانتصاب. فأما العاجز، كمن تقوس ظهره لزمانة، أو كبر، وصار في حد الراكعين، فيلزمه القيام. فإذا أراد الركوع، زاد في الانحناء إن قدر عليه. هذا هو الصحيح الذي قطع به العراقيون، وصاحب (التتمة) و (التهذيب) ونص عليه الشافعي (1). وقال إمام الحرمين، والغزالي: يلزمه أن يصلي قاعدا. قالا: فإن قدر عند الركوع على الارتفاع إلى حد الراكعين، لزمه. ولو عجز عن الركوع والسجود، دون القيام، لعلة بظهره تمنع الانحناء، لزمه القيام. ويأتي بالركوع والسجود بحسب الطاقة، فيحني صلبه قدر الامكان. فإن لم يطق، حنى رقبته، ورأسه، فإن احتاج فيه إلى شئ يعتمد عليه، أو إلى أن يميل إلى جنبه، لزمه ذلك. فإن لم يطق الانحناء أصلا، أومأ إليهما. قلت: وإذا أمكنه القيام، والاضطجاع، ولم يمكنه القعود، قال صاحب (التهذيب) يأتي بالقعود قائما، لانه قعود وزيادة. واعلم بأنه (2) يكره للصحيح أن يقوم على إحدى رجليه، ويصح. ويكره أن يلصق القدمين، بل يستحب التفريق بينهما، وتطويل القيام عندنا، أفضل من تطويل الركوع والسجود، وتطويل السجود أفضل من تطويل الركوع. وإذا طول الثلاثة زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه، فالاصح: أن الجميع يكون واجبا. والثاني: يقع ما زاد سنة، ومثله الخلاف في مسح جميع الرأس، وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس، وفي البدنة المضحي بها بدلا عن شاة منذورة (3). والله أعلم. فرع: إذا عجز عن القيام في صلاة الفرض، عدل إلى القعود، ولا ينقص ثوابه، لانه معذور. ولا نعني بالعجز، عدم تأتي القيام، بل خوف الهلاك، أو(1/340)
زيادة المرض، أو لحوق مشقة شديدة، أو خوف الغرق، ودوران الرأس، في حق راكب السفينة. قلت: الذي اختاره إمام الحرمين في ضبط العجز: أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه. والله أعلم. ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو، فأدركته الصلاة، ولو قام لرآه العدو، أو جلس الغزاة في مكمن، ولو قاموا رآهم العدو وفسد التدبير، فلهم الصلاة قعودا. وتجب الاعادة لندوره. قلت: قال صاحب (التتمة) في غير الرقيب: إن خاف لو قام أن يقصده العدو، وصلى قاعدا، أجزأته على الصحيح. ولو صلى الكمين في وهدة قعودا، ففي صحتها قولان. والله أعلم. ثم إذا قعد المعذور، لا يتعين لقعوده هيئة، بل يجزئه جميع هيئات القعود. لكن يكره الاقعاء في هذا القعود، وفي جميع قعدات الصلاة. وفي المراد بالاقعاء ثلاثة أوجه. أصحها: أنه الجلوس على الوركين، ونصب الفخذين، والركبتين، وضم إليه أبو عبيد: أن يضع يديه على الارض. والثاني: أن يفرش رجليه، ويضع إليه على عقبيه، والثالث: أن يضع يديه على الارض، ويقعد على أطراف أصابعه. قلت: الصواب، هو الاول. وأما الثاني: فغلط. فقد ثبت في (صحيح مسلم) (1): أن الاقعاء سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفسره العلماء بما قاله الثاني. ونص على استحبابه الشافعي رحمه الله في (البويطي) و (الاملاء) في الجلوس بين السجدتين. قال العلماء: فالاقعاء ضربان. مكروه، وغيره. فالمكروه: المذكور في الوجه الاول، وغيره: الثاني. والله أعلم. وفي الافضل من هيئات القعود، قولان، ووجهان. أحد القولين: وهو أصح(1/341)
الجميع: يقعد مفترشا. وثانيهما: متربعا. وأحد الوجهين: متوركا. وثانيهما: ناصبا ركبته اليمنى، جالسا على رجله اليسرى. ويجري الخلاف في قعود النافلة. وأما ركوع القاعد، فأقله أن ينحني قدر ما يحاذي وجهه ما قدام ركبتيه من الارض (1). وأكمله، أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده. وأما سجوده، فكسجود القائم. هذا إذا قدر القاعد على الركوع والسجود، فإن عجز لعلة بظهره، أو غيرها، فعل الممكن من الانحناء. ولو قدر القاعد على الركوع، وعجز عن وضع الجبهة على الارض نظر، إن قدر على أقل ركوع القاعد وأكمله، من غير زيادة، أتى بالممكن، مرة عن الركوع، ومرة عن السجود، ولا يضر استواؤهما. وإن قدر على زيادة على كمال الركوع، وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال، ليتميز عن السجود. ويلزمه أن يقرب جبهته من الارض للسجود، أكثر ما يقدر عليه. حتى قال الاصحاب: لو قدر أن يسجد على صدغه، أو عظم رأسه الذي فوق الجبهة، وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الارض، لزمه ذلك. قلت: قال الشافعي رحمه الله في (الام) والاصحاب: لو قدر أن يصلي قائما منفردا، وإذا صلى مع الجماعة احتاج أن يصلي بعضها من قعود، فالافضل: أن يصلي منفردا. فإن صلى مع الجماعة، وقعد في بعضها، صحت. ولو كان بحيث لو اقتصر على قراءة الفاتحة، أمكنه القيام، وإذا زاد، عجز، صلى بالفاتحة. فلو شرع في السورة، فعجز، قعد. ولا يلزمه قطع السورة ليركع. والله أعلم. فرع فيما إذا عجز عن القعود قد ذكرنا أن العجز عن القيام، يتحقق بتعذره، أو لحوق مشقة شديدة، أو غيرهما مما قدمناه. قال الجمهور: والعجز عن القعود، يحصل بما يحصل به العجز عن القيام. وقال إمام الحرمين: لا يكفي ذلك، بل يشترط فيه عدم تصور القعود، أو خيفة الهلاك، أو المرض الطويل، إلحاقا له بالمرض المبيح للتيمم. وفي كيفية صلاته، وجهان. وقيل: قولان.(1/342)
أصحهما: يضطجع (1) على جنبه الايمن، مستقبلا بوجهه ومقدم بدنه القبلة، كالميت في لحده. فلو خالف، واضطجع على جنبه الايسر، صح، إلا أنه ترك السنة. والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، ويرفع وسادته قليلا. وهذا الخلاف في القادر على الاضطجاع والاستلقاء. فإن لم يقدر إلا على أحدهما، أتى به. قال إمام الحرمين: هذا الخلاف في الكيفية الواجبة، بخلاف الخلاف السابق في كيفية القعود، فإنه في الافضل، لاختلاف استقبال بهذا دون ذاك. وفي المسألة، وجه ثالث: أنه يضطجع على جنبه، وأخمصاه إلى القبلة. ثم إذا صلى على هيئة من هذه الهيئات، وقدر على الركوع والسجود، أتى بهما، وإلا أومأ بهما منحنيا، وقرب جبهته من الارض بحسب الامكان، وجعل السجود أخفض من الركوع. فإن عجز عن الاشارة بالرأس أومأ بطرفه. فإن عجز عن تحريك الاجفان، أجرى أفعال الصلاة على قلبه. فإن اعتقل لسانه، أجرى القرآن والاذكار على قلبه. وما دام عاقلا، لا تسقط عنه الصلاة. ولنا وجه: أنه تسقط الصلاة، إذا عجز عن الايماء بالرأس. وهو مذهب أبي حنيفة (2) (3) رحمه الله. وهو شاذ. والمعروف في المذهب: ما قدمناه. فرع: القادر على القيام، إذا أصابه رمد، وقال له طبيب موثوق به: إن(1/343)
صليت مستلقيا، أو مضطجعا، أمكن مداواتك، وإلا خيف عليك العمى، جاز له الاضطجاع والاستلقاء على الاصح. ولو قال: إن صليت قاعدا، أمكنت. فقال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعا. ومفهوم كلام غيره: أنه على الوجهين. فرع: لو عجز في أثناء صلاته عن القيام، قعد وبنى. ولو صلى قاعدا، فقدر على القيام في أثنائها، قام وبنى. وكذا لو صلى مضطجعا، فقدر على القيام، أو القعود، أتى بالمقدور، وبنى. ثم إذا تبدل الحال بالنقص إلى الكمال، بأن قدر القاعد على القيام لخفة المرض، نظر، إذا اتفق ذلك قبل القراءة، قام وقرأ قائما. وكذا إن كان في أثناء القراءة، قام وقرأ بقية الفاتحة في حال القيام. ويجب ترك القراءة في النهوض إلى أن ينتصب معتدلا. فلو قرأ في نهوضه بعض الفاتحة، فعليه إعادته. وإن قدر بعد الفاتحة (1) قبل الركوع، لزمه القيام ليهوي منه إلى الركوع. ولا يلزمه الطمأنينة في هذا القيام، لانه ليس مقصودا لنفسه. ويستحب في هذه الاحوال، أن يعيد الفاتحة ليقع في حال الكمال. ولو وجد الخفة في ركوعه قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه الارتفاع إلى حد الراكعين عن قيام. ولا يجوز أن يرتفع قائما، ثم يركع، لئلا يزيد ركوعا. ولو فعله، بطلت صلاته. وإن كان بعد الطمأنينة، فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى ركوع القائمين. ولو وجد الخفة في الاعتدال عن الركوع قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه أن يقوم، ليعتدل ويطمئن. وإن كان بعدها، فوجهان. أحدهما: يلزمه أن يقوم ليسجد عن قيام. وأصحهما: لا يلزمه لئلا يطول الاعتدال، وهو ركن قصير. فإن اتفق ذلك في الركعة الثانية من الصبح قبل القنوت، لم يقنت قاعدا. فإن فعل، بطلت صلاته. بل يقوم، ويقنت. أما إذا تبدل الحال من الكمال إلى النقص، بأن عجز في أثناء الصلاة، فينتقل إلى الممكن. فإن اتفق العجز في أثناء الفاتحة، وجب إدامة القراءة في هويه. فرع: يجوز فعل النافلة قاعدا مع القدرة على القيام. لكن ثوابها يكون نصف ثواب القائم. ولو تنفل مضطجعا، مع القدرة على القيام، والقعود، جاز على الاصح. ثم المضطجع في الفريضة، يأتي بالركوع والسجود، إذا قدر(1/344)
عليهما. وهنا الخلاف في جواز الاضطجاع يجري في الاقتصار على الايماء. لكن الاصح منع الاقتصار على الايماء. قال إمام الحرمين: ما عندي أن من جوز الاضطجاع، يجوز الاقتصار في الاركان الذكرية، كالتشهد، والتكبير، وغيرهما على ذكر القلب. ثم يستوي فيما ذكرناه، النوافل كلها، الراتبة، وغيرها، على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء قاعدا مع القدرة، كالجنازة. فصل: يستحب للمصلي إذا كبر، أن يقول دعاء الاستفتاح (1)، وهو (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين (2)). ولا يزيد الامام على هذا، إذا لم يعلم رضى المأمومين بالزيادة. فإن علم رضاهم، أو كان المصلي منفردا، استحب أن يقول بعده: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لاحسن الاخلاق لا يهدي لاحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك (3)) وقال جماعة من أصحابنا، منهم: أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو حامد: السنة أن يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) (4). ثم يقول: (وجهت وجهي...) إلى آخره. ومن ترك دعاء الاستفتاح(1/345)
عمدا، أو سهوا، حتى شرع في التعوذ، لم يعد إليه، ولا يتداركه في باقي الركعات. ولو أدرك مسبوق الامام في التشهد الاخير، وكبر، وقعد، فسلم الامام لاول قعوده، قام، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح، لفوات محله. ولو سلم الامام قبل قعوده، لا يقعد، ويأتي بدعاء الاستفتاح. وسواء في دعاء الاستفتاح الفريضة، وجميع النوافل. قلت: ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقه: أنه إذا ترك دعاء الاستفتاح، وتعوذ، عاد إليه من التعوذ. والمعرف في المذهب: أنه لا يأتي به كما تقدم. لكن لو خالف فأتى به، لم تبطل صلاته، لانه ذكر، قال صاحب (التهذيب) ولو أحرم مسبوق، فأمن عقيب إحرامه، أمن معه، وأتى بدعاء الاستفتاح، لان التأمين يسير. والله أعلم. فصل: يستحب بعد دعاء الاستفتاح، أن يتعوذ (1) فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2). وقال بعض أصحابنا: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم). ويحصل التعوذ، بكل ما اشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. ولا يجهر به في الصلاة السرية، ولا في الجهرية أيضا على الاظهر. وعلى الثاني: يستحب الجهر فيها، كالتسمية، والتأمين. والثالث: أنه يتخير بين الجهر، والاسرار، ولا ترجيح. وقيل: يستحب الاسرار قطعا. ثم المذهب: أنه يستحب تعوذ في كل ركعة، وهو في الركعة الاولى آكد. وهذا نص الشافعي (3). رضي الله عنه. واختاره القاضي أبو الطيب، وإمام الحرمين، والروياني، وغيرهم. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يتعوذ في الاولى فقط. فإن تركه فيها عمدا، أو سهوا، أتى به في الثانية. فصل: ثم بعد التعوذ يقرأ. وللمصلي حالان:(1/346)
أحدهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة. والثاني: لا يقدر. فأما القادر، فيتعين عليه قراءتها في القيام، أو ما يقع بدلا عنه. ولا يقوم مقامها ترجمتها. ولا غيرها من القرآن. ويستوي في تعين الفاتحة، الامام، والمأموم، والمنفرد، في السرية، والجهرية. ولنا قول (1). ضعيف. أنها لا تجب على المأموم في الجهرية. [ ووجه شاذ: أنها لا تجب عليه في السرية أيضا. فإذا قلنا: لا يقرأ المأموم في الجهرية ]، (2) فلو كان أصم، أو بعيدا لا يسمع قراءة الامام، لزمته القراءة على الاصح. ولو جهر الامام في السرية، أو عكس، فالاصح وظاهر النص: أن الاعتبار بفعل الامام. والثاني: بصفة أصل الصلاة. وإذا لم يقرأ المأموم، هل يستحب له التعوذ ؟ وجهان، لانه ذكر سري. قلت: الاصح: لا يستحب، لعدم القراءة. والله أعلم. وإذا قلنا: يقرأ المأموم في الجهرية، فلا يجهر بحيث يغلب جهره، بل يسر بحيث يسمع نفسه لو كان سميعا، فإن هذا أدنى القراءة. ويستحب للامام على هذا القول: أن يسكت بعد الفاتحة قدر قراءة المأموم لها. واعلم أن الفاتحة واجبة في كل ركعة إلا في ركعة المسبوق إذا أدرك الامام راكعا، فإنه لا يقرأ في ركعته، وتصح. وهل يقال: يحملها عنه الامام، أم لم تجب أصلا ؟ وجهان (3). قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. فرع: (بسم الله الرحمن الرحيم) آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف. وأما باقي السور، سوى (براءة) فالمذهب: أنها آية كاملة من أول كل سورة أيضا. وفي(1/347)
قول: أنها بعض آية. وقيل: قولان. أحدهما: ليست بقرآن في أوائلها. وأظهرهما: أنها قرآن. والسنة: أن تجهر بالتسمية في الصلاة الجهرية في الفاتحة، وفي السورة بعدها. فرع: تجب قراءة الفاتحة بجميع حروفها وتشديداتها. فلو أسقط منها حرفا، أو خفف مشددا، أو أبدل حرفا بحرف، لم تصح قراءته. وسواء فيه الضاد، وغيره. وفي وجه: لا يضر إبدال الضاد بالظاء (1). واللحن فيها لحنا يحيل المعنى، كضم تاء (أنعمت) أو كسرها، أو كسر كاف (إياك) لم يجزئه، وتبطل صلاته إن تعمد. ويجب إعادة القراءة، إن لم يتعمد. وتجزئ بالقراءات السبع. وتصح بالقراءة الشاذة، إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصانه (2). فرع: يجب ترتيب في قراءة الفاتحة. فلو قدم مؤخرا، إن تعمد، بطلت قراءته، وعليه استئنافها. وإن سها، لم يعتد بالمؤخر، ويبني على المرتب. إلا أن(1/348)
يطول، فيستأنف القراءة. ولو أخل بترتيب التشهد، نظر. إن غير تغييرا مبطلا للمعنى، لم يحسب ما جاء به. وإن تعمده، بطلت صلاته، وإن لم يبطل المعنى، أجزأه على المذهب. وقيل: فيه قولان. وينبغي أن يقال في الفاتحة أيضا: إن غير الترتيب تغييرا يبطل المعنى، بطلت صلاته كالتشهد. فرع: تجب الموالاة بين كلمات الفاتحة. فإن أخل بها، فله حالان. أحدهما: أن يكون عامدا، فينظر. إن سكت في أثناء الفاتحة، أو طالت (1) مدة السكوت، بأن يشعر بقطعه القراءة أو إعراضه عنها مختارا، أو لعائق، بطلت قراءته، ولزم استئنافها على الصحيح. وعلى الشاذ المنقول عن العراقيين: لا تبطل (2). فإن قصرت مدة السكوت، لم يؤثر قطعها. وإن نوى قطع القراءة، ولم يسكت، لم تبطل قطعا. ولو (3) نوى قطعها، وسكت يسيرا، بطلت قراءته على الصحيح الذي قطع به الاكثرون. ولو أتى بتسبيح، أو تهليل في أثنائها، أو قرأ آية أخرى، بطلت قراءته، قل ذلك، أم كثر. هذا فيما لا يؤمر به المصلي. فأما ما أمر به في الصلاة، ويتعلق (4) بمصلحتها، كتأمين المأموم لتأمين الامام، وسجوده للتلاوة، وفتحه عليه القراءة، وسؤاله الرحمة عند قراءته آيتها، والاستعاذة من العذاب عند قراءة آيته، فإذا وقع في أثناء الفاتحة، لم تبطل الموالاة على الاصح. وهذا تفريع على الصحيح في استحباب هذه الامور للمأموم، وعلى وجه: لا يستحب. ولا يطرد الخلاف في كل مندوب، فإن الحمد عند العطاس مندوب وإن كان في الصلاة، ولو فعله، قطع الموالاة. ولكن يختص بالمندوبات المختصة بالصلاة لمصلحتها. الحال الثاني: أن يخل بالموالاة ناسيا. وتقدم عليه، أن من ترك الفاتحة ناسيا، فيه قولان. المشهور الجديد: أنه لا يجزئه، ولا يعتد له بتلك الركعة. بل إن تذكر بعد ما ركع، عاد إلى القيام وقرأ. وإن تذكر بعد قيامه إلى الركعة الثانية،(1/349)
صارت (الثانية) أولاه، ولغت الاولى. والقديم: أنه تجزئه صلاته. وأما ترك الموالاة ناسيا، فالصحيح الذي اتفق عليه الجمهور، ونقلوه عن نص الشافعي رحمه الله (1): أنه لا يضر. وله البناء، سواء قلنا: يعذر بترك الفاتحة ناسيا، أم لا. ومال إمام الحرمين، والغزالي، إلى أن الموالاة تنقطع بالنسيان إذا قلنا: لا يعذر به في ترك الفاتحة. فرع: من لا يقدر على قراءة الفاتحة، يلزمه كسب القدرة بتعلم، أو توسل إلى مصحف، يقرؤها منه، بشراء، أو إجارة، أو استعارة (2). فإن كان في ليل، أو ظلمة، لزمه تحصيل السراج عند الامكان. فلو امتنع من ذلك عند الامكان، لزمه إعادة كل صلاة صلاها قبل أن يقرأها. فإن تعذرت الفاتحة لتعذر التعلم، لضيق الوقت، أو بلادته، أو عدم المعلم والمصحف، أو غير ذلك لم يجز ترجمة الفاتحة، بل ينظر إن (3) أحسن قرآنا غير الفاتحة، لزمه قراءة سبع آيات، ولا يجزئه دون سبع وإن كانت آيات طوالا. وهل يشترط مع ذلك أن لا ينقص حروف كل الآيات عن حروف الفاتحة ؟ فيه أوجه. أصحها: يشترط أن يكون جملة الآيات السبع، بقدر حروف الفاتحة. ولا يمتنع أن يجعل آيتين مقام آية. والثاني: أنه يجب أن يعدل حروف كل آية من حروف آية من الفاتحة على الترتيب، فتكون مثلها، أو أطول. والثالث: يكفي سبع آيات ناقصات الحروف، كما يكفي صوم يوم قصير عن طويل. ثم إن أحسن سبع آيات متوالية بالشرط المذكور، لم يجز(1/350)
العدول إلى المتفرقة. وإن لم يحسن الا متفرقة، أتى بها. واستدرك إمام الحرمين، فقال: لو كانت الآية المفردة لا تفيد معنى منظوما إذا قرئت وحدها، كقوله تعالى: * (ثم نظر) * (1). فيظهر أن لا نأمره بقراءة هذه الآيات المتفرقة، ونجعله كمن لا يحسن قراءة أصلا. قلت: قد قطع جماعة بأن تجزئه الآيات المتفرقة وإن كان يحسن المتوالية، سواء فرقها من سورة، أو سور. منهم: القاضي أبو الطيب، وأبو علي البندنيجي، وصاحب (البيان) وهو المنصوص في (الام) وهو الاصح. والله أعلم. أما لو كان الذي يحسنه دون السبع، كآية أو آيتين، فوجهان. أصحهما: يقرأ ما يحسنه، ويأتي بالذكر عن الباقي. والثاني: يكرر ما يحفظه حتى يبلغ قدر الفاتحة. أما الذي لا يحسن شيئا من القرآن، فيجب عليه أن يأتي بالذكر، كالتسبيح، والتهليل. وفي الذكر الواجب أوجه. أحدها: يتعين أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2). ويكفيه هذه الكلمات الخمس. والثاني: أنها تتعين، ويجب معها كلمتان من الذكر، ليصير سبعة أنواع مقام سبع آيات. والمراد بالكلمات، أنواع الذكر، لا ألفاظ مفردة. والثالث: وهو الاصح: أنه لا يتعين شئ من الذكر. ولكن هل يشترط أن لا ينقص حروف ما أتى به من حروف الفاتحة ؟ وجهان. الاصح: يشبرط. قال إمام الحرمين: ولا يراعي هنا إلا الحروف، بخلاف ما إذا أحسن قراءة غير الفاتحة، فإنه يراعي الآيات. وفي الحروف، الخلاف. وقال في (التهذيب): يجب سبعة أنواع من الذكر. يقام كل نوع مقام آية، وهذا أقرب. وهل الدعاء المحض، كالذكر ؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد. قال إمام الحرمين: والاشبه أن ما يتعلق بأمور الآخرة، يقوم دون ما يتعلق بالدنيا (3). ويشترط أن لا يقصد بالذكر المأتي به شيئا آخر سوى البدلية، كمن استفتح، أو تعوذ على قصد تحصيل سنتهما. ولكن لا يشترط قصد(1/351)
البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الاذكار على الاصح. أما إذا لم يحسن شيئا من القرآن، ولا الذكر، فعليه أن يقوم بقدر الفاتحة، ثم يركع. ولو أحسن بعض الفاتحة، ولم يحسن بدلا، وجب تكرير ما أحسن قدر الفاتحة. وإن أحسن لباقيها بدلا، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: يكرره. وأصحهما: يأتي به، وببدل الباقي. فعلى هذا، لو أحسن النصف الثاني من الفاتحة دون الاول، أتى بالذكر بدلا عن النصف الاول، ثم يأتي بالنصف الثاني. فلو عكس، لم يجز على الصحيح. وأما إذا قلنا: يكرر ما يحسنه، فيكرر المحفوظ مرة بدلا، ومرة أصلا. ولو كان يحسن النصف الاول، كرره على الوجه الاول، وأما على الاصح: فيأتي به، ثم بالذكر بدلا. هذا كله إذا استمر العجز، فلو تمكن من قراءة الفاتحة في أثناء الصلاة، بتلقين، أو مصحف، أو غيرهما، فإن كان قبل الشروع في البدل، لزمه قراءة الفاتحة. وكذا إن كان في أثناء البدل على الصحيح. وعلى الضعيف: يلزمه أن يقرأ الفاتحة، بقدر ما بقي. وإن كان بعد الركوع، فقد مضت تلك الركعة على الصحة، ولا يجوز الرجوع. وإن كان بعد الفراغ من البدل، وقبل الركوع، فالمذهب: أنه لا يلزمه قراءة الفاتحة، كما إذا قدر المكفر على الاعتاق، بعد فراغه من الصوم. وقيل: وجهان. فرع: يستحب لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة، أو خارج الصلاة، أن يقول: عقب فراغه منها: آمين، بالمد، أو القصر، بلا تشديد فيهما. ويستحب أن يفصل بينهما، وبين (ولا الضالين) بسكته لطيفة، ليميزها عن القرآن. ويستوي في استحبابها، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويجهر بها الامام، والمنفرد، في الصلاة الجهرية، تبعا للقراءة. وأما المأموم، فالمذهب: أنه يجهر. وقيل: قولان. وقيل: إن لم يجهر الامام، جهر لينبهه. وإلا، فقولان. وقيل: إن كثر القوم، جهروا، وإلا، فلا. ويستحب أن يكون تأمين المأموم، مع تأمين الامام، لا قبله، ولا بعده. فإن فاته، أمن عقب تأمينه. قلت: قال أصحابنا: لو ترك التأمين، حتى اشتغل بغيره، فات، ولم يعد إليه. وفي (الحاوي) وغيره وجه ضعيف: أنه يأتي به ما لم يركع. قال في (الام): فإن قال: آمين رب العالمين، كان حسنا. والله أعلم. فرع: يسن للامام، والمنفرد، قراءة شئ بعد الفاتحة في صلاة الصبح،(1/352)
والاوليين من سائر الصلوات. ويحصل أصل الاستحباب، بقراءة شئ من القرآن (1)، ولكن سورة كاملة، أفضل. حتى أن السورة القصيرة، أولى من قدرها من طويلة (2). وهل تسن السورة في الركعة الثالثة، والرابعة ؟ قولان. القديم وبه أفتى الاكثرون: لا تسن. والجديد: تسن، لكنها تكون أقصر. ولا يفضل الركعة الاولى على الثانية بزيادة القراءة، ولا الثالثة على الرابعة، على الاصح فيهما. قلت: هذا الذي صححه، هو الراجع عند جماهير الاصحاب. لكن الاصح: التفضيل. فقد صح فيه الحديث، واختاره القاضي أبو الطيب، والمحققون، ونقله القاضي أبو الطيب، عن عامة أصحابنا الخراسانيين. لكن القاضي أبو الطيب. خص الخلاف، بتفضيل الاولى على الثانية، ونقل الاتفاق، على استواء الثالثة والرابعة. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ في الصبح، بطوال المفصل، ك (الحجرات) وفي الظهر، بقريب من الصبح. وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل. وفي المغرب، بقصاره (3)، ويسن في صبح يوم الجمعة، أن يقرأ في الاولى: (آلم تنزيل) وفي الثانية: (هل أتى) بكمالهما (4). وأما المأموم، فلا يقرأ السورة فيما يجهر في الامام إذا سمعه، بل يستمعه، وإن كانت الصلاة سرية، أو جهرية، ولم يسمع المأموم قراءته لبعده، أو صممه، قرأها على الاصح. قلت: لو قرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة، لم تحسب السورة، على المذهب(1/353)
والمنصوص. وذكر إمام الحرمين، والشيخ نصر المقدسي في الاعتداد بها، وجهين. قال أصحابنا: والمرأة لا تجهر بالقراءة في موضع فيه رجال أجانب. فإن كانت خالية، أو عندها نساء، أو رجال محارم، جهرت.. وفي وجه: تسر مطلقا. وحيث قلنا: تسر، فجهرت، لا تبطل صلاتها على الصحيح. والخنثى، كالمرأة (1). وأما نوافل النهار المطلقة، فيسر فيها قطعا. وأما نوافل الليل، فقال صاحب (التتمة) يجهر. وقال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): يتوسط بين الجهر والاسرار (2)، وهو الاصح. ويستثنى ما إذا كان عنده مصلون، أو نيام يهوش عليهم، فيسر. ويستثنى التراويح، فيجهر فيها. والله أعلم. فصل (3): يستحب للقارئ في الصلاة، وخارجها، إذا مر بآية رحمة، أن يسأل الرحمة: أو بآية عذاب، أن يستعيذ منه. أو بآية تسبيح، أن يسبح. أو بآية مثل أن يتفكر. وإذا قرأ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * (4). قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. وإذا قرأ * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * (5). قال: آمنا بالله. والمأموم، يفعل ذلك لقراءة الامام على الصحيح. فصل في الركوع أقله، أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، ولو أراد(1/354)
وضعهما عليهما، وهذا عند اعتدال الخلقة، وسلامة اليدين والركبتين. ولو انخنس، وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب، وصار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه، لم يكن ذلك ركوعا، لان نيلهما لم يحصل بالانحناء. قال إمام الحرمين: ولو مزج الانحناء بهذه الهيئة المذكورة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهما جميعا، لم يكن ركوعا أيضا. ثم إن لم يقدر على الانحناء إلى الحد المذكور إلا بمعين، أو باعتماد على شئ، أو بأن ينحني على شقه، لزمه ذلك، فإن لم يقدر، انحنى القدر الممكن، فإن عجز، أومأ بطرفه من (1) قيام. هذا بيان ركوع القائم، وأما ركوع القاعد، فقد تقدم بيان أقله، وأكمله في فصل القيام. وتجب الطمأنينة في الركوع. وأقلها: أن يصبر حتى تستقر أعضاؤه في هيئة الركوع، وينفصل هويه عن ارتفاعه منه. فلو جاوز حد أقل الركوع، فزاد في الهوي، ثم ارتفع، والحركات متصلة، لم تحصل الطمأنينة، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة، ويشترط أن لا يقصد بهويه غير الركوع. فلو قرأ في صلاته آية سجدة، فهوى ليسجد للتلاوة، ثم بدا له بعد ما بلغ حد الراكعين أن يركع، لم يعتد بذلك عن الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع. وأما أكمل الركوع، فأمران. أحدهما: في الهيئة. والثاني: في الذكر. أما الهيئة: فأن ينحني بحيث يستوي ظهره، وعنقه ويمدهما كالصفيحة، وينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه، ويضع يديه على ركبتيه، ويأخذهما بهما، ويفرق بين أصابعه حينئذ، ويوجهها نحو القبلة، فإن كانت إحدى يديه مقطوعة، أو عليلة، فعل بالاخرى ما ذكرنا، فإن لم يمكنه وضعهما على ركبتيه، أرسلهما. ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا تجافي المرأة، ولا الخنثى. الامر الثاني: الذكر: فيستحب أن يكبر للركوع، ويبتدئ به في ابتداء الهوي. وهل يمد التكبير ؟ قولان. القديم: لا يمده، بل يحذفه. والجديد(1/355)
الصحيح: يستحب مده إلى تمام الهوي، حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. ويجري القولان في جميع تكبيرات الانتقالات، هل يمدها إلى الركن المنتقل إليه، أم لا ؟. ويستحب أن يرفع يديه إذا ابتدأ التكبير، وتقدمت صفة الرفع. ويستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. قال بعضهم: ويضيف إليه: وبحمده (1). والافضل، أن يقول بعده: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع (لك) سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين (2). وهذا أتم الكمال. ثم الزيادة على ثلاث تسبيحات، إنما تستحب للمنفرد. وأما الامام، فلا يزيد على ثلاث. وقيل: خمس، إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل، فيستوفي الكمال. وتكره قراءة القرآن في الركوع، والسجود. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن لا يصل تكبيرة الركوع، بآخر السورة. بل يسكت بينهما سكتة لطيفة، ويبتدئ التكبير قائما مع ابتداء رفع اليدين. فإن ترك رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، لم يرفعهما، وإن ذكر قبل فراغه، رفع، ولو كان أقطع الكفين، لم يبلغ بيديه ركبتيه، لئلا يغير هيئة الركوع. ذكره الماوردي، وغيره. قالوا: ويستحب رفع اليدين في تكبيرة الاحرام، والركوع، والرفع منه، لكل مصل قائم، وقاعد، ومضطجع، وموم. ونص عليه في (الام) قال أصحابنا: وأقل ما يحصل به الذكر في الركوع، تسبيحة واحدة. والله أعلم. فصل في الاعتدال عن الركوع: وهو ركن، لكنه غير مقصود لنفسه، والاعتدال الواجب: أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء صلى قائما، أو قاعدا (3). فلو ركع عن قيام، فسقط في ركوعه، نظر، إن لم(1/356)
يطمئن في ركوعه، لزمه أن يعود إلى الركوع، ويطمئن، ثم يعتدل منه. وإن كان اطمأن، فيعتدل قائما ويسجد. ولو رفع الراكع رأسه، ثم سجد، وشك هل تم اعتداله ؟ وجب أن يعتدل قائما، ويعيد السجود. واعلم أنه تجب الطمأنينة في الاعتدال، كالركوع. وقال إمام الحرمين: في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شئ، وفي كلام غيره ما يقتضي ترددا فيها. والمعروف الصواب وجوبها. ويجب أن لا يقصد بارتفاعه شيئا آخر. فلو رأى في ركوعه حية، فرفع فزعا منها، لم يعتد به. ويجب أن لا يطول الاعتدال، فإن طوله، ففي بطلان صلاته خلاف يذكر في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. ويستحب عند الاعتدال، رفع اليدين حذو المنكبين، على ما تقدم من صفة الرفع، ويكون ابتداء رفعهما، مع ابتداء رفع الرأس. فإذا اعتدل قائما، حطهما. ويستحب أن يقول في ارتفاعه للاعتدال: سمع الله لمن حمده. فإذا استوى قائما، قال: ربنا لك الحمد، أو: ربنا ولك الحمد مل ء السموات، ومل ء الارض، ومل ء ما شئت من شئ بعد. يستوي في استحباب هذين الذكرين، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويستحب لغير الامام وله إذا رضي القوم أن يزيد، فيقول: أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1). ويكره للامام هذه الزيادة، إلا برضاهم. قلت: هكذا يقوله أصحابنا في كتب المذهب: حق ما قال العبد، كلنا لك عبد. والذي في (صحيح مسلم) وغيره من كتب الحديث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقول: أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. بزيادة ألف في (أحق) وواو في (وكلنا) (2) وكلاهما حسن. لكن ما ثبت في الحديث، أولى. قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله (3): ولو قال من حمد الله: سمع له،(1/357)
بدل: سمع الله لمن حمده، أجزأه، ولكن الاولى: سمع الله لمن حمده. قال الشافعي والاصحاب: يقول في الرفع: ربنا لك الحمد. وإن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو: لك الحمد ربنا. والاول: أولى. قال صاحب (الحاوي): يجهر الامام ب: سمع الله لمن حمده، ويسر ب: ربنا لك الحمد. ويسر المأموم بهما جميعا. ولو أتى بالركوع الواجب، فعرضت علة منعته الانتصاب، سجد من ركوعه، وسقط الاعتدال، لتعذره. فلو زالت العلة قبل بلوغ جبهته للارض، وجب أن يرتفع، وينتصب قائما، ويعتدل، ثم يسجد، وإن زالت بعد وضع جبهته على الارض، لم يرجع إلى الاعتدال، بل سقط عنه، فإن خالف، فعاد إليه قبل تمام سجوده، فإن كان عالما بتحريمه، بطلت صلاته، وإن كان جاهلا، لم تبطل. ويعود إلى السجود. قال صاحب (التتمة): ولو ترك الاعتدال عن الركوع، والسجود، في النافلة، ففي صحتها وجهان، بناء على صلاتها مضطجعا مع قدرته على القيام. والله أعلم. فصل في القنوت: وهو مستحب بعد الرفع من الركوع، في الركعة الثانية من الصبح. وكذلك الركعة الاخيرة من الوتر في النصف الاخير من شهر رمضان. ولفظه: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليه، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت) هذا هو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وزاد العلماء فيه: (ولا يعز من عاديت) قبل (تباركت وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك، وأتوب إليك). قلت: قال جمهور (2) أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة. وقال أبو حامد، والبندنيجي، وآخرون: مستحبة. واتفقوا على تغليط القاضي أبو الطيب، في إنكار (لا يعز من عاديت) وقد جاءت في رواية البيهقي (3). والله أعلم.(1/358)
فإن كان إماما، لم يخص نفسه، بل يذكر بلفظ الجمع. وهل تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده ؟ وجهان. الاصح: تسن (1). وهل تتعين هذه الكلمات في القنوت ؟ وجهان. أحدهما: تتعين، ككلمات التشهد. والصحيح الذي قطع به الجماهير: لا تتعين. وعلى هذا، لو قنت بما جاء عن عمر (2) رضي الله عنه، كان حسنا (3). وحكي وجه عن أبي علي بن أبي هريرة (4): أنه لا يقنت في الصبح، وهذا غريب، وغلط. أما غير الصبح من الفرائض ففيها ثلاثة أقوال. المشهور:(1/359)
أنه إن نزل - والعياذ بالله - بالمسلمين نازلة (1)، كالوباء والقحط، قنتوا. وإلا فلا، والثاني: يقنتون مطلقا. والثالث: لا يقنتون مطلقا (2). ثم مقتضى كلام الاكثرين، أن الكلام، والخلاف، في غير الصبح، إنما هو في الجواز. ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب. قلت: الاصح، استحبابه. وصرح به صاحب (العدة) ونقله نص الشافعي في (الاملاء). والله أعلم. ثم الامام في صلاة الصبح، هل يجهر بالقنوت ؟ وجهان. أصحهما: الجهر. والثاني: لا، كالتشهد، والدعوات وأما المنفرد، فيسر به قطعا. ذكره البغوي. وأما المأموم، فإن قلنا: لا يجهر الامام، قنت. وإن قلنا: يجهر، فالاصح أنه يؤمن، ولا يقنت. والثاني: يتخير بين التأمين، والقنوت. فعلى الاصح: هل يؤمن في الجميع ؟ وجهان. الاصح، يؤمن في القدر الذي هو دعاء. وأما الثناء، فيشاركه فيه، أو يسكت. والثاني: يؤمن في الجميع. فإن كان لا يسمع الامام لبعد، أو غيره وقلنا: لو سمع لامن، فهنا وجهان. أحدهما: يقنت، والثاني: يؤمن كالوجهين في قراءة السورة إذا لم يسمع الامام. وأما غير الصبح إذا قنت فيها، فالراجح أنها كلها كالصبح سرية كانت، أو جهرية. ومقتضى إيراده في (الوسيط) أنه يسر في السرية، وفي الجهرية الخلاف. وهل يسن رفع اليدين في القنوت، ومسح الوجه بهما إذا فرغ ؟ فيه أوجه. أصحها: يستحب الرفع، دون المسح (3). والثاني: يستحبان. والثالث: لا يستحبان. قلت: لا يستحب مسح غير وجهه قطعا. بل نص جماعة على كراهته. ولو(1/360)
قنت بآية من القرآن ينوي بها القنوت. وقلنا: لا يتعين له لفظ، فإن تضمنت الآية دعاء، أو شبهه، كان قنوتا. وإن لم تتضمنه كآية الدين، و (تبت) فوجهان. حكاهما في (الحاوي) الصحيح: لا يكون قنوتا. ولو قنت قبل الركوع، فإن كان مالكيا يرى ذلك، أجزأه. وإن كان شافعيا لا يراه، لم يحسب على الصحيح، بل يعيده بعد الرفع من الركوع. وهل يسجد للسهو ؟ وجهان. الاصح المنصوص في (الام): يسجد. والله أعلم. فصل في السجود (1): وهو ركن، وله أقل، وأكمل. أما أقله، ففيه مسائل. إحداها: يجب أن يضع على الارض من الجبهة، ما يقع عليه الاسم. وفي وجه: لا يكفي بعض الجبهة. وهو شاذ منكر. ولا يجزئ عن الجبهة، الجبينان، وهما جانبا الجبهة. والصحيح، أنه لا يكفي في وضع الجبهة الامساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، حتى تستقر جبهته. فلو سجد على قطن، أو حشيش، أو شئ محشو بهما، وجب أن يتحامل حتى ينكبس، ويظهر أثره على يد لو فرضت تحت ذلك المحشو، فإن لم يفعل، لم يجزئه. وقال إمام الحرمين: عندي أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا يقله. ولا حاجة إلى التحامل كيف فرض محل السجود. وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين على موضع السجود ؟ قولان. أظهرهما: لا يجب (2). فإن أوجبناه، كفى وضع جزء من كل واحد منها. والاعتبار في اليد، بباطن الكف، وفي الرجلين، ببطون الاصابع. وإن قلنا: لا يجب، اعتمد على ما شاء منهما، ويرفع ما شاء. ولا يمكنه أن يسجد(1/361)
مع رفع الجميع. هذا هو الغالب، أو المقطوع به. قلت: الاظهر: وجوب الوضع. قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: إذا قلنا: لا يجب وضعها، فلو أمكنه أن يسجد على الجبهة وحدها، أجزأه، وكذا قال صاحب (العدة): لو لم يضع شيئا منها، أجزأه. ومن صور رفعها كلها إذا رفع الركبتين، والقدمين، ووضع ظهر الكفين، أو حرفهما، فإنه في حكم رفعهما. والله أعلم. ولا يجب وضع الانف على الارض. قلت: وحكى صاحب (البيان) قولا غريبا أنه يجب وضع الانف مع الجبهة مكشوفا. والله أعلم. ويجب أن يكشف من الجبهة ما يقع عليه الاسم، فيباشر به موضع السجود. وإنما يحصل الكشف إذا لم يحل بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرف عمامته، أو ذيله المتحرك بحركته، لم يصح. وإن لم يتحرك بحركته قياما وقعودا، أجزأه. قلت: لو كان على جبهته جراحة، فعصبها، وسجد على العصابة، أجزأه، ولا إعادة عليه على المذهب. لانه إذا سقطت الاعادة مع الايماء للعذر، فهنا أولى. والله أعلم. وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين، لم يجب كشفهما قطعا، وإذا أوجبنا وضع الكفين، لم يجب كشفهما أيضا على الاظهر. فإذا أوجبناه، كفى كشف بعض من كل واحد منهما. المسألة الثانية: إذا وضع الجبهة، وسائر الاعضاء على الارض، فله ثلاث صور. إحداها: أن يكون أعاليه أعلى من أسافله (1)، بأن يضع رأسه على ارتفاع،(1/362)
فيصير رأسه أعلى من حقوه، فلا يجزئه، لعدم اسم السجود، كما لو أكب، ومد رجليه، الثاني: أن تكون الاسافل أعلى من الاعالي (1)، فهذه هيئة التنكيس، وهي المطلوبة، ومهما كان المكان مستويا، كان الحقو أعلى. ولو كان موضع الرأس مرتفعا، قليلا، فقد ترتفع أسافله، وتحصل هذه الهيئة أيضا. الثالثة: أن تتساوى أعاليه وأسافله، لارتفاع موضع الجبهة، وعدم رفعه الاسافل، فالاصح: أنها لا تجزئ. وإذا تعذرت الهيئة المطلوبة لمرض، أو غيره، فهل يلزمه وضع وسادة ونحوها، ليضع الجبهة عليها، أم يكفي إنهاء الرأس إلى الحد الممكن من غير وضع الجبهة على شئ ؟ وجهان. أصحهما: عند الغزالي: الوجوب. والاشبه بكلام الاكثرين: الاكتفاء بإنهاء الرأس. ولو عجز عن وضع الجبهة على الارض، وقدر على وضعها، على وسادة مع النكس، لزمه ذلك بلا خلاف. ولو عجز عن الانحناء، أشار بالرأس، ثم بالطرف، على ما تقدم نظيره. المسألة الثالثة: تجب الطمأنينة في السجود، ويجب أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط إلى الارض من الاعتدال قبل قصد الهوي، لم يحسب، بل يعود إلى الاعتدال، ويسجد منه. ولو هوى ليسجد، فسقط على الارض بجبهته، نظر، إن وضع جبهته على الارض بنية الاعتماد، لم يحسب عن السجود، وإن لم تحدث هذه النية، حسب. ولو هوى ليسجد، فسقط على جنبه، فانقلب وأتى بصورة السجود، فإن قصد السجود، اعتد به، وإن قصد الاستقامة، لم يعتد به.(1/363)
قلت: إذا قصد الاستقامة، له حالان. أحدهما: أن يقصدها، قاصدا صرف ذلك عن السجود، فلا يجزئه قطعا، وتبطل صلاته، لانه زاد فعلا لا يزاد مثله في الصلاة عامدا. قاله إمام الحرمين، وغيره. والثاني: أن يقصد الاستقامة، ولا يقصد صرفه عن السجود، بل يغفل عنه، فلا يجزئه أيضا على الصحيح المنصوص، ولكن لا تبطل صلاته، بل يكفيه أن يعتدل جالسا، ثم يسجد. ولا يلزمه أن يقوم ليسجد من قيام على الظاهر، فلو قام، كان زائدا قياما متعمدا، فتبطل صلاته. هذا بيان الحالتين. ولو لم يقصد السجود، ولا الاستقامة، أجزأه ذلك عن السجود قطعا. والعجب من الامام الرافعي، في كونه ترك استيفاء هذه الزيادة التي ألحقتها. والله أعلم. فرع: وأما أكمل السجود، فالسنة أن يكون أول ما يقع على الارض من الساجد ركبتيه، ثم يديه، ثم أنفه، وجبهته، ويبتدئ التكبير، مع ابتداء الهوي، وهل يمده، أو يحذفه ؟ فيه القولان المتقدمان. ولا يرفع اليد مع التكبير هنا. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبحان ربي الاعلى) ثلاثا وهذا أدنى الكمال. والافضل أن يقول بعده: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين) (1) والامام يقتصر على التسبيح، إلا أن يرضوا. ويستحب للمفرد، أن يجتهد في الدعاء في سجوده، وأن يضع كل ساجد، الانف مع الجبهة مكشوفا، وأن يفرق بين ركبتيه. ويرفع الرجل مرفقيه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، والمرأة تضم بعها إلى بعض. وأن يضع الساجد يديه على الارض، بإزالة منكبيه، وأصابعه ملتصق بعضها إلى بعض، مستطيلة إلى جهة القبلة، وسنة أصابع اليدين، إذا كانت منشورة في جميع الصلاة، التفريج المقتصد، إلا في حالة السجود، فإنه يلصقها. قلت: وإلا في التشهد، فإن الصحيح: أن أصابع اليسرى، تكون كهيئاتها في السجود. وكذا أصابعهما في الجلوس بين السجدتين. والله أعلم.(1/364)
ويرفع الساجد ذراعيه عن الارض، ولا يفترشهما، وينصب القدمين، ويوجه أصابعهما إلى القبلة، وإنما يحصل توجيهها، بالتحامل عليها، والاعتماد على بطونها. وقال في (النهاية) الذي صححه الائمة: أن يضع أطراف الاصابع على الارض من غير تحامل. والاول: أصح. قلت: قال أصحابنا: ويستحب أن يفرق بين القدمين. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما شبر. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبوح، قدوس رب الملائكة والروح) (1) وأن يبرز قدميه من ذيله في السجود، ويكشفهما إذا لم يكن عليهما خف. ويكره أن يجمع في سجود، أو غيره من أحوال الصلاة، شعره، أو ثيابه، لغير حاجة. والله أعلم. فصل: فإذا فرغ من السجود، رفع فاعتدل جالسا بين السجدتين. وهذا الاعتدال، واجب. ويجب الطمأنينة فيه، ويجب أن لا يقصد بالرفع شيئا آخر. وينبغي أن لا يطول الجلوس، ويستحب أن يرفع رأسه مكبرا. والسنة: أن يجلس مفترشا، على المشهور. وفي قول شاذ ضعيف: يضجع قدميه، ويجلس على صدورهما. ويستحب أن يضع يديه على فخذيه، قريبا من ركبتيه، منشورتي الاصابع. ولو انعطفت أطرافها على الركبة، فلا بأس. ولو تركهما على الارض من جانبي فخذيه، كان كإرسالهما في القيام. ويستحب أن يقول في جلوسه: (اللهم اغفر لي، وارحمني واجبرني، وعافني، وارزقني، واهدني) (2). فصل: ثم يسجد السجدة الثانية، مثل الاولى، في واجباتها (3)، ومندوباتها. وإذا رفع من السجدة الثانية، كبر. فإن كانت سجدة لا يعقبها تشهد، فالمذهب: أنه يسن أن يجلس عقبها جلسة لطيفة، تسمى: جلسة الاستراحة. وفي قول: لا تسن هذه الجلسة، بل يقوم من السجود. وقيل: إن كان بالمصلي(1/365)
ضعف لكبر، أو غيره، جلس، وإلا فلا. فإن قلنا: لا يجلس، ابتدأ التكبير مع ابتداء الرفع، وفرغ منه مع استوائه قائما. وإن قلنا: يجلس، ففي التكبير، أوجه. أصحها عند جمهور الاصحاب: أنه يرفع مكبرا، ويمده إلى أن يستوي قائما. ويخفف الجلسة حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. والثاني: يرفع غير مكبر، ويبتدئ بالتكبير جالسا، ويمده إلى أن يقوم. والثالث: يرفع مكبرا، وإذا جلس، قطعه، وقام بلا تكبير. ولا يجمع بين تكبيرتين، بلا خلاف. والسنة في هذه الجلسة: الافتراش. وسواء قام من الجلسة، أو من السجدة، يسن أن يقوم معتمدا بيديه من الارض. قلت: اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة على وجهين. الصحيح: أنها جلسة مستقلة يفصل بين الركعتين كالتشهد. والثاني: أنها من الركعة الثانية. قال القاضي أبو الطيب، وغيره: يكره أن يقدم إحدى رجليه حال القيام، ويعتمد عليها. والله أعلم. فصل في التشهد (1) والجلوس له: هما ضربان. أحدهما: أن يقعا في آخر الصلاة. وهما فرضان. والثاني: في أثنائها، وهما سنتان، ثم لا يتعين للقعود هيئة للاجزاء، بل كيف قعد، أجزأه. لكن السنة في قعود آخر الصلاة، التورك. وفي أثنائها، الافتراش. والافتراش: أن يضع رجله اليسرى، بحيث يلي ظهرها الارض، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع أطراف أصابعها على الارض متوجهة إلى القبلة. والتورك: أن يخرج رجليه وهما على هيئة الافتراش، من جهة يمينه، ويمكن وركه من الارض. وإذا جلس المسبوق في آخر صلاة الامام، فثلاثة أوجه. الصحيح (2) المنصوص الذي قطع به الجماهير: يفترش. والثاني: يتورك. والثالث: إن كان جلوسه محل تشهد للمسبوق، افترش، وإلا تورك، لان جلوسه بمجرد المتابعة، فيتابع في الهيئة. وإذا جلس من عليه سجود سهو في آخر صلاته، افترش على الصحيح، وتورك على الثاني. والسنة في التشهدين جميعا: أن يضع يده اليسرى، على فخذه اليسرى، واليمنى، على فخذه اليمنى، وينشر أصابع(1/366)
اليسرى، ويجعلها قريبة من طرف الركبة، بحيث يساوي رؤوسها الركبة. وهل يفرجها، أو يضمها ؟ وجهان. الاشهر: يفرج تفريجا مقتصدا، ولا يؤمر بالتفريج الفاحش في موضع ما. والثاني: يضمها ليتوجه إلى القبلة. قلت: هذا الثاني، أصح (1). وقد نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه اتفاق الاصحاب عليه. والله أعلم. وأما اليد اليمنى، فيضعها على طرف الركبة اليمنى، ويقبض خنصرها، وبنصرها، ويرسل المسبحة. (2) وفيما يفعل بالابهام والوسطى ثلاثة أقوال. أحدها: يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويرسل الابهام (3) مع المسبحة. والثاني: يحلق بين الابهام والوسطى. وفي كيفية التحليق، وجهان. أصحهما: يحلق بينهما برأسيهما. والثاني: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الابهام. والقول الثالث، وهو الاظهر: أنه يقبضهما أيضا. وفي كيفية وضع الابهام على هذا، وجهان. أصحهما: يضعها بجنب المسبحة، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين. والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين. وكيف فعل من هذه الهيئات، فقد أتى بالسنة. قاله ابن الصباغ، وغيره: وعلى الاقوال كلها، يستحب أن يرفع مسبحته في كلمة الشهادة، إذا بلغ همزة: (إلا الله) وهل يحركها عند الرفع ؟ وجهان. الاصح: لا يحركها. ولنا وجه شاذ: أنه يشير بها في جميع التشهد. قلت: وإذا قلنا بالاصح: إنه لا يحركها فحركها، لم تبطل صلاته على الصحيح. وتكره الاشارة بمسبحة اليسرى، حتى لو كان أقطع اليمنى، لم يشر(1/367)
بمسبحة اليسرى، لان سنتها، البسط دائما. والله أعلم. فرع: التشهد الذي يعقبه السلام، واجب، كما تقدم (1)، وتجب فيه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان. وقيل: وجهان. الصحيح المشهور: أنها سنة والثاني: واجبة. وهل تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول ؟ قولان. أظهرهما: تسن وأما الصلاة على الآل فيه، فإن لم نوجبها في التشهد الاخير لم تسن وإلا، فعلى القولين في الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا قلنا: لا تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاول، ولا في القنوت، فأتى بها في أحدهما، أو أوجبنا الصلاة على الآل في الاخيرة، ولم نسنها في الاول، فأتى بها فيه، فقد نقل ركنا إلى غير موضعه. وفي بطلان الصلاة بذلك، كلام يأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. وآل النبي - صلى الله عليه وسلم -: بنو هاشم، وبنو المطلب. نص عليه الشافعي رحمه الله (2). وفي وجه: أنهم كل المسلمين. فرع في أكمل التشهد، وأقله أما أكمله، فما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. هكذا رواه الشافعي (3)، ورواه غيره (4) (السلام عليك أيها النبي السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) بالالف واللام. ولو تشهد بما رواه ابن مسعود (5)، أو (6) بتشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7)، جاز. لكن(1/368)
الاول أفضل. وتشهد ابن مسعود (التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك...) وذكره كما تقدم. إلا أن في آخره (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وتشهد عمر (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك... وذكره كابن مسعود. ولنا وجه: أن الافضل: أن يقول: (التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك....) ذكره ليكون جامعا لها كلها. وقال جماعة من أصحابنا: يستحب أن يقول قبل التحيات: (باسم الله، وبالله، التحيات لله). ويروى (بسم الله خير الاسماء) والصحيح الذي عليه جماهيرهم: أنه لا يقدم التسمية. وأما أقله، فنص الشافعي رحمه الله، وأكثر الاصحاب (1)، أنه: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). هكذا نقله العراقيون (2)، والروياني، وكذا نقله البغوي. إلا أنه قال: (وأشهد أن محمدا رسوله). ونقله ابن كج، والصيدلاني، وأسقطا كلمة: (وبركاته) وقالا: (وأشهد أن محمدا رسول الله). وقال ابن سريج رحمه الله: أقله: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). وأسقط بعضهم: السلام الثاني. وقال بعضهم: (سلام عليك أيها النبي، وعلى عباد الله الصالحين). وأسقط بعضهم: (الصالحين). وقال بعضهم:(1/369)
واختاره الحليمي (1). قلت: وروي: (سلام عليك) و (سلام علينا) وروي: (السلام) بالالف واللام فيهما، وهذا أكثر في روايات الحديث، وفي كلام الشافعي: واتفق أصحابنا على جواز الامرين هنا، بخلاف سلام التحلل. قالوا: والافضل هنا، الالف واللام، لكثرته، وزيادته، وموافقته سلام التحلل. والله أعلم. فرع: أقل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول: (اللهم صل على محمد) أو (صلى الله على محمد) أو (صلى الله على رسوله). وفي وجه: يكفي (صلى الله عليه (2)). وأقل الصلاة على الآل: أن يقول: (وآله) وأكملها أن يقول: (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد). ويستحب الدعاء بعد ذلك. وله أن يدعو بما شاء من أمر الدنيا، والآخرة، وأمور الآخرة أفضل. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يتردد في مثل: اللهم ارزقني جارية صفتها كذا، ويميل إلى المنع، وأنه يبطل الصلاة. والصواب الذي عليه الجماهير جواز الجميع. لكن ما ورد في الاخبار أحب من غيره. ومنه: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت وما أسرفت - وفيه أيضا (وما أعلنت) مقدم على (ما أسررت) - وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). وأيضا: (اللهم (إني) أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا، والممات، وفتنة المسيح الدجال) (3). وأيضا: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم). وأيضا: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من(1/370)
عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (1). ثم الصحيح الذي عليه الجمهور، أن الدعاء مستحب للامام، وغيره. لكن الافضل، أن يكون الدعاء أقل من التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لانه تبع لهما. فإن زاد، لم يضر. إلا أن يكون إماما، فيكره التطويل. والوجه الثاني: المستحب للامام، أن لا يدعو، ويستحب للمنفرد الدعاء. ولا بأس بتطويله، هذا كله في التشهد الاخير. أما الاول: فيكره فيه الدعاء، بل لا يزيد على لفظ التشهد، إلا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قلنا: هي سنة فيه، وعلى الآل على وجه. قلت: إطالة التشهد الاول مكروهة، كما ذكر. فلو طوله، لم تبطل صلاته، ولم يسجد للسهو، سواء طوله عمدا، أم سهوا. والله أعلم. فرع: لا يجوز لمن عرف التشهد بالعربية، أن يعدل إلى ترجمته، فإن عجز، أتى بترجمته. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الآل، إذا أوجبناها، كالتشهد. وأما ما عدا الواجبات من الالفاظ المشروعة في الصلاة، إذا عجز عنها بالعربية، فقسمان. دعاء، وغيره. فأما الدعاء المأثور، ففيه ثلاثة أوجه. أصحها: تجوز الترجمة عنه لمن لا يحسن العربية، ولا يجوز لمن يحسنها، فإن ترجم، بطلت صلاته. والثاني: يجوز لمن أحسنها، ولغيره. والثالث: لا يجوز لواحد منهما. ولا يجوز أن يخترع دعوة بالعجمية يدعو بها قطعا. وأما سائر الاذكار، كالتشهد الاول، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيحات، فأوجه. أحدها: يجوز أن يأتي بترجمتها العاجز. والثاني: لا يجوز. والثالث: يترجم لما يجبر بالسجود، دون غيره. قلت: الاصح: الجواز للعاجز، ومنعه في القادر. ثم إذا قام من التشهد الاول، قام مكبرا. وهل يمده ؟ فيه القولان السابقان في فصل الركوع. ثم قال جمهور أصحابنا: لا يرفع يديه في هذا القيام. ولنا وجه: أنه يستحب رفع اليدين(1/371)
فيه، كما يستحب في الركوع، والرفع منه. وحكاه صاحب (المهذب) وغيره عن أبي بكر بن المنذر (1)، وأبي علي الطبري. وهذا الوجه، هو الصحيح، أو الصواب. فقد ثبت ذلك في صحيح البخاري) (2) وغيره، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونص عليه الشافعي رحمه الله. وقد أطنبت في إيضاحه في شرح (المهذب) (3). واعلم أن في الصلاة الرباعية، اثنتين وعشرين تكبيرة. وفي الثلاثية، سبع عشرة. وفي الثنائية، إحدى عشرة. والله أعلم. فصل في السلام (4): قد تقدم أنه ركن. وأقله: السلام عليكم. ولو قال: سلام علكم، بالتنوين، أجزأه على الاصح. قلت: الاصح عند الجمهور: لا يجزئه وهو المنصوص. والله أعلم. ولو قال: عليكم السلام، أجزأه على المذهب. ولا يجزئ: سلام عليك، ولا: سلامي عليكم، ولا: سلام الله عليكم، ولا: سلام عليهم. وإن قال شيئا من ذلك متعمدا، بطلت صلاته. إلا قوله: السلام عليهم. لانه دعاء لغائب. وهل يجب أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة ؟ وجهان. أصحهما: لا يجب (5). فإن قلنا: يجب، لم يجب تعيين الصلاة في نية الخروج، ولو عين غير ما هو فيه عمدا، بطلت صلاته، وإن كان سهوا، سجد للسهو، وسلم ثانيا. وإذا قلنا: لا(1/372)
تجب نية الخروج، لا يضر الخطأ في التعيين. وإذا قلنا: يجب، فيجب أن ينوي مقترنا بالتسليمة الاولى، فإن قدمها على السلام، أو سلم بلا نية، بطلت صلاته. ولو نوى قبل السلام الخروج عنده، لم تبطل صلاته، لكن لا يكفيه، بل تجب النية مع السلام. ويجب على المصلي، أن يوقع السلام في حالة القعود. أما أكمل السلام، فأن يقول: السلام عليكم ورحمة الله. ويسن تسليمه ثانية، على المشهور (1). وفي قول قديم: لا يزيد على واحدة. وفي قول قديم آخر: يسلم غير الامام واحدة. وكذا الامام إن قل القوم. ولا لغط عندهم، وإلا، فتسليمتين. فإذا قلنا: يسلم واحدة، جعلها تلقاء وجهه. وإن قلنا: تسليمتين، فاحداهما عن يمينه، والاخرى عن يساره. ويبتدئ بالسلام مستقبل القبلة، ثم يلتفت بحيث ينقضي (2) السلام مع تمام الالتفات، ويلتفت حتى يرى من كل جانب خده الواحد، على الصحيح. وقيل: خداه. ويستحب للامام، أن ينوي بالتسليمة الاولى، السلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن، والانس. وبالثانية، من على يساره منهم. وينوي المأموم مثل ذلك. ويختص بشئ آخر، وهو أنه إن كان عن يمين الامام، نوى بالتسليمة الثانية، الرد على الامام، وإن كان عن يساره ينويه بالاولى. وإن كان محاذيا له، نواه بأيتهما شاء، وبالاولى أفضل. ويستحب أن ينوي بعض المأمومين، الرد على بعض. وأما المنفرد، فينوي بهما السلام، على من على جانبيه من الملائكة، ويستحب لكل منهم، أن ينوي بالتسليمة الاولى، الخروج من الصلاة، إذا لم نوجبها. قلت: السنة: أن يكثر من ذكر الله تعالى عقب الصلاة، وقد جاءت في بيان ما يستحب من الذكر، أحاديث كثيرة صحيحة (3). أوضحتها في كتاب (الاذكار)(1/373)
ويسن الدعاء بعد السلام سرا (1)، إلا أن يكون إماما يريد تعليم الحاضرين الدعاء، فيجهر. قال أصحابنا ويستحب إذا أراد أن يتنفل عقب الفريضة، أن ينتقل إلى بيته، فإن لم يكن، فإلى موضع آخر (2). ويستحب إذا كان يصلي وراءه نساء، أن يمكث في مصلاه حتى ينصرفن. وإذا أراد الانصراف، فإن كان له حاجة عن يمينه، أو عن يساره، انصرف إلى جهة حاجته، وإن لم يكن حاجة، فجهة اليمين أفضل. وإذا سلم الامام التسليمة الاولى، فقد انقطعت متابعة المأموم، وهو بالخيار، إن شاء سلم في الحال، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ، والدعاء، وأطال ذلك. ولو اقتصر الامام على تسليمة، استحب للمأموم تسليمتان. ويستحب للمصلي، الخشوع في صلاته، وأن يديم نظره إلى موضع سجوده (3). قال بعض أصحابنا: يكره له تغميض عينيه. والمختار: أنه لا يكره إن لم يخف ضررا. وينبغي أن يدخل فيها بنشاط، وفراغ قلبه من الشواغل. والله أعلم.(1/374)
فصل: من فاتته صلاة فريضة، وجب قضاؤها، وينبغي أن يقضيها على الفور، فإن أخرها، ففيه كلام نذكره في الحج، إن شاء الله تعالى. فإن قضى فائتة الليل بالليل، جهر، وإن قضى فائتة النهار بالنهار، أسر، وإن قضى فائتة النهار ليلا، أو عكس، فالاعتبار بوقت القضاء على الاصح. وعلى الثاني، بوقت الفوائت. قلت: صلاة الصبح، وإن كانت نهارية، فهي في القضاء جهرية، ولوقتها، حكم الليل (1) في الجهر، وإطلاقهم محمول على هذا. والله أعلم. ويستحب في قضاء الصلوات، الترتيب. ولا يجب في قضائها، ولا بين فريضة الوقت، والمقضية. فإن دخل وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن اتسع وقت الحاضرة، استحب البداءة بالفائتة، وإن ضاق، وجب تقديم الحاضرة. ولو تذكر الفائتة بعد شروعه في الحاضرة، أتمها، ضاق الوقت، أم اتسع، ثم يقضي الفائتة. ويستحب أن يعيد الحاضرة بعدها. قلت: ولو شرع في الفائتة معتقدا أن في الوقت سعة، فبان ضيقه، وجب قطعها والشروع في الحاضرة على الصحيح، وعلى الشاذ: يجب إتمام الفائتة. ولو(1/375)
تذكر فائتة وهناك جماعة يصلون في الحاضرة، والوقت متسع، فالاولى أن يصلي الفائتة أولا منفردا، لان الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الاداء مختلف في جوازه، فاستحب الخروج من الخلاف. ولو فاته صلوات لا يعرف قدرها، ويعلم أنها لا تنقص عن عشر صلوات، ولا تزيد على عشرين، فوجهان. أحدهما: يلزمه العشر. وأصحهما: العشرون. واعلم أن الصلاة تشتمل على فرائض، وسنن، كما سبق. ولها شروط سيأتي بيانها في بابها، إن شاء الله تعالى. قال صاحب (التهذيب): شروط الصلاة قبل الشروع فيها، خمسة: الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت يقينا أو ظنا، بالاجتهاد ونحوه. والخامس: العلم بفرضية الصلاة ومعرفة أعمالها. قال: فإن جهل فرضية أصل الصلاة، أو علم أن بعض الصلوات فريضة، لكن لم يعلم فرضية الصلاة التي شرع فيها، لم تصح صلاته. وكذا إذا لم يعرف فرضية الوضوء. أما إذا علم فرضية الصلاة، ولم يعلم أركانها، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يعتقد جميع أفعالها سنة. والثاني: أن يعتقد بعضها فرضا، وبعضها سنة، ولا يعرف تمييزها، فلا تصح صلاته قطعا. صرح به القاضي حسين، وصاحب (التتمة) و (التهذيب). الثالث: أن يعتقد جميع أفعالها فرضا، فوجهان حكاهما القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) أحدهما: لا تصح صلاته، لانه ترك معرفة ذلك، وهي واجبة وأصحهما: تصح. وبه قطع صاحب (التتمة) لانه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض، وذلك لا يؤثر. قال في (التهذيب): فإن لم نصحح صلاته، ففي صحة وضوئه في هذه الصورة، وجهان. هكذا ذكروا هذه المسائل، ولم يفرقوا بين العامي وغيره. وقال الغزالي في (الفتاوى): العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها، تصح صلاته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض. فإن نوى التنفل به، لم يعتد به، فإذا غفل عن التفصيل، فنية الجملة في الابتداء كافية. هذا كلام الغزالي، وهو الظاهر الذي يقتضيه ظواهر أحوال الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم. ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ألزم الاعراب ذلك، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم هذا. والله أعلم.(1/376)
الباب الخامس في شروط (1) الصلاة والمنهي عنه فيها وشروطها ثمانية (2). أحدها: استقبال القبلة. والثاني: العلم بدخول الوقت أو ظنه. وقد تقدم ذكرهما في بابيهما. الثالث: طهارة الحدث. وتقدم في كتاب (الطهارة) بيان حصولها. فلو لم يكن متطهرا عند إحرامه لم تنعقد صلاته، عامدا كان، أو ساهيا. وإن أحرم متطهرا، ثم أحدث باختياره، بطلت صلاته، عمدا كان حدثه، أو سهوا، علم بالصلاة، أم نسيها. وإن أحدث بغير اختياره، بأن سبقه الحدث، بطلت طهاراته بلا خلاف (3)، وبطلت صلاته أيضا على المشهور الجديد، ولا تبطل على القديم، سواء كان الحدث أصغر، أو أكبر، بل يتطهر، ويبني على صلاته. فإن كان حدثه في الركوع مثلا، فقال الصيدلاني: يجب أن يعود إلى الركوع. وقال إمام الحرمين: إن لم يكن اطمأن، وجب العود إلى الركوع. وإن كان اطمأن، فالظاهر: أنه لا يعود إليه. ثم إذا ذهب من سبقه الحدث ليتوضأ ويبني، لزمه أن يسعى في تقريب الزمان، وتقليل الافعال بحسب الامكان، وليس له بعد تطهره أن يعود إلى الموضع الذي كان فيه، إن قدر على الصلاة في أقرب منه، إلا أن يكون إماما لم يستخلف، أو مأموما يقصد فضيلة الجماعة، فلهما العود. وما لا يستغنى عنه من الذهاب إلى الماء واستقائه ونحوه، فلا بأس به. ولا يشترط فيه العدو، والبدار الخارج عن الاقتصاد. ويشترط أن لا يتكلم إلا إذا احتاج إليه في تحصيل الماء، ولو أخرج تمام الحدث الاول متعمدا، لم يمنع البناء على المنصوص في(1/377)
القديم، وبه قطع الجمهور. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يمنع، ولو أحدث حدثا آخر، ففي منعه البناء، وجهان. هذا كله تفريع القديم، هذا كله في صاحب (طهارة الرفاهية). أما المستحاضة ومن في معناها، فلا يضر حدثها المقارن ولا الحادث على تفصيله السابق. فرع: ما سوى الحدث من الاسباب المناقضة للصلاة، إذا طرأ فيها، أبطلها قطعا إن كان باختياره، أو بغير اختياره، إذا نسب فيه إلى تقصير، كمن مسح خفه، فانقضت مدته في الصلاة، أو دخل فيها وهو يدافع الحدث، ويعلم أنه لا يقدر على التماسك إلى فراغها. ولو تخرق خف الماسح، فالاصح: أنه على قولي سبق الحدث. وقيل: تبطل قطعا. أما إذا طرأ مناقض، لا باختياره، ولا بتقصيرة، فإن أزاله في الحال، كمن انكشفت عورته، فسترها في الحال، أو وقعت عليه نجاسة يابسة، فنفضها في الحال، أو ألقى الثوب الذي وقعت عليه في الحال، فصلاته صحيحة. وإن نحاها بيده، أو كمه، بطلت صلاته. وإن احتاج في إزالته إلى زمن، بأن ينجس ثوبه، أو بدنه نجاسة يجب غسلها. أو أبعدت الريح ثوبه، فعلى قولي سبق الحدث. ولو خرج من جرحه دم متدفق، ولم يلوث بشرته، لم تبطل صلاته. الشرط الرابع: طهارة النجس. النجاسة قسمان. واقعة في مظنة العفو، وغيرها. أما الواقعة في غير مظنة العفو، فيجب الاحتراز منها في الثوب، والبدن، والمكان (1). فإن أصاب ثوبه نجاسة وعرف موضعها، فطريق إزالتها، الغسل كما سبق. فلو قطع موضعها، أجزأه. ويلزمه ذلك إذا تعذر الغسل، وأمكن ستر العورة بالظاهر منه، ولم ينقص من قيمته بالقطع أكثر من أجرة الثوب. فإن (2) لم يعرف موضع النجاسة من البدن، أو الثوب، واحتمل وجودها في كل جزء، وجب غسل(1/378)
الجميع، ولا يجزئه التحري. فلو شق الثوب نصفين، لم يجزئ التحري فيهما. ولو أصاب شئ رطب طرفا من هذا الثوب، لم ينجس الرطب، لانا لا نتيقن نجاسة موضع الاصابة. ولو غسل إحدى نصفيه في حال اتصاله، ثم غسل النصف الآخر، فهو كما لو تيقن نجاسة الجميع، وغسله هكذا. وفيه وجهان. أحدهما: لا يطهر حتى يغسل النصفين دفعة واحدة. وأصحهما: أنه إن غسل مع النصف الثاني القدر الذي يجاوره من الاول، طهر الكل. وإن اقتصر على النصفين، فقد طهر الطرفان، وبقي المنتصف نجسا في صورة اليقين، ومجتنبا في الصورة الاولى. ولو نجس أحد موضعين منحصرين، أو مواضع، وأشكل عليه كأحد كميه، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما، فغسله، وصلى فيه، لم تصح صلاته عل الاصح. فلو فصل أحد الكمين عن الثوب، صارا كالثوبين. فإن غسل ما ظنه نجسا، وصلى فيه، جاز. وإن صلى فيما ظنه طاهرا، جاز. ويجري الوجهان فيما إذا نجست إحدى يديه، أو أحد أصابعه، وغسل ما ظن نجاسته، وصلى. وفيما لو اجتهد في ثوبين، وغسل النجس، وصلى فيهما معا. لكن الاصح هنا، الجواز. بخلاف الكمين، لضعف أثر الاجتهاد في الثوب الواحد. ولو غسل أحد الكمين بالاجتهاد، وفصله عن الثوب، فجواز الصلاة فيما لم يغسله، على الخلاف. ولو غسل أحد الثوبين بالاجتهاد، جازت الصلاة في كل واحد منهما وحده بلا خلاف. ولو اشتبه ثوبان، أو أثواب بعضها طاهر، وبعضها نجس، اجتهد كما سبق في الاواني. فإن لم يظهر له شئ، وأمكنه غسل واحد ليصلي فيه، لزمه ذلك، وإلا فهو كمن لم يجد إلا ثوبا نجسا. ونذكره في الشرط الخامس إن شاء الله تعالى. قلت: ولنا وجه، أن يصلي الصلاة تلك في كل ثوب مرة. والصحيح المعروف: أنه يترك الثياب، ويصلي عريانا. وتجب الاعادة والله أعلم. ولو ظن طهارة أحد الثوبين، وصلى فيه، ثم تغير اجتهاده، عمل بمقتضى الاجتهاد الثاني على الاصح، كالقبلة. قلت: ولا يجب إعادة واحدة من الصلاتين - وكذا لو كثرت الثياب، والصلوات - بالاجتهاد المختلف، كما قلنا في القبلة. ولو تلف أحد الثوبين المشتبهين قبل الاجتهاد، لم يصل في الآخر على الاصح. والله أعلم.(1/379)
فرع: ما لبسه المصلي، يجب أن يكون طاهرا، وأن لا يلاقي شيئا نجسا، سواء تحرك بحركته في قيامه وقعوده، أو لم يتحرك بعض أطرافه كذنابة العمامة. فلو أصاب طرف العمامة الذي لا يتحرك أرضا نجسة، بطلت صلاته. ولو قبض طرف حبل، أو ثوب، أو شده في يده، أو رجله، أو وسطه، وطرفه الآخر نجس، أو متصل بالنجاسة، فثلاثة أوجه. أصحها: تبطل صلاته. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن كان الطرف نجسا، أو متصلا بعين النجاسة، بأن كان في عنق كلب، بطلت. وإن كان متصلا بطاهر، وذلك الطاهر متصلا بنجاسة، بأن شد في ساجور (1)، أو خرقة، وهما في عنق كلب، أو شده في عنق حمار عليه حمل نجس، لم تبطل. والاوجه جارية، سواء تحرك الطرف بحركته، أم لا، كذا قاله الجمهور. وقطع به إمام الحرمين، والغزالي، ومن تابعهما بالبطلان إذا تحرك، وخصوا الخلاف، بما لا يتحرك. وقطع البغوي بالبطلان في صورة الشد، وخص الخلاف بصورة القبض باليد. وقال أكثر الاصحاب: إن كان الكلب صغيرا، أو ميتا، وطرف الحبل مشدود به، بطلت الصلاة قطعا. وإن كان كبيرا حيا، بطلت على الاصح. وإن كان الحبل مشدودا في موضع طاهر من سفينة فيها نجاسة، فإن كانت صغيرة تنجر بجره، فهي كالكلب. وإن كانت كبيرة. لم تبطل على الصحيح. كما لو شد في باب دار فيها نجاسة، واتفقت الطوائف على أنه لو جعل رأس الحبل تحت رجله، صحت صلاته في جميع الصور. فرع: من انكسر عظمه، فجبره بعظم طاهر، فلا بأس (2). وإن جبره بعظم نجس، نظر، إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد عظما طاهرا يقوم مقامه (3)، فهو معذور (4)، وليس عليه نزعه. وإن لم يحتج إليه، أو وجد طاهرا يقوم مقامه، وجب نزعه إن لم يخف الهلاك، ولا تلف عضو، ولا شيئا من المحذورات المذكورة في باب التيمم. فإن لم يفعل، أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه. ولا مبالاة(1/380)
بالالم الذي يجده، ولا يخاف منه. ولا فرق بين أن يكتسي اللحم، أو لا يكتسيه. ومال إمام الحرمين، إلى أنه إذا اكتسى اللحم، لم يجب النزع، وإن كان لا يخاف الهلاك، وهو مذهب أبي حنيفة، ووجه شاذ لنا. وإن خاف من النزع الهلاك، أو ما في معناه، لم يجب النزع على الصحيح. وإذا أوجبنا النزع، فمات قبله، لم ينزع على الصحيح المنصوص، سواء استتر باللحم، أم لا. وقيل: إن استتر، لم ينزع قطعا. وعلى الشاذ: يجب النزع. وقيل: يستحب. ومداواة الجرح بالدواء النجس، وخياطته بخيط نجس، كالوصل بعظم نجس، فيجب النزع حيث يجب نزع العظم. وكذا لو شق موضعا من بدنه، وجعل فيه دما. وكذا لو وشم (1) يده بالعظام (2)، أو غيرها، فانه ينجس عند الغرز. وفي تعليق الفراء (3)، أنه يزال الوشم بالعلاج. فإن لم يمكن إلا بالجرح، لا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. والوادي) (4) وصلى خارجه. والله أعلم. فرع: وصل المرأة شعرها بشعر نجس، أو بشعر آدمي، حرام قطعا، لانه يحرم الانتفاع بشئ منه، لكرامته، بل يدفن شعره، وغيره. وسواء في هذين، المزوجة، وغيرها. وأما الشعر الطاهر لغير الآدمي، فإن لم تكن ذات زوج، ولا سيد، حرم الوصل به على الصحيح. وعلى الثاني: يكره (4). وإن كانت ذات زوج. أو سيد، فثلاثة أوجه. أصحها: إن وصلت بإذنه، جاز، وإلا حرم (5). والثاني: يحرم مطلقا. والثالث: لا يحرم، ولا يكره مطلقا. وأما تحمير الوجنة،(1/381)
فإن كانت خلية من الزوج، أو السيد، أو كان أحدهما، وفعلته بغير إذنه، فهو حرام، وإن كان باذنه، فجائز على المذهب. وقيل: وجهان، كالوصل. وأما الخضاب بالسواد، وتطريف الاصابع، فألحقوه بالتحمير. قال إمام الحرمين: ويقرب منه تجعيد الشعر، ولا بأس بتصفيف الطرر، وتسوية الاصداغ. وأطلق الاصحاب القول باستحباب الخضاب بالحناء لها بكل حال. وينبغي أن تكون هذه الامور، على تفصيل نذكره في (فصل سنن الاحرام) إن شاء الله تعالى. وأما الوشم، فحرام مطلقا. والوشر: وهو تحديد طرف الاسنان وترقيقها، كالوصل بشعر طاهر (1). فرع: يجب أن يكون ما يلاقي بدن المصلي، وثوبه، وتحته، وفوقه، وجوانبه، طاهرا. فلو وقف بحيث يمسه في صلاته جدار، أو سقف نجس، بطلت صلاته. ولو صلى على بساط تحته نجاسة، أو على طرف منه نجاسة، أو على سرير قوائمه على نجاسة، لم يضر، سواء تحرك ذلك الموضع بحركته، أم لا. ولو نجس أحد البيتين، واشتبه، تحرى، كالثوبين. وإن اشتبه مكان من بيت، أو بساط، لم يجز التحري على الاصح. وعلى الثاني: يجوز، كما لو اشتبه ذلك في الصحراء. ولو كان ما يلاقي بدنه وثيابه طاهرا، وما يحاذي صدره، أو بطنه، أو شيئا من بدنه في سجوده، أو غيره، نجسا، صحت صلاته على الاصح. ولو بسط على النجاسة ثوبا مهلهل النسج، وصلى عليه، فإن حصلت مماسة النجاسة من الفرج، بطلت صلاته. وإن لم تحصل، وحصلت المحاذاة، فعلى الوجهين. فرع في مواطن ورد الشرع بالنهي عن الصلاة فيها: أحدها: المزبلة (2)، والمجزرة (3). والنهي فيهما لنجاسة الموضع. فلو فرش ثوبا، أو بساطا طاهرا، صحت صلاته، ولكن تكره بسبب النجاسة تحته. الثاني: قارعة الطريق، للنهي عنها معنيان. أحدهما: غلبة النجاسة، والثاني: اشتغال القلب بسب مرور الناس. فإن قلنا بالمعنى الاول: جرى النهي(1/382)
في جواد الطرق في البراري. وإن قلنا بالثاني: فلا. وفي صحة الصلاة في الشوارع مع غلبة النجاسة، القولان المتقدمان في باب الاجتهاد، لتعارض الاصل، والظاهر. فإن صححناها، فالنهي للتنزيه، وإلا، فللتحريم. فلو بسط شيئا طاهرا، صحت الصلاة قطعا، وتبقى الكراهة لشغل القلب. والثالث: بطن الوادي. والنهي عنه للخوف السالب للخشوع، بسبب سيل يتوقع. فإن لم يتوقع سيل، فيحتمل أن يقال: لا كراهة، ويحتمل الكراهة لمطلق النهي. قلت: اتبع الامام الرافعي الغزالي، وإمام الحرمين، في إثبات النهي عن الصلاة في بطون الاودية مطلقا، ولم يجئ في هذا نهي أصلا. والحديث الذي جاء فيه ذكر المواطن السبعة (1)، ليس فيه الوادي، بل فيه المقبرة بدلا منه. ولم يصب من ذكر الوادي (2)، وحذف المقبرة. والحديث من أصله ضعيف، ضعفه الترمذي وغيره. وإنما الصواب، ما ذكره الشافعي رحمه الله، فإنه يكره (3) الصلاة في واد خاص. هو الذي نام (فيه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عن الصبح حتى فاتت. وقال: (اخرجوا بنا من هذا الوادي (4)،) وصلى خارجه. والله أعلم. الرابع: الحمام. قيل: سبب النهي، كثرة النجاسة، والوسخ. وقيل: لانه مأوى الشيطان. وفي المسلخ، وجهان. إن قلنا بالسبب الاول، لم يكره، وإلا كره، وهو الاصح. وتصح الصلاة بكل حال، في المسلخ، والحمام إذا حكم بطهارته.(1/383)
الخامس: ظهر الكعبة وسبق تفصيله في باب الاستقبال. السادس: أعطان الابل. وفسره الشافعي رحمه الله، بالمواضع التي تنحى إليها الابل الشاربة، ليشرب غيرها. فإذا اجتمعت، سيقت، فتكره الصلاة في أعطان الابل، ولا تكره في مراح الغنم، وهو: مأواها ليلا. وقد يتصور في الغنم مثل عطن الابل. وحكمه حكم مراحها. وحكم مأوى الابل ليلا، حكم عطنها. لكن الكراهية في العطن، أشد. ومتى صلى في العطن، أو المراح، ونجس بالبول، أو البعر، أو غيرهما، لم تصح صلاته، وإلا صحت مع افتراقهما في الكراهة. السابع: المقبرة. وتكره الصلاة فيها بكل حال. ثم إن كانت غير منبوشة، أو بسط عليها طاهرا، صحت صلاته. وإن علم أن موضع صلاته منبوش، لم تصح. وإن شك في نبشه، صحت على الاظهر. ويكره استقبال القبر في الصلاة (1). القسم الثاني: النجاسة الواقعة في مظنة العفو. وهو أضرب. الاول: الاثر الباقي على محل الاستنجاء بعد الحجر، يعفى عنه مع نجاسته. فلو لاقى ماء قليلا، نجسه. ولو حمله مصل بطلت صلاته على الاصح. ويجري الوجهان فيما إذا حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها (2). ويقرب منها، الوجهان فيما لو عرق، وتلوث بمحل النجو غيره. لكن الاصح هنا، العفو، لعسر الاحتراز (3). بخلاف حمل غيره. ولو حمل حيوانا لا نجاسة عليه، صحت صلاته. وإن تنجس منفذه بالخارج، فوجهان. الاصح عند إمام الحرمين، المقطوع به في (التتمة): لا تصح صلاته. والاصح عند الغزالي: صحتها. قلت: الاول: أصح. والله أعلم. ولو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، أو مائع آخر، وخرج حيا، لم ينجسه على(1/384)
الاصح، للمشقة في صيانة الماء والمائع. ولو حمل بيضة صار حشوها دما ، وظاهرها طاهر، أو حمل عنقودا استحال باطن حباته خمرا، ولا رشح على ظاهرها، لم تصح صلاته على الاصح. ويجري الوجهان في كل استتار خلقي. ولو حمل قارورة مصممة الرأس برصاص، أو نحوه، وفيها نجاسة، لم تصح صلاته على الصحيح. ولو صممها بخرقة، بطلت صلاته قطعا. ولو صممها بشمع، قيل: إنه كالرصاص. وقيل: كالخرقة. ولو حمل حيوانا مذبوحا بعد غسل الدم وغيره من موضع الذبح وغيره، لم تصح قطعا (1). الضرب الثاني: طين الشوارع. فتارة يعلم نجاسته، وتارة يظنها، وتارة لا قطعا يعلمها، ولا يظنها. فالثالث: لا يضر. والمظنون فيه، القولان السابقان في باب الاجتهاد. والنجس، يعفى قليله، دون كثيره. والقليل: ما يتعذر الاحتراز منه. والرجوع فيه إلى العادة. ويختلف بالوقت، وبموضعه في (2) البدن. وذكر الائمة له تقريبا، فقالوا: القليل، ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة، أو كبوة، أو قلة تحفظ. فإن نسب، فكثيرة. ولو أصاب أسفل الخف، أو النعل نجاسة، فدلكه بالارض حتى ذهبت أجزاؤها، ففي صحة صلاته فيه قولان. الجديد الاظهر: لا يصح مطلقا. والقديم: يصح بشروط. أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق به. أما البول ونحوه، فلا يكفي دلكه بحال. والثاني: أن يدلكه في حال الجفاف، وما دام رطبا لا يكفي الدلك قطعا، والثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد. فلو تعمد تلطيخ الخف بها، وجب الغسل قطعا. والقولان جاريان فيما أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع - المتيقن النجاسة - الكثير الذي لا يعفى عنه وسائر النجاسة الغالبة في الطرق، كالروث، وغيره. الضرب الثالث: دم البراغيث (3). يعفى عن قليله في الثوب، والبدن. وفي كثيره، وجهان. أصحهما: العفو (4). ويجري الوجهان، في دم القمل،(1/385)
والبعوض، وما أشبه ذلك، وفي ونيم الذباب، وبول الخفاش. ولو كان قليلا فعرق، وانتشر اللطخ بسببه، فعلى الوجهين. وفي ضبط القليل، والكثير، خلاف. ففي قول قديم: القليل: قدر دينار. وفي قديم آخر: ما دون الكف. وعلى الجديد، وجهان. أحدهما: الكثير: ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب. والقليل، دونه. وأصحهما: الرجوع إلى العادة، فما يقع التلطخ به غالبا، ويعسر الاحتراز عنه، فقليل. فعلى الاول: لا يختلف ذلك باختلاف الاوقات، والبلاد. وعلى الثاني: وجهان. أحدهما: يعتبر الوسط المعتدل، ولا يعتبر من الاوقات، والبلاد ما يندر ذلك فيه، أو يتفاحش. وأصحهما: يختلف باختلاف الاوقات والبلاد ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير ؟ فإن شك ففيه احتمالان لامام الحرمين. أرجحهما، وهو الذي قطع به الغزالي: أن له حكم القليل، والثاني: له حكم الكثير. الضرب الرابع: دم البثرات (1)، وقيحها، وصديدها (2)، كدم البراغيث.(1/386)
فيعفى عن قليله قطعا، وعن كثيره على الاصح. ولو عصر بثرة، فخرج ما فيها، عفي عنه على الاصح. ولو أصابه دم غيره، من آدمي، أو بهيمة، أو غيرهما، فإن كان كثيرا فلا عفو. وإن كان قليلا، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: العفو. ولو أصابه شئ من دم نفسه، لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح، وموضع الفصد والحجامة، فوجهان. أحدهما وهو. مقتضى كلام الاكثرين: أنه كدم البثرات. والثاني: وهو الاولى، واختاره القاضي ابن كج، والشيخ أبو محمد، وإمام الحرمين: أنه لا يلتحق بدم البثرات. بل إن كان مما يدوم مثلها غالبا، فهي كدم الاستحاضة. وسبق حكمه في باب الحيض. وإن كان مما لا يدوم غالبا، فهو كدم الاجنبي، لا يعفى عن كثيره وفي قليله الخلاف. قلت: الاصح: أنه كدم البثرات. والله أعلم. وحكم القيح، والصديد، حكم الدم في جميع ما ذكرناه. وأما القروح، والنفاطات فإن كان له رائحة كريهة، فهو نجس، وإلا فطريقان. أحدهما: القطع بالطهارة. والثاني: على قولين. قلت: المذهب، طهارته. والله أعلم. الضرب الخامس: إذا صلى وعلى ثوبه، أو بدنه، أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها، وهو لا يدري، فإن لم يكن علمها، وجبت الاعادة على الاظهر (2). وإن علمها ثم نسيها، وجبت قطعا. وقيل: على القولين. وإذا أوجبنا الاعادة، وجبت إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع النجاسة. وإذا احتمل أنها حدثت بعد ما صلى، فلا شئ عليه.(1/387)
الضرب السادس: في أنواع متفرقة، منها: النجاسة التي تستصحبها المستحاضة، وسلس البول. ومنها إذا كان على جرحه دم كثير يخاف من إزالته. ومنها، إذا تلطخ سلاحه بالدم في صلاة شدة الخوف. ومنها: الشعر الذي ينتف ولا يخلو عنه ثوبه وبدنه، وحكمه، حكم دم البراغيث. ومنها: القدر الذي لا يدركه الطرف من البول، والخمر، وغير الدم. وفيه خلاف تقدم في أول (كتاب الطهارة). قلت: إذا كان على جرحه دم كثير زائد على ما يعفى عنه، وخاف من غسله، صلى به، وجبت الاعادة على الجديد الاظهر (1). والله أعلم. الشرط الخامس: ستر العورة (2). ويجب في غير الصلاة في غير الخلوة، وفي الخلوة أيضا على الاصح (3). وهو شرط لصحة الصلاة في الخلوة، وغيرها. فإن تركه مع القدرة، بطلت. قلت: ولو صلى في سترة، ثم علم بعد الفراغ أنه كان فيها خرق تبين منه العورة، وجبت إعادة الصلاة على المذهب، سواء كان علمها، ثم نسيها، أم لم يكن علمها. وهو شبيه بمن علم النجاسة بعد الفراغ. ولو احتمل حدوث الخرق بعد السلام، فلا إعادة قطعا. ويجوز كشف العورة في الخلوة، في غير صلاة للحاجة. والله أعلم.(1/388)
وعورة الرجل، حرا كان أو عبدا (1): ما بين السرة والركبة على الصحيح. وفي وجه: الركبة، والسرة، عورة. وفي وجه: الركبة عورة، دون السرة. وفي وجه شاذ منكر قاله الاصطخري: إن عورة الرجل، القبل والدبر فقط. قلت: لنا وجه ضعيف مشهور: أن السرة عورة دون الركبة. والله أعلم. وأما المرأة، فإن كانت حرة، فجميع بدنها عورة (2)، إلا الوجه والكفين. ظهرهما، وبطنهما، إلى الكوعين. ولنا قول، وقيل وجه: أن باطن قدمها ليس بعورة. وقال المزني: ليس القدمان بعورة. وإن كانت أمة، أو مكاتبة، أو مستولدة، أو مدبرة، أو بعضها رقيقا، ففيها ثلاثة أوجه. أصحها: عورتها كعورة الرجل. والثاني: كعورة الحرة، إلا رأسها، فإنه ليس بعورة، والثالث: ما ينكشف في حال خدمتها، وتصرفها، كالرأس، والرقبة، والساعد، وطرف الساق، فليس بعورة. وما عداه عورة. وأما الخنثى المشكل، فإن كان رقيقا، وقلنا: عورة الامة كعورة الرجل، فلا يلزمه أن يستر إلا ما بين السرة، والركبة. وإن كان حرا أو رقيقا، وقلنا: عورة الامة أكثر من عورة الرجل، وجب ستر الزيادة على عورة الرجل أيضا، لاحتمال الانوثة. فلو خالف، فلم يستر إلا ما بين السرة والركبة، فهل تصح صلاته ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا تصح. لان الستر شرط. وشككنا في حصوله. والله أعلم. فرع في صفة السترة والستر: ويجب ستر العورة، بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي الثوب الرقيق الذي يشاهد من ورائه سواد البشرة وبياضها، ولا الغليظ المهلهل النسج الذي يظهر بعض العورة من فرجه. ولو ستر اللون، ووصف حجم البشرة، فلا بأس. ولا وقف في ماء صاف، لم تصح صلاته، إلا إذا(1/389)
غلبت الخضرة لتراكم الماء. فإن انغمس إلى عنقه، ومنعت الخضرة رؤية لون البشرة، صحت صلاته. ولو صلى في ماء كدر، صحت على الاصح. وصورة الصلاة في الماء، أن يتمكن من الركوع والسجود، أو يصلي على جنازة. ولو طين عورته، فاستتر اللون، أجزأه على الصحيح الذي قطع به الجماهير، سواء وجد ثوبا أم لا. وعلى هذا، لو لم يجد ثوبا ونحوه، وأمكنه التطين، وجب على الاصح. وأما صفة الستر، فقال الاصحاب: الستر يعتبر من فوق، ومن الجوانب، ولا يعتبر من أسفل الذيل والازار. حتى لو صلى في قميص متسع الذيل، وكان على طرف سطح يرى عورته من نظر إليه من أسفل، جاز، كذا قاله الاصحاب. وتوقف في صورة السطح إمام الحرمين، والشاشي. ولو صلى في قميص واسع الجيب، ترى عورته من الاعلى في الركوع، أو السجود، وغيرهما من أحوال الصلاة، لم تصح صلاته. وطريقه، أن يزر جيبه، أو يشد وسطه، أو يستر موضع الجيب بشئ يلقيه على عاتقيه، أو نحو ذلك. وكذا لو لم يكن واسع الجيب، لكن كان على صدر القميص أو ظهره خرق يبدو منه العورة، فلا بد من شئ مما ذكرناه. ولو كان الجيب بحيث ترى العورة منه في الركوع، والسجود، ولكن يمنع منها لحيته، أو شعر رأسه، صحت صلاته على الاصح. كما لو كان على إزاره ثقب، فجمع عليه الثوب بيده، فلو ستر الثقب بيده، فعلى الوجهين في اللحية. ولو كان القميص بحيث يظهر منه العورة عند الركوع، ولا يظهر في القيام، فهل تنعقد صلاته ؟ ثم إذا ركع، تبطل، أم لا تنعقد أصلا ؟ فيه هذان الوجهان. وفائدة الخلاف، فيما لو اقتدى به غيره قبل الركوع، وفيما لو ألقى ثوبا على عاتقه قبل الركوع. واعلم أنه يشترط في الساتر، أن يشمل المستور، إما باللبس كالثوب والجلد، وإما بغيره، كالتطين. فأما الفسطاط الضيق ونحوه، فلا عبرة به، لانه لا يعد مشتملا عليه. ولو وقف في جب، وصلى على جنازة، فإن كان واسع الرأس تظهر منه العورة، لم تجز. وإن كان ضيق الرأس، فقال في (التتمة) (1): تجوز. ومنهم من قال: لا تجوز.(1/390)
قلت: الاصح: الجواز. ولو حفر في الارض حفرة، ووقف فيها لصلاة الجنازة، إذا رد التراب بحيث ستر العورة، جاز، وإلا فكالجب. ولو ستر بزجاج يرى منه لون البشرة، لم يصح. والله أعلم. فرع: إذا لم يجد المصلي ما يستر العورة، صلى عاريا وتقدم في آخر باب (التيمم) كيفية صلاته والقضاء. ولو حضر جمع من العراة، فلهم أن يصلوا جماعة. ويقف إمامهم وسطهم، كجماعة النساء. وهل يسن للعراة الجماعة، أم الاصح الاولى أن يصلوا فرادى ؟ قولان: القديم: الانفراد أفضل. والجديد: الجماعة أفضل. قلت: هكذا حكى جماعة عن الجديد. والمختار ما حكاه المحققون عن الجديد: أن الجماعة والانفراد سواء. وصورة المسألة إذا كانوا بحيث يتأتى نظر بعضهم إلى بعض، فلو كانوا عميا، أو في ظلمة، استحبت لهم الجماعة بلا خلاف. والله أعلم. ولو كان فيهم لابس أمهم، ووقفوا خلفه صفا واحدا. فإن خالفوا، فأمهم عار، واقتدى به اللابس، جاز. ولو اجتمع رجال ونساء، لم يصلوا معا، لا في صف، ولا في صفين. بل يصلي الرجال، وتكون النساء جالسات خلفهم، مستدبرات القبلة. ثم يصلي النساء، ويجلس الرجال خلفهم مستدبرين. فرع: إذا وجد المصلي ما يستر بعض العورة، لزمه ستر الممكن بلا خلاف. فإن كان الموجود يكفي السوأتين، بدأ بهما، ولا يعدل إلى غيرهما. فإن كان يكفي إحداهما فقط، فثلاثة أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستر القبل، رجلا كان أو امرأة. والثاني: الدبر. والثالث: يتخير. قلت: ولنا وجه ذكره القاضي حسين: أن المرأة تستر القبل، والرجل الدبر. والله أعلم. أما الخنثى المشكل، فإن وجد ما يستر قبليه ودبره، ستر. فإن لم يجد إلا ما يستر واحدا، وقلنا: يستر القبل، ستر أي قبليه شاء. والاولى أن يستر آلة الرجال،(1/391)
إن كان هناك امرأة. وآلة النساء، إن كان هناك رجل (1). ثم ما ذكرناه من تقديم السوأتين، أو إحداهما على الفخذ وغيره، ومن تقديم إحدى السوأتين على الاخرى: هل هو على الاستحباب ؟ أم على الاشتراط. وجهان. أصحهما: الثاني. وهو مقتضى كلام الاكثرين. فرع: لو كانت أمة تصلي مكشوفة الرأس، فعتقت خلال الصلاة، فإن لم تقدر على السترة، مضت في صلاتها كالعاجز. فإن كانت قادرة على السترة، ولم تشعر بقدرتها عليها، أو لم تشعر بالعتق حتى فرغت من الصلاة، ففي وجوب الاعادة، القولان فيمن صلى بالنجاسة جاهلا. وقيل: يجب قطعا. وإن علمت السترة والعتق، فإن كان الخمار قريبا، فطرحته على رأسها، أو طرحه غيرها، مضت في صلاتها. وإن كان بعيدا، أو احتاجت في الستر إلى أفعال كثيرة، ومضى مدة في التكشف، ففيه القولان في سبق الحدث. فإن قلنا بالقديم: إنها تبني، فلها السعي في طلب الساتر، كما تسعى في طلب الماء. وإن وقفت حتى أتيت به، نظر، إن وصلها في المدة التي كانت تصله لو سعت، فلا بأس، وإن زادت، فوجهان. الاصح: لا يجوز، وتبطل صلاتها. وينبغي أن يطرد هذا الخلاف والتفصيل في طلب الماء عند سبق الحدث، وإن لم يذكروه هناك. ولو دخل العاري في الصلاة ثم وجد السترة في خلالها، فحكمه ما ذكرناه في (الامة) تعتق وهي واجدة للسترة. قلت: إذا كانت السترة قريبة، إلا أنه لا يمكن تناولها إلا باستدبار القبلة، بطلت صلاتها إذا لم يناولها غيرها، قاله في (الشامل). ولو قال لامته: إن صليت صلاة صحيحة، فأنت حرة قبلها، فصلت كاشفة الرأس عاجزة، صحت، وعتقت. أو قادرة، صحت، ولا عتق للدور (2). والله أعلم. فرع في مسائل منثورة: ليس للعاري أخذ الثوب من مالكه قهرا (3). فلو(1/392)
وهبه له، لم يلزمه قبوله (1) على الصحيح. وفي وجه: يلزمه قبوله للصلاة فيه. ثم له رده على الواهب قهرا. وفي وجه: يلزمه قبوله، وليس له الرد. ولو أعاره، لزمه قبوله. فإن لم يقبل، وصلى عاريا، لم تصح صلاته. قلت: ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب قبول العارية. والله أعلم. ولو باعه، أو أجره، فهو كبيع الماء. وقد ذكرناه في التيمم. وإقراض الثوب، كإقراض الثمن. ولو احتاج إلى شراء الثوب، والماء، ولم يقدر إلا على أحدهما، اشترى الثوب. ولو أوصى بثوبه لاولى الناس به في ذلك الموضع، فالمرأة أولى من الخنثى، والخنثى أولى من الرجل. وإذا لم يجد إلا ثوبا نجسا، ولم يجد ما يغسله به، فقولان. أظهرهما: يصلي عاريا بلا إعادة. والثاني: يصلي فيه وتجب الاعادة. ولو لم يجد إلا ثوب حرير، فالاصح: أنه يصلي فيه، لانه يباح للحاجة. قلت: ويجب لبسه لستر العورة عن الابصار بلا خلاف. وكذلك يجب لبس الثوب النجس، للستر عنها. وفي الخلوة، إذا أوجبنا الستر فيها. والله أعلم. ويستحب أن يصلي الرجل في أحسن ما يجده من ثيابه. ويتعمم. ويتقمص، ويرتدي. فإن اقتصر على ثوبين، فالافضل قميص ورداء، أو قميص وسراويل. فإن اقتصر على واحد، فالقميص أولى. ثم الازار، ثم السراويل، ثم الثوب الواحد إن كان واسعا، التحف به وخالف بين طرفيه. وإن كان ضيقا، عقده فوق سرته، ويجعل على عاتقه شيئا. ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ، وخمار، وتتخذ جلبابا كثيفا فوق ثيابها يتجافى عنها، ولا يبين حجم أعضائها. قلت: لو لم يجد العاري إلا ثوبا لغيره، حرم عليه لبسه، بل يصلي عاريا ولا يعيد. ولو لم يجد سترة، ووجد حشيشا يمكنه عمل سترة منه، لزمه ذلك. ولو كان(1/393)
محبوسا في موضع نجس، ومعه ثوب لا يكفي العورة، وستر النجاسة، فقولان. أظهرهما: يبسطه على النجاسة، ويصلي عاريا، ولا إعادة. والثاني: يصلي فيه على النجاسة، ويعيد. ولو كان معه ثوب، فأتلفه، أو خرقه بعد دخول الوقت لغير حاجة، عصى، ويصلي عاريا. وفي الاعادة، الوجهان فيمن أراق الماء في الوقت سفها وصلى بالتيمم. ويكره أن يصلي في ثوب فيه صور، ويكره أن يصلي الرجل ملثما، والمرأة متنقبة، وأن يغطي فاه إلا أن يتثاءب، فإن السنة حينئذ، أن يضع يده على فمه. ويكره أن يشتمل الصماء، وأن يشتمل اشتمال اليهود، فالصماء: أن يجلل بدنه بالثوب، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الايسر، واشتمال اليهود كذلك، إلا أنه لا يرفع طرفيه. وقيل: هما بمعنى. والمراد بهما، الثاني. والله أعلم. فصل: الشرط السادس: السكوت عن الكلام. للمتكلم في الصلاة، حالان. أحدهما: بغير عذر. فينظر، إن نطق بحرف واحد، لم تبطل صلاته. إلا إذا كان مفهما، كقوله: (ق) (ش) فإنه تبطل. وإن نطق بحرفين، بطلت. أفهم، أم لا، لان الكلام مفهم، وغيره. ولو نطق بحرف، ومده بعده، فالاصح: البطلان. والثاني: لا. والثالث: قاله إمام الحرمين: إن أتبعه بصوت غفل لا يقع على صورة المد، لم تبطل. وإن أتبعه بحقيقة المد، بطلت. وفي التنحنح أوجه. أصحها وبه قطع الجمهور: إن بان منه حرفان، بطلت صلاته. وإلا، فلا. والثاني، لا تبطل وإن بان حرفان. وحكي هذا عن نص الشافعي رحمه الله. والثالث: إن كان فمه مطبقا، لم تبطل، وإن فتحه، وبان حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وحيث أبطلنا، فذلك إذا كان بغير عذر. فإن كان مغلوبا، فلا بأس. ولو تعذرت القراءة، إلا بالتنحنح، تنحنح، وهو معذور (1). وإن أمكنت القراءة، وتعذر الجهر، إلا بالتنحنح، فليس بعذر على الاصح. ولو تنحنح الامام، وظهر منه حرفان، فهل للمأموم أن يدوم على متابعته ؟ وجهان. أصحهما: نعم. لان الاصل بقاء العبادة، والظاهر أنه معذور. وأما الضحك، والبكاء، والنفخ،(1/394)
والانين، فإن بان منه حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وسواء بكى ؟ للدنيا، أو للآخرة. الحال الثاني: في الكلام بعذر. فمن سبق لسانه إلى الكلام من غير قصد، أو غلبه الضحك، أو السعال، فبان منه حرفان، أو تكلم ناسيا، أو جاهلا بتحريم الكلام، فإن كان ذلك يسيرا، لم تبطل صلاته، وإن كثرت، بطلت على الاصح. والرجوع في القلة والكثرة، إلى العرف. والجهل بتحريم الكلام، إنما هو عذر في حق قريب العهد بالاسلام. فإن طال عهده به، بطلت صلاته، لتقصيره في التعلم. ولو علم تحريم الكلام، ولم يعلم أنه يبطل الصلاة، لم يكن عذرا. ولو جهل كون التنحنح مبطلا، فهو معذور على الاصح، لخفاء حكمه على العوام. ولو علم أن جنس الكلام محرم، ولم يعلم أن ما أتى به محرم، فهو معذور على الاصح. ولو أكره على الكلام، فقولان. أظهرهما: تبطل، لندوره، وكما لو أكره أن يصلي بلا وضوء، أو قاعدا، فإنه تجب الاعادة قطعا. ولو تكلم لمصلحة الصلاة، بأن قام الامام في موضع القعود، فقال المأموم: اقعد، بطلت صلاته، وليس هو بعذر، فإن طريقه التسبيح، ولو أشرف انسان على الهلاك، فأراد انذاره وتنبيهه، ولم يحصل ذلك إلا بالكلام، وجب الكلام، وتبطل صلاته على الاصح. ولو خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره مصليا، لزمه الجواب بالنطق في الحال، ولا تبطل صلاته، ولو قال: آه، من خوف النار، بطلت صلاته على الصحيح. فرع: متى ناب الرجل المصلي شئ في صلاته، بأن رأى أعمى يقع في بئر، أو استأذنه انسان في الدخول، أو أراد إعلام غيره أمرا، فالسنة أن يسبح، والمرأة تصفق في جميع ذلك. والتصفيق: أن تضرب بطن كفها اليمنى، على ظهر كفها اليسرى. وقيل: تضرب أكثر أصابعها اليمنى على ظهر أصابعها اليسرى. وقيل: تضرب أصبعين على ظهر الكف. والمعاني متقاربة. والاول: أشهر. وينبغي أن لا تضرب بطن كف على بطن كف. فإن فعلت ذلك على وجه اللعب، بطلت صلاتها، لمنافاته. فرع: الكلام المبطل عند عدم العذر، هو ما سوى القرآن، والذكر، والدعاء، وما في معناها. فلو أتى بشئ من نظم القرآن قاصدا القراءة، أو القراءة مع شئ آخر، كتنبيه الامام، أو غيره، أو الفتح على من أرتج عليه، أو تفهيم(1/395)
أمر كقوله لجماعة يستأذنون في الدخول: * (أدخلوها بسلام آمنين) (1) *. أو يقول: * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * (2). وما أشبه ذلك، لم تبطل صلاته (3)، سواء كان قد انتهى في قراءته إلى تلك الآية، أو أنشأ قراءتها حينئذ. ولنا وجه شاذ: أنه إذا قصد مع القراءة شيئا آخر، بطلت صلاته، وليس بشئ. ولو قصد الافهام والاعلام فقط، بطلت صلاته بلا خلاف. ولو أتى بكلمات لا يوجد في القرآن على نظمها، وتوجد مفرداتها، كقوله: (يا إبرهيم) (سلام) (كن) بطلت صلاته، ولم يكن لها حكم القرآن بحال. وأما الاذكار، والتسبيحات، والادعية بالعربية، فلا يضر، سواء المسنون، وغيره. لكن ما فيه خطاب مخلوق غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يجب اجتنابه. فلو سلم على إنسان، أو رد عليه السلام بلفظ الخطاب، بطلت صلاته. ويرد السلام بالاشارة بيده، أو رأسه ولو قال: عليه السلام، لم يضر. ولو قال للعاطس: يرحمه الله، لم يضر. ولو قال: يرحمك الله، بطلت على المشهور. فرع: السكوت اليسير في الصلاة، لا يضر بحال، وكذا الكثير عمدا، إن كان لعذر، بأن نسي شيئا، فسكت ليتذكره، على المذهب. وكذا إن سكت لغير عذر، على الاصح. وإن (4) سكت كثيرا ناسيا، وقلنا: عمده مبطل، فطريقان. أحدهما: القطع بأنه لا يضر. والثاني: على الوجهين. واعلم أن إشارة الاخرس المفهمة، كالنطق في البيع وغيره من العقود. ولا تبطل بها الصلاة على الصحيح. الشرط السابع: الكف عن الافعال الكثيرة. اعلم أن ما ليس من أفعال الصلاة، ضربان. أحدهما: من جنسها. والثاني: ليس من جنسها. فالاول: إذا فعله ناسيا، لا تبطل صلاته، كمن زاد ركوعا، أو سجودا، أو ركعة. وإن تعمده، بطلت، سواء قل، أم كثر. وأما(1/396)
الثاني: فاتفقوا على أن الكثير منه، يبطل الصلاة. والقليل: لا يبطل. وفي ضبط القليل والكثير، أوجه. أحدها: القليل: ما لا يسع زمانه فعل ركعة. والكثير: ما يسعها. والثاني: كل عمل لا يحتاج فيه إلى كلتا يديه، كرفع العمامة، وحل أنشوطة السراويل، فقليل. وما احتاج (1)، كتكوير العمامة، وعقد الازار والسراويل، فكثير. والثالث: القليل: ما لا يظن النظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة. والكثير: ما يظن أنه ليس فيها. وضعف هذا: بأن من رآه يحمل صبيا، أو يقتل حية، أو عقربا، يتخيل أنه ليس في صلاة، وهذا لا يضر قطعا. والرابع، وهو الاصح وقول الاكثرين: أن الرجوع فيه إلى العادة. فلا يضر ما يعده الناس قليلا، كالاشارة برد السلام، وخلع النعل، ولبس الثوب الخفيف، ونزعه، ونحو ذلك. ثم قالوا: الفعلة الواحدة (2)، كالخطوة والضربة، قليل قطعا. والثلاث: كثير قطعا. والاثنتان: من القليل على الاصح. ثم أجمعوا على أن الكثير، إنما يبطل إذا توالى. فإن تفرق، بأن خطا خطوة، ثم بعد زمن خطا أخرى، أو خطوتين ثم خطوتين بينهما زمن، وقلنا: إنهما قليل، وتكرر ذلك (3) مرات فهي كثيرة، لم يضر قطعا. وحد التفريق: أن يعد الثاني منقطعا عن الاول. وقال في (التهذيب): عندي أن يكون بينهما قدر ركعة. ثم المراد بالفعلة الواحدة التي لا تبطل، ما لم يتفاحش، فإن أفرطت كالوثبة الفاحشة، أبطلت قطعا. وكذا قولهم: الثلاث المتوالية، تبطل. أراد: والخطوات ونحوها. فأما الحركات الخفيفة، كتحريك الاصابع في سبحة، أو حكة، أو حل وعقد (4)، فالاصح: أنها(1/397)
لا تضر وإن كثرت متوالية. والثاني: تبطل كغيرها. ونص الشافعي رحمه الله: أنه لو كان يعد الآيات في صلاته عقدا باليد، لم تبطل، ولكن الاولى تركه. وجميع ما ذكرنا إذا تعمد الفعل الكثير، فأما إذا فعله ناسيا، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور: أن الناسي كالعامد. وقيل: فيه الوجهان في كلام الناسي. وقيل: أول حد الكثرة، لا يؤثر. وما زاد، وانتهى إلى السرف، فعلى الوجهين. هذا كله حكم الفعل في غير شدة الخوف. أما فيها، فيحتمل الركض والعدو، للحاجة. وفي غير الحاجة كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى (1). وإن قرأ القرآن من المصحف في الصلاة، لم يضر، بل يجب ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة كما سبق. ولو قلب الاوراق أحيانا، لم يضر. ولو نظر في مكتوب غير القرآن، وردد ما فيه في نفسه، لم تبطل صلاته. ولنا وجه: أن حديث النفس إذا كثر، أبطل الصلاة، وهو شاذ. فرع: يستحب للمصلي أن يكون بين يديه سترة، من جدار، أو سارية، أو غيرهما. ويدنو منها بحيث لا يزيد بينهما على ثلاثة أذرع وإن كان في صحراء، غرز عصا ونحوها، أو جمع شيئا من رحله، أو متاعه. وليكن قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئا شاخصا، خط بين يديه خطا، أو بسط مصلى. وقال إمام الحرمين، والغزالي: لا عبرة بالخط. والصواب، ما أطبق عليه الجمهور، وهو الاكتفاء بالخط كما إذا استقبل شيئا شاخصا. قلت: وقال جماعة: في الاكتفاء بالخط، قولان للشافعي. قال في (القديم) و (سنن) حرملة (2): يستحب. ونفاه في (البويطي) لاضطراب الحديث (3) الوارد فيه وضعفه (4).(1/398)
واختلف في صفة الخط. فقيل: يجعل مثل الهلال. وقيل: يمد طولا إلى جهة القبلة. وقيل: يمده يمينا وشمالا. والمختار استحباب الخط، وأن يكون طولا. والله أعلم. ثم إذا صلى إلى سترة، منع غيره من المرور بينه وبين السترة. وكذا ليس لغيره أن يمر بينه وبين الخط على الصحيح. وقول الجمهور: كالعصا. وهل هو منع تحريم، أو تنزيه ؟ وجهان. الصحيح: منع تحريم. وللمصلي أن يدفعه، ويضربه على المرور، وإن أدى إلى قتله. ولو لم يكن سترة، أو كانت، وتباعد منها، فالاصح: أنه ليس له الدفع لتقصيره. قلت: ولا يحرم حينئذ المرور بين يديه، لكن الاولى تركه. والله أعلم. ولو وجد الداخل فرجة في الصف الاول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني، ويقف فيها، لتقصير أصحاب الثاني بتركها. قال إمام الحرمين: والنهي عن المرور، والامر بالدفع، إذا وجد المار سبيلا سواه، فإن لم يجد وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع. وتابع الغزالي إمام الحرمين على هذا، وهو مشكل. ففي الحديث الصحيح في (البخاري) (1) خلافه. وأكثر كتب الاصحاب،(1/399)
للشافعي رحمه الله: أن الاعتبار في الفصل، بالمجلس. فإن لم يفارقه، سجد وإن طال الزمان. وإن فارقه، لم يسجد وإن قرب الزمان. لكن هذا القول شاذ. والذي اعتمده الاصحاب، العرف. قالوا: ولا تضر مفارقة المجلس، واستدبار القبلة. هذا كله تفريع على قولنا: سجود السهو قبل السلام. أما إذا قلنا: بعده. فينبغي أن يسجد على قرب، فإن طال الفصل، عاد الخلاف. وإذا سجد، فلا يحكم بالعود إلى الصلاة بلا خلاف. هل يتحرم للسجدتين، ويتشهد، ويسلم ؟ قال إمام الحرمين: حكمة حكم سجود التلاوة. ثم إذا رأينا التشهد، فوجهان. وقيل: قولان الصحيح المشهور: أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة. والثاني: يتشهد قبلهما، ليليهما السلام. قلت: هذه مسائل منثورة من الباب. منها أن السهو في الصلاة النفل، كالفرض على المذهب. وقيل: طريقان. الجديد كذلك، وفي القديم، قولان. أحدهما: كذلك. والثاني: لا يسجد، حكاه القاضي أبو الطيب، وصاحبا (الشامل) و (المهذب). ولو سلم من الصلاة وأحرم بأخرى، ثم تيقن أنه ترك ركنا من الاولى، لم تنعقد الثانية. وأما الاولى، فإن قصر الفصل بني عليها. وإن طال، وجب استئنافها. ولو جلس للتشهد في الرباعية، وشك: هل هو التشهد الاول، أم الثاني، فتشهد شاكا، ثم قام، فبان الحال، سجد للسهو، سواء بان أنه الاول، أو الآخر، لانه وإن بان الاول، فقد قام شاكا في زيادة هذا القيام. وأن بان الحال وهو بعد في التشهد الاول، فلا سجود. ولو نوى المسافر القصر، وصلى أربع ركعات ناسيا، ونسي في كل ركعة سجدة، حصلت له الركعتان، ويسجد للسهو، وقد تمت صلاته، فيسلم، ولا يلزمه الاتمام، لانه لم ينوه. وكذا لو صلى الجمعة أربعا ناسيا، ونسي من كل ركعة سجدة، سجد للسهو، وسلم. ولو سها سهوين، أحدهما بزيادة، والآخر بنقص، وقلنا: يسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله، سجد هنا قبله على الاصح. وبه قطع المتولي. والثاني. بعده. وبه قطع البندنيجي قال: وكذا الزيادة المتوهمة، كمن شك في عدد الركعات. ولو أراد القنوت في غير الصبح لنازلة (1) وقلنا به، فنسيه لم يسجد للسهو على الاصح.(1/400)
ذكره في (البحر). ولو دخل في صلاة ثم ظن أنه ما كبر للاحرام، فاستأنف التكبير والصلاة، ثم علم أنه كان كبر أولا، فإن علم بعد فراغه من الصلاة الثانية، لم يفسد الاولى، وتمت بالثانية. وإن علم قبل فراغ الثانية، عاد إلى الاولى، فأكملها، وسجد للسهو في الحالين. نقله في (البحر) عن نص الشافعي وغيره. والله أعلم. السجدة الثانية: سجدة التلاوة، وهي سنة، وعدد السجدات أربع عشرة على الجديد الصحيح. ليس منها - صلى الله عليه وسلم - ومنها: سجدتان في (الحج) (1). وثلاث في المفصل. وقال في القديم: إحدى عشرة، أسقط سجدات المفصل. ولنا وجه: أن السجدات خمس عشرة، ضم إليها سجدة - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول ابن سريج. والصحيح المنصوص المعروف: أنها ليست من عزائم السجود (2)، وإنما هي سجدة شكر، فإن سجد فيها خارج الصلاة فحسن. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في - صلى الله عليه وسلم - خارج الصلاة. وهو مراد الامام الرافعي بقوله: حسن والله أعلم. ولو سجد في - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة جاهلا، أو ناسيا، لم تبطل صلاته. وإن كان عامدا، بطلت على الاصح. قلت: ويسجد للسهو الناسي والجاهل. والله أعلم. ولو سجد إمامه في - صلى الله عليه وسلم - لكونه يعتقدها (3)، لم يتابعه بل يفارقه أو ينتظره قائما. وإذا انتظره قائما، فهل يسجد للسهو ؟ وجهان. قلت: الاصح لا يسجد، لان المأمون لا سجود لسهوه. ووجه السجود،(1/401)
ساكتة عن تقييد المنع بما إذا وجد سواه سبيلا. قلت: الصواب، أنه لا فرق بين وجود السبيل وعدمه. فحديث البخاري، صريح في المنع. ولم يرد شئ يخالفه، ولا في كتب المذهب لغير الامام ما يخالفه. وقال أصحابنا: ولا تبطل الصلاة بمرور شئ بين يدي المصلي، سواء مر رجل، أو امرأة، أو كلب، أو حمار، أو غير ذلك. وإذا صلى إلى سترة، فالسنة أن يجعلها مقابلة ليمينه، أو شماله، ولا يصمد لها. والله أعلم. الشرط الثامن: الامساك عن الاكل. فلو أكل شيئا، وإن قل، بطلت صلاته. وفي وجه: لا تبطل بالقليل، وهو غلط. ولو كان بين أسنانه شئ فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه فابتلعها عمدا، بطلت صلاته. فإن أكل مغلوبا، بأن جرى الريق بباقي الطعام، أو نزلت النخامة ولم يمكنه إمساكها، لم تبطل. وإن أكل ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فإن قل، لم تبطل. وإن كثر، بطلت على الاصح. وتعرف القلة والكثرة بالعرف. ولو وصل شئ إلى جوفه بغير مضغ، وابتلاع، بأن وضع في فمه سكرة فذابت (1)، ونزلت إلى جوفه، بطلت صلاته على الاصح. فعلى هذا، تبطل بكل ما يبطل الصوم. واعلم أن المضغ وحده، فعل يبطل الكثير منه. وإن لم يصل شئ إلى الجوف، حتى لو كان يمضغ علكا، بطلت صلاته. وإن لم يمضغه، وكان جديدا يذوب، فهو كالسكرة. وإن كان مستعملا، لم تبطل صلاته، كما لو أمسك في فمه إجاصة (2).(1/402)
فصل: وللمحدث المكث في المسجد (1). قلت: وكذا النوم بلا كراهة. والله أعلم. وتقدم حكم مكث الجنب والحائض، وعبورهما. وهذا في حق المسلم، أما الكافر، فلا يمكن من دخول حرم مكة بحال، سواء مساجده، وغيرها. وله دخول مساجد غير الحرم، بإذن مسلم. وليس له دخولها، بغير إذن على الصحيح (2). فإن فعله، عزر. قال في (التهذيب): لو جلس فيه الحاكم للحكم، فللذمي دخوله للمحاكمة بغير إذن، وينزل جلوسه منزلة إذنه. وإذا استأذن لنوم، أو أكل، فينبغي أن لا يأذن له. وإن استأذن لسماع قرآن، أو علم، أذن له، رجاء إسلامه. هذا كله إذا لم يكن جنبا، فإن كان، فهل يمنع من المكث ؟ وجهان. أصحهما: لا. والكافرة الحائضة، تمنع حيث تمنع المسلمة، وكذا الصبيان، والمجانين، يمنعون من دخوله. قلت: ولا يمنع الجنب، والحائض، من دخول المصلى الذي ليس بمسجد على المذهب. وذكر الدارمي في باب صلاة العيد، في تحريمه، وجهين. وأجراهما في منع الكافر منه بغير إذن. وقد ذكرت جملا من الفوائد المتعلقة بالمسجد في باب ما يوجب الغسل، من شرح (المهذب). وأنا أشير إلى أحرف من بعضها، فيكره نقش المسجد، واتخاذ الشرفات له. ولا بأس بإغلاقه في غير وقت الصلاة. والبصاق في المسجد خطيئة. فإن خالف فبصق، فقد ارتكب النهي، فكفارتها دفنه في رمل المسجد، وترابه. ولو مسحه بيده، أو غيرها، كان أفضل. ويكره لمن أكل ثوما، أو بصلا، أو غيرهما مما له رائحة كريهة، دخول المسجد بلا ضرورة، ما لم يذهب ريحه. ويكره غرس الشجر فيه. فإن غرس، قطعه الامام. قال الصيمري (3): ويكره حفر البئر فيه، ويكره عمل الصنائع، ولا(1/403)
بأس بالاكل والشرب فيه، والوضوء إذا لم يتأذ به الناس (1). ويقدم في دخول المسجد رجله اليمنى، وفي الخروج، اليسرى، ويدعو بالدعوات المشهورة فيه. ولحائط المسجد من خارجه حرمة المسجد في كل شئ. والله أعلم.
الباب السادس في السجدات التي ليست من صلب الصلاة هن ثلاث. الاولى: سجود السهو (2)، وهو سنة (3)، ليس بواجب، والذي يقتضيه، شيئان: ترك مأمور، وارتكاب منهي (4). أما ترك المأمور، فقسمان. ترك ركن وغيره. أما الركن، فلا يكفي عنه السجود، بل لابد من تداركه. ثم قد يقتضي(1/404)
الحال، السجود بعد التدارك، وقد لا يقتضيه. كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما غير الركن، فأبعاض، وغيرها. فالابعاض: تقدم بيانها في أول صفة الصلاة، وهي مجبورة بالسجود إن ترك واحدة منها سهوا قطعا. وكذلك إن تركه عمدا على الاصح (1). وأما غير الابعاض من السنن، فلا يسجد لتركها. هذا هو الصحيح المشهور المعروف. ولنا قول قديم شاذ: أنه يسجد لترك كل مسنون، ذكرا كان، أو (2) عملا. ووجهه: أن من نسي التسبيح في الركوع والسجود، سجد. وأما المنهي، فقسمان. أحدهما: لا تبطل الصلاة بعمده. كالالتفات، والخطوة، والخطوتين (3). والثاني: تبطل بعمده، كالكلام، والركوع الزائد، ونحو ذلك. فالاول: أن لا يقتضي سهوه السجود. والثاني: يقتضيه إذا لم تبطل الصلاة. وقولنا: إذا لم تبطل الصلاة، احتراز من كثير الفعل، والاكل، والكلام، فإنها تبطل الصلاة بعمدها. وكذلك بسهوها على الاصح، فلا سجود. واحتراز من الحدث أيضا، فإن عمده وسهوه يبطلان الصلاة ولا سجود. فرع: الاعتدال عن الركوع ركن قصير، أمر المصلي بتخفيفه. فلو أطاله عمدا بالسكوت، أو القنوت، أو بذكر آخر ليس بركن، فثلاثة أوجه. أصحها عند إمام الحرمين وقطع به صاحب (التهذيب): تبطل صلاته، إلا حيث ورد الشرع بالتطويل بالقنوت، أو في صلاة التسبيح. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن قنت عمدا في اعتداله في غير موضعه، بطلت. وإن طول بذكر آخر لا يقصد القنوت، لم تبطل.(1/405)
قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، طول الاعتدال جدا. فالراجح دليلا (2)، جواز إطالته بالذكر. والله أعلم. ولو نقل ركنا ذكريا إلى ركن طويل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعضها، في الركوع، أو الجلوس، آخر الصلاة، أو قرأ التشهد، أو بعضه في القيام عمدا، لم تبطل صلاته على الاصح. وقيل: لا تبطل قطعا. ويجري هذا الخلاف فيما لو نقله إلى الاعتدال، ولم يطل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعض التشهد. فلو اجتمع المعنيان بطول الاعتدال بالفاتحة، أو التشهد، بطلت على الاصح. وقيل: قطعا. وأما الجلوس بين السجدتين، ففيه وجهان. أصحهما: أنه ركن قصير، وبه قطع الشيخ أبو محمد، وصاحب (التهذيب) وغيرهما. والثاني: طويل، قاله ابن سريج، والجمهور. فإن قلنا بهذا، فلا بأس بتطويله. وإن قلنا بالاول، ففي تطويله عمدا الخلاف المذكور في الاعتدال. وإذا قلنا في هذه الصور ببطلان الصلاة بعمده، فلو فرض ذلك سهوا، سجد للسهو. وإذا قلنا: لا تبطل، فهل يسجد للسهو ؟ وجهان. أحدهما: لا، كسائر ما لا يبطل عمده. وأصحهما: يسجد. وتستثنى هذه الصورة عن قولنا: ما لا يبطل عمده، لا يسجد لسهوه (3).(1/406)
فصل: الترتيب واجب في أركان الصلاة. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وإن تركه سهوا، لم يعتد بما فعله بعد المتروك، حتى يأتي بما تركه. فإن تذكر السهو قبل فعل مثل المتروك، اشتغل عند التذكر بالمتروك، وإن تذكر بعد فعل مثله في ركعة أخرى، تمت الركعة السابقة به، ولغا ما بينهما. هذا إذا عرف عين المتروك، وموضعه. فإن لم يعرف، أخذ بأدنى الممكن، وأتى بالباقي. وفي الاحوال كلها يسجد للسهو، إلا إذا وجب الاستئناف، بأن ترك ركنا، وأشكل عينه، وجوز أن يكون النية، أو تكبيرة الاحرام. وإلا إذا كان المتروك، هو السلام، فإنه إذا تذكر قبل طول الفصل، سلم ولا حاجة إلى سجود السهو. ولو تذكر في قيام الركعة الثانية، أنه ترك سجدة من الاولى، فلا بد من الاتيان بها عند تذكره. ثم إن لم يكن جلس عقب السجدة المفعولة، فهل يكفيه أن يسجد عن قيام، أم لا بد أن يجلس مطمئنا، ثم يسجد ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فإن كان جلس عقب السجدة المفعولة - وقصد به الجلسة بين السجدتين - ثم غفل، فقام، فالمذهب أنه يكفيه السجود عن قيام. وقيل على الوجهين. وإن قصد بجلسته الاستراحة، فالاصح أنه يكفيه السجود عن قيام، ويجزئه جلسة الاستراحة عن الواجب. كما لو جلس في التشهد الاخير يظنه الاول، فإنه يجزئه عن الاخير. والثاني: يجب الجلوس مطمئنا. ولو شك، هل جلس ؟ فهو كما إذا لم يجلس. أما إذا تذكر بعد سجوده في الركعة الثانية تركه سجدة من الاولى، فينظر، إن تذكر بعد السجدتين معا، أو في الثانية منهما، فقد تم بما فعله ركعته الاولى، ولغا ما بينهما. ثم إن كان جلس في الاولى بنية الجلسة بين السجدتين، أو بنية الاستراحة إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، فتمامها بالسجدة الاولى. وإن لم يجلس، أو جلس للاستراحة، وقلنا: لا يجزئ، فإن قلنا: لو تذكر في القيام والحالة هذه، يجلس، ثم يسجد، فتمام الركعة الاولى هنا بالسجدة الثانية. وإن قلنا هناك: يسجد عن قيام، فتمامها بالسجدة الاولى. ويبنى على هذا الخلاف، ما إذا تذكر بعد السجدة الاولى في(1/407)
الركعة الثانية. فإن قلنا بالاول، فركعته غير تامة، فيسجد سجدة، ثم يقوم إلى ركعة ثانية. وإن قلنا بالثاني، فركعته تامة، فيقوم إلى ثانية. فرع: لو تذكر في جلوس الركعة الرابعة، أنه ترك أربع سجدات، فله أربعة أحوال. حال: يحسب له ثلاث ركعات إلا سجدتين، وحال: ركعتان وحال: ركعتان إلا سجدة. فلو تيقن ثنتين من الثالثة، وثنتين من الرابعة، صحت الركعتان الاوليان، وحصلت الثالثة، لكن لا سجود فيها، ولا فيما بعدها. فيسجد سجدتين لتتم، ثم يقوم إلى ركعة رابعة. وهكذا الحكم، لو ترك سجدة من الاولى، وسجدة من الثانية، وسجدتين من الرابعة. وكذا لو ترك واحدة من الثانية، وواحدة من الثالثة، وثنتين من الرابعة. أما إذا ترك من كل ركعة سجدة، فيحصل ركعتان، فيتم الاولى بالثانية، والثالثة بالرابعة. ومثله لو ترك ثنتين من الثانية، وثنتين من الاولى أو الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الاولى، وأخرى من الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الثالثة، وأخرى من الرابعة، أو ثنتين من الاولى، وثنتين من ركعتين بعدهما غير متواليتين، أو واحدة من الاولى، وواحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، أو واحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، وواحدة من الرابعة، فيحصل في كل هذه الصور، ركعتان، ويقوم فيأتي بركعتين. أما إذا ترك من الاولى واحدة، ومن الثانية ثنتين، ومن الرابعة واحدة، أو من الاولى ثنتين، ومن الثانية واحدة، ومن الرابعة أخرى. وكذا كل صورة ترك ثنتين من ركعة، وثنتين من ركعتين غير متواليتين، فيحصل ركعتان إلا سجدة. فيسجدها ثم يأتي بركعتين. هذا كله إذا عرف مواضع السجدات. فإن لم يعرف، أخذ بالاشد، فيأتي بسجدة، ثم ركعتين. وقال الشيخ أبو محمد: يلزمه سجدتان، ثم ركعتان. وهو غلط شاذ. هذا كله إذا كان قد جلس عقب السجدات المفعولات كلهن، على قصد الجلوس بين السجدتين، أو على قصد جلسة الاستراحة، إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، أو قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلسة. فأما إذا لم يجلس في بعض الركعات، أو لم يجلس في غير الرابعة، وقلنا بالاصح: إن القيام لا يكفي عن الجلسة، فلا يحسب ما بعد السجدة المفعولة إلى أن يجلس. حتى لو تذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة، ولم يجلس إلا في الاخيرة، أو جلس بنية الاستراحة، أو جلس في الثانية بنية التشهد الاول، وقلنا: الفرض لا يتأدى بالنفل، لم يحصل له مما فعل إلا ركعة ناقصة(1/408)
سجدة. ثم هذا الجلوس الذي تذكر فيه، يقوم مقام الجلوس بين السجدتين. فيسجد، ثم يقوم فيأتي بثلاث ركعات. أما إذا تذكر أنه ترك سجدة من أربع ركعات، فإن علم أنها من الاخيرة، سجدها، واستأنف التشهد إن كان تشهد، وإن علمها من غير الاخيرة، أو شك، لزمه ركعة. وإن تذكر ترك سجدتين، فإن كانتا من الركعة الاخيرة، كفاه سجدتان وإن كانتا من غير الاخيرة. فإن كانتا من ركعة، لزمه ركعة. وإن كانتا من ركعتين، فقد يكفيه ركعة، بأن يكونا من ركعتين متواليتين. وقد يحتاج إلى ركعتين، بأن يكونا من ركعتين غير متواليتين. فإن أشكل الامر، لزمه ركعتان. وإن ترك ثلاث سجدات، فقد يقتضي الحال حصول ثلاث ركعات إلا سجدة، بأن تكون ثنتان من الاولى، أو الثانية، أو الثالثة، وواحدة من الرابعة. فيسجد سجدة، ثم يقوم فيأتي بركعة. وقد يقتضي حصول ثلاث إلا سجدتين، بأن تكون سجدة من الاولى، وثنتان من الرابعة. وقد يقتضي حصول ركعتين فقط، بأن يكون الثلاث، من الثلاث الاوليات. فإن أشكل، لزمه هذا الاشد (1). وإن ترك خمس سجدات، فقد تحصل ركعتان إلا سجدتين بأن تكون(1/409)
واحدة من الاولى، وثنتان من الثانية، وثنتان من الرابعة. وقد يحصل ركعة فقط بأن يترك سجدة من الاولى، وثنتين من الثانية، وثنتين من الثالثة. فإن أشكل، لزمه ثلاث ركعات. وقال في (المهذب): يلزمه سجدتان، وركعتان، وهو غلط. ولو ترك ست سجدات، حصل ركعة فقط. وإن ترك سبعا، حصل ركعة إلا سجدة. وإن ترك ثمانيا، حصل ركعة إلا سجدتين. ثم هذا الحكم يطرد لو تذكر السهو في المسائل المذكورة بعد السلام، ولم يطل الفصل. فإن طال، وجب الاستئناف، ويسجد للسهو في جميع مسائل الفصل. ويمكن عدها من قسم ترك المأمور - لان الترتيب مأمور به، فتركه عمدا مبطل، فسهوه يقتضي السجود - ومن ارتكاب المنهي، لانه إذا ترك الترتيب، فقد زاد في الافعال، والاركان. فرع: تقدم أن فوات التشهد الاول يقتضي سجود السهو. فإذا نهض من الركعة الثانية ناسيا للتشهد، أو جلس، ولم يقرأ التشهد، ونهض ناسيا، ثم تذكر، فتارة يتذكر بعد الانتصاب قائما، وتارة قبله. فإن كان بعده، لم تجز العودة إلى القعود على الصحيح المعروف. وفي وجه: يجوز العود ما لم يشرع في القراءة. والاولى: أن لا يعود. وهذا الوجه: شاذ منكر. فعلى الصحيح: إن عاد متعمدا عالما بتحريمه، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، لم تبطل، وعليه أن يقوم عند تذكره ويسجد للسهو. وإن عاد جاهلا بتحريمه، فالاصح: أنه كالناسي. والثاني: كالعامد. هذا حكم المنفرد. والامام في معناه، فلا يرجع بعد الانتصاب. ولا يجوز للمأموم أن يتخلف للتشهد. فإن فعل، بطلت صلاته. فإن نوى مفارقته ليتشهد، جاز وكان مفارقا بعذر. ولو انتصب مع الامام، فعاد الامام، لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته. وهل يجوز أن ينتظره قائما حملا على أنه عاد ناسيا ؟ وجهان سبق مثلهما في التنحنح. قلت: فإن عاد المأموم مع الامام، عالما بالتحريم، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، أو جاهلا، لم تبطل. ولو قعد المأموم، فانتصب الامام ثم عاد، لزم المأموم القيام، لانه توجه عليه بانتصاب الامام. والله أعلم.(1/410)
ولو قعد الامام للتشهد الاول، وقام المأموم ناسيا، أو نهضا، فتذكر الامام، فعاد قبل الانتصاب وانتصب المأموم، فثلاثة أوجه. أصحها: يجب على المأموم العود إلى التشهد لمتابعة الامام. فإن لم يعد، بطلت صلاته، صححه الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، وقطع به صاحب (التهذيب). والثاني: يحرم العود. والثالث: يجوز، ولا يجب. ولو قام المأموم قاصدا، فقد قطع إمام الحرمين: بأنه يحرم العود. كما لو ركع قبل الامام، أو رفع رأسه قبله عمدا، يحرم العود. فإن عاد، بطلت صلاته، لانه زاد ركنا عمدا. فلو فعل ذلك سهوا، بأن سمع صوتا، فظن أن الامام ركع، فركع، فبان أنه لم يركع، فقال إمام الحرمين: في جواز الركوع، وجهان. وقال صاحب (التهذيب) وآخرون: في وجوب الرجوع، وجهان. أحدهما: يجب. فإن لم يرجع، بطلت صلاته. والاصح: أنه لا يجب، بل يتخير بين الرجوع وعدمه. وللنزاع في صورة قصد القيام، مجال ظاهر، لان أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الامام عمدا، استحب له أن يرجع إلى القيام ليركع مع الامام، فجعلوه مستحبا. الحال الثاني: أن يتذكر قبل الانتصاب. فقال الشافعي، والاصحاب رحمهم الله: يرجع إلى التشهد. والمراد بالانتصاب، الاعتدال والاستواء، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: المراد به: أن يصير إلى حال هي أرفع من حد أقل الركوع. ثم إذا عاد قبل الانتصاب، هل يسجد للسهو ؟ قولان. أظهرهما: لا يسجد. وقال كثير من الاصحاب، منهم القفال: إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود، ثم عاد، سجد. وإن كان إلى القعود أقرب، أو كانت نسبته إليهما على السواء، لم يسجد، لانه إذا صار إلى القيام أقرب فقد أتى بفعل يغير نظم الصلاة، (و) لو تعمده في غير موضعه، أبطل الصلاة. وقال الشيخ أبو محمد، وآخرون: إن عاد قبل أن ينتهي إلى حد الراكعين، لم يسجد. وإن عاد بعد الانتهاء إليه، سجد. والمراد بحد الركوع: أكمله، لا أقله. بل لو قرب في ارتفاعه من حد أكمل الركوع، ولم يبلغه، فهو في حد الراكعين، صرح به في (النهاية). وهذه العبارة، مع عبارة القفال ورفقته، متقاربتان، والاولى أوفى بالغرض، وهي أظهر من إطلاق القولين، وبها قطع في (التهذيب) وهي كالتوسط بين القولين، وحملهما على الحالين. ثم جميع ما ذكرناه في الحالتين، هو فيما إذا ترك التشهد الاول،(1/411)
ونهض ناسيا. فأما إذا تعمد ذلك، ثم عاد قبل الانتصاب والاعتدال، فإن عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب، بطلت صلاته. وإن عاد قبله، لم تبطل. ولو كان يصلي قاعدا، فافتتح القراءة بعد الركعتين، فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد، وجاء وقت الثالثة، لم يعد بعد ذلك إلى قراءة التشهد على الاصح. وإن سبق لسانه إلى القراءة وهو عالم بأنه لم يتشهد، فله العود إلى قراءة التشهد. وترك القنوت يقاس بما ذكرناه في التشهد، فإذا نسيه، ثم تذكر بعد وضع الجبهة على الارض، لم يجز العود. وإن كان قبله، فله العود. ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين، سجد للسهو. وإن كان قبله، فلا. فرع: إذا جلس في الركعة الاخيرة عن قيام ظانا أنه أتى بالسجدتين، فتشهد، ثم ذكر الحال بعد التشهد، لزمه تدارك السجدتين، ثم إعادة التشهد، ويسجد للسهو. ولا يختص هذا الحكم بالركعة الاخيرة، بل لو اتفق ذلك في الركعة الثانية من صلاة رباعية، أو ثلاثية، فكذلك يتدارك السجدتين، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو في موضعه، إلا أن إعادة التشهد هنا سنة. ولو اتفق ذلك في ركعة لا يعقبها تشهد، فإذا تذكر، تدارك السجدتين، وقام، ثم يسجد للسهو. أما إذا جلس بعد السجدتين في الركعة الاولى، أو الثالثة من الرباعية، وقرأ التشهد، أو بعضه، ثم تذكر، فيسجد للسهو، لانه زاد قعودا طويلا. فلو لم يطل، لم يسجد. والتطويل: أن يزيد على جلسة الاستراحة (1). أما إذا ترك السجدة الثانية وتشهد، ثم تذكر، فيتدارك السجدة الثانية، ويعيد التشهد. وهل يسجد للسهو ؟ وجهان. الصحيح: السجود. ولو لم يتشهد، لكن طول الجلوس بين السجدتين، سجد للسهو أيضا على الاصح. أما إذا جلس عن قيام، ولم يتشهد، ثم تذكر، فيشتغل بالسجدتين وما بعدهما، على ترتيب صلاته. ثم إن طال جلوسه، سجد للسهو. وإن لم يطل، بل كان في حد جلسة الاستراحة، لم يسجد، لان تعمده في غير موضعه لا يبطل الصلاة، بخلاف الركوع، والسجود، والقيام. فرع: إذا قام إلى خامسة في رباعية ناسيا، ثم تذكر قبل السلام، فعليه أن يعود إلى الجلوس، ويسجد للسهو، ويسلم، سواء تذكر في قيام الخامسة، أو(1/412)
ركوعها، أو سجودها. وإن تذكر بعد الجلوس فيها، سجد للسهو، ثم سلم. وأما التشهد، فإن تذكر بعد الجلوس، والتشهد في الخامسة، لم يعده، وإن تذكر قبل التشهد في الخامسة، ولم يكن تشهد في الرابعة، فلا بد منه، وإن تشهد في الرابعة، كفاه، ولم يحتج إلى إعادته على الصحيح. هذا إن تشهد بنية التشهد الاخير، فإن كان بنية الاول، فإن قلنا: إذا كان بنية الاخير يحتاج إلى إعادته، فهنا أولى، وإلا، ففيه الخلاف في تأدي الفرض بنية النفل. قلت: الاصح: أنه لا يحتاج إلى إعادته، وبه قطع كثيرون، أو الاكثرون. والله أعلم. ولو ترك الركوع، ثم تذكره في السجود، فهل يجب الرجوع إلى القيام ليركع منه، أم يكفيه أن يقوم راكعا ؟ وجهان لابن سريج. قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. فصل في قاعدة متكررة في أبواب الفقه وهي أنا إذا تيقنا وجود شئ أو عدمه، ثم شككنا في تغيره وزواله عما كان عليه، فإنا نستصحب اليقين الذي كان، ونطرح الشك، فإذا شك في ترك مأمور ينجبر تركه بالسجود، وهو الابعاض، فالاصل، أنه لم يفعله، فيسجد للسهو، قال في (التهذيب): هذا إذا كان الشك في ترك مأمور معين، فأما إذا شك، هل ترك مأمورا، أم لا ؟ فلا يسجد كما لو شك: هل سها، أم لا ؟ ولو شك في ارتكاب منهي، كالسلام والكلام ناسيا، فالاصل أنه لم يفعل، ولا سجود. ولو تيقن السهو، وشك هل سجد له، أم لا ؟ فليسجد، لان الاصل عدم السجود. ولو شك، هل سجد للسهو سجدة، أم سجدتين ؟ سجد أخرى. قلت: ولو تيقن السهو، وشك هل هو ترك مأمور، أو ارتكاب منهي ؟ سجد. والله أعلم. ولو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا، أخذ بالاقل، وأتى بالباقي، وسجد للسهو. ولا ينفعه الظن، ولا أثر للاجتهاد في هذا الباب. ولا يجوز العمل فيه بقول غيره. وفي وجه شاذ: أنه يجوز الرجوع إلى قول جمع كثير كانوا يرقبون صلاته.(1/413)
وكذلك الامام إذا قام إلى ركعة ظنها رابعة، وعند القوم أنها خامسة، فنبهوه، لا يرجع إلى قولهم وفي وجه شاذ: يرجع إن كثر عددهم. واختلفوا في سبب السجود، إذا شك: هل صلى ثلاثا، أم أربعا ؟ فقال الشيخ أبو محمد وطائفة: المعتمد فيه، الخبر، ولا يظهر معناه. واختاره إمام الحرمين، والغزالي. وقال القفال، والشيخ أبو علي، وصاحب (التهذيب) وآخرون: سببه: التردد في الركعة التي يأتي بها، هل هي رابعة، أم زائدة توجب السجود ؟ وهذا التردد، يقتضي الجبر بالسجود. قلت: الثاني أصح. والله أعلم. فلو زال التردد قبل السلام، وعرف أن التي يأتي بها رابعة، لم يسجد على الاول. وعلى الثاني: يسجد. وضبط أصحاب هذا الوجه صورة الشك وزواله فقالوا: إن كان ما فعله من وقت عروض الشك إلى زواله، ما لا بد منه على كل احتمال، فلا يسجد للسهو. فإن كان زائدا على بعض الاحتمالات، سجد. مثاله: شك في قيامه في الظهر، أن تلك الركعة ثالثة، أم رابعة ؟ فركع وسجد على هذا الشك، وهو على عزم القيام إلى ركعة أخرى أخذا باليقين، ثم تذكر قبل القيام أنها ثالثة، أو رابعة، فلا يسجد، لان ما فعله على الشك لا بد منه على التقديرين. فإن لم يتذكر حتى قام، سجد للسهو وإن تيقن أن التي قام إليها رابعة، لان احتمال الزيادة، وكونها خامسة، كان ثابتا حين قام. قلت: ولو شك المسبوق، هل أدرك ركوع الامام، أم لا ؟ فسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، لانه لا تحسب له هذه الركعة. قال الغزالي في (الفتاوى): فعلى هذا يسجد للسهو، كما لو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا ؟ هذا الذي قاله الغزالي ظاهر. ولا يقال: يتحمله عنه الامام، لان هذا الشخص بعد سلام الامام شاك في عدد ركعاته. والله أعلم. فرع: إذا شك في أثناء الصلاة في عدد الركعات، أو في فعل ركن، فالاصل: أنه لم يفعل، فيجب البناء على اليقين، كما تقدم. وإن وقع هذا الشك بعد السلام، فالمذهب: أنه لا شئ عليه، ولا أثر لهذا الشك. وقيل: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: هذا. والثاني: يجب الاخذ باليقين. فإن كان الفصل قريبا، بنى. وإن طال، استأنف. والثالث: إن قرب الفصل، وجب البناء. وإن طال،(1/414)
فلا شئ عليه. وأما ضبط طول الفصل، فيحتاج إليه هنا وفيما إذا تيقن أنه ترك ركنا، وذكره بعد السلام. وفي قدره قولان. أظهرهما، نصه في (الام): يرجع فيه إلى العرف. والثاني، نصه في (البويطي): أن الطويل ما يزيد على قدر ركعة. ولنا وجه: أن الطويل: قدر الصلاة التي هو فيها. ثم إذا جوزنا البناء، فلا فرق بين أن يتكلم بعد السلام، أو يخرج من المسجد ويستدبر القبلة، وبين أن لا يفعل ذلك. ولنا وجه ضعيف: أن القدر المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفصل محتمل. فإن زاد، فلا. والمنقول: أنه - صلى الله عليه وسلم -، قام، ومضى إلى ناحية المسجد، وراجع ذا اليدين، وسأل الجماعة، فأجابوا. فصل: لا يتكرر السجود بتكرر السهو، بل يكفي سجدتان في آخر الصلاة، سواء تكرر نوع، أو انواع. قال الائمة: لا تتعدد حقيقة السجود. وقد تتعدد صورته في مواضع. منها: المسبوق إذا سجد مع الامام، يعيد في آخر صلاته على المشهور. ومنها: لو سها الامام في صلاة الجمعة، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام خروج وقت الظهر، فالمشهور: أنهم يتمونها ظهرا، ويعيدون سجود السهو، لان الاول، لم يقع في آخر الصلاة. ومنها: لو ظن أنه سها في صلاته، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام أنه لم يسه، فالاصح: أنه يسجد للسهو ثانيا، لانه زاد سجدتين سهوا. والثاني: لا يسجد، ويكون السجود جابرا لنفسه ولغيره. ومنها: لو سها المسافر في الصلاة المقصورة، فسجد للسهو، ثم نوى الاتمام قبل السلام، أو صار مقيما بانتهاء السفينة إلى دار الاقامة، وجب إتمام الصلاة، ويعيد السجود قطعا. ومنها: لو سجد للسهو، ثم سها قبل السلام بكلام، أو غيره، ففي وجه: يعيد السجود. والاصح: لا يعيده كما لو تكلم، أو سلم ناسيا بين سجدتي السهو، أو فيهما، فإنه لا يعيده قطعا، لانه لا يؤمن وقوع مثله في المعاد فيتسلسل. ولو سجد للسهو ثلاثا، لم يسجد لهذا السهو. وكذا لو شك، هل سجد للسهو سجدة،(1/415)
أم سجدتين، فأخذ بالاقل، وسجد أخرى، ثم تحقق أنه كان سجد سجدتين، لم يعد السجود. ومنها: لو ظن سهوه بترك القنوت مثلا، فسجد له، فبان قبل السلام أن سهوه بغيره، أعاد السجود على وجه، لانه لم يجبر ما يحتاج إلى الجبر. والاصح: أنه لا يعيده، لانه قصد جبر الخلل. قلت: ولو شك، هل سها، أم لا ؟ فجهل وسجد للسهو، أمر بالسجود ثانيا لهذه الزيادة. والله أعلم. فصل: إذا سها المأموم خلف الامام، لم يسجد، ويتحمل الامام سهوه. ولو سها بعد سلام الامام، لم يتحمل، لانقطاع القدوة، وكذا المأموم الموافق، إذا تكلم ساهيا عقب سلام الامام. وكذا المنفرد إذا سها في صلاته، ثم دخل في جماعة، وجوزنا ذلك، فلا يتحمل الامام سهوه ذلك. أما إذا ظن المأموم أن الامام سلم، فسلم، ثم بان أنه لم يسلم، فسلم معه، فلا سجود عليه، لانه سها في حال القدوة. ولو تيقن في التشهد أنه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسيا، فإذا سلم الامام، لزمه أن يأتي بركعة أخرى، ولا يسجد للسهو، لانه سها في حال الاقتداء. ولو سلم الامام، فسلم المسبوق سهوا، ثم تذكر، بنى على صلاته، وسجد، لان سهوه بعد انقطاع القدوة. ولو ظن المسبوق أن الامام سلم، بأن سمع صوتا ظنه سلامه، فقام ليتدارك ما عليه، وكان ما عليه ركعة مثلا، فأتى بها وجلس، ثم علم أن الامام لم يسلم بعد تبين أن ظنه كان خطأ، فهذه الركعة غير معتد بها. لانها مفعولة في غير موضعها، فإن وقت التدارك بعد انقطاع القدوة، فإذا سلم الامام، قام إلى التدارك، ولا يسجد للسهو لبقاء حكم القدوة. ولو كانت المسألة بحالها، فسلم الامام وهو قائم، فهل يجوز له أن يمضي في صلاته، أم يجب عليه أن يعود إلى القعود، ثم يقوم ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم. فإن جوزنا المضي، فلا بد من إعادة القراءة. فلو سلم الامام في قيامه، لكنه لم يعلم به حتى أتم الركعة. إن جوزنا المضي، فركعته محسوبة، ولا يسجد للسهو. وإن قلنا: عليه القعود، لم يحسب، ويسجد للسهو للزيادة بعد سلام(1/416)
الامام. ولو كانت المسألة بحالها، وعلم في القيام أن الامام لم يسلم بعد، فقال إمام الحرمين: إن رجع، فهو الوجه، وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الامام، ففيه الخلاف في قطع القدوة. فإن منعناه، تعين الرجوع. وإن جوزناه، فوجهان. أحدهما: يجب الرجوع. لان نهوضه غير معتد به، فيرجع، ثم يقطع القدوة إن شاء. والثاني: لا يجب الرجوع، لان النهوض ليس مقصودا لعينه، وإنما المقصود، القيام فما بعده. هذا كلام الامام. فلو لم يرد قطع القدوة، فمقتضى كلام الامام: وجوب الرجوع. وقال الغزالي: هو مخير، إن شاء رجع، وإن شاء انتظر قائما سلام الامام. وجواز الانتظار قائما مشكل، للمخالفة الظاهرة. فإن كان قرأ قبل تبين الحال، لم يعتد بقراءته في جميع هذه الاحوال، بل عليه استئنافها. قلت: الصحيح: وجوب الرجوع في الحالتين. والله أعلم. فصل: إذا سها الامام في صلاته، لحق سهوه المأموم ويستثنى صورتان. إحداهما: إذا بان الامام محدثا، فلا يسجد لسهوه، ولا يتحمل عن المأموم أيضا. الثانية: أن يعلم سبب سجود الامام، ويتيقن غلطه في ظنه، كما إذا ظن الامام ترك بعض الابعاض، والمأموم يعلم أنه لم يترك، فلا يوافقه إذا سجد. ثم إذا سجد الامام في غير الصورتين، لزم المأموم موافقته فيه. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وسواء عرف المأموم سهو الامام، أم لم يعرفه. فمتى سجد الامام في آخر صلاته سجدتين، وجب على المأموم متابعته، حملا على أنه سها، بخلاف ما لو قام وأتى بركعة خامسة، فإنه لا يتابعه، حملا على أنه ترك ركنا من ركعة، لانه لو تحقق الحال هناك لم يجز متابعته، لان المأموم أتم صلاته يقينا. قلت: ولو كان المأموم مسبوقا بركعة، أو شاكا في ترك ركن كالفاتحة، فقام الامام إلى الخامسة، لم يجز للمأموم متابعته فيها. والله أعلم. ولو لم يسجد الامام إلا سجدة، سجد المأموم أخرى، حملا على أنه نسي. ولو ترك الامام السجود لسهوه، سجد المأموم على الصحيح المنصوص. وخرج قول: أنه لا يسجد. ولو سلم الامام، ثم عاد إلى السجود، نظر، فإن سلم المأموم معه ناسيا، وافقه في السجود. فإن لم يوافقه، ففي بطلان صلاته وجهان بناء على الوجهين فيمن سلم ناسيا للسجود فعاد إليه: هل يعود إلى حكم الصلاة ؟ وإن(1/417)
سلم المأموم عمدا مع علمه بالسهو، لم يلزمه متابعته. ولو لم يسلم المأموم، فعاد الامام ليسجد، فإن عاد بعد أن سجد المأموم للسهو، لم يتابعه، لانه قطع صلاته عن صلاته بالسجود. وإن عاد قبل أن يسجد المأموم، فالاصح: أنه لا يجوز متابعته، بل يسجد منفردا. والثاني: يلزمه متابعته. فإن لم يفعل، بطلت صلاته. ولو سبق الامام حدث بعد ما سها، أتم المأموم صلاته، وسجد للسهو. تفريعا على الصحيح المنصوص. قلت: ولو سها المأموم، ثم سبق الامام حدث، لم يسجد المأموم، لان الامام حمله. وإن قام الامام إلى خامسة ساهيا، فنوى المأموم مفارقته بعد بلوغ الامام في ارتفاعه حد الراكعين، سجد المأموم للسهو. وإن نواها قبله، فلا سجود. والله أعلم. ولو كان الامام حنفيا، وجوزنا الاقتداء به، فسلم قبل أن يسجد للسهو، لم يسلم معه المأموم، بل يسجد قبل السلام، ولا ينتظر سجود الامام، لانه فارقه بسلامه. ولو كان المأموم مسبوقا، وسها الامام بعد ما لحقه، وسجد في آخر صلاته، لزم المسبوق أن يسجد معه على الصحيح المنصوص المعروف. وعلى الشاذ: لا يسجد. فعلى الصحيح: إذا سجد معه، يعيد السجود في آخر صلاة نفسه على الاظهر. فإن لم يسجد الامام، لم يسجد المسبوق في آخر صلاة الامام. وهل يسجد في آخر صلاة نفسه ؟ فيه الخلاف المتقدم في المأموم الموافق، إذا لم يسجد الامام: هل يسجد ؟ أما إذا سها الامام قبل اقتداء المسبوق، فهل يلحق المسبوق حكم سهوه ؟ وجهان. أحدهما: لا. فعلى هذا إن لم يسجد الامام، لم يسجد هو أصلا. وإن سجد، فالاصح: أنه لا يسجد معه. والثاني: يسجد معه، لكن لا يعيده في آخر صلاته. والوجه الثاني وهو الاصح: يلحقه حكم سهوه. فعلى هذا، إن سجد الامام، سجد معه. وهل يعيده في آخر صلاته ؟ فيه القولان. وإن لم يسجد الامام، سجد هو في آخر صلاته على الصحيح المنصوص. وإذا قلنا: المسبوق يعيد السجود في آخر صلاته، فاقتدى به بعد انفراده مسبوق آخر، وبالآخر آخر، فكل واحد منهم يسجد لمتابعته إمامه، ثم يسجد في آخر صلاة نفسه. ولو سها المسبوق في تداركه، فإن قلنا: لا يسجد لسهو الامام في آخر صلاة نفسه، سجد لسهوه سجدتين. وإن قلنا: يسجد لسهو الامام في آخرها، فكم(1/418)
يسجد ؟ وجهان. أصحهما: سجدتان. والثاني: أربع. ولو انفرد المصلي بركعة من رباعية، وسها فيها، ثم اقتدى بمسافر، وجوزنا الاقتداء في أثناء الصلاة، وسها إمامه، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، فكم يسجد في آخر صلاته ؟ فيه أوجه. الاصح. سجدتان. والثاني: أربع. والثالث: ست. فإن كان سجد الامام، فلا بد أن يسجد معه، فيكون قد أتى في صلاته بثمان سجدات للسهو على الوجه الثالث. وكذا المسبوق إذا اقتدى بمسافر، وسها الامام، وسجد معه المسبوق، ثم صار الامام متما قبل أن يسلم، فأتم، وأعاد سجود السهو، وأعاد معه المسبوق، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، وقلنا: يسجد أربع سجدات، فقد أتى بثماني سجدات. فإن سها بعدها بكلام، أو غيره، وفرعنا على أنه إذا سها بعد سجود السهو، يسجد، صارت السجدات عشرا. وقد يزيد عدد السجود على هذا تفريعا على الوجوه الضعيفة. قلت: إذا قلنا: يسجد سجدتين للجميع، فهل هما عن سهوه في انفراده، وسهو إمامه أم عن سهو إمامه فقط، أم عن سهوه فقط ؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها صاحب (البيان). الصحيح المشهور: الاول، فإن قلنا: عن أحدهما فقط، فنوى الآخر عالما، بطلت صلاته. وإن قلنا: عنهما، فنوى أحدهما، لم تبطل، لكنه تارك لسجود الاخير. والله أعلم. فصل في كيفية سجود السهو ومحله: أما كيفيته، فهو سجدتان (1) بينهما جلسة، يسن في هيئتها الافتراش، وبعدهما إلى أن يسلم، يتورك. وكتب الاصحاب ساكتة عن الذكر فيهما (2)، وذلك يشعر بأن المحبوب فيها، هو المحبوب في سجدات صلب الصلاة، كسائر ما سكتوا عنه من واجبات السجود ومحبوباته.(1/419)
وسمعت بعض الائمة يحكي: أنه يستحب أن يقول فيهما: سبحان من لا ينام، ولا يسهو (1). وهذا لائق بالحال. وفي محله ثلاثة أقوال. أظهرها: قبل السلام. والثاني: إن سها بزيادة، سجد بعد السلام، وإن سها بنقص، سجد قبله. والثالث: أنه يتخير، إن شاء قبله، وإن شاء بعده (2). والاول: هو الجديد. والآخران: قديمان. ثم هذا الخلاف في الاجزاء على المذهب. وقيل: في الافضل. ثم إذا قلنا: قبل السلام، فسلم قبل أن يسجد، نظر، فإن سلم عامدا، فوجهان. الاصح: أنه فوت السجود. والثاني: إن قصر الفصل سجد، وإلا، فلا. وإذا سجد، فلا يكون عائدا إلى الصلاة بلا خلاف (3)، بخلاف ما إذا سلم ناسيا وسجد، فإن فيه خلافا، وإن سلم ناسيا، وطال الزمان، فقولان. الجديد الاظهر: لا يسجد. والقديم: يسجد، وإن لم يطل، وتذكر على قرب، فإن بدا له أن لا يسجد، فذاك، والصلاة ماضية على الصحة، وحصل التحلل بالسلام على الصحيح. وفي وجه: يسلم مرة أخرى. وذلك السلام غير معتد به، وإن أراد أن يسجد (4)، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه يسجد. والثاني: لا يسجد. وإذا قلنا بالصحيح هنا، أو بالقديم عند طول الفصل، فسجد، فهل يكون عائدا إلى حكم الصلاة ؟ وجهان. أرجحهما عند صاحب (التهذيب): لا يكون عائدا. وأرجحهما عند الاكثرين: يكون عائدا. وبه قال أبو زيد، وصححه القفال، وإمام الحرمين، والغزالي في (الفتاوى) والروياني، وغيرهم. ويتفرع على الوجهين، مسائل. منها: لو تكلم عامدا، أو أحدث في السجود، بطلت صلاته على الوجه(1/420)
الثاني، ولا تبطل على الاول. ومنها: لو كان السهو في صلاة جمعة، وخرج الوقت وهو في السجود، فاتت الجمعة على الوجه الثاني، دون الاول. ومنها: لو كان مسافرا يقصر، ونوى الاتمام في السجود، لزمه الاتمام على الوجه الثاني، دون الاول. ومنها: هل يكبر للافتتاح ؟ وهل يتشهد (1) ؟ إن قلنا بالوجه الثاني: لم يكبر، ولم يتشهد، وإن قلنا بالاول، كبر، وفي التشهد، وجهان. أصحهما: لا يتشهد. وقال في (التهذيب): والصحيح: أنه يسلم، سواء قلنا بتشهد، أم لا. وأما حد طول الفصل، ففيه الخلاف المتقدم فيمن ترك ركنا ناسيا ثم تذكر بعد السلام أو شك فيه. والاصح: الرجوع إلى العرف. وحاول إمام الحرمين ضبط العرف، فقال: إذا مضى زمن يغلب على الظن، أنه أضرب عن السجود قصدا، أو نسيانا، فهذا طويل، وإلا فقصير. قال: وهذا إذا لم يفارق المجلس، فإن فارق، ثم تذكر على قرب الزمان، ففيه احتمال عندي، لان الزمان قريب، لكن مفارقته المجلس تغلب على الظن الاضراب عن السجود. قال: ولو سلم، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب الزمان، فالظاهر أن الحدث فاصل وإن لم يطل الزمان. وقد نقل قول(1/421)
أنه يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلا. وحكى صاحب (البحر) وجها: أنه يتابع الامام في سجود - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. ومواضع السجدات بينة لا خلاف فيها، إلا التي في (حم السجدة) فالاصح: أنها عقب * (لا يسأمون) (1) *. والثاني: عقب * (إن كنتم إياه تعبدون) (2) *. فرع: يسن السجود للقارئ (3)، والمستمع له (4)، سواء كان القارئ في الصلاة، أم لا. وفي وجه شاذ: لا يسجد المستمع لقراءة من في الصلاة. ويسن للمستمع إلى قراءة المحدث (5)، والصبي، والكافر، على الاصح. وسواء سجد القارئ، أم لم يسجد، يسن للمستمع السجود، لكنه إذا سجد كان آكد. هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الصيدلاني: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ، واختاره إمام الحرمين. وأما الذي لا يستمع، بل يسمع عن غير قصد، ففيه أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستحب له، ولا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع. والثاني: أنه كالمستمع. والثالث: لا يسن له السجود أصلا. أما المصلي، فإن كان منفردا سجد لقراءة نفسه. فلو لم يسجد فركع، ثم بدا له أن يسجد، لم يجز. فلو كان قبل بلوغه حد الراكعين، جاز. ولو هوى لسجود التلاوة، ثم بدا له فرجع، جاز، كما لو قرأ بعض التشهد الاول ولم يتممه، فإنه يجوز. ولو أصغى المنفرد بالصلاة لقراءة قارئ في الصلاة أو غيرها، لم يسجد، لانه ممنوع من الاصغاء، فإن سجد، بطلت صلاته. وإن كان المصلي إماما، فهو كالمنفرد فيما ذكرناه. ولا يكره له قراءة آية لسجدة، لا في الصلاة الجهرية، ولا في(1/422)
السرية. وإذا سجد الامام، سجد المأموم. فلو لم يفعل، بطلت صلاته (1). وإذا لم يسجد الامام، لم يسجد المأموم. ولو فعل، بطلت صلاته. ويحسن القضاء (2) إذا فرغ ولا يتأكد. ولو سجد الامام ولم يعلم المأموم حتى رفع الامام رأسه من السجود، لم يسجد. وإن علم وهو بعد في السجود، سجد. وإن كان المأموم في الهوي، ورفع الامام رأسه، رجع معه ولم يسجد، وكذا الضعيف الذي هوى مع الامام لسجود التلاوة، فرفع الامام رأسه، قبل انتهائه إلى الارض لبطء حركته، يرجع معه، ولا يسجد. أما إذا كان المصلي مأموما، فلا يسجد لقراءة نفسه. بل يكره له قراءة السجدة. ولا يسجد لقراءة غير الامام، بل يكره له الاصغاء إليها. ولو سجد لقراءة نفسه، أو قراءة غير إمامه، بطلت صلاته. فرع: إذا قرأ آيات السجدات في مكان واحد، سجد لكل واحدة، فلو كرر الآية الواحدة في المجلس الواحد، نظر، إن لم يسجد للمرة الاولى، كفاه سجود واحد، وإن سجد للاولى، فثلاثة أوجه. الاصح: يسجد مرة أخرى، لتجدد السبب. والثاني: يكفيه الاولى. والثالث: إن طال الفصل، سجد أخرى، وإلا فتكفيه الاولى. ولو كرر الآية الواحدة في الصلاة، فإن كان في ركعة، فكالمجلس الواحد، وإن كان في ركعتين، فكالمجلسين. ولو قرأ مرة في الصلاة، ومرة خارجها في المجلس الواحد، وسجد للاولى، فلم أر فيه نصا للاصحاب، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه. فصل في شرائط سجود التلاوة وكيفيته أما شروطه، فيفتقر إلى شروط الصلاة، كطهارة الحدث، والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها بلا خلاف. وأما كيفيته، فله حالان. حال في غير الصلاة. وحال فيها. فالاول: ينوي ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه في هذه التكبيرة حذو منكبيه، كما(1/423)
يفعل في تكبيرة الافتتاح في الصلاة، ثم يكبر أخرى للهوي من غير رفع اليد. ثم تكبير الهوي مستحب ليس بشرط. وفي تكبيرة الافتتاح، أوجه. أصحها: أنها شرط. والثاني: مستحبة. والثالث: لا تشرع أصلا. قاله أبو جعفر الترمذي (1). وهو شاذ منكر. قلت: قد قاله أيضا صاحب (التهذيب) و (التتمة) وأنكره إمام الحرمين، وغيره. قال الامام: ولم أر لهذا ذكرا، ولا أصلا. وهذا الذي قاله الامام، هو الاصوب، فلم يذكر جمهور أصحابنا هذا القيام، ولا ثبت فيه شئ مما يحتج به. فالاختيار تركه. والله أعلم. ويستحب أن يقول في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته). وأن يقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود - صلى الله عليه وسلم - (2) (3) ولو قال ما يقول في سجود صلاته، جاز. ثم يرفع رأسه مكبرا، كما يرفع من سجود الصلاة. وهل يشترط السلام ؟ فيه قولان. أظهرهما: يشترط، فعلى هذا في اشتراط التشهد وجهان. الاصح: لا يشترط. ومن الاصحاب من يقول: في اشتراط السلام والتشهد، ثلاثة أوجه. أصحها: يشترط السلام دون التشهد. وإذا قلنا: التشهد ليس بشرط، فهل يستحب ؟ وجهان. حكاهما في (النهاية).(1/424)
قلت: الاصح: لا يستحب. والله أعلم. الحال الثاني: أن يسجد للتلاوة في الصلاة، فلا يكبر للافتتاح، لكن يستحب التكبير للهوي إلى السجود، من غير رفع اليدين، فكذا يكبر عند رفع الرأس كما يفعل في سجدات الصلاة. ولنا وجه شاذ: أنه لا يكبر للهوي، ولا للرفع، قاله ابن أبي هريرة. ويستحب أن يقول في سجوده ما قدمناه. وإذا رفع رأسه قام، ولا يجلس للاستراحة. ويستحب أن يقرأ شيئا، ثم يركع. ولا بد من انتصابه قائما، ثم يركع. فإن الهوي من قيام، واجب. فصل: ينبغي أن يسجد عقب قراءة آية سجدة، أو استماعها. فإن أخر، وقصر الفصل، سجد. وإن طال، فاتت. وهل تقضى ؟ قولان. حكاهما صاحب (التقريب) أظهرهما - وبه قطع الصيدلاني، وآخرون: لا تقضى، لانها لعارض، فأشبهت صلاة الكسوف. وضبط طول الفصل، يؤخذ مما تقدم في سجود السهو. ولو كان القارئ، أو المستمع، محدثا عند التلاوة فإن تطهر على قرب، سجد. وإلا، فالقضاء على الخلاف. ولو كان يصلي، فقرأ قارئ آية سجدة، فإذا فرغ من صلاته، هل يقضي سجود التلاوة ؟ المذهب: أنه لا يقضيه، وبه قطع الشاشي وغيره، واختاره إمام الحرمين، لان قراءة غير إمامه، لا تقتضي سجوده. وإذا لم نجز ما يقتضي السجود أداء، فالقضاء بعيد. وقال صاحب (التقريب): وفيه القولان المتقدمان. وقال صاحب (التهذيب): يحسن أن يقضي ولا يتأكد، كما يجيب المؤذن إذا فرغ من الصلاة. قلت: إذا قرأ السجدة في الصلاة قبل الفاتحة، سجد، بخلاف ما لو قرأها في الركوع، أو السجود، فإنه لا يسجد. ولو قرأ السجدة، فهوى ليسجد، فشك، هل قرأ الفاتحة ؟ فإنه يسجد للتلاوة، ثم يعود إلى القيام، فيقرأ الفاتحة. ولو قرأ خارج الصلاة السجدة بالفارسية، لا يسجد عندنا. وإذا سجد المستمع مع القارئ، لا يرتبط به، ولا ينوي الاقتداء به، وله الرفع من السجود قبله. ولو أراد أن يقرأ آية، أو آيتين فيهما سجدة، ليسجد، فلم أر فيه كلاما لاصحابنا. وفي كراهته خلاف للسلف، أوضحته في كتاب (آداب القرآن) ومقتضى مذهبنا: أنه إن كان(1/425)
في غير الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وفي غير الصلاة، لم يكره. وإن كان في الصلاة، أو في وقت كراهتها، ففيه الوجهان فيمن دخل المسجد في هذه الاوقات لا لغرض سوى صلاة التحية. والاصح: أنه يكره له الصلاة. هذا إذا لم يتعلق بالقراءة المذكورة غرض سوى السجود، فإن تعلق، فلا كراهة مطلقا قطعا، ولو قرأ آية سجدة في الصلاة، فلم يسجد، وسلم، يستحب أن يسجد ما لم يطل الفصل. فإن طال، ففيه الخلاف المتقدم. ولو سجد للتلاوة قبل بلوغ السجدة ولو بحرف، لم يصح سجوده. ولو قرأ بعد السجدة آيات، ثم سجد جاز ما لم يطل الفصل. ولو قرأ سجدة، فسجد، فقرأ في سجوده سجدة أخرى، لا يسجد ثانيا على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: حكاه في (البحر) أنه يسجد. قال صاحب (البحر): إذا قرأ الامام السجدة في صلاة سرية، استحب تأخير السجود إلى فراغه من الصلاة. قال: وقد استحب أصحابنا للخطيب إذا قرأ سجدة، أن يترك السجود لما فيه من كلفة النزول عن المنبر والصعود (1). قال: ولو قرأ السجدة في صلاة الجنازة، لم يسجد فيها. وهل يسجد بعد الفراغ ؟ وجهان. أصحهما: لا يسجد. وأصلهما أن القراءة التي لا تشرع، هل يسجد لتلاوتها ؟ وجهان. والله أعلم. السجدة الثالثة: سجدة الشكر: سجود الشكر سنة عند مفاجأة نعمة (2)، أو(1/426)
اندفاع نقمة (1)، من حيث لا يحتسب، وكذا إذا رأى مبتلى ببلية (2)، أو بمعصية (3). ولا يسن عند استمرار النعم. وإذا سجد لنعمة، أو اندفاع بلية لا تتعلق بغيره، استحب إظهار السجود. وإن سجد لبلية في غيره، وصاحب البلية غير معذور، كالفاسق، أظهر السجود بين يديه لعله يتوب. وإن كان معذورا، كصاحب الزمانة، أخفاه كيلا (4) يتأذى. ويفتقد سجود الشكر إلى شروط الصلاة. وكيفيته ككيفية سجود التلاوة خارج الصلاة. ولا يجوز سجود الشكر في الصلاة بحال. قلت: قال أصحابنا: لو سجد في الصلاة للشكر، بطلت صلاته. فلو قرأ آية سجدة ليسجد بها للشكر، ففي جواز السجود، وجهان. في (الشامل) و (البيان) أصحهما: يحرم، وتبطل صلاته. وهما كالوجهين، فيمن دخل المسجد في وقت النهي ليصلي التحية. والله أعلم. فرع: في جواز سجود الشكر على الراحلة بالايماء (5) وجهان. كالتنفل مضطجعا مع القدرة. ولو سجد للتلاوة على الراحلة، إن كان في صلاة نافلة، جاز قطعا تبعا لها، وإلا، فعلى الوجهين في سجدة الشكر. أصحهما: الجواز فيهما، وبه قطع صاحب (التهذيب) و (العدة) والخلاف فيمن اقتصر على الايماء، فإن كان في مرقد، وأتم السجود، جاز قطعا. وأما الماشي في السفر فيسجد على الارض على الصحيح(1/427)
قلت: قال في (التهذيب): لو تصدق صاحب هذه النعمة أو صلى شكرا، فحسن (1). والله أعلم. فرع: لو خضع إنسان لله تعالى، فتقرب بسجدة من غير سبب، فالاصح: أنه حرام، كالتقرب بركوع مفرد ونحوه. وصححه إمام الحرمين، والغزالي، وغيرهما، وقطع به الشيخ أبو محمد. والثاني: يجوز، قاله صاحب (التقريب) قال: وإذا فاتت سجدة الشكر، ففي قضائها الخلاف في قضاء النوافل الراتبة. وقطع غيره بعدم القضاء. قلت: وسواء في هذا الخلاف في تحريم السجدة، ما يفعل بعد صلاة وغيره. وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين (2)، من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعا بكل حال، سواء كان إلى القبلة، أو غيرها. وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى. والله أعلم.
الباب السابع في صلاة التطوع
اختلف اصطلاح الاصحاب في تطوع الصلاة. فمنهم من يفسره بما لم يرد فيه نقل بخصوصيته، بل ينشؤه الانسان ابتداء. وهؤلاء قالوا: ما عدا الفرائض، ثلاثة أقسام، سنن، وهي التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومستحبات، وهي التي فعلها أحيانا، ولم يواظب عليها. وتطوعات، وهي التي ذكرنا. ومنهم من يرادف بين لفظي النافلة والتطوع، ويطلقهما على ما سوى الفرائض. قلت: ومن أصحابنا من يقول: السنة، والمستحب، والمندوب، والتطوع،(1/428)
والنفل والمرغب فيه، والحسن، كلها بمعنى واحد. وهو ما رجح الشرع فعله على تركه، وجاز تركه (1). والله أعلم. واختلف أصحابنا في الرواتب ما هي ؟ فقيل: هي النوافل الموقتة بوقت مخصوص، وعد منها التراويح، وصلاة العيدين، والضحى. وقيل: هي السنن التابعة للفرائض (2). واعلم أن ما سوى فرائض الصلاة، قسمان. ما يسن له الجماعة كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء. ولها أبواب معروفة، وما لا يسن فيه الجماعة، وهي رواتب مع الفرائض وغيرها، فأما الرواتب، فالوتر وغيره، وأما غير الوتر، فاختلف الاصحاب في عددها، فقال الاكثرون: عشر ركعات، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. ومنهم من نقص ركعتي العشاء. نص عليه في (البويطي) وبه قال الخضري. ومنهم من زاد على العشر ركعتين أخريين قبل الظهر. ومنهم من زاد على هذا أربعا قبل العصر. ومنهم من زاد على هذا آخريين بعد الظهر. فهذه خمسة أوجه لاصحابنا، وليس خلافهم في أصل الاستحباب، بل إن المؤكد من الرواتب ماذا ؟ مع أن الاستحباب يشمل الجميع. ولهذا قال صاحب (المهذب) وجماعة: أدنى الكمال: عشر ركعات، وهو وجه الاول. وأتم الكمال: ثماني عشرة ركعة، وهو الوجه الخامس. وفي استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان.(1/429)
وبالاستحباب قال أبو إسحاق الطوسي (1)، وأبو زكريا السكري (2). قلت: الصحيح، استحبابهما، ففي مواضع من (صحيح البخاري) عن (3) عبد الله (4) بن مغفل (5) رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا قبل صلاة المغرب) قال في الثالثة: لمن شاء. والله أعلم. فصل: الوتر سنة. ويحصل بركعة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وبإحدى عشرة، فهذا أكثره على الاصح. وعلى الثاني: أكثره ثلاث عشرة. ولا يجوز الزيادة على أكثره على الاصح. فإن زاد، لم يصح وتره (6). وإذا زاد على ركعة، فأوتر بثلاث فأكثر موصولة، فالصحيح: أن له أن يتشهد تشهدا واحدا في الاخيرة، وله تشهد آخر في التي قبلها. وفي وجه: لا يجزئ الاقتصار على تشهد واحد. وفي وجه: لا يجوز لمن أوتر بثلاث، أن يتشهد تشهدين(1/430)
بتسليمة. فإن فعل، بطلت صلاته، بل يقتصر على تشهد أو يسلم في التشهدين. وهذان الوجهان منكران، والصواب جواز ذلك كله. ولكن: هل الافضل تشهد ؟ أم تشهدان ؟ فيه أوجه. أرجحها عند الروياني: تشهد. والثاني: تشهدان. والثالث: هما في الفضيلة سواء. أما إذا زاد على تشهدين، وجلس في كل ركعتين، واقتصر على تسليمة في الركعة الاخيرة، فالصحيح: أنه لا يجوز، لانه خلاف المنقول. والثاني: يجوز كنافلة كثيرة الركعات. أما إذا أراد الايتار بثلاث ركعات، فهل الافضل فصلها بسلامين، أم وصلها بسلام. فيه أوجه. أصحها: الفصل أفضل. والثاني: الوصل. والثالث: إن كان منفردا، فالفصل، وإن صلاها بجماعة، فالوصل. والرابع: عكسه. وهل الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة ؟ فيه أوجه. الصحيح: أن الثلاث أفضل. والثاني: الفردة. قال في (النهاية): وغلا هذا القائل فقال: الفردة أفضل من إحدى عشرة ركعة موصولة. والثالث: إن كان منفردا، فالفردة. وإن كان إماما، فالثلاث الموصولة. فرع في وقت الوتر: (في وقت الوتر) وجهان. الصحيح: أنه من حين يصلي العشاء، إلى طلوع الفجر. فإن أوتر قبل فعل العشاء، لم يصح وتره، سواء تعمد، أو سها وظن أنه صلى العشاء، أو صلاها ظانا أنه متطهر، ثم أحدث فتوضأ وصلى الوتر، ثم بان أنه كان محدثا في العشاء، فوتره باطل. والوجه الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء، وله أن يصليه قبلها. ولو صلى العشاء، ثم أوتر بركعة قبل أن يتنفل، صح وتره على الصحيح. وقيل: لا يصح حتى يتقدمه نافلة، فإذا لم يصح وترا، كان تطوعا. كذا قاله إمام الحرمين. وينبغي أن يكون على الخلاف فيمن صلى الظهر قبل الزوال غالطا، هل تبطل صلاته، أم تكون نفلا ؟ والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل. فإن كان لا تهجد له، فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها، ويكون وتره آخر صلاة الليل، وإن كان له تهجد، فالافضل أن يؤخر الوتر، كذا قاله العراقيون. وقال إمام الحرمين، والغزالي: اختار الشافعي رحمه الله، تقديم الوتر. فيجوز أن يحمل(1/431)
نقلهما على من لا يعتاد قيام الليل. ويجوز أن يحمل على اختلاف قول، أو وجه. والامر فيه قريب، وكل شائع. وإذا أوتر قبل أن ينام، ثم قام وتهجد، لم يعد الوتر على الصحيح المعروف. وفي وجه شاذ: يصلي في أول قيامه ركعة يشفعه، ثم يتهجد ما شاء، ثم يوتر ثانيا، ويسمى هذا: نقض الوتر. والصحيح المنصوص في (الام) و (المختصر): أن الوتر يسمى: تهجدا: وقيل: الوتر غير التهجد. فرع: إذا استحببنا الجماعة في التراويح، يستحب الجماعة أيضا في الوتر بعدها. وأما في غير رمضان، فالمذهب: أنه لا يستحب فيه الجماعة. وقيل: في استحبابها، وجهان مطلقا. حكاه أبو الفضل بن عبدان. فرع: يستحب القنوت في الوتر في النصف الاخير من شهر رمضان، فإن أوتر بركعة، قنت فيها، وإن أوتر بأكثر، قنت في الاخيرة. ولنا وجه: أنه يقنت في جميع رمضان، ووجه: أنه يقنت في جميع السنة. قاله أربعة من أئمة أصحابنا: أبو عبد الله الزبيري، وأبو الوليد النيسابوري (1)، وأبو الفضل بن عبدان، (2) وأبو منصور بن مهران (3). والصحيح: اختصاص الاستحباب بالنصف الثاني من رمضان، وبه قال جمهور الاصحاب. وظاهر نص الشافعي رحمه الله، كراهة القنوت في غير هذا النصف. ولو ترك القنوت في موضع نستحبه، سجد للسهو، ولو قنت في غير النصف الاخير من رمضان - وقلنا: لا يستحب - سجد للسهو. وحكى الروياني وجها: أنه يجوز القنوت في جميع السنة بلا كراهة، ولا يسجد(1/432)
للسهو بتركه في غير النصف. قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، واستحسنه. وفي موضع القنوت في الوتر، أوجه، أصحها: بعد الركوع. ونص عليه في سنن حرملة (1). والثاني: قبل الركوع، قاله ابن سريج. والثالث: يتخير بينهما. وإذا قدمه، فالاصح أنه يقنت بلا تكبير. والثاني: يكبر بعد القراءة، ثم يقنت. ولفظ القنوت: هو ما تقدم في قنوت الصبح. واستحب الاصحاب أن يضم إليه قنوت عمر (2) رضي الله عنه: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد (3)، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق (4). اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الايمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم). وهل الافضل أن يقدم قنوت عمر على قنوت الصبح، أم يؤخره ؟ وجهان. قال الروياني: يقدمه، وعليه العمل ونقل القاضي أبو الطيب عن شيوخهم، تأخيره. قلت: الاصح: تأخيره، لان قنوت الصبح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر. وينبغي أن يقول: (اللهم عذب الكفرة) للحاجة إلى التعميم في أزماننا. والله أعلم. قال الروياني: قال ابن القاص: يزيد في القنوت (ربنا لا تؤاخذنا) إلى آخر(1/433)
السورة (1) واستحسنه (2). وحكم الجهر بالقنوت، ورفع اليدين وغيرهما، على ما تقدم في الصبح. ويستحب لمن أوتر بثلاث، أن يقرأ بعد الفاتحة في الاولى: * (سبح) *. وفي الثانية: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثالثة: * (قل هو الله أحد) *. والمعوذتين (3). فصل في النوافل التي يسن فيها الجماعة: اعلم أن أفضل النوافل مطلقا، العيدان (4)، ثم الكسوفان، ثم الاستسقاء (5). وأما التراويح، فإن قلنا: لا يسن فيها الجماعة، فالرواتب أفضل منها، وإن قلنا: يسن فيها، فكذلك على الاصح. والثاني: التراويح أفضل (6). قلت: كسوف الشمس أفضل من خسوف القمر، ذكره الماوردي وغيره. والله أعلم. فصل: ومن التطوع الذي لا يسن له الجماعة، صلاة الضحى. وأقلها: ركعتان، وأفضلها: ثمان، وأكثرها: اثنا عشر، ويسلم من كل ركعتين. ووقتها من حين ترتفع الشمس إلى الاستواء. قلت: قال أصحابنا: وقت الضحى من طلوع الشمس. ويستحب تأخيرها إلى ارتفاعها. قال الماوردي: ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار. والله أعلم. ومنه تحية المسجد بركعتين، ولو صلى الداخل فريضة، أو وردا، أو سنة،(1/434)
ونوى التحية معها، حصلا جميعا. وكذا إن لم ينوها. ويجوز أن يطرد فيه الخلاف المذكور فيمن نوى غسل الجنابة: هل يحصل له الجمعة والعيد إذا لم ينوهما ؟ (1) ولو صلى الداخل على جنازة، أو سجد لتلاوة، أو شكر، أو صلى ركعة واحدة، لم يحصل التحية على الصحيح. قلت: ومن تكرر دخوله المسجد في الساعة الواحدة مرارا. قال المحاملي في كتابه (اللباب): أرجو أن يجزئه التحية مرة. وقال صاحب (التتمة): لو تكرر دخوله، يستحب التحية كل مرة، وهو الاصح. قال المحاملي: وتكره التحية في حالين. أحدهما: إذا دخل والامام في المكتوبة. والثاني: إذا دخل المسجد الحرام، فلا يشتغل بها عن الطواف. ومما يحتاج إلى معرفته، أنه لو جلس في المسجد قبل التحية، وطال الفصل، لم يأت بها كما سيأتي: أنه لا يشرع قضاؤها. وإن لم يطل، فالذي قاله الاصحاب: أنها تفوت بالجلوس، فلا يفعلها. وذكر الامام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات: أنه لو نسي التحية وجلس، فذكر بعد ساعة، صلاها. وهذا غريب. وفي (صحيح البخاري) (2) و (مسلم) ما يؤيده في حديث الداخل يوم الجمعة. والله أعلم. ومنه ركعتا الاحرام، وركعتا الطواف، إذا لم نوجبهما. قلت: ومنه ركعتان عقب الوضوء، ينوي بهما سنة الوضوء. ومنه سنة الجمعة(1/435)
قبلها أربع ركعات، وبعدها أربع. كذا قاله ابن القاص في (المفتاح) وآخرون. ويحصل أيضا بركعتين قبلها، وركعتين بعدها. والعمدة فيما بعدها، حديث (صحيح مسلم) (1) وإذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا) وفي (الصحيحين) (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعدها ركعتين. وأما قبلها، فالعمدة فيه، القياس على الظهر. ويستأنس فيه بحديث (سنن ابن ماجه) (3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي قبلها أربعا. وإسناده ضعيف جدا. ومنه ركعتا الاستخارة. ثبت في (صحيح البخاري) (4). ومنه ركعتا صلاة الحاجة. والله أعلم. فصل: أوكد ما لا تسن له الجماعة: السنن الرواتب. وأفضل الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر. وأفضلهما: الوتر على الجديد الصحيح (5). والقديم: سنة الفجر. وفي وجه: هما سواء. فإذا قلنا بالجديد، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أن سنة الفجر تلي الوتر في الفضيلة. وفي وجه قاله أبو إسحاق: أن صلاة الليل تقدم على سنة الفجر. قلت: هذا الوجه قوي. ففي (صحيح مسلم) (6) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:(1/436)
(أفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل) وفي رواية (الصلاة في جوف الليل). والله أعلم. ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب المذكورة، الضحى. ثم ما يتعلق بفعل، كركعتي الطواف، وركعتي الاحرام، وتحية المسجد (1). فصل: التراويح، عشرون ركعة بعشر تسليمات. قلت: فلو صلى أربعا بتسليمة، لم يصح. ذكره القاضي حسين في (الفتاوى) لانه خلاف المشروع (2). وينوي التراويح، أو قيام رمضان. ولا يصح بنية مطلقة، بل ينوي ركعتين من التراويح في كل تسليمة. والله أعلم. قال الشافعي رحمه الله: ورأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين، منها ثلاث للوتر. قال أصحابنا: ليس لغير أهل المدينة ذلك. والافضل في التراويح الجماعة على الاصح. وقيل: الاظهر، وبه قال الاكثرون. والثاني: الانفراد أفضل. ثم قال العراقيون، والصيدلاني، وغيرهم: الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه. فإن فقد بعض هذا، فالجماعة أفضل قطعا. وأطلق جماعة ثلاثة أوجه، ثالثها: هذا الفرق. ويدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء. فصل: التطوعات التي لا تتعلق بسبب، ولا وقت، لا حصر لاعدادها، ولا لركعات الواحدة منها. فإذا شرع في تطوع، ولم ينو عددا، فله أن يسلم من(1/437)
ركعة، وله أن يسلم من ركعتين فصاعدا. ولو صلى عددا لا يعلمه، ثم سلم، صح. نص عليه في (الاملاء). ولو نوى ركعة، أو عددا قليلا، أو كثيرا، فله ذلك. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجوز أن يزيد على ثلاث عشرة بتسليمة واحدة، وهو غلط. ثم إذا نوى عددا، فله أن يزيد، وله أن ينقص. فمن أحرم بركعة، فله جعلها عشرا. أو بعشر، فله جعلها واحدة، بشرط تغيير النية قبل الزيادة، والنقصان. فلو زاد أو نقص قبل تغير النية عمدا، بطلت صلاته. مثاله: نوى ركعتين، فقام لثالثة بنية الزيادة، جاز. ولو قام قبلها عمدا، بطلت صلاته. وإن قام ناسيا، عاد وسجد للسهو وسلم. فلو بدا له في القيام أن يزيد. فهل يشترط العود إلى القعود ثم يقوم منه، أم له المضي ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. ولو زاد ركعتين سهوا، ثم نوى إكمال أربع، صلى ركعتين أخريين. وما سها به لا يحسب. ولو نوى أربعا، ثم غير نيته، وسلم عن ركعتين، جاز. ولو سلم قبل تغيير النية عمدا، بطلت صلاته. وإن سلم ساهيا، أتم أربعا، وسجد للسهو. فلو أراد بعد السلام أن يقتصر على الركعتين، سجد للسهو وسلم ثانيا، فإن سلامه الاول غير محسوب. ثم إن تطوع بركعة، فلا بد من التشهد. وإن زاد على ركعة، فله أن يقتصر على تشهد في آخر صلاته. وهذا التشهد ركن. وله أن يتشهد في كل ركعتين، كما في الفرائض الرباعية. فإن كان العدد وترا، فلا بد من التشهد في الاخيرة أيضا. وهل له أن يتشهد في كل ركعة ؟ قال إمام الحرمين: فيه احتمال، والظاهر جوازه. واعلم أن تجويز التشهد في كل ركعة، لم يذكره غير الامام، والغزالي. وفي كلام كثير من الاصحاب ما يقتضي منعه. قلت: (الصحيح المختار)، منعه، فإنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها. والله أعلم. وأما الاقتصار على تشهد في آخر الصلاة، فلا خلاف في جوازه. وأما التشهد في كل ركعتين، فذكره العراقيون وغيرهم، وقالوا: هو الافضل، وإن جاز الاقتصار على تشهد. وذكر صاحب (التتمة)، و (التهذيب) وجماعة: أنه لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال. ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من الركعتين، إن كان(1/438)
العدد شفعا وإن كان وترا، لم يجز بينهما أكثر من ركعة. والمذهب: جواز الزيادة كما قدمناه. وحكى صاحب (البيان) وجها: أنه لا يجلس إلا في آخر الصلاة، وهو شاذ منكر. ثم إن صلى بتشهد، قرأ السورة في الركعات كلها، وإن صلى بتشهدين، فهل يقرأ فيما بعد التشهد الاول ؟ فيه القولان في الفرائض، والافضل: أن يسلم من كل ركعتين، سواء كان بالليل أو بالنهار (1). ولو نوى صلاة تطوع، ولم ينو ركعة، ولا ركعتان (2)، فهل يجوز الاقتصار على ركعة ؟ قال صاحب (التتمة): فيه وجهان، بناء على ما لو نذر صلاة مطلقة، هل يخرج عن نذره بركعة، أم لا بد من ركعتين ؟ وينبغي أن يقطع بالجواز. قلت: إنما ذكر صاحب (التتمة) الوجهين في أنه: هل يكره الاقتصار على ركعة، أم لا يكره ؟ وجزم بالجواز، كما جزم به سائر الاصحاب. والله أعلم. فصل في أوقات النوافل الراتبة: وهي ضربان: أحدهما: راتبة تسبق الفريضة فيدخل وقتها بدخول وقت الفريضة، ويبقى جوازها ما بقي وقت الفريضة. ووقت اختيارها ما قبل الفريضة. ولنا وجه شاذ: أن سنة الصبح يبقى وقت أدائها إلى زوال الشمس. الضرب الثاني: الرواتب التي بعد الفريضة، ويدخل وقتها بفعل الفريضة، ويخرج بخروج وقتها. ولنا قول شاذ: أن الوتر يبقى أداء إلى أن يصلي الصبح. والمشهور: أنه يخرج بطلوع الفجر. فرع: النافلة قسمان. أحدهما: غير مؤقتة، وإنما تفعل لسبب عارض، كصلاة الكسوفين، والاستسقاء، وتحية المسجد. وهذا لا مدخل للقضاء فيه. والثاني: مؤقتة، كالعيد، والضحى، والرواتب التابعة للفرائض. وفي قضائها أقوال. وأظهرها: تقضى. والثاني: لا. والثالث: ما استقل، كالعيد،(1/439)
والضحى، قضي. وما كان تبعا كالرواتب، فلا. وإذا قلنا: تقضى، فالمشهور أنها تقضى أبدا. والثاني: تقضى صلاة النهار. ما لم تغرب شمسه، وفائت الليل ما لم يطلع فجره. فيقضي ركعتي الفجر ما دام النهار باقيا. والثالث: يقضي كل تابع ما لم يصل فريضة مستقبلة، فيقضي الوتر ما لم يصل الصبح، ويقضي سنة الصبح ما لم يصل الظهر، والباقي على هذا المثال. وقيل: على هذا الاعتبار، بدخول وقت المستقبلة، لا بفعلها. قلت: يستحب عندنا فعل الرواتب، في السفر، كالحضر. والسنة: أن يضطجع بعد سنة الفجر قبل الفريضة. فإن لم يفعل، فصل بينهما، لحديث [ عن عائشة رضي الله عنها ] (1)، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا صلى سنة الفجر، فإن كنت مستيقظة، حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة) رواه البخاري (2). والسنة، أن يخفف السورة فيهما. ففي (صحيح مسلم) (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ في الاولى بعد الفاتحة، * (قولوا آمنا بالله...) * (4). الآيات. وفي الثانية: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا...) * (5).(1/440)
وفي رواية (1): أنه قرأ في الاولى: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثانية: * (قل هو الله أحد) * فكلاهما سنة. ونص في (البويطي) على الثانية. وفي سنة المغرب: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. وكذا في ركعتي الاستخارة، وتحية المسجد. وتطوع الليل، أفضل من تطوع النهار (2). فإن أراد أحد نصفي الليل، فالنصف الثاني أفضل، وإن أراد أحد الثلاثه، (3) فالاوسط وأفضل منه السدس الرابع، والخامس. ثبت ذلك في (الصحيحين) (4). ويكره قيام الليل كله دائما، وينبغي أن لا يخل بصلاة في الليل وإن قلت. والنفل في البيت أفضل من المسجد (5)، كما قدمناه.(1/441)
ويستحب لمن قام لتهجد، أن يوقظ له من يطمع بتهجده إذا لم يخف ضررا. ويستحب المحافظة على الركعتين في المسجد، إذا قدم من سفر، للاحاديث الصحيحة في كل ذلك. والله أعلم.(1/442)
كتاب صلاة الجماعة (1)
اعلم أن أركان الصلاة وشروطها، لا تختلف بالجماعة، والانفراد، لكن الجماعة أفضل. فالجماعة فرض عين في الجمعة، وأما في غيرها من المكتوبات، ففيها أوجه. الاصح: أنها فرض كفاية (2). والثاني: سنة. والثالث: فرض عين قاله من أصحابنا، ابن المنذر، وابن خزيمة. وقيل: إنه قول للشافعي رحمه الله. فإن قلنا: فرض كفاية، فإن امتنع أهل قرية من إقامتها، قاتلهم الامام، ولم يسقط الحرج، إلا إذا أقاموها، بحيث يظهر هذا الشعار بينهم. ففي القرية الصغيرة يكفي إقامتها في موضع، وفي الكبيرة، والبلاد، تقام في المحال. فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت، قال أبو إسحاق: لا يسقط الفرض. وخالفه بعضهم، إذا ظهرت في الاسواق (3). وإن قلنا: إنها سنة فتركوها، لم يقاتلوا على الاصح.(1/443)
قلت: قول أبي إسحاق أصح. ولو أقام الجماعة طائفة يسيرة من أهل البلد، وأظهروها في كل البلد، ولم يحضرها جمهور المقيمين بالبلد، حصلت الجماعة، ولا إثم على المتخلفين. كما إذا صلى على الجنازة طائفة يسيرة. وأما أهل البوادي، فقال إمام الحرمين: عندي فيهم نظر، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين. قال: ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذا إذا قل عدد ساكني قرية (1). هذا كلام الامام. والمختار أن أهل البوادي الساكنين، كأهل القرية، للحديث الصحيح (2) ما من ثلاثة في قرية، أو بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان). والله أعلم. هذا حكم الرجال. وأما النساء، فلا تفرض عليهن الجماعة، لا فرض عين، ولا كفاية. ولكن يستحب لهن. ثم فيه وجهان. أحدهما: كاستحبابها للرجال. وأصحهما: لا يتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال. فلا يكره لهن تركها، ويكره تركها للرجال، مع قولنا: هي لهم سنة. والمستحب أن تقف إمامتهن (3) وسطهن، وجماعتهن في البيوت أفضل. فإن أردن حضور المسجد مع الرجال، كره للشواب، دون العجائز. وإمامة الرجال لهن، أفضل من إمامة النساء، لكن لا(1/444)
يجوز أن يخلو بهن غير محرم (1). قلت: الخلاف في كون الجماعة فرض كفاية، أم عين، أم سنة، هو في المكتوبات المؤديات، أما المنذورة، فلا يشرع فيها الجماعة. وقد ذكره الرافعي في أثناء كلامه في باب الاذان، في مسألة، لا يؤذن لمنذورة. وأما المقضية، فليست الجماعة فيها فرض عين، ولا كفاية قطعا، ولكنها سنة قطعا. وفي الصحيح (2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه الصبح جماعة حين فاتتهم بالوادي. وأما القضاء خلف الاداء وعكسه، فجائز عندنا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. لكن الاولى الانفراد للخروج من خلاف العلماء. وأما النوافل، فقد سبق في باب صلاة التطوع ما يشرع فيه الجماعة، منها، وما لا يشرع. ومعنى قولهم: لا يشرع، لا تستحب فلو صلى هذا النوع جماعة جاز، ولا يقال مكروه، فقد تظاهرت الاحاديث الصحيحة على ذلك. والله أعلم. فصل: إذا صلى الرجل في بيته برفيقه، أو زوجته، أو ولده، حاز فضيلة الجماعة، لكنها في المسجد أفضل. وحيث كان الجمع من المساجد أكثر، فهو أفضل. ولو كان بقربه مسجد قليل الجمع، وبالبعد مسجد كثير الجمع، فالبعيد أفضل، إلا في حالتين. إحداهما: أن تتعطل جماعة القريب بعدوله عنه، لكونه إماما، أو يحضر الناس بحضوره، فالقريب أفضل. والثاني: أن يكون إمام البعيد مبتدعا، كالمعتزلي (3) وغيره، قال المحاملي وغيره: وكذا لو كان الامام حنفيا (4)،(1/445)
لانه لا يعتقد وجوب بعض الاركان، بل قال أبو إسحاق: الصلاة منفردا أفضل من الصلاة خلف الحنفي وهذا تفريع على صحة الصلاة خلف الحنفي (1). ولنا وجه: أن رعاية مسجد الجوار، أفضل بكل حال. فرع: إذا أدرك المسبوق الامام قبل السلام، أدرك فضيلة الجماعة على الصحيح الذي قطع به الجمهور (2). وقال الغزالي: لا يدرك إلا بإدراك ركعة. وهو شاذ ضعيف. فرع: يستحب المحافظة على إدراك التكبيرة الاولى مع الامام. وفيما يدركها به، أوجه. أصحها: بأن يشهد تكبيرة الامام، ويشتغل عقبها بعقد صلاته. فإن أخر لم يدركها. والثاني: بأن يدرك الركوع الاول. والثالث: أن يدرك شيئا من القيام. والرابع: أن يشغله أمر دنيوي لم يدرك بالركوع. وإن منعه عذر، أو سبب(1/446)
للصلاة، كالطهارة أدرك به. قلت: وذكر القاضي حسين وجها خامسا: أنه يدركها ما لم يشرع الامام في الفاتحة. قال الغزالي في (البسيط) في الوجه الثاني: والثالث، هما فيمن لم يحضر إحرام الامام، فأما من حضر وأخر، فقد فاتته فضيلة التكبيرة، وإن أدرك الركعة. والله أعلم. ولو خاف فوت هذه التكبيرة (1)، فقد قال أبو إسحاق: يستحب أن يسرع، ليدركها، والصحيح الذي قطع به الجماهير: أنه لا يسرع، بل يمشي بسكينة، كما لو لم يخف فوتها. فصل: يستحب للامام أن يخفف الصلاة من غير ترك الابعاض، والهيئات. فإن رضي القوم بالتطويل (2)، وكانوا منحصرين، لا يدخل فيهم غيرهم، فلا بأس بالتطويل. ولو طول الامام، فله أحوال. منها: أن يصلي في مسجد سوق، أو محلة، فيطول، ليلحق آخرون تكثر بهم الجماعة، فهذا مكروه. ومنها: أن يؤم في مسجد يحضره رجل شريف، فيطول ليلحق الشريف، فيكره أيضا. ومنها: أن يحس في صلاته بمجئ رجل يريد الاقتداء به. فإن كان الامام(1/447)
راكعا، فهل ينتظره ليدرك الركوع ؟ فيه قولان: أظهرهما عند إمام الحرمين، وآخرين: لا ينتظره، والثاني: ينتظره بشرط أن لا يفحش التطويل، وأن يكون المسبوق داخل المسجد حين الانتظار. فإن كان خارجه لم ينتظره قطعا وبشرط أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، فإن قصد التودد واستمالته، فلا ينتظره قطعا. وهذا معنى قولهم: لا يميز بين داخل وداخل. وقيل: إن عرف الداخل بعينه، لم ينتظره، وإلا انتظره. وقيل: إن كان ملازما للجماعة، انتظره، وإلا فلا. واختلفوا في كيفية القولين. فقال معظم الاصحاب: ليس القولان في استحباب الانتظار، بل أحدهما: يكره، وأظهرهما: لا يكره. وقيل: أحدهما، يستحب. والثاني: لا يستحب. وقيل: أحدهما يستحب. والثاني: يكره. وقيل: لا ينتظره قولا واحدا. وإنما القولان في الانتظار في القيام. وقيل: إن لم يضر الانتظار بالمأمومين، ولم يشق عليهم، انتظر قطعا، وإلا ففيه القولان. وحيث قلنا: لا ينتظر، فانتظر، لم تبطل صلاته على المذهب. وقيل: في بطلانها قولان. ولو أحس بالداخل في التشهد الاخير، فهو كالركوع. وإن أحس به في سائر الاركان كالقيام والسجود، وغيرهما، لم ينتظره على المذهب الذي قطع به الجمهور. وقيل: هو كالركوع. وقيل: القيام، كالركوع، دون غيره. وحيث قلنا: لا ينتظر، ففي البطلان ما سبق (1). قلت: المذهب أنه يستحب انتظاره في الركوع والتشهد الاخير بالشروط المذكورة، ويكره في غيرهما. والله أعلم. فصل: من صلى صلاة من الخمس منفردا ثم أدرك جماعة يصلونها، استحب أن يعيدها معهم. ولنا وجه شاذ منكر: أنه يعيد الظهر والعشاء فقط. ووجه: يعيدهما مع المغرب. ولو صلى جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالاصح(1/448)
عند جماهير الاصحاب: يستحب الاعادة كالمنفرد. والثاني: لا. فعلى هذا تكره إعادة الصبح والعصر دون غيرهما. والثالث: إن كان في الجماعة الثانية زيادة فضيلة لكون الامام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان أشرف، استحب الاعادة وإلا فلا. والرابع: يستحب إعادة ما عدا الصبح والعصر. وإذا استحببنا الاعادة لمن صلى منفردا، أو جماعة، ففي فرضه قولان، ووجهان (1). أظهر القولين وهو الجديد: فرضه الاولى. والقديم: فرضه إحداهما لا بعينها. والله تعالى يحتسب بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما. وأحد الوجهين كلاهما فرض. والثاني: إن صلى منفردا، فالفرض الثانية لكمالها. ثم إن فرعنا على غير الجديد، نوى الفرض في المرة الثانية. وإن كانت الصلاة مغربا أعادها كالمرة الاولى. وإن فرعنا على الجديد، فوجهان. الاصح الذي قاله الاكثرون: ينوي بها الفرض أيضا. والثاني: اختاره إمام الحرمين: ينوي الظهر والعصر. ولا يتعرض للفرض فإن كانت الصلاة مغربا. فالصحيح: أنه يعيدها كالمرة الاولى (2). والثاني: يستحب أن يقوم إلى ركعة أخرى إذا سلم الامام. قلت: الراجح: اختيار إمام الحرمين. ويستحب لمن صلى إذا رأى من يصلي تلك الفريضة وحده، أن يصليها معه ليحصل له فضيلة الجماعة. والله أعلم.
فصل : لا رخصة في ترك الجماعة، سواء قلنا سنة، أو فرض كفاية إلا من عذر عام، أو خاص، فمن العام: المطر ليلا كان أو نهارا (3). ومنه الريح العاصفة(1/449)
في الليل دون النهار. وبعض الاصحاب يقول: الريح العاصفة في الليلة المظلمة، وليس ذلك على سبيل اشتراط الظلمة. ومنه الوحل الشديد وسيأتي في الجمعة إن شاء الله تعالى. ومنه، السموم، وشدة الحر في الظهر. فإن أقاموا الجماعة ولم يبردوا، أو أبردوا، أو بقي الحر الشديد، فله التخلف عن الجماعة. ومنه شدة البرد سواء في الليل والنهار. ومن الاعذار الخاصة: المرض، ولا يشترط بلوغه حدا يسقط القيام في الفريضة، بل يعتبر أن يلحقه مشقة كمشقة الماشي في المطر. ومنها: أن يكون ممرضا، ويأتي تفصيله في (الجمعة) إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يخاف على نفسه، أو ماله، أو على من يلزمه الذب عنه من سلطان، أو غيره، ممن يظلمه، أو يخاف من غريم يحبسه، أو يلازمه وهو معسر، فله التخلف. ولا عبرة بالخوف ممن يطالبه بحق هو ظالم في منعه، بل عليه الحضور ويوفيه ذلك الحق. ويدخل في الخوف على المال، ما إذا كان خبزه في التنور، أو قدره على النار، وليس هناك من يتعهدهما. ومنها: أن يكون عليه قصاص لو ظفر به المستحق لقتله، وكان يرجو العفو مجانا، أو على مال لو غيب وجهه أياما، فله التخلف بذلك. وفي معناه حد القذف دون حد الزنا، وما لا يقبل العفو. واستشكل إمام الحرمين جواز التغيب لمن عليه قصاص. ومنها: أن يدافع أحد الاخبثين، أو الريح (1). وتكره الصلاة في هذه الحال، بل يستحب أن يفرغ نفسه، ثم يصلي وإن فاتت الجماعة. فلو خاف فوت الوقت، فوجهان. أصحهما: يقدم الصلاة. والثاني: الاولى أن يقضي حاجته، وإن فات الوقت، ثم يقضي. ولنا وجه شاذ: أنه إذا ضاق عليه الامر بالمدافعة، وسلبت خشوعه، بطلت صلاته. قاله الشيخ أبو زيد، والقاضي حسين.(1/450)
ومنها: أن يكون به جوع، أو عطش شديد، وحضر الطعام والشراب، وتاقت نفسه إليه، فيبدأ بالاكل والشرب. قال الاصحاب: وليس المراد أن يستوفي الشبع، بل يأكل لقما يكسر حدة جوعه. إلا أن يكون الطعام مما يؤتى عليه مرة واحدة، كالسويق، واللبن. فإن خاف فوت الوقت لو اشتغل، فوجهان، كمدافعة الاخبثين. ومنها: أن يكون عاريا لا لباس (1) له، فيعذر في التخلف، سواء وجد ما يستر العورة، أم لا. ومنها: أن يريد السفر وترتحل الرفقة. ومنها: أن يكون ناشد ضالة يرجو الظفر، إن ترك الجماعة، أو وجد من غصب ماله، وأراد استرداده منه. ومنها: أن يكون أكل بصلا، أو كراثا (2)، أو نحوهما، ولم يمكنه إزالة الرائحة بغسل ومعالجة، فإن كان مطبوخا فلا. ومنها: غلبة النوم (3). قلت: أما الثلج، فإن بل الثوب فعذر، وإلا، فلا. قال في (الحاوي): والزلزلة عذر. والله أعلم.(1/451)
باب صفة الأئمة
صفة الائمة ضربان، مشروطة، ومستحبة. فأما المشروطة، فصلاة الامام تارة تكون باطلة في اعتقاد الامام والمأموم، وتارة تكون صحيحة. فالاول كصلاة المحدث، والجنب، ومن على ثوبه نجاسة، ونحو ذلك، فلا يجوز لمن علم حاله الاقتداء به، وكذلك الكافر لا يجوز الاقتداء به. ولو صلى، لم يصر بالصلاة مسلما على المشهور. والثاني: إذا صلى في دار الحرب، صار مسلما. هذا إذا لم يسمع منه كلمتا الشهادتين، فإن سمعتا، حكم بإسلامه على الصحيح (1). فأما إذا كانت صلاة الامام صحيحة في اعتقاده دون اعتقاد المأموم، أو بالعكس، فله صورتان. إحداهما: أن يكون ذلك لاختلافهما في الفروع الاجتهادية. بأن مس الحنفي فرجه، وصلى، ولم يتوضأ، أو ترك الاعتدال، أو الطمأنينة، أو قرأ غير الفاتحة، ففي صحة صلاة الشافعي خلفه، وجهان. قال القفال: يصح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح. وهذا هو الاصح عند الاكثرين. وبه قطع الروياني في (الحلية) والغزالي في (الفتاوى). ولو صلى على وجه لا يصححه، والشافعي يصححه، بأن احتجم، وصلى، فعند القفال: لا يصح اقتداء الشافعي به. وعند أبي حامد: يصح، اعتبارا باعتقاد المأموم. وقال الاودني (2)، والحليمي من أصحابنا: إذا أم ولي الامر، أو نائبه فترك البسملة. والمأموم يرى وجوبها، صحت صلاته خلفه عالما كان، أو عاميا، وليس له المفارقة لما فيه من الفتنة، وهذا حسن. أما إذا حافظ الحنفي على جميع ما يعتقد الشافعي وجوبه، واشتراطه، فيصح اقتداء الشافعي به على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: لا يصح. ولو شك، هل أتى بالواجبات، أم لا ؟ فالاصح: أنه كما(1/452)
إذا علم إتيانه بها. والثاني: أنه كما إذا علم تركها، فالحاصل في اقتداء الشافعي بالحنفي، أربعة أوجه. أحدها: الصحة. والثاني: البطلان. والاصح: إن حافظ على الواجبات، أو شككنا، صح. وإلا، فلا. والرابع: إن حافظ، صح. وإلا، فلا. ولو اقتدى الحنفي بالشافعي، فصلى الشافعي على وجه يصح عنده، ولا يصح عند الحنفي، بأن احتجم، ففي صحة اقتدائه الخلاف. وإذا صححنا اقتداء أحدهما بالآخر، فصلى الشافعي الصبح خلف حنفي، ومكث الحنفي بعد الركوع قليلا، وأمكنه أن يقنت فيه، فعل، وإلا تابعه. ويسجد للسهو، إن اعتبرنا اعتقاد المأموم، وإن اعتبرنا اعتقاد الامام، فلا. ولو صلى الحنفي خلف الشافعي الصبح، فترك الامام القنوت ساهيا، وسجد للسهو، تابعه المأموم، وإن ترك الامام سجود السهو، سجد المأموم إن اعتبرنا اعتقاد الامام، وإلا، فلا. الصورة الثانية: أن لا يكون لاختلافهما في الفروع، فلا يجوز لمن يعتقد بطلان صلاة غيره أن يقتدي به، كرجلين اختلف اجتهادهما في القبلة، أو في إناءين: طاهر، ونجس، فلو كثرت الآنية والمجتهدون، واختلفوا بأن كانت ثلاثة: طاهران، ونجس، فظن كل رجل طهارة واحد فحسب، وأم كل واحد في صلاة فثلاثة أوجه، الصحيح: قول ابن الحداد والاكثرين: تصح لكل واحد ما أم فيه، والاقتداء الاول يبطل الثاني. والثاني: قول صاحب (التلخيص): لا يصح الاقتداء أصلا. والثالث: قول أبي إسحاق المروزي: يصح الاقتداء الاول إن اقتصر عليه. فإن اقتدى ثانيا، لزمه إعادتهما. أما إذا ظن طهارة اثنين، فيصح اقتداؤه مستعمل المظنون طهارته بلا خلاف. ولا يصح بالثالث بلا خلاف. ولو كانت الآنية خمسة، والنجس منها واحد، فظن كل واحد طهارة واحد، ولم يظن شيئا من الاربعة، وأم كل واحد في صلاة، فعند صاحب (التلخيص) والمروزي: يجب عليهم إعادة ما اقتدوا به. وعند ابن الحداد: يجب إعادة الاقتداء الاخير فقط. وقال بعض الاصحاب: هذه الاوجه إنما هي فيما إذا سمع صوت من خمسة أنفس وتناكروه. فأما الآنية: فلا تبطل إلا الاقتداء الاخير بلا خلاف. ولو كان النجس من الآنية الخمسة اثنين، صحت صلاة كل واحد منهم خلف اثنين، وبطلت خلف اثنين. ولو كان النجس ثلاثة، صحت خلف واحد فحسب. هذا قول ابن الحداد، ولا يخفى قول الآخرين.(1/453)
الحال الثاني: أن تكون صلاة الامام صحيحة في اعتقاد الامام والمأموم، فتارة يغني عن القضاء، وتارة لا يغني. فإن لم تغن كمن لم يجد ماء ولا ترابا، لم يجز الاقتداء به للمتوضئ ولا للمتيمم الذي لا يقضي. وهل يجوز لمن هو في مثل حاله ؟ وجهان. الصحيح: لا. ومثله: المقيم المتيمم لعدم الماء، ومن أمكنه أن يتعلم الفاتحة فلم يتعلم ثم صلى لحرمة الوقت، والعاري، والمربوط على خشبة إذا أوجبنا عليهم الاعادة. وإن أغنت عن القضاء. فإن كان مأموما، لم يصح الاقتداء به. ولو رأى رجلين يصليان جماعة، وشك أيهما الامام، لم يجز الاقتداء بواحد منهما حتى يتبين الامام. ولو اعتقد كل واحد من المصلين أنه مأموم، لم تصح صلاتهما. وإن اعتقد أنه إمام، صحت. ولو شك كل واحد أنه إمام، أم مأموم، بطلت صلاتهما. وإن شك أحدهما، بطلت صلاته. وأما الآخر، فإن ظن أنه إمام صحت، وإلا، فلا. وإن كان غير مأموم، فتارة يخل بالقراءة، وتارة لا يخل، فإن أخل بأن كان أميا، ففي صحة اقتداء القارئ به، ثلاثة أقوال. الجديد الاظهر: لا تصح. والقديم: إن كانت سرية، صح، وإلا فلا. والثالث: مخرج أنه يصح مطلقا. هكذا نقل الجمهور. وأنكر بعضهم الثالث، وعكس الغزالي، فجعل الثاني ثالثا، والثالث ثانيا، والصواب: الاول. قلت: هذه الاقوال جارية سواء علم المأموم كون الامام أميا، أم لا هكذا قاله الشيخ أبو حامد، وغيره. وهو مقتضى اطلاق الجمهور. وقال صاحب (الحاوي): الاقوال إذا لم يعلم كونه أميا، فإن علم لم يصقطعا، والصحيح أنه لا فرق. والله أعلم. والمراد بالامي: من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، لخرس أو غيره، فيدخل فيه الارت (1). وهو الذي يدغم (2) حرفا بحرف في غير موضع الادغام (3). وقال في (التهذيب): هو الذي يبدل الراء بالتاء. والالثغ: وهو الذي يبدل حرفا بحرف،(1/454)
كالسين بالثاء، والراء بالغين، ومن في لسانه رخاوة تمنعه التشديد. واعلم أن الخلاف المذكور في اقتداء القارئ بالامي هو فيمن لم يطاوعه لسانه، أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن التعلم فيه. فأما إذا مضى زمن وقصر بترك التعلم، فلا يصح الاقتداء به بلا خلاف، لان صلاته حينئذ مقضية، كصلاة من لم يجد ماء ولا ترابا. ويصح اقتداء أمي بأمي مثله. ولو حضر رجلان، كل واحد منهما يحسن بعض الفاتحة إن كان ما يحسنه ذا، يحسنه ذاك، جاز اقتداء كل واحد بصاحبه، وإن أحسن كل واحد غير ما يحسنه الآخر، فاقتداء أحدهما بالآخر، كاقتداء القارئ بالامي. وعليه يخرج الارت بالالثغ، وعكسه لان كل واحد قارئ ما لا يحسنه صاحبه. وتكره إمام التمتام، والفأفاء، والاقتداء يصح بهما. قلت: التمتام، من يكرر التاء (1)، والفأفاء (2)، من يكرر الفاء، ويتردد فيها، وهو بهمزتين بعد الفاءين، بالمد في آخره. والله أعلم. وتكره إمامة من يلحن في القراءة ثم ينظر: إن كان لحنا لا يغير المعنى كرفع الهاء من الحمد لله، صحت صلاته، وصلاة من اقتدى به. وإن كان يغير، كضم تاء أنعمت عليهم، أو كسرها، تبطله. كقوله: الصراط المستقين. فإن كان يطاوعه لسانه، ويمكنه التعلم، لزمه ذلك. فإن قصر، وضاق الوقت، صلى وقضى، ولا يجوز الاقتداء به. وإن لم يطاوعه لسانه، أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه، فإن كان في الفاتحة، فصلاة مثله خلفه صحيحة، وصلاة صحيح اللسان خلفه، صلاة قارئ خلف أمي. وإن كان في غير الفاتحة، صحت صلاته، وصلاة من خلفه قال إمام الحرمين: ولو قيل: ليس لهذا اللاحن قراءة غير الفاتحة مما يلحن فيه، لم يكن بعيدا، لانه يتكلم بما ليس بقرآن بلا ضرورة، أما إذا لم يخل الامام بالقراءة فإن كان رجلا، صح اقتداء الرجال والنساء به، وإن كانت امرأة، صح اقتداء النساء بها، ولم يصح اقتداء الرجال، ولا الخنثى. وإن كان خنثى، جاز اقتداء المرأة به. ولا يجوز اقتداء الرجل ولا خنثى آخر به.(1/455)
فرع: حيث حكمنا بصحة الاقتداء فلا بأس أن يكون الامام متيمما، أو ماسح خف، والمأموم متوضئا غاسلا رجله. ويجوز اقتداء السليم بسلس البول، والطاهرة بالمستحاضة غير المتحيرة على الاصح. كما يجوز قطعا بمن استنجى بالاحجار، ومن على ثوبه، أو بدنه نجاسة معفو عنها. ويصح صلاة القائم خلف القاعد، أو القائم والقاعد خلف المضطجع. فرع: جميع ما تقدم فيما إذا عرف المأموم حال الامام في الصفات المشروطة وجودا وعدما. فأما إذا ظن شيئا، فبان خلافه، فله صور. منها: إذا اقتدى رجل بخنثى مشكل، وجب القضاء، فلو لم يقض حتى بان الخنثى رجلا، لم يسقط القضاء على الاظهر. ويجري القولان فيما إذا اقتدى خنثى بامرأة، ولم يقض حتى بان امرأة، وفيما إذا اقتدى خنثى بخنثى، ولم يقض المأموم حتى بان امرأة والامام رجلا (1). ومنها: لو اقتدى بمن ظنه متطهرا، فبان بعد الصلاة محدثا أو جنبا، فلا قضاء على المأموم. ولنا قول: إن كان الامام عالما بحدثه، لزم المأموم القضاء وإلا، فلا. والمشهور المعروف الذي قطع به الاصحاب: أن لا قضاء مطلقا. قلت: هذا القول الشاذ نقله صاحب (التلخيص) قال القفال في شرح (التلخيص) قال أصحابنا: هذا النقل غلط. ولا يختلف مذهب الشافعي، أنه لا إعادة على المأموم مطلقا، وإنما حكى الشافعي مذهب مالك: أنه تجب الاعادة إن(1/456)
تعمد الامام، وليس مذهبا له. والصواب: إثبات القول كما نقله صاحب (التلخيص) وقد نص عليه الشافعي في (البويطي). والله أعلم. هذا إذا لم يعرف المأموم حدث الامام أصلا. فإن علم ولم يتفرقا، ولم يتوضأ ثم اقتدى به ناسيا، وجبت الاعادة قطعا. وهذا كله في غير صلاة الجمعة. فإن كان فيها، ففيه كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى. ومنها: لو اقتدى بمن ظنه قارئا فبان أميا، وقلنا: لا تصح صلاة القارئ خلف الامي، ففي الاعادة وجهان. أصحهما: تجب. قطع به في (التهذيب)، وهو مقتضى كلام الاكثرين، سواء كانت الصلاة سرية، أو جهرية. ولو اقتدى بمن لا يعرف حاله في جهرية، فلم يجهر، وجبت الاعادة. نص عليه في (الام) وقاله العراقيون، لان الظاهر أنه لو كان قارئا لجهر. فلو سلم وقال: أسررت ونسيت الجهر، لم تجب الاعادة، لكن تستحب (1). ولو بان في أثناء الصلاة ذكورة الخنثى، ففي بطلان صلاة المأموم الرجل، القولان، كما بعد الفراغ. ولو بان في أثنائها كونه جنبا، أو محدثا، فلا قضاء ويجب أن ينوي المفارقة في الحال، ويبني. ولو بان أميا، وقلنا: لا تجب الاعادة، فكالمحدث وإلا، فكالخنثى. ومنها لو اقتدى بمن ظنه رجلا، فبان امرأة، أو خنثى، وجبت الاعادة. وقيل: لا تجب إذا بان خنثى وهو شاذ. ولو ظنه مسلما، فبان كافرا يتظاهر بكفره كاليهودي، وجب القضاء. وإن كان يخفيه ويظهر الاسلام، كالزنديق، والمرتد، لم يجب القضاء على الاصح. قلت: هذا الذي صححه هو الاقوى دليلا. لكن الذي صححه الجمهور، وجوب القضاء. وممن صححه الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والقاضي أبو الطيب، والشيخ نصر المقدسي، وصاحبا (الحاوي) و (العدة) وغيرهم ونقله الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه. قال صاحب (الحاوي): وهو مذهب الشافعي وعامة أصحابه. والله أعلم.(1/457)
ولو بان على بدن الامام أو ثوبه نجاسة (1)، فإن كانت خفية، فهو كمن بان محدثا، وإن كانت ظاهرة، فقال إمام الحرمين: عندي فيه احتمال، لانه من جنس ما يخفى. قلت: وقطع صاحب (التتمة) و (التهذيب) وغيرهما، بأن النجاسة كالحدث. ولم يفرقوا بين الخفية وغيرها، وأشار إمام الحرمين، إلى أنها إذا كانت ظاهرة، فهي كمسألة الزنديق (2). والله أعلم. وقال المزني: لا يجب القضاء إذا بان كافرا، أو امرأة. قلت: ولو بان مجنونا، وجبت الاعادة على المأموم. فلو كان له حالة جنون، وحالة إفاقة، أو حال إسلام، وحال ردة، واقتدى به ولم يدر في أي حاليه كان، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من يجهل إسلامه، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من أسلم، فقال بعد الفراغ: لم أكن أسلمت حقيقة، أو أسلمت ثم ارتددت، فلا إعادة. والله أعلم. فرع: يصح الاقتداء بالصبي المميز في الفرض والنفل، ولكن البالغ أولى منه. ويصح بالعبد بلا كراهة، لكن الحر أولى، هذا إذا أما في غير الجمعة. وإمامة الاعمى صحيحة، وهو والبصير سواء على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. والثاني: البصير أولى، واختاره أبو إسحاق الشيرازي. والثالث: الاعمى أولى، قاله أبو إسحاق المروزي، واختاره الغزالي (3).(1/458)
فصل في الصفات المستحبة في الامام: الاسباب التي يترجح (1) بها الامام ستة: الفقه، والقراءة، والورع، والسن، والنسب، والهجرة. فأما الفقه والقراءة، فظاهران. وأما الورع، فليس المراد منه مجرد العدالة (2)، بل ما يزيد عليه من حسن السيرة والعفة. وأما السن، فالمعتبر سن مضى في الاسلام (3)، فلا يقدم شيخ أسلم اليوم، على شاب نشأ في الاسلام، ولا على شاب أسلم أمس. والصحيح: أنه لا تعتبر الشيخوخة، بل النظر إلى تفاوت السن، وأشار بعضهم إلى اعتبارها. وأما النسب، فنسب قريش معتبر بلا خلاف. وفي غيرهم وجهان. أصحهما: يعتبر كل نسب يعتبر في الكفاءة، كالعلماء، والصلحاء. فعلى هذا الهاشمي والمطلبي، يقدمان على سائر قريش، وسائر قريش يقدمون على سائر العرب، وسائر العرب يقدمون على العجم. والثاني: لا يعتبر ما عدا قريشا. وأما الهجرة، فيقدم من هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من لم يهاجر. ومن تقدمت هجرته على من تأخرت. وكذلك الهجرة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار الحرب إلى دار الاسلام، معتبرة وأولاد من هاجر، أو تقدمت هجرته، مقدمون على أولاد غيرهم. ويتفرع على هذه المقدمة مسائل. فإذا اجتمع عدل وفاسق، فالعدل أولى بالامامة، وإن اختص الفاسق بزيادة الفقه والقراءة وسائر الخصال، بل تكره الصلاة خلف الفاسق وتكره أيضا خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته. وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الاقتداء به. وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار. وعد صاحب(1/459)
(الافصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئا من صفات الله تعالى، كافرا. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر. والخوارج، لا يكفرون. ويحكى القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الاصحاب، القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي. قلت: هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الاهواء، إلا الخطابية، لانهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الامام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم على هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم. وفي الاورع، مع الافقه والاقرأ وجهان. قال الجمهور: هما مقدمان عليه. وقال الشيخ أبو محمد، وصاحب (التتمة) و (التهذيب): يقدم عليهما، والاول أصح. ولو اجتمع من لا يقرأ إلا ما يكفي الصلاة ولكنه صاحب فقه كثير، وآخر يحسن القرآن كله وهو قليل الفقه، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجماهير: أن الافقه أولى، والثاني: هما سواء. فأما من جمع الفقه والقراءة، فهو مقدم على المنفرد بأحدهما قطعا. والفقه، والقراءة، يقدم كل واحد منهما على النسب، والسن، والهجرة. وعن بعض الاصحاب قول مخرج: أن السن يقدم على الفقه، وهو شاذ. وإذا استويا في الفقه والقراءة، ففيه طرق. قال الشيخ أبو حامد، وجماعة: لا خلاف في تقديم السن والنسب على الهجرة. فلو تعارض سن ونسب، كشاب قرشي، وشيخ غير قرشي، فالجديد: تقديم الشيخ، والقديم: الشاب. ورجح جماعة هذا القديم، وعكس صاحبا (التتمة) و (التهذيب) فقالا: الهجرة مقدمة على النسب والسن. وفيهما القولان. وقال آخرون، منهم صاحب (المهذب): الجديد: يقدم السن، ثم النسب، ثم الهجرة، والقديم: يقدم النسب، ثم الهجرة، ثم السن. أما إذا تساويا في جميع الصفات المذكورات، فيقدم بنظافة(1/460)
الثوب والبدن عن الاوساخ، وبطيب الصنعة، وحسن الصوت، وما أشبهها من الفضائل. وحكى الاصحاب عن بعض متقدمي العلماء، أنهم قالوا: يقدم أحسنهم. واختلفوا في معناه. فقيل: أحسنهم وجها، وقيل: أحسنهم ذكرا بين الناس. قال في (التتمة): تقدم نظافة الثوب، ثم حسن الصوت، ثم حسن الصورة (1). فرع: الوالي في محل ولايته، أولى من غيره، وإن اختص ذلك الغير بالخصال الذي سبقت. ويقدم الوالي على إمام المسجد، ومالك الدار، ونحوهما، إذا أذن المالك في إقامة الجماعة في ملكه. فلو أذن الوالي في تقدم غيره، فلا بأس. ثم يراعى في الولاة تفاوت الدرجة، فالامام الاعظم، أولى من غيره، ثم الاعلى فالاعلى من الولاة والحكام. ولنا قول شاذ: أن المالك أولى من الوالي. والمشهور، تقديم الوالي. ولو اجتمع قوم في موضع مملوك ليس فيهم وال، فساكن الموضع بحق أولى بالتقديم، والتقدم من الاجانب، فإن لم يكن أهلا للتقدم، فهو أولى بالتقديم، سواء كان الساكن عبدا أسكنه سيده، أو حرا مالكا، أو مستعيرا، أو مستأجرا. ولو كانت الدار مشتركة بين شخصين وهما حاضران، أو أحدهما، والمستعير من الآخر، فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما، ولا أحدهما إلا بإذن الآخر. فإن لم يحضر إلا أحدهما، فهو الاحق. ولو اجتمع مالك الدار والمستأجر، فالاصح: أن المستأجر أولى، والثاني: المالك. ولو اجتمع المعير والمستعير، فالاصح: أن المعير أولى، والثاني: المستعير. ولو حضر السيد وعبده الساكن، فالسيد أولى قطعا، سواء المأذون له في التجارة وغيره. ولو حضر السيد والمكاتب في دار المكاتب، فالمكاتب أولى. ولو حضر قوم في مسجد له إمام راتب، فهو أولى من غيره. فإن لم يحضر إمامه، استحب أن يبعث إليه ليحضر. فإن خيف فوات أول الوقت، استحب أن يتقدم غيره.(1/461)
قلت: تقدم غيره مستحب إن لم يخف فتنة، فإن خيفت، صلوا فرادى. ويستحب لهم أن يعيدوا معه إن حضر بعد ذلك. والله أعلم.
فصل في شروط الاقتداء وآدابه : فأما الشروط، فسبعة: أحدها: أن لا يتقدم المأموم على الامام في جهة القبلة (1). فإن تقدم، لم تنعقد صلاته على الجديد الاظهر. ولو تقدم في خلالها، بطلت. والقديم: أنها تنعقد. والمستحب للمأموم أن يتأخر عن موقف الامام قليلا (2) إن كان وحده. فإن ائتم اثنان فصاعدا، اصطفوا خلفه. ولو تساوى الامام والمأموم، صحت صلاته. والاعتبار في التقدم، والمساواة بالعقب (3)، فلو استويا في العقب، وتقدمت أصابع المأموم، لم يضر. وإن تأخرت أصابع المأموم عن أصابع الامام، وتقدم عقبه، فعلى القولين. وقيل: تصح قطعا. وفي الوسيط: أن الاعتبار بالكعب. والصحيح: الاول. هذا فيمن بعد عن الكعبة. فإن صلوا في المسجد الحرام، فالمستحب أن يقف الامام خلف المقام، ويقف الناس مستديرين بالكعبة، فإن كان بعضهم أقرب إليها، نظر: إن كان متوجها إلى الجهة التي توجه إليها الامام، ففيه القولان القديم، والجديد، وإن كان متوجها إلى غيرها، فالمذهب صحة صلاة المأموم قطعا. وقيل: على القولين. ولو وقف الامام والمأموم داخل الكعبة، فإن كان وجه المأموم إلى ظهر الامام، أو وجهه إلى وجهه، أو ظهره إلى ظهره، وليس المأموم أقرب إلى الجدار، صح اقتداؤه، وكذا إن كان أقرب إلى الجدار على المذهب. وقيل: على القولين. وإن كان ظهره إلى وجه الامام فعلى القولين. ولو وقف الامام في الكعبة، والمأموم خارجها، جاز وله التوجه إلى أي جهة شاء ولو وقفا(1/462)
بالعكس، جاز أيضا، لكن إن توجه إلى الجهة التي توجه إليها الامام، عاد القولان. فرع: إذا لم يحضر مع الامام إلا ذكر، فليقف عن يمينه بالغا كان أو صبيا، ولو وقف عن يساره، أو خلفه، لم تبطل صلاته. فإن جاء مأموم آخر، وقف عن يساره وأحرم. ثم إن أمكن تقدم الامام، وتأخر المأمومين لسعة المكان من الجانبين، تقدم، أو تأخر، أو أيهما أولى ؟ وجهان. الصحيح الذي قطع به الاكثرون: تأخرهما. والثاني: تقدمه. قاله القفال، لانه يبصر ما بين يديه. فإن لم يمكن إلا التقدم، أو التأخر لضيق المكان من أحد الجانبين، فعل الممكن، وهذا في القيام. أما إذا لحق الثاني في التشهد، أو السجود، فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا. ولو حضر معه في الابتداء رجلان، أو رجل وصبي، اصطفا خلفه (1). ولو لم يحضر معه إلا إناث، صفهن خلفه، سواء الواحدة، وجماعتهن. وإن حضر معه رجل وامرأة، قام الرجل عن يمينه، والمرأة خلف الرجل. وإن حضر معه امرأة ورجلان، أو رجل وصبي، قام الرجلان، أو الرجل والصبي خلف الامام صفا، وقامت هي خلفهما. وإن كان معه رجل، وامرأة، وخنثى، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى خلفهما، والمرأة خلف الخنثى. وإن حضر رجال وصبيان، وقف الرجال خلف الامام في صف، أو صفوف. والصبيان خلفهم، وفي وجه: يقف بين كل رجلين صبي ليتعلموا أفعال الصلاة. ولو حضر معهم نساء، أخر صف النساء عن الصبيان. هذا كله إذا لم يكن الرجال عراة، فإن كانوا، وقف إمامهم وسطهم وصاروا صفا. وأما النساء الخلص، إذا أقمن جماعة، فقد قدمنا في باب ستر العورة كيف يقفن. وأن إمامتهن تقف وسطهن. قلت: ولو صلى خنثى بنساء، تقدم عليهن. والله أعلم. وكل هذا استحباب، ومخالفته لا تبطل الصلاة. فرع: إذا دخل رجل، والجماعة في الصلاة، كره أن يقف منفردا (2)، بل(1/463)
إن وجد فرجة (1)، أو سعة (2) في الصف، دخلها. وله أن يخرق الصف إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه، لتقصيرهم بتركها. فلو (3) لم يجد في الصف سعة، فوجهان. أحدهما: يقف منفردا، ولا يجذب إلى نفسه أحدا، نص عليه في (البويطي) والثاني - وهو قول أكثر الاصحاب -: يجر إلى نفسه واحدا. ويستحب للمجرور، أن يساعده. وإنما يجره بعد إحرامه. ولو وقف منفردا، صحت صلاته. الشرط الثاني: العلم بالافعال الظاهرة من صلاة الامام. وهذا لا بد منه نص عليه الشافعي، واتفق عليه الاصحاب. ثم العلم قد يكون بمشاهدة الامام، أو مشاهدة بعض الصفوف، وقد يكون بسماع صوت الامام، أو صوت المترجم في حق الاعمى، والبصير: الذي لا يشاهد لظلمة أو غيرها، وقد يكون بهداية غيره إذا كان أعمى، أو أصم في ظلمة. الشرط الثالث: اجتماع الامام والمأموم في الموقف. ولهما ثلاثة أحوال. الاول: إذا كانا في مسجد، صح الاقتداء، قربت المسافة بينهما أم بعدت لكبر المسجد، وسواء اتحد البناء أم اختلف، كصحن المسجد، وصفته، أو منارته وسرداب فيه، أو سطحه وساحته، بشرط أن يكون السطح من المسجد، فلو كان مملوكا، فهو كملك متصل بالمسجد، وقف أحدهما فيه، والآخر في المسجد. وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى. وشرط البناءين في المسجد، أن يكون باب أحدهما نافذا إلى الآخر. وإلا، فلا يعدان مسجدا واحدا. وإذا حصل هذا الشرط، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا، أو مردودا مغلقا، أو غير مغلق. وفي وجه ضعيف: إن كان مغلقا، لم يجز الاقتداء. ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح، وباب المرقى مغلقا. ولو كانا في مسجدين، يحول بينهما(1/464)
نهر، أو طريق، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد، والآخر في ملك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن كان في المسجد نهر، فإن حفر النهر بعد المسجد، فهو مسجد فلا يضر، وإن حفر قبل مصيره مسجدا، فهما مسجدان غير متصلين. قال الشيخ أبو محمد: لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام، ومؤذن، وجماعة، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد. وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين. فظاهره يقتضي تغاير الحكم، إذا انفرد بالامور المذكورة، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر. قلت: الذي صرح به كثيرون، منهم الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) و (التتمة)، وغيرهم: أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض، لها حكم مسجد واحد وهو الصواب. والله أعلم. وأما رحبة المسجد، فعدها الاكثرون منه، ولم يذكروا فرقا بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أم لا. وقال ابن كج: إن انفصلت، فهي كمسجد آخر. الحال الثاني: أن يكون في غير مسجد، وهو ضربان: أحدهما: أن يكون في فضاء (1) فيجوز الاقتداء، بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع تقريبا (2) على الاصح. وعلى الثاني: تحديد (3). وهذا التقدير (4) مأخوذ من العرف (5) على الصحيح، وقول الجمهور. وعلى الثاني: مما بين الصفين في صلاة الخوف (6). ولو وقف خلف الامام صفان، أو شخصان، أحدهما وراء الآخر، فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الاخير، أو الصف الاول،(1/465)
أو الشخص الاخير والاول، ولو كثرت الصفوف، وبلغ ما بين الامام والاخير فرسخا، جاز. وفي وجه: يعتبر بين الامام والصف الاخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الامام متصلة على العادة. وهذا الوجه شاذ. ولو حال بين الامام والمأموم، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه، إلى الآخر بلا سباحة، بالوثوب، أو الخوض، أو العبور على جسر، صح الاقتداء. وإن كان يحتاج إلى سباحة، أو كان بينهما شارع مطروق، لم يضر على الصحيح. وسواء في الحكم المذكور، كان الفضاء مواتا أو وقفا، أو ملكا، أو بعضه مواتا، وبعضه ملكا، أو بعضه (1) وقفا. وفي وجه شاذ: يشترط في الساحة المملوكة، اتصال الصفوف، وفي وجه: يشترط ذلك إن كانت لشخصين، والصحيح أنه لا يشترط مطلقا. وسواء في هذا كله كان الفضاء محوطا عليه أو مسقفا، كالبيوت الواسعة أو غير محوط. الضرب الثاني: أن يكونا في غير فضاء فإذا وقف أحدهما في صحن دار أو صفتها والآخر في بيت، فموقف المأموم، قد يكون عن يمين الامام أو يساره، وقد يكون خلفه. وفيه طريقتان. إحداهما: قالها القفال وأصحابه، وابن كج، وحكاها أبو علي في (الافصاح) عن بعض الاصحاب: أنه يشترط فيما إذا وقف من أحد الجانبين، أن يتصل الصف من البناء الذي فيه الامام، إلى البناء الذي فيه المأموم (2)، بحيث لا تبقى فرجة (3) تسع واقفا، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفا (4)، لم يضر على الصحيح (5). ولو كان بينهما عتبة عريضة تسع واقفا، اشترط وقوف مصل فيها وإن لم يمكن الوقوف عليها، فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة. وأما إذا وقف خلف الامام، ففي صحة الاقتداء وجهان. أحدهما: البطلان. وأصحهما: الجواز إذا اتصلت المصفوف وتلاحقت. ومعنى اتصالها، أن يقف رجل، أو صف في آخر البناء الذي فيه الامام، ورجل، أو صف في أول البناء الذي فيه المأموم،(1/466)
بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع. والثلاث للتقريب. فلو زاد (1) مالا يتبين في الحس بلا ذرع، لم يضر. وهذا القدر، هو المشروع بين الصفين. وإذا وجد هذا الشرط، فلو كان في بناء المأموم بيت عن اليمين، أو الشمال، اعتبر الاتصال بتواصل المناكب. هذه طريقة. الطريقة الثانية: طريقة أصحاب أبي إسحاق المروزي، ومعظم العراقيين، واختارها أبو علي الطبري: أنه لا يشترط اتصال الصف في اليمين واليسار، ولا اتصال الصفوف في المواقف خلفه، بل المعتبر: القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء. قلت: الطريقة الثانية: أصح. والله أعلم. هذا إذا كان بين البناءين باب نافذ، فوقف بحذائه صف، أو رجل، أو لم يكن جدار أصلا كالصحن مع الصفة، فلو حال حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، لم يصح الاقتداء باتفاق الطريقتين، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة كالمشبك، لم يصح على الاصح. وإذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر، إما بشرط، وإما دونه، صحت صلاة الصفوف (2) خلفه تبعا له، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الامام جدار، وتكون الصفوف مع هذا الواقف كالمأمومين مع الامام، حتى لا تصح صلاة من بين يديه، إن تأخر عن سمت موقف الامام، إذا لم يجوز تقدم المأموم على الامام. قال القاضي حسين: ولا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره. أما إذا وقف الامام في صحن الدار، والمأموم في مكان عال من سطح، أو طرف صفة مرتفعة، أو بالعكس، فبماذا يحصل الاتصال ؟ وجهان. أحدهما، قول الشيخ أبي محمد: إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو، صح الاقتداء، وإلا، فلا. والثاني: وهو الصحيح الذي قطع به الجماهير، إن حاذى رأس الاسفل قدم الاعلى، صح، وإلا، فلا. قال إمام الحرمين: الاول مزيف لا وجه له، والاعتبار، بمعتدل القامة. حتى لو كان قصيرا، أو قاعدا فلم يحاذ، ولو قام فيه معتدل القامة، لحصلت المحاذاة، كفى. وحيث لا يمنع الانخفاض القدوة، وكان بعض الذين يحصل بهم الاتصال على سرير، أو متاع، وبعضهم(1/467)
على الارض، لم يضر. ولو كانا في البحر، والامام في سفينة، والمأموم في أخرى وهما مكشوفتان، فالصحيح، أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع، كالصحراء، وتكون السفينتان كدكتين في الصحراء، يقف الامام على إحداهما، والمأموم على الاخرى. وقال الاصطخري: يشترط أن تكون سفينة الامام مشدودة بسفينة المأموم. والجمهور على أنه ليس بشرط. وإن كانتا مسقفتين، فهما كالدارين، والسفينة التي فيها بيوت، كالدار ذات البيوت. وحكم المدارس، والرباطات، والخانات، حكم الدور. والسرادقات في الصحراء، كالسفينة المكشوفة، والخيام كالبيوت. الحال الثالث: أن يكون أحدهما في المسجد، والآخر خارجه فمن ذلك، أن يقف الامام في مسجد، والمأموم في موات متصل به. فإن لم يكن بينهما حائل، جاز، إذا لم تزد المسافة على ثلاث مائة ذراع، ويعتبر من آخر المسجد (1) على الاصح. وعلى الثاني، من آخر صف في المسجد (2). فإن لم يكن فيه إلا الامام، فمن موقفه (3). وعلى الثالث، من حريم المسجد بينه وبين الموات. وحريمه: الموضع المتصل به، المهيأ لمصلحته، كانصباب الماء إليه، وطرح القمامات فيه، ولو كان بينهما جدار المسجد، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح، فوقف بحذائه، جاز، ولو اتصل صف بالواقف في المحاذاة، وخرجوا عن المحاذاة، جاز، ولو لم يكن في الجدار باب، أو كان، ولم يقف بحذائه بل عدل عنه، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يمنع صحة الاقتداء. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يمنع. وأما الحائل غير جدار المسجد، فيمنع بلا خلاف. ولو كان بينهما باب مغلق، فهو كالجدار، لانه يمنع الاستطراق والمشاهدة. وإن كان مردودا غير مغلق، فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق، أو كان بينهما مشبك، فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة. ففي الصورتين، وجهان. أصحهما عند الاكثرين: أنه مانع هذا كله في(1/468)
الموات. فلو وقف المأموم في شارع متصل بالمسجد، فهو كالموات على الصحيح. وعلى الثاني يشترط اتصال الصف من المسجد بالطريق. ولو وقف في حريم المسجد، فقد ذكر في (1) (التهذيب) (2): أنه كالموات، وذكر أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكا، فوقف المأموم فيه، لم يصح اقتداؤه حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء. وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد، بالسطح المملوك، وكذلك لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد، يشترط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار، وآخر في الدار متصل بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل. وهذا الذي ذكره في الفضاء، مشكل. وينبغي أن يكون كالموات. وأما ما ذكره في مسألة الدار، فهو الصحيح. وقال أبو إسحاق المروزي: جدار المسجد لا يمنع، كما قال في الموات. وقال أبو علي الطبري: لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل. ويجوز الاقتداء، إذا كان في حد القرب. الشرط الرابع: نية الاقتداء. فمن شروط الاقتداء، أن ينوي المأموم الجماعة، أو الاقتداء (3)، وإلا فلا تكون صلاته صلاة جماعة، وينبغي أن يقرن هذه النية بالتكبير كسائر ما ينويه (4)، فإن ترك نية الاقتداء، انعقدت صلاته على الاصح (5). وعلى هذا لو شك في أثناء صلاته في نية الاقتداء، نظر، إن تذكر قبل أن يحدث فعلا على متابعة الامام، لم يضر، وإن تذكر بعد أن أحدث فعلا على متابعته، بطلت صلاته (6)، لانه في حال الشك، له حكم المنفرد، وليس له(1/469)
المتابعة. حتى لو عرض هذا الشك في التشهد الاخير، لا يجوز أن يقف سلامه على سلام الامام (1). وهذا الذي ذكرنا من بطلان صلاته بالمتابعة، هو إذا انتظر ركوعه وسجوده ليركع ويسجد معه. فأما إذا اتفق انقضاء فعله، مع انقضاء فعله فهذا لا يبطل قطعا. لانه لا يسمى متابعة. والمراد: الانتظار الكثير. فأما اليسير، فلا يضر. وهل تجب نية الاقتداء في الجمعة ؟ وجهان. الصحيح: وجوبها. والثاني: لا، لانها لا تصح إلا بجماعة، فلم يحتج إليها. فرع: لا يجب على المأموم أن يعين في نيته الامام (2)، بل يكفي نية الاقتداء بالامام الحاضر (3)، فلو عين فأخطأ، بأن نوى الاقتداء بزيد، فبان عمرا، لم تصح صلاته (4). كما لو عين الميت في صلاة الجنازة وأخطأ، لا تصح. ولو نوى الاقتداء بالحاضر، واعتقد زيدا فكان غيره، ففي صحته وجهان. كما لو قال: بعتك هذا الفرس، فكان بغلا. قلت: الارجح صحة الاقتداء. والله أعلم. فرع: اختلاف نية الامام والمأموم فيما يأتيان به من الصلاة، لا يمنع صحة الاقتداء، فيجوز أن يقتدي المؤدي بالقاضي، وعكسه، والمفترض، بالمتنفل وعكسه (5).(1/470)
فرع: لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الامام الامامة، سواء اقتدى به الرجال، أو النساء. وحكى أبو الحسن العبادي (1)، عن أبي حفص الباب شامي (2)، والقفال: أنه تجب نية الامامة على الامام. وأشعر كلامه بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء، وهذا شاذ منكر، والصحيح المعروف الذي قطع به الجماهير، أنها: لا تجب. لكن هل تكون صلاته صلاة جماعة ينال بها فضيلة الجماعة إذا لم ينوها ؟ وجهان. أصحهما: لا ينالها، لانه لم ينوها. وقال القاضي حسين: فيمن صلى منفردا، واقتدى (3) به جمع ولم يعلم بهم، ينال فضيلة الجماعة، لانهم نالوها بسببه، وهذا كالتوسط بين الوجهين. ومن فوائد الوجهين، أنه إذا لم ينو الامامة في صلاة الجمعة، هل تصح جمعته. الاصح: أنها لا تصح. ولو نوى الامامة وعين في نيته المقتدي، فبان خلافه، لم يضر، لان غلطه لا يزيد على تركها. الشرط الخامس: توافق نظم الصلاتين في الافعال والاركان (4)، فلو اختلفت صلاتا الامام والمأموم في الافعال الظاهرة، بان اقتدى مفترض بمن يصلي جنازة، أو كسوفا، لم تصح على الصحيح (5). وتصح على الثاني، وهو قول القفال. فعلى هذا، إذا اقتدى بمصلي الجنازة، لا يتابعه في التكبيرات والاذكار بينها، بل إذا كبر الامام الثانية، يتخير بين إخراج نفسه من المتابعة، وبين انتظار سلام الامام. وإذا اقتدى بمصلي الكسوف، تابعه في الركوع الاول. ثم إن شاء رفع رأسه معه وفارقه، وإن شاء انتظره. قال إمام الحرمين: وإنما قلنا: ينتظره في الركوع إلى أن يعود إليه(1/471)
الامام، ويعتدل معه عن ركوعه الثاني، ولا ينتظره بعد الرفع لما فيه من تطويل الركن القصير. أما إذا اتفقت الصلاتان في الافعال الظاهرة، فينظر إن اتفق عددهما كالظهر، خلف العصر، أو العشاء، جاز الاقتداء. وإن كان عدد ركعات الامام أقل، كالظهر خلف الصبح، جاز. وإذا تمت صلاة الامام، قام المأموم وأتم صلاة نفسه كالمسبوق. ويتابع الامام في القنوت. ولو أراد مفارقته عند اشتغاله بالقنوت، جاز. وإذا اقتدى في الظهر بالمغرب، وانتهى الامام إلى الجلوس الاخير، تخير المأموم في المتابعة والمفارقة كالقنوت. وإن كان عدد ركعات المأموم أقل، كالصبح خلف الظهر، فالمذهب جوازه وقيل: قولان، أظهرهما: جوازه. والثاني: بطلانه. فإذا صححنا، وقام الامام إلى الثالثة، تخير المأموم، إن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلم معه. قلت: انتظاره أفضل. والله أعلم. وإن أمكنه أن يقنت في الثانية، بأن وقف الامام يسيرا، قنت. وإلا فلا شئ عليه. وله أن يخرج عن متابعته ليقنت. ولو صلى المغرب خلف الظهر، فإذا قام الامام إلى الرابعة، لم يتابعه بل يفارقه، ويتشهد ويسلم. وهل له أن يترك التشهد وينتظره ؟ وجهان. أحدهما: له ذلك كما قلنا في المقتدي بالصبح خلف الظهر. والثاني: وهو المذهب عند إمام الحرمين، ليس له ذلك، لانه يحدث تشهدا لم يفعله الامام. ولو صلى العشاء خلف التراويح، جاز. فإذا سلم الامام قام إلى باقي صلاته، والاولى أن يتمها منفردا. فلو قام الامام إلى ركعتين أخريين من التراويح، فنوى الاقتداء به ثانيا، ففي جوازه القولان، فيمن أحرم منفردا ثم اقتدى في أثنائهما. واختلف أصحابنا في المقتدي بمن يصلي العيد أو الاستسقاء، هل هو كمن يصلي الصبح ؟ أم كمن يصلي الجنازة والكسوف ؟ قلت: الصحيح: أنه كالصبح، وبه قطع صاحب (التتمة). وإذا كبر الامام التكبيرات الزائدة، لا يتابعه المأموم، فإن تابعه لم يضره، لان الاذكار لا تضر. ولو صلى العيد خلف الصبح المقضية، جاز، ويكبر التكبيرات الزائدة. والله أعلم. الشرط السادس: الموافقة (1). فإذا ترك الامام شيئا من أفعال الصلاة، نظر(1/472)
إن ترك فرضا، فقام في موضع القعود، أو بالعكس ولم يرجع، لم يجز للمأموم متابعته، لانه إن تعمد، فصلاته باطلة، وإن سها، ففعله غير معتد به وإن لم يبطلها. ولو ترك سنة وكان في الاشتغال بها تخلف فاحش، كسجود التلاوة، والتشهد الاول، لم يأت بها المأموم، فإن فعلها، بطلت صلاته، ولو ترك الامام سجود السهو، أتى به المأموم، لانه يفعله بعد انقطاع القدوة، ولذلك يسلم التسليمة الثانية إذا تركها الامام. فأما إذا كان التخلف لها يسيرا، كجلسة الاستراحة، فلا بأس، كما لا بأس بزيادتها في غير موضعها. وكذا لا بأس بتخلفه للقنوت، إذا لحقه على قرب، بأن لحقه في السجدة الاولى (1). الشرط السابع: المتابعة، فيجب على المأموم متابعته، فلا يتقدم في الافعال. والمراد من المتابعة: أن يجري على أثر الامام، بحيث يكون بتداؤه بكل واحد منها، متأخرا عن ابتداء الامام به (2)، ومتقدما على فراغه منه. فلو خالف، فله أحوال. الاول: أن يقارنه، فإن قارنه في تكبيرة الاحرام، أو شك، هل قارنه، أو ظن أنه تأخر، فبان مقارنته، لم تنعقد. ويشترط تأخر جميع تكبيرة المأموم، عن جميع تكبيرة الامام. ويستحب للامام أن لا يكبر حتى يسووا الصفوف، ويأمرهم به ملتفتا يمينا وشمالا. وإذا فرغ المؤذن من الاقامة، قام الناس فاشتغلوا بتسوية الصفوف. وأما ما عدا التكبير، فغير السلام تجوز المقارنة فيه، ولكن تكره، وتفوت بها فضيلة الجماعة، وفي السلام وجهان. أصحهما: جوازها. الحال الثاني: أن يتخلف عن الامام، فإن تخلف بغير عذر، نظر، إن تخلف بركن واحد، لم تبطل صلاته على الاصح، وإن تخلف بركنين بطلت قطعا (3). ومن صور التخلف بغير عذر، أن يركع الامام وهو في قراءة السورة،(1/473)
فيشتغل باتمامها، وكذا التخلف للاشتغال بتسبيحات الركوع والسجود. وأما بيان صور التخلف بركن، فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير، فالقصير: الاعتدال عن الركوع، وكذا الجلوس بين السجدتين على الاصح. والطويل: ما عداهما. ثم الطويل، مقصود في نفسه. وفي القصير وجهان. أحدهما: مقصود في نفسه وبه قال الاكثرون، ومال الامام إلى الجزم به. والثاني: لا بل تابع لغيره. وبه قطع في (التهذيب). فإذا ركع الامام، ثم ركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس هذا تخلفا بركن، فلا تبطل به الصلاة قطعا. فلو اعتدل الامام، والمأموم بعد قائم، ففي بطلان صلاته وجهان، اختلفوا في مأخذهما، فقيل: مأخذهما: التردد في أن الاعتدال ركن مقصود أم لا ؟ إن قلنا: مقصود فقد فارق الامام ركنا، واشتغل بركن آخر مقصود، فتبطل صلاة المتخلف. وإن قلنا: غير مقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع، لان الذي هو فيه تبع له، فلا تبطل صلاته. وقيل: مأخذهما الوجهان، في أن التخلف بركن يبطل أم لا ؟ إن قلنا: يبطل فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته، وإن قلنا: لا، فما دام في الاعتدال، لم يكمل الركن الثاني، فلا تبطل. قلت: الاصح لا تبطل. والله أعلم. وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه، والمأموم بعد قائم، فعلى المأخذ الاول لا تبطل صلاته، لانه لم يشرع في ركن مقصود، وعلى الثاني: تبطل، لان ركن الاعتدال قد تم. هكذا ذكره إمام الحرمين، والغزالي. وقياسه، أن يقال: إذا ارتفع عن حد الركوع، والمأموم بعد في القيام، فقد حصل التخلف بركن، وإن لم يعتدل الامام، فتبطل الصلاة عند من يجعل التخلف بركن مبطلا. أما إذا انتهى الامام (1) إلى السجود، والمأموم بعد في القيام، فتبطل صلاته قطعا. ثم إذا اكتفينا بابتداء الهوي عن الاعتدال، وابتداء الارتفاع عن حد الركوع، فالتخلف بركنين: هو أن يتم للامام ركنان، والمأموم بعد فيما قبلهما، وبركن: هو أن يتم للامام الركن الذي سبق والمأموم بعد فيما قبله، وإن لم يكتف بذلك(1/474)
فللتخلف شرط آخر، وهو أن لا يلابس مع تمامهما، أو تمامه ركنا آخر. ومقتضى كلام صاحب (التهذيب) ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الامام وسجد. هذا كله في التخلف بغير عذر. أما الاعذار فأنواع. منها: الخوف، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون المأموم بطئ القراءة (1)، والامام سريعها، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة، فوجهان. أحدهما: يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها. فعلى هذا، لو اشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. والصحيح الذي قطع به صاحب (التهذيب) وغيره، أنه لا يسقط بل عليه أن يتمها، ويسعى خلف الامام على نظم صلاته ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة، فإن زاد على الثلاثة فوجهان. أحدهما: يخرج نفسه عن المتابعة لتعذر الموافقة. وأصحهما: له أن يدوم على متابعته. وعلى هذا وجهان. أحدهما: يراعي نظم صلاته، ويجري على أثره. وبهذا أفتى القفال. وأصحهما: يوافقه فيما هو فيه، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الامام. وهذان الوجهان، كالقولين في مسألة الزحام (2). ومنها: أخذ التقدير بثلاثة أركان مقصودة، فإن القولين في مسألة الزحام، إنما هما إذا ركع الامام في الثانية. وقبل ذلك لا يوافقه، وإنما يكون التخلف قبله بالسجدتين والقيام. ولم يعتبر الجلوس بين السجدتين على مذهب من يقول: هو غير مقصود، ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثرا. وأما من لا يفرق بين المقصود وغيره، أو يفرق ويجعل الجلوس مقصودا، أو ركنا طويلا، فالقياس على أصله، التقدير بأربعة أركان أخذا من مسألة الزحام. ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح، فلم يتم الفاتحة لذلك، فركع الامام، فيتم الفاتحة كبطئ القراءة. وكان هذا في المأموم الموافق. أما المسبوق إذا أدرك الامام قائما وخاف ركوعه، فينبغي أن لا يقرأ الاستفتاح، بل يبادر إلى الفاتحة، فإن ركع الامام في أثناء الفاتحة فأوجه. أحدها: يركع معه وتسقط باقي الفاتحة، والثاني: يتمها. وأصحها: أنه إن لم يقرأ شيئا من(1/475)
الاستفتاح، قطع الفاتحة وركع، ويكون مدركا للركعة. وإن قرأ شيئا منه، لزمه بقدره من الفاتحة لتقصيره. وهذا هو الاصح عند القفال، والمعتبرين، وبه قال أبو زيد. فإن قلنا: عليه إتمام الفاتحة، فتخلف ليقرأ كان تخلفا بعذر (1)، فإن لم يتمها وركع مع الامام، بطلت صلاته. وإن قلنا: يركع فاشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. وإن سبقه الامام بالركوع، وقرأ هذا المسبوق الفاتحة، ثم لحقه في الاعتدال، لم يكن مدركا للركعة. والاصح: أنه لا تبطل صلاته إذا قلنا: المتخلف (2) بركن لا يبطل كما في غير المسبوق. والثاني: يبطل، لانه ترك متابعة الامام فيما فاتت به ركعة، فكان كالتخلف بركعة. ومنها: الزحام، وسيأتي في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ومنها: النسيان. فلو ركع مع الامام، ثم تذكر أنه نسي الفاتحة، أو شك في قراءتها، لم يجز أن يعود، لانه فات محل القراءة، فإذا سلم الامام، قام وتدارك ما فاته. ولو تذكر، أو شك بعد أن ركع الامام ولم يركع هو، لم تسقط القراءة بالنسيان. وماذا يفعل ؟ وجهان. أحدهما: يركع معه، فإذا سلم الامام، قام فقضى ركعة، وأصحهما: يتمها، وبه أفتى القفال. وعلى هذا، تخلفه تخلف معذور على الاصح، وعلى الثاني: تخلف غير معذور لتقصيره بالنسيان. الحال الثالث: أن يتقدم على الامام بالركوع، أو غيره من الافعال الظاهرة فينظر إن لم يسبق بركن كامل، بأن ركع قبل الامام، فلم يرفع حتى ركع الامام، لم تبطل صلاته، عمدا كان أو سهوا. وفي وجه شاذ: تبطل إن تعمد. فإذا قلنا: لا تبطل، فهل يعود ؟ وجهان. المنصوص، وبه قال العراقيون: يستحب أن يعود إلى القيام ويركع معه. والثاني: وبه قطع صاحبا (النهاية) و (التهذيب): لا يجوز(1/476)
العود، فإن عاد، بطلت صلاته، وإن فعله سهوا، فالاصح: أنه مخير بين العود والدوام. والثاني: يجب العود، فإن لم يعد، بطلت صلاته، وإن سبق بركنين فصاعدا، بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه. وإن كان ساهيا، أو جاهلا، لم تبطل، لكن لا يعتد بتلك الركعة، فيأتي بها بعد سلام الامام، ولا يخفى بيان التقدم بركنين من قياس ما ذكرناه (1) في التخلف. ومثل أئمتنا العراقيون ذلك، بما إذا ركع قبل الامام، فلما أراد الامام أن يركع، رفع، فلما أراد أن يرفع، سجد، فلم يجتمعا في الركوع، ولا في الاعتدال، وهذا يخالف ذلك القياس، فيجوز أن يقدر مثله في التخلف، ويجوز أن يخص ذلك بالتقدم، لان المخالفة فيه أفحش. وإن سبق بركن مقصود، بأن ركع قبل الامام، ورفع والامام في القيام ثم وقف حتى رفع الامام، واجتمعا في الاعتدال، فقال الصيدلاني، وجماعة: تبطل صلاته. قالوا: فإن سبق بركن غير مقصود كالاعتدال، بأن اعتدل وسجد، والامام بعد في الركوع، أو سبق بالجلوس بين السجدتين، بأن رفع رأسه من السجدة الاولى، وجلس وسجد الثانية والامام بعد في الاولى، فوجهان. وقال العراقيون، وآخرون: التقدم بركن لا يبطل كالتخلف به. وهذا أصح، وأشهر. وحكي عن نص الشافعي رضي الله عنه (2). هذا في الافعال الظاهرة، فأما تكبيرة الاحرام، فالسبق بها مبطل كما تقدم، وأما الفاتحة والتشهد، ففي السبق بهما أوجه. الصحيح: لا يضر، بل يجزئان. والثاني: تبطل الصلاة. والثالث: لا تبطل. ويجب إعادتهما مع قراءة الامام أو بعدها. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام راكعا (3)، يكبر للافتتاح، وليس له أن يشتغل بالفاتحة بل يهوي للركوع ويكبر له تكبيرة أخرى. وكذا لو أدركه قائما،(1/477)
فكبر، فركع الامام بمجرد تكبيره، فلو اقتصر في الحالين على تكبيرة، فله أحوال. أحدها: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح، فتصح صلاته بشرط أن يوقعها في حال القيام (1). الثاني: ينوي تكبيرة الركوع فلا تنعقد صلاته (2). الثالث: ينويهما، فلا تنعقد فرضا ولا نفلا أيضا على الصحيح (3). الرابع: لا ينوي واحدا منهما، بل يطلق التكبيرة. فالصحيح المنصوص في (الام) وقطع به الجمهور: لا تنعقد. والثاني: تنعقد لقرينة الافتتاح، ومال إليه إمام الحرمين. فرع: إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الامام، فالمذهب أنه لا تبطل صلاته، سواء فارق بعذر، أو بغيره، هذا جملته. وتفصيله: أن في بطلان الصلاة بالمفارقة طريقين. أحدهما: لا تبطل. والثاني: على قولين. أصحهما: لا تبطل. واختلفوا في موضع القولين، على طرق. أصحها: هما فيمن فارق بغير عذر. فأما المعذور، فيجوز قطعا. وقيل: هما في المعذور. فأما غيره، فتبطل صلاته قطعا. وقيل: هما فيهما، واختاره الحليمي. وقال إمام الحرمين: والاعذار كثيرة، وأقرب معتبرا، أن يقال: كل ما جوز ترك الجماعة ابتداء، جوز المفارقة. وألحقوا به، ما إذا ترك الامام سنة مقصودة، كالتشهد الاول، والقنوت. وأما إذا لم يصبر على طول القراءة لضعف، أو شغل، فالاصح: أنه عذر. هذا كله إذا قطع المأموم القدوة والامام بعد في الصلاة. أما إذا انقطعت بحدث الامام، ونحوه، فلا تبطل صلاة المأموم قطعا بكل حال.(1/478)
فرع: إذا أقيمت الجماعة وهو في الصلاة منفردا، نظر، إن كان في فريضة الوقت، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: أحببت أن يكمل ركعتين، ويسلم، فتكون له نافلة، ويبتدئ الصلاة مع الامام. ومعناه: أن يقطع الفريضة ويقلبها نفلا. وفيه وفي نظائره خلاف قدمناه في مسائل النية في صفة الصلاة. ثم هذا فيما إذا كانت الصلاة ثلاثية، أو رباعية، ولم يصل بعد ركعتين. فإن كانت ذات ركعتين، أو ذات ثلاث، أو أربع، وقد قام إلى الثالثة، فإنه يتمها، ثم يدخل في الجماعة، وإن كان في فائتة، لم يستحب أن يقتصر على ركعتين ليصلي تلك الفائتة جماعة، لان الفائتة لا يشرع لها الجماعة، بخلاف ما لو شرع في فائتة في يوم غيم، فانكشف الغيم، وخاف فوت الحاضرة، فإنه يسلم عن ركعتين، ويشتغل بالحاضرة. قلت: قوله: لا يشرع لها الجماعة، يحمل على التفصيل الذي ذكرته في أول كتاب صلاة الجماعة. والله أعلم. وإن كان في نافلة، وأقيمت الجماعة، فإن لم يخش فوتها، أتمها. وإن خشيه، قطعها ودخل في الجماعة. فأما إذا لم يسلم من صلاته التي أحرم بها منفردا، بل اقتدى في خلالها، فالمذهب جوازه. وهذا جملته. فأما تفصيله، ففي صحة هذا الاقتداء، طريقان. أحدهما: القطع ببطلانه. وتبطل به الصلاة. وأصحهما، وأشهرهما: فيه قولان. أظهرهما: جوازه. ثم اختلفوا في موضع القولين على طرق، فقيل: هما فيما إذا لم يركع المنفرد في انفراده. فإن ركع، لم يجز قطعا. وقيل: هما بعد ركوعه. فأما قبله، فيجوز قطعا. وقيل: هما إذا اتفقا في الركعة، فإن اختلفا، فكان الامام في ركعة، والمأموم في أخرى متقدما، أو متأخرا، لم يجز قطعا. والطريق الرابع الصحيح: أن القولين في جميع الاحوال. وإذا صححنا الاقتداء على الاطلاق، فاختلفا في الركعة، قعد المأموم في موضع قعود الامام، وقام في موضع قيامه، فإن تمت صلاته أولا، لم يتابع الامام في الزيادة، بل إن شاء فارقه، وإن شاء انتظره في التشهد، وطول الدعاء، وسلم معه. فإن تمت صلاة الامام أولا، قام المأموم، وأتم صلاته كما يفعل المسبوق، وإذا سها المأموم قبل الاقتداء، لم يتحمل عنه الامام، بل إذا سلم الامام، سجد هو(1/479)
لسهوه، وإن سها بعد الاقتداء، حمل عنه. وإن سها الامام قبل الاقتداء، أو بعده، لحق المأموم ويسجد معه، ويعيد في آخر صلاته على الاظهر كالمسبوق. فرع: من أدرك الامام في الركوع، كان مدركا للركعة. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر الصبغي (1) - بكسر الصاد المهملة، وإسكان الباء الموحدة، وبالغين المعجمة، كلاهما من أصحابنا -: لا يدرك الركعة بادراك الركوع. وهذا شاذ منكر، والصحيح الذي عليه الناس، وأطبق عليه الائمة: إدراكها، لكن يشترط أن يكون ذلك الركوع محسوبا للامام، فإن لم يكن، ففيه تفصيل نذكره في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ثم المراد بإدراك الركوع، أن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع. حتى لو كان هو في الهوي، والامام في الارتفاع، وقد بلغ هويه حد الاقل قبل أن يرتفع الامام عنه، كان مدركا، وإن لم يلتقيا فيه، فلا. هكذا قاله جميع الاصحاب. ويشترط أن يطمئن قبل ارتفاع الامام عن الحد المعتبر. هكذا صرح به في (البيان) وبه أشعر كلام كثير من النقلة، وهو الوجه، وإن كان الاكثرون لم يتعرضوا له. ولو كبر، وانحنى، وشك، هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الامام عنه ؟ فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا يكون مدركا. والثاني: يكون. فأما إذا أدركه فيما بعد الركوع، فلا يكون مدركا للركعة قطعا، وعليه أن يتابعه في الركن الذي أدركه فيه وإن لم يحسب له. قلت: وإذا أدركه في التشهد الاخير، لزمه متابعته في الجلوس، ولا يلزمه أن يتشهد معه قطعا، ويسن (2) له ذلك على الصحيح المنصوص. والله أعلم. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع. فقد ذكرنا أنه يكبر للركوع بعد تكبيرة الافتتاح، فلو أدركه في السجدة الاولى، أو الثانية، أو التشهد، فهل يكبر للانتقال إليه ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان هذا غير محسوب له، بخلاف(1/480)
الركوع، ويخالف ما لو أدركه في الاعتدال فما بعده فإنه ينتقل معه من ركن إلى ركن مكبرا، وإن لم يكن محسوبا، لانه لموافقة الامام. ولذلك نقول: يوافقه في قراءة التشهد، وفي التسبيحات، على الاصح. وإذا قام المسبوق بعد سلام الامام، فإن كان الجلوس الذي قام منه موضع جلوس المسبوق، بأن أدركه في الثالثة من رباعية، أو ثانية (1) المغرب، قام مكبرا. فإن لم يكن موضع جلوسه، بأن أدركه في الاخيرة، أو الثانية من الرباعية، قام بلا تكبير على الاصح. ثم إذا لم يكن موضع جلوسه، لم يجز المكث بعد سلام الامام. فإن مكث، بطلت صلاته. وإن كان موضع جلوسه، لم يضر المكث. والسنة للمسبوق: أن يقوم عقب تسليمتي الامام، فإن الثانية من الصلاة، ويجوز أن يقوم عقب الاولى. وإن قام قبل تمامها، بطلت صلاته إن تعمد القيام. وما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يفعله بعد سلام الامام آخرها، حتى لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا قام لاتمام الباقي، يجهر في الثانية ويتشهد، ويسر في الثالثة. ولو أدرك ركعة من الصبح، وقنت مع الامام، أعاد القنوت في الركعة التي يأتي بها. ونص الشافعي رحمه الله أنه لو أدرك ركعتين من رباعية، ثم قام للتدارك، يقرأ السورة في الركعتين، فقيل: هذا تفريع على قوله: يستحب قراءة السورة في جميع الركعات، وقيل: هو تفريع على القولين جميعا لئلا تخلو صلاته عن السورة. قلت: الثاني، أصح. وحكي قول غريب: أنه يجهر. والجماعة في الصبح، أفضل من غيرها، ثم العشاء، ثم العصر، للاحاديث الصحيحة. ولو كان للمسجد إمام راتب، كره لغيره إقامة الجماعة فيه، قبله أو بعده إلا بإذنه، فإن كان المسجد مطروقا، فلا بأس. وقد سبقت المسألة في باب الاذان. ويكره أن يؤم الرجل قوما وأكثرهم له كارهون، فإن كرهه الاقل، أو النصف، لم تكره إمامته. والمراد أن يكرهوه لمعنى مذموم في الشرع (2)، فإن لم يكن كذلك، فالعتب عليهم ولا كراهة. وقال القفال: إنما يكره إذا لم ينصبه الامام، فإن نصبه فلا يبالي بكراهة(1/481)
أكثرهم. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا فرق بين من نصبه الامام وغيره (1). وأما إذا كان بعض المأمومين يكره أهل المسجد حضوره، فلا يكره له الحضور، لان غيره لا يرتبط به، نص عليه الشافعي والاصحاب (2) ويكره أن يكون موقف الامام أعلى من موقف المأموم، وكذا عكسه (3)، فإن احتاج الامام إلى الاستعلاء ليعلمهم صفة الصلاة، أو المأموم ليبلغ القوم تكبير الامام، استحب (4). وأفضل صفوف الرجال (5)، أولها، ثم ما قرب منه، وكذلك النساء الخلص، فإن كان النساء مع الرجال، فأفضل صفوفهن آخرها (6). والله أعلم.(1/482)
كتاب صلاة المسافر
صلاة المسافر كغيره، إلا أن له الترخص بالقصر والجمع، فالقصر جائز بالاجماع. والسبب المجوز له، السفر الطويل (1) المباح (2). فأما السفر القصير، فلا بد فيه من ربط القصد بمقصد معلوم، فلا رخصة لهائم لا يدري أين يتوجه، وإن طال سفره. ولنا وجه: أن الهائم إذا بلغ مسافة القصر له القصر، وهو شاذ منكر. أما ابتداء السفر، فيعرف بتفصيل الموضع الذي منه الارتحال. فإن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها (3)، فلا بد من مجاوزته وإن كان داخل السور مزارع، أو مواضع خربة، لان جميع داخل السور معدود من نفس البلد، محسوب من موضع الاقامة، فإذا فارق السور، ترخص إن لم يكن خارجه دور متلاصقة، أو مقابر، فإن كانت، فوجهان. الاصح: أنه يترخص بمفارقة السور، ولا يشترط مفارقة الدور والمقابر، وبهذا قطع الغزالي، وكثيرون. والثاني: يشترط مفارقتها، وهو موافق(1/483)
لظاهر نص الشافعي. وأما إذا لم يكن للبلد سور، أو كان في غير صوب مقصده، فابتداء سفره بمفارقة العمران حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل. والخراب الذي يتخلل العمارات، معدود من البلد، كالنهر الحائل بين جانبي البلد، فلا يترخص بالعبور من جانب إلى جانب. فإن كانت أطراف البلدة خربة، ولا عمارة وراءها، فقال العراقيون، والشيخ أبو محمد: لا بد من مجاوزتها. وقال الغزالي، وصاحب (التهذيب): لا يشترط مجاوزتها، لانه ليس موضع إقامة. وهذا الخلاف فيما إذا كانت بقايا الحيطان قائمة، ولم يتخذوا الخراب مزارع العمران، ولا هجروه بالتحويط على العامر والخراب، فإن لم يكن كذلك، لم يشترط مجاوزتها بلا خلاف. ولا يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المتصلة بالبلد، وإن كانت محوطة، إلا إذا كان فيها قصور أو دور يسكنها ملاكها (1) بعض فصول السنة، فلا بد من مجاوزتها حينئذ. ولنا وجه في (التتمة): أنه يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المضافة إلى البلدة مطلقا، وهو شاذ ضعيف. هذا حكم البلدة. وأما القرية، فلها حكم البلدة في جميع ما ذكرناه. ولا يشترط فيها مجاوزة البساتين، ولا المزارع المحوطة، هذا هو الصواب الذي قاله العراقيون. وشذ الغزالي عن الاصحاب فقال: إن كانت المزارع، أو البساتين محوطة، اشترط مجاوزتها. وقال إمام الحرمين: لا يشترط مجاوزة المزارع المحوطة، ولا البساتين غير المحوطة، ويشترط مجاوزة البساتين المحوطة. ولو كان قريتان ليس بينهما انفصال، فهما كمحلتين، فيجب مجاورتهما جميعا. قال الامام: وفيه احتمال، فلو كان بينهما انفصال فجاوز قريته، كفى وإن كانتا في غاية التقارب على الصحيح. وقال ابن سريج: إذا تقاربتا، اشترط مفارقتهما. ولو جمع سور قرى متفاصلة، لم يشترط مجاوزة السور. وكذا لو قدر ذلك في بلدتين متقاربتين. ولهذا قلنا أولا: إن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها. وأما المقيم في الصحارى، فلا بد له من مفارقة البقعة التي فيها رحله وينسب إليه. فإن سكن واديا، وسافر في عرضه، فلا بد من مجاوزة عرض الوادي، نص عليه(1/484)
الشافعي رحمه الله. قال الاصحاب: وهذا على الغالب في اتساع الوادي. فإن أفرطت السعة، لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله، أو موضع الحلة (1) التي هو فيها. كما لو سافر في طول الوادي. وقال القاضي أبو الطيب: كلام الشافعي مجرى على إطلاقه، وجانبا الوادي، كسور البلد. ولو كان نازلا في ربوة، فلا بد أن يهبط، وإن كان في وهدة، فلا بد أن يصعد، وهذا عند الاعتدال كما ذكرنا في الوادي. ولا فرق في اعتبار مجاوزة عرض الوادي، والصعود والهبوط، بين المنفرد في خيمة، ومن في أهل خيام على التفصيل المذكور. أما (2) إذا كان في أهل خيام كالاعراب والاكراد، فإنما يترخص إذا فارق الخيام، مجتمعة كانت، أو متفرقة، إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبنية البلد. ولا يشترط مفارقته لحلة أخرى، بل الحلتان كالقريتين. وضبط الصيدلاني التفرق الذي لا يؤثر، بأن يكونوا بحيث يجتمعون للسمر في ناد واحد، ويستعين بعضهم من بعض. فإن كانوا بهذه الحالة، فهي حلة واحدة. ويعتبر مع مجاوزة الخيام مجاوزة مرافقها، كمطرح الرماد، وملعب الصبيان، والنادي، ومعاطن الابل، فإنها (3) من جملة مواضع إقامتهم. ولنا وجه شاذ: أنه لا يعتبر مفارقه الخيام، بل يكفي مفارقة خيمته. فرع: إذا فارق المسافر بنيان البلدة، ثم رجع إليها لحاجة، فله أحوال. أحدها: أن لا يكون له بتلك البلدة إقامة أصلا، فلا يصير مقيما بالرجوع، ولا بالحصول فيها. الثاني: أن تكون وطنه، فليس له الترخص في رجوعه، وإنما يترخص إذا فارقها ثانيا. ولنا وجه: أنه يترخص ذاهبا، وهو شاذ منكر. الثالث: أن لا تكون وطنه، لكنه أقام بها مدة، فهل له الترخص في رجوعه ؟(1/485)
وجهان. أصحهما: نعم، صححه إمام الحرمين، والغزالي، وقطع به في (التتمة). والثاني: لا، وقطع به في (التهذيب) وحيث حكمنا بأنه لا يترخص إذا عاد، فلو نوى العود ولم يعد بعد، لم يترخص، وصار بالنية مقيما، ولا فرق بين حالتي الرجوع والحصول في البلدة، في الترخص وعدمه. هذا كله إذا لم يكن من موضع الرجوع إلى الوطن، مسافة القصر. فإن كانت، فهو مسافر مستأنف فيترخص.
فصل في انتهاء السفر الذي يقطع الترخص
ويحصل بأمور: الاول: العود إلى الوطن، والضبط فيه: أن يعود إلى الموضع الذي شرطنا مفارقته في إنشاء السفر منه. وفي معنى الوطن: الوصول إلى الموضع الذي يسافر إليه إذا عزم على الاقامة فيه القدر المانع من الترخص، فلو لم ينو الاقامة به ذلك القدر، لم ينته سفره بالوصول إليه على الاظهر. ولو حصل في طريقه في قرية، أو بلدة له بها أهل وعشيرة، فهل ينتهي سفره بدخولها ؟ قولان. أظهرهما: لا. ولو مر في طريق سفره بوطنه، بأن خرج من مكة إلى مسافة القصر، ونوى أنه إذا رجع إلى مكة، خرج إلى موضع آخر من غير إقامة، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه يصير مقيما بدخولها. وقال الصيدلاني وغيره: فيه القولان، كبلد أهله. فعلى أحدهما: العود إلى الوطن لا يوجب انتهاء السفر، إلا إذا كان عازما على الاقامة. الامر الثاني: نية الاقامة. فإذا نوى في طريقه الاقامة مطلقا، انقطع سفره، فلا يقصر. فلو أنشأ السير بعد ذلك، فهو سفر جديد، فلا يقصر إلا إذا توجه إلى مرحلتين. هذا إذا نوى الاقامة في موضع يصلح لها من بلدة، أو قرية، أو واد يمكن البدوي النزول فيه للاقامة. فأما المفازة ونحوها، ففي انقطاع السفر بنية الاقامة فيها قولان. أظهرهما عند الجمهور: انقطاعه. ولو نوى إقامة ثلاثة أيام فأقل، لم يصر مقيما قطعا وإن نوى أكثر من ثلاثة، قال الشافعي وجمهور الاصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام، صار مقيما. وذلك يقتضي أن نية دون الاربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون، واختلفوا في أن الاربعة كيف تحسب ؟ على وجهين في (التهذيب) وغيره، أحدهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما(1/486)
يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح. وأصحهما (1): لا يحسبان (2)، فعلى الاول، لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الاربعاء وقت الزوال، صار مقيما. وعلى الثاني: لا يصير (مقيما)، وإن دخل ضحوة السبت، وخرج عشية الاربعاء. وقال إمام الحرمين، والغزالي: متى نوى إقامة زائدة على ثلاثة أيام، صار مقيما. وهذا الذي قالاه، موافق لما قاله الجمهور، لانه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج، بحيث لا يبلغ الاربعة، ثم الايام المحتملة معدودة مع لياليها. وإذا نوى ما لا يحتمل، صار مقيما في الحال. ولو دخل ليلا، لم يحسب بقية الليلة، ويحسب الغد. وجميع ما ذكرناه في غير المحارب، أما المحارب، إذا نوى إقامة قدر يصير غيره به مقيما، ففيه قولان. أظهرهما: أنه كغيره. والثاني: يقصر أبدا. قلت: ولو نوى العبد إقامة أربعة أيام، أو الزوجة، أو الجيش، ولم ينو السيد، ولا الزوج، ولا الامير، ففي لزوم الاتمام في حقهم، وجهان. الاقوى: أن لهم القصر، لانهم لا يستقلون، فنيتهم كالعدم (3). والله أعلم. الامر الثالث: صورة الاقامة، فإذا عرض له شغل في بلدة، أو قرية، فأقام له، فله حالان. أحدهما (4): أن يرجو فراغ شغله ساعة فساعة، وهو على نية الارتحال عند فراغه. والثاني: يعلم أن شغله لا ينقضي في ثلاثة أيام، غير يومي الدخول(1/487)
والخروج، كالتفقه، والتجارة الكثيرة، ونحوهما، فالاول: له القصر إلى أربعة أيام على ما سبق تفصيله. وفيما بعد ذلك طريقان. الصحيح منهما: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: يجوز القصر أبدا، سواء فيه المقيم على القتال، أو الخوف من القتال، والمقيم لتجارة وغيرهما. والثاني: لا يجوز القصر أصلا. والثالث وهو الاظهر: يجوز ثمانية عشر (1) يوما فقط، وقيل: سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين. والطريق الثاني: أن هذه الاقوال في (المحارب) ويقطع بالمنع في غيره. وأما الحال الثاني: فإن كان محاربا، وقلنا في الحال الاول: لا يقصر، فهنا أولى. وإلا فقولان. أحدهما: يترخص أبدا. والثاني: ثمانية عشر (2). وإن كان غير محارب، كالمتفقه، والتاجر، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا. وقيل: هو كالمحارب، وهو غلط.(1/488)
فصل: وأما كون السفر طويلا، فلا بد منه. والطويل: ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي (1)، وهي ستة عشر فرسخا، وهي أربعة برد (2)، وهي مسيرة يومين معتدلين. فالميل: أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام. وهل هذا الضبط تحديد، أم تقريب ؟ وجهان. الاصح: تحديد. وحكي قول شاذ: أن القصر يجوز في السفر القصير، بشرط الخوف. والمعروف: الاول. واستحب الشافعي رحمه الله أن لا يقصر إلا في ثلاثة أيام، للخروج من خلاف أبي حنيفة (3) في ضبطه به. والمسافة في البحر مثل المسافة في البر وإن قطعها في لحظة. فإن شك فيها، اجتهد (4).(1/489)
قلت: ولو حبستهم الريح فيه، قال الدارمي: هو كالاقامة في البر بغير نية الاقامة. والله أعلم. واعلم أن مسافة الرجوع لا تحسب، فلو قصد موضعا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه، فليس له القصر، لا ذاهبا، ولا راجعا، وإن كان يناله مشقة مرحلتين متواليتين، لانه لا يسمى سفرا طويلا. وحكى الحناطي وجها: أنه يقصر إذا كان الذهاب والرجوع مرحلتين، وهو شاذ منكر. ويشترط عزمه في الابتداء على قطع مسافة القصر، فلو خرج لطلب آبق، أو غريم، وينصرف متى لقيه ولا يعرف موضعه، لم يترخص، وإن طال سفره كما قلنا في الهائم: فإذا وجده وعزم على الرجوع إلى بلده وبينهما مسافة القصر، يرخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع. فلو كان في ابتداء السفر يعلم موضعه، وأنه لا يلقاه قبل مرحلتين، ترخص، فلو نوى مسافة القصر، ثم نوى أنه إن وجد الغريم رجع، نظر، إن نوى ذلك قبل مفارقة عمران البلد، لم يترخص، وبعد مفارقة العمران، فوجهان. أصحهما: يترخص ما لم يجده، فإذا وجده، صار مقيما. وكذا لو نوى قصد موضع في مسافة القصر، ثم نوى الاقامة في بلد وسط الطريق، فإن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر، يترخص، وإن كان أقل، ترخص أيضا على الاصح ما لم يدخله. قلت: هذا إذا نوى الاقامة أربعة أيام، فإن نوى دونها، فهو سفر واحد، فله القصر في جميع طريقه، وفي البلد الذي في الوسط. والله أعلم. فرع: إذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الزوج، والجندي بسير الامير، ولا يعرفون مقصدهم، لم يجز لهم الترخص (1). فلو نووا مسافة القصر (2)، فلا عبرة بنية العبد، والمرأة، وتعتبر نية الجندي، لانه ليس تحت يد الامير وقهره، فإن عرفوا مقصدهم فنووا، فلهم القصر. قلت: وإذا أسر الكفار رجلا، فساروا به ولم يعلم أين يذهبون به، لم(1/490)
يقصر. وإن سار معهم يومين، قصر بعد ذلك. نص عليه الشافعي رحمه الله. فلو علم البلد الذي يذهبون به إليه، فإن كان نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب، لم يقصر (1) قبل مرحلتين. وإن نوى قصد ذلك البلد، أو غيره - ولا معصية في قصده - قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتان. والله أعلم. فرع: لو كان لمقصده (2) طريقان، يبلغ أحدهما مسافة القصر دون الآخر، فسلك الابعد، نظر، إن كان لغرض كالامن، أو السهولة، أو زيادة، أو عيادة، ترخص (3). وكذا لو قصد التنزه على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في اعتباره وإن لم يكن غرض سوى الترخص، فطريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما (4): لا يترخص. والطريق الثاني: لا يترخص قطعا. ولو بلغ بكل واحد المسافة، فسلك الابعد لغير غرض، ترخص في جميعه قطعا. فرع: إذا خرج إلى بلد والمسافة طويلة، ثم بدا له في أثناء السفر أن يرجع، انقطع سفره (5)، فلا يجوز القصر ما دام في ذلك الموضع. فإذا فارقه، فهو سفر جديد. فإنما يقصر إذا توجه منه إلى مرحلتين، سواء رجع إلى وطنه، أو استمر إلى مقصده الاول، أو غيرهما. ولو خرج إلى بلد لا يقصر إليه الصلاة، ثم نوى مجاوزته إلى ما يقصر إليه الصلاة، فابتداء سفره، من حين غير النية، فإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى المقصد الثاني مرحلتان. ولو خرج إلى سفر طويل بنية الاقامة في كل مرحلة أربعة أيام، لم يترخص. فصل: وأما كون السفر مباحا، فمعناه: أنه ليس بمعصية، سواء كان(1/491)
طاعة، أو تجارة، ولا يترخص في سفر المعصية (1)، كهرب العبد من مولاه، والمرأة من الزوج، والغريم مع القدرة على الاداء، والمسافر لقطع الطريق، أو للزنى، أو قتل البرئ. وأما العاصي في سفره، وهو أن يكون السفر مباحا، ويرتكب المعاصي في طريقه، فله الترخص. ولو أنشأ سفرا مباحا، ثم جعله معصية، فالاصح أنه لا يترخص (2). ولو أنشأ سفر معصية، ثم تاب وغير قصده من غير تغيير صوب السفر، قال الاكثرون: ابتداء سفره من ذلك الموضع. إن كان منه إلى مقصده مسافة القصر، ترخص، وإلا فلا. وقيل: في الترخص وجهان، كما لو نوى مباحا، ثم جعله معصية. ثم العاصي بسفره، لا يقصر، ولا يفطر، ولا يتنفل على الراحلة، ولا يجمع بين الصلاتين، ولا يمسح ثلاثة أيام، وله أن يمسح يوما وليلة، على الصحيح. والثاني: لا يمسح أصلا. وليس له أكل الميتة عند الاضطرار على المذهب (3)، وبه قطع الجماهير من العراقيين وغيرهم. وقيل: وجهان. أصحهما: لا يجوز تغليظا عليه، لانه قادر على استباحتها بالتوبة. والثاني: الجواز. كما يجوز للمقيم العاصي على الصحيح الذي عليه الجمهور. وفي وجه شاذ: لا يجوز للمقيم العاصي لقدرته على التوبة. قلت: ولا تسقط الجمعة عن العاصي بسفره، وفي تيممه خلاف تقدم في بابه. والله أعلم. ومما ألحق بسفر المعصية، أن يتعب الانسان نفسه، ويعذب دابته بالركض(1/492)
من غير غرض. ذكر الصيدلاني أنه لا يحل له ذلك. ولو كان يتنقل من بلد إلى بلد من غير غرض صحيح، لم يترخص. قال الشيخ أبو محمد: السفر لمجرد رؤية البلاد والنظر إليها، ليس من الاغراض الصحيحة. فصل: القصر (1) جائز في كل صلاة رباعية مؤداة (2) في السفر أدرك وقتها فيه. فأما المغرب، والصبح، فلا قصر فيهما بالاجماع. وأما المقضية، فإن فاتت في الحضر وقضاها في السفر، لم يقصر، خلافا للمزني. وإن شك هل فاتت في السفر، أو الحضر ؟ لم يقصر أيضا (3). وإن فاتت في السفر، فقضاها فيه، أو في الحضر، فأربعة أقوال. أظهرها: إن قضى في السفر، قصر، وإلا فلا. والثاني: يتم فيهما، والثالث: يقصر فيهما. والرابع: إن قضى ذلك في السفر، قصر، وإن قضى في الحضر، أو سفر آخر، أتم. فإن قلنا: يتم فيهما، فشرع في الصلاة بنية القصر، فخرج الوقت في أثنائها، فهو مبني على أن الصلاة التي يقع بعضها في الوقت أداء أم قضاء. والصحيح: أنه إن وقع في الوقت ركعة، فأداء، وإن كان دونها، فقضاء. فإن قلنا: قضاء، لم يقصر. وإن قلنا: أداء، قصر على الصحيح. وقال صاحب (التلخيص): يتم. فرع: إذا سافر في أثناء الوقت، وقد مضى منه ما يمكن فعل الصلاة فيه، فالنص أن له القصر. ونص فيما إذا أدركت من أول الوقت قدر الامكان، ثم حاضت، أنه يلزمها القضاء، وكذا سائر أصحاب العذر. فقال الاصحاب: في المسألتين طريقان. أحدهما وهو المذهب: العمل بظاهر النصين، والثاني: فيهما قولان. أحدهما: يلزم الحائض الصلاة، ويجب على المسافر الاتمام. والثاني: لا يلزمها الصلاة، ويجوز له القصر. وقال أبو الطيب بن سلمة (4): إن سافر وقد(1/493)
بقي من الوقت أربع ركعات لم يقصر. وإن بقي أكثر، قصر. والجمهور: على أنه لا فرق. أما إذا سافر وقد بقي أقل من قدر الصلاة، فإن قلنا: كلها أداء، قصر، وإلا فلا. وإن مضى من الوقت دون ما يسع الصلاة وسافر، قال إمام الحرمين: ينبغي أن يمتنع القصر إن قلنا: تمتنع لو مضى ما يسع الصلاة، بخلاف ما لو حاضت بعد مضي القدر الناقص، فإنه لا يلزمها الصلاة على المذهب، لان عروض السفر لا ينافي إتمام الصلاة، وعروض الحيض ينافيه. قلت: هذا الذي ذكره الامام، شاذ مردود، فقد صرحوا بأنه يقصر هنا بلا خلاف. ونقل القاضي أبو الطيب: إجماع المسلمين: أنه يقصر. والله أعلم.
فصل: للقصر أربع شروط : أحدها: أن لا يقتدي بمتم، فإن فعله ولو في لحظة، لزمه الاتمام. والاقتداء في لحظة يتصور من وجوه. منها أن يدرك الامام في آخر صلاته، أو يحدث الامام عقب اقتدائه وينصرف. ولو صلى الظهر خلف من يقضي الصبح، مسافرا كان أو مقيما، لم يجز القصر على الاصح. ولو صلى الظهر خلف من يصلي الجمعة، فالمذهب: أنه لا يجوز القصر مطلقا، وقيل: إن قلنا: الجمعة ظهر مقصورة، قصر، وإلا فهي كالصبح. قلت: وسواء كان إمام الجمعة، مسافرا، أو مقيما، فهذا حكمه. ولو نوى الظهر مقصورة خلف من يصلي العصر مقصورة، جاز. والله أعلم. ثم المقتدي تارة يعلم حال إمامه، وتحرة يجهلها. فإن علم، نظر، إن علمه مقيما، أو ظنه، لزمه الاتمام. فلو اقتدى به ونوى القصر، انعقدت صلاته، ولغت نية القصر. بخلاف المقيم ينوي القصر، لا تنعقد صلاته، لانه ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله، فلم يضره نية القصر. كما لو شرع في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الاتمام، أو صار مقيما. وإن علمه، أو ظنه مسافرا، أو علم أو(1/494)
ظن أنه نوى القصر، فله أن يقصر خلفه، وكذا إن لم يدر أنه نوى القصر، ولا يلزم الاتمام بهذا التردد، لان الظاهر من حال المسافر القصر. ولو عرض هذا التردد في أثناء الصلاة، لم يلزم الاتمام. ولو لم يعرف نيته فعلق عليها، فنوى إن قصر، قصرت، وإن أتم، أتممت، فوجهان: أصحهما: جواز التعليق، فإن أتم الامام، أتم، وإن قصر، قصر. فلو فسدت صلاة الامام، أو أفسدها ثم قال: كنت نويت القصر، فللمأموم القصر. وإن قال: كنت نويت الاتمام، لزمه الاتمام. وإن انصرف ولم يظهر للمأموم ما نواه، فالاصح: لزوم الاتمام. قاله أبو إسحاق. والثاني: جواز القصر، قاله ابن سريج. أما إذا لم يعلم، ولم يظن أنه مسافر، أو مقيم، بل شك، فيلزمه الاتمام وإن بان الامام مسافرا قاصرا. ولنا وجه: أنه إذا بان قاصرا، جاز القصر وهو شاذ. فرع: إذا اقتدى بمقيم، أو مسافر متم، ثم فسدت صلاة الامام، أو بان محدثا، أو فسدت صلاة المأموم، فاستأنفها، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمن ظنه مسافرا، فبان مقيما، لزمه الاتمام، لتقصيره، فإن شعار المسافر ظاهر. وإن بان أنه مقيم محدث، نظر، إن بان كونه مقيما أولا، لزم الاتمام. وإن بان كونه محدثا أولا أو بانا معا، فطريقان. أشهرهما: على وجهين. أصحهما: له القصر. والطريق الثاني: له القصر قطعا، إذ لا قدوة. ولو شرع في الصلاة مقيما، ثم بان أنه محدث، ثم سافر والوقت باق، فله القصر، لعدم الشروع الصحيح. بخلاف ما لو شرع فيها مقيما، ثم عرض سبب مفسد، فإنه يلزمه الاتمام، لالتزامه ذلك بالشروع الصحيح. ولو اقتدى بمقيم، ثم بان حدث المأموم، فله القصر. وكذا لو اقتدى بمن يعرفه محدثا ويظنه مقيما، فله القصر، لانه لم يصح شروعه. فرع: المذهب الصحيح الجديد: أنه يجوز أن يستخلف الامام إذا فسدت صلاته بحدث أو غيره من يتم بالمأمومين. وسيأتي بيان هذا في باب الجمعة، إن شاء الله تعالى. فإذا أم مسافر مسافرين ومقيمين، ففسدت صلاته برعاف (1)، أو(1/495)
سبق حدث، فاستخلف مقيما، لزم المسافرين المقتدين الاتمام. كذا قطع به الاصحاب. ويجئ فيه وجه، لانا سنذكر وجها في مسائل الاستخلاف إن شاء الله تعالى: أنه يجب عليهم نية الاقتداء بالخليفة. فعلى هذا إنما يلزم الاتمام إذا نووا الاقتداء. وإنما فرع الاصحاب على الصحيح، أن نية الاقتداء بالخليفة لا تجب. وأما الامام الذي سبقه الحدث والرعاف، فظاهر نص الشافعي رحمه الله، يقتضي وجوب إتمامه. واختلفوا في معناه، فالصحيح ما قاله أبو إسحاق المروزي، والاكثرون: أن مراده، أن يعود بعد غسل الدم، ويقتدي بالخليفة، إما بناء على القول القديم، وإما استئنافا على الجديد، فيلزمه الاتمام، لانه اقتدى بمقيم في بعض صلاته. فإن لم يقتد به، لم يلزمه الاتمام. وقيل: يجب الاتمام عاد أو لم يعد، عملا بظاهر النص، لان فرعه متم، فهو أولى، وغلطه الاصحاب. وقيل: إن هذا تفريع على القديم، إن سبق الحدث لا يبطلها، فيكون الراعف في انصرافه في حكم المؤتم بخليفته المقيم. وضعفه الاصحاب أيضا، فإن البناء إنما يجوز على القديم، والاستخلاف لا يجوز على القديم. وقيل: مراده أن يحس الامام بالرعاف قبل خروج الدم، فيستخلف، ثم يخرج فيلزمه الاتمام، لانه صار مقتديا بمقيم في جزء من صلاته. وضعفه المحاملي وغيره، لانه استخلاف قبل العذر، وليس بجائز. وقال الشيخ أبو محمد: الاحساس به عذر. ومتى حضر إمام حاله أكمل، جاز استخلافه. قلت: هذا كله إذا استخلف الامام مقيما. فلو لم يستخلف، ولا استخلف المأمومون، بنوا على صلاتهم فرادى. وجاز للمسافرين منهم، والراعف، القصر قطعا. وكذا لو استخلف الامام مسافرا، أو استخلفه القوم، قصر المسافرون والراعف. فلو لم يستخلف الامام الراعف، واستخلف القوم مقيما، فوجهان. حكاهما صاحب (الحاوي) أحدهما: أنه كاستخلاف الراعف على ما مضى. وأصحهما: يجوز للراعف هنا القصر بلا خلاف إذا لم يقتد به، لانه ليس فرعا له. ولو استخلف المقيمون مقيما، والمسافرون مسافرا، جاز. وللمسافرين القصر خلف إمامهم، وكذا لو تفرقوا ثلاث فرق أو أكثر، وأم كل فرقة إمام. نص عليه الشافعي. والله أعلم. الشرط الثاني: نية القصر. فلا بد منها عند ابتداء الصلاة. ولا يجب استدامة(1/496)
ذكرها، لكن يشترط الانفكاك عما يخالف الجزم بها. فلو نوى القصر أولا، ثم نوى الاتمام، أو تردد بين القصر والاتمام، أو شك هل نوى القصر، ثم ذكر في الحال أنه نواه، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمسافر علم أو ظن أنه نوى القصر، فصلى ركعتين، ثم قام الامام إلى ثالثة، نظر، إن علم أنه نوى الاتمام، لزمه الاتمام، وإن علم أنه ساه، بأن كان حنفيا لا يرى الاتمام، لم يلزمه الاتمام (1)، ويتخير، إن شاء خرج عن متابعته، وسجد للسهو، وسلم، وإن شاء انتظره حتى يعود. فلو أراد أن يتم أتم، لكن لا يجوز أن يقتدي بالامام في سهوه، لانه غير محسوب له. ولا يجوز الاقتداء بمن علمنا أنه ما هو فيه غير محسوب له، كالمسبوق إذا أدرك من آخر الصلاة ركعة، فقام الامام سهوا إلى ركعة زائدة، لم يكن للمسبوق أن يقتدي به في تدارك ما عليه. فلو شك هل قام ساهيا أم متما، لزمه الاتمام. ولو نوى القصر وصلى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة، نظر، إن حدث ما يوجب الاتمام كنية الاتمام، أو الاقامة، أو حصوله بدار الاقامة في السفينة، فقام لذلك، فقد فعل واجبه. فإن لم يحدث شئ من ذلك، وقام عمدا، بطلت صلاته. كما لو قام المقيم المذكور إلى ركعة خامسة، أو قام المتنفل إلى ركعة زائدة قبل تغيير النية. وإن قام سهوا، ثم ذكر، لزمه أن يعود، ويسجد للسهو، ويسلم. فلو بدا له بعد التذكر أن يتم، عاد إلى القعود، ثم نهض متما. وفي وجه ضعيف: له أن يمضي في قيامه. فلو صلى ثالثة، ورابعة، سهوا، وجلس للتشهد، فتذكر، سجد للسهو وهو قاصر، وركعتاه الزائدتان غير محسوبتين. فلو نوى الاتمام، لزمه أن يقوم ويصلي ركعتين أخريين، ويسجد للسهو في آخر صلاته. الشرط الثالث: أن يكون مسافرا من أول الصلاة إلى آخرها. فلو نوى الاقامة في أثنائها، أو انتهت به السفينة إلى دار الاقامة، أو سارت به من دار الاقامة في اثنائها، أو شك، هل نوى الاقامة، أم لا ؟ أو دخل بلدا وشك هل هو مقصوده، أم لا ؟ لزمه الاتمام. الشرط الرابع: العلم بجواز القصر. فلو جهل جوازه فقصر، لم يصح،(1/497)
لتلاعبه، نص عليه في (الام). قلت: ويلزمه إعادة هذه الصلاة أربعا، لالزامه الاتمام. والصورة فيمن نوى الظهر مطلقا، ثم سلم من ركعتين عمدا. أما لو نوى جاهل القصر الظهر ركعتين متلاعبا، فيعيدها مقصورة إذا علم القصر بعد شروعه. والله أعلم ] (1).
باب الجمع بين الصلاتين يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، تقديما في وقت الاولى، أو تأخيرا في وقت الثانية، في السفر الطويل (2). ولا يجوز في القصير على الاظهر. والافضل للسائر في وقت الاولى أن يؤخرها إلى الثانية، وللنازل في وقتها، تقديم الثانية. ولا يجوز الجمع في سفر المعصية، ولا جمع الصبح إلى غيرها، ولا العصر إلى المغرب. وأما (3) الحجاج من أهل الآفاق، فيجمعون بين الظهر والعصر (4) بعرفة في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء،(1/498)
وذلك الجمع بسبب السفر على المذهب الصحيح. وقيل: بسبب النسك. فإن قلنا بالاول، ففي جمع المكي القولان، لان سفره قصير، ولا يجمع العرفي بعرفة، ولا المزدلفي بمزدلفة، لانه وطنه. وهل يجمع كل واحد منهما بالبقعة الاخرى، فيه القولان كالمكي. وإن قلنا بالثاني، جاز الجمع لجميعهم. ومن الاصحاب (1) يقول: في جمع المكي قولان. الجديد: منعه. والقديم: جوازه. وعلى القديم في العرفي والمزدلفي، وجهان. والمذهب: منع جميعهم على الاطلاق. وحكم الجمع في البقعتين، حكمه في سائر الاسفار. ويتخير في التقديم والتأخير، والاختيار: التقديم بعرفة، والتأخير بمزدلفة. فرع: إذا جمع المسافر في وقت الاولى، اشترط ثلاثة أمور. أحدها: الترتيب، فيبدأ بالاولى. فلو بدأ بالثانية، لم يصح. وتجب إعادتها بعد الاولى. ولو بدأ بالاولى، ثم صلى الثانية، فبان فساد الاولى، فالثانية فاسدة أيضا. الامر الثاني: نية الجمع. والمذهب: أنها تشترط. ويكفي حصولها عند الاحرام بالاولى، أو في اثنائها، أو مع التحلل منها، ولا يكفي بعد التحلل. ولنا قول شاذ (2): أنها تشترط عند الاحرام بالاولى، ووجه: أنها تجوز في اثنائها. ولا تجوز مع التحلل، ووجه: أنها تجوز بعد (3) التحلل قبل الاحرام بالثانية. وهو قول خرجه المزني للشافعي. ووجه آخر لاصحابنا، وهو مذهب المزني: أن نية الجمع لا تشترط أصلا. قلت: قال الدارمي: لو نوى الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الاولى، ثم نوى الجمع ثانيا، ففيه القولان. والله أعلم. الامر الثالث: الموالاة. والصحيح المشهور: اشتراطها (4). وقال(1/499)
الاصطخري، وأبو علي الثقفي: يجوز الجمع وإن طال الفصل بين الصلاتين ما لم يخرج وقت الاولى. وحكى عن نصه في (الام): أنه إذا صلى المغرب في بيته بنية الجمع، وأتى المسجد فصلى العشاء، جاز. والمعروف: اشتراط الموالاة، فلا يجوز الفصل الطويل، ولا يضر اليسير. قال الصيدلاني: حد أصحابنا اليسير بقدر الاقامة. والاصح ما قاله العراقيون: أن الرجوع في الفصل إلى العادة. وقد تقتضي العادة إحتمال زيادة على قدر الاقامة، ويدل عليه أن جمهور الاصحاب، جوزوا الجمع بين الصلاتين بالتيمم، وقالوا: لا يضر الفصل بينهما بالطلب والتيمم، لكن يخفف الطلب. ومنع أبو إسحاق المروزي جمع المتيمم للفصل بالطلب. ومتى طال الفصل، امتنع ضم الثانية إلى الاولى، ويتعين تأخيرها إلى وقتها، سواء طال بعذر، كالسهو، والاغماء، أو بغيره. ولو جمع فتذكر بعد فراغه منهما أنه ترك ركنا من الاولى، بطلتا جميعا، وله إعادتهما جامعا. ولو تذكر تركه من الثانية، فإن قرب الفصل تدارك ومضت الصلاتان على الصحة. وإن طال، بطلت الثانية، وتعذر الجمع لطول الفصل بالثانية الباطلة، فيعيدها في وقتها. فلو لم يدر أنه ترك من الاولى، أم من الثانية، لزمه إعادتهما لاحتمال الترك من الاولى. ولا يجوز الجمع على المشهور. وفي قول شاذ: يجوز كما لو أقيمت جمعتان في بلد، ولم يعلم السابقة منهما، يجوز إعادة الجمعة في قول. هذا كله إذا جمع في وقت الاولى، فلو جمع في وقت الثانية، لم يشترط الترتيب ولا الموالاة، ولا نية الجمع حال الصلاة على الصحيح. وتشترط الثلاثة على الثاني، فعلى الاشتراط، لو أخل بواحد منها، صارت الاولى قضاء، فلا يجوز قصرها إن لم نجوز قصر القضاء. قال الاصحاب: ويجب أن ينوي في وقت الاولى كون التأخير بنية الجمع. فلو أخر بغير نية حتى خرج الوقت، أو ضاق بحيث لم يبق منه ما تكون الصلاة فيه أداء، عصى، وصارت الاولى قضاء. فرع: إذا جمع تقديما، فصار في أثناء الاولى أو قبل الشروع في الثانية مقيما بنية الاقامة، أو وصول السفينة دار الاقامة، بطل الجمع، فيتعين تأخير الثانية إلى وقتها، وأما الاولى فصحيحة. فلو صار مقيما في أثناء الثانية، فوجهان.(1/500)
أحدهما: يبطل الجمع، كما يمتنع القصر بالاقامة في أثنائها. فعلى هذا، هل تكون الثانية نفلا، أم تبطل ؟ فيه الخلاف كنظائره. وأصحهما: لا يبطل الجمع صيانة لها عن البطلان بعد الانعقاد، بخلاف القصر، فإن وجوب الاتمام، لا يبطل فرضية ما مضى من صلاته. أما إذا صار مقيما بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: الاقامة في أثنائها لا تؤثر، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الاصح: لا يبطل الجمع، كما لو قصر ثم أقام. ثم قال صاحب (التهذيب) وآخرون: الخلاف فيما إذا أقام بعد فراغه من الصلاتين، إما في وقت الاولى، وإما في وقت الثانية قبل مضي إمكان فعلها. فإن كان بعد إمكان فعلها، لم تجب إعادتها بلا خلاف. وصرح إمام الحرمين بجريان الخلاف مهما بقي من وقت الثانية شئ. هذا كله إذا جمع تقديما. فلو جمع في وقت الثانية، فصار مقيما بعد فراغه منهما، لم يضر. وإن كان قبل الفراغ، صارت الاولى قضاء. فصل: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، بعذر المطر. ولنا قول شاذ ضعيف، حكاه إمام الحرمين: أنه يجوز بين المغرب والعشاء في وقت المغرب دون الظهر والعصر، وهو مذهب مالك (1). وقال المزني: لا يجوز مطلقا، وسواء عندنا قوي المطر وضعيفه إذا بل الثوب، والشفان، مطر وزيادة. قلت: الشفان - بفتح الشين المعجمة، وتشديد الفاء، وآخره نون (2) - وهو برد ريح فيه ندوة، وكذا قاله أهل اللغة. وهو تصريح بأنه ليس بمطر، فضلا عن كونه مطرا وزيادة، فكأن الرافعي قلد صاحب (التهذيب) في إطلاق هذه العبارة المنكرة. وصوابه أن يقال: الشفان له حكم المطر، لتضمنه القدر المبيح من المطر، وهو ما يبل الثوب، وهو موجود في الشفان. والله أعلم. والثلج، والبرد، إن كانا يذوبان، فكالمطر، وإلا، فلا. وفي وجه شاذ: لا يرخصان بحال. ثم هذه الرخصة لمن يصلي جماعة في مسجد يأتيه من بعد، ويتأذى بالمطر في إتيانه. فأما من يصلي في بيته منفردا، أو في جماعة، أو مشى(1/501)
إلى المسجد في كن، أو كان المسجد في باب داره، أو صلى النساء في بيوتهن جماعة، أو حضر جميع الرجال في المسجد، وصلوا أفرادا، فلا يجوز الجمع على الاصح. وقيل: على الاظهر. ثم إن أراد الجمع في وقت الاولى، فشروطه كما تقدمت في جمع السفر. وإن أراد تأخير الاولى إلى الثانية، كالسفر، لم يجز على الاظهر الجديد، ويجوز على القديم. فإذا جوزناه، قال العراقيون: يصلي الاولى مع الثانية، سواء اتصل المطر، أو انقطع. وقال في (التهذيب): إذا انقطع قبل دخول وقت الثانية، لم يجز الجمع، ويصلي الاولى في آخر وقتها، كالمسافر إذا أخر بنية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت الثانية، وقتضى هذا أن يقال: لو انقطع في وقت الثانية قبل فعلها، امتنع الجمع، وصارت الاولى قضاء، كما لو صار مقيما. وعكس صاحب (الابانة) ما قاله الاصحاب، واتفقوا عليه، فقال: يجوز الجمع في وقت الثانية. وفي جوازه في وقت الاولى، وجهان. وهذا نقل منكر. وأما إذا جمع في وقت الاولى، فلا بد من وجود المطر في أول الصلاتين، ويشترط وجوده أيضا عند التحلل من الاولى على الاصح الذي قاله أبو زيد، وقطع به العراقيون، وصاحب (التهذيب) وغيرهم. والثاني: لا يشترط. ونقله في (النهاية) عن معظم الاصحاب. ولا يضر انقطاعه فيما سوى هذه الاحوال الثلاث. هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي، وقطع به الاصحاب في طرقهم. ونقل في (النهاية) عن بعض المصنفين أنه قال: في انقطاعه في أثناء الثانية، أو بعدها مع بقاء الوقت، الخلاف المتقدم في طريان الاقامة في جمع السفر. وضعفه، وأنكره، وقال: إذا لم يشترط دوام المطر في الاولى، فأولى أن لا يشترط في الثانية وما بعدها. وذكر القاضي ابن كج عن بعض الاصحاب: أنه لو افتتح الصلاة الاولى ولا مطر، ثم مطرت في أثنائها، ففي جواز الجمع، القولان في نية الجمع في أثناء الاولى. واختار ابن الصباغ هذه الطريقة، والصحيح المشهور ما قدمناه. فرع: يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر للمطر، فإذا قدم العصر، فلا بد من وجود المطر في الاحوال الثلاثة كما تقدم. قال صاحب (البيان): ولا يشترط وجوده في الخطبتين، وقد ينازع فيه ذهابا إلى جعلهما بدل الركعتين. قال: وإن أراد تأخير الجمعة إلى وقت العصر، جاز إذا جوزنا تأخير الظهر، فيخطب في وقت العصر ويصلي.(1/502)
فرع: المعروف في المذهب: أنه لا يجوز الجمع بالمرض، ولا الخوف، ولا الوحل. وقال جماعة من أصحابنا: يجوز بالمرض، والوحل. ممن قاله من أصحابنا: أبو سليمان الخطابي، والقاضي حسين، واستحسنه الروياني. فعلى هذا، يستحب أن يراعي الارفق بنفسه، فإن كان يحم مثلا في وقت الثانية، [ قدمها إلى الاولى بالشرائط المتقدمة، وإن كان يحم في وقت الاولى، أخرها إلى الثانية ] (1). قلت: القول: بجواز الجمع بالمرض ظاهر مختار (2). فقد ثبت في (صحيح مسلم) (3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر). وقد حكى الخطابي، عن القفا الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي: جواز الجمع في الحضر للحاجة من غير اشتراط الخوف، والمطر، والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا. والله أعلم. فرع: إذا جمع الظهر والعصر، صلى سنة الظهر، ثم سنة العصر، ثم يأتي بالفريضتين. وفي جمع العشاء والمغرب، يصلي الفريضتين، ثم سنة المغرب، ثم سنة العشاء، ثم الوتر. قلت: هذا الذي قاله الامام الرافعي في المغرب والعشاء، صحيح، وأما في الظهر والعصر، فشاذ ضعيف، والصواب الذي قاله المحققون: أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها، ثم يصلي الظهر، ثم العصر، ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر. وكيف يصح سنة الظهر التي بعدها، قبل فعلها، وقد تقدم أن وقتها يدخل بفعل الظهر ؟ ! وكذا سنة العصر لا يدخل وقتها إلا بدخول وقت العصر، ولا يدخل وقت العصر المجموعة إلى الظهر، إلا بفعل الظهر الصحيحة. والله أعلم.(1/503)
فصل: الرخص المتعلقة بالسفر الطويل، أربع: القصر، والفطر، والمسح على الخف ثلاثة أيام ولياليهن، والجمع على الاظهر. والتي تجوز في القصر أيضا أربع: ترك الجمعة، وأكل الميتة - وليس مختصا بالسفر - والتنفل على الراحلة على المشهور، والتيمم، وإسقاط الفرض به على الصحيح فيهما (1). فصل: القصر أفضل من الاتمام على الاظهر. وعلى الثاني: الاتمام. وفي وجه: هما سواء. واستثنى الاصحاب صورا من الخلاف. منها: إذا كان السفر دون ثلاثة أيام، فالاتمام أفضل قطعا. نص عليه، وقد تقدم. ومنها: أن يجد من نفسه كراهة القصر (2)، فيكاد يكون رغبة عن السنة، فالقصر لهذا أفضل قطعا، بل يكره له الاتمام إلى أن تزول تلك الكراهة. وكذلك القول في جميع الرخص في هذه الحالة. ومنها: الملاح الذي يسافر في البحر، ومعه أهله وأولاده في سفينة، فإن الافضل له الاتمام. نص عليه في (الام). وفيه خروج من الخلاف، فإن أحمد، لا يجوز له القصر. قلت: ومنها ما حكاه صاحب (البيان) عن صاحب (الفروع): أن الرجل إذا كان لا وطن له، وعادته السير أبدا، فله القصر، ولكن الاتمام أفضل، والله أعلم.(1/504)
واعلم: أن صوم رمضان في السفر لمن أطاقه، أفضل من الافطار على المذهب. قلت: وترك الجمع أفضل بلا خلاف، فيصلي كل صلاة في وقتها، للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة، وجماعة من التابعين لا يجوزونه. وممن نص على أن تركه أفضل: الغزالي، وصاحب (التتمة). قال الغزالي في (البسيط): لا خلاف أن ترك الجمع أفضل. قال أصحابنا: وإذا جمع، كانت الصلاتان أداء، سواء جمع في وقت الاولى، أو الثانية. ولنا وجه شاذ في (الوسيط) وغيره: أن المؤخرة تكون قضاء. وغسل الرجل أفضل من مسح الخف، إلا إذا تركه رغبة عن السنة، أو شك في جوازه كما تقدم ومن فروع هذا الكتاب، لو نوى الكافر، أو الصبي السفر إلى مسافة القصر، ثم أسلم، وبلغ في أثناء الطريق، فلهما القصر في بقيته. ولو نوى مسافران إقامة أربعة أيام، وأحدهما يعتقد انقطاع القصر بها، كالشافعي، والآخر لا يعتقده كالحنفي، كره للاول أن يقتدي بالثاني. فإن اقتدى، صح. فإذا سلم الامام من ركعتين، قام المأموم لاتمام صلاته. ولا يجوز القصر في البلد للخوف، ولا يقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة. وفي حديث ابن عباس في (مسلم): (فرضت الصلاة في السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) معناه: ركعة مع الامام، وينفرد المأموم بأخرى. والله أعلم.(1/505)
كتاب صلاة الجمعة (1)
فيه ثلاثة أبواب:
[ الباب الاول ] في شروطها اعلم أن صلاة الجمعة فرض عين. وحكى ابن كج وجها: أنها فرض كفاية. وحكي قولا، وغلطوا حاكيه (2)، قال الروياني: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي رحمه الله. واعلم أن الجمعة كالفرائض الخمس في الاركان والشروط، إلا أنها تختص بثلاثة أشياء. أحدها: اشتراط أمور زائدة لصحتها. والثاني: اشتراط أمور زائدة لوجوبها.(1/507)
والثالث: آداب تشرع فيها. وهذا الباب لشروط الصحة. وهي ستة: الاول: الوقت: فلا تقضى الجمعة على صورتها (1) بالاتفاق، ووقتها: وقت الظهر (2). ولو خرج الوقت، أو شكوا في خروجه، لم يشرعوا فيها. ولو بقي من الوقت ما لا يسع خطبتين وركعتين يقتصر فيهما على ما لا بد منه، لم يشرعوا فيها، بل يصلون الظهر (3). نص عليه في (الام). ولو شرعوا فيها في الوقت، ووقع بعضها خارجه، فاتت الجمعة قطعا، ووجب عليهم إتمامها ظهرا على المذهب. وفيه قول مخرج: أنه يجب استئناف الظهر. فعلى المذهب، يسر بالقراءة من حينئذ، ولا يحتاج إلى تجديد نية الظهر على الاصح. وإن قلنا بالمخرج، فهل تبطل صلاته، أم تنقلب نفلا ؟ قولان مذكوران في نظائره، تقدما في أول (صفة الصلاة) ولو شك هل خرج الوقت وهو في الصلاة ؟ أتمها جمعة على الصحيح، وظهرا على الثاني. ولو قام المسبوق الذي أدرك ركعة ليأتي بالثانية، فخرج الوقت قبل سلامه، أتمها ظهرا على الاصح، وجمعة على الثاني. ولو سلم الامام والقوم التسليمة الاولى في الوقت، والثانية خارجه، صحت جمعتهم. ولو سلم الامام الاولى خارج الوقت، فاتت جمعة الجميع. ولو سلم الامام وبعض المأمومين الاولى في الوقت، وسلمها بعض المأمومين خارجه، فمن سلمها خارجه، فظاهر المذهب بطلان صلاتهم. وأما الامام ومن سلم معه في الوقت، فإن بلغوا عددا تصح بهم الجمعة، صحت لهم، وإلا فهو شبيه بمسألة الانفضاض (4). ثم سلامه وسلامهم خارج الوقت، إن كان مع العلم بالحال، تعذر بناء الظهر عليه قطعا، لبطلان الصلاة، إلا أن يغيروا النية إلى النفل ويسلموا، ففيه ما سبق. وإن(1/508)
كان عن جهل منه، لم تبطل صلاته. وهل يبني، أم يستأنف ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. الشرط الثاني: دار الاقامة، فيشترط لصحة الجمعة دار الاقامة، وهي الابنية التي يستوطنها العدد الذين يصلون الجمعة، سواء فيه البلاد، والقرى، والاسراب التي يتخذها وطنا (1)، وسواء فيه البناء من حجر، أو طين، أو خشب. وأما أهل الخيام النازلون في الصحراء، ويتنقلون في الشتاء (2) وغيره، فلا تصح جمعتهم فيها، فإن كانوا لا يفارقونها شتاء ولا صيفا، فالاظهر أنها لا تصح. والثاني: تصح وتجب. ولو انهدمت أبنية القرية، أو البلد، فأقام أهلها على العمارة، لزمهم الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غيرها، لانه محل الاستيطان. ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولا في كن، بل يجوز في فضاء معدود من خطة البلد، فأما الموضع الخارج عن البلد الذي (3) انتهى إليه الخارج للسفر قصر، فلا يجوز إقامة الجمعة فيه. الشرط الثالث: أن لا يسبق الجمعة، ولا يقارنها أخرى (4). قال الشافعي(1/509)
رحمه الله: ولا يجمع في مصر - وإن عظم، وكثرت مساجده - إلا في موضع واحد (1). وأما بغداد، فقد دخلها الشافعي رحمه الله وهم يقيمون الجمعة في موضعين. وقيل: في ثلاثة، فلم ينكر عليهم. واختلف أصحابنا في أمرها على أوجه. أصحها: أنه إنما جازت الزيادة فيها على جمعة، لانها بلدة كبيرة يشق اجتماعهم في موضع واحد، فعلى هذا تجوز الزيادة على الجمعة الواحدة في جميع البلاد، إذا كثر الناس وعسر اجتماعهم، وبهذا قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وهو الذي اختاره أكثر أصحابنا تصريحا وتعريضا. وممن رجحه: القاضي ابن كج، والحناطي (2) - بالحاء المهملة المفتوحة، وتشديد النون - والقاضي الروياني، والغزالي. والثاني: إنما جازت الزيادة فيها، لان نهرها يحول بين جانبيها فيجعلها كبلدتين. قاله أبو الطيب ابن سلمة. وعلى هذا لا يقام في كل جانب إلا جمعة. وكل (3) بلد حال بين جانبيه نهر يحوج إلى السباحة، فهو كبغداد. واعترض عليه، بأنه لو كان الجانبان كبلدين، لقصر من عبر من أحدهما إلى الآخر، والتزم ابن سلمة المسألة، وجوز القصر. والثالث: إنما جازت الزيادة، لانها كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت الابنية، فأجري عليها حكمها القديم، فعلى هذا، يجوز تعدد الجمعة في كل بلد هذا شأنه. واعترض عليه أبو حامد بما اعترض على الثاني. ويجاب بما(1/510)
أجيب في الثاني. وأشار إلى هذا الجواب صاحب (التقريب). والرابع: أن الزيادة لا تجوز بحال، وإنما لم ينكر الشافعي، لان المسألة اجتهادية، وليس لمجتهد أن ينكر على المجتهدين. وهذا ظاهر نص الشافعي رحمه الله المتقدم. واقتصر عليه الشيخ أبو حامد وطبقته، لكن المختار عند الاكثرين ما قدمناه. وحيث منعنا الزيادة على جمعة، فعقدوا جمعتين، فله صور. أحدها: أن تسبق إحداهما فهي الصحيحة. والثانية: باطلة. وبم يعرف السبق ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: بالاحرام (1). والثاني: بالسلام. والثالث: بالشروع في الخطبة، ولم يحك أكثر العراقيين هذا الثالث. فإذا قلنا بالاول، فالاعتبار بالفراغ من تكبيرة الاحرام. فلو سبقت إحداهما بهمزة التكبيرة، والاخرى بالراء منها، فالصحيحة هي السابقة (2) بالراء، على الاصح. وعلى الثاني: السابقة بالهمزة. ثم على اختلاف الاوجه، لو سبقت إحداهما، وكان السلطان مع الاخرى، فالاظهر أن السابقة هي الصحيحة، ولا أثر للسلطان. والثاني: أن التي معها السلطان، هي الصحيحة. ولو دخلت طائفة في الجمعة، فأخبروا أن طائفة سبقتهم (3) بما ذكرنا، استحب لهم استئناف الظهر. وهل لهم أن يتموها ظهرا ؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا خرج الوقت وهم في الجمعة. الصورة الثانية: أن تقع الجمعتان معا، فباطلتان (4)، وتستأنف جمعة إن وسع الوقت. الثالثة: أن يشكل الحال، ولا يدري اقترنتا، أم سبقت إحداهما، فيعيدون(1/511)
الجمعة أيضا، لان الاصل عدم جمعة مجزئة. قال إمام الحرمين (1): وقد حكم الائمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة، برئت ذمتهم. وفيه إشكال لاحتمال تقدم إحداهما، فلا تصح أخرى، ولا تبرأ ذمتهم بها. فسبيل اليقين: أن يقيموا جمعة، ثم يصلوا ظهرا. الرابعة: أن تسبق إحداهما بعينها، ثم تلتبس (2)، فلا تبرأ واحدة من الطائفتين عن العهدة، خلافا للمزني. ثم ماذا عليهم ؟ فيه طريقان. المذهب: أن عليهم الظهر. والثاني: على القولين في الصورة الخامسة، وبه قطع العراقيون. الخامسة: أن تسبق إحداهما ولا يتعين، بأن سمع مريضان، أو مسافران، تكبيرتين متلاحقتين وهما خارج المسجدين، فأخبراهم بالحال ولم يعرفا المتقدمة، فلا تبرأ واحدة منهما عن العهدة، خلافا للمزني أيضا. وماذا عليهم ؟ قولان. أظهرهما في (الوسيط): أنهم يستأنفون الجمعة، والثاني: يصلون الظهر. قال أصحابنا (3): وهو القياس. قلت: الثاني أصح، وصححه الاكثرون والله أعلم. قال أصحابنا العراقيون: لو كان الامام في إحدى الطائفتين في الصور الاربع الاخيرة، ترتب على الصورة الاولى. فإن قلنا: التي فيها الامام هي الصحيحة مع العلم بتأخرها، فهنا أولى، وإلا فلا أثر لحضوره. الشرط الرابع: العدد. فلا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، هذا هو المذهب الصحيح المشهور. ونقل صاحب (التلخيص) قولا عن القديم: أنها تنعقد بثلاثة: إمام، ومأمومين. ولم يثبته عامة الاصحاب. ويشترط في الاربعين: الذكورة، والتكليف، والحرية (4)، والاقامة على سبيل التوطن. وصفة التوطن: أن لا يظعنوا(1/512)
عن ذلك الموضع شتاء ولا صيفا، إلا لحاجة. فلو كانوا ينزلون في ذلك الموضع صيفا، ويرتحلون شتاء، أو عكسه، فليسوا مستوطنين، فلا تنعقد بهم. وفي انعقادها بالمقيم الذي لم يجعل الموضع وطنا له، خلاف نذكره في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. وتنعقد بالمرضى على المشهور. وفي قول شاذ: لا تنعقد بهم، كالعبيد. فعلى هذا، صفة الصحة شرط خامس. ثم الصحيح، أن الامام من جملة الاربعين. والثاني أنه (1) يشترط أن يكون زائدا عن (2) الاربعين. وحكى الروياني هذا الخلاف قولين. الثاني، القديم (3). فرع: العدد المعتبر في الصلاة - وهو الاربعون - معتبر في الكلمات الواجبة من الخطبتين، واستماع القوم لها. فلو حضر العدد، ثم انفضوا كلهم، أو بعضهم، وبقي دون أربعين (4)، فتارة ينقصون قبل الخطبة، وتارة فيها، وتارة بعدها، وتارة في الصلاة، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة، لم يبتدأ بها حتى يجتمع أربعون، وإن كان في أثنائها، فلا خلاف أن الركن المأتي به في غيبتهم غير محسوب، بخلاف ما إذا نقص العدد في الصلاة، فإن فيها خلافا، لان كلا يصلي لنفسه، فسومح بنقص العدد فيها. والخطيب لا يخطب لنفسه، إنما الغرض: استماع الناس، فما جرى ولا مستمع، فات فيه الغرض، فلم يحتمل. ثم إن عادوا قبل طول الفصل، بنى على خطبته، وبعد طوله، قولان يعبر عنهما بأن الموالاة في الخطبة واجبة، أم لا ؟ والاظهر: أنها واجبة، فيجب الاستئناف. والثاني: غير واجبة فيبني. وبنى جماعة القولين، على أن الخطبتين بدل من الركعتين فيجب الاستئناف، أم لا، فلا ولا فرق بين فوات الموالاة بعذر أو بغيره. ولو لم يعد الاولون، واجتمع بدلهم أربعون،(1/513)
وجب استئناف الخطبة، طال الفصل أم قصر. أما إذا انفضوا بعد فراغ الخطبة، فإن عادوا قبل طول الفصل، صلى الجمعة بتلك الخطبة. وإن عادوا بعد طوله، ففي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة، قولان. الاظهر: الاشتراط. فلا يمكن الصلاة بتلك الخطبة. وعلى الثاني: يصلي بها. ثم نقل المازني، أن الشافعي قال: أحببت أن تبتدئ الخطبة، ثم يصلي الجمعة، فإن لم يفعل، صلى بهم الظهر. واختلف الاصحاب في معناه، فقال ابن سريج، والقفال، والاكثرون: يجب أن يعيد الخطبة، ويصلي بهم الجمعة لتمكنه. قالوا: ولفظ الشافعي: أوجبت، ولكنه صحف. ومنهم من قال: أراد بأحببت: أوجبت. قالوا: وقوله: صلى بهم الظهر، محمول على ما إذا ضاق الوقت. وقال أبو إسحاق: لا يجب إعادة الخطبة، لكن يستحب، وتجب الجمعة للقدرة (1). وقال أبو علي في (الافصاح): لا تجب إعادة الخطبة، ولا الجمعة، ولكن يستحبان عملا بظاهر النص. ودليل الثاني والثالث في ترك الخطبة، خوف الانفضاض ثانيا، فسقطت بهذا العذر، وحصل خلاف في وجوب إقامة الجمعة، كما اختصره الغزالي، فقال: إن شرطنا الموالاة، ولم تعد الخطبة، أتم المنفضون. وهل يأثم الخطيب ؟ قولان. قلت: الاصح قول ابن سريج، ومتابعيه، وأن الخطيب يأثم إذا لم يعد، والله أعلم. وسواء طال الفصل والخطيب ساكت، أو مستمر في الخطبة، ثم لما عادوا أعاد ما جرى من واجبها في حال الانفضاض. أما إذا أحرم بالعدد المعتبر، ثم حضر أربعون آخرون وأحرموا، ثم انفض الاولون، فلا يضر، بل يتم الجمعة، سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة، أم لا. قال إمام الحرمين: ولا يمتنع (2) عندي أن يقال: عندي (3) يشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة، فلا تستمر الجمعة إذا كان اللاحقون لم يسمعوها. فأما إذا انفضوا ولحق أربعون على الاتصال فقد قال في (الوسيط): تستمر الجمعة. لكن يشترط هنا أن يكون اللاحقون سمعوا الخطبة. أما إذا انفضوا فنقص العدد في باقي الصلاة، ففيه خمسة أقوال منصوصة ومخرجة. أظهرها:(1/514)
تبطل الجمعة ويشترط العدد في جميعها. فعلى هذا، لو أحرم الامام، وتبطأ المقتدون (1)، ثم أحرموا، فإن تأخر تحرمهم عن ركوعه، فلا جمعة. وإن لم يتأخروا عن ركوعه (2)، فقال القفال: تصح الجمعة. وقال الشيخ أبو محمد: يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم. وقال إمام الحرمين: الشرط أن يتمكنوا من إتمام الفاتحة، فإذا حصل ذلك، لم يضر الفصل، وهذا هو الاصح عند الغزالي. والقول الثاني: إن بقي اثنان مع الامام، أتم الجمعة، وإلا بطلت. والثالث: إن بقي معه واحد، لم تبطل، وهذه الثلاثة منصوصة. الاولان في الجديد. والثالث: القديم. ويشترط في الواحد والاثنين: كونهما بصفة الكمال. وقال صاحب (التقريب): في اشتراط الكمال احتمال، لانا اكتفينا باسم الجماعة. قلت: هذا الاحتمال حكاه صاحب (الحاوي) وجها محققا لاصحابنا، حتى لو بقي صبيان، أو صبي، كفى. والصحيح: اشتراط الكمال. قال في (النهاية): احتمال صاحب (التقريب) غير معتد به. والله أعلم. والرابع: لا تبطل وإن بقي واحدة (3). والخامس: إن كان الانفضاض في الركعة الاولى بطلت الجمعة. وإن كان بعدها، لم تبطل، ويتم الامام الجمعة وحده، وكذا من معه إن بقي معه أحد. الشرط الخامس: الجماعة (4). فلا تصح الجمعة بالعدد فرادى. وشروط الجماعة: على ما سبق في غير الجمعة (5). ولا يشترط حضور السلطان، ولا إذنه فيها. وحكى في (البيان) قولا قديما: إنها لا تصح إلا خلف الامام، أو من أذن له، وهو شاذ منكر. ثم لامام الجمعة أحوال. أحدها: أن يكون عبدا، أو مسافرا، فإن تم به العدد، لم تصح الجمعة،(1/515)
وإن تم بغيره (1)، صحت على المذهب (2). وقيل: وجهان. أصحهما: الصحة. والثاني: البطلان. هذا إذا صليا الجمعة قبل أن يصليا الظهر. فإن كانا صليا ظهر يومهما، فهما متنفلان بالجمعة. وفي الجمعة خلفهما ما يأتي في المتنفل. الحال الثاني: أن يكون صبيا، أو متنفلا، فإن تم العدد به، لم تصح، وإن تم دونه، صحت على الاظهر (3) عند الاكثرين. واتفقوا على أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي، لانه من أهل الفرض ولا نقص فيه. الحال الثالث: أن يصلوا الجمعة خلف من يصلي صبحا، أو عصرا، فكالمتنفل. وقيل: تصح قطعا، لانه يصلي فرضا. ولو صلوها (4) خلف مسافر يقصر الظهر، جاز إن قلنا (5): الجمعة ظهر مقصورة. وإن قلنا: صلاة على حيالها، فكالصبح. الحال الرابع: إذا بان الامام بعد الصلاة جنبا أو محدثا، فإن تم العدد به، لم تصح. وإن تم دونه، فالاظهر: الصحة. نص عليه في (الام)، وصححه العراقيون، وأكثر أصحابنا. والثاني: لا تصح، لان الجماعة شرط، والامام غير مصل، بخلاف سائر الصلوات، فإن الجماعة فيها ليست شرطا. وغايته أنهم صلوها فرادى. والمنع هنا أقوى منه في مسألة الاقتداء بالصبي. وقال الاكثرون المرجحون للاول: لا نسلم أن حدث الامام يمنع صحة الجماعة، وثبوت حكمها في حق المأموم الجاهل بحاله. وقالوا: لا يمنع نيل فضيلة الجماعة في سائر الصلوات، ولا غيره من أحكام الجماعة. وعلى الاظهر، قال صاحب (البيان): لو صلى الجمعة بأربعين، فبان أن المأمومين محدثون، صحت صلاة الامام (6).(1/516)
بخلاف ما لو بانوا عبيدا، أو نساء، فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه. وقياس من يذهب إلى المنع 0 أن لا تصح جمعة الامام لبطلان الجماعة. الحال الخامس: إذا قام الامام في غير الجمعة إلى ركعة زائدة سهوا، فاقتدى به إنسان فيها، وأدرك جميع الركعة، فإن كان عالما بسهوه، لم تنعقد صلاته على الاصح. وإن كان جاهلا، حسبت له الركعة، ويبني عليها بعد سلام الامام وإن لم تكن تلك الركعة محسوبة للامام كالمحدث. بخلاف ما لو بان الامام كافرا، أو امرأة، لانهما ليسا أهلا للامامة بحال. وعلى الوجه الثاني (1): تنعقد الصلاة، ولا تحسب هذه الركعة للمأموم. فلو جرى هذا في الجمعة، فإن قلنا: في غير الجمعة لا يدرك به الركعة، لم يدرك به هنا الجمعة، ولا تحسب عن الظهر أيضا، وإن قلنا: يدركها في غير الجمعة، فهل تحسب هذه الركعة عن الجمعة ؟ وجهان بناء على القولين في المحدث. واختار ابن الحداد: أنها لا تحسب. واعلم أن الاصحاب لم يذكروا في المحدث إذا لم تحصل الجمعة: أن صلاة المقتدي به منعقدة، وإن المأتي به يحسب عن الظهر، حتى لو تبين الحال قبل سلام الامام أو بعده على قرب، يتمها ظهرا إذا جوزنا بناء الظهر على الجمعة. ومقتضى التسوية بين الفصلين: الانعقاد والاحتساب عن الظهر. فرع: إذا أدرك المسبوق ركوع الامام في ثانية الجمعة، كان مدركا للجمعة. فإذا سلم الامام، أتى بثانية (2)، وإذا أدركه بعد ركوعها، لم يدرك الجمعة، ويقوم بعد سلام الامام إلى أربع للظهر (3)، وكيف ينوي هذا المدرك بعد(1/517)
الركوع ؟ وجهان. أصحهما: ينوي الجمعة موافقة للامام (1). والثاني: الظهر، لانها الحاصلة (2). فلو صلى مع الامام ركعة، ثم قام فصلى أخرى، وعلم في التشهد أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين، نظر، إن علمها من الثانية، فهو مدرك للجمعة، فيسجد سجدة، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو ويسلم. وإن علمها من الاولى، أو شك، لم يكن مدركا للجمعة، وحصلت له ركعة من الظهر، ولو أدركه في الثانية، وشك هل سجد معه سجدة، أم سجدتين ؟ فإن لم يسلم الامام، سجد بعد سجدة أخرى، وكان مدركا للجمعة. وإن سلم الامام، لم يدرك الجمعة، فيسجد ويتم الظهر. أما ذا أدرك في غير الجمعة الامام في ركوع غير محسوب، كركوع الامام المحدث، وركوع الامام (3) الساهي بزيادة ركعة، وقلنا: إنه لو أدركها كلها، حسبت، فوجهان. أصحهما: لا يكون مدركا للركعة. والثاني: يدركها. فلو أدرك ركوع ثانية الجمعة، فبان الامام محدثا، وقلنا: لو أدرك الركعة بكمالها مع المحدث في الجمعة حسبت، فعلى هذين الوجهين، الاصح: لا يدرك الجمعة. فصل: إذا خرج الامام عن الصلاة بحدث تعمده، أو سبقه، أو بسبب غيره، أو بلا سبب، فإن كان في غير الجمعة، ففي جواز الاستخلاف قولان. أظهرهما الجديد: يجوز (4). والقديم: لا يجوز. ولنا وجه: أنه يجوز بلا خلاف في غير الجمعة. وإنما القولان في الجمعة، والمذهب: طرد القولين في جميع الصلوات. فإن لم نجوز الاستخلاف، أتم القوم صلاتهم فرادى. وإن جوزناه، فيشترط كون الخليفة صالحا لامامة القوم. فلو استخلف لامامة الرجال امرأة، فهو(1/518)
لغو، ولا تبطل صلاتهم إلا أن يقتدوا بها. قال إمام الحرمين: ويشترط حصول الاستخلاف على قرب. فلو فعلوا على الانفراد ركنا، امتنع الاستخلاف بعده. وهل يشترط كون الخليفة ممن اقتدى بالامام قبل حدثه ؟ قال الاكثرون من العراقيين، وغيرهم: إن استخلف في الركعة الاولى أو الثالثة (1) من الرباعية من لم يقتد به، جاز، لانه لا يخالفهم في الترتيب، وإن استخلفه في الثانية، أو الاخيرة، لم يجز، لانه يحتاج إلى القيام، ويحتاجون إلى القعود. وأطلق جماعة اشتراط كون الخليفة ممن اقتدى به. وبه قطع إمام الحرمين، وزاد فقال: لو أمر الامام أجنبيا فتقدم، لم يكن خليفة، بل عاقد لنفسه صلاة، جاز على ترتيب نفسه فيها. فلو اقتدى به القوم، فهو اقتداء منفردين في أثناء الصلاة. وقد سبق الخلاف فيه في موضعه، لان قدوتهم انقطعت بخروج الامام عن الصلاة. ولا يشترط كون الخليفة مقتديا في الاولى، بل يجوز استخلاف المسبوق. ثم عليه مراعاة نظم صلاة الامام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه، كما كان يفعل لو لم يخرج عن الصلاة، حتى لو لحق الامام في ثانية الصبح، ثم أحدث الامام فيها، واستخلفه، قنت وقعد فيها للتشهد، ثم يقنت في الثانية لنفسه. ولو سها قبل اقتدائه، أو بعده، سجد في آخر صلاة الامام، وأعاد في آخر صلاة نفسه على الاظهر. وإذا تمت صلاة الامام، قام لتدارك ما عليه. وهم بالخيار، إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا صبروا جلوسا ليسلموا معه. هذا كله إذا عرف المسبوق نظم صلاة الامام، فإن لم يعرف، فقولان. وقيل: وجهان. قلت: أرجحهما دليلا (2): أنه لا يصح. وقال الشيخ أبو علي السنجي: أصحهما: جوازه (3). والله أعلم. فإن جوزنا، راقب القوم إذا أتم الركعة، فإن هموا بالقيام، قام، وإلا قعد. وسهو الخليفة قبل حدث الامام، يحمله الامام. وسهوه بعده يقتضي السجود عليه(1/519)
وعلى القوم. وسهو القوم قبل حدث الامام [ يحمله الامام وسهوه بعده ] (1) وبعد الاستخلاف، محمول، وبينهما غير محمول، بل يسجد الساهي بعد سلام الخليفة. هذا كله في غير الجمعة. أما الاستخلاف في الجمعة، ففيه القولان. فإن لم نجوزه: فالمذهب أنه إن أحدث في الاولى، أتم القوم صلاتهم ظهرا. وإن أحدث في الثانية، أتمها جمعة من أدرك معه ركعة. ولنا قول: أنهم يتمونها جمعة في الحالين. ووجه: أنهم يتمونها ظهرا في الحالين. وإن جوزنا الاستخلاف، نظر، إن استخلف من لم يقتد به، لم يصح، ولم يكن لذلك الخليفة أن يصلي الجمعة، لانه لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة. وفي صحة ظهر هذا الخليفة، خلاف مبني على أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة، أم لا ؟ فإن قلنا: لا تصح، فهل تبقى نفلا ؟ فيه القولان. فإن قلنا: لا تبقى فاقتدى به القوم، بطلت صلاتهم. وإن صححناها وكان ذلك في الركعة الاولى، فلا جمعة لهم. وفي صحة الظهر خلاف مبني على صحة الظهر بنية الجمعة. وإن كان في الركعة الثانية واقتدوا به، كان هذا اقتداء طارئا على الانفراد. وفيه الخلاف الجاري في سائر الصلوات. وفيه شئ آخر، وهو الاقتداء في الجمعة بمن يصلي الظهر، أو النافلة، وفيه الخلاف المتقدم. أما إذا استخلف من اقتدى به قبل الحدث، فينظر، إن لم يحضر الخطبة، فوجهان. أحدهما: لا يصح استخلافه، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم، فإنه لا يجوز. وأصحهما: الجواز. ونقل الصيدلاني في هذا الخلاف قولين: المنع عن البويطي، والجواز عن أكثر الكتب. والخلاف في مجرد حضور الخطبة. ولا يشترط سماعها (2) بلا خلاف، وصرح به الاصحاب. وإن كان حضر الخطبة، أو لم يحضرها، وجوزنا استخلافه، نظر، إن استخلف من أدرك معه الركعة الاولى، جاز وتمت لهم (3) الجمعة، سواء أحدث الامام في الاولى(1/520)
أم الثانية. وفي وجه شاذ ضعيف: أن الخليفة يصلي الظهر، والقوم يصلون الجمعة. وإن استخلف من أدركه في الثانية، قال إمام الحرمين: إن قلنا: لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة، لم يجز استخلاف هذا المسبوق، وإلا، فقولان. أظهرهما: - وبه قطع الاكثرون - الجواز. فعلى هذا، يصلون الجمعة. وفي الخليفة وجهان (1). أحدهما: يتمها جمعة. والثاني، وهو الصحيح المنصوص: لا يتمها جمعة. فعلى هذا، يتمها ظهرا على المذهب. وقيل: قولان. أحدهما: يتمها ظهرا. والثاني: لا. فعلى هذا، هل تبطل، أم تنقلب نفلا ؟ قولان. فإن أبطلناها، امتنع استخلاف المسبوق. وإذا جوزنا الاستخلاف، والخليفة مسبوق، يراعي نظم صلاة الامام، فيجلس إذا صلى ركعة ويتشهد، فإذا بلغ موضع السلام، أشار إلى القوم، وقام إلى ركعة أخرى إن قلنا: إنه مدرك للجمعة، وإلى ثلاث إن قلنا: صلاته ظهر. والقوم بالخيار إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم. ولو دخل مسبوق واقتدى به في الركعة الثانية التي استخلف فيها، صحت له الجمعة وإن لم تصح للخليفة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الاصحاب: هو تفريع على صحة الجمعة خلف مصلي الظهر. وتصح جمعة الذين أدركوا مع الامام الاول ركعة بكل حال، لانهم لو انفردوا بالركعة الثانية، كانوا مدركين للجمعة، فلا يضر اقتداؤهم فيها بمصلي الظهر أو النفل. فرع: هل تشترط نية القدوة بالخليفة في الجمعة وغيرها من الصلوات ؟ وجهان. الاصح: لا يشترط (2). والثاني: يشترط، لانهم بحدث الاول صاروا منفردين. وإذا لم يستخلف الامام، قدم القوم واحدا بالاشارة. ولو تقدم واحد بنفسه، جاز، وتقديم القوم أولى من استخلاف الامام، لانهم المصلون. قال إمام الحرمين: ولو قدم الامام واحدا، والقوم آخر، فأظهر الاحتمالين: أن من قدمه(1/521)
القوم أولى. فلو لم يستخلف الامام، ولا القوم، ولا تقدم أحد، فالحكم ما ذكرناه تفريعا على منع الاستخلاف. قال الاصحاب: ويجب على القوم تقديم (1) واحد إن كان خروج الامام في الركعة الاولى ولم يستخلف. وإن كان في الثانية، لم يجب التقديم، ولهم الانفراد بها كالمسبوق (2). وقد حكينا في الصورتين خلافا، تفريعا على منع الاستخلاف، فيتجه عليه الخلاف في وجوب التقديم وعدمه. فرع: هذا كله إذا أحدث في أثناء الصلاة. فلو أحدث بين الخطبة والصلاة، فأراد أن يستخلف من يصلي، إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، جاز، وإلا، فلا يجوز، بل إن اتسع الوقت، خطب بهم آخر وصلى، وإلا صلوا الظهر. وقال بعض الاصحاب: إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. وعكس الشيخ أبو محمد فقال: إن لم نجوزه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. والمذهب: استواؤهما. ثم إذا جوزنا، فشرطه أن يكون الخليفة سمع الخطبة، على المذهب، وبه قطع الجمهور، لان من لم يسمع، ليس من أهل الجمعة. ولهذا، لو بادر أربعون من السامعين بعد الخطبة، فعقدوا الجمعة، انعقدت لهم، بخلاف غيرهم. وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة، إذا دخل في الصلاة. وحكى صاحب (التتمة) وجهين في استخلاف من لم يسمع. ولو أحدث في أثناء الخطبة، وشرطنا الطهارة فيها، فهل يجوز الاستخلاف ؟ إن منعناه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا، فالصحيح جوازه كالصلاة. فرع: لو صلى مع الامام ركعة من الجمعة، ثم فارقه بعذر، أو بغيره، وقلنا: لا تبطل الصلاة بالمفارقة، أتمها جمعة كما لو أحدث الامام. فرع: إذا تمت صلاة الامام، ولم تتم صلاة المأمومين، فأرادوا استخلاف من يتم بهم، إن لم نجوز الاستخلاف للامام، لم يجز لهم، وإلا، فإن كان في الجمعة، بأن كانوا مسبوقين، لم يجز، لان الجمعة لا تنشأ بعد جمعة. وإن كان في غيرها، بأن كانوا مسبوقين، أو مقيمين، وهو مسافر، فالاصح: المنع، لان(1/522)
الجماعة حصلت، وإذا أتموها (1) فرادى نالوا فضلها. فصل: إذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الارض مع الامام في الركعة الاولى، نظر، إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان (2)، أو رجله، لزمه ذلك (3)، على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه شاذ: يتخير، إن شاء سجد على الظهر، وإن شاء صبر ليسجد على الارض. ثم قال جماهير الاصحاب: إنما يسجد على ظهر غيره، إذا قدر على رعاية هيئة الساجدين، بأن يكون على موضع مرتفع. فإن لم يكن، فالمأتي به ليس بسجود. وفيه وجه ضعيف، أنه لا يضر ارتفاع الظهر، والخروج عن هيئة الساجدين للعذر. وإذا تمكن من السجود على ظهر غيره فلم يسجد، فهو تخلف بغير عذر على الاصح. وعلى الثاني: بعذر. ولو لم يتمكن من السجود على الارض ولا على الظهر، فأراد أن يخرج عن المتابعة لهذا العذر، ويتمها ظهرا، ففي صحتها قولان، لانها ظهر قبل فوات الجمعة. قال إمام الحرمين: ويظهر منعه من الانفراد، لان إقامة الجمعة واجبة، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها لا (4) وجه له (5). فأما إذا دام على المتابعة،(1/523)
فما يصنع ؟ فيه أوجه. الصحيح: أنه ينتظر التمكن. والثاني، يومئ السجود أقصى ما يمكنه كالمريض. والثالث: يتخير بيهما (1). فإذا قلنا: بالصحيح، فله حالان. أحدهما: يتمكن من السجود قبل ركوع الامام في الثانية. والثاني: لا يتمكن إلى ركوعه. ففي الحال الاول يسجد عند تمكنه، فإذا فرغ من سجوده، فللامام أحوال أربعة. أحدها: أن يكون بعد في القيام، فيفتتح القراءة، فإن أتمها ركع معه، وجرى على متابعته، ولا بأس بهذا التخلف للعذر. وإن ركع الامام قبل إتمامها، فهل له حكم المسبوق ؟ وجهان. وقد بينا حكم المسبوق في باب (صلاة الجماعة. قلت: أصحهما عند الجمهور: له حكمه. والله أعلم. الحال الثاني: للامام أن يكون في الركوع. فالاصح عند الجمهور: أنه يدع القراءة، ويركع معه، لانه لم يدرك محلها، فسقطت عنه كالمسبوق. والثاني: يلزمه قراءتها، ويسعى وراء الامام، وهو متخلف بعذر. الحال الثالث: أن يكون فارغا من الركوع ولم يسلم، فإن قلنا في الحال الثاني: هو كالمسبوق، تابع الامام فيما هو فيه، ولا يكون محسوبا له، بل يقوم عند سلام الامام إلى ركعة ثانية. وإن قلنا: ليس هو كالمسبوق، اشتغل بترتيب صلاة نفسه. وقيل: يتعين متابعة الامام قطعا. الحال الرابع: أن يكون الامام متحللا من صلاته، فلا يكون مدركا للجمعة، لانه لم يتم له ركعة قبل سلام الامام، بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود، ثم سلم الامام في الحال. قال إمام الحرمين: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة (2) نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدرك الامام، ويحتمل أن يجوز الاتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط منها. الحال الثاني للمأموم: أن لا يتمكن من السجود حتى ركع الامام في الثانية، وفيه قولان.(1/524)
أظهرهما: يتابعه فيركع معه. والثاني: لا يركع معه بل يسجد، ويراعي ترتيب صلاة نفسه. فإن قلنا بالاول، فتارة يوافق ما أمرناه، وتارة يخالف. فإن وافق وركع معه، فأي الركوعين يحتسب ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند الاصحاب: بالركوع الاول. والثاني: بالثاني. فإن قلنا: بالثاني، حصلت له الركعة الثانية بكمالها. فإذا سلم الامام، ضم إليها أخرى، وتمت جمعة بلا خلاف. وإن قلنا: بالاول، حصلت ركعة ملفقة من ركوع الاولى، وسجود الثانية. وفي إدراك الجمعة بالملفقة، وجهان. أصحهما: تدرك. أما إذا خالف ما أمرناه، فاشتغل بالسجود وترتيب نفسه، فإن فعل ذلك مع علمه بأن واجبه المتابعة، ولم ينو مفارقته، بطلت صلاته، ويلزمه الاحرام بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع. وإن نوى مفارقته، فقد أخرج نفسه عن المتابعة بغير عذر. وفي بطلان الصلاة به، قولان سبقا. فإن لم تبطل، لم تصح جمعته. وفي صحة ظهره، خلاف مبني على أن الجمعة إذا تعذر إتمامها، هل يجوز إتمامها ظهرا ؟ وعلى أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة ؟ وإن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا، فما أتى به من السجود، لا يعتد به، ولا تبطل صلاته. ثم إن فرغ والامام بعد في الركوع لزمه متابعته. فإن تابعه وركع معه، فالتفريع كما سبق لو لم يسجد، وإن لم يركع معه، أو كان الامام فرغ من الركوع، نظر، إن راعى ترتيب نفسه، بأن قام بعد السجدتين، وقرأ، وركع، وسجد، فالمفهوم من كلام الاكثرين أنه لا يعتد له بشئ مما يأتي به على غير المتابعة. وإذا سلم الامام، سجد سجدتين لتمام الركعة، ولا يكون مدركا للجمعة، لان على هذا القول الذي عليه التفريع، نأمره بالمتابعة بكل حال. وكما لا يحسب له السجود والامام راكع، لكون فرضه المتابعة، وجب أن لا يحسب والامام في ركن بعد الركوع. وقال الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي: إذا فعل هذا المذكور، تم له منهما جميعا ركعة، لكن فيها نقصانان. أحدهما: التلفيق، فإن ركوعها من الاولى، وسجودها من الثانية، وفي الملفقة الخلاف. والثاني: نقصها بالقدوة الحكمية، فإنه لم يتابع الامام في معظم ركعته متابعة حسية، بل حكمية. وفي إدراك الجمعة بالركعة الحكمية، وجهان، كالملفقة، أصحهما: الادراك، وليس الخلاف في مطلق القدوة الحكمية، فإن السجود في حال قيام الامام، ليس على حقيقة المتابعة، ولا خلاف أن الجمعة تدرك به. هذا(1/525)
كله إذا جرى على ترتيب نفسه بعد فراغه من السجدتين اللتين لم يعتد بهما. فأما إذا فرغ منهما والامام ساجد، فتابعه في سجدتيه، فهذا هو الذي نأمره به في هذه الحالة على هذا القول، فتحسبان له، ويكون الحاصل ركعة ملفقة، وإن وجد الامام في التشهد، وافقه. فإذا سلم، سجد سجدتين وتمت له الركعة (1)، ولا جمعة له، لانه لم يتم له ركعة والامام في الصلاة. وكذا يفعل لو وجده قد سلم. هذا كله إذا قلنا: يتابع الامام. أما إذا قلنا: لا يتابعه بل يسجد ويراعي ترتيب نفسه، فله حالان. أحدهما: أن يخالف ما أمرناه، فيركع مع الامام. فإن تعمد، بطلت صلاته، ويلزمه أن يحرم بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع، وإن كان (2) ناسيا، أو جاهلا يعتقد أن الواجب عليه الركوع مع الامام، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بركوعه. فإذا سجد معه بعد الركوع، حسبت له السجدتان على الصحيح. وعلى الشاذ، لا يعتد بهما. فعلى الصحيح، تحصل ركعة ملفقة. وفي الادراك بها، الوجهان. الحال الثاني: أن يوافق ما أمرناه، فيسجد، فهذه قدوة حكمية. وفي الادراك بها، الوجهان. فإذا فرغ من السجود، فللامام حالان. أحدهما: أن يكون فارغا من الركوع، إما في السجود، وإما في التشهد، فوجهان. أحدهما: يجري على ترتيب نفسه، فيقوم، ويقرأ، ويركع. وأصحهما: يلزمه متابعة الامام فيما هو فيه، فإذا سلم الامام، اشتغل بتدارك ما عليه، وبهذا قطع كثير من أصحابنا العراقيين وغيرهم. فعلى هذا، لو كان الامام عند فراغه من السجود قد هوى للسجود فتابعه، فقد والى بين أربع سجدات: فهل المحسوب لاتمام الركعة الاولى، السجدتان الاوليان، أم الاخريان ؟ وجهان. أصحهما: الاوليان. والثاني: الاخريان. فعلى هذا، يعود الخلاف في الملفقة. الحال الثاني: للامام أن يكون راكعا بعد. فهل عليه متابعته، وتسقط عنه(1/526)
القراءة كالمسبوق ؟ أو يشتغل بترتيب [ صلاة ] (1) نفسه فيقرأ ؟ وجهان كما ذكرنا تفريعا على القول الاول. فعلى الاول، يسلم معه، وتتم جمعته. وعلى الثاني: يقرأ ويسعى ليلحقه، وهو مدرك للجمعة. فرع: إذا لم يتمكن المزحوم من السجود حتى سجد الامام في الثانية، تابعه في السجود بلا خلاف. فإن قلنا: الواجب متابعة الامام، فالحاصل ركعة ملفقة (2)، وإلا فغير ملفقة، أما إذا لم يتمكن من السجود حتى تشهد الامام، فيسجد. ثم إن أدرك الامام قبل السلام، أدرك الجمعة، وإلا فلا. قلت: قال إمام الحرمين: لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية، فسلم الامام قبل أن يعتدل المزحوم، ففيه احتمال. قال: والظاهر: أنه مدرك للجمعة (3). والله أعلم. أما إذا كان الزحام في سجود الركعة الثانية، وقد صلى الاولى مع الامام، فيسجد متى تمكن قبل سلام الامام، أو بعده، وجمعته صحيحة. فإن كان مسبوقا، لحقه في الثانية. فإن تمكن قبل سلام الامام، سجد وأدرك ركعة من الجمعة، وإلا فلا جمعة له. أما إذا زحم عن ركوع الاولى حتى ركع الامام في الثانية، فيركع. قال الاكثرون: ويعتدله بالركعة الثانية، وتسقط الاولى. ومنهم من قال: الحاصل ركعة ملفقة. فرع: إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صور الزحام وغيرها، فهل تتم صلاته ظهرا ؟ قولان (4) يتعلقان بأصل. وهو: أن الجمعة ظهر(1/527)
مقصورة، أم صلاة على حيالها ؟ وفيه قولان اقتضاهما (1) كلام الشافعي (2). قلت: أظهرهما: صلاة بحيالها. والله أعلم. فإن قلنا: ظهر مقصورة، فإذا فات بعض شروط الجمعة، أتمها ظهرا كالمسافر إذا فات شرط قصره. وإن قلنا: فرض على حياله، فهل يتمها ؟ وجهان. والصحيح مطلقا: أنه يتمها ظهرا. لكن هل يشترط أن يقصد قلبها ظهرا، أم تنقلب بنفسها ظهرا ؟ وجهان في (النهاية). قلت: الاصح: لا يشترط، وهو مقتضى كلام الجمهور. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يتمها ظهرا، فهل تبطل، أم تبقى نفلا ؟ فيه القولان السابقان فيمن صلى الظهر قبل الزوال ونظائرها. قال إمام الحرمين: قول البطلان، لا ينتظم تفريعه إذا أمرناه في صورة الزحام بشئ فامتثل، فليكن ذلك مخصوصا بما إذا خالف. فرع: التخلف بالنسيان، هل هو كالتخلف بالزحام ؟ قيل: فيه وجهان. أصحهما: نعم، لعذره. والثاني: لا لندوره وتفريطه. والمفهوم من كلام الاكثرين، أن فيه تفصيلا. فإن تأخر سجوده عن سجدتي الامام بالنسيان، ثم سجد في حال قيام الامام، فحكمه كالزحام، وكذا لو تأخر لمرض. وإن بقي ذاهلا حتى ركع الامام في الثانية، فطريقان. أحدهما: كالمزحوم، فيركع معه على قول، ويراعي ترتيب نفسه في قول. والطريق الثاني: يتبعه قولا واحدا، لانه مقصر فلا يجوز ترك المتابعة. قال الروياني: هذا الطريق أظهر. فرع: الزحام يجري في جميع الصلوات، وإنما يذكرونه في الجمعة، لان الزحمة فيها أكثر، ولانه يجتمع فيها وجوه من الاشكال لا يجري في غيرها، مثل(1/528)
الخلاف في إدراك الجمعة بالملفقة، والحكمية وبنائها على أنها ظهر مقصورة، أم لا ؟ ولان الجماعة فيها شرط، ولا يمكن المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة، بخلاف سائر الصلوات. إذا عرفت ذلك، فإذا زحم في سائر الصلوات، فلم يمكنه السجود حتى ركع الامام في الثانية، فالمذهب: أنه على القولين. وقيل: يركع معه قطعا. وقيل: يراعي ترتيب نفسه قطعا. الشرط السادس: الخطبة. فمن شرائط الجمعة: تقديم خطبتين (1). وأركان الخطبة خمسة. أحدها: حمد الله تعالى (2)، ويتعين لفظ الحمد. والثاني: الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، ويتعين لفظ الصلاة. وحكي في (النهاية) عن كلام بعض الاصحاب: ما يوهم أنهما لا يتعينان، ولم ينقله وجها مجزوما به. الثالث: الوصية بالتقوى، وهل يتعين لفظ الوصية ؟ وجهان. الصحيح المنصوص: لا يتعين. قال إمام الحرمين: ولا خلاف أنه لا يكفي الاقتصار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فإن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحمل على طاعة الله تعالى، والمنع من المعاصي. ولا يجب في الموعظة كلام طويل، بل لو قال: أطيعوا الله كفى، وأبدى الامام فيه احتمالا، ولا تردد في أن كلمتي الحمد، والصلاة، كافيتان. ولو قال: والصلاة على محمد، أو على النبي، أو رسول الله، كفى. ولو قال: الحمد للرحمن، أو الرحيم، فمقتضى كلام الغزالي: أنه لا يكفيه، ولم أره مسطورا، وليس هو ببعيد كما في كلمة(1/529)
التكبير (1). ثم هذه الاركان الثلاثة، لا بد منها في كل واحدة من الخطبتين. ولنا وجه: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحداهما كافية، وهو شاذ. الرابع: الدعاء للمؤمنين (2)، وهو ركن على الصحيح. والثاني: لا يجب، وحكي عن نصه في (الاملاء). وإذا قلنا بالصحيح، فهو مخصوص بالثانية. فلو دعا في الاولى لم يحسب، ويكفي ما يقع عليه الاسم. قال إمام الحرمين: وأرى أنه يجب أن يكون متعلقا بأمور الآخرة، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسامعين، بأن (3) يقول: رحمكم الله. الخامس: قراءة القرآن. وهي ركن على المشهور. وقيل: على الصحيح. والثاني: ليست بركن، بل مستحبة. فعلى الاول أقلها آية، نص عليه الشافعي رحمه الله، سواء كانت وعدا، أو وعيدا، أو حكما، أو قصة. قال إمام الحرمين: ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة. ولا شك أنه لو قال: (ثم نظر) (4) لم يكف، وإن عد آية، بل يشترط كونها مفهمة. واختلفوا في محل القراءة على ثلاثة أوجه. أصحها ونص عليه في (الام): تجب في إحداهما لا بعينها. والثاني: تجب فيهما. والثالث: تجب في الاول خاصة، وهو ظاهر نصه في (المختصر): ويستحب أن يقرأ في الخطبة سورة (ق). قلت: قال الدارمي: يستحب أن تكون قراءة (ق) (5) في الخطبة الاولى. والمراد، قراءتها بكمالها، لاشتمالها على أنواع المواعظ. والله أعلم. ولو قرأ آية سجدة، نزل وسجد. فلو كان المنبر عاليا، لو نزل لطال الفصل،(1/530)
لم يتركه (1)، لكن يسجد عليه إن أمكنه، وإلا ترك السجود. فلو نزل وطال الفصل، ففيه الخلاف المتقدم في الموالاة. ولا تدخل القراءة في الاركان المذكورة. حتى لو قرأ آية فيها موعظة، وقصد إيقاعها عن الجهتين، لم يجزئ، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الاركان المطلوبة، لان ذلك لا يسمى خطبة. ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع. وهل يشترط كون الخطبة كلها (2) بالعربية ؟ وجهان. الصحيح: اشتراطه، فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية، خطب بغيرها. ويجب أن يتعلم كل واحد منهم الخطبة العربية (3) (4)، كالعاجز عن التكبير بالعربية. فإن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلموا، عصوا كلهم، ولا جمعة لهم. فرع شروط الخطبة ستة أحدها: الوقت. وهو ما بعد الزوال (5)، فلا يصح تقديم شئ منها عليه. الثاني: تقديم الخطبتين على الصلاة. الثالث: القيام فيهما مع القدرة، فإن عجز عن القيام، فالاولى أن يستنيب. ولو خطب قاعدا أو مضطجعا للعجز، جاز كالصلاة. ويجوز الاقتداء به، سواء(1/531)
قال: لا أستطيع، أو سكت، لان الظاهر أنه إنما قعد لعجزه، فإن بان أنه كان قادرا، فهو كما لو بان الامام جنبا، ولنا وجه: أنه تصح الخطبة قاعدا مع القدرة على القيام وهو شاذ. الرابع: الجلوس بينهما، وتجب الطمأنينة فيه، فلو خطب قاعدا لعجزه، لم يضطجع بينهما للفصل، بل يفصل بينهما بسكتة (1)، والسكتة واجبة على الاصح. ولنا وجه شاذ: أن القائم أيضا يكفيه الفصل بينهما بسكتة. الخامس: هل يشترط في صحة الخطبة الطهارة عن الحدث، والنجس في البدن والثوب والمكان، وستر العورة ؟ قولان. الجديد: اشتراط كل ذلك. ثم قيل: الخلاف مبني على أنهما بدل من الركعتين، أم لا ؟ وقيل: على أن الموالاة في الخطبة شرط، أم لا ؟ فإن شرطنا الموالاة، شرطنا الطهارة، وإلا، فلا. ثم قال صاحب (التتمة): يطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث الاصغر والجنابة، وخصه صاحب (التهذيب) بالحدث الاصغر، قال: فأما الجنب، فلا تحسب خطبته قولا واحدد، لان القراءة شرط، ولا تحسب قراءة الجنب، وهذا أوضح. قلت: الصحيح، أو الصواب، قول صاحب (التتمة) وقد جزم به الرافعي في (المحرر) وقطع الشيخ أبو حامد، والماوردي، وآخرون: بأنه لو بان لهم بعد فراغ الجمعة أن إمامهم (2) كان جنبا، أجزأتهم. ونقله أبو حامد، والماوردي، والاصحاب عن نصه في (الام). والله أعلم. ثم إذا شرطنا الطهارة، فسبقه حدث في الخطبة، لم يعتد بما يأتي به في حال الحدث. وفي بناء غيره عليه الخلاف الذي سبق. فلو تطهر وعاد، وجب الاستئناف، وإن طال الفصل وشرطنا الموالاة، فإن لم يطل، أو لم نشرط الموالاة، فوجهان. أصحهما: الاستئناف.(1/532)
السادس: رفع الصوت، فلو خطب سرا بحيث لم يسمع غيره، لم تحسب على الصحيح المعروف. وفي وجه: تحسب وهو غلط. فعلى الصحيح، الشرط أن يسمع أربعين من أهل الكمال. فلو رفع صوته قدر ما يبلغ، ولكن كانوا كلهم أو بعضهم صما، فوجهان. الصحيح: لا تصح، كما لو بعدوا. والثاني: تصح، كما لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه بحيث يسمع، فلم يسمع لصممه، حنث (1)، وكما لو سمعوا الخطبة، ولم يفهموا معناها، فإنها تصح. وينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الامام، وينصتوا، ويسمعوا (2). والانصات: هو السكوت. والاستماع: هو شغل السمع بالسماع. وهل الانصات فرض، والكلام حرام ؟ فيه قولان. القديم و (الاملاء): وجوب الانصات، وتحريم الكلام. والجديد: أنه سنة، والكلام ليس بحرام. وقيل: يجب الانصات قطعا. والجمهور أثبتوا القولين. وهل يحرم الكلام على الخطيب ؟ فيه طريقان. المذهب: لا يحرم قطعا. والثاني: على القولين. ثم جميع هذا الخلاف في الكلام الذي لا يتعلق به غرض مهم ناجز. فأما إذا رأى أعمى يقع في بئر، أو عقربا تدب على إنسان، فأنذره، أو علم إنسانا شيئا من الخير، أو نهاه عن منكر، فهذا ليس بحرام بلا خلاف. نص عليه الشافعي رحمه الله، واتفق الاصحاب على التصريح به. لكن يستحب أن يقتصر على الاشارة، ولا يتكلم ما أمكن الاستغناء عنه. هذا كله في الكلام في أثناء الخطبة. ويجوز الكلام قبل ابتداء الامام بالخطبة، وبعد الفراغ منهما. فأما في الجلوس بين الخطبتين، فطريقان، قطع صاحب (المهذب) والغزالي، بالجواز. وأجرى المحاملي، وابن الصباغ، وآخرون فيه الخلاف.(1/533)
ويجوز للداخل في أثناء الخطبة، أن يتكلم ما لم يأخذ لنفسه مكانا. والقولان فيما بعد قعوده. فرع: إذا قلنا بالقديم، فينبغي للداخل في أثناء الخطبة، أن لا يسلم، فإن سلم، حرمت إجابته باللفظ، ويستحب بالاشارة كما في الصلاة. وفي تشميت العاطس ثلاثة أوجه، الصحيح المنصوص: تحريمه، كرد السلام. والثاني: استحبابه. والثالث: يجوز ولا يستحب. ولنا وجه: أنه يرد السلام، لانه واجب، ولا يشمت العاطس، لانه سنة. فلا يترك لها الانصات الواجب. وفي وجوب الانصات على من لا يسمع الخطبة، وجهان. أحدهما: لا يجب. ويستحب أن يشتغل بالذكر، والتلاوة. وأصحهما: يجب، نص عليه، وقطع به كثيرون. وقالوا: البعيد بالخيار بين الانصات، وبين الذكر والتلاوة. ويحرم عليه كلام الآدميين، كما يحرم على القريب. هذا تفريع على القديم. فأما إذا قلنا بالجديد، فيجوز رد السلام، والتشميت بلا خلاف. ثم رد في السلام ثلاثة أوجه. أصحها عند صاحب (التهذيب): وجوبه. والثاني: استحبابه. والثالث: جوازه بلا استحباب. وقطع إمام الحرمين، بأنه لا يجب الرد. والاصح: استحباب التشميت. وحيث حرمنا الكلام فتكلم، أثم، ولا تبطل جمعته بلا خلاف. فرع: قال الغزالي: هل يحرم الكلام على من عدا الاربعين ؟ فيه القولان. وهذا التقدير بعيد في نفسه، ومخالف لما نقله الاصحاب. أما بعده في نفسه، فلان كلامه مفروض في السامعين للخطبة. وإذا حضر جماعة يزيدون على أربعين، فلا يمكن أن يقال: تنعقد الجمعة بأربعين منهم على التعيين، فيحرم الكلام عليهم قطعا. والخلاف في حق الباقين (1)، بل الوجه: الحكم بانعقاد الجمعة بهم، أو بأربعين منهم لا على التعيين. وأما مخالفته لنقل الاصحاب، فلانك (2) لا تجد للاصحاب إلا إطلاق قولين في السامعين، ووجهين في حق غيرهم كما سبق. فرع: إذا صعد الخطيب المنبر، فينبغي (3) لمن ليس في صلاة (4) من(1/534)
الحاضرين، ألا يفتتحها، سواء كان صلى السنة، أم لا، ومن كان في صلاة خففها، والفرق بين الكلام - حيث قلنا: لا بأس به وإن صعد المنبر ما لم تبتدئ الخطبة - وبين الصلاة انقطع الكلام، هين متى ابتدأ الخطيب الخطبة، بخلاف الصلاة، فإنه قد يفوت سماع أول الخطبة إلى أن يتمها. قلت: وسواء في المنع من افتتاح الصلاة في حال الخطبة من يسمعها، وغيره. والله أعلم. ولو دخل في أثناء الخطبة، استحب له أن يصلي التحية، ويخففها. فلو كان ما صلى السنة، صلاها وحصلت التحية. ولو دخل والامام في آخر الخطبة، لم يصل، لئلا يفوته أول الجمعة مع الامام، وسواء في استحباب التحية. قلنا: يجب الانصات، أم لا ؟ فرع: في أمور اختلف في إيجابها في الخطبة. منها: كونها بالعربية، وتقدم بيانه. ومنها: نية الخطبة وفرضيتها، اشترطهما القاضي حسين. ومنها: الترتيب بين الكلمات الثلاث، فأوجب صاحب (التهذيب) وغيره، أن يبدأ بالحمد، ثم الصلاة، ثم الوصية. ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ولا بينهما وبين غيرهما. وقطع صاحب (العدة) وآخرون: بأنه لا يجب في شئ من الالفاظ أصلا. قالوا: لكن الافضل الرعاية. قلت: قطع صاحب (الحاوي) وكثيرون من العراقيين، بأنه لا يجب الترتيب ونقله في (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، وهو الاصح. والله أعلم.(1/535)
فرع في سنن الخطبة فمنها: أن يكون على منبر، والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع (1) الذي يصلي فيه الامام. ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين، إذا لم يكن المسجد متسع الخطة، فإن لم يكن منبر، خطب على موضع مرتفع. ومنها: أن يسلم على من عند المنبر إذا انتهى إليه. ومنها: إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود - ويسمى ذلك الموضع: المستراح - أقبل على الناس بوجهه، وسلم عليهم. ومنها: أن يجلس بعد السلام على المستراح. ومنها: أنه إذا جلس، اشتغل المؤذن بالآذان، ويديم الامام الجلوس إلى فراغ المؤذن. قال صاحب (الافصاح) والمحاملي: المستحب، أن يكون المؤذن للجمعة واحدا. وأشار إليه الغزالي، وفي كلام بعض الاصحاب (2)، إشعار باستحباب تعديد المؤذنين. ومنها: أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات (3) الغريبة الوحشية، بل قريبة من الافهام. ومنها: أن لا يطولها ولا يخففها، بل تكون متوسطة. ومنها: أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس في خطبتيه، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا. ولو خطب مستدبر الناس، جاز على الصحيح. وعلى الثاني: لا يجزئه. قلت: وطرد الدارمي هذا الوجه، فيما إذا استدبروه، أو خالفوه، وهو الهيئة(1/536)
المشروعة في ذلك. والله أعلم. ومنها: أنه يستحب أن يكون جلوسه بين الخطبتين قدر سورة (الاخلاص) نص عليه. وفيه وجه: أنه يجب هذا القدر وحكي عن نصه. ومنها: أن يعتمد على سيف، أو عصا، أو نحوهما. قال في (التهذيب): يقبضه بيده اليسرى. ولم يذكر الاكثرون بأيتهما يقبضه. قلت: قال القاضي حسين في تعليقه كما قال في (التهذيب). والله أعلم. ويشغل يده الاخرى بحرف المنبر، فإن لم يجد شيئا، سكن يده (1) وجسده، بأن يجعل اليمنى على اليسرى، أو يقرهما مرسلتين. والغرض، أن يخشع، ولا يعبث بهما. ومنها: أنه ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين، لا يشتغلون بشئ آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش، لا للخطيب، ولا للقوم. ومنها: أن يأخذ في النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الاقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم. قلت: يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة. منها: التفاتهم في الخطبة الثانية (2)، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى (3) إلى صعوده قبل أن يجلس. وربما توهموا أنها ساعة الاجابة، وهذا(1/537)
جهل، فإن ساعة الاجابة إنما هي بعد جلوسه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم. وأما أصل الدعاء للسلطان، فقد ذكر صاحب (المهذب) وغيره: أنه مكروه. والاختيار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه (1)، ولا نحو ذلك، فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الامر. ومنها: مبالغتهم في الاسراع في الخطبة الثانية. [ وأما الاحتباء (2) والامام يخطب، فقال صاحب (البيان): لا يكره. والصحيح: أنه مكروه. فقد صح في (سنن أبي داود) (3) والترمذي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن الاحتباء والامام يخطب)، قال الترمذي (4): حديث حسن. وقال الخطابي من أصحابنا: نهى عنه، لانه يجلب النوم فيعرض طهارته للنقض، ويمنعه استماع الخطبة ] (5). ويستحب إذا كان المنبر واسعا، أن يقوم على يمينه، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب). ويكره للخطيب أن يشير بيده. فقال (6) في (التهذيب): يستحب أن يختم الخطبة بقوله: استغفر الله لي ولكم. وذكر صاحبا (العدة) و (البيان): أنه يستحب للخطيب إذا وصل إلى (7) المنبر، أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعده. وهذا الذي قالاه، غريب، وشاذ، ومردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين، فمن (8) بعدهم. ولو أغمي على الخطيب، قال في (التهذيب) في بناء غيره على خطبته، القولان في الاستخلاف في الصلاة، فإن لم نجوزه، استؤنفت الخطبة، وإن جوزناه، اشترط أن يكون الذي يبني سمع أول الخطبة. هذا كلامه في (التهذيب). والمختار، أنه لا يجوز البناء هنا. والله أعلم.(1/538)
الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة لوجوبها خمسة شروط: أحدها: التكليف، فلا جمعة على صبي ولا مجنون. قلت: والمغمى عليه، كالمجنون، بخلاف السكران، فإنه يلزمه قضاؤها ظهرا كغيرها. والله أعلم. الثاني: الحرية، فلا جمعة على عبد قن، أو مدبر، أو مكاتب. [ قلت: ويستحب إذا أذن السيد حضورها، ولا يجب. والله أعلم ] (1). الثالث: الذكورة، فلا جمعة على امرأة ولا خنثى (2). الرابع: الاقامة، فلا جمعة على مسافر (3)، لكن يستحب له، وللعبد، وللصبي، حضورها إذا أمكن. الخامس: الصحة، فلا جمعة على مريض ولو فاتت بتخلفه لنقصان العدد، ثم من لا تجب عليه، لا تنعقد به إلا المريض. وفيه أيضا قول شاذ، قدمناه في الشرط الرابع للجمعة. وفي معنى المرض، أعذار تأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ولكن تنعقد لجميعهم، ويجزيهم عن الظهر إلا المجنون، فلا يصح فعله. ثم إذا حضر الصبيان والنساء، والعبيد، والمسافرون، الجامع، فلهم الانصراف، ويصلون الظهر. وخرج صاحب (التلخيص) وجها في العبد، أنه تلزمه الجمعة إذا حضر. وقال في (النهاية): وهذا غلط باتفاق الاصحاب. فأما المريض، فقد أطلق كثيرون أنه لا يجوز له الانصراف بعد حضوره، بل تلزمه الجمعة. وقال إمام الحرمين: إن حضر قبل الوقت، فله الانصراف، وإن دخل الوقت وقامت الصلاة، لزمته الجمعة. فإن كان يتخلل زمن بين دخول الوقت، والصلاة، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار، لزمه، وإلا فلا، وهذا التفصيل حسن، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلا عليه. وألحقوا بالمرضى، أصحاب الاعذار الملحقة(1/539)
بالمرض، وقالوا: إذا حضروا، لزمتهم الجمعة. ولا يبعد أن يكونوا على التفصيل المذكور أيضا، إن لم يزد ضرر المعذور بالصبر إلى إقامة الجمعة، فالامر كذلك، وإلا فله الانصراف وإقامة الظهر في منزله. هذا كله إذا لم يشرعوا في الجمعة، فإن أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة، ثم أرادوا الانصراف، قال في (البيان): لا يجوز ذلك للمسافر والمريض، وفي العبد والمرأة وجهان حكاهما الصيمري (1). قلت: الاصح، أنه لا يجوز لهما، لان صلاتهما انعقدت عن فرضهما، فيتعين إتمامها. وقد قدمنا أن من دخل في فرض لاول الوقت، لزمه إتمامه على المذهب والمنصوص، فهنا أولى. والله أعلم. فرع: كل ما أمكن تصوره في الجمعة من الاعذار المرخصة في ترك الجماعة، يرخص في ترك الجمعة. أما الوحل الشديد، ففيه ثلاثة أوجه. الصحيح: أنه عذر في ترك الجمعة والجماعة. والثاني: لا. والثالث: في الجماعة دون الجمعة. حكاه صاحب (العدة) وقال: به أفتى أئمة طبرستان. أما التمريض، فإن كان للمريض من يتعهده، ويقوم بأمره، نظر، إن كان قريبا وهو مشرف على الموت، أو غير مشرف لكن يستأنس به، فله التخلف عن الجمعة ويحضر عنده، وإن لم يكن استئناس، فليس له التخلف على الصحيح. وإن كان أجنبيا، لم يجز التخلف بحال. والمملوك، والزوجة، وكل من له مصاهرة، والصديق، كالقريب. وإن لم يكن للمريض متعهد، فقال إمام الحرمين: إن كان يخاف عليه الهلاك لو غاب عنه، فهو عذر، سواء كان المريض قريبا، أو أجنبيا، لان انقاذ المسلم من الهلاك، فرض كفاية، وإن كان يلحقه ضرر ظاهر لا يبلغ دفعه مبلغ فروض الكفايات، ففيه أوجه. أصحها: أنه عذر أيضا. والثاني: لا.(1/540)
والثالث (1): أنه عذر في القريب دون الاجنبي. ولو كان له متعهد، لكن لم يفرغ لخدمته، لاشتغاله بشراء الادوية، أو الكفن، وحفر القبر إذا كان منزولا به، فهو كما لو لم يكن متعهد. فرع: يجب على الزمن الجمعة إذا وجد مركوبا، ملكا أو بإجارة، أو إعارة ولم يشق عليه الركوب، وكذا الشيخ الضعيف. ويجب على الاعمى إذا وجد قائدا متبرعا، أو بأجرة، وله مال، وإلا فقد أطلق الاكثرون: أنها لا تجب عليه. وقال القاضي حسين: إن كان يحسن المشي بالعصا من غير قائد، لزمه. فرع: من بعضه حر، وبعضه عبد، لا جمعة عليه، وفيه وجه شاذ: أنه إذا كان بينه وبين سيده مهايأة، لزمه الجمعة الواقعة في نوبته، ولا تنعقد به بلا خلاف. فرع: الغريب إذا قام ببلد، واتخذه وطنا، صار له حكم أهله في وجوب الجمعة وانعقادها به، وإن لم يتخذه وطنا، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة - يخرج بها من كونه مسافرا - قصيرة، أو طويلة، كالمتفقه، والتاجر (2) لزمه الجمعة، ولا تنعقد به على الاصح. فرع: القرية إذا كان فيها أربعون من أهل الكمال، لزمهم الجمعة. فإن أقاموها في قريتهم، فذاك. وإن دخلوا المصر فصلوها فيه، سقط الفرض عنهم (3)، وكانوا مسيئين، لتعطيلهم الجمعة في قريتهم. وفيه وجه (4): أنهم غير مسيئين (5)، لان أبا حنيفة (6) لا يجوز جمعة في قرية، ففيما فعلوه، خروج من(1/541)
الخلاف، وهو ضعيف. وإن لم يكن فيها أربعون من أهل الكمال، فلهم حالان. أحدهما: يبلغهم النداء من موضع تقام فيه جمعة من بلد، أو قرية، فتجب عليهم الجمعة. والمعتبر نداء مؤذن عالي الصوت يقف على طرف البلد من الجانب الذي يلي تلك القرية، ويؤذن على عادته، والاصوات هادئة، والرياح راكدة. فإذا سمع صوته من القرية من أصغى إليه، ولم يكن أصم، ولا جاوز سمعه حد العادة، وجبت الجمعة على أهلها. وفي وجه: المعتبر أن يقف المؤذن في وسط البلد، ووجه يقف في الموضع الذي تقام فيه الجمعة. وهل يعتبر أن يقف على موضع عال كمنارة أو سور ؟ وجهان. قال الاكثرون: لا يعتبر. وقال القاضي أبو الطيب: سمعت شيوخنا يقولون: لا يعتبر إلا بطبرستان، فإنها بين أشجار وغياض تمنع بلوغ الصوت. أما إذا كانت قرية على قلة جبل يسمع أهلها النداء لعلوها، بحيث لو كانت على استواء الارض لما سمعوا، أو كانت قرية في وهدة من الارض لا يسمع أهلها النداء لانخفاضها، بحيث لو كانت على استواء لسمعوا، فوجهان. أصحهما (1) وبه قال [ القاضي أبو الطيب: لا تجب الجمعة في الصورة الاولى، وتجب في الثانية، اعتبارا بتقدير الاستواء (2). والثاني: وبه قال ] (3) الشيخ أبو حامد: عكسه، اعتبارا بنفس السماع. أما إذا لم يبلغ النداء أهل القرية، فلا جمعة عليهم. وأما أهل الخيام إذا لزموا موضعا، ولم يفارقوه، وقلنا: لا يصلون الجمعة موضعهم، فهم(1/542)
كأهل القرى. وإذ لم يبلغوا أربعين، إن سمعوا النداء، لزمتهم الجمعة، وإلا فلا. قلت: وإذا سمع أهل القرية الناقصون عن الاربعين النداء من بلدين، فأيهما حضروا جاز، والاولى حضور أكثرهما جماعة. والله أعلم. فرع: العذر المبيح ترك الجمعة يبيحه وإن طرأ بعد الزوال، إلا السفر، فإنه يحرم إنشاؤه بعد الزوال. وهل يجوز بعد الفجر وقبل الزوال ؟ قولان. قال في القديم وحرملة: يجوز. وفي الجديد: لا يجوز، وهو الاظهر عند العراقيين. وقيل: يجوز قولا واحدا. هذا في السفر المباح. أما الطاعة واجبا كان كالحج، أو مندوبا، فلا يجوز بعد الزوال، وأما قبله، فقطع كثير من أئمتنا بجوازه. ومقتضى كلام العراقيين، أنه على الخلاف كالمباح. وحيث قلنا: يحرم، فله شرطان. أحدهما: أننا ينقطع عن الرفقة، ولا يناله ضرر في تخلفه للجمعة. فإن انقطع، وفات سفره بذلك، أو ناله ضرر، فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف. كذا قاله الاصحاب. وقال الشيخ أبو حاتم القزويني (1): في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع عن الرفقة، وجهان (2). الشرط الثاني: أن لا يمكنه (3) صلاة الجمعة في منزله، أو طريقه. فإن(1/543)
أمكنت، فلا منع بحال. قلت: الاظهر (1) تحريم السفر المباح، والطاعة قبل الزوال، وحيث حرمناه بعد الزوال، فسافر، كان عاصيا، فلا يترخص ما لم تفت الجمعة. ثم حيث كان فواتها، يكون ابتداء سفره، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) وهو ظاهر. والله أعلم. فرع: المعذورون في ترك الجمعة، ضربان. أحدهما: يتوقع زوال عذره، كالعبد، والمريض يتوقع الخفة، فيستحب له تأخير الظهر إلى اليأس من إدراك الجمعة، لاحتمال تمكنه منها. ويحصل اليأس برفع الامام رأسه من الركوع الثاني على الصحيح. وعلى الشاذ: يراعى تصور الادراك في حق كل واحد، فإذا كان منزله بعيدا، فانتهى الوقت إلى حد لو أخذ في السعي لم يدرك الجمعة، حصل الفوات في حقه. الضرب الثاني: من لا يرجو زوال عذره كالمرأة، والزمن، فالاولى أن يصلي الظهر في أول الوقت، لفضيلة الاولية. قلت: هذا اختيار أصحابنا الخراسانيين، وهو الاصح. وقال العراقيون: هذا الضرب كالاول، فيستحب لهم تأخير الظهر، لان الجمعة صلاة الكاملين فقدمت. والاختيار التوسط. فيقال: إن كان هذا الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة وإن تمكن منها، استحب تقديم الظهر. وإن كان لو تمكن، أو نشط حضرها، استحب التأخير، كالضرب الاول. والله أعلم. وإذا اجتمع معذورون، استحب لهم الجماعة في ظهرهم على الاصح (2) قال(1/544)
الشافعي رحمه الله: واستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا. قال الاصحاب: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فإن كان ظاهرا، فلا تهمة. ومنهم من استحب الاخفاء مطلقا. ثم إذا صلى المعذور الظهر قبل فوات الجمعة، صحت ظهره. فلو زال عذره وتمكن من الجمعة، لم تلزمه، إلا في الخنثى إذا صلى الظهر، ثم بان رجلا، وتمكن من الجمعة، فتلزمه. والمستحب لهؤلاء، حضور الجمعة بعد فعلهم الظهر. فإن صلوا الجمعة، ففرضهم الظهر على الاظهر. وعلى الثاني: يحتسب الله تعالى بما شاء. أما إذا زال العذر في أثناء الظهر، فقال القفال: هو كرؤية المتيمم الماء في الصلاة. وهذا يقتضي خلافا في بطلان الظهر، كالخلاف في بطلان صلاة المتيمم. وذكر الشيخ أبو محمد وجهين هنا. والمذهب، استمرار صحة الظهر. وهذا الخلاف، تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا صلاها قبل فوات وقت الجمعة. فإن لم نبطلها، فالمعذور أولى. فرع: من لا عذر له، إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة، لم تصح ظهره على الجديد، وهو الاظهر، وتصح على القديم (1)، قال الاصحاب: القولان مبنيان على أن الفرض الاصلي يوم الجمعة ماذا ؟ فالجديد: أنه الجمعة. والقديم: أنه الظهر، وأن الجمعة بدل. ثم قال أبو إسحاق المروزي: لو ترك جميع أهل البلدة الجمعة، وصلوا الظهر، أثموا كلهم، وصحت ظهرهم على القولين. وإن الخلاف في ترك آحادهم الجمعة مع إقامتها بجماعة. والصحيح الذي قاله غيره: أنه لا فرق، وأن ظهرها لا تصح على الجديد، لانهم صلوها وفرض الجمعة متوجه إليهم. فإذا فرعنا على الجديد في أصل المسألة، فالامر بحضور الجمعة قائم. فإن حضرها، فذاك، وإن فاتت، قضى الظهر. وهل يكون ما فعله أولا باطلا، أم تنقلب نفلا ؟ فيه القولان في نظائره. وإن قلنا بالقديم، فالمذهب والذي قطع به الاكثرون: أن الامر بحضور الجمعة قائم أيضا. ومعنى صحة الظهر، الاعتداد بها(1/545)
في الجمعة، بحيث لو فاتت الجمعة أجزأته. وقيل: في سقوط الامر بحضور الجمعة، قولان. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن قلنا: لا يسقط الامر، أو قلنا: يسقط، فصلى الجمعة، ففي الفرض منهما طريقان. أحدهما: الفرض أحدهما لا بعينه، ويحتسب الله تعالى بما شاء منهما. والطريق الثاني: فيه أربعة أقوال. أحدها: الفرض: الظهر. والثاني: الجمعة. والثالث: كلاهما فرض. والرابع: أحدهما لا بعينه، كالطريق الاول. هذا كله إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة. فإن صلاها بعد ركوع الامام في الثانية، وقبل سلامه، فقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي بطلانها، يعني على الجديد. ومن أصحابنا من جوزها. وإذا امتنع أهل البلدة جميعا من الجمعة، وصلوا الظهر، فالفوات بخروج الوقت أو ضيقه، بحيث لا يسع إلا الركعتين.
الباب الثالث في كيفية إقامة الجمعة بعد شرائطها الجمعة ركعتان كغيرها في الاركان، وتمتاز بأمور مندوبة. أحدها: الغسل يوم الجمعة سنة، ووقته بعد الفجر على المذهب (1). وانفرد في (النهاية) بحكاية وجه: أنه يجزئ قبل الفجر كغسل العيد، وهو شاذ منكر. ويستحب تقريب الغسل من الرواح إلى الجمعة. ثم الصحيح: إنما يستحب لمن يحضر الجمعة والثاني: يستحب لكل أحد كغسل العيد. فإذا قلنا بالصحيح، فهو مستحب لكل حاضر، سواء من تجب عليه، وغيره. قلت: وفيه وجه: أنه إنما يستحب لمن تجب عليه وحضرها، ووجه لمن تجب عليه وإن لم يحضرها لعذر. والله أعلم. ولو أحدث بعد الغسل، لم يبطل الغسل، فيتوضأ.(1/546)
قلت: وكذا لو أجنب بجماع أو غيره، لا يبطل، فيغتسل للجنابة. والله أعلم. قال الصيدلاني، وعامة الاصحاب: إذا عجز عن الغسل لنفاد الماء بعد الوضوء، أو لقروح (1) في بدنه، تيمم وجاز الفضيلة. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه، هو الظاهر، وفيه احتمال. ورجح الغزالي هذا الاحتمال. فرع: من الاغسال المسنونة، أغسال الحج، وغسل العيدين، ويأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. وأما الغسل من غسل الميت، ففيه قولان. القديم: أنه واجب، وكذا الوضوء من مسه. والجديد: استحبابه، وهو المشهور. فعلى هذا، غسل الجمعة، والغسل من غسل الميت، آكد الاغسال المسنونة، وأيهما آكد ؟ قولان. الجديد: الغسل من غسل الميت آكد. والقديم: غسل الجمعة وهو الراجح عند صاحب (التهذيب)، والروياني، والاكثرين. ورجح صاحب (المهذب) وآخرون الجديد. وفي وجه: هما سواء. قلت: الصواب، الجزم بترجيح غسل الجمعة، لكثرة الاخبار الصحيحة فيه. وفيها الحث العظيم عليه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (غسل الجمعة واجب) (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل) (3). وأما الغسل من غسل الميت، فلم يصح فيه شئ أصلا (4). ثم من فوائد الخلاف، ولو حضر إنسان معه ماء، يدفعه لاحوج(1/547)
الناس وهناك رجلان، أحدهما يريده لغسل الجمعة، والآخر للغسل من غسل الميت. والله أعلم. وأما الكافر إذا أسلم، فإن كان وجب عليه غسل بجنابة، أو حيض، لزمه الغسل ولا يجزئه غسله في الكفر على الاصح، كما سبق في موضعه. وإلا، استحب له الغسل للاسلام. وقال ابن المنذر: يجب. ووقت الغسل، بعد الاسلام على الصحيح، وعلى الوجه الضعيف: يغتسل قبل الاسلام. قلت: هذا الوجه غلط صريح، والعجب ممن حكاه، فكيف بمن قاله، وقد أشبعت القول في إبطاله، والشناعة على قائله في (شرح المهذب) وكيف يؤمر بالبقاء على الكفر ليفعل غسلا لا يصح منه ؟ ! والله أعلم. ومن الاغسال المسنونة، الغسل للافاقة من الجنون والاغماء. وقد تقدم في باب الغسل حكاية وجه في وجوبهما. والصحيح: أنهما سنة. ومنها: الغسل من الحجامة، والخروج من الحمام. ذكر صاحب (التلخيص) عن القديم استحبابهما، والاكثرون لم يذكروهما. قال صاحب (التهذيب): قيل: المراد بغسل الحمام، إذا تنور. قال: وعندي أن المراد به أن يدخل الحمام فيعرق، فيستحب أن لا يخرج غير غسل.(1/549)
قلت: وقيل: الغسل من الحمام، هو أن يصب عليه ماء عند إرادته الخروج تنظفا، كما اعتاده الخارجون منه. والمختار: الجزم باستحباب الغسل من الحجامة والحمام. فقد نقل صاحب (جمع الجوامع) في منصوصات الشافعي أنه قال: أحب الغسل من الحجامة والحمام، وكل أمر غير الجسد، وأشار الشافعي، إلى أن حكمته، أن ذلك يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه. قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، وفي كل حال تغير رائحة البدن (1). والله أعلم. الامر الثاني: استحباب البكور إلى الجامع، والساعة الاولى أفضل من الثانية، ثم الثالثة فما بعدها. وتعتبر الساعات من طلوع الفجر على الاصح. وعلى الثاني: من طلوع الشمس. والثالث: من الزوال. ثم، ليس المراد على الاوجه بالساعات الاربع والعشرين، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة. والامر الثالث: التزين، فيستحب التزين للجمعة، بأخذ الشعر، والظفر، والسواك، وقطع الرائحة الكريهة، ويلبس أحسن الثياب، وأولاها البيض. فإن لبس مصبوغا، فما صبغ غزله، ثم نسج كالبرد، لا ما صبغ منسوجا. ويسحب أن يتطيب بأطيب ما عنده، ويستحب أن يزيد الامام في حسن الهيئة، ويتعمم، ويرتدي. ويستحب لكل من قصد الجمعة، المشي على سكينة ما لم يضق الوقت، ولا يسعى إليها، ولا إلى غيرها من الصلوات، ولا يركب في جمعة، ولا عيد، ولا جنازة، ولا عيادة مريض، إلا لعذر. وإذا ركب، سيرها على سكون. الامر الرابع: يستحب أن يقرأ في الركعة الاولى من صلاة الجمعة بعد (الفاتحة): سورة (الجمعة). وفي الثانية: (المنافقين) (2). وفي قول قديم: إنه يقرأ في الاولى: (سبح اسم ربك الاعلى). وفي الثانية: (هل أتاك حديث الغاشية).(1/550)
قلت: عجب من الامام الرافعي رحمه الله، كيف جعل المسألة ذات قولين، قديم وجديد ؟ ! والصواب: أنهما سنتان. فقد ثبت كل ذلك في (صحيح مسلم) (1) من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقرأ هاتين في وقت، وهاتين في وقت. ومما يؤيد ما ذكرته، أن الربيع رحمه الله، وهو راوي الكتب الجديدة قال: سألت الشافعي رحمه الله عن ذلك، فذكر أنه يختار (الجمعة) و (المنافقين) ولو قرأ (سبح) و (هل أتاك) كان حسنا. والله أعلم. فلو نسي سورة (الجمعة) في الاولى، قرأها مع (المنافقين) في الثانية، ولو قرأ (المنافقين) في الاولى، قرأ (الجمعة) في الثانية. قلت: ولا يعيد (المنافقين) في الثانية. وقوله: لو نسي (الجمعة) في الاولى، معناه: تركها، سواء كان ناسيا، أو عامدا، أو جاهلا. والله أعلم. فرع: ينبغي للداخل أن يحترز عن تخطي رقاب الناس (2) إلا إذا كان إماما، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها بغير تخط. ولا يجوز أن يقيم أحدا ليجلس موضعه، ويجوز أن يبعث من يأخذ له موضعا، فإذا جاء ينحي المبعوث. وإن فرش لرجل ثوب، فجاء آخر، لم يجز أن يجلس عليه، وله أن ينحيه ويجلس مكانه. قال في (البيان): ولا يرفعه، لئلا يدخل في ضمانه. ويستحب لمن حضر قبل الخطبة أن يشتغل بذكر الله عزوجل. وقراءة القرآن، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستحب الاكثار منها يوم الجمعة، وليلة الجمعة. ويكثر الدعاء يومها، رجاء أن يصادف ساعة الاجابة. قلت: اختلف في ساعة الاجابة على مذاهب كثيرة (3). والصواب منها: ما(1/551)
ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة (2). والله أعلم. ويستحب قراءة سورة (الكهف) يومها وليلتها. ولا يصل صلاة الجمعة بصلاة، بل يفصل بالتحول إلى مكان، أو بكلام ونحوه. فرع: يكره البيع بعد الزوال (3)، وقبل الصلاة. فإذا ظهر الامام على المنبر، وشرع المؤذن في الاذان، حرم البيع. ولو تبايع اثنان أحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر، أثما جميعا (4). ولا يكره البيع قبل الزوال. وإذا حرم فباع، صح بيعه.(1/552)
قلت: غير البيع من الصنائع والعقود وغيرها في معنى البيع (1). ولو أذن قبل جلوس الامام على المنبر، لم يحرم البيع. وحيث حرمنا البيع، فهو في حق من جلس له في غير المسجد. أما إذا سمع النداء، فقام يقصد الجمعة، فبايع في طريقه وهو يمشي، أو قعد في الجامع وباع، فلا يحرم. صرح به صاحب (التتمة) وهو ظاهر، لان المقصود أن لا يتأخر عن السعي إلى الجمعة، لكن البيع في المسجد مكروه يوم الجمعة وغيره، على الاظهر. والله أعلم. فرع: لا بأس على العجائز حضور الجمعة (2) إذا أذن أزواجهن، ويحترزن عن الطيب والتزين. قلت: يكره أن يشبك بين أصابعه، أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها، وكذلك سائر الصلوات. قال الشافعي في (الام) والاصحاب: إذا قعد إنسان في الجامع في موضع الامام، أو في طريق الناس، أمر بالقيام. وكذا لو قعد ووجهه إلى الناس والمكان ضيق، أمر بالتحول (3)، وإلا فلا. قال في (البيان): وإذا قرأ الامام في الخطبة (إن الله وملائكته يصلون على النبي...) (4). جاز للمستمع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع بها صوته (5). والله أعلم.(1/553)
كتاب صلاة الخوف (1)
اعلم أن ليس المراد بهذه الترجمة أن الخوف يقتضي صلاة مستقلة، كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثر في تغير قدر الصلاة، و (2) وقتها، كقولنا: صلاة السفر. وإنما المراد أنه يؤثر في كيفية إقامة الفرائض، [ بل في إقامتها بالجماعة ] (3)، واحتمال أمور فيها كانت لا تحتمل. ثم هو في الاكثر لا يؤثر في إقامة مطلق الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة كما نفصله إن شاء الله تعالى. وقال المزني: صلاة الخوف منسوخة (4)، ومذهبنا: أنها باقية (5). وهي أربعة أنواع (6).
الأول : صلاة بطن نخل (7).(1/555)
وهي: أن يجعل الامام الناس فرقتين. فرقة في وجه العدو، وفرقة يصلي بها (1) جميع الصلاة، سواء كنت (2) ركعتين، أو ثلاثا، أو أربعا، فإذا سلم بهم، ذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الفرقة الاخرى فصلى بهم تلك الصلاة مرة ثانية، تكون له نافلة ولهم فريضة. وإنما يندب إلى هذه الصلاة بثلاثة شروط: أن يكون العدو في غير القبلة، وأن يكون في المسلمين كثرة والعدو قليل، وأن يخاف هجومهم على المسلمين في الصلاة. وهذه الامور ليست شرطا للصحة، فإن الصلاة على هذا الوجه تجوز بغير خوف. وإنما المراد أن الصلاة هكذا إنما يندب إليها وتختار بهذه الشروط.
النوع الثاني : صلاة عسفان (3). وهي: أن يرتبهم الامام صفين ويحرم بالجميع، فيصلوا معه إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الاولى، فإذا سجد، سجد معه الصف الثاني، ولم يسجد الصف الاول، بل يحرسونهم (4) قياما، فإذا قام الامام والساجدون، سجد أهل الصف الاول ولحقوه، وقرأ الجميع معه وركعوا واعتدلوا، فإذا سجد، سجد معه الصف الحارسون في الركعة الاولى، وحرس الآخرون، فإذا جلس للتشهد، سجدوا، ولحقوه وتشهدوا كلهم معه وسلم بهم. هذه الكيفية ذكرها الشافعي رحمه الله في (المختصر). واختلف الاصحاب، فأخذ كثيرون بها، منهم أصحاب القفال، وتابعهم الغزالي، وقالوا: هي منقولة عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بعسفان (5)، وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: ما ذكره الشافعي خلاف الثابت في السنة، فإن الثابت أن الصف الاول سجدوا معه في الركعة الاولى، والصف الثاني سجدوا معه الثانية، والشافعي عكس ذلك. قالوا: والمذهب ما ثبت في(1/556)
الخبر، لان الشافعي رحمه الله قال: إذا رأيتم قولي مخالفا للسنة فاطرحوه (1). واعلم أن الشافعي لم يقل: إن الكيفية التي ذكرها هي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، بل قال: وهذا نحو صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، فأشبه تجويزه كل واحد منهما. وقد صرح به الروياني وصاحب (التهذيب) وغيرهما. قلت: الصحيح المختار: جواز الامرين، وهو مراد الشافعي، فإنه ذكر الحديث كما ثبت في الصحيح، ثم ذكر الكيفية المذكورة، فأشار إلى جوازهما. والله أعلم. ثم المذهب الصحيح المنصوص المشهور: أن الحراسة في السجود خاصة (2)، وأن الجميع يركعون معه، وفيه وجه: أنهم يحرسون في الركوع أيضا، وهو شاذ منكر. قال أصحابنا: لهذه الصلاة ثلاثة شروط. أن يكون العدو في جهة القبلة، وأن يكون على جبل، أو مستو (3) من الارض لا يسترهم شئ عن أبصار المسلمين، وأن يكون في المسجد (4) كثرة، لتسجد طائفة وتحرس أخرى، ولا يمتنع أن يزيد على صفين، بل يجوز أن يرتبهم صفوفا كثيرة، ثم يحرس صفإن كما سبق، ولا يشترط أن يحرس جميع من في الصف، بل لو حرست فرقتان من صف واحد على المناوبة في الركعتين، جاز. فلو تولى الحراسة في الركعتين طائفة واحدة، ففي(1/557)
صلاة هذه الطائفة وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قطع جماعة. فرع: لو تأخر الحارسون أولا إلى الصف الثاني في الركعة الثانية، وتقدمت الطائفة الثانية ليحرسوا، جاز إذا لم تكثر أفعالهم، وذلك بأن يتقدم كل واحد من الصف الثاني خطوتين، ويتأخر كل واحد من الصف الاول خطوتين وينفذ كل واحد بين رجلين. وهل هذا التقدم أفضل، أم ملازمة كل واحد مكانه ؟ وجهان. قال الصيدلاني، والمسعودي، والغزالي، وآخرون: التقدم أفضل. وقال العراقيون: الملازمة أفضل. ولفظ الشافعي على هذا أدل، وهذا كله بناء على ما ذكره الشافعي: أن الصف الاول يحرس في الاول. فأما على اختيار أبي حامد: أن الصف الاول يسجدون في الاولى (1)، فإن في الركعة الثانية يتقدم الصف الثاني، ويتأخر الاول فتكون الحراسة في الركعتين ممن خلف الصف الاول، وكذلك ورد الخبر. قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (2) تقدم الصف الثاني، وتأخر الاول. والله أعلم.
النوع الثالث : صلاة ذات الرقاع (3). وهي: تارة تكون في صلاة ذات ركعتين، إما الصبح، وإما مقصورة، وتارة في ذات ثلاث، أو أربع. فأما ذات ركعتين (4)، فيفرق الامام الناس فرقتين، فرقة في وجه العدو، وينحاز بفرقة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو، فيفتح بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة. هذا القدر اتفقت عليه الروايات. وفيما يفعل بعد ذلك روايتان. إحداهما: أنه إذا قام الامام إلى الثانية، خرج المقتدون عن متابعته، وأتموا لانفسهم الركعة الثانية، وتشهدوا وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاء (5) أولئك(1/558)
فاقتدوا به في الثانية. ويطيل الامام القيام إلى لحوقهم، فإذا لحقوه، صلى بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية وهو ينتظرهم، فإذا لحقوه، سلم بهم. هذه رواية سهل بن أبي حيثمة (1) عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). وأما الثانية: فهي أن الامام إذا قام إلى الثانية، لا (3) يتم المقتدون به الصلاة، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو وهم في الصلاة فيقفون سكوتا، وتجئ تلك الطائفة فتصلي مع الامام ركعته الثانية. فإذا سلم، ذهبت إلى وجه العدو، وجاء الاولون إلى مكان الصلاة، وأتموا [ لانفسهم، وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الاخرى إلى مكان الصلاة وأتموا ] (4). وهذه رواية ابن عمر (5). ثم إن الشافعي رحمه الله، اختار الرواية الاولى لسلامتها من كثرة المخالفة، ولانها أحوط لامر الحرب. وللشافعي قول قديم: أنه إذا صلى الامام بالطائفة الثانية الركعة الثانية، تشهد بهم وسلم، ثم هم يقومون إلى تمام صلاتهم، كالمسبوق، وقول آخر: أنهم يقومون إذا بلغ الامام موضع السلام ولم يسلم بعد. وهل تصح الصلاة على صفة رواية ابن عمر ؟ قولان. المشهور: الصحة، لصحة الحديث وعدم المعارض، ولا يصح قول الآخر: إنه منسوخ، فإن النسخ يحتاج إلى دليل. وإقامة الصلاة على الوجه المذكور ليست عزيمة لا بد منها، بل لو صلى بطائفة، وصلى غيره بالباقين، أو صلى بعضهم، أو كلهم منفردين، جاز قطعا، لكن كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة، فأمر الله سبحانه وتعالى بترتبهم هكذا، لتحصل طائفة فضيلة التكبير معه، والاخرى فضيلة التسليم معه. وهذا النوع موضعه إذا كان العدو في غير جهة القبلة، أو فيها وبينهم وبين المسلمين حائل يمنع رؤيتهم لو هجموا.(1/559)
فرع: الطائفة الاولى ينوون مفارقة الامام إذا قاموا معه إلى الثانية، وانتصبوا قياما. ولو فارقوه بعد رفع الرأس من السجود، جاز، والاول أولى. وأما الطائفة الثانية، فإذا قاموا إلى ركعتهم الثانية، لا ينفردون عن الامام، كذا قاله الجمهور. وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. فرع: إذا قام الامام إلى الثانية، هل يقرأ في انتظاره مجئ الطائفة الثانية، أم يؤخر ليقرأ معهم ؟ فيه ثلاث طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يقرأ الفاتحة والسورة بعدها، فإذا جاؤوا قرأ من السورة (1) قدر الفاتحة وسورة قصيرة، ثم ركع. والثاني: لا يقرأ شيئا، بل يشتغل بما شاء من التسبيح، وسائر الاذكار. والطريق الثاني: يقرأ، قولا واحدا. والثالث: إن أراد قراءة سورة طويلة بعد الفاتحة، قرأ ومدها، وإن أراد قصيرة، انتظرهم. ولو لم ينتظرهم وأدركوه في الركوع، أدركوا الركعة. وهل يتشهد في انتظاره فراغ الثانية من ركعتهم إذا قلنا: يفارقونه، قبل التشهد ؟ فيه طرق. المذهب: أنه يتشهد، وقيل: فيه الطريقان الاولان في القراءة (2). قلت: قال أصحابنا: إذا قلنا: لا يتشهد، اشتغل في مدة الانتظار بالتسبيح وغيره من الاذكار، ويستحب للامام أن يخفف الاولى، ويستحب للطائفتين التخفيف فيما ينفردون به. والله أعلم. فرع: لو صلى الامام بهم هذه الصلاة في الامن هل تصح ؟ أما صلاة(1/560)
الامام، ففيها طريقان. أحدهما: صحيحة قطعا، وقال الاكثرون: في صحتها قولان، لانه ينتظرهم بغير عذر. وأما الطائفة الاولى ففي صحة صلاتها القولان فيمن فارق بغير عذر. وأما الطائفة الثانية: فإن قلنا: صلاة الامام تبطل، بطل اقتداؤهم، وإلا، انعقد، ثم تبنى صلاتهم إذا قاموا إلى الثانية على خلاف يأتي أنهم منفردون بها، أم في حكم الاقتداء ؟ إن قلنا بالاول، ففيها قولان مبنيان على أصلين. أحدهما: الانفراد بغير عذر، والثاني: الاقتداء بعد الانفراد. وإن قلنا: بالثاني، بطلت صلاتهم، لانهم انفردوا بركعة وهم في القدوة. ولو فرضت الصلاة في الامن على رواية ابن عمر، بطلت صلاة المأموين قطعا. فرع: إذا صلى المغرب في الخوف، جاز أن يصلي بالطائفة الاولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وعكسه. وأيهما أفضل ؟ فيه قولان، أظهرهما: بالاولى ركعتين (1)، ومنهم من قطع به. فإن قلنا: بالاولى ركعة، فارقته إذا قام إلى الثانية، وتتم لنفسها، كما ذكراه في ذات الركعتين. وإن قلنا: بالاولى ركعتين، جاز أن ينتظر الثانية في التشهد الاول، وجاز أن ينتظرهم في القيام الثالث. وأيهما أفضل ؟ قولان. أظهرهما (2): الانتظار في القيام. وعلى هذا هل يقرأ الفاتحة، أم يصبر إلى لحوق الطائفة الثانية ؟ فيه الخلاف المتقدم. فرع: إذا كانت صلاة الخوف رباعية، بأن كانت في الحضر، أو أرادوا الاتمام في السفر، فينبغي للامام أن يفرقهم فرقتين، ويصلي بكل طائفة ركعتين، ثم هل الافضل أن ينتظر الثانية في التشهد الاول، أم في القيام الثالث ؟ فيه الخلاف المتقدم في المغرب. ويتشهد بكل طائفة بلا خلاف. فلو فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، بأن صلى بالاولى ركعة، ثم فارقته (3)، وصلت ثلاثا وسلمت، وانتظر قائما فراغها وذهابها ومجئ الثانية، ثم صلى بالثانية الثانية، وانتظر جالسا في التشهد الاول، أو قائما في الثالثة، وأتموا لانفسهم، ثم صلى بالثالثة الثالثة،(1/561)
وانتظروا في قيام الرابعة، وأتموا لانفسهم، ثم صلى بالرابعة الرابعة، وانتظرهم في التشهد، فأتموا وسلم بهم، ففي جوازه قولان. أظهرهما: الجواز، فعلى هذا قال إمام الحرمين: شرطه الحاجة، فإن لم تكن حاجة، فهو كفعلهم في حال الاختيار. وعلى هذا القول تكون الطائفة الرابعة، كالثانية في ذات الركعتين، فيعود الخلاف في أنهم يفارقونه قبل التشهد، أو يتشهدون معه، أو يقومون بعد سلام الامام إلى ما عليهم، وتتشهد الطائفة الثانية معه على الاصح. وعلى الثاني تفارقه قبل التشهد، وعلى هذا القول تصح صلاة الامام والطائفة الرابعة، وفي الطوائف الثلاث القولان فيمن فارق الامام بغير عذر. وأما إذا قلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة الامام باطلة. قال جمهور الاصحاب: تبطل بالانتظار الواقع في الركعة الثالثة، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، وقال ابن سريج: بالواقع في الرابعة. فعلى قول الجمهور: وجهان. أحدهما: تبطل بمعنى الطائفة الثانية. والثاني: بمعنى قدر ركعة من انتظاره الثاني. وأما صلاة المأمومين، فصلاة الطائفة الاولى والثانية صحيحة، لانهم فارقوه قبل بطلان صلاته، وصلاة الرابعة باطلة، إن علمت بطلان صلاة الامام، وإلا فلا. والثالثة كالرابعة على قول الجمهور، وكالاولين على قول ابن سريج. قلت: جزم الامام الرافعي بصحة صلاة الطائفة الاولى والثانية على هذا القول، وليس هو كذلك، بل فيهما القولان فيمن فارق بغير عذر، كما قلنا في الطوائف الثلاث على قول صحة صلاة الامام. وهذا لا بد منه، وصرح به جماعة من أصحابنا. وحكى القاضي أبو الطيب وصاحب (الشامل) وآخرون وجها ضعيفا أن المبطل للطائفة الرابعة أن تعلم أنه انتظار رابع وإن جهلت كونه مبطلا. والله أعلم. ولو فرقهم في المغرب ثلاث فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، وقلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة جميع الطوائف صحيحة عند ابن سريج. وأما عند الجمهور، فتبطل الثالثة إن علموا بطلان صلاة الامام. وإذا اختصرت الرباعية، قلت (1): ففيها أربعة أقوال. أظهرها: صحة صلاة الامام والقوم جميعا. والثاني: صحة صلاة الامام، والطائفة الرابعة فقط. والثالث: بطلان صلاة الامام وصحة صلاة الطائفة الاولى(1/562)
والثانية. والفرق في حق الثالثة والرابعة بين أن يعلموا بطلان صلاة الامام، أم لا. والرابع: صحة الثالثة لا محالة، والباقي، كالقول الثالث وهو قول ابن سريج. قلت: وقول خامس: وهو بطلان صلاة الجميع. ولو فرقهم فرقتين فصلى بفرقة ركعة، بالثانية ثلاثا، أو عكسه. قال أصحابنا: صحت صلاة الامام وجميعهم بلا خلاف، وكانت مكروهة، ويسجد الامام والطائفة الثانية سجود السهو، للمخالفة بالانتظار في غير موضعه. هكذا صرح به أصحابنا. ونقله صاحب (الشامل) عن نص الشافعي رحمه الله قال: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق. وقلنا: لا تبطل صلاتهم، فعليهم سجود السهو. وقال صاحب (التتمة): لا خلاف في هذه الصورة أن الصلاة مكروهة، لان الشرع ورد بالتسوية بين الطائفتين قال: وهل تصح صلاة الامام، أم لا ؟ إن قلنا: إذا فرقهم أربع فرق تصح، فهنا أولى، وإلا، فقد انتظر في غير موضعه، فيكون كمن قنت في غير موضعه. قال: وأما المأمومون، فعلى التفصيل فيما إذا فرقهم أربع فرق، وهذا الذي قاله شاذ، والصواب قدمناه عن نص الشافعي والاصحاب. والله أعلم. فرع: لو كان الخوف في بلد وحضرت صلاة الجمعة، فالمذهب والمنصوص: أن لهم يصلوها على هيئة صلاة ذات الرقاع، وقيل: في جوازها قولان. وقيل: وجهان. ثم للجواز شرطان. أحدهما: أن يخطب بجميعهم، ثم يفرقهم فرقتين، أو يخطب بفرقة، ويجعل منها مع كل واحد من الفرقتين أربعين فصاعدا. فأما لو خطب بفرقة وصلى بأخرى، فلا يجوز. والثاني أن تكون الفرقة الاولى أربعين فصاعدا، فلو نقصت عن الاربعين، لم تنعقد الجمعة. ولو نقصت الفرقة الثانية عن أربعين، فطريقان. أحدهما: لا يضر. والثاني: أنه كالخلاف في الانفضاض. قلت: الاصح: لا يضر، وبه قطع البندنيحي (1). والله أعلم. أما لو خطب بهم، ثم أراد أن يصلي بهم صلاة عسفان، فهي أولى بالجواز من صلاة ذات الرقاع. ولا تجوز كصلاة بطن نخل، إذ لا تقام جمعة بعد جمعة.(1/563)
فرع: صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على الاصح، لانها أعدل بين الطائفتين، ولانها صحيحة بالاتفاق. وتلك صلاة مفترض خلف متنفل، وفي صحته خلاف للعلماء (1). والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: بطن النخل أفضل، لتحصل لكل طائفة فضيلة الجماعة بالتمام. فرع: إذا سها بعض المأمومين في صلاة ذات الرقاع على الرواية المختارة، نظر، إن سهت الطائفة الاولى في الركعة الاولى، فسهوها محمول، لانها مقتدية، وسهوها في الثانية غير محمول، لانقطاعها عن الامام. وفي ابتداء الانقطاع وجهان. أحدهما: من الانتصاب قائما. والثاني: من رفع الامام رأسه من السجود الثاني، فعلى هذا لو رفع رأسه وهم بعد في السجود فسهوا، فغير محمول. ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عند رفع الرأس، أو الانتصاب، فلا معنى للخلاف في ابتداء الانقطاع، بل ينبغي أن تقتصر على وقت نية المفارقة. وأما الطائفة الثانية، فسهوها في الركعة الاولى غير محمول، وفي الثانية محمول على الاصح، ويجري الوجهان في المزحوم في الجمعة إذا سها في وقت تخلفه، وأجروهما فيمن صلى منفردا، فسها ثم اقتدى وتممها مأموما وجوزناه، واستبعد الامام هذا، وقال: الوجه: القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة. هذا إذا قلنا: الطائفة الثانية يقومون للركعة الثانية إذا جلس الامام للتشهد، فأما إذا قلنا بالقديم: إنهم يقومون بعد سلامه، فسهوهم في الثانية غير محمول قطعا، كالمسبوق. أما إذا سها الامام، فينظر، إن سها في الركعة الاولى، لحق سهوه الطائفتين، فالاولى تسجد إذا تمت صلاتهم، فلو سها بعضهم في ركعته الثانية، فهل يقتصر على سجدتين، أم يسجد أربعا ؟ فيه الخلاف المتقدم في بابه، والاصح سجدتان. والطائفة الثانية يسجدون مع الامام في آخر صلاته. وإن سها في الركعة(1/564)
الثانية، لم يلحق سهوه الطائفة الاولى، وتسجد الثانية معه في آخر صلاته. ولو سها في انتظاره إياهم، فهل يلحقهم ذلك السهو ؟ فيه الخلاف المتقدم في أنه هل يحمل سهوهم والحالة هذه ؟ فرع: هل يجب حمل السلاح في صلاة ذات الرقاع، وعسفان، وبطن نخل ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يستحب (1). والثاني: القطع بالاستحباب. والثالث: بالايجاب. والرابع: أن ما يدفع به عن نفسه، كالسيف والسكين يجب، وما يدفع به عن نفسه وغيره، كالرمح والقوس (2)، لا يجب. وللخلاف شروط. أحدها طهارة المحمول، فالنجس كالسيف الذي عليه دم، أو سقي سما نجسا، والنبل المريش بريش ما لا يؤكل لحمه، أو بريش ميتة، لا يجوز حمله. الثاني: أن لا يكون مانعا بعض أركان الصلاة، فإن كان كالبيضة المانعة من مباشرة الجبهة، لم يحمل بلا خلاف (3). الثالث: أن لا يتأذى به أحد، كالرمح في وسط القوم فيكره. الرابع: أن يخاف من وضع السلاح خطر على سبيل الاحتمال (4)، فأما إذا تعرض للهلاك ظاهرا لو تركه، فيجب الاخذ قطعا (5). واعلم أن الاصحاب ترجموا المسألة بحمل السلاح (6). قال إمام الحرمين: وليس الحمل متعينا، بل لو وضع(1/565)
السيف عن يديه، وكان مد اليد إليه في السهولة، كمدها إليه وهو محمول، كان ذلك في حكم الحمل قطعا (1). قال ابن كج: يقع السلاح على السيف، والسكين، والقوس، والرمح، والنشاب ونحوها. فأما الترس والدرع، فليس بسلاح. وإذا أوجبنا حمل السلاح فتركه، لم تبطل صلاته قطعا (2). قلت: ويجوز ترك السلاح للعذر بمرض، أو أذى من مطر أو غيره (3). قال في (المختصر): أكره أن يصلي صلاة الخوف، يعني صلاة ذات الرقاع بأقل من ثلاثة، وفي وجه: العدو ثلاثة، والثلاثة أقل الطائفة. ولو صلى بواحد واحد، جاز. والله أعلم.
النوع الرابع : صلاة شدة الخوف. فإذا التحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال، لقلتهم، وكثرة العدو، أو اشتد الخوف وإن لم يلتحم القتال، فلم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم، لو (4) ولوا عنهم، أو انقسموا، صلوا بحسب الامكان، وليس لهم التأخير عن الوقت. ويصلون ركبانا ومشاة، ولهم ترك استقبال القبلة إذا لم يقدروا عليها، ويجوز اقتداء (5) بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة، كالمصلين حول الكعبة وفيها. قلت: قال أصحابنا: وصلاة الجماعة في هذه الحالة أفضل من الانفراد، كحالة الامن (6). والله أعلم.(1/566)
وإنما يعفى عن ترك استقبال القبلة إذا كان بسبب العدو (1)، فلو انحرف عن القبلة بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت صلاته. وإذا لم يتمكن من إتمام الركوع والسجود، اقتصروا على الايماء بهما وجعلوا السجود أخفض من الركوع، ولا يجب على الماشي استقبال القبلة في الركوع ولا السجود، ولا التحرم، ولا وضع الجبهة على الارض، فإنه يخاف الهلاك، بخلاف المتنفل في السفر، ويجب الاحتراز عن الصياح بكل حال بلا خلاف (2)، فإنه لا حاجة إليه، ولا بأس بالاعمال القليلة، فانها محتملة في غير الخوف، ففيه أولى. وأما الافعال الكثيرة، كالطعنات، والضربات المتوالية، فهي مبطلة إن لم يحتج إليها (3)، فإن احتاج، فثلاثة أوجه. أصحها عند الاكثرين وبه قال ابن سريج، والقفال: لا تبطل. والثاني: تبطل. حكاه العراقيون عن ظاهر النص. والثالث: تبطل إن كان في شخص واحد، ولا تبطل في أشخاص، وعبر بعضهم عن الاوجه بالاقوال. فرع: لو تلطخ سلاحه بالدم (4)، فينبغي أن يلقيه (5)، أو يجعله في قرابه تحت ركابه إلى أن يفرغ من صلاته إن احتمل الحال ذلك، فإن احتاج إلى إمساكه، فله إمساكه (6)، ثم هل يقضي نقل إمام الحرمين عن الاصحاب، أنه يقضي (7) لندور عذره ثم منعه، وقال: تلطخ السلاح بالدم من الاعذار العامة في حق المقاتل، ولا سبيل إلى تكليفه تنحية السلاح، فتلك النجاسة ضرورية في حقه كنجاسة(1/567)
المستحاضة في حقها، ثم جعل المسألة على قولين مرتبين على القولين فيمن صلى في موضع تنجس، وهذه الصورة أولى بعدم القضاء لالحاق الشرع القتال بسائر مسقطات القضاء في سائر المحتملات، كاستدبار القبلة، والايماء بالركوع والسجود. فرع: تقام صلاة العيدين، والكسوفين في شدة الخوف، لانه يخاف فوتهما، ولا تقام صلاة الاستسقاء (1). فرع: تجوز صلاة شدة الخوف في كل ما ليس بمعصية (2) من أنواع القتال، ولا تجوز في المعصية، فتجوز في قتال الكفار، ولاهل العدل في قتال البغاة، وللرفقة (3) في قطاع الطريق، ولا تجوز للبغاة والقطاع، ولو قصد نفس رجل، أو حريمه، أو نفس غيره، أو حريمه، وأشغل بالدفع، صلى هذه الصلاة. ولو قصد ماله، نظر، إن كان حيوانا، فكذلك، وإلا فقولان. أظهرهما: جوازها. والثاني: لا. أما إذا ولوا ظهورهم الكفار منهزمين، فننظر، إن كان يحل لهم ذلك بأن يكون في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، أو كان متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، جازت هذه الصلاة، وإلا فلا، لانه معصية. ولو انهزم الكفار وتبعهم المسلمون، بحيث لو ثبتوا وأكملوا الصلاة، فاتهم العدو، لم تجز هذه الصلاة، وإن خافوا كمينا أو كرتهم، جازت. فرع: الرخصة في هذا النوع لا تختص بالقتال، بل يتعلق بالخوف مطلقا. فلو هرب في سيل (4)، أو حريق ولم يجد معدلا عنه، أو هرب من سبع، فله صلاة شدة الخوف. والمديون المعسر العاجز عن بينة الاعسار ولا يصدقه المستحق، ولو ظفر به حبسه، له أن يصليها هاربا، على المذهب. وحكي عن (الاملاء) أن من طلب لا ليقتل، بل ليحبس أو يؤخذ منه شئ: لا يصليها. ولو كان عليه قصاص(1/568)
يرجو العفو عنه (1) إذا سكن الغضب، قال الاصحاب: له أن يهرب ويصلي صلاة شدة الخوف في هربه، واستبعد الامام جواز هربه بهذا التوقع. فرع: المحرم إذا ضاق وقت وقوفه (2)، وخاف فوت الحج، إن صلى متمكنا، فيه أوجه للقفال. أحدها: يؤخر الصلاة ويحصل الوقوف، لان قضاء الحج صعب. والثاني: يصلي صلاة شدة (3) الخوف فيحصل الصلاة والحج. والثالث: تجب الصلاة على الارض مستقرا، ويفوت الحج، لعظم حرمة الصلاة، ولا يصلي صلاة الخوف، لانه محصل لا هارب، ويشبه أن يكون هذا الوجه أوفق لكلام الائمة. قلت: هذا الوجه ضعيف، والصواب الاول، فإنا جوزنا تأخير الصلاة لامور لا تقارب المشقة فيها هذه المشقة، كالتأخير للجمع. والله أعلم. فرع: لو رأوا سوادا إبلا أو شجرا، فظنوه عدوا، فصلوا صلاة شدة الخوف، فبان الحال، وجب القضاء على الاظهر (4)، ثم قيل: القولان فيما إذا أخبرهم بالعدو ثقة وغلط. فإن لم يكن إلا ظنهم، وجب القضاء قطعا. وقيل: القولان فيما إذا كانوا في دار الحرب لغلبة الخوف، فإن كانوا في دار الاسلام، وجب القضاء قطعا. والمذهب جريان القولين في جميع الاحوال. ولو تحققوا العدو، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان دونهم حائل من خندق، أو ماء، أو نار (5)، أو بان أنه كان بقربهم حصن يمكنهم التحصن به، أو ظنوا أن بإزاء كل مسلم أكثر من مشركين، فصلوها منهزمين، ثم بان خلاف ذلك، فحيث أجرينا في الصورة السابقة القولين (6)، جريا في هذه ونظائرها، وقيل: يجب القضاء هنا(1/569)
قطعا. قال صاحب (التهذيب): ولو صلوا في هذه الاحوال صلاة عسفان، اطرد القولان. ولو صلوا صلاة ذات الرقاع - فإن جوزناها في حال الامن - فهنا أولى، وإلا جرى القولان (1). فرع: لو كان يصلي متمكنا على الارض مستقبل القبلة، فحدث خوف في أثناء الصلاة فركب، فطريقان. أحدهما: على قولين. أحدهما: تبطل صلاته فيستأنف. والثاني: لا تبطل فيبني. والطريق الثاني وهو المذهب (2): أنه إن لم يكن مضطرا إلى الركوب وكان يقدر على القتال وإتمام الصلاة راجلا، فركب احتياطا، وجب الاستئناف. وإن اضطر بنى. وعلى هذا: إن قل فعله في ركوبه، بنى بلا خلاف، وإن كثر، فعلى الوجهين في العمل الكثير للحاجة. أما إذا كان يصلي راكبا صلاة شدة الخوف، فأمن ونزل، فنص الشافعي أنه يبني وهو المذهب (3). وقيل: إن حصل في نزوله فعل قليل، بنى، وإن كثر، فعلى الوجهين. قال صاحب (الشامل) وغيره: يشترط في بناء النازل أن لا يستدبر القبلة في نزوله، فإن استدبر، بطلت صلاته. قلت: صرح أيضا القاضي أبو الطيب وصاحب (المهذب) وآخرون بأنه إذا استدبر القبلة في نزوله، بطلت صلاته. وهذا متفق عليه. واتفقوا على أنه إذا لم يستدبرها، بل انحرف يمينا وشمالا، فهو مكروه لا تبطل صلاته، وعلى أنه إذا أمن، وجب النزول في الحال، فإن أخر، بطلت (4). والله أعلم.(1/570)
باب ما يجوز لبسه للمحارب وغيره وما لا يجوز
يجوز للرجل لبس الحرير (1) في حال مفاجأة (2) القتال إذا لم يجد غيره (3)، وكذلك يجوز أن يلبس منه ما هو وقاية القتال، كالديباج (4) الصفيق الذي لا يقوم غيره مقامه (5)، وفي وجه: يجوز اتخاذ القباء ونحوه، مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الاطلاق، لما فيه من حسن الهيئة وزينة الاسلام، كتحلية السيف، والصحيح تخصيصه بحالة الضرورة. فرع: للشافعي رحمه الله (6) تعالى نصوص مختلفة في جواز استعمال الاعيان النجسة. فقيل في أنواع استعمالها كلها قولان. والمذهب: التفصيل، فلا يجوز في الثوب والبدن إلا للضرورة، ويجوز في غيرهما إن كانت نجاسة مخففة، فإن كانت مغلظة - وهي نجاسة الكلب والخنزير - فلا. وبهذا الطريق قال أبو بكر الفارسي (7) والقفال وأصحابه. فلا يجوز لبس جلد الكلب والخنزير في حال الاختيار، لان الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، وكذا الكلب، إلا في أغراض مخصوصة، فبعد موتهما أولى. ويجوز الانتفاع بالثياب النجسة ولبسها في غير الصلاة ونحوها، فإن فاجأته حرب، أو خاف على نفسه لحر، أو برد، ولم يجد غير جلد الكلب والخنزير، جاز لبسهما. وهل يجوز لبس جلد الشاة الميتة، وسائر الميتات في حال الاختيار ؟ وجهان. أصحهما: التحريم. ويجوز أن يلبس هذه الجلود فرسه وأداته، ولا يجوز استعمال جلد الكلب والخنزير في ذلك ولا غيره، ولو(1/571)
جلل كلبا، أو خنزيرا. بجلد كلب، أو خنزير، جاز على الاصح، لاستوائهما في غلظ النجاسة (1). وأما تسميد الارض بالزبل، فجائز. قال إمام الحرمين: ولم يمنع منه أحد. وفي كلام الصيدلاني ما يقتضي الخلاف فيه (2) ويجوز الاستصباح بالدهن النجس على المشهور (3)، وسواء نجس بعارض، أو كان نجس العين، كودك الميتة، ودخان النجاسة، نجس على الاصح (4)، فإن نجسناه عفي عن(1/572)
قليله، والذي يصيبه في الاستصباح قليل، لا ينجس غالبا. فصل فيما يجوز لبسه في حال الاختيار وما لا يجوز ؟ ويحرم على الرجل والخنثى لبس الحرير والديباج، ويجوز للنساء. وفي تحريمه على الخنثى احتمال. والقز كالحرير، على المذهب. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكي في إباحته وجهان. وفي المركب من الحرير وغيره طريقان. المذهب والذي قطع به الجمهور: أنه إن كان الحرير أكثر وزنا، حرم، وإن كان غيره أكثر، لم يحرم، وإن استويا، لم يحرم على الاصح. والطريق الثاني قاله القفال: إن ظهر الحرير، حرم وإن قل وزنه، وإن استتر، لم يحرم وإن كثر وزنه. فرع: يجوز لبس المطرف والمطرز بالديباج، بشرط الاقتصار على عادة التطريف، فإن جاوزها، حرم، ويشرط (1) أن لا يجاوز الطراز قدر أربع أصابع، فإن جاوز، حرم (2). الترقيع بالديباج، كالتطريز. ولو خاط ثوبا بإبريسم، جاز لبسه، بخلاف الدرع المنسوجة بقليل الذهب، فإنه حرام لكثرة الخيلاء فيه. ولو حشا القباء أو الجبة بالحرير، جاز على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور (3). ولو كانت بطانة الجبة حريرا، حرم لبسها. فرع: تحريم الحرير على الرجال لا يختص باللبس، بل افتراشه، والتدثر به، واتخاذه سترا، وسائر وجوه الاستعمال، حرام. وفي وجه شاذ: يجوز للرجال الجلوس على الحرير، وهو منكر وغلط، ويحرم على النساء افتراش الحرير على الاصح.(1/573)
قلت: الاصح، جواز افتراشهن، وبه قطع العراقيون، والمتولي، وغيره. والله أعلم. وهل للولي إلباس الصبي الحرير ؟ فيه أوجه. أصحها: يجوز قبل سبع سنين، ويحرم بعدها، وبه قطع البغوي. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا. قلت: الاصح الجواز مطلقا، كذا صححه المحققون، منهم الرافعي في (المحرر) وقطع به الفوراني. قال صاحب (البيان): هو المشهور. ونص الشافعي والاصحاب: على تزيين الصبيان يوم العيد بحلي الذهب، والمصبغ، ويلحق به الحرير (1). والله أعلم. فرع: يجوز لبس الحرير في موضع الضرورة - كما قلنا - إذا فاجأته الحرب، أو احتاج لحر، أو برد، ويجوز للحاجة كالجرب. وفيه وجه: أنه لا يجوز، وهو منكر. ويجوز لدفع القمل في السفر، وكذا في الحضر على الاصح. قلت: قال أصحابنا: يجوز لبس الكتان، والقطن، والصوف، والخز، وإن كانت نفيسة غالية الاثمان، لان نفاستها بالصنعة. قال صاحب (البيان): يحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر. ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي رحمه الله: أنه نهى الرجل عن [ المزعفر، وأباح له المعصفر. قال البيهقي: والصواب إثبات نهي الرجل عن ] (2) المعصفر أيضا، للاحاديث الصحيحة فيه. قال: وبه قال الحليمي. قال: ولو بلغت أحاديثه الشافعي، لقال بها، وقد أوصانا بالعمل(1/574)
بالحديث الصحيح. قال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (1): يحرم تنجيد البيوت بالثياب المصورة وبغير المصورة، سواء فيه الحرير وغيره، والصواب في غير الحرير والمصور الكراهة دون التحريم (2) (3). قال صاحب (التهذيب): ولو بسط فوق الديباج ثوب قطن وجلس عليه، أو جلس على جبة محشوة بالحرير، جاز، ولو حشا المخدة بإبريسم، جاز استعمالها على الصحيح، كما قلنا في الجبة. قال إمام الحرمين: وظاهر كلام الائمة أن من لبس ثوبا ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، جاز. قال: وفيه نظر. ويكره أن يمشي في نعل واحدة، أو خف واحد، ويكره أن يتنعل قائما. والمستحب في لبس النعل وشبهه، أن يبدأ باليمين، ويبدأ بخلع اليسار، ولا يكره لبس خاتم الرصاص والحديد والنحاس على الصحيح، وبه قطع في (التتمة). ويجوز لبس خاتم الفضة للرجل في يمينه (4)، يساره، كلاهما سنة، لكن اليمين أفضل على الصحيح المختار. ويجوز للرجال والنساء لبس الثوب الاحمر والاخضر وغيرهما من المصبوغات بلا كراهة، إلا ما ذكرنا في المزعفر والمعصفر للرجال. قال صاحب (التتمة) و (البحر): يكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي، ويحرم إطالة الثوب عن الكعبين للخيلاء، ويكره لغير الخيلاء، ولا فرق في ذلك بين حال الصلاة وغيرها، والسراويل والازار في حكم الثوب. وله لبس العمامة بعذبة وبغيرها، وحكم إطالة عذبتها حكم إطالة(1/575)
الثوب. فقد روينا في (سنن أبي داود) والنسائي وغيرهما بإسناد حسن (2)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الاسبال في الازار والقميص والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه (يوم القيامة). والله أعلم.(1/576)
كتاب صلاة العيدين (1)
هي سنة على الصحيح المنصوص (2). وعلى الثاني: فرض كفاية (3). فإن اتفق أهل بلد على تركها، قوتلوا إن قلنا: فرض كفاية. وإن قلنا: سنة، لم يقاتلوا على الاصح (4)، ويدخل وقتها بطلوع الشمس. والافضل تأخيرها إلى أن ترتفع قدر رمح (5)، كذا صرح به كثير من الاصحاب، منهم صاحب (الشامل) و (المهذب) والروياني ومقتضى كلام جماعة، منهم: الصيدلاني، وصاحب (التهذيب) أنه يدخل بالارتفاع (6)، واتفقوا على خروج الوقت بالزوال. قلت: الصحيح، أو الاصح، دخول وقتها بالطلوع. والله أعلم. فرع: المذهب والمنصوص في الكتب الجديدة كلها، أن صلاة العيد تشرع(1/577)
للمنفرد في بيته أو غيره، وللمسافر والعبد والمرأة (1)، وقيل: فيه قولان. الجديد: هذا. والقديم: أنه يشترط فيها شروط الجمعة من اعتبار الجماعة، والعدد بصفات الكمال، وغيرهما، إلا أنه يجوز فعلها خارج البلد، ومنهم من منعه، ومنهم من جوزها بدون الاربعين على هذا، وخطبتها بعدها. ولو تركت الخطبة، لم تبطل الصلاة. وإذا قلنا بالمذهب، فصلاها المنفرد، لم يخطب على الصحيح. وإن صلاها مسافرون، خطب إمامهم.
فصل في صفة صلاة العيد
هي: ركعتان. صفتها في الاركان والسنن والهيآت كغيرها، وينوي بها صلاة العيد. هذا أقلها، والاكمل أن يقرأ دعاء الاستفتاح عقب الاحرام، كغيرها، ثم يكبر في الاولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الاحرام والركوع. وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة القيام من السجود والهوي إلى الركوع. وقال المزني: التكبيرات في الاولى ست. ولنا قول شاذ منكر: أن دعاء الاستفتاح يكون بعد هذه التكبيرات، ويستحب أن يقف بين كل تكبيرتين من الزوائد قدر قراءة آية لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله تعالى ويكبره ويمجده. هذا لفظ الشافعي. قال الاكثرون: يقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولو زاد، جاز. قال الصيدلاني عن بعض الاصحاب: يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير) (2). وقال ابن الصباغ: لو قال ما اعتاده الناس: (الله أكبر كبيرا. والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد وآله وسلم كثيرا) كان حسنا (3).(1/578)
قلت: وقال الامام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسعود المسعودي (1) من أصحابنا يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك). والله أعلم. ولا يأتي بهذا الذكر عقب السابعة والخامسة في الثانية، بل يتعوذ عقب السابعة، وكذا عقب الخامسة، إن قلنا: يتعوذ في كل ركعة، ولا يأتي به بين تكبيرة الاحرام والاولى من الزوائد. قلت: وأما في الركعة الثانية، فقال إمام الحرمين: يأتي به قبل الاولى من الخمس، والمختار الذي يقتضيه كلام الاصحاب أنه لا يأتي به كما في الاولى. والله أعلم. ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها في الاولى: (ق). وفي الثانية: (اقتربت الساعة). قلت: وثبت في (صحيح مسلم) (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيهما (سبح اسم ربك الاعلى) و (وهل أتاك) فهو سنة أيضا. والله أعلم. فرع: يستحب رفع اليدين في التكبيرات الزوائد، ويضع اليمنى على اليسرى بين كل تكبيرتين. وفي (العدة) ما يشعر بخلاف فيه. ولو شك في عدد التكبيرات، أخذ بالاقل (3)، ولو كبر ثماني تكبيرات، وشك هل نوى التحريم (4) بواحدة منها ؟ فعليه استئناف الصلاة (5)، ولو شك في التكبيرة التي نوى التحريم (6) بها، جعلها الاخيرة، وأعاد الزوائد (7). ولو صلى خلف من يكبر ثلاثا أو ستا،(1/579)
تابعه، ولا يزيد عليه على الاظهر (1). ولو ترك الزوائد، لم يسجد للسهو. قلت: ويجهر بالقراءة والتكبيرات، ويسر بالذكر بينهما (2). والله أعلم. فرع: لو نسي التكبيرات الزوائد في ركعة، فتذكر في الركوع أو بعده، مضى في صلاته ولم يكبر، فإن عاد إلى القيام ليكبر، بطلت صلاته. فلو تذكرها قبل الركوع وبعد القراءة، فقولان. الجديد الاظهر: لا يكبر، لفوات محله. والقديم: يكبر، لبقاء القيام، وعلى القديم: لو تذكر في أثناء الفاتحة، قطعها وكبر، ثم استأنف القراءة. وإذا تدارك التكبير بعد الفاتحة، استحب استئنافها، وفيه وجه ضعيف: أنه يجب، ولو أدرك الامام في أثناء القراءة وقد كبر بعض التكبيرات، فعلى الجديد، لا يكبر ما فاته. وعلى القديم: يكبر، ولو أدركه راكعا، ركع معه، ولا يكبر بالاتفاق، ولو أدركه في الركعة الثانية، كبر معه خمسا على الجديد، فإذا قام إلى ثانيته، كبر أيضا خمسا.
فصل في خطبة العيد : فإذا فرغ الامام من صلاة العيد، صعد المنبر، وأقبل على الناس بوجهه وسلم. وهل يجلس قبل الخطبة ؟ وجهان. الصحيح المنصوص: يجلس كخطبة الجمعة (3). ثم يخطب خطبتين، أركانهما كأركانهما في الجمعة (4)، ويقوم فيهما، ويجلس بينهما، كالجمعة، لكن يجوز هنا القعود فيهما مع القدرة على القيام. ويستحب أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام صدقة الفطر، وفي الاضحى أحكام الاضحية. ويستحب أن يفتح الخطبة الاولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع. ولو أدخل بينهما الحمد والتهليل والثناء، جاز،(1/580)
وذكر بعضهم: أن صفتها، كالتكبيرات المرسلة والمقيدة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. قلت: نص الشافعي وكثيرون من الاصحاب على أن هذه التكبيرات ليست من الخطبة، وإنما هي مقدمة لها، ومن قال منهم: تفتتح الخطبة بالتكبيرات، يحمل كلامه على موافقة النص الذي ذكرته، لان افتتاح الشئ قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه، فاحفظ هذا فانه مهم خفي. والله أعلم. يستحب للناس استماع الخطبة. ومن دخل والامام يخطب، فإن كان في المصلى، جلس واستمع، ولم يصل التحية، ثم إن شاء صلى صلاة العيد في الصحراء، وإن شاء صلاها إذا رجع إلى بيته (1)، وإن كان في المسجد، استحب له التحية، ثم قال أبو إسحاق: لو صلى العيد، كان أولى، وحصلت (2) التحية، كمن دخل المسجد وعليه مكتوبة ففعلها، ويحصل بها التحية، وقال ابن أبي هريرة: يصلي التحية، ويؤخر صلاة العيد إلى ما بعد الخطبة، والاول أصح عند الاكثرين. ولو خطب الامام قبل الصلاة، فقد أساء وفي الاعتداد بخطبته احتمال لامام الحرمين. قلت: الصواب وظاهر نصه في (الام): أنه لا يعتد بها، كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمها. والله أعلم.
فصل: صلاة العيد تجوز في الصحراء، وفي الجامع، وأيهما أفضل ؟ إن كان بمكة، فالمسجد أفضل قطعا. وألحق به الصيدلاني: بيت المقدس (3). وإن كان بغيرهما، فإن كان عذر، كمطر، أو ثلج، فالمسجد أولى، وإلا، فإن ضاق(1/581)
المسجد، فالصحراء أفضل (1)، بل يكره فعلها في المسجد. فإن كان واسعا، فوجهان. أصحهما وبه قطع العراقيون، وصاحب (التهذيب) وغيره: المسجد أولى. والثاني: الصحراء. وإذا خرج الامام إلى الصحراء استخلف من يصلي بضعفة الناس (2). وإذا صلى في المسجد وحضر الحيض، وقفن بباب المسجد، وهذا الفصل تفريع على المذهب في جواز صلاة العيد في غير البلد، وجوازها من غير شروط الجمعة، وفيه الخلاف المتقدم.
فصل في السنن المستحبة ليلة العيد ويومه : فيستحب التكبير المرسل بغروب الشمس في العيدين جميعا، كما سيأتي بيانه في فصل التكبيرات (3)، إن شاء الله تعالى. ويستحب استحبابا متأكدا، إحياء ليلتي العيد بالعبادة (4). قلت: وتحصل فضيلة الاحياء بمعظم الليل، وقيل: تحصل بساعة. وقد نقل الشافعي رحمه الله في (الام) (5) عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده. ونقل القاضي حسين عن ابن عباس: أن إحياء ليلة العيد أن يصلي العشاء في جماعة، ويعزم أن يصلي الصبح في جماعة، والمختار ما قدمته. قال الشافعي رحمه الله: وبلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال. ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان. قال الشافعي: وأستحب كل ما حكيته في هذه(1/582)
الليالي. والله أعلم. فرع: يسن الغسل للعيدين، ويجوز بعد الفجر قطعا، وكذا قبله على الاظهر، وعلى هذا هل يجوز في جميع الليل، أم يختص بالنصف الثاني ؟ وجهان. قلت: الاصح: اختصاصه. والله أعلم. ويستحب التطيب يوم العيد، والتنظف بحلق الشعر، وقلم الظفر، وقطع الرائحة الكريهة، ويستحب أن يلبس أحسن ما يجده من الثياب، وأفضلها البيض، ويتعمم. فإن لم يجد إلا ثوبا، استحب أن يغسله للجمعة والعيد ويستوي في استحباب جميع ما ذكرناه، القاعد في بيته، والخارج إلى الصلاة، هذا حكم الرجال. وأما النساء، فيكره لذوات الجمال والهيئة الحضور، ويستحب للعجائز، ويتنظفن بالماء، ولا يتطيبن، ولا يلبسن ما يشهرهن من الثياب، بل يخرجن في بذلتهن. وفي وجه شاذ: لا يخرجن مطلقا. فرع: السنة لقاصد العيد المشي. فإن ضعف لكبر، أو مرض، فله الركوب، وللقادر الركوب في الرجوع (1) ويستحب للقوم أن يبكروا إلى صلاة العيد (2) إذا صلوا الصبح، ليأخذوا مجالسهم وينتظروا الصلاة. والسنة للامام أن لا يخرج إلا في الوقت الذي يصلي فيه، فإذا وصل (3) المصلى شرع في صلاة العيد، ويستحب للامام أن يؤخر الخروج في عيد الفطر قليلا، ويعجل في الاضحى. ويكره للامام التنفل (4) قبل صلاة العيد وبعدها، ولا يكره للمأموم قبلها ولا يكره (5) بعدها، ويستحب في عيد الفطر أن يأكل شيئا، قبل خروجه إلى الصلاة، ولا يأكل في الاضحى حتى يصلي ويرجع.(1/583)
قلت: ويستحب أن يكون المأكول تمرا (1) إن أمكن، ويكون وترا. والله أعلم. وينادى لها: الصلاة جامعة، قال صاحب (العدة) ولو نودي لها: حي على الصلاة، جاز، بل هو مستحب. قلت: ليس كما قال، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ينادي: الصلاة جامعة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة، فلا بأس، قال: وأحب أن يتوقى ألفاظ الاذان. وقال الدارمي: لو قال حي على الصلاة، كره، لانه من الاذان. والله أعلم. فرع: صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذهب إلى العيد في طريق، ويرجع في آخر (2)، واختلف في سببه، فقيل: لتبرك أهل الطريقين، وقيل: ليستفتى منهما، وقيل: ليتصدق على فقرائهما، وقيل: ليزور قبور أقاربه فيهما، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل: ليزداد غيظ المنافقين، وقيل: لئلا تكثر الزحمة، وقيل: يقصد أطول الطريقين في الذهاب، وأقصرهما في الرجوع، وهذا أظهرها، ثم من شارك في المعنى استحب ذلك له، وكذا من لم يشارك على الصحيح الذي اختاره الاكثرون، وسواء فيه الامام والمأموم. قلت: وإذا لم يعلم السبب، استحب التأسي (3) قطعا. والله أعلم.(1/584)
فصل: قد قدمنا في قضاء صلاة العيد وغيرها من النوافل الراتبة إذا فاتت، قولين. وتقدم الخلاف في اشتراط شرائط الجمعة فيها. فلو شهد عدلان يوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال برؤية الهلال في الليلة الماضية، أفطروا. فإن بقي من الوقت ما يمكن جمع الناس والصلاة فيه، صلوها وكانت أداء (1). وإن شهدوا بعد غروب الشمس يوم الثلاثين، لم تقبل شهادتهم، إذ لا فائدة فيها إلا المنع من صلاة العيد، فلا يصغى إليها، ويصلون من الغد العيد أداء، هكذا قال الائمة واتفقوا عليه. وفي قولهم: لا فائدة إلا ترك صلاة العيد إشكال، بل لثبوت الهلال فوائد أخر. كوقوع الطلاق والعتق المعلقين، وابتداء العدة منه، وغير ذلك، فوجب أن نقبل، لهذه الفوائد. ولعل مرادهم بعدم الاصغاء في صلاة العيد وجعلها فائتة، لا عدم القبول على الاطلاق (2). قلت: مرادهم فيما يرجع إلى الصلاة خاصة قطعا، فأما الحقوق والاحكام المتعلقة بالهلال، كأجل الدين، والعتق، والمولى، والعدة، وغيرها، فثبت قطعا. والله أعلم. فلو شهدوا قبل الغروب بعد الزوال، أو قبله بيسير، بحيث لا يمكن فيه الصلاة، قبلت الشهادة في الفطر قطعا، وصارت الصلاة فائتة على المذهب، وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يفعل من الغد أداء لعظم حرمتها. فإن قلنا بالمذهب، فقضاؤها مبني على قضاء النوافل. فإن قلنا: لا تقضى، لم يقض العيد. وإن قلنا: تقضى، بنى على أنها كالجمعة في الشرائط، أم لا. فإن قلنا: نعم، لم تقض، وإلا قضيت، وهو المذهب من حيث الجملة. وهل لهم أن(1/585)
يصلوها في بقية يومهم ؟ وجهان، بناء على أن فعلها في الحادي والثلاثين إداء أم قضاء. إن قلنا: أداء، فلا. وإن قلنا: قضاء وهو الصحيح، جاز. ثم هل هو أفضل، أم التأخير إلى ضحوة الغد. وجهان. أصحهما: التقديم أفضل، هذا إذا أمكن جمع الناس في يومهم لصغر البلدة. فإن عسر، فالتأخير أفضل قطعا (1). وإذا قلنا: يصلونها في الحادي والثلاثين قضاء، فهل يجوز تأخيرها ؟ عنه قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: جوازه أبدا. وقيل: إنما يجوز في بقية شهر العيد. ولو شهد اثنان قبل الغروب، وعدلا بعده، فقولان. وقيل: وجهان. أحدهما: الاعتبار بوقت الشهادة، وأظهرهما: بوقت التعديل، فيصلون من الغد بلا خلاف أداء. هذا كله إذا وقع الاشتباه وفوات العيد لجميع الناس. فإن وقع ذلك لافراد، لم يجز إلا قولان، منع القضاء وجوازه أبدا. فرع: إذا وافق يوم العيد يوم جمعة، وحضر أهل القرى الذين يبلغهم النداء لصلاة العيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا لفاتتهم الجمعة، فلهم أن ينصرفوا، ويتركوا الجمعة في هذا اليوم على الصحيح المنصوص في القديم والجديد (2). وعلى الشاذ: عليهم الصبر للجمعة.(1/586)
فصل في تكبير العيد : وهو قسمان. أحدهما: في الصلاة والخطبة وقد مضى. والثاني: في غيرهما، وهو ضربان. مرسل، ومقيد. فالمرسل لا يقيد بحال، بل يؤتى به في المساجد والمنازل والطرق ليلا ونهارا. والمقيد يؤتى به في أدبار الصلاة خاصة. فالمرسل مشروع في العيدين جميعا، وأول وقته في العيدين بغروب الشمس ليلة العيد، وفي آخر وقته طريقان. أصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: يكبرون إلى أن يحرم الامام بصلاة العيد. والثاني: إلى أن يخرج الامام إلى الصلاة. والثالث: إلى أن يفرغ منها. وقيل: إلى أن يفرغ من الخطبتين. والطريق الثاني: القطع بالقول الاول. ويرفع الناس أصواتهم بالمرسل في ليلتي العيدين ويوميهما إلى الغاية المذكورة في المنازل، والمساجد، والاسواق (1)، والطرق، في السفر والحضر، في طريق المصلى، وبالمصلى. ويستثنى منه الحاج، فلا يكبر ليلة الاضحى، بل ذكره (2) التلبية. وتكبير ليلة الفطر آكد من ليلة الاضحى على الجديد، وفي القديم عكسه، وأما المقيد، فيشرع في الاضحى، ولا يشرع في الفطر على الاصح عند الاكثرين (3). وقيل: على الجديد، وعلى الثاني: يستحب عقب المغرب والعشاء والصبح (4). وحكم الفوائت والنوافل في هذه المدة على هذا الوجه يقاس بما نذكره إن شاء الله تعالى في الاضحى. وأما الاضحى، فالناس فيه قسمان. حجاج، وغيرهم. فالحجاج يبتدؤون التكبير عقب ظهر يوم النحر، ويختمونه عقب الصبح آخر أيام التشريق (5). وأما غير الحجاج، ففيهم طريقان. أصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: أنهم كالحجاج. والثاني: يبتدؤون عقب المغرب ليلة النحر إلى صبح الثالث من(1/587)
أيام التشريق. والثالث: عقب صبح (1) من يوم عرفة ويختمونه عقب العصر آخر أيام التشريق. قال الصيدلاني وغيره (2): وعليه العمل في الامصار. قلت: وهو الاظهر عند المحققين، للحديث (3). والله أعلم. والطريق الثاني: القطع بالقول الاول. ولو فاتته فريضة في هذه الايام، فقضاها [ في غيرها، لم يكبر. ولو فاتته في غير هذه الايام أو فيها فقضاها فيها ] (4)، كبر على الاظهر. ويكبر عقب النوافل الراتبة، ومنها صلاة العيد، وعقب النافلة المطلقة، وعقب الجنازة على المذهب في الجميع. وإذا اختصرت فقيل: أربعة أوجه. أصحها: يكبر عقب كل صلاة مفعولة في هذه الايام. والثاني: يختص بالفرائض المفعولة فيها، مؤداة كانت أو مقضية. والثالث: يختص بفرائضها مقضية كانت أو مؤداة. والرابع: لا يكبر إلا عقب مؤداتها والسنن الراتبة. ولو نسي التكبير خلف الصلاة فتذكر والفصل قريب، كبر وإن فارق مصلاه. فلو طال الفصل، كبر أيضا على الاصح. والمسبوق إنما يكبر إذا أتم صلاة نفسه. قال إمام الحرمين: وجميع ما ذكرناه هو في التكبير الذي يرفع به صوته ويجعله شعارا. أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه، فلا منع منه. فرع: صفة هذا التكبير أن يكبر ثلاثا نسقا على المذهب. وحكي قول قديم أنه يكبر مرتين. قال الشافعي رحمه الله: وما زاد من ذكر الله، فحسن. واستحسن في (الام) أن تكون زيادته: (ألله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب (5) وحده، لا إله إلا الله(1/588)
والله أكبر). وقال في القديم: بعد الثلاث: (ألله أكبر كبيرا (1)، والحمد لله كثيرا (2)، ألله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا). قال صاحب (الشامل) والذي يقوله الناس لا بأس به أيضا، وهو: (ألله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله وألله أكبر ألله أكبر ولله الحمد). قلت: هو (3) الذي ذكره صاحب (الشامل) نقله صاحب (البحر) عن نص الشافعي رحمه الله في (البويطي) وقال: والعمل عليه. والله أعلم. فرع: يستوي في التكبير المرسل والمقيد، المنفرد والمصلي جماعة، والرجل والمرأة، والمقيم والمسافر. قلت: لو كبر الامام على خلاف اعتقاد المأموم، فكبر من يوم عرفة والمأموم لا يرى التكبير فيه، أو عكسه، فهل يوافق في التكبير وتركه، أم يتبع اعتقاد نفسه ؟ وجهان. الاصح: اعتقاد نفسه، بخلاف ما قدمناه في تكبير نفس الصلاة (4). والله أعلم.(1/589)
كتاب صلاة الكسوف (1)
يطلق الكسوف والخسوف على الشمس والقمر جميعا (2). وصلاة كسوف الشمس والقمر سنة مؤكدة، وتسن في أوقات الكراهة وغيرها. وأقلها أن يحرم بنية صلاة الكسوف، ويقرأ الفاتحة، ويركع ثم يرفع، فيقرأ الفاتحة ثم يركع ثانيا، ثم يرفع ويطمئن، ثم يسجد، فهذه ركعة، ثم يصلي ركعة ثانية كذلك (3)، فهي ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، ويقرأ الفاتحة في كل(1/591)
قيام (1). فلو تمادى الكسوف، فهل يزيد ركوعا ثالثا ؟ وجهان. أحدهما: يزيد ثالثا ورابعا وخامسا، حتى ينجلي الكسوف، قاله ابن خزيمة، والخطابي، وأبو بكر الضبعي من أصحابنا، للاحاديث الواردة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين، في كل ركعة أربع ركوعات، وروي خمس ركوعات، ولا محمل له إلا التمادي، وأصحهما: لا تجوز الزيادة، كسائر الصلوات. روايات الركوعين أشهر وأصح، فيؤخذ بها، كذا قاله الائمة، ولو كان في القيام الاول، فانجلى الكسوف، لم تبطل صلاته. وهل له أن يقتصر على قومة واحدة، وركوع واحد في كل ركعة ؟ وجهان بناء على الزيادة عند التمادي، إن جوزنا الزيادة، جاز النقصان بحسب مدة الكسوف، وإلا فلا. ولو سلم من الصلاة والكسوف باق، فهل له أن يستفتح صلاة الكسوف مرة أخرى ؟ وجهان خرجوهما على جواز زيادة عدد الركوع، والمذهب المتبع. وأكملها أن يقرأ في القيام الاول بعد الفاتحة وسوابقها سورة (البقرة) أو مقدارها إن لم يحسنها، وفي الثاني: (آل عمران) أو مقدارها. وفي الثالث: (النساء) أو قدرها. وفي الرابع: (المائدة) أو قدرها. وكل ذلك بعد الفاتحة. هذه رواية البويطي، ونقل المزني في (المختصر): أنه يقرأ في الاول (البقرة) أو قدرها إن لم يحفظها. وفي الثاني قدر مائتي آية من سورة (البقرة). وفي الثالث: قدر مائة (2) آية وخمسين آية منها، وفي الرابع: قدر مائة آية منها، وهذه الرواية هي التي قطع بها الاكثرون، وليستا على الاختلاف المحقق،(1/592)
بل الامر فيه على التقريب، وهما متقاربتان. قلت: وفي استحباب التعوذ في ابتداء القراءة في القومة الثانية، وجهان حكاهما في (الحاوي)، وهما الوجهان في الركعة الثانية. والله أعلم. وأما قدر مكثه في الركوع، فينبغي أن يسبح في الركوع الاول قدر مائة آية من (البقرة) وفي الثاني: قدر ثمانين منها، وفي الثالث: قدر سبعين. وفي الرابع: قدر خمسين (1)، والامر فيه على التقريب. ويقول في الاعتدال من (2) كل ركوع: (سمع الله لمن حمده) و (ربنا لك الحمد) (3) وهل يطول السجود في هذه(1/593)
الصلاة ؟ قولان. أظهرهما: لا يطوله كما لا يطول التشهد، ولا الجلوس بين السجدتين. والثاني: يطول. نقله البويطي، والترمذي، والمزني، عن الشافعي (1). قلت: الصحيح المختار (2)، أنه يطول السجود (3) وقد ثبت في إطالته أحاديث كثيرة في (الصحيحين) عن جماعة من الصحابة. ولو قيل: إنه يتعين الجزم به، لكان قولا صحيحا، لان الشافعي رضي الله عنه قال: ما صح فيه الحديث، فهو قولي ومذهبي. فإذا قلنا بإطالته، فالمختار فيها ما قاله صاحب (التهذيب) (4) أن السجود الاول كالركوع الاول، والسجود الثاني، كالركوع الثاني. وقال الشافعي رحمه الله في البويطي: إنه نحو الركوع الذي قبله. وأما الجلسة بين السجدتين، فقد قطع (5) الرافعي بأنه لا يطولها. ونقل الغزالي الاتفاق على أنه لا يطولها. وقد صح في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم فعل في الركعة الاخرى مثل ذلك (6). وأما الاعتدال بعد الركوع الثاني،(1/594)
فلا يطول بلا خلاف، وكذا التشهد. والله أعلم.
فصل : يستحب الجماعة في صلاة الكسوفين. ولنا وجه: أن الجماعة فيها شرط، ووجه: أنها لا تقام إلا في جماعة واحدة كالجمعة، وهما شاذان (1). ويستحب أن ينادي لها: الصلاة جامعة. وأن يصلي في الجامع، وأن يخطب بعد الصلاة خطبتين كخطبتي الجمعة (2) في الاركان والشرائط (3)، سواء صلوها جماعة في مصر، أو صلاها المسافرون في الصحراء. ويحث الامام الناس في هذه الخطبة على التوبة من المعاصي وعلى فعل الخير. قلت: ويحرضهم على الاعتاق والصدقة، ويحذرهم الغفلة والاغترار. ففي (صحيح البخاري) (4) عن أسماء رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعتاقة في كسوف الشمس. والله أعلم. ومن صلى منفردا، لم يخطب. ويستحب الجهر بالقراءة في كسوف القمر، والاسرار في الشمس، هذا هو المعروف. وقال الخطابي: الذي يجئ على مذهب الشافعي رحمه الله: أنه يجهر في الشمس. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع الاول من الركعة الاولى، فقد أدرك الصلاة، وإن أدركه في الركوع الاول من الركعة الثانية، فقد أدرك الركعة، فإذا سلم الامام، قام فصلى ركعة بركوعين. ولو أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين، فالمذهب الذي نص عليه في البويطي، واتفق الاصحاب على تصحيحه، أنه لا يكون مدركا لشئ من الركعة. وحكى صاحب (التقريب) قولا آخر أنه بإدراك الركوع الثاني يكون مدركا للقومة التي قبله، فعلى هذا لو أدرك الركوع الثاني من الاول، وسلم الامام، قام وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد(1/595)
وسلم، ولا يسجد، لان إدراك الركوع إذا حصل القيام الذي قبله، كان السجود بعده محسوبا لا محالة. وعلى المذهب: لو أدركه في القيام الثاني لا يكون مدركا لشئ من الركعة أيضا.
فصل : تفوت صلاة كسوف الشمس بأمرين. أحدهما: انجلاء جميعها، فإن انجلى البعض فله الشروع في الصلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر. ولو حال سحاب وشك في الانجلاء، صلى. ولو كانت الشمس تحت غمام، فظن الكسوف، لم يصل حتى يستيقن. قلت: قال الدارمي وغيره: ولا يعمل في كسوفها بقول المنجمين. والله أعلم. الثاني: أن تغرب كاسفة، فلا يصلي. وتفوت صلاة خسوف القمر بأمرين. أحدهما: الانجلاء كما سبق. والثاني: طلوع الشمس. فإذا طلعت وهو بعد خاسف، لم يصل. ولو غاب في الليل خاسفا، صلى كما لو استتر بغمام. ولو طلع الفجر وهو خاسف، أو خسف بعد الفجر، صلى على الجديد. وعلى هذا لو شرع في الصلاة بعد الفجر، فطلعت الشمس في أثنائها، لم تبطل صلاته، كما لو انجلى الكسوف في الاثناء (1). وقال القاضي ابن كج: هذان القولان فيما إذا غاب خاسفا بين الفجر وطلوع الشمس، فأما إذا لم يغب وبقي خاسفا، فيجوز الشروع في الصلاة بلا خلاف. قلت: صرح الدارمي وغيره بجريان القولين في الحالين. قال صاحب (البحر): ولو ابتدأ الخسوف بعد طلوع الشمس، لم يصل قطعا. والله أعلم. فصل: إذا اجتمعت صلاتان في وقت، قدم ما يخاف فوته (2)، ثم الاوكد.(1/596)
فلو اجتمع عيد وكسوف، أو جمعة وكسوف، وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق وقتها، قدمت، وإن لم يخف، فالاظهر: يقدم الكسوف. والثاني: العيد والجمعة، لتأكدهما، وباقي الفرائض كالجمعة. ولو اجتمع كسوف ووتر أو تراويح، قدم الكسوف (1) مطلقا، لانها أفضل. ولو اجتمع جنازة وكسوف أو عيد، قدم الجنازة (2)، ويشتغل الامام بعدها بغيرها، ولا يشيعها، فلو لم تحضر الجنازة، أو حضرت ولم يحضر الولي، أفرد الامام جماعة ينتظرون الجنازة واشتغل هو بغيرها. ولو حضرت جنازة وجمعة ولم يضق الوقت، قدمت الجنازة. وإن ضاق الوقت، قدمت الجمعة على المذهب. وقال الشيخ أبو محمد: تقدم الجنازة، لان الجمعة لها بدل. فرع: إذا اجتمع العيد والكسوف، خطب لهما بعد الصلاتين خطبتين يذكر فيهما العيد والكسوف (3). ولو اجتمع جمعة وكسوف، واقتضى الحال تقديم الجمعة، خطب لها، ثم صلى الجمعة، ثم الكسوف، ثم خطب لها. وإن اقتضى تقديم الكسوف، بدأ بها، ثم خطب للجمعة خطبتين يذكر فيهما شأن الكسوف، ولا تحتاج إلى أربع خطب، ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة. ولا يجوز أن يقصد الجمعة والكسوف، لانه تشريك بين فرض ونفل، بخلاف العيد والكسوف، فإنه يقصدهما جميعا بالخطبتين، لانهما سنتان (4).(1/597)
فرع: اعترضت طائفة على قول الشافعي: اجتمع عيد وكسوف، وقالت: هذا محال، فإن الكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين، أو التاسع والعشرين فأجاب الاصحاب بأجوبة. أحدها: أن هذا قول المنجمين، وأما نحن، فنجوز الكسوف في غيرهما، فإن الله تعالى على كل شئ قدير. وقد نقل مثل ذلك، فقد صح أن الشمس كسفت يوم مات إبرهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى الزبير بن بكار (2) في (الانساب): أنه توفي في العاشر من شهر ربيع الاول. وروى البيهقي مثله عن الواقدي (3). وكذا اشتهر أن قتل الحسين رضي الله عنه كان يوم عاشوراء. وروى البيهقي عن أبي قبيل (4) أنه لما قتل الحسين، كسفت الشمس. الثاني: أن وقوع العيد في الثامن والعشرين يتصور بأن يشهد شاهدان على(1/598)
نقصان رجب، وآخران على نقصان شعبان ورمضان، وكانت في الحقيقة كاملة، فيقع العيد في الثامن والعشرين. الثالث: لو لم يقع ذلك، لكان تصوير الفقيه له حسنا، ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة (1). فصل ما سوى الكسوفين من الآيات، كالزلازل والصواعق والرياح الشديدة، لا يصلى لها جماعة، لكن يستحب الدعاء والتضرع. ويستحب لكل أحد أن يصلي منفردا لئلا يكون غافلا. وروى الشافعي: أن عليا كرم الله وجهه، صلى في زلزلة جماعة، قال الشافعي: إن صح قلت به، فمن الاصحاب من قال: هذا قول آخر له، في الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات. قلت: لم يصح ذلك عن علي رضي الله عنه، قال الشافعي والاصحاب: يستحب للنساء غير ذوات الهيئات صلاة الكسوف مع الامام، وأما ذوات الهيئات، فيصلين في البيوت منفردات. قال الشافعي: فإن اجتمعن، فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن، فإن قامت واحدة وعظتهن وذكرتهن، فلا بأس. والله أعلم.(1/599)
كتاب صلاة الاستسقاء (1)
المراد بالاستسقاء: سؤال الله تعالى أن يسقي عباده عند حاجتهم، وله أنواع. أدناها: الدعاء بلا صلاة ولا خلف صلاة، فرادى أو مجتمعين لذلك، وأوسطها: الدعاء خلف الصلوات، وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك. وأفضلها: الاستسقاء بركعتين وخطبتين. ويستوي في استحباب الاستسقاء أهل القرى والامصار والبوادي والمسافرون، ويسن لهم جميعا الصلاة والخطبة. ولو انقطعت المياه ولم يمس إليها حاجة في ذلك الوقت، لم يستسقوا، ولو انقطعت عن طائفة من المسلمين واحتاجت، استحب لغيرهم أن يصلوا ويستسقوا لهم، ويسألوا الزيادة لانفسهم (2).(1/601)
فرع: إذا استسقوا فسقوا، فذاك، وإن (1) تأخرت الاجابة، استسقوا وصلوا ثانيا وثالثا حتى يسقيهم الله تعالى (2). وهل يعودون من الغد، أم يصومون ثلاثة أيام قبل الخروج كما يفعلون في الخروج الاول ؟ قال في (المختصر): من الغد. وفي القديم: يصومون، فقيل: قولان. أظهرهما: الاول. وقيل: على حالين. فإن لم يشق على الناس، ولم ينقطعوا عن مصالحهم عادوا غدا وبعد بغد، وإن اقتضى الحال التأخير أياما، صاموا. قلت: ونقل القاضي أبو الطيب عن عامة الاصحاب: أن المسألة على قول واحد، نقل المزني الجواز، والقديم الاستحباب (3). والله أعلم. ثم جماهير الاصحاب قطعوا باستحباب تكرير الاستسقاء كما ذكرنا، لكن الاستحباب في المرة الاولى آكد. وحكي وجه: أنهم لا يفعلون ذلك إلا مرة. فرع: لو تأهبوا للخروج للصلاة، فسقوا قبل موعد الخروج، خرجوا للوعظ والدعاء والشكر. وهل يصلون شكرا ؟ فيه طريقان. قطع الاكثرون بالصلاة، وهو المنصوص في (الام) (4). وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين. أصحهما:(1/602)
هذا. والثاني: لا يصلون. وأجري الوجهان فيما إذا لم تنقطع المياه وأرادوا أن يصلوا للاستزادة. فصل : في آداب هذه الصلاة : منها: أن يأمر الامام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل يوم الخروج (1) وبالخروج عن المظالم في الدم والعرض والمال، وبالتقرب إلى الله تعالى بما يستطيعون من الخير، ثم يخرجون في اليوم الرابع صياما (2)، في ثياب بذلة، وتخشع بلا زينة ولا طيب، لكن يتنظفون بالماء والسواك وقطع الرائحة الكريهة. ويستحب إخراج الصبيان والمشايخ، ومن لا هيئة لها من النساء، ويستحب إخراج البهائم على الاصح (3). وعلى الثاني: لا يستحب، فلو أخرجت، فلا بأس. وأما خروج أهل الذمة، فنص الشافعي رحمه الله على كراهيته، والمنع منه إن حضروا مستسقى للمسلمين، وإن تميزوا ولم يختلطوا بالمسلمين، لم يمنعوا (4). وحكى الروياني وجها: أنهم يمنعون وإن تميزوا، إلا أن يخرجوا في غير يوم المسلمين. ومن الآداب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما فعل من(1/603)
خير، فيجعله شافعا. ومنها: أن يستسقى بالاكابر وأهل الصلاح، لا سيما أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فصل : السنة أن يصليها في الصحراء، (1) وينادي لها: الصلاة جامعة، ويصلي ركعتين، يكبر في الاولى سبع تكبيرات زائدة، وفي الثانية خمسا، ويجهر فيهما بالقراءة، ويقرأ في الاولى بعد (الفاتحة): (ق). وفي الثانية: (اقتربت). وقال بعض الاصحاب: يقرأ في إحداهما: (إنا أرسلنا نوحا) وليكن في الثانية وفي الاولى (ق). ونص الشافعي رحمه الله: أنه يقرأ فيهما ما يقرأ في العيد، وإن قرأ (إنا أرسلنا) كان حسنا. وهذا يقتضي أن لا خلاف في المسألة، وأن كلا سائغ، ومنهم من قال: في الاحب خلاف. والاصح: أنه يقرأ ما يقرأ في العيد. وأما وقت هذه الصلاة، فقطع الشيخ أبو علي وصاحب (التهذيب) بأنه وقت صلاة العيد، واستغرب إمام الحرمين هذا، وذكر الروياني وآخرون: أن وقتها يبقى بعد الزوال ما لم يصل العصر، وصرح صاحب (التتمة) بأن صلاة الاستسقاء لا تختص بوقت، بل أي وقت صلوها من ليل أو نهار، جاز، وقد قدمنا عن الائمة وجهين في كراهة صلاة الاستسقاء في الاوقات المكروهة، ومعلوم أن الاوقات المكروهة غير داخلة في حكم (2) وقت صلاة العيدين (3)، ولا مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه، فيلزم أن لا يكون وقت الاستسقاء منحصرا (4) في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في الكراهة على قضائها، فانها لا تقضى. قلت: ليس بلازم ما قاله، فقد تقدم أن الاصح: دخول وقت العيد بطلوع الشمس، وهو وقت كراهة، وممن قال بانحصار وقت الاستسقاء في وقت العيد، الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن الصحيح الذي نص عليه الشافعي، وقطع به(1/604)
الاكثرون، وصححه الرافعي في (المحرر) والمحققون: أنها لا تختص بوقت، كما لا تختص بيوم. وممن قطع به صاحبا (الحاوي) و (الشامل) ونقله صاحب (الشامل) وصاحب (جمع الجوامع) عن نص الشافعي رضي الله عنه. وقال إمام الحرمين: لم أر التخصيص لغير الشيخ أبي علي. والله أعلم.
فصل : يستحب أن يخطب خطبتين بعد الصلاة (1)، وأركانهما وشرائطهما كما تقدم في العيد (2). لكن تخالفها في أمور. منها: أنه يبدل التكبيرات المشروعة في أولهما بالاستغفار (3) فيقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه). ويختم كلامه بالاستغفار، ويكثر منه في الخطبة، ومن قوله: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا...) الآية. نوح: 10. ولنا وجه حكاه في (البيان) عن المحاملي: أنه يكبر هنا في ابتداء الخطبة كالعيد، والمعروف الاول. ومنها: أن يستقبل القبلة في الخطبة الثانية، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه يستحب أن يدعو في الاولى: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا سحا طبقا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللاواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الارض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا) ويكون في(1/605)
الخطبة الاولى وصدر الثانية، مستقبل الناس، مستدبر القبلة، ثم يستقبل القبلة، ويبالغ في الدعاء سرا وجهرا، وإذا أسر دعا الناس سرا، ويرفعون أيديهم في الدعاء. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وأشار بظهر كفيه إلى السماء. قال العلماء: السنة لكل من دعا لرفع بلاء، أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا سأل شيئا جعل بطن (1) كفيه إلى السماء. قلت: الحديث المذكور (2)، في (صحيح مسلم) (3). والله أعلم. قال الشافعي رحمه الله: وليكن من دعائهم في هذه الحالة (اللهم أنت أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فأجبنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا وسعة رزقنا). فإذا فرغ من الدعاء أقبل بوجهه على الناس وحثهم على طاعة الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا للمؤمنين والمؤمنات، وقرأ آية أو آيتين، ويقول: (أستغفر الله لي ولكم). هذا لفظ الشافعي رضي الله عنه. ويستحب عند تحوله إلى القبلة، أن يحول رداءه. وهل ينكسه مع التحويل ؟ قولان. الجديد: نعم. والقديم: لا. فالتحويل: أن يجعل ما على عاتقه الايمن على عاتقه الايسر، وبالعكس. والتنكيس: أن يجعل أعلاه أسفله، ومتى جعل الطرف الاسفل الذي على شقه الايسر على عاتقه الايمن، والطرف الاسفل الذي على شقه الايمن على عاتقه الايسر، حصل التحويل والتنكيس جميعا، هذا في الرداء المربع، فأما المقور والمثلث، فليس فيه إلا التحويل. ويفعل الناس بأرديتهم كفعل الامام تفاؤلا بتغير الحال إلى الخصب، ويتركونها محولة إلى أن ينزعوا الثياب. قلت: قال الشافعي، والاصحاب رحمهم الله تعالى: إذا ترك الامام الاستسقاء، لم يتركوه (4) الناس (5). ولو خطب قبل الصلاة، قال صاحب(1/606)
(التتمة): يجوز وتصح الخطبة والصلاة (1)، ويحتج لها بما ثبت في الحديث الصحيح الصريح في (سنن أبي داود) (2) وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم صلى. وفي صحيحي (البخاري) (3) و (مسلم) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يستسقي فدعا، واستقبل القبلة وحول رداءه، ثم صلى ركعتين. قال أصحابنا: وإذا كثرت الامطار وتضررت بها المساكن والزروع، فالسنة أن يسألوا الله تعالى دفعه (اللهم حوالينا ولا علينا). قال الشافعي والاصحاب: ولا يشرع لذلك صلاة، ويستحب أن يبرز لاول مطر يقع في السنة، ويكشف من (4) بدنه ما عدا عورته ليصيبه المطر، وأن يغتسل في الوادي إذا سال، أو يتوضأ (5)، ويسبح عند الرعد والبرق، ولا يتبع بصره البرق. والسنة أن يقول عند نزول المطر: (اللهم صيبا نافعا) رواه البخاري (6) في (صحيحه). وفي رواية ابن ماجه (7): (سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثا، فيستحب الجمع بينهما. وقد أوضحت ذلك مع زوائد ونفائس تتعلق به في كتاب (الاذكار) الذي لا يستغني متدين عن معرفة مثله. ويكره سب الريح، فإن كرهها، سأل الله تعالى الخير، واستعاذ من الشر. وفي (صحيح مسلم) (8) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ كان ] إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) ويستحب أن يقول بعد(1/607)
المطر: (مطرنا بفضل الله ورحمته). ويستحب الدعاء عند نزول المطر، ويشكر الله تعالى عليه. ويكره أن يقول: مطرنا بنوء (1) كذا، فإن اعتقد أن النوء هو الممطر الفاعل حقيقة، كفر فصار مرتدا. والله أعلم.(1/608)
كتاب الجنائز (1)
يستحب لكل واحد ذكر الموت. قلت: ويستحب الاكثار منه. والله أعلم. ويستعد له بالتوبة، ورد المظالم إلى أهلها، والمريض آكد. ويستحب له الصبر على المرض، وترك الانين ما أطاق، ويستحب التداوي، ويستحب لغيره عيادته إن كان مسلما، فإن كان ذميا له قرابة أو جوار أو نحوهما، استحبت، وإلا جازت، فإن رأى العائد علامة البرء، دعا (2) وانصرف، وإن رأى خلاف ذلك، رغبه في التوبة والوصية. قلت: ويستحب للعائد أن يطيب نفس المريض ولا يطول القعود، ولا يواصل العيادة، بل تكون غبا (3)، ولا تكره العيادة في وقت إلا أن يشق على المريض. والله أعلم.(1/609)
فصل في آداب المحتضر: يستقبل به القبلة. وفي كيفيته وجهان. أحدهما: يلقاه (1) على قفاه وأخمصاه إلى القبلة. والثاني وهو الصحيح المنصوص وبه قطع العراقيون (2) وصححه الاكثرون (3): يضجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة كالموضوع في اللحد، فإن لم يمكن لضيق الموضع، أو سبب آخر، فعلى قفاه (4)، ووجهه وأخمصاه إلى القبلة. ويستحب أن يلقن كلمة الشهادة (5)، ولا يلح الملقن ولا يواجهه بقول: قل: (لا إله إلا الله) بل يذكرها بين يديه ليذكر. أو يقول: ذكر الله تعالى مبارك، فنذكر الله تعالى جميعا [ ويقول: ] (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فإذا (6) قالها مرة لا تعاد عليه ما لم يتكلم بعدها (7)، ويستحب أن يلقنه غير الورثة، فإن لم يحضر غيرهم، لقنه أشفقهم عليه. قلت: هكذا قال الجمهور، يلقنه كلمة الشهادة (لا إله إلا الله). وذهب جماعات من أصحابنا إلى أنه يلقن أيضا: محمدا رسول الله. ممن صرح به، القاضي أبو الطيب، والماوردي، وسليم الرازي (8)، ونصر المقدسي، وأبو العباس(1/610)
الجرجاني، والشاشي في (المعتمد) والاول أصح. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ عنده (1) (يس). واستحب جعض التابعين سورة (الرعد) أيضا. وينبغي له أن يحسن ظنه بالله تعالى، ويستحب لمن عنده، تحسين ظنه وتطميعه في رحمة الله تعالى. فإذا مات غمضت عيناه، وشد لحياه بعصابة عريضة، ويربطها فوق رأسه، ويلين مفاصله، فيمد ساعده إلى عضده ويرده، ويرد ساقه إلى فخذه، وفخذه إلى بطنه، ويردهما ويلين أصابعه، وينزع ثيابه التي مات فيها، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف، ولا يجمع عليه أطباق الثياب، ويجعل أطراف الثوب الساتر تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف، ويوضع على بطنه شئ ثقيل، كسيف، أو مرآة، أو نحوهما. فإن لم يكن، فطين رطب، ويصان المصحف عنه، ويستقبل به القبلة كالمحتضر، ويوضع على شئ مرتفع، كسرير ونحوه، ويتولى هذه الامور أرفق محارمه بأسهل ما يقدر عليه. قلت: يتولاه الرجال من الرجال، والنساء من النساء، فإن تولاه الرجال من النساء (2) المحارم، أو النساء من الرجال (3) المحارم، جاز. والله أعلم. ويبادر إلى قضاء دينه وتنفيذ وصيته إن تيسر في الحال. قلت: يكره تمني الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) (4). فإن(1/611)
كان تمنيه مخافة فتنة في دينه فلا بأس. ويكره للمريض كثرة الشكوى، وتكره الكراهة (1) على تناول الدواء. ويستحب للناس أن يقولوا عند الميت خيرا. ويجوز لاهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ثبتت فيه الاحاديث (2)، وصرح به الدارمي. ويكره نعيه بنعي الجاهلية، ولا بأس بالاعلام بموته للصلاة عليه وغيرها. والله أعلم.
باب غسل الميت
يستحب المبادرة إلى غسله وتجهيزه إذا تحقق موته، بأن يموت بعلة، أو تظهر أمارات الموت، بأن يسترخي قدماه، فلا (3) ينتصبا، أو يميل أنفه، أو ينخسف صدغاه، أو تمتد جلدة وجهه، أو ينخلع كفاه من ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وإن (4) شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو أظهرت أمارات فزع أو غيره، أخر إلى التيقين (5) بتغيير الرائحة أو غيره (6). فصل: غسل الميت فرض كفاية (7)، وكذا التكفين والصلاة عليه والدفن(1/612)
بالاجماع. وأقل الغسل: استيعاب البدن مرة بعد إزالة النجاسة إن كانت (1). وفي اشتراط نية الغسل على الغاسل وجهان. أصحهما فيما ذكره الروياني وغيره: لا يشترط. قلت: صححه الاكثرون، وهو ظاهر نص الشافعي. والله أعلم. ولو غسل الكافر مسلما، فالصحيح المنصوص: أنه يكفي. ولو غرق إنسان، ثم ظفرنا به، لميكف ما سبق، بل يجب غسله على الصحيح المنصوص (2). أما أكمل الغسل، فيستحب أن يحمل (3) الميت إلى موضع خال مستور لا يدخله إلا الغاسل، ومن لا بد من معونته عند الغسل. وذكر الروياني وغيره: أن للولي أن يدخل إن شاء، وإن لم يغسل ولم يعن، ويوضع على لوح أو سرير هيئ له، ويكون موضع رأسه أعلى لينحدر الماء، ويغسل في قميص يلبسه عند إرادته (4) غسله. ولنا وجه: أن الاولى أن يجرد. والصحيح المعروف: هو الاول. وليكن القميص باليا أو سخيفا. ثم إن كان القميص واسعا، أدخل يده في كمه، وغسل (5) من تحته، وإن كان ضيقا، فتق رأس الدخاريض (6) وأدخل يده فيه (7). ولو لم يوجد(1/613)
قميص، أو لم يتأت غسله فيه، ستر منه ما بين السرة والركبة، وحرم النظر إليه. ويكره للغاسل أن ينظر إلى شئ من بدنه إلا لحاجة بأن يريد معرفة المغسول. وأما المعين، فلا ينظر إلا لضرورة، ويحضر ماء باردا في إناء كبير ليغسل به، وهو أولى من المسخن، إلا أن يحتاج إلى المسخن لشدة البرد (1)، أو لوسخ، أو غيره. وينبغي أن يبعد الاناء الذي فيه الماء عن المغتسل، بحيث لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل. فرع: ويعد الغاسل قبل الغسل خرقتين نظيفتين، وأول ما يبدأ به بعد وضعه على المغتسل، أن يجلسه إجلاسا رفيقا، بحيث لا يعتدل، ويكون مائلا إلى ورائه، ويضع يده اليمنى على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، لئلا يميل رأسه، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمر يده اليسرى على بطنه إمرارا بليغا لتخرج الفضلات، ويكون عنده مجمرة فائحة بالطيب، ويصب عليه المعين ماء كثيرا لئلا تظهر رائحة ما يخرج، ثم يرده إلى هيئة الاستلقاء، ويغسل بيساره - وهي ملفوفة بإحدى الخرقتين - دبره ومذاكره (2) (3) وعانته، كما يستنجي الحي، ثم يلقي تلك الخرقة، ويغسل يده بماء وإشنان. كذا قال الجمهور: إنه يغسل السوءتين معا بخرقة (4) واحدة. وفي (النهاية) و (الوسيط): أنه يغسل كل سوءة بخرقة، ولا شك(1/614)
أنه أبلغ في النظافة، ثم يتعهد ما على بدنه من قذر ونحوه. فرع: فإذا فرغ مما قدمناه، لف الخرقة الاخرى على اليد، وأدخل أصبعه في فيه، وأمرها على أسنانه بشئ من الماء، ولا يفتح أسنانه، ويدخل أصبعه في منخريه بشئ من الماء ليزيل ما فيهما من أذى. ثم يوضئه كوضوء الحي ثلاثا ثلاثا مع المضمضة والاستنشاق، ولا يكفي ما قدمناه من إدخال الاصبعين عن المضمضة والاستنشاق، بل ذاك كالسواك. هذا مقتضى كلام الجمهور. وفي (الشامل) وغيره: ما يقتضي الاكتفاء. والاول أصح. ويميل رأسه في المضمضة والاستنشاق، لئلا يصل الماء باطنه. وهل يكفي وصول الماء مقاديم الشفتين (1) والمنخرين، أم يوصله إلى الداخل ؟ حكى إمام الحرمين فيه ترددا، لخوف الفساد، وقطع بأن أسنانه لو كانت متراصة لا تفتح. فرع: فإذا فرغ من وضوئه، غسل رأسه، ثم لحيته، بالسدر والخطمي، وسرحهما بمشط واسع الاسنان إن كانا متلبدين، ويرفق لئلا ينتف شعر، فإن انتتف رده إليه (2). ثم يغسل شقه الايمن المقبل من عنقه، وصدره، وفخذه، وساقه، وقدمه. ثم يغسل شقه الايسر كذلك، ثم يحوله إلى جنبه الايسر، فيغسل شقه الايمن مما يلي القفا والظهر من الكتفين إلى القدم، ثم يحوله إلى جنبه الايمن، فيغسل شقه الايسر كذلك. هذا نص الشافعي في (المختصر). وبه قال أكثر الاصحاب، وحكى العراقيون وغيرهم قولا آخر: أنه يغسل جانبه الايمن من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الايمن، ثم يلقيه على ظهره فيغسل جانبه الايسر من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الايسر. قالوا: وكل واحد من هذين الطريقين سائغ، والاول أولى. وقال إمام الحرمين، والغزالي في آخرين: يضجع أولا على جنبه الايسر، فيصب الماء على شقه الايمن من رأسه إلى قدمه، ثم(1/615)
يضجع على جنبه الايمن، فيصب على شقه الايسر. والجمهور على ما قدمناه، وعلى أن غسل الرأس لا يعاد، بل يبدأ بصفحة العنق فما تحتها، وقد حصل غسل الرأس أولا. ويجب الاحتراز عن كبه على الوجه. ثم جميع ما ذكرناه غسلة واحدة. وهذه الغسلة تكون بالماء والسدر والخطمي، ثم يصب عليه الماء القراح، من قرنه إلى قدمه. ويستحب أن يغسله ثلاثا، فإن لم تحصل النظافة، زاد حتى تحصل، فإن حصل بشفع، استحب الايتار، وهل يسقط الفرض بالغسلة المتغيرة بالسدر والخطمي ؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. فعلى هذا، لا تحسب هذه الغسلة من الثلاث قطعا. وهل تحسب الواقعة بعدها ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الماء إذا أصاب المحل اختلط بما عليه من السدر وتغير به. فعلى هذا، المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر، فيغسل بعد زوال السدر ثلاثا بالقراح. ويستحب أن يجعل في كل ماء قراح كافورا (1)، وهو في الغسلة الاخيرة آكد. وليكن قليلا لا يتفاحش التغير به، وقد يكون صلبا لا يقدح التغير به، وإن كان فاحشا على المشهور. ويعيد تليين مفاصله بعد الغسل. ونقل المزني إعادة التليين في أول وضعه على المغتسل. وأنكره أكثر الاصحاب، ثم ينشفه تنشيفا بليغا. فرع: يتعهد الغاسل مسح بطن الميت في كل مرة بأرفق مما قبلها، فإن خرجت منه نجاسة في آخر الغسلات، أو بعدها، وجب غسل النجاسة قطعا بكل حال. وهل يجب غيرها ؟ فيه أوجه. أصحها: لا. والثاني: يجب إعادة غسله. والثالث: يجب وضوؤه. فعلى الاصح، لا فرق بين النجاسة الخارجة من السبيلين (2) وغيرهما. وإن أوجبنا الوضوء (3)، [ اختص بالخارجة من السبيلين. وإن أوجبنا الغسل ] (4)، ففي إعادة الغسل كسائر النجاسات احتمال، لامام الحرمين. قلت: الصحيح، الجزم بأنه لا يجب إعادة الغسل كسائر النجاسات والله أعلم.(1/616)
ولم يتعرض الجمهور للفرق بين أن تخرج النجاسة قبل الادراج في الكفن، أو بعده، وأشار صاحب (العدة) إلى تخصيص الخلاف في وجوب الغسل والوضوء بما قبل الادراج. قلت: قد توافق صاحب (العدة) والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والسرخسي صاحب (الامالي): فجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الادراج. والله أعلم. ولو لمس رجل (1) امرأة ميتة بعد غسلها، فإن قلنا: يحب إعادة الغسل أو الوضوء بخروج النجاسة، وجبا هنا. كذا أطلقه في (التهذيب). وذكر غيره: أنه تفريع على نقض طهر الملموس (2). وأما إذا قلنا: لا يجب إلا غسل المحل، فلا يجب هنا شئ، ولو وطئت بعد الغسل، فإن قلنا بإعادة الغسل، أو الوضوء للنجاسة، وجب هنا الغسل. وإن قلنا بالاصح، لم يجب هنا شئ. قلت: كذا أطلقه الاصحاب، وينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على نجاسة باطن فرجها، فإنها خرجت على الذكر، وتنجس بها ظاهر الفرج. والله أعلم. فصل فيمن يغسل الميت: الاصل أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء. وأولى الرجال بالرجل (3)، أولاهم بالصلاة عليه. وسيأتي ترتيبهم إن شاء الله تعالى. والنساء أولى بغسل المرأة بكل حال، وليس للرجل غسل المرأة إلا لاحد أسباب ثلاثة. أحدها: الزوجية، فله غسل زوجته المسلمة والذمية (4)، ولها غسله وإن تزوج اختها أو أربعا سواها على الصحيح. الثاني: المحرمية، وظاهر كلام الغزالي، تجويز الغسل للرجال المحارم مع وجود النساء، لكن لم أر لعامة(1/617)
الاصحاب تصريحا بذلك، وإنما يتكلمون في الترتيب، ويقولون: المحارم بعد النساء أولى (1). الثالث: ملك اليمين، فللسيد غسل أمته، ومدبرته، وأم ولده، ومكاتبته، لان كتابتها ترتفع بموتها. فإن كن مزوجات، أو معتدات، لم يكن له غسلهن. قلت: والمستبرأة كالمعتدة (2). والله أعلم. فرع: للمرأة غسل زوجها، فإن طلقها رجعيا ومات أحدهما في العدة، لم يكن للآخر غسله، لتحريم النظر في الحياة. وإلى متى تغسل زوجها ؟ فيه أوجه. أصحها: أبدا. والثاني: ما لم تنقض عدتها بأن تضع حملا عقيب موته. والثالث: ما لم يتزوج. وإذا غسل أحد الزوجين صاحبه، لف على يده خرقة ولا يمسه، فإن خالف، قال القاضي حسين: يصح الغسل ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس. قلت: وأما وضوء الغاسل، فينتقض، قاله القاضي حسين (3). والله أعلم.(1/618)
فرع: هل للامة، والمدبرة، وأم الولد، غسل السيد ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. وليس للمكاتبة غسله بلا خلاف، لانها كانت محرمة عليه. قلت: والمزوجة، والمعتدة، والمستبرأة، كالمكاتبة. صرح به في (التهذيب) وغيره. والله أعلم. فرع: لو مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي، فوجهان. أصحهما عند العراقيين، والروياني، والاكثرين: لا يغسل، بل ييمم ويدفن. والثاني وهو قول القفال، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي: يغسل في ثيابه، ويلف الغاسل خرقة على يده، ويغض طرفه ما أمكنه، فإن اضطر للنظر، نظر للضرورة. قلت: حكى صاحب (الحاوي) هذا الثاني عن نص الشافعي رضي الله عنه، وصححه. وحكى صاحب (البيان) وغيره وجها ثالثا: أنه يدفن، ولا يغسل، ولا ييمم، وهو ضعيف جدا. والله أعلم. فرع: إذا مات الخنثى المشكل وليس هناك محرم له من الرجال أو النساء، فإن كان صغيرا، جاز للرجال والنساء غسله، وكذا واضح الحال من الاطفال، يجوز للفريقين غسله، كما يجوز مسه والنظر إليه، وإن كان الخنثى كبيرا، فوجهان، كمسألة الاجنبي (1)، أحدهما: ييمم ويدفن. والثاني: يغسل. وفيمن يغسله أوجه. أصحها وبه قال أبو زيد: يجوز للرجال والنساء جميعا غسله للضرورة، واستصحابا لحكم الصغر. والثاني: أنه في حق الرجال كالمرأة، وفي حق النساء كالرجل، أخذا بالاحوط. والثالث: يشترى من تركته جارية لتغسله، فإن لم يكن تركة، اشتريت من بيت المال. قال الائمة: وهذا ضعيف، لان إثبات الملك ابتداء لشخص بعد موته مستبعد، ولو ثبت، فالاصح أن الامة لا تغسل سيدها. والمراد(1/619)
بالصغير: من لم يبلغ حدا يشتهى مثله، وبالكبير من بلغه. فصل: إذا ازدحم الصالحون للغسل، فإن كان الميت رجلا، غسله أقاربه على ترتيب صلاتهم عليه. وهل تقدم الزوجة عليهم ؟ (1) وجهان. قلت: وفيه ثلاثة أوجه. أصحها: يقدم رجال العصبات، ثم الرجال الاجانب، ثم الزوجة (2) (3)، والثاني: يقدم الرجال الاقارب، ثم الزوجة، ثم الرجال الاجانب، ثم النساء المحارم. والثالث: تقدم الزوجة على الجميع. والله أعلم. وإن كان الميت امرأة، قدم النساء في غسلها، وأولاهن نساء القرابة، والاولى منهن، ذات رحم محرم (4)، فإن استوت اثنتان في المحرمية، فالتي في محل العصوبة أولى، كالعمة مع الخالة، واللواتي لا محرمية لهن، يقدم منهن الاقرب فالاقرب، وبعد نساء القرابة، تقدم الاجنبيات، ثم رجال القرابة، وترتيبهم كالصلاة. وهل يقدم الزوج على نساء القرابة ؟ وجهان. الاصح المنصوص: يقدمن عليه، لانهن أليق. والثاني: يقدم، لانه كان ينظر إلى ما لا ينظرن، ويقدم الزوج على الرجال الاقارب على الاصح، وكل من قدمناه، فشرطه الاسلام، فإن كان كافرا، فكالمعدوم، ويقدم من بعده حتى يقدم المسلم الاجنبي على القريب الكافر. ويشترط أيضا أن لا يكون قاتلا، فإن قتل بحق، بني على إرثه منه، ولو أن المقدم في الغسل سلمه لمن بعده، فله تعاطيه بشرط اتحاد الجنس، فليس للرجال(1/620)
كلهم التفويض إلى النساء، ولا العكس. فصل: إذا مات المحرم لا يقرب طيبا، ولا يؤخذ شعره وظفره، ولا يلبس الرجل مخيطا، ولا يستر رأسه، ولا وجه المرأة. ولا بأس بالتخمير عند غسله، كما لا بأس بجلوس المحرم عند العطار (1)، ولو ماتت معتدة محدة، جاز تطييبها على الاصح. قلت: قال أصحابنا: فلو طيب المحرم إنسان، أو ألبسه مخيطا، عصى ولا فدية، كما لو قطع عضوا من ميت. والله أعلم. فصل: غير المحرم من الموتى، هل يقلم ظفره، ويؤخذ شعر إبطه، وعانته، وشاربه ؟ قولان. القديم: لا يفعل، كما لا يختن. والجديد: يفعل. والقولان في الكراهة، ولا خلاف أن هذه الامور لا تستحب. قلت: قلد الامام الرافعي الروياني في قوله: لا تستحب بلا خلاف، وإنما الخلاف في إثبات الكراهة وعدمها. وكذا قاله أيضا الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن صرح الاكثرون، أو الكثيرون بخلافه، فقالوا: الجديد: أنه يستحب. والقديم: يكره. ممن صرح بهذا، صاحب (الحاوي) والقاضي أبو الطيب، والغزالي في (الوسيط) وغيرهم. وقطع أبو العباس الجرجاني بالاستحباب، وقال صاحب (الحاوي): القول الجديد: أنه مستحب، وتركه مكروه. وعجب عن الرافعي كيف يقول ما قال، وهذه الكتب مشهورة، لا سيما (الوسيط). وأما الاصح من القولين، فقال جماعة: القديم هنا أصح، وهو المختار، فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة فيه شئ معتمد، وأجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بهذا. وأما قوله: كما لا يختن، فهذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه: أنه يختن. ووجه ثالث: يختن البالغ دون الصبي. والله أعلم. فإذا قلنا بالجديد، يخير الغاسل في شعر الابطين والعانة [ بين الاخذ بالموسى(1/621)
أو بالنورة، وقيل: تتعين النورة في العانة ] (1). قلت: المذهب: أنه مخير في الجميع، فأما الشارب فيقصه كالحياة. قال المحاملي وغيره: يكره حلقه في الحي والميت. قال أصحابنا: ويفعل هذه الامور قبل الغسل. ممن صرح به المحاملي، وصاحب (الشامل) وغيرهما، ولم يتعرض الجمهور لدفن هذه الاجزاء معه. وقال صاحب (العدة): ما يأخذه منها، يصر في كفنه. ووافقه القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) في الشعر المنتتف في تسريح الرأس واللحية كما تقدم، وقال به غيرهم. وقال صاحب (الحاوي): الاختيار عندنا: أنه لا يدفن معه، إذ لا أصل له. والله أعلم. ولا يحلق رأسه بحال، وقيل: إن كان له عادة بحلقه، ففيه الخلاف كالشارب، وجميع ما ذكرناه في صفة الغسل، هو في غير الشهيد، وسيأتي حكم الشهيد إن شاء الله تعالى. فرع: لو تحرق مسلم، بحيث لو غسل لتهرأ، لم يغسل، بل ييمم، ولو كان به قروح، وخيف (2) عليه من غسله تسارع البلى إليه بعد الدفن، غسل، فالجميع صائرون إلى البلى. قلت: يجوز للجنب والحائض غسل الميت بلا كراهة. ولو ماتا غسلا غسلا واحدا. وإذا رأى الغاسل من الميت ما يعجبه، استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره، حرم عليه ذكره إلا لمصلحة (3)، وإذا (4) كان للميتة شعر، فالسنة أن يجعل ثلاث ذوائب، وتلقى خلفها، وينبغي أن يكون الغاسل (5) مأمونا. ولو كان له زوجتان أو أكثر، وتنازعن في غسله، أقرع بينهن. ولو مات له (6) زوجات في وقت(1/622)
بهدم، أو غرق، أو غيره، أقرع بينهن، فقدم من خرجت قرعتها. قال الدارمي: قال الشافعي رحمه الله: لو مات رجل وهناك نساء مسلمات، ورجال كفار، أمرت الكفار بغسله، وصلين عليه. وهذا تفريع على صحة غسل الكافر. قال الدارمي: وإذا نشف المغسول بثوب، قال أبو إسحاق: لا ينجس الثوب، سواء قلنا بنجاسة الميت، أم لا. قال الدارمي: وفيه نظر. والله أعلم.
باب التكفين
تقدم أنه فرض كفاية. ويستحب في لون الكفن البياض، وجنسه في حق كل ميت، ما يجوز له لبسه في الحياة، فيجوز تكفين المرأة في الحرير، لكن يكره، ويحرم تكفين الرجل به (1). قلت: ولنا وجه شاذ منكر: أنه يحرم تكفين المرأة في الحرير. وأما المزعفر، والمعصفر، فلا يحرم تكفينها فيه، لكن يكره على المذهب. وفي وجه: لا يكره. قال أصحابنا: يعتبر في الاكفان المباحة حال الميت، فإن كان مكثرا، فمن جياد الثياب، وإن كان متوسطا، فأوسطها، وإن كان مقلا، فخشنها. قالوا: وتكره المغالاة فيه (2). قال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): والمغسول أولى من الجديد. واتفقوا على استحباب تحسين الكفن في البياض، والنظافة، وسبوغه، وكثافته، لا في ارتفاعه. والله أعلم. فصل: أقل الكفن ثوب، وأكمله للرجال ثلاثة، وفي قدر الثوب الواجب، وجهان. أحدهما: ما يستر العورة، ويختلف باختلاف عورة المكفن في الذكورة والانوثة. والثاني: ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة.(1/623)
قلت: أصحهما: الاول. وصححه الجمهور، وهو ظاهر النص (1). والله أعلم. وإذا كفن فيما لا يعم الرأس والرجلين، ستر الرأس. والثوب الواجب حق لله تعالى لا تنفذ (2) وصية الميت بإسقاطه. [ والثاني والثالث حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما ] (3). ولو لم يوص فقال بعض الورثة: يكفن بثوب، وبعضهم: بثلاثة، فالمذهب يكفن بثلاثة. وقيل: وجهان. أحدهما: بثوب. وأصحهما: بثلاثة، ولو اتفقت الورثة على ثوب، قال في (التهذيب): يجوز. وفي (التتمة): انه على الخلاف. قلت: قول (التتمة) أقيس. والله أعلم. ولو كان عليه ديون مستغرقة، فقال الغرماء: ثوب، فثوب على الاصح. فرع: محل الكفن: رأس مال التركة، يقدم على الديون والوصايا والميراث، لكن لا يباع المرهون في الكفن، ولا الجاني، ولا ما وجبت فيه الزكاة. قلت: ويلحق بالثلاثة، المال الذي ثبت فيه حق الرجوع بإفلاس الميت. وقد ذكره الرافعي في أول الفرائض. والله أعلم. فإن لم يترك مالا، فكفنه على من هو في نفقته، فعلى القريب كفن قريبه، وعلى السيد كفن عبده، وأم ولده، ومكاتبه، وسواء في أولاده كانوا صغارا (4)، أو(1/624)
كبارا، تجب عليه أكفانهم، لانهم عاجزون بالموت، ونفقة عاجزهم واجبة. ويجب على الزوج كفنها، ومؤنة تجهيزها على الاصح (1). فعلى هذا، لو لم يكن للزوج مال، ففي مالها. أما إذا لم يترك الميت مالا، ولا كان له من تلزمه نفقته، فيجب كفنه ومؤنة تجهيزه في بيت المال، كنفقته. وهل يكفن منه بثوب واحد، أم بثلاثة ؟ وجهان. أصحهما: بثوب. فإن قلنا: ثوب، فلو ترك ثوبا لم يزد من بيت مال، وإن قلنا: ثلاثة، كمت على الاصح. وإذا لم يكن في بيت المال مال، فعلى عامة المسلمين الكفن ومؤنة التجهيز (2). قلت: قال القاضي حسين: إذا مات وهو في نفقة غيره، هل يلزمه تكفينه بثلاثة أثواب، أم بثوب ؟ وجهان. أصحهما: ثوب. وقطع هو وصاحب (التهذيب) بأنه إذا لم يكن في بيت المال مال، ولزم المسلمين تكفينه، لا يجب أكثر من ثوب. والله أعلم. فرع: قدمنا أن الافضل في كفن الرجل ثلاثة أثواب. فلو زيد إلى خمسة (3)، جاز، ولا يستحب. ويستحب تكفين المرأة في خمسة، والخنثى(1/625)
كالمرأة، والزيادة على الخمسة مكروهة على الاطلاق. قلت: قال إمام الحرمين: قال الشيخ أبو علي: وليست الخمسة في حق المرأة كالثلاثة للرجل، حتى (1): يجبر الورثة عليها، كما يجبرون على الثلاثة. قال الامام: وهذا متفق عليه. والله أعلم. ثم إن كفن الرجل والمرأة في ثلاثة، فالمستحب ثلاث لفائف. وإن كفن الرجل في خمسة، فثلاث لفائف، وقميص، وعمامة، وتجعلان تحت اللفائف. وإن كفنت المرأة في خمسة، فقولان. الجديد: إزار وخمار، وثلاث لفائف. والقديم وهو الاظهر عند الاكثرين: إزار وخمار وقميص ولفافتان. وهذه المسألة مما يفتى فيه على القديم. قلت: قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: المعروف للشافعي في عامة كتبه، أنه يكون فيها قميص. قالا: والقول الآخر: لا يعرف إلا عن المزني، فعلى هذا الذي نقلا، لا يكون إثبات القميص مختصا بالقديم. والله أعلم. ثم قال الشافعي رحمه الله: يشد على صدرها ثوب، لئلا تنتشر أكفانها، واختلف فيه. فقال أبو إسحاق: هو ثوب سادس، ويحل عنها إذا وضعت في القبر. وقال ابن سريج: يشد عليها ثوب من الخمسة ويترك، والاول أصح عند الاصحاب. وأما ترتيب الخمسة، فقال المحاملي وغيره: على قول أبي إسحاق: إن قلنا: تقمص، شد عليها المئزر، ثم القميص، ثم الخمار، ثم تلف في ثوبين، ثم يشد السادس، وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في اللفائف، ثم يشد عليها خرقة. وعلى قول ابن سريج: إن قلنا: تقمص، شد المئزر، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم يشد عليها الخرقة، ثم تلف في ثوب. وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في ثوب، ثم يشد عليها آخر، ثم تلف في الخامس. وإذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث، ففيها وجهان.(1/626)
أحدهما: تكون متفاوتة فالاسفل (1)، يأخذ ما بين سرته وركبتيه. والثاني: من عنقه إلى كعبه. والثالث: يستر جميع بدنه. وأصحهما: تكون متساوية في الطول والعرض، يأخذ كل واحد منهما جميع بدنه. ولا فرق في التكفين في الثلاث، بين الرجل والمرأة، وإنما يفترقان في الخمسة كما تقدم. فرع: يستحب تبخير الكفن بالعود، إن لم يكن الميت محرما، فتنصب مبخرة، وتوضع الاكفان عليها ليصيبها دخان العود، ثم تبسط أحسن اللفائف وأوسعها، ويذر عليها حنوط (2)، وتبسط الثانية فوقها، ويذر عليها حنوط (3)، وتبسط الثالثة التي تلي الميت فوقها، ويذر عليها حنوط وكافور، ثم يوضع الميت فوقها مستلقيا، ويؤخذ قدر من القطن المحلوج، ويجعل عليه حنوط وكافور، ويدس بين أليتيه حتى يتصل بالحلقة ليرد شيئا يتعرض للخروج، ولا يدخله في باطنه، وفيه وجه ضعيف: أنه لا بأس به، ثم يسد أليتيه ويستوثق بأن يأخذ خرقة، ويشق رأسها، ويجعل وسطها عن أليتيه وعانته، ويشدها فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته، ويعطف الشقين الآخرين عليه. ولو شد شقا من كل رأس على فخذه، ومثله على الفخذ الثانية، جاز. وقيل: يشدها عليه بالخيط، ولا يشق طرفيها، ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه قدرا من الكافور والحنوط، ويجعل على منافذ البدن (4) من المنخرين، والاذنين، والعينين، والجراحات النافذة، دفعا للهوام، ويجعل الطيب على مساجده، وهي الجبهة، والانف، وباطن الكفين، والركبتان، والقدمان، فيجعل الطيب على قطن، ويجعل على هذه المواضع. وقيل: يجعل عليها بلا قطن. ثم يلقى الكفن عليه بأن يثني من الثوب الذي يلي(1/627)
الميت طرفه الذي يلي شقه الايسر، على شقه الايمن، والذي يلي الايمن على الايسر، كما يفعل الحي بالقباء، ثم يلف الثاني والثالث كذلك. وفيه قول آخر: أنه يبدأ بالطرف الذي يلي شقه الايمن. والاول أصح عند الجمهور، ومنهم من قطع به. وإذا لف الكفن عليه، جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة، ورد على وجهه وصدره إلى حيث بلغ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والساقين. وينبغي أن يوضع الميت على الاكفان أولا، بحيث إذا (1) لف عليه كان الفاضل عند رأسه أكثر، ثم تشد الاكفان عليه بشداد، خيفة انتشارها عند الحمل، فإذا وضع في القبر. نزع. وفي كون الحنوط مستحبا، أو واجبا، وجهان. أصحهما: مستحب. قلت: مذهبنا أن الصبي الصغير كالكبير في استحباب تكفينه في ثلاثة أثواب. وقال الصيمري: لا يستحب أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب عليه. وهذا الذي قاله صحيح، إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء، أو العباد ونحو ذلك، فإن ادخاره حسن. وقد صح عن بعض الصحابة فعله (2). والله أعلم.(1/628)
باب حمل الجنازة
ليس في حملها (1) دناءة وسقوط مروءة، بل هو بر وإكرام للميت، ولا يتولاه إلا الرجال، ذكرا كان الميت، أو أنثى، ولا يجوز الحمل على الهيآت [ المزرية، ولا على الهيئة ] (2) التي يخشى منها السقوط. وللحمل كيفيتان. إحداهما: بين العمودين، وهو أن يتقدم رجل فيضع الخشبتين الشاخصتين، وهما العمودان على عاتقيه، والخشبة المعترضة بينهما على كتفه، ويحل مؤخر النعش رجلان، أحدهما من الجانب الايمن، والآخر من الايسر، ولا يتوسط الخشبتين المؤخرتين واحد، فإنه لا يرى موضع قدميه، فإن لم يستقل المقدم بالحمل، أعانه رجلان خارج العمودين، يضع كل واحد منهما واحدا على عاتقه، فتكون الجنازة محمولة على خمسة. والكيفية الثانية: التربيع، وهو أن يتقدم رجلان، فيضع أحدهما العمود الايمن على عاتقه الايسر، والآخر العمود الايسر على عاتقه الايمن، وكذلك يحمل العمودين من آخرهما رجلان، فتكون الجنازة محمولة بأربعة. قال الشافعي رضي الله عنه: من أراد التبرك بحمل الجنازة من جوانبها الاربعة، بدأ بالعمود الايسر من مقدمها، فحمله على عاتقه الايمن أيضا (3)، ثم يسلمه إلى غيره، ويأخذ العمود الايسر من مؤخرها، فيحمله على عاتقه الايمن أيضا، ثم يتقدم فيعرض بين يديها لئلا يكون ماشيا خلفها، فيأخذ العمود الايمن من مقدمها على عاتقه الايسر، ثم يأخذ العمود الايمن من مؤخرها، ولا شك أن هذا إنما يتأتى إذا حمل الجنازة على هيئة التربيع. وكل واحدة من الكيفيتين جائزة. قال بعض الاصحاب: والافضل أن يجمع بينهما، بأن يحمل تارة كذا، وتارة كذا، فإن اقتصر فأيهما أفضل ؟ فيه ثلاثة أوجه. الصحيح المعروف: الحمل بين العمودين أفضل. والثاني: التربيع. والثالث: هما سواء. فصل: المشي أمام الجنازة أفضل للراكب (4)، والماشي، والافضل أن(1/629)
يكون قريبا منها، بحيث لو التفت رآها (1)، ولا يتقدمها إلى المقبرة، فلو تقدم لم يكره، وهو بالخيار، إن شاء قام منتظرا لها، وإن شاء قعد. والسنة الاسراع بالجنازة، إلا أن يخاف من الاسراع تغير الميت، فيتأنى. والمراد بالاسراع: فوق المشي المعتاد دون الخبب، فإن خيف عليه تغير، أو انفجار، أو انتفاخ، زيد في الاسراع. قلت: ينبغي أن لا يركب في ذهابه مع الجنازة إلا لعذر (2)، ولا بأس به في الرجوع. وقد تقدم بيانه في الجمعة. قال أصحابنا: وإن كان الميت امرأة، استحب أن يتخذ لها ما يسترها، كالخيمة، والقبة. قالوا: وإتباع الجنائز سنة متأكدة في حق الرجال، وأما النساء فلا يتبعن. ثم قيل: الاتباع حرام عليهن، والصحيح أنه مكروه إذا لم يتضمن حراما. قال أصحابنا: ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر (3). قال الشافعي، وأصحابنا رحمهم الله: يكره أن تتبع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها، ونقل ابن المنذر وغيره الاجماع عليه. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك. والمذهب: الكراهة. وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة. وأما النياحة والصياح وراء الجنازة، فحرام شديد التحريم. ويكره اللغط في المشي معها، والحديث في أمور الدنيا، بل المستحب الفكر في الموت وما بعده، وفناء الدنيا، ونحو ذلك. قال الشافعي وأصحابنا: وإذا مرت به جنازة ولم يرد الذهاب معها، لم يقم لها، بل نص أكثر أصحابنا على كراهة القيام. ونقل المحاملي إجماع الفقهاء عليه، وانفرد صاحب (التتمة) باستحباب القيام للاحاديث الصحيحة فيه، قال الجمهور: الاحاديث منسوخة. وقد أوضحت ذلك في (شرح المهذب) (4). والله أعلم.(1/630)
باب الصلاة على الميت
تقدم أنها فرض كفاية، ويشترط فيمن يصلى عليه ثلاثة أمور، أن يكون ميتا مسلما غير شهيد، فلو وجد بعض مسلم ولم يعلم موته، لم يصل عليه. وإن علم موته، صلي عليه وإن قل الموجود. هذا في غير الشعر والظفر ونحوهما، وفي هذه الاجزاء وجهان. أقربهما إلى إطلاق الاكثرين أنها كغيرها (1)، لكن قال في (العدة): إن لم يوجد إلا شعرة واحدة، لم يصل عليها في ظاهر المذهب. ومتى شرعت الصلاة، فلا بد من الغسل والمواراة بخرقة (2). وأما الدفن، فلا يختص بما إذا علم موت صاحبه، بل ما ينفصل من الحي من شعر وظفر وغيرهما يستحب له دفنه، وكذلك يوارى دم الفصد، والحجامة. والعلقة والمضغة تلقيهما المرأة. ولو وجد بعض ميت أو كله، ولم يعلم أنه مسلم، فإن كان في دار الاسلام، صلي عليه، لان الغالب فيها الاسلام. ثم متى صلى على العضو، ينوي الصلاة على جملة الميت، لا على العضو وحده. فرع: السقط (3) له حالان. أحدهما: أن يستهل أو يبكي ثم يموت، فهو(1/631)
كالكبير. الثاني: أن لا تتيقن حياته باستهلال ولا غيره، فتارة يعرى عن أمارة، كالاختلاج ونحوه، وتارة لا يعرى، فإن عري، نظر، إن لم يبلغ حدا ينفخ فيه الروح، وهو أربعة أشهر فصاعدا، لم يصل عليه قطعا، ولا يغسل على المذهب. وقيل: في غسله قولان. وإن بلغ أربعة أشهر، صلي عليه في القديم، ولم يصل في الجديد، ويغسل على المذهب. وقيل: قولان. والفرق أن الغسل أوسع، فإن الذمي يغسل بلا صلاة. أما إن اختلج، أو تحرك، فيصلى عليه على الاظهر (1). وقيل: قطعا. ويغسل على المذهب، وقيل: فيه القولان. وما لم يظهر فيه خلقة آدمي يكفي فيه المواراة كيف كانت، وبعدها (2) حكم التكفين حكم الغسل. فصل لا تجوز الصلاة على كافر، حربيا كان، أو ذميا، ولا يجب على المسلمين غسلة، ذميا كان، أو حربيا، لكن يجوز، وأقاربه الكفار أولى بغسله من أقاربه المسلمين. وأما تكفينه ودفنه، فإن كان ذميا، وجب على المسلمين على الاصح (3)، وفاء بذمته، كما يجب إطعامه وكسوته في حياته، وإن كان حربيا، لم يجب تكفينه قطعا، ولا دفنه على المذهب (4). وقيل: وجهان. أحدهما: يجب. والثاني: لا، بل يجوز إغراء الكلب عليه، فإن دفن فلئلا يتأذى الناس بريحه، والمرتد كالحربي، ولو اختلط موتى المسلمين بالكفار ولم يتميزوا، وجب غسل جميعهم والصلاة عليهم، فإن صلى عليهم دفعة (5)، جاز، [ ويقصد المسلمين منهم. وإن صلى عليهم واحدا واحدا، جاز ] (6)، وينوي الصلاة عليه إن كان(1/632)
مسلما ويقول: (اللهم اغفر له إن كان مسلما). قلت: الصلاة عليهم دفعة أفضل، واقتصر عليها الشافعي وجماعة من الاصحاب. واختلاط الشهداء بغيرهم كاختلاط الكفار. والله أعلم. فصل: الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه (1). وقال المزني: يصلى عليه ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والبالغ والصبي. ثم المراد بترك الصلاة، أنها حرام على الصحيح. وعلى الثاني: لا تجب، لكن تجوز. وأما الغسل، فإن أدى إلى إزالة دم الشهادة، فحرام قطعا، وإلا فحرام على المذهب. وقيل كالصلاة. واسم الشهيد قد يخصص في الفقه بمن لا يغسل ولا يصلى عليه، وقد يسمى كل مقتول ظلما شهيدا وهو أظهر، وهو الذي (2) نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) وعلى هذا، الشهيد نوعان. أحدهما: من لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو سقط عن فرسه، أو رمحته دابة فمات، أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب، ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم، أم لا. أما إذا مات في معترك الكفار لا بسبب القتال، بل بمرض، أو فجأة، فالمذهب أنه ليس بشهيد، وقيل: على وجهين. ولو جرح في القتال ومات بعد انقضائه، فإن قطع بموته من تلك الجراحة وبقي فيه بعد انقضاء الحرب حياة مستقرة، فقولان. أظهرهما: ليس بشهيد، وسواء في جريان القولين أكل وتكلم وصلى، أم لا، طال الزمان أم قصر. وقيل: إن مات عن قرب، فقولان، وإن بقي أياما، فليس بشهيد قطعا. وأما إذا انقضت(1/633)
الحرب وليس فيه إلا حركة مذبوح، فشهيد بلا خلاف. وإن انقضت وهو متوقع البقاء، فليس بشهيد بلا خلاف. ولو دخل الحربي دار الاسلام فقتل مسلما اغتيالا، فليس بشهيد على الصحيح. ولو قتل أهل البغي رجلا من أهل العدل، غسل وصلي عليه على الاظهر. ويغسل الباغي المقتول، ويصلى عليه قطعا. ومن قتله قطاع الطريق، قيل. ليس بشهيد قطعا. وقيل: كالعادل (1). النوع الثاني: الشهداء العارون عن جميع الاوصاف المذكورة، كالمبطون، والمطعون، والغريق، والغريب، والميت عشقا، والميتة في الطلق، ومن قتله مسلم، أو ذمي، أو باغ، في غير القتال، فهم كسائر الموت يغسلون ويصلى عليهم، وإن ورد فيهم لفظ الشهادة، وكذا المقتول قصاصا أو حدا ليس بشهيد. وإذا قتل تارك الصلاة، غسل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، ورفع قبره كغيره، كما يفعل بسائر أصحاب الكبائر، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، ويطمس قبره تغليطا عليه. وأما قاطع الطريق، فيبنى أمره على صفة قتله وصلبه، وفيه قولان. أظهرهما: يقتل، ثم يغسل ويصلى عليه، ثم يصلب مكفنا. والثاني: يصلب، ثم يقتل. وهل ينزل بعد ثلاثة أيام، أم يبقى حتى يتهرأ ؟ وجهان. إن قلنا بالاول، أنزل فغسل وصلي عليه. وعلى الثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه. قال إمام الحرمين: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا، وينزل، فيغسل ويصلى عليه، ثم يرد، ولكن لم يذهب إليه أحد. وقال بعض أصحابنا: لا يغسل ولا يصلى عليه على كل قول. فرع: لو استشهد جنب، لم يغسل على الاصح (2)، ولا يصلى عليه قطعا.(1/634)
قلت: ولو استشهدت حائض، فإن قلنا: الجنب لا يغسل، فهي أولى، وإلا فوجهان حكاهما صاحب (البحر) بناء على أن غسل الحائض يتعلق برؤية الدم، أم بانقطاعه، أم بهما ؟ إن قلنا: برؤيته، فكالجنب. والله أعلم. ولو أصابته نجاسة لا بسبب الشهادة، فالاصح أنها تغسل. والثاني: لا. والثالث: إن أدى غسلها إلى إزالة أثر الشهادة، لم تغسل، وإلا غسلت. فرع: والاولى أن يكفن الشهيد في ثيابه الملطخة بالدم (1)، فإن لم يكن ما عليه سابغا، تمم، وإن أراد الورثة نزع ما عليه من الثياب وتكفينه في غيرها، جاز. أما الدرع، والجلد، والفراء، والخفاف، فتنزع. فصل فيمن هو أولى بالصلاة على الميت: وفي الولي والوالي قولان. القديم: الوالي أولى، كما في سائر الصلوات، ثم إمام المسجد، ثم الولي. والجديد: الولي أولى. قلت: وهو الاظهر. والله أعلم. والمراد بالولي: القريب، فلا يقدم غيره، إلا أن يكون القريب أنثى، وهناك ذكر أجنبي، فهو أولى، حتى يقدم الصبي المراهق على المرأة القريبة. وكذا الرجل أولى من المرأة بإمامة النساء في سائر الصلوات. وأولى الاقارب: الاب، ثم الجد أب الاب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الاخ. وهل يقدم الاخ من الابوين على الاخ من الاب ؟ فيه طريقان. المذهب: تقديمه. والثاني: على قولين كولاية النكاح (2). أظهرهما: يقدم. والثاني: سواء، فعلى المذهب: المقدم(1/635)
بعدهما ابن الاخ من الابوين، ثم من الاب، ثم (1) من العم للابوين، ثم للاب، ثم ابن العم للابوين، ثم عم الاب، ثم بنوه (2)، ثم عم الجد، ثم بنوه على ترتيب الارث. قلت: قال أصحابنا: لو اجتمع ابناء عم، أحدهما أخ لام، فعلى الطريقين. والله أعلم. فإن لم يكن عصبة، قدم المعتق. قال إمام الحرمين: ولعل الظاهر تقديمه على ذوي الارحام (3). وله حق في هذا الباب، فإذا لم يكن هناك عصبة بالنسب، ولا بالولاء، قدم أبو الأم، ثم الاخ للام، ثم الخال، ثم العم للام. ولو أوصى أن يصلي عليه أجنبي، فطريقان. المذهب، وبه قطع الجمهور: يقدم القريب. والثاني: وجهان. أحدهما: هذا. والثاني: يقدم الموصى له، كالوجهين فيمن أوصى أجنبيا على أولاده ولهم جد. فرع: إذا اجتمع اثنان في درجة، كابنين أو أخوين، وتنازعا، نص في (المختصر): أن الاسن أولى - وقال: في سائر الصلوات الافقه أولى. قال الجمهور: المسألتان على ما نص عليه، وهذا هو المذهب. وقيل: فيهما قولان بالتخريج. والمراد بالاسن: الاكبر - وإن كانا شابين، وإنما يقدم الاسن إذا حمدت حاله. أما الفاسق والمبتدع، فلا. ويشترط بمضي السن في الاسلام كما سبق في سائر الصلوات. ولو استوى اثنان في درجة وأحدهما رقيق، والآخر حر، فالحر أولى، فإن كان أحدهما رقيقا فقيها، والآخر حرا غير فقيه، فوجهان. وقال في (الوسيط): لعل التسوية أولى (4).(1/636)
قلت: الاصح، تقديم الحر. والله أعلم. ولو كان الاقرب رقيقا، والابعد حرا، كأخ رقيق، وعم حر، فالاصح عند الجمهور: العم أولى. والثاني: الاخ. وقيل: سواء، ولو استووا في كل شئ، فإن رضوا بتقدم واحد، فذاك، وإلا أقرع (1). فصل: السنة أن يقف الامام عند عجيزة المرأة قطعا، وعند رأس الرجل على الصحيح الذي قطع به الجمهور. والثاني: عند صدره. ولو تقدم على الجنازة الحاضرة، أو القبر، لم يصح على المذهب. فرع: إذا حضرت جنائز، جاز أن يصلي على كل واحدة صلاة، وهو الاولى، وجاز أن يصلي على الجميع صلاة واحدة، سواء كانوا ذكورا وإناثا، فإن كانوا نوعا واحدا، ففي كيفية وضعهم وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يوضع بين يدي الامام في جهة القبلة بعضها خلف بعض ليحاذي الامام الجميع. والثاني: يوضع الجميع صفا واحدا. رأس كل إنسان عند رجل الآخر، ويجعل الامام جميعهم عن يمينه، ويقف في محاذاة الآخر. [ وإن اختلف النوع، تعين الوجه الاول. ومتى وضعوا كذلك، فمن يقدم إلى الامام ؟ ينظر، إن جاؤوا دفعة واحدة، نظر ] (2)، إن اختلف النوع، قدم إليه الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. ولو حضر جماعة من الخناثى، وضعت صفا واحدا، لئلا تتقدم امرأة رجلا. وإن اتحد النوع، قدم إليه أفضلهم، والمعتبر فيه الورع، والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونه أقرب رحمة من الله تعالى، ولا يقدم بالحرية. وإن استووا في جميع الخصال، وتنازع الاولياء في التقديم، أقرع بينهم، وإن رضوا بتقديم واحد، فذاك. وأما إذا جاءت الجنائز متعاقبة، فيقدم إلى(1/637)
الامام أسبقها وإن كان المتأخر أفضل، هذا إن اتحد النوع. فلو وضعت امرأة. ثم حضر رجل، أو صبي، نحيت ووضع الرجل أو الصبي بين يدي الامام، ولو وضع صبي، ثم حضر رجل، فالصحيح أنه لا ينحى الصبي، بل يقال لولي الرجل: إما أن تجعل جنازتك وراء الصبي، وإما أن تنقله إلى موضع آخر. وعلى الشاذ: الصبي كالمرأة. فإن قيل: ولي كل ميت أولى بالصلاة عليه، فمن يصلي على الجنائز صلاة واحدة، قلنا: من لم يرض بصلاة غيره، صلى على ميته، وإن رضوا جميعا بصلاة واحدة، صلى ولي السابقة، رجلا كان ميته أو امرأة، وإن حضروا معا، أقرع. فصل في كيفية الصلاة أما أقلها، فأركانها سبعة. أحدها (1): النية، ووقتها ما سبق في سائر الصلوات. وفي اشتراط الفرضية الخلاف المتقدم (2)، وهل يشترط التعرض لكونها فرض كفاية، أم يكفي مطلق الفرض ؟ وجهان. أصحهما الثاني. ثم إن كان الميت واحدا، نوى الصلاة عليه، وإن حضر موتى، نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الامام، جاز، ولو عين الميت وأخطأ، لم تصح. قلت: هذا إذا لم يشر إلى الميت المعين، فإن أشار، صح في الاصح. والله أعلم. ويجب على المقتدي نية الاقتداء. الركن الثاني: القيام، ولا يجزئ عنه القعود مع القدرة على المذهب، كما سبق في التيمم.(1/638)
الثالث: التكبيرات الاربع (1)، ولو كبر خمسا ساهيا، لم تبطل صلاته، ولا مدخل لسجود السهو في هذه الصلاة. وإن كان عامدا لم تبطل أيضا على الاصح الذي قاله الاكثرون. وقال ابن سريج: الاحاديث الواردة في تكبير الجنازة أربعا، وخمسا هي من الاختلاف المباح، والجميع سائغ. ولو كبر إمامه خمسا، فإن قلنا: الزيادة مبطلة، فارقه (2)، وإلا فلا، ولكن لا يتابعه فيها على الاظهر، وهل يسلم في الحال، أم له انتظاره ليسلم معه ؟ وجهان. أصحهما الثاني. الرابع: السلام، وفي وجوب نية الخروج معه، ما سبق في سائر الصلوات، ولا يكفي: السلام عليك، على المذهب، وفيه تردد جواب عن الشيخ أبي علي. الخامس: قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الاولى، فظاهر كلام الغزالي، أنه ينبغي أن تكون الفاتحة عقب الاولى متقدمة على الثانية، لكن حكى الروياني وغيره عن نصه: أنه لو أخر قراءتها إلى التكبيرة الثانية، جاز. السادس: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الثانية، وفي وجوب الصلاة على الآل، قولان أو وجهان كسائر الصلوات، وهذه أولى بالمنع (3).(1/639)
السابع: الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة، وفيه وجه (1): أنه لا يجب تخصيص الميت بالدعاء، بل يكفي إرساله للمؤمنين (2) وقدر الواجب من الدعاء، ما ينطلق عليه الاسم. وأما الافضل، فسيأتي إن شاء الله تعالى. وأما أكمل هذه الصلاة، فلها سنن. منها رفع اليدين في تكبيراتها الاربع، ويجمع يديه عقب كل تكبيرة، ويضعهما تحت صدره كباقي الصلوات، ويؤمن عقب الفاتحة، ولا يقرأ السورة على المذهب، ولا دعاء الاستفتاح على الصحيح، ويتعوذ على الاصح، ويسر بالقراءة في النهار قطعا، وكذا في الليل على الصحيح. ونقل المزني في (المختصر): أنه عقب التكبيرة الثانية يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، فهذه ثلاثة أشياء، أوسطها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ركن كما تقدم. وأولها، الحمد ولا خلاف أنه لا يجب، وفي استحبابه وجهان. أحدهما وهو مقتضى كلام الاكثرين: لا يستحب. والثاني: يستحب، وجزم به صاحبا (التتمة) و (التهذيب). قلت: نقل إمام الحرمين اتفاق الاصحاب على الاول، وأن ما نقله المزني غير سديد، وكذا قال جمهور أصحابنا المصنفين، ولكن جزم جماعة بالاستحباب، وهو الارجح. والله أعلم. وأما ثالثها، وهو الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فمستحب عند الجمهور، وحكى إمام الحرمين فيه ترددا للائمة. قلت: ولا يشترط ترتيب هذه الثلاثة، لكنه أولى. والله أعلم. ومن المسنونات: إكثار الدعاء للميت في الثالثة، ويقول: (اللهم هذا عبدك، وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظلمة(1/640)
القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا (1) أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم أنه (2) نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الارض عن جنبيه، ولقه برحمتك الامن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين). هذا نص الشافعي في (المختصر) (3). وفيها دعاء آخر، وعليه أكثر أهل خراسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة قال: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان) (4) فإن كان الميت امرأة، قال: (اللهم هذه أمتك وبنت عبديك) ويؤنث الكنايات. قلت: ولو ذكرها على إرادة الشخص، لم يضر. قال البخاري، وسائر الحفاظ: أصح دعاء الجنازة، حديث عوف بن مالك في (صحيح مسلم) (5) وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فقال: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا(1/641)
كما نقيت الثوب الابيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وفتنته، ومن عذاب النار). والله أعلم. وإن كان طفلا، اقتصر على رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ويضم إليه: (اللهم اجعله فرطا لابويه، وسلفا، وذخرا، وعظة، واعتبارا، وشفيعا، وثقل به موازينهما، وافرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره) (1). وأما التكبيرة الرابعة، فلم يتعرض الشافعي في معظم كتبه لذكر عقبها، ونقل البويطي عنه أنه يقول بعدها (2): اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) كذا نقل الجمهور عنه، وهذا الذكر ليس بواجب قطعا، وهو مستحب على المذهب. وقيل: في استحبابه وجهان. أحدهما: لا يستحب، بل إن شاء قاله، وإن شاء تركه. قلت: يسن تطويل الدعاء عقب الرابعة، وصح ذلك عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). والله أعلم. وأما السلام، فالاظهر أنه يستحب تسليمتان. وقال في (الاملاء): تسليمة يبدأ بها إلى يمينه، ويختمها ملتفتا إلى يساره، فيدير وجهه وهو فيها، هذا نصه. وقيل: يأتي بها تلقاء وجهه بغير التفات. قال إمام الحرمين: ولا شك أن هذا الخلاف في صفة الالتفات يجري في سائر الصلوات إذا قلنا: يقتصر على تسليمة.(1/642)
ثم قيل: القولان هنا في الاقتصار على تسليمة، هما القولان في الاقتصار في سائر الصلوات. والاصح: أنهما مرتبان عليهما، إن قلنا هناك بالاقتصار، فهنا أولى، وإلا فقولان، فإن الاقتصار هناك قول قديم، وهنا هو قوله في (الاملاء)، وهو جديد. وإذا اقتصر على تسليمة، فهل يقتصر على (السلام عليكم) أم يزيد (ورحمة الله ؟) فيه تردد حكاه أبو علي. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في أثناء هذه الصلاة، كبر ولم ينتظر تكبيرة الامام المستقبلة. ثم يشتغل عقب تكبيره بالفاتحة، ثم يراعي في الاذكار ترتيب نفسه، فلو كبر المسبوق، فكبر الامام الثانية مع فراغه من الاولى، كبر مع الثانية، وسقطت عنه القراءة، كما لو ركع الامام في سائر الصلوات عقب تكبيره (1). ولو كبر الامام الثانية والمسبوق في أثناء الفاتحة، فهل يقطع القراءة ويوافقه، أم يتمها ؟ وجهان كالوجهين فيما إذا ركع الامام والمسبوق في أثناء الفاتحة، أصحهما عند الاكثرين: يقطع ويتابعه. وعلى هذا، هل يتم القراءة بعد التكبيرة لانه محل القراءة بخلاف الركوع، أم لا يتم ؟ فيه احتمالان لصاحب (الشامل). أصحهما: الثاني. ومن فاته بعض التكبيرات، تداركها بعد سلام الامام، وهل يقتصر على التكبيرات نسقا بلا ذكر، أم يأتي بالذكر والدعاء ؟ قولان. أظهرهما: الثاني (2). قلت: القولان في الوجوب وعدمه، صرح به صاحب (البيان) وهو ظاهر. والله أعلم.(1/643)
ويستحب أن لا ترفع الجنازة، حتى يتم المسبوقون ما عليهم، فلو رفعت، لم تبطل صلاتهم وإن حولت عن القبلة، بخلاف ابتداء عقد الصلاة، لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة. فرع: لو تخلف المقتدي فلم يكبر مع الامام الثانية أو الثالثة حتى كبر الامام التكبيرة المستقبلة من غير عذر، بطلت صلاته كتخلفه بركعة. فصل: الشرائط المعتبرة في سائر الصلوات، كالطهارة، وستر العورة، والاستقبال، وغيرها، تعتبر في هذه الصلاة أيضا، ويشترط فيها تقديم غسل الميت، حتى لو مات في بئر، أو معدن انهدم عليه، وتعذر إخراجه وغسله، لم يصل عليه، ذكره في (التتمة). قلت: ويجوز قبل التكفين مع الكراهة. والله أعلم. ولا يشترط فيها الجماعة، لكن يستحب، وفي أقل ما يسقط فرض الكفاية في هذه الصلاة، قولان ووجهان. أحد القولين: بثلاثة. والثاني: بواحد. وأحد الوجهين باثنين. والثاني: بأربعة. والاظهر عند الروياني وغيره: سقوطه بواحد. ومن اعتبر العدد قال: سواء صلوا فرادى أو جماعة، وإن بان حدث الامام، أو بعض المأمومين. فإن بقي العدد المعتبر، سقط الفرض، وإلا، فلا. ويسقط بصلاة الصبيان المميزين على الاصح (1). ولا يسقط بالنساء على الصحيح. وقال كثيرون: لا يسقط بهن قطعا وإن كثرن. والخلاف فيما إذا كان هناك رجال، فإن لم يكن رجل، صلين منفردات وسقط الفرض بهن. قال في (العدة): وظاهر المذهب: أنه لا يستحب لهن الجماعة في جنازة الرجل والمرأة. وقيل: يستحب في جنازة المرأة.(1/644)
قلت: إذا لم يحضر إلا النساء، توجه الفرض عليهن، وإذا حضرن مع الرجال، لم يتوجه الفرض عليهن، فلو لم يحضر إلا رجل ونساء، وقلنا: لا يسقط الفرض إلا بثلاثة، توجه التيمم عليهن، والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة (1). والله أعلم. فصل: تجوز الصلاة على الغائب بالنية وإن كان في غير جهة القبلة والمصلي يستقبل القبلة، وسواء كان بينهما مسافة القصر، أم لا ؟ بشرط أن يكون خارج البلد، فإن كان المصلي والميت في بلد، فهل يجوز أن يصلي إذا لم يكن بين يديه ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. قال الشيخ أبو محمد: وإذا شرطنا حضور الميت، اشترط أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع تقريبا. فصل: إذا صلى على الجنازة جماعة، ثم حضر آخرون، فلهم أن يصلوا عليها جماعة وفرادى، وصلاتهم تقع فرضا. كالاولين. وأما من صلى منفردا، فلا يستحب له إعادتها في جماعة على الاصح (2)، وسواء حضر الذين لم يصلوا قبل الدفن، أو بعده، فإن الصلاة على القبر عندنا جائزة، ولو دفن بلا صلاة، أثم الدافنون، فإن تقديم الصلاة على الدفن واجب (3)، لكن لا ينبش، بل يصلون على قبره. وحكي أنه لا يسقط الفرض بالصلاة على القبر، وهو منكر، بل غلط. وإلى متى تجوز الصلاة عليه (4) ؟ فيه أوجه. أصحها: يصلي عليه من كان من أهل فرض(1/645)
الصلاة عليه يوم موته، ولا يصلي غيره. هذا قول الشيخ أبي زيد. وقال المحاملي وطائفة: هذا الوجه بعبارة أخرى، فقالوا: يصلي من كان من أهل الصلاة يوم موته. فعلى العبارة الاولى لا يصلي من كان صبيا مميزا، وعلى الثانية يصلي، والاولى أشهر، والثانية عند الروياني أصح. والوجه الثاني: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام فقط. والثالث: إلى شهر فقط. والرابع: يصلى عليه ما بقي منه شئ في القبر. فإن انمحقت الاجزاء كلها، فلا. فإن شك في الانمحاق، فالاصل البقاء. وفيه احتمال لامام الحرمين. والخامس: يصلي أبدا. هذا كله في غير قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجوز الصلاة على قبره - صلى الله عليه وسلم - على الاوجه الاربعة قطعا، ولا على الخامس على الصحيح. وقال أبو الوليد النيسابوري (1): يجوز فرادى، لا جماعة. قلت: [ بقي من الباب بقايا، منها: أنه ] (2) لا تكره الصلاة على الميت في المسجد. قال أصحابنا: بل الصلاة فيه أفضل (3)، للحديث الصحيح في قصة سهل بن بيضاء في (صحيح مسلم) (4). وأما الحديث الذي رواه أبو داود (5) وغيره (من صلى على جنازة في المسجد، فلا شي له) فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: ضعفه (6). والثاني: الموجود في (سنن أبي داود) (فلا شي عليه). هكذا هو في أصول سماعنا على كثرتها، وفي غيرها من الاصول المعتمدة (7). والثالث: حمله(1/646)
على نقصان أجره إذا لم يتبعها للدفن (1). ويستحب أن تجعل صفوف الجنازة ثلاثة فأكثر، للحديث الصحيح فيه. واختلاف نية الامام والمأموم لا تضر. فلو نوى الامام الصلاة على حاضر، والمأموم على غائب أو عكسه، جاز. ومن قتل نفسه غسل وصلي عليه، [ وإذا صلى على الجنازة مرة ] (2) لا تؤخر لزيادة المصلين، ولا لانتظار أحد غير الولي، ولا بأس بانتظار وليها إن لم يخف تغيرها. قال صاحب (البحر): لو صلى على الاموات الذين ماتوا في يومه، وغسلوا في البلد الفلاني، ولا يعرف عددهم، جاز. وقوله صحيح، لكن لا يختص ببلد. والله أعلم.
باب الدفن
قد تقدم أنه فرض كفاية. ويجوز في غير المقبرة، لكن فيها أفضل. فلو قال بعض الورثة: يدفن في ملكه، وبعضهم: في المقبرة المسبلة، دفن في المسبلة. ولو بادر بعضهم فدفنه في الملك، كان للباقين نقله إلى المسبلة، والاولى أن لا يفعلوا. ولو أراد بعضهم دفنه في ملك نفسه، لم يلزم الباقين قبوله. فلو بادر إليه، قال ابن الصباغ: لم يذكره الاصحاب، وعندي: أنه لا ينقل، فإنه هتك، وليس في بقائه إبطال حق الغير. قلت: وفي (التتمة) القطع بما قاله صاحب (الشامل). والله أعلم. ولو اتفقوا على دفنه في ملكه، ثم باعوه، لم يكن للمشتري نقله، وله الخيار في فسخ البيع إن كان جاهلا. ثم إذا بلي، أو اتفق نقله، فذلك الموضع للبائعين، أم للمشتري ؟ فيه وجهان سيأتي نظائرهما في البيع إن شاء الله تعالى. فصل: أقل ما يجزئ في الدفن حفرة تكتم رائحة الميت، وتحرسه عن السباع لعسر نبش مثلها غالبا (3). أما الاكمل، فيستحب توسيع القبر، وتعميقه قدر(1/647)
قامة وبسطة (1)، والمراد قامة رجل معتدل يقوم ويبسط يده مرفوعة. والقامة والبسطة: ثلاثة أذرع ونصف، وفيه وجه: أنه قامة فقط، وهي ثلاثة أذرع، والمعروف الاول. قلت: وكذا قال المحاملي (2): إن القامة والبسطة ثلاثة أذرع ونصف. وقال الجمهور: أربعة أذرع ونصف، وهو الصواب (3). والله أعلم. فرع: يجوز الدفن في الشق واللحد فاللحد: أن يحفر حائط القبر مائلا عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميت، وليكن من جهة القبلة. والشق: أن يحفر وسطه كالنهر، ويبنى جانباه باللبن أو غيره، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت ويسقف. وأيهما أفضل ؟ فإن كانت الارض صلبة، فاللحد أفضل، وإلا، فالشق. فرع: السنة أن يوضع الميت عند أسفل القبر، بحيث يكون رأسه عند رجل القبر. ثم يسل من جهة رأسه سلا رفيقا. ولا يدخل القبر إلا الرجال متى وجدوا،(1/648)
رجلا كان الميت أو امرأة (1). وأولاهم بالدفن أولاهم بالصلاة، إلا أن الزوج أحق بدفن زوجته، ثم بعده المحارم، الاب، ثم الجد (2)، ثم الابن، ثم ابن الابن ثم الاخ، ثم ابن الاخ، ثم العم، فإن لم يكن أحد منهم، فعبيدها وهم أحق من بني العم، لانهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الاصح (3). فإن قلنا: إنهم كالاجانب، لم يتوجه تقديمهم، فإن لم يكن عبيدها، فالخصيان أولى، لضعف شهوتهم (4). فإن لم يكونوا، فذوو الارحام الذين لا محرمية لهم، فإن لم يكونوا، فأهل الصلاح من الاجانب. قال إمام الحرمين: وما رأى تقديم ذوي الارحام محتوما، بخلاف المحارم، لانهم كالاجانب في وجوب الاحتجاب عنهم. وقدم(1/649)
صاحب (العدة) نساء القرابة على الرجال الاجانب، وهو خلاف النص، وخلاف المذهب المعروف. فرع: إن استقل بوضع الميت في القبر واحد، بأن كان طفلا، فذاك، وإلا، فالمستحب أن يكون عددهم وترا، ثلاثة، أو خمسة، على حسب الحاجة، وكذا عدد الغاسلين. ويستحب أن يستر القبر عند الدفن بثوب، رجلا كان أو امرأة، والمرأة آكد. واختار أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا: أن الاستحباب مختص بالمرأة، والمذهب الاول. ويستحب لمن يدخله القبر أن يقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم يقول: اللهم أسلمه إليك الاشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارقه من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه، وإن عفوت عنه، فأهل العفو أنت، أنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم تقبل حسنته، واغفر سيئته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الامن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، اللهم واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. وهذا الدعاء نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) (1). فرع: إذا وضع في اللحد، اضجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة (2)، بحيث لا ينكب ولا يستلقي، بأن يدنى من جدار اللحد، ويسند ظهره بلبنة ونحوها، ووضعه مستقبل القبلة واجب، كذا قطع به الجمهور. قالوا: فلو دفن مستدبرا أو مستلقيا، نبش ووجه إلى القبلة ما لم يتغير، فإن تغير، لم ينبش. وقال القاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد): التوجيه إلى القبلة سنة، فلو ترك استحب أن ينبش ويوجه، ولا يجب (3). وأما الاضجاع على اليمين، فليس بواجب. فلو وضع على اليسار مستقبل القبلة، كره ولم ينبش، ولو ماتت ذمية في بطنها جنين(1/650)
مسلم ميت، جعل ظهرها إلى القبلة ليتوجه الجنين إلى القبلة، لان وجه الجنين على ما ذكر إلى ظهر الام. ثم قيل: تدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار. قيل: في مقابر المسلمين، فتنزل منزلة صندوق الولد. وقيل: تدفن في مقابر الكفار. قلت: الصحيح من هذه الاوجه الاول، وبه قطع الاكثرون (1)، منهم صاحب (الشامل)، والمستظهري، وصاحب (البيان). ونقله صاحب (الحاوي) عن أصحابنا قال (2): وكذلك إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين. قال: وحكي عن الشافعي أنها تدفع إلى أهل دينها ليتولوا غسلها ودفنها. وقطع صاحب (التتمة) بأنها تدفن على طرف مقابر المسلمين، وهذا وجه رابع. والله أعلم. فرع: ويجعل تحت رأس الميت لبنة أو حجر، ويفضى بخده الايمن إليه، أو إلى التراب، ولا يوضع تحت رأسه مخدة. ولا يفرش تحته فراش. حكى العراقيون (3) كراهة ذلك عن نص الشافعي رحمه الله، وقال في (التهذيب): لا بأس به (4)، ويكره أن يجعل في تابوت، إلا إذا كانت الارض رخوة، أو ندية، ولا تنفذ(1/651)
وصيته به إلا في مثل هذه الحالة، ثم يكون التابوت من رأس المال. فرع: إذا فرغ من وضعه في اللحد، نصب اللبن على فتح اللحد، وتسد الفرج بقطع اللبن مع الطين، أو بالآجر ونحوه (1)، ثم يحثي كل من دنا ثلاث حثيات من التراب (2) بيديه جميعا، ويستحب أن يقول مع الاولى: (منها خلقناكم) ومع الثانية (وفيها نعيدكم) ومع الثالثة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) (3) ثم يهال بالمساحي. فرع: المستحب أن لا يزاد في القبر على ترابه الذي خرج منه، ولا يرفع إلا قدر شبر ليعرف فيزار ويحترم. قال في (التتمة): إلا إذا مات مسلم في بلاد الكفار، فلا يرفع قبره، بل يخفى لئلا يتعرضوا له إذا رجع المسلمون. ويكره تجصيص القبر، والكتابة، والبناء عليه (4). ولو بني عليه، هدم إن كانت المقبرة(1/652)
مسبلة، وإن كان القبر في ملكه، فلا. وأما تطيين القبر، فقال إمام الحرمين، والغزالي: لا يطين، ولم يذكر ذلك جماهير الاصحاب. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه لا بأس بالتطيين ويستحب أن يرش الماء على القبر، ويوضع عليه حصى، وأن يوضع عند رأسه صخرة، أو خشبة ونحوها. قلت: قال صاحب (التهذيب): يكره أن يرش على القبر ماء الورد، ويكره أن يضرب عليه مظلة، ولا بأس بالمشي بالنعل بين القبور. والله أعلم. فرع: المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أصحابنا: أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه. وقال ابن أبي هريرة: الافضل الآن التسنيم، وتابعه الشيخ أبو محمد، والغزالي، والروياني، وهو شاذ ضعيف. فرع: الانصراف عن الجنازة أربعة أقسام. أحدها: ينصرف عقيب الصلاة، فله من الاجر قيراط. الثاني: أن يتبعها حتى توارى ويرجع قبل إهالة التراب. الثالث: يقف إلى الفراغ من القبر وينصرف من غير دعاء.(1/653)
الرابع: يقف بعده عند القبر ويستغفر الله تعالى للميت، وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة. وحيازة القيراط الثاني، تحصل لصاحب القسم الثالث، وهل تحصل للثاني ؟ حكى الامام، فيه ترددا، واختار الحصول. قلت: وحكى صاحب (الحاوي) في هذا التردد وجهين (1)، وقال: أصحهما: لا تحصل إلا بالفراغ من دفنه، وهذا هو المختار، ويحتج له برواية البخاري (حتى يفرغ من دفنها). ويحتج للآخر برواية مسلم في (صحيحه): (حتى توضع في اللحد). والله أعلم. فرع: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن، فيقال: يا عبد الله ابن أمة الله، أذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).(1/654)
قلت: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا، منهم: القاضي حسين، وصاحب (التتمة) والشيخ نصر المقدسي في كتابه (التهذيب) وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا. والحديث الوارد فيه ضعيف (1)، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الاحاديث الصحيحة، كحديث (اسألوا الله (2) له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص (أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي) رواه مسلم في (صحيحه) ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الاول، وفي زمن من يقتدى به. قال أصحابنا: ويقعد الملقن عند رأس القبر، وأما الطفل ونحوه، فلا يلقن (3). والله أعلم. فرع: المستحب في حال الاختيار، أن يدفن كل ميت في قبر فإن كثر الموتى، وعثر إفراد كل ميت بقبر، دفن الاثنان والثلاثة في قبر (4)، ويقدم إلى(1/655)
القبلة أفضلهم، ويقدم الاب على الابن وإن كان الابن (1) أفضل منه، لحرمة الابوة، وكذا تقدم الام على البنت، ولا يجمع بين النساء والرجال إلا عند تأكد الضرورة، ويجعل بينهما حاجز من تراب، ويقدم الرجل وإن كان ابنا، فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبي، قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. وهل يجعل حاجز التراب بين الرجلين، وكذا بين المرأتين، أم يختص باختلاف النوع ؟ قال العراقيون: لا يختص، بل يعم الجميع، وأشار جماعة إلى الاختصاص. قلت: الصحيح قول العراقيين. وقد نص عليه الشافعي في (الام). والله أعلم. فصل: القبر محترم توقيرا للميت (2)، فيكره الجلوس عليه، والاتكاء، ووطؤه إلا لحاجة بأن لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطئه. قلت: وكذا يكره الاستناد إليه، قال أصحابنا. والله أعلم. فرع: يستحب للرجال زيارة القبور (3)، وهل يكره للنساء ؟ وجهان. أحدهما، وبه قطع الاكثرون: يكره (4). والثاني، وهو الاصح عند الروياني: لا(1/656)
يكره إذا أمنت من الفتنة (1). والسنة أن يقول الزائر: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (2) بكم لاحقون (3)، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. وينبغي للزائر، أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة لو زاره. وسئل القاضي أبو الطيب عن قراءة القرآن في المقابر فقال: الثواب للقارئ، ويكون الميت كالحاضر، ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر لهذا المعنى، وأيضا فالدعاء عقيب القراءة أقرب إلى الاجابة (4)، والدعاء ينفع الميت.(1/657)
فرع: لا يجوز نبش القبر إلا في مواضع. منها: أن يبلى الميت ويصير ترابا، فيجوز نبشه ودفن غيره، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، وتختلف باختلاف البلاد والارض، وإذا بلي الميت، لم يجز عمارة قبره وتسوية التراب عليه في المقابر المسبلة، لئلا يتصور بصورة القبر الجديد فيمتنع الناس من الدفن فيه. ومنها: أن يدفن إلى غير القبلة، وقد سبق. ومنها: أن يدفن من يجب غسله بلا غسل. فالمذهب: أنه يجب النبش ليغسل، وحكي قول: أنه لا يجب، بل يكره لما فيه من الهتك، فعلى المذهب وجهان، الصحيح المقطوع به في (النهاية) و (التهذيب): ينبش ما لم يتغير الميت. والثاني: ينبش ما دام فيه جزء من عظم وغيره. ومنها: إذا دفن في أرض مغصوبة، يستحب لصاحبها تركه، فان أبى، فله إخراجه وإن تغير وكان فيه هتك (1). ومنها: لو كفن بثوب مغصوب أو مسروق، ففيه أوجه، أصحها (2): ينبش لرد الثوب، كما ينبش لرد الارض. والثاني: لا يجوز نبشه، وينتقل صاحب الثوب إلى القيمة، لانه كالتالف (3). والثالث: إن تغير الميت وكان في النبش هتك، لم ينبش، وإلا نبش (4). ولو دفن في ثوب حرير، ففي نبشه هذا الخلاف (5).(1/658)
قلت: وفي هذا نظر، وينبغي أن يقطع بأنه لا ينبش. والله أعلم. ومنها: لو دفن بلا كفن، هل ينبش ليكفن، أم يترك حفظا لحرمته، واكتفاء بستر القبر ؟ وجهان. أصحهما: يترك. ومنها: لو وقع في القبر خاتم، أو غيره، نبش ورد (1). ولو ابتلع في حياته مالا، ثم مات، وطلب صاحبه الرد، شق جوفه ويرد. قال في (العدة): إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته، فلا ينبش على الاصح (2). وقال القاضي أبو الطيب: لا ينبش بكل حال، ويجب الغرم في تركته. ولو ابتلع مال نفسه ومات، فهل يخرج ؟ وجهان. قال الجرجاني (3): الاصح يخرج. قلت: وصححه أيضا العبدري، وصحح الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد) عدم الاخراج، وقطع به المحاملي في (المقنع) وهو مفهوم كلام صاحب (التنبيه) وهو الاصح. والله أعلم. وحيث قلنا: يشق جوفه ويخرج، فلو دفن قبل الشق، نبش كذلك (4). قلت: قال (5) الماوردي في (الاحكام السلطانية): إذا لحق الارض المدفون فيها سيل أو نداوة، فقد جوز الزبيري نقله منها، وأباه غيره، وقول الزبيري أصح. والله أعلم. فرع: إذا مات في سفينة، إن كان بقرب الساحل، أو بقرب جزيرة،(1/659)
انتظروا ليدفنوه في البر، وإلا شدوه بين لوحين لئلا ينتفخ وألقوه في البحر ليلقيه البحر إلى الساحل لعله يع إلى قوم يدفنونه، فإن كان أهل الساحل كفارا، ثقل بشئ ليرسب. قلت: العجب من الامام الرافعي مع جلالته، كيف حكى هذه المسألة على هذا الوجه، وكأنه قلد فيه صاحبي (المهذب) و (المستظهري) في قولهما: إن كان أهل الساحل كفارا، ثقل ليرسب، وهذا خلاف نص الشافعي، وإنما هو مذهب المزني، لان الشافعي رحمه الله قال: يلقى بين لوحين ليقذفه البحر. قال المزني: هذا الذي قاله الشافعي، إذا كان أهل الساحل مسلمين، فإن كانوا كفارا، ثقل بشئ لينزل إلى القرار. قال أصحابنا: الذي قاله الشافعي أولى، لانه يحتمل أن يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة. وعلى قول المزني: يتيقن ترك الدفن. هذا الذي ذكرته هو المشهور في كتب الاصحاب، وذكر الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) وغيرهما: أن المزني ذكرها في (جامعه) الكبير، وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم وقال: إنما ذكرها المزني في (جامعه) كما قالها الشافعي في (الام). قال الشافعي: فان لم يجعلوه بين لوحتين ليقذفه الساحل، بل ثقلوه وألقوه في البحر، رجوت أن يسعهم، كذا رأيته في (الام). ونقل الاصحاب أنه قال: لم يأثموا، وهو بمعناه. وإذا ألقوه بين لوحين، أو في البحر، وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه، والصلاة عليه بلا خلاف، [ وقد أوضحت المسألة في (شرح المهذب) (1)(1/660)
بأبسط من هذا، وقد بقيت من باب الدفن بقايا ] (1). قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: يستحب أن يجمع الاقارب في موضع واحد من المقبرة. ومن سبق إلى موضع من المقبرة المسبلة ليحفره، فهو أحق من غيره. قال أصحابنا: ويحرم أن يدفن في موضع فيه ميت حتى يبلى ولا يبقى عظم ولا غيره. قالوا: فإن حفر فوجد عظامه، أعاد القبر ولم يتم الحفر. قال الشافعي رحمه الله: فان فرغ من القبر فظهر شئ من العظام، جاز أن تجعل في جانب القبر ويدفن الثاني معه. قال الشافعي والاصحاب: ولو مات له أقارب دفعة، وأمكنه دفن كل واحد في قبر، بدأ بمن يخشى تغيره، ثم الذي يليه في التغير. فإن لم يخش تغير، بدأ بأبيه، ثم أمه، ثم الاقرب فالاقرب. فإن كانا أخوين، فأكبرهما. فإن كانتا زوجتين، أقرع بينهما. ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين. قال أصحابنا: ولا يكره الدفن بالليل. قالوا: وهو مذهب العلماء كافة، إلا الحسن البصري. قالوا: لكن المستحب، أن يدفن نهارا (2). قال الشافعي في (الام) والاصحاب: ولا يكره الدفن في الاوقات التي نهي عن الصلاة فيها. ونقل الشيخ أبو حامد، وصاحب (الحاوي)، والشيخ نصر، وغيرهم، الاجماع عليه، وبه أجابوا عن حديث(1/661)
عقبة بن عامر (1) في (صحيح مسلم) (2): (ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا) وذكر وقت الاستواء، والطلوع، والغروب. وأجاب القاضي أبو الطيب، ثم صاحب (التتمة)، بأن الحديث محمول على تحري ذلك وقصده. ويكره المبيت في المقبرة. وأما نقل الميت من بلد إلى بلد قبل دفنه، فقال صاحب (الحاوي) قال الشافعي: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة، أو بيت المقدس، فنختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها. وقال صاحب (التهذيب)، والشيخ أبو نصر البندنيجي من العراقيين: يكره نقله. وقال القاضي حسين، وأبو الفرج الدارمي، وصاحب (التتمة): يحرم نقله. قال القاضي وصاحب (التتمة): ولو أوصى به، لم تنفذ وصيته، وهذا أصح، فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه. ولو ماتت امرأة في جوفها جنين حي، قال أصحابنا: إن كان يرجى حياته، شق جوفها وأخرج ثم دفنت، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: لا يشق جوفها، بل يترك حتى يموت الجنين ثم تدفن. والثاني: يشق. والثالث: يوضع عليه شئ ليموت ثم تدفن، وهذا غلط (3) وإن كان قد حكاه(1/662)
جماعة، وإنما ذكرته لابين بطلانه. قال صاحب (الحاوي): قال الشافعي رحمه الله: لو أن رفقة في سفر مات أحدهم فلم يدفنوه، نظر، إن كان بطريق يخترقه (1) المارة، أو بقرب قرية للمسلمين، فقد أساؤوا، وعلى من بقربه من المسلمين دفنه. وإن كان بصحراء، أو موضع لا يمر به أحد، أثموا وعلى السلطان معاقبتهم، إلا أن يخافوا - لو اشتغلوا به - عدوا، فيختار أن يواروه ما أمكنهم. فإن تركوه، لم يأثموا، لانه موضع ضرورة. قال الشافعي: لو أن مجتازين مروا بميت في صحراء، لزمهم القيام به رجلا كان أو امرأة. فإن تركوه أثموا. ثم إن كان بثيابه ليس عليه أثر غسل ولا تكفين، وجب عليهم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وإن كان عليه أثر الغسل والكفن والحنوط، دفنوه. فإن أرادوا الصلاة عليه، صلوا بعد دفنه على قبره، لان الظاهر أنه صلي عليه [ وقد ألحقت في هذا الباب أشياء كثيرة، وبقيت منها نفائس ومتممات استقصيتها في (شرح المهذب) تركتها لكثرة الاطالة ] (2). والله أعلم.
باب التعزية
هي سنة، ويكره الجلوس لها (3). ويستحب أن يعزي جميع أهل الميت، الكبير والصغير، والرجل والمرأة، لكن لا يعزي الشابة إلا محارمها، وسواء في أصل شرعيتها، ما قبل الصلاة والدفن، وبعدهما، لكن تأخيرها إلى ما بعد الدفن أحسن، لاشتغال أهل الميت بتجهيزه. قلت: قال أصحابنا: إلا أن يرى من أهل الميت جزعا شديدا، فيختار تقديم(1/663)
التعزية ليصبرهم. والله أعلم. ثم تمتد التعزية إلى ثلاثة أيام، ولا يعزى بعدها إلا أن يكون المعزي، أو المعزى غائبا. وفي وجه: يعزيه أبدا (1)، وهو شاذ. والصحيح المعروف، الاول. ثم الثانية للتقريب. فرع: معنى التعزية: الامر بالصبر والحمل عليه بوعد الاجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة، فيقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك (2)، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك، أو ألهمك الصبر، أو جبر مصيبتك ونحوه. وفي تعزية الكافر بالمسلم (3): غفر الله لميتك، وأحسن عزاك. ويجوز للمسلم أن يعزي الذمي بقريبه الذمي (4)، فيقول: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.(1/664)
فصل: يستحب لجيران الميت، والاباعد من قرابته، تهيئة طعام لاهل الميت، يشبعهم في يومهم وليلتهم، ويستحب أن يلح عليهم في الاكل. قلت: قال صاحب (الشامل) وأما إصلاح أهل الميت طعاما، وجمعهم الناس عليه، فلم ينقل فيه شئ، قال: وهو بدعة غير مستحبة، وهو كما قال. قال غيره: ولو كان الميت في بلد، وأهله في غيره، يستحب لجيران أهله اتخاذ الطعام لهم. ولو قال الامام الرافعي: يستحب لجيران أهل الميت، لكان أحسن، لتدخل فيه هذه الصورة. والله أعلم. [ ولو اجتمع نساء ينحن، لم يجز أن يتخذ لهن طعاما، فإنه إعانة على معصية ] (1). فصل: البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده، وقبله أولى (2). والندب حرام، وهو أن يعد شمائل (3) الميت، فيقال: واكهفاه، واجبلاه، ونحو ذلك.(1/665)
والنياحة حرام، والجزع (1)، بضرب الخد، وشق الثوب، ونشر الشعر، حرام، وإذا فعل أهل الميت شيئا من ذلك، لا يعذب الميت، والحديث فيه (2) متأول على من أوصى (3) بالنياحة عليه.
باب تارك الصلاة (4)
وهو ضربان. أحدهما: تركها جحدا لوجوبها (5)، فهو مرتد (6) تجري عليه أحكام(1/666)
المرتدين، إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، يجوز أن يخفى عليه وجوبها، ويجري هذا الحكم في جحود كل حكم مجمع عليه. قلت: أطلق الامام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص (1)، وهو من أمور الاسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر، أو الزنا، ونحو ذلك، فهو كافر. ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة، فليس بكافر، للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده. ومن جحد مجمعا عليه، ظاهرا، لا نص فيه. ففي الحكم بتكفيره خلاف يأتي إن شاء الله تعالى بيانه في باب الردة، وقد أوضح صاحب (التهذيب) القسمين الاولين في خطبة كتابه. والله أعلم. الضرب الثاني: من تركها غير جاحد، وهو قسمان. أحدهما: ترك لعذر، كالنوم، والنسيان، فعليه القضاء فقط، ووقته موسع. والثاني: ترك بلا عذر تكاسلا، فلا يكفر على الصحيح. وعلى الشاذ: يكون مرتدا كالاول، فعلى(1/667)
الصحيح: يقتل حدا. وقال المزني: يحبس ويؤدب ولا يقتل. ومتى يقتل ؟ فيه أوجه. الصحيح: بترك صلاة واحدة إذا ضاق وقتها، والثاني: إذا ضاق وقت الثانية. والثالث: إذا ضاق وقت الرابعة. والرابع: إذا ترك أربع صلوات. والخامس: إذا ترك من الصلوات قدرا يظهر لنا به اعتياده الترك وتهاونه بالصلاة. والمذهب: الاول. والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة (1). فإذا ترك الظهر، لم يقتل حتى تغرب الشمس، وإذا ترك المغرب، لم يقتل حتى يطلع الفجر (2) (3)، حكاه الصيدلاني وتابعه الائمة عليه. وعلى الاوجه كلها: لا يقتل حتى يستتاب (4). وهل يكفي الاستتابة في الحال، أم يمهل ثلاثة أيام ؟ قولان. قال في (العدة): المذهب أنه لا يمهل. والقولان في الاستحباب: على المذهب. وقيل: في الايجاب. فرع: الصحيح: أنه يقتل بالسيف ضربا كالمرتد. وفي وجه: ينخس بحديدة ويقال: صل، فإن صلى، وإلا كرر عليه [ النخس ] حتى يموت. وفي وجه: يضرب بالخشب حتى يصلي أو يموت (5). وأما غسل المقتول لترك الصلاة ودفنه والصلاة عليه، فتقدم بيانها في الصلاة على الميت. فرع: إذا أراد السلطان قتله فقال: صليت في بيتي، ترك (6). فرع: تارك الوضوء يقتل على الصحيح (7). ولو امتنع من صلاة الجمعة وقال: أصليها ظهرا، بلا عذر، لم يقتل، قاله الغزالي في فتاويه، لانه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة أولى، لان لها بدلا وتسقط بأعذار كثيرة.(1/668)
قلت: قد جزم الامام الشاشي في فتاويه بأنه يقتل بترك الجمعة وإن كان يصليها ظهرا، لانه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها. وقد اختار هذا غير الشاشي (1)، واستقصيت الكلام عليه في أول كتاب الصلاة، من شرح (المهذب). ولو قتل إنسان تارك الصلاة في مدة الامهال، قال صاحب (البيان): بأثم ولا ضمان عليه كقاتل المرتد (2). وسيأتي كلام الرافعي فيه في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وإن ترك الصلاة وقال: تركتها ناسيا، أو للبرد، أو عدم الماء، أو لنجاسة كانت علي، ونحو ذلك من الاعذار، صحيحة كانت أو باطلة، قال صاحب (التتمة): يقال له: صل، فان امتنع، لم يقتل على المذهب، لان القتل بسبب تعمد تأخيرها عن الوقت، ولم يتحقق ذلك، وفي وجه: أنه يقتل لعناده. قال: ولو قال: تعمدت تركها، ولا أريد أن أصليها، قتل قطعا. وإن قال: تعمدت تركها بلا عذر،. ولم يقل: ولا أصليها، قتل أيضا على المذهب، لتحقق جنايته. وفيه وجه: أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء. واعلم أن قضاء من ترك الصلاة بعذر، على التراخي على المذهب، ومن ترك بغير عذر، فيه وجهان: أصحهما عند العراقيين: على التراخي، والصواب ما قاله الخراسانيون: أنه على الفور. وستأتي المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى كما قدمنا الوعد به في آخر صفة الصلاة (3). والله أعلم.
تم الجزء الأول من كتاب روضة الطالبين ويليه الجزء الثاني وأوله كتاب الزكاة(1/669)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 2(2/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ على محمد معوض الجزء الثاني دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(2/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073(2/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الزكاة
هي أحد أركان الاسلام، فمن جحدها، كفر، إلا أن يكون حديث عهد بالاسلام لا يعرف وجوبها، فيعرف. ومن منعها وهو يعتقد وجوبها، أخذت منه قهرا. فان امتنع قوم بقوم، قاتلهم الامام عليها.
فصل فيمن تجب عليه الزكاة وهو كل مسلم حر، أو بعضه حر، فتجب في مال الصبي والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من مالهما، فان(2/3)
لم يخرج، أخرج الصبي بعد بلوغه، والمجنون بعد الافاقة زكاة ما مضى، ولا تجب في المال المنسوب إلى الجنين وإن انفصل حيا على المذهب. وقيل: وجهان. أحدهما: هذا، والثاني: تجب. وأما الكافر الاصلي، فليس بمطالب بإخراج الزكاة في الحال، ولا زكاة عليه بعد الاسلام عن الماضي. وأما المرتد، فلا يسقط عنه ما وجب في الاسلام. وإذا حال الحول على ماله في الردة، فطريقان. أحدهما، قاله ابن سريج: تجب الزكاة قطعا، كالنفقات والغرامات. والثاني: وهو الذي قاله الجمهور: يبنى على الاقوال في ملكه، إن قلنا: يزول بالردة، فلا زكاة، وإن قلنا: لا يزول، وجبت، وإن قلنا: موقوف، فالزكاة موقوفة أيضا. فإذا قلنا: تجب، فالمذهب أنه إذا أخرج في حال الردة، أجزأه، كما لو أطعم عن الكفارة. وقال صاحب التقريب: لا يبعد أن يقال: لا يخرجها ما دام مرتدا. وكذا الزكاة الواجبة قبل الردة، فإن عاد إلى الاسلام، أخرج الواجبة في الردة وقبلها. وإن مات مرتدا، بقيت العقوبة في الآخرة. قال إمام الحرمين: هذا خلاف ما قطع به الاصحاب، لكن يحتمل أن يقال: إذا أخرج في الردة ثم أسلم، هل يعيد الاخراج ؟ وجهان، كالوجهين في أخذ الزكاة من الممتنع. ولا تجب الزكاة على المكاتب، فإن عتق وفي يده مال، ابتدأ له حولا. وإن عجز نفسه وصار ماله لسيده، ابتدأ الحول عليه. وأما العبد القن، فلا يملك بغير تمليك السيد قطعا، ولا بتمليكه(2/4)
على المشهور. فإن ملكه السيد مالا زكويا وقلنا: لا يملك، فالزكاة على سيده. وإن قلنا: يملك، فلا زكاة على العبد قطعا، لضعف ملكه، ولا على السيد على الاصح، لعدم ملكه. والثاني: تجب، لانه ينفذ تصرفه فيه. والمدبر وأم الولد كالقن. ومن بعضه حر، تلزمه زكاة ما يملكه بحريته على الصحيح، لتمام ملكه. والثاني: لا يلزمه، كالمكاتب. فصل قال الاصحاب: الزكاة نوعان. زكاة الابدان، وهي زكاة الفطر، ولا تتعلق بالمال، إنما يراعى فيها إمكان الاداء. والثاني: زكاة الاموال، وهي ضربان. أحدهما: يتعلق بالمالية والقيمة، وهي زكاة التجارة. والثاني: يتعلق بالعين. والاعيان التي تتعلق بها الزكاة، ثلاثة: حيوان، وجوهر، ونبات، فيختص من الحيوان بالنعم، ومن الجواهر بالنقدين، ومن النبات بما يقتات. واقتصر بعض الاصحاب عن المقاصد فقال: الزكاة ستة أنواع: النعم، والمعشرات، والنقدان، والتجارة، والمعدن، و (زكاة) الفطر.(2/5)
باب زكاة النعم
النعم لها ستة شروط. أحدها: كون المال نعما متمحضة. والثاني: كونه نصابا. والثالث: الحول. والرابع: دوام الملك فيه جميع الحول. الخامس: السوم. السادس: كمال الملك. الاول: النعم، وهي الابل والبقر والغنم، فلا زكاة في حيوان غيرها، كالخيل والرقيق، إلا أن يكون للتجارة، فتجب زكاة التجارة. ولا تجب الزكاة فيما تولد من الغنم والظباء، سواء كانت الغنم فحولا أو إناثا. الشرط الثاني: النصاب، فلا زكاة في الابل حتى تبلغ خمسا. فإذا(2/6)
بلغتها، ففيها شاة، ولا تزيد حتى تبلغ عشرا، ففيها شاتان. وفي خمسة عشر: ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه، وفي خمس وعشرين: بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين: حقة، وفي إحدى وستين: جذعة، وفي ست وسبعين: بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين: حقتان. ولا يجب بعدها شئ حتى تجاوز مائة وعشرين، فإن زادت على مائة وعشرين واحدة، وجب ثلاث بنات لبون. وإن زادت بعض واحدة، فوجهان. قال الاصطخري: يجب ثلاث بنات لبون. والصحيح: لا يجب إلا حقتان. وإذا زادت واحدة، وأوجبنا ثلاث بنات لبون، فهل للواحدة قسط من الواجب ؟ وجهان. قال الاصطخري: لا، وقال الاكثرون: نعم، فعلى هذا لو تلفت الواحدة بعد الحول وقبل التمكن، سقط من الواجب جزء من مائة وأحد وعشرين جزءا. وعلى قول الاصطخري: لا يسقط شئ. ثم بعد مائة وإحدى وعشرين يستقر الامر. فيجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وإنما يتغير الواجب بزيادة عشر عشر مثاله في مائة وثلاثين: بنتا لبون وحقة، وفي مائة وأربعين: حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين: ثلاث حقاق، وفي مائة وستين: أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين: ثلاث بنات لبون وحقة، وفي مائة وثمانين: بنتا لبون وحقتان، وعلى هذا أبدا. فرع ولد الناقة يسمى بعد الولادة: ربعا، والانثى ربعة، ثم هبعا وهيعة، بضم أول الجميع وفتح ثانيه. ثم فصيلا إلى تمام سنة، فإذا طعن في السنة الثانية، سمي ابن مخاض، والانثى بنت مخاض، فإذا طعن في(2/7)
الثالثة، فابن لبون وبنت لبون، فإذا طعن في الرابعة، فحق وحقة، فإذا طعن في الخامس، فجذع وجذعة، وذلك آخر أسنان الزكاة. فصل لا شئ في البقر حتى تبلغ ثلاثين. فإذا بلغتها، ففيها تبيع، ولا زيادة حتى تبلغ أربعين ففيها مسنة، ثم لا شئ حتى تبلغ ستين، ففيها تبيعان. واستقر الحساب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ويتغير الفرض بعشر عشر، ففي سبعين: تبيع ومسنة، وفي ثمانين: مسنتان، وفي تسعين: ثلاثة أتبعة، وفي مائة: مسنة وتبيعان، وهكذا أبدا. والتبيع: الذي طعن في السنة الثانية، والانثى تبيعة. والمسنة: التي طعنت في الثالثة، والذكر مسن، هذا هو المذهب المشهور. وحكى جماعة وجهان. التبيع له ستة أشهر، والمسنة سنة. فصل لا زكاة في الغنم، حتى تبلغ أربعين. فإذا بلغتها، ففيها شاة، ثم لا زيادة حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، ثم لا زيادة حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه، ثم لا زيادة حتى تبلغ أربع مائة، ففيها أربع شياه، ثم استقر الحساب في كل مائة شاة. والشاة الواجبة فيها: الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز، واختلف أصحابنا في تفسيرهما على أوجه، أصحها: الجذعة: ما دخلت في السنة الثانية، والثنية: ما دخلت في السنة الثالثة، سواء كانتا من الضأن أو المعز. والثاني: الجذعة لها ستة أشهر، والثنية سنة. والثالث: يقال إذا بلغ الضأن ستة أشهر وهو من شابين، فهو جذع، وإن كان من هرمين، فلا يسمى جذعا حتى يبلغ ثمانية أشهر. فرع ما بين الفريضتين يسمى وقصا - منهم من يفتح قافه، ومنهم من يسكنها - والشنق بمعنى الوقص، وقيل: الوقص في البقر والغنم خاصة، والشنق في الابل خاصة.(2/8)
قلت: الفصيح في الوقص، فتح القاف وهو المشهور في كتب اللغة، والمشهور في كتب الفقه عند الفقهاء إسكانها، وقد لحنهم فيه الامام ابن بري، وليس تلحينه بصحيح، بل هما لغتان أوضحتهما في كتاب تهذيب الاسماء واللغات وشرح المهذب والشنق - بالشين المعجمة والنون المفتوحتين والقاف - قال جمهور أهل اللغة: الشنق كالوقص سواء. وقال الاصمعي: الشنق يختص بأوقاص الابل، والوقص بالبقر والغنم، ويقال فيه: وقس - بالسين المهملة - والمشهور استعماله فيما بين الفريضتين، وقد استعملوه فيما دون النصاب. والله أعلم. فصل الشاة الواجبة فيما دون خمسة وعشرين من الابل: هي الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز، كالشاة الواجبة في الغنم، وهل يتعين أحد النوعين من الضأن والمعز ؟ فيه أوجه. أحدها: يتعين نوع غنم صاحب الابل المزكي. والثاني: يتعين غالب غنم البلد، قطع به صاحب المهذب ونقل عن نص الشافعي، فان استويا تخير بينهما. والثالث: وهو الصحيح: أنه يخرج ما شاء من النوعين، ولا يتعين الغالب. صححه الاكثرون، وربما لم يذكروا سواه، ونقل صاحب التقريب نصوصا للشافعي تقتضيه، ورجحها. والمذهب: أنه لا يجوز العدول عن غنم البلد. وقيل: وجهان. فعلى المذهب: لو أخرج غير غنم البلد وهي في القيمة خير من غنم البلد أو مثلها، أجزأه، وإنما يمتنع دونها، وهل يجزئ الذكر منهما، أم يتعين الانثى ؟ وجهان. أصحهما: يجزئ كالاضحية، وسواء(2/9)
كانت الابل ذكورا كلها، أو إناثا، أو مختلطة. وقيل: الوجهان يختصان بما إذا كانت كلها ذكورا، وإلا فلا يجزئ في الذكر قطعا. والاصح، الاجزاء مطلقا. فرع إذا وجبت شاة عن خمس من الابل، فأخرج بعيرا، أجزأه، وإن كان قيمته أقل من قيمة الشاة. هذا هو المذهب الصحيح، وفي وجه: لا يجزئه إن نقصت قيمته عن قيمة الشاة، قاله القفال، وأبو محمد. ووجه ثالث: أنه إن كانت الابل مراضا، أو قليلة القيمة لعيب، أجزأ البعير الناقص عن قيمة الشاة، وإن كانت صحاحا سليمة، لم يجزئ الناقص. فعلى المذهب، إذا أخرج بعيرا عن خمس، هل نقول: كله فرض، أم خمسة فرض، والباقي تطوع ؟ وجهان كالوجهين في المتمتع إذا ذبح بدنة بدل الشاة، هل الفرض كلها، أم سبعها، وفيمن مسح في الوضوء جميع رأسه، هل الجميع فرض، أم البعض ؟ وقالوا: القول بأن الجميع ليس بفرض في مسألتي الاستشهاد، أوجه، لان الاقتصار على سبع بدنة، وبعض الرأس، جائز، ولا يجزئ هنا خمس بعير بالاتفاق، وذكر قوم، منهم صاحب التهذيب أن الوجهين مبنيان على أصل، وهو أن الشاة الواجبة في الابل أصل بنفسها، أم بدل عن الابل ؟ وفيه وجهان. فإن قلنا: الشاة أصل، كان البعير كله فرضا كالشاة، وإلا، فالواجب خمس البعير. قلت: الاصح، أن جميع البعير فرض. قال أصحابنا: وصورة المسألة إذا كان البعير يجزئ عن خمسة وعشرين، وإلا فلا يقبل بدل الشاة بلا خلاف. والله أعلم.(2/10)
ولو أخرج بعيرا عن عشر من الابل، أو عن خمس عشرة، أو عن عشرين، أجزأه على المذهب. وقيل: لا بد في العشر من حيوانين، شاتين أو بعيرين، أو شاة وبعير، وفي الخمس عشرة، ثلاث حيوانات، وفي العشرين أربع شياه، أو أبعرة، أو شاة وثلاثة أبعرة، أو عكسه، أو اثنين واثنين. وإذا قلنا بالمذهب، أجزأه البعير، وإن كان ناقص القيمة عن الشاة، وفيه الوجهان الضعيفان المتقدمان، قول القفال، والآخر. فإذا فرعنا عليهما، اعتبر أن لا ينقص البعير في العشر عن قيمة شاتين، وفي الخمس عشرة عن قيمة ثلاث، وفي العشرين عن قيمة أربع. فرع الشاة الواجبة في الابل يشترط كونها صحيحة، وإن كانت الابل مراضا، لانها في الذمة، ثم فيها وجهان. أحدهما وبه قطع كثيرون وهو قول ابن خيران: يؤخذ عن المراض صحيحة تليق بها. مثاله: خمس من الابل مراض قيمتها خمسون، ولو كانت صحاحا كان قيمتها مائة، وقيمة الشاة المخرجة ستة دراهم، فيؤمر بإخراج شاة صحيحة تساوي(2/11)
ثلاثة دراهم، فإن لم يوجد بها شاة صحيحة، قال صاحب الشامل: فرق الدراهم. والوجه الثاني: يجب فيها ما يجب في الابل الصحاح بلا فرق. قال في المهذب: وهو ظاهر المذهب. فصل إذا ملك خمسا وعشرين من الابل، فقد وجب بنت مخاض، فإن وجدها، لم يعدل إلى ابن لبون، وإن لم يجدها وعنده ابن لبون، جاز دفعه عنها، سواء قدر على تحصيلها، أم لا، وسواء كانت قيمته أقل من قيمتها، أم لا، ولا جبران معه، فإن لم يكن في إبله بنت مخاض، ولا ابن لبون، فالاصح أن يشتري أيهما شاء ويخرجه. والثاني: يتعين بنت المخاض، ولو كان عنده بنت مخاض معيبة، فكالمعدومة، ولو كانت كريمة وإبله مهزولة، لم يكلف إخراجها، فإن تطوع بها، فقد أحسن، وإن أراد اخراج ابن لبون، فوجهان. أحدهما: لا يجوز، لانه واجد، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد، وأكثر شيعته، ورجحه إمام الحرمين والغزالي، والاكثرون. والثاني: يجوز كالمعدومة، وهذا هو الراجح عند صاحبي المهذب والتهذيب وحكي عن نصه. ولو لم تكن عنده بنت مخاض، فأخرج خنثى من أولاد اللبون، أجزأه على الاصح، ولا جبران للمالك لاحتمال الانوثة ما لم نتحققها. ولو وجد بنت لبون، وابن لبون، فأراد اخراج بنت اللبون، وأخذ الجبران، لم يكن له على الاصح. ولو لزمه بنت مخاض وهي عنده، فأراد اخراج خنثى من أولاد اللبون، لم يجزئه، لاحتمال أنه ذكر، فلا(2/12)
يجزئ مع وجود بنت المخاض. ولو أخرج حقا عن بنت مخاض عند فقدها، فلا شك في جوازه، فإنه أولى من ابن اللبون، ولو لزمته بنت لبون فأخرج حقا عند عدمها، لم يجزه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وحكت طائفة. فيه وجهان. فصل إذا بلغت ماشيته حدا، يخرج فرضه بحسابين كمائتين من الابل، فهل الواجب خمس بنات لبون، أو أربع حقاق ؟ قال في القديم: الحقاق، وفي الجديد: أحدهما. قال الاصحاب: فيه طريقان. أحدهما: على قولين. أظهرهما: الواجب، أحدهما. والثاني: الحقاق. والطريق الثاني: القطع بالجديد، وتأولوا القديم. فإن اثبتنا القديم وفرعنا عليه، نظر، إن وجد الحقاق بصفة الاجزاء، لم يجز غيرها، وإلا نزل منها إلى بنات اللبون، أو صعد إلى الجذاع مع الجبران، وإن فرعنا على المذهب وهو أحدهما، فللمسألة أحوال. أحدهما: أن يوجد في المال، القدر الواجب من أحد الصنفين بكماله دون الآخر، فيؤخذ ولا يكلف تحصيل الصنف الآخر، وإن كان أنفع للمساكين، ولا يجوز الصعود ولا النزول مع الجبران، إذ لا ضرورة إليه، وسواء عدم جميع الصنف الآخر، أم بعضه، فهو كالمعدوم. وكذا لو وجد الصنفان، وأحدهما معيب، فكالمعدوم. الحال الثاني: أن لا يوجد في ماله شئ من الصنفين، أو يوجد، أو هما معيبان. فإذا أراد تحصيل أحدهما بشراء أو غيره، فالاصح أن له أن يحصل أيهما شاء. والثاني: يجب تحصيل الاغبط للمساكين، وله أن لا يحصل الحقاق ولا بنات اللبون، بل ينزل أو يصعد مع الجبران، فان شاء جعل الحقاق أصلا، وصعد إلى(2/13)
أربع جذاع فأخرجها وأخذ أربع جبرانات، وإن شاء جعل بنات اللبون أصلا، ونزل إلى خمس بنات مخاض، فأخرجها ودفع معها خمس جبرانات، ولا يجوز أن يجعل الحقاق أصلا، وينزل إلى أربع بنات مخاض، ويدفع ثماني جبرانات، ولا أن يجعل بنات اللبون أصلا، ويصعد إلى خمس جذاع، ويأخذ عشر جبرانات، لامكان تقليل الجبران. وفي وجه شاذ: أنه يجوز الصعود والنزول المذكوران، وليس بشئ. الحال الثالث: أن يوجد الصنفان بصفة الاجزاء، فالمذهب والذي نص عليه الشافعي رحمه الله، وقاله جمهور الاصحاب: يجب الاغبط للمساكين. وقال ابن سريج: المالك بالخيار فيهما، لكن يستحب له إخراج الاغبط، إلا أن يكون ولي يتيم، فيراعي حظه. وإذا قلنا بالمذهب، فأخذ الساعي غير الاغبط، ففيه أوجه. الصحيح الذي اعتمده الاكثرون: أنه إن كان بتقصير، إما من الساعي بأن أخذه مع علمه، أو أخذه بلا اجتهاد، وظن أنه الاغبط، وإما من المالك، بأن دلس وأخفى الاغبط، لم يقع المأخوذ من الزكاة. وإن لم يقصر واحد منهما وقع عن الزكاة. والوجه الثاني، قاله ابن خيران، وقطع به في التهذيب: إن كان باقيا في يد الساعي بعينه، لم يقع عن الزكاة وإن لم يقصر واحد منهما، وإلا وقع. والثالث: يقع عنهما بكل حال. والرابع: لا يقع بحال. والخامس: إن فرقه على المستحقين، ثم ظهر الحال، , حسب عن الزكاة بكل حال، وإلا لم يحسب. والسادس: إن دفع المالك مع علمه بأنه الادنى، لم يجزه، وإن كان الساعي هو الذي أخذه، جاز. وحيث قلنا: لا يقع المأخوذ عن الزكاة، فعليه إخراجها، وعلى الساعي رد ما أخذه إن كان باقيا، وقيمته إن كان تالفا. وحيث قلنا: يقع، فهل يجب إخراج قدر التفاوت ؟ وجهان. أصحهما: يجب. والثاني: يستحب كما إذا أدى اجتهاد الامام إلى أخذ القيمة، وأخذها، لا يجب شئ آخر. قال أصحابنا: وإنما يعرف التفاوت بالنظر إلى القيمة، فإذا كانت قيمة الحقاق أربعمائة وقيمة بنان(2/14)
اللبون أربعمائة وخمسين، وقد أخذ الحقاق، فالتفاوت خمسون، فلو كان التفاوت يسيرا لا يحصل به شقص ناقة، دفع الدراهم للضرورة، وأشار صاحب التقريب إلى أنه يتوقف إلى وجود شقص، وليس بشئ، فإن يحصل به شقص، فوجهان. أحدهما: يجب شراؤه. وأصحهما: يجوز دفع الدراهم لضرر المشاركة، ولانه قد يعدل إلى غير الجنس الواجب للضرورة، كمن وجب عليه شاة في خمس من الابل، فلم يجد شاة، فإنه يخرج قيمتها، وكمن لزمته بنت مخاض، فلم يجدها ولا ابن لبون، لا في ماله ولا بالثمن، فإنه يعدل إلى القيمة. فإذا جوزنا الدراهم، فأخرج شقصا، جاز. قال في النهاية: وفيه أدنى نظر، لما فيه من العسر على المساكين وإن أوجبنا الشقص، فيكون من الاغبط، أم من المخرج ؟ فيه أوجه. أصحها: من الاغبط، لانه الاصل. والثاني: من المخرج، لئلا يتبعض. والثالث: يتخير بينهما. ففي المثال المتقدم، يخرج على الاصح خمسة أتساع بنت لبون. وعلى الثاني: نصف حقة، ثم إذا أخرج شقصا، وجب صرفه إلى الساعي على قولنا: يجب الصرف إلى الامام في الاموال الظاهرة، وإذا أخرج الدراهم، فوجهان. أحدهما: لا يجب الصرف إليه، لانها من الباطنة. والثاني: يجب، لانها جبران الظاهرة. قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. وإطلاق الاصحاب الدراهم في هذا الفصل، يشبه أن يكون مرادهم به نقد البلد، دراهم كان، أو دنانير، كما صرح به الشيخ إبرهيم المروذي. قلت: مرادهم نقد البلد قطعا، وصرح به جماعة، منهم القاضي حسين وغيره، وعليه يحمل قول صاحب الحاوي وإمام الحرمين وغيرهما: دراهم أو دنانير، يعنيان أيهما كان نقد البلد. والله أعلم. الحال الرابع: أن يوجد بعض كل صنف، بأن يجد ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فهو بالخيار، إن شاء جعل الحقاق أصلا فدفعها مع بنت لبون وجبران، وإن شاء جعل بنات اللبون أصلا فدفعها مع حقة، وأخذ جبرانا، وهل يجوز أن يدفع(2/15)
حقة مع ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات ؟ وجهان. ويجري الوجهان فيما إذا لم يجد إلا أربع بنات لبون وحقة، فدفع الحقة مع ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات ونظائره. والاصح الجواز. قال في التهذيب: ويجوز في الصورة الاولى أن يعطي الحقاق مع جذعة ويأخذ جبرانا، وأن يعطي بنات اللبون وبنت مخاض مع جبران. الحال الخامس: أن يوجد بعض أحد الصنفين ولا يوجد من الآخر شئ، كما إذا لم يجد إلا حقتين، فله إخراجهما مع جذعتين، ويأخد جبرانين، وله أن يجعل بنات اللبون أصلا، فيخرج بدلهن خمس بنات مخاض مع خمس جبرانات. ولو لم يجد إلا ثلاث بنات لبون، فله إخراجهن مع بنتي مخاض وجبرانين، وله أن يجعل الحقاق أصلا، ويخرج أربع جذعات بدلها، ويأخذ أربع جبرانات. كذا ذكر في التهذيب الصورتين، ولم يحك خلافا، وينبغي أن يكون فيه الوجهان السابقان، ولعله فرعه على الاصح. فرع إذا بلغت البقر مائة وعشرين، ففيها أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات، وحكمها حكم بلوغ الابل مائتين في جميع الخلاف والتفريع المتقدم. فرع لو أخرج صاحب المائتين من الابل حقتين وبنتي لبون ونصفا، لم يجز، ولو ملك أربع مائة، فعليه ثمان حقاق، أو عشر بنات لبون، ويعود فيها جميع ما في المائتين من الخلاف والتفريع. ولو أخرج عنها أربع حقاق، وخمس بنات لبون، جاز على الصحيح الذي قطع به الجمهور، ومنعه الاصطخري لتفريق الفرض، كما لو فرقه في المائتين. قال الجمهور: كل مائتين أصل منفرد، فهو ككفارتين، يطعم في إحداهما، ويكسو في الاخرى. وأما المائتان، فالتفريق فيهما كالتفريق في الكفارة الواحدة، على أن المانع في المائتين، ليس هو مجرد التفريق، بل المانع التشقيص، ألا ترى أنه لو أخرج حقتين وثلاث بنات لبون، أو(2/16)
أربع بنات لبون وحقة، جاز. ويجري هذا الخلاف متى بلغ المال ما يخرج منه بنات اللبون والحقاق بلا تشقيص. فإن قيل: ذكرتم أن الساعي يأخذ الاغبط، ويلزم من ذلك أن يكون أغبط الصنفين هو المخرج، فكيف يخرج البعض من هذا، والبعض من ذاك ؟ فالجواب، ما أجاب به ابن الصباغ. قال: يجوز أن لهم حظ ومصلحة في اجتماع النوعين، وفي هذا، أن جهة الغبطة غير منحصرة في زيادة القيمة، لكن إذا كان التفاوت لا من جهة القيمة، يتعذر إخراج قدر التفاوت. فصل من وجبت عليه بنت مخاض وليست عنده، جاز أن يخرج بنت لبون ويأخذ من الساعي شاتين، أو عشرين درهما، ومن وجبت عليه بنت لبون وليست عنده، جاز أن يخرج حقة ويأخذ ما ذكرنا، ومن وجبت عليه حقة وليست عنده، جاز أن يخرج جذعة، ويأخذ ما ذكرنا، ولو وجبت عليه جذعة وليست عنده، جاز أن يخرج حقة مع شاتين، أو عشرين درهما، ولو وجبت عليه حقة وليست عنده جاز أن يخرج بنت لبون مع ما ذكرنا، ولو وجبت بنت لبون، وليست عنده، جاز أن يخرج بنت مخاض مع ما ذكرنا. ثم صفة شاة الجبران هذه، صفة الشاة المخرجة فيما دون خمس وعشرين من الابل. وفي اشتراط الانوثة إذا كان المالك هو المعطي، الوجهان المذكوران في تلك الشاة، والدراهم التي يخرجها، هي النقرة. قال في النهاية: وكذا دراهم الشريعة حيث وردت. وإن احتاج الامام إلى إعطاء الجبران ولم يكن في بيت المال دراهم، باع شيئا من مال المساكين وصرفه في الجبران، وإلى من تكون الخيرة في تعيين الشاتين، أو الدراهم ؟ فيه(2/17)
طريقان. المذهب وبه قطع الاكثرون: أن الخيرة للدافع، سواء إن كان الساعي أو رب المال، لكن الساعي يراعي مصلحة المساكين. والثاني: على قولين أظهرهما: هذا. والثاني: الخيار للساعي. وأما الخيرة في الصعود والنزول، فإلى المالك على الاصح، وإلى الساعي على الثاني. والوجهان فيما إذا دفع المالك غير الاغبط، فإن أراد دفع الاغبط، لزم الساعي أخذه قطعا، هذا عند سلامة المال، فإن كان الواجب مريضا أو معيبا، لكن إبله مراضا أو معيبة، فأراد الصعود وطلب الجبران، فإن قلنا: الخيار للساعي، ورأى الغبطة فيه، جاز. وإن قلنا: الخيار للمالك، لم يفوض ذلك إليه، ويستثنى هذه الصورة. ولو أراد أن ينزل من السن المعيبة أو المريضة إلى ناقص دونها، ويبذل الجبران قبل، فإنه تبرع بزيادة. فرع إذا وجبت عليه جذعة، فأخرج بدلها ثنية، ولم يطلب جبرانا، جاز، وقد زاد خيرا، ولو طلب الجبران، فوجهان، أرجحهما عند العراقيين وهو ظاهر النص: الجواز، وأرجحهما عند الغزالي وصاحب التهذيب: المنع. قلت: الاول أصح عند الجمهور. والله أعلم. واعلم أنه كما يجوز الصعود والنزول بدرجة، يجوز بدرجتين، بأن يعطي بدل(2/18)
بنت اللبون جذعة عند فقدها وفقد الحقة، ويأخذ جبرانين، أو يعطي بدل الحقة بنت مخاض مع جبرانين، وكذلك ثلاث درجات، بأن يعطي بدل الجذعة عند فقدها وفقد الحقة وبنت اللبون، بنت مخاض مع ثلاث جبرانات، أو يعطي بدل بنت المخاض، الجذعة عند فقد ما بينهما، ويأخذ ثلاث جبرانات، وهل يجوز الصعود والنزول بدرجتين مع القدرة على الدرجة القربى، كما إذا لزمه بنت لبون، فلم يجدها، ووجد حقة وجذعة فصعد إلى الجذعة. الاصح عند الجمهور: لا يجوز. والخلاف فيما إذا صعد وطلب جبرانين، فأما إذا رضي بجبران، فلا خلاف في الجواز، ويجري الخلاف في النزول من الحقة إلى بنت مخاض مع وجود بنت اللبون. أما إذا لزمته بنت لبون فلم يجدها، ولا حقة، ووجد جذعة وبنت مخاض، فهل له ترك بنت المخاض ويخرج الجذعة ؟ فيه وجهان مرتبان، وأولى بالجواز، وبه قطع الصيدلاني، لان بنت المخاض وإن كانت أقرب، لكن ليست في الجهة المعدول إليها. فرع لو أخرج المالك عن جبرانين شاتين وعشرين درهما، جاز، ولو أخرج عن جبران شاة وعشرة دراهم، لم يجز، فلو كان المالك أخذ ورضي بالتفريق، جاز. فرع لو لزمه بنت لبون فلم يجدها، ووجد ابن لبون وحقة، وأراد دفع ابن اللبون مع الجبران، فوجهان. أصحهما: المنع. والثاني: الجواز، لان الشرع جعله كبنت المخاض.(2/19)
قلت: لو وجب عليه بنت مخاض، فلم يجدها، ووجد ابن لبون وبنت لبون، فأخرجها وطلب الجبران، لم يقبل على الاصح، بل عليه دفع ابن اللبون بلا جبران، لانه بدل بنت المخاض بالنص، ولو وجبت حقة، فأخرج بدلها بنتي لبون، أو وجبت جذعة، فأخرج بدلها حقتين، أو بنتي لبون، جاز على الصحيح، لانهما يجزئان عما زاد، ولو ملك إحدى وستين بنت مخاض، فأخرج واحدة منها، فالصحيح الذي قاله الجمهور: أنه يجب معها ثلاث جبرانات. وفي الحاوي وجه: أنها تكفيه وحدها حذرا من الاجحاف، وليس بشئ. والله أعلم. فرع لا يدخل الجبران في زكاة الغنم والبقر. فصل في صفة المخرج في الكمال والنقصان أسباب النقص في هذا الباب خمسة. أحدها: المرض، فإن كانت ماشيته كلها مراضا، أجزأته مريضة متوسطة، ولو كان بعضها صحيحا، وبعضها مريضا، فإن كان الصحيح قدر الواجب فأكثر، لم تجز المريضة إن كان الواجب حيوانا واحدا، فإن كان اثنين ونصف ماشيته صحاح، ونصفها مراض، كبنتي لبون في ست وسبعين، وكشاتين في مائتين، فهل يجوز أن يخرج صحيحة ومريضة ؟ وجهان حكاهما في التهذيب. أصحهما عنده: يجوز، وأقربهما إلى كلام الاكثرين: لا. وإن كان الصحيح من ماشيته دون قدر الواجب، كشاتين في مائتين ليس فيها صحيحة إلا واحدة، فالمذهب: أنه يجزئه صحيحة ومريضة، وبه قطع العراقيون والصيدلاني. وقيل: وجهان. ثانيهما: يجب صحيحتان، قاله الشيخ أبو محمد. فرع: إذا أخرج صحيحة من المال المنقسم إلى الصحاح والمراض، لم يجب أن يكون من صحاح ماله، ولا مما يساويها في القيمة، بل يجب صحيحة لائقة بماله. مثاله: أربعون شاة، نصفها صحاح، وقيمة كل صحيحة ديناران، وكل مريضة دينار، فعليه صحيحة بقيمة نصف صحيحة، ونصف مريضة، وذلك دينار ونصف، ولو كانت الصحاح ثلاثين، فعليه صحيحة بثلاثة أرباع قيمة صحيحة، وربع مريضة، وهو دينار ونصف وربع، ولو لم يكن فيها إلا صحيحة، فعليه(2/20)
صحيحة وقيمته تسعة وثلاثون جزءا من أربعين من قيمة مريضة، وجزء من أربعين من صحيحة، وذلك دينار وربع عشر دينار، وجميع ذلك ربع عشر المال، ومتى قوم جملة النصاب، وكانت الصحيحة المخرجة ربع عشر القيمة، كفى. فلو ملك مائة وإحدى وعشرين شاة، فينبغي أن يكون قيمة الشاتين المأخوذتين، جزء من مائة وأحد وعشرين جزءا من قيمة الجملة، وإن ملك خمسا وعشرين من الابل، يكون قيمة الناقة المأخوذة جزءا من خمسة وعشرين جزءا من قيمة الجملة، وقس على هذا سائر النصب وواجباتها، ولو ملك ثلاثين من الابل، نصفها صحاح، ونصفها مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وقيمة كل مريضة ديناران، وجبت صحيحة بقيمة نصف صحيحة ونصف مريضة، وهو ثلاثة دنانير، ذكره صاحب التهذيب وغيره. ولك أن تقول: هلا كان هذا ملتفتا إلى أن الزكاة تتعلق بالوقص، أم لا، فإن تعلقت فذاك، وإلا قسط المأخوذ عن الخمس والعشرين. النقص الثاني: العيب، والكلام فيه كالمرض، سواء تمحضت الماشية معيبة، أو انقسمت سليمة ومعيبة. والمراد بالعيب في هذا الباب، ما يثبت الرد في البيع على الاصح. وعلى الثاني: هذا مع ما يمنع الاجزاء في الاضحية. ولو ملك خمسا وعشرين بعيرا معيبة، وفيها بنتا مخاض، إحداهما: من أجود المال مع عيبها، والثانية دونها، فهل يأخذ الاجود كالاغبط في الحقاق وبنات اللبون، أم الوسط ؟ وجهان. الصحيح: الثاني. وأما قول الشافعي رحمه الله في المختصر: ويأخذ خير المعيب، فاتفق الاصحاب على أنه مؤول، والمراد: يأخذ من وسطه. النقص الثالث: الذكورة، فإذا تمحضت الابل إناثا، أو انقسمت ذكورا وإناثا، لم يجزئ عنها الذكر إلا في خمسة وعشرين، فإنه يجزئ فيها ابن لبون عند فقد بنت المخاض، وإن تمحضت ذكورا، فثلاثة أوجه. أصحها وهو المنصوص: جوازه، كالمريضة من المراض، وعلى هذا يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون، يؤخذ من خمس وعشرين، ويعرف بالتقويم أو النسبة.(2/21)
والثاني: المنع، فعلى هذا لا يؤخذ انثى كانت تؤخذ لو تمحضت إناثا، بل تقوم ماشيته لو كانت إناثا، وتقوم الانثى المأخوذة منها، ويعرف نسبتها من الجملة، وتقوم ماشيته الذكور، وتؤخذ أنثى قيمتها ما تقتضيه النذبة، وكذلك الانثى المأخوذة من الاناث والذكور، يكون دون المأخوذة من محض الاناث بطريق التقسيط المذكور في المراض والثالث: إن أدى أخذ الذكر إلى التسوية بين النصابين، لم يؤخذ، وإلا أخذ. مثاله: يؤخذ ابن مخاض من خمس وعشرين، وحق من ست وأربعين، وجذع من إحدى وستين، وكذا يؤخذ الذكر إذا زادت الابل، واختلف الفرض بزيادة العدد، ولا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين، لانه مأخوذ عن خمس وعشرين. وأما البقر، فالتبيع مأخوذ منها في مواضع وجوبه، وحيث وجبت المسنة، تعينت إن تمحضت إناثا أو انقسمت، فإن تمحضت ذكورا، ففيه الوجهان الاولان في الابل، ولو أخرج عن أربعين من البقر، أو خمسين تبيعين، جاز على الصحيح، لانهما يجزئان عن ستين، فعما دونها أولى. وأما الغنم، فإن تمحضت إناثا أو انقسمت، تعينت الانثى، وإن تمحضت ذكورا، فطريقان. المذهب وبه قطع الاكثرون: يجزئ الذكر. والثاني: على الوجهين في الابل. النقص الرابع: الصغر، وللماشية في هذا الفصل ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون كلها أو بعضها في سن الفرض، فيؤخذ لواجبها سن الفرض، ولا يؤخذ ما دونه، ولا يكلف ما فوقه. الثاني: أن تكون كلها فوق سن الفرض، فلا يكلف الاخراج منها، بل يحصل السن الواجبة ويخرجها، وله الصعود والنزول في الابل كما سبق. الثالث: أن يكون الجميع في سن دونها، وقد يستبعد تصور هذا، فإن أحد شروط الزكاة الحول، وإذا حال الحول، فقد بلغت الماشية حد الاجزاء. وقد(2/22)
صورها الاصحاب فيما إذا حدثت من الماشية في أثناء الحلول فصلان، أو عجول، أو سخال، ثم ماتت الامهات، وتم حولها والنتاج صغار بعد، وهذا تفريع على المذهب أن النتاج يبنى على حولها. وأما على قول الانماطي: إنه ينقطع الحول بموت الامهات، بل بنقصانها عن النصاب، فلا تجئ هذه الصورة بهذا الطريق، ويمكن أن تصور ذلك فيما إذا ملك نصابا من صغار المعز، ومضى عليها حول، فتجب الزكاة وإن لم تبلغ سن الاجزاء، لان الثنية من المعز على الاصح، هي التي استكملت سنتين كما تقدم. إذا عرف التصوير ففيما يؤخذ ؟ وجهان. وقال صاحب التهذيب وغيره: قولان. القديم: لا يؤخذ إلا كبيرة، لكن دون الكبيرة المأخوذة من الكبار في القيمة. وكذا إذا انقسم ماله إلى صغار وكبار، يؤخذ كبيرة بالقسط كما سبق في نظائره، فإن لم توجد كبيرة بما يقتضيه التقسيط، أخذت القيمة للضرورة. ذكره المسعودي في الايضاح والقول الجديد: لا يتعين الكبيرة، بل تجوز الصغيرة كالمريضة من المراض. فعلى هذا، هل تؤخذ الصغيرة مطلقا، أم كيف الحال ؟ قطع الجمهور بأخذ الصغيرة من صغار الغنم. وذكروا في الابل والبقر، ثلاثة أوجه. أصحها: يجوز أخذ الصغار مطلقا كالغنم، ولكن يجتهد الساعي ويحترز عن التسوية بين القليل والكثير، فيأخذ من ست وثلاثين فصيلا فوق الفصيل المأخوذ في خمس وعشرين، ومن ست وأربعين فصيلا فوق المأخوذ من ست وثلاثين، وعلى هذا، القياس. والوجه الثاني: لا تجزئ الصغيرة، لئلا تؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير، لكن يؤخذ كبيرة بالقسط كما سبق في نظائره. والثالث: لا يؤخذ فصيل من أحد وستين فما دونها، ويؤخذ مما فوقها، وكذا من البقر. قال الاصحاب: هذا الوجه ضعيف لشيئين. أحدهما: أن التسوية التي تلزم في أحد وستين فما دونها، تلزم في أحد وتسعين، فإن الواجب في ست وسبعين، بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين، حقتان، فإن أخذنا فصيلين في هذا، وفي ذلك،(2/23)
سوينا، فإن وجب الاحتراز عن التسوية، فليحترز عن هذه الصورة. الثاني: أن هذه التسوية تلزم في البقر، في ثلاثين وأربعين، وقد عبر قوم من الاصحاب عن هذا الوجه بعبارة تدفع هذين الشيئين فقالوا: تؤخذ الصغيرة حيث لا تؤدي إلى التسوية، ومنهم من خص المنع على هذا الوجه بست وثلاثين فما فوقها، وجوز إخراج فصيل عن خمس وعشرين، إذ لا تسوية في تجويزه وحده. النقص الخامس: رداءة النوع، الماشية إن اتحد نوعها، بأن كانت إبله كلها أرحبية أو مهرية، أو كانت غنمه كلها ضأنا أو معزا، أخذ الفرض منها، وذكر في التهذيب ثلاثة أوجه في أنه هل يجوز أخذ ثنية من المعز، باعتبار القيمة عن أربعين ضأنا، أو جذعة من الضأن عن أربعين معزا ؟ أصحها: الجواز، لاتفاق الجنس كالمهرية مع الارحبية. والثاني: المنع كالبقر عن الغنم. والثالث: لا يؤخذ المعز عن الضأن، ويجوز العكس، كما يؤخذ في الابل المهرية عن المجيدية، ولا عكس، وكلام إمام الحرمين قريب من هذا الثالث، فإنه قال: لو ملك أربعين من الضأن الوسط، فأخرج ثنية من المعز الشريفة تساوي جذعة من الضأن التي يملكها، فهذا محتمل، والظاهر إجزاؤها. أما إذا اختلف النوع كالمهرية والارحبيه من الابل، والعراب والجواميس من البقر، والضأن والمعز من الغنم، فيضم البعض إلى البعض في إكمال النصاب لاتحاد الجنس، وفي كيفية أخذ الزكاة قولان. أحدهما: يؤخذ من الاغلب، فإن استويا، فكاجتماع الحقاق وجنات اللبون في مائتين، فيؤخذ الاغبط للمساكين على المذهب. وعلى وجه: الخيرة للمالك. والقول الثاني وهو الاظهر: يؤخذ من كل نوع بقسطه، وليس معناه أن يؤخذ من هذا شقص، ومن هذا شقص، فانه لا يجزئ بالاتفاق، ولكن المراد، النظر إلى الاصناف، وباعتبار القيمة، فإذا اعتبرت القيمة والتقسيط، فمن أي نوع كان(2/24)
المأخوذ، جاز. كذا قاله الجمهور. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون المأخوذ من أعلى الانواع، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض، ويجاب عما قال بأنه ورد النهي عن المريضة والمعيبة، فلم نأخذ إلا ما وجدنا صحيحة، بخلاف ما نحن فيه. وحكي قول ثالث: أنه إذا اختلف الانواع، أخذ من الوسط، ولا يجئ هذا في نوعين فقط، ولا في ثلاثة متساوية. وحكي وجه: أنه يؤخذ الاجود، فخرج من نصه في اجتماع الحقاق وبنات اللبون. وحكي عن أبي إسحق: أن القولين فيما إذا لم تحتمل الابل أخذ واجب كل نوع وحده، فإن احتمل، أخذ بلا خلاف، بأن ملك مائتين، مائة أرحبية، ومائة مهرية، فيؤخذ حقتان من هذه، وحقتان من هذه.(2/25)
والمشهور في المذهب: طرد الخلاف مطلقا، ونوضح القولين الاولين بمثالين. أحدهما: له خمس وعشرون من الابل، عشرة مهرية، وعشرة أرحبية، وخمسة مجيدية، فعلى القول الاول يؤخذ بنت مخاض أرحبية، أو مهرية، بقيمة نصف أرحبية، ونصف مهرية، لان هذين النوعين أغلب. وعلى الثاني: يؤخذ بنت مخاض من أي الانواع أعطى بقيمة خمسي مهرية، وخمسي أرحبية، وخمس مجيدية. فإذا كانت قيمة بنت مخاض مهرية عشرة، وقيمة بنت مخاض أرحبية خمسة، وبنت مخاض مجيدية دينارين ونصف، أخذ بنت مخاض من أي أنواعها شاء، قيمتها ستة ونصف. الثاني: له ثلاثون من المعز، وعشر من الضأن، فعلى القول الاول: يأخذ ثنية من المعز كما لو كانت كلها معزا، وعكسه، لو كان الضأن ثلاثين، أخذنا جذعة من الضأن. وعلى القول الثاني: يخرج ضائنة، أو عنزا بقيمة ثلاثة أرباع عنز، وربع ضائنة في الصورة الاولى، وبقيمة ثلاثة أرباع ضائنة، وربع ماعزة في الصورة الثانية، ولا يجئ قول اعتبار الوسط هنا. وعلى وجه: اعتبار الاشرف يؤخذ من أشرفها.(2/26)
باب الخلطة
هي نوعان، خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الاول بخلطة الاعيان، وبخلطة الشيوع. وعن الثاني: بخلطة الاوصاف. والمراد بالاول أن لا يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، كماشية ورثها قوم أو ابتاعوها معا، فهي شائعة بينهم. وبالثاني: أن يكون مال كل واحد متعينا متميزا عن مال غيره، ولكن يجاوره مجاورة المال الواحد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، ولكل واحدة من الخلطتين أثر في الزكاة، فيجعلان مال الشخصين أو الاشخاص، بمنزلة مال الواحد. ثم قد توجب الزكاة أو تكثرها، كرجلين خلطا عشرين بعشرين، يجب شاة، ولو انفردا، لم يجب شئ. قلت: وصورة تكثيرها، خلط مائة وشاة بمثلها، وجب على كل واحد شاة ونصف، ولو انفرد، لزمه شاة فقط، أو خلط خمسا وخمسين بقرة بمثلها،. لزم كل واحد مسنة ونصف تبيع، ولو انفرد كفاه مسنة. والله أعلم. وقد يقللها، كرجلين خلطا أربعين بأربعين، يجب عليهما شاة، ولو انفردا، وجب على كل واحد شاة. وحكى الحناطي وجها غريبا: أن خلطة الجوار لا أثر لها، وليس بشئ. فصل نوعا الخلطة يشتركان في اعتبار شروط، وتختص خلطة الجوار بشروط، فمن المشترك كون المجموع نصابا، فلو ملك زيد عشرين شاة، وعمرو عشرين شاة، فخلطا تسع عشرة بتسع عشرة، وتركا شاتين منفردتين، فلا أثر لخلطتهما، فلا زكاة أصلا. ومنها: أن يكون المختلطان من أهل وجوب الزكاة، فلو كان أحدهما ذميا أو(2/27)
مكاتبا، فلا أثر للخلطة، بل إن كان نصيب الحر المسلم نصابا، زكاه زكاة الانفراد، وإلا فلا شئ عليه. ومنها: دوام الخلطة في جميع السنة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما الشروط المختصة بخلطة الجوار، فمجموعها عشرة، متفق على اشتراطه، ومختلف فيه. أحدها: اتحاد المراح، وهو مأواها ليلا. والثاني: اتحاد المشرب، بأن تسقى غنمهما من ماء واحد، نهر، أو عين، أو بئر، أو حوض، أو من مياه متعددة، بحيث لا تختص غنم أحدهما بالشرب من موضع، وغنم الآخر من غيره. الثالث: اتحاد المسرح، وهو الموضع الذي تجمع فيه، ثم تساق إلى المرعى. الرابع: اتحاد المرعى، وهو المرتع الذي ترعى فيه، فهذه الاربعة متفق عليها. الخامس: اتحاد الراعي، الاصح: اشتراطه. ومعناه: أن لا يختص غنم أحدهما براع، ولا بأس بتعدد الرعاة لهما قطعا.(2/28)
السادس: اتحاد الفحل، المذهب: أنه شرط، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. أصحهما: اشتراطه. والمراد أن تكون الفحول مرسلة بين ماشيتهما، لا يختص أحدهما بفحل، سواء كانت الفحول مشتركة أو مملوكة لاحدهما، أو مستعارة. وفي وجه: يشترط أن تكون مشتركة بينهما. واتفقوا على ضعفه. وإذا قلنا: لا يشترط اتحاد الفحل، اشترط كون الانزاء في موضع واحد. السابع: اتحاد الموضع الذي تحلب فيه، لا بد منه، كالمراح. فلو حلب هذا ماشيته في أهله، وذلك ماشيته في أهله، فلا خلطة. الثامن: اتحاد الحالب، وهو الشخص الذي يحلب، فيه وجهان. أصحهما: ليس بشرط. والثاني: يشترط بمعنى أنه لا ينفرد أحدهما بحالب يمتنع عن حلب ماشية الآخر. التاسع: اتحاد الاناء الذي يحلب فيه، وهو المجلب، فيه وجهان. أصحهما: لا يشترط، كما لا يشترط اتحاد آلة الجز. والثاني: يشترط فلا ينفرد(2/29)
أحدهما بمحلب، أو محالب ممنوعة من الآخر. وعلى هذا، هل يشترط جلط اللبن ؟ وجهان. أصحهما: لا. والثاني: يشترط ويتسامحون في قسمته، كما يخلطوا المسافرون أزوادهم ثم يأكلون، وفيهم الزهيد والرغيب. العاشر: نية الخلطة هل تشترط ؟ وجهان. أصحهما: لا يشترط. ويجري الوجهان فيما لو افترقت الماشية في شئ مما يشترط الاجتماع فيه بنفسها، أو فرقها الراعي ولم يعلم المالكان إلا بعد طول الزمان، هل تنقطع الخلطة، أم لا ؟ أما لو فرقاها، أو أحدهما قصدا في شئ من ذلك، فتنقطع الخلطة وإن كان يسيرا. وأما التفرق اليسير من غير قصد، فلا يؤثر، لكن لو اطلعا عليه فأقراها على تفرقها ارتفعت الخلطة. ومهما ارتفعت الخلطة، فعلى من نصيبه نصاب زكاة، الانفراد إذا تم الحول من يوم الملك، لا من يوم ارتفاعها. فصل الخلطة تؤثر في المواشي بلا خلاف. وهل تؤثر في الثمار، والزروع، والنقدين، وأموال التجارة ؟ أما خلطة الاشتراك، ففيها قولان. القديم: لا يؤثر. والجديد: يؤثر. فأما خلطة الجوار، فلا تثبت على القديم. وفي الجديد: وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يثبت. إذا اختصرت، قلت: في الخلطتين ثلاثة أقوال: الاظهر: ثبوتهما. والثاني: لا. والثالث: تثبت خلطة الاشتراك فقط. وصورة الخلطة في هذه الاشياء، أن يكون لكل واحد منهما رصف نخيل، أو زرع في حائط واحد، أو لكل واحد كيس درهم في صندوق واحد، أو أمتعة تجارة في خزانة واحدة. وفرع الاصحاب على إثبات الخلطتين مسائل. منها: نخيل موقوفة على جماعة معينين في حائط واحد، أثمرت خمسة أوسق، تجب فيها الزكاة. ومنها: لو استأجر أجيرا لتعهد نخيله بثمرة نخلة بعينها بعد خروج ثمرها وقبل(2/30)
بدو صلاحها، وشرط القطع، فلم يتفق القطع حتى بدا الصلاح وبلغ ما في الحائط نصابا، وجب على الاجير عشر ثمرة تلك النخلة وإن قلت. ومنها لو وقف أربعين شاة على جماعة معينين، إن قلنا: الملك في الموقوف لا ينتقل إليهم، فلا زكاة. وإن قلنا: يملكونه، فوجهان. الاصح: لا زكاة أيضا لضعف ملكهم. فصل أخذ الزكاة من مال الخليطين قد يقتضي التراجع بينهما، وقد يقتضي رجوع أحدهما على صاحبه دون الآخر، ثم الرجوع والتراجع يكثران في خلطة الجوار، وقد يتفقان قليلا في خلطة المشاركة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فأما خلطة الجوار، فتارة يمكن الساعي أن يأخذ من نصيب كل واحد منهما ما يخصه، وتارة لا يمكنه. فإن لم يمكنه، فله أن يأخذ فرض الجميع من نصيب أيهما شاء. وإن لم يجد سن الفرض إلا من نصيب أحدهما، أخذه. مثاله: أربعون شاة، لكل واحد عشرون، يأخذ الشاة من أيهما شاء. ولو وجبت بنت لبون فلم يجدها إلا في أحدهما، أخذها منه. ولو كانت ماشية أحدهما مراضا، أو معيبة، أخذ الفرض من الآخر. أما إذا أمكنه، فوجهان. قال أبو إسحاق: يأخذ من مال كل واحد ما يخصه، ولا يجوز غير ذلك ليغنيهما عن التراجع. وأصحهما وبه قال ابن أبي هريرة والجمهور: يأخذ من جنب المال ما اتفق، ولا حجر عليه، بل لو أخذ كما قال أبو إسحق، ثبت التراجع، لان المالين كواحد. مثال صورة الامكان: لكل واحد مائة شاة، وأمكن أن يأخذ من مال كل واحد شاة. وكذا لو كان لاحدهما أربعون من البقر، وللآخر ثلاثون، وأمكن أخذ مسنة(2/31)
من الاربعين، وتبيع من الثلاثين. وكذا لو كان لواحد مائة من الابل، وللآخر ثمانون وأمكن أخذ حقتين من المائة وبنتي لبون من الثمانين. فرع في كيفية الرجوع فإذا خلطا عشرين من الغنم بعشرين، فأخذ الساعي شاة من نصيب أحدهما، رجع على صاحبه بنصف قيمتها، لا بنصف شاة، لانها غير مثلية. فلو كان لاحدهما ثلاثون شاة، وللآخر عشر، فأخذها الساعي من صاحب الثلاثين، رجع بربعها على الآخر. وإن أخذها من الآخر، رجع بثلاثة أرباعها على صاحب الثلاثين. ولو كان لاحدهما مائة، وللآخر خمسون، فيأخذ الساعي الشاتين الواجبتين من صاحب المائة، رجع على الآخر بثلث قيمتهما، ولا يقول: بقيمة ثلثي شاة، وإن أخذهما من صاحب الخمسين، رجع بثلثي قيمتهما. ولو أخذ من كل واحد شاة، رجع صاحب المائة على صاحب الخمسين بثلث قيمة شاته، وصاحب الخمسين على صاحب المائة بثلثي قيمة شاته. ولو كان نصف الشياه لهذا، ونصفها للآخر، رجع كل واحد بقيمة نصف شاته. فإن تساوت القيمتان، خرج على أقوال التقاص عند تساوي الدينين قدرا وجنسا. ولو كان لاحدهما ثلاثون من البقر، وللآخر أربعون، فواجبهما تبيع ومسنة، على صاحب الاربعين أربعة أسباعهما، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما. فلو أخذهما الساعي من صاحب الاربعين، رجع على الآخر بثلاثة أسباع قيمتهما، وإن أخذهما من الآخر، رجع بأربعة أسباعهما. ولو أخذ التبيع من صاحب الاربعين، والمسنة من الآخر، رجع صاحب المسنة بأربعة أسباعها، وصاحب التبيع بثلاثة أسباعه. ولو أخذ الساعي التبيع من صاحب الاربعين، والمسنة من الآخر، رجع صاحب المسنة بثلاثة أسباعها، وصاحب التبيع بأربعة أسباعه. قلت: هذا الذي ذكره في التبيع والمسنة قاله إمام الحرمين وغيره، وأنكر عليهم بنص الشافعي رحمه الله. والذي نقله عنه صاحب جمع الجوامع في منصوصات الشافعي. قال الشافعي: ولو كان غنماهما سواء، وواجبهما شاتان،(2/32)
فأخذ من غنم كل واحد شاة، وكانت قيمة الشاتين المأخوذتين مختلفة، لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشئ، لانه لم يؤخذ منه إلا ما عليه في غنمه لو كانت منفردة. هذا نصه، وفيه تصريح بمخالفة المذكور، وأنه يقتضي أن على صاحب الثلاثين تبيعا، وعلى الآخر مسنة، والتراجع يثبت على حسب ذلك، وكذلك في الشياه. وهذا هو الظاهر في الدليل أيضا فليعتمد. والله أعلم. فرع لو ظلم الساعي فأخذ من أحد الخليطين شاتين، والواجب شاة، أو أخذ ماخضا، أو (شاة حبلى) ربى رجع المأخوذ منه بنصف قيمة الواجب، لا قيمة المأخوذ، ويرجع المظلوم على الظالم، فإن كان المأخوذ باقيا في يد الساعي، استرده، وإلا استرد الفضل، والفرض ساقط. ولو أخذ القيمة في الزكاة، أو أخذ من السخال كبيرة، رجع على الاصح، لانه مجتهد فيه. وقيل: يرجع في مسألة الكبيرة قطعا. فرع جميع ما قدمناه في هذا الفصل، في خلطة الجوار. أما خلطة الاشتراك، فإن كان الواجب من جنس المال، فأخذه الساعي منه، فلا تراجع، وإن كان من غيره، كالشاة فيما دون خمس وعشرين من الابل، رجع المأخوذ منه على صاحبه بنصف قيمتها، فلو كان بينهما عشرة، فأخذ من كل واحد شاة، تراجعا، فإن تساوت القيمتان، خرج على أقوال التقاص. فرع متى ثبت الرجوع، وتنازعا في قيمة المأخوذ، فالقول قول المرجوع عليه، لانه غارم. فصل في اجتماع الخلطة والانفراد في حول واحد فإذا لم يكن لهما حالة انفراد، بأن ورثا ماشية، أو ابتاعاها دفعة واحدة، شائعة أو مخلوطة، وأداما الخلط سنة، زكيا زكاة الخلطة بلا خلاف، وكذا لو ملك كل واحد دون النصاب،(2/33)
وبلغ بالخلط نصابا، زكيا زكاة الخلطة قطعا. أما إذا انعقد الحول على الانفراد، ثم طرأت الخلطة، فإما إن يتفق ذلك في حق الخليطين جميعا، وإما في حق أحدهما، فإن اتفق في حقهما، فتارة يتفق حولاهما، وتارة يختلفان، فإن اتفقا، بأن ملك كل واحد منهما أربعين شاة غرة المحرم، ثم خلطا غرة صفر، فقولان. الجديد: أنه لا تثبت الخلطة في السنة الاولى، فإذا جاء المحرم، وجب على كل واحد شاة. والقديم: تثبت، فيجب في المحرم على كل واحد نصف شاة، وعلى القولين جميعا في الحول الثاني فما بعده يزكيان زكاة الخلطة لوجودها في جميع السنة. قلت: الاظهر: الجديد، ويجري القولان متى خلطا قبل انقضاء الحول بزمن، لو علفت السائمة فيه، سقط حكم السوم. وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. واختار صاحب البيان في كتابه مشكلات المذهب أنه ثلاثة أيام. والمراد، التقريب. وقد اتفقوا على أنه لا جريان للقديم إذا لم يبق من الحول إلا يوم أو يومان، ونحو ذلك. والله أعلم. وإن اختلف حولاهما، بأن ملك هذا غرة المحرم، وذلك غرة شهر صفر، وخلطا غرة شهر ربيع، بني على القولين عند اتفاق الحول. فعلى الجديد: إذا جاء المحرم، على الاول شاة، وإذا جاء صفر، فعلى الثانية شاة. وعلى القديم: على كل واحد نصف شاة عند انقضاء حوله من حين ملك. ثم في سائر الاحوال يتفق القولان على ثبوت حكم الخلطة، فيكون على الاول عند غرة كل محرم، نصف(2/34)
شاة. وعلى الثاني: عند غرة كل صفر، نصف شاة. ولنا وجه: أن الخلطة في جميع الاحوال لا تثبت. واتفق الاصحاب على ضعفه، ونسب الجمهور هذا الوجه إلى تخريج ابن سريج. وقال المحاملي: ليس هذا لابن سريج، بل هو لغيره. أما إذا اتفق في حق أحدهما، بأن ملك أربعين في غرة المحرم، وملك الثاني أربعين غرة صفر، وخلطاها عند الملك، أو خلط الاول أربعينه غرة صفر بأربعين لغيره، ثم باع الثاني أربعينه غرة صفر بأربعين لغيره ثم باع الثاني لثالث، فقد ثبت للاول حكم الانفراد شهرا، والثاني لم ينفرد أصلا، ويبني على حاله المتقدمة، فإذا جاء المحرم، فعلى الاول شاة في الجديد، ونصف شاة في القديم، وإذا جاء صفر، فعلى الثاني نصف شاة في القديم، وعلى الجديد وجهان. أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة، وثبت حكم الخلطة في باقي الاحوال على المذهب، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج: لا يثبت. فرع في صور بناها الاصحاب على هذه الاختلافات منها: لو ملك أربعين شاة غرة المحرم، ثم أربعين غرة صفر، فعلى الجديد: إذا جاء المحرم لزمه الاربعين الاول شاة، وإذا جاء صفر لزمه الاربعين الثانية نصف شاة على الاصح، وقيل: شاة. وعلى القديم: يلزمه نصف شاة لكل أربعين في حولها، ثم يتفق القولان في سائر الاحوال، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج: يجب في الاربعين الاولى شاة عند تمام حولها، وفي الثانية شاة عند تمام حولها. وهكذا أبدا ما لم ينقص النصاب، والغرض أنه كما تمتنع الخلطة في ملك الشخصين عند اختلاف التاريخ، يمتنع في ملكي الواحد. ومنها: لو ملك الرجل أربعين غرة المحرم، ثم ملك أربعين غرة صفر، ثم أربعين غرة شهر ربيع، فعلى القديم: يجب في كل أربعين ثلث شاة عند لتمام حولها. وعلى الجديد: يجب في الاولى لتمام حولها شاة. وفي ما يجب في الثانية لتمام حولها، وجهان. أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة. وفيما يجب في(2/35)
الثالثة لتمام حولها وجهان. أصحهما: ثلث شاة. والثاني: شاة، ثم يتفق القولان في سائر الاحوال. وعلى وجه ابن سريج: يجب في كل أربعين لتمام حولها شاة أبدا. ومنها: لو ملك أربعين غرة المحرم، وملك آخر عشرين غرة صفر، وخلطا عند ملك الثاني، فإذا جاء المحرم، لزم الاول شاة في الجديد، وثلثاها في القديم، وإذا جاء صفر، لزم الثاني ثلث شاة على القولين، لانه خالط في جميع حوله. وعلى وجه ابن سريج: يجب على الاول شاة أبدا، ولا شئ على صاحب العشرين أبدا لاختلاف التاريخ، ولو ملك مسلم وذمي ثمانين شاة من أول المحرم، ثم أسلم الذمي غرة صفر، كان المسلم كمن انفرد بماله شهرا، ثم طرأت الخلطة. فرع جميع ما قدمناه في الفصل المتقدم وفرعه، هو في طريان خلطة الجوار، فلو طرأت خلطة الشيوع، بأن ملك أربعين شاة ستة أشهر، ثم باع نصفها مشاعا، ففي انقطاع حول البائع، طريقان. أحدهما: قول ابن خيران: إنه على القولين فيما إذا انعقد حولهما على الانفراد ثم خلطا، إن قلنا: يزكيان زكاة الخلطة، لم ينقطع حوله، وإن قلنا: زكاة الانفراد، انقطع لنقصان النصاب. والطريق الثاني، وبه قطع الجمهور ونقله المزني والربيع عن نصه: أن الحول لا ينقطع، لاستمرار النصاب بصفة الانفراد، ثم بصفة الاشتراك، فعلى هذا إذا مضت ستة أشهر من يوم الشراء، لزم البائع نصف شاة لتمام حوله. وأما المشتري، فينظر، إن أخرج البائع واجبه وهو نصف شاة من المشتر، فلا شئ عليه، لنقصان المجموع عن النصاب قبل تمام حوله، وإن أخرج من غيره، بنى على تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة، إن قلنا: بالذمة، لزمه نصف شاة عند تمام حوله، وإن قلنا: بالعين، ففي انقطاع حول المشتري، قولان. أظهرهما عند العراقيين: الانقطاع. ومأخذهما، أن إخراج الزكاة من موضع آخر يمنع زوال الملك عن قدر الزكاة، أو يفيد عوده بعد الزوال، ولو ملك ثمانين شاة، فباع نصفها مشاعا في أثناء الحول، لم ينقطع حول البائع في النصف الثاني قطعا. وفي واجبه لتمام حوله وجهان.(2/36)
أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة، ولو أن مالك الاربعين باع بعضها، نظر، إن ميزها قبل البيع أو بعده وأقبضها، فقد زالت الخلطة إن كثر زمن التفريق، فإذا خلطا، استأنف الحول، وإن كان زمن التفريق يسيرا، ففي انقطاع الحول وجهان. أوفقها لكلام الاكثرين: الانقطاع، فلو لم يميزا، ولكن أقبض البائع المشتري جميع الاربعين لتصير العشرين مقبوضة، فالحكم كما لو باع النصف مشاعا، فلا ينقطع حول الباقي على المذهب. وفيه وجه: أنه ينقطع بالانفراد بالبيع. والطارئ هنا: خلطة جوار، وإن ذكرناها ها هنا. ولو كان لهذا أربعون، ولهذا أربعون، فباع أحدهما جميع غنمه بغنم صاحبه في أثناء الحول، انقطع حولاهما واستأنفا من وقت المبايعة، ولو باع أحدهما نصف غنمه شائعا بنصف غنم صاحبه شائعا، والاربعونان مميزتان، فحكم الحول فيما بقي لكل واحد منهما من أربعينه، كما إذا كان للواحد أربعون، فباع نصفها شائعا. والمذهب: أنه لا ينقطع، فإذا تم حول ما بقي لكل واحد منهما، فهذا مال ثبت له الانفراد أولا، والخلطة في آخر الحول، ففيه القولان السابقان. القديم: أنه يجب على كل واحد ربع شاة. والجديد: على كل واحد نصف شاة، وإذا مضى حول من وقت التبايع، لزم كل واحد للقدر الذي ابتاعه ربع شاة على القديم. وفي الجديد وجهان. أصحهما: ربع شاة. والثاني: نصفها. فرع إذا طرأ الانفراد على الخلطة، زكى من بلغ نصيبه نصابا زكاة الانفراد من وقت الملك، ولو كان بينهما أربعون مختلطة، فخالطهما ثالث بعشرين في أثناء حولهما، ثم ميز أحد الاولين ماله قبل تمام الحول، فلا شئ عليه عند تمام الحول، ويجب على الثاني نصف شاة عند تمام حوله، وكذا على الثالث نصف شاة عند تمام حوله. ووجه ابن سريج ينازع فيه، ولو كان بينهما ثمانون مشتركة، فاقتسماها بعد ستة أشهر، فإن قلنا: القسمة إفراز حق، فعلى كل واحد عند تمام حوله، شاة، وإن قلنا: بيع، لزم كل واحد عند تمام باقي الحول نصف شاة. ثم(2/37)
إذا مضى حول من وقت القسمة، لزم كل واحد نصف شاة لما تجدد ملكه، وهكذا في كل ستة أشهر، كما لو كان بينهما أربعون شاة، فاشترى أحدهما نصف الآخر بعد مضي ستة أشهر، يجب عليه عند مضي كل ستة أشهر نصف شاة. فصل إذا اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة، وغير مختلطة من جنسها، بأن ملك ستين شاة، خالط بعشرين منها عشرين لغيره خلطة جوار أو شيوع، وانفرد بالاربعين، فكيف يزكيان ؟ قولان. أظهرهما، وعليه فرع في المختصر واختاره ابن سريج، وأبو إسحق والاكثرون: أن الخلطة خلطة ملك، أي كل ما في ملكه ثبت فيه حكم الخلطة، لن الخلطة تجعل مال الاثنين كمال الواحد، ومال الواحد يضم بعضه إلى بعض وإن تفرق، فعلى هذا، في الصورة المذكورة، كان صاحب الستين قد خلطها بعشرين، فعليهما شاة، ثلاثة أرباعها عليه، وربعها على صاحب العشرين. والقول الثاني: أن الخلطة خلطة عين، أي يقصر حكمها على المخلوط، فتجب بعشرين، على صاحب العشرين نصف شاة بلا خلاف، لانه خليط عشرين. وفي صاحب الستين أوجه. أصحها، وهو المنصوص: يلزمه شاة. والثاني: ثلاثة أرباع شاة، كما لو خالط بالجميع. والثالث: خمسة أسداس شاة، ونصف سدس، يخص الاربعين منها ثلثان كأنه انفرد بجميع الستين، ويخص العشرين ربع كأنه خالط بالجميع. والرابع: شاة وسدس، يخص الاربعين ثلثان، والعشرين نصف. والخامس: شاة ونصف كأنه انفرد بأربعين، وخالط بعشرين، وهذا ضعيف أو غلط. أما إذا خلط عشرين بعشرين لغيره، ولكل واحد منهما أربعون منفردة، ففي واجبهما القولان، فإن قلنا: خلطة ملك، فعليهما شاة، على كل واحد نصف، لان الجميع مائة وعشرون، وإن قلنا: خلطة عين، فسبعة أوجه. أصحها: على كل واحد شاة تغليبا للانفراد. والثاني: على كل واحد ثلاثة أرباع شاة، لان له ستين مخالطة عشرين. والثالث: على كل واحد نصف شاة، وكان الجميع مختلطا. والرابع: على كل واحد خمسة أسداس ونصف سدس حصة الاربعين ثلثان، كأنه انفرد بماله، وحصة العشرين ربع. كأنه خالط الستين بالعشرين. والخامس: خمسة أسداس، حصة العشرين سدس، كأنه خلطها بالجميع. والسادس: على كل واحد شاة وسدس، ثلثان عن الاربعين، ونصف عن العشرين. والسابع: على كل واحد شاة ونصف. ولا فرق(2/38)
في هاتين المسألتين بين أن يكون الاربعون المنفردة في بلد المال المختلط، أم في غيره، ويجري القولان المذكوران سواء اتفق حول صاحب الستين، وحول الآخر، أم اختلفا، لكن إن اختلفا، زاد النظر في التفاصيل المذكورة في الفصل السابق. وقال ابن كج: الخلاف فيما إذا اختلف حولاهما، فإن اتفقا، فلا خلاف أن عليهما شاة، ربعها على صاحب العشرين، وباقيها على الآخر، وهذا شاذ. والمذهب: أنه لا فرق. فرع فيما إذا خالط ببعض ماله واحدا. وببعضه آخر ولم يخالط أحد خليطيه الآخر فإذا ملك أربعين شاة، فخلط عشرين بعشرين، لمن لا يملك غيرها، والعشرين الاخرى بعشرين لآخر، فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك، فعلى صاحب الاربعين نصف. وأما الآخران، فمال كل واحد مضموم إلى الاربعين، وهل يضم إلى العشرين التي لخليط الخليط ؟ وجهان. أصحهما وبه قطع العراقيون: نعم، فعلى كل واحد ربع شاة. والثاني: لا، فعليه ثلث شاة. وإن قلنا: خلطة عين، فعلى كل واحد من صاحبي العشرينين نصف شاة. وأما صاحب الاربعين، ففيه الاوجه المتقدمة في فصل حق صاحب الستين، لكن الذي ينجمع منها ها هنا ثلاثة. أصحها هنا: نصف شاة. والثاني: شاة. والثالث: ثلثا شاة. ولو ملك ستين، خلط كل عشرين بعشرين لرجل، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى صاحب الستين نصف شاة، وفي أصحاب العشرينات وجهان. إن ضممنا إلى خليط خليطه، فعلى كل واحد سدس شاة، وإلا فربع. وإن قلنا: بخلطة العين، فعلى كل واحد من أصحاب العشرينات نصف شاة، وفي صاحب الستين أوجه. أحدها: يلزمه شاة، والثاني: نصف. والثالث: ثلاثة أرباع شاة. والرابع: شاة ونصف، وفي عشرين: نصف. ولو ملك خمسا وعشرين من الابل، فخالط بكل خمس خمسا لآخر، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى صاحب الخمس والعشرين نصف حقة، وفي واجب كل واحد من خلطائه وجهان. أصحهما: عشر حقة. والثاني: سدس بنت مخاض. وإن قلنا بخلطة العين، فعلى كل واحد من(2/39)
خلطائه شاب، وفي صاحب الخمس والعشرين الاوجه. على الاول: بنت مخاض. وعلى الثاني: نصف حقة. وعلى الثالث: خمسة أسداس بنت مخاض. وعلى الرابع: خمس شياه. ولو ملك عشرا من الابل، فخلط خمسا بخمس عشرة لغيره، وخمسا بخمس عشرة لآخر، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى صاحب العشر ربع بنت لبون. وفي صاحبيه وجهان. إن ضممناه إلى خليطه فقط، لزمه ثلاثة أخماس بنت مخاض، وإن ضممناه أيضا إلى خليط خليطه، لزمه ثلاثة أثمان بنت لبون. وإن قلنا: بخلطة العين، فعلى كل واحد من صاحبيه ثلاث شياه، وفي صاحب العشر، الاوجه. على الاول: يلزمه شاتان، وعلى الثاني: ربع بنت لبون، وعلى الثالث: خمسا بنت مخاض، وعلى الرابع: شاتان كالوجه الاول. ولو ملك عشرين من الابل، خلط كل خمسة بخمس وأربعين لرجل. فإن قلنا: بخلطة الملك، لزمه الاغبط من نصف بنت لبون، وخمسي حقة على المذهب بناء على ما تقدم، أن الابل إذا بلغت مائتين، فالمذهب: أن واجبها الاغبط من خمس بنات لبون، وأربع حقاق، وجملة الاموال هنا مائتان، وفيما يجب على كل واحد من الخلطاء، وجهان، إن ضممناه إلى خليط خليطه أيضا، لزمه بنت لبون وثمنها، أو تسعة أعشار حقة، وإن لم تضم إلا إلى خليطه، لزمه تسعة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا من جذعة. وإن قلنا: بخلطة العين، لزم كل واحد من الخلطاء تسعة أعشار حقة، وفي صاحب العشرين، الاوجه. على الاول: أربع شياه، وعلى الثاني: الاغبط من نصف بنت لبون، وخمسي حقة، وعلى الثالث: أربعة أجزاء من ثلاثة عشر جزءا من جذعة، وعلى الرابع: أربع شياه كالاول. وكل هذه المسائل، مفروضة فيما (إذا) اتفقت أوائل الاحوال، فإن اختلفت، انضم إلى هذه الاختلافات ما سبق من الخلاف عند اختلاف الحول. مثاله: في الصورة الاخيرة اختلف الحول، فيزكون في السنة الاولى زكاة الانفراد كل لحوله، وفي باقي السنين، يزكون كلهم زكاة الخلطة، هذا هو(2/40)
المذهب. وعلى القديم: يزكون في السنة الاولى أيضا بالخلطة، وعلى وجه ابن سريج: لا تثبت لهم الخلطة أبدا ولو خلط خمس عشرة من الغنم بخمس عشرة لغيره، ولاحدهما خمسون منفردة، فإن قلنا: بخلطة العين، فلا شئ على صاحب الخمس عشرة، لان المختلط دون نصاب، وعلى الآخر، شاة عن الخمس والستين، كمن خالط ذميا. وإن قلنا: بخلطة الملك، فوجهان. أحدهما: لا أثر لهذه الخلطة لنقصان المختلط عن النصاب. والثاني: تثبت الخلطة ويضم الخمسون إلى الثلاثين، فيجب شاة، منها على صاحب الخمسين ستة أثمان ونصف ثمن، والباقي على الآخر. قلت: أصحهما: تثبت. والله أعلم. الشرط الثالث لوجوب زكاة النعم: الحول. فلا زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا النتاج، فإنه يضم إلى الامات بشرطين. أحدهما: أن يحدث قبل تمام الحول وإن قلت البقية، فلو حدث بعد الحول والتمكن من الاداء، لم يضم إلى الامات في الحول الاول قطعا، ويضم في الثاني، وإن حدث بعد الحول وقبل إمكان الاداء، لم يضم في الحول الماضي على المذهب. وقيل: في ضمه قولان.(2/41)
الشرط الثاني: أن يحدث النتاج بعد بلوغ الامات نصابا، فلو ملك دون النصاب، فتوالدت وبلغت نصابا، فابتداء الحول من حين بلوغه، وإذا وجد الشرطان، فماتت الامات كلها أو بعضها، والنتاج نصاب، زكى النتاج بحول الامات على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه قاله الانماطي: لا يزكي بحول الامات إلا إذا بقي منها نصاب. ووجه ثالث: يشترط بقاء شئ من الامات ولو واحدة، وفائدة ضم النتاج إلى الامات، إنما يظهر إذا بلغت به نصابا آخر، بأن ملك مائة شاة فولدت إحدى وعشرين، فيجب شاتان، ولو تولدت عشرون فقط، لم يكن فيه فائدة. أما المستفاد بشراء أو هبة أو إرث، فلا يضم إلى ما عنده في الحول، ولكن يضم إليه في النصاب على الصحيح وبيانه بصور. منها: ملك ثلاثين بقرة ستة أشهر، ثم اشترى عشرا، فعليه عند تمام حول(2/42)
الاصل تبيع، وعند تمام حول العشر، ربع مسنة، فإذا جاء حول ثان للاصل، لزمه ثلاثة أرباع مسنة، وإذا تم حول ثان للعشر، لزمه ربع مسنة، وهكذا أبدا. وعن ابن سريج: أن المستفاد لا يضم إلى الاصل في النصاب، كما لا يضم إليه في الحول. فعلى هذا: لا ينعقد الحول على العشر حتى يتم حول الثلاثين، ثم يستأنف حول الجميع. ومنها: لو ملك عشرين من الابل ستة أشهر، ثم اشترى عشرا، لزمه عند تمام حول العشرين أربع شياه، وعند تمام حول العشر، ثلث بنت مخاض، فإذا حال حول ثان على العشرين، ففيها ثلثا بنت مخاض، وإذا حال الحول الثاني على العشر، فثلث بنت مخاض، وهكذا يزكي أبدا. وعلى المحكي عن ابن سريج: عليه أربع شياه عند تمام حول العشرين. ولا نقول هنا: لا ينعقد الحول على العشر، حتى يستفتح حول العشرين، لان العشر من الابل نصاب، بخلاف العشر من البقر، ولو كانت المسألة بحالها، واشترى خمسا، فإذا تم حول العشرين، فعليه أربع شياه، فإذا تم حول الخمس، فعليه خمس بنت مخاض، وإذا تم حول الثاني على الاصل، فأربعة أخماس بنت مخاض، وعلى هذا القياس. وعند ابن سريج: في العشرين أربع شياه أبدا عند تمام حولها، وفي الخمس: شاة أبدا. وحكي وجه: أن الخمس لا تجزئ في الحول حتى يتم حول الاصل، ثم ينعقد الحول على جميع المال، وهذا يطرد في العشر في الصورة السابقة. ومنها: ملك أربعين من الغنم غرة المحرم، ثم اشترى أربعين غرة صفر، ثم أربعين غرة شهر ربيع، وقد تقدمت مع أشباهها في باقي باب الخلطب. فرع الاعتبار في النتاج بالانفصال، فلو خرج بعض الجنين وتم الحول قبل انفصاله، فلا حكم له، ولو اختلف الساعي والمالك، فقال المالك: حصل النتاج بعد الحول، وقال الساعي: قبله. أو قال: حصل من غير النصاب. وقال الساعي: بل من نفس النصاب، فالقول قول المالك، فإن اتهمه، حلفه. قلت: قال أصحابنا: لو كان عنده نصاب فقط، فهلك منه واحدة، وولدت واحدة في حالة واحدة، لم ينقطع الحول، لانه لم يخل من نصاب. قال صاحب(2/43)
البيان: ولو شك، هل كان التلف والولادة دفعة واحدة، أو سبق أحدهما، لم ينقطع الحول، لان الاصل بقاؤه. والله أعلم. الشرط الرابع: بقاء الملك في الماشية جميع الحول، فلو زال الملك في خلال الحول، انقطع الحول، ولو بادل ماشيته بماشية من جنسها أو من غيره، استأنف كل واحد منهما الحول، وكذا لو بادل الذهب بالذهب، أو بالورق، استأنف الحول إن لم يكن صيرفيا يقصد التجارة به، فإن كان، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: ينقطع. والثاني: لا. هذا كله في المبادلة الصحيحة. أما الفاسدة، فلا تقطعه سواء اتصل بها القبض، أم لا. ثم لو كانت سائمة وعلفها المشتري، قال في التهذيب: هو كعلف الغاصب، وفي قطعه الحول، وجهان. قال ابن كج: عندي أنه ينقطع، لانه مأذون له، فهو كالوكيل، بخلاف الغاصب، ولو باع معلوفة بيعا فاسدا، فأسامها المشتري، فهو كإسامة الغاصب. فرع لو باع النصاب، أو بادل قبل تمام الحول، ووجد المشتري به عيبا قديما، نظر، إن لم يمض عليه حول من يوم الشراء، فله الرد بالعيب، والمردود عليه يستأنف الحول، سواء رد قبل القبض أو بعده، وإن مضى حول من يوم الشراء، ووجبت فيه الزكاة، نظر، إن لم يخرجها بعد، فليس له الرد، سواء إن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو بالذمة، لان للساعي أخذ الزكاة من عينها لو تعذر أخذها من المشتري، وذلك عيب حادث، ولا يبطل حق الرد بالتأخير إلى أن يؤدي(2/44)
الزكاة، لانه غير متمكن منه قبله، وإنما يبطل بالتأخير مع التمكن، ولا فرق في ذلك بين عروض التجارة والماشية التي تجب زكاتها من غير جنسها، وهي الابل دون خمس وعشرين، وبين سائر الاموال. وفي كلام ابن الحداد: تجويز الرد قبل إخراج الزكاة، ولم يثبتوه وجها. وإن أخرج الزكاة، نظر، إن أخرجها من مال آخر، بني جواز الرد على أن الزكاة تتعلق بالعين، أم بالذمة ؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: بالذمة والمال مرهون به، فله الرد، كما لو رهن ما اشتراه، ثم انفك الرهن، ووجد به عيبا. وإن قلنا: المساكين شركاء، فهل له الرد ؟ فيه طريقان. أحدهما، وهو الصحيح عند الشيخ أبي علي وقطع به كثيرون: له الرد. والثاني، وبه قطع العراقيون والصيدلاني وغيره: أنه على وجهين، كما لو اشترى شيئا وباعه وهو غير عالم بعيب، ثم اشتراه أو ورثه، هل له رده ؟ فيه خلاف. ولنا وجه: أنه ليس له الرد على غير قول الشركة أيضا، لان ما أخرجه عن الزكاة، قد يظهر مستحقا فيتبع الساعي عين النصاب. ومنهم من خص الوجه بقدر الزكاة، وجعل الزائد على قولي تفريق الصفقة، وهذا الوجه شاذ منكر، وإن أخرج الزكاة من نفس المال، فإن كان الواجب من جنس المال أو من غيره، فباع منه بقدر الزكاة، فهل له رد الباقي ؟ فيه ثلاثة أقوال. المنصوص عليه في الزكاة: ليس له ذلك، وهذا إذا لم نجوز تفريق الصفقح. وعلى هذا، هل يرجع بالارش ؟ وجهان. أحدهما: لا يرجع إن كان المخرج باقيا في يد المساكين، فإنه قد يعود إلى ملكه فيرد الجميع، وإن كان تالفا، رجع. والثاني: يرجع مطلقا وهو ظاهر النص، لان نقصانه كعيب حادث، فلو حدث عيب، رجع بالارش ولم ينتظر زوال العيب. والقول الثاني: يرد الباقي بحصته من الثمن، وهذا إذا جوزنا تفريق الصفقة. والقول الثالث: يرد الباقي وقيمة المخرج في الزكاة، ويسترد جميع الثمن ليحصل غرض الرد، ولا تتبعض الصفقة، ولو اختلفا في قيمة المخرج على هذا القول، فقال البائع: ديناران، وقال المشتري: دينار، فقولان. أحدهما: القول قول المشتري، لانه غارم. والثاني: قول البائع، لان ملكه ثابت على الثمن، فلا يسترد منه إلا ما أقر به.(2/45)
فرع حكم الاقالة، حكم الرد بالعيب في جميع ما ذكرنا، ولو باع النصاب في أثناء الحول بشرط الخيار، وفسخ البيع، فإن قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع أو موقوف، بنى على حوله. وإن قلنا: الملك للمشتري، استأنف البائع بعد الفسخ. فرع لو ارتد في أثناء الحول، إن قلنا: يزول ملكه بالردة، انقطع الحول، فإن أسلم، استأنف. وفيه وجه: أنه لا ينقطع، بل يبني كما يبني الوارث على قول. وإن قلنا: لا يزول، فالحول مستمر وعليه الزكاة عند تمامه. وإن قلنا: ملكه موقوف، فإن هلك على الردة، تبينا الانقطاع من وقت الردة، وإن أسلم، تبينا استمرار الملك. ووجوب الزكاة على المرتد في الاحوال الماضية في الردة مبني على هذا الخلاف. فرع إذا مات في أثناء الحول، وانتقل المال إلى وارثه، هل يبنى على حول الميت ؟ قولان. القديم: نعم، والجديد: لا، بل يبتدئ حولا، وقيل: يبتدئ قطعا، وأنكر القديم. قلت: المذهب: أنه يبتدئ حولا، سواء أثبتنا الخلاف، أم لا. والله أعلم. فإذا قلنا: لا يبني فكان مال تجارة، لم ينعقد الحول عليه حتى يتصرف الوارث بنية التجارة، وإن كان سائمة ولم يعلم الوارث الحال حتى حال الحول، فهل تلزمه الزكاة، أم يبتدئ الحول من وقت علمه ؟ فيه خلاف مبني على أن قصد السوم، هل يعتبر ؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى. فرع لا فرق في انقطاع الحول بالمبادلة والبيع في أثنائه بين أن يكون محتاجا إليه، وبين أن لا يكون، بل قصد الفرار من الزكاة، إلا أنه يكره الفرار كراهة تنزيه، وقيل: تحريم، وهو خلاف المنصوص، وخلاف ما قطع به الجمهور.(2/46)
الشرط الخامس: السوم، فلا تجب الزكاة في النعم، إلا أن تكون سائمة، فإن علفت في معظم الحول ليلا ونهارا، فلا زكاة، وإن علفت قدرا يسيرا لا يتمول، فلا أثر له قطعا. والزكاة واجبة، وإن أسيمت في بعض الحول، وعلفت دون معظمه، فأربعة أوجه. أحدها، وهو الذي قطع به الصيدلاني وصاحب المهذب وكثير من الائمة: إن علفت قدرا تعيش الماشية بدونه، لم يؤثر، ووجبت الزكاة، وإن كان قدرا تموت لو لم ترع معه، لم تجب الزكاة، قالوا: والماشية تصبر اليومين، ولا تصبر الثلاثة. قال إمام الحرمين: ولا يبعد أن يلحق الضرر البين بالهلاك على هذا الوجه، والوجه الثاني: إن علفت قدرا يعد مؤونة بالاضافة إلى رمق السائمة، فلا زكاة، وإن احتقر بالاضافة إليه، وجبت الزكاة، وفسر الرمق بدرها، ونسلها، وأصوافها، وأوبارها، ويجوز أن يقال: المراد رمق إسامتها. والثالث: لا ينقطع الحول ولا تمتنع زكاة إلا بالعلف في أكثر السنة. وقال إمام الحرمين: على هذا الوجه لو استويا، ففيه تردد. والظاهر السقوط. والرابع: كل ما يتمول من العلف، وإن قل، يقطع السوم، فإن أسيمت بعده، استأنفت الحول. ولعل الاقرب تخصيص هذه الاوجه بما إذا لم يقصد بعلفه شيئا، فإن قصد به قطع السوم، انقطع الحول لا محالة، كذا(2/47)
ذكره صاحب العدة وغيره: ولا أثر لمجرد نية العلف، ولو كانت تعلف ليلا وترعى نهارا في جميع السنة، كان على الخلاف. قلت: ولو أسيمت في كلا مملوك، فهل هي سائمة، أم معلوفة ؟ وجهان حكاهما في البيان وأصح الاوجه الاربعة: أولها، وصححه في المحرر. والله أعلم. فرع السائمة التي تعمل كالنواضح وغيرها، فيها وجهان. أصحهما: لا زكاة فيها، وبه قطع معظم العراقيين، لانها كثياب البدن، ومتاع الدار، والثاني: تجب. فرع هل يعتبر القصد في العلف والسوم ؟ وجهان يتفرع عليهما مسائل. منها: لو اعتلفت السائمة بنفسها القدر المؤثر، ففي انقطاع الحول وجهان، الموافق منهما لاختيار الاكثرين في نظائرها أنه ينقطع، لانه فات شرط السوم، فصار كفوات سائر شروط الزكاة، لا فرق بين فقدها قصدا أو اتفاقا، ولو سامت الماشية بنفسها، ففي وجوب الزكاة الوجهان. وقيل: لا تجب هنا قطعا، ولو علف ماشيته لامتناع الرعي بالثلج، وقصد ردها إلى الاسامة عند الامكان، انقطع الحول على الاصح لفوات الشرط. ولو غصب سائمة فعلفها، فلنا خلاف يأتي إن شاء(2/48)
الله تعالى في أن المغصوب هل فيه زكاة، أم لا ؟ إن قلنا: لا زكاة فيه، فلا شئ، وإلا فأوجه، أصحها عند الاكثرين: لا زكاة لفوات الشرط. والثاني: تجب، لان فعله كالعدم. والثالث: إن علفها بعلف من عنده، لم ينقطع، وإلا انقطع. ولو غصب معلوفة فأسامها، وقلنا: تجب الزكاة في المغصوب، فوجهان. أصحهما: لا تجب. والثاني: تجب، كما لو غصب حنطة وبذرها، يجب العشر فيما ينبت، فإن أوجبناها، فهل تجب على الغاصب لانها مؤونة وجبت بفعله، أم على المالك لان نفع حقه في المؤونة عائد إليه ؟ فيه وجهان. فإن قلنا: على المالك، ففي رجوعه بها على الغاصب طريقان. أحدهما: القطع بالرجوع. وأشهرهما: على وجهين. أصحهما: الرجوع. فإن قلنا: يرجع، فيرجع قبل إخراج الزكاة، أم بعده ؟ وجهان. وقياس المذهب: أن الزكاة إن وجبت، كانت على المالك، ثم يغرم الغاصب. أما إيجاب الزكاة على غير المالك، فبعيد. الشرط السادس: كمال الملك، وفي هذا الشرط خلاف يظهر بتفريع مسائله. فإذا ضل ماله، أو غصب، أو سرق، وتعذر انتزاعه، أو أودعه فجحد، أو وقع في بحر، ففي وجوب الزكاة فيه ثلاثة طرق. أصحها: أن المسألة على قولين. أظهرهما وهو الجديد: وجوبها، والقديم: لا تجب. والطريق الثاني: القطع بالوجوب، والثالث: إن عادت بتمامها، وجبت، وإلا فلا. فإن قلنا بالطريق(2/49)
الاول، فالمذهب: أن القولين جاريان مطلقا. وقيل: موضعهما إذا عاد المال بلا نماء، فإن عاد معه، وجب الزكاة قطعا. وعلى هذا التفصيل، لو عاد بعض النماء، كان كما لو لم يعد معه شئ. ومعنى العود بلا نماء: أن يتلفه الغاصب ويتعذر تغريمه. فأما إن غرم، أو تلف في يده شئ كان يتلف في يد المالك أيضا، فهو كما لو عاد النماء بعينه، هذا كله إذا عاد المال إليه، ولا خلاف أنه لا يجب إخراج الزكاة قبل عود المال إليه، فلو تلف في الحيلولة بعد مضي أحوال، سقطت الزكاة على قول الوجوب، لانه لم يتمكن، والتلف قبل التمكن يسقط الزكاة. وموضع الخلاف في الماشية المغصوبة إذا كانت سائمة في يد المالك والغاصب، فان علفت في يد أحدهما، عاد النظر المتقدم قريبا في إسامة الغاصب وعلفه هل يؤثران ؟ وزكاة الاحوال الماضية، إنما تجب على قول الوجوب إذا لم تنقص الماشية عن النصاب بما تجب الزكاة، بأن كان فيها وقص. أما إذا كانت نصابا فقط، ومضت الاحوال، فالحكم على هذا القول كما لو كانت في يده ومضت الاحوال ما يخرج منها زكاة، وسنذكره إن شاء الله تعالى. فرع لو كان له أربعون شاة، فضلت واحدة، ثم وجدها، إن قلنا: لا زكاة في الضال، استأنف الحول، سواء وجدها قبل تمام الحول أو بعده، فإن أوجبناها في الضال ووجدها قبل تمام الحول، بنى، وإن وجدها بعده زكى الاربعين.(2/50)
فرع لو دفن ماله بموضع ثم نسيه، ثم تذكر، فهذا ضال، ففيه الخلاف سواء دفن في داره أو في غيرها، وقيل: تجب الزكاة هنا قطعا لتقصيره. فرع لو أسر المالك، وحيل بينه وبين ماله، وجبت الزكاة على المذهب، لنفوذ تصرفه. وقيل: فيه الخلاف، ولو اشترى مالا زكويا فلم يقبضه حتى مضى حول في يد البائع، فالمذهب وجوب الزكاة على المشتري، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا تجب قطعا، لضعف الملك. وقيل: فيه الخلاف في المغصوب، ولو رهن ماشية أو غيرها من أموال الزكاة، فالمذهب وبه قطع الجمهور: وجوب الزكاة. وقيل: وجهان بناء على المغصوب لامتناع التصرف. والذي قاله الجمهور، تفريع على أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة، وهو الراجح. ولنا فيه خلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وإذا أوجبنا الزكاة في المرهون، فمن أين يخرج ؟ فيه كلام يأتي قبيل زكاة المعشرات. فرع الدين الثابت على الغير، له أحوال. أحدها: أن لا يكون لازما ك: مال الكتابة، فلا زكاة فيه. والثاني: أن يكون لازما، وهو ماشية، فلا زكاة أيضا. الثالث: أن يكون دراهم أو دنانير، أو عروض تجارة، فقولان. القديم: لا زكاة في الدين بحال. والجديد وهو المذهب الصحيح المشهور: وجوبها في الدين على الجملة. وتفصيله: أنه إن تعذر الاستيفاء لاعسار من عليه الدين أو جحوده ولا بينة، أو مطله، أو غيبته، فهو كالمغصوب تجب الزكاة على المذهب. وقيل: تجب في الممطول، وفي الدين على ملئ غائب قطعا، ولا يجب الاخراج قبل حصوله(2/51)
قطعا، وإن لم يتعذر استيفاؤه، بأن كان على ملئ باذل، أو جاحد عليه بينة، أو يعلمه القاضي، وقلنا: يقضى بعلمه، فإن كان حالا، وجبت الزكاة، ولزم إخراجها في الحال، وإن كان مؤجلا، فالمذهب أنه على القولين في المغصوب. وقيل: تجب الزكاة قطعا. وقيل: لا تجب قطعا. فإن أوجبناها، لم يجب الاخراج حتى يقبضه على الاصح. وعلى الثاني: تجب فيه الحال. فرع المال الغائب، إن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع خبره، فكالمغصوب. وقيل: تجب قطعا، ولا يجب الاخراج حتى يصل إليه، وإن كان مقدورا عليه، وجب إخراج زكاته في الحال، ويخرجها في بلد المال، فإن أخرجها في غيره، ففيه خلاف نقل الزكاة. وهذا إذا كان المال مستقرا في بلد، فإن كان سائرا، قال في العدة: لا يخرج زكاته حتى يصل إليه، فإذا وصل إليه، زكى لما مضى بلا خلاف. فصل إذا باع مالا زكويا قبل تمام الحول بشرط الخيار، فتم الحول في مدة الخيار، أو اصطحبا في مدة خيار المجلس فتم فيها الحول، بني على أن ملك المبيع في مدة الخيار لمن ؟ فإن قلنا: للبائع، فعليه زكاته، وإن قلنا: للمشتري، فلا زكاة على البائع، ويبتدئ المشتري حوله من وقت الشراء. وإن قلنا: موقوف، فإن تم البيع، كان للمشتري، وإلا فللبائع. وحكم الحالين ما تقدم، هكذا ذكره الجمهور، ولم يتعرضوا لخلاف بعد البناء المذكور. قال إمام الحرمين: إلا صاحب التقريب فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يخرج على القولين في المغصوب، بل أولى، لعدم استقرار الملك، وهكذا إذا كان(2/52)
الخيار للبائع، أو لهما. أما إذا كان المشتري وحده، وقلنا: الملك له، فملكه ملك زكاة بلا خلاف، لكمال ملكه وتصرفه. وعلى قياس هذه الطريقة يجري الخلاف في جانب البائع أيضا إذا قلنا: الملك له وكان الخيار للمشتري. فرع اللقطة في السنة الاولى، باقية على ملك المالك، فلا زكاة فيها على الملتقط. وفي وجوبها على المالك الخلاف في المغصوب والضال، ثق إن لم يعرفها حولا، فهكذا الحكم في جميع السنين، وإن عرفها، بني حكم الزكاة على أن الملتقط، متى تملك اللقطة ؟ بمضي سنة التعريف، أم باختيار التملك، أم بالتصرف ؟ فيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: يملك بانقضائها، فلا زكاة على المالك، وفي وجوبها على الملتقط وجهان. وإن قلنا: يملك باختيار التملك وهو المذهب، نظر، إن لم يتملكها، فهي باقية على ملك المالك. وفي وجوب الزكاة عليه طريقان. أصحهما على قولين: كالسنة الاولى. والثاني: لا زكاة قطعا، لتسلط الملتقط عليها. وإن تملكها الملتقط، لم تجب زكاتها على المالك، لكنه تستحق قيمتها على الملتقط، ففي وجوب زكاة القيمة عليه خلاف من وجهين. أحدهما: كونها دينا. والثاني: كونها مالا ضالا. ثم الملتقط مديون بالقيمة، فإن لم يملك غيرها، ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ وإن ملك غيرها وما بقي بالقيمة، وجبت الزكاة على الاصح. وإن قلنا: يملك بالتصرف ولم يتصرف، فحكمه كما إذا لم يتملك، وقلنا: لا يملك إلا به. واعلم أن الملتقط لو وجد المالك بعد تملكها، فرد اللقطة إليه، تعين عليه القبول، وفي تمكن المالك من استردادها قهرا، وجهان، وهذا يوجب أن تكون القيمة الواجبة معرضة للسقوط، وحينئذ لا يبعد التردد في امتناع الزكاة، وإن قلنا: الدين يمنع الزكاة كالتردد في وجوب الزكاة على الملتقط مع الحكم بثبوت تملكه، لكونه معرضا للزوال. فصل الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها، وهو المذهب والمنصوص في أكثر الكتب الجديدة: لا يمنع، والثاني: يمنع، قاله(2/53)
في القديم، واختلاف العراقيين، والثالث: يمنع في الاموال الباطنة، وهي الذهب والفضة، وعروض التجارة، ولا يمنع في الظاهرة، وهي الماشية، والزرع، والثمر، والمعدن، لان هذه نامية بنفسها، وهذا الخلاف جار، سواء كان الدين حالا، أو مؤجلا، وسواء كان من جنس المال، أم لا، هذا هو المذهب، وقيل: إن قلنا: يمنع عند اتحاد الجنس، فعند اختلافه وجهان. فإذا قلنا: الدين يمنع، فأحاطت بالرجل ديون وحجر عليه القاضي، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يحجر عليه ويفرق ماله بين الرماء، فيزول ملكه ولا زكاة، والثاني: أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه، ويمكنهم من أخذه، فحال الحول قبل أخذهم، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: لا زكاة عليه أيضا، لضعف ملكه، وقيل: فيه خلاف المغصوب، وقيل: خلاف اللقطة في السنة الثانية، قاله القفال. الثالث: أن لا يفرق ماله، ولا يعين لكل واحد شيئا، ويحول الحول في دوام الحجر، ففي وجوب الزكاة ثلاثة طرق. أصحها: أنه على الخلاف في المغصوب، والثاني: القطع بالوجوب، والثالث: القطع بالوجوب في المواشي، لان الحجر لا يؤثر في نمائها. وأما الذهب والفضة، فعلى الخلاف، لان نماءهما بالتصرف وهو ممنوع منه. فرع إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، ففي علته وجهان. أصحهما: ضعف ملك المديون، والثاني: أن مستحق الدين تلزمه الزكاة. فلو أوجبناها على المديون أيضا، أدى ذلك إلى تثنية الزكاة في المال الواحد. ويتفرع على الوجهين مسائل. أحدها: لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي، فعلى الوجه(2/54)
الاول: لا تجب. وعلى الثاني: تجب. الثانية: لو كان الدين حيوانا، بأن ملك أربعين شاة سائمة، وعليه أربعون شاة سلما، فعلى الاول لا تجب، وعلى الثاني: تجب. ومثله: لو أنبتت أرضه نصابا من الحنطة، وعليه مثله سلما. الثالثة: لو ملك نصابا والدين الذي عليه دون نصاب، فعلى الاول: لا زكاة، وعلى الثاني: تجب، كذا أطلقوه. ومرادهم: إذا لم يملك صاحب الدين غيره من دين أو عين، فلو ملك ما يتم النصاب، فعليه الزكاة باعتبار هذا المال. وقطع الاكثرون في هذه الصورة بما يقتضيه الاول. ولو ملك بقدر الدين مما لا زكاة فيه كالعقار وغيره، وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا على المذهب، وقيل: لا تجب بناء على علة التثنية. ولو زاد المال الزكوي على الدين، فإن كان الفاضل نصابا، وجبت الزكاة فيه. وفي الباقي القولان، وإلا لم تجب على هذا القول، لا في قدر الدين ولا في الفاضل. فرع ملك أربعين شاة، فاحتاج من يرعاها، فحال الحول، فإن استأجره بشاة معينة من الاربعين مختلطة بباقيها، وجب شاة على الراعي، منها جزء من أربعين جزءا، والباقي على المستأجر. وإن كانت منفردة، فلا زكاة على واحد منهما. وإن استأجره بشاة في الذمة، فإن كان للمستأجر مال آخر يفي بها، وجبت الزكاة في الاربعين، وإلا، فعلى القولين في أن الدين هل يمنع وجوبها ؟ فرع إذا ملك مالين زكويين، كنصاب من الغنم، ونصاب من البقر، وعليه دين، نظر، إن لم يكن الدين من جنس ما يملكه، قال في التهذيب: يوزع عليهما. فإن خص كل واحد ما ينقص به عن النصاب، فلا زكاة على القول الذي تفرع عليه. وذكر أبو القاسم الكرخي وصاحب الشامل أنه يراعى الاغبط للمساكين، كما لو ملك مالا آخر غير زكوي، صرفنا الدين إليه رعاية لحقهم.(2/55)
وحكي عن ابن سريج ما يوافق هذا. وإن كان الدين من جنس أحد المالين. فإن قلنا: الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه، فالحكم كما لو لم يكن من جنس أحدهما، وإلا اختص بالجنس. فرع إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، فسواء دين الله عز وإلا اختص بالجنس وجل، ودين الآدمي، فلو ملك نصاب ماشية أو غيرها، فنذر التصدق بهذا المال، أو بكذا من هذا المال، فمضى الحول قبل التصدق، فطريقان. أصحهما: القطع بمنع الزكاة، لتعلق النذر بعين المال. والثاني: أنه على الخلاف في الدين. ولو قال: جعلت هذا المال صدقة، أو هذه الاغنام ضحايا، أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة، وقلنا: تتعين للتضحية بهذه الصيغة، فالمذهب: لا زكاة، وقيل: على الخلاف. ولو نذر التصدق بأربعين من الغنم، أو بمائة درهم ولم يضف إلى ماشيته ودراهمه، فإن قلنا: دين الآدمي لا يمنع، فهذا أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: عند الامام لا يمنع، لان هذا الدين لا مطالبة به في الحال، فهو أضعف ولان النذر يشبه التبرعات، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره، فالوجوب به أضعف. ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه، هل يكون وجوب الحج دينا مانعا من الزكاة ؟ حكمه حكم دين النذر الذي تقدم. فرع إذا قلنا: الدين لا يمنع الزكاة، فمات قبل الاداء، واجتمع الدين والزكاة في تركته، ففيه ثلاثة أقوال. أظهرها: أن الزكاة تقدم كما تقدم في حال الحياة، ثم يصرف الباقي إلى الغرماء. والثاني: يقدم دين الآدمي، كما يقدم القصاص على حد السرقة. والثالث: يستويان فيوزع عليهما. وقيل: تقدم الزكاة المتعلقة بالعين قطعا، والاقوال في اجتماع الكفارات وغيرها، فيما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدميين. وقد تكون الزكاة من هذا القبيل، بأن يتلف ماله بعد الوجوب والامكان، ثم يموت وله مال، فإن الزكاة هنا متعلقة بالذمة.(2/56)
فصل إذا أحرز الغانمون الغنيمة، فينبغي للامام أن يعجل قسمتها، ويكره له التأخير من غير عذر، فإذا قسم، فكل من أصابه مال زكوي وهو نصاب، أو بلغ مع غيره من ملكه نصابا، ابتدأ من حينئذ حوله، ولو تأخرت القسمة بعذر أو غيره حولا، فإن لم يختاروا التملك، فلا زكاة، لانها غير مملوكة للغانمين، أو مملوكة ملكا في غاية من الضعف، يسقط بالاعراض. وللامام في قسمتها أن يخص بعضهم ببعض الانواع، أو بعض الاعيان إن اتحد النوع، ولا يجوز هذا في سائر القسم إلا بالتراضي، وإن اختاروا التملك، ومضى حول من وقت الاختيار، فإن كانت الغنيمة أصنافا، فلا زكاة، سواء كانت مما تجب الزكاة في جميعها أو بعضها، لان كل واحد لا يدري ما يصيبه وكم يصيبه، وإن لم يكن إلا صنف زكوي، وبلغ نصيب كل واحد نصابا، فعليهم الزكاة، وإن بلغ مجموع أنصبائهم نصابا، وكانت. ماشية، وجبت الزكاة وهم خلطاء، وكذا لو كانت غير ماشية وأثبتنا الخلطة فيه، ولو كانت أنصباؤهم تتم بالخمس نصابا، فلا زكاة عليهم، لان الخلطة مع أهل الخمس لا تثبت، لانه لا زكاة فيه بحال، لانه لغير معين، فأشبه مال بيت المال، والمساجد، والربط. هذا حكم الغنيمة على ما ذكره الجمهور من العراقيين، والخراسانيين، وهو المذهب، ولنا وجه قطع به في التهذيب: أنه لا زكاة قبل إفراز الخمس بحال، ووجه: أنه تجب الزكاة في حال عدم اختيار الملك، وقال إمام الحرمين والغزالي: إن قلنا: الغنيمة لا تملك قبل القسمة، فلا زكاة، وإن قلنا: تملك، فثلاثة أوجه. أحدها: لا زكاة، لضعف الملك، والثاني: تجب، لوجود الملك، والثالث: إن كان فيها ما ليس زكويا فلا زكاة، وإلا وجبت. فصل إذا أصدقها أربعين شاة سائمة بأعيانها، لزمها الزكاة إذا تم حولها من(2/57)
يوم الاصداق، سواء دخل بها، أم لا، وسواء قبضتها، أم لا، وفي قول مخرج: أنه إذا لم يدخل بها، فحكمه حكم الاجرة، كما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولنا وجه: أنها ما لم تقبضها، لا زكاة عليها، ولا على الزوج، تفريعا على أن الصداق مضمون ضمان العقد، فيكون على الخلاف في المبيع قبل القبض، والمذهب: القطع بالوجوب عليها مطلقا، فلو طلقها قبل الدخول، نظر، فإن كان قبل الحول، عاد نصفها إلى الزوج. فإن لم يكن متميزا، فهما خليطان، فعليها عند تمام الحول من يوم الاصداق نصف شاة، وعليه عند تمام الحول من يوم الطلاق نصف شاة، وإن طلق بعد تمام الحول، ففيه ثلاثة أحوال. أحدها: أن يكون قد أخرجت الزكاة من نفس الماشية، ففيما يرجع به الزوج ثلاثة أقوال. أحدها: نصف الجملة، فإن تساوت قيمة الغنم، أخذ منها عشرين، وإن اختلفت، أخذ النصف بالقيمة، والثاني: نصف الغنم الباقية، ونصف قيمة الشاة المخرجة، والثالث: أنه بالخيار بين ما ذكرنا فق القول الثاني، وبين أن يترك الجميع ويرجع بنصف القيمة. قلت: أصحهما: الثاني، كذا صححه جماعة، منهم الرافعي في كتاب الصداق. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون أخرجها من موضع آخر، قال العراقيون وغيرهم: يأخذ نصف الاربعين، وقال الصيدلاني وجماعة: فيه وجهان. أحدهما: هذا، والثاني: يرجع إلى نصف القيمة. الحال الثالث: أن لا يخرجها أصلا. فالمذهب: أن نصف الاربعين يعود إلى الزوج شائعا، فإذا جاء الساعي وأخذ من عينها شاة، رجع الزوج عليها بنصف قيمتها.(2/58)
فصل إذا أجر دارا أربع سنين بمائة دينار معجلة وقبضها، ففي كيفية إخراج زكاتها قولان. أحدهما: يلزمه عند تمام السنة الاولى زكاة جميع المائة، لان ملكه تام، وهذا هو الراجح عند صاحبي المهذب والشامل، والثاني: وهو الراجح عند الجمهور: لا يلزمه عند تمام كل سنة إلا زكاة القدر الذي استقر ملكه عليه، فإذا قلنا بالثاني، أخرج عند تمام السنة الاولى زكاة ربع المائة، وهو خمسة أثمان دينار، فإذا مضت السنة الثانية، فقد استقر ملكه على خمسين دينارا سنتين، فعليه زكاتها للسنتين، وهي ديناران ونصف، لكنه أخرج في السنة الاولى خمسة أثمان دينار، فيسقط ويجب الباقي، وهو دينار وسبعة أثمان، فإذا مضت السنة الثالثة، استقر ملكه على خمسة وسبعين دينارا ثلاث سنين، وزكاتها فيها خمسة دنانير وخمسة أثمان دينار، أخرج منها في السنتين دينارين ونصفا، فيخرج الباقي، فإذا مضت الرابعة، استقر ملكه على المائة أربع سنين، وزكاتها فيها عشرة دنانير، أخرج منها خمسة وخمسة أثمان، فيخرج الباقي، هذا إذا أخرج من غير المائة، فإن أخرج منها واجب السنة الاولى، فعند تمام الثانية يخرج زكاة الخمسة والعشرين الاولى سوى ما أخرج في السنة الاولى، وزكاة خمسة وعشرين أخرى لسنتين، وعند الثالثة والرابعة، يقاس بما ذكرناه، وأما إذا قلنا بالقول الاول، فإنه يخرج عند تمام السنة الاولى زكاة المائة، وكذلك كل سنة إن أخرج من غيرها، فإن أخرج من عينها، زكى كل سنة ما بقي. واختلف العراقيون في هذين القولين، فقال القاضي أبو الطيب وطائفة: هما في نفس الوجوب، وقال أبو حامد وشيعته: الوجوب ثابت قطعا، وإنما القولان في كيفية الاخراج، وهذا مقتضى كلام الاكثرين. وصورة المسألة: إذا كانت أجرة السنتين متساوية، فإن تفاوتت، زاد القدر المستقر في بعض السنتين على ربع المائة، ونقص في بعضها، فإن قيل: هل صورة المسألة فيما إذا كانت المائة في الذمة ثم نقدها، أو فيما إذا كانت الاجارة بمائة معينة، أم لافرق ؟(2/59)
الجواب، أن كلام نقله المذهب يشمل الحالتين، ولم أر فيها نصا وتفصيلا إلا في فتاوي القاضي حسين، فإنه قال في الحالة الاولى: الظاهر أنه يجب زكاة كل المائة، إذا حال الحول، لان ملكه مستقر على ما أخذ، حتى لو انهدمت الدار، لا يلزمه رد المقبوض، بل له رد مثله، وفي الحالة الثانية، قال: حكم الزكاة حكم المبيع قبل القبض، لانه معرض لان يعود إلى المستأجر بانفساخ الاجارة، وبالجملة الصورة الثانية أحق بالخلاف من الاولى، وما ذكره القاضي اختيار للوجوب في الحالتين جميعا. فرع إذا باع شيئا بنصاب من النقد وقبضه، ولم يقبض المشتري المبيع حتى حال الحول، فهل يجب على البائع إخراج الزكاة ؟ فيه القولان في الاجرة، لان الثمن قبل قبض المبيع غير مستقر، وخرجوا على القولين أيضا إذا ما أسلم نصابا في ثمرة أو غيرها، وحال الحول قبل قبض المسلم فيه، وقلنا: إن تعذر المسلم فيه، يوجب انفساخ العقد، وإن قلنا: يوجب الخيار، فعليه إخراج الزكاة قطعا. فرع أوصى لانسان بنصاب، ومات الموصي، ومضى حول من وقت موته قبل القبول، إن قلنا: الملك في الوصية يحصل بالموت، فعلى الموصى له الزكاة، ولا يضر كونه يرتد برده، وإن قلنا: يحصل بالقبول، فلا زكاة عليه. ثم إن أبقيناه على ملك الموصي، فلا زكاة على أحد، وإن قلنا: إنه للوارث فهل تلزمه الزكاة ؟ وجهان. أصحهما: لا، وإن قلنا: موقوف، فقبل، بان أنه ملكه بالموت، ولا زكاة عليه على الاصح، لعدم استقرار ملكه.
باب أداء الزكاة
وهو واجب على الفور بعد التمكن، ثم الاداء يفتقر إلى فعل ونية. أما الفعل، فثلاثة أضرب.(2/60)
أحدها: أن يفرق المالك بنفسه، وهو جائز في الاموال الباطنة، وهي الذهب، والفضة، وعروض التجارة، والركاز، وزكاة الفطر. قلت: وفي زكاة الفطر وجه، أنها من الاموال الظاهرة، حكاه في البيان ونقله في الحاوي عن الاصحاب مطلقا، واختار أنها باطنة وهو ظاهر نص الشافعي وهو المذهب. والله أعلم. وأما الاموال الظاهرة وهي المواشي، والمعشرات، والمعادن، ففي جواز تفريقها بنفسه قولان. أظهرهما وهو الجديد: يجوز، والقديم: لا يجوز، بل يجب صرفها إلى الامام إن كان عادلا، فإن كان جائرا، فوجهان. أحدهما: يجوز ولا يجب، وأصحهما: يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله، وعلى هذا القول: لو فرق بنفسه لم تحسب، وعليه أن يؤخر ما دام يرجو مجئ الساعي، فإذا أيس، فرق بنفسه. الضرب الثاني: أن يصرف إلى الامام وهو جائز. الثالث: أن يوكل في الصرف إلى الامام، أو التفرقة على الاصناف حيث تجوز التفرقة بنفسه، وهو جائز. وأما أفضل هذه الاضرب، فتفرقته بنفسه أفضل من التوكيل بلا خلاف، لان الوكيل قد يخون، فلا يسقط الفرض عن الموكل، وأما الافضل من الضربين الآخرين، فإن كانت الاموال باطنة، فوجهان. أصحهما عند جمهور الاصحاب من العراقيين وغيرهم، وبه قطع الصيدلاني: الدفع إلى(2/61)
الامام أفضل، لانه يتيقن سقوط الفرض به، بخلاف تفرقته بنفسه، فإنه قد يدفع إلى غير مستحق، والثاني: بنفسه أفضل، لانه أوثق، وليباشر العبادة، وليخص الاقارب والجيران والاحق، وإن كانت الاموال ظاهرة، فالصرف إلى الامام أفضل قطعا، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، وطرد الغزالي فيه الخلاف. ثم حيث قلنا: الصرف إلى الامام أولى، فذاك إذا كان عادلا، فإن كان جائرا، فوجهان. أحدهما: أنه كالعادل، وأصحهما: التفريق بنفسه أفضل، ولنا وجه: أنه لا يجوز الصرف إلى الجائر، وهذا غريب ضعيف مردود. قلت: والدفع إلى الامام أفضل من الوكيل قطعا، صرح به صاحب الحاوي ووجهه على ما تقدم. والله أعلم. ولو طلب الامام زكاة الاموال الظاهرة، وجب التسليم إليه بلا خلاف، بذلا للطاعة، فان امتنعوا، قاتلهم الامام، وإن أجابوا إلى إخراجها بأنفسهم، فان لم يطلبها الامام ولم يأت الساعي، أخرها رب المال ما دام يرجو مجئ الساعي، فإذا أيس، فرق بنفسه، نص عليه الشافعي. فمن الاصحاب من قال: هذا تفريع(2/62)
على جواز تفرقته بنفسه، ومنهم من قال: هذا جائز على القولين، صيانة لحق المستحقين عن التأخير، ثم إذا فرق بنفسه وجاء الساعي مطالبا، صدق رب المال بيمينه، واليمين واجبة، أو مستحبة ؟ وجهان. فان قلنا: واجبة، فنكل، أخذت منه الزكاة لا بالنكول، بل لانها كانت واجبة والاصل بقاؤها. قلت: الاصح أن اليمين مستحبة. والله أعلم. وأما الاموال الباطنة، فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، وأربابها أحق بها، فإن بذلوها طوعا، قبلها الوالي، فإن علم الامام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه، فهل له أن يقول: إما أن تدفع بنفسك، وإما أن تدفع إلي حتى أفرق ؟ فيه وجهان يجريان في المطالبة بالنذور والكفارات. قلت: الاصح وجوب هذا القول إزالة للمنكر، ولو طلب الساعي زيادة على الواجب، لا يلزم تلك الزيادة، وهل يجوز الامتناع من دفع الواجب لتعديه، أم لا يجوز خوفا من مخالفة ولاة الامر ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. والله أعلم. وأما النية، فواجبة قطعا، وهل تتعين بالقلب، أم يقوم النطق باللسان مقامها ؟ فيه طريقان. أحدهما: يتعين كسائر العبادات، وأشهرهما على وجهين، وقيل: على قولين. أصحهما: تتعين، والثاني: يتخير بين القلب، والاقتصار على(2/63)
اللسان. ثم صفة النية أن ينوي: هذا فرض زكاة مالي، أو فرض صدقة مالي، أو زكاة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، ولا يكفي التعرض لفرض المال، لان ذلك. قد يكون كفارة ونذرا، ولا يكفي مطلق الصدقة على الاصح، ولو نوى الزكاة دون الفرضية، أجزأه على المذهب، وقيل: وجهان، كما لو نوى الظهر فقط، وهذا ضعيف، فإن الظهر قد تقع نفلا، ولا تقع الزكاة إلا فرضا، ولا يجب تعيين المال المزكى، فلو ملك مائتي درهم حاضرة، ومائتين غائبة، فأخرج عشرة بلا تعيين، جاز، وكذا لو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة، فأخرج شاتين بلا تعيين، أجزأه، ولو أخرج خمسة دراهم مطلقا، ثم جان تلف أحد المالين، أو تلف أحدهما بعد الاخراج، فله أن يجعل المخرج عن الباقي، فلو عين مالا، لم ينصرف إلى غيره، كما لو أخرج الخمسة عن الغائب، فبان تالفا، لم يكن له صرفه إلى الحاضر على الاصح، ولو قال: هذه عن مالي الغائب، إن كان باقيا، فبان تالفا، لم يكن له صرفه إلى الحاضر على الاصح، ولو قال: هذه عن الغائب، فإن كان تالفا، فهي صدقة، أو قال: إن كان الغائب باقيا، فهذه زكاته، وإلا فهي صدقة، جاز، لان هذه صفة إخراج زكاة الغائب لو اقتصر على زكاة الغائب، حتى لو بان تالفا، لا يجوز له الاسترداد إلا إذا صرح فقال: هذه عن مالي الغائب، فإن بان تالفا استرددتها، وليست هذه الصورة كما لو أخرج الخمسة فقال: إن كان مورثي مات وورثت ماله، فهذه زكاته، فبان أنه ورثه، لا يحسب المخرج زكاة، لان الاصل عدم الارث، وهنا الاصل بقاء المال، والتردد اعتضد بالاصل، ونظيره أن يقول في آخر رمضان: أصوم غدا، إن كان من رمضان، يصح، ولو قال في أوله: أصوم غدا، إن كان من رمضان، لم يجزئه، وهو نظير مسألة الارث. أما إذا قال: هذه زكاة الغائب، فإن كان تالفا فعن الحاضر، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: إن كان(2/64)
الغائب باقيا، وقع عنه، وإلا وقع عن الحاضر، ولا يضر التردد، لان التعيين ليس بشرط، حتى لو قال: هذه عن الحاضر أو الغائب، أجزأه، وعليه خمسة للآخر. بخلاف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن كان دخل وإلا فعن الفائتة، لا تجزئه، لان التعيين شرط، وعن صاحب التقريب تردد في إجزائه عن الحاضر، ولو قال: هذه عن الغائب إن كان باقيا، وإلا فعن الحاضر، أو هي صدقة، وكان الغائب تالفا، لم يقع عن الحاضر، كما قال الشافعي رحمه الله: لو قال: إن كان مالي الغائب سالما فهذه زكاته، أو نافلة وكان سالما، لم يجزئه، لانه لم يخلص القصد عن الفرض، وقولنا في هذه المسائل: مال غائب، يتصور إذا كان غائبا في بلد آخر، وجوزنا نقل الصدقة، أو معه في البلد وهو غائب عن مجلسه. فرع إذا ناب في إخراج الزكاة عن المالك غيره، فله صور. منها: نيابة الولي عن الصبي والمجنون، فيجب عليه أن ينوي، قال القاضي ابن كج: فلو دفع بلا نية، لم يقع الموقع، وعليه الضمان. ومنها: أن يتولى السلطان قسم زكاة انسان، وذلك بأن يدفعها إلى السلطان طوعا، أو يأخذها منه كرها، فإن دفع طوعا ونوى عند الدفع، كفى، ولا تشترط نية السلطان عند التفريق، لانه نائب المساكين، فإن لم ينو المالك، ونوى السلطان، أو لم ينو، فوجهان. أحدهما: تجزئه، وهو ظاهر نصه في المختصر وبه قطع كثير من العراقيين، والثاني: لا تجزئه، لانه نائب المساكين، ولو دفع المالك إلى المساكين بلا نية، لم يجزئه، فكذا نائبهم، وهذا الثاني هو الاصح عند(2/65)
القاضي أبي الطيب، وصاحبي المهذب والتهذيب وجمهور المتأخرين، وحملوا كلام الشافعي على الممتنع: يجزئه المأخوذ وإن لم ينو. لكن نص في الام: أنه يجزئه وإن لم ينو طائعا كان أو كارها، وأما إذا امتنع من دفع الزكاة، فيأخذها منه السلطان كرها، ولا يأخذ إلا قدر الزكاة على الجديد، وقال في القديم: يأخذ مع الزكاة شطر ماله. قلت: المشهور، هو الجديد، والحديث الوارد في سنن أبي داود وغيره يأخذ شطر ماله ضعفه الشافعي رحمة الله عليه، ونقل أيضا عن أهل العلم بالحديث أنهم لا يثبتونه وهذا الجواب هو المختار. وأما جواب من أجاب من أصحابنا بأنه منسوخ، فضعيف، فإن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا قدرة لهم عليه هنا. والله أعلم. ثم إن نوى الممتنع حال الاخذ منه، برئت ذمته ظاهرا وباطنا، ولا حاجة إلى(2/66)
نية الامام، وإلا فإن نوى الامام، أجزأه في الظاهر، ولا يطالب ثانيا، وهل يجزئه باطنا ؟ وجهان. أصحهما: يجزئه كولي الصبي، تقوم نيته مقام نيته، وإن لم ينو الامام، لم يسقط الفرض في الباطن قطعا، ولا في الظاهر على الاصح، والمذهب: أنه تجب النية على الامام، وأنه تقوم نيته مقام نية المالك، وقيل: إن قلنا: لا تبرأ ذمة المالك باطنا، لم تجب النية على الامام، وإلا فوجهان. أحدهما: تجب، كالولي، والثاني: لا، لئلا يتهاون المالك فيما هو متعبد به. ومنها: أن يوكل من يفرق زكاته، فإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين، فهو الاكمل، وإن لم ينو واحد منهما، أو لم ينو الموكل، لم يجزئه، وإن نوى الموكل عند الدفع، ولم ينو الوكيل، فطريقان. أحدهما: القطع بالجواز، وأصحهما: أنه على الوجهين فيما إذا فرق بنفسه، هل يجزئه تقديم النية على التفرقة ؟ والاصح الاجزاء كالصوم للعسر، ولان القصد سد حاجة الفقير، وعلى هذا يكفي نية الموكل عند الدفع إلى الوكيل، وعلى الثاني: يشترط نية الوكيل عند الدفع إلى المساكين، ولو وكل وكيلا وفوض النية إليه، جاز، كذا ذكر في النهاية والوسيط. فرع لو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، لم تسقط عنه الزكاة. فصل ينبغي للامام أن يبعث السعاة لاخذ الزكوات، والاموال ضربان، ما يعتبر فيه الحول، وما لا يعتبر، كالزرع والثمار، فهذا يبعث السعاة فيه لوقت وجوبه، وهو إدراك الثمار واشتداد الحب. وأما الاول، فالحول مختلف في حق(2/67)
الناس، فينبغي للساعي أن يعين شهرا فيأتيهم فيه. واستحب الشافعي رحمه الله، أن يكون ذلك الشهر المحرم، صيفا كان أو شتاء، فإنه أول السنة الشرعية. قلت: هذا الذي ذكرنا من تعيين الشهر على الاستحباب على الصحيح، وفي وجه: يجب. ذكره صاحب الكتاب في آخر قسم الصدقات. والله أعلم. وينبغي أن يخرج قبل المحرم ليصلهم في أوله، ثم إذا جاءهم، فمن تم حوله، أخذ زكاته، ومن لم يتم، يستحب له أن يعجل، فإن لم يفعل، استناب من يأخذ زكاته، وإن شاء أخر إلى مجيئه من قابل، فإن وثق به، فوض التفريق إليه، ثم إن كانت الماشية ترد الماء، أخذ زكاتها على مياههم ولا يكلفهم ردها إلى البلد، ولا يلزمه أن يتبع المراعي، فإن كان لرب المال ماءان، أمر بجمعها عند أحدهما، وإن اكتفت الماشية بالكلا في وقت الربيع، ولم ترد الماء، أخذ الزكاة في بيوت أهلها وأفنيتهم. هذا لفظ الشافعي، ومقتضاه تجويز تكليفهم الرد إلى الافنية. وقد صرح به المحاملي وغيره، وإذا أراد معرفة عددها، فأخبره المالك، وكان ثقة، صدقه، وإلا عدها، والاولى أن تجمع في حظيرة أو نحوها، وينصب على الباب خشبة معترضة، وتساق لتخرج واحدة واحدة، وتثبت كل شاة إذا بلغت المضيق، فيقف المالك أو نائبه من جانب، والساعي أو نائبه من جانب، وبيد كل واحد منهما قضيب يشيران به إلى كل شاة، أو يصيبان به ظهرها فهو أضبط، فإن اختلفا بعد العد، فإن كان الواجب يختلف به، أعاد العد. فرع يستحب للساعي أن يدعو لرب المال، ولا يتعين دعاء. واستحب(2/68)
الشافعي رحمه الله أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت. ولنا وجه شاذ: أنه يجب الدعاء، حكاه الحناطي. وكما يستحب للساعي الدعاء، يستحب أيضا للمساكين إذا فرق عليهم المالك. قال الائمة: وينبغي أن لا يقول: اللهم صل عليه، وإن ورد في الحديث، لان الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالانبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وكما أن قولنا. عزوجل. صار مخصوصا بالله تعالى. فكما لا يقال: محمد عزوجل وإن كان عزيزا جليلا، لا يقال: أبو بكر، أو علي، صلى الله عليه، وإن صح المعنى. وهل ذلك مكروه كراهة تنزيه، أم هو مجرد ترك أدب ؟ فيه وجهان. الصحيح الاشهر: أنه مكروه، لانه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. والمكروه: هو ما ورد فيه نهي مقصود، ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الانبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وأصحابه وأزواجه، وأتباعه، لان السلف لم يمتنعوا منه. وقد أمرنا به في التشهد وغيره. قال الشيخ أبو محمد: والسلام في معنى الصلاة، فإن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب غير الانبياء. ولا بأس به على سبيل المخاطبة للاحياء والاموات من المؤمنين، فيقال: سلام عليكم. قلت: قوله: لا بأس به، ليس بجيد، فإنه مسنون للاحياء والاموات(2/69)
بلا شك، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون، وكأنه أراد: لا منع منه في المخاطبة، بخلاف الغيبة، وأما استحبابه في المخاطبة، فمعروف. والله أعلم.
باب تعجيل الزكاة
التعجيل جائز في الجملة، هذا هو الصواب المعروف. وحكى الموفق أبو طاهر، عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا منع التعجيل، وليس بشئ، ولا تفريع عليه. ثم مال الزكاة ضربان، متعلق بالحول، وغير متعلق. فالاول: يجوز تعجيل زكاته قبل الحول، ولا يجوز قبل تمام النصاب، في الزكاة العينية. أما إذا اشترى عرضا للتجارة، يساوي مائة درهم، فعجل زكاة مائتين، وحال الحول وهو يساوي مائتين، فيجزئه المعجل عن الزكاة على المذهب، لان الاعتبار في العروض بآخر الحول، ولو ملك أربعين شاة معلوفة، فعجل شاة ظازما أن يسميها حولا، لم يقع عن الزكاة إذا أسامها، لان المعلوفة ليست مال زكاة، فهي كما دون النصاب. وإنما يعجل بعد انعقاد حول. فلو عجل زكاة عامين فصاعدا، لم يجزئه عما عدا السنة الاولى على الاصح عند الاكثرين. منهم(2/70)
معظم العراقيين وصاحب التهذيب وحملوا الحديث الوارد في تسلف صدقة عامين، من العباس على التسلف دفعتين. فإن جوزنا ما زاد، فذلك إذا بقي معه في بعد التعجيل نصاب كامل، بأن ملك ثنتين وأربعين، فعجل شاتين. فإن لم يبق نصاب كامل، بأنملك إحدى وأربعين، فعجل شاتين منها، فوجهان. أصحهما: لا يجوز، فإن جوزنا صدقة عامين، فهل يجوز أن ينوي تقديم زكاة للسنة الثانية على الاولى ؟ وجهان كتقديم صلاة الثانية على الاولى في الجمع في وقت الثانية. حكاه أبو الفضل بن عبدان. ولو ملك نصابا. فعجل زكاة نصابين، فإن كان التجارة، بأن اشترى للتجارة عرضا بمائتين، فعجل زكاة أربعمائة، فجاء الحول وهو يساوي أربعمائة، أجزأه على المذهب. وقيل: في المائتين الزائدتين وجهان. فإن كان زكاة عين، بأن ملك مائتي درهم، وتوقع حصول مائتين من جهة أخرى، فعجل زكاة أربعمائة، فحصل ما توقعه، لم يجزئه ما أخرجه عن الحادث. وإن توقع حصوله من عين ما عنده، بأن ملك مائة وعشرين شاة، فعجل شاتين ثم حدثت سخلة، أو ملك خمسا من الابل، فعجل شاتين، فبلغت بالتوالد عشرا، فهل يجزئه ما أخرجه عن النصاب الذي كمل الآن ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين من العراقيين وغيرهم: لا يجزئه. ولو عجل شاة عن أربعين، فولدت أربعين، فهلكت الامات، فهل يجزئه ما أخرج من السخال ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا يجزئه. والله أعلم.(2/71)
الضرب الثاني: ما لا يتعلق وجوب الزكاة فيه بالحول، فمنه زكاة الفطر، فيجوز تعجيلها بعد دخول رمضان، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يجوز في أول يوم من رمضان، لا من أول ليلة. وفي وجه: يجوز قبل رمضان. وأما زكاة الثمار، فتجب ببدو الصلاح، وزكاة الزرع باشتداد الحب. وليس المراد وجوب الاداء، بل المراد أن حق الفقراء، يثبت حينئذ، والاخراج يجب بعد الجفاف وتنقية الحبوب. وإذا ثبت هذا، فالاخراج بعد مصير الرطب تمرا، والعنب زبيبا، ليس بتعجيل، بل هو واجب حينئذ، ولا يجوز التقديم قبل خروج الثمرة، وفيما بعده أوجه. الصحيح: أنه يجوز التعجيل بعد بدو الصلاح لا قبله، والثاني: يجوز قبله من حين خروج الثمرة، والثالث: لا يجوز قبل الجفاف. وأما الزروع، فالاخراج بعد التنقية واجب وليس بتعجيل، ولا يجوز التعجيل قبل التسنبل وانعقاد الحب. وبعده، ثلاثة أوجه، الصحيح: جوازه بعد الاشتداد والادراك، ومنعه قبله. والثاني: جوازه بعد التسنبل وانعقاد الحب. والثالث: لا يجوز قبل التنقية. فرع عد الائمة ما يقدم على وقت وجوبه من الحقوق المالية، وما لا يقدم، في هذا الباب. فمنها: كفارة اليمين، والقتل، والظهار، وجزاء الصيد، وهي مذكورة في أبوابها.(2/72)
ومنها: لا يجوز للشيخ الهرم، والحامل، والمريض، تقديم الفدية على رمضان. ولا يجوز تقديم الاضحية على يوم النحر قطعا، ولا كفارة الوقاع في شهر رمضان على الاصح، ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتق رقبة، فأعتق قبل الشفاء، لا يجزئه على الاصح، ولا يجوز تقديم زكاة المعدن، والركاز على الحصول. فصل شرط كون المعجل مجزئا، بقاء القابض بصفة الاستحقاق في آخر الحول، فلو ارتد، أو مات قبل الحول، لم تحسب عن الزكاة، وإن استغنى بالمدفوع إليه، أو به، وبمال آخر، لم يضر، وإن استغنى بغيره، لم يحسب عن الزكاة، وإن عرض مانع، ثم زال وصار برفة الاستحقاق عند تمام الحول، لم يضر على الاصح. ويشترط في الدافع بقاؤه إلى آخر الحول، بصفة من تجب عليه الزكاة، فلو ارتد وقلنا: الردة تمنع وجوب الزكاة، أو مات، أو تلف جميع ماله، أو باعه، أو نقص عن النصاب، لم يكن المعجل زكاة، وإن أبقينا ملك المرتد، وجوزنا إخراج الزكاة في حال الردة، أجزأه المعجل، وهل يحسب في صورة الموت عن زكاة الوارث ؟ قال الاصحاب: إن قلنا بالقديم: إن الوارث يبنى على حول الموروث، أجزأه، وإلا لم يجزئه على الاصح، لانه تعجيل قبل ملك النصاب، فإن قلنا: يحسب فتعددت الورثة، ثبت حكم الخلطة بينهم إن كان المال ماشية أو(2/73)
غير ماشية، وقلنا: بثبوت الخلطة فيه. فأما إن قلنا: لا يثبت، ونقص نصيب كل واحد عن النصاب، أو اقتسموا، ونقص نصيب كل واحد عن النصاب، فينقطع الحول، ولا تجب الزكاة على الاصح. وعن صاحب التقريب وجه آخر: أنهم يصيرون كشخص واحد، وعلى الثاني: يصيرون كشخص واحد. فرع إذا أخذ الامام من المالك قبل أن يتم حوله مالا للمساكين، فله حالان. أحدهما: يأخذه بحكم الفرض، فينظر، إن استقرضه بسؤال المساكين، فهو من ضمانهم، سواء تلف في يده، أو بعد أن سلمه إليهم، وهل يكون الامام طريقا في الضمان، حتى يؤخذ منه ويرجع هو على المساكين، أم لا ؟ نظر، إن علم المقرض أنه يستقرض للمساكين بإذنهم ؟ لم يكن طريقا على الاصح، وإن ظن أنه يستقرض لنفسه، أو للمساكين من غير سؤالهم، فله الرجوع على الامام، ثم الامام يقضيه من مال الصدقة، أو يحسبه عن زكاة المقترض، وإذا أقرضه المالك للمساكين ابتداء من غير سؤالهم، فتلف في يد الامام، فلا ضمان على المساكين، ولا على الامام، لانه وكيل المالك. ولو استقرض الامام بسؤال المالك والمساكين جميعا، فهل هو من ضمان المالك، أو المساكين ؟ وجهان يأتي بيانهما في الحال الثاني إن شاء الله تعالى. ولو استقرض بغير سؤال المالك والمساكين، نظر، إن استقرض ولا حاجة بهم إلى القرض، وقع القرض للامام، وعليه ضمانه من خالص ماله، سواء تلف في يده، أو دفعه إلى المساكين، ثم إن(2/74)
دفع إليهم متبرعا، فلا رجوع، وإن أقرضهم، فقد أقرضهم مال نفسه، وإن كان استقرض لهم، وبهم حاجة، وهلك في يده، فوجهان. أحدهما: أنه من ضمان المساكين، يقضيه الامام من مال الصدقة، كالولي، إذا استقرض لليتيم، فهلك في يده، يكون الضمان في مال اليتيم، وأصحهما: يكون الضمان من خالص مال الامام، لان المساكين غير متعينين، وفيهم أو أكثرهم أهل رشد، لا ولاية عليهم، ولهذا لا يجوز منع الصدقة عنهم بلا عذر، ولا التصرف في مالهم بالتجارة، وإنما يجوز الاستقراض لهم بشرط سلامة العاقبة، بخلاف اليتيم. فأما إن دفع المستقرض إليهم، فالضمان عليهم، والامام طريق، فإذا أخذ زكوات، والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق، فله أن يقضيه من الزكوات، وله أن يحسبه عن زكاة المقرض، وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق عند تمام حلول الزكوات، لم يجز قضاؤه منها، بل يقضي من مال نفسه، ثم يرجع على المدفوع إليه إن وجد له مالا. الحال الثاني: أن يأخذ الامام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام حوله، وفيه أربع مسائل كالقرض. إحداها: أن يأخذ بسؤال المساكين، فإن دفع إليهم قبل الحول، وتم(2/75)
الحول وهم بصفة الاستحقاق، والمالك بصفة الوجوب، وقع الموقع، وإن خرجوا عن الاستحقاق، فعليهم الضمان، وعلى المالك الاخراج ثانيا، وإن تلف في يده قبل تمام الحول بغير تفريط له، نظر، إن خرج المالك عن أن تجب عليه الزكاة، فله الضمان على المساكين، وهل يكون الامام طريقا ؟ وجهان، كما في الاستقراض، وإلا فهل يقع المخرج عن زكاته ؟ وجهان. أصحهما: يقع، وبه قطع في الشامل و التتمة، والثاني: لا، فعلى هذا له تضمين المساكين، وفي تضمين الامام الوجهان، فإن لم يكن للمساكين مال، صرف الامام إذا اجتمعت الزكوات عنده ذلك القدر إلى قوم آخرين عن جهة الذي تسلف منه. المسألة الثانية: أن يتسلف بسؤال المالك، فإن دفع إلى المساكين، وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق، وقع الموقع، وإلا رجع المالك على المساكين دون الامام، وإن تلف في يد الامام، لم يجزئ المالك، سواء تلف بتفريط الامام، أو بغير تفريطه، كالتلف في يد الوكيل، ثم إن تلف بتفريط الامام، فعليه ضمانه للمالك، وإلا فلا ضمان عليه، ولا على المساكين. الثالثة: أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعا، فالاصح عند صاحب الشامل والاكثرين: أنه من ضمان المساكين، والثاني: من ضمان المالك. الرابعة: أن يتسلف بغير سؤال المالك والمساكين، لما رأى من حاجتهم، فهل تكون حاجتهم كسؤالهم ؟ وجهان. أصحهما: لا، فعلى هذا إن دفعه إليهم، وخرجوا عن الاستحقاق قبل تمام الحول، استرده الامام منهم ودفعه إلى غيرهم، وإن خرج الدافع عن أهلية الوجوب، استرده ورد إليه، فإن لم يكن للمدفوع إليه مال، ضمنه الامام من مال نفسه، فرط، أم لم يفرط، وعلى المالك إخراج الزكا ثانيا، وفي وجه ضعيف: لا ضمان على الامام ثم الوجهان في تنزل الحاجة منزلة سؤالهم، هما في حق البالغين، أما إذا كانوا أطفالا، فيبنى على أن الصبي تدفع(2/76)
إليه الزكاة من سهم الفقراء أو المساكين، أم لا ؟ فإن كان له من يلزمه نفقته كأبيه وغيره، فالاصح أنه لا يدفع إليه، وإن لم يكن، فالصحيح أنه يدفع له إلى قيمه، والثاني: لا، لاستغنائه بسهم من الغنيمة، فإن جوزنا التصرف إليه، فحاجة الاطفال كسؤال البالغين، فتسلف الامام الزكاة واستقراضه لهم، كاستقراض قيم اليتيم. هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الامام، فإن كان وليا مقدما على الامام، فحاجتهم كحاجة البالغين، لان لهم من يسأل التسلف لو كان صلاحهم فيه. أما إذا قلنا: لا يجوز الصرف إلى الصبي، فلا تجئ هذه المسألة في سهم الفقراء والمساكين، ويجوز أن تجئ في سهم الغارمين ونحوه. ثم في المسائل كلها لو تلف المعجل في يد الساعي أو الامام بعد تمام الحول، سقطت الزكاة عن المالك، لان الحصول في يدهما بعد الحول، كالوصول إلى يد المساكين، كما لو أخذ بعد الحول، ثم إن فرط في الدفع إليهم، ضمن من مال نفسه لهم، وإلا فلا ضمان على أحد، وليس من التفريط أن ينتظر إنضمام غيره إليه لقلته، فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل عنده، والمراد بالمساكين في هذه المسائل، أهل السهمين جميعا، وليس المراد جميع آحاد الصنف، بل سؤال طائفة منهم وحاجتهم. فصل إذا دفع الزكاة المعجلة إلى الفقير وقال: إنها معجلة، فإن عرض مانع، استرددت منك، فله الاسترداد إن عرض مانع، وإن اقتصر على قوله: هذه زكاة معجلة، أو علم القابض ذلك، ولم يذكر الرجوع، فله الاسترداد على الاصح الذي قطع به الجمهور، وهذا إذا كان الدافع المالك. أما إذا دفعها(2/77)
الامام، فلا حاجة إلى شرط الرجوع، بل يثبت الاسترداد قطعا، ولو دفع المالك أو الامام، ولم يتعرض للتعجيل، ولا علم به القابض، فالمذهب: أنه لا يثبت الرجوع مطلقا، وقيل: إن دفع الامام ثبت الرجوع، وإن دفع المالك فلا، وبه قطع جمهور العراقيين، وقيل: فيهما قولان. فإن أثبتنا الرجوع، فقال المالك: قصدت بالمدفوع التعجيل، وأنكر القابض، فالقول قول المالك مع يمينه، ولو ادعى المالك علم القابض بالتعجيل، فالقول قول القابض، وإذا قلنا: لا رجوع إذا لم يذكر التعجيل، ولم يعلم القابض به، فتنازعا في ذكره، أو قلنا: يشترط في الرجوع التصريح به، فتنازعا فيه، فالقول قول المسكين على الاصح مع يمينه، وقول المالك على الثاني، ويجري الوجهان في تنازع الامام والمسكين إذا قلنا: الامام محتاج إلى الاشتراط. هذا كله إذا عرض مانع من استحقاقه الزكاة. أما إذا لم يعرض، فليس له الاسترداد بلا سبب، لانه تبرع بالتعجيل، فهو كمن عجل دينا مؤجلا لا يسترده. فرع قال إمام الحرمين وغيره: لا يحتاج مخرج الزكاة إلى لفظ أصلا، بل يكفيه دفعها وهو ساكت، لانها في حكم دفع حق إلى مستحق. قال: وفي صدقة التطوع تردد، والظاهر الذي عمل به الناس كافة، أنه لا يحتاج إلى اللفظ أيضا. فرع إذا قال: هذه زكاتي، أو صدقتي المفروضة، فطريقان. أحدهما: أنه كما لو ذكر التعجيل، ولم يذكر الرجوع، وأصحهما: كما لو لم يذكر شيئا أصلا. وقطع العراقيون بأن المالك لا يسترد، بخلاف الامام. قالوا: ولو كان(2/78)
الطارئ موت المسكين، هل للمالك أن يستخلف ورثته على نفي العلم بأنها معجلة ؟ وجهان. فرع من موانع المعجل أن تكون زكاة تلف النصاب، فحيث يثبت الاسترداد بهذا السبب، هل يثبت إذا أتلفه المالك، أو أتلف منه ما نقص به النصاب لغير حاجة ؟ وجهان. أصحهما: يثبت، ولو أتلفه بالانفاق وغيره من وجوه الحاجات، ثبت الرجوع قطعا. فصل متى ثبت الاسترداد، فإن كان المعجل تالفا، فعليه ضمانه بمثله إن كان مثليا، وإلا فقيمته، وتعتبر قيمته يوم القبض على الاصح، وعلى الثاني: يوم التلف، والثالث: أقصى القيم، خرجه إمام الحرمين. فإن مات القابض، فالضمان في تركته، وإن كان باقيا على حاله، استرده ودفعه أو مثله إلى المستحق إن بقي بصفة الوجوب. وإن كان الدافع هو الامام، آخذه، وهل يصرفه إلى المستحقين بغير إذن جديد من المالك ؟ وجهان. أصحهما: وبه قطع في التهذيب: يجوز. وإن أخذ القيمة فهل يجوز صرفها إلى المستحقين ؟ وجهان، لان دفع القيمة لا يجزئ، فإن جوزناه وهو الاصح، ففي افتقاره إلى إذن جديد الوجهان. وإن حدثت فيه زيادة متصلة، كالسمن، والكبر، أخذه مع الزيادة، وإن كانت منفصلة، كالولد، واللبن، فالمذهب والذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي: أنه يأخذ الاصل بلا زيادة. وقيل: وجهان. أصحهما: هذا. والثاني: يأخذه مع الزيادة، وإن كان ناقصا، فهل له أرشه معه ؟ وجهان. الصحيح، وظاهر النص: لا أرش له. والمذهب: أن القابض يملك المعجل. وفي وجه شاذ:(2/79)
أنه موقوف، فإن عرض مانع، تبين عدم الملك، وإلا تبين. فلو باعه القابض، ثم طرأ المانع، فإن قلنا بالمذهب: استمرت صحة البيع، وإلا تبينا بطلانه. ولو كانت العين باقية، فأراد القابض رد بدلها، فإن قلنا بالوقف، لزم ردها بعينها، وإن قلنا بالمذهب، ففي جواز الابدال الخلاف في مثله في القرض بناء على أنه يملكه بالقبض أو بالتصرف. فرع المعجل مضموم إلى ما عند المالك، نازل منزلة ما لو كان في يده، فلو عجل شاة من أربعين، ثم حال الحول، ولم يطرأ مانع، أجزاه ما عجل، وكانت تلك الشاة بمنزلة الباقيات عنده. ولو عجل شاة عن مائة وعشرين، ثم ولدت واحدة، أو عن مائة، فولدت عشرين وبلغت غنمه بالمعجلة مائة وإحدى وعشرين، لزمه شاة أخرى وإن كان القابض أتلف تلك المعجلة. ولو عجل شاتين عن مائتين، ثم حدثت سخلة قبل الحول، فقد بلغت غنمة مائتين وواحدة بالمعجلة، فعليه عند تمام الحول شاة ثالثة، فلو كانت المعجلة في هاتين الصورتين معلوفة، أو كان المالك اشتراها فأخرجها، لم يجب شئ زائد، لان المعلوفة والمشتراة، لا يتم بها النصاب، وإن جاز اخراجهما عن الزكاة، ثم إن تم الحول، والمعجل على السلامة، أجزأه ما أخرج، ثم في تقديره إذا كان الباقي دون النصاب، بأن أخرج شاة من أربعين، وجهان. الصحيح الذي قطع به الاصحاب: أن المعجل منزل منزلة الباقي في ملك الدافع حتى يكمل به النصاب ويجزئ، وليس بباق في ملكه حقيقة. وقال صاحب التقريب: يقدر كأن صاحب الملك لم يزل لينقضي الحول وفي ملكه نصاب. واستبعد إمام الحرمين هذا، وقال: تصرف القابض نافذ بالبيع والهبة وغيرهما، فكيف نقول ببقاء ملك الدافع، وهذا الاستبعاد صحيح إن أراد صاحب التقريب بقاء ملكه حقيقة، وإن أراد ما قاله الاصحاب، فقوله صواب. أما إذا طرأ مانع من كون المعجل زكاة، فينظر، إن كان المخرج أهلا للوجوب وبقي في يده نصاب، لزمه الاخراج ثانيا. وإن كان دون النصاب، فحيث لا يثبت الاسترداد لا زكاة، وكأنه تطوع بشاة قبل الحول. وحيث ثبت فاسترد، قال(2/80)
العراقيون: فيه ثلاثة أوجه. أحدها: يستأنف الحول، ولا زكاة للماضي، لنقص ملكه عن النصاب. والثاني: إن كان ماله نقدا، زكاه لما مضى. وإن كان ماشية، فلا، لان السوم شرط في زكاة الماشية، وذلك ممتنع في الحيوان في الذمة. وأصحها عندهم: تجب الزكاة لما مضى مطلقا، لان المخرج كالباقي في ملكه. وبهذا قطع في التهذيب، بل لفظه يقتضي وجوب الاخراج ثانيا قبل الاسترداد إذا كان المخرج بعينه باقيا في يد القابض. وقال صاحب التقريب: إذا استرد وقلنا: كأن ملكه زال، لم يزك لما مضى، وإن قلنا: يتبين أن ملكه لم يزل، زكى لما مضى. قال إمام الحرمين: وعلى هذا التقدير الثاني: الشاة المقبوضة حصلت الحيلولة بين المالك وبينها، فيجئ فيها الخلاف في المغصوب والمجحود. وكلام العراقيين يشعر بجريان الاوجه بعد تسليم زوال الملك عن المعجل. وكيف كان، فالاصح عند المعظم وجوب تجديد الزكاة للماضي. أما إذا كان المخرج تالفا في يد القابض، فقد صار الضمان دينا عليه، فإن أوجبنا تجديد الزكاة، إذا كان باقيا، جاء هنا قولا وجوب الزكاة في الدين. هذا إذا كان المزكى نقدا، فإن كان ماشية، لم تجب الزكاة بحال، لان الواجب على القابض القيمة، فلا يكمل هنا نصاب الماشية. وقال أبو إسحق: تقام القيمة مقام العين هنا، نظرا للمساكين، والصحيح: الاول. فرع لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين من الابل، فبلغت بالتوالد ستا وثلاثين قبل الحول، لم يجزئه بنت المخاض معجلة وإن صارت بنت لبون في يد القابض، بل يستردها ويخرجها ثانيا، أو بنت لبون أخرى. قال صاحب التهذيب لنفسه: فإن كان المخرج تالفا، والنتاج لم يزد على أحد عشر، فلم(2/81)
تكن إبله ستا وثلاثين إلا بالمخرج، وجب أن لا يجب بنت لبون، لانا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا وقع محسوبا عن الزكاة. أما إذا لم يقع، فلا، بل هو كهلاك بعض المال قبل الحول، وفيما قدمناه في الوجه الثالث عن العراقيين ما ينازع في هذا.
باب حكم تأخير الزكاة
إذا تم حول المال الذي يشترط في زكاته الحول، وتمكن من الاداء، وجب على الفور كما قدمناه. فإن أخر، عصى ودخل في ضمانه. فلو تلف المال بعد ذلك، لزمه الضمان، سواء تلف بعد مطالبة الساعي أو الفقراء، أو قبل ذلك، ولو تلف بعد الحول وقبل التمكن، فلا شئ عليه. وإن أتلفه المالك، لزمه الضمان. وإن أتلفه أجنبي، بني على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، أن التمكن شرط في الوجوب، أو في الضمان، إن قلنا بالاول، فلا زكاة. وإن قلنا بالثاني، وقلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فلا زكاة، وإن قلنا: تتعلق بالعين، انتقل حق المستحقين إلى القيمة، كما إذا قتل العبد الجاني أو المرهون، ينتقل الحق إلى القيمة. فرع إمكان الاداء شرط في الضمان قطعا، وهل هو شرط في الوجوب أيضا ؟ قولان. أظهرهما: ليس بشرط، والثاني: شرط كالصلاة والصوم والحج، واحتجوا للاظهر بأنه لو تأخر الامكان، فابتدأ الحول الثاني، يحسب من تمام الاول، لا من (حصول) الامكان.(2/82)
فرع الاوقاص التي بين النصب، فيها قولان. أظهرهما: أنها عفو، والفرض يتعلق بالنصاب خاصة، والثاني: ينبسط الفرض عليها وعلى النصاب، فإذا ملك تسعا من الابل، فعلى الاول، عليه شاة في خمس منها، لا بعينها، وعلى الثاني: الشاة واجبة في الجميع. قال إمام الحرمين: الوجه عندي أن تكون الشاة متعلقة بالجميع قطعا، وأن القولين في أن الوقص إنما يجعل وقاية للنصاب، كما يجعل الربح في القراض وقاية لرأس المال، وهذا الذي قاله حسن، لكن المذهب المشهور ما قدمناه. فرع لو تم الحول على خمس من الابل، فتلف واحد قبل التمكن، فلا زكاة للتالف، وأما الاربعة، فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب، فلا شئ فيها، وإن قلنا: للضمان فقط، وجب أربعة أخماس شاة. ولو تلف أربع، فعلى الاول: لا شئ، وعلى الثاني: يجب خمس شاة، ولو ملك ثلاثين من البقر، فتلف خمس قبل الامكان وبعد الحول، فإن قلنا بالاول، فلا شئ، وإن قلنا بالثاني، وجب خمسة أسداس تبيع، ولو تم الحول على تسع من الابل، فتلف أربع قبل التمكن، فإن قلنا: الامكان شرط للوجوب، فعليه شاة، وإن قلنا: للضمان والوقص عفو، فشاة أيضا، وإن قلنا: ينبسط، فالصحيح الذي قطع به الجمهور: يجب خمسة أتساع شاة، وقال أبو إسحق: يجب شاة كاملة. ولو كانت المسألة بحالها، وتلفت خمس، فإن قلنا: الامكان شرط للوجوب، فلا شئ، وإن قلنا: للضمان، وقلنا: الوقص عفو، فأربعة أخماس شاة، وإن قلنا بالبسط، فأربعة أتساع شاة، ولا يجئ وجه أبي إسحق. ولو ملك ثمانين من الغنم، فتلف بعد الحول وقبل التمكن أربعون، فإن قلنا: التمكن شرط للوجوب، أو للضمان والوقص عفو، فعليه شاة، وإن قلنا: بالضمان والبسط، فنصف شاة، وعلى وجه أبي إسحاق: شاة. فرع إمكان الاداء، ليس المراد به مجرد تمكنه من إخراج الزكاة، بل يعتبر معه وجوب الاخراج، وذلك بأن تجتمع شرائطه.(2/83)
فمنها: أن يكون المال حاضرا عنده، فإن كان غائبا، لم يجب الاخراج من موضع آخر وإن جوزنا نقل الزكاة. ومنها: أن يجد المصروف إليه، وقد تقدم أن الاموال ظاهرة وباطنة، فالباطنة يجوز صرف زكاتها إلى السلطان ونائبه، ويجوز أن يفرقها بنفسه، فيكون واجدا للمصروف إليه، سواء وجد أهل السهمان، أو الامام، أو نائبه، يفرقها، وأما الاموال الظاهرة، فكذلك إن جوزنا تفرقتها بنفسه، وإلا، فلا إمكان حتى يجد الامام أو نائبه، وإذا وجد من يجوز الصرف إليه، فأخر لطلب الافضل، بأن وجد الامام أو نائبه، فأخر ليفرق بنفسه حيث قلنا: إنه أفضل، أو وجد أهل السهمان، فأخر ليدفع إلى الامام أو نائبه، حيث قلنا: إنه أفضل، أو أخر لانتظار قريب أو جار، أو من هو أحوج، ففي التأخير وجهان. أصحهما: جوازه، فعلى هذا لو أخر فتلف، كان ضامنا في الاصح. قال إمام الحرمين: الوجهان لهما شرطان. أحدهما: أن يظهر استحقاق الحاضرين، فإن تردد في استحقاقهم فأخر ليتروى، جاز بلا خلاف، والثاني: أن لا يشتد ضرر الحاضرين وفاقتهم، فإن تضرروا بالجوع، لم يجز التأخير للقريب وشبهه بلا خلاف، وفي هذا الشرط الثاني نظر، فإن إشباعهم لا يتعين على هذا الشخص، ولا من هذا المال، ولا من مال الزكاة. قلت: هذا النظر ضعيف، أو باطل. والله أعلم.(2/84)
قال صاحب التهذيب وغيره: ويشترط في إمكان الاداء أن لا يكون مشتغلا بشئ يهمه من أمر دينه أو دنياه. فصل في كيفية تعلق الزكاة بالمال قال الجمهور: فيه قولان. القديم: يتعل بالذمة، والجديد الاظهر: بالعين، ويصير المساكين شركاء لرب المال في قدر الزكاة. هكذا صححه الجمهور، وزاد آخرون قولا ثالثا: أنها تتعلق بالعين تعلق الدين بالمرهون، وقولا رابعا: تتعلق بالعين تعلق الارش برقبة الجاني، وممن زاد القولين إمام الحرمين، والغزالي. وأما العراقيون، والصيدلاني، والروياني، والجمهور، فجعلوا قول الذمة وتعلق الدين بالمرهون شيئا واحدا، فقالوا: تتعلق بالذمة، والمال مرتهن بها، وجمع صاحب التتمة بين الطريقين، فحكى وجهين، في أنا إذا قلنا: تتعلق بالذمة، فهل المال خلو، أم هو رهن بها ؟ وإذا قلنا كتعلق الرهن، إما قولا برأسه، وإما جزءا من قول الذمة، فهل يجعل جميع المال مرهونا بها، أم يخص قدر الزكاة بالرهن ؟ وجهان، وكذا إذا قلنا: كتعلق الارش، فهل يتعلق بالجميع، أم بقدرها ؟ فيه الوجهان. قال إمام الحرمين: والتخصيص بقدر الزكاة هو الحق الذي قاله الجمهور، وما عداه هفوة. هذا كله إذا كان الواجب من جنس المال. أما إذا كان من غيره، كالشاة الواجبة في الابل، فطريقان. أحدهما: القطع بتعلقها بالذمة، وأصحهما: أنه على الخلاف السابق، فعلى الاستئناف لا يختلف، وعلى الشركة يشاركون بقيمة الشاة. فرع إذا باع مال الزكاة بعد الحول قبل إخراجها، فإن باع جميعه، فهل يصح البيع في قدر الزكاة ؟ يبنى على الاقوال. فإن قلنا: الزكاة في الذمة والمال خلو(2/85)
منها، صح، وإن قلنا: مرهون، فقولان. أظهرهما عند العراقيين وغيرهم: يصح أيضا، لان هذه العلقة، تثبت بغير اختيار المالك، وليست لمعين، فسومح فيهد بما لا يسامح به في الرهن، وإن قلنا: بالشركة، فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان، وأصحهما وبه قطع أكثر العراقيين: في صحته قولان. أظهرهما وبه قطع صاحب التهذيب وعامة المتأخرين: البطلان، وإن قلنا: تعلق الارش، ففي صحته القولان في بيع الجاني، فإن صححناه، صار البيع ملتزما للفداء، ومتى حكمنا بالصحة في قدر الزكاة، فما سواه أولى، ومتى حكمنا فيه بالبطلان، فهل يبطل فيما سواه ؟ وأما على قول الشركة ففيما سواه قولا تفريق الصفقة، وإن قلنا: بالاستيثاق في الجميع، بطل البيع في الجميع، وإن قلنا: بالاستيثاق في قدر الزكاة، ففي الزائد قولا تفريق الصفقة، وحيث منعنا البيع، وكان المال ثمرة، فذلك قبل الخرص، فأما بعده، فلا منع إن قلنا: الخرص تضمين. والحاصل من جميع هذا الخلاف، ثلاثة أقوال. أحدها: البطلان في الجميع، والثاني: الصحة في الجميع، وأظهرها: البطلان في قدر الزكاة، والصحة في الباقي. فإن صححنا البيع في الجميع، نظر، إن أدى البائع الزكاة من موضع آخر، فذلك، وإلا فللساعي أن يأخذ من عين المال من يد المشتري قدر الزكاة على جميع الاقوال بلا خلاف. فإن أخذ، انفسخ البيع في قدر الزكاة، وهل ينفسخ في الباقي ؟ فيه الخلاف في تفريق الصفقة في الدوام. فإن قلنا: ينفسخ، استرد الثمن، وإلا فله الخيار إن كان جاهلا، فإن فسخ، فذاك، وإن أجاز في الباقي، فيأخذه بقسطه من الثمن، أم بالجميع ؟ فيه قولان. أظهرهما: بقسطه،(2/86)
ولو لم يأخذ الساعي الواجب منه، ولم يؤد البائع الزكاة من موضع آخر، فالاصح أن للمشتري الخيار إذا علم الحال، والثاني: لا خيار له. فإن قلنا: بالاصح، فأدى البائع الواجب من موضع آخر، فهل يسقط الخيار ؟ وجهان. الصحيح: أنه يسقط كما لو اشترى معيبا، فزال عيبه قبل الرد، فإنه يسقط، والثاني: لا يسقط، لاحتمال أن يخرج ما دفعه إلى دلساعي مستحقا، فيرجع الساعي إلى عين المال، ويجري الوجهان فيما إذا باع السيد الجاني ثم فداه، هل يبقى للمشتري الخيار ؟ أما إذا أبطلنا البيع في قدر الزكاة، وصححناه في الباقي، فللمشتري الخيار في فسخ البيع في الباقي وإجازته، ولا يسقط خياره بأداء البائع الزكاة من موضع آخر، وإذ أجاز فيجيز بقسطه، أم بجميع الثمن ؟ فيه القولان المقدمان، وقطع بعض الاصحاب، بأنه يجيز بالجميع في المواشي، والصحيح الاول. هذا كله إذا باع جميع المال، فإن باع بعضه، فإن لم يبق قدر الزكاة، فهو كما لو باع الجميع، وإن بقي قدر الزكاة، إما بنية صرفه إلى الزكاة، وإما بغيرها، فإن فرعنا على قول الشركة، ففي صحة البيع وجهان. قال ابن الصباغ: أقيسهما: البطلان، وهما مبنيان على كيفية ثبوت الشركة، وفيها وجهان. أحدهما: أن الزكاة شائعة في(2/87)
الجميع، متعلقة بكل واحدة من الشياه بالقسط، والثاني: أن محل الاستحقاق قدر الواجب، ويتعين بالاخراج. أما إذا فرعنا على قول الرهن، فيبنى على أن الجميع مرهون، أم قدر الزكاة فقط ؟ فعلى الاول: لا يصح، وعلى الثاني: يصح، وإن فرعنا على تعلق الارش، فإن صححنا بيع الجاني، صح هذا البيع، وإلا، فالتفريع، كالتفريع على قول الرهن، وجميع ما ذكرناه هو في بيع المال الذي * تجب الزكاة في عينه. فأما بيع مال التجارة بعد وجوب الزكاة، فسيأتي في بابها إن شاء الله تعالى. فرع إذا ملك أربعين شاة، فحال عليها الحول، ولم يخرج زكاتها حتى حال آخر، فإن حدث منها في كل حول سخلة فصدعدا، فعليه لكل حول شاة بلا خلاف، وإلا فعليه شاة عن الحول الاول، وأما الثاني: فإن قلنا: تجب الزكاة في الذمة، وكان يملك سوى الغنم ما يفي بشاة، وجب شاة للحول الثاني، وإن لم يملك شيئا غير النصاب، يبنى على أن الدين يمنع وجوب الزكاة، أم لا ؟ إن قلنا: يمنع، لم يجب للحول الثاني شئ، وإلا وجبت شاة، وإن قلنا: يتعلق بالعين تعلق الشركة، لم يجب للحول الثاني شئ، لان المساكين ملكوا شاة نقص بها النصاب، ولا تجب زكاة الخلطة، لان المساكين لا زكاة عليهم، فمخالطتهم كمخالطة المكاتب والذمي، وإن قلنا: يتعلق بالعين تعلق الرهن أو الارش، قال إمام الحرمين: فهو كالتفريع على قول الذمة، وقال الصيدلاني: هو كقول الشركة، وقياس المذهب ما قاله الامام، لكن يجوز أن يفرض خلاف في وجوب الزكاة من جهة تسلط الغير عليه، وإن قلنا: الدين لا يمنع الزكاة، وعلى هذا التقدير يجري الخلاف على قول الذمة، أيضا. ولو ملك خمسا وعشرين من الابل حولين ولا نتاج، فإن علقنا الزكاة بالذمة، وقلنا: الدين لا يمنعها، أو كان له مال آخر يفي بها، فعليه بنتا مخاض، وإن قلنا: بالشركة، فعليه للحول الاول بنت مخاض، وللثاني: أربع شياه، وتفريع الجرش والرهن على قياس ما سبق. ولو ملك خمسا من الابل حولين بلا نتاج، فالحكم كما في الصورتين السابقتين. لكن قد ذكرنا أن من(2/88)
الاصحاب من لم يثبت قول الشركة إذا كان الواجب من غير جنس الاصل، فعلى هذا يكون الحكم في هذه الصورة مطلقا، كالحكم في الاوليين، تفريعا على قول الذمة، والمذهب وهو اختيار المزني: أنه لا فرق بين أن يكون الواجب من جنس المال أو من غيره، ولهذا يجوز للساعي أن يبيع جزءا من الابل في الشياه، فدل على تعلق الحق بعينها. فرع إذا رهن مال الزكاة، فتارة يرهنه بعد تمام الحول، وتارة قبله، فإن رهنه بعد الحول، فالقول في صحة الرهن في قدر الزكاة كالقول في صحة بيعه، فيعود فيه جميع ما قدمناه، فإذا صححنا في قدر الزكاة، فما زاد أولى، وإن أبطلناه فيه، فالباقي يرتب على البيع. إن صححناه، فالرهن أولى، وإلا فقولا تفريق الصفقة في الرهن إذا جمع حلالا وحراما، فإذا صححنا الرهن في الجميع فلم يؤد الزكاة من موضع آخر، فللساعي أخذها منه. فإذا أخذ، انفسخ الرهن فيه، وفي الباقي الخلاف كما تقدم في البيع، وإذا أبطلناه في الجميع، أو في قدر الزكاة، وكان الرهن مشروطا في بيعه، ففي فساد البيع قولان، فإن لم يفسد، فللمشتري الخيار، ولا يسقط خياره بأداء الزكاة من موضع آخر، أما إذا رهن قبل تمام الحول فتم، ففي وجوب الزكاة خلاف قدمناه، والرهن لا يكون إلا بدين، وفي كون الدين مانعا من الزكاة الخلاف المعروف، فإن قلنا: الرهن لا يمنع الزكاة، وقلنا: الدين لا يمنع أيضا، أو قلنا: يمنع، فكان له مال آخر يفي بالدين، وجبت الزكاة، وإلا فلا. ثم إن لم يملك الراهن مالا آخر، أخذت الزكاة من عين المرهون على الاصح، ولا تؤخذ منه على الثاني. فعلى الاصح: لو كانت الزكاة من غير جنس المال، كالشاة من الابل، بيع جزء من المال فيها، وقيل: الخلاف فيما إذا كان الواجب من غير جنس المال، فإن كان من جنسه، أخذ من المرهون قطعا، ثم إذا أخذت الزكاة من عين المرهون، فأيسر الراهن بعد ذلك، فهل يؤخذ منه قدرها ليكون رهنا عند المرتهن ؟ إن علقنا الزكاة بالذمة، أخذ، وإلا فلا على الاصح. فإذا(2/89)
قلنا بالاخذ، وكان النصاب مثليا، أخذ المثل، وإلا فالقيمة على قاعدة الغرامات. أما إذا ملك مالا آخر، فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أن الزكاة تؤخذ من سائر أمواله، ولا تؤخذ من عين المرهون، وقال جماعة: تؤخذ من عينه إن علقناها بالعين، وهذا هو القياس، كما لا يجب على السيد فداء المرهن إذا جنى.
باب زكاة المعشرات
تجب الزكاة في الاقوات، وهي من الثمار: النخل والعنب، ومن الحبوب: الحنطة والشعير، والارز والعدس، والحمص والباقلاء، والدخن والذرة، واللوبياء والماش، والهرطمان وهو الجلبان. وأما ما سوى الاقوات، فلا تجب الزكاة في معظمها بلا خلاف، وفي بعضها خلاف. فمما لا زكاة فيه بلا خلاف: التين، والسفرجل، والخوخ، والتفاح، والجوز، واللوز، والرمان، وغيرها من الثمار، وكالقطن، والكتان، والسمسم، والاسبيوش،(2/90)
وهو بزر القطونا، والثفاء وهو حب الرشاد، والكمون، والكزبرة، والبطيخ، والقثاء، والسلق، والجزر، والقنبيط، وحبوبها وبزورها. ومن المختلف فيه: الزيتون. فالجديد المشهور: لا زكاة فيه، والقديم: تجب ببدو صلاحه، وهو نضجه واسوداده، ويعتبر فيه النصاب عند الجمهور، وخرج ابن القطان اعتبار النصاب فيه وفي سائر ما يختص القديم بإيجاب الزكاة فيه على قولين. ثم إن كان الزيتون مما لا يجئ منه الزيت، كالبغدادي، أخرج عشره زيتونا، وإن كان مما يجئ منه الزيت كالشامي، فثلاثة أوجه. الصحيح المنصوص في القديم: أنه إن شاء الزيت، وإن شاء الزيتون، والزيت أولى، والثاني: يتعين الزيت، والثالث: يتعين الزيتون، بدليل أنه يعتبر النصاب بالزيتون دون الزيت بالاتفاق. ومنها: الزعفران، والورس، وهو شجر يخرج شيئا كالزعفران، فلا زكاة(2/91)
فيهما على الجديد المشهور، وقال في القديم: تجب إن صح الحديث في الورس. فإن أوجبنا فيه، ففي الزعفران قولان، فإن أوجبنا فيهما، فالمذهب: أنه لا يعتبر النصاب، بل تجب في القليل والكثير، وقيل: فيه قولان. ومنها: العسل، لا زكاة فيه على الجديد، وعلق القول فيه على القديم، وقطع أبو حامد وغيره بنفي الزكاة فيه قديما وجديدا. فإن أوجبنا، فاعتبار النصاب كما سبق. ومنها: القرطم وهو حب العصفر، الجديد: لا زكاة فيه، والقديم: تجب. فعلى هذا، المذهب: اعتبار النصاب كسائر الحبوب، وفي العصفر نفسه طريقان. قيل: كالقرطم، وقيل: لا تجب قطعا. ومنها: الترمس، الجديد: لا زكاة فيه، والقديم: تجب. ومنها: حب الفجل، حكى ابن كج وجوب الزكاة فيه على القديم، ولم(2/92)
أره لغيره. فرع لا يكفي في وجوب الزكاة، كون الشئ مقتاتا على الاطلاق، بل المعتبر أن يقتات في حال الاختيار، فقد يقتات الشئ في حال الضرورة، فلا زكاة فيه، كالفث، وحب الحنظل، وسائر بزور البرية. واختلف في تفسير الفث، فقال المزني وطائفة: هو حب الغاسول، وهو الاشنان، وقال آخرون: هو حب أسود يابس، يدفن فيلين قشره، فيزال ويطحن، ويخبز، تقتاته أعراب طيئ. واعلم أن الائمة ضبطوا ما يجب فيه العشر بقيدين. أحدهما: أن يكون قوتا، والثاني: أن يكون من جنس ما ينبته الآدميون. قالوا: فإن فقد الاول كالاسبيوش، أو الثاني كالفث، أو كلاهما كالثفاء، فلا زكاة، وإنما يحتاج إلى ذكر القيدين من أطلق القيد الاول. فأما من قيده فقال: يكون قوتا في حال الاختيار، فلا يحتاج إلى الثاني، إذ ليس فيما يستنبت إلا ما يقتات اختيارا، واعتبر العراقيون مع القيدين، قيدين آخرين. أحدهما: أن يدخر، والآخر: أن ييبس، ولا حاجة إليهما، فإنهما لازمان لكل مقتات مستنبت. فصل النصاب معتبر في المعشرات، وهو خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعا، والصاع: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. فالخمسة، هي ألف وستمائة رطل(2/93)
بالبغدادي، والاصح عند الاكثرين: أن هذا القدر تحديد، وقيل: تقريب. فعلى التقريب يحتمل نقصان القليل كالرطلين، وحاول إمام الحرمين ضبطه فقال: الاوسق: الاوقار، والوقر المقتصد: ثلاثمائة وعشرون رطلا، فكل نقص لو وزع على الاوسق الخمسة لم تعد منحطة عن حد الاعتدال، لا يضر، وإن عدت منحطة، ضر، وإن أشكل فيحتمل أن يقال: لا زكاة حتى تحقق الكثرة، ويحتمل أن يقال: تجب لبقاء الاوسق. قال: وهذا أظهر. ثم قال إمام الحرمين: الاعتبار فيما علقه الشرع بالصاع والمد بمقدار موزون يضاف إلى الصاع والمد، لا لما يحوي المد ونحوه، وذكر الروياني وغيره: أن الاعتبار بالكيل لا بالوزن، وهذا هو الصحيح. قال أبو العباس الجرجاني: إلا العسل إذا أوجبنا فيه الزكاة، فالاعتبار فيه بالوزن، وتوسط صاحب العدة فقال: هو على التحديد في الكيل، وعلى التقريب في الوزن، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا. قلت: الصحيح: اعتبار الكيل كما صححه، وبهذا قطع الدارمي، وصنف في هذه المسألة تصنيفا، وسيأتي في إيضاحه زيادة في زكاة الفطر إن شاء الله تعالى، وهناك نذكر الخلاف في قدر رطل بغداد، والاصح: أنه مائة وثمانية وعشرون درهما، وأربعة أسباع درهم. فعلى هذا، الاوسق الخمسة بالرطل الدمشقي: ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلا ونصف رطل وثلث رطل وسبعا أوقية. والله أعلم.(2/94)
فصل لا فرق بين ما تنبته الارض المملوكة والمستأجرة في وجوب العشر، فيجب على مستأجر الارض العشر مع الاجرة، وكذا يجب عليه العشر والخراج في الارض الخراجية. قال أصحابنا: وتكون الارض خراجية في صورتين. إحداهما: أن يفتح الامام بلدة قهرا، ويقسمها بين الغانمين، ثم يعوضهم عنها، ثم يقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجا، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق، على ما هو الصحيح فيه. الثانية: أن يفتح بلدح صلحا، على أن تكون الارض للمسلمين، ويسكنها الكفار بخراج معلوم، فالارض تكون فيئا للمسلمين، والخراج عليها أجرة لا تسقط بإسلامهم، وهكذا إذا انجلى الكفار عن بلدة وقلنا: إن الارض تصير وقفا على مصالح المسلمين، يضرب عليها خراجا يؤديه من يسكنها مسلما كان أو ذميا. فأما إذا فتحت صلحا ولم يشرط كون الارض للمسلمين، ولكن سكنوا فيها بخراج، فهذا يسقط بالاسلام، فإنه جزية، وأما البلاد التي فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين، وبقيت في أيديهم، وكذا التي أسلم أهلها عليها، والارض التي أحياها المسلمون، فكلها عشرية، وأخذ الخراج منها ظلم. فرع النواحي التي يؤخذ منها الخراج، ولا يعرف كيف كان حالها في(2/95)
الاصل، حكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رحمة الله عليه: أنه يستدام الاخذ منها، فانه يجوز أن يكون الذي فتحها صنع بها كما صنع عمر رضي الله عنه بسواد العراق، والظاهر: أن ما جرى لطول الدهر، جرى بحق. فإن قيل: هل يثبت فيها حكم أرض السواد من امتناع البيع والرهن ؟ قيل: يجوز أن يقال: الظاهر في الاخذ كونه حقا، وفي الايدي الملك، فلا نترك واحدا من الظاهرين، إلا بيقين. فرع الخراج المأخوذ ظلما، لا يقوم مقام العشر، فإن أخذه السلطان على أن يكون بدلا عن العشر، فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد، وفي سقوط الفرض به وجهان. أحدهما وبه قطع في التتمة: السقوط، فإن لم يبلغ قدر العشر، أخرج الباقي، وذكر في النهاية: أن بعض المصنفين حكى قريبا من هذا عن أبي زيد واستبعده. قلت: الصحيح: السقوط، ونو نصه في الام وبه قطع جماهير الاصحاب، كالشيخ أبي حامد، والمحاملي، والماوردي، والقاضي أبي الطيب، ومن المتقدمين ابن أبي هريرة، ومنعه أبو إسحق. والله أعلم. فصل ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد، أو الرباطات، أو القناطر، أو الفقراء، أو المساكين، لا زكاة فيها، إذ ليس لها مالك معين، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، ونقل ابن المنذر عن الشافعي رحمه الله تعالى(2/96)
وجوب الزكاة فيها. فأما الموقوف على جماعة معينين، فتقدم بيانه في باب الخلطة. فصل في الحال الذي يعتبر فيه بلوغ المعشر خمسة أوسق إن كان نخلا أو عنبا، اعتبر تمرا وزبيبا، فإن كان رطبا لا يتخذ منه تمر، فوجهان. أصحهما: يوسق رطبا، والثاني: يعتبر بحالة الجفاف، وعلى هذا وجهان. أحدهما: يعتبر بنفسه بلوغه نصابا وإن كان حشفا، والثاني: بأقرب الارطاب إليه، وهذا إذا كان يجئ منه تمر ردئ، فأما إذا كان يفسد بالكلية، فيقتصر على الوجه الاصح، وهو توسيقه رطبا. والعنب الذي لا يتزبب، كالرطب الذي لا يتتمر، ولا خلاف في ضم ما لا يجفف منهما إلى ما يجفف في تكميل النصاب. ثم في أخذ الواجب من الذي لا يجفف إشكال ستعرفه مع الخلاص منه في مسألة إصابة النخل العطش إن شاء الله تعالى. وأما الحبوب، فيعتبر بلوغها نصابا بعد التصفية من التبن، ثم قشورها أضرب. أحدها: قشر لا يدخر الحب فيه، ولا يؤكل معه، فلا يدخل في النصاب، والثاني: قشر يدخر الحب فيه، ويؤكل معه كالذرة، فيدخل القشر في الحساب، فإنه طعام وإن كان قد يزال كما تقشر الحنطة. وفي دخول القشرة السفلى من الباقلاء في الحساب، وجهان. قال في العدة: المذهب لا يدخل الثالث: قشر يدخر الحب فيه ولا يؤكل معه، فلا يدخل في حساب النصاب، ولكن يؤخذ الواجب فيه كالعلس والارز. أما العلس، فقال الشافعي رحمه الله عنه في الام: يبقى بعد دياسه على كل حبتين منه كمام لا يزول إلا بالرحى الخفيفة، أو بمهراس، وإدخاره في ذلك الكمام أصلح له، وإذا أزيل، كان(2/97)
الصافي نصف المبلغ، فلا يكلف صاحبه إزالة ذلك الكمام عنه، ويعتبر بلوغه بعد الدياس عشرة أوسق ليكون الصافي منه خمسة. وأما الارز، فيدخر أيضا مع قشره، فإنه أبقى له، ويعتبر بلوغه مع القشر عشرة أوسق كالعلس، وعن الشيخ أبي حامد: أنه قد يخرج منه الثلث، فيعتبر بلوغه قدرا يكون الخارج منه نصابا. فصل لا يضم التمر إلى الزبيب في إكمال النصاب، ويضم أنواع التمر بعضها إلى بعض، وأنواع الزبيب بعضها إلى بعض، ولا تضم الحنطة إلى الشعير، ولا سائر أجناس الحبوب بعضها إلى بعض، ويضم العلس إلى الحنطة، لانه نوع منها، وأكمته يحوي الواحد منها حبتين، وإذا نحيت الاكمة، خرجت الحنطة الصافية، وقبل التنحية إذا كان له وسقان من العلس، وأربعة حنطة، تم نصابه. فلو كانت الحنطة ثلاثة أوسق، لم يتم النصاب إلا بأربعة أوسق علسا، وعلى هذا القياس. وأما السلت، فقال العراقيون وصاحب التهذيب: هو حب يشبه الحنطة في اللون والنعومة، والشعير في برودة الطبع، وعكس الصيدلاني وآخرون فقالوا: هو في صورة الشعير، وطبعه حار كالحنطة. قلت: الصحيح، بل الصواب ما قاله العراقيون، وبه قطع جماهير الاصحاب، وهو الذي ذكره أهل اللغة. والله أعلم. ثم فيه ثلاثة أوجه. أصحها، وهو نصه في البويطي: أنه أصل بنفسه لا يضم إلى غيره، والثاني: يضم إلى الحنطة، والثالث: إلى الشعير.(2/98)
فرع تقدم في الخلطة خلاف في ثبوتها في الثمار والزروع، وأنها إن ثبتت، فهل تثبت خلطتا الشيوع والجوار، أم الشيوع فقط، والمذهب ثبوتهما معا ؟ فإن قلنا: لا تثبتان، لم يكمل ملك رجل بملك غيره في إتمام النصاب، وإن أثبتناهما، كمل بملك الشريك والجار. ولو مات إنسان وخلف ورثة، ونخيلا مثمرة أو غير مثمرة، وبدا الصلاح في الحالين في ملك الورثة، فإن قلنا: لا تثبت الخلطة في الثمار، فحكم كل واحد منقطع عن غيره، فمن بلغ نصيبه نصابا، زكى، ومن لا، فلا، وسواء اقتسموا، أم لا. وإن قلنا: نثبت، قال الشافعي رحمه الله: إن اقتسموا قبل بدو الصلاح، زكوا زكاة الانفراد، فمن لم يبلغ نصيبه نصابا، فلا شئ عليه، وهذا إذا لم تثبت خلطة الجوار، أو أثبتناها وكانت متباعدة. أما إذا كانت متجاورة وأثبتناها، فيزكون زكاة الخلطة، كما قبل القسمة، وإن اقتسموا بعد بدو الصلاح، زكوا زكاة الخلطة، لاشتراكهم حالة الوجوب. ثم هنا اعتراضان. أحدهما للمزني قال: القسمة بيع، وبيع الربوي بعضه ببعض جزافا لا يجوز، وبيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب بيع جزاف، وأيضا فبيع الرطب بالرطب عند الشافعي لا يجوز بحال. أجاب الاصحاب بجوابين. أحدهما: قالوا: الامر على ما ذكر إن قلنا: القسمة بيع، ولكن فرع الشافعي رحمه الله على القول الآخر أنها إفراز الثاني، وإن قلنا: القسمة بيع، فتتصور القسمة هنا من وجوه. منها: أن يكون بعض النخيل مثمرا، وبعضها غير مثمر، فيجعل هذا هما، وذاك سهما، ويقسمه قسمة تعديل، فيكون بيع نخيل ورطب بنخل متمحض، وذلك جائز. ومنها: أن تكون التركة نخلتين، والورثة شخصين، اشترى أحدهما نصيب صاحبه من إحدى النخلتين أصلها وثمرها بعشرة دراهم، وباع نصيبه من الاخرى لصاحبه بعشرة، وتقاصا. قال الاصحاب: ولا يحتاج إلى شرط القطع وإن كان قبل بدو الصلاح، لان المبيع جزء شائع من الثمرة والشجرة معا، فصار كما لو باعها كلها بثمرتها صفقة، وإنما يحتاج إلى شرط القطع إذا أفرد الثمرة بالبيع.(2/99)
ومنها: أن يبيع كل واحد نصيبه من ثمرة إحدى النخلتين بنصيب صاحبه من جذعها، فيجوز بعد بدو الصلاح، ولا يكون ربا، ولا يجوز قبل بدوه إلا بشرط القطع، لانه بيع ثمرة تكون للمشتري على جذع البائع. وقال بعض الاصحاب: قسمة الثمار بالخرص تجوز على أحد القولين. قال: والذي ذكره الشافعي هنا تفريع على ذلك القول. ولك أن تقول: هذا يدفع إشكال البيع جزافا، ولا يدفع إشكال منع بيع الرطب بالرطب. الاعتراض الثاني: قال العراقيون: جواز القسمة قبل إخراج الزكاة، هو بناء على أن الزكاة في الذمة. فإن قلنا: إنها تتعلق بالعين، لم تصح القسمة. واعلم أنه يمكن تصحيح القسمة مع التفريع على قول العين، بأن تخرص الثمار عليهم، ويضمنوا حق المساكين، فلهم التصرف بعد ذلك، وأيضا فإنا حكينا في قول البيع قولين تفريعا على التعلق بالعين، فكذلك القسمة إن جعلناها بيعا، وإن قلنا: إفراز، فلا منع، وجميع ما ذكرناه إذا لم يكن على الميت دين، فإن مات وعليه دين، وله نخيل مثمرة، فبدا الصلاح فيها بعد موته وقبل أن تباع، فالمذهب والذي قطع به الجمهور: وجوب الزكاة على الورثة، لانها ملكهم ما لم تبع في الدين، وقيل: قولان. أظهرهما: هذا، والثاني: لا تجب لعدم استقرار الملك في الحال، ويمكن بناؤه على الخلاف في أن الدين هل يمنع الارث، أم لا ؟ فعلى المذهب: حكمهم في كونهم يزكون زكاة خلطة، أم انفراد ؟ على ما سبق إذا لم يكن دين. ثم إن كانوا موسرين، أخذت الزكاة منهم، وصرفت النخيل والثمار إلى(2/100)
دين الغرماء، وإن كانوا معسرين، فطريقان. أحدهما: أنه على الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالذمة، أم بالعين ؟ إن قلنا: بالذمة والمال مرهون بها، خرج على الاقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي. فإن سوينا، وزعنا المال على الزكاة والغرماء، وإن قلنا: بالعين، أخذت، سواء قلنا: تعلق الارش، أو تعلق الشركة. والطريق الثاني وهو الاصح: تؤخذ الزكاة بكل حال لشدة تعلقها بالمال. ثم إذا أخذت من العين ولم يف الباقي بالدين، غرم الورثة قدر الزكاة لغرماء الميت إذا أيسروا، لان وجوب الزكاة عليهم، وبسببه خرج ذلك القدر عن الغرماء. قال صاحب التهذيب: هذا إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة. فإن علقناها بالعين، لم يغرموا كما ذكرنا في الرهن. أما إذا كان إطلاع النخل بعد موته، فالثمرة محض حق الورثة، لا تصرف إلى دين الغرماء، إلا إذا قلنا بالضعيف: إن الدين يمنع الارث، فحكمها كما لو حدثت قبل موته. فصل لا تضم ثمرة العام الثاني إلى ثمرة العام الاول في إكمال النصاب بلا خلاف وإن فرض إطلاع ثمرة العام الثاني قبل جداد ثمرة الاول. ولو كانت له نخيل تحمل في العام الواحد مرتين، لم يضم الثاني إلى الاول. قال الاصحاب: هذا لا يكاد يقع في النخل والكرم، لانهما لا يحملان في السنة حملين، وإنما يقع ذلك في التين وغيره مما لا زكاة فيه، ولكن ذكر الشافعي رحمه الله المسألة بيانا لحكمها لو تصورت. ثم إن القاضي ابن كج فصل فقال: إن أطلعت النخل الحمل الثاني بعد جداد الاول، فلا يضم، وإن أطلعت قبل جداده وبعد بدو الصلاح، ففيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في حمل نخلتين، وهذا الذي قاله، لا يخالف إطلاق الجمهور عدم الضم، لان السابق إلى الفهم من الحمل الثاني، هو الحادث بعد جداد الاول. ولو كان له نجيل أو أعناب يختلف إدراك ثمارها في العام، لاختلاف أنواعها أو بلادها، فإن أطلع المتأخر قبل بدو صلاح الاول، ضم إليه، وإن أطلع بعد جداد الاول، فوجهان. قال ابن كج وأصحاب القفال: لا يضم، وقال أصحاب الشيخ أبي حامد: يضم، وفي ظاهر نص الشافعي ما يدل لهم.(2/101)
قلت: هذا هو الراجح، ورجحه في المحرر. والله أعلم. وإن كان إطلاعه قبل جداد الاول وبعد بدو صلاحه، فإن قلنا: فيما بعد الجداد يضم، فهنا أولى، وإلا فوجهان. أصحهما في التهذيب: لا يضم، وإذا قلنا بقول أصحاب القفال، فهل يقام وقت الجداد مقام الجداد ؟ وجهان. أوفقهما: يقام، فإن الثمار بعد وقت الجداد كالمجدودة، ولهذا لو أطلعت النخلة للعام الثاني وعليها بعض ثمرة الاول، لم يضم قطعا. فعلى هذا قال إمام الحرمين: لجداد الثمار أول وقت ونهاية يكون ترك الثمار إليها أولى، وتلك النهاية هي المعتبرة. فرع: من مواضع اختلاف إدراك الثمر نجد، وتهامة. فتهامة حارة يسرع إدراك الثمرة بها، بخلاف نجد، فإذا كانت لرجل نخيل تهامية، ونخيل نجدية، فأطلعت التهامية ثم النجدية لذلك العام، واقتضى الحال ضم النجدية إلى التهامية على ما سبق بيانه، فضمها ثم أطلعت التهامية ثمرة أخرى، فلا يضم ثمرة هذه المرة إلى النجدية. وإن أطلعت قبل بدو صلاحها، لانا لو ضممناها إلى النجدية، لزم ضمها إلى التهامية الاولى، وذلك لا يجوز. هكذا ذكره الاصحاب. قال الصيدلاني وإمام الحرمين: ولو لم تكن النجدية مضمومة إلى التهامية الاولى، بأن أطلعت بعد جدادها، ضممنا التهامية الثانية إلى النجدية، لانه لا يلزم المحذور الذي ذكرناه، وهذا الذي قالاه قد لا يسلمه سائر الاصحاب، لانهم حكموا بضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، وبأنه لا تضم ثمرة عام إلى ثمرة عام آخر، والتهامية الثانية حمل عام آخر. فصل لا يضم زرع عام إلى زرع عام آخر، في إكمال النصاب واختلاف أوقات الزراعة، لضرورة التدريج، كالذي يبتدئ الزراعة، ويستمر فيها شهرا أو شهرين، لا يقدح، بل يعد زرعا واحدا، ويضم قطعا. ثم الشئ قد يزرع(2/102)
في السنة مرارا، كالذرة تزرع في الخريف، والربيع، والصيف، ففي ضم بعضها إلى بعض عشرة أقوال، أكثرها منصوصة، وأرجحها عند الاكثرين: إن وقع الحصادان في سنة واحدة، ضم، وإلا فلا. الثاني: إن وقع الزرعان في سنة، ضم، وإلا فلا، ولا يؤثر اختلاف الحصاد واتفاقه. والثالث: إن وقع الزرعان والحصادان في سنة، ضم، وإلا فلا. واجتماعهما في سنة: أن يكون بين زرع الاول وحصد الثاني، أقل من اثني عشر شهرا عربية. كذا قاله صاحب النهاية والتهذيب. والرابع: إن وقع الزرعان والحصادان، أو زرع الثاني وحصد الاول في سنة، ضم، وهذا بعيد عند الاصحاب. والخامس: الاعتبار بجميع السنة أحد الطرفين، إما الزرعين، وإما الحصادين. والسادس: إن وقع الحصادان في فصل واحد، ضم، وإلا فلا. والسابع: إن وقع الزرعان في فصل، ضم، وإلا فلا. والثامن: إن وقع الزرعان والحصادان في فصل واحد، ضم، وإلا فلا، والمراد بالفصل: أربعة أشهر. والتاسع: أن المزروع بعد حصد الاول، لا يضم كحملي الشجرة، والعاشر خرجه أبو إسحق: أن ما يعد زرع سنة، يضم، ولا أثر لاختلاف الزرع والحصاد. قال: ولا أعني بالسنة اثني عشر شهرا، فان الزرع لا يبقى هذه المدة، وإنما أعني بها ستة أشهر إلى ثمانية. هذا كله إذا كان زرع الثاني بعد حصد الاول، فلو كان زرع الثاني بعد اشتداد حب الاول، فطريقان. أصحهما: أنه على هذا الخلاف، والثاني: القطع بالضم لاجتماعهما في الحصول في الارض. ولو وقع الزرعان معا، أو على التواصل المعتاد، ثم أدرك أحدهما والثاني بقل لم ينعقد(2/103)
حبه، فطريقان. أصحهما: القطع بالضم، والثاني: على الخلاف، لاختلافهما في وقت الوجوب، بخلاف ما لو تأخر بدو الصلاح في بعض الثمار، فإنه يضم إلى ما بدا فيه الصلاح قطعا، لان الثمرة الحاصلة، هي متعلق الزكاة بعينها، والمنتظر فيها صفة الثمرة، وهنا متعلق الزكاة الحب، ولم يخلق بعد، والموجود حشيش محض. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد، ثم تستخلف في بعض المواضع، فتحصد أخرى، فهو زرع واحد وإن تأخرت حصدته الاخرى. واختلف أصحابنا في مراده على ثلاثة أوجه. أحدها: مراده إذا سنبلت واشتدت، فانتثر بعض حباتها بنفسها، أو بنقر العصافير، أو بهبوب الرياح، فنبتت الحبات المنتثرة في تلك السنة مرة أخرى وأدركت، والثاني: مراده إذا نبتت والتقت، وعلا بعض طاقاتها فغطى البعض، وبقي المغطى مخضرا تحت العالي، فإذا حصد العالي أثرت الشمس في المخضر، فأدرك، والثالث: مراده الذرة الهندية، تحصد سنابلها، وتبقى سوقها، فتخرج سنابل أخر. ثم اختلفوا في الصور الثلاث بحسب اختلافهم في المراد بالنص، واتفق الجمهور على أن ما نص عليه، قطع منه بالضم، وليس تفريعا على بعض الاقوال السابقة في الفرع الماضي. فذكروا في الصورة الاولى طريقين. أحدهما: القطع بالضم، والثاني: أنه على الاقوال في الزرعين المختلفين في الوقت، ومقتضى كلام الغزالي والبغوي، ترجيح هذا. وفي الصورة الثانية أيضا طريقان. أصحهما: القطع بالضم، والثاني: على الخلاف. وفي الثالث: طرق. أصحها: القطع بالضم، والثاني: القطع بعدم الضم، والثالث: على الخلاف. فصل يجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر، وكذا(2/104)
البقل، وهو الذي يشرب بعروقه لقربه من الماء، وكذا ما يشرب من ماء ينصب إليه من جبل، أو نهر، أو عين كبيرة، ففي هذا كله العشر، وما سقي بالنضح، أو الدلاء، أو الدواليب، ففيه نصف العشر، وكذا ما سقي بالدالية وهي المنجنون يديرها البقر، وما سقي بالناعور وهو ما يديره الماء بنفسه. وأما القنوات والسواقي المحفورة من النهر العظيم، ففيها العشر كماء السماء. هذا هو المذهب المشهور الذي قطع به طوائف الاصحاب من العراقيين وغيرهم، وادعى إمام الحرمين، اتفاق الائمة عليه، لان مؤنة القنوات، إنما تتحمل لاصلاح الضيعة، والانهار تشق لاحياء الارض، وإذا تهيأت، وصل الماء إلى الزرع بنفسه مرة بعد أخرى، بخلاف النواضح ونحوها، فمؤنتها فيها لنفس الزرع، ولنا وجه أفتى به أبو سهل الصعلوكي: أنه يجب نصف الشعر في السقي بماء القناة، وقال صاحب التهذيب: إن كانت القناة أو العين كثيرة المؤنة، بأن لا تزال تنهار وتحتاج إلى إحداث حفر، وجب نصف العشر. وإن لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الاول، وكسحها في بعض الاوقات، فالعشر، والمذهب ما قدمناه. فرع قال القاضي ابن كج: لو اشترى الماء، كان الواجب نصف العشر، وكذا لو سقاه بماء مغصوب، لان عليه ضمانه، وهذا حسن جار على كل مأخذ، فإنه لا يتعلق بصلاح الضيعة، بخلاف القناة. ثم حكى ابن كج عن ابن القطان(2/105)
وجهين فيما لو وهب له الماء، ورجح إلحاقه بالمغصوب للمنة العظيمة، وكما لو علف ماشيته بعلف موهوب. قلت: الوجهان إذا قلنا: لا تقتضي الهبة ثوابا. صرح به الدارمي، قال: فإن قلنا: تقتضيه، فنصف العشر قطعا. والله أعلم. فرع إذا اجتمع في الزرع الواحد السقي بماء السماء والنضح، فله حالان. أحدهما: أن يزرع عازما على السقي بهما، ففيه قولان. أظهرهما: يقسط الواجب عليهما، فإن كان ثلثا السقي بماء السماء، والثلث بالنضح، وجب خمسة أسداس العشر. ولو سقي على التساوي، وجب ثلاثة أرباع العشر، والثاني: الاعتبار بالاغلب، فإن كان ماء السماء أغلب، وجب العشر، وإن غلب النضح، فنصف العشر، فإن استويا، فوجهان. أصحهما: يقسط كالقول الاول، وبهذا قطع الاكثرون، والثاني: يجب العشر، نظرا للمساكين. ثم سواء قسطنا، أو اعتبرنا الاغلب، فالنظر إلى ماذا ؟ وجهان. أحدهما: النظر إلى عدد السقيات، والمراد: السقيات النافعة دون ما لا ينفع. والثاني وهو أوفق لظاهر النص: الاعتبار بعيش الزرع أو الثمر ونمائه، وعبر بعضهم عن هذا الثاني بالنظر إلى النفع، وقد تكون السقية الواحدة أنفع من سقيات كثيرة. قال إمام الحرمين: والعبارتان متقاربتان، إلا أن صاحب الثانية لا ينظر إلى المدة، بل يعتبر النفع الذي يحكم به أهل الخبرة، وصاحب الاولى يعتبر المدة. واعلم أن اظتبار المدة هو الذي قطع به الاكثرون، تفريعا على الوجه الثاني، وذكروا في المثال: أنه لو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الادراك ثمانية أشهر، واحتاج في ستة أشهر زمن الشتاء والربيع إلى سقيتين، فسقى بماء السماء، وفي شهرين من الصيف إلى ثلاث سقيات، فسقى بالنضح، فإن اعتبرنا عدد(2/106)
السقيات، فعلى قول التوزيع: يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر، وعلى اعتبار الاغلب: يجب نصف العشر، وإن اعتبرنا المدة، فعلى قول التوزيع: يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر، وعلى اعتبار الاغلب: يجب العشر. ولو سقي بماء السماء والنضح جميعا، وجهل المقدار، وجب ثلاثة أرباع العشر على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وحكى ابن كج وجها: أنه يجب نصف العشر، لان الاصل براءة الذمة مما زاد. الحال الثاني: أن يزرع ناويا السقي بأحدهما، ثم يقع الآخر، فهل يستصحب حكم ما نواه أولا، أم يتغير الحكم ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ثم في كيفية اعتبارهما، الخلاف المتقدم. فرع لو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقى ؟ فالقول قول المالك، لان الاصل عدم وجوب الزيادة. فرع لو سقى زرعا بماء السماء، وآخر بالنضح، ولم يبلغ واحد منهما نصابا، ضم أحدهما إلى الآخر لتمام النصاب وإن اختلف قدر الواجب. فصل إذا كان الذي يملكه من الحبوب والثمار نوعا واحدا، أخذت منه الزكاة، فإن أخرج أعلى منه أخزأه، ودونه لا يجوز. وإن اختلفت أنواعه، فإن لم يتعسر أخذ الواجب من كل نوع بالحصة، أخذ بالحصة، بخلاف نظيره في المواشي، فقد قدمنا فيه خلافا، لان التشقيص محذور في الحيوان، دون الثمار، وطرد ابن كج القولين هنا، والمذهب: الفرق. فإن عسر أخذ الواجب من كل نوع، بأن كثرت وقل ثمرها، ففيه أوجه. الصحيح: أنه يخرج من الوسط رعاية للجانبين، والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه، والثالث: من الغالب، وقيل: يؤخذ الوسط قطعا. وإذا قلنا بالوسط، فتكلف وأخرج من كل نوع بقسطه، جاز،(2/107)
ووجب على الساعي قبوله. فرع إذا حضر الساعي لاخذ العشر، كيل لرب تسعة، وأخذ الساعي العاشر، وإنما بدأ بالمالك، لان حقه أكثر، وبه يعرف حق المساكين. فإن كان الواجب نصف العشر، كيل لرب المال تسعة عشر، ثم للساعي واحد، وإن كان ثلاثة أرباع العشر، كيل للمالك سبعة وثلاثون، وللساعي ثلاثة، ولا يهز المكيال، ولا يزلزل، ولا توضع اليد فوقه، ولا يمسح، لان ذلك يختلف، بل يصب فيه ما يحتمله، ثم يفرغ. فصل وقت وجوب زكاة النخل والعنب، الزهو، وهو بدو الصلاح. ووقت الوجوب في الحبوب، اشتدادها، هذا هو المذهب والمشهور. وحكي قول: أن وقت الوجوب الجفاف والتصفية، ولا يتقدم الوجوب على الامر بالاداء، وقول قديم: أن الزكاة تجب عند فعل الحصاد. ثم الكلام في معنى بدو الصلاح، وأن بدو الصلاح في البعض كبدوه في الجميع على ما هو مذكور في كتاب البيع. ولا يشترط تمام اشتداد الحب، كما لا يشترط تمام الصلاح في الثمار. ويتفرع على المذهب: أنه لو اشترى نخيلا مثمرة، أو ورثها قبل بدو الصلاح، ثم بدا، فعليه الزكاة. ولو اشترى بشرط الخيار، فبدا الصلاح في زمن الخيار، فإن قلنا: الملك للبائع، فعليه الزكاة وإن تم البيع، وإن قلنا: للمشتري، فعليه الزكاة وإن فسخ، وإن قلنا: موقوف، فالزكاة موقوفة، ولو باع المسلم النخلة المثمرة قبل بدو الصلاح لذمي أو مكاتب، فبدا الصلاح في ملكه، فلا زكاة على أحد. فلو عاد إلى ملك المسلم بعد بدو الصلاح، ببيع مستأنف، أو بهبة، أو تقايل، أو رد بعيب، فلا زكاة عليه، لانه لم يكن في ملكه حال الوجوب.(2/108)
ولو باع النخيل لمسلم قبل بدو الصلاح، فبدا في ملك المشتري، ثم وجد بها عيبا، فليس له الرد إلا برضى البائع، لتعلق الزكاة بها، وهو كعيب حدث في يده، فإن أخرج المشتري الزكاة من نفس الثمرة، أو من غيرها، فحكمه على ما ذكرنا في الشرط الرابع من زكاة النعم. أما إذا باع الثمرة وحدها قبل بدو الصلاح، فلا يصح البيع إلا بشرط القطع، فإن شرطه ولم يتفق القطع حتى بدا الصلاح، فقد وجب العشر. ثم ينظر، فإن رضيا بإبقائها إلى أوان الجداد، جاز، والعشر على المشتري، وحكي قول: أنه ينفسخ البيع، كما لو اتفقا على الابقاء عند البيع، والمشهور الاول. وإن لم يرضيا بالابقاء، لم تقطع الثمرة، لان فيه إضرارا بالمساكين. ثم فيه قولان. أحدهما: ينفسخ البيع لتعذر إمضائه. وأظهرهما: لا ينفسخ، لكن إن لم يرض البائع بالابقاء، يفسخ، وإن رضي به، وأبى المشتري إلا القطع، فوجهان. أحدهما: يفسخ، وأصحهما: لا يفسخ. ولو رضي البائع ثم رجع، كان له ذلك، لان رضاه إعارة، وحيث قلنا: يفسخ البيع، ففسخ، فعلى من تجب الزكاة ؟ قولان. أحدهما: على البائع، وأظهرهما: على المشتري كما لو فسخ بعيب، فعلى هذا لو أخذ الساعي من عين الثمرة، رجع البائع على المشتري. فرع إذا قلنا بالمذهب: إن بدو الصلاح واشتداد الحب وقت الوجوب، لم يكلف الاخراج في ذلك الوقت، لكن ينعقد سببا لوجوب الاخراج إذا صار تمرا أو زبيبا أو حبا مصفى، وصار للفقراء في الحال حق يدفع إليهم، إجزاء، فلو أخرج الرطب في الحال، لم يجز، فلو أخذ الساعي الرطب، لم يقع الموقع ووجب رده إن كان باقيا، وإن تلف، فوجهان. الصحيح الذي قطع به الاكثرون ونص عليه الشافعي رحمة الله عليه: أنه يرد قيمته، والثاني: يرد مثله. والخلاف مبني على(2/109)
أن الرطب والعنب مثليان، أم لا ؟ ولو جف عند الساعي، فإن كان قدر الزكاة، أجزأ، وإلا رد التفاوت، أو أخذه، كذا قاله العراقيون، والاولى: وجه آخر ذكره ابن كج: أنه لا يجزئ بحال، لفساد القبض من أصله، ومؤونة تجفيف الثمر، وجداده، وحصاد الحب، وتصفيته، تكون من خلاص مال المالك لا يحسب شئ منها من مال الزكاة، وجميع ما ذكرنا، هو في الرطب الذي يجئ منه تمر، فإن كان لا يجئ شئ منه، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فصل خرص الرطب والعنب اللذين تجب فيهما الزكاة، مستحب. ولنا وجه شاذ حكاه صاحب البيان عن حكاية الصيمري: أنه واجب، ولا يدخل الخرص في الزرع. ووقت خرص الثمرة بدو الصلاح، وصفته أن يطوف بالنخلة ويرى جميع عناقيدها ويقول: خرصها كذا رطبا، ويجئ منه من التمر كذا، ثم يفعل بالنخلة الاخرى كذلك، وكذا باقي الحديقة. ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي، لانها تتفاوت، وإنما تخرص رطبا ثم تمرا، لان الارطاب تتفاوت، فإن اتحد النوع، جاز أن يخرص الجميع رطبا، ثم تمرا، ثم المذهب الصحيح المشهور: أنه يخرص جميع النخل، وحكي قول قديم: أنه يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكلها أهله، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في كثرة عياله وقلتهم. قلت: هذا القديم، نص عليه أيضا في البويطي ونقله البيهقي عن نصه في البويطي والبيوع والقديم. والله أعلم. فرع هل يكفي خارص، أم لا بد من خارصين ؟ فيه(2/110)
طريقان. أحدهما: القطع بخارص، وبه قال ابن سريج والاصطخري، وأصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: واحد، والثاني: لا بد من اثنتين، والثالث: إن خرص على صبي أو مجنون أو غائب، فلا بد من اثنين، وإلا كفى واحد، وسواء اكتفينا بواحد، أم اشترطنا اثنين، فشرط الخارص كونه مسلما عدلا، عالما بالخرص. وأما اعتبار الذكورة والحرية، فقال صاحب العدة: إن اكتفينا بواحد، اعتبرا، وإلا جاز عبد وامرأة، وذكر الشاشي في اعتبار الذكورة وجهين مطلقا. ولك أن تقول: إن اكتفينا بواحد، فسبيله سبيل الحكم، فتشترط الحرية والذكورة، وإن اعتبرنا اثنين، فسبيله سبيل الشهادات، فينبغي أن تشترط الحرية، وأن تشترط الذكورة في أحدهما، وتقام امرأتان مقام الآخر. قلت: الاصح: اشتراط الحرية والذكورة، وصححه في المحرر ولو اختلف الخارصان، توقفنا حتى يتبين المقدار منهما، أو من غيرهما. قاله الدارمي، وهو ظاهر. والله أعلم. فرع هل الخرص عبرة، أو تضمين ؟ قولان. أظهرهما: تضمين، ومعناه: ينقطع حق المساكين من عين الثمرة، وينتقل إلى ذمة المالك.(2/111)
والثاني: عبرة، ومعناه: أنه مجرد اعتبار للقدر، ولا يضر حق المساكين في ذمة المالك. وفائدته على هذا، جواز التصرف كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن فوائده أيضا: لو أتلف المالك الثمار، أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص، ولولا الخرص لكان القول قوله في ذلك. فإذا قلنا: عبرة، فضمن الخارص للمالك، حق المساكين تضمينا صريحا وقبله المالك، كان لغوا، ويبقى حقهم على ما كان. وإذا قلنا: تضمين، فهل نفس الخرص تضمين، أم لا بد من تصريح الخارص بذلك ؟ فيه طريقان. أحدهما: على وجهين. أحدهما: نفسه تضمين، والثاني: لا بد من التصريح. قال إمام الحرمين: وعلى هذا فالذي أراه: أنه يكفي تضمين الخارص، ولا يحتاج إلى قبول المالك. والطريق الثاني وهو المذهب الذي عليه الاعتماد وقطع به الجمهور: أنه لا بد من التصريح بالتضمين وقبول المالك، فإن لم يضمنه أو ضمنه، فلم يقبل المالك، بقي حق المساكين على ما كان، وهل يقوم وقت الخرص مقام الخرص ؟ إن قلنا: لا بد من التصريح بالتضمين، لم يقم، وإلا، فوجهان. قلت: الاصح: لا يقوم. والله أعلم. فرع إذا أصابت الثمار آفة سماوية، أو سرقت في الشجرة، أو في الجرين قبل الجفاف، فإن تلف الجميع، فلا شئ على المالك باتفاق الاصحاب لفوات الامكان، والمراد إذا لم يقصر. فأما إذا أمكن الدفع، فأخر، أو وضعها في غير حرز، فانه يضمن. وإن تلف بعض الثمار، فإن كان الباقي نصابا، زكاه، وإن كان قبل دونه، بني على أن الامكان شرط في الوجوب، أو للضمان. فإن قلنا بالاول، فلا شئ، وإلا زكى الباقي بحصته. أما إذا أتلف المالك الثمرة أو أكلها، فإن كان قبل بدو الصلاح، فلا زكاة، لكنه مكروه إن قصد الفرار منها، وإن قصد الاكل أو التخفيف عن الشجرة، أو غرضا آخر، فلا كراهة، وإن كان بعد الصلاح، ضمن للمساكين. ثم له حالان.(2/112)
أحدهما: أن يكون ذلك بعد الخرص. فإن قلنا: الخرص تضمين، ضمن لهم عشر الثمن، لانه ثبت في ذمته بالخرص، وإن قلنا: عبرة، فهل يضمن عشر الرطب، أو قيمة عشره ؟ فيه وجهان بناء على أنه مثلي، أم لا ؟ والصحيح الذي قطع به الاكثرون: عشر القيمة. الحال الثاني: أن يكون الاتلاف قبل الخرص، فيعزر، والواجب ضمان الرطب، إن قلنا: لو جرى الخرص لكان عبرة. وإن قلنا: تضمين، فوجهان. أصحهما: ضمان الرطب، والثاني: التمر. ولنا وجه: أنه يضمن في هذه الحال أكثر الامرين من عشر الثمن، وقيمة عشر الرطب. والحالان مفروضان في رطب يجئ منه تمر، وعنب يجئ منه زبيب. فإن لم يكن كذلك، فالواجب في الحالين ضمان الرطب بلا خلاف. فرع تصرف المالك فيما خرص عليه بالبيع والاكل وغيرهما، مبني على قولي التضمين، والعبرة. فإن قلنا: بالتضمين، تصرف في الجميع، وإن قلنا: بالعبرة، فنفوذ تصرفه في قدر الزكاة يبنى على أن الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة، وقد سبق. وأما ما زاد على قدر الزكاة، فنقل إمام الحرمين والغزالي (أن) الاصحاب قطعوا بنفوذه. ولكن الموجود في كتب العراقيين: أنه لا يجوز(2/113)
البيع ولا سائر التصرفات، في شئ من الثمار إذا لم يصر الثمن في ذمته بالخرص. فإن أرادوا نفي الاباحة دون الفساد، فذاك، وإلا فدعوى القطع غير مسلمة. وكيف كان، فالمذهب جواز التصرف في الاعشار التسعة، سواء أفردت بالتصرف أو تصرف في الجميع، لانا وإن قلنا بالفساد في قدر الزكاة، فلا يعديه إلى الباقي على المذهب. أما إذا تصرف المالك قبل الخرص، فقال في التهذيب: لا يجوز أن يأكل ولا يتصرف في شئ، فإن لم يبعث الحاكم خارصا، أو لم يكن حاكم، يحاكم إلى عدلين يخرصان عليه. فرع إذا ادعى المالك هلاك الثمار المخروصة عليه، أو بعضها، نظر، إن أسنده إلى سبب يكذبه الحس، كقوله: هلك بحريق وقع في الجرين، وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق، لم نبال بكلامه، وإن أسنده إلى سبب خفي، كالسرقة، لم يكلف بينة، ويقبل قوله بيمينه. وهل يمينه واجبة، أم مستحبة ؟ وجهان. أصحهما: مستحبة، وإن أسنده إلى سبب ظاهر، كالبرد، والنهب، والجراد، ونزول العكسر، فإن عرف وقوع ذلك السبب وعموم أثره، صدق بلا يمين. فإن اتهم في هلاك ثماره به، حلف، وإن لم يعرف وقوع، فالصحيح وبه قال الجمهور: يطالب بالبينة، لامكانها. ثم القول قوله في الهلاك به،(2/114)
والثاني: القول قوله بيمينه، والثالث: يقبل بلا يمين إذا كان ثقة. وحيث حلفناه، فاليمين مستحبة لا واجبة على الاصح كما سبق. أما إذا اقتصر على دعوى الهلاك من غير تعرض لسبب، فالمفهوم من كلام الاصحاب قبوله مع اليمين. فرع إذا ادعى المالك إجحافا في الخرص، فإن زعم أن الخارص تعمد ذلك، لم يلتفت إليه، كما لو ادعى ميل الحاكم، أو كذب الشاهد، لا يقبل إلا ببينة. وإن ادعى أنه غلط، فإن لم يبين القدر، لم تسمع، وإن بينه وكان يحتمل الغلط في مثله، كخمسة أوسق في مائة، قبل. فإن اتهم، حلف وحط عنه. هذا إذا كان المدعى فوق ما يقع بين الكيلين. وأما إذا بعد الكيل غلطا يسيرا في الخرص بقدر ما يقع في الكيلين، فهل يحط ؟ وجهان. أحدهما: لا، لاحتمال أن النقص وقع في الكيل، ولو كيل ثانيا وفى، والثاني: يحط، لان الكيل يقين، والخرص تخمين فالاحالة عليه أولى. قلت: هذا أقوى، وصحح إمام الحرمين الاول. والله أعلم. وإن ادعى نقصا فاحشا، لا يجوز أهل الخبرة الغلط بمثله، لم يقبل في حط جميعه، وهل يقبل في حط الممكن ؟ وجهان. أصحهما: يقبل، كما لو ادعت معتدة بالاقراء انقضاءها قبل زمن الامكان، وكذبناها، وأصرت على الدعوى حتى جاء زمن الامكان، فإنا نحكم بانقضائها لاول زمن الامكان.(2/115)
فصل إذا أصاب النخل عطش، ولو تركت الثمار عليها إلى أوان الجداد لاضرت بها، جاز قطع ما يندفع به الضرر، إما كلها، وإما بعضها. وهل يستقل المالك بقطعها، أم يحتاج إلى استئذان الامام أو الساعي ؟ قال الصيدلاني، وصاحب التهذيب وطائفة: يستحب الاستئذان. وقال آخرون: ليس له الاستقلال، فإن استقل عزر إن كان عالما. قلت: هذا أصح، وبه قطع العراقيون والسرخسي. والله أعلم. فأما إذا علم الساعي قبل القطع، وأراد القسمة بأن يخرص الثمار ويعين حق المساكين في نخلة أو نخلات بأعيانها، فقولان منصوصان. قال الاصحاب: هما بناء على أن القسمة بيع أو إفراز حق. فان قلنا: إفراز، جاز، ثم للساعي أن يبيع نصيب المساكين للمالك أو غيره، وأن يقطع ويفرقه بينهم، يفعل ما فيه الحظ لهم، وإن قلنا: إنها بيع، لم يجز، وعلى هذا الخلاف تخرج القسمة بعد قطعها. إن قلنا: إفراز، جازت، وإلا، ففي جوازها خلاف مبني على جواز بيع الرطب الذي لا يتتمر بمثله. فإن جوزناه، جازت القسمة بالكيل، وإلا فوجهان. أحدهما: تجوز مقاسمة الساعي، لانها ليست بمعاوضة، فلا يراعى فيها تعبدات الربا، ولان الحاجة داعية إليها، وأصحهما عند الاكثرين: لا تجوز. فعلى هذا، له في الاخذ مسلكان. أحدهما: يأخذ قيمة عشر الرطب المقطوع، وجوز بعضهم القيمة للضرورة كما قدمناه في شقص الحيوان، والثاني: يسلم عشرا مشاعا إلى الساعي، ليتعين حق المساكين، وطريق تسليم العشر تسليم الجميع. فإذا سلمه، فللساعي بيع نصيب المساكين للمالك أو غيره، أو يبيع هو والمالك ويقسمان الثمن، وهذا المسلك جائز بلا خلاف، وهو متعين عند من لم يجوز القسمة، وأخذ القيمة. وخير بعض الاصحاب الساعي بين القسمة وأخذ القيمة، وقال كل واحد منهما خلاف القاعدة، واحتمل للحاجة، فيفعل ما فيه الحظ للمساكين. ثم ما ذكرناه هنا من الخلاف، والتفصيل في إخراج الواجب، يجري بعينه في إخراج(2/116)
الواجب عن الرطب الذي لا يتتمر، والعنب الذي لا يتزبب. وفي المسألتين مستدرك حسن لامام الحرمين. قال: إنما يثور الاشكال على قولنا: المساكين شركاء في النصاب بقدر الزكاة، وحينئذ ينتظم التخريج على القولين في القسمة. فأما إذا لم نجعلهم شركاء، فليس تسليم جزء إلى الساعي قسمة حتى يأتي فيه القولان في القسمة، بل هو توفية حق إلى مستحق. قلت: لو اختلف الساعي والمالك في جنس التمر بعد تلفه تلفا مضمنا، فالقول قول المالك. فإن أقام الساعي شاهدين، أو شاهدا وامرأتين، قضي له، وإن أقام شاهدا، فلا، لانه لا يحلف معه، قاله الدارمي. وإذا خرص عليه، فتلف بعضه تلفا يسقط الزكاة، وأكل بعضه، وبقي بعضه، ولم يعرف الساعي ما تلف، فإن عرف المالك ما أكل، زكاه مع ما بقي. فإن اتهمه، حلفه استحبابا على الاصح، ووجوبا على الآخر، وإن قال: لا أعرف قدر ما أكلته، ولا ما تلف. قال الدارمي: قلنا له: إن ذكرت قدرا ألزمناك بما أقررت به، فإن اتهمناك حلفناك، وإن ذكرت مجملا، أخذنا الزكاة بخرصنا. قال أصحابنا: ولو خرص، فأقر المالك بأنه زاد على المخروص، أخذنا الزكاة من الزيادة، سواء كان ضمن، أم لا. والله أعلم.
باب زكاة الذهب والفضة
لا زكاة فيهما فيما دون النصاب. ونصاب الفضة: مائتا درهم. والذهب:(2/117)
عشرون مثقالا، وزكاتهما ربع العشر، ويجب فيما زاد على النصاب منهما بحسابه، قل أم كثر، وسواء فيهما المضروب والتبر، وغيره، والاعتبار بوزن مكة. فأما المثقال فمعروف، ولم يختلف قدره في الجاهلية ولا في الاسلام. وأما الفضة: فالمراد دراهم الاسلام، وزن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم، سبعة مثاقيل ذهب. وقد أجمع أهل العصر الاول على هذا التقدير. قيل: كان في زمن بني أمية، وقيل: كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولو نقص عن النصاب حبة أو بعض حبة، فلا زكاة، وإن راج رواج التام، أو زاد على التام بجودة نوعه. ولو نقص في بعض الموازين، وتم في بعضها، فوجهان. الصحيح: أنه لا زكاة، وبه قطع المحاملي وغيره. ويشترط ملك النصاب بتمامه حولا كاملا. ولا يكمل نصاب أحد النقدين بالآخر، كما لا يكمل التمر بالزبيب، ويكمل الجيد بالردئ من الجنس الواحد، كأنواع الماشية. والمراد بالجودة: النعومة، والصبر على الضرب ونحوهما. وبالرداءة: بالخشونة، والتفتت عند الضرب. وأما إخراج زكاة الجيد والردئ، فإن لم تكثر أنواعه، أخرج من كل بقسطه، وإن كثرت وشق اعتبار الجميع، أخرج من الوسط. ولو أخرج الجيد عن الردئ، فهو أفضل، وإن أخرج الردئ عن الجيد، لم يجزئه على الصحيح الذي قطع به الاصحاب. وقال الصيدلاني: يجزئه، وهو غلط. ويجوز إخراج الصحيح عن المكسر، ولا يجوز عكسه، بل يجمع المستحقين ويصرف إليهم الدينار الصحيح، بأن يسلمه إلى واحد بإذن الباقين، هذا هو الصحيح المعروف. وحكي(2/118)
وجه: أنه يجوز أن يصرف إلى كل واحد حصته مكسرا. ووجه: أنه يجوز ذلك، لكن مع التفاوت بين الصحيح والمكسر. ووجه: أنه يجوز إذا لم يكن بين الصحيح والمكسر فرق في المعاملة. فرع إذا كان له دراهم أو دنانير مغشوشة، فلا زكاة فيها حتى يبلغ خالصها نصابا، فإذا بلغه، أخرج الواجب خالصا، أو أخرج من المغشوش ما يعلم اشتماله على خالص بقدر الواجب. ولو أخرج عن ألف مغشوشة، خمسة وعشرين خالصة، أجزأه، وقد تطوع بالفضل، ولو أخرج خمسة مغشوشة عن مائتين خالصة، لم تجزئه. وهل له الاسترجاع ؟ حكوا عن ابن سريج فيه قولين. أحدهما: لا، كما لو اعتق رقبة عن كفارة معيبة، يكون متطوعا بها، وأظهرهما: نعم، كما لو عجل الزكاة فتلف ماله. قال ابن الصباغ: وهذا إذا كان قد بين عند الدفع، أنه يخرج عن هذا المال. فرع يكره للامام ضرب الدراهم المغشوشة، ويكره للرعية ضرب الدراهم وإن كانت خالصة، لانه من شأن الامام. ثم الدراهم المغشوشة، إن كانت معلومة العيار، صحت المعاملة بها على عينها الحاضرة، وفي الذمة. وإن كان مقدار النقرة فيها مجهولا، ففي جواز المعاملة على عينها وجهان. أصحهما: الجواز، لان المقصود رواجها، ولا يضر اختلاطها بالنحاس كالمعجونات، والثاني: لا يجوز كتراب المعدن. فإن قلنا: بالاصح، فباع بدراهم مطلقا، ونقد البلد مغشوش، صح العقد، ووجب من ذلك النقد، وإن قلنا بالثاني، لم يصح العقد. فرع لو كان له إناء من ذهب وفضة وزنه ألف، من أحدهما ستمائة، ومن الآخر أربعمائة، ولا يعرف أيهما الاكثر، فإن احتاط فزكى ستمائة ذهبا، وستمائة فضة، أجزأه، فإن لم يحتط، ميزهما بالنار. قال الائمة: ويقوم مقامه الامتحان(2/119)
بالماء، بأن يوضع قدر المخلوط من الذهب الخالص في ماء، ويعلم على الموضع الذي يرتفع إليه الماء، ثم يخرج ويوضع مثله من الفضة الخالصة، ويعلم على موضع الارتفاع، وهذه العلامة تقع فوق الاولى، لان أجزاء الذهب أكثر اكتنازا، ثم يوضع فيه المخلوط، وينظر ارتفاع الماء به، أهو إلى علامة الفضة أقرب، أم إلى علامة الذهب ؟ ولو غلب على ظنه الاكثر منهما، قال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: إن كان يخرج الزكاة بنفسه، فله اعتماد ظنه، وإن دفعها إلى الساعي، لم يقبل ظنه، بل يلزمه الاحتياط أو التمييز، وقال إمام الحرمين: الذي قطع به أئمتنا: أنه لا يجوز اعتماد ظنه. قال الامام: ويحتمل أن يجوز له الاخذ بما شاء من التقديرين، لان اشتغال ذمته بغير ذلك غير معلوم، وجعل الغزالي في الوسيط هذا الاحتمال وجها. فرع لو ملك مائة درهم في يده، وله مائة مؤجلة على ملئ، فكيف يزكي ؟ يبني على أن المؤجل تجب فيه زكاة، أم لا ؟ والمذهب وجوبها. وإذا أوجبناها، فالاصح: أنه لا يجب الاخراج في الحال، وسبق بيانه. فإن قلنا: لا زكاة في المؤجل، فلا شئ عليه في مسألتنا، لعدم النصاب. وإن أوجبنا إخراج زكاة المؤجل في الحال، زكى المائتين في الحال، وإن أوجبناها ولم نوجب الاخراج في الحال، فهل يلزمه إخراج حصة المائة التي في يده في الحال، أم يتأخر إلى قبض المؤجلة ؟ فيه وجهان. أصحهما: يجب في الحال، وهما بناء على أن الامكان شرط للوجوب، أو الضمان، إن قلنا بالاول، لم يلزمه،(2/120)
لاحتمال أن لا يحصل المؤجل، وإن قلنا بالثاني، أخرج، ومن كان في يده دون نصاب، وتمامه مغصوب، أو دين، ولم نوجب فيهما زكاة، ابتدأ الحول من حين يقبض ما يتم به النصاب. فصل لا زكاة فيما سوى الذهب والفضة من الجواهر، كالياقوت، واللؤلؤ، وغيرهما، ولا في المسك والعنبر. فصل هل تجب الزكاة في الحلي المباح ؟ قولان. أظهرهما: لا تجب، كالعوامل من الابل والبقر. أما الجلي المحرم، فتجب الزكاة فيه بالاجماع. وهو نوعان: محرم لعينه، كالاواني، والملاعق، والمجامر من الذهب والفضة. ومحرم بالقصد، بأن يقصد الرجل بحلي النساء الذي يملكه، كالسوار والخلخال، أن يلبسه غلمانه، أو قصدت المرأة بحلي الرجل، كالسيف والمنطقة، أن تلبسه هي، أو تلبسه جواريها أو غيرهن من النساء، أو أعد(2/121)
الرجل حلي الرجال لنسائه وجواريه، أو أعدت المرأة حلي النساء لزوجها وغلمانها، فكل ذلك حرام. ولو اتخذ حليا ولم يقصد به استعمالا مباحا ولا محرما، بل قصد كنزة، فالمذهب: وجوب الزكاة فيه، وبه قطع الجمهور. وقيل: فيه خلاف. وهل يجوز إلباس حلي الذهب الاطفال الذكور، فيه ثلاثة أوجه كما ذكرنا في إلباسهم الحرير. قلت: الاصح المنصوص: جوازه ما لم يبلغوا. والله أعلم. فرع إذا قلنا: لا زكاة في الحلي، فاتخذ حليا مباحا في عينه، لم يقصد به استعمالا ولا كنزا، أو اتخذه ليؤجره ممن له استعماله، فلا زكاة على الاصح. كما لو اتخذه ليعيره. ولا اعتبار بالاجرة، فأجرة الماشية العامل. فرع حكم القصد الطارئ بعد الصياغة في جميع ما ذكرنا، حكم للمقارب. فلو اتخذه قاصدا استعمالا محرما، ثم غير قصده إلى مباح، بطل الحول. فلو عاد القصد المحرم، ابتدأ الحول، وكذا لو قصد الاستعمال ثم قصد كنزا، ابتدأ الحول، وكذا نظائره. فرع إذا قلنا: لا زكاة في الحلي، فانكسر، فله أحوال. أحدها: أن ينكسر بحيث لا يمنع الاستعمال، فلا تأثير لانكساره. الثاني: ينكسر بحيث يمنع الاستعمال ويحوج إلى سبك وصوغ، فتجب(2/122)
الزكاة، وأول الحول، وقت الانكسار. الثالث: ينكسر بحيث يمنع الاستعمال، لكن لا يحتاج إلى صوغ، ويقبل الاصلاح بالالحام، فإن قصد جعله تبرا أو دراهم، أو قصد كنزه، انعقد الحول عليه من يوم الانكسار. وإن قصد إصلاحه، فوجهان. أصحهما: لا زكاة وإن تمادت عليه أحوال، لدوام صورة الحلي وقصد الاصلاح، وإن لم يقصد هذا ولا ذاك، ففيه خلاف. قيل: وجهان، وقيل: قولان. أرجحهما: الوجوب. فصل فيما يحل ويحرم من الحلي وإنما ذكرناها ها هنا ليعلم موضع القطع بوجوب الزكاة، وموضع القولين. فالمذهب: أصله التحريم في حق الرجال، وعلى الاباحة للنساء، ويستثنى من التحريم على الرجال موضعان. أحدهما: يجوز لمن قطع أنفه اتخاذ أنف من ذهب وإن تمكن من اتخاذه فضة، وفي معنى الانف: السن والانملة، فيجوز اتخاذهما ذهبا، وما جاز من الذهب فمن الفضة أولى، ولا يجوز لمن قطعت يده أو أصبعه أن يتخذهما من ذهب ولا فضة. قلت: وفيه وجه: أنه يجوز، ذكره القاضي حسين وغيره. والله أعلم. الموضع الثاني: هل يجوز للرجل تمويه الخاتم والسيف وغيرهما تمويها لا يحصل منه شئ ؟ فيه وجهان، وقطع العراقيون بالتحريم. وأما اتخاذ سن أو أسنان(2/123)
من ذهب للخاتم، فقطع الاكثرون بتحريمه. وقال إمام الحرمين: لا يبعد تشبيهه بالضبة الصغيرة في الاناء، وكل حلي حرمناه على الرجال، حرمناه على الخنثى على المذهب، وعليه زكاته على المذهب، وقيل: في وجوبها القولان في الحلي المباح، وأشار في التتمة إلى أن له لبس حلي النساء والرجال، لانه كان له لبسها في الصغر فتبقى. وأما الفضة: فيجوز للرجال التختم بها، وهل له لبس ما سوى الخاتم من حلي الفضة، كالدملج، والسوار، والطوق ؟ قال الجمهور: يحرم، وقال صاحب التتمة والغزالي في فتاويه: يجوز، لانه لم يثبت في الفضة إلا تحريم الاواني، وتحريم التحلي على وجه يتضمن التشبيه بالنساء. ويجوز للرجل تحلية آلات الحرب بالفضة كالسيف، والرمح، وأطراف السهام، والدرع، والمنطقة، والرانين، والخف وغيرها، لانه يغيظ الكفار. وفي تحلية السرج واللجام والثفر، وجهان. أصحهما: التحريم، ونص عليه الشافعي في رواية البويطي والربيع، وموسى بن أبي جارود، وأجروا هذا الخلاف في الركاب، وبرة الناقة من الفضة. وقطع كثيرون من الائمة بتحريم القلادة للدابة، ولا يجوز تحلية شئ مما ذكرنا بالذهب قطعا. ويحرم على النساء تحلية آلات الحرب بالفضة والذهب جميعا، لان استعمالهن ذلك تشبها بالرجال وليس لهن التشبه، كذا قاله الجمهور، واعترض عليهم صاحب المعتمد، بأن آلات الحرب من غير تحلية، إما أن يجوز لبسها واستعمالها للنساء، أو لا، والثاني: باطل، لان كونه من ملابس الرجال، إنما يقتضي الكراهة دون التحريم، ألا ترى أنه قال في الام: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للادب، وأنه من زي النساء، لا للتحريم، فلم يحرم زي النساء على الرجال، وإنما كرهه، وكذا عكسه، ولان المحاربة جائزة للنساء في الجملة، وفي(2/124)
جوازها جواز لبس آلاتها، وإذا جاز استعمالها غير محلاة، جاز مع التحلية، لان التحلي لهن أجوز منه للرجال، وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى. قلت: الصواب: أن تشبه النساء بالرجال وعكسه، حرام، للحديث الصحيح لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال وقد صرح الرافعي بتحريمه بعد هذا بأسطر. وأما نصه في الام فليس مخالفا لهذا، لان مراده أنه من جنس زي النساء. والله أعلم. ويجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الذهب والفضة، كالطوق، والخاتم، والسوار، والخلخال، والتعاويذ. وفي اتخاذهن النعال من الذهب والفضة، وجهان. أصحهما: الجواز كسائر الملبوسات، والثاني: لا، للاسراف. وأما التاج، فقالوا: إن جرت عادة النساء بلبسه، جاز، وإلا فهو لباس عظماء الفرس، فيحرم. وكأن معنى هذا، أنه يختلف بعادة أهل النواحي، فحيث جرت عادة النساء بلبسه، جاز، وحيث لم تجر، لا يجوز، حذارا من التشبه بالرجال، وفي الدراهم والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة، وجهان. أصحهما: التحريم. وفي لبس الثياب المنسوجة بالطهب أو الفضة، وجهان. أصحهما: الجواز، وذكر ابن عبدان: أنه ليس لهن اتخاذ زر القميص والجبة والفرجية منهما، ولعله جواب على الوجه الثاني. ثم كل حلي أبيح للنساء، فذلك إذا لم يكن فيه سرف، فإن كان كخلخال وزنه مائتا دينار، فوجهان. الصحيح الذي قطع به معظم العراقيين: التحريم، ومثله إسراف الرجل في آلات الحرب، ولو اتخذ خواتيم كثيرة، أو المرأة خلاخل كثيرة، ليلبس الواحد منهما بعد الواحد، جاز على(2/125)
المذهب، وقيل: فيه الوجهان. فرع جميع ما سبق، هو فيما يتحلى به لبسا، فأما الاواني من الذهب والفضة، فيحرم على النساء والرجال جميعا استعمالها، ويحرم اتخاذها أيضا على الاصح، وقد سبق ذلك مع غيره في باب الاواني، وفي تحلية سكاكين الخدمة وسكين المقلمة بالفضة للرجال، وجهان. أصحهما: التحريم، والمذهب: تحريمها على النساء. وفي تحلية المصحف بالفضة وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز، ونقل عن نصه في القديم والجديد وحرملة، ونقل التحريم عن نصه في سير الواقدي. وفي تحليته بالذهب أربعة أوجه. أصحها عند الاكثرين: إن كان المصحف لامرأة، جاز، وإن كان لرجل، حرم، والثاني: يحرم مطلقا، والثالث: يحل مطلقا، والرابع: يجوز تحلية نفس المصحف دون غلافه المنفصل عنه، وهو ضعيف، وأما تحلية سائر الكتب، فحرام بالاتفاق. وأما تحلية الدواة، والمقلمة، والمقراض، فحرام على الاصح، وأشار الغزالي إلى طرد الخلاف في سائر الكتب. وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة، وتعليق قناديلها فيها، وجهان. أصحهما: التحريم، فإنه لا ينقل عن السلف، والثاني: الجواز كما يجوز ستر الكعبة بالديباج، وحكم الزكاة مبني على الوجهين، لكن لو جعل المتخذ وقفا فلا زكاة بحال. فرع إذا أوجبنا الزكاة في الحلي المباح، فاختلف قيمته ووزنه، بأن كان لها خلاخل وزنها مائتان، وقيمتها ثلاثمائة، أو فرض متله في المناطق المحلاة للرجل، فالاعتبار في الزكاة بقيمتها، أو وزنها ؟ فيه وجهان. أصحهما عند الجماهير: بقيمتها، فعلى هذا يتخير بين أن يخرج ربع عشر الحلي مشاعا، ثم يبيعه الساعي ويفرق الثمن على المساكين، وبين أن يخرج خمسة دراهم مصوغة قيمتها ستة ونصف، ولا يجوز أن يكسره فيخرج خمسة مكسرة، لان فيه ضررا عليه وعلى المساكين. ولو أخرج عنه عن الذهب ما يساوي سبعة ونصفا، لم يجز عند الجمهور، لامكان تسليم ربع العشر مشاعا وبيعه بالذهب، وجوزه ابن سريج(2/126)
للحاجة ولو كان له إناء وزنه مائتان، ويرغب فيه بثلاثمائة، فإن جوزنا اتخاذه، فحكمه ما سبق في الحلي، وإن حرمنا، فلا قيمة لصنعته شرعا، فله إخراج خمسه من غيره، وله كسره وإخراج خمسه منه، وله إخراج ربع عشره مشاعا، ولا يجوز إخراج الذهب بدلا. وكل حلي لا يحل لاحد من الناس، فحكم صنعته حكم صنعة الاناء، ففي ضمانها على كاسرها وجهان. وما يحل لبعض الناس، فعلى كاسره ضمانه، وما يكره من التحلي كالضبة الصغيرة على الاناء للزينة، قال الاصحاب: له حكم الحرام في وجوب الزكاة قطعا. وقال صاحب التهذيب من عند نفسه: الاولى أن يكون كالمباح. قلت: ولو وقف حليا على قوم يلبسونه، أو ينتفعون بأجرته، فلا زكاة فيه قطعا. والله أعلم.
باب زكاة التجارة
زكاة التجارة واجبة، نص عليه في الجديد، ونقل عن القديم ترديد قول، فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من لم يثبت خلاف الجديد. ومال التجارة: كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بمعاوضة محضة. وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة لا تصير المال مال تجارة، فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره، فجعله للتجارة، لم يصر على الصحيح الذي قطع به الجماهير، وقال الكرابيسي من أصحابنا: يصير. وأما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشترى يصير مال تجارة، ويدخل في الحول، سواء اشتري بعرض، أو نقد، أو دين حال، أو مؤجل. وإذا ثبت حكم التجارة، لا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة. وفي معنى الشراء، لو صالح عن دين له في ذمة إنسان على(2/127)
عرض بنية التجارة، صار للتجارة، سواء كان الدين قرضا، أو ثمن مبيع، أو ضمان متلف. وكذلك الاتهاب بشرط الثواب إذا نوى به التجارة. وأما الهبة المحضة، والاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد، والارث، فليس من أسباب التجارة، ولا أثر لاقتران النية بها. وكذا الرد بالعيب والاسترداد، حتى لو باع عرض قنية بعرض قنية، ثم وجد بما أخذه عيبا فرده، واسترد الاول على قصد التجارة، أو وجد صاحبه بما أخذ عيبا، فرده، فقصد المردود عليه بأخذ التجارة، لم يصر مال تجارة. ولو كان عنده ثوب قنية، فاشترى به عبدا للتجارة، ثم رد عليه الثوب بالعيب، انقطع حول التجارة، ولم يكن الثوب المردود مال تجارة، بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة أيضا، فإنه يبقى حكم التجارة فيه. وكذا لو تبايع تاجران، ثم تقايلا، يستمر حكم التجارة في المالين. ولو كان عنده ثوب للتجارة، فباعه بعبد للقنية، فرد عليه الثوب بالعيب، لم يعد إلى حكم التجارة، لان قصد القنية قطع حول التجارة. والرد والاسترداد، ليسا من التجارة، كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده، فانه يصير قنية. ولو نوى بعد ذلك جعله للتجارة، لا يؤثر حبى تقترن النية بتجارة جديدة. ولو خالع وقصد بعوض الخلع التجارة، أو زوج أمته، أو نكحت الحرة ونويا التجارة في الصداق، فوجهان. أحدهما: لا يكون مال تجارة، لانهما ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة، وأصحهما ولم يذكر أكثر العراقيين سواه: أنه يكون مال تجارة، لانها معاوضة تثبت فيها الشفعة. وطردوا الوجهين في المال المصالح عليه عن الدم، والذي أجر به نفسه أو ماله إذا نوى به التجارة، وفيما إذا كان تصرفه في المنافع، بأن كان يستأجر المستغلات، ويؤجرها على قصد التجارة. فصل الحول معتبر في زكاة التجارة بلا خلاف، والنصاب معتبر أيضا بلا(2/128)
خلاف. لكن في وقت اعتباره، ثلاثة أوجه، وعبر عنها إمام الحرمين والغزالي بأقوال، والصحيح: أنها أوجه. الاول منها منصوص، والآخران مخرجان، فالاول: الاصح: أنه يعتبر في آخر الحول فقط، والثاني: يعتبر في أوله وآخره دون وسطه، والثالث: يعتبر في جميع الحول، حتى لو نقصت قيمته عن النصاب في لحظة، انقطع الحول، فإن كمل بعد ذلك، ابتدأ الحول من يومئذ. فإذا قلنا بالاصح، فاشترى عرضا للتجارة بشئ يسير، انعقد الحول عليه، ووجبت فيه الزكاة إذا بلغت قيمته نصابا آخر الحول، وإذا احتملنا نقصان النصاب في غير آخر الحول، فذلك في حق من تربص بسلعته حتى تم الحول وهي نصاب. فأما لو باعها بسلعة أخرى في أثناء الحول، فوجهان. أحدهما: ينقطع الحول ويبتدئ حول السلعة الاخرى من حين ملكها، وأصحهما: أن الحكم كما لو تربص بسلعته، ولا أثر للمبادلة في أموال التجارة. ولو باعها في أثناء الحول بنقد دون النصاب، ثم اشترى به سلعة فتم الحول وقيمتها نصاب، فوجهان. قال الامام: والخلاف في هذه الصورة أمثل منه في الاولى لتحقق النقصان حسا، ورأيت المتأخرين يميلون إلى انقطاع الحول. ولو باعها بالدراهم، والحال تقتضي التقويم بالدنانير، فهو كبيع السلعة بالسلعة. فرع لو تم الحول وقيمة سلعته دون النصاب، فوجهان. أصحهما: يسقط حكم الحول الاول، ويبتدئ حولا ثانيا، والثاني: لا ينقطع، بل متى بلغت قيمته نصابا، وجبت الزكاة، ثم يبتدئ حولا ثانيا.(2/129)
فرع في بيان ابتداء حول التجارة مال التجارة تارة يملكه بنقد، وتارة بغيره، فإن ملكه بنقد، نظر، إن كان نصابا بأن اشترى بعشرين دينارا أو بمائتي درهم، فابتداء الحول من حين ملك ذلك النقد، ويبنى حول التجارة عليه، هذا إذا اشترى بعين النصاب، أما إذا اشترى بنصاب في الذمة، ثم نقده في ثمنه، فينقطع حول النقد، ويبتدئ حول التجارة من حين الشراء، وإن كان النقد الذي هو رأس المال دون النصاب، ابتدأ الحول من حين ملك عرض التجارة إذا قلنا: لا يعتبر النصاب في أول الحول، ولا خلاف أنه لا يحسب الحول قبل الشراء للتجارة، لان المشترى به لم يكن مال زكاة لنقصه. أما إذا ملك بغير نقد، فله حالان. أحدهما: أن يكون ذلك العرض مما لا زكاة فيه، كالثياب والعبيد، فابتداء الحول من حين ملك مال التجارة إن كان قيمة العرض نصابا، أو كانت دونه وقلنا بالاصح: إن النصاب لا يعتبر إلا في آخر الحول، والثاني: أن يكون مما تجب فيه الزكاة، بأن ملكه بنصاب من السائمة، فالصحيح الذي قطع به جماهير الاصحاب: أن حول الماشية ينقطع، ويبتدئ حول التجارة من حين ملك مال التجارة، ولا يبني، لاختلاف الزكاتين قدرا ووقتا، وقال الاصطخري: يبنى على حول السائمة، كما لو ملك بنصاب من النقد. ثم زكاة التجارة والنقد، يبني حول كل واحد منهما على الاخرى، فإذا باع مال تجارة بنقد بنية القنية، بنى حول النقد على حول التجارة، كما يبني التجارة على النقد. فصل ربح مال التجارة، ضربان حاصل من غير نضوض المال، وحاصل مع نضوضه.(2/130)
فالاول: مضموم إلى الاصل في الحول، كالنتاج. قال إمام الحرمين: حكى الائمة القطع بذلك. لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول، قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول، ومقتضاه أن يقول: عهور الربح في أثنائه كنضوضه، وسيأتي الخلاف في الضرب الثاني إن شاء الله تعالى. قال الامام: وهذا لا بد منه، والمذهب الصحيح: ما سبق. فعلى المذهب: لو اشترى عرضا بمائتي دطهم، فصارت قيمته في أثناء الحول ثلاثمائة، زكى ثلاثمائة في آخر الحول وإن كان ارتفاع القيمة قبل آخر الحول بلحظة. ولو ارتفعت بعد الحول، فالربح مضموم إلى الاصل في الحول الثاني كالنتاج. الضرب الثاني: الحاصل مع النضوض، فينظر، إن صار ناضا من غير جنس رأس المال، فهو كما لو أبدل عرضا بعرض، لانه لم يقع به التقويم، هذا هو المذهب، وقيل: هو على الخلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا نض من الجنس. أما إذا صار ناضا من جنسه، فتارة يكون ذلك في أثناء الحول، وتارة بعده، وعلى التقدير الاول، قد يمسك الناض إلى أن يتم الحول، وقد يشتري به سلعة. الحال الاول: أن يمسك الناض إلى تمام الحول، فإن اشترى عرضا بمائتي درهم، فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة، وتم الحول وهي في يده، ففيه طريقان. أصحهما وبه قال الاكثرون: على قولين. أظهرهما: يزكي الاصل بحوله، ويفرد الربح بحول، والثاني: يزكي الجميع بحول الاصل، والطريق الثاني: القطع بافراد الربح. وإذا أفردناه، ففي ابتداء حوله وجهان. أصحهما: من حين النضوض، والثاني: من حين الظهور.(2/131)
الحال الثاني: أن يشتري بها عرضا قبل تمام الحول، فطريقان. أصحهما: أنه كما لو أمسك الناض، والثاني: القطع بأنه يزكي الجميع بحول الاصل. الحال الثالث: إذا نض بعد تمام الحول، فإن ظهرت الزيادة قبل تمام الحول، زكى الجميع بحول الاصل بلا خلاف، وإن ظهرت بعد تمامه، فوجهان. أحدهما: هكذا، وأصحهما: يستأنف للربح حولا. وجميع ما ذكرناه فيما إذا اشترى العرض بنصاب من النقد، أو بعرض قيمة نصاب. فأما إذا اشترى بمائة درهم مثلا، وباعه بعد ستة أشهر بمائتي درهم، وبقيت عنده إلى تمام الحول من حين الشراء، فان قلنا بالاصح: إن النصاب لا يشترط إلا في الحول، بني على القولين في أن الربح من الناض هل يضم إلى الاصل في الحول ؟ إن قلنا: نعم، فعليه زكاة المائتين، وإن قلنا: لا، لم يزك مائة الربح إلا بعد ستة أشهر أخرى، وإن قلنا: النصاب يشترط في جميع الحول، أو في طرفيه، فابتداء الحول الجميع من حين باع ونض، فإذا تم، زكى المائتين. فرع ملك عشرين دينارا، فاشترى بها عرضا للتجارة ثم باعه بعد ستة أشهر من ابتداء الحول بأربعين دينارا، واشترى بها سلعة أخرى ثم باعها بعد تمام الحول بمائة، فان قلنا: الربح من الناض لا يفرد بحول، فعليه زكاة جميع المال، وإلا فعليه زكاة خمسين دينارا، لانه اشترى السلعة الثانية بأربعين، منها عشرون رأس ماله الذي مضى عليه ستة أشهر، وعشرون ربح استفاده يوم باع الاول. فإذا مضت ستة أشهر، فقد تم الحول على نصف السلعة، فيزكيه بزيادته، وزيادته ثلاثون دينارا، لانه ربح على العشرينتين ستين، وكان ذلك كامنا وقت تمام الحول. ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، فعليه زكاة العشرين الثانية، فان حولها حينئذ تم، ولا يضم إليها ربحها، لانه صار ناضا قبل تمام حولها، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، فعليه زكاة ربحها، وهو الثلاثون الباقية، فان كانت الخمسون التي أخرج زكاتها في الحول الاول باقية عنده، فعليه زكاتها أيضا للحول الثاني مع الثلاثين، هذا الذي ذكرناه هو قول ابن الحداد تفريعا على أن الناض لا يفرد ربحه بحول، وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين ضعيفين. أحدهما: يخرج عند البيع الثاني زكاة عشرين. وإذا مضت ستة أشهر، أخرج زكاة عشرين أخرى، وهي التي كانت ربحا في الحول الاول. فإذا مضت ستة(2/132)
أشهر، أخرج زكاة الستين الباقية، لانها إنما استقرت عند البيع الثاني، فمنه يبتدئ حولها. والوجه الثاني: أنه عند البيع الثاني، يخرج زكاة عشرين، ثم إذا مضت ستة أشهر، زكى الثمانين الباقية، لان الستين التي هي الربح، حصلت في حول العشرين التي هي الربح الاول، فضمت إليها في الحول. ولو كانت المسألة بحالها، لكنه لم يبع السلعة الثانية، فيزكي عند تمام الحول الاول خمسين كما ذكرنا، وعند تمام الثاني الخمسين الباقية، لان الربح الاخير لم يصر ناضا، ولو اشترى بمائتين عرضا، فباعه بعد ستة أشهر بثلاثمائة، واشترى بها عرضا وباعه بعد تمام الحول بستمائة، إن لم نفرد الربح بحول، أخرج زكاة ست المال، وإلا فزكاة أربعمائة، فإذا مضت ستة أشهر، زكى مائة، فاذج مضت ستة أشهر أخرى، زكى المائة الباقية، هذا على قول ابن الحداد. وأما على الوجهين الآخرين، فيزكي عند البيع الثاني مائتين، ثم على الوجه الاول، إذا مضت ستة أشهر، زكى مائة، ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، زكى ثلاثمائة. وعلى الوجه الثاني: إذا مضت ستة أشهر من البيع الثاني، زكى أربع المائة الباقية. فصل إذا كان مال التجارة حيوانا، فله حالان. أحدهما: أن يكون مما تجب الزكاة في عينه كنصاب الماشية، ويأتي حكمه بعد هذا الفصل إن شاء الله(2/133)
تعالى. والثاني: أن لا تجب في عينه، كالخيل، والجواري، والمعلوفة من النعم من الماشية، فهل يكون نتاجها مال تجارة ؟ وجهان. أصحهما: يكون، لان الولد له حكم أمه، والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الام بالولادة، فإن نقصت، بأن كانت قيمة الام ألفا، فصارت بالولادة ثمانمائة، وقيمة الولد مائتان، جبر نقص الام بالولد، وزكى الالف. ولو صارت قيمة الام، تسعمائة، جبرت المائة من قيمة الولد، كذا قاله ابن سريج وغيره، قال الامام: وفيه احتمال ظاهر، ومقتضى قولنا: إنه ليس مال تجارة، أن لا تجبر به الام كالمستفادات بسبب آخر. وأثمار أشجار التجارة كأولاد حيوانها، ففيها الوجهان. فإن لم نجعل الاولاد والثمار مال تجارة، فهل تجب فيها في السنة الثانية، ففيها بعدها زكاة ؟ قال إمام الحرمين: الظاهر أنا لا نوجب، لانه منفصل عن تبعية الام، وليس أصلا في التجارة، وأما إذا ضممناها إلى الاصل، وجعلناها مال تجارة، ففي حولها طريقان. أصحهما: حولها حول الاصل، كنتاج السائمة، وكالزيادة المنفصلة، والثاني: على قولي ربح الناض، فعلى أحدهما ابتداء حولها من انفصال الولد وظهور الثمار. فصل لا خلاف أن قدر زكاة التجارة ربع العشر كالنقد، ومن أين يخرج ؟ فيه ثلاثة أقوال. المشهور الجديد: يخرج من القيمة، ولا يجوز أن يخرج من عين العرض، والثاني: يجب الاخراج من العين، ولا يجوز من القيمة، والثالث: يتخير بينهما، فلو اشترى بمائتي درهم مائتي قفقز حنطة، أو بمائة وقلنا: يعتبر النصاب آخر الحول فقط، وحال الحول وهي تساوي مائتي درهم، فعلى(2/134)
المشهور: عليه خمسة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة وعلى الثالث: يتخير بينهما. فلو أخر إخراج الزكاة حتى نقصت قيمتها فعادت إلى مائة، نظر، إن كان ذلك قبل إمكان الاداء وقلنا: الامكان شرط للوجوب، فلا زكاة. وإن قلنا: شرط للضمان، لزمه على المشهور درهمان ونصف، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، وعلى الثالث: يتخير بينهما، وإن كان بعد الامكان، لزمه على المشهور: خمسة دراهم، لان النقصان من ضمانه، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، ولا يضمن نقصان القيمة مع بقاء العين كالغاصب، وعلى الثالث: يتخير بينهما. ولو أخر فبلغت القيمة أربعمائة درهم، فإن كان قبل إمكان الاداء وقلنا: هو شرط للوجوب، لزمه على المشهور عشرة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، وعلى الثالث: يتخير بينهما، وإن قلنا: شرط الضمان، لزمه على المشهور خمسة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، لان هذه الزيادة في ماله ومال المساكين، وقال ابن أبي هريرة: يكفيه على هذا القول: خمسة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، لان هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محسوبة في الحول الثاني، وعلى الثالث: يتخير بين الامرين. ولو أتلف الحنطة بعد وجوب الزكاة وقيمتها مائتا درهم، فصارت أربعمائة، لزمه على المشهور خمسة دراهم، لانها القيمة يوم الاتلاف، وعلى الثاني: خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم، وعلى الثالث، يتخير بينهما. فرع فيما يقوم به مال التجارة لرأس المال أحوال. أحدها: أن يكون نقدا نصابا، بأن يشتري عرضا بمائتي درهم، أو عشرين دينارا، فيقوم في آخر الحول به، فإن بلغ به نصابا، زكاه، وإلا، فلا. وإن كان الثاني غالب نقد البلد، ولو قوم به لبلغ نصابا، حتى لو اشترى بمائتي درهم عرضا، فباعه بعشرين دينارا وقصد التجارة مستمر، فتم الحول والدنانير في يده، ولا تبلغ قيمتها مائتي درهم، فلا زكاة. هذا هو المذهب المشهور. وعن صاحب(2/135)
التقريب حكاية قول: أن التقويم أبدا يكون بغالب نقد البلد، ومنه يخرج الواجب، سواء كان رأس المال نقدا أم غيره، وحكى الروياني هذا عن ابن الحداد. الحال الثاني: أن يكون نقدا دون النصاب، فوجهان. أصحهما: يقوم بذلك النقد، والثاني: بغالب نقد البلد كالعرض. وموضع الوجهين ما إذا لم يملك من جنس النقد الذي اشترى به ما يتم به النصاب، فإن ملك ما يتم به النصاب، بأن اشترى بمائة درهم عرضا وهو يملك مائة أخرى، فلا خلاف أن التقويم بجنس ما ملك به، لانه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول، وابتدأ الحول من حين ملك الدراهم. قلت: لكن يجري فيه القول الذي حكاه صاحب التقريب. والله أعلم. الحال الثالث: أن يملك بالنقدين جميعا، وهو على ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون كل واحد نصابا، فيقوم بهما على نسبة التقسيط يوم الملك. وطريقه: تقويم أحد النقدين بالآخر. مثاله، اشترى بمائتي درهم وعشرين دينارا، فينظر، إن كان قيمة المائتين عشرين دينارا، فنصف العرض مشترى بدراهم، ونصفه بدنانير. وإن كانت قيمتها عشرة دنانير، فثلثه مشرى بدراهم، وثلثاه بدنانير. وهكذا يقوم في آخر الحول، ولا يضم أحدهما إلى الآخر، فلا تجب الزكاة إذا لم يبلغ واحد منهما نصابا وإن كانت بحيث لو قوم الجميع بأخذ النقدين لبلغ نصابا، وحول كل واحد من المبلغين من حين ملك ذلك النقد.(2/136)
الضرب الثاني: أن يكون قل واحد منهما دون النصاب، فإن قلنا: ما دون النصاب، كالعرض، قوم الجميع بنقد البلد، وإن قلنا: كالنصاب، قوم ما ملكه بالدراهم بدراهم، وما ملكه بالدنانير بدنانير. الضرب الثالث: أن يكون أحدهما نصابا، والآخر دونه، فيقوم ما ملكه بالنقد الذي هو نصاب بذلك النقد، وما ملكه بالنقد الآخر على الوجهين، وكل واحد من المبلغين يقوم في آخر حوله، وحول المملوك بالنصاب، من حين ملك ذلك النقد، وحول المملوك بما دونه، من حين ملك العرض. وإذا اختلف جنس المقوم به، فلا ضم كما سبق. الحال الرابع: أن يكون رأس المال غير نقد، بأن ملك بعرض قنية، أو ملك بخلع أو نكاح بقصد التجارة وقلنا: يصير مال تجارة، فيقوم في آخر الحول بغالب نقد البلد من الدراهم، أو الدنانير. فإن بلغ به نصابا، زكاه، وإلا فلا وإن كان يبلغ بغيره نصابا. فلو جرى في البلد نقدان متساويان، فإن بلغ بأحدهما نصابا دون الآخر، قوم به، وإن بلغ بهما، فأوجه. أصحها: يتخير المالك فيقوم بما شاء منهما، والثاني: يراعي الاغبط للمساكين، والثالث: يتعين التقويم بالدراهم، لانها أرفق، والرابع: يقوم بالنقد الغالب في أقرب البلاد إليه. الحال الخامس: أن يملك بالنقد وغيره، بأن اشترى بمائتي درهم وعرض قنية، فما قابل الدراهم يقوم بها، وما قابل العرض، يقوم بنقد البلد. فإن كان النقد(2/137)
دون النصاب، عاد الوجهان. كما يجري التقسيط عند اختلاف الجنس، يجري عند اختلاف الصفة، كما لو اشترى بنصاب من الدنانير بعضها صحيح وبعضها مكسر، وبينهما تفاوت، فيقوم ما يخص الصحيح بالصحاح، وما يخص المكسر بالمكسر. فصل تصرف التاجر في مال التجارة بالبيع، بعد وجوب الزكاة، وقبل الاداء، قيل: هو على الخلاف في بيع سائر الاموال بعد وجوب الزكاة فيها. وقيل: إن قلنا: يؤدي الزكاة من عين العرض، فهو على ذلك الخلاف، وإن قلنا: يؤدي من القيمة، فهو كما لو وجبت شاة في خمس من الابل، فباعها. وهذان الطريقان شاذان. والمذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور: القطع بجواز البيع، ثم سواء باع بقصد التجارة، أو بقصد اقتناء العرض، لان تعلق الزكاة به لا يبطل وإن صار مال قنية، فهو كما لو نوى الاقتناء من غير بيع. فلو وهب مال التجارة، أو أعتق عبدها، فهو كبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها، لان الهبة والاعتاق يبطلان متعلق زكاة التجارة. كما أن البيع يبطل متعلق زكاة العين. ولو باع مال التجارة محاباة، فقدر المحاباة كالموهوب، فإن لم نصحح الهبة، بطل في ذلك القدر، وخرج في الباقي على تفريق الصفقة. فصل فيما إذا كان مال التجارة تجب الزكاة في عينه فإن كان عبيد تجارة، وجبت فطرتهم مع زكاة التجارة. ولو كان مال التجارة نصابا من السائمة، لم تجمع فيه زكاة التجارة والعين. وفيما تقدم منهما قولان. أظهرهما وهو الجديد، وأحد قولي القديم: تقدم زكاة العين، والثاني: زكاة التجارة. فإن قلنا بالاظهر، أخرج السن الواجبة من السائمة، وتضم السخال إلى الامات. وإن قدمنا(2/138)
زكاة التجارة، قال في التهذيب: تقوم مع درها، ونسلها، وصوفها، وما اتخذ من لبنها، وهذا تفريع على أن النتاج مال تجارة، وقد سبق فيه الخلاف، ولا عبرة بنقصان النصاب في أثناء الحول، تفريعا على الاصح في وقت اعتبار نصاب التجارة. ولو اشترى نصابا من السائمة التجارة، ثم اشترى بها عرضا بعد ستة أشهر مثلا، فعلى القول الثاني: لا ينقطع الحول، وعلى الاول: ينقطع، ويبتدئ حول زكاة التجارة من يوم شراء العرض. ثم القولان فيما إذا كمل نصاب الزكاتين واتفق الحولان. وأما إذا لم يكمل نصاب أحدهما، بأن كان أربعين من الغنم، لا تبلغ قيمتها نصابا عند تمام الحول، أو كان تسعا وثلاثين فما دونها، وقيمتها نصاب، فالمذهب: وجوب زكاة ما بلغ به نصاباه. هكذا قطع به العراقيون، والقفال، والجمهور. وقيل: في وجوبها وجهان. وإذا غلبنا زكاة العين في نصاب السائمة، فنقصت في خلال السنة عن النصاب، ونقلناها إلى زكاة التجارة، فهل يبني حول التجارة على حول العين، أم يستأنفه ؟ وجهان، كالوجهين فيمن ملك نصاب سائمة لا للتجارة، فاشترى به عرضا للتجارة، هل يبنى حول التجارة على حول السائمة ؟ وإذا أوجبنا زكاة التجارة لنقصان الماشية المشتراة للتجارة عن النصاب، ثم بلغت في اثناء الحول نصابا بالنتاج، ولم تبلغ بالقيمة نصابا في آخر الحول، فوجهان. أحدهما: لا زكاة، لان الحول انعقد للتجارة، فلا يتغير، والثاني: ينتقل إلى زكاة العين. فعلى هذا، هل يعتبر الحول من تمام النصاب بالنتاج، أم من وقت نقص القيمة عن النصاب ؟ وجهان. قلت: الاصح: لا زكاة. والله أعلم. أما إذا كمل نصاب الزكاتين، واختلف الحولان، بأن اشترى بمتاع التجارة بعد ستة أشهر نصاب سائمة، أو اشترى به معلوفة للتجارة، ثم أسامها بعد ستة أشهر، فطريقان. أصحهما: أنه على القولين في تقديم زكاة العين أو التجارة،(2/139)
والثاني: أن القولين مخصوصان بما إذا اتفق الحولان، بأن يشتري بعروض القنية نصاب سائمة للتجارة. فعلى هذا، فيه طريقان. أصحهما وبه قطع المعظم: أن المتقدم يمنع المتأخر قولا واحدا، فعليه زكاة التجارة في الصورة المذكورة. والطريق الثاني: على وجهين. أحدهما: هذا، والثاني: أن المتقدم يرفع حكم المتأخر، ويتجرد. وإذا طردنا القولين فيما إذا تقدم حول التجارة، فإن غلبنا زكاة التجارة، فذاك، وإن غلبنا العين، فوجهان. أحدهما: تجب عند تمام حولها، وما سبق من حول التجارة يبطل. وأصحهما: تجب زكاة التجارة عند تمام حولها، لئلا يبطل بعض حولها، ثم يستفتح حول زكاة العين من منقرض حولها، وتجب زكاة العين في سائر الاحوال. فرع لو اشترى نخيلا للتجارة، فأثمرت، أو أرضا مزروعة، فأدرك الزرع، وبلغ الحاصل نصابا، عاد القولان في أن الواجب زكاة العين، أم التجارة ؟ فإن لم يكمل أحد النصابين، أو كملا ولم يتفق الحولان، استمر التفصيل الذي سبق. ثم هذا الذي ذكرناه، فيما إذا كانت الثمرة حاصلة عند المشتري، وبدا الصلاح في ملكه. أما إذا أطلعت بعد الشراء، فهذه ثمرة حدثت من شجر التجارة، وفي ضمها إلى مال التجارة، وجهان تقدما، فإن ضممناها، فهي كالحاصلة عند الشراء، وتنزل منزلة زيادة متصلة، أو أرباح متجددة في قيمة العرض، ولا تنزل منزلة ربح بنض، ليكون حولها على الخلاف السابق فيه. فإن قلنا: ليست مال تجارة، فمقتضاه وجوب زكاة العين فيها بلا خلاف، وتخصيص زكاة التجارة بالارض والاشجار. التفريع: إن غلبنا زكاة العين، أخرج العشر أو نصفه من الثمار والزرع، وهل تسقط به زكاة الخجارة عن قيمة جذع النخل، وتبن الزرع ؟ وجهان. أصحهما:(2/140)
لا يسقط. وفي أرض النخل والزرع طريقان. أحدهما: على الوجهين في الجذع والتبن، والثاني: القطع بالوجوب لبعد الارض عن التبعة. قال إمام الحرمين: وينبغي أن يعتبر ذلك بما يدخل في الارض المتخللة بين النخيل في المساقاة، وما لا يدخل. فما لا يدخل، تجب فيه زكاة التجارة قطعا، وما يدخل، فهو على الخلاف. وإذا أوجبنا زكاة التجارة في هذه الاشياء، فلم تبلغ قيمتها نصابا، فهل يضم قيمة الثمرة والحب إليها، ليكمل النصاب ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا ضم، وما ذكره الامام جزم به الماوردي. والله أعلم. وعلى هذا القول لا يسقط اعتبار التجارة في المستقبل، بل تجب زكاة التجارة في الاحوال المستقبلة. ويكون ابتداء حول التجارة، من وقت إخراج العشر، لا من بدو الصلاح، لان عليه بعد بدو الصلاح تربية الثمار للمساكين، فلا يجوز أن يكون زمان التربية محسوبا عليه. فأما إذا غلبنا زكاة التجارة، فتقوم الثمرة والجذع، وفي الزرع الحب والتبن. وتقوم الارض أيضا فيهما، وسواء اشتراها مزروعة للتجارة، أو اشترى بذرا وأرضا للتجارة وزرعها به في جميع ما ذكرنا. ولو اشترى الثمار وحدها، وبدا الصلاح في يده، جرى القولان في أنه يخرج العشر، أم زكاة التجارة ؟. فرع لو اشترى أرضا للتجارة وزرعها ببذر للقنية، وجب العشر في الزرع وزكاة التجارة في الارض بلا خلاف فيهما. فصل في زكاة مال القراض عامل القراض لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة على الاظهر، وعلى الثاني: يملكها بالظهور. فإذا دفع إلى غيره نقدا قراضا، وهما جميعا من أهل الزكاة، فحال عليه الحول، فإن قلنا: العامل لا يملك الربح بالظهور، وجب على المالك زكاة رأس المال والربح جميعا، لان(2/141)
الجميع ملكه، كذا قاله الجمهور. ورأى الامام تخريج الوجوب في نصيب العامل على الخلاف في المغصوب والمحجور، لتأكد حقه في حصته. وحول الربح مبني على حول الاصل، إلا إذا رد إلى النضوض، ففيه الخلاف السابق. ثم إن أخرج الزكاة من موضع آخر، فذاك وإن أخرجها من هذا المال، ففي حكم المخرج أوجه، أصحها عند الاكثرين وهو المنصوص: يحسب من الربح كالمؤن التي تلزم المال، وكما أن فطرة عبيد التجارة، وأرش جناياتهم من الربح، والثاني: من رأس المال، والثالث: أنه لطائفة من المال، يستردها المالك، لانه مصروف إلى حق لزمه. فعلى هذا يكون المخرج من الربح ورأس المال جميعا بالتقسيط. مثاله: رأس المال مائتان، والربح مائة، فثلثا المخرج من رأس المال، وثلثه من الربح. قال في التهذيب: الوجهان مبنيان على تعلق الزكاة، هل هو بالعين، أو بالذمة ؟ إن قلنا: بالعين، فكالمؤن، وإلا فهو استرداد. وقيل: إن قلنا: بالعين، فكالمؤن، وإلا ففيه الوجهان. واستبعد إمام الحرمين هذا البناء. أما إذا قلنا: يملك حصته بالظهور، فعلى المالك زكاة رأس المال، ونصيبه من الربح. وهل على العامل زكاة نصيبه ؟ فيه طرق. أحدها: أنه على قولين كالمغصوب، لانه غير متمكن من كمال التصرف، والثاني: القطع بالوجوب لتمكنه من التوصل بالمقاسمة، والثالث: القطع بالمنع لعدم استقرار ملكه لاحتمال الخسران. والمذهب: الايجاب، سواء أثبتنا الخلاف، أم لا، فعلى هذا، فابتداء حول حصته من حين الظهور على الاصح المنصوص، والثاني: من حين تقوم المال على المالك لاخذ الزكاة، والثالث: من حين القسمة، لانه وقت الاستقرار، والرابع: حوله حول رأس المال. ثم إذا تم حوله، ونصيبه لا يبلغ نصابا، لكن مجموع المال يبلغ نصابا، فإن أثبتنا الخلطة في النقدين، فعليه(2/142)
الزكاة، وإلا، فلا، إلا أن يكون له من جنسه ما يتم به النصاب، وهذا إذا لم نجعل ابتداء الحول من المقاسمة. فإن جعلناه منها، سقط النظر إلى الخلطة. وإذا أوجبنا الزكاة على العامل، لم يلزمه إخراجها قبل القسمة على المذهب، فإذا اقتسما، زكى ما مضى. وحكي وجه: أنه يلزمه الاخراج في الحال، لتمكنه من القسمة. ثم إن أخرج الزكاة من موضع آخر، فذاك، فإن أراد إخراجها من مال القراض، فهل يستبد به، أم للمالك منعه ؟ وجهان. أصحهما: يستبد، قال الروياني: وهو المنصوص. والثاني: لا يستبد، وللمالك منعه. أما إذا كان المالك من أهل وجوب الزكاة دون العامل، وقلنا: الجميع له ما لم يقسم، فعليه زكاة الجميع. وإن قلنا بالقول الآخر، فعليه زكاة رأس المال ونصيب من الربح، ولا يكمل نصيب المالك إذا لم يبلغ نصابا بنصيب العامل، لانه ليس من أهل الزكاة. أما إذا كان العامل من أهل الزكاة، دون المالك فإن قلنا: الجميع للمالك قبل القسمة، فلا زكاة. وإن قلنا: للعامل حصة من الربح، ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف السابق. فإذا أوجبناه، فذاك إذا بلغت حصته نصابا، أو كان له ما يتم به النصاب. ولا تثبت الخلطة، ولا يجئ في اعتبار الحول هنا إلا الوجه الاول والثالث، وليس له إخراج الزكاة من عين المال بلا خلاف، لان المالك لم يدخل في العقد على أن يخرج من المال زكاة، هكذا ذكروه، ولمانع أن يمنع ذلك، لانه عامل من عليه الزكاة.
باب زكاة المعدن والركاز
اجتمعت الامة على وجوب الزكاة في المعدن، ولا زكاة فيما يستخرج من(2/143)
المعدن، إلا في الذهب والفضة. هذا هو المذهب المشهور الذي قطع به الاصحاب. وحكي وجه: أنه تجب زكاة كل مستخرج منه، منطبعا كان، كالحديد والنحاس، أو غيره، كالكحل والياقوت، وهذا شاذ منكر. وفي واجب النقدين المستخرجين منه، ثلاثة أقوال. أظهرها: ربع العشر، والثاني: الخمس، والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤونة، فالخمس، وإلا فربع العشر. ثم الذي اعتمده الاكثرون على هذا القول في ضبط الفرق، الحاجة إلى الطحن، والمعالجة بالنار، والاستغناء عنهما، فما احتاج، فربع العشر، وما استغنى عنهما، فالخمس. والمذهب: أنه يشترط كونه نصابا. وقيل: في اشتراطه قولان. والمذهب المنصوص عليه في معظم كتب الشافعي رحمة الله عليه: أنه لا يشترط الحول. وقيل: في اشتراطه قولان. ووجه المذهب فيهما القياس على المعشرات، ولان ما دون النصاب لا يحتمل المواساة، وإنما يعتبر الحول للتمكن من تنمية المال، وهذا نما في نفسه. فرع إذا اشترطنا النصاب، فليس من شرطه أن ينال في الدفعة الواحدة نصابا، بل ما ناله بدفعات ضم بعضه إلى بعض إن تتابع العمل وتواصل النيل. قال في التهذيب: ولا يشترط بقاء ما استخرج في ملكه. فلو تتابع العمل، ولم يتواصل النيل، بل حفر المعدن زمانا، ثم عاد النيل، فان كان زمن الانقطاع يسيرا، ضم أيضا، وإلا، فقولان. الجديد: الضم. والقديم: لا ضم. وإن قطع العمل ثم عاد إليه، فإن كان القطع لغير عذر، فلا ضم، طال الزمان أم قصر، لاعراضه. وإن قطع لعذر، فالضم ثابت إن قصر الزمان، وإن طال، فكذلك عند الاكثرين. وفي وجه: لا ضم. وفي حد الطول أوجه. أصحها: الرجوع إلى العرف، والثاني: ثلاثة أيام، والثالث: يوم كامل. ثم إصلاح الآلات وهرب العبيد والاجراء من الاعذار بلا خلاف. وكذلك السفر(2/144)
والمرض على المذهب. وقيل: فيهما وجهان. أصحهما: عذران، والثاني: لا. ومتى حكمنا بعدم الضم، فمعناه أن الاول لا يضم إلى الثاني. فأما الثاني فيكمل بالاول قطعا، كما يكمل بما يملكه من غير المعدن. فرع إذا نال من المعدن دون نصاب، وهو يملك من جنسه نصابا فصاعدا، فأما أن يناله في آخر جزء من حول ما عنده، أو مع تمام حوله، أو قبله، ففي الحالين الاولين يصير النيل مضموما إلى ما عنده، وعليه في ذلك النقد حقه، وفيما ناله حقه على اختلاف الاقوال فيه. وأما إذا ناله قبل تمام الحول، فلا شئ فيما عنده حتى يتم حوله. وفي وجوب حق المعدن فيما ناله، وجهان. أصحهما: يجب، وهو ظاهر نصه في الام والثاني: لا يجب. فعلى هذا، يجب فيما عنده ربع العشر عند تمام حوله، وفيما ناله ربع العذر عند تمام حوله. ولو كان يملك من جنسه دون نصاب، بأن ملك مائة درهم، فنال من المعدن مائة، نظر، إن نال بعد تمام حول ما عنده، ففي وجوب حق المعدن فيما ناله الوجهان. فعلى الاول: يجب في المعدن حقه، ويجب فيما عنده ربع العشر إذا مضى حول من حين كمل النصاب بالنيل، وعلى الثاني: لا يجب شئ حتى يمضي حول من يوم النيل، فيجب في الجميع ربع العشر. وعن صاحب الافصاح وجه: أنه يجب فيما ناله حقه، وفيما كان عنده ربع العشر في الحال، لانه كمل بالنيل، وقد مضى عليه الحول. وأما إن ناله قبل تمام حول المائة، فلا يجئ وجه صاحب الافصاح، ويجئ الوجهان الآخران. وهذا التفصيل مذكور في(2/145)
بعض طرق العراقيين، وقد نقل معظمه الشيخ أبو علي، ونسبه الامام إلى السهو وقال: إذا كان يملكه دون النصاب، فلا ينعقد عليه حول حتى يفرض له وسط وآخر، ويحكم بوجوب الزكاة فيه يوم النيل. ولا شك في القول بوجوب الزكاة فيه للنيل، لكن الشيخ لم ينفرد بهذا النقل، ولا صار إليه حتى يعترض عليه، وإنما نقله متعجبا منه، منكرا له. وأما إذا كان ما عنده مال تجارة، فتنتظم فيه الاحوال الثلاثة وإن كان دون النصاب بلا إشكال، لان الحول ينعقد عليه، ولا يعتبر النصاب إلا في آخر الحول على الاصح. فإن نال من المعدن في آخر حول التجارة، ففيه حق المعدن، وفي مال التجارة زكاة التجارة إن كان نصابا، وكذا إن كان دونه وبلغ بالمعدن نصابا، واكتفينا بالنصاب في آخر الحول. وإن نال قبل تمام الحول، ففي وجوب حق المعدن الوجهان السابقان، وإن نال بعد تمام الحول، نظر، إن كان مال التجارة نصابا في آخر الحول، وجب في النيل حق المعدن، لانضمامه إلى ما وجبت فيه الزكاة، وإن لم يبلغ نصابا ونال بعد مضي شهر من الحول الثاني مثلا، بني ذلك على الخلاف في أن سلعة التجارة إذا قومت في آخر الحول فلم تبلغ نصابا، ثم ارتفعت القيمة بعد شهر، هل تجب فيها الزكاة، أم ينتظر آخر الحول الثاني ؟ فإن قلنا بالاول، وجبت زكاة التجارة في مال التجارة، وحينئذ يجب حق المعدن في النيل قطعا. وإن قلنا بالثاني، ففي وجوب حق المعدن الوجهان، وجميع ما ذكرناه مفرع على المذهب أن الحول ليس بشرط في حق المعدن. فإن شرطناه، انعقد الحول عليه من حين وجده. فرع لا يمكن ذمي من حفر معادن دار الاسلام والاخذ منها، كما لا يمكن(2/146)
من الاحياء فيها، ولكن ما أخذه قبل إزعاجه يملكه، كما لو احتطب. وهل عليه حق المعدن ؟ يبنى على أن مصرف حق المعدن ماذا ؟ فان أوجبنا فيه ربع العشر، فمصرفه مصرف الزكوات، وإن أوجبنا الخمس، فطريقان. المذهب والذي قطع به الاكثرون: مصرف الزكوات، والثاني: على قولين. أظهرهما: هذا، والثاني: مصرف خمس خمس الفيئ. فإن قلنا: بهذا، أخذ من الذمي الخمس، وإن قلنا بالمذهب، لم يؤخذ منه شئ. وعلى المذهب تشترط النية فيه. وعلى قول مصرف الفيئ، لا تشترط النية. ولو كان المستخرج من المعدن مكاتبا، لم يمنع ولا زكاة. ولو نال العبد من المعدن شيئا، فهو لسيده وعليه واجبة. ولو أمره السيد بذلك ليكون النيل له، فقد بناه صاحب الشامل على القولين في ملك العبد بتمليك السيد، وحظ الزكاة من القولين ما قدمناه. واعلم أن السلطان والحاكم، يزعج الذمي عن معدن دار الاسلام. وينقدح جواز إزعاجه لكل مسلم، لانه صاحب حق فيه. فرع لو استخرج اثنان من معدن نصابا، فوجوب الزكاة يبنى على ثبوت الخلطة في غير المواشي. فرع إذا قلنا بالمذهب: إن الحول لا يعتبر، فوقت وجوب حق المعدن حصول النيل في يده، ووقت الاخراج، التخليص والتنقية. فلو أخرج قبل التنقية من التراب والحجر، لم يجز، وكان مضمونا على الساعي، يلزمه رده. فلو اختلفا في قدره بعد التلف، أو قبله، فالقول قول الساعي مع يمينه، ومؤونة التخليص والتنقية على المالك، كمؤونة الحصاد والدياس. فلو تلف بعضه قبل التمييز، فهو كتلف بعض المال قبل الامكان. قلت: وإذا امتنع من تخليصه، أجبر. والله أعلم. فصل الركاز دفين الجاهلية، ويجب فيه الخمس، ويصرف مصرف(2/147)
الزكوات على المذهب. وحكي قول، وقيل: وجه: أنه يصرف مصرف خمس خمس الفيئ، ولا يشترط الحول فيه بلا خلاف. والمذهب: اشتراط النصاب وكون الموجود ذهبا أو فضة. وقيل: في اشتراط ذلك، قولان. الجديد: الاشتراط. فرع لو كان الموجود على ضرب الاسلام، بأن كان عليه شئ من القرآن، أو اسم ملك من ملوك الاسلام، لم يملكه الواحد بمجرد الوجدان، بل يرده إلى مالكه إن علمه، فإن لم يعلمه، فوجهان. الصحيح الذي قطع به الجمهور: هو لقطة يعرفه الواجد سنة، ثم له تملكه إن لم يظهر مالكه. وقال الشيخ أبو علي: هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبدا، أو يحفظه الامام له في بيت المال، ولا يملك بحال، كما لو ألقت الريح ثوبا في حجره، أو مات مورثه عن ودائع وهو لا يعرف مالكها. وإنما يملك بالتعريف ما ضاع من المارة، دون ما حصنه المالك بالدفن. ونقل البغوي عن القفال نحو هذا. قال الامام: ولو انكشفت الارض عن كنز بسيل ونحوه، فما أدري ما قول الشيخ فيه، والمال البارز ضائع، قال: واللائق بقياسه، أن لا يثبت فيه حق التمليك اعتبارا بأصل الموضع، ولو لم يعرف أن الموجود من ضرب الجاهلية أو الاسلام، فقولان. أظهرهما وأشهرهما: ليس بركاز، والثاني: ركاز فيخمس. وعلى الاظهر: يكون لقطة على قول الجمهور. وعن الشيخ أبي علي موافقة الجمهور هنا. وعنه أيضا وجهان. أحدهما: الموافقة، والثاني: أنه مال ضائع كما قال في الصورة السابقة. ثم يلزم من كون الركاز على ضرب الاسلام، كونه دفن في الاسلام، ولا يلزم من كونه على ضرب الجاهلية كونه دفن في الجاهلية، لاحتماله أنه وجده مسلم بكنز جاهلي،(2/148)
فكنزه ثانيا، فالحكم مدار على كونه من دفن الجاهيلين، لا على كونه ضرب الجاهلية. فرع الكنز الموجود بالصفة المتقدمة، تارة يوجد في دار الاسلام، وتارة في دار الحرب. فالذي في دار الاسلام، إن وجد في موضع لم يعمره مسلم ولا ذو عهد، فهو ركاز، سواء كان مواتا أو من القلاع العادية التي عمرت في الجاهلية. فإن وجد في طريق مسلوكة، فالمذهب والذي قطع به العراقيون والقفال: أنه لقطة. وقيل: ركاز. وقيل: وجهان، والموجود في المسجد لقطة على المذهب. ويجئ فيه الوجه الذي في الطريق: أنه ركاز. وما عدا هذه المواضع، ينقسم إلى مملوك، وموقوف، فالمملوك، إن كان لغيره ووجد فيه كنزا، لم يملكه الواجد، بل إن ادعاه مالكه، فهو له بلا يمين، كالامتعة في الدار، وإلا فهو لمن تلقى صاحب الارض الملك منه. وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذي أحيا الارض فيكون له وإن لم يدعه، لانه بالاحياء ملك ما في الارض، وبالبيع لم يزل ملكه عنه، فانه مدفون منقول. فإن كان من تلقى الملك عنه هالكا، فورثته قائمون مقامه. فإن قال بعض ورثته: هو لمورثنا، وأباه بعضهم، سلم نصيب المدعي إليه، وسلك بالباقي ما ذكرناه. هذا كله كلام الائمة صريحا وإشارة. ومن المصرحين بملك الركاز باحياء الارض، القفال. ورأى الامام تخريج ملك الركاز بالاحياء على ما لو دخلت ظبية دارا، فأغلق صاحبها الباب لا على قصد ضبطها. وفيه وجهان. أصحهما: لا يملكها، ولكن يصير أولى بها. كذلك المحيي يصير أولى بالكنز. ثم إذا قلنا: الكنز يملك بالاحياء، وزالت رقبة الارض عن ملكه، فلا بد من طلبه ورده إليه. وإن قلنا: لا يملكه، ولكن يصير أولى به، فلا يبعد أن يقال: إذا زال ملكه عن رقبة(2/149)
الارض، بطل اختصاصه. كما أن في مسألة الظبية إذا قلنا: لا يملكها، ففتح الباب والتت، ملكها من اصطادها. التفريع: إن قلنا: المحيي لا يملك بالاحياء، فإذا دخل في ملكه، أخرج الخمس، وإلا فإذا احتوت يده على الكنز نفسه وقد مضى سنون، فلا بد من إخراج الخمس الذي لزمه يوم ملكه. وفيما مضى من السنين، يبنى وجوب ربع العشر في الاخماس الاربعة على الخلاف في الضال والمغصوب، وفي الخمس كذلك إن قلنا: تتعلق الزكاة بالعين، وإلا فعلى ما ذكرنا إذا لم يملك إلا نصابا وتكرر الحول عليه. أما إذا كان الموضع الذي وجد فيه الكنز للواجد، فإن كان أحياه، فما وجده ركاز، وعليه خمسه في وقت دخوله في ملكه كما سبق. وقال الغزالي: فيه وجهان، بناء على ما قاله الامام، وإن كان انتقل إليه من غيره، لم يحل له أخذق، بل عليه عرضه على من ملكه عنه. وهكذا حتى ينتهي إلى المحيي كما سبق. وإن كان الموضع موقوفا، فالكنز لمن في يده الارض، كذا قاله في التهذيب. هذا كله إذا وجد في دار الاسلام، فلو وجد في دار الحرب في موات، نظر، إن كانوا لا يذبون عنه، فهو كموات دار الاسلام، وإن كانوا يذبون عنه ذبهم عن العمران، فالصحيح الذي قطع به الاكثرون: أنه كمواتهم الذي لا يذبون عنه. وقال الشيخ أبو علي: هو كعمرانهم. وإن وجد في موضع مملوك لهم، نظر، إن أخذ بقهر وقتال، فهو غنيمة، كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم، فيكون خمسه لاهل الخمس، وأربعة أخماسه لمن وجده. وإن أخذ بغير قتال ولا قهر، فهو فيئ، ومستحقه أهل(2/150)
الفيئ. كذا قاله في النهاية وهو محمول على ما إذا دخل دار الحرب بغير أمان، لانه إذا دخل بأمان لا يجوز له أخذ كنزهم لا بقتال ولا بغيره. كما ليس له أن يخونهم في أمتعة بيوتهم، وعليه الرد إن أخذ. وقد نص على هذا، الشيخ أبو علي. ثم في كونه فيئا إشكال، لان من دخل بغير أمان، وأخذ مالهم بلا قتال، إما أن يأخذه خفية، فيكون سارقا، وإما جهارا، فيكون مختلسا، وهما خاص ملك السارق والمختلس. ويتأيد هذا الاشكال بأن كثيرا من الائمة أطلقوا القول بأنه غنيمة، منهم ابن الصباغ، والصيدلاني. فرع إذا تنازع بائع الدار ومشتريها في ركاز وجد فيها، فقال المشتري: لي وأنا دفنته، وقال البائع مثل ذلك، أو قال: ملكته بالاحياء، أو تنازع المعير والمستعير، أو المكري والمستأجر هكذا، فالقول قول المشتري والمستعير والمستأجر مع أيمانهم، لان , اليد لهم، وهو كالنزاع في متاع الدار. وهذا إذا احتمل صدق صاحب اليد، ولو على بعد. فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يمكن دفنه في مدة جديدة، فلا يصدق صاحب اليد. ولو وقع النزاع بين المكري والمستأجر، أو المعير والمستعير بعد رجوع الدار، إلى يد المالك، فان قال المكري أو المعير: أنا دفنته بعد عود الدار إلي، فالقول قوله بشرط الامكان. وإن قال: دفنته قبل خروج الداذ من يدي، فوجهان. أحدهما: القول قوله أيضا، وأصحهما: القول قول المستأجر والمستعير، لان المالك سلم له حصول الكنز في يده، فيده تنسخ اليد السابقة. ولهذا لو تنازعا قبل الرجوع، كان القول قوله. فرع إذا اعتبرنا النصاب في الزكاة، لم يشترط كون الموجود نصابا، بل(2/151)
يكمله بما يملكه من جنس النقد الموجود. وفيه من التفصيل والخلاف ما سبق في المعدن، وإذا كملنا، ففي الركاز الخمس. فرع حكم الذمي في الركاز، حكمه في المعدن، فلا يمكن من أخذه في دار الاسلام، فإن وجده وأخذه، ملكه على المذهب المعروف. قال الحمام: وفيه احتمال عندي، لانه كالحاصل في قبضة المسلمين، فهو كما لهم الضال. وإذا قلنا بالمذهب فأخذه، ففي أخذ حق الزكاة منه، الخلاف السابق في المعدن. قلت: إذا وجد معدنا، أو ركازا، وعليه دين، ففي منع الدين زكاتهما القولان المتقدمان في سائر الزكوات. وإذا أوجبنا زكاة الركاز في عين الذهب والفضة، أخذ خمس الموجود لا قيمته، ولو وجد في ملكه ركاز فلم يدعه، وادعاه اثنان، فصدق أحدهما، سلم إليه. وإذا وجد من الركاز دون النصاب، وله دين تجب فيه الزكاة، فبلغ به نصابا، وجب خمس الركاز في الحال، وإن كان ماله غائبا، أو مدفونا، أو غنيمة، والركاز ناقص، لم يخمس، حتى يعلم سلامة ماله، فحينئذ يخمس الركاز الناقص عن النصاب، سواء بقي المال، أو تلف إذا علم وجوده يوم حصل الركاز. والله أعلم.
باب زكاة الفطر
هي واجبة، وقال ابن اللبان من أصحابنا: غير واجبة.(2/152)
قلت: قول ابن اللبان شاذ منكر، بل غلط صريح. والله أعلم. وفي وقت وجوبها أقوال. أظهرها وهو الجديد: تجب بغروب الشمس ليلة العيد، والثاني: وهو القديم: تجب بطلوع الفجر يوم العيد، والثالث: تجب بالوقتين معا، خرجه صاحب التلخيص واستنكره الاصحاب، فلو ملك عبدا، أو أسلم عبده الكافر، أو نكح امرأة، أو ولد له ولد ليلة العيد، لم تجب فطرتهم على الجديد، وعلى المخرج، وتجب على القديم. ولو مات ولده أو عبده، أو زوجته، أو طلقها بائنا ليلة العيد، أو ارتد العبد، أو الزوجة، لم تجب على القديم والمخرج، وتجب على الجديد، وكذا الحكم لو أسلم الكافر قبل الغروب، ومات بعده. ولو حصل الولد أو الزوجة، أو العبد بعد الغروب، وماتوا قبل الفجر، فلا فطرة على الاقوال كلها. ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل الفجر، وجبت على الجديد والقديم. وأما على المخرج، فوجهان كالوجهين في أن الواهب هل يرجع في ما زال ملك المتهب عنه ثم عاد إليه ؟ ولو باع العبد بعد الغروب واستمر ملك المشتري، فعلى الجديد: الفطرة على البائع، وعلى القديم: على المشتري، وعلى المخرج، لا تجب على واحد منهما، ولو مات مالك العبد ليلة العيد، فعلى الجديد: الفطرة في تركته، وعلى القديم: تجب على الوارث،(2/153)
وعلى المخرج: لا فطرة أصلا، وفيه وجه: أنها تجب على الوارث على هذا القول بناء على القديم أن الوارث يبنى على حول الموروث. فصل الفطرة يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان على المذهب. وتقدم بيانه في باب التعجيل، فإذا لم يعجل، فيستحب أن لا يؤخر إخراجها عن صلاة العيد، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد، فإن أخر قضى. فصل الفطرة قد يؤديها عن نفسه، وقد يؤديها عن غيره. وجهات التحمل ثلاث: الملك، والنكاح، والقرابة. وكلها تقتضي وجوب الفطرة في الجملة، فمن لزمه نفقة بسبب منها، لزمه فطرة المنفق عليه، ولكن يشترط في ذلك أمور، ويستثنى عنه صور، منها: متفق عليه. ومنها: مختلف فيه، ستظهر بالتفريع إن شاء الله تعالى وقال ابن المنذر من أصحابنا: تجب فطرة الزوجة في مالها، لا على الزوج. فمن المستثنى: أن الابن تلزمه نفقة زوجة أبيه، تفريعا على المذهب في وجوب(2/154)
الاعفاف، وفي وجوب فطرتها عليه وجهان. أصحهما عند الغزالي في طائفة: وجوبها. وأصحهما عند صاحبي التهذيب والعدة وغيرهما: لا تجب. قلت: هذا الثاني هو الاصح، وجزم الرافعي في المحرر بصحته. والله أعلم. ويجري الوجهان في فطرة مستولدته. ثم من عدا الاصول والفروع من الاقارب، كالاخوة والاعمام: لا تجب فطرتهم، كما لا تجب نفقتهم. وأما الاصول والفروع، فإن كانوا موسرين، لم تجب نفقتهم، وإلا فكل من جمع منهم إلى الاعسار الصغر، أو الجنون، أو الزمانة وجبت نفقته، ومن تجرد في حقه الاعسار، ففي نفقته قولان. ومنهم من قطع بالوجوب في الاصول. وحكم الفطرة حكم النفقة اتفاقا واختلافا. إذا ثبت هذا، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه، فوجد قوته ليلة العيد ويومه فقط، لم تجب فطرته على الاب لسقوط نفقته، ولا على الابن، لاعساره. وإن كان الابن صغيرا، والمسألة بحالها، ففي سقوط الفطرة عن الاب وجهان. أصحهما: السقوط كالكبير، والثاني: لا تسقط لتأكدها. فرع الفطرة الواجبة على الغير، هل تلاقي المؤدى عنه، ثم يتحمل عن المؤدي، أم تجب على المؤدي ابتداء ؟ فيه خلاف. يقال: وجهان. ويقال: قولان مخرجان. أصحهما: الاول. ثم الاكثرون طردوا الخلاف في كل مؤد عن غيره من الزوج والسيد والقريب. قال الامام: وقال طوائف من المحققين: هذا(2/155)
الخلاف في فطرة الزوجة فقط. أما فطرة المملوك والقريب، فتجب على المؤدي ابتداء قطعا، لان المؤدى عنه، لا يصلح للايجاب لعجزه. ثم حيث فرض الخلاف وقلنا بالتحمل، فهو كالضمان، أم كالحوالة ؟ قولان حكاهما أبو العباس الروياني في المسائل الجرجانيات فلو كان الزوج معسرا، والزوجة أمة، أو حرة موسرة، فطريقان. أصحهما: فيهما قولان بناء على الاصل المذكور. إن قلنا: الوجوب يلاقي المؤدى عنه أولا، وجبت الفطرة على الحرة وسيد الامة، وإلا فلا تجب على أحد، والطريق الثاني: تجب على سيد الامة، ولا تجب على الحرة، وهو المنصوص. والفرق، كمال تسليم الحرة نفسها، بخلاف الامة. قلت: الطريق الثاني: أصح. والله أعلم. أما إذا نشزت، فتسقط فطرتها عن الزوج قطعا. قال الامام: والوجه عندي القطع بإيجاب الفررة عليها وإن قلنا: لا يلاقيها الوجوب، لانها بالنشوز خرجت عن إمكان التحمل. ولو كان زوج الامة موسرا، ففطرتها كنفقها، وبيانها في بابها. وأما خادم الزوجة، فان كانت مستأجرة، لم تجب فطرتها، وإن كانت من إماء الزوج، فعليه فطرتها، وإن كانت من إماء الزوجة، والزوج ينفق عليها، لزمها فطرتها، لانه يمونها، نص عليه الشافعي رحمه الله في المختصر وقال الامام: الاصح عندي: أنها لا تلزمه. فرع لو أخرجت الزوجة فطرة نفسها مع يسار الزوج بغير إذنه، ففي إجزائها وجهان. إن قلنا: الزوج متحمل، أجزأ، وإلا، فلا، ويجري الوجهان فيما لو تكلف من فطرته على قريبه، باستقراض أو غيره، وأخرج بغير إذنه. والمنصوص في المختصر: الاجزاء. ولو أخرجت الزوجة أو القريب بإذن من عليه، أجزأ بلا خلاف، بل لو قال الرجل لغيره: أد عني فطرتي، ففعل، أجزأه، كما لو قال: اقض ديني.(2/156)
فرع تجب فطرة الرجعية كنفقتها. وأما البائن: فإن كانت حائلا، فلا فطرة، كما لا نفقة، وإن كانت حاملا، فطريقان. أحدهما: تجب كالنفقة، وهذا هو الراجح عند الشيخ أبي علي، والامام، والغزالي، والثاني وبه قطع الاكثرون: أن وجوب الفطرة مبني على الخلاف في أن النفقة للحامل، أم للحمل ؟ إن قلنا بالاول، وجبت، وإلا، فلا، لان الجنين لا تجب فطرته. هذا إذا كانت الزوجة حرة، فإن كانت أمة، ففطرتها بالاتفاق مبنية على ذلك الخلاف. فإن قلنا: النفقة للحمل، فلا فطرة، كما لا نفقة، لانه لو برز الحمل، لم تجب نفقته على الزوج، لانه ملك سيدها، وإن قلنا: للحامل، وجبت، وسواء رجحنا الطريق الاول أو الثاني، فالمذهب: وجوب الفطرة، لان الاظهر: أن النفقة للحامل. فرع لا تجب على المسلم فطرة عبده، ولا زوجته، ولا قريبه، الكفار. فرع تجب فطرة العبد المشترك، وفطرة من بعضه حر. فإن لم يكن مهايأة، فالوجوب عليهما، وإن كانت مهايأة بين الشريكين، أو بين السيد ومن بعضه حر، فهل تختص الفطرة بمن وقع زمن الوجوب في نوبته، أم توزع بينهما ؟ يبنى ذلك على أن الفطرة هل هي من المؤن النادرة، أم من المتكررة، وأن النادرة هل تدخل في المهايأة، أم لا ؟ وفي الامرين خلاف. فأما الاول، فالمذهب: أن الفطرة من النادرة، وبه قطع الجمهور. وقيل: فيها وجهان. وأما الثاني: ففيه وجهان مشهوران. أصحهما: دخول النادر. فرع المدبر، وأم الولد، والمعلق عتقه على صفة، تجب فطرتهم على السيد، وتجب فطرة المرهون، والجاني، والمستأجر. وقال إمام الحرمين والغزالي: يحتمل أن يجري في المرهون الخلاف المذكور في زكاة المال المرهون، وهذا(2/157)
الذي قالاه، لا نعرفه لغيرهما، بل قطع الاصحاب بالوجوب هنا وهناك. وأما العبد المغصوب والضال، فالمذهب: وجوب فطرته. وقيل: قولان، كزكاة المغصوب. وطرد ابن عبدان هذا الخلاف فيما إذا حيل بينه وبين زوجته وقت الوجوب. وأما العبد الغائب، فان علم حياته وكان في طاعته، وجبت فطرته، وإن كان آبقا، ففيه الطريقان، كالمغصوب. وإن كان لم يعلم حياته، وانقطع خبره مع تواصل الرفاق، فطريقان. أحدهما: القطع بوجوبها، والثاني: على قولين. والمذهب: على الجملة وجوبها. والمذهب: أن هذا العبد لا يجزئ عتقه عن الكفارة. ثم إذا أوجبنا الفطرة في هذه الصور، فالمذهب: وجوب إخراجها في الحال. ونص في الاملاء على قولين فيه. فرع العبد ينفق على زوجته من كسبه، ولا يخرج الفطرة عنها حرة كانت أو أمة، لانه ليس أهلا لفطرة نفسه، فكيف يحمل عن غيره ؟ بل تجب على الزوجة فطرة نفسها إن كانت حرة، وعلى السيد إن كانت أمة على المذهب فيهما. وقيل: فيهما القولان السابقان فيما إذا كان الزوج حرا معسرا. ولو ملك السيد عبده شيئا، وقلنا: يملكه، لم يكن له إخراج فطرة زوجته استقلالا، لانه ملك ضعيف، فلو صرح في الاذن بالصرف إلى هذه الجهة (فوجهان) فإن قلنا: له ذلك، فليس للسيد الرجوع عن الاذن بعد دخول الوقت، لان الاستحقاق إذا ثبت فلا مدفع له. فرع إذا أوصى بمنفعة عبد لرجل، وبرقبته لآخر، ففطرته على الموصى له بالرقبة قطعا. وهل تجب نفقته عليه، أم على الآخر، أو في بيت المال ؟ (فيه) ثلاثة أوجه. قلت: الاصح: أنها على مالك الرقبة، وأن الفطرة كالنفقة وهي معادة في(2/158)
الوصية. والله أعلم. وعبد بيت المال، والموقوف على مسجد، لا فطرة فيهما على الصحيح. والموقوف على رجل بعينه، المذهب: أنه إن قلنا: الملك في رقبته للموقوف عليه، فعليه فطرته. وإن قلنا: لله تعالى، فوجهان. وقيل: لا فطرة فيه قطعا، وبه قطع في التهذيب. قلت: الاصح: لا فطرة إذا قلنا: لله تعالى. والله أعلم. فرع إذا مات المؤدى عنه بعد دخول الوقت وقبل إمكان الاداء، لم تسقط الفطرة على الاصح. وبه قطع في الشامل. فصل يشترط في مؤدي الفطرة، ثلاثة أمور. الاول: الاسلام. فلا فطرة على الكافر عن نفسه، ولا عن غيره، إلا إذا كان له عبد مسلم، أو قريب مسلم، أو مستولدة مسلمة، ففي وجوب الفطرة عليه وجهان، بناء على أنها تجب على المؤدي ابتداء، أو على المؤدى عنه، ثم يتحمل المؤدي ؟. قلت: أصحهما: الوجوب، وصححه الرافعي في المحرر وغيره. وهو مقتضى البناء. والله أعلم. فإن قلنا بالوجوب، فقال إمام الحرمين: لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوي. ولو أسلمت ذمية تحت ذمي، ودخل وقت الفطرة في تخلف الزوج، ثم أسلم قبل انقضاء العدة، ففي وجوب نفقها مدة التخلف خلاف يأتي. في موضعه إن شاء الله تعالى. فإن لم نوجبها، فلا فطرة. وإن أوجبناها، فالفطرة على هذا الخلاف في عبده المسلم. الامر الثاني: الحرية.(2/159)
فليس على الرقيق فطرة نفسه، ولا فطرة زوجته. ولو ملكه السيد عبدا، وقلنا: يملكه، سقطت فطرته عن سيده، لزوال ملكه، ولا تجب على المتملك لضعف ملكه. وفي المكاتب ثلاثة أقوال، أو أوجه. أصحها: لا فطرة عليه، ولا على سيده عنه، والثاني: تجب على سيده، والثالث: تجب عليه في كسبه كنفقته. والخلاف في أن المكاتب عليه فطرة نفسه يجري في أن عليه فطرة زوجته وعبيده. والمدبر، والمستولدة، كالقن. ومن بعضه حر، سبق حكمه. الامر الثالث: اليسار. فالمعسر لا فطرة عليه، وكل من لم يفضل عن قوته وقوت من في نفقته، ليلة العيد ويومه، ما يخرجه في الفطرة، فهو معسر، ومن فضل عنه ما يخرجه في الفطرة من أي جنس كان من المال، فهو موسر. ولم يذكر الشافعي وأكثر الاصحاب في ضبط اليسدر والاعسار، إلا هذا القدر. وزاد الامام: فاعتبر كون الصاع فاضلا عن مسكنه وعبده الذي يحتاج إليه في خدمته. وقال: لا يحسب عليه في هذا الباب ما لا يحسب في الكفارة. وإذا نظرت كتب الاصحاب لم تجد ما ذكره، وقد يغلب على ظنك أنه لا خلاف في المسألة، وأن الذي ذكره، كالبيان والاستدراك لما أهمله الاولون، وربما اسجشهدت بكونهم لم يذكروا دست ثوب يلبسه، ولا شك في اعتباره، فإن الفطرة ليست بأشد من الدين، وهو مبقى عليه في الدين، لكن الخلاف ثابت، فان الشيخ أبا علي حكى وجها، أن عبد الخدمة لا يباع في الفطرة، كما لا يباع في الكفارة، ثم أنكر عليه وقال: لا يشترط في الفطرة كونه فاضلا عن كفايته، بل المعتبر قوت يومه كالدين، بخلاف الكفارة، فإن لها بدلا،(2/160)
وذكر في التهذيب ما يقتضي وجهين. والاصح عنده: موافقة الامام، واحتج له بقول الشافعي رضي الله عنه: أن الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته، لزم الاب فطرته كفطرة الابن، فلولا أن العبد غير محسوب، لسقط بسببه فطرة الابن أيضا. وإذا شرطنا كون المخرج فاضلا عن العبد والمسكن، إنما نشترطه في الابتداء، فلو ثبتت الفطرة في ذمة انسان، بعنا خادمه ومسكنه فيها، لانها بعد الثبوت التحقت بالديون. واعلم أن الدين على الآدمي يمنع وجوب الفطرة بالاتفاق، كما أن الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب تمنعه. كذا قاله الامام. قال: ولو ظن ظان أن لا يمنعه على قول كما لا يمنع وجوب الزكاة، كان مبعدا. هذا لفظه، وفيه شئ نذكره في آخر الباب إن شاء الله تعالى. فعلى هذا، يشترط مع كون المخرج، فاضلا عما سبق، كونه فاضلا عن قدر ما عليه من الدين. واعلم أن اليسار إنما يعتبر وقت الوجوب، فلو كان معسرا عنده ثم أيسر، فلا شئ عليه. فرع لو فضل معه عما لا يجب عليه بعض صاع، لزمه إخراجه على الاصح، ولو فضل صاع وهو يحتاج إلى إخراج فطرة نفسه وزوجته وأقاربه، فأوجه. أصحها: يلزمه تقديم فطرة نفسه، والثاني: يلزمه تقديم الزوجة، والثالث: يتخير، إن شاء أخرجه عن نفسه، وإن شاء عن غيره. فعلى هذا، لو أراد توزيعه عليهم، لم يجز على الاصح. والوجهان على قولنا: من وجد بعض صاع فقط، لزمه إخراجه، فإن لم يلزمه، لم يجز التوزيع بلا خلاف. ولو فضل صاع وله عبد، صرفه عن نفسه، وهل يلزمه أن يبيع في فطرة العبد جزءا منه ؟ فيه أوجه. أصحها: إن كان يحتاج إلى خدمته، لم يلزمه، وإلا لزم والثاني: يلزمه مطلقا. والثالث: لا يلزمه مطلقا. ولو فضل صاعان وفي نفقته جماعة، فالاصح: أنه يقدم نفسه بصاع، وقيل: يتخير. وأما الصاع الآخر، فإن كان من في نفقته أقارب، قدم منهم من يقدم نفقته،(2/161)
ومراتبهم وفاقا وخلافا، وموضعها كتاب النفقات، فإن استووا فيتخير، أو يسقط وجهان. ولم يتعرضوا للاقراع، وله مجال في نظائره. قلت: الاصح: التخيير. والله أعلم. ولو اجتمع مع الاقارب زوجة، فأوجه. أصحها: تقدم الزوجة. والثاني، القريب. والثالث: يتخير، فعلى الاصح، لو فضل صاع ثالث، فاخراجه عن أقاربه على ما سبق فيما إذا تمحضوا. والمذهب من الخلاف الذي ذكرناه، والذي أخرناه، إلى كتاب النفقات: أنه يقدم نفسه، ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الاب، ثم الام، ثم الولد الكبير. فصل الواجب في الفطرة صاع من أي جنس أخرجه، وهو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وهي ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهما وثلث درهم. قلت: هذا الذي قاله على مذهب من يقول: رطل بغداد مائة وثلاثون درهما، ومنهم من يقول: مائة وثمانية وعشرون درهما، ومنهم من يقول: مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وهو الارجح، وبه الفتوى. فعلى هذا الصاع: ستمائة درهم وخمسة وثمانون وخمسة أسباع درهم، والله أعلم. قال ابن الصباغ وغيره: الاصل فيه الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا. قلت: قد يستشكل ضبط الصاع بالارطال، فإن الصاع المخرج به في زمن(2/162)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، مكيال معروف، ويختلف قدره وزنا باختلاف جنس ما يخرج، كالذرة والحمص وغيرهما، وفيه كلام طويل، فمن أراد تحقيقه راجعه في شرح المهذب ومختصره: أن الصواب ما قاله الامام أبو الفرج الدارمي من أصحابنا، أن الاعتماد في ذلك على الكيل، دون الوزن، وأن الواجب أن يخرج بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك الصاع موجود، ومن لم يجده، وجب عليه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه. وعلى هذا، فالتقدير بخمسة أرطال وثلث تقريبا. وقال جماعة من العلماء: الصاع: أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين. والله أعلم. فرع كل ما يجب فيه العشر، فهو صالح لاخراج الفطرة. وحكي قول قديم: أنه لا يجزئ فيها الحمص، والعدس. والمذهب المشهور: هو الاول. وفى الاقط، طريقان. أحدهما: القطع بجوازه، والثاني: على قولين. أظهرهما: جوازه. قلت: ينبغي أن يقطع بجوازه لصحة الحديث فيه من غير معارض.(2/163)
والله أعلم. فإن جوزناه، فالاصح: أن اللبن والجبن في معناه، والثاني: لا يجزئان. والوجهان في إخراج من قوته الاقط، واللبن، والجبن. واتفقوا على أن إخراج المخيض والمصل والسمن، لا يجزئ، وكذلك الجبن المنزوع الزبد. فرع لا يجزئ المسوس والمعيب. وإذا جوزنا الاقط، لم يجز إخراج المملح الذي أفسد كثرة الملح جوهره. فإن كان الملح ظاهرا عليه، فالملح غير محسوب، والشرط أن يخرج قدرا يكون محض الاقط منه صاعا. ويجزئ الحب القديم وإن قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولونه. ولا يجزئ الدقيق ولا السويق، ولا الخبز، كما لا تجزئ القيمة. وقال الانماطي: يجزئ الدقيق. قال ابن عبدان: مقتضى قوله، إجزاء السويق والخبز، قال: وهذا هو الصحيح، لان المقصود إشباع المساكين في هذا اليوم. والمعروف في المذهب: ما قدمناه. وأما الاقوات النادرة التي لا زكاة فيها، كالفث والحنظل، فلا تجزئ قطعا، نص عليه، وكذا لو اقتاتوا ثمرة لا عشر فيها. فرع في الواجب من الاجناس المجزئة، ثلاثة أوجه. أصحها عند(2/164)
الجمهور: غالب قوت البلد، والثاني: قوت نفسه، وصححه ابن عبدان، والثالث: يتخير في الاجناس، وهو الاصح عند القاضي أبي الطيب. ثم إذا أوجبنا قوت نفسه أو البلد، فعدل إلى ما دونه، لم يجز، وإن عدل إلى أعلى منه، جاز بالاتفاق. وفيما يعتد به الاعلى والادنى، وجهان. أصحهما: الاعتبار بزيادة صلاحية الاقتيات، والثاني: بالقيمة. فعلى هذا يختلف باختلاف الاوقات والبلاد، إلا أن تعتبر زيادة القيمة في الاكثر. وعلى الاول، البرر خير من التمر والارز، ورجح في التهذيب الشعير على التمر، وعكسه الشيخ أبو محمد وله في الزبيب والشعير، وفي التمر والزبيب، تردد. قال الامام: والاشبه تقديم التمر على الزبيب. وإذا قلنا: المعتبر قوت نفسه، وكان يليق به البر وهو يقتات الشعير بخلا، لزمه البر، ولو كان يليق به الشعير، فكان يتنعم ويقتات البر، فالاصح: أنه يجزئه الشعير، والثاني: يتعين البر. فرع قد يخرج الواحد الفطرة عن شخصين من جنسين، ويجزئه أن يخرج عن أحد عبديه، أو قريبيه من قوت البلد إن اعتبرناه، أو قوته إن اعتبرناه، وعن الآخر جنس أعلى منه. وكذا لو ملك نصفين من عبدين، فأخرج نصف صاع من المعتبر عن نصف أحدهما، ونصفا عن الآخر من أعلى منه.(2/165)
وإذا خيرنا بين الاجناس، فله إخراجهما من جنسين بكل حال، ولا يجوز عن شخص واحد فطرة من جنسين وإن كان أحدهما أعلى من الواجب. هذا هو المعروف، ورأيت لبعض المتأخرين تجويزه. ولو ملك رجلان عبدا، فإن خيرنا بين الاجناس، أخرجا ما شاءا بشرط اتحاد الجنس، وإن أوجبنا غالب قوت البلد، وكانا هما والعبد في بلد، أخرجا عنه من قوت البلد، فإن كان العبد في بلد آخر، بني على أن الفطرة تجب على المالك ابتداء، أم يتحمل ؟ فإن كان السيدان في بلدين مختلفي القوت، واعتبرنا قوت الشخص بنفسه، واختلف قوتهما، فأوجه. أصحها: يخرج كل واحد نصف صاع من قوت بلده أو نفسه، لانهما إذا أخرجا هكذا، فقد أخرج كل شخص (كل) واجبه من جنس، كثلاثة محرمين قتلوا ظبية، فذبح أحدهم ثلث شاة، وأطعم آخر بقيمة ثلث شاة، وصام الثالث عدل ذلك، أجزأهم، والثاني: يخرجان من أدنى القوتين، والثالث: من أعلاهما، والرابع: من قوت بلد العبد. ولو كان الاب في نفقة ولدين، فالقول في إخراجهما الفطرة عنه كالسيدين، وكذا من نصفه حر، ونصفه مملوك، إذا أوجبنا نصف الفطرة كما سبق، فالاصح: يخرجان من جنسين، والثاني: من جنس. فرع إذا أوجبنا غالب قوت البلد وكانوا يقتاتون أجناسا لا غالب فيها، أخرج ما شاء، والافضل أن يخرج من الاعلى. واعلم أن الغزالي قال في الوسيط: المعتبر غالب قوت البلد وقت وجوب الفطرة، لا في جميع السنة. وقال في الوجيز: غالب قوت البلد يوم الفطر، وهذا التقييد لم أظفر به في كلام غيره. فصل في مسائل مهمة منها: باع عبدا بشرط الخيار، فوقع وقت الوجوب في زمن الخيار،(2/166)
إن قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع، فعليه فطرته وإن أمضي البيع، وإن قلنا: للمشتري، فعليه فطرته وإن فسخ، وإن توقفنا، فإن تم البيع، فعلى المشتري، وإلا، فعلى البائع، وإن صادف وقت الوجوب خيار المجلس، فهو كخيار الشرط. ومنها: لو مات عن رقيق، ثم أهل شوال، فإن لم يكن عليه دين، أخرج ورثته الفطرة عن الرقيق كل بقدر حصته. فإن كان عليه دين يستغرق التركة، بني ذلك على أن الدين هل يمنع انتقال الملك في التركة إلى الوارث ؟ والصحيح المنصوص: أنه لا يمنع. وقال الاصطخري: يمنع. فإن قلنا بالصحيح، فعليهم فطرته، سواء بيع في الدين، أو لم يبع. وفي كلام الامام: أنه يجئ فيه خلاف المرهون والمغصوب. وإذا قلنا بقول الاصطخري، فإن بيع في الدين، فلا شئ عليهم، وإلا، فعليهم الفطرة. وفي الشامل وجه: أنه لا تجب عليهم مطلقا. وعن القاضي أبي الطيب: أن فطرته تجب في تركة السيد على أحد القولين، كالموصى بخدمته. هذا إذا مات السيد قبل هلال شوال، فلو مات بعده، ففطرة العبد على السيد كفطرة نفسه، وتقدم على الميراث والوصايا. وفي تقديمها على الدين طرق. أصحها: أنه على الاقوال الثلاثة التي قدمناها في زكاة المال، والثاني: القطع بتقديم فطرة العبد لتعلقها به، كأرش جنايته. وفي فطرة نفسه، الاقوال. والثالث: القطع بتقديم فطرة نفسه أيضا لقلتها في الغالب، وسواء أثبتنا الخلاف، أم لا، فالمنصوص في المختصر: تقديم الفطرة على الدين، لانه قال: ولو مات بعد ما أهل ذوال وله رقيق، فالفطرة عنه وعنهم في ماله مقدمة على(2/167)
الديون. ولك أن تحتج بهذا النص على خلاف ما قدمناه، وعن إمام الحرمين، لان سياقه يفهم منه أن المراد ما إذا طرأت الفطرة على الدين الواجب، وإذا كان كذلك، لم يكن الدين مانعا. وبتقدير أن لا يكون كذلك، فاللفظ مطلق يشمل ما إذا طرأت الفطرة على الدين، والعكس، فاقتضى ذلك أن لا يكون الدين مانعا. ومنها: أوصى لانسان بعبد، ومات الموصي بعد وقت الوجوب، فالفطرة في تركته. فإن مات قبله وقبل الموصى له الوصية قبل الهلاك، فالفطرة عليه، وإن لم يقبل حتى دخل وقت الوجوب، فعلى من تجب الفطرة ؟ يبنى على أن الموصى له متى يملك الوصية ؟ إن قلنا: يملكها بموت الموصي، فقبل، فعليه الفطرة، وإن رد، فوجهان. أصحهما: الوجوب، لانه كان مالكا، والثاني: لا، لعدم استقرار الملك. وإن قلنا: يملكها بالقبول، بني على أن الملك قبل القبول لمن ؟ فيه وجهان. أصحهما: للورثة. فعلى هذا في الفطرة وجهان. أصحهما: عليهم، والثاني: لا، والثاني من الاولين، أنه باق على ملك الميت. فعلى هذا، لا تجب فطرته على أحد على المذهب، وحكى في التهذيب وجها: أنها تجب في تركته. وإن قلنا بالتوقف، فإن قبل، فعليه الفطرة، وإلا، فعلى الورثة. هذا كله إذا قبل الموصى له، فلو مات قبل القبول، وبعد وقت الوجوب، فقبول وارثه قائم مقام قبوله، والملك يقع له. فحيث أوجبنا عليه الفطرة إذا قبلها بنفسه، فهي من تركته إذا قبل وارثه. فإن لم يكن له تركة سوى العبد، ففي بيع جزء منه للفطرة ما سبق. ولو مات قبل وقت الوجوب أو معه، فالفطرة على الورثة إذا قبلوا، لان وقت الوجوب كان في ملكهم. قلت: قال الجرجاني في المعاياة: ليس عبد مسلم لا يجب إخراج الفطرة، إلا ثلاثة. أحدهم: المكاتب، والثاني: إذا ملك عبده عبدا، وقلنا: يملك، لا فطرة على المولى الاصلي، لزوال ملكه، ولا على العبد المملك، لضعف(2/168)
ملكه والثالث: عبد مسلم لكافر إذا قلنا: تجب على المؤدي ابتداء. ويجئ رابع على (قول) الاصطخري وغيره، فيما إذا مات قبيل هلال شوال وعليه دين، وله عبد، كما سبق. ولو أخرج الاب من ماله فطرة ولدك الصغير الغني، جاز كالاجنبي إذا أذن، بخلاف الابن الكبير، ولو كان نصفه مكاتبا حيث يتصور ذلك في العبد المشترك، إذا جوزنا كتابة بعضه بإذن الشريك، وجب نصف صاع على مالك لنصفه القن، ولا شئ في النصف المكاتب، ومثله عبد مشترك بين معسر وموسر، يجب على الموسر نصف صاع، ولا يجب غيره.
باب قسم الصدقات
اعلم أن الامام الرافعي رحمه الله آخر هذا الباب إلى آخر ربع المعاملات فعطفه على قسم الفيئ والغنيمة، وهناك ذكره المزني رحمه الله والاكثرون. وذكره(2/169)
ها هنا الامام الشافعي رضي الله عنه في الام وتابعه عليه جماعات، فرأيت هذا أنسب وأحسن فقدمته. والله أعلم. أصناف الزكاة ثمانية. الاول: الفقير، وهو الذي لا مال له ولا كسب، يقع موقعا من حاجته، فالذي لا يقع موقعا، كمن يحتاج عشرة ولا يملك إلا درهمين أو ثلاثة، فلا يسلبه ذلك اسم الفقير. وكذا الدار التي يسكنها، والثوب الذي يلبسه متجملا به، ذكره صاحب التهذيب وغيره. ولم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إلى خدمته، وهو في سائر الامور ملحق بالمسكن. قلت: قد صرح ابن كج في كتابه التجريد: بأنه كالمسكن وهو متعين. والله أعلم. ولو كان عليه دين، فيمكن أن يقال: القدر الذي يؤدى به الدين لا عبرة به في منع الاستحقاق، كما لا عبرة له في وجوب نفقة القريب، وكذا في الفطرة كما سبق. وفي فتاوى صاحب التهذيب: أنه لا يعطى سهم الفقراء حتى يصرف ما عنده إلى الدين. قال: ويجوز أخذ الزكاة - لمن ماله على مسافة القصر - إلى أن(2/170)
يصل إلى ماله. ولو كان له دين مؤجل، فله أخذ كفايته إلى حلول الاجل. وقد يتردد الناظر في اشتراط مسافة القصر. فرع المعتبر في عجزه عن الكسب، عجزه عن كسب يقع موقعا من حاجته، لا عن أصل الكسب. والمعتبر كسب يليق بحاله ومروءته. ولو قدر على الكسب، إلا أنه مشتغل ببعض العلوم الشرعية، ولو أقبل على الكسب، لانقطع عن التحصيل، حلت له الزكاة. أما المعطل المعتكف في المدرسة، ومن لا يتأتى منه التحصيل، فلا تحل لهما الزكاة مع القدرة على الكسب. قلت: هذا الذي ذكره في المشتغل بالعلم، هو المعروف في كتب أصحابنا. وذكر الدارمي فيه ثلاثة أوجه. أحدها: يستحق، والثاني: لا، والثالث: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع الناس به، استحق، وإلا، فلا. والله أعلم. ومن أقبل على نوافل العبادات، والكسب يمنعه منها، أو استغراق الوقت بها، لا تحل له الصدقة، وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله، حلت الزكاة له. فرع لا يشترط في الفقر الزمانة والتعفف عن السؤال على المذهب، وبه قطع المعتبرون. وقيل: قولان. الجديد: كذلك، والقديم: يشترط. فرع المكفي بنفقة أبيه أو غيره، ممن تلزمه نفقته، والفقيرة التي ينفق عليها زوج غني، هل يعطيان من سهم الفقراء ؟ يبنى على مسألة، وهي لو وقف على فقراء أقاربه، أو أوصى لهم، وكانا في أقاربه، هل يستحقان سهما من الوقف والوصية ؟ فيه أربعة أوجه. أصحها: لا، قاله أبو زيد والخضري، وصححه الشيخ أبو علي وغيره، والثاني: نعم، قاله ابن الحداد، والثالث: يستحق القريب دون الزوجة، لانها تستحق عوضها، وتستقر في ذمة الزوج، قاله الاودني، والرابع:(2/171)
عكسه، والفرق أن القريب تلزم كفايته من كل وجه، حتى الدواء وأجرة الطبيب، فاندفعت حاجاته، والزوجة ليس لها إلا مقدر، وربما لا يكفيها. وأما مسألة الزكاة، فإن قلنا: لا حق لهما في الوقف والوصية، فالزكاة أولى، وإلا فيعطيان على الاصح. وقيل: لا يعطيان، وبه قال ابن الحداد. والفرق أن الاستحقاق في الوقف، باسم الفقر، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره. وفي الزكاة الحاجة، ولا حاجة مع توجه النفقة، فأشبه من يكسب كل يوم كفايته، حيث لا يجوز له الاخذ من الزكاة، وإن كان معدودا في الفقراء. والخلاف في مسألة القريب إذا أعطاه غير من تلزمه نفقته من سهم الفقراء أو المساكين، ويجوز أن يعطيه من غيرهما بلا خلاف. وأما المنفق عليه، فلا يجوز أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين، لغناه بنفقته، ولانه يدفع عن نفسه النفقة، وله أن يعطيه من سهم العامل، والغارم، والغازي، والمكاتب، إذا كان بتلك الصفة، وكذا من سهم المؤلفة، إلا أن يكون فقيرا، فلا يعطيه، لانه يسقط النفقة عن نفسه. ويجوز أن يعطيه من سهم ابن السبيل مؤنة السفر دون ما يحتاج إليه سفرا وحضرا، فإن هذا القدر هو المستحق عليه. وأما في مسألة الزوجة، فالوجهان يجريان في الزوج كغيره، لانه بالصرف إليها لا يدفع عن نفسه النفقة، بل نفقتها عوض لازم، غنية كانت أم فقيرة، فصار كمن استأجر فقيرا، فله دفع الزكاة إليه مع الاجرة. فإن منعنا، فلو كانت ناشزة، ففي التهذيب. أنه يجوز إعطاؤها، لانه لا نفقة لها. والصحيح الذي قطع به الشيخ أبو حامد والاكثرون: المنع، لانها قادرة على النفقة بترك النشوز، فأشبهت القادر على الكسب. وللزوج أن يعطيها من سهم المكاتب والغارم قطعا، ومن سهم المؤلفة على الاصح، وبه قطع في التتمة. وقال الشيخ أبو حامد: لا تكون المرأة من المؤلفة، وهو ضعيف، ولا تكون المرأة عاملة ولا غازية. وأما سهم(2/172)
ابن السبيل، فإن سافرت مع الزوج، لم تعط منه، سواء سافرت بإذنه أو بغير إذنه، لان نفقتها عليه في الحالين، لانها في قبضته، ولا تعطى مؤنة السفر إن سافرت معه بغير إذنه، لانها عاصية. قلت: قال أصحابنا: مؤنة سفرها معه إن كان بإذنه، فهي عليه، فلا تعطى، وإن كان بغير إذنه، فلا تعطى الحمولة على الاصح، لانها عاصية. وقال الشيخ أبو حامد: تعطى. والله أعلم. وإن سافرت وحدها، فإن كان بإذنه، وأوجبنا نفقتها، أعطيت مؤنة السفر فقط من سهم ابن السبيل، وإن لم نوجبها، أعطيت جميع كفايتها، وإن خرجت بغير إذنه، لم تعط منه، لانها عاصية. ويجوز أن تعطى هذه من سهم الفقراء والمساكين، بخلاف الناشزة، لانها تقدر على العود إلى طاعته، والمسافرة لا تقدر. فإن تركت سفرها وعزمت على العود إليه، أعطيت من سهم ابن السبيل. الصنف الثاني: المسكين، وهو الذي يملك ما يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه، بأن احتاج إلى عشرة وعنده سبعة أو ثمانية. وفي معناه، من يقدر على كسب ما يقع موقعا، ولا يكفي، وسواء كان ما يملكه من المال نصابا أو أقل، أو أكثر، ولا يعتبر في المسكين السؤال، قطع به أكثر الاصحاب، ومنهم من نقل عن القديم اعتباره. وإذا عرفت الفقير والمسكين، عرفت أن الفقير أشد حالا من المسكين. هذا هو الصحيح، وعكسه أبو إسحق المروزي.(2/173)
فرع المعتبر من قولنا، يقع موقعا من كفايته وحاجته، المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، وسائر ما لا بد منه على ما يليق بالحال، من غير إسراف ولا تقتير للشخص، ولمن هو في نفقته. فرع سئل الغزالي رحمه الله عن القوي من دهل البيوتات، الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن، هل له أخذ الزكاة ؟ قال: نعم، وهذا جار على ما سبق، أن المعتبر حرفة تليق به. قلت: بقيت مسائل تتعلق بالفقير والمسكين. إحداها: قال الغزالي في الاحياء: لو كان له كتب فقه، لم تخرجه عن المسكنة، ولا تلزمه زكاة الفطر. وحكم كتبه حكم أثاث البيت، لانه محتاج إليها، لكن ينبغي أن يحتاط في مهم الحاجة إلى الكتاب. فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة أغراض، من التعليم، والتفرج بالمطالعة، والاستفادة. فالتفرج لا يعد حاجة، كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة، ولا في الدنيا، فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر، ويمنع اسم المسكنة. وأما حاجة التعليم، فإن كان للتكسب، كالمؤدب، والمدرس بأجرة، فهذه آلته، فلا تباع في الفطرة كآلة الخياط، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية، لم يبع، ولا تسلبه اسم المسكنة، لانها حاجة مهمة. وأما حاجة الاستفادة والتعليم من الكتاب، كادخاره كتاب طب ليعالج به نفسه، أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به، فإن كان في البلد طبيب وواعظ، فهو مستغن عن الكتاب. وإن لم يكن، فهو محتاج. ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته إلا بعد مدة، فينبغي أن تضبط فيقال: ما لا يحتاج إليه في السنة، فهو مستغن عنه. فتقدر حاجة أثاث البيت وثياب البدن بالسنة، فلا تباع ثياب الشتاء في الصيف، ولا ثياب الصيف في الشتاء، والكتب بالثياب أشبه. وقد يكون له من كتاب نسختان، فلا(2/174)
حاجة له إلى إحداهما فإن قال: إحداهما أصح، والاخرى أحسن، قلنا: اكتف بالاصح، وبع الاحسن، وإن كان نسختان من علم واحد، إحداهما مبسوطة، والاخرى وجيزة، فإن كان مقصوده الاستفادة، فليكتف بالبسيط، وإن كان التدريس احتاج إليهما. هذا آخر كلام الغزالي، وهو حسن، إلا قوله في كتاب الوعظ أنه يكتفي بالواعظ، فليس بمختار، لانه ليس كل واحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه في خلوته وعلى حسب إرادته. ولو كان له عقار ينقص دخله عن كفايته، فهو فقير أو مسكين، فيعطى من الزكاة تمامها، ولا يكلف بيعه. ذكره الجرجاني في التحرير والشيخ نصر وآخرون. والله أعلم. الصنف الثالث: العامل، يجب على الامام بعث السعاة لاخذ الصدقات، ويدخل في اسم العامل، الساعي، فالكاتب، والقسام، والحاشر، وهو الذي يجمع أرباب الاموال، والعريف، وهو كالنقيب للقبيلة، والحاسب وحافظ المال، قال المسعودي: وكذا الجندي، فهؤلاء لهم سهم من الزكاة، ولا حق فيها للامام، ولا لوالي الاقليم والقاضي، بل رزقهم إذا لم يتطوعوا، في خمس الخمس المرصد للمصالح العامة، وإذا لم تقع الكفاية بعامل واحد من ساع وكاتب وغيرهما، زيد قدر الحاجة. وفي أجرة الكيال، والوزان، وعاد الغنم وجهان. أحدهما: من سهم العاملين، وأصحهما: أنها على المالك، لانها لتوفية ما عليه، فهي كأجرة الكيال في البيع، فإنها على البائع.(2/175)
قلت: هذا الخلاف في الكيال ونحوه، ممن يميز نصيب الفقراء من نصيب المالك. فأما الذي يميز بين الاصناف، فأجرته من سهم العاملين بلا خلاف. وأما أجرة الراعي والحافظ بعد قبضها، فهل هي من سهم العاملين، أو في جملة الصدقات ؟ وجهان حكاهما في المستظهري. أصحهما: الثاني، وبه قطع صاحب العدة. وأجرة الناقل والمخزن، في الجملة. وأما مؤنة إحضار الماشية ليعدها الساعي، فعلى المالك. والله أعلم. الصنف الرابع: المؤلفة، وهم ضربان، كفار ومسلمون، فالكفار قسمان، قسم يميلون إلى الاسلام ويرغبون فيه بإعطاء مال، وقسم يخاف شرهم، فيتألفون لدفع شرهم، فلا يعطى القسمان من الزكاة قطعا، ولا من غيرها على الاظهر. وفي قول: يعطون من خمس الخمس. وأشار بعضهم إلى أنهم لا يعطون إلا إن نزل بالمسلمين نازلة. وأما مؤلفة المسلمين فأصناف، صنف دخلوا في الاسلام ونيتهم ضعيفة، فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظرائهم، وفي هذين الصنفين ثلاثة أقوال. أحدها: لا يعطون، والثاني: يعطون من سهم المصالح، والثالث: من الزكاة. وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار، أو من مانعي الزكاة، ويقبضوا زكاتهم، فهؤلاء لا يعطون قطعا، ومن أين يعطون ؟ فيه أقوال. أحدها: من خمس الخمس، والثاني: من سهم المؤلفة، والثالث: من سهم الغزاة. والرابع: قال الشافعي رضي الله عنه: يعطون من سهم المؤلفة، وسهم الغزاة، فقال طائفة من الاصحاب على هذا الرابع: يجمع بين السهمين للشخص الواحد، وقال بعضهم: المراد إن كان التألف لقتال الكفار، فمن سهم الغزاة، وإن كان لقتال مانعي الزكاة، فمن سهم المؤلفة، وقال آخرون: معناه، يتخير الامام إن شاء من ذا السهم، وإن شاء من ذلك، وربما قيل: إن شاء(2/176)