يُقْطَعُ مُؤَجِّر الحرز وكذا يقطع معيره في الأصح لأنه سرق نصاباً لا شبهة فيه من حِرز مثله فوجب عليه القطع كما لو سرقه من بيت صاحب المال وقيل المُعِيرُ لا يقطع إذا نقب المُعار وسرق منه نصاباً لأن له الرجوع في عاريته متى شاء فإن نقب البيت فقد رجع في عاريته ولو غصب حرزاً لم يقطع مالكُهُ بسرقة ما أحرزه الغاصب فقد روى أبوداود وغيره عن سعيد بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لِعِرْقِ ظالم حق)) وكذا أجنبي لا يقطع بسرقته منه في الأصح لأن الحرز منفعة والغاصب لا يستحق هذه المنفعة والثاني يقطع لأنه لا حق له في المسروق بخلاف المالك فإنه إنما هتك الحرز لأخذ ماله ولو غصب مالاً وأحرزه بحرزٍ فسرق المالك منه مال الغاصب أو سرق أجنبي منه المال المغصوب أو المسروق فلا قطع على واحد منهما في الأصح أما المالك فإن له هتك الحرز وأخذ ماله منه وأما الأجنبي فإنه قد هتك حرزاً لم يوضع برضا المالك ومثل غصب المال في جميع ما ذُكِرَ سرقته.(3/480)
ولا يقطع مختلس وهو الذي يأخذ المال مع معاينة المالك ويهرب ومنتهب لا يقطع أيضاً وهو مَنْ يأخذ المال مع معاينة المالك ويعتمد في ذلك على القوة والغلبة وجاحدُ وديعة لا يقطع أيضاً وكذلك جاحد العارية لا يقطع والفرق بين هؤلاء وبين السارق أن السارق يأخذ المال خفية ولا يتأتى منعه فشرع القطع شرعاً أما هؤلاء فيدفعان بالسلطان العادل القائم بالحق إن وجد فقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المختلس ولا على المنتهب ولا على الخائن قطع)) قال الترمذي هو حديث حسن صحيح. ولو نقب وعاد في ليلة أخرى قبل إعادة الحرز ولم يكن سرق في الليلة الأولى فسرق في الليلة الثانية قطع في الأصح كما لو نقب في أول الليل وسرق في آخره قلتُ: هذا إذا لم يعلم المالك النقب ولم يظهر أي لم يعرف ويشتهر للطارقين لخفائه عليهم وإلا بأن عُلِمَ أو اشتهر لهم فلا يقطع قعطاً والله أعلم لأنه لم يسرق من حرز ولو نقب واحدٌ وأخرج غيره فلا قطع على واحد منهما لأن الأول لم يسرق والثاني أخذ من غير حرز ويجب والحالة هذه على الأول ضمان الجدار وعلى الثاني ضمان المأخوذ. ولو تعاونا بالنقب وانفرد أحدهما بالإخراج لنصاب فأكثر أو وضعه ناقب أي أحدهما بقرب النقب فأخرجه وكان نصاباً فأكثر قطع المخرج في الصورتين لأنه السارق ولو وضعه بوسط نَقْبِهِ أراد بوسط النقب موضع النقب فأخذه خارج أي أخذه آخر وكان خارج الحرز لم يقطعا في الأظهر لأنهما لم يخرجاه من تمام الحرز والثاني يقطعان لاشتراكهما في النقب والإخراج. ولو رماه إلى خارج حرزٍ أو وضعه بماءٍ جارٍ فخرج به الماء الجاري من الحرز أو وضعه على ظهر دابة سائرة فخرجت به من الحرز أو عرضه لريح هابّة فأخرجته من الحرز قُطِع في هذه الصور كلها لأنه أخرجه من الحرز بفعله أو وضعه على ظهر دابة واقفة فمشت بوضعه حتى خرجت من الحرز فلا يقطع في الأصح لأن لها اختياراً في السير ولا(3/481)
يُضْمَنُ حرٌّ بيدٍ ولا يُقْطَعُ سارقه لأنه ليس بمال وأما خبر الدارقطني عن عائشة (أنه صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيتبعهم في أرض أخرى فأمر به فقطعت يده) فالخبر ضعيق وعلى تقدير صحته فهو محمول على أنه كان يسرق الأرقاء. وحكمهم أنه من سرق من حرز رقيقاً غير مميز لصغر أو حنون أو عجمة قطع فيه كسائر الأموال.
ولو سرق حراً صغيراً لا يميز أو مجنوناً أو أعجمياً بقلادة أي عليه قلادة أو حل ييليق به ويبلغ نصاباً أو معه مالٌ يبلغ نصاباً فكذا لا يقطع لأن الصبي حرز فيده ثابتة على ما معه من الحلي. ولو نام عبدٌ على بعير فجاء سارق فقاده وأخرجه عن القافلة قُطِع لأنه كان محرزاً بالقافلة فأخرجه من حرزه إلى مضيعة. أو نام حرٌّ على بعير فقاده وأخرجه فلا قطع في الأصح لأن البعير من حرزه وهو القافلة أما إذا رماه بعد الخروج من القافلة فلا قطع لأنه أخذ البعير من غير حرز. ولو نقل من بيت مغلق إلى صحن دار فيها ذلك البيت بابها مفتوح بفعل غيره قُطِعَ لأنه أخرجه من حرزه إلى محل الضياع وإلا بأن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاًً أو كانا مفتوحين ولا حافظ فلا قطع لأنه في الأولى لم يخرج من حرز وفي الثانية المال غير محرز وقيل إن كانا مغلقين قُطِعَ أي باب البيت وباب الدار مغلقين قطع لأنه أخرجه من حرزه والأصح أنه إذا كان الصحن محرزاً لم يقطع وإن لم يكن حرزاً قُطِعَ. وبيت في خان ورباط ومدرسة وكل ما تعدد ساكنو بيوته وصحنه في الحكم كبيت وصحن دار لواحد في الأصح فيقطع إن أخرج من البيوت إلى صحن الخان لأن الصحن ليس حرزاً.
? فصل في شروط السارق الذي يقطع ?(3/482)
وشروط السارق: تكليف واختيار وعدم الشبهة والتزام الأحكام وعلم تحريم السرقة لا يقطع صبي ولا مجنون ومُكْرَه لرفع القلم عنهم فقد روى أبوداود وغيره عم عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) وقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) المائدة38.
وأخرج عبدالرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه غن ابن أبي مُليكة وسليمان بن يسار (أن عمر بن الخطاب أُتي بغلام قد سرق فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة فلم يقطعه فسماة نُميلة). وفعل مثل ذلك عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في الصحابة فكان ذلك إجماعاً.
ويقطع مسم وذمي بمال مسلم وذمي لأن الذمي معصوم بذمته وقيل لا يقطع المسلم بمال الذمي قياساً على أنه لا يقتل به وأما قطع الذمي فلأنه التزم الأحكام بعقد الذمة سواء أرضي بحكمنا أو لا.(3/483)
وفي مُعَاهَدٍ أي إذا سرق أقوال أحسنهاإن شُرِطَ عليع عند المعاهدة أو الأمان قطعه بسرقة لمال المسلم قُطِعَ وإلا فلا قطع إن لم يشرط عليه. قلت: الأظهر عند الجمهور لا قطع مطلقاً والله أعلم لأنه غير ملتزم للأحكام فأشبه الحربي ولكن يطالب قطعاً بردِّ ما سرقه ولا يقطع مسلم أو ذمي بسرقتهما ماله وتثبت السرقة بيمين المدّعي المردودة فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع فأنكر وحلف فلا شيء عليه وإن نكل ردت اليمين على المدّعي فإن حلف وجب المال والقطع لأن اليمين الردودة كالإقرار والبينة وهذا قول مرجوح لأن القطع حق لله تعالى فلا يثبت باليمين المردودة في الأصح والمعتمد الذي في الأم والمختصر وقول جمهور الأصحاب أنه لا يثبت القطع إلا بشاهدين أو إقرار السارق. أما المال فيثبت باليمين المردودة قطعاً. أو بإقرار السارق مؤاخذة له بقوله بعد الدعوى عليه أما إقراره قبل الدعوى عليه فلا يقطع به حتى يدعى المالك لأن القطع حدٌّ والحدُّ يسقط الشبهة. والمذهب قبول رجوعه عن الإقرار بالسرقة كالزنا لكن بالنسبة للقطع فقط دون المال ومن أقر بعقوبة لله تعالى أي أقرّ بما يوجب عقوبة كالسرقة والزنا فالصحيح أن للقاضي أي يستحب للقاضي أن يعرِّض له بالرجوع عن إقراره فيقول له لعلك قلت ذلك وأنت غاضب أو لعلك أخذت من غير حرز أو لعلك أخذت منه هدية أو لعلك أخذتها بسيف الحياء فقد روى الدارقطني وأبوداود من طرق عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت، قال: بلى سرقت، فأمر به فقطع) وروى البخاري عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز لمّا أقرّ بالزنا: لعلك قبلت لعلك لمست) ولا يقول ارجع عنه أو احجده لأن ذلك أمر بالكذب وله أن يعرّضَ للشهود بالتوقف في حدٍّ لله تعالى إن رأى المصلحة في الستر وإلا فلا يجوز له التعريض ولا لهم التوقف إن ترتب على ذلك ضياع المسروق أو حدِّ الغير.(3/484)
فقد روى الترمذي عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ولو أقرَّ بلا دعوى أنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال بل يُنْتَظَرُ حضوره أي حضور زيد في الأصح لاحتمال أن يقرَّ أنه أباحه له أو يقرَّ بأن المال المسروق للسارق فيسقط الحدُّ وإن كذبه السارق للشبهة وقيل يقطع في الحال كمن أقرَّ بالزنا والفرق أن الفروج لا تباح بالإباحة بخلاف الأموال. أو أنه أكره أمة غائب على زنا حُدَّ في الحال ولم ينتظر حضور الغائب في الأصح لأن حدَّ الزنا لا يتوقف على الطلب.(3/485)
وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة282. فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة أو أقام المدَّعي شاهداً بالسرقة وحلف المدَّعي مع الشاهد ثبت المال ولا قطع على السارق فشهادة الرجل مع المرأتين تثبت المال ولا تثبت الحدَّ. ويُشْترطُ ذكر الشاهد بالسرقة شروط السرقة فلا تقبل شهادة مطلقة فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضراً أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائباً ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته ولو اختلف شاهدان كقوله أي قول أحدهما سرق بكرة والآخر قال سرق عشية فباطلة هذه الشهادة ولا قطع وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما فيثبت له المال على المتهم وعلى السارق ردُّ ما سرق إن كان باقياً لما روى أبوداود عن سمرة(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديَهُ)). فإن تلف ضمنه ببدله جبراً لما فات بمثله في المثلي وأقصى قيمة في المتقوم وتقطع يمينه إجماعاً لأن البطش بها أقوى فكان البداءة بها أردع قال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة38. وروى البغوي من حديث الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق فقطع يمينه). لإإن سرق ثانياً بعد قطعها فرجله اليسرى تقطع إن برئت يده اليمنى وإلا أخرت للبُرْء فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سَرَقَ فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله)، ورواه الشافعي عن أبي هريرة مرفوعاً. وثالثاً يده اليسرى وخامساً رله اليمنى ولا يقطع عضو إلا بعد اندمال ما قبله لئلا تفضي الموالاة إلى الهلاك أما في الحرابة فيقطعان معاً لأنهما حدٌّ واحد. وبعد ذلك أي بعد قطع اليدين والرجلين إذا سرق يُعزّر ولا يقتل لأن القطع ثبت بالكتاب(3/486)
والسنة ولم يثبت بعد ذلك شيء آخر ويغمس مكان القطع بزيت أو دهن مُغلى فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ برجل أقرَّ أنه سرق شملة، فقال: (اقطعوه واحسموه)) والحسم لسدِّ أفواه العروق لينقطع الدم وقيل هو أي الحسم تتمة للحد فيلزم الإمام فعله لأن فيه مزيدَ إيلام والأصح أنه حق للمقطوع لأنه تداوٍ يدفع هلاك المقطوع بنزف الدم وعلى هذا فلا يجبر على فعله فمؤنته عليه أي على السارق إلا إذا نصب الإمام من يقيم الحدود ورزقه من مال المصالح. وللإمام إهماله أي الحسم إذا لم يؤدِ إهماله إلى هلاك المقطوع وتقطع اليد من الكوع أي من مفصل الكف فقد روى البيهقي عن عمر (أنه كان يقطع السارق من المفصل) وروى أبو الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبابكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل). والرجل من مفصل القدم إتباعاً لعمر كما رواه ابن المنذر ومن سرق مراراً مرتين فأكثر بلا قطع كفتْ يمينه أي قطع يمينه عن جميع المرار لاتحاد السبب كما لو زنى أو شرب مراراً كفاه حدٌّ واحد لأن الحق لله تعالى ولا حقّ فيها لآدمي وإن نقضت يده أربع أصابع أجرأت في الحدِّ قلت وكذا تجزيء ولو ذهبت الأصابع الخمس منها والله أعلم لإطلاق اسم اليد عليها حينئذ مع وجود الزجر بما حصل من الإيلام والتنكيل وتقطع يدٌ زائدة أصبعاً في الأصح لإطلاق الآية اسم اليد واسم اليد يتناول ماعليه خمس أو أكثر.
ولو سرق فسقطت يمينه بآفة كمرض أو ظلماً أو قصاصاً أو شلت وخشي من قطعها نزف الدم سقط القطع ولم تقطع رجله لتعلق الحق بعينها فسقط الحق بفواتها أو سقطت يساره بآفة فلا يسقط القطع على المذهب لبقاء محل القطع أما إذا قطع الجلاد اليسار أو أخرج السارق اليسار ظناً منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزيء عن اليمين أجزأت لوجود القطع والإيلام بعلةالسرقة.
? باب قاطع الطريق ?(3/487)
سُميَ بذلك لمنعه الناس من المرور أو لامنتاع الناس من سلوك الطريق خوفاً منه لأنه يأخذ المال أو يقتل أو يرهب الناس اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث والأصل فيه قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً) المائدة33، إن جمهور الفقهاء على أنها نزلت في قاطع الطريق لا في الكفار بدليل قوله تعالى: (إلا الذيت تابوا من قبل أت تقدروا عليهم) المائدة34.
هو أي قاطع الطريق مسلم مكلف له شوكة ولو امرأة والشوكة هي القوة والقدرة ولو واحداً يغلب جمعاً أو يساويهم وقد تعرض للنفس أو البُضعِ أو المال مجاهرة مع البعد عن الغوث لا مختلسون يتعرضون لآخر القافلة مثلاً ويعتمدون الهرب لانتفاء الشوكة والذين يغلبون شرذمة أي طائفة من الناس بقوتهم لو قاموهم فهم قطاع في حقهم لاعتمادهم الشوكة بالنسبة إلى الجماعة اليسيرة حتى ولو هربوا منهم وتركوا الأموال لعلمهم بعجز أنفسهم عن مقاومتهم لا لقافلة عظيمة إذ لا قوة لهم بالنسة إليهم فلو وجدت الشوكة بالنسبة لجمع يقاومونهم لكانوا استسلموا لهم حتى أخذوهم لم يكونوا قطاعاً فلم يصدر فعلم عن شوكتهم بل عن تفريط الآخرين وحيث يلحق غوث يمنع شوكتهم لو استغاثوا فليسوا بقطاع بل منتهبون وفقد الغوث يكون للبعد عن العمران وعساكر السلطان أو للقرب ولكن لضعف في السلطان وقد يغلبون أي ذوو الشوكة والحالة هذه أي مع ضعف السلطان أو بعده في بلد لعدم وجود من يقاومهم فيها فهم قطاع رغم أنهم لم يخرجوا من البلد ولأنهم إذا وجب عليهم الحد في الصحراء وهو موضع الخوف فلأن يجب في البلد وهو موضع الأمن أولى ولو علم الإمام قوماً يخيفون الطريق أي يخيفون المارين فيها ولم يأخذوا مالاً ولا نفساً عزرهم بحبس وغيره لارتكابهم معصية فلابد من ردعهم فقد روى البيهقي عن ابن عباس أنه قال: (وإذا حارب وأخاف السبيل فإنما عليه النفي) والحبس هو تفسير النفي بالآية والحبس في غير موضعهم أولى لأ،ه(3/488)
أحوط وأبلغ في الزجر وإذا أخذ القاطع نصاب السرقة قطع يده اليمنى ورجله اليسرى دفعة أو على الولاء لأنه حد واحد فقد أخرج الشافعي في ترتيب المسند عن ابن عابس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتِّلوا وصلِّبوا وإذا لم يأخذوا المال قُتِّلوا ولم يُصلَّبوا وإن أخذوا المال ولم يَقْتُلوا قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً ينفيهم --أي الإمام- وإذا هربوا يطلبُهُم حتى يُؤخَذُوا فتقام عليهم الحدود). ولا يقول ابن عباس هذا إلا توقيفاً وإن قاله تفسيراً فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. فإن عاد بعد قطعهما إلى الحرابة وأخذ المال فيسراه ويمناه تقطعان للآية (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة33. وإن قتل قُتِلَ حتماً فيجب قتله قَوداً لوليِّ المقتول ويتحتم قتله لحق الله تعالى. قال تعالى: (ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل) الإسراء33. وقال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا) المائدة33.(3/489)
وإن قَتَلَ وأخذ مالاً نصاباً فأكثر قُتِلَ ثم صلب حتماً زيادة في التنكيل ثلاثاً أي يُصْلَب ثلاثاً من الأيام وقيل يبقى حتى يسيل صديده والغرض من صلبه بعد قتله التنكيل به وزجر غيره والأول أصح لأن المقصود النكال والزجر يحصل بالثلاثة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن تعذيب الحيوان) رواه البخاري عن أبي هريرة وهذا من الحيوان وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) رواه البخاري عن شداد بن أوس. وفي قول يصلب حياً قليلاً ثم ينزل فيقتل لأن الصلب عقوبة فيفعل به حياً لينزجر من يراه عن فعله وبعد قتله يغسل ويكفن ويصلى عليه ومن أعانهم وكثر جمعهم ولم يأخذ مالاً ولا قتل نفساً عُزِّرَ بجبس وتغريب وغيرهما أي بواحد منهما وذلك برأي الإمام فلا يجب حدُّ قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال القتل فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زناً بعد إحصان أو قتل بغير حق) رواه الشيخان عن ابن مسعود وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء. وقيل يتعين التغريب حيث يراه الإمام مكاناً منعه العدول إلى غيره وقيل للإمام أن يأمر بحبسه وضربه مع الغريب إن رأى ذلك وقتل القاطع يغلب فيه معنى القصاص لأنه حق آدمي وفي قول يغلب فيه معنى الحدِّ فهو حق لله تعالى ولا يصح العفو فيه ويستوفيه الإمام من دون طلب الولي فعلى الأول لا يقتل والدٌ بولده الذي قتل في قطع الطريق ولا يُقْتَلُ بقتل ذمي لعدم الكفاءة بل تلزمه الدية ولو مات القاتل بلا قتل فدية للمقتول من ماله إن كان حراً وقيمته إن كان عبداً ولو قتل جمعاً معاً قُتِلَ بواحد منهم وللباقين الديات أما إذا قتلهم مرتباً فيقتل الأول ولو عفا وليه أي المقتول بمال وجب المال وسقط القصاص ويقتل بعد ذلك حداً كما لو ارتدَّ شخص فقتل فعفا ولي المقتول فقد وجب المال ويقتل بالردة. والعتمد والذي عليه الجمهور لا يصح العفو بمال ولا بغير مال ولو قتل(3/490)
بمثقِّل أو بقطع عضو فُعِلَ به مثله. فقد روى البيهقي في السنن عم البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حرّق حرّقناه ومن غرّق غرّقناه)). وقيل يقتل بالسيف وهو المشهور ولو جرح جرحاً فيه قصاص كقطع يد مثلاً فاندمل الجرح لم يتحتم قصاص في الأظهر بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو لأ، التغليظ حق لله تعالى فاختص بالنفس كالكفارة فلا تجب إلا في النفس وتسقط عقوبات تخص القاطع من تحتم القتل والصلب والقطع من خلاف بتوبته قبل القدرة عليه قال تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) المائدة34. لا بعدها على المذهب أي لا بعد قدرة الإمام عليه لأن الآية السابقة شرطت في سقوط أحكام الحرابة أن تكون التوبة قبل القدرة على القاطع لأن المحارب إذا وقع في قبضة الإمام وجب على الإمام إقامة الحدِّ عليه ولا تسقط سائر الحدود بها أي بالتوبة إن كان قبل القدرة أو بعدها فالآية (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) المائدة34، هي خاصة بالمحارب فلا تسقط الحدود الخاصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر بالتوبة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق والذي اعترف بالسرقة ورجم ماعزاً بعد أن اعترف بالزنا ولا شك أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً فلما أقام عليه الحد دلَّ على أن الاستثناء في المحارب وحده.
? فصل في اجتماع عقوبات على شخص واحد ?
من لزمه لأشخاص قصاص لنفس وقطع لطرف وحد قذف وطالبوه جلداً أولاً للقذف ثم قطع لقصاص الطرف ثم قتل لقصاص النفس لأن ذلك هو السبيل لاستيفاء جميع الحقوق.(3/491)
ويبادر بقتله بعد قطعه ا بلا تأخير بينهما لأن الغرض استيفاء الحدود والنفس مستوفاة فلا فائدة من التأخر إلى أن يَبَرأ من القطع لا قطعه بعد جلده إن غاب مُستحقٌّ قتله لأن قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاص النفس وكذا إن حضر مستحق النفس وقال عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعده فإنا لا نعجله في الأصح لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت القتل قصاصاً.
وإن أخر مستحق النفس حقَّه وطلب الأخران حقهما جُلد فإذا بَرَأ منن الجلد قطع ولا يُوَالى بينهما مخافة الهلاك فيفوت قصاص النفس ولو أخر مستحقِ طَرَفٍ حقه وطلب المقذوف حقه جُلِدَ وعلى مستحق النفس الصبر بحقه حتى يستوفيَ الطرف سواء أتقدم استحقاق النفس أم تأخر حتى لا يفوت قصاص الطرف ولو قال مستحق النفس لمستحق الطرف إما أن تستوفيَ أو تعفو أو تأذن لي في التقديم فله ذلك قال تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء33، فإن بادر فقتل فلمستحق الطرف ديةٌ في تركة المقتول لفوات محل الاستيفاء وهو الطرف بزهوق النفس. ولو أخر مستحق الجلد حقه فالقياس على ما سبق في هذه المسألة صبر الآخرين حتى يستوفي حقه لئلا يفوت حقه باستيفائهما أو استيفاء أحدهما لأن الجُرح عظيم الخطر فربما سرى وأدى إلى الزهوق ولو اجتمع حدود لله تعالى كأن زنا بكراً وسرق وشرب وارتد قُدِّم وجوباً الأخف فالأخف وأخفها حد الشرب فيقام ثم يمهل وجوباً حتى يبرأ ثم يجلد للزنا ويمهل ثم يقطع ثم يقتل من غير إمهال لأن النفس مستوفاة.
أو اجتمع عقوبات لله تعالى الآدميين بأن انضم إلى حدود الله قذف قُدِمَ حدُّ قذف على حد زنا لأنه حق لآدمي وقيل لأنه أخف والأول أصح والأصح تقديمه أي حد القذف على حدِّ شُرْبٍ لأنه حق آدمي. وأن القصاص قتلاً وقطعاً يقدم على حدِّ الزنا إن كان رجماً تقديماً لحق الآدمي ولو اجتمع مع الحدود تعزير قدم عليها كلها لأنه أخف لأنه حق آدمي.
? كتا بالأشربة ?(3/492)
والأشربة جمع شراب بمعنى مشروب وحقيقته الخمر بجميع أنواعه ولاختلاف أنواعها جمعها والخمر محرم والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع والخمر المجمع على تحريمه هو المتخذ من ماء العنب إذا اشتدَّ وقذف ربدَهُ وألحق به غيره.
قال تعالى: (ياأيها الذبن آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة90. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اله الخمرة وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه)).
وروى الدارقطني عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخمر أمُّ الخبائث)). وأجمعت الأمة على تحريم الخمر.
كلُّ شراب أسكر كثيره فقليله حَرُمَ قليله وهو ما كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو الذرة أو الشعير وغير ذلك فيحرم قليلها وكثيرها فقد روى مسلم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلُّ مسكر خمرٌ: وكلُّ خمر حرام)). وروى أبوداود والترمذي وغيرهما عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)). وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر الفَرَقُ منه فملءُ الكف منه حرام)) والفَرَقُ مكيال يتسع 12.5 لتراً تقريباً.(3/493)
وحدُّ شاربه قليلاً أو كثيراً من عنب أو غيره لما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شرب الخمر فاجلدوه)). إلا صبياً ومجنوناً وحربياً وذمياً ومُؤجَراً وهو من صُبَّ الخمر في حلقه قهراً. وكذا مكره على شربه على المذهب فلا يحدون لعدم تكليف الصبي والمجنون والمؤجر والمكره وعدم التزام الحربي والذمي حرمة الشراب. روى ابن اماجة عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). ومن جهل كونها خمراً فشربها لم يحد للعذر ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يُحدَّ لأنه قد يخفى عليه ذلك والحدود تدرأ الشبهات بالشبهات أو قال جهلت الحدَّ حُدَّ لأن الواجب على من علم التحريم أن يمتنع ويُحَدُّ بِدَرْدَي خمر وهو ما يبقى أسفل إناء الخمر ثخيناً لأنه خمرٌ لا بخبز عُجن دقيقه بها لأ، عين الخمر أكلتُهُ النار فلا يُحدُّ به ومعجون هو فيه أي عجن فيها لاستهلاكه في المعجون وقيل يحدُّ وكذا حقنة وسَعوط لا يحدُّ بهما في الأصح لأنه ليس بأكل ولا شرب وهذا بعيد لأن حكم الاستعاط والاحتقان حم الشرب في إبطال الصوم فكان كذلك في الحدِّ ومن ثرد بالخمر وأكله حُدَّ لأن الخمر غير مستهلكة وإن عجن الطيب بالخمر كان نجساً ومن غصّ بلقمة أساغها بخمر إن لم يجد غيرها قيل وجوباً لحفظ النفس ولا شيء عليه والأصح تحريمها لدواء وعطش حتى إذا لم يجد غيرها لعموم النهي ولأنها لا تزيل العطش بل تزيده لأن طبعها حارٌّ يابس وفي التداوي روى مسلم عن وائل بن جُحْر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء). وروى البيهقي من حديث أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)). وروى النسائي من حديث عثمان بن عفان مرفوعاً (الخمر أمُّ الخبائث).(3/494)
وقيل يجوز التداوي بها بالقدر الذي لا يسكر كبقية النجاسات بشرط إخبار طبيب مسلم وأما الدواء المعجون بها مما يستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات.
وحدُّ الحرِّ أربعون لما روى مسلم عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والمعال أربعين) وروى أبوداود عن عبدالرحمن بن أزهر (أنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الشارب أربعين) وروى الشافعي في ترتيب المسند عن عبدالرحمن بن أزهر قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب الخمر فقال: (اضربوه) فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال صلى الله عليه وسلم: (بَكْتِوهُ) فبكتوه) والنبكيت أن يقال للرجل أما خشيت الله أما اتقيت الله؟
(فلما كان زمن أبي بكر رضي الله عنه أُتي بشارب فسأل من حضر ذلك الضرب فقوَّمَه فضرب أبوبكر في الخمر أربعين جلدة ثم عمر ثم تتابع الناس في الخمر فاستشار عمر الصحابة رضي الله عنهم فضربه ثمانين) ذكره الشافعي في المسند ورقيق عشرون بسوط أو أيدٍ أو نعال أو أطراف ثياب وحد العبد على النصف من حد الحرِّ ولأنه حدٌّ يتبعض فكان الجلد على النصف من الحرِّ كالجلد في الزنا. فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه فمنّا من ضربه بيده ومنا من ضربه بنعله ومنا من ضربه بثوبه). والمراد بالضرب بالثوب أن يُفْتَلَ الثوب حتى يشتد ثم يضرب به وقيل يتعين للجلد سوط كحدِّ الزنا والقذف. قال ابن الصلاح والسوط متخذ من جلود سيور تلوى وتلف وسمي بذلك لأن يسوط اللحم بالدم أي يخلطه هذا عند الجلد القوي أما جلد الضعيف فلا يكون بالسوط جزماً لأنه قد يؤدي إلى هلاكه.(3/495)
ولو رأى الإمام بلوغه أي الحدِّ ثمانين جاز في الأصح لما روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرو الكلبي قال: (أرسلني خالد ين الوليد إلى عمر فأتيته ومعه عثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير فقلت: إن خالداً يَقْرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليٌ: إنه إذا شرب سكر وإذا سَكِرَ هذى وإذا هذى افترى فيُحَدُّ حدَّ المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجلد خالدٌ ثمانين وجلد عمر ثمانين).
وروى مسلم وأحمد عن علي أنه قال: (جلد رسول الله أربعين وأبوبكر أربعين وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحبُّ إليَّ). وكان عمر إذا أُتي بالرجل المنهمك بالشرب جلده ثمانين وإذا أُتي بالرجل الضعيف الذي كان منه الزلَّة جلده أربعين. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن أبي وبرة الكلبي.
والزيادات على الأربعين في الحرِّ والعشرين في العبد تعزيراتٌ لأ،ها لو كانت حداً لما جاز تركها وقيل حدٌّ لأن الصحابة بلغوا في حدِّ الحرِّ ثمانين كما أن التعزير لا يكون إلا عن جناية مخففة كما أنه لا ينحصر في ثمانين وعلى هذا فإن حدَّ الشرب مخصوص من بين الحدود بأنه يتحتم بعضه ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام.(3/496)
ويُحدُّ شارب الخمر بإقراره أو شهادة رجلين لا بشهادة رجل وأمرأتين لأ، البينة ناقصة والأصل براءة الذمة. لا بريح الخمر وسكر وقيء لاحتمال كونه غالطاً أو مكرهاً والحدود تدرأ الشبهات ويكفي في وجوب الحدِّ في إقرار وشهادة شَرِبَ فلانٌ خمراً أو شربت خمراً أو شرب مما شرب منه فلان فسكر وقيل يُشْتَرَط في كلٍّ من المقر والشاهد أن يقول شربها وهو عالم بتحريمها وأنها خمرٌ مختارٌ في شربها غير مكره لأنه إنما يعاقب باليقين ولا يُحَدُّ حال سكره بل يؤخر حتى يفيق ليرتدع وسوط الحدود في الشرب والزنا والقذف بين قضيب وهو الغصن الرقيق جداً وعصا متو سطة رطب ويابس ويفرقه على الأعضاء أي يفرق الضرب على الجسم إلا المقاتل فلا يضرب عليها والمقاتل مواضع يسرع القتل إليها بالضرب كالقلب وثغرة النحر والفرج لأن القصد زجره لا إهلاكه فقدروى البيهقي عن علي أنه قال للجلاد: (أعطِ كل عضو حقه واتقِ الوجه والمذاكير). والوجه فلا يضربه فقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)) قيل والرأس فلا يضربه أيضاً والأصح خلافه فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس). ولا تشدُّ يده أي المجلود بل تترك مطلقة يتقي بها فإذا وضعها على موضع ضرب غيره ولا تجرد ثيابه الخفيفة التي لا تمنع أثر الضرب أما يمنع أثر الضرب كالجبة المحشوة والفروة فتنزع عنه وجوباً لحصول المقصود من الضرب.
ويُوالى الضرب بحيث يحصل زجر وتنكيل فلا يجوز أن يضرب في كل يوم سوط أو سوطين وكذلك لا يجوز تفريق الضرب على الساعات لعدم الإيلام المقصود من الحدِّ.
? فصلٌ في التعزير ?(3/497)
والتعزير في الأصل الردع والمنع وفي الشرع التأديب دون الحدِّ من كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة سواء كانت من مقدمات ما فيه حدٌّ كمباشرة أجنبية بغير الوطء وسرقة ما لا قطع فيه والسبُّ والإيذاء بغير قذف أو ما لا حدَّ فيه كشهادة الزرو والضرب بغير حق والتزوير وسائر المعاصي والأصل فيه قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) [النساء:304].
وأخرج الشيخان عن أبي بريدة بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير من حدود الله).
يُعَزر في كل معصية لا حدَّ لها ولا كفارة. فقد روى أبو داوود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سرقة التمر: (إذا كان دون نصاب غُرْمُ مِثْلِه وجلداتُ فعالٍ).
وروى البيهقي عن علي أنه سُئِل عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث فقال: ( هنَّفواحش فيهن تعزير وليس فيهن حدٌّ).
بحبس أو ضرب أو صفع أو توبيخ والضرب بجمْع الكفِوالتوبيخ باللسان ويجوز بإركاب دابة مقلوباً ودورانه بين الناس والنفي وتسويد الوجه والإقامة في المجلس ويجتهد الإمام في جنسه وقدره فالتعزير غير مقدَّرٍ بل إن رأى الإمام أن يحبسه حبسه وإن رأى أن يجلده جلده ولا يبلغ به أدنى الحدِّ فقد روى أبو داوود والترمذي وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة).
وقد أخرج الترمذي عن معاوية بن حيده ( أن معن بن زائدة زدَّ على عمر كتاباً فعزَّرَهُ). وعلى الإمام مراعاة اللائق بالحال في القدر والنوع فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافياً ومؤثراً. فقد روى أحمد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود).(3/498)
وقيل إن تعلق التعزير بآدمي لم يكف فيه توبيخ لتأكد حق الآدمي وأفتى الإمام العز بن عبد السلام بإدامة حبس من يكثر الجناية على الناس ولم ينفع فيه التعزير
فإن جلد وجب أن ينقُصَ في عبد عن عشرين جلدة وحرٍّ عن أربعين لما أخرج البيهقي في السنن وأبو نعم في الخلية عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بلغ بما ليس بحدٍّحدّاً فهو من المعتدين). وأخرج وكيع بن الجراح في أخبار القضاة عن أبي موسى الأشعري أن عمر بن الخطاب كتب إليه (أنه لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً). وفي رواية (ما بين الثلاثين إلى الأربعين). وقيل عشرين أي يجب أن ينقص في تغزير الحدِّ عن عشرين جلدة للحر (من بلغ بما ليس بحدٍّ حداً فهو من المعتدين). والعشرين حدُّ العبد في الشرب زلكن عمل الصحابة على خلانه من غير إنكار.
ويستوي في هذا أي النقص المذكور جميع المعاصي في الأصح وقيل بل يعتبر كل معصية منها بما يناسبها ممكا يوجب الحدَّ فتعزير مقدمات الزنا أو وطء الحرام الذي لا يوجب الحدَّ ينقص عنن حدِّ الزنا لا عن حد القذف والشرب وتعزير السبِّ بما ليس بقذف ينقص عن حدِّ القذف لا عن حدِّ الشرب وتعزير سرقة ما دون النصاب يعتبر بأعلى حدود الجلد وهو مائة جلدة لأن القطع أبلغ من الجلد مائة.
ولو عفا مستحق حَدٍّ عنه كحد القذف فلا تعزير للأمام في الأصح لأنه حق آدمي فجاز الإبراء منه والثاني للإمام التعزير لأنه لا يخلو عن حقِّ الله تعالى.
أو لو عفا مستحق تعزير فله أي الإمام التعزير في الأصح لحق الله تعالى ولأن التعزير متعلق أصلاً بنظر الإمام والفرق أن الحد مقدر لا يتعلق بنظر الإمام فلا سبيل إلى العدول إلى غيره بعد سقوطه والتعزير راجع لنظر الإمام في الأصح فإذا عفا المستحق فللإمام أن يعزر لما يراه في ذلك من الإصلاح حتى ينكف العاصي عن نظير ذلك فيما بعد.
? كتاب الصيال وضمان الولاة ?(3/499)
الصيال عو الاستطالة والوثوب على الغير والصائل هو الظالم لغيره والأصل في الباب قول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين). [ البقرة: 194].
وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل: يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف إذا كان ظالماً قال بحجزه أو منعه عن الظلم فإن ذلك نصره).
له دفع كل صائل عن نفس أو طَرَف أو منفعه أو بُضْع أو مالٍ سواء كان الصائل مسلماً أو كافراً عاقلاً أو مجنوناً بالغاً أو صغيراً قريباً أو أجنبياً آدمياً أو غيره فقد روى أبو داوود والترمذي عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل دون أهله وماله فَقُتِلَ فهو شهيد). والشهادة لا تكون إلا بقتال جائز. فإن قتله أي قتل المصول عليه الصائل فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا إثم لأنه مأمور بدفعه ولا يجتمع الأمر بالقتال والضمان فقد روى عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن عن عبيد بن عمير ( أن امرأة خرجت تحتطب فتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بفهر فقتلته فَرُفِع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: ( هذا قتيل الحقِّ والله لا يؤدي أبداً).ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة فكان ذلك إجماعاً. والفهر هو الحجر الذي يملأ الكف.(3/500)
ولا يجب الدفع عن مال لأنه لا يجوز إباحة المال للغير هذا بالنسبة لمال النفس أما ذا تعلق به حق للغير فيجب الدفع عنه كما يجب على الإمام ونوابه الدفع عن أموال رعاياهم ويجب الدفع عن بُضع إن لم يخف على نفسه أو عضوه أو منفعته ويحرم عليها الاستسلام لمن صال عليها ليزني بها وإن خافت على نفسها لأن البُضْعُ لا يباح بالإباحة. وكذا يجب الدفع عن نفسٍ قصدها كافر ولو معصوماً بعهد أو ذمة إذ غير المعصوم لا حرمة له والمعصوم قد أبطل عصمته بصياله ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين أو قصدها بهيمةٌ لأن البهيمة تذبح لحفظ حياة الآدمي فلا يجوز الاستسلام لها بحال لا إن قصدها مسلم في الأظهر بل يجوز الاستسلام له بل قيل يُسَنُّ ذلك لما روى أحمد وأبو داوود وغيرها عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن خير ابني آدم). أي القائل (لئن بسطت يدك إليَّ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) [ المائدة:28].
وأخرج أحمد عن خالد بن عرفطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل).وأيضاً لا يلزم المسلم الهربُ من المشركين إذا اجتمعوا عليه لما روى الشيخان عن جابر أن رجلاً قال يا رسول الله أريت لو انغمست في المشركين فقاتلتُ فقتلتُ أليَ الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (نعم إن قاتلت وأنت مقبلٌ غير مدبرٍ) فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قُتل ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك فدل أنه يجوز التعرض للشهادة كما يجوز له الفرار.(4/1)
والدفع عن غيره كهو عن نفسه فيجب تارة ولا يجب ويجوز أخرى إذ لا يزيد حق غيره على حق نفسه ومحل الوجوب إذا أمن الهلاك إّ لا يلزم المسلم أن يجعل روحه بلاً عن روح غيره وقيل يجب قطعاً أي يجب الدفع عن غيره لأن له إيثار غيره على نفسه فقد روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُذِلَّ عنده مسلم فلم ينصره وهو قادرٌ أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة).
وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال يا رسول الله انصره مظلوماً فكيف انصره ظالماً قال تحجزه عن الظلم).(4/2)
ولو سقطت جرةٌ ولم تندفع عنه إلا بكسرها ضمنها في الأصح أي جاز كسرها صيانة لروحه وإذا كسرها ضمنها في الأصح إذ لا قصد لها ولا اختيار ذلك إذا كانت موضوعة بمحل بحق لا عدواناً لأن إحالة الفعل عليها غير ممكن والثاني: لا يضمن تنزيلاً لها منزلة البهيمة الصائلة وهذا مردود حيث أن البهيمة لها اختيار ويدفع الصائل بالأخف فالأخف باعتبار غلبة ظن المصول عليه فإن أمكن دفع الصائل بكلام واستغاثة حَرُمَ الضرب أي لم يكن له الضرب إن أمكنه الاستغاثة بالناس أو أمكن دفعه بضرب بيد حَرُمَ سوطٌ أو بسوط حروم عصا أو أمكن دفعه بقطع عضو حرم قتل لأنه جوِّز للضرورة ولا ضرورة للأغلظ مع إمكان الأسهل ولو لم يجد المصول عليه إلا سيفاً جاز الدفع به وإن كان مندفع بالعصا إذ لا تعقيد منه في عدم حملها والمعتبر في حق كل شيء حاجته فإن أمكن هربٌ أو التحصن بموضع حصين أو الالتجاء إلى فئة فالمذهب وجوبه لأنه مأمور بنخليص نفسه بالأهون وفي قول له أن يثبت ويقاتل وتحريم قتال إن أمكن الهرب لأنه مأمور بالأهون هذا إن يتقن النجاة بالهرب أما لو صال عليه مرتد أو حربي لم يجب هرب ولو عُضّتْ يده خلصها بالأسهل فيقدم الإنذار والتهديد ثم فك لحي ثم ضرب فم ثم ضرب بطن أو عصر خصيته أو غير ذلك من الوسائل المتاحة له من فك لحييه أي رفع أحد اللحيين عن الآخر وضرب شدقيه والشدقان جانبا الفم فإن عجز عن تخليص يده بالأسهل فسلها أي سلَّ يده فنذرت أسنانه أي سقطت فهدر أي لا شيء على المعضوض لما روى الشيخان عن يعلى بن أمية أنه خرج في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أجير فخاصم رجلاً فعضَّ أحدهما يدَّ صاحبه فانتزع يده من فم العاضِّ فذهبت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأهدر ثنيته وقال: ( أيدع يده في فيك تعضها كأنها في رخي فحل). ومن نُظِرَ إلى حُرَمِهِ أي إلى أهل بيته في داره من كوَّةٍ أو ثُقب أي خرق في الدار عمداً ولم يكن للناظر شبهة(4/3)
في النظر فرماه بخفيف أو ثقيل لم يجد غيره كحصاة فأعماه أو أصاب قرب عينه فجرحه فمات فهدر كما روى الشيخان عن أبي هريرة ( لو اطلع أحدٌ في بيتك ولم تأذن له فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح). وفي رواية البيهقي وابن حبان( فلا قود ولا دية). بشرط عدم مَحْرَمٍ وزوجة للناظر فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة قيل واستتار الحُرَمِ أي وقيل بشترط لجواز الرمي عدم الاستتار فإن كن مستترات بالثياب أو بمنعطف من الدار بحيث لا يراهن الناظر لم يجز رميه لعدم اطلاعه عليهن والأصح عدم اشتراط ذلك لعموم الأخبار فقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً اطلع من جُحْرٍ في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لو علمت أنك تنظر لطعنت بها عينك (وكان في يده مِدْرى) إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) والمدري: مشط يسوى به الشعر يشبه في هيئته الآلة التي يُفْصَلُ بها الحب عن التبن.(4/4)
قيل وإنذار قبل رميه قياساً على الدفع بالأهون فالأهون والأصح عدم اشتراطه لظاهر الحديث ولو عزَّر ولي وزوج ومعلم من تحت سلطتهم فمضمون تعزيرهم لأن التعزير مشروط بسلامة العاقبة إذ المقصود منه التأديب لا الإهلاك فإذا حصل به هلاك تبين أنه تجاوز الحد المشروع. ولو حَدَّ الإمام أو نائبه مقدراً بنص فيه كحد القذف فهلك المحدود فلا ضمان على الصحيح إجماعاً ولو كان الجلد في حرٍّ أو برد مفرطين أو في مرض يرجى برؤه أو لا. ولو ضُرِبَ شارب للخمر بنعال وثياب فلا ضمن على الصحيح قيل بل يتعين السوط والأول أصح لما روى مسلم وغيره عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشارب خمر فأمر بضربه فضربوه بالجريد والنعال). ولما روى الشافعي عن عبدالرحمن بن الأزهر قال: (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب خمر فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب) وكذا أربعون سوطاً ضربها الشارب فمات فلا ضمان فيه على المشهور لأن الأمة أجمعت على الضرب بأربعين جلدة في الشرب أو أكثر وجب قسطه أي إذا جُلِدَ بأكثر من أربعين جلدة بالعدد أي بعدد الجلدات الزائدة على الأربعين وفي قول نصف دية لأ،ه مات من غير مضمون ومضمون ويجريان في قاذف جُلِدَ أحداً وثمانين جلدة فمات ففي الأظهر يجب حزء من أحد وثمانين جزءاً من الدية وفي قول نصف دية.(4/5)
ولمستقل بأمر نفسه وهو الحرُّ البالغ العاقل قطع سِلْعَةٍ وهو خراج كهيئة الغدة يخرج بين اللحم والجلد لأن له غرضاً في إزالة الشين عن الظاهر على العضو إلا سِلْعة مخوفة من حيث قطعها بقول من أهل الخبرة لأنه ممنوع من هلكة نفسه قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يب المحسنين) البقرة195. لا خطر في تركها إن تركت أو كان الخطر في قطعها أكثر منه في تركها فلا يجوز له قطعها في هاتين الصورتين لأن ذلك يؤدي إلى الهلكة أما إذا كان الترك والقطع سيان فيجوز له قطعها كغير المخوفة ولأب وجد قطعها من صبي ومجنون مع الخطر فيه إن زاد خَطَرُ الترك على خطر القطع لا لسلطان لأن الأمر يحتاج رحمة ودقة نظر وشدة اهتمام ولا يوجد ذلك إلا في الأب والجد أو الأمِّ إن كان لها وصاية وأما السلطان فلا فراغ له للنظر في هذه الأمور وله أي الولي إن كان أباً أو جداً ولسلطان قطعها بلا خطر في القطع لعدم الضرر. وفصدٌ وحجامةٌ ونحوهما من كل علاج نافع يشير به طبيب حاذق فللولي والسلطان فعل ذلك والأمر به عند وجود المصلحة مع عدم الضرر فلو مات الصبي أو المجنون بجائز من هذا فلا ضمان بالقطع أو الفصد أو الحجامة وما في معناها في الأصح لئلا يمتنع الناس من ذلك فيتضرر الصبي والمجنون ولو فعل سلطان بصبي أو مجنون ما مُنِعَ منه فمات فدية مغلظة في ماله لتعديه ولا قصاص لشبهة الإصلاح وما وجب بخطأ إمام في حدٍّ أو حكم في نفس أو طرف أو غير ذلك فعلى عاقلته كسائر الناس وفي قول في بيت المال إن لم يظهر منه تقصير لأن خطأه يكثر لكثرة الوقائع بخلاف غيره فيضر ذلك بالعاقلة ولو حده أي حدَّ الإمام شخصاً بشاهدين بانا عبدين أو فاسقين أو ذميين أو مراهقين ومات المحدود فإن قصّر الإمام في اختبارهما أي في التحقق من حالهما فالضمان عليه لأن الهجوم على القتل ممنوع منه إجماعاً وإلا فالقولان أي وإذا لم يقصر فالمسألة على قولين من حيث الضمان هل هو ماله(4/6)
أو في بيت المال فإن ضمنّا عاقلة أو بيت مال فلا رجوع على الذميين والعبدَيْنِ في الأصح لزعمهما الصدق ولأنه لم يوجد تعدٍ منهما أنما المتعدي هو الإمام بعدم بحثه عنهما.
ومن فَصَدَ أو حَجَمَ بإذن معتبرٍ ممن جاز له ذلك لم يضمن التلف إن حصل وقال ابن المنذر وأجمعوا على أن الطبيب إذا لم يتعدَّ لم يضمن وقَتْلُ جلاد وضربُهُ بأمر الإمام كمباشرة الإمام إن جَهِلَ ظلمه وخطأه فيتحمل الإمام الضمان لأن الجلاد آلته وإلا بأن عَلِمَ الجلادُ ظلمَ الإمام وخطأه فالقصاص والضمان على الجلاد وهذه لأنه المباشر للعمل إن لم يكن إكراه من جهة الإمام إذا كان الجلاد لما عَلِمَ الحال أن يمتنع عن القتل لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وصححه الذهبي وإن أكرهه الإمام فالضمان عليهما والقصاص على الإمام ويجب ختان المرأة بجزء أي بقطع جزء من اللحْمَة بأعلى الفرج وهو فوق ثُقْبة البول ويكفي قطع ما يقع عليه الاسم قال النووي في التحقيق وتقليله أفضل فقد روى أبوداود وغيره عن أمِّ عطية (أشِمِّي ولا تُنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل) وفي رواية أسرى للوجه أي أكثر لماء وجهها ودمه.(4/7)
والرجل ختانه يكون بقطع ما أي بقطع جلدة تغطي حشفته حتى تنكشف كلها ولا يكفي قطع بعض الجلدة التي تغطي الحشفة ويقال لتلك الجلدة القَلْفَة (القُلفة) بعد البلوغ الذي هو مناط التكليف للأمر به فقد روى أحمد وأبوداود والطبراني والبيهقي من رواية ابن جريح عن عُتيم بن كليب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين جاءه مسلماً: (ألقِ عنك شعر الكفر واختتن)). ويندب تَعْجيلُهُ أي الختان في سابعه أي سابع يوم الولادة لما روى الحاكم والبيهقي من حديث عائشة والبيهقي من رواية جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسنِ والحسين وختنهما لسبعة أيام) فإن ضعف الطفل عن احتماله أي الختان أُخِّرَ إلى وقت أن يحتمله ومن خَتَنَهُ في سنٍّ لا يحتمله الطفل لنحو مرض أو ضعف أو حر أو برد شديدين لزمه أي الخاتن قصاص إن علم أنه لا يحتمله إلا والداً فلا قصاص عليه ولا دية فإن احتمله أي احتمل الختان وختنه وليٌّ من أب وجد أو إمام إن لم يكن له ولي غيره فمات فلا ضمان في الأصح لأنه لابد من الختان وهو في الضعر أسهل وقد عمل ما فيه المصلحة فلم يكن متعدياً. وأجرته أي أجرة الختن في مال المختون لأنه لمصلحته فإن لم يكن له مال فعلى من عليه مؤنته.
? فصل في حكم إتلاف الدواب ?
من كان مع دابة أودواب سواء في ذلك المالك والمستأجر ضمن إتلافها لأ، يده عليها لأن المتلف نفساً فعلى العاقلة ومالاً في ماله ليلاً ونهاراً لأن فعلها منسوب إليه وعليه حفظها وتعهدها ولو بالت أو راثت بطريق فتلف به أي بولها وورثها نفس أو ملا فلا ضمان لأن الطريق لا يخلو من ذلك ولو مُنِع الناس من ذلك لامتنع الناس من المرور.(4/8)
ويحترز راكب الدابة عمّا لا يُعْتاد فعله في طريق المشاة كركض شديد في وَحَلٍ أو في مكان يجتمع فيه الناس فإن خالف ضمن ما تولد منه لتعديه أما الركض المعتاد فلا يضمن ما يحدث وقيل يضمن في الحالين ومن حمل حطباً على ظهره أو على بهيمة وهو معها فحكَّ بناء فسقط هذا البناء ضمنه ليلاً أو نهاراً لأنه المتسبب بالتلف وإن دخل حامل الحطب سوقاً فتلف به أي بالحطب نفس أو مال ضمن ما تلف بالحطب إن كان زحام لتقصيره بالدخول في مكان ازدحم فيه الناس فإن لم يكن زحام وتمزق بالحطب ثوب مثلاً فلا يضمنه إن كان لابس الثوب مستقبلاً البهيمة لأن عليه الاحتراز منها إلا ثوبَ أعمى ومستدبر البهيمة فيجب تنبيهه أي كلاً من الأعمى والمستدبر فإن لم ينبهه ضمن لتقصيره. وإنما يضمنه إذا لم يقصِّر صاحب المال فإن قصَّر بأن وضعه أي المال بطريق أو عرضه للدابة فلا ضمان على صاحب الحطب لأن صاحب المال هو المقصر بتعريضه للضياع فإن كانت الدابة وحدها من دون صاحبها فأتلفت زرعاً أو غيره نهاراً لم يضمن صاحبها أو ليلاً ضمن لما روى مالك في الموطأ والشافعي في المسند وأحمد وأبو داوود وغيرهم عن البراء بن عازب قال: (كانت لي ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها نهاراً وعلى أهل المواشي حفظها ليلاً وأن عليهم ما تتلفه مواشيهم ليلاً وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهاراً وحفظ الدواب ليلاً إلا أن لا يفرط في ربطها أي لا يأتي تفريط من صاحب الدابة في حفظها ليلاً بأن أحكم رباطها فانحل أو أغلق الباب عليها ففتحه لص أو انهدم الجدار فخرجت الدابة فأتلفت فلا ضمان لعدم التقصير أو فرط صاحب الدابة في ربطها ولكن حضر صاحب الزرع وتهاون في دفعها عنه فلا يضمن صاحب الدابة لتفريط صاحب الزرع في الدفع عن زرعه.(4/9)
وكذا لا ضمان على صاحب الدابة إن كان الزرع في مَحُوطٍ له باب تركه صاحب الزرع مفتوحاً لتفريط صاحب الزرع.
وهرة تتلف طيراً أو طعاماً إن عُهِدَ ذلك منها ضمن مالكها أي الذي يؤديها يضمن ما تتلفه في الأصح ليلاً كان أو نهاراً لأن ما عُهِدَ منها ذلك يجب أن تربط ويكف شرها وقيل لا ضمان لأن العادة في الهرة ألا تربط وإلا أي وإن لم يعهد ذلك منها فلا يضمن مالكها في الأصح لأن العادة أن يحفظ الطعام عن الهرة لا أن تربط الهرة والثاني يضمن في الليل دون النهار كسائر الدواب.
? كتاب السِيَر ?
السير جمع سيرة مثل سدر وسدرة وهي الطريقة الهيئة والحالة والمقصود بالكلام ذكر الجهاد وأحكامه وعدل عن الترجمة به لأن الأحكام المودعة فيه ملتقاة من سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته والأصل فيه قبل الإجماع آيات كقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) البقرة190، وقوله تعالى: (وأذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا) الحج39، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41.
وأخبار كخبر الصحيحين عن عمر وأبي هريرة وابن عمر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وخبر الصحيحين عن أنس ( والذي نفسي بيده لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).وخبر الصحيحين عن عائشة ( لا هجرة بعد الفتح).(4/10)
وروى البخاري عن زيد بن جالد الجُهَنِي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خَلَفَ غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا). وقد غزا رسول الله سبعاً وعشرين غزوة في تسع سنين قاتل في ثمان منها بنفسه وهي: بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وحنين والطائف وكان الجهاد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كفاية فإذا فعله البعض سقط الفرض عن الباقين قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً) [ النساء: 95].ففاضل سبحانه وتعالى بين المجاهدين والقاعدين والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين ولو كان القاعد تاركاً لفرض لَمَا وعِدَ بالحسنى وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بنفسه تارة ويبعث بالسرايا تارة فدل ذلك على أنه ليس فرضاً على الأعيان وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني لحيان وقال: (ليخرج من كل رجلين رجلُُ ويَخْلُفِ الآخر الغازي في أهله وماله). وقال: ( أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) أخرجه سعيد ابن منصور في سننه عن أبي سعيد الخدري . وقيل عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً)[ التوبة: 39].(4/11)
وأما القاعدون في المدينة فقد كانوا حراساً لها والحراسة نوع من الجهاد ويجاب على هذا بأن الوعيد في الآية إنما كان لأشخاص عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد لأن الإمام إذا عين شخصاً للقيام بغرض الكفاية يتعين عليه ولا يجوز له إنابة غيره فيه ولا أخذ أجرة عليه وأما بعده أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان أحدهما يكونون ببلادهم مستقرين غير قاصدين شيئاً من بلاد المسلمين ففرض كفاية إجماعاً دلَّ على ذلك سيرة الخلفاء الراشدين ويحصل بشحن الثغور بالمقاتلين والعتاد والثغور هي محال الخوف التي تلي بلاد الكفار ويتولى ذلك أمراء مؤتمنون مشهورون بالشجاعة والنصح للمسلمين كما يحصل فرض الكفاية بأن يدخل الإمام أو نائبه دار الكفار بالجيوش لقتالهم إخماداً لشوكتهم وإظهارهم لعجزهم عن الظفر بشيء من بلادنا قال تعالى: ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) [ التوبة: 162]، قال مجاهد: نزلت في الجهاد وقد فعله صلى الله عليه وسلم فلم يترك الجهاد في سنة من سنوات حياته منذ أذن له في ذلك فكانت بدر الكبرى في الثانية وأحد وبني النضير في الثالثة والخندق في الرابعة وذات الرقاع ودُمَة الجندل وبني قريظة في الخامسة والحديبة وبني المصطلق في السادسة وخيبر في السابعة ومؤتة وذات السلاسل وفتح مكة وحنين والطائف والثامنة وتبوك في التاسعة وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنا عشر خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة وفيها نزلت ( اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[ المائدة: 3].
إذا فعله من فيهم كفاية سقط عن الباقين لأن هذا شأن فروض الكفاية ويأثم الجميع بترك فرض الكفاية حيث كانوا من أهل الوجوب.(4/12)
ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحُجَجِ العلمية وهي البراهين على إثبات الصانع عز وجل وما يجب له من صفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات للأنبياء وعلى إثبات ما ورد الشرع به من إثبات البعث والحساب والقامة والجنة والنار.
وحل المشكلات في الدين ودفع الشُبَهِ عنه ومعرفة أمراض القلوب وحدودها وأسبابها كالحسد والرياء والكبر . وبعلوم الشرع كتفسير وحديث فمن فروض الكفاية القيام بعلوم الشرع ويدخل في ذلك التفسير والحديث وما يتعلق بهما من علم العربية كعلم النحو والصرف والاشتقاق والمعاني والعروض وغير ذلك.
والفروع الفقيه زائداً على ما لا بد منه بحيث يصلح للقضاء والفتيا لشدة الحادجة إلى ذلك فإن قدر على الترجيح دون الاستنباط فهو مجتهد الفتوى وإن قدر على الاستنباط من قواعد إمامه وضوابطه فهو مجنهد المذهب وإن قدر على الاستنباط من الكتاب والسنة فهو المجتهد المطلق ويجب تعدد المفتي بحيث يكون في كل مسافة قصر واحد.
ومن فروض الكفاية علم الطب وعلم الحساب وأصول الفقه وأسماء الرواة وعلم الجرح والتعديل واختلاف الفقهاء واختلافهم.(4/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفاية اجماعاً وهو من أعظم قواعد الإسلام ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه بل يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الذكرى تنفع المؤمنين ويكون برفق وأن لا ينكر العالم إلا مجمعاً على تحريمه لا ما اختُلِف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه وأما صفة النهي عن المنكر وضابطه فقد روى مسلم عن أبي سعيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من رأى منكم منكراً فاستطاع أن ينكره بيده فليفعل فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقله وهو أضعف الإيمان)).فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ولا تكفي كراهة القلب لم قدر على النهي باللسان وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن رأى شيئاً غيره. قال الماوردي فإن غلب على ظن المحتسب ( وهو من عينه الإمام ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) استمرار قوم بالمنكر بإمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها فيجوز التجسس والإقدام على الكشف والإنكار والثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز فيه الكشف والتجسس. ويجب العلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله أو يخافوا على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع.(4/14)
وإحياء الكعبة كل سنة بالزيارة ومن فروض الكفاية والمقصود الأعظم من بناء الكعبة الحج فكان به إحياؤها والفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين بحيث يظهر الشعار سواء في ذلك مَنْ عليه فرض ومن هو متطوع بالحج ودفع ضرر المسلمين وإزالة فاقتهم ككسوة عار وإطعام جائع وإغاثة مستغيث في نائبة فكل ذلك من فرو ض الكفاية وذلك إذا لم يندفع ضررهم بزكاة أو بيت مال أو وقف أو سهم مصالح أو كفارة أو وصية. وتحمّل الشهادة من فروض الكفاية وأداؤها كذلك وعانة القضاة على استيفاء الحقوق وتجهيز الموتى غسلاً وتكفيناً وصلاة ودفناً. والحرف والصنائع وما تتم به المعايش كالبيع والشراء والحراثة من فروض الكفاية لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه. ويروى أن الإمام أحمد رحمه الله سمع رجلاً يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلق، فقال: هذا رجل تمنى الموت. وجواب سلام على جماعة من فروض الكفاية قال تعالى: ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)[ النساء: 86].
وروى أبو داود عن علي رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يجزيء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزيء عن الجلوس أن يرد أحدهم)).وأخرج البخاري عن أبي هريرة( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يسلم الراكب على القائم والماشي والقائم على القاعد والماشي على القائم والقليل على الكثير)). وإذا سلَّم فرد على جماعة فيكفي جواب أحدهم. ويسن ابتداؤه أي ابتداء السلام فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: (( تُطْعم الطعام وتَقْرَاُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)). وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلالم بينكم)).(4/15)
وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً ( إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدر أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضاً ).قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم)[ النور:61].لا على قاضي حاجة وآكل فلا يُسَنُّ ابتداؤه لأن الآكل مشغول بأكله ولا يسن على قاضي الحاجة للنهي عن ذلك فقد روى الإمام مسلم من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر (أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يردَّ عليه).
وروى الترمذي عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه رجل وهو يبول فسلَّم عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ فإنك إن فعلت لم أردَّ عليك)).
وفي حمام فلا يسن السلام على من في الحمام لاشتغاله بالاغتسال ومن الذي لا يُسَنُّ السلام عليهم المصلي والمؤذن والخطيب والملبي في النسك والمستغرق في القراءة والفاسق والمبتدع ويستحب مراعاة صيغة الجمع عند السلام وصيغته السلام عليكم أو سلام عليكم وإن كان المُسَلَّمُ عليه واحداً خطاباً له ولملائكته وأن لا يقول عليك السلام لما روى أبو داوود والترمذي بسند صحيح عن أبي جُري قال: (قلت: عليك السلام يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم :(( لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى)).
ولا جواب عليهم فلا يجب الجواب على من سلم على واحد من المذكورين لوضعه السلام في غير محله.(4/16)
ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه وجب على كل واحد منهما جواب الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام وإن جاء السلامان الواحد تلو الآخر وسلام النساء على النساء كسلام الرجال على الرجال فلو سلم رجل على امرأة أو عكسه فإن كان بينهما زوجية أو محرمية وجب الرد وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزاً خارجة عن فطنة الفتنة ويستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله ولمن دخل بيتاً أو مسجداً ليس فيه أحد أن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
والانحناء لا أصل له في الشرع. فقد روى الترمذي عن أنس وحسنه ( أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل منّا يلقى أخاه وصديقه أينحني له؟ قال: (( لا)) قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: (( لا))، قال: فيؤخذ بيده ويصافحه؟ قال: (( نعم)).
وتسن المصافحة فقد روى البخاري عن قتادة قال:( قلت لأنس ( أكانت المصافحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم). وأخرج الترمذي عن البراء وحسنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقان).
قال النووي في الروضة: وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل لتخصيصه لكن لا بأس به فإنه من جملة المصافحة وقد حث الشرع على المصافحة ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها.
ولا جهاد على صبي ومجنون وامرأة ومريض وذي عرج بيّن فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)).
وروى الشيخان عن ابن عمر( أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أنساً وابن عمر وعشرين من أصحابه استصغرهم). وروى البخاري عن البراء قال: ( اسْتُصْغِرْتُ أنا وابنُ عمرَ يوم بدر ).(4/17)
وقال تعالى: ( ليس على الأعمر حرج ولا على الأعرج وعلى المريض حرج )[ النور: 61]. وقال تعالى: ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ا ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم)[ التوبة: 91].
وأقطع وأشل يد أو معظم أصابعها فلا جهتد عليهما وعبد وعادم أهبة قتال لا جهاد عليهما أيضاً لأن العبد لايملك ومن لا يملك نفقة وسلاحاً ومركوباً لا يمكن أن يقاتل أما لو كان القتال على باب داره أو حوله فقد سقط اعتبار المؤن ولو بذل بيت المال الأهبة لزمه القتال.(4/18)
وكل عذر منع وجوب الحج منع الجهاد إلا خوف طريق من كفار وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح أي أن الخوف المذكور لا يمنع وجوب الجهاد لبناء الجهاد على مصادمة المخاوف والدين الحالُّ حَرِّم سَفَرَ جهاد وغيره إلا بإذن غريمه أي صاحب الدين مسلماً كان أو ذمياً ولو منعه السفر لأن في الجهاد خطر الهلاك فإن استناب من يقضيه من مال له جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم فقد روى مسلم وأحمد وغيرهم ‘ن أبي قتادة (أن رجلاً قال يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً أليَ الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إلا الدين بذلك أخبرني جبريل عليه السلام)). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدين يمنع الجنة أي يمنع الشهادة فإذا منع الشهادة عُلِمَ أن جهاده ممنوعٌ به. والمؤجل لا يحرم السفر فليس لربِّ الدين منعه من السفر وقيل يمنع سفراً مخوفاً كسفر الجهاد لأن القصد من الجهاد طلب الشهادة والدين يمنع الاستشهاد كما مرَّ فلم يَجُزْ من غير إذن من له الدين ويحرم الجهاد إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين أو أحدهما فقد أخرج البيهقي في السنن عن أبي سعيد الخدري (أن رجلاً هاجر إلى النبي من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هجرة الشرك وبقي هجرة الجهاد) ثم قال له: ألك أحد في اليمن؟ فقال: أبواي، فقال: أذنا لك؟ فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: (مرّض إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإن لم يأذنا لك فبرهما)).
وأخرج الشيخان عن اب مسعود قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها، قلت: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فدلّ هذا على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد.(4/19)
لا سفر تعلم فرض عين فلا يحتاج إلى إذن الأبوين لأن الغالب من سفره السلامة وقيل هذا مشروط بعدم وجود من يعلمه من بلده فعند إذن يتعين عليه الخروج إن كان له ماله وليس للأبوين منعه فإذا إذن أبواه والغريم بالجهاد ثم رجعوا عن الإذنوعلم بذلك قبل التقاء الجمعين وجب عليه الرجوع لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه قال الشافعي: إلا أن يخاف إذا رجع تلفاً فلا يرجع إن لم يحضر الصفة فإن كان الرجوع من الوالدين أو الغريم بعد التقاء الصفين فليس له أن يرجع قال تعالى: (ومن يولهِّم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله) الأنفال16. فإن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سبباً لهزيمة المسلمين فلم يكن له ذلك.(4/20)
فإن شرع من قتال حَرُمَ الانصراف في الأظهر لوجوب المصابرة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الأنفال45. والانصراف من المعركة يشوش الصفوف ويكسر القلوب الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا أو ينزلوا في جزر أو حبل في دار الإسلام ولو كان بعيداً عن المدن المأهولة بالسكان فليزم أهلها دفع بالممكن ويكون الجهاد حينئذ فرض عين قال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) التوبة41. فالنفير يعم الجميع المقل منهم والمكثر ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحْتَاجُ إلى تخلفهم لحفظ المكان والأهل والمال روى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُنْفِرتم فانفروا)) فإن أمكن تأهب لقتال بأن لم يهجموا علينا بغتة وجب الممكن لدفع الكفار بحسب القدرة حتى على فقير بما يقدر عليه وولد ومدين وهو من عليه دين وعبد بلا إذن من أبوين وصاحب دين وسيد وينحلُّ الحجر عنهم لأن دخول الكفار إلى أرض الإسلام أمر عظيم لا يهمله إلا من لا دين له ولا غيره ويجوز لآحاد الناس أو يردوا الكفار دون استئذان الإمام إن كان إمام وتعذر استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك (لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خير رجالتنا سلمة بن الأكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل) وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشتُرِطَ إذن سيدهم أي العبد لأن في الأحرار غنية والأصح لا يشترط الإذن لتقوى شوكة المسلمين ويشتد ساعدهم وإلا بأن لم يمكن أهل البلدة التأهب لقتال الكفار وذلك بأن هجموا فجأة فمن قُصِدَ من المكلفين ولو امرأة أو مريض دفع عن نفسه الكفار بالممكن إن علم أنه إذا أخذ قُتِلَ أو لم تأمن المرأة فاحشة إذا أخذت وإن جوّزَ المكلف الأسرى إن ظن أنه إن امتنع منه قتل لأن ترك الاستسلام حينئذ تعجيل(4/21)
للقتل إن أمن الفاحشة أو القتل ولو أريدت منه الفاحشة فله الدفع ولو بعد الأسر. أما المرأة فإن علمت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإنت قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن توقعت امتداد الأيدي بالفاحشة بعد الاستسلام جوّزَ ذلك على أن تدفع عن نفسها إذا أُريد منها ذلك.
ومن هو دون مسافة قصر من البلدة التي دخلها الكفار فحكمه كأهلها فيجب عليه المضي إليهم إن وجد زاداً ولا يعتبر الركوب لقادر على المشي للوصول إليهم هذا إذا لم يكن في أهل البلد التي دخلها الكفار كفاية والأصح أن عليه الدفع وإن كان في أهلها كفاية لأنه في حكمهم. ومَنْ على المسافة أي مَنْ كان على مسافة القصر فما فوقها يلزمهم في الأصح إن وجدوا زاداً ومركوباً الموافقة لأهل ذلك المحل في الدفع بقدر الكفاية أي هو فرض كفاية بحقهم إن لم يَكْفِ أهلها ومن يليهم دفعاً قيل وإن كفوا أي أهل البلد ومن يليهم في دفع الكفار والأصح أنه يجب الموافقة على الأقرب فالأقرب بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد كفوا ودفعوا العدو ولو أسروا أي الكفار مسلماً فالأصح وجوب النهوض إليهم وإن لم يدخلوا داراًَ لنا لخلاصِهِ إن توقعناه أي توقعنا خلاص المسلم كما ننهض إليهم عند دخول دار الإسلام لدفعهم عنها لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار أما إذا لم نتوقع خلاصه لبعد أو قله مؤنة أو عدم معرفة مكانه تركنا ذلك للضرورة وننتظر الوقت المناسب.
? فصل في مكروهات الغزو ومن يجوز قتله ومن يحرم قتله من الكفار ?(4/22)
يكره غزو دون إذن الإمام أو نائبه تأدباً معه ولأنه أعرف بما فيه مصلحة المسلمين ولا يحرم الغزو بغير إذن الإمام لأن أكثر ما فيه التغرير بالنفس وتعريضها للقتل وهو جائز في الجهاد فقد روى الحاكم عن أنس (أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قُتِلت أليَ الجنة؟ قال: نعم فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل) قال الحاكم هو حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وروى الشيخان عن جابر قال: (قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قُتلتُ؟ قا : في الجنة، فألقى تمرات كنَّ يده ثم قاتل حتى قُتِلَ).
وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: (لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يُضْحِكُ الرب تعالى من عبده؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسراً) فنزع عوف درعه ثم تقدم فقاتل حتى قُتِلَ) واستثنى البلقيني من كراهة الغزو دون إذن الإمام صوراً: أحدها أن يفوته المقصود بذهابه للإستئذان، ثانيهما: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد، ثالثهما: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه لم يأذن له.(4/23)
وَيُسَنُّ للإمام أو نائبه ّإذا بعث سرية إلى بلاد الكفار والسرية قطعة من الجيش يبلغ أقصى عددها أربعمائة رجل. روى ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) رواه الترمذي وأبوداود وزاد أو يعلى الموصلي (إذا صبروا وصدقوا). أن يؤمِّر عليهم أميراً مطاعاً يرجعون إليه في أمورهم. قال الشافعي في الأم: (وأحبُّ للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف الإسلام جيشاً ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين ويولّيَ عليهم رجلاً عاقلاً ديّناً قد جرب الأمور لأنه إذا لم يفعل ذلك فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلىأن يجتمع عسكرٌ من المسلمين). ويأخذ البيعة بالثبات على الجهاد وعدم الفرار وأن يحرضهم على القتال وأن يدخل دار الحرب بتعبية الحرب لأنه أحوط وأهيب روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف قال: (عَبْأَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر) وأن يدعو عند التقاء الصفين فقد روى أبوداود وغيره عن سهل بن سعد مرفوعاً (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء عند حضور الصلاة وعند الصف في سبيل الله). وفي رواية لابن حبان (عند النداء للصلاة والصف في سبيل الله).
وله أي الإمام الاستعانة على الكفار بكفار تؤمن خيانتهم وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين أمن الخيانة مع حسن رأي في المسلمين والشرط الثاني ذكره بقوله (ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر قاومناهم لإمن ضررهم حينئذ فإذا كانوا إذا انضموا إلى بعضهم زادوا عن ضعف المسلمين لم تجز الاستعانة بهم وشرط الماوردي رحمه الله شرطاً ثالثاً وهو أن يخالفوا معتقد العدو الذي نقاتله كاليهود مع النصارى فقد روى البيهقي عن سعد بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (غزا بقوم من اليهود فرضح لهم وفي رواية: لم يضرب لهم بسهم) والرضح هو العطاء من الغنيمة وهو دون السهم.(4/24)
وأما ما رواه مسلم وغيره عن عائشة (إنا لا نستعين بمشرك) فلا يقتضي المنع بل إن الأولى أن لا يفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك لطالب إعانة به تفرس النبي فيه الرغبة في الإسلام فرده فلما رده أسلم فصدق ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يدل على ذلك الخبر السابق فقد روى مسلم عن عائشة أنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فلما بلغنا موضع كذا لقينا رجل من المشركين موصوفاً بالشدة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أقاتل معك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا لا أستعين برجل من المشركين) قالت: فأسلم وانطلق معنا.
وبعبيد بإذن السادة إذا رأى الإمام الفائدة والنفع فيهم ومراهقين أقرياء في القتال كما يستعان بهم في نقل الماء ونقل السلاح وإعداد الطعام ومداوة الجرحى ولا بأس بالاستعانة بالنساء في مثل ذلك فقد روى مسلم عن أم عطية أنها قالت (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى) وله أي الإمام بذل الأهبة والسلاح من بيت المال ومن ماله وكذا إذا تبرع أحد من الرعية بذلك لينال ثواب الإعانة على الجهاد فقد روى الشيخان عن يزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله وماله بخير فقد غزا).(4/25)
ولا يصح استئجار مسلم لجهاد لأنه إن جاهد إنما يقع الجهاد عن نفسه لأن الجهاد فرض على الكفاية فإذا حضر المجاهد الصف تعين عليه الهاد بنفسه ويصح اسئجار ذمي ومعاهد ومستأمن وقيل وحربي لجهاد، والأمر للإمام وتكون أجرتهم من خمس الخمس وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاز ذلك لأن الجهاد لا يقع لهم قيل ولغيره من آحاد الناس أن يستأجره والأصح المنع من استئجار الكافر للجهاد من غير الإمام لأن الجهاد من المصالح العامة فلا تتولاها العامة وأما قياسه على الأذان فبعيد لأن الأجير في الأذان مسلم وهذا كافر لا يؤتمن.
ويكره لغاز قتل قريب له ومحرم قتله أشد لقوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) لقمان15 فأمره بمصاحبتهما بالمعروف وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف فقد أخرج البيهقي في السنن من طريق الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه (دعه يتولى قتله غيرك)وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه. وقلت: إلا أن يسمعه يسبُُ الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أي يذكره بسوء فلا كراهة عند ذلك والله أعلم فيستحب عند ذلك تقديم حق الله وحق رسوله على ما سواهما. قال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم) المجادلة22.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) وفي لفظ لمسلم والناس أجمعين. وقد أخرج السيوطي في الدر المنثور أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.(4/26)
ويحرم قتل صبي ومجنون وامرأة وخنثى مشكل إن لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل النساء والصبيان) وألحق المجنون بالصبي والخنثى المشكل بالمرأة لاحتمال أنوثته. ويحل قتل راهب وأجير وشيخ وأعمى وزمن لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر لعموم قوله تعالى (واقتلوهم حيث وجدتموهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتله فهزم الله أصحابه) وذكر ابن اسحاق في السيرة أن دريد قتل يوم حنين وقد نيف على المائة فيسترقون وتسبى نساؤهم وأموالهم أي يجوز للإمام أن يضرب عليهم الرق إن شاء كما تغنم أموالهم وإذا لم يقتلوا كانوا أرقاء بنفس الأسر. ولكن لا يقتل رسولهم لما روى أحمد وغيره عن ابم مسعود أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة الكذاب لعنه الله فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال النبي: (لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكما) وقد جرت السنة في فعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين من بعد ألا يقتل الرسل.
ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق وإن كان فيهم نساء وصبيان كما يجوز قطع الماء عنهم. قال تعالى (فاقتلوا المشركين جيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم) التوبة5. وقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف).
وروى أبو داود في المراسيل عن أبي ثور عن مكحول (أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب على أهل الطائف المنجنيق). وتبيتهم في غفلة أي يجوز تبيتهم أي الإغارة عليهم ليلاً وهم غافلون. فقد روى الشيخان من حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم).(4/27)
وروى الشيخان من حديث الصعب بن جثامة (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم). هذا فيمن بلغتهم الدعوة أما من لم تبلغهم الدعوة فلا يجوز قتالهم حتى يدعوا إلى الإسلام.
فإن كان منهم مسلم أسير أو تاجر جاز ذلك على المذهب أي إذا كان في الكفار أسارى من المسلمين جاز رميهم بالنار والمنجنيق وإرسا اماء عليهم إن دعت إلى ذلك ضرورة أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك لئلا يتعطل الجهاد لحبس مسلم عندهم وإصابة المسلم متوهمة وإن أصيب رزق الشهادة.
ولو التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان جاز رميهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك لأنهم لو تركوا لغلبوا المسلمين ولكان ذلك سبباً لتعطل الجهاد. وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم لأن في ذلك منع قتل النساء والصبيان من غير ضرورة (ولأنا نهينا عن قتل النساء والصبيان) رواه الشيخان عن ابن عمر.
وإن تترسوا بمسلمين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وجوباً فلا نرميهم صيانة لهم فإن حرمتهم لأجل الدين فإن الحق في المسلم لله سبحانه وتعالى. وإلا جاز رميهم وذلك إذا تترس الكفار بهم حال الحرب والتحام القتال لأنا لو كففنا عنهم لظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا وتوقع هلاك طائفة من المسلمين يحتمل من أجل الدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية. ويحرم الانصراف عن الصف ولو كان الغالب على ظنه أنو لو ثبت قتل. قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) الأنفال16. وفي الصحيحين عن أبي هريرة (اتقوا السبع الموبقات وعدََ منها التولي يوم الزحف) إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا بأن كانوا مثلينا أو أقل حرم الانصراف قال تعالى (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) الأنفال66. فأوجب على كل مسلم مصابرة الإثنين.(4/28)
قال ابن عباس (من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ ومن فرََ من اثتين فقد فرََ) أي من فرََ من ثلاثة فلم يفرََ الفرار المذموم في القرآن ومن فرََ من اثنين فقد فرََ الفرار المذموم في القرآن. قال بعضهم: الآية جاءت على صيغة الخبر فكيف جعلتموه أمراً؟ والجواب أن الله تعالى قال (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) الأنفال66 بعد أن قال (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر فكانت الآية على الأمر.
إلا متحرفاً لقتال أي منتقلاً من مكان لا يمكن القتال فيه إلى متسع يمكن القتال فيه أو متحيزاً إلى فئة يستنجد بها للقتال وينضم إليها محارباً فيجوز انصرافه. قال تعالى (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) الأنفال16.
وأخرج أحمد في المسند والطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال (لما ولّى المسلمون يوم حنين بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانون نفساً فنكصنا على أعقابنا أربعين خطوة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطني كفاً من تراب فأعطيته فرماه في وجه المشركين فقال لي: اهتف بالمسلمين فهتفت بهم فأقبلوا شاهرين سيوفهم).
وروى الشافعي في الأم عن طريق الزهري عن عمر بن الخطاب أنه قال: (أنا فئة كل مسلم) وكان بالمدينة وكانت جيوشه بالأفاق.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (وإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه -إلا ان يعفو الله تعالى- أن يكون باء بغضب من الله) أي إذا تعين عليه فرض الجهاد وولََى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله.(4/29)
ويجوز إلى فئة بعيدة في الأصح والبعيد هي التي إذا استغاث بها لم تسمعه ولا يشارك متحيز إلى بعيدة الجيش فيما غنم بعد مفارقته لفوات نصرته بالمفارقة ويشاركه فيما غنم قبل مفارقته ويشارك متحيز إلى قريبة الجيش فيما غنم بعد مفارقته له في الأصح لبقاء نصرته فإذا زاد عدد جنود الكفار على مثلين من جنود الإسلام جاز الانصراف عن الصف لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الأنفال66. فالواجب على المسلم مصابرة الإثنين إلا أنه يحرم انصراف مائة بطل عن مائتين وواحد ضعفاء في الأصح، لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا نظراً للمعنى وإنما يراعى العدد عمد تقارب الأوصاف ولذا لا يختص الخلاف بزيادة الواحد أو نقصه.
وتجوز المبازرة بلا كراهة فقد روى أبو داود عن علي (أن علياً وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة) ورواه البخاري مختصراً من حديث قيس بن عباد عن أبي ذر.
وروى الحاكم عن ابن العباس (أن علياً بارز يوم الخندق عمرو بن ودِّ العامري).
رورى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه (أن الزبير بن العوام بارز يم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وقتله). فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه لأن ترك المبارزة دليل على الضعف ودافع للكفار على الاستهانة بالمسلمين وازدرائهم. فقد روى الشيخان عن عبدالرحمن بن عوف أن عوفاً ومعوذاً ابني عفراء خرجا يوم بدر فلم ينكر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابن اسحاق في المغازي عن عاصم بن عمرو عن قتادة (أن عبدالله بن رواحة خرج يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).(4/30)
وإنما تَحْسُنُ أي تندب المبارزة ممن جرب نفسه بأن عرف منها القوة والصبر والجرأة وبإذن الإمام أو أمير الجيش لأن القائد المحنك هو الذي يعرف مقاتليه وقدراتهم ويجوز اتلاف بنائهم وشجرهم لحاجة القتال والظفر بهم فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّق نخيل بني النضير) وروى البيهقي عن عروة بن الزبير (أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى الطائف فأمر بقصر مالك بن عوف فهُدِم وأقر بقطع الأعناب). وروى البيهقي عن طريق الشافعي بغير اسناد (أن حنظلة الراهب عقر فرس أبي سفيان يوم أحد فسقط عنه فجلس حنظلة على صدره ليذبحه فجاء ابن شعوب فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة). قال تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) الحشر50 واللينة: النخلة. والعقر: قطع إحدى القوائم من الدابة لتسقط وليتمكن من ذبحها. وكذا يجوز إتلافها إن لم يُرجَ حصولها لنا فإن رُجيَ ندب الترك وكُرِه الإتلاف لأنها تصير غنيمة للمسلمين ويحرم إتلاف الحبوان إلا للأكل لأن للحيوان حرمتين حرمة لحق مالكه وحرمة لحق الله فإذا اسقطت حرمة مالكه لكفره بقيت حرمة الله سبحانه وتعالى ولذا حرم على مالك الحيوان إجاعَتُهُ ومنعه الماء بخلاف الأشجار فقد روى الإمام مسلم عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيوان صبراً) وصبر البهائم أن تحبس وترمى لتقتل إلا ما يقاتلونا عليه لدفعهم أو الظفر بهم لأنها آلة للقتال وإن جاز قتل نسائهم وأطفالهم إن تترسوا بهم فقتل خيلهم أولى فقد أخرج أحمد في المسند ومسلم عن عوف بن مالك (أن رجلاً اختبأ لرومي خلف صخرة فلما مرََّ عليه خرج فعقر دابته فقتله وأخذ سلبه ولم ينكر النبي عليه ذلك).
أو غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره لنا يجوز إتلافه دفعاً لهذه المفسدة لأن الكفار إذا أخذوه تقووا به علينا.(4/31)
?فصل: في حكم الأسر وما يؤخذ من أهل الحرب?
نساء الكفار وصبيانهم إذا أسروا رَقُّوا أي صاروا أرقاء بنفس الأسر فخمسهم لأهل الخمس وأربعة أخماسهم للغانمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهم إذا لم يقاتلوا فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة نقتولة في بعض المغازي فنهى عن قتل النساء والصبيان). وكذا العبيد فإتهم يصيرون بالأسر أرقاء لنا ويجتهد الإمام في الأحرار الكاملين إذا أُسِروا ويفعل فيهم الأحظ للمسلمين من قتلٍ بضرب رقبة ومَنٍّ عليهم بتخلية سبيلهم وفداء بأسرى أو مال يؤخذ منهم وسواءفي ذلك مِنْ مالهم أو من أخذ منّا وهو في أيديهم واسترقاق قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدُّوا الوثاق) محمد4. وقوله فشدُّوا الوثاق أي بالأسر قال الشافعي حدثنا عدد من أهل العلم من قريش وغيرهم من أهل العلم بالمغازي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر النضر بن الحارث العبدري وقتله صبراً). وروى البيهقي من طريق محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل بالأسرى أمر عاصم بن ثابت فضرب عُنُقَ عقبة بن أبي معيط صبراً.
وروى مسلم عن عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسره أصحابه برجلين أسرتهما ثقيف). وروى أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن عباس قال: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يومئذ (يعني في بدر) أربعمائة).
وروت عائشة (أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم وجهتْ زينبُ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء زوجها أبي العاص بن الربيع فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها فرقَّ لها وقال للمسلمين (إذا رأيتم أن تُخَلُّوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها ففعلوا ذلك)) رواه عن عائشة أبو داود وأحمد والحاكم.(4/32)
وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قَبِلَ نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: يا محمد عندي خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تُنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ ما شئت. فترك حتى كان الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: ما قلت لك إت تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. فقال: أطلقوا ثمامة). فإن خفي الأحظ على الإمام في الحال حبسهم حتى يظهر له الأحظ فيفعله وسواءٌ في الاسترقاق العربي والوثني والكتابي غيرهم وقيل لا يسترق وثني لأنه كالمرتد فإنه مَنْ لم يجزْ حقنُ دمه بالجزية لم يَجُزه حقن دمه بالاسترقاق وكذا عربي في قول قديم وفيه حديث ضعيف لا يحتج بمثله رواه البيهقي عن معاذ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: لو كان الاسترقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو إسارٌ وفداءٌ. وقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل العرب وأجرى عليهم الرق) رواه الشيخان عن ابن عمر.(4/33)
ولو أسلم أسير عصم دمه لما روي الشيخان عن ابن عمر وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم) وبقي الخيار في الباقي. وهو المَنُّ والفداء والإرقاق لأن المخير بين أشياء إذا سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي كمن عجز عن العتق في الكفارة فإنه ينتقل إلى غيره وإسلام كافر قبل ظَفَرٍ به يعصمُ دمَهُ ومالَه وصغارَ ولده للحديث السابق وسواءٌ في ذلك أسلم وهو محصور وقد قَرُبَ الفتحُ أو أسلم في حال أمنه وسواءٌ أسلم في دار الحرب أو في دار الإسلام أما أولاده البالغون العقلاء فلا يعصمهم إسلام الأب لاستقلالهم بالإسلام لا زوجَتَه فإسلام الزوج لا يعصم زوجته عن الاسترقاق على المذهب المنصوص لاستقلالها وقيل لا تسترق زوجته لئلا يبطل حقه من نكاحها فإن استرقت انقطع نكاحه في الحال لأنه زال ملكها عن نفسها بالاسترقاق فملك الزوج أولى بالزوال ولأنها صارت أمة كافرة ولا يجوز إمساك الأمة الكافرة للنكاح كما يمتنع ابتداء نكاحها. فقد روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال (أصبنا نساء يوم أوطاس فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجلَّ في ذلك (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24). أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن والمراد بالمحصنات هنا المتزوجات.
وروى أحمد في المسند وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس (لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع ولا حائل حتى تحيض) وفي رواية البيهقي في السنن (حتى تحيض حيضة). ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذات زوج وغير ذات زوج.(4/34)
وقيل إن كان بعد الدخول بها انتُظرتِ العدَّةُ فلعلها تعتق فيها. كالمرتدة فإن اعتقت استمر النكاح وإن تسلم فلا لأن إمساك الحرة الكتابية جائز وهذا الوجه مرجوح لأن حدوث الرقِّ يقطع النكاح فأشبه الرضاع.
محمد عبدالكريم محمد
عرض الملف الشخصي العام
إِظْهَارُ جَمِيْعِ الرُّدُوْدِ الَّتِيْ رَدَّ بِهَا : محمد عبدالكريم محمد
#23 21-07-07, 03:12 AM
محمد عبدالكريم محمد
عضو نشيط تَارِيْخُ التَّسْجِيْلِ فِي الْمُلْتَقَى: 17-12-06
عَدَدُ مُشَارَكَاتِهِ وَرُدُوْدِهِ: 392
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نوري مشوح
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء السابع عشر(4/35)
ويجوز إرقاق زوجة ذمي إن كانت حربية فترق بنفس الأسر وينقطع به نكاحه وكذا عتيقهُ في الأصح لأن الذمي إذا التحق بدار الحرب اسْتُرِقَ فإذا كان عتيقه حربياً كان أولى بالاسترقاق لا عتيق مسلم التحق بدار الحرب وزوجته المسلم الحربية فلا تسترق إذا سُبيت على المذهب والمراد بعتيقه من اعتقه بعد أن أسلم أو كان مسلماً أصالةً وكذلك زوجته وإذا سُبيَ زوجان أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما إن كانا حرّين لحديث مسلم السابق عن أبي سعيد الخدري أنهم لما امتنعوا يوم أوطاس من وطء السبايا لأن لهنَّ أزواحاً نزل قول الله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) النساء24. فحرم المتزوجات وأباح المملوكات بالسبي فلما حللن للمسلمين دلَّ ذلك على ارتفاع نكاحهن السابق قيل أو رقيقين فينفسخ النكاح لحدةث السبي والأصح لا ينفسخ النكاح إذا لم يحدث رقٌّ وإنما هو انتقال الملك فأشبه البيع سواء سُبيا معاً أو مرتباً. وإذا أُرِقَّ وعليه دين لمسلم أو ذمي أو معاهد أو مستأمن لم يسقط الدين لأن له ذمة أما لو كان الدين لحربي فيسقط لعدم حرمة مال الحربي فَيُقْضَى الدين من ماله إن غنم بعد إرقاقه تقديماً له على الغنيمة كالوصية وإن حُكِمَ بزوال ملكه بالرقِّ كما يقضى دين المرتد وإن حكم بزوال ملكه بالردة أما إذا لم يكن له مال فيبقى في ذمته إلى عتقه وأما ماله الذي كان معه وقت إرقاقه فهو للغانمين.
ولو اقترض حربي من حربي أو اشترى منه ثم أسلما أو قَبِلا الجزية دام الحق الذي يصح طلبه لالتزامه بعقد صحيح بخلاف نحو خمر أو خنزير فلا يصح طلبه.
ولو أتلف عليه أي على حربي حربيٌ آخر أو غصبه منه فلا ضمان في الأصح لأنه لم يلتزم شيئاً بعقد حتى يدوم حكمه.(4/36)
والمال المأخوذ من أهل الحرب قهراً غنيمة للمسلمين وكذا ما أخذه واحدٌ أو جمعٌ من دار الحرب بسرقة أو اختلاس أو سوم ولوكانوا في بلادنا حيث لا أمان لهم أو وجد كهيئة اللقطة فهو غنيمة على الأصح إن علم أنه للكفار وقيل يختص به من أخذه.
فإن أمكن كونه لمسلم بأن كان ثمَّ تاجر مسلم أو مقاتل وجب تعريفه كلقطة دار الإسلام وللغانمين التبسط في الغنيمة بأخذ القوت وما يَصْلُحُ به ولحم وشحم وكل طعام يُعتاد أكله عموماً أي عادة لما روى البخاري عن ابن عمر قال: (كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه). وأخرج أبو داود عن عبدالله بن أبي أوفى قال: (أصبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبير طعاماً فكان كلُّ واحد منّا يأخذ قدر كفايته)0 وروى الشيخان عن عبدالله بن مغفل قال: (أصبتُ جراباً من شحم يوم خيبر فالتزمت فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفتُ فّإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً). فلو لم يجز ذلك لنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
وعلف الدواب تبناً وشعيراً ونحوهما جائز للمجاهد إذا كان مأخوذاً من المشركين في دار الحرب ولا ضمان عليه لأن الحاجة إلى ذلك كحاجته إلى الطعام وذبح مأكول للحمه جائز للمجاهد والصحيح جواز الفاكهة رطبها ويابسها للمجاهدين وكذلك الحلوى من غير ضمان فقد روى البخاري عن ابن عمر أنه قال: (كنا نُصيبُ في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه).
وأنه لا تجب قيمة المذبوح لأجل أكله لأنه طعام وأنه لا يختص الجواز بمحتاج إلى طعام وعلف بل يجوز أخذ ما يحتاج إليه منهما إلى وصول دار الإسلام لأن الرحصة وردت مطلقاً من غير تفصيل.(4/37)
وأنه لا يجوز ذلك لمن لَحِقَ الجيش بعد الحرب والحيازة أي لا يجوز التبسط المذكور بالطعام والعلف لمن لحق بالجيش بعد انقضاء الحرب وبعد حيازة الغنيمة لأنه كالأجنبي معهم وأن من رجع إلى دار الإسلام ومعه بقية لزمه ردها إلى المغنم لزوال الحاجة بعد العودة إلى داره هذا إذا لم تقسم الغنيمة أما إذا قسمتْ الغنيمة فلا يردُّ شيئاً إلى الغانمين إنما يرد إلى الإمام أو يجعله في المصالح وقيل يبيعه ويتصدق بثمنه وقيل يكون له ولا يرده وموضع التبسط دارُهُم أي دار الكفار وهي دار الحرب وكذا ما لم يصل عمران الإسلام في الأصح فإذا وصل دار الإسلام امتنع التبسط ونقصد بدار الإسلام هي الدار التي في قبضة المسلمين ولو لم يكن فيها مسلم.(4/38)
ولغانم رشيد أو محجوراً عليه بفلس الإعراض عن الغنيمة قبل القسمة لأن الغرض الأعظم من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذبُّ عن ملة الإسلام والغنائم تابعة لذلك فمن أعرض عنها فقد جرد قصده للغرض الأعظم ومحَّضَ جهاده للآخرة. والأصح جوازه أي الإعراض عن الغنيمة من رشيد بعد فرز الخمس لأن حقه لم يتميز بعد وما زال على الشيوع وجوازه أي الإعراض لجميعهم أي لجميع الغانمين وبطلانه أي بطلان الإعراض من ذوي القربى وسالبٍ لأنهم ملكوا ذلك قهراً. والمعرض عن الغنيمة حكمه في الغنيمة كمن لم يحضر فيُضمُّ نصيبه إلى المغنم ومن مات ولم يعرض عن الغنيمة فحقه لوارثه فله طلبه ولا تملك الغنيمة إلا بقسمة ولهم أي الغانمين التملك قبل القسمة وقيل يملكون الغنيمة بمجرد الحيازة ويكون التملك بأن يقولَ بعد الحيازة وقبل القسمة اخترتُ ملك نصيبي من الغنيمة وقيل إن سَلِمَتْ الغنيمة إلى القسمة بأن ملكهم لها بالاستيلاء وإلا بأن تلفت أو أعرضوا عنها فلا ملك لهم ويُمْلَك العَقَارُ بالاستيلاء كالمنقول أي يختص به الغانمون بمجرد الاستيلاء كما يختصون بالمنقول. قال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) الأنفال4 ولم يفرق بين المنقول وغير المنقول.(4/39)
ولو كان فيها أي الغنيمة كلبٌ أو كلابٌ تنفع لصيد أو ماشية أو زرع وأرادَهُ بعضهم أي الغانمين ولم ينازع فيه أعطيَهُ لأنه ليس له مالية فلا ضرر على الآخرين في أخذه وإلا أي إذا نوزع قسمت تلك الكلاب إن أمكن التقسيم وإلا أُقْرِعَ بينهم دفعاً للنزاع والصحيح أن سواد العراق وسُمِيَ سواداً لأنهم حين خرجوا من البادية رأوا خضرة فقالوا ما هذا السواد والعرب تطلق السواد على الخضرة فُتِحَ عَنْوَة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنى عنوة أي قهراً وغلبة وقُسِّمَ بين الغانمين ثم بذلوه بعد قسمته واختيار تملكه والبذل إنما يكون ممن يملك وعو الغانمون. فقد أخرج الشافعي في الأم عن جرير بن عبدالله البجلي قال: (كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية فقسم لهم عمر ربع السواد فاستغلوا ثلاث سنين أو أربعاً ثم قدمت على عمر فقال: لولا أني قاسم مسؤول لتركتكم على ما قسم) وروى البيهقي عن عمر أنه قال (لولا أخشى أن يبقى آخر الناس بياناً لا شيء لهم لتركتكم وما قُسِمَ لكم ولكنّي أحب أن يلحق آخرُ الناس أولَهم) وتلا قول الله تعالى (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) الحشر10.
ووُقِفَ على المسلمين لأن عمر خاف تعطيل الجهاد إذا اشتغلوا بزراعته لو تُرِكَ بأيديهم روى أحمد في المسند والبيهقي في السنن وأبو داود عن ابن عمر (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). ولأنه لم يستحسن قَطْعَ مَنْ بعدهم كما مرَّ في خبر البيهقي عن عنر فقد روى يحي بن آدم في كتاب الخراج عن سفيان الثوري أنه قال: (جعل عمر السواد وقفاً على المسلمين ما تناسلوا).(4/40)
وروى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: (لو لا آخر المسلمين ما غَنَمْتُ قريةً إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر).
وخراجه أجرة تؤدى كلَّ سنة لمصالح المسلمين الأهم فالأهم وليس لأهل السواد بيعه ولا رهنه ولا هبته لكونه صار وقفاً ولهم إحارته مدة معلومة لا مؤبدة ولا يجوز لعير ساكنه أن يقول أنا أستثمره وأعطي الخراج لأن أهله ملكوا المنفعة بالإرث بعقد بعض آبائهم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهو أي السواد حدوده من عبادان إلى حديثة الموصل طولاً ومن القادسية إلى حُلْوان عرضاً وعبادان ميناء قرب البصرة وحديثة الموصل غير حديثة بغداد والقادسية قرب الكوفة وهو موضع المعركة المشهورة بين المسلمين والفرس قلت الصحيح أن البَصْرَة وإن كانت داخلة في حد السواد فليس لها حكمه إلا في موضع غربيِّ دجلتها وهو النهر المشهور وفي موضع شرقيها يسمى نهر الصَّراة وما عدا ذلك كان مواتاً أحياه المسلمون بعد ذلك.فقد روى عمر بن شبة في (أخبار البصرة) أن أرض البصرة كات سبخة فأحياها المسلمون وكان ذلك سنة أربع عشرة للهجرة وكان السابق إلى ذلك عتبة بن غزوان.(4/41)
وإن ما في السواد من الدور والمساكن يجوز بيعه والله أعلم لأنه لم يدخل في الوقف وفتحت مكة صلحاً قال تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولََّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً) الفتح22. والذين كفروا هم أهل مكة وقال تعالى: (وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً) الفتح24. وهذا يعني أن مكة فتحت صلحاً فدورها وأرضها المُحْياة مِلكٌ يباع قال الغزالي فدورها وأرضها المحياة ملك يباع إذ لم يزل الناس يتبايعونها. وروى الشيخان عن أسامة بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد يا رسول الله أتنزل غداً بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) والرباع هي العقارات والربع: المنزل.
? فصل في أمان الكفار ?
والأمان ضد الخوف وأرد به هنا ترك القتل والقتال مع الكفار وقد تقتضي المصلحة عقد الأمان ولا يبيح الإسلام للحربي أن يدخل بلادنا من غير أن يكون معه أمان يجعلنا نطمئن إليه وينقسم الأمان إلى عام وهو ما تعلق بأهل إقليم أو بلد وهو للهدنةوهذا يختص بالإمام وولاته وإلى الخاص وهو ما تعلق بآحاد الناس ويصح من الولاة والآحاد والأصل في الأمان قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) التوبة6.(4/42)
وروى الشيخان عن علي أنه قال (ما عندي إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخطر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وروى أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم) يصح أي الأمان من كل مسلم مكلف مختار ولو كان عبداً أو فاسقاً أو محجوراً عليه لسفه أو امرأة أمان حربي واحد وعدد محصور فقط كعشرة ومائة ولا يجوز أمان أسير ولا أمان ناحية وبلدة ويجوز أمان قرية صغيرة بشرط ألا يتعطل الجهاد بأمانهم فقد روى أحمد في المسند عن عبدالله بم مسلمة: أن رجلاً أجار رجلاً من المشركين فقال عمر بن العاص وخالد بن الوليد لا نجيز ذلك فقال أبو عبيدة بن الجراح: ليس لكما ذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجيرُ على المسلمين بعضهم) فأجاروه. وروى الشيخان عن أمِّ هانيء بنت أبي طالب أنها أجارت حَمَوَين لها من المشركين يوم الفتح فأراد عليٌ قتلهما وقال لها: أتجيرين المشركين والله لأقتلنهما فقالت: يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لك ذلك من أجرتِ أجرناه ومن أمنتِ أمناه).(4/43)
ولا يصح أمان أسير لمن هو معهم في الأصح لأنه مقهور في أيديهم لا يعرف وجه المصلحة ويصح الأمان بكل لفظ يضر مقصوده صريح نحو أمنتك أو أجرتك أو أنت في أماني أو كناية نحو أنت على ما تحب أو كن مطمئناً أو كن كيف شئت وبكتابة ورسالة يصح الأمان وكذلك يصح بالإشارة المفهمة ويصح اللفظ بالأعجمية. فقد روى البيهقي عن حديث أبي وائل قال: (جاءنا كتاب عمر وفيه وإذا قال الرجل للرجل: لا تخف فقد آمنه وإذا قال له: مَتَرْسٌ فقد آمنه) ومعنى (مَتَرس) أي لا تخف. وأخرج ابن أبي شيبة عن أسامة بن زيد قال: قال عمر: (أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو إن نزلتَ ما قتلتُك فنزل وهو يرى أنه أمان فقد آمنه). ويشترط علمُ الكافر بالإيمان كسائر العقود فإن رده بطل لأنه إيجابُ حقٍّ لغيره فلم يصح مع الردِّ وكذا إن لم يُقْبل في الأصح كأن سكت ولم يقل شيئاً وقيل لا يبطل بالسكوت حقناً للدماء.
وتكفي إشارة مفهمة للقبول لقول عمر السابق (أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو إن نزلت ما قتلتك فنزل وهو يرى أنه أمان فقد آمنه).
ويجب ألا تزيد مدته على أربعة أشهر فإن زاد بطل في الزائد. قال تعالى: (فسيحوا على الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) التوبة2. وفي قول يجوز الأمان ما لم تبلغ مدته سنة فإن بلغتها امتنع الأمان قطعاً لئلا تترك الجزية ولا يجوز أمان يضر المسلمين كجاسوس وطليعة والطليعة ما يتقدم عل الجيش ليطلع على أحوال عددهم ثم يخبرهم بها، فلا ينعقد الأمان لهما ولا يستحق هؤلاء تبليغ المأمن لأن دخولَ مثلهما خيانة وليس للإمام نبذ الأمان إن لم يخف خيانة لأنه لازم من جهتنا. قال تعالى: (وإما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال59.(4/44)
ولا يدخل في الأمان ماله وأهله بدار الحرب لأن فائدة الأمان منع قتله ورقه وكذا ما معه منهما أي مالُهُ وأهلُهُ في الأصح إلا بشرطٍ في دخولهما الأمان لأن الأمان الأول قاصر عليه والجمهور على أنه يدخل ماله وأهله من غير شرط بالتبعية لأمانه والمسلم بدار الحرب إن أمكنه إظهار دينه استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام لئلا يكثِّر سوادهم أو يميل إليهم إلا إذا رجا بإقامته نشر الإسلام وإسلام غيره وتبليغ دعوة الله وإلا أي إذا لم يستطع إظهار دينه أو خاف فتنة في دينه وجبت عليه الهجرة رجلاً كان أو امرأة وإن لم تجد محرماً. قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض . قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) النساء97.
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) وفي رواية أخرى له (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين). إن أطاقها أي الهجرة فإن لم يقدر عليها فمغدور إلى أن يقدر قال تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) النساء98.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو للضعفاء عن الهجرة أن يعينهم الله عليها ويغفر لهم فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده ثم قال: قبل أن يسجد اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم إجعلها سنين كسني يوسف).(4/45)
ولو قَدَر أسير على هرب لزمه للتخلص من قهر المشركين ولو أطلقوه بلا شرط فله اغتيالهم قتلاً وسلباًو سبياً لأنهم لم يستأمنوه وقتل الغيلة هو أن يخدعه فيأخذه إلى موضع فإذا صار إليه قتله أو أطلقوه على أنهم في أمانه حرم عليه اغتيالهم وفاءً لهم بما التزمه فإن تبعه قوم منهم بعد خروجه فليدفعهم ولو بقتلهم كما يدفع الصائل فيدفعهم بالأخف فالأخف ما لم يحاربوه وإلا انتقض عهدهم وله عندئذ قتلهم مطلقاً أو شرطوا عليه أن لا يخرج من دارهم لم يجز له الوفاء بالشرط بل يخرج إن أمكنه ذلك ولو عاقد الإمام علجاً وهو الكافر الذي له قوة وشدة وشوكة سمي بذلك لأنه يدفع عن نفسه بقوته ومنه سمي العلاج لدفعه الداء يدل على قلعة معينة ليفتحها المسلمون وله منها جارية جاز فهي جعالة بجُعْلٍ مجهول جازت للحاجة ولو قال الإمام ابتداءً إن دللتني على طريق قلعة كذا فلك منها جارية فذلك جائز أيضاً وسواء في ذلك الحرة أم الأمة لأن الحرة ترق بالأسر فإن فُتحت القلعة بدلالته أعطيها لأنه استحقها بالشرط قبل الظفر أو فتحت بغيرها أي بغير دلالته فلا شيء له في الأصح لفقد الشرط وهو دلالته فإن لم تُفْتح القلعة فلا شيء له لأن الاستحقاق مُعلقٌ بشيئين الدلالة والفتح وقيل إن لم يعلق الجُعل وهو الجارية بالفتح فله أجرة مثل لوجود الدلالة فإن لم يكن فيها أي القلعة جاريةٌ أو ماتت قبل الشرط فلا شيء لفقد المشروط عليه أو ماتت بعد الظفر وقبل التسليم إليه وجب بدل لأنها حصلت في بد الإمام فتلفت من ضمانه أو ماتت قبل ظفر فلا شيء له في الأظهر لأن الميتة ومثلها الهاربة غير مقدور عليها. وإن أسلمت قبل الظفر أو بعده فالمذهب وجوب بدل من أصل الغنيمة أو من بيت المال إن لم يوجد البدل في الغنيمة وهو أي البدل أجرة مثلٍ وقيل قيمتها وهو المعتمد والذي عليه الجمهور. أما إذا فُتحت القلعة صلحاً وكانت الجارية خارجة عن الصلح سُلمت للعلج وإن كانت داخلة في الأمان أعلمنا صاحب(4/46)
القلعة بالشرط مع العلج فإن رضي بتسليمها إلى العلج غرمنا قيمتها وأمضينا الصلح وتكون قيمتها من بيت المال وإن لم يرضَ أرضينا العلج بقيمتها أو جارية أخرى فإن لم يرضَ فسخنا الصلح ونبذنا العهد واستأنفنا القتال. وقيل لا يجوز الصلح على الجارية أصلاً لأنها مستحقة للعلج.
? كتاب الجزية ?
وتطلق الجزية على العقد وعلى المال المُلتزم به وهو مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم وقيل مأخوذة من الجزاء بمعنى القضاء. قال تعالى: (وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) البقرة48. والأصل فيها الإجماع قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة29.
والكفار على ثلاثة أضرب: ضرب لهم كتاب وهم اليهود والنصارى فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم وضرب لهم شبهة كتاب وهم المجوس فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم أيضاً وضرب لا كتاب ولا شبهة كتاب وهم عبدة الأوثان فلا يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية.
صورة عقدها أي الجزية أقركم بدار الإسلام أو أذنت في إقامتكم بها على أن تبذلوا جزية وتنقادوا لحكم الإسلام في غير العبادات وشرب الخمر لأنهم لا يعتقدون تحريمها فقد روى مسلم عن بُريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه وقال: (إذا لقيت عدوك فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم فإن أبوا فسلهم الجزية فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)).
والأصح اشتراط ذكر قدرها كالأجرة والثمن لا كَفُّ اللسان منهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه فلا يشترط ذكره في عقد الجزية لأن ذلك يتضمنه شرط الانقياد لحكم الإسلام.(4/47)
ولا يصح العقد مؤقتاً على المذهب لأنه عقد يحقن الدم فلا يجوز مؤقتاً كعقد الإسلام ومن أجازتأقيت عهد الذمة قاسه على الهدنة ويُشتَرَط لفظ قبول من كل واحدٍ منهم ولو بنحو قبلت أو رضيت أو بكتابة كما يجب اتصال القبول بالإيجاب ولو وُجِدَ كافرٌ بدارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى أو دخلتُ رسولاً أو دخلتُ بأمان مسلم صُدِّقَ بلا يمين إلا أن يُتَهم تغليباً لحقن الدم ذلك قبل أسره أما إذا أسر لم يُقْبلْ قوله إلا ببينة وفي دعوى الأمان إذا ادعاها وجه أنه لا يقبل قوله إلا ببينة لسهولة إقامتها ويشترط لعقدها أي الجزية الإمام أو نائبه لأنها من المصالح العظام فاختُصتْ بمن له النظر العام وعليه الإجابة إذا طلبوا عقدها لخبر مسلم عن بُريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ن أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه وقال: (إذا لقيت عدوك فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم فإن أبوا فسلهم الجزية فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) إلا جاسوساً نخافه فلا يجاب إذا طلب الجزية.(4/48)
ولا تعقد الجزية إلا لليهود والنصارى والمجوس وأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ لدينه أو تعقد أيضاً لمن شككنا في وقته أي التهود أو التنصر فلم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو بعده تغليباً لحقن الدماء كالمجوس. قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذيت أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). فأمر الله نبيه وأصحاب نبيه أن يقاتلوا أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أنزل عليهم الكتاب إنما أدرك نسلهم ولم يفرِّقْ الرسول صلى الله عليه وسلم بين حرمتهم وحرمة آبائهم فأمرهم ببذل الجزية. فأما من دخل في دين أهل الكتاب ولم يكن منهم عبدة الأوثان من العرب فَيُنْظرُ فيه فإن لم يعلم أدخلوا قبل النسخ أو بعده أخذت منهم الجزية وبذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب ومنهم: بهراء وتنوخ وبنو تغلب والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من المجوس ما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن مالك عن ابن شهاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر في البحرين). وهجر إقليم بين البصرة وعمان وروى البخاري وغيره عن ابن عمر (أن عمر توقف في أخذ الجزية من مجوس هجر فقال له عبدالرحمن بن عوف شهدتُ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: (سُنُّوا بهم سُنة أهل الكتاب)).
وكذا يُقَرُّ بالجزية كل زاعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم لأن الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم صحفاً قال تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) الأعلى18-19. وقال تعالى: (وآتينا داود زبوراً) النساء163. ومن أحد أبويه كتابي والآخر وثني تعقد له الجزية على المذهب وإن كان الكتابي أُمُّهُ تغليباً لحقن الدماء وتحرم مناكحته وذبيحته إحتياطاً.(4/49)
ولا جزية على امرأة فقد روى الترمذي وأبو داود عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: (خذ من كل حالم ديناراً) والحالم هو المحتلم أي الذكر البالغ.
وروى البيهقي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه ( ان عمر كتب إلى أمراء الاجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى فكان لا يضرب على النساء والصبيان ) . وقوله على من جرت عليه الموسى هو البالغ من الذكور وخنثىَ لا جزية عليه لاحتمال كونه أنثى ولا من فيه رق لأن المكاتب عبد ولو بقي عليه درهم والعبد مال والمال لا جزية فيه و صبيٍ أي لا جزية على الصبي . قال تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ) التوبة 29 فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية والصبي لا يقاتل وخبر البيهقي عن عمر ( أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان). ومجنون لا جزية عليه لأنه لا يقاتل ولا يدين ولا يضمن ولا يصح ضمانه والمجنون لا رضى له. فإن تقطع جنونه فليلاً كساعة من شهر لزمته الجزية أو كثيراً كيوم ويوم فالأصح تلفق الإقاقة أي يحمع زمن الإفاقة فإن بلعت سنة وجبت الجزية وقيل لا جزية عليه إلحاقا له بالمجنون كما ألحقنا المكاتبة بالعبد القنيَ ولو بلغ إبن ذمي ولم يبذل حزية أُلحق بمأمنه فيقال له : لا نقرك بدار الإسلام إلا بجزية فإن امتنع أُلحق بمأمنه ولا يغتال لأنه كان في أمان أبيه أو سيده تِبعاً وإن بذلها عقد له عقد حزية لاستقلاله حينئذٍ وقيل عليه كخزية أبيه ويُكتفى بعقد أبيه ولا يعقد له عقدٌ جديد والمذهب وجوبها على زَمن وشيخٍ هرمٍ وأعمى فهؤلاء بهم داء يمنعهم عن القتال وأحير وفقير عجز عن كسبٍ لأنها كأجرة الدار ولعموم قوله تعالى ( حتى يعطوا الحزية عن يدٍ وهم صاغرون) التوبة 29 ولأن هؤلاء كالأغنياء في حقن دمائهم والسكنى في دار الإسلام فإن تمت سنةٌ وهو معسرٌ ففي ذمته حتى يوسر ولو لأعوام ويطالب بها إذا أيسر . ويمنع(4/50)
كل كافر من استيطان الحجاز سواءٌ بجزية أو بغيرها وهو أي الحجاز مكة والمدينة واليمامة وقراها كالطائف لمكة وخيبر للمدينة ومثلها جدة ووجٌٌ وينبع وغير ذلك من مدن الحجاز وقيل له أي للكافر الإقامة في طرقه الممتدة لأنها ليست موضع ٌامة للناس عادةً ولو دخله بغير إذا الإمام أي لو دخل الكافر الحجاز بغير إذن الإمام أخرجه وعزّره إن علم أنه ممنوع دخوله فإن استأذن أُذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما نحتاجُ إليه من طعامٍ ومتاعٍ وكإرادة عقد جزية أو هدنة فيها مصلحةٌ للمسلمين أما مع عدم المصلحة فيحْرُمُ الإذن فقد روى الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأخرجنَّ اليهود من جزيرة العرب)). وروى الإمام مالك عن ابن شهاب مرسلاً (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) فإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كبير حاجة كمواد الزينة ومواد الترفُّه لن يأذن له الإمام إلا بشرط أخذ شيءٍ منها وهذا الشيء موكل إلى رأي الإمام اقتداءً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر (أن عمر بن الخطاب أمر أن يؤخذ من أنباط الشام من حَمْلِ القِطْنِيّة من الحبوب العُشر ومن حَمْل الزيت والقمح نصف العُشر). والقطنية: ما يدخر من الحبوب ويطبخ مثل العدس ولا يقيم إلا ثلاثة أيام ويُشرَطُ ذلك عليه عند الدخول ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج فقد أخرج البيهقي في السنن عن أسلم مولى عمر بن الخطاب (أنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز وأذِنَ لمن دخل منهم تاجراً أن يقيم ثلاثاً) ويُمْنَعُ دُخولَ حرمِ مكةَ مطلقاً. قال تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله) التوبة28. وإنما خافوا العَيلة أي الفقر بانقطاع المشركين عن التجارة في الحرم لا عن المسجد نفسه فقد أخرج البخاري عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(4/51)
(لا يحجنَّ مشركٌ بعد عامي هذا).
فإن كان الكافر رسولاً إلى من بالحرم من الإمام ونائبه خرج إليه الإمام ونائبه ليسمعه ويخبر الإمام فإن قال لأؤديها إلا مشافهة تعين خروج الإمام إليه لذلك وإن مرض الكافر فيه أي في حرم مكة نقل منه فإن مات فيه لم يدفن فيه فإن دفن فيه نبش وأخرج منه وإن مرض في غيره أي في غير حرم مكة من الحجاز وعظمت المشقة في نقله أو خِيفَ زيادة المرض تُرِكَ تقديماً لأعظم الضررين وإلا أي وإن لم تعظم المشقة فيه نقل مراعاة لحرمة الدار، فإن مات وتعذّرَ نقله دفن هناك للضرورة فإن لم يتعذر نُقِلَ فإن دُفِنَ ترك.
? فصل في مقدار مال الجزية ?
أقل الجزية دينار لكل سنة عن كل واحدٍ غنياً كان أو فقيراً لما روى الترمذي وغيره عن معاذ (أنه صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر) والمعافر هي ثياب تكون باليمن. ويستحب للإمام محاكمةٌ أي المطالبة بالزيادة على الدينار حتى يأخذ من متوسط دينارين وغنيٍ أربعةً فقد روى مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب (أنه صالح أهل الشام على أن يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهماً ومن المتوسط أربعة وعشرين درهماً وممن دونه ديناراًُ) أي ما يعادل أثني عشر درهماً ولو عقدت ذمة للكفار بأكثر من دينار ثم علموا بعد العقد جواز دينار لزمهم ما التزموا فإن أبوا بذل الزيادة على الدينار فالأصح أنهم ناقضون للعهد فيبلغون المأمن. ولو أسلم ذميٌّ أو مات بعد سنين أخذت جزيتهن أي جزية السنين التي مضت قبل إسلامه أو موته من تركته مقدمة على الوصايا والإرث كسائر الديون ويسوّى بينها أي الجزية وبين دين آدمي على المذهب لأنها أجرة فإن لم تفِ التركة بجميع الديون ضاربهم الإمام بقسط الجزية.(4/52)
أو أسلم أو مات في خلال سنة فقسط أي فيجب عليه من الجزية بقدر ما مضى من الحول كما لو استأجر داراً ليسكنها سنة فسكنها بعض السنة وفُسخت الإجارة وفي قول لا شيء عليه إذا لم يتمَّ سنة بعقد الذمة لأنه حق يُعْتَبر في وجوبه الحَولُ فلم يتعلق حكمه ببعض الحول كالزكاة. وتؤخذ الجزية بإهانة فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطيء رأسه ويحني ظهره ويضعها أي الجزية في الميزان ويقبض الآخذ منه الجزية لحيته ويضرب لهزميته وهما مجتمع اللحم بين الحنك والأذن من الجانبين وكله مستحب وقيل واجب وهو معنى الصغار في قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة29.
وروى الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه).
وأخرج البيهقي من طريق عبدالرحمن بن غنم عن عمر بن الخطاب أن عمر حين صالح أهل الشام كتب كتاباً وفيه (فشرَطنا أن لا نتشبه بهم في لباسهم - أي بالمسلمين- في شء من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين وأن نشدَّ الزنانير في أوساطنا وأن نَجزَّ مقاديم رؤوسنا ولا نتشبه بهم في مراكبهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله). فعلى الأول أي الاستحباب له توكيل مسلم بالأداء للجزية عنه وحوالة بها عليه وأن يضمنها المسلم عن الذمي وعلى القول بالوجوب يمتنع كلُّ ذلك لقوات الإهانة الواجبة التي تشعره بالذلة والصغار.
قلت هذه الهيئة باطلة ودعوى استحبابها أشدُّ خطأ والله أعلم. قال النووي في الروضة في الهيئة المذكورة لا نعلم لها على هذا الوجه أصلاً معتمداً وقال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها مع أخذهم الجزية.(4/53)
ويستحب للإمام إذا أمكنه أن يشرط عليهم إذا صُولِحوا في بلدهم ضيافة من يمرُّ بهم من المسلمين زائداً على أقل الجزية لما أخرج الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً والبيهقي في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلاث مئة دينار وكانوا ثلاث مئة رجل وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين) وأما قوله زائداً على أقل الجزية لأن الجزية مبنية على التملك والضيافة على الإباحة فلم يجز الاكتفاء بالضيافة. وقيل يجوز أن تكون الضيافة منها أي الجزية لأنه ليس عليهم إلا الجزية وتجعل الضيافة على غني ومتوسط لا فقير في الأصح فقد أخرج مالك عن أسلم (أن عمر رضي الله عنه وضع الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الوَرِق ثمانية وأربعين درهماً وضيافة ثلاثة أيام لكل من مرَّ بهم من المسلمين). ولا تكون الضيافة على الفقير لأنها قد تتكرر فيعجز عنها ويذكر العاقد وجوباً عدد الضيفان رجالاً وفرساناً وجنس الطعام والأُدم وقدرهما ولكل واحد من الضيفان كذا من الطعام والأُدم وعَلَفَ الدواب ومنزل الضيفان من كنيسة وفاضل مسكن يذكرها العاقد أيضاً ومُقَامَهُمْ أي ويذكر العاقد مدة إقامتهم ولا يجاوز ثلاثة أيام لأن غاية الضيافة ثلاثة أيام والأصل في ذلك ما رواه البيهقي من طريق الشافعي عن أبي الحويرث مرسلاً (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل على ضيافة من يمر بهم من المسلمين). وروى الشيخان من حديث أبي شريح (الضافة ثلاثة أيام) والطعام والأُدم كالخبز والسمن والخبز واللحم وأما العلف فكالتبن والحشيش. والمنزل بحيث يدفع الحرَّ والبرد ولا يخرجون أهل المنازل من منازلهم فإن ذلك يَحْرُمُ.(4/54)
ولو قال قوم نؤدي الجزية باسم صدقة فللإمام إجابتهم إذا رأى ذلك فتسقط عنهم الإهانة ويمتنع فعلها من المسلمين ويضعف عليهم الزكاة لما روى ابن أبي شيبة بسنده عن عمر بن الخطاب (أنه صالح نصارى بني تغلب علىأن يضعِّف عليهم الزكاة مرتين وعلى ألا ينصروا صغيراً وعلى ألا يكرهوا على دين غيرهم). وذكر الشافعي عن عمر (أنه طلب الجزية من نصارى العرب: تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يؤخذ بعضكم من بعض - يعنون الزكاة - فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين، فقالوا: زدنا ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة، وقال: هؤلاء حمقى رضوا بالاسم وأبوا المعنى).
فمن خمسة أبعرة تؤخذ شاتان ومن خمسة وعشرين بعيراً تؤخذ بنتا مخاض ومن أربعين من الغنم تؤخذ شاتان ومن ثلاثين من البقر تبيعان وعشرين ديناراً يؤخذ منها دينار ومائتي درهم يؤخذ منها عشرة من الدراهم وخُمُسُ المعشرات فيما سقى من غير مؤنة والعشر فيما سُُقِيَ بمؤنة ولو وجب بنتا مخاض مع جبران بدلاً من بنتي لبون عند فقدهما لم يضعف الجبران في الأصح لأنه يؤخذ منّا ومنهم فلو ملك ستاً وثلاثين بعيراً ليس فيها بنتا لبون أخذنا منه بنتي مخاض ومع كل واحدة شاتين أو عشرين درهماً أو أعطى حقتين لنا فيأخذ منّا لكل واحدة شاتين أو عشرين درهماًً. ولو كان ملك الكافر بعض نصاب لم يجب قسطه في الأظهر إذ لا يجب فيه شيء على المسلم وقيل يجب قسطه رعاية للتضعيف ثم المأخوذ جزية تصرف مصرف الفيء وإن بُدِّل اسمها كما أفهمه قول عمر السابق. فلا تؤخذ من مال مَنْ لا جزية عليه كصبي ومجنون وامرأة وخنثى وتؤخذ من فقير.
? فصل في أحكام عقد الجزية ?(4/55)
يلزمنا بعقد الذمة الكفُّ عنهم فلا تتعرض لهم نفساً ومالاً وضمان ما تتلفه عليهم نفساً ومالاً فيضمنه من أتلفه عليهم من المسلمين كما لو أتلف مال مسلم ونفسه ودفعُ أهل الحرب عنهم سواء كانوا بدار الإسلام أو منفردين ببلد وسواءٌ شرطوا المنع في العقد أو أطلقوه ودفع أهل الحرب عنهم إن كانوا بدار الإسلام لأنه لابد من الدفع عن دار الإسلام ومنع الكفار من طروقها فإن كانوا بدار الحرب لم يلزمنا الدفع عنهم إلا إذا شرطوه علينا وإن أخذ أهل الحرب منهم مالاً وظفر به الإمام رده إليهم فإن قتلوا منهم أو أتلفوا عليهم مالاً لم يجب عليهم ضمان ذلك لأن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام وقيل إن انفردوا ببلد لم يلزمنا الدفع عنهم إن لم يكن معهم مسلم ولو أسير فإن كان معهم مسلم وجب الدفع عنهم لأجله.
ونمنعهم إحداث كنيسة في بلد أحدثناه كبغداد والكوفة والبصرة فقد روى البيهقي عن ابن عباس قال: (كلُّ مصر مصَّره المسلمون لا يبنى فيه بيعة ولا كنيسة ولا يضرب فيه ناقوس ولا يباع فيه لحم خنزير). وروى ابن عدي عن عمر مرفوعاً (لا يُبْنَى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها) وروى البيهقي من طريق حرام بن معاوية قال: (كتب إلينا عمر أن أدبوا الخيل ولا يُرْفَعنَّ بين ظهرانيكم الصليب ولا يجاورنَّكم الخنازير). و لأن إحداث ذلك معصية فلا يجوز في دار الإسلام.
أو أسلم أهله عليه من غير قتال ولا صلح كاليمن فإن حكمها حكم البلد الذي بناه المسلمون لما روى ابن عدي عن عمر (لا يُبْنَى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها).(4/56)
وما فتح عنوة كمصر وأصبهان وبلاد المغرب لا يحدثونها فيه ولا يقرون على كنيسة كانت فيه في الأصح فإن عقد الإمام الذمة لقوم وشرط لهم أن يبنوا فيها البيع والكنائس ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب كان العقد فاسداً. وقيل إن كان فيها بيع وكنائس لم يهدمها المسلمون حين ملكوها فإذا أراد الإمام أن يقرَّهم عليها، أما المنهدمة أو التي هدمها المسلمون فلا يقرون عليها قطعاً لأن المسلمين حين ملكوا البلاد كانت تلك البيع والكنائس في ملك الغانمين فلا يجوز إقرارها في ملك الكفار أو فتحت البلد صلحاً بشرط الأرض لنا وشَرْطِ إسكانهم بخراج وإبقاء الكنائس والبيع جاز وإن ذكروا إحداثها جاز أيضاً، وإن أطلق أي لم يَشْرطْ إبقاءها فالأصح المنع من إبقائها أو فتحت صلحاً بشرط الأرض لهم قررت كنائسهم ولهم الإحداث أي إحداث البيع والكنائس في الأصح لأن الملك والدار لهم على أن يؤدوا إلينا الجزية ولهم أن يظهروا فيها الخمر والحنزير والصليب لأن هذه الدار دارُ شرك فلهم أن يفعلوا فيها ما شاؤوا. ويمنعون وجوباً وقيل ندباً من رفع بناء على بناء جار مسلم وإن رضي المسلم بذلك لأن ذلك لحق الإسلام وإن رفعه هُدِم وإن حكم حاكم مسلم بذلك ويسقط الهدم بإسلامه فقط.
فقد روى الدار قطني من حديث عائذ المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) وعلقه البخاري ورواه الطبراني في الصغير من حديث عمر بن الخطاب. والأصح المنع من المساواة أيضاً بين بناء المسلم والذمي لقوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) آل عمران112.(4/57)
فينبغي استحقارهم في جميع الأشياء لأن القصد تمييزهم عن المسلمين في المساكن والمراكب والملابس وأنهم لو كانوا بمحلة منفصلة لم يمنعوا وهو الأصح لأن المنع لأجل المطاولة والاطلاع على عورة المسلمين وهذا منتفٍ بوجودهم بمحلة منفصلة ويمنع الذمي من ركوب خيل لما في ذلك من العزِّ والتحمل لا حمير وبغال نفيسة. قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال60. وروى الشيخان عم عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). ويَرْكَبُ أي ويؤمر الذمي أن يركب بإكاف أي برذعة وركاب خشب لا حديد ولا سرج لخبر البيهقي عن عبدالرحمن بن غنم في كتاب عمر لنصارى الشام (ولا نتشيه بهم في مراكبهم ولانركب السروج ولانتقلد السيوف). وَيُلْجَأُ إلى أضيق الطريق لخبر مسلم عن أبي هريرة (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه). ولا يوقرون ولا يصدرون في مجلس لعموم قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) البقرة61.
ويؤمر أي الذمي والذمية المكلفان وجوباً بالغيار وهو أن يخيط كل منهما بموضع لا يعتاد الخياطة عليه كالكتف على ثوبه الظاهر ما يخالف لونه لون ثوبه ويلبسه لخبر البيهقي عن عبدالرحمن بن غنم (وأن نشدَّ الزنانير في أوساطنا) وروى البيهقي عن عمر أنه أمرهم حين صالحهم على تغيير زيهم وكان ذلك بمحضر من الصحابة وهذا مطلوب في كل مجتمع يكثر فيه النصارى واليهود أما إذا كانوا قلة معروفين فلا يؤمرون بذلك لأمن التباسهم بالمسلمين.(4/58)
وإذا دخل حماماً فيه مسلمون متجرداً أو تجرد من ثيابه في غير حمام بين المسلمين جُعِلَ في عنقه خاتم حديد أو رصاص ونحوه كخاتم نحاس ليتميز وتمنع الذمية من حمام به مسلمة لأنهن أجنبيات في الدين ويمنع الذمي من إسماعه المسلمين قولاً شركاً كقولهم الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم وقولَهُمْ في عزير والمسيح فيمنعون من قولهم القبيح فيهما بأنهما ابنان لله (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم) التوبة30. ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس وعيد فيمنعون من ذلك وكذا يمنعون من إظهار قراءة توراة وإنجيل لما في ذلك من مفاسد وإظهار شعار الكفر في بلاد الإسلام فتراق الخمر إن ظهرت ويتلف الناقوس إن أظهروه ولا يقام عليهم الحدَُ فيما يعتقدون حله كشر بالخمر ولا يمنعون إظهاره فيا بينهم وكذا إذا انفردوا بقرية لهم.(4/59)
ولو شرطت هذه الأمور عليهم أي شرط نفيها فخالفوا وذلك بأن أظهروها لم ينتقض العهد لأنهم يتدينون بها والشرط إنما وضع لإرهابهم وتخويفهم ولو قاتلونا أو امتنعوا من دفع الجزية أو من إجراء حكم الإسلام عليهم انتقض عهدهم لمخالفتهم موضوع العقد ومقتضاه ولو زنى ذميٌّ بمسلمة أو أصابها بنكاح أي لفظ نكاح أو زواج أو دلَّ أهل الحرب على عورة المسلمين أو فَتَنَ مسلماً عن دينه ودعاه إلى دينهم أو طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فالأصح أنه إذا شرط الإمام عليهم انتقاض العهد بها انتقض لمخالفته الشرط وإلا إن وإن لم يشرط انتقاض العهد فلا ينتقض. فقد أخرج البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن غفلة قال: كنا عن عمر وهو أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطي مشجَّج مستعدي فغضب وقال لصهيب: أنظر صاحب هذا فذكر القصة فجاء به وهو عوف بن مالك فقال: رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تُصرع ثم دفعها فخرَّت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى، قال: فقال عمر: والله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصُلب ثم قال: أيها الناس فُوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له. وروى عبدالرزاق من طريق ابن جريح قال: أخبرتُ أن أبا عبيد بن الجراح وأبا هريرة قتلا كتابيين أرادا امرأة علة نفسها مسلمة.(4/60)
ومن انتقض عهده بقتال جاز دفعه بغير قتال و جاز أيضاً قتله قال تعالى: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم)البقرة191. أو انتقض عهده بغيره أي بغير القتال ولم يطلب تجديد العقد لم يجب ابلاغه مأمنه في الأظهر والمراد بالمأمن هي أقرب بلاد الحرب من بلاد الإسلام بل يختار الإمام فيه قتلاً ورقاً ومنّاً وفداءً لأنه كافر لا أمان له كالحربي فإن أسلم قبل الاختيار من الإمام امتنع الرقُّ فيه لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر وإذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان في الأصح لأنهم قد ثبت لهم الأمان ولم يوجد منهم ناقض له وإن اختار ذميٌَ نبذ العهد واللحوق بدار الحرب بُلِّغ المأمن وهو أقرب بلاد الكفار من دارنا مما يأمن فيه على نفسه وماله لأنه لم يظهر منه خيانة.
? باب الهدنة ?
الهدنة من الهدون وهو السكون لأنها بها تسكن الفتنة وتسمى الموادعة والمعاهدة والمسالمة والمهادنة والهدنة شرعاً مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض وغيره والأصل فيه قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرص أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين . وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) التوبة1-4.
وروى الشيخان عن أبي سفيان (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمر على ترك القتال) وفي رواية البيهقي عشر سنين، رواه البيهقي عن المسور بن مخرمة.(4/61)
عقدها لكفار إقليم يختص بالإمام أو نائبه فيها وقوله إقليم أي منطقة معينة أو دولة معينة أو أمة معينة وأما ترك الأمر في الهدنة للإمام أو لنائبه لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بها مصلحة المسلمين فلا يجوز لآحاد الرعية عقدها ولبلدة معينة يجوز لوالي الإقليم التي بجواره تلك البلدة أو كانت تلك البلدة من الإقليم عقدها أيضاً لأنها من توابع إقليمه وأن المفسدة في ذلك قليلة ولو أخطأ الوالي.
وإنما تعقد الهدنة لمصلحة فإن كان الإمام غالياُ لعدو وظاهراً عليه ولم يرَ مصلحة في عقد الهدنة لم يجز له ذلك قال تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) محمد35.
وقال تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) التوبة41، وقال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) التوبة29.
فإن لم يكن مصلحة جازت الهدنة أربعة أشهر لا سنة وكذا دونها أي دون أربعة أشهر في الأظهر وذلك إذا رأى الإمام مع ظهوره على عدوه أنهم في الهدنة ممكن أن يُسْلِمُوا أو يبذلوا الجزية أو يعينوه على قتال عدو آخر له جاز له أن يعقد الهدنة أربعة أشهر فما دونها. قال تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) التوبة2. وروى البيهقي من طريق ابن شهاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة هرب منه صفوان بن أمية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (سِحْ في الأرض أربع أشهر)).(4/62)
ولضعف في المسلمين تجوز الهدنة عشر سنين فقط والضعف إما لقلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم أو لقلة ما في أيدي المسلمين من المال والمتاع الذي تحتاج إليه الحرب. فقد روى البخاري عن المسور بن مخرمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين) وما زاد على الجائز بأن زاد في حال قوتنا على أربعة أشهر وفي حال ضعفنا على عشر سنين فقولا تفريق الصفقة لأنه جمع في العقد الواحد بين ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز فقيل يبطل في الزائد فقط. وإطلاق العهد يفسده أي إخلاء العقد من المدة يفسد وكذا يفسده شرط فاسد على الصحيح بأن شرط منع فك أسرانا منهم أو ترك مالنا أي مال المسلمين في أيديهم لهم وذلك عند استيلائهم عليه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه أو لتعقد لهم ذمة بدون دينار أو بدفع مال إليهم لأن كل ذلك منافٍ لعزة الإسلام. قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلُون ويُقتَلُون وعداً عليه حقاً في التوارة والإنجيل والقرآن) التوبة11. قال الشافعي (فأخبر الله تعالى: أن المؤمنين إذا قُتِلوا أو قتلوا استحقوا الجنة فاستوى الحالتان في الثواب فلم يجز دفع العوض لدفع الثواب ولأن في ذلك إلحاق صغار بالمسلمين فلم يَجز من غير ضرورة).(4/63)
فإن كان هناك ضرورة بأن أخذ المشركون أسرى يعذبونهم أو لإحاطتهم بنا وخفنا من لك الاسئصال لنا وجب بذل المال ولكن لا يملكونه لفساد العقد حينذ. فقد روى الطبراني والبزار من طريق عثمان بن عثمان الغطفاني عن أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تألب العرب واجتماع الأحزاب قال للأنصار: إن العرب قد رمتكم على قوس واحدة فهل ترون أن ندفع إليهم شيئاً من ثمار المدينة، قالوا: يا رسول الله إن قلت عن وحي فسمع وطاعة وإن قلت عن رأي فرأيك متبع، كنّا لا ندفع إليهم ثمرة إلا بشرى أو قرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم).(4/64)
وتَصِحُ الهدنة على أن ينقضها الإمام متى شاء فقام هذا القيد مقام تعين المدة في الصحة. فقد روى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر (أقركم ما أقركم الله تعالى)) قال الشافعي رحمه الله: ولو قال الإمام الآن هذه اللفظة لم يجز لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره. ومتى صحت الهدنة وجب علينا الكف ودفع الأذى من مسلم أو ذمي عنهم وفاء بالعهد. قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء 34. حتى تنقضي مدتها أو ينقضوها بتصريح منهم أو قتالنا أو مكاتبة أهل الحرب بعورة لنا. قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة7. فدلَّ هذا على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم. ولقد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة فأعان بعضهم أهل مكة على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وسكت الآخرون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً للهدنة في حق جميعهم فقد روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عمر (أن يهوج بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بني النضير وأقرَّ قريظة ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسّمَ نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين). أو قتلُ مسلم عمداً أو فعل شيء ينقض عقد الذمة مثل إيواء جواسيس الكفار أو سبِّ الله أو سبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا انتقضت الهدنة جازت الإغارة عليهم وبياتهم قال تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) التوبة12. هذا إذا كانوا في بلادهم أما إذا كانوا في بلادنا فلا نقاتلهم حتى نبلغهم المأمن وهو المكان الذي يأمنون فيه منّا ومن أهل عهدنا.(4/65)
ولو نقض بعضهم عقد الهدنة ولم ينكر الباقون بقول ولا فعل انتقض فيهم عقد الهدنة أيضاً وذلك بأن ساكنوهم وآكلوهم لإشعار ذلك بالرضا وإن أنكروا باعتزال أو إعلام الإمام ببقائهم على العهد فلا ينتقض العهد في حقهم ولو كان الناقض رئيساً فيهم قال تعالى: (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) آل عمران165. ولو خاف الإمام خيانتهم بظهور أمارات الخيانة فله نبذ عهدهم إليهم ويبلغهم المأمن وهي الدار التي يأمنون فيها من المسلمين وأهل عهدهم ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة أي بمجرد التهمة ولا يجوز في عقد الهدنة شرطُ ردِّ مسلمة تأتينا منهم فإن شُرِطَ فسدَ الشرط وكذا العقد في الأصح فقد روى البخاري عنالمسور بن مخرمة ومروان بن الحكم (أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح في الحديبية ثم جاءته بعد ذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة فجاء أخواها يطلبانها فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها عليهما فمنعه الله من ردها بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتومهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حل لهم ولا هم يحلون لهن)) الممتحنة10. وإذا شرط الإمام أو نائبه ردَّ من جاء مسلماً أو لم يذكر رداً ولا عدمه بل أطلق فجاءت امرأة مسلمة لم يجب دفع مهر إلى زوجها في الأظهر لارتفاع نكاحها بإسلامها مثل دخول الزوج بها أو بعد الدخول والثاني يجب دفع المهر إلى زوجها إذا طلبه ويدفع من سهم المصالح قال تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا) الممتحنة10، والأمر يحتمل الوجوب والندب وصرفه عن الوجوب أن الأصل براءة الذمة وأما رده صلى الله عليه وسلم المهر فلأنه كان قد شرط لهم ردَّ من جاءتنا مسلمة فلما امتنع ذلك بحكم الله بقول تعالى: (فلا ترجعوهن إلى الكفار) الممتحنة10، فنغرم حينئذ لامتناع ردها بعد شرطه. ولا يرد صبي ولا مجنون وكذا لا يُردُّ عبد وصف(4/66)
الإسلام وحرٌّ لا عشيرة له كذلك لا يُردُّ إلى المشركين على المذهب لضعفهم وإمكان فتنتهم عن دينهم ويردُّ من له عشيرة طلبته إليها لا إلى غيرها فلا يردُّ إلى غير عشيرته إن طلبته إلا أن يقدر المطلوب على قهر الطالب والهرب منه فيردُّ إليه فقد روى البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم (أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ أبا جندل وهو يرفس في قيوده إلى أبيه سهيل بن عمر وأبا بصير وقد جاء في طلبه رجلان فقتل أحدهما وأفلت من الآخر) ومعنى يرفس في قيوده أي يمشي وهو مقيد ومعنى الردّ أن يُخلَّى بينه أي المطلوب وبين طالبه عملاً بالشرط ولا يجبر المطلوب عبى الرجوع مع طالبه لحرمة إجبار المسلم على إقامته بدار الحرب ولا يلزمه الرجوع إلى طالبه لأن العهد لم يَجْرِ مع المطلوب بل عليه الهرب إن قدر على ذلك وله قتل الطالب ولنا التعريض له به أي للمطلوب لا التصريح لأنهم في أمان عندنا فقد روى الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في سننه من طريق عروة عن المسور بن مخرمة في حديثه الطويل في صلح الحديبية (قال: فوثب عمر فقال: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم كدم كلب).
ولو شَرَطَ الإمام عليهم في الهدنة أن يردوا من جاءهم مرتداً منّاً رجلاً أو امرأة لزمهم الوفاء عملاً بالشرط فإذا أبوا فقد نقضوا العهد والأظهر جواز الشرط أن لا يردوا من جاءهم مرتداً منّاًً فقد روى مسلم عن أنس بن مالك (أن قريشاً صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من جاء منكم لم نرده عليكم) وروى أحمد ومسلم عن أمس بن مالك في صلح الحديبية (من جاءنا منكم مسلماً رددناه ومن جاءكم منّا فسحقاً سحقاً).
? كتاب الصيد والذبائح ?(4/67)
الصيد مصدره صاد يصيد صيداً ثم أطلق الصيد على المصيد والأصل في الباب قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) المائد2، وقوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) المائدة3. وروى الشيخان عن عدي بن حاتم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل).
ذكاة الحيوان المذبوح المأكول بذبحه في حلق وهو أعلى العنق وأسفل مجامع اللحيين أو لبة واللبّةُ أسفل العنق إن قدر عليه وقت إرادة الذبح وإصابة آلة الذبح للحيوان. وإلا أي وإن لم يقدر عليه فبعقر مزهق حيث كان أي في أي موضع كان العقر المزهق للروح إلا الجنين فإن ذكاته بذكاة أمه وشرط ذابح لتحل ذبيحته وصائد حل مناكحته أي نكاح المسلم من أهل ملته قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) المائدة5. وأراد بالطعام الذبائح قال الشافعي رحمه الله (وأحبَُ أن يكون من يلي الذبح رجلاً مسلماً بالغاً فقيهاً لأنه أعرف بمحل الذكاة وبما يذكِّي به وبكيفية الذكاة)، وتحل ذكاة أمة كتابية لعموم قوله تعالى : (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) المائدة5، رغم أنها لا يحل لمسلم نكاحها. قال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) النساء25.(4/68)
ولو شارك مجوسيٌ مسلماً في ذبح أو اصطياد حَرُمَ الصيد والذبح تغليباً للتحريم ولو أرسلا كلبين فإن سبق آلة المسلم فقتل الصيد أو أنهاه إلى حركة مذبوح حلَّ لأنه صيد مسلم ولو انعكس فسبق آلة المجوسي فقتل أو أنهاه إلى حركة مذبوح أو جرحاه معاً وحصل الهلاك بهما أو جُهِلَ أسبقهما أو مرتباً ولم يذفف أحدهما والتذفيف هو القتل سريعاً أي ولم يقتل أحدهما سريعاً فهلك الصيد بهما حَرُم تغليباً للحرام ويحل ذبح صبي مميز وكذا غير مميز ومجنون وسكران في الأظهر أما الصبي المميز فقصده صحيح حيث تصح العبادة منه وأما غير المميز والسكران فتكره ذكاتهما لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة ولكن إذا ذبحا حلت ذبيحتهما لأن لهما نوع تمييز وأما ذبيحة المرأة فتأكل سواءً حائضاً أو طاهراً حاملاً أو حائلاً لما روى البخاري عن ابن عمر (أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنماً لهم فرأت شاة موتى فأخذت حجراً فكسرته وذبحتها به فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تؤكل) قوله موتى أي يخاف عليها من الموت.
وتكره ذكاة أعمى لأنه لا يؤمن أن يخطأ المذبح فإن ذبح جاز أكل ذبيحته ويحرم صيده أي الأعمى برميٍ وكلبٍ في الأصح لأنه لا يرى الصيد فلم يصح قصده وصار كجارحة استرسلت بنفسها فلا يحل صيدها.(4/69)
وتحل ميتة السمك والجراد إجماعاً ولو صادهما مجوسي قال تعالى: (أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) المائدة96، وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال: (صيده ما صدناه بأيدينا وطعامه ما مات فيه). وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال). وفيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه الحسن البصري أنه قال: (رأيت سبعين رجلاً من الصحابة كلُّهم يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك). قال الشافعي: (وسواءٌ أخذ السمك مجوسيٌ أو وثني) أي فهو حلال لأنه لا ذكاة له.
وكذا يحل أكل الدود المتولد من طعام كخل وفاكهة إذا أُكِلَ معه في الأصح لعسر تمييزه بخلاف أكله منفرداً فيحرم ولا يَقْطَعُ بعض سمكة حية فذلك مكروه ولا يحرم لأن عيشه عيش مذبوح فإن فعل أي قطع بعض سمكة أو بلع سمكة حية حلَّ ذلك لأن ما حلت ميتته فلا حاجة لذبحه وإذا رمي صيداً متوحشاً أو بعيراً ندَّ أي ذهب شارداً على وجهه أو شاة شردت بسهم أو أرسل عليه جارحة فأصاب شيئاً من بدنه ومات في الحال حلََّ لخبر الشيخين عن رافع بن خديج (أن بعيراً ندَّ فرماه رجل فحبسه أي قتله فقال صلى الله عليه وسلم :(إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا)). وقيس عل البعير غيره وقوله أوابد يعني توحشاً ونفوراً من الإنس.(4/70)
ولو تردى بعير ونحوه في بئر ولم يكن قطع حلقومه فكنادٍّ في أنه يحل بالرمي كالصيد فقد روى أبو داود والترمذي وأحمد عن أبي العشراء الدارعي عن أبيه (أن بعيراً تردى في بئر فقيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة فقال: (إنك لو طعنت في فخذها لأجزأك)). ولأنه غير مقدور على ذكائه فكان عقره ذكته قلت الأصح لا يحل المتردي بإرسال الكلب عليه وصححه الروياني وهو صاحب كتاب البحر والشاشي أيضاً صححه وهو صاحب كتاب الحلية والله أعلم لأن السهم يستباح به الذبح مع القدرة ولا يستباح الذبح مع القدرة بإرسال الكلب.(4/71)
ومتى تيسر لحوقه بِعَدْوٍ أو استعانة بمن يستقبله فمقدور عليه وليس بنادٍّ فلا يحل إلا بالذبح في المذبح ويكفي في النادِّ والمتردي وكذلك الصيد ليحل أكله جُرْحٌ يفضي إلى الزهوق أي الموت للحديث السابق (إنك لو طعنت في فخذها لأجزأك). وقيل يُشْتَرَطُ جرح مذفف أي يسرع في القتل وإذا أرسل الصائد عند الصيد سهماً أو كلباً أو طائراً على صيد فأصابه ومات فإن لم يدرك فيه حياة مستقرة أو أدركها وتعذر ذبحه بلا تقصير بأن سلَّ السكين على الصيد فمات قبل إمكان ذبحه أو امتنع من الصائد بقوته ومات قبل القدرة عليه حلَّ في جميع ما ذكر وله حكم كما لو مات ولم يدرك حياته ولكن يُسنُّ ذبحه إذا وجد فيه حياة غير مستقرة وإن مات لتقصيره أي تقصير الصائد بأن لا يكون معه سكين أو غصبت السكين منه أو نَشِبت أي تعلقت في الغمد وهو الغلاف للسكين والسيف حَرُمَ الصيد في جميع هذه الصور لتقصيره ولو رماه أي رمى الصيد فقده أي قطعه نصفين حلَّا أي النصفين سواء كانا متساويين أو متفاوتين ولو أبان أي قطع من الصيد عضواً كيدٍ مثلاً بجرح مذفف أي قاتل حلَّ العضو والبدن جميعاً وقيل يحرم العضو لأنه أبين من حي والأول أصح لأن الصيد في هذه الحالة ليس له حكم الحي. أو جرحه فأبان منه عضواً بغير مذفف أي وكانالجرح غير مذفف ثم ذبحه أو جرحه جرحاً آخر مذففاً فمات حَرُمَ العضو المبان لأنه أُبينَ من حي فقد أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي واقد الليثي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أُبينَ من حي فهو ميت)). قال الترمذي حديث حسن غريب.(4/72)
وحلَّ الباقي لوجود الذكاة فيه فإن لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح حلَّ الجميع لأنه تبين أن الجرح مذفف أوله حكم المذفف وقيل يحرم العضو لأنه أبين من حي وذكاة كل حيوان بري قدر عليه بقطع كلِّ الحُلْقُوم وهو مخرج النفس والمريء وهو مجرى الطعام والشراب ويستحب قطع الوَدَجَين وهما عرقان في صفحتي العنق وهو الوريدان المحيطان بالحلقوم. ولو ذبحه من قفاه عصى وكذلك لو ذبحه من صفحة عنقه فإن يعصي بالذبح للتعذيب وتحل الذبيحة.
فإن أسرع فقطع الحلقوم والمريء وبه حياةٌ مستقرةٌ حلَّ لما روى الشيخان عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السنُّ والظفرُ). أي ولا تذبح بالسنِّ والظفر. وإلا تكن به حياة مستقرة حين وصل إلى قطع المريء فلا يحلُّ لأنه صار ميتة قبل الذبح. وكذا إدخال سكين بإذن ثعلب ليحفظ الجلد ويقطع البلغوم والمريء فإنه حرام للتعذيب فإذا قطع البلوع والمريء وفي الحيوان حياة مستقرة حلَّ وإلا لم يحل. ويُسَنُّ نحر إبل في اللبة وذبح بقر وغنم في الحلق. قال تعالى: (فصلِ لربك وانحر) الكوثر2، وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) البقرة67.
قال مجاهد: أُمرنا بالنحر وأُمرَ بنو إسرائيل بالذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث في قوم مواشيهم الإبل فَسُنَّ لهم النحر وكانت مواشي بين إسرائيل البقر فسنَّ لهم الذبح. وروى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحَى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده). وروى مسلم عن جابر قال: (أحصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) ويجوز عكسه أي ذبح إبل ونحر بقر وغنم من غير كراهة لأنه لم يردْ فيه نهي وأن يكون البعير قائماً معقولَ الركبة وهي اليسرى. قال تعالى: (فاذكروا اسم الله عليه صواف) الحج36. يقال صَفَنَتِ الدابة أي قامت على ثلاث قوائم.(4/73)
وروى الشيخان عن ابن عمر (أنه رأى رجلاً أضجع بدنةً فقال: قياماً سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) والبقرة والشاة مضجعة لجبينها الأيسر فهو أيسر للذابح حيث يأخذ السكين باليمين ويمسك الرأس باليسار لحديث أنس السابق (أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين وأنه أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما ووضع رجله على صفاحهما) رواه الشيخان.
وأن يحدَّ شفرته لما روى مسلم عن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). ويوجه للقبلة ذبيحته لما روى أبو داود وغيره عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين فوجههما إلى القبلة وقرأ (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)) الأنعام79. وأن يقول بسم الله لما روى مسلم عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبّر).
ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) الشرح4. وروى ابن حبان عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول: لا أُذْكَرُ إلا وتُذْكَرُ معي). وروى مسلم عن أبي هريرة (من صلَّى علّي واحدة صلى الله عليه عشراً).
ولا يقل باسم الله واسم محمد فذلك حرام لأنه يوحي بالتشريك ولأن من حق الله أن يكون الذبح باسمه وحده كما يكون اليمين باسمه وحده.
? فصل في بعض شروط الآلة والذبح والصيد ?(4/74)
ويحل ذبح مقدور عليه وجرح غيره بكل محدّد أي شيء له حدٌّ يجرح عادة كحديد ونحاس وذهب وخشب وقصب وفضة وحجر وزجاج وفضة ورصاص إلا ظفراً وسناً وسائر العظام لخبر الشيخين عن رافع بن خديج (ما أنهر الدمَّ وذُكر اسم الله عليه فكلوه إلا ما كان من سنٍّ أو ظُفر وسأخبركم عن ذلك أما السنُّ فعظم وأما الظفر فمُدَى الجبشة). قال ابن الصلاح: والنهي عن الذبح بالعظام أمر تعبدي. قال النووي في شرح مسلم: فلو جعل نصل سهمٍ عظماً فقتل به صيداً حرم والحبشة كفار ونهينا عن التشبه بهم. فلو قتل بمثقَّلٍ أي شيء ثقيل أو ثِقَلِ محدد كسهم بنصل أو حدٍ فقتل بثقله لا بنصله أو حدِّه حَرُمَ كبندقة فيجوز الاصطياد بالبندق في صيد لا يموت به وإلا فيحرم كالعصافير والبندق شامل لما كان فيه نار أولا. والبندقة كرة في حجم البندقة يُرمى بها في القتال والصيد وعادة تقتل بقوة الضغطة على الصيد أما قتل البنادق التي يقذف بها الرصاص وتقتل بالجرح وانهار الدم فصيدها حلال لعموم خبر رافع بن خديج (ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه). أو جرحه نصل وأثر فيه عُرْض أي جانب السهم في مروره ومات بهما أو انخنق بأحبولة منصوبة للصيد وهي شباك تصنع من الحبال للصيد فإذا وقع في الأحبولة صيدٌ فمات لم يحلَّ أكله لأنه لم يذكه أحدٌ أو أصابه سهم فجرحه فوقع بأرض أي مكان عالٍ كسطح أو جبل ثم سقط منه فمات حرم في الكل. قال تعالى: (والمنخنقة والموقوذة) المائدة3، أي المقتولة خنقاً أو ضرباً بنحو حجر أو سوط أو عصى. ولو أصابه سهم بالهواء فسقط بأرض ومات حلَّ سواءٌ في ذلك أمات في الهواء أم مات عند سقوطه على الأرض لأن سقوطه على الأرض لأبدّ منه فعفي عنه كما لو نحر جملاً قائماً فوقع على الأرض أو رمى صيداً على الشجرة فأصابه سهم أو غيره فسقط على الأرض.(4/75)
ويحل الاصطياد بجوارح السباع والطير ككلب وفهد وباز وشاهين بشرط كونها متعلمة بأن تنزجر السباع بزجر صاحبه في أي وقت سواء في ذلك ابتداء الأمر أو بعد شدة عَدْوِهِ ويسترسل بإرساله أي يهيج بإغراء صاحبه له. قال تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين) أي معلمين وقيل معدين للصيد. قال الإمام الشافعي رحمه الله (إذا أمرت الكلب فائتمر وإذا نهيته فانتهى فهو كلب مكلَّب). ويمسك الصيد لصاحبه فإذا جاء تخلى عنه ولا يأكل منه شيئاً بعد امساكه. قال تعالى: (فكلو ا مما أمسكن عليكم) المائدة4. وروى أحمد في المسند وأبو داود في الضحايا والبيهقي في السنن عن عدي بن حاتم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل مما امسك عليك)، قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك).
ويشترط ترك الأكل في جارحة الطير في الأظهر قياساً على جارحة السباع وقيل يحل مطلقاً لأن جارحة الطير لا تحتمل الضرب للتعليم كالكلب ونحوه. قال تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لم يأكل منه وروى الشيخان عن أبي ثعلبة الخشني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه)). وقال قوم لا يحل لأن الله تعالى قال: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. وإذا أكل لم يمسك علينا إنما أمسك على نفسه.
وروى الشيخان عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أرسلت كلبك وسميت وأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه).(4/76)
ويشترط تكرر هذه الأمور بحيث يظن تأدب الجارحة والرجوع في ذلك لأهل الخبرة في الجوارح ولا ينضبط ذلك بعدد وقيل يشترط تكرره ثلاث مرات ليعتبر مُعَلَّماً ولو ظهر كونه معلماً ثم أكل من لحم صيد لم يحل ذلك الصيد في الأظهر لخبر الصحيحين عن عدي وقيل يحلُّ لخبر أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أبي ثعلبة الخشني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قال: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، قال: وإن أكل؟ قال: وإن أكل)) وأعله البيهقي وقال الذهبي في ميزان الاعتدال هو حديث منكر. فيشترط تعليم جديد لفساد التعليم الأول ولا أثر للعق الدم لأنه لا يسمى أكلاً ومقصود الصائد اللحم وليس الدم.
وَيَعضُ الكلب من الصيد نجسٌ لأن الناب الذي يعض به جزء منه والأصح أنه لا يعض عنه فيجب غسله لأنه موضعٌ نَجُسَ بملاقاة الكلب فأشبه الإناء والثاني يعض عنه فلا يجب غسله لقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4. فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل وأنه يكفي غسله أي المِعَض بماء وتراب وذلك إذا قلنا بنجاسته ولا يجب أن يقوّر مكان العضِّ ويطرح لأنه لم يرد شيء من ذلك ولو ورد ذلك لذكر ولو تحاملت الجارحة على صيده فقتله بثقلها حلَّ في الأظهر لعموم قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة4، ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله ولأنه يعسر تعليمه أن يقتل بجرح ولا يقتل بثقله والثاني يحرم لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر من دم وذكر اسم الله عليه فكل) وهذا لم ينهر الدم ولو كان بيده سكين فسقط وانجرح به صيد أو احتكت به شاة وهو في يده فانقطع حلقومها ومريئها أو استرسل كلب بنفسه فقتل لم يحل واحد من الثلاثة لانتفاء الذبح وقصده والإرسال لأن الإرسال شرط كما في خبر الشيخين عن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أرسلت كلبك وميت وأمسك وقتل فكل).(4/77)
وكذا لو استرسل كلب مثلاً بنفسه فأغراه صاحبه أو غيره فزاد عدوه فلا يحل صيده في الأصح لاجتماع المبيح وهو الإغراء والمحرم وهو الاسترسال بنفسه فَغُلِّبَ التحريم ولو أصابه أي أصاب الصيد سهم بإعانة ريح مثلاً حلَّ لوجود القصد ولعدم إمكان الاحتراز من الريح ولو أرسل سهماً لاختبار قوته أو أرسله إلى غرض فاعترضه أي اعترض السهم صيد فقتله السهم حَرُمَ في الأصح لأنه لم يقصد الصيد وقيل يحلُّ لأنه قصد الرمي يكفي ولو لم يقصد المصيد ولو رمى صيداً ظنه حجراً أو رمى سِرْبَ ظباء فأصاب واحدة حلت لأن القتل بفعله ولا اعتبار لظنه وإن قصد واحدة فإصاب غيرها حلت في الأصح لوجود قصد الصيد.
ولو غاب عنه الكلب والصيد ثم وجده أي وجد الصيد ميتاً حَرُم لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم وإن جرحه الكلب او أصابه سهم فجرحه وغاب الصيد عنه ثم وجده ميتاً حَرُم في الأظهر لعدم العلم عن سبب هلاكه والثاني يحل لما روى الشيخان عن عدي بن حاتم أنه قال: (قلت يا رسول الله إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاثة ثم نجده ميتاً فيه سهمه، أنأكله؟ قال: نعم مالم ينتن).
? فصل فيما يملك به الصيد ?
يَمِلك الصائد الصيد بضبطه بيده وإن لم يقصد تملكه لأنه مباح فيملك بوضع اليد عليه وبجرح مذفف أي وإذا جرحه جرحاً مسرعاً إلى هلاكه وبإزمانٍ بحيث يعجز عن الطيران وكسر جناح لأنه أزال امتناعه فيملكه بذلك وبوقوعه في شبكة نصبها للصيد فيملكه لأنه أزال امتناعه وبإلجائه إلى مضيق لا يُفلت منه فإنه يملكه بذلك كما لو أدخله شبكة له أو بيتاً له لأن الصيد صار مقدوراً عليه ولو وقع صيد في ملكه وصار مقدوراً عليه بتوحل وغيره لم يملكه في الأصح لأنه لم يقصد الاصطياد والثاني يملكه كمن وقع في شبكته والفرق أن نصب الشبكة مقصود به الصيد وتوحيل الأرض لم يقصد به الصيد.(4/78)
ومتى ملكه لم يَزُلْ ملكه بانفلاته فمن أخذه فقد وجب عليه رده وكذا لا يزول ملكه بإرسال المالك له في الأصح لأنه أصبح مملوكاً له كما لو سيب دابته فليس لأحد أخذها لأنه مال مسلم فلم يَزُلْ مِلْكُه بزوال يده عنه وقيل يزول ملكه عنه لأنه أزال يده عنه كمن كان له عبد فأعتقه.
ولا تحوّلَ حمامُهُ إلى برج غيره لزمه رده أي لو انتقل حمامه من برجه إلى برج لآخر فيه حمامه فيلزم رد الحمام إلى مالكه لأنه بتحوله عن برجه لا يزول ملكه عنه فإن اختلط وعَسُرَ التمييز لم يصح بيع أحدهما وهبته شيئاً لثالث لأن الملك غي متحقق فيه فقد يكون ملكه وقد يكون ملكاً للآخر ويجوز بيع أحدهما وهبته لصاحبه في الأصح ويغتفر الجهل بعين المبيع للضرورة فإن باعاهما أي الحمامين لثالث والعدد معلوم والقيمة سواءٌ صح البيع ووزع الثمن على العدد وإلا بأن جهل العدد والقيمةُ متساويةٌ أو عُلِمَ العددُ ولم تستوِ القيمة فلا يصح البيع لأن حصة كل واحد من الثمن مجهولة. وطريقة البيع لثالث أن يبيع كلّ واحد حصته بثمن معلوم أو يوكل أحدهما الآخر في بيع نصيبه ويقتسمان الثمن أو يصطلحا على أن يأخذ كلُّ واحد منها شيئاً من المختلط ثم يبيع كلَّ واحد نصيبه إن شاء. ولو شك في كون المختلط بحمامه مملوك أو غير مملوك فله التصرف فيه لأن الظاهر أنه مباح ولو جرح الصيد اثنان متعاقبان فإن ذفف الثاني أي قتل أو أزمن دون الأول بأن أزال امتناع الصيد كأن كسر رجله وجناحه فهو للثاني لأن جرحه هو المؤثر وإن ذفف الأول فله الصيد وإن أزمن الأول فله الصيد ثم إن ذفف الثاني بقطع حُلقوم ومريء فهو حلال لأن الموت كان بفعل ذابح وعليه الأول ما نقص بالذبح عن قيمته مزمناً إن حدث به نقص وإن ذفف الثاني لا بقطعهما أي الحلقوم والمريء أو لم يذفف أصلاً ومات الصيد بالجرحين معاً فحرام لاجتماع المبيح وهو الصيد مع المحرم وهو الذبح في غير مكان الذكاة بعد أن أصبح مقدوراً عليه ويضمنه الثاني(4/79)
للأول لأنه أفسد عليه صيده وإن جرحا معاً وذففا بجرحيهما أو أزمنا به فلهما الصيد لاشتراكهما في سبب الملك وإن ذفف أحدهما أو أزمن دون الآخر فله أي للمذفف أو المزمن الصيد لانفراده بسبب الملك وإن ذفف واحد وأزمن آخر وَجُهِلَ السابق منهما حَرُمَ الصيد على المذهب لاحتمال تقدم الإزمان على التذفيف فلا يحل الصيد عندئذ إلا بقطع الحلقوم والمريء ولم يوجد ذلك أما إذا كان التذفيف في المذبح فهو حلال وإجماعاً لأنه بمثابة الذكاة.
? كتاب الأضحية ?
الأضحية اسم لما يضحى به وسميت بأول زمان فعلها وهو الضحى والأصل في ثبوتها قوله تعالى: (فصل لربك ونحر) الكوثر2، وقوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله فاذكروا اسم الله عليها صواف) الحج36. وروى الشيخان عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمّى وكبّر ووضع رجله على صفاحِهما).
والأقرن ما كان له قرنان والأملح هو ما اختلط فيه السواد والبياض والبياض أغلب وقيل هو الأبيض الخالص البياض وقوله وضع رجله على صفاحِهما، قال النووي في شرح مسلم أي صفحة العنق وهو بجانبه وإنما فعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب البيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تأذيه وهو الأصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا.
هي سنة أي التضحية لا تجب إلا بالتزام بالنذر كسائر المندوبات وقد أخرج الدار قطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرتُ بالنحر وهو سنة لكم).(4/80)
وَيُسَنُّ لمريدها أي مريد التضحية أن لا يزيل شعره ولا ظُفُرَه في عشر ذي الحجة حتى يضحي لما روى مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) وسواء في ذلك شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة والخبر محمول على الاستحباب لما روى الشيخان عن عائشة قالت: (كنت أفتلُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يُقَلِّدها هو بيده ثم يبعث بها مع ابن الزبير ولا يَحْرُم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي) فأخبرت أنه لم يَحْرمْ عليه شيء أحله الله تعالى له حتى نحر الهدي والأضحية كانت واجبة عليه فإذا دخلت العشر فلابد أنه يريد التضحية. وكما أن لا يحرم عليه الطيب واللباس فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر كما هو قبل العشر.(4/81)
وأن يذبحها بنفسه إن أحسن الذبح لحديث أنس (ذبحها بنفسه وكبَّر) وإلا فليشهدها أي وإن لم يذبح الأضحية بنفسه فليشهد ذبحها لما روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: (يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة تقطر من دمها يغفرُ لك ما سلف من ذنوبك). ولا تصح إلا من إبل وبقر وغنم فإ ضحى بغيرها من الحيوان المأكول لم يقع موقع الأضحية قال تعالى: (ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) الحج28، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم وشرط إبل أن يطعن في السنة السادسة لأنه ثني الإبل وبقر ومعز طعن في الثالثة وضأن استكمل سنة وطعن في الثانية لأنه هو الجذع من الضأن وقيل يجذع قَبْلَ السنة فإذا أجذع قبل السنة جاز التضحية به فقد روى أحمد وغيره عن أم بلاب الهلالية عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضحوا بالجذع من الضأن) و أخرج النسائي عن عقبة بن عامر قال (كنا نضحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) وذكر ابن الضباغ وغيره أنها تجذع في ستة أشهر وسبعة وثمانية والإجذاع سقوط أسنان اللبن ونبات غيرها ويجوز ذكر وأنثى لأن القصد منها اللحم. قال الشافعي: (واُنتى أحب إلي من الذكر لأنها أطيب لحماً وأرطب والضأن أحب إلي من المعز لأ، الضأن أطيب لحماً) وخصي يجوز التضحية به وهو الذي سُلّت بيضتاه فقد روى أحمد عن عائشة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موحوأين أي منزوعي البيضتين. والبعير والبقرة ويجزيء عم سبعة أشخاص لما روى جابر وأصحاب السنن عن جابر قال (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديببة البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) والشاه تجزيء عن واحد وتحصل السنة بواحد عن أهل البيت الواحد وأن الثواب لهم كالمضحي فالتضحية سنة كفاية لكل أهل بيت وسنة عين لمن ليس له أهل بيت تلزم المضحي نفقتهم. روى مالك في الموطأ عن(4/82)
أبي أيوب الأنصاري قال: (كنّا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة).
وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن أمة محمد ثم ضحّى). وأفضلها أي أفضل أنواع الأضحية بعير لأنه أكثر لحماً ثم بقرة ثم ضأن ثم معز فقد روى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجمعة: من راح الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) فجعل البدنة أفضل من البقرة والبقرة أفضل من الكبش.
وأما ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة (خير الضحية الكبش الأقرن) فالمقصود من الغنم وشاة يضحي بها أفضل من مشاركة غيره في بعير للانفراد بإراقة الدم ولطيب اللحم وشرطها أي شرط الأضحية المجزئة سلامة من عيب يَنْقُص لحماً فلا تجزيء عجفاء لا مُخَّ في عظمها لشدة الهزال والمقصود بالمخ هو الدهن الذي في العظام ومجنونة وهي التي تدور في المرعى وتستدبر غيرها من الشياه ولا ترعى إلا قليلاً ومقطوعة بعض أذن وذات عرج وعَوَر فقد روى أبو داود والنسائي وأحمد ومالك عن البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة لا تجزيء في الأضاحي العوراء البيّنُ عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلَعُها والعجفاء التي لا تُنْقي)) وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقوله العجفاء التي لا تنقي مأخوذ من النقي وهو المخ أي التي لا مخ لها.(4/83)
وأخرج أصحاب السنن عن علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) قال الترمذي حديث حسن صحيح، قوله أو مقابلة هي التي قطع شيء من مقدم أذنها وبقي معلقاً والمدابرة ما قطع من مؤخر أذنها وأما الخرقاء فهي التي ثقبت أذنها أي خرقت بالنار وأما الشرقاء فهي التي شقت أذنها فأصبحت اثنتين. وقوله نستشرف أي نتأمل ومرض جرب بين وهو الواضح الذي يظهر في هزالها ولا يضر يسيرها أي يسير هذه العيوب لأنه لا يؤثر في اللحم ولا فقد قرن خلقة فلا يضر فقده وتسمى الشاة بلا قرون الجلحاء ولا يضر كسوه مالم يؤثر على اللحم حتى ولو دمي لأن القرن لا يتعلق به غرض كبير وكذلك شق أذن وخرقها وثقبها لا يضر في الأصح إذا لم يُلقَ منه شيء أو يفسد الأذن والنهي السابق محمول على التنزيه أو على إنقاص اللحم. قلت الأصح المنصوص يصر يسير الجرب والله أعلم لأنه يفسد اللحم والشحم أما إذا لم يفسده فلا تأثير له.
ويدخل وقتها أي وقت الأضحية إذا ارتفعت الشمس كرمح يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة ثم مضى قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين أي صلاة العيد فإن ذبح قبل ذلك لم يجزيء وكان تطوعاًفقد روى الشيخان عن البراء بن عازب قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال: من صلّى صلاتنا ونسل نسكنافقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له، فقام أبو بردة ينار فقال: يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم) أي لا تجزيء عن الأضحية. ويبقى وقت التضحية حتى تغرب الشمس آخر أيام التشريق لما روى ابن حبان والبيهقي عن جبير بم مُطْعِم (أيام منى كلها مَنْحَرٌ) فإن ذهبت أيام النشريق ولم يذبح لم تقع موقعها وتكون شاة لحم.(4/84)
قلت: أي الإمام النووي: ارتفاع الشمس فضيلة في وقت الأضحية والشرط طلوعها أي طلوع الشمس ثم مضى قدر الركعتين والخطبتين والله أعلم. وذلك إذا اعتبار وقت صلاة العيد يدخل طلوع الشمس أما الأول فمبني على أن وقت صلاة العيد يدخل بالارتفاع فدر رمح ومن نذر معينة أضحية فقال لله عليّ أن أضحي بهذه الشاة مثلاً لزمه ذبحهافي هذا الوقت أي في وقت الأضحية فإن تلفت قبله أي قبل وقت الأضحية فلا شيء عليه لعدم تقصيره وهي في يده أمانة وإن أتلفها هو أو أجنبي ضُمنت بالقيمة وعندئذ لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها فيه أي في وقت النضحية وإن نذر في ذمته أضحية ثم عين المنذور أضحية كأن قال هذه الشاة لنذري لزمه ذبحه فيه أي في وقت الأضحية فإن تلفت أضحيته المنذورة قبله أي قبل وقت التضحية بقي الأصل عليه في الأصح لثبوت ما التزمه في الذمة والثاني لا يجب عليه غيرها لأنها تعينت بالتعيين فكان لها حكم من نذر معينة فلا يضمن إلا بالإتلاف.
وتشترط النية عند الذبح إن لم يسبق تعيين لأن الأضحية عبادة والأعمال بالنيات والنية تقترن أصلاً بأول الفعل وأما إذا سبق تعيين الضحية فإن التعيين هو نية ولا تشترط عند الذبح كما في الزكاة فيكفي نيتها عند فرز الزكاة ولا تشترط عند الدفع. وكذا تشترط النية عند الذبح إن قال جعلتها أضحية في الأصح لأن الذبح قربة في نفسه فاحتاج إلى نية والثاني كما ذكرنا قبل هذا يكفي تعيينها عن النية عند الذبح.
وإن وكَّلَ بالذبح نوى عند إعطاء الوكيل الأضحية أو نوى عند ذبحه لأن الوكيل قائم مقامه كما في توزيع الزكاة. وقيل بناءً على ما سبق لا تكفي النية عند إعطائه الوكيل ولكن له تفويض النية إليه أيضاً والصحيح الأول كما في توزيع الزكاة.(4/85)
وله الأكل من أضحية تطوع وإطعام الأغنياء فالأكل من الأضحية مستحب قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج36. فأمر بالأكل من الأضحية وأقل أحوال الأمر الاستحباب وروى الشيخان عن علي وجابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى منها مئة بدنةٍ فنحر منها ثلاثاً وستين بدنة ثم اعطى علياً فنحر ما غبر منها وأشركه في هديه ثم أمره فاقتطع من كل واحدة منها قطعة ثم أمر به فطبخ في قدر فأكل من لحمها وتحسى من مرقها) ويجوز الإرسال للأغنياء هدية ولا يجوز لهم التصرف فيه بغير الأكل ولا يجوز إطعام الكافر منها شيئاً لا تمليكهم أي تمليك الأغنياء ببيع أو هبة لأن المضحي أزال ملكه عن الأضحية على وجه القربة فلم يجز بيعها.
ويأكل المضحي ثلثاً وفي قول نصفاً قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) الحج36، فجعلها بين ثلاثة. وقال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج28، فجعلها بين اثنين والأصح من الأقوال وجوب التصدق ببعضها ولو كان قليلاً بحيث ينطلق عليه اسم الصدقة على الفقراء وروى الترمذي عن عابس بن ربيعة قال: قلت لأم المؤمنين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لحوم الأضاحي؟ قالت: لا ولكن قلَّ من كان يضحي من الناس فأحب أن يطعم من لم يكن يضحي فلقد كنّا نرفع الكراع فنأكله بعد عشر أيام. والأفضل التصدق بكلها إلا لقماً يتبرك بأكلها زيادة للثواب قال تعالى: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج28.(4/86)
ويتصدق بجلدها أو ينتفع به كأن يجعله دلواً أو نعلاً أو خفاً أو غير ذلك. روى الشيخان عن علي قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدُنِهِ وأقسم جلودها وحلالها وألا أعطي الجازر منها شيئاً) وروى الشيخان عن عائشة (قيل يا رسول الله كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية، فقال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا: نهيت عن ادخار لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: (إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا)) ولما جاز للمضحي أن يأكل أكثر لحم أضحيته جاز له الانتفاع بجلدها. قوله: الدافة هم قوم من البادية إلى المدينة، يجملون: يذيبون الشحم، الأسقية: هي القرب تتخذ للماء واللبن والسمن.(4/87)
وولد الواجبة يذبح أي الأصحية المعينة يذبح كأمه سواء ماتت أمه أو لا. لو أي للمضحي أكلُ كله أي كل الجنين ومثل ذلك التصدق ببعضه لأنه أضحية كأمه إن قلنا بوجوب التصدق ببعض الأضحية وشرب فاضل لبنها أي للمضحي أن يشرب ما زاد من لبن الأضحية عم ولدها ولا تضحية لرقيق لأنه لا يملك فإن أذن سيده له بالتضحية وقعت له أي تقع للسيد ولا يضحي مكاتب بلا إذن من سيده لأنه لا يجوز له التبرع بدون إذنه ولا تضحية عن الغير بغير إذنه لأنها عبادة فلا تفعل عن الغير إلا ما خرج بدليل لا سيما مع عدم وجوب الإذن ولا تضحية عن ميت إن لم يوصي بها قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم39. فإن أوصى بها جاز لما روى أبو داود والبيهقي والحاكم عن علي أنه كان يضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبداً) والصحيح أنه تصح التضحية عن الميت ولو لم يوصي بها لأنها ضرب من الصدقة وكان محمد بن اسحاق النيسابوري يضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع منعقد على أن الصدقة تصح عن الميت وتنفعه بإذن الله . وتجوز التضحية عن النفس وإشراك غيره من ثوابها فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حيت ضحى قال: (هذا عن محمد وأمة محمد).
? فصل في العقيقة ?(4/88)
والعقيقة في اللغة شعر رأس المولود حين يولد وشرعاً ما يذبح عند حلق شعره تسمية للشيء بسببه قال المصنف رحمه الله يُسَنُّ أن يعق عن غلام بشاتين وجارية بشاة لما روى البيهقي وأصحاب السنن عن عائشة قالت (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشلتين وعن الجارية بشاة). وسنها وسلامتها من العيوب والأكل والتصدق كالأضحية لأنها مندوبة مثلها ويسن طبخها بحلو تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود ولا يُكسَرُ عَظمٌ تفاؤلاً بسلامة المولود وأن تذبح يوم سابع ولادته ويحسب يوم الولادة من السبعة كأن ولد يوم الخميس فعقيقته تكون يون الأربعاء الذي يلي فقد روى أحمد والترمذي وغيرهم بسند صحيح عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام مرتهنٌ بعقيقته تذبح عنه في اليوم السابع ويحلق رأسه ويسمّى)ولا تفوت العقيقة بالتأخير ويحلق رأسه بعد ذبحها للحديث السابق ويتصدق بزنته أي بزنة الشعر المحلوق ذهباً أو فضة فقد روى الحاكم والبيهقي من حديث علي قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: (زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رجل العقيقة)).
ويؤذن في أذنه حين يولد يؤذن في اليمنى ويقام في اليسرى فقد أخرج أبو داود والبيهقي في السنن وغيرهما عن أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة كالأذان في الصلاة).
وأخرج عبدالرزاق في المصنف عن عمر بن عبدالعزيز (أنه كان إذا ولد له مولود أخذه بخرقة ثم أذن في أذنه اليمين وأقام في أذنه اليسار وسمّاه). ويحنك المولود بتمر فقد أخرج الشيخان عن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم) والتحنيك أن يمضغ التمر أو نحوه من حلو فيدلك به حنك الطفل.
والمستحب أن يقول الذابح للعقيقة عند الذبح (باسم الله اللهم منك وإليك، عقيقة فلان) رواه البيهقي في السنن عن عائشة.
? كتاب الأطعمة ?(4/89)
والمقصود بيان ما يحل من الأطعمة وما يحرم والأصل في الباب قوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف157. وقوله تعالى: (يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أحِلَّ لكم الطيبات) المائدة4.
وأخبار منها خبر الترمذي عن كعب بن عميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أي لحم نبت من حرام فالنار أولى به).
قال المصنف رحمه الله حيوان البحر السمك منه حلال أي ما كان أصل عيشه في البحر وإذا خرج منه كان عيشه عيش مذبوح وإن عاش لا يعيش طويلاً كيف مات بسبب ظاهر أو بغير سبب ظاهر وكيف وجد طافياً على وجه الماء أو راسياً فيها أو قذفه الموج إلى الشاطيء إلا إذا انتفخ وبان فساده. قال تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) المائدة96. وروى مالك وأحمد عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)).
وكذا يحل غيره من حيوان الماء في الأصح وقيل لا يحل لأنه لا يسمّى سمكاً وليس على صورة السمك قال النووي في الروضة أن اسم السمك لا يقع على جميع ما يعيش في الماء. ككلب وحمار وما يعيش في بر وبحر كضفدع وسرطان وحية حرام وعقرب وسلحفاة وتمساح حرام كذلك والأول أصح لعموم الخبر (هو الطهور ماؤه الحل ميته) ولم يفرق بين السمك وغيره وقد سُئلَ الشافعي عن كلب الماء وخنزيره فقال: يحل أكله.(4/90)
وحيوان البرِّ يحل منه الأنعام والخيل والأنعام هي: الأبل والبقر والغنم. قال تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) المائدة2، وقال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) النمل5. ولحم الخيل يحل أكله لما روى االشيخان عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل). وبقر وحش وحماره يحل لما رواه الشيخان عن أبي قتادة قال: (أنه كان مع قوم محرمين وهو حلال فسنح لهم حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فأكلوا منها. قالوا: نأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملوا ما بقي من لحمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا ما بقي من لحمها)) وظبي وضبع وضب وأرنب حلال والظباء من الطيبات قال تعالى: (ويحل لكم الطيبات ويحرم عليكم الخبائث) الأعراف157. وفي الأرنب ما روى الشيخان عن أنس قال: (أفصحنا أرنباً عن الظهران فأدركتها فأخذتها فذهبت بها إلى أبي طلحة فذبحها وبعث بكتفها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله)، قوله أفصحنا: أي ظهر لنا أرنب.
وفي الضبع: فقد روى الشافعي والترمذي وغيرهما من حديث جابر (أنه سُئل عن الضبع أصيد هو؟ قال: نعم، قيل: أيؤكل؟ قال: نعم قيل أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) صححه البخاري. وفي الضب: روى الشيخان عن ابن عباس قال: (دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأُتي بضب محنوذ – أي مشوي – فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه).
وثعلب ويربوع هو دويبة كالفأر وهو قصير اليدين طويل الرجلين وفنك دويبة جلدها ناعم يؤخذ منه الفراء وسمور وهو يسبه القط من آكلات اللحوم والعرب تستطيب هذه الأربعة فكلها حلال. قال تعالى: (ويحل لكم الطيبات) الأعراف157.(4/91)
ويحرم بغل وحمار أهلي لما روى الشيخان عم علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية). وأما البغل فهو متولد بين فرس وحمار أهلي أي متولد بين حلال وحرام فيحرم لذلك.
وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير يحرم أكله كأسد ونَمِرٍ ودُب وفيل وقرد وباز وشاهين وصقر ونَسر وعُقاب وكذا ابن آوى وهو فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخالب وفيه شبه كبير من الذئب له عواء يشبه صياح الصبيان وهرة وحش في الأصح وهي المعروفة بالنمس وهي تعدو بنابها فتشبه الأسد. قال تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف157، وهذه كلها من الخبائث وروى مسلم وأبو داود عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير).
وفي ابن آوى وجهان: حرام كما ذكرنا لأنه من جنس الكلب وتستخبثه العرب كما أن له رائحة كريهة وقيل هو حلال لأن نابه ضعيف فأشبه الضبع.
ويحرم ما نُدِبَ قتلُهُ كحية وعقرب وغراب أبْقَعَ وحدأة وفأرة وكلِّ سَبُع ضار لأنها من الخبائث وروى الشيخان عن عائشة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة و العقرب والفأرة والكلب العقور).(4/92)
وكذا يحرم أكل رخمة وهي طائر يشبه النسر لخبث غذائها وَبُغاثة وهي طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة فألحق بها في التحريم والأصح حل عراب زرع وهو طائر أسود صغير يسمى الزاغ يأكل الزرع فهو مستطاب وتحريم ببغا وطاووس هو الأصح ووجه التحريم أنهما من الخبائث وقيل يحلان وتحل نعامة إجماعاً وكركي وهو طائر كبير معروف بط وهو من فصيلة الإوز غير أنه لا يطير وإوز ودجاج وحمام وهو كل ما عبَّ أي شرب الماء بلا تنفس جرعة بعد جرعة ومن غير مص وَهَدَرَ أي ردد الصورة وغرد وما على شكل عصفور وإن اختلف لونه ونوعه كالعندليب وصعوة وزُرزُور وهو من نوع العصفور وسمي بذلك لزرزرته أي تصويته فتأكل جميعاً لأنها من الطيبات لا خُطّاف وهو ما يسميه الناس عصفور الجنة وقيل هو الخفاش عند اللغويين وقد ورد من حديث عائشة عند البيهقي (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخفاش) فلا يحل أكل الخُطّاف ونمل ونحل وذباب وحشرات كخنفساء ودود فإنها لا تحل جميعاً لأنها مستخبثة وتحرم ذوات السموم والإبر والوزغ بأنواعها لاستخباثها (ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها وسماها فويسقاً) رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص.(4/93)
وكذلك ما تولد من مأكول وغيره لا يحل تغليباً لأصله الحرام وما لا نص فيه أي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم إن استطابه أهل يسار أي ثروة ونعمة وخصب وطباع سليمة من العرب في حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحلُّ لأن الله سبحانه أناط الحل بالطيب والتحريم بالخبيث والعرب هم المخاطبون أولاً بهذا القرآن وإن جُهِلَ اسم حيوان لا تعرفه العرب سُئلوا أي العرب عن ذلك الحيوان وعمل بتسميتهم له فما هو حلال أو حرام وإن لم يكن له اسم عندهم اعتُبِرَ بالأشبه أي نظر إلى ما يشبهه فإن كان حلالاً حلَّ وإن كان حراماً حَرُمَ وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم فالراجح كونه حلالاً لما روى أبو داود عن ابن عياس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال ماأحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو من عفوه)) أي من عفو الله وقال جمع ما لم يرد فيه نص بتحريمه فهو حلال لقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلىَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به) الأنعام145.
وإن تغير لحم جلالة حَرُمَ أكله لأنها صارت من الخبائث وقيل يُكْرَهُ قلت الأصح يكره لأن الأصل حلال والنهي لتغير اللحم كما لو تغير لحم المذكاة أو بيضها والله أعلم فإن عَلِفتْ علفاً طاهراً فطاب لحمها حلَّ أكله من غير كراهة فقد روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس)، ولفظ نهى يَصْدُقُ بالحرمة والكراهة.(4/94)
وإن تنجس طاهر كخل ودُبْس ذائب حرم أكله فقد روى البخاري عن ابن عباس عن ميمونة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه)) واللفظ لأبي داود. فلو حلَّ أكله بعد وقوع الفأرة فيه لم يأمر بإراقته لما في ذلك من اتلاف للمال وإذا وقعت النجاسة في الزيت فقد أصبح نجساً لا يجوز أكله ولا شربه ويجوز الإستصباح فيه.
وما كسب بمخامرة أي مخالطة نجس كحجامة وكنس مكروه ويُسَنُّ أن لا يأكله ويطعمه رقيقه وناضحه وهو الدابة التي يستقي عليها الماء.
فقد روى ابن جبان والترمذي وحسنه عن محيَصة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن كسب الحجام فنهى عنه وقال: أطعمه رقيقك وأعلفه ناضحك). وقلنا أن النهي يحتمل الحرمة ويحتمل الكراهية وصرفه عن الحرمة خبر الشيخين عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجرته). قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجرته وقيس بالحجامة غيرها من كل ما تحصل به مخالطة للنجاسة.
ويحل جنين وجد ميتاً في بطن مذكاة سواء كانت الذكاة بذبح أو صيد فقد روى الترمذي والدارقطني وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: (قلنا يا رسول الله إنا لننحر الإبل ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين أفنلقيه أم نأكله؟ فقال: (كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه)). وفي لفظ الدارقطني (إذا سميتم على الذبيحة فإن ذكاته ذكاة أمه).(4/95)
ومن خاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً ووجد طعاماً محرماً لزمه أكله. قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) النساء29، وقال تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) المائدة3. فإذا وجد المضطر الميتة جاز له أن يأكل منها ما يسد حاجته لقوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) الأنعام119. وبعد الحاجة غير مضطر والأصح أنه لو كان في سفر جاز له أن يشبع منه كالحلال. وإذا بلغ الاضطرار حدَّ الخوف على النفس أو خاف مرضاً خطراً فيه التهلكة عادة وجب الأكل. قال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة195. وقيل يجوز الأكل ولا يجب وذلك إذا توقع حلالاً فإن توقع حلالاً لم يجز له غير شد الرمق لاندفاع الضرورة به لأن المطلوب سدُّ الخلل وقد تحصل ذلك والرَمَقُ هو بقية الروح وإلا إن وإن لم يتوقعه ففي قول يشبع وذلك بأن يقدر ما يكفيه والأظهر سدُّ الرمق فقط لاندفاع الضرورة. وإلا أن يخاف تلفاً إن اقتصر على سد الرمق.
وله أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت وقتل مرتد وحربي له أيضاً وله قتل زانٍ محصن ومحارب لأنهم غير معصومين ليحفظ نفسه ولا خلاف أنه لو كان قوم في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت جاز لهم طرحه في البحر حفاظاً على الأحياء فكذلك الأمر ها هنا.
لا ذمي ولا مستأمن وصبي حربي فلا يجوز قتلهم لحرمة قتلهم قلت الأصح قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل والله أعلم لعدم عصمتهم وإذا منعنا قتلهم في الحرب فليس لعصمتهم وإنما حفاظاً على حق الغانمين حيث يصيرون ملكاً لهم إذا سبوهم.
ولو وجد طعام غائب أكل ما يسد رمقه أو يشبعه كما مرّ مفصلاً وغرم قيمته إن كان متقوماً أو مثله إن كان مثلياً لحق الغائب.
أو وجد طعام حاضر مضطر إلى الطعام لم يلزمه بذله لغيره إن لم يفضل عنه أي عن حاجته فإن آثر المضطر بالطعام مسلماً جاز بخلاف الكافر. قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) الحشر9.(4/96)
أو وجد المضطر طعام حاضر غير مضطر للطعام لَزِمَه أي لزم غير المضطر إطعام مضطر معصوم الدم مسلم أو ذمي وإن احتاجه صاحبه مستقبلاً للضرورة الناجزة روى البزار والطبراني عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به)). فإن امتنع صاحب الطعام فله أي المضطر قهره وأخذ الطعام وإن قتله المضطر فلا قصاص عليه ولا دية ويقتص له إن قتله الممتنع لأنه قتل المضطر اعتداءً وظلماً. وإنما يلزمه أي صاحب الطعام إطعام المضطر بعوض ناجز إن حضر أي كان العوض موجوداً وإلا فبنسيئة لأن الذمة تقوم مقام المال ولا يلزم صاحب الطعام بذله من غير ثمن فلو أطمعه أي الطعام للمضطر ولم يذكر عوضاً فالأصح لا عوض لصاحب الطعام حملاً على المسامحة المعتادة عند الإطعام بين الناس ولو وجد مضطر ميتة وطعام غيره الغائب أو وجد مُحْرِمٌ ميتةً وصيداً مأكولاً غير مذبوح فالمذهب أكلها أي الميتة لأن المحرم إذا قتل الصيد أصبح ميتة أيضاً وقيل يتميز بين أن يأكل طعام الغير أو يقتل الصيد ويضمن وبين أن يأكل النجس وهو الميتة ولا يضمن. والأصح تحريم قطع بعضه كلحمة من فخذه إذا كان مضطراً لأكله لأنه قد يتولد من ذلك هلاك نفسه. قلت أي الإمام النووي الأصح جوازه لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل كمن أصابته أكلق في أحد أعضائه فيقطع هذا العضو لحفظ الجسم من سريان الأكلة إلى بقية الجسم وشرطه أي جواز قطع بعضه أمران أحدهما فقد الميتة ونحوها كطعام الغير والأمر الثاني أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل ويحرم قطعه بعض جسمه لغيره من المضطرين ومن معصوم يقطع ليقي نفسه الهلاك والله أعلم لأن وقاية نفسه لا تكون بإيقاع الضرر بالآخرين لأن الضرر لا يُزال بالضرر.
? كتاب المسابقة والمناضلة ?(4/97)
والمسابقة مأخوذ من السَّبْق وهو التقدم وأما السبق بفتح الباء فهو اسم للمال الذي يُجْعلُ بين المتسابقين والمسابقة يكون على الخيل ونحوها وأما المناضلة فمأخوذة من النضل وهو الغلبة فتقول نضْلتُه أي غلبته أو غالبته والمناضلة تكون بالسهام ونحوها والنضال هو الرمي ويسمى كل منهما الرهان والأصل فيهما قبل الاجماع قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما اسنطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال60، وروى الشيخان عن سلمة بن الأكوع قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).
وروى أحمد وأصحاب السنن والشافعي عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سَبَقَ إلا في خفٍّ أو نصل أو حافر)).
وروى ابن حبان بسند صحيح عن كعب بن مرة قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة، فقال له عبدالرحمن بن النحام: وما الدرجة؟ قال: أما أنها ليست بعتبة أمك ما بين الدرجتين مائة عام).
هما أي كل من المسابقة والمناضلة سنة إذا قصد بهما التأهب للجهاد ويحل أخذ عوض عليهما لحديث أبي هريرة (لا سَبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر) والسَبَقَ هو المال المتسابق عليه والنصل هو السهام والخف هو الإبل والحافر هو الخيل.
وأخرج الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى وأحمد والدارمي عن أنس قال: (راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة فهشّ لذلك وأعجبه) وقوله هشّ أي فرح.(4/98)
وتصح المناضلة على سهام والعربية منها تسمة النبل والعجمية منها تسمى النشاب يرمى بها عن القسي الفارسية وكذا تصح المناضلة على مزاريق جمع مزراق وهي الرماح الصغيرة ورماح وهي من عطف العام على الخاص ورميٍ بأحجار باليد وبغيرها ومنجنيق وهو آلة ترمى بها الحجارة وغيرها وكل نافع في الحرب تصح المناضلة عليه على المذهب لأنه آلة للحرب. قال الشافعي في الأم: (تصح بكل ما يُنْكي العدو).
لا تصح المسابقة على كرة الصولجان وهي عصا معكوفة الطرف ويسمى المحجن يضرب بها الفارس الكرة وبندق لا تصح المسابقة عليه أيضاً وذلك بأن يرمي به بيد أو قوس في حفرة وسباحة وغطس بالماء إذا تولد منه الضرر وكان لغير الحرب لا تصح المسابقة عليها. وشِطْرنج وخام ووقوف على رجل ومعرفة ما بيده لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب فلا تصح المسابقة عليها وتصح المسابقة على خيل وإبل وكذا قيل وبغل وحمار في الأظهر لحديث أبي هريرة السابق (لا سَبَقَ إلا في خف أو نصل أو حافر). حسنه الترمذي وصححه ابن حبان.
لا طير وصِراع فلا تجوز المسابقة عليهما يعوض في الأصح لأنهما ليسا من آلات الحرب والثاني يصح ذلك فقد روى أبوداود في مراسيله عن سعيد بن جبير قال: (كان رسو الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه أعنز له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: ما تُسبقني، قال: شاة من غنمي فصارعه فصرعه فأخذ شاة، فقال ركانة: هل لك في العود ففعل ذلك مراراً، فقال: يا محمد والله ما وضع جنبي أحد على الأرض وما أنت بالذي تصرعني، فأسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم غنمه).(4/99)
والأظهر أن عقدهما أي المسابقة والمناضلة لازم لمن التزم العوض ولو من غير المتسابقين لا جائز لإنه عقد اشتراط أن يكون فيه العِوضُ والمعوَّضُ معلومين فكان لازماً كالإجارة فليس لأحدهما أي المتسابقين فسخه لأن هذا معنى كونه لازماً ولا ترك العمل قبل الشروع و لا بعده ولا زيادة ونقص فيه أي في العمل المتفق عليه ولا في مال اتفقا عليه وإن وافقه الآخر ولكن يفسخا العقد ويستأنفا عقداً جديداً.
وشرط المسابقة من اثنين أو أكثر علم الموقف الذي يبدآن منه والغاية التي يصلان إليها وتساويهما فيهما أي في الموقف والغاية فلو اشترط تقدم موقف أحدهما أو غايته لم يصح لأن القصد معرفة الأسبق منهما وتعيين الفرسين إن كانت المسابقة بهما لأن الغرض معرفة الأجود منهما وامتحان سيرهما ويتعينان بالتعيين فلا يجوز إبدالهما بعد التعيين لاختلاف أغراض الناس فإن وقع هلاك النسخ العقد. وإمكان سبق كل واحد منهما للآخر والعلم بالمال المشروط عيناً كان أو ديناً ويجوز شرط المال من غيرهما بأن يقول الإمام أو أحد الرعية من سبق منكما فله في بيت المال أو فله عليَّ كذا لأن في ذلك إعداد للجهاد وتنمية الأجسام فهو بذل مال لمصلحة فصح من بيت المال من سهم المصالح وصح من غير الإمام كوقف السلاح في سبيل الله. فقد روى الشيخان عن سلمة بن الأكوع (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على ناس من أسلم يتناضلون فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، قال : فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم). وفي رواية ابن حبان عن أبي هريرة (ارموا وأنا مع ابن الأدرع).(4/100)
ومن أحدهما يجوز أن يكون المال فيقول من يبذل المال إن سبقتني فلك عليَّ كذا أو سبقتك فلا شيء لي عليك إذ لا قمار في هذه الحالة. فإن شَرَطَ في عقد المسابقة أم مَنْ سبق منهما فله على الآخر كذا لم يصح هذا الشرط إلا بمُحَلِّلٍ فرسُهُ كفءٌ لفرسيهما فقد روى أبوداود وأحمد وغيرهما وصححه ابن حزم عن أبي هريرة (من أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبقهما فهو قِمَارٌ وإن لم يأمن أن يسبق فليس بقمار). والمُحَلِلُ يغنم إن سبق ولا يغرم إن سُبِقَ فإن سبقهما أي المتسابقين أخذ المالين سواء جاءا معاً أو مرتبين أحدهما قبل الآخر وإن سبقاه وجاءا معاً ولم يسبق أحدهما فلا شيء لأحد لعدم سبقه وإن جاء مع أحدهما وتأخر الآخر فمال هذا الذي جاء معه لنفسه لأنه لم يُسْبَقْ ومال المتأخر للمُحِلِّلِ والذي معه لأنهما سبقا الآخر وقيل مال المسبوق للمحلل فقط بناء على أنه محلل لنفسه فإن قلنا وهو الأصح أنه محلل لنفسه ولغيره فالمال لهما. وإن جاء أحدهما ثم المحلل ثم الآخر فمال الآخر للأول في الأصح لسبقه الاثنين وقيل له وللمحلل لسبقهما الآخر وإن تسابق ثلاثة فصاعداً وبذل المال آخر وشُرِطَ للثاني مثل الأول فَسَدَ العقد لأن مقصود المسابقة الاجتهاد في السبق ودونَه أي إذا شُرِطَ للثاني دون الأول صح العقد يجوز ذلك بل يستحب في الأصح لأنه يسعى ويجتهد ليفوز بالنصيب الأكبر.
وسبق إبل بكتف وخيل بعنق وقيل بالقوائم يكون السبق فيهما أي الإبل والخيل لأن العدو بالأقدام والفرق بين الإبل والخيل أن الإبل ترفع أعناقها عند العدو والخيل تمدها فالمتقدم ببعض الكتف أو العنق سابقٌ.(4/101)
ويشترط للمناضلة بيان أن الرمي مبادرةٌ وهي أن يَبْدُرَ أحدهما بإصابة العدد المشروط كعشرة من عشرين فمن أصابها فهو ناضلٌ لمن أصاب تسعة أو ثمانية من عشرين فيستحق المالَ المشروط في العقد. أو محاطّةٌ وهي أن تُقَابل إصاباتُهُما من عدد معلوم كعشرين من كل منهما ويطرح المشترك أي ما اشتركا فيه من الاصابات فمن زاد على صاحبه في الاصابات كخمس مثلاً أو كان له اصابات ولم يكن لصاحبه شيء فَنَاضِلٌ للآخر فيستحق المال المشروط في العقد وبيان عدد نوب الرمي يشترط أيضاً سواء كان الرمي مبادرة أو محاطة فمثلاً يؤميان أربع مرات في كل مرة خمسة أسهم والإصابة فيشترط بيان عدد الاصابات كخمس من عشرة وبه يتبين حذق الرامي ويشترط أن لا تكون الاصابة نادرة كتسع من عشرة أو عشرة من عشرة ولا متأكدة كواحد أو اثنين من مئة. ومسافة الرمي وقدر الغَرَض أي الهدف الذي يرمى إليه طولاً وعرضاً إلا أن يُعْقد الرميُ بموضع فيه غرض معلوم فيحمل العَقْدُ المطلق عليه فقد روى الشيخان عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد ضمرت من الحفيا إلى ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسخد بني زريق).
وأخرج البخاري في التاريخ الكبير عن محمد بن حجاج وأبو نعيم في المعلافة عن أبي لبابة قال: (لما كان ليلة بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: كيف تقاتلون؟ ققام عاصم بن ثابت بن الأفلح فقال: أي رسولَ الله إذا كان القوم قريباً من مائتي ذراع أو نحو ذلك كان الرمي بالقسي وإذا دنا القوم حتى تنالهم الحجارة كانت المراضخة فإذا دنوا حتى تنالهم الرماح كانت الداعسة حتى تتقصف الرماح حتى كانت المجالدة بالسيوف فقال صلى الله عليه وسلم: بهذا أنزلت الحرب من قاتل فيقاتل قتال عاصم).(4/102)
وليبينا صفة الرمي من قرع وهو إصابة الشَنِّ وهو الهدف بلا خدش له أو خزق وهو أن يثقبه أي يثقب الهدف ولا يثبت فبيه أو خَسْقٍ وهو أن يثبت فيه أي يثبت في الهدف أو مَرْقٍ وهو أن ينفذ من الجانب الآخر للهدف فإن أطلقا ولم يبينا صفة الرمي اقتضى القرع لأنه المتعارف عليه بين الناس وهو المقصود عادة. ويجوز أن يكون عوض المناضلة من حيث يجوز عوض المسابقة أي من أحدهما أو غيرهما أو من بيت المال أو كذا منهما بمحلل وبشرطه في القوة والعدد المشروط. ولا يشترط في المناضلة تعيين قوس وسهم لأن الاعتماد في ذلك على الرمي فإن عين القوس والسهم لغا الشرط وجاز ابداله أي المعين بمثله من نوعه وإن لم يحدث فيه خلل يمنع من استعماله فإن شُرِطَ منع ابداله فسد العقد لأن في ذلك تضييق على الرامي والأظهر اشتراط الباديء بالرمي للتمييز بينهما حذراً من اشتباه المصيب بالمخطيء لو رميا معاً وقيل لا يشترط الباديء فيهما بل يقرع بينهما عند الرمي ولو حضر حمعٌ للمناضلة فانتصب زعيمان يختاران أصحاباً أي حزباً لكل منهما جاز ففي رواية ابن حبان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بحزبين من الأنصار يتناضلان فقال: (ارموا وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع) ولم ينكر عليهم). وطريقة ذلك أن ينتصب لكل حزب رئيس ثم يختار أحد الرئيسين واحداً من الرماة ثم يختار الثاني واحداً إلى أن يستكمل كل واحد منهما حزبه ولا يجوز شرط تعينهما أي أصحاب كلٍّ منهما بقرعة ولا أن يختار أحد الزعيمين جميع الحزب أولاً لأنه قد يستوعب المهرة فتفسد المناضلة. فإن اختار أحد الزعيمين غريباً لا يعرفونه ظنَّهُ رامياً فبان خلا فه بطل العقد فيه لأن شرط دخوله في العقد أن يكون من أهل الرمي وسقط من الحزب الآخر واحدٌ بإزائه ليحصل التساوي بين الحزبين وفي بطلان الباقي من الجزبين قولا تفريق الصفقة والراحج تفرَق فيصح فيه فإن صححنا تفريق الصفقة فلهم جميعاً الخيار في الفسخ(4/103)
والإمضاء فإن أجازوا تفريق الصفقة وتنازعوا فيمن سقط بدله فسد العقد لتعذر إمضائه أما إذا جعلنا الخيار لزعيم الحزب فلا يفسد العقد وإن نضل حزب الحزب الآخر قسم المال بينهم بحسب الإصابة لأنهم استحقوا ذلك بالإصابة فإن كان فيهم مَنْ لم يصب الغرض لم يستحقَّ شيئاً وقيل يقسم المال بالسوية كما يغرم المسبوقين بالسوية إذا التزموا المال.
ويشترط في الإصابة المشروطة أن تحصل بالنََّصل الذي بالسهم لا بغرض السهم لأنه المتعارف عند الإطلاق.
فلو تلف وتر بأن انقطع أو قوس بأن انكسر في حال الرمي أو عَرَض شيء كبهيمة أو طير انصدم به السهم وأصاب في المسائل الثلاث الغرض حُسِب له للرامي وإلا أي وإن لم يصبه لم يحسب عليه لوجود العذر فيعيد هذه الرمية.
ولو نقلت الريح الغرض فأصاب السهم موضِعه حُسب له أي للرامي لأنه لو كان في موضعه لأصابه وإلا فلا يُحسبُ عليه لوجود العارض.
ولو شرط خَسقٌ فرمى أحد المتسابقين إلى الغرض فثقب السهم الغرض وثبت فيه ثم سقطأو لقي صلابة فسقط السهم حُسِب له لوجود العذر وعدم التقصير. ويُسَّنُ وجود شاهدين عند الغرض ليشهدا على الإصابة أو عدمها.
? كتاب الأيمان ?
الأيمان لغة جمع يمين وتطلق على القوة وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلَّ واحد بيمين الآخر والأصل في الباب: الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: (لا يؤخذاكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) المائدة89.
وقال تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) آل عمران77، وروى أبوداود عن عكرمة مرسلاً وكذلك البيهقي في السنن الكبرى (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله))، واليمين والقسم والإيلاء والحلف ألفاظ مترادفة.(4/104)
قال المصنف رحمه الله لا تنعقد اليمين إلا بذات الله أو صفة له بأن يحلف بلفظ مفهومة الذات أو الصفة فالذات (كقوله والله) والصفة كقوله وربِّ العالمين والحي الذي لايموت ومن نفسي بيده يصرفها كيف يشاء وكل اسم مختص به سبحانه وتعالى غير ما ذكر ولو مشتقاً ومن غير أسمائه الحسنى كالإله ومالك يوم الدين والذي أسجد له والذي أعبده والذي صلاتي ونسكي له ومقلب القلوب تنعقد بها اليمين ولاتنعقد بمخلوق كنبي أو مَلَك والكعبة للنهي عن ذلك فقد روى الحاكم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير بغير الله فقد كفر)). وروى فقد اشرك وحُمِلَ ذلك على من اعتقد فيما حلف التعظيم الذي يعتقده في الله تعالى.
ولا يقبل قوله أي المُقسِم لم أرد به اليمين عند قسمه بذات الله أو صفة له ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن اليمين منصرف إليه ولا تحتمل غيره.
وما انصرف إليه سبحانه عند الإطلاق كالرحيم والخالق والرازق والباريء والرب والواهب والرؤوف والقادر والقاهر والمالك والجبار والمتكبر تانعقد به اليمين إلا أن يريد غيره لأن إطلاق هذه الأسماء لا ينصرف إلا إلى الله فإن نوى بها الله كان ذلك تأكيداً وإن نوى بها غير الله لم تنعقد يمينه لأنها عند التقييد قد تستعمل لغير الله. قال تعالى: (وتخلقون إفكاً) العنكبوت17، وقال تعالى: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) يوسف50 ، وقال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربي والمساكينُ فارزقوهم منه) النساء8.
وما استعمل فيه وفي غيره سواء كالشيء والموجود والعالم والحي ليس بيمين إلا بنية ومثلها المؤمن والكريم فلا ينعقد بها اليمين دون نية لأنها مشتركة بين الله وبين الخلق والأصح لا تنعقد بها يمين سواءٌ نوى بها أو أطلق لأن اليمين إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم له حرمة وهذه الأسماء ليست معظمة ولا حرمة لها لاشتراك الخالق والمخلوق بها.(4/105)
والصفة كوعظمة الله وكبريائه وطلامه وعلمه وقدرته ومشيئته يمين بشرط أن يأتي بالظاهر بدل الضمير فيقول وعظمة الله وكبرياء الله وكلام الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله لأن هذه الصفات صفات الذات لم يزل الله موصفاً بها فأشبهت الأسماء المختصة به سبحانه إلا أن ينوي بالعلم المعلوموبالقدرة المقدور وبالعظمة وما بعدها ظهور آثارها فلا تنعقد بها اليمين لأن اللفظ يحتمل ذلك فيقال: انظر إلى قدرة الله أي مقدوره وكذلك انظر إلى علم الله أي سعة علم الله أي معلومه وكذلك يقال عند معرفة سرًّ في خلق الله انظر إلى عظمة الله. ولو قال وحق الله لأفعلن فيمين لغلبة استعماله في استحقاق الله الألوهية إلا أن يريد بحق الله العبادات التي أمر الله بها فلا تنعقد يميناً لاحتمال اللفظ بها.
وحروف القسم في لغة العرب ثلاثة: باءٌ وواوٌ وتاءٌ: كبالله ووالله وتالله لأفعلنّ كذا وزاد بعضهم الألف بدلاً من الهمز كما في حديث ركانة في الطلاق البتة أنه قال: (اللهُ ما أردت إلا واحدة) فقال اللهُ بالضم ويجوز الخفض والنصب فمعنى الرفع: اللهُ قسمي أو الله الذي أقم به والنصب كقولهم يمينَ الله لفقدان الخافض والكسر لا يكون إلا مع المد لأن الهمزة بدلاً من واو القسم.(4/106)
وتختص التاء بالله تعالى فقد ثبت ذلك في القرآن الكريم (وتالله لأكيدن أصنامكم) الأنبياء57، ولو قال اللهُ ورفع أو نصب أو خفض لأفعلنَّ كذا مثلاً. فليس بيمين إلا بنية للقسم لاحتماله لغيره وسواء في ذلك مدَّ الألف أو لم يمدها في لفظ الجلالة لأن حكمها واحد لأن اللحن هنا وفي سائر الأيمان الصريحة والكناية لا يمنع الانعقاد إذ في الحقيقة لا لحن لا مكان في جعل الرفع على الابتداء والمحذوف والنصبُ على خذف الخافض كما ذكرنا قبل قليل. وكذلك التسكين على نية الوقف والجر بحذف الخافض وابقاء عمله ولو قال أقسمت أو أقسم أو حلفت أو أحلف بالله لأفعلنّ كذا فيمين إن نواها أو أطلق لاطراد العرف باستعمالها يميناً وأيدها بالنية وإن قال قصدت خبراً ماضياً أو مستقبلاً صدق باطناً لأن قوله أقسمتُ يصلح لماضي حقيقة وقوله أقسم يصلح للمستقبل حقيقة فإذا أراده قُبِلَ منه وكذا ظاهراً على المذهب وحيث قال باطناً أي بينه وبين الله سبحانه وحيث قال ظاهراً أي بينه وبين الناس.
ولو قال لغيره أقسم عليك بالله أو أسألك بالله لتفعلن وأراد يمين نفسه فيمين تنعقد ف يحق الحالف لأنه أراد عقد اليمين بنفسه وإلا يريد يمين نفسه بل يريد الشفاعة أو يمين المخاطب فلا تنعقد لأنه لم يحلف لا هو ولا المخاطب.(4/107)
وإن قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام فليس يمين لكنه خال وقوله ليس يمين لأنه خال من اسم الله تعالى وصفاته ولا يكفر به إن قصد بتعبد نفسه عن الفعل أما إذا قصد قصد الرضا بذلك إذا فعل هذا الفعل فهو كافر في الحال والأولى الاتيان بالشهادتين ومن سبق لسانه إلى لفظها أي اليمين بلا قصد لمعناها لم تنعقد يمينُهُ قال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة225، فالمؤاخذة على القصد وإذا ظنَّ شيئاً على صفة فحلف عليه أنه كذلك فبان خلافه وروى مالك في الموطأ عن عائشة والبيهقي في السنن عنابن عباس والسيوطي عن ابن عمر أنهم قالوا: (لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله)، واللغو في اللغة هو الكلام الذي لايقصد إليه.
وقال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم با عقّدتم الأيمان) المائدة85، وعقّدتم أي أكدتم وأثبتهم.
وتصح على ماضٍ ومستقبل نحو قولهم والله ما فعلت كذا أو فعلته والله لأفعلن كذا أو لا أفعله وهي مكروهة إلا في طاعة كفعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه. قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) البقرة224. أي لا تكثروا الحلف بالله فلربما عجزتم عن الوفاء ويجوز الحلف لتوكيد أمر أو تعظيم فعل كما في حديث ابن حبان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشاً)).
روى الشيخان عن عبدالرحمن بن سمرة (فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك) فإن حلف على ترك واجب أو فعل حرام عصى بذلك ولزمه عند ذلك الحنث وكفارة لأن الإقامة على ترك الواجب أو فعل المحرم معصية. وقد روى مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر).(4/108)
أو حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه سُنَّ حِنثُهُ وعليه كفارة لأن الحلف والإقامة عليه مكروهان. قال تعالى: (ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أو يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا) النور22.
أو حلف على ترك مباح أو فعله فالأفضل ترك الحنث تعظيماً لاسم الله تعالى. قال تعالى: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) النمل91. وقال تعالى: (واحفظوا أيمانكم) المائدة89.
وقيل الحِنث أفضل لينتفع الفقراء بالكفارة ولينتفع بالمباح الذي منع نفسه منه بالحلف قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف32. وروى الشيخان عن عبدالرحمن بن سَمْرَة (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه ).(4/109)
ولو تقديم كفارة بغير صوم على حنث جائز أي غير حرام كأن حلف ليصومنّ أو ليدخلنّ الدار أو لا يلبس أخضراً جاز له أن يكفر لأن سبب الكفارة اليمين والحنث جميعاً والتقديم على احد السببين جائز كما في تقديم الزكاة قبل الحول روى البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي عن عبدالرحمن بن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)). فقدم الكفارة على الحنث ولا يصح التكفير بالصوم لأنه عبادة بدنية فلا يقدم على الحنث. وقيل لعله يجد الإطعام أو الكسوة قبل الوجوب. قيل: وحرام كالحنث بترك واجب أو فعل حرام قلت: هذا أصح أي تقديم الكفارة على الحنث بيمين على معصية والله أعلم كأن حلف أن يشرب الخمر فأراد أن يكفر قبل أن يشربها جاز ذلك لأن الكفارة لا تتعلق بها استباحةٌ او تحريمٌ وكفارة ظهار على العود وقتل على الموت وذلك بعد أن جرحه وكذلك تقديم جزاء الصيد بعد الجرح وقبل الموت فيجوز في ذلك تقديم الكفارة ومنذور مالي على المعلق عليه فيجوز تقديم الكفارة قبل حصول المعلق عليه كأن قال إن شفى الله مريضي فللّه عليَّ أن أبني داراً للمساكين فيجوز تقديمها قبل الشفاء كالزكاة يجوز تقديمها على الحول.
? فصل: في بيان كفارة اليمين ?(4/110)
يتخير في كفارة اليمين بين عِتقٍ كالظهار أي كعتق كفارة الظهار وهو عتق رقبة مؤمنة بلا عيب يخل بالعمل والكسب. و بين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدُّ حبٍَ من غالب قوت بلده وبين كسوتهم بما يسمى كسوة كقميص أو عمامة أو إزار لا خُفٍّ وقفازين فلا يغني الخف في الكفارة ولا يجزيء القفازان وهو ما يلبس باليدين ويُحشى عادة بالقطن وتكون له أزرار تزر على الساعد من البرد ومنطقة لا تجزيء أيضاً والمنطقة هي ما يشد على الوسط عادة ولا يشترط في الكسوة صلاحيته للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغيرة أن يدفع لكبير لا يصلح له و يجوز في الكسوة قطن وكتان وحرير وصوف وشعر لامرأة ورجل و يجوز لبيس أي ملبوس لم تذهب قوته فإن كان قد خَلُقَ لم يُجِزه كالطعام المسوِّس وإن كان لم يخلُقْ أجزأه كالطعام العتيق من عجز عن الثلاثة المذكورة لزمه صوم ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها في الأظهر قال تعالى:(لا يؤاخذكم الله باللغو فيأيمانك ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) المائدة89. ولا يجب التتابع لأن الآية (فصيام ثلاثة أيام) أطلقت ولم تفرق بين كونها متتابعة أو متفرقة.
وإذا غاب ماله انتظره ولم يصم لأنه واجد للمال ولا يكفر عبد بمال لأنه لا يملك إلا إذا ملكه سيده طعاماً أو كسوة وقلنا يملك بتمليك سيده فهو يملك به وهو قول ضعيفبل يكفر بصوم لعجزه عن غيره فإن ضره الصيام لشدة حر وطول نهار وتعبد فيب خدمة سيده وكان حلف وحَنِثَ بإذن سيده وصام لا إذن من سيده وليس له منعه من ذلك أو وجدا أي الحلف والحنث بلا إذن لم يصم العبد إلا بإذن من السيد لأن حق السيد على الفور والكفارة على التراخي.(4/111)
وإن أذن السيد في أحدهما أي في الحلف أو الحنِث فالأصح اعتبار الحلف لأن إذن السيد بالحلف إذن بما يترتب عليه.
ومن بعضه حر ولو مال يكفِّر بطعام أو كسوة ولا يكفر بصوم ليساره لاعتق فلا يصح العتق من المبعض عن أهلية الولاء.
? فصل: في الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها ?
حلفَ لا يسكنها أي الدار أو لا يقم فيها فليخرج في الحال لأن استدامة السكون بمنزلة ابتدائه فإن مكث بلا عذر حَنِثَ أي إن أمكنه الخروج ولم يخرج حَنِثَ وإن خرج وترك فيها متاعه وأهله لم يحنث وإن بعث متاعه وأهله ومكث هو حَنِثَ لأن حلفه كان على سكنى نفسه أما إذا مكث لعذر كضياع مفتاح الدار أو مُنِعً من الخروج لم يحنث وإن اشتغل بالخروج لجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب لم يحنث وإن طال زمانه لأن ذلك اشتغال بأسباب الخروج ولو حلف لا يساكنه في هذه الدار وخرج أحدهما في الحال لم يحنث ولو مكث ساعة مشتغلاً بنقل متاعه لأنه مشتغل بأسباب الخروج وكذا لم يحنث لو بني بينهما جدار ولكل جانب مدخل في الأصح لاشتغاله بأسباب عدم المساكنة. ولو حلف لا يدخلها أي الدار وهو فيها أو لا يخرج منها وهو خارج فلا حنث بهذا المذكور لأنه لا يسمى دخولاً ولا خروجاً حيث أن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل والخروج هو الانفصال من داخل إلى خارج ولم يوجد هذا في الاستدامة فلا يسمى دخولاً ولا خروجاً. أو حلف لا يتزوج وهو متزوج أو لا يتطهر وهو متطهر أو لا يلبس وهو لابس أو لا يركب وهو راكب أو لا يقوم وهو قائم أو لا يقعد وهو قاعد فاستدام هذه الأحوال حَنِثَ في هذه الأحوال ولو كرر الحلف حنث ثانية إن شرع فيها واستدام عليها قلت تحنيثه باستدامة التزوج والتطهر غلط لأن استدامة الشيء لا تجعل في الشرع بمنزلة ابتدائه والمنقول والمنصوص في المذهب عدم الحنث واستدامة طيب ليست تطيباً في الأصح إذ لا يقدر عادة بمدة ومثل التزوج والتطهر وكذا لا يحنث باستدامة وطء وصلاة وصوم والله أعلم(4/112)
وقيل يحنث لتقدر الأربعة الأخيرة بزمن وهذا ليس بشيء.
ومن حلف لا يدخل داراً حَنِثَ بدخول دهليز والدهليز هو الممر بين الباب والدار داخل الباب بكامل جسمه وإن لم يكن للدار باب آخر أو كان بين بابين من الدار لأن من جاوز باباً للدار عُدَّ داخلاً. لا بدخول طاقٍ قدام الباب فلا يحنث بذلك والطاق هو ما يجعل أمام المنزل من فسحة مسقوفة ومزينة بعقود وأقواس ومفتوحة على الشارع بلا باب ولا يحنث بصعود سطح غير محوَّط وكذا محوط في الأصح لأن من صعد السطح لا يسمى داخلاً ولو أدخل يده أو رأسه أو رجله لم يحنث لأنه لا يسمى داخلاً. فقد روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً وكان يخرج رأسه من المسجد إلى عائشة لترجله) فإن وضع رجليه فيها أي في الدار معتمداً عليهما حنث لأنه بإدخال رجليه والاعتماد عليهما في وقوفه يسمى داخلاً لو انهدمت الدار فدخل فيها وقد بقي أساس الحيطان حَنِثَ لأن أصول الحيطان من الدار وإن صارت فضاءً أو جعلت الدار مسجداً أو حماماً أو بستاناً فلا يحنث لزوا اسم الدار عنها.
ولو حلف لا يدخل دار زيد حَنِثَ بدخول ما يسكنها بملك سواء كان مالكاً لها عند الحلف أو ملكها بعد ذلك لا بإعارة وإجارة وغصب لأن ذلك لا يدل على الملك ومطلق الإضافة يعني الملك إلا أن يريد بدار زيد مسكنه فإنه يحنث عندئذ.
ويحنث أيضاً بما يملكه زيد إن دخله ولا يسكنه إلا أن يريد بيمينه مسكنه أي مكان سكنى زيد فيحنث بدخول أي مكان سكنه زيد وبأية صفة.
ولو حلف لا يدخل دار زيد أو لا يكلم عبده أو لا يكلم زوجته فباعهما أي باع زيد الدرا والعبد أو طلقها أي طلق زيد زوجته فدخل وكلم لم يحنث لزواج الملك بالبيع والزوجية بالطلاق إلا أن يقول داره هذه أو زوجته هذه أو عبده هذا فيحنث تغليباً للإشارة على العبارة إلا أن يريد الحالف بقوله هذه أو هذا مادام ملكه فلا يحنث مع الإشارة.(4/113)
لول حلف لا يدخلها من ذا الباب فنزع الباب ونصب في موضع آخر لم يحنث بالخول من المنفذ الثاني ويحنث بالأول في الأصح لأن المقصود باليمين المنفذ دون المنصوب من خشب أو غيره أو حلف لا يدخل بيتاً حَنِثَ بكل بيت يدخله سواء من طيب أو حجر آجر وهو اللَبِن المحروق أو خشب أو خيمة أو صوف أو جلد أو شعر أو وبر فإن نوى نوع منها حمل عليه.
ولم يحنث بمسجد دخله وحمام وكنيسة وغار جبل لأنها لا تسمى بيتاً عادة أو حلف لا يدخل على زيد فدخل بيتاً فيه زيد وغيره حنث بالدخول وإن استثناه بقلبه أو لسانه لأن الدخول لا يتبعض وفي قول إن نوى الدخول على غيره دونه لا يحنث الحاقاً بالسلام ولكنه بعيد لأن الأقوال تقبل الاستثناء والأفعال لا تقبلها.
فلو جهل حضوره أي حضور زيد في البيت فخلاف حنث الناسي والجاهل والأصح عدم الحنث قلت: ولو حلف لا يسلم عليه فسلم على قوم هو فيهم واستثناه لفظاً أو نية لم يحنث وإن أطلق حنث إن علم به في الأظهر والله أعلم لأن العام يجري على عمومه ما لا يخصص.
? فصل: في الحلف على الأكل والشرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات ?
حلف لا يأكل الرؤوس ولا نية له حُمِلَ قوله على العرف فإن اضطرب العرف حمل قوله على اللغة حَنِثَ برؤوس تباع وحدها وهي هنا رؤوس الإبل والغنم والبقر لا طير وحوت وصيد فلا يحنث بأكلها لأنها لا تفرد بالبيع إلا ببلد تباع فيه هذه الرؤوس مفردة فإنه يحنث بأكلها.
والبيض إذا حلف لا يأكله يُحْمَلُ على مزايل أي على بيض يفارق بائضه في حال حياته في الحياة كدجاج ونعمامة وحمام لا سمك وجراد لأنه يخرج من بعد الموت بشق بطنه فيحنث بأكل بيض الدجاج والنعامة والحمام ولا يحنث بأكل بيض السمك والجراد.(4/114)
واللحم إذا حلف لا يأكله يحمل عل نعم أي إبل وبفر وغنم وخيل ولحم وحش وطير مأكولين لا سمك فلا يحنث بأكله لأنه لا ينصرف إليه اسم اللحم عند الإطلاق وكذا لا يحنث بأكل كرش وكبد وطحال وقلب في الأصح لأ، اسم اللحم لا يتناول هذه الأشياء عند الاطلاق والأصح تناوله أي اسم اللحم لحم رأس ولسان وجلد وأكارع والثاني لا يتناوله الاسم لأ، العرف يخالف ذلك والأصح أن اسم اللحم لا يتناول شحم ظهر وجنب لأنه لحم يكون عند هزال الحيوان أحمر وإنما يبيض عندما يكون الحيوان سميناً والأصح أن الألية والسنام ليسا شحماً ولا لحماً لمخالفتهما للشحم واللحم ففيهما صلابة اللحم وذوبان الشحم فهما مخالفتان للشحم في الاسم والصفة. واسم الدسم يتناولهما أي الألية والسنام واسم الدسم يتناول شحم ظهروبطن وكل دهن ولحم البقر يتناول أيضاً جاموساً لدخول الجاموس تحت اسم البقر.(4/115)
ولو قال في حلفه مشيراً إلى حنطة لا آكل هذه ولم يذكر اسمها حنث بأكلها على هيئتها حنطة وبطحنها وخبزها عملاً بالإشارة ولو قال في حلفه لا آكل هذه الحنطة وذكر اسمها حنث بها أي بأكلها مطبوخة ونيئة ومقلية ولكن لا يحنث بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها لزوال اسم الحنطة عنها ولا يتناول رُطبٌ تمراً ولا بُسراً ولا عنبٌ زبيباً وكذا العكوس فلا يحنث من حلف لا يأكل رطباً إذا أكل تمراً ولا يحنث من حلف لا يأكل عنباً إذا أكل زبيباً لزوال الاسم وكذلك العكس فنتاج النخل أوله طلع ثم خَلال ثم بلح ثم بُسرٌ ثم رطبٌ ثم تمر ولو قال لا آكل هذا الرُّطب فتتمر الرطب المشار إليه فأكله أو قال لا أكلم ذا الصبي فكلمه شيخاً فلا حنث في الأصح لزوال الاسم كما في الحنطة والثاني يحنث لأن الصورة باقية وهذا هو المذهب والخبز يتناول كل خبر لحنطة وشعير وأرز وباقلا وذرة وحمص فيحنث بأكل أي منها من حلف لا يأكل خبزاً ولا اعتبار لوجوده في بلده وسواء في ذلك أكله مستقلاً أو مثروداً أو مع أُدم وغير ذلك. فلو ثرده فأكله حَنِثَ ولكن لو ذاب في المرقة فصار حساءً أو كالحساء فتحساه لم يحنث لزوال الاسم. ولو حلف لا يأكل سويقاً فسفه أو تناوله بأصبع حَنِثَ لأن الجميع أكل وإن جعله أي السويق في ماء فشربه فلا يحنث لأنه لا يعد أكلاً ولا يسمى أكلاً. أو حلف لا يشربه أي السويق فبالعكس أي لا يشرب السويق لأن الأكل في الجوامد والشرب في المائعات والسويق طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير مع الماء والسمن والسكر وقد يكون سائلاً وقد يكون جامداً أو حلف لا يأكل لبناً أو مائعاًآخر فأكله بخبز حَنِثَ لأن عادة أكله هكذا أو شربه فلا يحنث بذلك لأنه لا يسمى أكلاً أو حلف لا يشربه فبالعكس فيحنث بالشرب دون الأكل.(4/116)
أو حلف لا ]اكل سمناً فأكله بخبز جامداً أو ذائباً حَنِثَ لأنه هكذا يؤكل عادة وإن شرب السمن ذائباً فلا يحنث لأنه لم يأكله وإنما شربه وإن أكله أي السمن في عصيدة حَنِثَ إن كانت عينه ظاهرة أي إذا كا السمن ظاهراً متميزاً في الحس لا مستهلكاً فيها والعصيدة هي طعام يتخذ من دقيق طبخ بسمن وعسل ويسمى أيضاً الحريرة. ويدخل في فاكهة رُطَبٌ وعنبٌ ورمان وأُتْرُجٌ ورَطْبٌ ويابسٌ ورَطْبٌ ما أكل بعد تلونه وسريان الماء فيه واليابس إذا جف وبقيت فيه لذاذة الطعم فمن الرطب العنب والتفاح والتين ومن اليابس التمر والزبيب والتين اليابس والأترج شجرة يخرج منها ثمر كالليمون الكباد وهو ذهبي اللون طيب الرائحة ماؤه حامض قلت: أي النووي وليمون ونبق وهو ثمر شجر السدر وكذا بطيخٌ ولُبُّ فستقٍ وبُندُقٍ وغيرهما من اللبوب كَلُبِ لوز وجوز في الأصح لأنها من يابس الفاكهة لا قثاء وخيلر وباذنجان وجزر فهذه الأربعة من الخضار ولا يدخل في الثمار إذا حلف لا يأكلها يابس والله أعلم لأن الثمر اسم للرطب فقط بخلاف الفاكهة ففيها يدخل الرطب واليابس.
وإذا أُطلِق بطيخٌ وتمرٌ وجوزٌ فيمن لا يأكل واحدة منها لم يدخل فيها هنديٌ للمخالفة في الصورة والطعم ويجب أن يعلم أن البطيخ الهندي هو البطيخ الأخضر فإن حلف لا يأكل البطيخ الهندي وعلم أن معناه البطيخ الأخضر حَنِثَ بخلاف التمر الهندي والجوز الهندي فلا يحنث إذا حلف لا يأكل التمر أو الجوز فأكل هندياً منهما فلا يحنث.(4/117)
والطعام إذا حلف لا يأكله يتناول قوتاً وفاكهةً وأدماً وحلوى لأن اسم الطعام يقع عليها جميعاً، قال تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) آل عمران93. ولو قال في حلفه لا آكل من هذه البقرة تناول المنع لحمها فيحنث به لأنه المفهوم عرفاً وكذا كبدها وشحمها وغيرها مما يأكل عادة دون ولد ولد ولبن منها فلا يحنث بهما أو قال في حلفه لا آكل لا آكل من هذه الشجرة فثمر منها يحنث الخالف به إذا أكله دون ورق وطرف عصن منها فلا يحنث بذلك لأنها لا تُعدُّ للأكل عادة.
? فصل: في الحلف مسائل منثورة ?(4/118)
حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكله أي الجميع حنِثَ لأنها أكل المحلوف عليها أما لو أكله إلا تمرة واحدة لم يحنث إلا إذا تيقن أنها غير المحلوف عليها لإمكان أن الباقية هي المحلوف عليها لأن الأصل براءة ذمته من الكفارة أو حلف ليأكلها أي التمرة المعنية فاختلطت بغيرها لم يبرَّ إلا بأكل الجميع أو حلف ليأكلنَّ هذه الرمانة يَبَرُّ بيمينه بجميع حبها إذا أكله أو حلف لا يلبس هذين الثوبين مثلاً لم يحنث بأحدهما إذا لبسه لبسهما معاً أو مرتباً حَنِثَ لوجود المحنوث عليه. أو حلف لا ألبس هذا ولا ألبس هذا حنث بأحدهما إذا لبسه لأنهما يمينان لإعاذدة حرف النفي. أو حلف ليأكلنَّ ذا الطعام غداً فمات قبله أي قبل الغد فلا شيء عليه لأنه لم يبلغ زمن البرِّ والحِنْث وإن مات الحالف أو تلف الطعام في الغد بعد تمكنه أي تمكن الحالف من أكله حَنِثَ لأنهفوّت الوقت باختياره وقبله أي قبل التمكن قولان كمكره لأن فوات البرِّ بغير اختياره والأصح عدم الحنث وإن أتلفه الحالف بأكل أو غيرهقبل الغد حَنِثَ تفويته البرَّ باختياره ولأن التقصير في التلف كالإتلاف. وإن تلف الطعام بنفسه أو أتلفه أجنبي قبل الغد ولا يدَ له في ذلك فكمكْره لأن فوت البرِّ باليمين كان من غير اختياره أو حلف لأقضينَّ حقك عند رأس الهلال فليقض عند غروب الشمس آخر الشهر أن وقت الغروب أول جزء من الليلة الأولى من الشهر فإن قَدِمَ القضاء على ذلك أو مضى بعد الغروب قدر إمكانه أي إمكان القضاء حَنِثَ إن لم يكن له عذر في التأخير كنحو ريح شديد أو مطر غزير أو عدو مترصد لأن المطلوب منه أن يُعِدَّ المال ويترصد صاحب الحق فيقضيه في الوقت وإن شرع في الكيل أو الوزن أو العد أو غير ذلك من المقدمات حينئذ أي حين غربت الشمس ولم يفرغْ لكثرته إلا بعد مدة لم يحنث لأنه بدأ القضاء عند وقته أو حلف لا يتكلم فسبح أو قرأ قرآناً فلا يحنث لأن هذا لا يسمى كلاماً على الإطلاقعلى أن(4/119)
العادة اطردتأن الحالف بعدم الكلام أي بعدم الكلام الذي يحدث به الناس عادة أو حلف لا يكلمه فسلم عليه حنث لأن السلام عليه نوع من الكلام بشرط إسماعه وإن كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها فلا حنث في الجديد اقتصاراً بالكلام على الحقيقة أما في القديمن فحمل الكلام على المجاز ولو قرأ آية أفهمه بها مقصوده وقصد قراءة لم يحنث إن حلف لا يكلمه لأنه لم يكلمه. وإلا إن قصد بقراءة الآية إفهامه أو أطلق دون نية القراءة حنث كلمه أو حلف لا مال له حَنِثَ بكل نوع من المال وإن قلَّ حتى ثوب بدنه لصدق الاسم عليه ودليل ذلك ما رواه أحمد والبيهقي عن سويد بن هبيرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير المال سكَّةٌ مأبورة أو فرس مأمورة)) أي نخلة مؤبرة ومهرة كثيرة النتاج وأراد بهذا الحديث خير المال نتاج أو زرع ومدبر ومعلق عتقه بصفة وما وصى به ودين له حالٍّ وكذا مؤجل في الأصح وقيل المؤجل لعدم إمكان المطالبة به كالمعدوم فلا يحنث به.(4/120)
لا مكاتبٍ في الأصح فلا يحنث به إن حلف لا يملك مالاً لأنه لا يملك منافعه فصار كالحرِّ وقيل يحنث به لما أخرج أبو داود والحاكم في المستدرك عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي قال: (المكاتب عبد مابقي من مكاتَبَتِهِ درهم)). أو حلف ليضربنه فالبِرُّ بما يسمى ضرباً عرفاً فلا يكفي وصنع يده أو أصبعه عليه ولا يشترط فيه إيلام إلا أن يقول ضرباً شديداً فإنه يشترط الإيلام وليس وضع سوط عليه أي المحلوف على ضربه وعضٌ وخَنِقٌ ونتف شَعَرٍ ضرباً لأنه لا يسمى بذلك عرفاً وقيل ولا لطم لوجه ببطن راحة الكفِّ ووكز وهو الضرب باليد مطبقة أو الدفع بغير اليد لأنها لا تسمى ضرباً عادة أو حلف ليضربنه مائة سوط أو مائة خشبة فشدَّ مائة من السياط أو الخشبات وضربه بها ضربة واحدة برَّ بيمينه لوجود المحلوف عليه أو ضربه بِعثْكَال عليه مائة شمراخ برَّ أيضاً إن علو إصابة الكل أو تراكم بعضٌ على بعض فوَصل ألم الكلِّ أي ثقل الجميع فإنه يبرُّ أيضاً والعثكال هو الضغث في الآية (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به) ص44، وهو أيضاً العرجون.(4/121)
قلت: ولو شك في إصابة الجميع برَّ على النص والله أعلم عملاً بالظاهر أو قال في حلفه ليضربنَّه مائة مرة لم يبرَّ بهذا العثكال الذي عليه مائة من الشماريخ أو المائة المشدودة لأنه ضربه مرة واحدة أو قال في حلفه لا أفارقك حتى استوفي حقي فهرب منه ولم يمكنه اتباعه لم يحنث وإن فارقه باختياره قبل استيفاء حقه حَنِثَ في يمينه قلت: الصحيح لا يحنث إذا أمكنه اتباعه لأن الحالف علق اليمين بفعل نفسه لا بفعل غريمه فلا يحنث بفعله والله أعلم وإن فارقه الحالف أو وقف حتى ذهب الغريم وكانا ماشيين معاً حيث الحالف لتقصيره في مفارقته أو أبرأه حنث لأنه فوت البرَّ باختياره أو احتال الحالف بالدين على غريم لغريمه ثم فارقه أو أفلس المحلوف عليه ففارقه الحالف ليوسر حَنِثَ للمفارقة دون قبض حقه باختياره وإن استوفى الحالف حقه وفارقه الغريم فوجده أي الحق ناقصاً إن كان من جنس حقه لكنه أردأ منه لم يحنث وإلا أي وإن لم يكن جنس حقه حَنِث عالمٌ بالحال وفي غيره وهو الجاهل بالحال القولان في حنث الجاهل والناسي أظهرهما لا حنث أو حلف لا رأى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فرأى الحالف ذلك وتمكن من الرفع فلم يرفع حتى مات قبل أن يرفع حنث لتقصيره ويُحْمَلُ الحَلِفُ على قاضي البلد التي كان فيه الحلف إلا إذا قيد الحالف ببلد غيرها فإن عُزِلَ قاضي البلد فالبِرُّ باليمين يكون بالرفع إلى القاضي الثاني أو حَلَفَلا رأى منكراً إلا رفعه إلى قاضٍ برَّ بكل قاضٍ في أي مكان لعموم اللفظ أو حلف لأرفعه إلى القاضي فلان فرآه أي رأى الحالف المنكر ثم عُزِلَ القاضي الذي عينه فإن نوى الرفع إليه مادام قاضياً حَنِث إن أمكنه رفعه فتركه ولم يرفعه وإلا أي وإن لم يتمكن من رفعه لحبس أو مرض أو غيره فكمكره والصحيح عدم حنثه وإن لم يَنوِ الرفع إليه ما دام قاضياً برَّ برفع إليه بعد عزله ويحصل الرفع إلى القاضي برسول أو رسالة أو أية وسيلة توصل الخبر إليه.(4/122)
? فصل: في الحلف على أن لايفعل كذا ?
حلف لا يبيع ولا يشتري فعقد لنفسه بصيغة صحيحة موجبة للملك أو غيره أو عقد لغيره بولاية أو وكالة حَنث لأن اللفظ يتناوله ولا يحنث الحالف بعقد وكيله له لأنه لم يعقد بذاته أو حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يضرب فوكل من فعله لايحنث إلا أن يريد بحلفه أن لا يفعل هو ولا غيره المحلوف عليه فيحنث عند ذلك أو حلف لا ينكح حنث بعقد وكيله النكاح له لا بقبوله هو أي الحالف النكاح لغيره لأن الوكيل محض سفير أو حلف لا يبيع مال زيد فباعه باع مال زيد فإذنه أي بإذن زيد كان البيع صحيحاً وعليه حنث في بيعه وإلا أي وإن باعه من غير إذن زيد فلا حنث لأن اسم البيع لا يتناول الفاسد منت البيوع وكذا غيره من سائر العقود فلا يتناول إلا الصحيح. أو حلف لا يَهَبُ له فأوجب عليه أي لزيد مثلاً فلم يقبل زيد لم يحنث لأنه لابد من إيحاب وقبول لتمام العقد وكذا لا يحنث إن قبل زيد ولم يقبضُ الهبة في الأصح لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض ويحنث الحالف لا يهب بِعُمْرى ورُقبى وصدقة لأنها أنواع من الهبة لا إعارة ووصية ووقف فلا يحنث بها لأنها ليست من مسمى الهبة. أو حلف لا يتصدق لا يحنث بهبة في الأصح لأن الهبة أعم من الصدقة والصدقة أخص فلا يحنث بغيرها من الهبة.
أو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد لم يحنث الحالف بما أي بأكل الطعام اشتراه زيد مع غيره صفقة واحدة أو اشترى زيد نصفه مشاعاً ثم اشترى آخر نصفه الآخر مشاعاً لأنه لا يصح أن يضاف الطعام إلى زيد وحده. وكذا لا يحنث لو قال لا آكل من طعام اشتراه زيد في الأصح لأن كل جزء منالطعام مشاع بينهما ويحنث بما اشتراه زيد سلماً لأنه نوع من الشراء ولو اختلط ما اشترى زيد بمُشْتَرى غيرِهِ لم يحنث الحالف بالأكل من المختلط حتى يتيقن أكله أي الحالف من ماله أي من مال زيد قيل هو الكف والكفين وقيل النصف وما فوق والصحيح حتى يتيقن الأكل من مال زيد.(4/123)
أو حلف لا يدخل داراً اشتراها زيد لم يحنث بدار أخذها أي أخذ جزءاً منها زيدٌ بشفعة لأن الأخذ بالشفعة لا يسمى شراءً عرفاً.
ولو حلف ليثنينَّ على الله أحسن الثناء أو أعظم الثناء أو أجل الثناء فليقل: ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
? كتاب النذر ?
والنذر لغة الوعد بخير أو شر وشرعاً الوعد بخير خاصة وقيل هو التزام قربة لم تتعين والأصل فيه قوله تعالى: (يوفون بالنذر ويجافون يوماً كان شره مستطيراً) الإنسان7، وقوله تعالى: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) البقرة270.
وروى البخاري عن عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أي يعصي الله فلا يعصه).
وروى مسلم عن عمرانبن حصين (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم). وأركان النذر ثلاثة: ناذرٌ وصيغةٌ ومنذورُ ويشترط في الناذر: التكليف والإسلام والاختيار ونفوذ التصرف فيما ينذره فلا ينفذ في سفيه محجور عليه بالقُرَبِ المالية وينفذ من محجور عليه بفلس أو سفه بالقرب البدنية.
وهو أي النذر ضربان نذر لَجاج وهو التمادي في الخصومة والغضب ويسمى أيضاً يمين الغَلَقِ وهو أن يمنع نفسه أو غيره عن شيء أو يحث عليه أو يحقق خبراً غضباً بالتزام قربة كإن كلمته أو قال أكلمه فله علي عنق أوصوم أو صلاة وفيه أي وفي النذر إذا وجد المعلق عليه كفارة يمين لما روى مسلم وغيره عن عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين)).(4/124)
وفي قول ما التزم أي يجب على الناذر ما التزمه من القربة فقد روى أبو داود بسنن صحيحه من حديث ثابت بن الضحاك (أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً في موضع سماه، فقالله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيه وثن من أوثان الجاهيلة يُعْبَدُ؟ قال: لا، قال: أوفِ بنذرك). وفي قول أيهما شاء لأنه لا يشبه النذر من حيث الالتزام ويشبه اليمين من حيث المقصود ولا سبيل للجمع بين موجبيهما ولا لتعطيلهما فوجب التخيير قلت الثالث أظهر ورحجه العراقيون.. والله أعلم كمن قال إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة، فإذا حصل المعلق بتجب الكفارة ويتخير بينها وبين العتق. ولو قال إن دخلت الدار فعلي كفارة يمين أو نذر لزمه كفارة بالدخول لخبر مسلم: (كفارة النذر كفارة يمين) وتغليباً لحكم اليمين. ونذر تبرر وقربة وذلك بأن يلتزم قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة كإن شُفِيَ مريضي فالله عليَّ أو فعلي كذا من صوم أو صلاة نافلة أو تصدق فيلزمه ذلك إن حصل المعلق عليه لما روى البخاري عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يعْصِه)) وإن لم يعلقه بشيء كللَه علي صوم لزمه ما التزمه في الأظهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ...)، وقيل لا يلزمه إلا إذا نوى اليمين ولا يصح نذر معصية كشرب خمر والزنى وقتل نفس بغير حق لحديث مسلم (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابم آدم) رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. ولا يصح نذر واجب كصلاة الصبح أو صوم رمضان، لأنه وجب بالشرع فلا معنى لإيجابه بالنذر ولو نذر فعل مباح أو تركه كقيام أو قعود لم يلزمه الفعل أو الترك لما روى الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله)) ولما روى البخاري وغيره عن ابن العباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل قائم في الشمس فسأل عنه:(4/125)
فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس ولا يتكلم ويصوم، فقال: مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه). لكن إن خالف لزمه كفارة يمين على المُرَجَّح لما روى أبوداود والبيهقي والترمذي وأحمد من حديث بريدة (أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فأجابوا عنه أن ذلك كان سروراً للمسلمين وإغاظة للكافرين وإرغاماً للمنافقين فكان نذر قربة).
ولو نذر صوم أيام غير معينة ندب تعجيلها مسارعة إلى براءة الذمة مالم يكن عذر أو تنويب طاعة أهم. فإن قيد النذر بتفريق
أيام الصوم أو موالاة بينها وجب ذلك عملاً بالتزامه وإلا أي وإن لم يقيد جاز التفريق والموالاة أو نذر صوم سنة معينة صامها وأفطر العيد والتشريق أي يفطر يوم الفطر والأضحى وثلاثة أيام التشريق وهي التي بعد يوم الأضحى وجوباً لحرمة صومها وصام رمضان من السنة عنه لأن لا يصح الصوم في رمضانعن غيره ولا قضاء عليه لأنه لا مدخل للنذر إلى ما أوجبه الشرع أو منعه وإن أفطرت امرأة في سنة نذرت صيامها بحيض ونفاس جب القضاء في الأظهر كما لوة أفطرت رمضان لأجلهما.(4/126)
قلت: الأظهر لا يجب القضاء وبه قطع الجمهور والله أعلم لأنها غير قابلة للصوم فلا تدخل في نذرها وإن أفطر يوماً بلا عذر وجب قضاؤه ولا ينقطع تتابعه فهو كما لو أفطر في رمضان بغير عذر ولا يجب استئناف سنة أخرى فإن شرط التتابع في الصيام وجب استئناف سنة في الأصح وفاءً بما التزمه ولا يقطعه أي التتابع صوم رمضان عن فرضه أي عن فرض رمضان وأفطر الناذر أيضاً العيد والتشريق يقضيها تباعاً متصلة بآخر السنة وفاءً بنذره التتابع ولا يقطعه أي التتابع حيض ولا نفاس وفي قضائه القولان أصحهما لا يجب القضاء. وإن لم يشرطه أي التتابع لم يجب لم يجب عليه التتابع فيصوم كيف شاء متتابعاً ومتفرقاً فإن صام اثنى عشر شهراً بالأهلة صحَّ وإن صامها أياماً وجب ثلاثمائة وستين يوماً أو نذر صوم يوم الاثنين أبداً لم يقضي أيام رمضان وكذا العيد والتشريق في الأظهر لأنها مستحقة بالشرع فلا يتناولها النذر فلو لزمه صوم شهرين تباعاً أي شهرين متتابعين لكفارة صامها أي الشهرين ويقضي أثانيهماأثاني هو جمه اثنين وقيل يجمع على أثانين بإثبات النون والأول أكثر في الاستعمال فيجمع بين الكفارة والنذر. وفي قول لا يقضي الأثاني إن سبقت الكفارة النَّذرَ قلت: ذا القول أظهر والله أعلم لأن صيام الشهرين استُحِقَ قبل النذر فصار كأثاني رمضان فلا تقضى وتقضي من نذرت صوم الأثاني زمن حيض ونفاس وقع في الأثاني في الأظهر وقيل لا تقضي وهو الأصح لأنها لم تقصد بنذرها صوم اليوم الذي يقع في عادتها أو نذر أن يصوم يوماً عيّنَهُ من أسبوع ثم نسي أي نسي اليوم المعين صام آخره قضاءً عن المنذور لما روى مسلم عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور ويوم الأربعاء وبث فيه الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في(4/127)
آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل)) وهو يدل على أن الجمعة آخر الأسبوع والحديث مُتَكلّمٌّ فيه. ومن شرع في صوم نفل فنذر إتمامه أي إتمام صومه لزمه الاتمام على الصحيح لأن صومه صحيح فصح إتمامه وقيل لا يلزم لأنه بعض يوم فلا ينعقد النذر عليه وإن نذر صوم بعض يوم لم ينعقد نذره لأنه غير معهود صوم بعضُ يومٍ شرعاً أو نذر صوم يوم قدوم زيد فالأظهر انعقاده لإمكان الوفاء وقيل لا يمكنالوفاء به لانتفاء تبييت النية ولكن يمكن أن يعلم مقدماً يوم قدومه فإن قدم زيد ليلاً أو قدم يوم عيد أو قدم في رمضان فلا شيء عليه لعدم قبول الليل والعيد الصوم ولأن يوم رمضان مشغول بالصوم أو قدم زيد نهاراً وهو مفطر أو صائم قضاءً أو نذرأ وجب يومُ آخرُ عن هذا لأنه غير متمكن من صوم يوم هذا اليوم. أو قدم وهو صائم نفلاً فكذلك يجب صيام يوم آخر وقيل يجب تتميمه ويكفيه عن نذره والصحيح الأول لأن الصوم لا يتبعض ولو قال: إن قدم زيد فلله عليَّ صوم اليوم التالي لقدومه وإن قدم عمرو فلله عليَّ صوم أَولِ خميس بعده أي بعد قدومه فقدما في الأربعاء وجب صوم الخميس عن أول النذرين ويقضي الآخر لأنه لا يمكن صيام الخميس لأنه استُحِقَ بنذر قبله.
? فصل في نذر النسك والصدقة والصلاة وغيرها?
نذر المشي إلى بيت الله تعالى وصرح بلفظ الحرام وقصد البيت الحرام أو نذر اتيانه فقط فالمذهب وحوب اتيانه بحج أو عمرة أو بهما معاً أو أذا ذكر البيت ولم يقيده بذلك ولا نواه فليغو نذره لأن المساجد كلها بيوت الله تعالى.
فإن نذر الاتيان فقط لم يلزمه شيءٌ فله الركوب والمشي وإن نذر المشي أو أن يحج أو يعتمر ماشياً فالأطهر وجوب المشي إن كان قادراً على المشي فإن ركب فقد أساء بذلك وحجه صحيح وقيل له الركوب لأنه أفضل من المشي.(4/128)
فإن قال في نذره أحج ماشياً فمن حيث أحرم من اليقات أو قبله وإن قال في نذره أمشي إلى بيت الله تعالى فمن دويرة أهله يمشي في الأصحلأنه ظاهر قوله والثاني هو الأصح لا يجب الإحرام والمشي إلا من الميقات لأن الإطلاق يُحمَلُ على المعنى الشرعي.
وإذا أوجبنا عليه المشي فركب لعذر أجزأه على المشهور لأنه لم يترك إلا هيئة التزامها وعليه دم لأ،ه لم يأت بما التزمه لما روى أبوداود وأحمد في المسند وغيرهما عن ابن عباس (أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هدياً).
وروى مسلم عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخاً يمشي بن ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأن هذا؟ قال ابناه: يا رسول الله نذر ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اركب أيها الشيخ فإن الله غني عنك وعن نذرك).
ومن نذر حجاً أو عمرة لزمه فعله بنفسه إن كان مستطيعاً فإن كان مغصوباً أي عاجزاً عن الحج بنفسه استناب من يحج عنه ويندب تعجيله أي الحج في أول الإمكان فإن تمكن من الحج أو الاستنابة في الحج فأخر فمات حُجَّ عنه من ماله لاستقراره عليه إن كان له مال وإن مات قبل التمكن فلا شيء عليه لحجة الإسلام وإن نذر الحج عامَه الذي نذر فيه ووجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام فإن منعه مرض بعد الإحرام وجب القضاء لأنه أمرٌ أوجبه بالنذر أو منعه عدو أو سلطان أو صاحب دين لا يقدر على وفائه قبل الاحرام أو بعده فلا يلزمه القضاء في الأظهر كما في حجة الإسلام إن صُدَّ عنها وفارق المرض أنه يحتاج للتحلل أن يشرط أما التحلل من حصر العدو فيمكنه التحلل من غير شرط.(4/129)
أو نذر صلاة أو صوماً في وقت فمنعه مرض أو عدو وجب القضاء لوجوبها مع العجز بخلاف الحج فإن شرطه الاستطاعة أو نذر هدياً لزمه حمله إلى مكة والتصدق به على من بها من الفقراء والمساكين قال تعالى: (هدياً بالغ الكعبة)المائدة95.
أو نذر التصدق على أهل بلد معين لزمه صَرْفُ الصدقة لهم مالم يكن أهلها كفاراً لأن النذر لا يصرف إلى الكفار أو نذر صوماً في بلد لم يتعين الصوم في تلك البلد ويفعله في أي محل شاء لأنه قربة بذاته ولذا لم يجب صومالدم في مكة للمتمتع الذي لم يجد الهدي بل لابد من صيام بعضه خارجها. قال تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) البقرة196. وكذا لو نذر صلاة في بلد معين لم يتعين إلا المسجد الحرام فإنه يتعين فقد روى الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء مرفوعاً (الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة) قال الهيثمي هو حديث حسن.
وفي قول ومسجد المدينة والأقصى يتعينان للصلاة المنذورة فيهما لمشاركتها للمسجد الأقصى في بعض الخصوصيات لنا روى الشيخان غن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) قلت: الأظهر تعينهما كالمسجد الحرام والله أعلم للحديث السابق وروى الشيخان غن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام). وقيل لا يتعينان بالنذر لأنهما مسجدان لا يجب قصدهما بالنسك فلم يتعينان بنذر الصلاة كسائر المساجد فقد روى أبوداود وغيره بسند صحيح عن جابر بن عبدالله (أن رجلاً قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم: (صلِّ هاهنا فأعادها هليه ثلاثاً وهو يقول: صلِّ هاهنا)).(4/130)
أو نذر صوماً مطلقاً من غير تحديد عدد فيوم واحد يجزئه عن نذره لأنه أقل ما يفرد بالصوم أو نذر أن يصوم أياماً فثلاثة تجزئه لأنها أقل الجمع أو نذر صدقة فبما أي يجزئه أي شيء كان وإن قلَّ وإن قبضة طعام.
أو نذر صلاة فركعتان تجزئان عن نذره حملاً على أقل واجب الشرع وفي قول تجزئه ركعة واحدة لأنها صلاة شرعية وهي ركعة الوتر فعلى الأول وهو حمل النذر على واجب الشرع يجب القيام فيهما أي الركعتين مع القدرة وعلى الثاني وهو حمل النذر على جائز الشرع لا يجب القيام فيهما.
أو نذر عتقاً فعلى الأول أي واجب الشرع يجب رقبة كفارة وذلك بأن تكون مؤمنة سليمة من العيوب التي تخل بالعمل والكسب وعلى الثاني وهو الحمل على جائز الشرع تجزئه رقبةٌ ولو كانت معيبة كافرة. قلت: الثاني هنا الأظهر والله أعلم لأن اسم الرقبة يقع عليه.
أو نذر عتق كافرة معيبة أجزأت كاملة لأنها أكمل على اتحاد الجنس فإن عين بالنذر ناقصه بأن قال الله عليَّ أن أعتق هذه الرقبة الكافرة أو هذه الرقبة المعيبة تعينت لتعلق النذر بها ولا يجزئه غيرها.
أو نذر صلاة قائماً لم يجز أن يصليها قاعداً لأنها أدون منها بخلاف عكسه أي نذر الصلاة قاعداً فيجوز قائماً لأنها أكمل منها مع اتحاد الجنس.
أو نذر طول قراءة الصلاة المكتوبة أو غيرها أو نذر سورة معينة يقرأها في صلاته أو نذر الجماعة فيما تشرع الجماعة لزمه ما ذكر لأنه طاعة مقصودة والصحيح انعقاد النذر بكل قربة لا تجب ابتداءً كعيادة لمريض وتشييع جنازة والسلام على غيره حيث شرع وكذا إجابة السلام على من بدأه بالسلام.(4/131)
ملاحظة كثير من الناس ينذرون لإيقاد الشموع أو وضع الأكسية أو البناء على قبور من يعتقدون صلاحهم ويسمونهم أولياء أو يوقفون على قبورهم تعظيماً للبقعة أو القبر أو التقرب إلى من دفن فيها أو نسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد وكذا حكم الوقف كالنذر فإن حصل شيء من ذلك وجب رده إلى مالكه وإلى وارثه بعده فإن جُهِلَ الناذر أو الواقف صرف ذلك في مصالح المسلمين.
إذا نذر أن يصلي في أفضل الأوقات فليصل في ليلة القدر. ومن نذر أن يجعل ماله في رتاج الكعبة أي في النفقة عليها ,اصل الرتاج الباب فكفارته كفارة يمين لما روى مالك في الموطأ عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بالمشي أو بالهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين)).
? كتاب القضاء ?
القضاء هو الحكم بين الناس وجمعه أقضية وشرعاً فصل الخصومات وقطع المنازعات. والأصل فيه قبل الإجماع الكتاب والسنة. قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء58.
وقال تعالى: (واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة48، وقال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) ص26، وقال تعالى: (إنما كان قول المؤمين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) النور51.
وأخرج مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا)).(4/132)
وقد بعث الخلفاء قضاة إلى أنحاء دولة الإسلام فقد بعث أبو بكر أنس بن مالك إلى البحرين قاضياً وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة وابن مسعود إلى الكوفة قاضياً كذلك هو أي القضاء فرض كفاية بل هو أعلى مراتب فروض الكفاية قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) النساء135.فيولي الإمام وجوباً من يصلح له ليفصل الخصومات ويقيم الحدود لأن الإمام لا يقدر على فصل الخصومات لأن التظالم يقع بين الناس عادة فدعت الحاجة إلى تولية القضاء والقضاء أمر بالمعروف ونهي عن منكر فهما على الكفاية فكان القضلء كذلك. وقد أخرج بن أبي شيبة في المصتف عن علي بن أبي طالب (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه قاضياً على اليمن فقال: يا رسول الله بعثتني أقضِ بينهم وأنا شاب ولا أدري ما القضاء، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري، وقال: اللهم اهده وثبت لسانه، فوالذي فلق الجنة ما شككت في قضاء بين اثنين).
فإن تعين واحد في ناحية معينة ولم يصلح للقضاء غيره لزمه طلبه لأن ذلك يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو لم يكن من يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد لتعين عليه، قال تعالى إخباراً عن يوسف (اجعلني على جزائن الأرض إني حفيظ عليم) يوسف55. وأخرج البيهقي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس القاضي بعث الله إليه ملكين يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه)).(4/133)
وإلا أي وإن لم يتعين له واحد في الناحية بأن كان معه غيره ممن يصلح للقضاء فإن كان غيره أصلح وكان أي الأصلح يتولاه أي يقبل إذا وليه فللمفضول القبول إذا دفع إليه من غير طلب وقيل لا أي لا يجوز له قبوله. لما روى الترمذي عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أُُكْرِه عليه أنزل الله له ملكاً يسدده))، قال الترمذي حديث حسن غريب. ويكره طلبه وفي الناس من هو أولى منه فقد روى الشيخان عن عبدالرحمن بن سَمُرَة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عبدالرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها)).
وإن كان غيره مثله فله القبول ندباً فقد روى الشيخان عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
ويندب الطلب للقضاء إن علم من نفسه القدرة على القيام به لعلمه وأمانته إن كان خاملاً أي معروف بين الناس يرجو به أي بالقضاء نشر العلم لتحصل المنفعة بعلمه وأمانته وعدله فقد روى ابن خزيمة وابن ماجة وابن حبان اللفظ له من حديث جابر (كيف تُقَدَس أمةٌ لا يُأخذ لضعيفهم من شديدهم).
أو محتاجاً إلى الزرق ولم يكن له كفاية أو كان كسوباً وإن اشتغل بالقضاء تعطل عليه الكسب جاز له أخذ الرزق على القضاء وطلبه لذلك قال تعالى: (ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) النساء6.
وروى البيقهي عن أبي وائل (أن عمر بن الخطاب بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً وعبدالله بن مسعود قاضياً وعثمان بن حُنيف ماسحاً للأرض وفرض لهم كلَّ يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الأخر بين عبدالله وعثمان، وقال: إن بلداً يخرج منها كل يوم شاة سريع خرابها).(4/134)
وإلا بأن لم يكن خاملاً بل كان معروفاً ولم يكن محتاجاً إلى الرزق فالأولى تركه أي ترك طلب القضاء قلت: ويكره على الصحيح طلب القضاء وتوليه والله أعلم لما في ذلك من الأخطار لورود نهي نخصوص عنها. فقد أخرج الشيخان عن عبدالرحمن بن سمرة (يا هبدالرحمن لا تسأل الأمارة). وقد امتنع بعض الصحابة من تولي القضاء (فقد امتنع ابن عمر من تولي القضاء لعثمان) رواه الترمذي عن نافع والاعتبار في التعين وعدمه في الناحية فلا يلزمه في غيرها لأن أمر القضاء يطول عادة وشرط القاضي المطلوبة لمن يولّى قاضياً مسلمٌ مكلفٌ أي بالغ عاقلٌ فلا يولى القضاء صبي لا مجنون إن لم يتعلق بقولهما حكم على أنفسهما فعلى غيرهما أولى والكافر لا ولاية له على المسلمين، قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء141، ولا سبيل أعظم من القضاء حرٌ فلا يولى رقيق لنقصه ذكر فلا تولى امرأة لأن القضاء يتضمن الولاية في التزويج والنظر في قضايا الخصوم والمرأة ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال كما أنه لا تقبل شهادتها مالم يكن معها رجل. وقد روى البخاري عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أفلح قوم ولوا أرمهم امرأة)). فإذا لم يكن فلاح كان الفساد كما أنه لا يصلح أن تكون المرأة إمام للرجال فب الصلاة فكيف يمكن أن تكون قاضية لهم حاكمة بخصوماتهم.(4/135)
عدل فلا يولى فاسق لعدم قبول قوله سميع فلا يولى أصم بصير فلا يولى أعمى لأ،ه لا يعرف المدّعِي من المدَّعى عليه وأنما استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة وكان أعمى على ولاية الصلاة دون الحكم ناطق فلا يولى أخرس وإن فهمت إشارته لعجزه عن تنفيذ الأحكام كافٍ للقيام بمنصب القضاء فلا يولى مغفل ومختل نظر بمرض أو كبر سن وأن لا يكون جباناً ضعيف النفس لئلا يتطاول الخصمان في مجلسه وليكون قادراً على القضاء وإنفاذ الأمر. أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لا ينبغي أن يليَ هذا الأمر – أي القضاء – إلا رجل فيه أربع خصال اللين في غير ضعف والشدة في غير عنف والإمساك من غير بخل والسماحة من غير سرف فإن سقطت واحدة منهن فسدت الثلاث). وروى وكيع في أخبار القضاة عن عمر أنه قال: (لقد هممت أن أنزع هذا الأمر من هؤلاء وأضعه فيمن إذا رآه الفاجر فزع منه). مجتهد فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية والمقلد وإن حفظ مذهب إمامه إلا إذا كان عارفاً لغوامضه عالماً بأدلته وهو أي المجتهد أن يعرف من الكتاب والسنة وما يتعلق بالأحكام منهما وإن لم يحفظ أحاديثها ولا آياتها عن ظهر قلب وخاصه وعامه والعام هو لفظ يستغرق المصالح له من غير حصر والأصح دخول النادر والمقصود فيه وأنه قد يكون مجازاً وأما الخاص قهو قصد العام على بعض مسمياته ومجماَهُ ومبيَّنَهُ والمجمل هو الذي لم تتضح دلالته والمبين هو الذي اتضحت دلالته وعرف نصه وظاهره وناسخُهُ ومنسُوخُه والنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي ويتعين الناسخ بتأخره ومتواتر السنة وهو مارواه جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وغيره أي أخبار الآحاد الذي لم يبلغ حدَّ التواتر والتصل باتصال رواته إلى لاصحابي ويسمى الموقوف أو المرفوع والمرسل: وهو ما سقط فيه الصحابي ويشمل المعضل والتقطع والمعضل بأن يسقط من رواته اثنان أو أكثر.(4/136)
وحال الرواة قوة وضعفاً فغلى القاضي أن يعرف ذلك لأن به يتوصل إلى تقرير الأحكام ولكن ما أجمع السلف على قبوله فلا يبحث عن عدالة ناقليه وعليه أن يقوم الخاص على العام المعارض له والنقيد على المطلق ولسان العرب لغة ونحواً فعلى القاضي أن يعرف طرفاً من لسان العرب ليتمكن من معرفة أحاكم الكتاب والسنة لأنهما عربيان وأقوال العلماء من الصحابة غمن بعدهم إجماعاً واختلافاً فالقاضي عليه أن يلتزم بالمسألة التي يريد الحكم فيها ما أجمع عليه الصحابة فلا يخالفهم والقياس وأنواعه من جلي وخفي وقياس صحيح وسقيم فإذا عرفها القاضي عمل بها فإن تعذر جمع هذه الشروط في القاضي فولّى سلطانٌ أو من له شوكةٌ غير السلطان بأن يكون ببلد زالت شوكة السلطان عنها ولم يرجع الناس إلا إليه فاسقاً أو مقلداً نفذ قضاؤه الوافق لمذهبه للضرورة لئلا تتعطل مصالح الناس بل صرح العز بن عبدالسلام بنفوذ قضاء الصبي أو المرأة عند الضرورة وقال الأذرعي: قد اجمعت الأمة على تنفيذ أحاكم الظلمة وأحكام من ولوه وقد سئلت السيدة عائشة عن من استقضاه زياد بن أبيه وكان مستبداً فأشارت بالقبول وقالت: (لإن لم يقضِ لهم خيارهم قضى لهم شرارهم).(4/137)
ويندب للإمام إن ولى قاضياً على ناحية معينة أن يأذن له في الاستخلاف عوناً له في عمله فإن نهاه عن الاستخلاف لم يستخلف استخلافاً عاماً لأ، الإمام لم يرضَ بنظر غيره في الخصومات فإن أطلق الإمام عند التولية استخلف حال التولية أو بعدها فيما لا يقدر عليه لحاجته إليه لا غيره أي لا يستخلف فيما يقدر عليه لأنه نائب الإمام فلم يجزْ له الاستخلاف فيما يقدر عليه كالوكيل في البيع. وشرط المُسْتَخْلَفُ كالقاضي في الشروط المتقدمة لأنه قاضٍ إلا أن يُسْتَخْلَفَ شخصٌ في أمر خاص: كسماع بينة فيكفي علمه بما يتعلق به أي ما يتعلق بالأمر الخاص ويحكم باجتهاده إن كان مجتهداً واجتهاد مُقلَّدِه إن كان مُقَلِّداً ولا يجوز أن يشرطَ عليه المُستَخلِفُ على المستخْلَفِ خلافه أي خلاف الحكم باجتهاده أو اجتهاد مقلَّده لأنه يعتقد أن اجنهاده واجتهاد مقلَّده هو الحق ولا يجوز أن يحكم بما يعتقد أنه غير الحق. قال تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق)ص26.
وروى البخاري والترمذي عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فيه فهو في النار)).
ولو حكَّم خصمان رجل في غير حد الله تعالى جاز ذلك مطلقاً أي مع وجود قاضٍ كفءٍ وعدم وجوده بشرط أهلية القضاء فلا يجوز تحكيم أصم و أعمى وامرأة وكافر وفي قول لا يجوز التحكيم لما فيه من التجاوز غلى الإمام ونوابه والأول أصح لأنه ليس للمحكَّم حبس ولا استيفاء عقوبة كما أن حُكْمَهُ غير مُلْزِم إلا برضا الخصمين بعد الحكم. وروى البيقهقي عن ابن مليكة (أن عثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله تحاكما إلى جبير بن مطعم) وروى البيهقي من طريق الشعبي (أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت).(4/138)
وقيل يجوز بشرط عدم قاضٍ بالبلد وقيل يختص جواز التحكيم بمالٍ دون قصاص ونكاح ونحوهما كاللعان والقذف لأن هذه الأحكام غُلِّظَ بها في الشرع فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام أو من ولاه الإمام ولا يمكن التحكيم في حدود الله تعالى إذ ليس لها طالب معين ولا ينفذ حكمُهُ أي المُحكَّمُ إلا على راضٍ به لفظاً فلا يكفي رضا قاتل في ضرب دية على عاقلته بل لابد من رضا العاقلة بذلك ويشترط استدامة الرضا إلى إتمام الحكم. وإن رجع أحدهما قبل إتمام الحكم امتنع الحكم لعدم استمرار الرضا ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر ولا ينقض حكمه إلا حيث ينقض حكم القاضي الولى من جهة الإمام والثاني يشترط الرضا بعد الحكم كقبل الحكم.
ولو نصب الإمام قاضيين ببلد وخص كلاً منهما بمكان من البلد أو زمن أو نوع كأن جعل أحدهما للأموال والآخر للنكاح أو جعل أحدهما للرجال والآخر للنساء جاز وكذا جاز ذلك إن لم يخص في الأصح بل أطلق كمن عين وكيلين له أو وصيين عنه إلا أن يَشْرِطَ عليهما اجتماعهما في الحكم لأن ذلك يفضي إلى التنازع والخلاف في محل الاجتهاد.
? فصل فيما يقتضي انعزال القاضي أو عزله ?
إذا جُنَّ قاضٍ أو أغمي عليه أو عمي أو ذهبت أهلية اجتهاده أو ظبط بغفلة أو نسيان لم ينفذ حكمه لانعزاله بهذه الأمور وكذا ينعزل لو فسق فلا ينفذ حكمه في الأصح لوجود الأسباب المانعة من الولاية وقيل ينفذ حكمه كالإمام والأعظم ولكن هناك فرق كبير فانعزال الإمام الأعظم سبب للفتنة والاضطراب وانعدام الأمن وضياع الحقوق.
فإن زالت هذه الأحوال لم تعد ولايته في الأصح إلا بتولية جديدة كالوكالة إذا نزعت فلا تعود إلا بتوكيل جديد.
محمد عبدالكريم محمد
عرض الملف الشخصي العام
إِظْهَارُ جَمِيْعِ الرُّدُوْدِ الَّتِيْ رَدَّ بِهَا : محمد عبدالكريم محمد
#24 21-07-07, 03:23 AM
محمد عبدالكريم محمد
عضو نشيط تَارِيْخُ التَّسْجِيْلِ فِي الْمُلْتَقَى: 17-12-06(4/139)
عَدَدُ مُشَارَكَاتِهِ وَرُدُوْدِهِ: 392
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نوري مشوح
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثامن عشر
وللإمام عزل قاضٍ ظهر منه خلل أو لم يظهر وهناك أفضل منه أو مثله أو دونه وفي عزله به أو في عزل القاضي الأول وتعيين الثاني بدلاً منه للمسلمين مصلحة كتسكين فتنة لما في تسكين الفتن من خير عميم للمسلمين وإلا يكن في عزله مصلحة فلا يجوز عزله لأن هذا عبث بمصالح الأمة ومنافع الناس ويجب أن يصان الإمام عنه لكن ورغم الإثم على المُتَولِّي والمولِّي ينفذ العزل في الأصح إنفاذاً لأمر الإمام كما أن للقاضي أن يعزل نفسه إن وجد من يقوم بالقضاء غيره في ناحيته وينفذ عزله لنفسه والمذهب لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله لعظم خطر القضاء ويصح حكمه قبل بلوغه خبر عزله وإذا كتب الإمام إليه إذا قرأت كتابي فأنت معزول انعزل وكذا إن قُرِيء عليه في الأصح لأن مقصود الكتاب الإعلام بالعزل لا القراءة للكتاب وقد عُلِمَ المقصود بقراءة الكتاب عليه وينعزل بموته أي بموت القاضي وانعزاله إذا عزله الإمام أو عزل نفسه كلُّ من أُذِنَ له في شغل معين كبيع مال ميت أو غائب أو سماع شهادة في أمر معين والأصح انعزال نائبه المطلق أي نائب القاضي بموت القاضي أو انعزاله إن لم يُؤْذن له في استخلاف لأن المقصود من استخلافه هو معاونته في عمله وقج زالت ولايته فبطلت الحاجة إلى ذلك أو إن قيل له استخلف عن نفسك أو أطلق له الاستخلاف لأن الغرض المعاونة فتبطل ببطلان ولاية من عينه لمعاونته.
فإن قال له من ولاه استخلف عني فلا ينعزل الخليفة لأنه نائب عن الإمام ولا ينعزل قاضٍ بموت الإمام ولا بانعزاله لعظم الضرر بتعطيل القضاء ولا ينعزل كذلك كلُّ من له ولاية على أمر عام كناظر بيت المال وناظر الوقف وناظر الجيش وغيرهم.(4/140)
ولا ينعزل ناظر يتيم ووقف بموت قاضٍ وانعزاله لئلا تتعطل مصالح الناس. ولا يقبل قوله أي قول القاضي بعد انعزاله كنت قد حكمت بكذا لفلان إنما يثبت حكمه إذا شهدت بينة بذلك. فإن شهد مه آخر بحكمه لم يقبل عل الصحيح لأنه يشهد بفعل نفسه ويثبت لها العدالة.
أو شهد القاضي المعزول بحكم حاكم جائز الحكم قُبِلَتْ شهادته في الأصح والثاني لا تقبل شهادته حتى يصرح أن الحكم مضاف إلى غيره.
ويقبل قوله قَبْلَ عزله حكمت بكذا لأنه لما كان يملك الحكم فإنه يملك الإقرار به كالزوج لمّا ملك الطلاق ملك الإقرار به.
فإن كان في غير عمل ولايته فكمعزول أي لا ينفذ حكمه لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار ولو أدعى شخص على قاضٍ معزول أنه أخذ ماله برشوة أي على سبيل الرشوة أو شهادة عبدين أو غيرهما فمن لا تقبل شهادتهما أحضر القاضي المعزول وفُصِلَتْ خصومتُهُما أو أرسل وكيلاً عنه ثم تعاد الدعوى ولا يُحْضَرُ القاضي المعزول قبل إعلامه بالأمر لأنه ربما أراد المدَّعِي إهانته وإذلاله.
وإن قال الشخص المدعي حكم عليّ القاضي بعبدين ولم يذكر مالاً ولا رشوة أحضر القاضي المعزول ليجيب وقيل لا يُحضرُ حتى تقوم بينة لأن الأصل في أحكام القضاة أن تجري على الصحة فإن أُحْضِرَ المعزول وأدُعَي عليه وأنكر ما نسب إليه صُدِقَ بلا يمين في الأصح صيانة لمنزلة القضاء من الامتهان ولأن القاضي أمين الشرع فيصان منصبه قلت الأصح بيمين والله أعلم كسائر الأمناء إذا دعي عليهم خيانة ولعموم الخبر الذي رواه الشيخان عن ابن عباس (البينة على المدَّعي واليمين على المدّعي عليه) والأول أصح صيانة لمنصب القضاء.
ولو ادّعُيَ على قاضٍ جور في حكم لم يسمع ذلك الإدعاء عليه حال ولايته لأنه أمين شرعاً ولأنه لا يُحْلَفُ له عادة فكيف يحلف هو. وَيُشْتَرَطُ بينةٌ تشهد بقوله فإن كانت له بينة سمعت حتماً.(4/141)
وإن لم تتعل الدعوة على القاضي بحكمه بل خصومة بين المدعي والقاضي لا تتعلق بحكم حَكَمَ به القاضي حكم بينهما أي بين المدعي والقاضي وخصمه خليفته أي خليفة القاضي أو غيره أي قاضٍ آخر كأي متخاصمين.
? فصل في آداب القضاء وغيرها ?
ليكنب الإمام لمن يوليه القضاء ببلد كتاباً يعهد إليه فيه بتوليه القضاء ويوصيه بالتقوى ويعظه لما روى أصحاب السنن عن أبي بكر بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً لعمرو بن جزم لما بعثه إلى اليمن) ورواه أبوداود والنسائي عن الزهري مرسلاً. وروى البخاري عن أبي بكر (أنه كتب لأنس كتابَ توليةٍ حين بعثه إلى اليمن وختمه بخاتم رسول الله)، وروى البيهقي عن حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: (أما بعد فإني بعثت إليكم عماراً أميراً وعبدالله قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما). ويُشْهِد بالكتاب شاهدين يخرجان معه إلى البلد بَعُدَ البلد أو قرب يخبران بالحال أي يخبران أهل البلد بالتولية حتى يلتزم أهل البلد بقضائه وتكفي الاستفاضة بالتولية في الأصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً لم يكتب كتاباً بل اقتصر على وصيته فقد روى البخاري عن ابن عباس (أن النبي بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).
ويبحث القاضي عن حال علماء البلد وعدوله سراً وعلانية قبل دخوله فإن لم يتيسر فعند دخوله ويدخل يوم الاثنين صباحاً لما روى البخاري عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين).(4/142)
وينزل وسط البلد ليتساوى أهل البلد في القرب منه وينظر أولاً في أهل الحبس لأ، أهل الحبس عذاب فيسأل المحبوس بِمَ حُبستَ فمن قال حبست بحق أدامه في الحبس أو قال المحبوس حبست ظلماً فعلى خصمه أي خصم المحبوس حجةٌ يقدمها بسبب حبسه فإن كان خصمه غائباً عن البلد كَتَبَ إليه القاضي ليحضر لفصل الخصومة بينهما أو يوكل لأن القصد إعلامه ليثبت حجته في الحبس فإن علم ولم يحضر ولا وكّلَ حلف المحبوس وأطلق سراحه لتقصير الغائب. ثم ينظر في حال الأوصياء لأنهم ينظرون في أمر من لا يمكنه أن يطالب بحقه فمن ادعى وصاية على الأيتام أو غيرهم سأل عنها أي سأل القاضي الناس عنها وعن بينة ثبوتها وعن حاله أي عن حال الوصي وتصرفه في الوصية فمن وجده القاضي فاسقاً أخذ ماله منه وعين بديلاً عنه وإن كان عدلاً قوياً أقره أو رآه القاضي ضعيفاً عضده بمعين ولا ينزع ماله منه ويتخذ القاضي مزكياً ليعرفه حال من يجهل حاله من الشهود وكاتباً للحاجة إليه وكثرة أعمال القاضي روى البخاري تعليقاً عن زيد ين ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود، قال: حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا) ويشترط كونه أي الكاتب مسلماً فلا يتعين بكافر فقد روى البيهقي عن نافع بن الحارث أن عمر قال لأبي موسى الأشعري وكان له كاتب نصراني (لا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تأمنوهم وقد خونهم الله) عدلاً عارفاً بكتابة محاضر وسجلات ويستحب في الكاتب فقهٌ فيما يكتبه ووفور عقل وجودة خط وضبط للحروف وبعد عن الموهم ودقة في العبارة لئلا يؤتى من الجهل واختلاط العبارة. ومترجماً فيندب للقاصي أن يكون عنده مترجم لمعرفة كلام من لا يعرف القاضي لغته من خصم وشهود فقد أخرج البخاري من رواية شعبة عن أبي جمرة أنه قال: (كنتُ أترجم بين ابن عباس وبين الناس).(4/143)
وروى أحمد في المسند عن زيد بن ثابت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم السريانية) وفي رواية فتعلمتها في سبعة عشر يوماً.
وشرطه أي المترجم عدالة وحرية وعدد أي اثنان كالشاهد وإن كان الحق مالاً أو مما يؤول إلى المال كفى في ترجمته رجل وامرأتان.
والأصح جواز ترجمة أعمى لأنها تفسير لألفاظ فاختلفت عن الشهادة. والأصح اشتراط عدد كالمترجم في إساماع قاضٍ به صمم وليس أصماً لأنه لا يصلح للقضاء كما تقدم ويتخذ القاضي دِرّةً للتأديب وسجناً لأداء حق وتعزير. واقتداء بعمر بن الخطاب فقد روى البيهقي في السنن عن نافع بن الحارث (أن عمر بن لالخطاب اشترى من صفوان بن أمية دار السجن بأربعة آلاف درهم).ويستحب كون مجلسه أي مجلس القاضي فسيحاً بارزاً أي ظاهراً مكشوفاً يعرفه كل من أراده مصوناً من أذى حرٍّ وبرد ودخان رائحة منتنة. فقد روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري (إياك والقلق والضجر) وروى أحمد والترمذي عن عمرو بن مرة الجهني والطبراني عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ولِّيَ من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره).
ويستحب أن يكون مجلس القضاء لئقاً بالوقت والقضاء التي هي من أعظم الناصب وأجل المراتب فيجلس القاضي مستقبلاً القبلة داعياً بالتوفيق والعصمة والتسديد متعمماً متطلساً على عالٍ لتمييز عن غيره وليكون له هيبة وجلال ولو كان من أهل الزهد والتواضع للحاجة إلى القوة والرهبة والهيبة وعلى هذا كُرِهَ جلوسه على غير هذه الهيئة.(4/144)
لا مسجداً فلا يتخذ المسجد مجلساً للحكم لأن مجلس الحكم لا يخلو من اللغط وارتفاع الأصوات وقد يحتاج لاحضار الحيض والكفار والدواب والمسجد يصان عن ذلك لما رواه ابن ماجة عن معاذ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسلَّ سيوفكم وبيعكم وشراءكم)). ولا بأس أن يقضي في بيته عند الضرورة فقد روى البيهقي عن أمِّ سلمة قالت: (اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى بينهما في بيتي) ويكره أن يقضي القاضي في حال الغضب وجوع وشبع مفرطين وكل حال يسوء خلقه فيه فقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي القاضي وهو غضبان))، وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد (لا يقضي القاضي وهو شبعان).
ويندب أن يشاور الفقهاء حتى إذا حدثت حادثة استشارهم في الحكم فيها وبعد سماع حجتهم هو بالخيار في الحكم وليس لأحد منهم أن يعترض أو ينكر عليه في حكم رآه لأن ذلك افتيات على القاضي إلا أن يحكم بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) آل عمران159. قال الحسن البصري: إن النبي لغني عن مشاورتهم ولكن أراد أن يستن الحكام بعده بذلك. وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وشاور أبوبكر الصحابة في ميراث الجدة وشاور عمر في دية الجنين. وأن لا يشتري ويبيع بنفسه لما روى الحاكم عن أبي الأسود المالكي عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عدل والٍ اتجر في رعيته)) ولأنه إذا باشر ذلك إذا بنفسه فلعله يحابى فيميل في حكمه إلى من حاباه ولا يكون له وكيل معروف فإن عُرِفَ وكيله استبدله بمن لا يعرف حتى ال يحابى فتعود المحاباة إليه.(4/145)
فإن أهدى إليه من له خصومة او لم يكن له خصومة لكنه لم يُهْدَ له قبل ولايته القضاء حرم عليه قبولها لما روى أبو داود عن بريدة ان النبي (ص) قال(أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقاً فما اصاب بعد رزقه فهو غلول).
وروى البيهقي وابن عدي من حديث ابي حميد الساعدي (هدايا الأمراء غلول).
وروى الشيخان عن أبي حميد الساعدي (أن النبي (ص) استعمل رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال : هذا لكم وهذا اُهدي إليَََََََََ فقام النبي(ص) على المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أَََ يُهدى إليه أم لا. والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ) وإن كان يُهدى ولا خصومة جاز بقدر العادة السابقة للولايه ولا ينفُذُ حكمه لنفسه ورفيقه وشريكه في المشترك فإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى قاضي آخر فِإن تحاكما إلى خليفة القاضي صح فقد أخرج البيهقي عن الشعبي قال: (كان بين عنر وأُبيِّ خصومة في حائط فقال عمر لأُبيِّ بيني وبينك زيد بن ثابت فانطلقا فانطلقا فطرق عمر الباب فعرف زيد صوته فقال: يأمير المؤمنين ألا بعتث إليَّ حتى آتيك فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم). وأخرج البيهقي عن ابن أبي مليكة (أن عثمان وطلحة تحاكما إلى جبير بن مطعم) وذكا أصله وفرعه على الصحيح لأنهم أبعاضه فكان كحكمه لنفسه ولا يجوز له حتى سماع الدعوة والبينة فيما ذكِرَ ويحكم لهو لهؤلاء الإمام أو قاض آخر وكذا نائبه على الصحيح كما تقدم وإذا أقرَّ المدّعى عليه عند القاضي أو نكل عن اليمين عد عرضها عليه فَحَلَفَ المدَّعِي اليمين الردودة أو أقام البينة وسأل القاضي أن يُشْهِدَ على إقراره أي إقرار المدَّعِي الحكمَ له عليه بما ثبت والإشهاد به لزمه أي لزم القاضي إجابة المدعي إلى ذلك أو أن يكتب له محضراً بما جرى من غير محكْمٍ(4/146)
أو يكتب له سجلاً بما حكم استحب إجابته وقيل تجب والأول أصح لأن هذا مفترق عن الشهادة فالشهادة تثبت بَيّنَةً والكتابة لا تثبت حكماً إنما الذي يثبت الحكم البينة.
ويستحب نسختان تكتبان إحداهما تعطى له أي لصاحب الحقِّ لينظر فيها والأخرى من النسختين تحفظ في ديوان الحكم مختومة مكتو عليها اسم الخصمين وتحفظ في حرز ليُرجع إليه عند اللزوم.
وإذا حكم القاضي باجتهاده ثم بان حكمه خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس جلي نقضه وسجلَّ ذاك إن كان سجل الجكم هو وجوباً وغيرُهُ من القضاة أيضاً. قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله) النساء59.(4/147)
وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ)). وروى البيهقي في السنن عن أبي العوام البصري (أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري (ولا يمنعنك قضاءٌ قضيت به ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحقَّ فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل)). وروى الشافعي في مسنده أنم عمر بن عبدالعزيز قضى فيمن ردَّ عبداً بعيب أنه يردُّ معه خراجه فأخبره عروة بن الزبير عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان فرجع وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه)) لا قياس خفي فلا ينقض الحكم المخالف له ومن القياس الجلي قياس الضرب عل التأفيف في الوالدين في قوله تعالى: (ولا تقل لهما أفٍ) الإسراء23 بجامع الإيذاء ومن الخفي قياس الأرز على البر في باب الربا بعلة الطعم. روى الدارقطني والبيهقي من حديث الحاكم بن مسعود (أن عمر بن الخطاب حكم بحرمان الأخ الشقيق في الشركة ثم شرّك بعد ذلك، فقال: ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي ولم ينقض قضاءهالأول) والقضاء ينفذ إذا حكم القاضي لما اقتضته الحجة ظاهراً لا باطناً فلو حكم بشاهدي زور ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحِلُّ باطناً سواء كان المحكوم به مالاً أو نكاحاً أو غيرهما فإن كان نكاحاً لم يحلَّ للمحكوم له الاستمناع ويلزمها الهرب والامتناع ما أمكنها فإن أكرهت فلا إثم عليها وإن مان المحكوم به طلاقاً حل للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن لكن يكره له ذلك للتهمة والحدِّ ويبقى التوارث بينهما. لما روى الشيخان عن أمِّ سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليَّ ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار))، وروى البخاري عن عبدالرحمن بن عتبة قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول: (إن أناساً كانوا(4/148)
يُؤْخَذُون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي إذا انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسب سريرته ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمَنْهُ ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة)) ولا يقضى بخلاف علمه بالإجماع كأن عَلِمَ أن المدَّعَى عليه مما أدعاه وشهد شاهدان بالدين فلا يقضي بالبينة في ذلك لأنه قضى به لكان قاطعاً أنه يحكم بالباطل.
والأظهر أنه يقضي بعلمه إلا في حدود الله تعالى. وإن كان هذا العلم قد حصل له قبل ولايته ويشترط اليقين بما علمه لا مجرد الطن كأن رأى المدعي عليه يقترض مالاً من المدعي أو سمعه يقرُّ بمال للمدعي وأنكر المدعى عليه ذلك فيقضي به عليه مصرحاً بعلمه بذلك أما في حدود الله فلا يقضي بعلمه لأنها تسقط الشبهة مع ندب سترها إلا إذا اعترف في مجلس الحكم بما يوجب الحدَّ فإنه يقضي عليه بعلمه.
فقد روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف (واغذُ يا أُنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)). ولم يقيد اعترافها بحضور الناس.
وأخرج الترمذي من طريق الزهري عن عروة عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة)).
ولو رأى القاضي أو الشاهد ورقة فيها حكمه أو شهادته في قضية معينة أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا لم يعمل القاضي به ولم يشهد الشاهد بمضمون خطه حتى يتذكر كل منهما أنه حكم أو شهد به لإمكان التزوير وتشابه الخطوط ومن تمكن اليقين فلا سبيل إلى الظنِّ.
وفيها وجه إذا كان الحكم والشهادة مكتوبين في ورقة مصونة عندهما ووثق أنه خطه ولم يداخله ريبة أن يعمل به والأصح الأول لاحتمال الريبة بدسِّ الورقة بين أوراقه.(4/149)
وله الحلف أي للشخص الحلف على استحقاق حق أو أدائه اعتماداً على خط مورِّثه إّذا وثق بخطه بانتفاء حالة التزوير وأمانته وأنه لا يتساهل في حقوق العباد والصحيح جواز رواية الحديث بخط محفوظ عنده كتبه هو أو غيره وإن لم يتذكر قراءة ولا سماعاً ولا إجازة وعليه عمل العلماء سلفاً وخلفاً.
? فصل في التسوية بين الخصمين ?
ليسوِّ القاضي وجوباً بين خصمين في دخول عليه أي في الإذن بالدخول عليه لا لأحدهما فقط وقيام لهما أو تركه ونظر إليهما وطلاقة وجه لهما أو عبوسه وجواب سلام إن سلما ومجلس وذلك بأن يكون قربهما إليه على السواء لأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره أو يكونا بين يديه وكذا في جميع أنواع الإكرام فلا يخص أحدهما بشيء منها.
والأصح رفع مسلم على ذمي لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه قيل وجوباً وقيل جوازاً فقد روى البيهقي عن الشعبي قال: (خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرفها علي، فقال: هذه درعي بيني وبينك وقاضي المسلمين فأتيا شريحاً فلما رأى القاضي علياً قام من مجلسه وأجلسه وجلس شريح أمامه إلى جانب النصراني فقال له علي: (لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس‘ اقضِ بيني وبينه يا شريح)).
وإذا حضر الخصمان أمام القاضي وجلسا أو وقفا بين يديه فله أن يسكت حتى يتكلما وله أن يقول ليتكلم المدعِي منكما إذا لم يعرف اسمه أو أراد إعطاء الهيبة لمجلس القضاء فإذا ادعى المدعِي طالب القاضي خصمه بالجواب فإن أقر المدعيَ عليه فذاك(4/150)
أي فيلزمه ما أقرَّ به وإن أنكر فله أن يقول أي القاضي للمدعِي ألك بينة أي حجة من شهود وغير ذلك تثبت ما تدعيه وله أن يسكت مخافة أن يتهم بأن يلقن المدعي الحجة ويميل إليه والأول أصح فإن قال المدعي لي بينة وأريد تحليفه فله ذلك لأن المدعي عليه قد لا يحلف ويقر فيستغني المدعي من إقامة البينة أو أراد أن يحلف المدعي عليه فيظهر المدعي بينته ويظهر كذب المدَّعى عليه أمام القاضي وهيئة المحكمة. أو قال المدعي لا بينة لي وحلّف المدعى عليه ثم أحصرها أي أحضر المدعي البينة قُبِلت في الأصح لاحتمال نسيانها أو ضياعها عند الطلب أو لظنه عدم قبولها في أول الأمر وإذا ازدحم خصوم مدعون في مجلس القاضي ولا اعتبار للمدعى عليه قدم الأسبق فالأسبق منهم فإن جُهِلَ الأسبق منهم أو جاؤوا معاً أقرع بينهم وقدم من خرجت قرعته ويقدم مسافرون مُسْتوفزون أي متهيئون للسفر خائفون من انقطاع رفقة على المقيمين ونسوة على رجال وإن تأخروا أي مسافرون ونسوة في القدم إلى القاضي مالم يكثروا بحيث يحصل ضرر لغيرهم لا يحتمل. ولا يقدم سابق ولا قارع أي من خرجت قرعته إلا بدعوى واحدة فقط لئلا يزيد ضرر الباقين.
ويحرم اتخاذ شهود معينين لا يقبل القاضي غيرَهم لما في ذلك من التضييق على الناس وتضييع الكثير من الحقوق. قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة28، فعمَّ بالشهود ولم يخصَّ وإذا شهد شهود فعرف عدالة أو فسقاً عَمِلَ بعلمه فيهم فإذا ادعى إنسان على آخر حقاً فأنكره وأقام المدّعِي شاهدين فإن علم القاضي فِسْقَهما ظاهراً وباطناً أو باطناً لم يقبل شهادتهما وإن علم عدالتهما ظاهراً وباطناً قَبِلَ شهادتهما بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك. قال تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) البقرة282، فربط الشهادة بالرضا.(4/151)
وروى البيهقي في السنن عن خرشة بن الحرِّ (أن رجلاً ادعى رجل حقاً فأنكر فشهد بذلك شاهدان فقال عمر: لا أعرفكما ولا يضركما أي لا أعرفكما فأتياني بمن يعرفكما).
وإلا وجب الاستزكاء أي إذا لم يعرفهم القاضي وجب أن يطلب من يزكيهم كما في فعل عمر في الحديث السابق وفيه (فقال – يعني عمر – أتعرفهما؟ قال: نعم، فقال: كنت معهما في السفر الذي يتين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال: هل عرفت صباحهما ومساءهما؟ قال: لا، قال: هل عاملتهما بالدرهم والدينار التي تقطع بها الرحم؟ قال: لا، قال: يا ابن أخي ما تعرفهما ائتياني بمن يعرفكما)، ولم يكن له مخالف في الصحابة وكان عمر يبحث عن عدالة الشهود والاستزكاء يكون بأن يكتب القاضي ما يتميز به الشاهد والمشهود له وعليه من الأسماء والحرف وأسماء السكن ومكان العمل مما يحصل به التمييز وكذا يكتب قدر الدين على الصحيح لأن من الناس من يغويهم الكثير دون القليل فيفسد ذممهم وقيل العدالة لا تختلف بقلة المال وكثرته. ويبعث به بما كتبه مزكياً يبحث عن حال الشهود ويجب أن يكون المزكي اثنين من أهل العدالة ويمسان أصحاب المسائل لأنهم يُبْعَثُونَ ويسألون ويسن أن يكون بعثهما سراً وأن لا يعلم أحدهما بالآخر لئلا يجمعهما الهوى على تعديل مجروح أوجرح عدل. ثم يشافهُهُ أي القاضي المزكي بما عنده من حال الشهود ويلح عليه القاضي بالسؤال حتى يبين جميع ما يعرفه وقيل تكفي كتابته أي كتابة المزكي إلي القاضي الذي أرسله بما عنده وشرطه أي شرط المزكي كشاهد أي في كل ما يشترط في الشاهد مع معرفة المزكي لكل من الجرح والتعديل أي أسبابهما لئلا يجرح العدل ويزكي المجروح.
وخبرة باطن مَنْ يعدلِّه لصحبة أو جوار أو معاملة كما قال عمر في خبر البيهقي (أهو جارك تعرف ليله ونهاره؟ هل عاملك بالدرهم والدينار؟ هل كنت معه في السفر؟).(4/152)
والأصح اشتراط لفظ الشهادة أي ما يقوله عند الشهادة بأن يقول أشهد بأنه عدل أو غير عدل لأنه مجروح بالأمر الفلاني.
وأنه يكفي في قول العارف بأسباب الجرح والتعديل هو عدل أو مقبول القول ولا يكفي قوله لا أعلم منه ما تُرَدُّ به شهادته وقيل يزيد على ذلك عليَّ وَلِي أي لا تبعدني عنه عداوة ولا تربطني به قرابة لأن الإنسان قد يكون عدلاً في شيء دون شيء.
وقيل يجب ذكر سبب الحَرْحِ لأن الناس مختلفون في أسباب الجرح فعليه أن يفسر ذلك بقوله هو زانٍ أو سارق أو قاذف أو نحو ذلك.
وَيَعْتَمِدُ فيه أي الجرح المعاينة كما رآه يفعل كذا أو سمع أنه يفعل كذا أو يعتمد في الجرح الاستفاضة في الخبر ممن يُقْبَلُ قولهم عادة ويقدم على التعديل لما في الاستفاضة والمعاينة من زيادة العلم والتوثق من القول فإن قال المعدل عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح قُدِّمَ قوله على قول الجارح لأن معه زيادة علم بوجود التوبة بعد جود سبب الجرح.
والأصح أنه لا يكفي في التعديل قول المدّعى عليه هو أي الشاهد عدلٌ وقد غَلِظَ في شهادته عليّ بلا لابدّ من البحث والاستقصاء عن حاله لأن الاستزكاء هو حق لله تعالى ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصْمُ.
? باب القضاء على الغائب ?(4/153)
هو جائز أي القضاء على الغائب عن البلد أو عن المجلس إن كان بنية عند المدعي تشهد له بما يدعيه وادّعى المدَّعي على الغائب جحوده للحق المُدَّعّى به فإن قال المدَّعِي هو أي الغائب مقرٌّ وإنما أقمت الدعوى لتثبيت حقي أو لترسل بها إلى قاضي بلد الغائب لم تسمع بينة لأن الدعوى لا تقام على مُقِرٍّ إلا أن يقول في دعواه وهو ممتنع عن الأداء فإنها تسمع عندئذ وإن أطلق أي لم يتعرض لجحود ولا إقرار في دعواه فالأصح أنها لا تُسمع لأنه لا يعلم حاله في غيبته ويحتاج إلى إثبات حقو والأصح أنه لا يلزم القاضي نصب مُسَخَّر ينكر عن الغائب لأن الغائب قد لا يكون منكراً فيكون إنكار المسخر كذباً وقيل يستحب نصبه خروجاً من أوجبه وكذبه غير محقق لأن من الكذب ما يغتفر عند وجود المصلحة.
ويجب أن يحلفَهُ أي يجب على القاضي أن يحلِّفَ المدعي بعد البينة وتعديلها أن الحق الذي أدعيه على الغائب ثابت في ذمته صوناً لحق الغائب لأنه لو حضر الغائب فلربما ادعى ما يبرئه أو أنه دين غير حال وقيل يستحب تحليف المدعي ولا يجب هذا إذا لم يكن للغائب وكيل أما إذا كان له وكيل فلا يضُمُّ القاضي التحليف إلى البينة.
والدليل على جواز الدعوى على الغائب أخبار منها: روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت حين قالت له إن أبا سفيان لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك)، فهو قضاء على غائب حيث أن أبا سفيان كان غائباً. وروى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في المرأة التي زنى بها العسيف (وَاغدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وكانت غائبة.(4/154)
وروى البيهقي في السنن ومالك في الموطأ الدارقطني من طريق زهير بن معاوية عن عبيدالله بن عمر عن عثمان بن عبدالرحمن بمن عطية بن دالاف عن أبيه عن جده عن عمر (أن عمر قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لا يغرنكم صيام رجل ولا صلاته ولكن انظروا إلى صدقة وأمانته إذا ائتمن وإلى ورعه إذا استغنى، ثم قال: ألا أن الأسيفع رضي من دينه وأمانته أن يقال: سَابقُ الحاجِّ فادّان معرِّضاً فأصبح وقدرين به فمن كان له عليه دين فليحضر غداً فإنا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه)، قوله قدْرِين به أي أحاط الدين بماله.
ويجريان أي الوجهان أي وجوب التحليف أو استحبابه في دعوى على صبي أو محنون أو ميت ليس له وارث حاضر.
ولو ادعى وكيلٌ عن غائب على غائب فلا تحليف بل يحكم بالبينة لأنه ربما كانت غيبته حيلة لإسقاط اليمين كما أن الحقوق لا تستحق يمين الوكلاء قال (ص) ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولو حضر المَّدعي أبرأني موكِلُكَ أو قال وفيته حقه مثلاً فأَخِرِ الطلب إلى حضوره ليحلف لي أنه ما أبرأني لم يُجَبْ و أُمِرَ بالتسليم له ثم يثبت بعد ذلك الإبراء أن كان له حجة ويستعيد الحقَّ الذي تسلمه الوكيل .(4/155)
و إذا ثبت مالٌ على غائب وله مالٌ قضاه الحاكم منه إذا طلبه المدَّعي لأن الحاكم يقوم مقام الغائب في أداء الحق الذي عليه و إلا يكن له مالٌ حاضر أو لم يحكم له فإن سأل المدعي إنهاء الحال من سماع بينة أو شاهد ويمين أو سأل إنهاء حكم إلى قاضي بلد الغائب أجابه وجوباً فينتهي إليه سماع بينة ليحكم بها ثم يستوفي المال أو ينهي إليه حكماً إن كان حكم على الغائب ليستوفي المال والانهاء أن يُشْهِدَ عدلين بذلك يؤديانه عند القاضي الآخر ويستحب مع الاشهاد كتابٌ يرسله قاضي بلد المدعي إلى قاضي بلد الغائب الشهود وتاريخه ويختمه ندباً حفظاً للمكتوب وتعظيماً لأمره ويُحْمَلُ هذا الكتاب إلى قاضي بلد الغائب ويخرج به العدلان ويشهدان عنده عليه أي على الحاكم الذي انفذه روى البخاري عن أنس قال ( لما أراد النبي (ص) أن يكتب إلى الروم قيل له : إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقَشُهُ: محمد رسول الله). إن أنكر الخصم المُحْضَرُ للقاضي الحق المدَّعَى عليه فإن قال لست المسمى في هذا الكتاب صُدِّقَ بيمينه إن لم يكن معروفاً بهذا الإسم فإن كان معروفاً به فلا يُبالى بقوله. وعلى المدَّعِي بينةٌ بأن هذا المكتوب اسمُهُ ونسبه فقال لست المحكوم عليه لزمه الحُكم إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم والصفات أو كان ولم يكن في عصره أو في بلده لأن الظاهر أنه المحكوم عليه ولا يلتفت إلى قوله لست المسمى بهذا الاسم وإن كان هناك من يشاركه بالاسم والنسب والصفة أُحْضِرَ المشاركُ فإن اعترف بالحق طولب به وَتُرِكَ الأول لثبوت الحق على غيره وإلا أي وإن أنكر بعث القاضي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب بما وقع من التشابه ليطلب من الشهود زيادة صفة تميزه ويكتسبها وينهيها لقاضي بلد الغائب ثانياً فإن لم يجد مزيداً وقِفَ الأمر حتى ينكشف الحال. ولو حضر قاضب بلد الغائب ببلد الحاكمة فشافَهَهُ بحكمه ففي إمضائه إذا عاد إلى ولايته(4/156)
خلاف القضاء بعلمه والأصح كما ذكرنا سابقاً جوازه لأ،ه قادر على الإنشاء فهو قادر على إمضاء الحكم بالأولى ولو ناداه وهما في طرفي ولايتهما أمضاه أي قال قاضي بلد الحاضر وهو في طرف ولايته لقاضي بلد الغائب في طرف ولايته حكمت بكذا على فلان الذي ببلدك نفذ الحكم لأنه أبلغ من الكتابة والشهادة في الاعتماد عليه وإن اقتصر القاضي الكاتب على سماع بينة من غير حكم كَتَبَ سمعت بينةً على فلان بن فلان ويسميّها القاضي الكاتب إن لم يعدّلها ليبحث المكتوب له عن عدالتها وعدمه حتى يحكم بها وإلا أي وإذا عدّلها فالأصح جواز ترك التسمية وذلك اكتفاء بتعديل الكاتب لها كما أنه إذا حكم بحكم معين فلا حاجة لكتابة أسماء الشهود.
والكاتب بالحكم يمضي مع قرب المسافة وبعدها لأن الحكم تمَّ فلم يبقَ بعد ذلك إلا الاستيفاء وبسماع البينة لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول شهادةٍ على شهادةٍ وهي ما فوق مسافة العدوى ومسافة العدوى عند الفقهاء هي المسافة التي يرجع منها من خرج مبكراً إلى موضعه ليلاً والأصح اعتبارها بمسافة القصر لسهولة احضار البينة مع القرب.
? فصل في غيبة المحكوم به عن مجلس الحكم ?(4/157)
لو ادعى عيناً غائبة عن البلد ولو في محل ولاية القاضي وكان المدَّعِي في البلد يُؤْمَنُ اشتباهها بغيرها كَعَقَارٍ وعبد وفرس مَعْرُوفات عند بعض الناس سمع القاضي بنيته وحكم بها وكتب بذلك إلى قاضي بلد المال ليسلِّمَهُ للمدَّعِي بعد ثبوت ذلك عنده كما مضى في القضاء على الغائب ويعتمد في معرفة العقار حدوده من جميع الجهات إلا إذا عمَت شهرته ويشترط أيضاً ذكر البلد التي فيها العقار ومحله منها أو لا يؤمن اشتباهها بغيرها فالأظهر سماع البينة عليها لأن الصفة تميزها عن غيرها ويبالغ وجوباً المدّعي في الوصف بحيث يندفع الاشتباه ويذكر القيمة في المتقوم وجوباً ويندب ذكر القيمة في المثلي وأنه لا يحكم بها أي لا يحكم بالبينة لأن الحكم مع وجود الجهالة وإمكان الاشتباه غير ممكن بل يكتب إلى قاضي بلد المال بما شهدتْ به أي البينة فيأخذه أي المال ممن هو عنده ويبعثه أي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب ليشهدوا أي الشهود على عينه ليحصل اليقين والأظهر أنه يسلمه إلى المدَّعِي بكفيل ببدنه أي ببدن المدَّعِي احتياطاً للمدَّعى عليه حتى يحضره القاضي عند الضرورة وقيل يكفي كفيل بالثمن فإن شهدوا أي الشهود بعينه أي عين المُدَّعَى به كتب قلضي البلد المدَّعِي إلى قاضي بلد المال ببراءة الكفيل وإلا أي وإن لم يشهدوا على عينه فعلى المدَّعِي مؤنة الرد للمدَّعَى به إلى مكانه.
أو كان المدَّعى به عيناً غائبة عن المجلس لا عن البلد أُمِرَ بإحضار ما يمكن إحضاره ليشهدوا بعينه كما يجب على الخصم الحضور عند الطلب ولا تسمع في هذه الحالة شهادة بصفة لا مكان الاحضار ولانتفاء الضرورة.(4/158)
وإذا وجب احضار فقال المدّعَى عليه ليس بيدي عين بهذه الصفة صدق بيمينه ثم بعد حلفه للمدَّعِي دعوى القيمة في المتقوم ودعوى المثل في المثلي لاحتمال هلاكها فإن نكل المدَّعى عليه عن اليمين فحلف المدَّعِي أو أقام البينة تشهد له بأن العين المدعاة كانت في يده كُلِّفَ المدَّعى عليه الإحضار ليشهد الشهود على عينه وحُبِسَ عليه أي على الإحضار ولا يطلق من الحبس إلا بإحضار للعين المدعاة أو دعوى تلف للعين المدعاة وحينئذ تؤخذ منه القيمة أو المثل وتقبل منه دعوى التلف وإن ناقض ذلك قوله الأول للضرورة حيث لو لم تُقْبل منه دعوى التلف للبث في السجن. ولو شك المُدَّعِي هل تلفت العين المدعاة فيدعى قيمة عنها إن كانت متقومة أو مثلاً إن كانت مثليةأم لا أي لم تهلك فيدعيها أي يطالب بها فقال في دعواه غصب مني فلان كذا فإن بقي لزمه رده إليَّ وإلا وإن لم يبقَ فقيمته تُرَدُّ إلي سُمِعَتْ دعواه فإن أقرَّ الخصم فذاك وإلا فيحلف أنه لا يلزمه ردُّ العين ولا قيمتها وقيل لا تسمع دعواه لتردده هل هي تافة أم باقية بل يدعيها أي يدعي العين أولاً ويحلفه عليها ثم بعد حلفه يدعي عليه ثانياً القيمة أو المثل ويجريان أي يجري هذا الوجهان فيمن دفع ثوبه لدلال ليبيعه له فطالب بالثوب فجحده وشك مالك الثوب هل باعه فيطلب الثمن أم أتلفه فقيمته يطالب بها أم هو باقٍ فيطلبه منه ومعنى ذلك هل يحتاج في المطالبة إلى دعوى واحدة أو إلى ثلاث دعاوى ويحلف الخصم يميناً واحداة أن لا يلزمه ردُّ الثوب ولا ثمنه ولا قيمته أو عليه أن يحلف ثلاث أيمان.
و حيث أوجبنا على المدَّعى عليه الإحضار للعين المدعاة فأحضرها استقرت مؤنته أي مؤنة الإحضار ومؤنة الردِّ للعين إلى محلها على المدَّعِي لأنه هو المتسبب في إحضارها.
? فصل في ضابط الغائب المحكوم عليه ?(4/159)
الغائب الذي تسمع البينة ويحكم بها عليه مَنْ بمسافة بعيدة وهي التي لا يرجع فيها مبكرٌ أي من خرج من داره عقب خروج الفجر وقيل قبيل طلوع الشمس إلى موضعه الذي بكؤ منه ليلاً أي في أول الليل وهو في وقت عودة الناس إلى دورهم من السفر عادة وذلك بعد الفراغ من المحاكمة وقيلالمسافة البعيدة هي مسافة القصر لأن الشارع اتبرها في مواضع نحو قصر الصلاة وجواز الفطر ونحو ذلك ومَنْ بقريبة وهي المسافة دون البعيدة وهو من يمكن حضوره فهو كحاضر فلا تسمع بينة عليه ولا يحكم عليه بغير حضوره لسهولة احضاره ليدفع عن نفسه أو يقر ولئلا يشتبه على الشهود إلا لتواريه أي تغيبه لأن التواري لو اعتبر عذراً لتوارى كثير من الخصوم ولتعذر القضاء أو تعززه بسلطانه أو قوته أو أعوانه وعجز القاضي عن إحضاره فتسمع البينة عليه عندئذ كما تسمع على الغائب والأظهر حواز القضاء على غائب في قصاص وحدِّ قذف لأنه حق آدمي كما في المال ومنعه في حد أو تعزير لله تعالى لأن حدود الله مبنية على الدرء والمسامحة ولو سمع القاضي بنية على غائب مقدم قبل الحكم لم يستعِدها لأن سماع البينة وقع صحيحاً بل يخبره بالحال ويمكِّنه بعد ذلك من الجرح للبينة أو إيضاح ما يريد إيضاحه كعداوة بينه وبين الشهود وغير ذلك ولو عُزِلَ القاضي بعد سماع البينة ثم وُلِّي ثانية ولم يكن حكم بقبول البينة وجبت الاستعادة للبينة ولا يحكم بالسماع الأول لبطلانه بالعزل.(4/160)
وإذا استُعِدي أي إذا طلب من القاضي إزالة العدوان على حاضر بالبلد أَحضره القاضي وجوباً إقامة لشعار القضاء ولزمه الحضور رعاية لمكانة القضاء. قال تعالى: (إنما كان قو المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 51، وذلك يكون بدفع خَتْم طين رَطْبٍ أو غيره كشمع مختوم عليه ويقوم مقامه الآن الورق يكتب عليه ويختم عليه بختم القاضي أو يحضره بمرتب لذلك أي بموظفين مختصين لإحضار الخصم أو إبلاغه أمر القاضي بإحضاره فإن امتنع المطلوب من الحضور بلا عذر من أعذار الجمعة أحضره القاضي وجوباً بأعوان السلطان ولا يلزمه الحضور معهم إلا إذا كان معهم أمر بإحضاره كما مرَّ وعزره القاضي بما يراه مناسباً.
أو إذا استعداه على (غائب في غير) محل ولايته أي في غير محله ولاية القاضي فليس له أي القاضي إحضاره إذ لا ولاية له عليه بل يسمع الدعوى والبينة ويبعث بها إلى قاضي بلد الغائب كما مر أو فيها أي في محل ولايته وله هناك أي في المحلة نائبٌ لم يحضر لما في الإحضار من المشقة بل يَسْمَع القاضي بينة عليه بذلك ويكتب بسماعها إليه أي إلى النائب ليتوسط ويصلح بينهما إن أمكن أو يفوض القاضي إليه بينهما.
أو لا نائب للقاضي هناك فالأصح أنه يحضره بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها من مسافة العدوى فقط وهي أي مسافة العدوى التي يرجع منها مبكّرٌ إلى منزله ليلاً وسميت مسافة العدوى لأن على القاضي أن يُعْدي أي يعين من طلب خصماً منها على إحضاره وتحصيل حقه منه والأصح أن المخدّرة لا تحضر إلى مجلس الحكم بل تبعث وكيلاً عنها وهي أي المخدَّرة من لا يكثر خروجها لحاجات متكررة كشراء وبيع بل لا تخرج أصلاٍ وإذا خرجت فنادراً ولأمور لابد منها كزيارة أهل أو لعلاج في مكانه.
? باب القسمة ?(4/161)
الأصل في القسمة قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى) النساء8، وقوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) القمر28، وأخرج الشافعي من طريق مالك عن أبي سلمة بن عبدالرحمن مرسلاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ورواه البخاري عن جبر بن عبدالله، وروى الشيخان عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بين المسلمين)، وقد أجمعت الأمة على جواز القسمة لأن للناس حاجة إليها ليعرف كل واحد من الشركاء نصيبه.(4/162)
قد يقسم المشترك الشركاءُ أو منصوبُهُم أو وكلاؤهم أو منصوب الإمام أو المُحَكِّم بينهم وشرط منصوبه أي منصوب الإمام كرٌ حرٌ عدلٌ تقبل شهادته ضابط سميع بصير وقيل عفيف عن الطمع لأنه لا يجوز للحاكم أخذ أجرة على صاحب الحكم لأنه حق الله. يعلم المِساحة والحساب لأنها آلة القسمة كالفقه للقضاء. فإن كان فيها أي القسمة تقويم أي تقدير للقيمة وجب قاسمان لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين وإلا يكن في القسمة تقويم فقاسم واحد يكفي وفي قول اثنان إذا اعتبرنا منصب القاسم كمنصب الشاهد أما إذا اعتبرناه في منصبه كالقاضي فيكفي واحد أما إذا فوض الشركاء القسمة إلى واحد فقط لو كان فيها تقويم لأنه الرجوع إلى ما اتفقوا عليه وللإمام جعل القاسم حاكماً في التقويم فنعمل فيه أي التقويم بعدلين ذكرين يشهدان عنده فيعمل بقولهما ويقسم بنفسه ويجعل الإمام رزق منصوبه الذي نصبه للقسمة من بيت المال من سهم المصالح لأن القسمة بين الشركاء من المصالح العامة. فإن لم يكن في بيت المال مال أو مُنِعَ الإعطاء منه ظلماً فأجرته أي المنصوب من قبل الإمام على الشركاء فإن استأجروه وسمّى كل منهم قّدْرَاً له لزمه سواء تساووا فيه أو تفاضلوا وإلا بأن أطلقوا لوم يسمّوا فالأجرة موزعة على الحصص لأنها من مؤن الملك كالنفقة على المشترك. وفي قول الأجرة موزعة على الرؤوس لأن العمل يقع لهم جميعاً.
ثم ما عَظُمَ الضرر في قسمته كجوهرة وثوب نفيسين وزوجي خف إن طلب الشركاء كلُّهم قسمته لم يجبهم القاضي إن بطلت منفعته المقصودة بل يمنعهم من قسمته لأنه سَفَهٌ ولا يمنعهم إن اقتسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته بالكلية ولا يضر نقص المنفعة كسيف يُكْسَرُ لإمكان الانتفاع به بعد الكسر باتخاذه سكيناً أو استعمال جزء منه بما صار إليه. روى الدارقطني وابن ماجة عن أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)).(4/163)
وما يبطل نفعه المقصود كحمام وطاحومة صغيرين لا يجاب طالب قسمته بالأصح لما في ذلك من الضرر. فقد أخرج الشيخان عن المغيرة بن شعبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيلِ وقال وعن إضاعة المال).
فإن أمكن جعله حمامين أجيب وإن احتيج إلى بعض المرافق لسهولة تدارك ذلك ولو كان عُشْرُ دار لا يصلح للسكنى والباقي الآخر يصلح لها فالأصح إجبار صاحب العُشْرِ على القسمة بطلب صاحبه لانتفاعه بحصته وقيل لا لتضرر شريكه بالقسمة دون عكسه لأن صاحب العُشْر مُتَعَنِتٌ بطلب القسمة لأنه مضيع لماله.
وما لا يعظم ضَرَرُهُ قسمته أنواعٌ أحدها الأجزاء كمثلى كحبوب ودراهم ودنانير وزيوت وغيرها وتسمى قسمة المتشابهات. ودار مُتَفقةُ الأبنية وأرض مشتبهة الأجزاء ونحوها كثياب وكتب وأواني متماثلة. فيجبر الممتنع على القسمة سواء تساوت الأنصباء أم اختلفت للتخلص من سوء المشاركة مع عدم الضرر فتعدَّل أي تساوى السهام كيلاً في المكيل ووزناً في الموزون وذرعاً في المذروع وعداًفي المعدود بعدد الأنصباء إن استوت أي تساوت تلك الأنصاء فإذا كانت بين ثلاثة زيد وعمرو وبكر مثلاً أثلاثاً جعلت ثلاثة أجزاء ويؤخذ ثلاثة رقاع متساوية ويُكتَبُ في كل رقعة اسم شريك أو جزءاً مميزاً حدٍ أو جهة لأو غير ذلك وتدرج الرقاع في بنادق مستوية أي على شكل حبة البندق متساوية في الوزن والشكل من طين أو شمع وتجفف ثم توضع في حِجْرِ رجل لم يحضر الكتابة والبندقة ثم يُخْرِجُ من لم يحضرها رقعة على الجزء الأول إن كتب الأسماء فيعطى من خرج اسمه أو على اسم زيد إن كتب الأجزاء فيعطى ذلك الجزء ويفعل كذلك في الرقعة الثانية فيخرجها على الجزء الثاني أو على اسم عمرو وتتعين الثالثة للباقي إن كانوا ثلاثة وتعيين من يبتدأ من الشركاء والأجزاء منوط بنظر القاسم.(4/164)
فإن اختلفت الأنصباء كنصف وثلث وسدس جزئت الأرض على أقل السهام وهو هنا السدس فتكون الأجزاء ستة أجزاء وقسمت كما سبق ويحترز عن تفريق حصة واحد فإن كانت الأرض ستة أفدنة جُعِلَ كل فدان جزءاً ويعلم عليه بعلامة ويكتب اسم الشركاء ويجعل في بنادق كما سبق وتخرج بندقة عن الجزء الأول ثم ينظر مَنْ فيها فإن كانت لصاحب السدس أخذه ثم تخرج بندقة عن الجزء الثاني ثم ينظر مَنْ فيها فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وتعينت الأجزاء الثلاثة الباقية لصاحب النصف وإن خرج عن الجزء الثاني اسم صاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وتعين الجزء الخامس والسادس لصاحب الثلث وقولنا يأخذه وما يليه لئلا تتبعض حصة كل ولحد منهم وقيل يكفي الكتابة على ثلاث رقاع وقيل تكون الكتابة على ست رقاع فيكتب اسم صاحب النصف في ثلاث رقاع واسم صاحب الثلث على رقعتين واسم صاحب السدس والأول أسهل وأيسر في التقسيم والأدراج في بنادق.(4/165)
والثاني من أنواع القسمة بالتعديل بالقيمة كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إنبات وقرب الماء أو في جانب منها عنب وفي جانب آخر نخل أو في جانب بناء وفي آخر شجر ولم تستو القيمة في ذلك فإن كانت لاثنين مثلاً نصفين وقيمة ثلثها في المثال الأول المشتمل على أرض فيها قوة إنبات وقوة ماء كقيمة ثلثيها الخالي عن ذلك جعل الثلث سهماً والثلثان سهماً وأقرع كما مرَّ ويجبر الممتنع عليها أي القسمة في الأظهر إلحاقاً للتساوي في القيمة بالتساوي في الأجزاء. إلا إذا أمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده لم يجبر لأنها كأرضين تمكن قسمة كل منهما بالأجزاء فلا يجبر على التعديل ولو استوت قيمة دارن أو حانوتين وهما لاثنين بالسوية فَطَلَبَ أحد الشريكين جَعْلَ كل منهما لواحد فلا إجبار في ذلك للمتنع سواء تجاور الداران أو الحانوتان أو تباعدا لشدة اختلاف الأغراض أو تساوت قيمة عبيد أو ثياب من نوع وأمكن التسوية ولو اختلف العدد أجبر الممتنع لقلة اختلاف الأغراض فيها، روى مسلم عن أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته أجزاء وأقرع بينهم) فقد دخل القسمة الإجبار أو نوعين من جنس واحد كسيارة ياباني وسيارة كوري أو جنسين مختلفين كسيارة وأثاث فلا إجبار في ذلك لاختلاف الأغراض والنوع الثالث القسمة بالردِّ وهي التي يحتاج فيها أحد الشريكين أن يرد للآخر مالاً وذلك بأن يكون في أحد الجانبين من الأرض بئر أو شجر لا يمكن قسمته فَيَردُّ من يأخذه قسط قيمته أي يرد من خرجت بالقسمة البئر أو الشجر في نصيبه ولا إجبار فيه لأنه دخله ما لا شركة فيه وهو المال المردود وهو أي هذا النوع وهو قسمة الردِّ بيع لوجود حقيقة البيع وهو مقابلة المال بالمال فتثبت جميع أحكام البيع ولا يفتقر للفظ البيع والقبول بل يقوم الرضا مقامهما وكذا التعديل بيع على المذهب تثبت فيه أحكامه من شفعة وخيار وغيرهما.(4/166)
وقسمة الأجزاء افراز في الأظهر في الحالتين التراضي والإجبار لأنه تبين فيها نصيب كل من الشركاء ولو كانت القسمة بيعاً لما دخلها الإجبار.
ويشترط في قسمة الردِّ الرضا لفظاً بعد خروج القرعة لأنها بيع والبيع لا يَحْصَلُ بالقرعة فافتقر إلى التراضي في الأصح كقولهما رضينا بهذه القسمة أو قولهما رضينا بما أخرجته القرعة لأن الرضا أمر خفي فأنيط بأمر ظاهر يدل عليه.
ولو ثبت ببينة غلطٌ أو حيفٌ أي ظلم في قسمة إجبار نُقِضت القسمة فإن لم يكن بينة على الغلط أو الحيف وادعاه أي الغلط واحد من الشريكين على شريكه فله تحليف شريكه أي لا غلط أو أنه لا يستحق عليه ما ادعاه ولا شيئاً منه فإن حلف شريكه مضت القسمة وإلا حلف المدعي ونقضت القسمة.
ولو ادعاه في قسمة تراضٍ بينهما بأن نصبا قاسماً أو اقتسما بأنفسهما ورضيا بعد القسمة فالأصح أنه لا أثر للغلط ولذلك فلا فائدة لهذه الدعوى لتراضيهما على القسمة أصلاً والرضا بها قلت: وإن قلنا إن قسمة التراضي قسمة إفراز نقضت تلك القسمة بادعاء الغلط فيها إن ثبت الغلط ببينة وإلا فيحلف شريكه والله أعلم كما مرَّ في قسمة الإجبار.
ولو استُحِقَ بعض المقسوم شائعاً كالثلث أو الربع مثلاً بطلت القسمة فيه أي البعض المستحق وفي الباقي خلاف تفريق الصفقة والأظهر فيه الصحة ويتخير كل من الشريكين.
أو استُحِقَ من النصيبين شيء معين فإن كان المعين بينهما سواءً بقيت القسمة في الباقي إذ لا يتراجع بين الشريكين وإلا يكن المعين بينهما سواء وذلك بأن اختص بأخذ النصيبين أو كان فيهما لكنه في أحدهما أكثر بطلت القسمة لأن ما بقي لكل واحد منهما لا يكون قدر حقه بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة.
? كتاب الشهادات ?
والشهادات جمع شهادة وهي اصطلاحاً إخبار الشخص بحق على غيره بلفظ خاص والأصل فيها قبل الإجماع الكتاب والسنة.(4/167)
قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) البقرة282، وقال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة) البقرة283، وقال تعالى: (واشهدوا ذوى عدل منكم) الطلاق2.
وروى الحاكم والبيهقي من حديث طاووس عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الشهادة فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع)، ولا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالشهادة.
شرط الشاهد مسلم حر مكلف عدل ذو مروءة غير متهم والمقصود المروءة الاستقامة لأن مَنْ لا مروءة له لا حياء له ومن لا حياء له يقول ما شاء. ولقد روى البخاري عن أبي مسعود البدري (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) والمتهم هوالذي يكثر السهو الغلط ومن يكثر العداوة ولا تطمئن النفس إليه. قال تعالى: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا). وأخرج البيهقي وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غَمْرٍ على أخيه)) والغمر هو العداوة والحقد.
وشرط العدالة اجتناب الكبائر واجتناب الإصرار غلى صغيرة فبارتكاب كبيرة وإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع تنتفي العدالة ومن الكبائر القتل والزنا واللواط وشرب الخمر والسرقة والقذف وشهادة الزور ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه والغيبة والسكوت عليها والكذب الذي لا حدَّ فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث.
ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح أي ومن الصغائر اللعب بالنرد وهو ما يسمى بطاولة الزهر. فقد روى مسلم عن بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه)). ولأن أصل النرد إنما وضع للقمار والقمار محرم.(4/168)
ويكره اللعب بشطرنج إن كان على غير عوض ولم يشتغل به عن صلاة وإن كان على عوض فهو قمار. روى البيهقي عن ميسرة بن حبيب أن عليَّ بن أبي طالب قال: (اللعب بالشطرنج أكذب الناس يقول قتلت والله ما قتل). ويخالف الشطرنج النرد أن الشطرنج موضوع أصلاً لتدبير أمر الحرب وكل سبب يتعلم به الإنسان أمر الحرب والقتال فإنه مباح. فقد روى الشيخان عن عائشة أنها قالت: (مررتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم من الحبشة يلعبون بالحراب فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ووقفت من خلفه فكنت إذا عييتُ جلست وإذا قمت أتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم). فلا تردُّ شهادة من يلعب بالشطرنج نظراً لكراهية اللعب به.فإن شرط فيه مال من الجانبين فَقِمَارٌ والقمار محرم وتُرَدُ به الشهادة.
ويباح الحُدَاء وسماعه والحداء ما يقال خلف الإبل ليحثوا الإبل على السير فقد روى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها قالت : (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبدالله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة: (حَرِّك بالقوم)، فراح يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير – أي أسرعت – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)) يعني رفقاً بالنساء.
ويكره الغناء بلا آلة وسماعه قال الشافعي: (وهو مكروه يشبه الباطل) روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (دخل عليَّ أبوبكر وعندي جاريتان تغنيان، فقال: مزمور الشيكان في بيت رسو الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما فإنها أيام عيد))، قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30، قال محمد بن الحنفية هو الغناء.(4/169)
ويحرم استعمال آلة من شعار الشَّرَبة والشربة هم المجتمعون على الشراب الحرام كَطُنبور وهو آلة من آلات تللهو ذات عنق وأوتار وثله الربابة وعود وصَنْجٍ آلة من آلات اللهو مصنوعة من النحاس يضرب بعضها على بعض وتسمى الصفقاتين ومزمار عراقي وهو ماله بوق والغالب فيه له أوتار واستماعها أي ويكره استماع الآلات السابقة لأنها تطرب لا ياع في الأصح واليراع هو الشبابة سميت بذلك لأنها مجوفة قيل إنها تنشط على السير في السفر قلت: الأصح تحريمه والله أعلم لأنه آلة مطربة بل قال بعض أهل العلم بالموسيقى إنه آلة تجمع كلَّ نغمات الموسيقى إلا قليلاً فحرم كسائر المزامير ويجوز دُفِّ لعرس وختان وولادة وقدوم غائب وعيد وشفاء مريض فقد روى الترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال – أي الدف)).
وروى أحمد والترمذي وغيرهما من حديث بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: أوفِ نذرك).
وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح للخبر السابق (إن كنتِ نذرتِ أوفِ بنذركِ) وإن كان فيه جلاجل لإطلاق الخبر السابق والمراد بالجلاجل الحلق التي تجعل داخل دائرة الدف.
ويحرم ضرب الكوبة وكذلك اشماعها وهي أي الكوبة طبل طويل ضيق الوسط واسع الطرفين أو أحدهما فقد روى أبوداود وابن حبان وأحمد من حديث ابن عباس (إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة في عددها).(4/170)
لا الرقص فإنه لا يحرم لآنه مجرد حركات لما روى عن الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف لعائشة يسترها حتى تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ويرفسون) والرفس هو الرقص وفي رواية يزفنون أي يرقصون أيضاً. إلا أن يكون فيه أي الرقص تكسر كفعل المخنِثِ فيحرم على الرجال والنساء وكذلك يحرم التخنث وهو التخلق بخلق النساء حركة وهيئة. روى البخاري عن ابن عباس قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
ويباح قول الشعر وإنشاده واستماعه إلا أن يهجو فيه ولو بما هو صادق يَفحش أن يجاوز الحدَّ في المدح لأنه حينئذ كذب. أخرج البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأحمد وغيرهم عم عمرو بن الشريد قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلفَهُ ثم قال: هل معك من شعر أمية ين أبي الصَّلت شيء؟ فقلت: نعم، فقال: هيه – يعني هات - فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فأنشدته وهو يقول هيه حتى أنشدته مئة بيت)
وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس أن النبي قال: (ما كان الفحش في شيء إلا شأنه ولا كان الحياء في شيء إلا زانه)، قال الشافعي: الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة أنها كانت تقول: (الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح).
أو يعرض بامرأة معينة أن يشبب بها فيذكر صفاتها من طول وقصر ووجه وفم وغير ذلك فيحرم ذلك وترد به الشهادة.(4/171)
والمروءة للشخص هي: تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ أمثاله في زمانه ومكانه لأن الأمور العرفية مختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان وأصل المروءة الاستقامة مطلقاً وعرفاً هي التخلق بالأخلاق المباحة غير الزرية فالأكل في سوق لغير سوقي والمشي في السوق مكشوف الرأس أو البدن أما كشف العورة فحرام وقبلةُ زوجة وأمة له بحضرة الناس أو أجنبي يسقط المروءة وإكثار حكايات مضحكة للحاضرين بحيث يصير ذلك عادة له وَلُبسِ فقيه قِباءً وسُمِيَ بذلك لاجتماع أطرافه والمقصود به المفتوح من الأمام والخلف وأما المفتوح من الأمام فهو شعار الفقهاء في كثير من البلدان. وقلنسوة يلبسها في بلد حيث لا يُعْتَاد لبسها واكباب على لَعَبِ الشطرنج أي المداومة عليه أو على غناء أو سماعه فقد روى البيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً (الغِناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل). وإدامة رقص يسقط المروءة والأمر فيه أي اسقاط المروءة يختلف بالأشخاص والأحوال والأماكن فيستقبح من شخص دون آخر وفي حال دون حال وفي بلد دون آخر وحرفة دنيئة تسقط المروءة كحجامة وكنس ودبغ وقيامة حمام ممن لا تليق به تسقطها أي المروءة لإشعار ذلك بقلة مبالاته وعدم توقيه للأدناس.
فإن اعتادها بأن تلبّس بها مدة يحكم العرف بأنها صارت حرفة له وكانت حرفة أبيه فلا تسقط المروءة في الأصح لأن الناس لا يعيّروه على ذلك.(4/172)
والتهمة التي تمنع الشهادة في الشخص أن يجرِ إليه بشهادته نفعاً أو يدفع عنه بها ضرراً فترِد شهادته لعبده ومكاتبه وغريم له ميت وإن لم تزذ ديونه على تركته أو عليه حجْرُ فَلَس لأنه إذا أثبت ديناً للغريم أثبت لنفسه المطالبة به فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة والبيهقي في السنن عن أبي هريرة أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ظنين ولا ذي غمر على أخيه)) والظنين المتهم. ومن جرَّ لنفسه نفعاً أو درأ بشهادته عن نفسه ضرراً لا تقبل شهادته وأخرج أبوداود وغيره عن عبدالله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُقْبَلُ شهادةُ خائنٍ ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي غَمْر على أخيه)). والخائن: الغاصب، وذي الغمر: ذي الحقد والعدو ذي الحقد.
وبما هو وكيل فيه فلا تقبل شهادته لأنه يثبت لنفسه سلطنة التصرف في المشهود فيه وببراءة مَنْ ضمنه فلا تقبل شهادته أيضاً بأداء أو إبراء لأنه يدفع عن نفسه الغرم وبجراحة مُوَثه إذا شهد بها فترد شهادته لأنه لو مات كان الأرث له ولو شهد لمُوَرِّثٍ له مريض أو جريح بمال قبل الاندمال قبلت شهادته في الأصح لأن شهادة لا تجر إليه نفعاً إلا إذا مورثه قبل الحكم لأنه في هذه الخالة شكون شاهداً لنفسه فقد روى البيهقي عن طريق الأعرج مرسلاً (أن انبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة ذي الظنّة والحنة)) أي الذي بينك وبينه عداوة. فقد أخرج أبوداود هرسلاً عن طلحة بن عبدالله بن عوف (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً (أنه لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه)).
وتُرَدُّ شهادةُ عاقلة بفسق شهود قَتْلٍ يحملونه من خطأ وشبه عمد لأنهم يدفعون بشهادتهم عن أنفسهم ضرراً وهو تحمل الدية.
وغُرماء مُفْلِس حُجِرَ عليه لا تقبل شهادتهم بفسق شهود دين آخر لأنهم يدفعون عن أنفسهم بالشهادة ضرر الزاحمة لهم على مال المفلس.(4/173)
ولو شهد أي شهد الشاهدان لاثنين بوصية من تركة فشهدا أي شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية من تلك التركة قُبِلَت الشهادتان في الأصح لانفصال كلِّ شهادة عن الأخرى والأصل عدم التواطؤ في الشهادة بينهم.
ولا تقبل الشهادة لأصل ولا فرع فقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن شريح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة الابن لأبيه ولا الأب لابنه ولا تجوز شهادة المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته)). والمرء يميل بطبعه إلى ولدة ووالده فقد روى الشيخان عن المسور بم مخرمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطمة يريبني ما رابها)) وفي رواية فمن أغضبها أغضبني.
وكذا تقبل شهادتهما على أبيهما بطلاق ضرة أمهما طلاقاً بائناً أو قذفها أي قذف الضرة قذاً مؤدياً إلى للعان الذي يؤدي لفراقها في الأظهر لضعف تهمة نفع أمهمابذلك وإذا شهد شخص بحق لفرع أو أصل له وأجنبي كأن قال المسكن لأبي ولفلان قبلت تلك الشهادة للأجنبي في الأظهر بناءً على القول في جواز تفريق الصفقة.
قلت أي النووي وتقبل الشهادة لكل من الزوجين للآخر. قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الآية282، ولم يفرق بين الزوج وغيره وقيل لا تقبل لخبر شريح السابق لأن كلاً منهما وارث لا يُحْجَبُ فأشبه الأب.
ولأخ وصديق أي وتقبل شهادة أخٍ لأخيه ومن صديق لصديقه لعموم قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) الآية282. والله أعلم لضعف التهمة.
ولا تقبل شهادة من عدو لوجود التهمة لما روى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة خَصْم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه)) وذي الغمر أي الحاقد الذي يحمل الغلَّ والكراهية.(4/174)
وهو أي العدو من يبغضه بحيث يتمنى زوال نعمته ويحزن بسروره ويفرح لمصيبته وذلك قد يكون من الجانبين أو قد يكون من أحدهما على الآخر فتردُّ شهادته عليه وتقبل الشهادة له أي للعدوإن لم يكن أصلاً له أو فرعاً إذ لا تهمة.
وكذا تقبل الشهادة عليه في عداوة دين ككافر ومبتدع لأن العداوة لأجل الدين لا تردُّ الشهادة فمن أبغض فاسقاً لفسقه أو قدح فيه بما هو واجب عليه كفلان لا يحسن الفتوى فلا تستفتوه لم تردَّ شهادته لأن هذه نصيحة للناس. فقد روى البيهقي في السنن وابن عبدالبرِّ في التمهيد والسيوطي في الجامع الصغير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذكروا الفاسق بما فيه تعرفه الناس)).
وتقبل شهادة مُبْتَدعٍ لا نكفرُهُ ببدعته فجمهور الفقهاء لا يكفرون أحداً من أهل القبلة قال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تبايناً شديداً واستملَّ بعضهم من بعض ما تطول حكايته وكان ذلك متقادماً. منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم فلم نعلم أحداً من سلف الأمة يُقْتَدى به ولا من بعدهم من التابعين ردَّ شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله، فلا تردُّ شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمل وإن بلغ فيه استحلال المال والدم.
ورى أصحاب السنن عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة))، فجعل الكل من أمته لا مُغفّل لا يضبط ولا مبادر بالشهادة قبل أن يسألها فكل منهما متهم ويستثني من المبادر ما ذكر في قوله وتقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى فقد روى الشيخان عن عمران بن الحصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون)) فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون ولا يستشهدون ذم لهم.(4/175)
وأما حديث مسلم الذي يرويه عن زيد بن خالد الجهني (ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) فإن هذا محمول على أهل الحسبة الذين يتطوعون لنشر الخير واحقاق الحق احتساباً للأجر من عند الله تعالى وأما حقوق الله تعالى فهي: كالصلاة والزكاة والصوم والحج ولو عَنْ ميت وكفارة وفيما له فيه حق مؤكد أي لله فيه حق مؤكد ولا يحتاج إلى رضا الآدمي بأن يقول من غير دعوى أنا أشهج أو عندي شهادة أن فلاناً أخ في الرضاعة لفلانة أو أن فلانة التي ترغب في النكاح هي مزوجة من فلان وتسمع شهادة المحتسب تمنع ما يترتب على ما ذكر من أمور وحّدٍّ له أي لله تعالى كحد الزنا وقطع الطريق وكذا النسب على الصحيح لأ، الشرع أكد الأنساب ففي وصلها حق لله تعالى.
ومتى حَكَمَ باهدين فبانا عند الشهادة أو عند الحكم كافرين أو عبدين أو صبيين نقضه هو وغيره لتيقن الخطأ فيه وكذا فاسقان ظهر فسقهما عند القاضي فإن الحكم ينقض بهما في الأظهر لوجوب العدالة في الشهود.(4/176)
ولو شهد كافر أو عبد أو صبي في أمر ما ثم أعادها أي الشهادة بعد كماله قبلت شهادته إذا لا مانع عندئذ من قبولها أو فاسق تاب فلا تقبل شهادته لأنه متهم بسبب فسقه. قال تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات6. فأمر بالتبين في نبأ الفاسق وهو ما يخبر به والشهادة خبر. وروى أبوداود عن عبداللع بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُقْبَلُ شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه)). وَتقْبَلُ شهادته أي الفاسق في غيرها بشرط اختباره بعد التوبة مدة يُظَنُّ بها صدق توبته أي توبة الفاسق وقدرها الأكثرون بسنة وقيل تقدر بستة أشهر وقيل تختلف باختلاف الأشخاص وعلامات الصدق ويشترط في توبة توبة معصيةٍ قوليه القول قياساً على التوبة من الردة بوجوب النطق بالشهادتين فيقول القاذف قذْفي فلاناً باطلٌ أو لم يكن صحيحاً أو ما كان لي حق بقذفه أو نحو ذلك وأنا نادم عليه ولا أعود إليه وقد ثبتُ منه. قال تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) النور4،5. فذكرت الآيات الاستثناء عقب ردِّ الشهادة والتفسيق. وروى السيوطي في الدر المنثور عن عمر بن الخطاب (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توبة القاذف إكذابُهُ نفسَهُ فإن تاب قُبلت شهادته)).
وأخرج البيهقي في السنن عن جابر بن عبدالله (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا)).(4/177)
وروى البخاري عن عمر معلقاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة: تُبْ أَقْبَلُ شهادَتك) ورواه البيهقي موصولاً وكذا شهادة الزور ويشترط في صحة التوبة منها أن يقول توبتي باطلة أو نحو ذلك كما سبق في توبة الفاسق. وشهادة الزور من الكبائر فقد روى الترمذي وغيره عم خريم بن فاتك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَدَلَتْ شهادة الزور الشرط بالله) قالها ثلاثاً ثم تلا قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30) قلت: وغير القولية من المعاصي كالزنا وشرب الخمر والسرقة لا يشترط فيها قول وإنما يشترط في صحة التوبة منها إقلاع عنها وندم عليها وعزم [ان لا يعود إليها ورد ظلامة آدمي إن تعلقت به سواء كانت للآدمي خالصة أو كان فيها مع ذلك حق لله تعالى كالزكاة والكفارة فتجب فوراً والله أعلم فيؤدي الزكاة والكفارة ويرد المغصوب فإن تعذر عليه ذلك تصدق به وإن أعسر بذلك نوى الأداء إذا قدر وليتحلل صاحبه. روى البخاري عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له من مظلمة لأخيه من عرضه أو شي فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخِِذَ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه)) .
? فصل في بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال وتعدد الشهود وما ال يُعْتبر ?
لا يحكم بشاهد واحد إلا في هلال رمضان فإنه يقبل فيه شاهد واحد في الأظهر فقد أخرج أبوداود والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام أمر الناس بصيامه).(4/178)
ويشترط للزنا أربعة رجال فلا يثبت حد الزنا إلا بأربعة شهود. قال تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا [أربعة شهداء) فأثبت أنه لا يسقط حدُّ القذف عن القاذف إلا بأن يأتيَ بأربعة شهداء على الزنى. وقال تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) النساء15. فأثبت سبحانه أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهداء وللإقرار به اثنان في الأظهر كالإقرار بغير الزنا وفي قول أربعةٌ كالشهادة على الزنا ولأنه يترتب بالشهادة الحدُّ على اثنين.
ولمالٍ وعقدٍ ماليٍ كبيع وإقالة وحوالة وضمان وحق مالي كخيار أي خيار مجلس أو شرط وأَجَلٍ يشترط رجلان أو رجلٌ وامرأتان. قال تعالى: (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) البقرة282.
وورد التسهيل هنا من جهة العدد ومن جهة قبول شهادة النساء لكثرة التعاملات المالية وأنها تعمُّ عادة أكثر الناس وَفُهِمَ منه قبول الرجل والمرأتين مع وجود الرجلين. ولغير ذلك من عقوبة لله تعالى كالشرب وقطع الطريق والردة أو عقوبة لآدمي كالقصاص في النف سأو الطرَف وحدِّ القذف ما يطلع عليه رجال غالباً كنكاح وطلاق ورجعة وإسلام وردة وجرح وتعديل وموت وإعسار ووكالة ووصاية وشهادةٍ على شهادة فيشترط في الشهادة رجلان لا رجل وامرأتان فقد روى الإمام مالك عن الزهري أنه قال: (مضت السنة أن لا تجوز شهادةالنساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق) وقيس على الثلاثة باقي المذكورات. وروى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي موسى الأشعري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)).(4/179)
وما يختص بعرفته النساء غالباً أو لا يراه الرجال غالباً كبكارة وولادة وحيض ورضاع وعيوب تحت الثياب كجراحة على فرج الأنثى يثبت بما سبق أي برجلين وبرجل وامرأتين وبأربع نسوة يثبت أيضاً للحاجة إليهن هنا أما عيوب الوجه واليد فلا يثبت إلا برجلين إن لم يقصد به المال فإذا ٌُصِدَ به المال ثبت بشهادة رجلين وامرأتين.
روى ابن أبي شيبة في مسنده عن الزهري أنه قال: (مضت السنة بأنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن) وقوله مضت السنة أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وإلا يثبت برجلين وامرأتين لايثبت برجل ويمين لأن الرجل والمرأتين أقوى فإن لم يثبت بالأقوى فالأضعف أولى وما يثبت بهم أي برجل وامرأتين ثبت برجل ويمين لما روى الإمام مسلم وغيره عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضر بشاهد ويمين).
وروى الدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استشرت جبريل في القضاء باليمين والشاهد فأشار عليَّ بالأموال لا تعدو ذلك)).
إلا عيوب النساء ونحوَهَا فلا تثبت برجل ويمين لأنها أمور خطيرة بخلاف المال. ولا يثبت شيء من الحقوق بامرأتين ويمين لضعفهما ولعدم ورود ذلك.
ثم شرع في بيان مسألة الاكتفاء بشاهد ويمين فقال: وإنما يحلف المدعي فيها بعد شهادة شاهده وتعديله لأن جانبه يقوى عندئذ واليمين أبداً في جانب القوى ويذكر المدعي وجوباً في حلفه صِدْقَ الشاهد فيقول والله إن شاهدي لصدق فيما يقول وإني مستحق لكذا.
فإن ترك الحلف وطلب يمين خصمه بعد شهادة الشاهد فله ذلك لأ، الورع قد يدفعه للامتناع عن اليمين فإن حلف الخصم سقطت الدعوى فإن نكل الخصم عن اليمين فله أي للمدعي أن يحلف يمين الردِّ في الأظهر كما لو لم يكن معه شاهد لأن هذه اليمين غير التي امتنع عنها أولاً.(4/180)
ولوو كان بيده أي بيد الشخص أمَةٌ وولدها يسترقهما فقال الرجل هذه مستولدتي علقت بهذا الولد في ملكي وحلف مع شاهد بذلك أو شهد له رجل وامرأتان بذلك ثبت الاستيلاد لأ، حكم المستولدة حكم المال فتُسَلَّمُ إليه وإذا مات حُكِمَ بعتقها بإقرراره لا بالشاهد واليمين. لا نسب الولد وحريته فلا يثبتان بالشاهد واليمين وفي الأظهر فيبقى الولد في يد صاحب اليد لنقصان البينة ولو كان بيده غلام رقيقاً فقال رجل كان هذا الغلام لي وأعتقته وحلف مع شاهد أو شهد له رجل وامرأتان بذلك فالمذهب انتزاعه من يده ومصيره حراً لا بالشهادة ولكن بإقراره وإن تضمن الولاء لأن الولاء تابع وليس أصلاً. ولو ادعت ورثةٌ مالاً لمورثهم وأقاموا شاهداً بالمال وحلف معه أي مع الشاهد بعضهم أخذ الحالف نصيبه فقط ولا يُشَارك فيه من الورثة الآخرين لأن الحجة تمت في حقه وحده ويبطل حق مَنْ لم يحلف بنكوله عن اليمين مع الشاهد إن حضر في البلد وهو كاملٌ ببلوغ وعقل فإن كان من لم يحلف غائباً أو صبياً أو مجنوناً فالمذهب أنه لا يقبض نصيبه بل يوقف الأمر إلى علمه أو حضوره أو كماله فإذا زال عذره بأن علم أو قدم أو بلغ أو أفاق حلف وأخذ حصته بغير إعادة شهادة ومن غير دعوى جديدة لأنها وجدت أولاً من الكامل ولا تجوز شهادة على فعل كزنا وغصب وإتلاف وولادة ورضاع إلا بالإبصار له مع فاعله لأنه يصل به إلى اليقين. قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء36، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف86. وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي في السنن عن بن عباس (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: هل ترى الشهادة؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو فدع).(4/181)
وتقبل في الفعل من أصم لإبصاره ويجوز لمن أراد تحمل الشهادة على فعل الزنا تعمد النظر لفرجي الزانيين لأنهما هتكا حرمة أنفسهما والأقوال كعقد وفسخ وطلاق وإقرار يشترط في الشاهد بها سمْعُهَا وعلى هذا لا تقبل شهادة الأصمِّ فيها ولا يُقْبَلُ شهادة أعمى فيما سبيل معرفته الإبصار لإمكان اشتباه الأصوات وقد يحاكي الإنسان صوت غيره إلا أن يُقِرَّ في أذنه شخص بنحو طلاق أو عتق أو مال لشخص معروف الاسم والنسب فيتعلق الأعمى به حتى يشهد عليه عند قاضٍ به أي بما سمعه منه فيقبل على الصحيح لحصول العلم بأنه المشهود عليه. ولو حملها أي الشهادة بصير ثم عَمِيَ شهد إن كان المشهود له والمشهود عليه معروفي الاسم والنسب فيقول عند الشهادة: أشهد أن فلانَ بن فلانٍ فعل كذا أو أقرّ به لأ،ه في هذا كالبصير أما في مجهول الاسم والنسب فلا تقبل شهادته ولا في مجهول أحدهما ومن سمع قولَ شخصٍ أو رأى فِعْلَهُ فإن عَرَفَ عينه واسمه ونسبه شهد عليه في حضور إشارة لا باسمه ونسبه فقط وعند غيبته وموته يشهد عليه باسمه ونسبه معاً لحصول التمييز بذلك فإن جهلهما أي اسمه ونسبه أو أحدهما لم يشهد عند موته ودفنه وغيبته فإن مات ولم يدفن أُحْضِرَ ليشاهد صورته ويشهد على عينه إن لم يُخْشَ تغييره بإحضاره وإن خُشيَ عليه التغيير حضر الشاهد إليه ليشاهد صورته ولا يصح تَحمُّلُ شهادة على مُتَنَقبةٍ اعتماداً على صوتها لا مكان تشابه الأصوات فإن عرفها باسم ونسب جاز التحمل عليها وهي منتقبة ويجوز كشف الوجه عندئذ ويشهد المتحمل على المنتقبة عند الأداء بما يعلم فيشهد في العلم بعينها عند حضورها وفي العلم بالاسم والنسب عند غيبتها وموتها. ولا يجوز التحمل عليها أي المرأة بتعريف عدل أو عدلين على الأشهر إلا إذا أُمِن تواطؤهم على الكذب والعمل على خلافه أي على خلاف الأشهر وهو الاكتفاء بالتعريف من عدل أو عدلين ولو قامت بينةٌ على عينه أي المدَّعى عليه بحق فطلب(4/182)
المُدَّعِي التسجيل بذلك سجَّلَ له القاضي وذلك جوازاً بالحلية فيكتب القاضي حَضَرَ رجلٌ ذَكَرَ أنه فلان بن فلان ومن حليته أي صفته أي صفته كذا وكذا لا الاسم والنسب ما لم يثبتا ببينة أو بعلم القاضي ولا يكفي فيهما قول المدَّعِي ولا إقرار مَنْ قامت عليه البينة لأن نسب الشخص لا يثبت بإقراره وإنما يثبت ببينة حسبة فإذا قامت عند القاضي بنسبه سُجِّلَ به مع صفته التي تميزه وله الشهادة بالتسامع أي بالاستفاضة على نسب وإن لن يعرف عين المنسوب إليه من أب أو قبيلة فيشهد أنه من قبيلة كذا وكذا أمٍّ في الأصح فيقبل النسب إليها بالتسامع كالأب وقيل لا يقبل التسامع لإمكان رؤية الولادة خلافاً للأب والقبيلة لأنه لا مدخل للرؤية فيه وموت يثبت بالتسامع على النذهب لا عتق وولاء ووقف ونكاح ومِلْك في الأصح لأ، مشاهدة ذلك ممكنة وأسبابها معلومة قلت الأصح عند المحققين والأكثرين من أهل المذهب في الجميع الجواز والله أعلم لأن هذه الأمور إذا طالت عَسُرَ إثبات ابتدائها فقُبِلَ في الشهادة عليه التسامع وصورة الاستفاضة بالملك أن يستفيض بين الناس أنه مِلْكُ فلان من غير الإضافة إلى سبب.(4/183)
وشرط التسامع الذي تستند الشهادة إليه سماعُهُ أي المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب أي توافقهم عليه فيقع العلم أو الظنُّ القوي بصدق خبرهم وقيل يكفي سماعه من عدلين إذا اطمأن القلب إليهما ولا تجوز الشهادة على مِلْكٍ بمجرد يدٍ أو تصرف لأ، ذلك قد يكون بملك أو بغير ملك فلا تقبل الشهادة بمجرد اليد إذ قد يكون اليد أو التصرف عن إجارة أو عارية أو وكالة. ولا بيد وتصرف في مدة قصيرة لاحتمال أنه وكيل عن غيره وتجوز الشهادة في مدة طويلة عرفاً بشرط عدم وجود منازع في الأصح لأن امتداد اليد والتصرف مع طول الزمان ولا منازع يغلب على الظن الملك وشرطه أي التصرف المفيد للملك تصرف مُلَّاك من سكنى وهدم وبناء وبيع ورهن لأن ذلك يدل على الملك والتصرف في المملوك يقوي ذلك وتُبنى شهادة الاعسار على قرائن ومخايل أي علامات تدل الضُّرِ والإضاقة أي قلة المال والفقر.
? فصل في تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك ?
تحمّلُ الشهادة فرض كفاية في النكاح وكذا الإقرار والتصرف المالي فلو امتنع الكل أثموا ومعنى تحمل الشهادة هو المعرفة والإحاطة والحفظ لما يُشْهَدُ به والتكنية بالتحمل دليل على أن الشهادة من أعلى وأهم وأثقل الأمانات التي يُحْتَاجُ لحملها وكتابة الصك أي الوثيقة المكتوبة لحفظ الأموال وغيرها في الأصح فعقد النكاح يتوقف على الإشهاد عليه وبقية العقود تحتاج للإشهاد للحاجة إلى إثباتها عند التنازع.
وإذا لم يكن في القضية المشهود بها إلا اثنان وذلك بأن لم يتحمل الشهادة سواهما أو مات أو غاب فُسِّقَ غيرهما لزمها الأداء إذا دعيا لأداء الشهادة، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) البقرة283، وقال تعالى: (ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا) البقرة282.(4/184)
فلو أدى واحد الشهادة وامتنع الآخر من أدائها وقال للمدعي إحلف معه أي مع الشاهد عصي لأن من مقاصد الاستشهاد التورع عن اليمين وإن كان في القضية شهود أي من أكثر من اثنين فالأداء للشهادة فرض كفاية لحصول الغرض ببعضهم فلو طَلَبَ المدعي الأداء من اثنين لزمها في الأصح لأن الامتناع عن الشهادة يفضي إلى التواكل وإن لم يكن إلا شاهدٌ واحدٌ لَزِمَهُ الأداء إن كان الحق فيما يثبت بشاهد ويمين وهو ما كان مالاً أو كان المقصود منه المال وإلا يثبت الحقُّ بشاهد ويمين فلا يلزمه الأداء إذ لا فائدة من أدائه وقيل لا يلزم الأداء إلا من تجمل قصداً لا اتفاقاً من غير قصد لأنه لم يقصد الالتزام والأصح يلزمه الأداء أمانة حصلت عنده.
ولوجوب الأداء شرود: أن يُدْعى لأداء الشهادة من مسافة العدوى فأقل مسافة العدوى هي التي يتمكن مَنْ خَرَجَ من بيته مبكراً أن يعود إليه في يومه وقيل دون مسافة القصر وهي أزيد من مسافة العدوى فإن دُعِي من مسافة القصر لم يجب عليه الإجابة للبعد. وأن يكون عدلاً فإن دُعِي للشهادة ذو فِسْقٍ مجمع عليه أي مجمع على فسقه كشارب الخمر وقيل أو مختلف فيه كشارب للأنبذة لمْ يَجبْ عليه الأداء إذا كان القاضي يفسقه ولا يقبل شهادته وأن لا يكون معذوراً بمرض ونحوه كخوفه على ماله أو تعطل كسبه أو طلب في حرٍّ أو بردٍ أو كانت المرأة مخدرة غير بزرة تظهر بين الرجال عادة فإن كان المدعو معذوراً وأشهد على شهادته وجوباً إن طلب منه ذلك وخيف ضياع الحق لو لم يشهد أو بعث القاضي من يسمعها منه دفعاً للمشقة عنه.
? فصل في الشهادة على الشهادة ?(4/185)
تُقْبلُ الشهادة على الشهادة لعموم قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) الطلاق2، فلم يفرق بين الشهادة بالحق أو بالشهادة على شهود الحق في غير عقوبة لله تعالى فتقبل في مال وعقد وفسخ وطلاق وولادة ورضاع ووقف زكاة وفي عقوبة لآدمي كقصاص وحدِّ قذف تقبل على المذهب لبناء آدمي على المشاحة وأما حدود الله سبحانه وتعالى وهي: حدُّ الزنا وحدُّ السرقة وحدُّ قطع الطريق وحدُّ الخمر فمندوب إلى سترها فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة في الأظهر وتحملها بأن يسترعيه أي يطلب منه رعاية الشهادة وحفظها حتى يؤديها عنه لأنها نيابة فاعتبر بها إذن المنوب فيقول الشاهد لمن ناب في حمل الشهادة أنا شاهد بكذا وأشهدك أو أشهد على شهادتي أو إذا طُلِبَ منك الشهادة على شهادتي فلا مانع عندي في ذلك أو يسمعه يشهد عند قاضي أن لفلان على فلان كذا فله أن يشهد على شهادته أو يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً عن ثمن مبيع أو غبره كقرض مثلاً فيجوز الشهادة على قوله لأنه أسنده إلى سبب معين فامتنع التلاعب بالقول أو الوعد بالمشهود به وفي هذا الأخير وجه أنه لابد من الإذن بالشهادة منعاً لتساهل الشاهد وتوسعه في القول فلا يكفي في سماع قوله لفلان على فلان كذا أو أشهد بكذا أو عندي شهادة كذا لاحتمال أن يريد أن له عليه ذلك من جهة أنه وعده بذلك لأن الناس يتساهلون في إطلاق ذلك.
وليبين الشاهد الفرع وهو الذي تحمل الشهادة عن الشاهد الأصلي عند الأداء جهة التحمل فإن سمع شاهد الأصل يشهد بحق مضاف إلى سبب فإنه يقول أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة أو غير ذلك. وإن سمعه يشهد عند القاضي أو المحكَّمِ ذكر ذلك وإن استرعاه الأصل قال أشهد أن فلاناً شهد أن لفلان على فلان كذا وأشهرني على شهادته.(4/186)
لإغن لم يبين جهة التحمل ووثق القاضي بعلمه فلا بأس في قبول ذلك لتحقق الغرض فيقول أشهد على شهادة فلان بكذا ولا يصح العمل على شهادة مردود الشهادة بفسق أو عداوة لأن بطلان الأصل يستلزم بطلان الفرع.
ولا تحْمِلُ النسوة أي لا تقبل شهادتهن على شهادة غيرهن ولو على مثلهن في نحو ولادة لأن الشهادة على الشهادة مما يطلع عليه الرجلان وشهادة الفرع إنما تثبت شهادة الأصل فإن مات الأصل أو غاب أو مرض لم يمْننَعْ ذلك شهادة الفرع لتعذر حضور شهادة الأصل فأصبح الفرع محلها. وإن حدث ردةٌ أو فسقٌ أو عداوةٌ مَنَعَتْ هذه الأمور شهادة الفرع.
وجُنُونه وخرسه وعماه كموته أي جنون الأصل وخره وعماه يجيز شهادة الفرع على الصحيح فلا يؤثر لأنه لا يوقع ريبة في الماضي.
ولو تحمَّلَ فرعٌ فاسقٌ أو عبدٌ أو صبي فأدى وهو كامل قُبلت شهادته إذ الاعتبار بوقت الأداء. ويكفي شهادة اثنين على الشاهدين وذلك بأن يشهد شاهدان على أحد شاهدي الأصل ثم شهد نفس الشاهدان على شهادة شاهد الأصل الثاني.
وفي قول يُشْتَرَط لكل رجل أو امرأة من الأصول اثنان لأنهما إذا أثبتا شهادة أصل قاما بشطر البينة فلا يمكن قيامهما بالشطر الثاني أي من ثبت به أحد طرفي الشهادة لا يجوز أن يثبت به الطرف الآخر والأول أصح لأنهما شهدا على قول اثنين فقبلا.
وشرط قبولها أي قبول شهادة الفرع تعذُّر أو تَعسرُ الأصيل بموت أو عمى أو مرض يشق به حضوره أو غيبة لمسافة عدوى وقيل قصر لأن ما دون ذلك في حكم الحَضَر وأن يسمّى الأصول ليعرف القاضي عدالتهم ويتمكن الخصم من القدح فيهم ولا يشترط أن يزكيهم الفروع ولا أن يتعرضوا لصدقهم بل لهم إطلاق الشهادة والقاضي هو الذي يبحث عن عدالتهم فإ زكوهم وهم من أهل ذلك قُبِلَ ذلك منهم ولو شهدوا على شهادة عدلين أو شهادة عُدُول ولو يسموهم لم يَجزْ أي لم يكفِ ذلك لأن ذلك يسدَّ باب الجرح على الخصم كما أن القاضي قد يعرفهم عند تسميتهم فيردَّ شهادتهم.(4/187)
? فصل في الرجوع عن الشهادة ?
إذا رجعوا أ ي الشهود عن الشهادة قبل الحكم امتنع الحكم بشهادتهم لأنه لم تبقَ شهادة يحْكُمُ بها القاضي أو رجع الشهود بعده أي بعد الحكم وقبل استيفاء مال شهدوا به استوفيَ المال لأن القضاء قد تمَّ والشبهة لا تؤثر به أو عقوبة سواء كانت لله تعالى أم لآدمي كحدِّ الزنا وحد القذف فلا تستوفى تلك العقوبة لأنها مما يسقط بالشبهة والرجوع شبهة بل هو أقوى شبهة.
فإن كان المُسْتوفى قصاصاً أو قتلَ ردة أو رَجْمَ زنا أو جَلْدَهُ ومات المجلود وقالوا تعمدنا شهادة الزور فعليهم قصاص أو دية مغلظة موزعة على عدد رؤوسهم وعلى القاضي قصاص إن رجع وحده دون الشهود وقال تعمدتُ الحكم بشهادة الزور وإن رجع هو أي القاضي وهم أي الشهود فعلى الجميع قصاص أو دية مغلظة لنسبة الهلاك إليهم جميعاً عدواناً فإن قالوا أخطأنا أو عُفِي على مالٍ فغليه أي القاضي نصف دية وعليهم أي الشهود نصف منها توزيعاً على المباشرة والسبب.
ولو رجع مُزَكٍ وحده عن تعديل الشهود فالأصح أنه يضمنلأنه بتزكية الشهود دفع القاضي إلى الحكم أو رجع وليُّ الدم وحده دون الشهود فعليه قصاص أو دية كاملة لأنه المباشر للقتل أو رجع وليُّ الدم مع الشهود فكذلك على الولي وحده القصاص أو الدية لأنه مباشر للقتل وقيل هو أي القاضي وهم أي الشهود شركاء لتعاونهم على القتل فعلى الجميع القصاص أو الدية نصفها على الولي وحده ونصفها الآخر على الشهود توزيعاً على المباشرة والسبب.(4/188)
ولو شهدا بطلاقٍ بائنٍ أو رضاعٍ مُحَرِّم أو لعان وفَرَّقَ القاضي بين الشهود عليه وزوحته فرجعا دام الفراق لأن الحكم لا ينقض بالشبهة وعليهم عوض يساوي مَهْرُ مثلٍ لتفويتهم على الزوج حقه في زوجته وفي قول نصفه إن كان الفراق قبل وطء الذي فات على الزوج نصف المهر ولو شهدا بطلاق بائنٍ وفَرَّقَ قاضٍ بين الزوجين فرجعا أي رجع الشاهدان عن شهادتهما فقامت بينة أنه كان بينهما رضاع مُحَّرم فلا غُرْمَ لأن شهادتهما لم تفوف على الزوج شيئاً ولو رجع شهود مال بعد دفعة للخصم غرموا في الأظهر لأنهم حالوا بين المشهود عليه وماله.
ومتى رجعوا كلهم وزع عليهم الغُرْمُ بالسوية عند اتحاد نوعهم أو رجع بعضهم وبقي منهم نِصاب الشهادة كثلاثة رجع أحدهم في غير زنا أو خمسة رجع أحدهم في زنا فلا غَرْمَ على الراجع لقيام الحجة بغيره وقيل يغرم قسطه لأن الحكم استند إليهم جميعاً.(4/189)
وإن نقص النصاب بعد رجوع البعض عن الشهادة ولم يزد الشهود عليه أي على النصاب فسقط الحدُّ برجوع البعض فقسطٌ يلزم الراجع منهم فإن شهد اثنان ورجع أحدهما فنصف الحق يغرمه الراجع وإن زاد عدد الشهود على النصاب كما إذا رجع من الخمسة في الزنا اثنان أو من الثلاثة في غيره اثنان فقط من النصاب في الأصح بناءً على أنه لا غرم إذا بقي من الشهود نصاب فيغرم الرجعان من الثلاثة النصف لبقاء نصف الحجة وقيل قسط من العدد يغرمه الراجع فإذا رجع اثنان من ثلاثة فيجب عليهما الثلثان قياساً على الاتلاف إذا استووا فيه وإن شهد رجل وامرأتان ورجعوا فعليه نصف وهما نصف أو شهد الرجل وأربعٌ من النساء في رضاع ورجعوا فعليه ثلث وهنَّ ثلثان فإن رجع هو أو رجع ثنتان من النسوة فلا غرم على من رجع في الأصح لبقاء الحجة وإن شهد هو أي الرجل وأربع من النسوة بمال ورجعوا فقيل كرضاع فيكون عليه ثلث وعليهن ثلثان والأصح هو عليه نصف وهن نصف سواءٌ رَجعْنَ معه أو وحدهن لأنه نصف الحجة وهن نصف إذ لا يثبت المال بالنساء المنفردات دون الرجال. وإن رجع ثنتان منهن فالأصح لا غُرْمَ عليهما لبقاء الحجة فإن رجع النسوة الأربع أو الرجل وامرأتان فعلى الراجع نصف لبقاء نصف الحجة.
وأن شهود إحصان أو صفة مع شهود تعليق طلاق أو عتق إذا رجعوا عن شهادتهم لا يغرمون في الأصح كأن قال شاهدا الإحصان أو الصفة أخطأنا في شهادتنا بإحصانه فإنه ما وطيء في نكاح صحيح أو قالا عند الرجوع ما كان الذي شهدنا عليه محصناً وكونهم لا يغرمون لأنهم لم يشهدوا بموجب عقوبة إنما شهدوا بإثبات صفة هي شرط لا سبب والحكم إنما يضاف لسبب لا للشرط.
? كتاب الدعوى والبينات ?
الدعوى لغة الطلب والتمني قال تعالى: (ولهم ما يدعون يس57. وجمعها دعاوى وشرعاً إخبارٌ بحق له عند غيره أمام الحاكم.(4/190)
و البيان جمع بينة وهوالشهود وسموا بذلك لأن بهم يتبين الحق. قال تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) النور48.
وروى الشيخان عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه)).
وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس (البينة على المُدَّعِي واليمين على المدعى عليه). ومعناه توقّفُ استحقاق المدَّعِي على البينة لضعف جانبه بادعائه خلاف الأصل وبراءة المدَّعى عليه باليمين لقوة جانبه بأصل البراءة.(4/191)
قال المصنف رحمه الله تشترط الدعوى عند قاضٍ في عقوبة لآدمي كقصاص وحدِّ قذف فلا يجوز للمستحق أخذها استقلالاً بنفسه لعظم خطرها والاحتياط في اثباتها وإن استحق شخص عيناً عند آخر بملك أو وصية أو إجارة أو نحو ذلك فله أخذها دون رفع إلى القاضي إن لم يخفْ فتنة وإلا أي وإن خاف فتنة أي مفسدة إن أخذها وجب الرفع إلى قاضٍ أو إلى غيره ممن يقدر على إلزام الحقوق أو ادعى ديناً على غير ممتنع منالأداء طالبه به ليؤدي ما عليه ولا يحلُّ أي يحرم أخذ شيء له فإن أخذ شيئاً لزمه رده ويضمنه إن تلف أو استحق ديناً على منكر ولا بينة للمدَّعِي أو كان القاضي جائراً لا يحكم إلا برشوة أخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به لعجزه عن حقه إلا بذلك وكذا غير جنس حقه إن فقده أي لم يجد جنس حقه على المذهب اعتباراً بالضرورة أو كان حقه على مقرٍّ ممتنع من الأداء أو منكر للحق أصلاً وله بينةٌ فكذلك أي يأخذ حقه استقلالاً لعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بهذه الطريق وقيل يجب الرفع إلى قاضٍ لإمكان ذلك رغم المشقة والمؤنة وتضييع الوقت حفاظاً على هيبة القضاء ومنعاً لاتساع المفسدة وإذا جاز الأخذ للحق من غير الرفع إلى قاضٍ فله أي المستحق كسر باب ونقب جدار للمدين لا يصل إلى المال إلا به لأن من استحق شيئاً استحق الوصول إليه ولا يضمن ما أتلفه كما أتلف مال صائل تعذر دفعه إلا بإتلافه ثم إن كان المأخوذ من جنسه أي من جنس حقه يتملكه بدلاً عن حقه ومن غيره أي إذا كان المأخوذ من غير جنس حقه يبيعه بنقد البلد وإن لم يكن جنس حقه ويشتري به صفة حقة ويتملكه وقيل يجب رفعه أي المأخوذ إلى قاضٍ يبيعُهُ لأنه غير مؤهل للتصرف في مال غيره لصالح نفسه والمأخوذ مضمون عليه أي على الأخذ في الأصح فيضمنه إن تلف قبل تملكه وبيعه ويضمن ثمنه إن تلف بعد البيع وقبل شراء جنس ماله ولا يأخذ المستحق فوق حقه إن أمكن الاقتصار على قدر حقه لحصول المقصود فإن زاد على حقه ضمن الزيادة.(4/192)
ولو أخذ مال غريم غريمه كأن يكون لزيد على عمرو دينٌ ولعمرو على بكرٍ مثله فلزيدٍ أن يأخذ من مال بكرٍ مالَهُ على عمروٍ ولا يمنع من ذلك تكذيب عمرو لإقرار بكر له أو جحود بكر استحقاق زيد على عمرو.
والأظهر أن المدَّعِي هو من يخالف قولُهُ الظاهر وهو براءة الذمة والمدَّعى عليه في الاظهر من يوافقه أي يوافق قوله الظاهر. فإذا أسلم زوجان قبل وطء فقال أي الزوج أسلمنا معاً فالنكاح باقٍ بيننا وقالت أي الزوجة أسلمنا مرتباً فلا نكاح بيننا فهو على الأظهر مدعٍ لأن ما قاله خلاف الظاهر وهو أن يقع إسلامهما معاً وهي مدَّعى عليها فإذا حلفت ارتفع النكاح وإذا قلنا هي مدعية وهو مدَّعى عليه لزعمها انفساخ النكاح فإذا حلف الزوج استمر النكاح ومتى ادعى شخص ديناً نقداً اشترط فيه لصحة الدعوى وإن كان في البلد نقدٌ غالبٌ بيان جنس له كذهب أو فضة أو ريال أو دولار أو دينار ونوع كخالص إذا كالن من الذه بأو مغشوش وبيان نسبة الغش وقدر كألف أو مئة ألف وصحة وتكسر إن اختلفت بها قيمة لأن شرط الدعوى أن تكون معلومة أو ادعى على شخص عيناً تنضبط بالصفة كحيوان وحبوب وثياب وصفها وجوباً بصفة السلم لأنها بذلك تتميز تميزاً كاملاً وقيل يجب معها أي مع صفة السلم ذكر القيمة إن كانت متقومة احتياطاً أو المثلية فيكفي الضبط بصفات السلم. فإن تلفت وهي متقوِّمة وجب ذكر القيمة لأ،ها الواجبة عند تلف العين المتقوِّمة.(4/193)
أو ادعى نكاحاً لم يكف الإطلاق بأن يقول نكحتهاأو هذه زوجتي بل يقول نكحتها نكاحاً صحيحاً بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها أي رضا الزوجة إن كان يُشْتَرَطُ رضاها إذا كانت غير مُجْبَرةٍ لأن النكاح فيه حقٌ لله تعالى إلى جانب حق الآدمي فاحتيط له أما في الأموال فيكفي الإطلاق فإن كانت الزوجة أمة أي بها رقٌّ فالأصح وجوب ذكر العجز عن طَوْلٍ أي مهر ينكح به حرة أو يذكر الزوج المسلم إسلامها قال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) النساء25. وخوف عنت أي زنا لأنه ليس تحته حرة تصلح للوطء أو ادعى عقداً مالياً كبيع وهبة ومن قامت عليه بينةٌ بحقٍ ليس له تحليف المدَّعِي على استحقاق ما ادعاه لأن ذلك كالطعن في الشهود فإن ادعى بعد إقامة البينة مُسْقِطاً كأ، ادعى عليه أداءً للحق أو إبراءً منه أو شراء عين من مدعيها أو هبتها وإقباضها منه حلفه الخصم على نفيه أي حلفه على نفي ما ادعاه فيحلف أنه ما تأدى منه الحق ولا أبرأه منه ولا باعه العين ولا وهبه إياها وكذا أي وله تحليفه أيضاً لو ادعى الخصم علمه أي علم المدّعي بفسق شاهده أو كذبه في الأصخ لأن إقرار المدعي بذلك يبطل الشهادة.
وإذا استمهل أي من قامت عليه البينة مُهْلةً ليأتي بدافع يردُّ البينة أُمْهِلَ ثلاثة أيام غير يومي الإمهال والعود بالدافع وهي مدة لا يعظم فيها الضرر على صاحب البينة ولو ادعى رقّ بالغٍ عاقلٍ أنا حرٌ فالقول قوله أي البالغ وعلى المدَّعي البيةُ وإن كان رقيقاً وتداولته الأيدي لأن الأصل في الإنسان الحرية.
أو ادَّعى رِقَّ صغير ليس في يده لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم الملك أو ادعى رقَّ صغير في يده حُكِمَ له به إن لم يُعْرف استنادها أي اليد إلى التقاط فإن عُرِفَ استنادها إلى التقاط لم يُقْبَلْ قوله إلا ببينة.(4/194)
ولو أنكر الصغير وهو مميز كونه رقيقاً فإنكاره لغوٌ لعدم اعتبار قوله وقيل هو كبالغ فلا يقبل القول برقه إلا ببينة.
ولا تسمع دعوى دين مؤجل في الأصح إذ لا يتعلق بها مطالبة في الحال والزام بالحقِّ فلا معنى للدعوى ولكن إذا كان بعض الدَّين حالّاً وبعضه مؤجلاً سمعت الدعوى به كله ويكون الكؤجل تبعاً للحال.
? فصل في جواب المدَّعى عليه ?
إذا أصرّ المدَّعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى جُعِلَ كمنكرٍ ناكلٍ فترد اليمين على الدَّعِي بعد أن يقول القاضي للمدَّعى عليه أجب على دعواه وإلا جعلتك ناكلاً.
فإن ادعى شخص على شخص عشرة مثلاً فقال المدَّعى عليه لا تلزمني العشرة لم يكفِ ذلك في الجواب حتى يقول ولا يلزمني بعضها وكذا يَحْلِفُ إن طُلِبَ منه ذلك لوجوب تطابق الإنكار واليمين للدعوى فإن حَلَفَ على نفي العشرة واقتصر عليه أي على النفي للعشرة فناكل لما دون العشرة فيحلف المدَّعي على استحقاق دون العشرة بِجُزءٍ ولو كان قليلاً ويأخذُهُ لأن النكول على اليمين مع يمين الخصم كالإقرارولو ادعى شخص على آخر مالاً فأنكر وطلب منه اليمين فقال لا أحلف وأعطى المال بلا يمين لم يلزمه قبول من غير إقرار وله تحليفه لأنه لا يأمن أن يدعي عليه بما دفعه بعد ذلك وكذا لو نكل عن اليمين وأراد المدعي أن يحلف يمين الردِّ فقال خصمه أنا أبذل المال بلا يمين فيلزمه الحاكم بأن يقرَّ وإلا حلف المدَّعي.
وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سبب كأقرضتك كذا كفاه في الجواب على الدعوى أنت لا تستحق عليَّ شيئاً أو لا يلزمني دفع شيء إليك أو ادعى عليه شفعة كفاه في الجواب أن يقول: لا تستحق عليَّ شيئاً أو لا تستحق تَسْليمَ الشقص لأن المدعي قد يكون صادقاً ولكن عرض ما يسقط الدعوى يحلف المدَّعى عليه على حَسَبِ جوابه هذا أو يحلف على نفي السبب ليتطابق الحلف والجواب.(4/195)
فإن أجاب بنفي السبب المذكور فب الدعوى حلف عليه ليطابق الحلفُ الجوابَ وقيل له الحلفُ بالنفي المطلق ولا يتعرض لنفي السبب ولو تعرض له جاز ذلك فقد روى مسلم عن وائل بن حجر (أن رجلاً من حضرموت أتى ومعه رجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها ولا حق له فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ فقال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك يمينُهُ، فقال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلفَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك منه إلا ذلك).
ولو كان بيده مرهونٌ أو مُكْرى وادعاه مالكه كفاه في الجواب على الدعوى لا يلزمُني تسليمُهُ إليك ولا يلزم بالتعرض لسبب الملك لأن الجواب كافٍ فلو اعترف للمدعي بالملك وادعى بعد ذلك الرهن والإجارة وكذبه المدَّعي فالصحيح أنه لا يقبل ذلك منه إلا ببينة لأن الأصل عدم الرهن والإجارة فإن عَجِزَ عنها وخاف أولاً أنه إن اعترف للمدعي بالملك جَحْدُهُ الرهن والإجارة مخيلتُهُ أن يقول في الجواب على المدَّعي إن ادعيت عليَّ مِلْكاً مطلقاً أي من غير رهن وإجارة فلا يلزمني تسليمٌ لما ادعيته عليَّ وإن ادعيت عليَّ مِلْكاً مرهوناً فاذكره لأجيب عنه وهذا ليس بإقرار.
وإذا ادعى عليه عيناً عقاراً أو منقولاً فقال في جوابه ليس هي لي أو قال هي لرجل لا أعرفه أو قال هي لابني الطفل أو قال هي وقف على الفقراء أو مسجد كذا فالأصح أنه لا تنصرف عنه الخصومة عنه ولا تنزع العين منه لأن الظاهر أن ما في يده مِلْكَهُ وأن ما صدر منه من قول ليس بإقرار للمدَّعي ولا بمزيل ليده عن العين بل يحلفه المدعي على أنه لا يلزمه التسليم للعين فإن أقرَّ أو نكل حلف المدَّعي وثبتت له العين أو بدلها إن لم تكن بينة بها.(4/196)
وإن أقرَّ به أي العقار أو المنقول المدَّعى به لمعين حاضر بالبلد يمكن مخاصمته وتحليفه سُئِل عن ذلك فإن صدقه انصرفت الخصومة عن المدَّعى عليه وصارت الخصومة معه لصيرورة اليد على المدّعى به له والخصومة إنما تقوم بين متنازعين وإن كذبه الحاضر ترك في يد المقرِّ وقيل يُسَلَّمُ إلى المدعي إذ لا طالب للعين غيره وقيل يحفظه الحاكم لظهور مالك له لأن في يده العين قد أسقط حقه منه بالإقرار والمُقَرُّ له قد أسقط حقه بردِّ الإقرار ولا بينة للمدَّعي فصار كلقطة لا يُعْرَفُ مالكها فكان على الحاكم حفظه فإن أقرَّ به لغائب فالأصح انصراف الخصومة عنه ويوقف الأمر في الإقرار بالمدَّعى به حتى يَقْدُمَ ذلك الغائب فإذا قَدِمَ الغائب وصدقه أخذه وصارت الخصومة معه هذا إذا لم يكن بينة للمدَّعِي فإن كان للمدَّعي بينة قضى الحاكم له بها سلمت له العين وهو قضاء على غائب فيحلف المدَّعي معها أي مع البينة لأن العين صارت له بحكم الإقرار وقيل بل هو قضاء على حاضر إذ الخصومة أصلاً له فلا يحلف مع البينة وما قُبِلَ إقرار عبد به كعقوبة لآدمي فالدعوى بذلك عليه أي على العبد وعليه الجواب لها ليرتب الحكم على قوله وما لا يقبل إقراره منه كأرش لتعييب وضمان متلف فعلى السيد الدعوى به والجواب لأن الأمر متعلق برقبة العبد وهي حق للسيد دون العبد.
? فصل في كيفية الحلف والتغليظ فيه وضابط الحالف ?(4/197)
تُغلَّظُ ندباً يمين مُدَّعٍ ومدَّعى عليه فيما ليس بمالٍ ولا يقصد به مالٌ كدعوى دم ونكاح وطلاق ولعان وعتق ووصاية وذلك بأن يحلف على كونه وصياً على من أنكرها ودعوى وكالة وفي مالٍ يبلغ نصاب زكاة ونصاب الزكاة عشرون مثقالاً ذهباً وهو المعتبر شرعاً ولا تغليظ فيما روى ذلك لأن الموصوف في نزر الشرع والذي تجب فيه المواساة هو عشرون مثقالاً والمعنى في التغليظ أن اليمين موضوعة للزجر عن التعدي فشرع التغليظ مبالغة وتأكيداً للردع فاختص بما هو متأكد في نظر الشرع وسبق بيان التغليظ في اللعان بالزمان وهو بعد عصر الجمعة وفي المكان وهو عند منبر الجامع وحضور جمع الناس.
ويحلف على البتِّ في فعله إثباتاً أو نفاياً لأنه يعلم حال نفسه فيقول في البيع والشراء في الإثبات والله لقج بعتُّ بكذا أو اشتريت بكذا وفي النفي والله ما بعتّ بكذا ولا اشتريت بكذا.
وكذا في فعل غيره يحلف على البت إن كان إثباتاً كبيع وإتلاف وغصب لسهولة الوقوف على ذلك. فقد روى البيهقي والحاكم والعقيلي وأبو نعيم وابن عدي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الشهادة فقال للسائل:نرى الشمس؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: على مثلها فاشهد أو دع). وإن كان نفياً فعلى نفي العلم فيحلف أنه لا يعلمه لأنه يعسر الإحاطة بذلك فيقول: والله، ما علمت أنه فعل كذا.
ولو ادعى على شخص ديناً لمورثه فقال المدَّعى عليه أبرأني مورثك وأنت تعلم ذلك حلف المدَّعي على نفي العلم بالبراءة لأنه حلف على نفي فعل غيره.
ولو قال في دعواه على السيد جنى عبدك عليَّ بما يوجب كذا فأنكر السيد فالأصح حَلِفُهُ أي السيد على البت لأن مال عبده وفعله كفعل نفسه هذا إذا كان العبد مميزاً أما إذا كان غير مميز فهو كالبهيمة ففيه القطع.(4/198)
ولو قال جنت بهيمتُكَ غلى زرعي مثلاً حلف على البتِّ قطعاً والله أعلم لأنه لا ذمة لها وجنايتها بتقصيره في حفظها لا بفعلها ويجوز البتُّ في الحلف بظنٍّ مؤكدٍ يعتمد فيه الحالف خَطَهُ وخط أبيه إذا وثق بخطه..
وتُعْتَبر نيةُ القاضي المُسْتَخْلِفِ للخصم فقد روى مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المُسْتَحْلِفِ)). فلو ورّى الحالف في يمينه بأن قصد بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ أو تأول خلافها أي خلاف اليمين أو استثنى بحيث لا يسمعه القاضي كأن قال بعد أن حلفه القاضي إن شاء الله من غير أن يسمع القاضي ذلك لم يدفع عن نفسه إثم اليمين الفاجرة لأن اليمين إنما شرعت ليهاب الخصم الإقدام عليعا خوفاً من الله تعالى فلو صح تأويله لبطلت هذه الفائدة.
ومن توجهت أي وجبت عليه يمين وذلك بأن يُلْزمَ بها في دعوى صحيحة لو أَمَرًّ بمطلوبها لزمه المطلوب في الدعوى فأنكر حُلِّفَ لما روى البيهقي عن ابن عباس (البينة عن المدَّعي واليمين على المنكر) وفي الصحيحين عن ابن عباس (واليمين على المدَّعى عليه).
ولا يحلَّفُ قاضٍ على تركه الظلم في حكمه ولا شاهدٌ أنه لم يكذب في شهادته لمكانة القضاء والشهادة في الشرع.
ولو قال مدَّعى عليه أنا صبيٌ في وقت يحتمل فيه ذلك لم يحلف لأن حلفه يثبت صباه وصباه يُبْطِلُ حَلِفَهُ وهذا ما يسمى الدور. ووُقِفَ أمره في الخصومة حتى يبلغ فيدعى عليه فَيدعَى عليه ثم شرع في بيان فائدة اليمين فقال واليمين تفيد قطع الخصومة في الحال لا براءةً لذمة المدَّعى عليه لما روى أبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً بعد ما حلف بالخروج من حق صاحبه كأنه صلى الله عليه وسلم علم كذبه) وفي رواية الإمام أحمد (فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه كاذب إن له عنده حق، فأمرن أن يعطيه كفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله).(4/199)
ولو حلَّفَهُ ثم أقام المدَّعي بينة بما ادعاه ولو شاهداً ويميناً حَكَمَ بها فقد أخرج أبو يوسف في اختلاف أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى أن عمر قال: (البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة).
ولو قال المدَّعى عليه والذي طلب المدَّعي تحليفُهُ وقد حلفني مرة على ما ادعاه عليَّ عند قاضٍ فليحلف أن لم يحلفني قبل ذلك مُكِّنَ من تحليف المدَّعي لاحتمال ذلك في الأصح ولا يجاب المدَّعي لو قال قد حلفني أني لم أحلفه فليحلف على ذلك لأن ذلك يؤدي إلى أن يدور الأمر ويتسلسل ولا ينفصل.
وإذا نكل المدَّعى عليه عن الحلف المطلوب منه حلف المدَّعي وقَضَى الحاكم له بمدعاه ولا يقضي القاضي على الناكل بنكوله بل تردُّ اليمين على المدَّعي فإن حلف استحق ما ادعاه. قال تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم) المائدة108. أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة.
وروى عبدالملك بن حبيب في الواضحة عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان أخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له طِلبةٌ عند أحد فعليه البينة والمطلوب أولى باليمين فإن نكل خلف الطالب وأخذه)) وهذا مرسل والطلبة: الخاجة. فدل الحديث على أن الطالب والمطلوب شريكان في اليمين.
والنكول أن يقول المدَّعى عليه بعد عرض القاضي اليمين عليه أنا ناكل أو يقول له القاضي إحلف فيقول لا أحلف فقوله هذا نكول لصراحتها فيه فإن سكت بعد عرض اليمين عليه حكم القاضي بنكوله ويُسنُّ للقاضي عرض اليمين عليه ثلاثاً فإن لم يحلف يقول له القاضي جعلتك ناكلاً فإن حكم عليه بعد ذلك نفِذ حكمه.(4/200)
وقوله أي القاضي للمدًّعي إحلف حُكِمَ بنكوله أي بنكول المدَّعى عليه واليمين المردودة في قولٍ كبينةٍ يقيمها المدَّعي وفي الأظهر كإقرار المدَّعى عليه لأ،ه بنكول المدَّعى عليه عن اليمين توصل المدَّعي إلى ما دعاه فأشبه الإقرار فلو أقام المدَّعى عليه بعدها بيينةً بأداء أو إبراء أو غير ذلك من المسقطات للحق لم تسْمعْ إن قلنا أن النكول إقرار لتكذيب البينة بإقراره.
فإن لم يحلف المدّّعي يمين الردِّ ولم يتعلل بشيء أي لم يُبدِ عذراً ولا طلب مهلة سقط حقه من اليمين المردودة وليس له مطالب خَصْمِهِ ولكن له أن يقيم البينة وإن تعلل بإقامة بينة أي المدَّعي أو مراجعة حساب أُمهِلَ ثلاثة أيام فقط ولا يزاد عليها كما تقدم وقيل أبداً لأن اليمين له فله تأخيره ولكن في ذلك ضرر بالمدَّعى عليه واستمرار الخصومة.
وإن استمهل المدَّعى عليه حين استُحْلِفَ لينظر حسابه لم يُمْهَلْ إلا أن يرضى المدَّعي لأنه مجبور بالإقرار أو اليمين بخلاف المدعي فإن له تأخير طلب حقه وقيل يُمهَلُ ثلاثة من الأيام كمدَّعي ولو استمهل في بداية الجواب لينظر في الحساب أمهل إلى آخر المجلس إن شاء ذلك ومن طولب بزكاة وادعى دَفْعَها إلى ساعٍ آخر أو ادعى غَلَطَ خارص وهو ا لذي يخمن ما على النخل من الرُطب تمراً وألزمناه اليمين ولا ردَّ على الساعي ولا على الإمام فالأصح على هذا الوجه الضعيف أنها تؤخذ منه لأنه لم يقدم ما يدفع عنه.
ولو ادعى وليَّ صبي ديناً له أي للصبي على إنسان فأنكر المدَّعى عليه ونكل عن الحلف لم يحلف الوليُّ لأن الحق لا يثبته إلا بيمين صاحبه فيوقف الأمر إلى بلوغ الصبي.
وقيل يحلف لأنه المستوفي للحقِّ وقيل إذا ادعى الولي مباشرة سببه أي ادعى الولي ثبوت الحقِّ بسبب باشره هو حَلَفَ حيث تعلقت العهدة بمباشرته لتسببه مع عجز الصبي عن إثباته ساغ للولي إثباته بيمينه والأصح الأول وهو تأخر اليمين حتى بلوغ الصبي.
? فصل في تعارض البينتين ?(4/201)
إذا ادعيا عيناً في يد ثالث وأقام كل منهما بينةً سقطنا لتناقض موجبيهما فيصار إلى التحليف فيحلف من بيده العين لكلٍ منهما يميناً وفي قول تستعملان لأنهما حجتان تعارضتا فإن أمكن استعمالهما لم تسقطا كالخبرين إذا تعارضا في الحادثة وأمكن استعمالهما فإن قلنا تستعملان ففي كيفية استعمالها ثلاثة أقوال: ففي قول يقسم العين بينهما فقد أخرج الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شيء فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما). وقول يقرع بينهما فقد أخرج أبوداود مرسلاً عن سعيد بن المسيب (أن قوماً اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتاوست بيناتهم في العدالة والعدد فأسهم النبي بينهم وقضى للذي خرج له السهم). وفي قول توقف العين حتى يَبينَ الأمر أو يصضلحا وهو الأصح لأن إحدى البينتين صادقة في الباطن والأخرى كاذبة فيرجى انكشاف الصادقة منهما.
ولو كانت العين في يدهما وأقاما ببينتين بقيت في يديهما كما كانت إذ ليس أحدهما بأولى منها من الآخر ولو كانت بيده وحده فأقام غيره بها بينة وهو أقام بينة قُدِمَ صاحب اليد لأنهما تساويا في البينة فترجمت بينة صاحب اليد ولا تسمع بينتُهُ أي صاحب اليد ويسمى الداخل إلا بعد بينة المدَّعي ويسمى الخارج لأن الحجة إنما تقام على خصم ولأن الأصل في جانبه اليمين فلا يعدل عنها ما دامت كافية.
ولو زيلت يده أي الداخل عن العين التي بيده ببينةٍ أقامها الخارج وحكم بها القاضي ثم أقام أي الداخل بينة بملكه للعين التي كانت بيده مستنداً إلى ما قبل إزالة يده مع استمرار يده إلى وقت الدعوى واعتذر بغيبة شهوده سمعت بينته وقدمت على بينة الخارج إذ أن سبب زوالها هو عدم الحجة وقد وجدت وقيل لا تسمع بينته لأن الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد.(4/202)
ولو قال الخارج هو ملكي اشتريته منك فقال الداخل بل هو ملكي وأقاما بينتين بذلك قُدِّمَ بينةٌ أقامها الخارج لزيادة علم بينته بالانتقال إلى ملكه ومن أقرَ لغيره بشيئ ثم ادعاه لنفسه بعد قيام البينة عليه لم يُشْتَرطْ ذكر الانتقال في الأصح لأنه قد تكون له بينة بملكه فترجمت باليد السابقة.
والمذهب أن زيادة عدد شهود أحدهما لا تُرَجِّحُ بينتُهُ على بينةِ خَصْمِهِ بل يتعارضان لكمال الحجة من الطرفين ولأن ما قدره الشرع لا يتأثر بالزيادة والنقصان.
وكذا لو كان لأحدهما رجلان في الشهادة وللآخر رجل وامرأتان فلا يرجح الرجلان لقيام الحجة بكل منهما فإن كان للآخر شاهدٌ ويمينٌ وللأول شاهدان رُجِّح الشاهدان في الأظهر لأنها حجة بإجماع وفي الشاهد واليمين خلاف وقيل يتعادلان لأن كلاً منهما حجة كافية في المال.
ولو شهدت بينة لأحدهما بملك من سنة إلى الآن وبينة للآخر من أكثر من سنة إلى الآن فالأظهر إن كانت العين في يد غيرهما ترجيح الأكثر لأنها تثبت الملك في وقت لا تعارضها فيه الأخرى وفي وقت التعارض يتساقطان ويثبت موجب البينة فيما قبل التعارض كما أن الأصل في الثابت دوامه وقيل هما سواء لأن الاعتبار بالبينة إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في ذلك ولصاحبها أي صاحب البينة الأكثر الأجرة والزيادة الحادثة من يومئذ أي من يوم ملكه بالشهادة لأنها نماء ملكه.
ولو أُطْلِقتْ بينةٌ ولم تتعرض لتاريخ وأُرِخَتْ أخرى ولا يد لأحدهما فالمذهب أنهما سواءٌ فيتعارضان لأن المطلقة كالعامة بالنسبة إلى الأزمان وأنه لو كان لصاحبِ متأخرةِ التاريخ يدٌ قُدِّمَ أي قُدِّمَ على صاحب متقدمة التاريخ ما لم تكن اليدُ عاديةً كغصب أو بيع صرر من أهل الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي وأنها أي البينة لو شهدت بملكه أمس ولم تتعرض للحال لم تسمع البينة حتى يقولوا أي الشهود في شهادتهم ملم يَزُلْ مِلْكُهُ أو لا نعلم مزيلاً له أي الملك.(4/203)
وتجوز الشهادة بملكه الآن استصحاباً لما سبق من إرث وشراء وغيرهما لأن الأصل بقاء الملك.
ولو شهدت بينة بإقراره أي إقرار المدَّعي عليه أمس بالملك له أي للمدَّعي استُديمَ أي حكم الإقرار وإن لم تصرح البينة بالملك في الحال.
ولو أقامها أي البينة بمِلْكِ دابة أو شجرة لم يستحق ثمرة موجودة ولا يستحق ولداً منفصلاً عند الشهادة لأ،هما ليسا من أصل العين ويستحق الحمل والثمر غير الظاهر الموجود عند الشهادة في الأصح تبعاً للأم والأصل.
ولو اشترى شيئاً من شخص وأقبض ثمنه فأُخِذَ منه بحجة مطلقة أي لم تصرح بالتاريخ رجع على بائعه لأن الأصل أن لا معاملة بين المشتري والمدَّعي فيعود على من باعه العين ولأن الخلل يصيب العقود إذا لم يضمن العهدة البائعُ لأنه هوالمباشر للعقد وقيل لا يرجع على البائع إلا إذا ادعى المدَّعي على المشتري ملْكاً سابقاً على الشراء لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدَّعي.
ولو ادعى ملكاً مطلقاً لدار مثلاً بيد غيره فشهدوا له به مع بيان سببه لم يَضُرَّ ما زدوه ولا يكون مرجحاً لعدم ذكره في الدعوى ولأن السبب ليس مقصوداً في نفسه وإنما المقصود الملك.
وإن ذكر المدعي سبباً للملك وهم أي الشهود ذكروا سبباً آخر للملك ضرَّ ذلك فترد شهادتهم للتناقض بين الدهوى الشهادة وإن لم يذكروا السبب قُبِلَت شهادتهم لأنهم شهدوا بالمقصود ولا تناقض.
? فصل في اختلاف المتداعيين ?
إذا قال واحد آجرتك هذا البيت في هذه الدار بعشرة فقال الآخر بل آجرتني جميع الدار المشتملة عليه بالعشرة وأقاما بينتين بما قالاه تعارضتا فتسقطان لتناقضهما وفي قول تُقَدم بينة المستأجر لما في بينةا المستأجر من زيادة وهي اكتراء جميع الدار.(4/204)
ولو ادعينا أن كلٌّ من اثنين شيئاً في يد ثابت فإن أقرَّ بالشيء لأحدهما سُلِّم إليه ولالاآخر أيضاً تحليفه فإن أقرَّ به غرم له بدله وإن أنكر ما ادعياه ولا بينة حلف لكل منهما يميناً وترك في يده وإن ادعيا شيئاً على ثالث وأقام كل منهما بينة أنه اشتراه منه وأنه يملكه ووزن له ثمنه فإن اختلف تاريخٌ حُكِمَ للأسبق تاريخاً لعدم المعارض حال السبق ويطالبه الآخر بالثمن وإلا بأن اتحد التاريخ في البينتين أو أطلقا منهما أو في إحداهما نعارضتا فيتساقطان ولو قال كل منهما وكان المبيع في يد المدّعى عليه وهو غيرهما بعْتكَهُ بكذا فأنكر وأقاما هما بينتين بما قالا وطالباه بالثمن فإن اتحد تاريجهما أي البينتين تعارضتا وتساقطتا لامتناع أن يكون مُلكاً في وقت واحد لكل واحد منهما فيحلف لكل واحد منهما ولا يلزمه شيء من الثمين وإن اختلف تاريخهما لزمه الثمنان لإمكان اجتماع بأن انتقل المدَّعى به من المشتري إلى البائع الثاني ثم اشتراه منه وكذا إن اطلقتا أو إحداهما أطلقت وأرضت الأخرى فيلزمه الثمنان أيضاً في الأصح لاحتمال أن يكونا في زمانين مختلفين وقيل تتعارضان وتسقطان كما لو كانتا مؤرختين تاريخاً واحداً والأصل براءة الذمة.(4/205)
ولو مات عن ابنين مسلم ونصراني فقال كلٌّ منهما مات على ديني فأَرِثُهُ فإن عُرِفَ أنه كان نصرانياً صدِّق النصراني بيمينه لأن الأصل بقاء كفره فإن أقاما بينتين مطلقتين قدّم بينة المسلم على بينة النصراني وحكم بأنه مات مسلماً لأن مع المسلم زيادة بينة وهي انتقاله إلى الإسلام ولأن التي شهدت بالنصرانية ربما شهدت بذلك لأنه أصل دينه وإن قيَّدت بينةُ المسلم أن آخر كلامه إلاسلاكٌ وعكسته الأخرى وهي بينة النصراني تعارضتا وذلك لاستحالة موته عليهما فتسقطان ويصدق عندئذ النصراني بيمينه لأن الأصل بقاء نصرانيته وإن لم يُعْرَف دينه أي دين الميت وأقام كلٌّ منهما بينة أنه مات على دينه تعارضتا لأ،ه ليس له أصل دين يُبنى عليه حتى تكون إحداهما أثبتت أمراً حادثاً بعد ذلك الأصل فإن كان الشيء الذي يتداعيانه في يد غيرهما كان القوق قوله وإن كان في يد إحدهما فهد أحق به ويحلف للآخر وإن كان في يدهما قُسِمَ بينهما ويحلف كل منهما لصاحبه على النصف الذي حصل له.
ولو مات نصراني عن ابنين مسلم ونصراني فقال النصراني بل أسلمتَ قَبْلَهُ فلا ترث منه شيئاً صدق المسلم بيمينه لأن الأصل بقاؤه على دين أبيه وإن أقاما هما بينتين بما قالا قُدِّم النصراني لأن بينته فيها زيادة علم بالنقل عن الأصل الذي هو التنصر إلى الإسلام قبل موت الأب فلو اتفقا على إسلام الإبن في رمضان وقال مسلم مات الأب في شعبان وقال النصراني مات الأب في شوال ولا بينة لهما صدق النصراني بيمينه لأ، الأصل بقاء الحياة وتقدمُ بينةُ المسلمِ التي أقامها على بينته أي بينة النصرانيالتي أقامها لأن بينة المسلم ناقلة من الحياة إلى الموت وبينة النصراني مستصحبة للحياة إلى شوال.(4/206)
ولو مات عن أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال كلٌّ من الفريقين مات على ديننا صدق الأبوان باليمين لأن الولد محكوم بكفره ابتداءً تبعاً لوالديه فيستصحب ذلك حتى يُعْلمَ خلافه وفي قول يوقف الأمر حتى يتبين أو يصطلحوا على شيء لأن الولد إنما يتبع أباه قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حُكْمُ نفسه فيحتمل أنه مات مسلماً ويحتمل أنه مات كافراً فَوُقِف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف حاله ولو شهدت بينة أنه أعتق في مرضه سالماً وأخرى شهدت أنه أعتق غانماً وكلُّ واحدٍ منهما هو ثلث ماله ولم تُجِزْ الورثة ما زاج على الثلث فإن اختلف تاريخٌ قُدِّم الأسبق تاريخاً لأن التصرف المنجَّزَ يقدَّم فيه الأسبق إذا كان في مرض الموت وإن اتحد التاريخ أقرع بينهما لعدم مزية أحدهما على الآخر فقد روى مسلم عن عمران بن الحصين (أن رجلاً أعتق ستة أعْبُدٍ في مرضه فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم منهم اثنين وأرقَّ أربعة).
وإن أطلقتا أي البينتان أو إحداهما قيل يقرع بينهما لاحتمال المعية واحتمال الترتيب وفي قول يُعْتَقُ مِنْ كلٍّ نصفه لاستوائهما ولأن القرعة ممتنعة هنا لاحتمال أن يخرج الرقُّ على السابق منهما. قلت: المذهب يعتق من كل نصفه والله أعلم جمعاً بين البينتين ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو ثُلُثُهُ أي ثلث ماله ووارثان شهدا وهما حائزان للتركة أنه رَجَعَ عن ذلك ووصى بعتق غانم وهو ثلثه أي ثلث ماله ثبتت الوصية لغانم دون سالم لأ،هما أثبتا للمرجوع عنه بدلاً يساويه في القيمة فلا تهمة تلحقهما لأنهما لا يجران نفعاً بشهادتهما هذه لأنفسهما فإن كان الوارثان الحائزان فاسقين لم يثبت الرجوع عن الوصية فيعتقُ سالم بشهادة الأجنبيين ومن غانم يعتق قدر ما يحتمله ثُلُثُ ماله بعد سالم بإقرار الوارثين الذي تضمنته شهادتهما له مؤاخذة لهم بإقرارهم وكأن سالماً غير موجود في التركة.
? فصل في شروط القائف وبيان إلحاقه النسب بغيره ?(4/207)
والقائف لغة متتبع الأثر والجمع قافةٌ كبائع وباعة وشرعاً مَنْ يُلْحِقُ النسب بغيره عند الاشتباه كحكم بعد دعوى والأصل فيه ما روى الشيخان عن عائشة قالت: (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً فقال: (ألم تري أن مُجززّاً المُدْلجي دخل عليَّ فرأى أسامة بن زيد وزيداً وعليهما قطيفة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضهما من بعض)) قال أبوداود وكان أسامة أسوداً وزيد أبيضاً. قال الشافعي: فلو لم يُعْتَبرْ قولُهُ لمنعه من المجازفة لأ، النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقرُّ على خطأ ولا يسر إلا بحق. شرط القائف الذي يُعمَلُ بقوله مسلمٌ عدلٌ مجربٌ وفسرت التجربة بأن يعرض عليه ولد في نُسوة ليس فيهن أمُّهُ ثلاث مرات ثم في نسوة هي فيهمن فإذا أصاب في الكلِّ فهو مجرب.(4/208)
والأصح اشتراط حُرٍّ ذكر لا اشتراط عدد فيكفي قول الواحد ولا اشتراط كونه مُدْلجياً أي من بني مُدْلج فيجوز كونه من سائر العرب ومن العجم فإذا تداعيا مجهولاً لقيطاً أو غيره صغيراً حياً أو ميتاً لم يتغير ولم يدفن عُرِض عليه أي على القائف مع المتداعيين فمن ألحقه به منهما لحقه وكذا لو اشتركا في وطء لامرأة واستدخال المني كالوطء فولدت ممكناً أي يمكن أن يكون في كلٍ فيهما وتنازعاه أي ادعياه أو أحدهما وسكت الآخر وذلك بأن وطئا امرأة بشبهة كأ، وجدها في فراشه فظنها زوجته أو أمته أو وطيء شريكان أمة مشتركة لهما في طهر واحد وإلا فهو الثاني لتعذر عوده إلى الأول أو وطِيء زوجته وطلق فوطئها آخر بشبهة أو نكاح فاسد كأن نكحها بالعدة جاهلاً بها أو وطيء أمته فباعها فوطئها المشتري ولم يستبريء واحد منهما فإنه يُعرَضُ على القائف وكذا لو وطيء منكوحة أي مزوجة لغيره في الأصح بأن ولدت ولداً فيعرض على القائف ولا يتعين الزوج للالحاق للاشتباه فإذا ولدت لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وطأيهما وادعياه عُرِضَ عليه أي على القائف فيلحق من ألحقه به منهما فإن تخلل بين وطأيهما حيضةٌ فللثاني وإن ادعاه الأول لتبين انقطاع تعلقه به إلا أن يكون الأول زوجاً في نكاح صحيح والثاني واطئاً بنكاح فاسد أو شبهة فلا ينقطع تعلق الأول لأن إمكان الوطء مع فراش النكاح الصحيح قائم مقام نفس الوطء والإمكان حاصل بعد الحيضة بخلاف ملك اليمين والنكاح الفاسد فإنهما لا يثبتان الفراش إلا بعد حقيقة الوطء.
وسواء فيهما أي المتنازعين اتفقا إسلاماً وحرية بكونهما مسلمين حرين أم لا كمسلم وذمي وحر وعبد لأن النسب لا يختلف ويتبع الذمي نسباً ولا يتبعه في الرقِّ لاحتمال أنه ولد من الحرة.
? كتاب العتق ?(4/209)
العتق مأخوذ من الاعتاق وهو مأخوذ لغة من قولهم عتق الفرس إذا سبق عتق الفرخ إذا طار واستقل شرعاً هو إزالة الرق عن الآدمي والأصل فيه قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) الأحزاب37. قال المفسرون: أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق. وقوله تعالى: (فتحرير رقبة) النساء92.
وروى الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق نسمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه))، وروى أحمد عن عقبة بن عامر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداؤخ من النار)) ورواه الترمذي من حديث عمرو بن عبسة وأجمعت الأمة على صحة العتق إنما يصح من مطلق التصرف فلا يصح من صبي ومجنون وسفيه ويصح من ذمي وحربي كسائر التصرفات المالية ولا يصح من غير مالك له بغير إذن ولا من مُبعَضٍ ومكاتبٍ ومُكْرَه بغير حق ويتصور الإكراه بحق بأن يبيعه العبد بشرط العتق ويصح تعليقه أي تعليق العتق بصفة لما في ذلك في التوسعة لتحصل به القربة وإذا علق الاعتاق بصفة لم يملك الرجوع فيه بالقول ويملكه بالتصرف كالبيع ونحوه وإذا باعه ثم اشتراه لم تعد الصفة.
وإضافته أي العتق إلى جزء من الرقيق معين كيدٍ يصح كما يصح إضافته إلى جزء مشاع منه كربعه وثلثه ونصفه فيعتق كُلُّهُ سراية كما في الطلاق فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شِركاً له في عبج فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُدِّم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وَعُتِقَ عليه العبد وإلا فقد عُتِقَ منه ما عُتِقَ)). قوله: قيمة عدل: أي ثمناً معتدلاً لا زيادة فيه ولانقصان.
وصريحه أي العتق ولو من هازل أو لاعب تحرير وإعتاق أي ما اشتق منهما وكذا فك رقبة فب الأصح أي ما اشتق منه لأنه ورد في القرآن الكريم قال تعالى: (فكُّ رقبة) البلد13.(4/210)
ولا يحتاج الصريح إلى نية لأنه لا يُفْهَمُ منه غيره ويحتاج إليها أي النية كنايتُهُ أي أن الكناية تحتاج إلى نية والكناية كثيرة وضابطها أنها كلُّ ما أنبأ عن فرقة أو زوال ملك فلابُدَّ من نية فيها للتمييز قال الشافعي: والكناية كلُّ ما احتمل معنيين فصاعداً وهي أي الكناية لا مِلْكَ لي عليك أو لا أمر لي عليك أو لا حكم لي عليك أو لا يد لي عليك فيها لا سلطان لي عليك ومنها لا سبيل لي عليك ومنها لا خدمة لي عليك وزال ملكي عنك ومنها أنتَ أو أنتِ سائبة إذ لا أثر للحن هنا ومنها قوله أنت مولاي أي سيدي وأنت لله لإشعارها بإزالة الملك مع احتمالها لغيره حيث أن مولاي لفظ مشترك بين العتيق والمُعْتِقِ.
وكذا كل لفظ صريح أو كناية للطلاق فهو كناية في العِتْقِ لإشعارها بإزالة قيد الملك وقوله لعبدٍ أنتِ حُرَّةُ ولأمةٍ أنتَ حُرٌّ صريح ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث تغليباً للإشارة على العبارة.
ولو قال السيد لرقيقه عِتْقُكَ إليك أو خيّرتُكَ أ يالاختيار في العتق إليك ونوى في خيرتك تفويض العتق إليه فاعتق نفسه في المجلس عَتَقَ والمراد بقوله في المجلس أي في الحال كما في الخلع أو قال السيد لعبده اعتقتُكَ على ألف أو أنت حرٌّ على ألفٍ فَقَبِِلَ أي في الحال أو قال له العبد أعتقني على ألف فأجابه السيد عَتَقَ في الحال ولزمه أي لزم العبد الألفُ في الصور الثلاث كالخلع.
ولو قال السيد لعبده بعتُكَ نفسك بألفٍ تؤديها بعد عتقك فقال العبد اشتريت نفسي فالمذهب صحة البيع لأن البيع أثبت من الكتابة والعتق فيه أسرع من الكتابة حيث أن المكاتب لا يعتق حتى يؤدي عليه أما هنا فيعتق فوراً.(4/211)
ويعتق في الحال عنلاً بمقتضى العقد وعليه الألف التي التزمها والولاء لسيده لأ، العقد عقد عتاقة وليس عقد بيع لثبت فيه خيار المجس وهنا لا يثبت خيار المجلس. وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)). قال تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) النور33.
ولو قال لحامل اعتقتك دون حَمْلِكِ عَتَقَا أي يعتق الحمل تبعاً للأم لأنه كالجزء منها فيعتق بالتبعية وإن استثناه ولو اعتقه أي اعتق الحمل فقط عَتَقَ دونها لأنه يتبع أمه ولا تتبعه ولو كانت الأمُّ لرجل والحمل لآخر كأن أوصى به لآخر لم يعتق أحدهما بعتق الآخر لأنه لا يتبع أحدهما الآخر لاختلاف المالكين.
وإذا كان بينهما أي بين الشركين عبدٌ فأعتق أحدهما كله أي كلَّ العبد أو نصيبَهُ من العبد فإن كان معسراً أي المعتق معسراً عن الاعتاق بقي الباقي لشريكه وإلا نصيب شريكه أو سرى إلى ما أيسر به من نصيب شريكه لما روى الشيخان عن ابن عمر (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من اعتق شِرْكاً له في عبد وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة العبد قيمة عَدْلٍ وأَعْطى شركاءَه حِصَصَهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق)). وعليه قيمة ذلك يوم الاعتاقلأنه وقتُ الإتلافعلى شريكه. وتقع السراية بنفس الإعتاق للخبر السابق وأن ما يترتب على السراية في حكم الإتلاف والقيمة تجب بسبب الإتلاف.
وفي قول لا يقع الإعتاق بأداء القيمة لخبر الدارقطني عن ابن عمر (من اعتق شركاً له في عبد أقيم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه وعتق عليه العبد إن كان موسراً وإلا عتق منه ما عتق ورقَّ منه ما بقي).
وفي قول يوقف الأمر رعاية للجانبين فعلى ذلك إن دفعها أي دفع الموسر القيمة بان أنها أي السراية بالإعتاق وإن لم يدفعها بان أنه لم يعتق.(4/212)
واستيلادُ أحدِ الشريكين الموسر الأمة المشتركة بينهما يسري إلى حصة شريكه كالعتق وعليه أي المستولِد قيمة نصيب شريكه لإزالة ملك شريكه وحصته من مهر المثل على المستولد أيضاً لاستمتاعه بملك غيره وإن كانت بكراً وجب عليه أرش البكارة أيضاً زيادة على مهر المثل.
محمد عبدالكريم محمد
عرض الملف الشخصي العام
إِظْهَارُ جَمِيْعِ الرُّدُوْدِ الَّتِيْ رَدَّ بِهَا : محمد عبدالكريم محمد
#25 21-07-07, 03:32 AM
محمد عبدالكريم محمد
عضو نشيط تَارِيْخُ التَّسْجِيْلِ فِي الْمُلْتَقَى: 17-12-06
عَدَدُ مُشَارَكَاتِهِ وَرُدُوْدِهِ: 392
دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي لفضيلة الشيخ رجب نُورِي مُشَوَّح
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء التاسع عشر
وتجري الأقوال السابقة في وقت حصول السراية وحكم العلوق بالجنين لحكم الإعتاق فعلى الأول وهو أن السراية تحصل بنفس العلوق وعلى الثاني هو التَينُ لا يجب قيمة حصته من الولد لأنا جعلنا أُمَّهُ أمَّ ولد في الحال فيكون العلوق في ملكه وهو حرٌّ أما على الثاني القائل بحصول السراية بأداء القمية فتجب ولا يسري تدبير ولا يقوَّمُ عليه نصيبُ شريكه لأن التدبير له يقطع تصرف السيد بالمدبر من بيع ونحوه ويخالف الاستيلاء فإنه يمنع من البيع ولا يمنع السراية دين مُسْتَغْرِقٌ بدون حجر في الأظهر لنفوذ تصرف المدين بما في يده ولو قال أحد الشريكين لشريكه الموسر اعتقت نصيَبَكَ فعليك قيمة نصيبي فأنكر ولا بينة للمدَّعي صُدِقَ المنكر بيمينه إذ الأصل عدم العتق فلا يعتق نصيبُهُ أي المنكر إن حَلَفَ وإلا حلف المدَّعي واستحق قيمة نصيبه ولا يعتق نصيب المنكر إذ الدعوى إنما سمعت لأجل المال فقط. ويعتق نصيب المدَّعي بإقراره إن قلنا يسرى بالإعتاق مؤاخذة له بإقراره ولا يسري إلى نصيب المنكر لأنه لم يُنْشيء عتقاً.(4/213)
ولو قال لشريكه: إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حرٌّ بعدَ نصيبك فاعتق الشريك نصيبه وهو موسر سرى العتق إلى نصيب الأول إن قلنا السراية تحصل بالإعتاق وعليه أي المعتق قيمته أي قيمة المُعَلِقِ ولا يعتق بالتعليق لأنه اجتمع على النصيب تعليق وسراية والسراية أقوى لأ،ها قهرية تابعة لعتق الأول لا دافع لها والتعليق يمكن دفعه ببيع ونحوه ولو قال لشريكه إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حرٌّ قبله أي قبل عتق نصيبك فأعتق الشريك نصيبه فإن كان المعلق معسراً عتق نطيب كل منهما عنه المنجز بالحال والمعلق قبله بموجب التعليق ولا سراية هنا والولاء لهما لاشتراكهما فب العتق.
وكذا إن كان المُعَلِقُ موسراً وأبطلنا الدور وهو الأصح لأن في إبطاله تحقق العتق وإلا نبطلُ الدور فلا يعتق شيء على واحد منهما فلو نفذ اعتاق المُخاطب لنفذ اعتاق المعلق قبله فيسري إلى نصيب شريكه فيبطل عتقه فلزم من عتقه عدم عتقه فالدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه وجوداً وعدماً أي الدور أن يلزم من نفوذ الشيء عدم نفوذه.
ولو كان عبدٌ لرجل نِصْفَهُ ولآخر ثلثه ولآخر سدسه فأعتق الآخران نصيبهما معاً من غير سبق وذلك بأن أعتقا واتفق لفظهما أو وكّلا وكيلاً فأعتق عنهما بكلمة واحدة وهما موسران عتَقَا فالقيمة عليهما نصفان على المذهب لأن العتق إتلاف لرقِّ الباقي فإذا اشتركا فب الإتلاف استويا في الضمان وشرط السراية اعتاقُهُ أي المالك باختياره كشراء حرٍّ أصله أو فرعه وقبول هبته أو الوصية به فلو ورث بعضَ ولده أو بعض أصله لم يَسْرِ عليه عتقه إلا باقيه لأن سبيل السراية سبيل غرامة المُتْلِفِ وعند انتفاء الاختيار لم يوجد منه صُنْعٌ ولا قصدُ اتلاف.(4/214)
والمريض في مرض موته مُعْسِرٌ إلا في ثلث ماله فإذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبه في مرض موته ولم يخرج من الثلث إلا نصيبُهُ فلا سراية عليه لما روى مسلم عن عمران بن حصين (أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرض موته ولم يكن له من المال غيرهم فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرقًّ أربعة).
والميت معسر مطلقاً فلو أرضى بعتق نصيبِهِ من عبد فأُعْتِقَ نصيبُهُ بعد موته لم يسر العتق إلى باقيه وإن خرج كله من الثلث لانتقال المال لورثته بموته.
? فصل في العتق بالبعضية ?
إذا ملك أهلُ تبرع أصله أو فَرْعَهُ عتق فإذا ملك شخص أمَّهُ أو أباه أو جده أو جدته أو ولده أو ولد ولده من البنين والبنات عَتَقَ عليه بالملك. فقد روى مسلم من أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجزي وَلَدٌ والِدَهُ إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) أي يعتق عليه بالشراء. قال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون) الأنبياء26. فنفى اجتماع الولدية والعبدية.(4/215)
ولا يشتري الوليُّ لطفل قريبه الذي يُعْتَقُ عليه لأن تصرف الولي إنما يكون بالغبطة للطفل ولا غبطة هنا ولو وَهَبَ له أي للصبي أو وصّى له به شخصٌ فإن كان الموهوب أو الوصي به كاسباً لا تلزم نفقتُهُ فعلى الولي قبوله إذ لا ضرر على الصبي في ذلك وَيَعْتَقُ على الصبي وَيُنْفِقُ عليه الولي من كسبه لاستغنائه عن القريب وإلا أي وإن لم يكن القريب كاسباً نظر فإن كان الصبي معسراً وجب على وليه القبول إذ لا ضرر على الطفل حينئذ ونفقته في هذه الحالة في بيت المال إن كان مسلماً أو كان الصبي موسراً حَرُمَ على الولي قبوله لما في ذلك من ضرر على الصبي بالإنفاق عليه ولو ملك في مرض موته قريبه الذي يعتق عليه بلا عوض كإرث عَتَقَ عليه من ثلثه وقيل من رأس المال لأنه ملكه من غير مال والملك زال فن غير رضاه أوملكه بعوض بلا محاباة أن كان بثمن مثله لا بأقل من ذلك فمن ثلثه يعتق فلا يعتق منه إلا ما يحتمله الثلث ولا يرث لأن عتقه من الثلث وصية ولا يُجْمَعُ بين الإرث والوصية. فإن كان عليه أي المريض دين مسْتَغرِقٌ فقيل لا يصح الشراء لأنا إذا صححنا الشراء ملكه ولا يعتق عليه فلا يصح ذلك والأصح صحته إذ لا مانع من ذلك ولا يعتق منه شيء بل يباع في الدين لأن الدين يمنع العتق أو بمحاباة كأن اشتراه بألف وهو يساوي ألفين فقدرها كهبة أي يكون قدر المحاباة وهو هنا ألف كالموهوب والباقي بعد قدر المحاباة يعتبر من الثلث. ولو وَهَبَ لعبدٍ بَعْضَ قريب سيده الذي يعتق عليه فقَبِلَ العبد وقلنا يستقلُّ العبد به أي بالقبول عَتَقَ قريب السيد وسرى العتق وعلى سيده قيمة باقية إن الهبة للعبد هبة لسيده وقبول العبد قبول سيده.
? فصل في الاعتاق في مرض الموت وبيان القرعة في العتق ?(4/216)
إذا اعتق في مرض موته عبداً لا يملك غيره عتق ثلثه لأن العتق تبرع معتبر في الثلث فإن كان عليه أي على من اعتق في مرض موته دينٌ مُسْتَغرِقٌ لم يعتق شيءٌ منه لأن العتق وصية والدين مقدمٌ عليها ولو اعتق ثلاثةً لا يملكُ غيرَهُمْ وقيمتهم سواء عتق أحدهم بِقُرعةٍ والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن عمران بن الحصين (أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين ورقَّ أربعة). وكذا لو قال أعتقت ثُلُثَكُمْ أو قال ثلثكم حرٌّ فيقرع بينهم فلو قال أعتقت ثلث كلِّ عبد منكم أقرع أيضاً وقيل هنا يعتق من كلٍّ ثلثه ولا قرعة لتصريحه بالتبعيض والقرعة كما مرَّ في القسمة إما أن تؤخذ ثلاث رقاع متساوية ثم يكتب في ثنيتن رقٌّ وفي واحدة عتقٌ لأن الرقَّ ضعف الحرية وتدرج في بنادق كما سبق في باب القسمة وتُخْرَجُ واحدة باسم أحدهم فإن خرج العتق عَتَقَ ورقّ الآخران أو خرج الرقُّ رقُّ وأخرجت أخرى بإسم آخر فإن خرج العتق عتق ورقَّ الثالث وإن خرج الرقُّ رقَّ وعتق الثالث وثانيهما أنه يجوز أن تكتب أسماؤهم في الرقاع ثم تُخْرَجُ رقعةٌ على الحرية لا الرقِّ لأنه الأقرب إلى الفصل فمن خرج اسمه عَتَقَ ورقّا أي الآخران.
وإن كانوا أي الأعبد ثلاثةً قيمة واحدٍ مائةٌ وآخر مائتان وآخر ثلاثمائة أقرع بسهمي رقٍّ وسهم عتق فإن خرج العتقُ لذي الاثنين عتق ورقّا لأنه ثلث المال أو خرج العتق للثالث عَتَقَ ثلثاه ورقّ باقيه والآخران معه أو خرج العتق للأول عَتَقَ ثم يُقْرَع بين الآخرين بسهم رقٍّ وسهم عتقٍ فمن خرج العتق على اسمه تمم منه الثلث فإن خرج لصاحب المائتين عتق نصفه أو لصاحب الثلاثمائة عتق ثلثه.(4/217)
وإن كانوا أي الأرقاء فوق ثلاثة وأمكن توزيعهم بالعدد والقيمة كستة قيمتهم شواء جُعِلوا اثنين اثنين أو بالقيمة دون العدد كسنة قيمة أحدهم مائة وقيمة اثنين مائة وقيمة ثلاثة مائة جُعِلَ الأول جزءاً والاثنان جزءاً والثلاثة جزءاً وأقرع بينهم.
وإن تعذر بالقيمة كأربعة قيمتهم سواء ففي قول يجزَّؤون ثلاثة أجزاءٍ: واحدٌ جزء وواحدٌ جزء واثنان جزء لأن ذلك الأقرب إلى فعله صلى الله عليه وسلم فإن خرج العتق لواحد عتق كله ثم أقرع بين الثلاثة الباقين بعد تجزئتهم أثلاثاً ليتم الثلث فمَنْ خرج له سهم الحرية عتق ثلثه أو خرج العتق للاثنين المجعولين جزءاً رقَّ الآخران ثم أقرع بينهما أي بين المجعولين جزءاً وخرج لهما العتق فيعتق من خرج له العتق كاملاً ويعتق ثلث الآخر لأنه بذلك يتمُّ الثلث.
وفي قول يكتب اسم كلِّ عبد في رقعة أي تكون الرقاعُ أربعةً فيعتق من خرج العتق له أولاً وثلث الثاني أي من خرج العتق له ثانياً يعتق ثلثه وبذلك يتمُّ الثلث.
قلت أظهرهنا الأول والله أعلم لأنه الأقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم والقولان في استحباب لأن المقصود يحصل بكلٍ من القولين وقيل في إيجاب لأنه الأقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن اعتقنا بعضهم بقرعة فظهر مالٌ آخر للميت وخرج كلهم من الثلث عتقوا وبان أنهم أحرار من حين اعتقهم وعليه لهم كسبهم من يوم أي من وقت الإعتاق وتجري غليهم أحكام الأحرار من وقت الإعتاق.
ولا يرجع الوارث بما أنفق عليهم لأنه حين أنفق عليهم أنفق على أن لا يرجع كمن نكح فاسداً ثم فرق القاضي بينهما وهو يظنه صحيحاً فلا يرجع بشيء.(4/218)
وإن خرج بما ظهر من مال عبد آخر وكان من الثلث أقرع بينه وبين من بقي دون عتق فمن خرجت قرعته عتق أيضاً ومن عتق ولو بقرعة حكم بعتقه من يوم الإعتاق لا من يوم القرعة لأنها فقط مبينة للعتق وتعتبر قيمته حينئذ أي وقت عتقه وله كسبه من يومئذ غير محسوب من الثلث لأنه حدث بعد الحكم بحريته ومن بقي رقيقاً قوِّم يوم الموت لأنه وقت استحقاق الوارث وحُسِبَ من الثلثين هو وكسبه الباقي قبل الموت أي قبل موت المعتق لأنه وقت استحقاق الوارث لا الحادث بعده أي بعد الموت لأنه حدث في ملك الوارث فلو اعتق ثلاثة لا يملك غيرَهُم قيمةُ كلٍّ منهم مائةٌ وكسب أحدهم مائة قبل موت المُعْتق أقرع بينهم فإن خَرَجَ العتق للكاسب عَتَقَ ولو المائة لأن المائة حدثت بعد الحكم بحريته وإن خَرَجَ لغيره أي لغير الكاسب عتق ثلثه وبقي ثلثاه والكاسب والمال للورثة وإن خرجت له أي الكاسب عتق ربعه وتبعه ربع كسبه لأن يجب أن يبقي للورثة ضعف ما عتق ولا يحصل إلا بذلك فجملة ما عتق مائة وخمسة وعشرون وما بقي للورثة مائتان وخمسون.
? فصل في الولاء ?
والأصل في الولاء قوله تعالى: (ادعوهم لآباءهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) الأحزاب5.
وروى الشافعي في المسند عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لُحمة كلُحمة النسب لا يباع ولايوهب)) لأنه لو وُرِثَ لاشتراك فيه الرجال والنساء ولاختص بالمسلمين فقط إن كان المعتق مُسْلماً وروى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)).(4/219)
قال المصنف رحمه الله من عتق عليه رقيق بإعتاق منجز أو معلق أو كتابة أو تدبير واستيلاء وقرابة كأن ورث قريبه الذي يعتق عليه وسراية فولاؤه له لخبر الشيخين عن عائشة (الولاء لمن أعتق). ثم لعصبته المتعصبين بأنفسهم الأقرب فالأقرب لحديث ابن حيان وابن خزيمة والحاكم عن ابن عمر (الولاء لُحمة كلحمة النسب) ويترتب على الولاء الإرث فالولاء للمتعصبين بأنفسهم دون غيرهم.
ولا ترث امرأة بولاء إلا من عتيقها وأولاده وعتقائه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الولاء على بريرة لعائشة رضي الله عنها وروى الترمذي وغيره عن واثلة بن الأسقع (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تجوز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه) قيل والمقصود بلقيطها أنها تحوز ميراثه إذا ادعت نسبه.
فإذا اعَتَقَ عليها أبوها ثم أعتق أبوها عبداً فمات بعد موت الأب بلا وارث فماله للبنت لأنها معتقةُ المُعْتِق والولاء لأعلى العصبات فقد روى عبدالرزاق في مُصَنَفِهِ وأبوداود وغيرهما عن عمر وعثمان وعلي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء للكُبْرِ)) وهو الأكبر في الدرجة والقرب دون السنِّ ولأن الولاء يستحق بالتعصب ويستفاد به دون سائر ورثته فإذا مات العبد المعْتَقُ وخلَّف ابنَ مولاه وابنة مولاه فإن الميراث يكون لابن المولى دون ابنة المولى.(4/220)
ومن مسَّه رقٌّ فعتق فلا ولاد عليه لأحد إلا لمعتقه وعصبته لأنه الذي باشر عتقَهُ ولو نكح عبدٌ مُعْتَقَةٌ فأتت بولدٍ فولاءه لوملى الأمِّ لأنه المنعم عليه فإن عتقه كان بسبب عتق أمِّه فإن أعتقَ الأب انجرَّ إلى مواليه أي موالي الأب لأن الولاء فرع النسب والنسب إلى الآباء دون الأمهات وإنما ثبت لومالي الأم لعدمه من جهة الأب ولو مات الأب رقيقاً الجدُّ انجر الولاء من موالي الأم إلى مواليه أي موالي الأب وقيل لا ينجر لموالي الجدِّ بل يبقى لموالي الأمِّ ختى يموت الأب رقيقاً فينجر عندئذ إلى موالي الجدِّ لأن وجود الأب يمنع انجرار الولاء إلى الجد.
ولو ملك هذا الولد الذي من العبد والعتيقة أباه جرَّ ولاء إخوته لأبيه من موالي الأم إليه لأن أباه عتقَ عليه فثبت له الولاء عليه وعلى أولاده من أمه ومن عتيقة أخرى. وكذا يجرُّ ولاء نفسه إليه في الأصح كإخوته قلت: الأصح المنصوص لا يجره أي ولاء نفسه من موالي الأمِّ إليه بل يستمر الولاء لهم والله أعلم لأنه لو جره إلى نفسه لكان لنفسه ولاءٌ وهذا لا يمكن.
? كتاب التدبير ?
التدبير لغة: النظر في عواقب الأمور وشرعاً: أن يعلق عتق عبده بموته وهو مأخوذ من الدُّبُر لأن الموت دبر الحياة وهو تعليق عتق بصفة لا وصية والأصل في الباب قبل الإجماع خبر الشيخين عن جابر (أن رجلاً دبر غلاماً ليس له غيره فباعه فباعه النبي صلى الله عليه وسلم) فتقريره صلى الله عليه وسلم له وعدم إنكاره يدل على جوازه.
قال المصنف رحمه الله صريحه أي التدبير أنت حرٌّ بعد موتي أو إذا مِتُّ فأنت حرٌّ أو متى متُّ فأنت حرٌ أو أعتقتُكَ بعد موتي وكذا دبرتك أو أنت مُدَّبرٌ على المذهب المنصوص وقيل هو كتابة لخلوه عن لفظ العتق أو الحرية ويصح التدبير بكناية عتق مع نية كخليتُ سبيلك بعد موتي لأ، التدبير نوع من العتق فدخلته كنايته.(4/221)
ويجوز التدبير مقيداً كما يجوز مطلقاً فالمطلق أن يقول أنتَ حرٌّ بعد موتي أو إذا أنا مت فأنت حرٌّ والمقيد: كأن يقول إذا مِتُّ في ذا الشهر أو في ذا المرض أو في هذه السنة فأنت حرٌّ.
ويجوز التدبير أيضاً مُعلقاً على أمر هذه الحياة كإن دخلت الدار فأنت حرٌّ بعد موتي لأ،ه إما وصية أو تعليق عتق بصفة وهو المعتمد كلاهما يقبل التعليق فإن وجدت الصفة ومات السيد عتق وإلا توجد الصفة فلا يعتق ويشترط الدخول قبل موت السيد لأنه علق التدبير على شرط فإن ملت السيد وهو وقت التدبير قبل وجود الشرط بطل الشرط كما يجوز تعليق العتق على شرط بعد الموت فإن قال السيد إن مِتُّ ثم دخلتَ الدار فأنت حرٌّ فإذا مات السيد ثم دخل العبد الدار عَتَقَ أي اشتراط دخول بعد الموت عملاً بمقتضى اللفظ من الترتيب بثم وهو أي الدخول بعد الموت على التراخي فلا يلزم الفورية بالدخول وليس للوارث بيعه قبل الدخول إذ ليس له إبطال تعليق الميت كما لو أوصى لشخصٍ بشيء ثم مات ليس للوارث أن يبطل الوصية وإن كان للموصي إبطالها حال حياته.
وإذا قال إذا مِتُّ ومضى شهر فأنت حرٌّ فللوارث استخدامه في الشهر لا بيعه لأنه ليس للوارث إبطال تعليق المُورِثِ كما أن هنا العتق معلقٌ بصفة وليس تدبيراً ولو قال السيد لعبده إن شئت فأنت مدبَّرٌ أو أنت حرٌّ بعد موتي إن شئت اشترطت المشيئة متصلة اتصالاً لفظياً لأن الخطاب يقتضي جواباً فورياً وإن قال له متى شئت أو مهما شئت فللتراخي ويشنرط المشيئة في الصورتين قبل موت السيد.(4/222)
ولو قالا لعبدهما إذا متنا فأنت حرٌّ لم يعتق حتى يموتا معاً أو مرتباً فإن مات أحدهما فليس لوارثه بيع نصيبه ولو تأجيره واستخدامه فموت أحدهما يجعل نصيب الآخر مدبراً ونصيب الميت لا يكون مدبراً بل باقٍ على تعليقه ولا يصح تدبير مجنون وصبي لا يميز وكذا مميز في الأظهر لأ، عباراتهم لغو لرفع القلم عنهم ويصح التدبير من سفيه وكافر أصلي حربي أو ذمي وتدبير المرتدِّ يُبْنَى على أقوال ملكه فتدبيره موقوف فإن عاد للإسلام بانت صحة تدبيره وإن لم يعد بطل تدبيره.
ولو دَبَّرَ ثم ارتدَّ السيد لم يبطل تدبيره عى المذهب لأ، المودة لا تؤثر فيما سبقها فإن مات عتق العبد.
ولو ارتدَّ المدبَّرُ إلى دراهم أي حمله من دار الإسلام إلى دار الحرب إن كان كافراً لأنه يملكه ولو كان الكافر عبد مُسْلِمٌ ملكه بإرث أو غيره فدبره نُقِضَ تدبيره وبيع عليه لما في بقاء ملكه عليه من الإذلال لأن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى عليه.
ولو دبّرَ كافرٌ فأسلم العبد ولم يرجع السيد في التدبير وذلك بعدم زوال ملكه عنه نزع من يد سيده وَصُرِف كسبه أي العبد إليه أي إلى سيده الكافر وفي قول يباع عليه وينقض التدبير لأن العبد المسلم لا يبقى في يد الكافر ولو أي السيد بيع المدبر وكذلك هبته ووقفه لما روى الشيخان عن جابر (أن رجلاً من الأنصار أعتقعبداً له عن دُبُرٍ فيه لا مال له غيره وعليه دين فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فباعه وقضى الدين منه ودفع الفضل إليه) أي إلى سيده وفي رواية ودفع ثمنه إلى مولاه.
والتدبير تعليق عتق بصفة لأن صيغته صيغة تعليق وفي قول التدبيرُ وصيةٌ للعبد بعتقه نظراً إلى أن إعتاقه من الثلث. فلو باعه أي باع السيد المدبَّر لم يعد التدبير على المذهب بناءً على القول: إن التدبير وصيةٌ.(4/223)
ولو رَجَعَ السيد عنه أي عن تدبير العبد بقوله كأبطلتُهُ، فسختُهُ نقضته رجعت فيه صح الرجوع إن قلنا إن التدبير وصيةٌ وإلا أي وإن لم نقل إن التدبير وصيةٌ بل تعليق عتق بصفة فلا يصح إبطاله كسائر التعليقات ولو عُلِّقَ مُدَبَّرٌ أي عتقه بصفة كأن قال السيد لمدبره إن دخلت الدار فأنت حرٌّ صحَّ التعليق وعتق بالأسبق من الموت والصفة فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بها وإن مات قبل وجود الصفة عتق بالتدبير.
وله أي السيد وطء أمة مُدَبَّرةٍ لبقاء ملكه فيها كالمستولدة لما روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه دبَّر جاريتين وكان يطأهما ولا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير فإن أولدها بطل تدبيره لأنها صارت أمَّ ولد وارسيلاد أقوى من التدبير بدليل أنه يكون من رأس المال ولا يمنع الدين منه والتدبير من الثلث ويمنع الدين منه ولا يصح تدبير أمِّ ولد لأنها تستحق العتق بالموت فلا فائدة من التدبير ويصحُّ تدبير مكاتب وكتابة مدبر فيكون كلُّ منها مكاتباً فيعتق بالأسبق من موت السيد وأداء النجوم .
? فصل: في حكم المدبرة والمعلق عتقها بصفة وجناية المدبر وعتقه ?
إذا ولدت مدبرة من نكاح أو زنا لا يثبت للولد حكم التدبير في الأظهر لأن التدبير عقد يلحقه الفسخ فلا يسري إلى الولد الحادث بعده كالرهن والوصية ولو دبَّر حاملاً ثبت له أي الولد حكم التدبير على المذهب لأن الولد كعضو من أعضائها فإن ماتت الأم في حياة السيد أو رجع السيد في تدبيرها وام تدبيره كما لو دبَّر عبدين فمات أحدهما قبل موت السيد فيحكم للثاني بالتدبير وقيل إن رجع السيد وهو متصل بها فلا يدوم تدبيره بل يتبعها في الرجوع كما يتبعها في التدبير ولو دبَّر حملاً دون أمّه صح تدبيره كما يصح إعتاقه دون أمّه فإن مات السيد عتق الحمل دون الأمِّ لأن الحمل تابع وإن باعها حاملاً صح البيع وكان رجوعاً منه أي عن تدبير الحمل.(4/224)
ولو ولدتِ المعلقُ عتقها بصفة لم يعتق الولد لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يتعدَ إلى الولد كالوصية والرهن وفي فول إنْ عَتَقتْ الأم بالصفة عَتَقَ الولد كالقولين في ولد المدبرة
ولا يتبعُ مدبراً ولدُهُ المملوك لسيده وإنما يتبع الأمَّ رقاًّ وحرية فكذلك يتبعها في سبب الحرية وجنايبه أي المدبر كجناية قنٍّ فإن كانت الجناية عمداً فافتار المجني عليه القصاص فإن كان في النفس بكل التدبير وإن كان في الطرف كان باقياً على تدبيره وإن عفا المجني عليه مال تعلق الأرش برقبة المدبّر فإن فداه السيد بقي على تدبيره.
ويعتق بالموت من الثلث كله أو بعضه بعد الديه لما روى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً أن النبي(ص) قال (المدبَّرُ من الثلث) ولأنه تبرع يلزم بالموت كان من الثلث كالوصية فإن استغرق الدين التركة لم يعتق من شيئ لما روى الشيحان عن جابر ( أن رجلاً من الأنصار أعتق عبداً له عن دبر منه لا مال له غيره وعليه دين فبلغ ذلك النبي(ص) فباعه وقضى الدين منه ودفع الفضل إليه).
ولو علق عتقاً على صفة تختص بالمرض أي مرض الموت بأن لم توجد إلا فيه كإن دخلتَ الدارَ في مرض موتي فأنتَ حُرٌَ عتق من الثلث كما لو نجز عتقه.
وإن احتملتِ الصفة الصحة والمرض فوجدت في المرض فمن رأس المال في الأظهر اعتباراً بوقت التعليق وقيل من الثلث اعتباراً بوقت وجود الصفة.
ولو ادعى عبده التدبير فأنكره السيد فليس الانكار برجوع بل يحلف السيد أنه ما دبره ولو وجد مع مدبر مالٌ فقال كسبته بعد موت السيد وقال الوارث بل قبله صدق والمدبّرُ بيمينه لأن يده عليه وإن أقاما أي المدبر والوارث قدمت بينة أي المدبر لاعتضادها باليد .
? كتاب الكتابة ?(4/225)
الكتابة هي العتق على مال يؤديه المكاتب في نجمين أو أكثر والنجم يطلق على الوقت الذي يحلُّ فيه مال الكتابة وأصل الكتابة مشتق من الكَتب وهو الضمَّ والجمع والأصل في جواز الكتابة قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) النور33.
وأخرج أحمد في المسند والبيهقي في السنن عن سهل بن حنيف (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان غارماً أو غازياً أو مكاتباً في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله)). وأجمعت الأمة على جواز الكتابة.
قال المصنف هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب يفي بمؤنته ونجومه قيل أو غير قوي لأنه إذا عُرفت أمانته أُعِينَ بالصدقة والزكاة ولا تكره الكتابة بحال حتى فُقِدَ الوصفان: الكسب والأمانة ولا تجب إذا طلبها العبد ولكن تستحب ختى لا يتحكم المماليك بالمالكين.
وصيغتها أي الكتابة كابنتك أو أنت مكاتب على كذا كألفٍ منجماً مع قوله إذا أديتَهُ فأنت حرٌّ وهذا يعني أن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة فالمعارضة قول السيد كاتبتك على كذا والصفة قوله لعبده إذا أديت فأنت حرٌّ ويبين عدد النجوم وقسط كلِّ نجم لأنه عقد معارضة فوجب بيان العوض كالبيع ولو ترك التعليق أي تعليق الحرية بالأداء ونواه عند قوله كاتبتك على كذا جاز لاستقلال السيد بالعتق ولا يكفي لفظ كتابة بلا تعليق الحرية بالأداء ولا نية على المذهب وافترقت عن التدبير لأن التدبير مشهود بخلاف الكتابة فلا يعرف معناها إلا الخواص. ويقول المكاتَبُ قَبِلْتُ وبذلك تتم الصيغة وشرطهما أي السيد والعبد تكليف بكونهما بالغين عاقلين وإطلاق أي في التصرف فلا يكون السيد محجوراً عليه بسفه وألا يكون مرهوناً ولا كؤجراً.(4/226)
وكتابة المريض أي مرض الموت من الثلث لأن كسبه ملك السيد فإن كان له أي للسيد مثلاه أي مثلاً قيمته عند الموت أي بأن كانت قيمة العبد ثلث التركة صحت كتابةُ كُلِّهِ لخروجه من الثلث فإن لم يملك غيره وأدى العبد في حياته أي في حياة السيد مائتين وقيمته مائة عتق لأنه يبقى للورثة مثلاه وهما المائتان وإن أدى مائة عتق ثلثاه ويبقى للورثة ثلثه وإن لم يؤذِ شيئاً قبل موت السيد فثلثه مكاتب فإن أدى حصته من النجوم عتق.
ولو كاتب مرتدٌّ بَنَى على أقوال ملكه بطلت الكتابة على الجديد حيث توقف العقود التي تقبل التعليق وتبطل فيما لا يقبل التعليق وعقد الكتابة منها وعلى القديم إن أسلم بان صحتها وإن مات مرتداً بان بطلانها ولا تصح كتابة مرهون لأنه معرض للبيع ولا كتابة مَكْرِي لأن منفعته مستحقة للغير فلا يتفرغ للاكتساب لنفسه لأداء نجومه قال تعالى: (إن علمتم فيهم خيراً) النور33. قال الشافعي المراد بالخير هنا: الاكتساب والأمانة.
وشرط العوض الذي يدفعه العبد لكتابته كونه ديناً إذ لا ملك للعبد يَرُدُّ العقد عليه مؤجلاً لأنه مأثور سلفاً وخلفاً ولأن المكاتَبَ عاجز حالاً ولو منفعة كبناء وحراسة ورعي وغير ذلك وأن يكون منجماً بنجمين فأكثر لأنه المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم ولو جازت على أقل من نجمين لفعلوه فقد أخرج البيهقي من طريق مسلم بن أبي مريم عن رجل قال: كنت مملوكاً لعثمان فغضب عليَّ فقال: لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين، فقصد التضيق عليه بذلك ولو كانت الكتابة تصح على أقل من ذلك لفعله. قال النووي في شرح مسلم يكفي نجم واحد وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل إن ملك السيد بعضه وباقيه حرٌّ لم يشترط أجلٌ وتنجيم لأنه قد يكون ملك ببعضه الحرِّ ما يؤديه حالاً.(4/227)
ولو كاتب على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر أو عند انقضائه صحت ومن شرط الشهر أن يكون متصلاً بالقعد كما في عقود الإجارة أو كاتبه على أن يبيعَهُ كذا أو يشتري منه كذا فسدت الكتابة لأنه شَرَطَ عقداً في عقدٍ.
ولو قال كاتبتك وبعتك عذا الثوب بألف ونجَّمَ الألف بنجمين فأكثر وعلق الحرية بأدائه فالمذهب صحة الكتابة دون البيع وفي قول تبطل الكتابة أيضاً وهما قولا تفريق الصفقة.
ولوكانت عبيداً على عوض منجم صفقة واحدة وعلق عتقهم بأدائه فالنص صحتها أي الكتابة ويوزع المسمّى على قيمتهم يوم الكتابة لأن وقت استقلالهن عن السيد فمن أدى حصته عتق أي إن عِتْقَ بعضِهِمْ ليس معلقاً بأداء غيره فَعِتْقُ كلِّ واحدٍ معلق بأداء ما يخصه. ومن عجز رقَّ لعدم الأداء. وتصح كتابة بعض مَنْ باقيه حرٌّ أو موقوف على جهة عامة فلو كاتب كلَّهُ أي جميع العبد صح في الرقِّ وبطل في الآخر أي ويسقط ما يقابله من المسمى بنسبة القيمة فإذا أدى قسط الرقِّ عتق. في الأظهر تفريقاً للصفقة.
ولو كانت بعض َ رقيق فسدت أي الكتابة إن كان باقيه لغيره ولم يأذن الشريك في كتابته لعدم استقلال الشريك بالكتابة ولأن القيمة تنقص فيتضرر الشريك وكذا إن أذن والشريك له فيها أو كان له على المذهب لأ الكتابة تقتضي إطلاقَهُ في الكسب والسفر لأجل الكسب ولا يستقل بذلك إن كان بعضه رقيقاً كما أنه لا يعطى من سهم المكاتبين من الزكاة لأن بعض ما يكتسبه يكون لسيده ولو كاتباه معاً أو وكلا أي الشريكان مَنْ يكاتبه أو وكَّلَ أحدهما الآخر صح فلو عَجَزَ المكاتب فعجَّزَهُ أحدهما وفسخ الكتابة وأراد الآخر إبقاءه فكاتبا فب حصته فكإبتداء عقدٍ أي مثل ابتداء عقد على البعض فلا يجوز بغير إذن الشريك الآخر على المذهب وقيل يجوز لأنه يُغْتَفَرُ في الدوام ما لا يُغْتَفَرُ في الابتداء.(4/228)
ولو أبرأ واحدٌ من اللَّذَين كاتبا العبد معاً من نصيبه من النجوم أو أعتقه أي أعتق نصيبه من العبد عَتَقَ نصيبُهُ وقوِّم الباقي عليه إن كان موسراً لسريان العتق.
? فصل فيما يلزم السيد بعد الكتابة وما يُسنُّ له وما يحرم عليه ?
يلزم اليد أن يحطَّ عنه أي من المكاتب جزءاً من المال الذي كاتب عبده عليه أو يرفعه إليه بعد أخذ النجوم ليستعين به لقوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) الصف33.
وأخرج النسائي في السنن الكبرى عن عطاء أن علياً قال في هذه الآية: (ضعوا عنهم ربع مال الكتابة).
والحطُّ أولى من الدفع إلى المكاتب لإعانته على العتق ولأنه فعل الصحابة فقد روى مالك فب الموطأ بلاغاً عن ابن عمر (أنه كاتب عبداً له بخمسة وثلاثين ألفاً فأخذ منه ثلاثين ألفاً وترك خمسة آلاف) وفي النجم الأخير ألبق لأنه أقرب إلى العتق لأنه روى عبدالرزاق في المصنف والبيهقي في السنن عن ابن عمر: (أنه كان إذا كاتب عبداً كره أن يضع عنه في أول نجومه إلا في آخره مخافة أن يعجز).
والأصح أنه يكفي ما يقع عليه الاسم من المال لقوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور33، وهذا عموم يقع على القلبيل والكثير. ولا يختلف بحسب المال قلة أو كثرة لأنه لم يثبت فيه توقيف وخبر وأن وقت وجوبه أي الحط أو الدفع قبل العتق لأن القصد منه الإعانة على العتق. ويستحب الرُّبع لخبر عطاء عن علي أنه قال: (ضعوا عنهم ربع مال الكتابة). وإلا فالسبعُ لخبر مالك عن ابن عمر أنه حط السُبُع.(4/229)
وَيَحْرُمُ على السيد وَطْءُ مكاتبته كتابة صحيحة لاختلال ملكه فيها وكلُّ استمتاع يحرم كالوطء. ولا حدَّ على السيد فيه لشبهة الملك فقد أخرج الترمذي في البيوع والنسائي في السنن الكبرى عن عبدالله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم من الكتابة)). ويجب على السيد بوطئها مهرٌ واحد ولو وطئها عدة مرات ولكن لو وطئها بعد دفع المهر وجب مهر ثانٍ والولد الحاصل من وطء السيد حُرٌّ نسيب لأنها علقت به في ملكه ولا تجب قيمته على المذهب لانعقاده حراً وصارت بالولد مستولدة مكاتبة فإن أدت النجوم عتقت بالكتابة وتبعها كسبها وولدها فإن عجزت عن الأداء عتقت بموته أي بموت السيد وولدها من نكاح أو زنا مكاتب أي له حكم المكاتب في الأظهر يتبعها رِقّاً وعتقاً لأن الولد من كسبها فيوقف أمره على رقها وحريتها لأنه يتبعها في سبب الحرية وليس عليه أي الولد شيء للسيد من النجوم لأنه ليس أهلاً للإلتزام والحق فيه للسيد أي حقُ المِلْكِ كما أن حق الملك في الأمِّ له وفي قول الحق فيه لها أي المكاتبة لأنه مكاتب عليها وهو جزء منها فلو قُتِلَ فقيمته لذي الحقِّ منهما أي السيد والأم.(4/230)
والمذهب أن أرش جنايته عليه أي على الولد وكسبه ومهره ينفق منها عليه وما فضل منهما وقف فإن عتق فله أي للولد وإلا أي وإن لم يعتق فللسيد كما أن كسب الأم لها إن عتقت وإلا فللسيد ولا يعتق شيء من المكاتب حتى يؤدي الجميع أي جميع المال لما روى أبوداود وغيره عن عبدالله بن عمرو (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم). ولو أتى المكاتب بمال فقال السيد هذا حرام أي ليس ملكاً لك ولا بينة حلف المكاتب أن حلال أي أن المال ملكه ويقال للسيد تأخذه أي تأخذ المال أو تبرئه عنه أي تبرئه عن قدر هذا المال ويجبر على أحدهما فإن أبى السيد أخْذَهُ قبَضَهُ القاضي وعتق العبد إن أدى جميع ما عليه فإن نكل المكاتب عن الحلف حلف السيد إن كان له بينة سمعت.
ولو خرج المؤدَّى مستَحَقَّاً لجهة ما رجع السيد ببدله أي المُسْتَحق فإن كان المستحقُ في النجم الأخير بان أن العتق لم يقع لبطلان الأداء وإن تبين الأمر بعد موت المكاتب بان أنه مات رقيقاً وأن ما تركه للسيد دون الورثة وإن كان السيد قال عند أخذه أنت حُرٌّ لا يعتق لأ،ه قد بان عدم الأداء وإنما كان قول السيد على ظاهر الحال وقد بانت مخالفته للواقع.
وإن خرج المؤدّى من النجوم معيباً فله أي للسيد ردّه وأخذ بدله لأن العقد إنما يتناول السليم.
ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده لأنه عبد كما مرَّ في الخبر السابق ولا يتسرى أي لا يطأ مملوكته بإذنه على المذهب لضعف ملكه ومخافة أن تهلك الجارة بالحمل والطلق.(4/231)
وله أي المكاتب شراء الجواري للتجارة فإن وطئها ولم يبالِ بالمنع فلا حدَّ عليه لشبهة الملك والولد نسيب ولا حق بالمكاتب لشبهة الملك فإن ولدته في الكتابة أي قبل عتق أبيه أو بعد عتقه لكن لدون ستة أشهر من وطئه تبعه الولد رِقّاً وعتقاً فإن عتق الوالد عتق الولد وإلا رقَّ وصار للسيد وهذا معنى قولهم إن ولده مكاتبٌ عليه ولا تصير أمه مُسْتَولَدةً للمكاتب في الأظهر لأنها علقت بمملوك فأشبهت الأمة المزوجة وقيل تصير مستولدة لأن ولدها ثبت له حق الحرية بكتابته على أبيه فثبت لها حرمة الاستيلاد.
وإن ولدته بعد العتق لفرق ستة أشهر وكان يطؤها فهو أي الولد حُرٌّ نسيب وهي أي أمّهُ أمَّ ولد ولو عجلَ المكاتب النجوم قبل وقتها لم يُجْبَرُ السيدُ عل القبول إن كان له في الامتناع غَرَضٌ صحيح كمؤنة حفظه أي مال النجوم أو خوف عليه من نهب أو إغارة أو سرقة وإلا كان للسيد غرض صحيح في الامتناع فيُجْبَرُ على قبضه لأن للمكاتب نفع في تنجيز العتق وتعجيل وقته. فقد روى البيهقي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه قال: (أن امرأة اشترته وكاتبته على أربعين ألفاً فأدى عامة المال ثم أتاها ببقيته، فقالت: لا والله حتى يأتي به سنة بعد سنة ةشهراً بعد شهر فأتى بالمال إلى عمر رضي الله عنه فأخبره بذلك فقال: ضعه في بيت المال ثم أرسل إليها عمر: أنه أخذ المال وجعله في بيت المال وقال لها: قد عَتَقَ أبو سعيد فإن اخترتِ أخذتِ أخْذَُهُ شهراً بعد شهر أو سنة بعد سنة فافعلي، فأرسلت فأخذت المال).
ولو عجَّلَ بعضها أي بعض النجوم ليبرئه السيد من السيد فأبرأ مع الأخذ لم يصح الدفع ولا الإبراء لوجود الشررط الفاسد وهو الإبراء لأنه يشبه ربا الجاهلية كان أحدهم إذا حلَّ دينه قال لمدينه إقضِ أو زد فإن لم يقضه زاد في الدين والأجل فعلى السيد في هذه الحالة ردّ المأخوذ ولا عتق.(4/232)
ولا يصح بيع النجوم ولا الإعتياض عنها لأنها دين غير مستقر فقد يتطرق السقوط إليها وعلى المرجوح فلو باع السيد النجوم وأدى المكاتبُ النجومَ إلى المشتري لم يعتق في الأظهر لأن المشتري يقبض لنفسه بحكم الشراء الفاسد فلم يصح القبض وعليه فلا عتق ويطالب السيدُ المكاتبَ ويطالب المكاتبُ المشتريَ بما أخذ منه لفساد القبض ولا يصح بيع رقبته أي المكاتب في الجديد للزوم الكتابة من جهة السيد إلا بإذن المكاتب ويكون ذلك تعجيراً لنفسه فتنفسخ الكتابة عندئذ وتفريعاً على المرجوح فلو باع السيد مكاتبه فأدى المكاتب إلى المشتري ففي عتقه القولان السابقان في بيع نجومه أظهرهما المنع وهبته كبيعه فتبطل بغير رضاه وليس له أي السيد بيع ما في يد مكاتبه واعتاق عبده وتزويج أمته ولا التصرف بما في يده لأنه في المعاملة مع مكاتبه كالمعاملة مع الأجنبي.
ولو قال له أي للسيد رجلٌ مثلاً أعتق مكاتبك على كذا ففعل عتق المكاتب وَلَزِمَهُ أي القائل ما التزمَ وهو بمنزلة فداء الأسير.
? فصل في بيان لزوم الكتابة من جانب وجوازها من جانب ?
الكتابة لازمة من جهة السيد ليس له فسخها إلا أن يعجز المكاتب عن الأداء لأ،ه أسقط حقه منه بالعوض فهو كما لو باعه وجائزة للمكاتب فله ترك الأداء وإن كان معه وفاء للنجوم لأن المصلحة في ذلك فإذا عجَّز المكاتب نفسَهُ وترك الأداء بعج قوله أنا عاجز عن كتابتي فللسيد الصبر عليه وله الفسخ للكتابة بنفسه لأنه فسخ مجمع عليه فلا مكان للاجتهاد فيه وإن شاء بالحاكم إن كان عقد الكتابة به وليست على الفور ومتى فُسِخَت الكتابة فاز السيد بما أخذه من المكاتب وللكاتب الفسخ في الأصح وإن كان معه وفاء لنجوم الكتابة لأن الكتابة لحظه فله تركها.(4/233)
ولو استمهلَ المكَاتَبُ عند حلول النجم استُحِبَ إمهالُهُ وللسيد أن يعجّزه لأن الدين الحالَّ لا يتأجلُ بالتأجيل عندنا. فإن أمهله ثم أراد الفسخ فله ذلك لأن الدين الحالَّ لا يتأجل والإمهال أفضل إعانة له على تحصيل نجوم الكتابة وإن كان معه أي المكاتب عُرُوض تجارة أمهله لزوماً ليبيعها لأن المدة قريبة والضرر الذي يلحق السيدَ قليلٌ فإن عَرَضَ كسادٌ فله أي السيد أن لا يزيد في المُهْلَةِ على ثلاثة أيام لأن ما زاد عن الثلاثة كثير.
وإن كان مالُهُ غائباً أمهله إلى إحضاره إن كان دوم مرحلتين لأنه بمنزلة المال الحاضر. وإلا بأن كان مرحلتين فأكثر فلا يُمْهَلُ وللسيد الفسخ ولو حلَّ النجم وهو غائب أي المكاتبُ أو غاب بعد حلول النجم بغير إذن السيد فللسيد الفسخ إن شاء بنفسه وإن شاء بالحاكم لتقصير المكاتب بالغيبة فلو كان له أي المكاتب مالٌ حاضرٌ وهو غائب فليس للقاضي الأداء منه لأنه كانت له رغبة في تعجيز نفسه ولا تنفسخ الكتابة بجنون المكاتب لأنها عقد لازم من أحد الطرفين فلا تنفسخ بالجنون كالرهن وإنما ينفسخ بالجنون العقود الجائزة كالوكالة والشركة ويؤدي القاضي عن المكاتب إن وجد له مالاً لأنه ينوب عنه لعدم أهليته ولا تنفسخ الكتابة بجنون السيد لأنها لازمة من جهته ويدفع المكاتب المال إلى وليه وجوباً ولا يعتق المكاتب بالدفع إليه أي السيد المجنون لأ،ه ليس أهلاً للقبض فقبضه فاسدٌ ولو قتل المكاتبُ سيده فله إرثه قصاص أي جاز للوارث أن يقتص منه فإن عفا الوارث على دية أو كان قَتَلَ خطأً أخذها أي الدية مما معه لأن السيد مع المكاتب في المعاملات كالأجنبي مع الأجنبي وكذا في الجناية.
فإن لم يكن له مال فله أي الوارث تعجيزه في الأصح فإن رقَّ سقط الأرش لأن السيد لا يثبت له على عبده دين أو قطع المكاتب طرفه أي طر السيد فاقتصاصه والدية للطرف كما سبق في قتله سيده.(4/234)
ولو قتل المكاتب أجنبياً أو قطعه فَعُفِيَ على مالٍ أو كان قتله للأجنبي خطأ أخذ المستحقُ مما معه الآن ومما سيكسبه بعد ذلك الأقلُّ من قيمته أي قيمة المكاتب والأرش لأ، المكاتب له أن يعجز نفسه وإن عجز نفسه فلا يتعلق الأرش إلا برقبته وإن لم يكن معه شيء وسأل المستحق تعجيزه عجزه القاضي وبيع منه بقدر الأرش إن زادت قيمته على الأرش وإلا ينباع كله فإن بقي منه شيء بقيت الكتابة فإن أدى حصته من النجوم عتق. وللسيد فداؤه وإبقاؤه مكاتباً وعلى المستحق قبول الفداء وهو أقل الأمرين من أرش الجناية أو القيمة. ولو أعتقه بعد الجناية أي السيد ونفذ العتق أو أبرأه عتق العبد المكاتب ولزمه أي السيد الفداء بالأقل من قيمة رقبته أو أرش الجناية.
ولو قُتِلَ المكاتب بطلت الكتابة ومات رقيقاً ويكون ماله لسيد بحكم الرقِّ وعليه تجهيزه ولسيد قصاص على قالته المكافيء له إن قتله عمداً وإلا فالقيمة لبقائه على ملك سيده وإلا يكون القاتل مكافئاً أو كان القتل غير عمد فالقيمة له لأنها جناية على عبده.
ويستقل المكاتبُ بكل تصرف لا تبرعَ ولا خَطَرَ كالبيع والشراء والإجارة وإلا فلا أي وما فيه تبرع كالصدقة والهبة أو خطر كالبيع نسيئةً والقرض فلا يستقل به لأن حق السيد لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه ولأن القصد بالكتابة تحصيل العتق بأداء النجوم. ويصح ما فيه تبرع وخطر بإذن سيده في الأظهر لأن الحق له ولسيده فقط.(4/235)
ولو اشترى مَنْ يَعْتِقُ على سيده صحَّ والملك فيه للمكاتب لأنه مستقل بالبيع والشراء فإن عَجَز المكاتب وصار الذي اشتراه لسيده عتق عليه لأنه صار ملكاً له أو اشترى المكاتبُ مَنْ يَعْتِقُ عليه لم يصح الشراء بلا إذنٍ من السيد لتضمن الشراء العتق لأن في ذلك إتلاف للمال والشراء له بإذن فيه القولان في تبرعات المكاتب بإذن سيده أظهرهما الصحة. فإن صح الشراء فمكاتب عليه ويتبعه رقاً وحرية ولم يكن له بيعه وينفق عليه بحكم الملك دون النسب.
ولا يصح إعتاقه أي المكاتب وكتابته لعبده بإذن سيده على المذهب لأن العتق لا ينفك عن الولاء والمكاتب ليس من أهل الولاء. فقد روى الشيخان عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولاء لمن اعتق)).
? فصل في الفرق بين الكتابة الصحيحة والباطلة والفاسدة ?(4/236)
الكتابة الفاسدة لشرط فاسد كأن شرط عليه أن كسبه بينهما أو أن عتقه يتأخر سنة عن أداء نجومه والكتابة الباطلة هي ما اختل فيها ركن وأما الفاسدة فهي ما اختل فيها شرط والباطلة ملغاة إلا في تعليق عتق ممن يعتبر قوله والباطل والفاسد عندنا سواء إلا في الحج والخلع والعارية والكتابة. أو عوض فاسد كأن كاتبه على خمر أو خنزير أو أحل فاسد كأجل مجهول أو نجم واحد كالصحيحة في استقلاله ظاي المكاتب بالكسب وأخذ أرش الجناية عليه وفي أخذ مهر شُبْهَةٍ في الأمة لأنهما في معنى الاكتساب وفي أنه يعتق بالأداء ويتبعه كسبٌ وكذا ولده فيكاتب عليه وكالتعليق بصفة في أنه لا يعتق بإبراء ولا بأداء الغير عنه تبرعاً والكتابة الفاسدة تبطل بموت السيد قبل الأداء لعدم حصول المعلق عليه وهو الأداء للسيد نعم إن قال له السيد إن أديت إليَّ أو إلى وارثي بعد موتي فأنت حرٌّ لم يبطل الكتابة بموته كما أن الفاسدة جائزة من الطرفين فتبطل بموت أحد المتعاقدين بخلاف الصحيحة فإنها لازمة من قبل السيد. وتصح الوصية برقبته ولا يصرف إليه من سهم المكاتبين لأ،ها جائزة من الطرفين فالأداء فيها غير موثوق به لإمكان فسخها وتتخالفهما أي تخالف الفاسدةُ الكتابةَ الصحيحةَ والتعليق في أن للسيد فسخها وكذا العبد لجوازها من الطرفين وأنه أي السيد لا يملك ما يأخذه من المكاتب لفساد العقد بل يرجع المكاتب به إن كان متقوَّماً أي له قيمةٌ خلافاً للخمر والخنزير فإنه لا قيمة لهما وهو أي السيد يرجع عليه أي على المكاتب بقيمته يوم العتق لأنه يوم التلف فإن تجانسا أي ما يرجع به العبد وما يستحقه السيد فأقوالُ التقَّاص الآتيه فعلى القول به فالأصح سقوط الدينين المتساويين ويرجع منهما صاحب الفضل أي الذي دينه يزيد على دين الآخر به أي بالفاضل على الآخر قلت: أصح أقوال التقاصّ سقوط أحد الدينين بالآخر من الجانبين بلا رضا منهما أو من أحدهما لأن مطالبة أحدهما الآخر بمثل ماله عليه(4/237)
عبت والثاني برضاهما لأنه إبدال ما في ذمة لأحدهما بما عليه للآخر فأشبه الحوالة والثالث برضا أحدهما لأن للمدين أن يؤدي من أية جهة شاء والرابع لا يسقط وإن رضينا والله أعلم لأنه يشبه بيع الدين بالدين وهو منهي عنه فإن فسخها أي الكتابة الفاسدة السيد فلْيُشْهِدْ بالفسخ إبعاداً للنزاع فلو أدى المكاتب في الفاسدة المالَ قالَ السيدُ كنتُ فسختُ الكتابة فأنكره أي أنكر العبد الفسخ صدق البعد بيمينه لأن الأصل عدم الفسخ وعلى السيد البينة.(4/238)
والأصح بطلان الفاسدة بجنون السيد وإغمائه والحجر عليه بسفه لأنها عقد جائز فبطلت بالجنون والإغماء والحجر كالوكالة والشركة لا بجنون العبد لأن الحظ فيها للعبد دون السيد كما أن العبد محجور عليه بالرقِّ قبل الجنون فلا يتجدد له الحجر بالجنون كما أن العبد لا يملك إبطال الصفة إنما له أن يعجّز نفسه ولو ادعى العبد كتابة فأنكر سيده أو وارثه صُدِّقا باليمين لأن لأصل عدم الكتابة ويحلف الوارث على نفي العلم والسيد على البتِّ ولو اختلفا السيد والمكاتب في قدر النجوم وصفتها تحالفا كما مرَّ في البيع ثم أي بعد التحالف إن لم يكن السيد قبض ما يدعيه لم تنفسخ الكتابة في الأصح كما في البيع بل إن لم يتفقا على شيء مما قالاه فسخ القاضي الكتابة وقيل تنفسخ بمجرد التحالف. وإن كان السيد قبضه أي قبض ما ادعاه وقال المكاتبُ بعضَ المقبوض وهو الزائد على ما اعترف به في العقد وديعة لي عند السيد عَتَقَ المكاتبُ لاتفاقهما على العتق وإنما الخلاف على تقدير المال ورجع هو أي المكاتب بما أدى جميعه ورجع السيد بقيمته أي المكاتب وقد يتقاصان إذا تلف المؤدى وكان هو أو قيمته من جنس قيمة العبد أو صفتها لو قال السيد كاتبتُكَ وأنا مجنون أو محجور عليَّ بسفه طرأ فأنكر العبد وقال بل كنتَ عاقلاً صُدِّقَ السيد بيمينه إن عُرِف منه سَبْقُ ما ادعاه وإلا يعرف منه ذلك فالعبد هو المصدق بيمينه ولو قال السيد وضعتُ عنك النجم الأولَ أو قال البعضَ من النجوم فقال المكاتب بل وضعت النجم الآخرَ أو الكلّ صُدِّق السيدُ بيمينه لأنه أعرف بفعله.(4/239)
ولو مات شخصٌ عن ابنين وعبدٍ فقال العبدُ كاتبني أبُوكُمَا فإن أنكرا صدقا بيمينهما على نفي العلم بالكتابة وإن صدقاه فمكاتبٌ عملاً بقولهما فإن أعتق أحدهما نصيبَهُ فالأصح لا يعتق نصيبُهُ لعدم تمام ملكه بل يوقف فإن أدى المكاتب نصيب الآخر عَتَقَ كُلُّهُ وولاؤه للأب لأنه الذي كاتبه ثم ينقل ولاؤه إليهما سواء وإن عَجَزَ المكاتب عن أداء نصيب الابن الآخر قوِّم الباقي على المعتق إن كان موسراً وقت العجز وولاؤه كله له. وإلا أي وإن كان معسراً فنصيبُهُ حرٌّ والباقي للآخر قلت بل الأظهر الذي قطع به الأصحاب العتق والله أعلم ولا سراية لأن الوارث نائب الميت وهو لا سراية عليه.
وإن صدقه أحدهما فنصيبُهُ مكاتبٌ مؤاخذة له بإقراره ونصيب المُكَذِّبِ قِنٌّ إذا حلف على نفي العلم بكتابة أبيه فإن أعتقه المُصدِّقُ أي أعتقَ نصيبه فالمذهب أن يقوَّم عليه الباقي وإن كان موسراً لأن منكر الكتابة يقول أنه رقيق كله لهما فإذا أعتق صاحبُهُ نصيبه سرى العتق إليه عملاً بزعمه.
? كتاب أمهات الأولاد ?
والأصل في الباب الأخبار الصحيحة ومنها ما رواه ابن ماجة عن حديث ابن عباس قال: (ذُكِرَتْ أمُّ إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعْتَقَهَا وَلَدُهَا).
وروى أحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة على دُبُرٍ منه)).
وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: (قلنا يا رسول الله إنا نأتي السبايا ونحب أثمانهن فما ترى في العزل؟ فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا،ة ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة).(4/240)
قال المصنف رحمه الله إذا أحبا أمته وولدت حياً أو ميتاً أو ما تجب فيه غرة كأم وضعت مضغة فيها صورة آدمي ظاهرة أو خفية ولو لم تظهر إلا لأهل الخبرة عتقت بموت السيد لخبر ابن عباس (أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة على دبر منه). وروى البيهقي عن بن عمر قال: (أمُّ الولد اعتقها ولدها) أو أحبل أمة غيره بنكاح لا تغرير فيه بحريتها فالولد الحاصل بذلك رقيق تبعاً لأمه ولا تصير به أمَّ ولد له إذا ملكها لأ،ها ما علقت بحرٍّ منه أو أحبل أمة غيره فالولد حرٌّ لأنها علقت بحرٍّ منه كما لو علقت حما لو علقت منه في ملكه والشبهة كأن يظنها زوجته أو أمته. ولا تصير هي أمَّ ولد إذا ملكها في الأظهر لأ،ها علقت في الولد بغير ملكه.
وله أي للسيد وطء أمِّ الولد له واستخدمها وإجارتها وأرش جناية عليها وقيمتها إذا قُتلت لبقاء ملكه عليها فقد روى الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمِّ الولد: (لا تباع ولا توهب ولا تورث يستمْتعُ بها مدة حياته فإذا مات عَتَقَتْ)). وكذا للسيد تزويجها بغير إذنها في الأصح لبقاء ملكه عليها فهي كالمدبرة ويحرم بيعها ورهنها وهبتها ولا تورث عن سيدها بل تعتق بموته من رأس ماله وأما خبر أبي داود وغيره عن جابر بن عبدالله (كنا نبيع أمهات سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ لا نرى بذلك بأساً) فاستدل به جماعة على حواز بيع أمهات الأولاد فأجيب عنه بجوابين: الأول أنه منسوخ والثاني أن هذا منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم استدلالاً واجتهاداً فيقدم عليه ما نسب إليه قولاً وهو خبر الدارقطني (أمُّ الولد لا تباع ولا توهب).(4/241)
ولو ولدت الأمة من زوج أو من زنا أو من شبهة بأن ظنها زوجته الأمة فالولد للسيد يعتق بموته أي بموت السيد حتى لو ماتت أمُّهُ قبل موت السيد كهي لأن الولد يتبع أمَّهُ رقاً وحرية أي يبقى حكم الاستيلاء فيه فإذا مات السيد عتق.
وأولادها قبل الاستيلاد من زِناً أو زوج لا يعتقون بموت السيد وله بيعهم لأنهم وجدوا قبل ثبوت الحرية للأمِّ.
وعتق المستولدة وأولادها الحادثون بعد الاستيلاد من رأس المال مقدماً على الديون والوصايا لخبر الدارقطني السابق (أمهات الأولاد لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها مادام حياً فإذا مات فهي حرة).
ونختم هذا الشرح بما ختم كثير من فقهاء الشافعية شروحهم بقولنا : ( اللهم كما ختمنا بالعتق كتابنا فنرجو أن تعتق من النار رقابنا وأن تجعل إلى الجنة مآبنا وأن تسهل عند سؤال الملكين جوابنا وإلى رضوانك إيابنا، اللهم بفضلك حقِّقْ رجاءنا ولا تخيب دعاءنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين).
فرغنا من هذا الشرح بتوفيق الله مساء يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الأول سنة 1426 الموافق العشرين من شهر نيسان / أبريل / 2005 في مسجد عاصم بن قيس رضي الله عنه في منطقة الريان في مدينة الدوحة في دولة قطر والله المعين على كل خير.
رجب
الفهرس
الفصل.................................................. ....................... الصفحة
نسب الشافعي........................................... ......................... 2
أحكام الطهارة........................................... ......................... 16
أسباب الحدث............................................. ....................... 25
آداب قضاء الحاجة............................................ .................... 30
الوضوء............................................ ............................... 35(4/242)
مسح الخف.............................................. ......................... 43
الغسل............................................. ............................... 45
الحيض............................................. .............................. 49
أحكام المستحاضة......................................... ........................ 52
الصلاة............................................ ............................... 57
من تلزمه الصلاة أداء وقضاء............................................. ........... 63
الأذان والإقامة.......................................... .......................... 65
استقبال الكعبة............................................ ........................ 70
صفة الصلاة............................................ .......................... 73
مبطلات الصلاة وسننها ومكروهاتها........................................ ......... 87
بيان سجود السهو واحكامه........................................... ............. 94
سجود التلاوة والشكر............................................ ................. 99
صلاة النفل............................................. .......................... 103
صلاة الجماعة........................................... .......................... 110
صفات الأئمة............................................ ......................... 115
شروط القدوة وآدابها........................................... ................... 120
شروط القدوة............................................ ......................... 126
شروط القدوة أيضاً............................................. ................... 127(4/243)
قطع القدوة............................................ ........................... 129
صلاة المسافر........................................... ........................... 131
شروط القصر............................................. ........................ 134
الجمع بين الصلاتين.......................................... ...................... 137
صلاة الجمعة............................................ .......................... 140
الأغسال المسنونة يوم الجمعة............................................ ............ 148
فيما تدرك به الجمعة............................................ ................... 151
صلاة الخوف............................................. ......................... 153
اللباس............................................ ................................ 157
صلاة العيدين........................................... .......................... 158
يندب التكبير بغروب الشمس ليلتي العيد........................................ ..... 161
صلاة الكسوفين.......................................... ......................... 162
صلاة الاستسقاء......................................... .......................... 164
حكم تارك الصلاة............................................ ..................... 168
الجنائز........................................... ................................. 170
تكفين الميت وحمله............................................. ................... 176
الصلاة على الميت............................................. .................... 178
الدفن وما يتبعه............................................. ....................... 185(4/244)
الزكاة............................................ ................................ 197
زكاة الحيوان........................................... ........................... 198
بيان كيفية الإخراج........................................... ..................... 202
زكاة النبات............................................ .......................... 205
زكاة النقد............................................. ........................... 209
زكاة المعدن والركاز........................................... .................... 212
زكاة التجارة........................................... ........................... 213
زكاة الفطر............................................. .......................... 217
من تلزمه الزكاة وما تجب فيه............................................... ........ 220
أداء الزكاة............................................ ........................... 223
في التعجيل وما يذكر معه............................................... ........... 225
الصيام............................................ ............................... 227
النية وتوابعها.......................................... ............................ 230
بيان المفطرات.......................................... ........................... 233
شروط الصوم من حيث الفاعل............................................ ......... 238
شروط وجوب الصوم وما يُبيح ترك الصوم........................................ ... 241
فدية الصوم............................................. .......................... 243
بيان كفارة جماع رمضان............................................. .............. 245(4/245)
صوم التطوع............................................ .......................... 248
الاعتكاف.......................................... .............................. 250
الاعتكاف المنذور المتتابع.......................................... ................. 254
الحج.............................................. ............................... 256
المواقيت.......................................... ................................ 263
الإحرام........................................... ................................ 267
المحرم............................................ ................................. 268
دخول مكة............................................... ........................ 271
واجبات الطواف............................................ ...................... 273
واجبات السعي............................................. ....................... 278
الوقوف بعرفة............................................. ........................ 279
المبيت بمزدلفة........................................... .......................... 283
مبيت ليالي أيام التشريق الثلاثة بمنى.............................................. .... 288
بيان أركان الحج والعمرة وكيفية أدائهما وما يتعلق بذلك.............................. 292
محرمات الإحرام........................................... ........................ 296
الإحصار والفوات........................................... ...................... 308
البيع............................................. ................................ 311
الربا............................................. ................................ 322(4/246)
البيوع المنهي عنها.............................................. ................... 329
المنهيات التي لا يقتضي النهي فسادها............................................ .... 333
تفريق الصفقة وتعددها........................................... .................. 338
الخيار............................................ ................................ 339
خيار الشرط............................................. ......................... 341
خيار النقص............................................. ......................... 342
التغرير الفعلي بالتصرية وغيرها............................................ ......... 345
حكم المبيع قبل قبضه وبعده والتصرف فيه.......................................... . 346
التولية والإشراك والمرابحة......................................... .................. 349
الأصول والثمار........................................... ........................ 350
بيان بيع الثمر والزرع وبِدُو صلاحهما........................................... .... 352
اختلاف المتبايعين........................................ .......................... 354
معاملة العبد............................................. .......................... 355
السلم............................................. ............................... 356
بيان أخذ غير المُسْلَمِ فيه عنه ووقته ومكانه....................................... .... 361
القرض............................................. .............................. 361
الرهن............................................. ............................... 363
شروط المرهون به ولزوم الرهن............................................. ........ 364(4/247)
الأمور المترتبة على لزوم الرهن............................................. ......... 366
جناية المرهون........................................... .......................... 368
الاختلاف في الرهن وما يتبعه............................................. .......... 369
تعلق الدين بالتركة........................................... ..................... 369
التفليس........................................... ............................... 370
بيع مال المفلس وقسمته............................................ ................ 371
رجوع بائع المفلس بما باعه قبل الحجر ولم يقبض ثمنه.................................. 373
الحجر............................................. ............................... 375
فيمن يلي الصبي وكيفية التصرف في ماله......................................... .... 378
الصلح والتنازع على الحقوق............................................ ............ 378
التزاحم على الحقوق المشتركة.......................................... ............ 380
الحوالة........................................... ................................ 383
الضمان............................................ .............................. 385
كفالة البدن............................................. .......................... 386
صيغتا الضمان والكفالة ومطالبة الضامن............................................ . 387
الشركة............................................ .............................. 388
الوكالة........................................... ................................ 391
بعض أحكام الوكالة وما يجب على الوكيل....................................... .... 393(4/248)
فيما يجب على الوكيل في الوكالة المقيدة........................................... .. 395
بيان جواز الوكالة وما تنفسخ به................................................ .... 396
الإقرار........................................... ................................ 398
الصيغة............................................ ............................... 399
فيما يتعلق بالمُقَرِّ به................................................ ................. 400
بيان أنواع من الإقرار وأنواع من الاستثناء......................................... .. 401
الإقرار بالنسب............................................ ....................... 403
العارية........................................... ................................ 404
بيان جواز العارية وحكم الاختلاف.......................................... ....... 405
الغصب............................................. ............................. 407
بيان حكم الغصب وانقسام المغصوب إلى مثلي ومتقوِّم................................. 408
اختلاف المالك والغاصب........................................... ................ 410
فيما يطرأ على المغصوب من زيادة وغيره........................................ ..... 412
الشُفْعَة......................................... .................................. 413
فيما يؤخذ به الشقص وفي الاختلاف في قدر الثمن.................................... 415
القراض............................................ .............................. 417
بيان الصيغة وما يشترط في العاقدين.......................................... ....... 418
بيان أن القراض جائز من الطرفين........................................... ........ 420(4/249)
المساقاة.......................................... ................................. 421
بيان الأركان الثلاثة وما يشترط في عقد المساقاة..................................... . 422
الإجارة........................................... ................................ 423
شروط المنفعة وما تقدر به................................................ .......... 425
منافع لا يجوز الاستئجار لها............................................... .......... 426
فيما يجب على المُكري أو المكتري........................................... ........ 427
بيان المدة التي تقدر بها المنفعة........................................... ............. 428
فيما يقتضي فسخ الإجارة والتخيير في فسخها........................................ 429
إحياء الموات............................................ .......................... 430
بيان حكم منفعة الشارع وغيره............................................. ........ 433
بيان حكم الأعيان المشتركة.......................................... .............. 434
الوقف............................................. .............................. 435
أحكام الوقف اللفظية........................................... ................... 438
بيان أحكام الوقف المعنوية.......................................... ................ 438
بيان النظر على الوقف وشروطه ووظيفة الناظر....................................... 439
الهبة............................................. ................................. 440
اللقطة............................................ ................................ 442
حكم لقطة الحيوان وغيره............................................. .............. 443(4/250)
تَمَلّكهَا وغُرْمَها......................................... ........................... 445
القيط............................................. ............................... 445
الحكم بإسلام اللقيط أو كفره بتبعية الدار وغيرها..................................... 446
فيما يتعلق برق اللقيط وحريته واستلحاقه......................................... ... 447
الجعالة........................................... ................................ 448
الفرائض........................................... ............................... 450
بيان الفروض التي في القرآن الكريم وذويها....................................... .... 453
الحجب............................................. ............................. 453
إرث الأولاد وأولادهم انفراداً واجتماعاً......................................... .... 454
كيفية إرث الأصول............................................ ................... 455
إرث الحواشي........................................... .......................... 455
الإرث بالولاء........................................... .......................... 456
حكم الجد مع الإخوة............................................ .................. 457
موانع الإرث............................................. ......................... 458
أصول المسائل وما يعول منها.............................................. .......... 459
تصحيح المسائل........................................... ........................ 460
المناسخات......................................... ............................... 462
الوصايا........................................... ................................ 463(4/251)
الوصية لغير الوارث وحكم التبرعات في المرض........................................ 465
بيان المرض المَخُوْف......................................... ....................... 466
أحكام لفظية للموصى له وبه............................................... ........ 467
أحكام الوصية المعنوية مع بيان ما ينفع الميت........................................ .. 469
الرجوع عن الوصية............................................ .................... 470
الإيصاء........................................... ............................... 471
الوديعة........................................... ................................ 472
قَسْم الفيء والغنيمة.......................................... ...................... 475
الغنيمة وما يتبعها............................................ ...................... 478
قَسْم الصدقات........................................... ......................... 480
بيان ما يقتضي صرف الزكاة وقدر المُعْطَى......................................... ... 482
قسمة الزكاة بين الأصناف ونقلها............................................ ....... 483
صدقة التطوع............................................ ......................... 484
النكاح............................................ ............................... 485
الخِطْبَة......................................... ................................... 490
أركان النكاح............................................ ......................... 491
فيمن يعقد النكاح............................................ ..................... 494
موانع ولاية النكاح............................................ .................... 496(4/252)
الكفاءة........................................... ................................ 498
تزويج المحجور عليه.............................................. .................. 500
ما يحرم من النكاح............................................ ..................... 501
نكاح من فيها رقٌّ.............................................. ................... 504
حلِّ نكاح الكافرة........................................... ...................... 505
نكاح المشرك............................................ ......................... 506
نكاح زوجات الكافر بعد إسلامه وهن زائدات على العدد الشرعي..................... 508
مؤنة المسلمة أو المرتدة........................................... .................. 509
الخيار والإعفاف ونكاح العبد............................................. .......... 509
الإعفاف........................................... .............................. 511
في نكاح الرقيق من عبد أو أمة............................................... ....... 512
الصداق............................................ .............................. 512
الصداق الفاسدة........................................... ........................ 514
التفويض........................................... .............................. 515
بيان مهر المثل............................................. ........................ 515
تشطير المهر وسقوطه............................................ ................... 516
المتعة............................................ ................................. 517
الاختلاف في المهر............................................. .................... 517(4/253)
وليمة العرس............................................. ......................... 518
القَسْم والنشوز........................................... ......................... 519
أحكام النشوز............................................ ......................... 521
الخلع............................................. ................................ 522
الصيغة وما يتعلق بها............................................... ................ 523
الألفاظ الملزمة للعوض............................................. ................ 524
الاختلاف في الخلع أو في عوضه.............................................. ....... 525
الطلاق............................................ ............................... 525
تفويض الطلاق إليها............................................. .................. 527
اشتراط القصد في الطلاق............................................ .............. 528
بيان الولاية على الزوجة............................................ ................ 529
تعدد الطلاق............................................ .......................... 530
الاستثناء......................................... ................................. 531
الشك في يالطلاق........................................... ...................... 532
بيان الطلاق السني والبدعي........................................... .............. 533
تعليق الطلاق بالأزمنة.......................................... .................... 534
أنواع من التعليق بالحمل والولادة والحيض وغيرها..................................... 535
الإشارة إلى العدد وأنواع من التعليق........................................... ...... 537(4/254)
أنواع أخرى من التعليق........................................... ................. 537
الرجعة............................................ ............................... 538
الإيلاء........................................... ................................ 541
ضرب مدة الإيلاء........................................... ...................... 542
الظهار............................................ ............................... 543
فيما يترتب على الظهار من تحريم............................................. ....... 544
الكفارة........................................... ................................ 545
اللعان............................................ ................................ 547
قذف الزوج ونفي الولد............................................. ............... 548
كيفية اللعان وشروطه وثمراته........................................... ............ 548
نفي النسب............................................. .......................... 551
العدد............................................. ............................... 551
العدة............................................. ................................ 553
تداخل العدتين........................................... ......................... 553
عدة الوفاة............................................ ............................ 554
سكنى المعتدة........................................... ........................... 556
الاستبراء......................................... ................................ 557
الرضاع............................................ .............................. 559(4/255)
حكم الرضاع الطاريء على النكاح............................................ ..... 560
الإقرار بالرضاع........................................... ........................ 561
النفقات........................................... ............................... 562
موجب المؤن ومسقطها........................................... .................. 564
حكم الإعسار بمؤن الزوجة............................................ ............. 566
مؤن الأقارب........................................... .......................... 566
الحضانة........................................... ............................... 568
مؤنة المماليك.......................................... ........................... 570
الجراح............................................ ............................... 571
اجتماع مباشرتين.......................................... ........................ 573
شروط القود............................................. ......................... 574
تَغَيّر حال المجني عليه.............................................. .................. 576
شروط قود الأطراف زالجراحات والمعاني.......................................... ... 577
كيفية القصاص ومستوفيه والاختلاف فيه.......................................... .. 578
اختلاف مستحق الدم والجاني ومثله وارثه........................................ .... 580
مستحق القود ومستوفيه.......................................... .................. 580
موجب العمد وفي العفو............................................. ............... 582
الديات............................................ ............................... 583(4/256)
الديات الواجبة فيما دون النفس............................................. ........ 585
موجب إزالة المنافع........................................... ..................... 587
الجناية التي لا تقدير لأرشها............................................ ............. 589
موجبات الدية والعاقلة والكفارة.......................................... ........... 590
الاصطدام ونحوه............................................. ...................... 592
العاقلة وكيفية تحملهم............................................ .................. 593
جناية الرقيق............................................ .......................... 595
الغرة............................................. ................................ 595
الكفارة........................................... ................................ 596
دعوى الدم والقسامة.......................................... .................... 597
فيما يثبت به موجب القود............................................. ............ 599
البغاة............................................ ................................. 600
شروط الإمام الأعظم............................................ .................. 603
الردة............................................. ................................ 604
الزنا............................................. ................................ 608
القذف............................................. .............................. 612
قطع السرقة............................................ ........................... 613
فروع تتعلق السرقة............................................ .................... 616(4/257)
شروط السارق الذي يقطع.............................................. ........... 617
قاطع الطريق............................................ .......................... 619
اجتماع عقوبات على شخص واحد.............................................. ... 621
الأشربة........................................... ............................... 621
التعزير........................................... ................................ 623
الصيال وضمان الولاة............................................ .................. 624
حكم إتلاف الدواب............................................ ................... 627
السِيَر........................................... ................................. 628
مكروهات الغزو ومن يجوز قتله ومن يحرم قتله من الكفار.............................. 632
حكم الأسر وما يؤخذ من أهل الحرب............................................. .. 636
أمان الكفار............................................ ........................... 640
الجزية............................................ ................................ 642
مقدار مال الجزية............................................ ...................... 644
أحكام عقد الجزية............................................ ..................... 645
الهدنة............................................ ................................ 647
الصيد والذبائح.......................................... .......................... 650
بعض شروط الآلة والذبح والصيد............................................ ....... 652
فيما يملك به الصيد............................................. ................... 654(4/258)
الأضحية........................................... .............................. 655
العقيقة........................................... ................................ 658
الأطعمة........................................... ............................... 658
المسابقة والمناضلة......................................... ......................... 661
الأيمان........................................... ................................. 664
بيان كفارة اليمين............................................ ..................... 666
الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها....................................... 667
الحلف على الأكل والشرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات......................... 668
الحلف مسائل منثورة............................................ ................... 670
الحلف على أن لايفعل كذا............................................... .......... 671
النذر............................................. ................................ 672
نذر النسك والصدقة والصلاة وغيرها............................................ .... 673
القضاء............................................ ............................... 675
فيما يقتضي انعزال القاضي أو عزله.............................................. ... 678
آداب القضاء وغيرها............................................ .................. 679
التسوية بين الخصمين........................................... ................... 683
القضاء على الغائب............................................ .................... 684
غيبة المحكوم به عن مجلس الحكم............................................. ........ 686(4/259)
ضابط الغائب المحكوم عليه.............................................. ............ 687
القسمة............................................ ............................... 687
الشهادات.......................................... .............................. 690
بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال وتعدد الشهود وما لا يُعْتبر............................. 694
تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك.............................................. ... 696
الشهادة على الشهادة........................................... ................... 697
الرجوع عن الشهادة........................................... .................... 698
الدعوى والبينات.......................................... ........................ 699
جواب المدَّعى عليه.............................................. .................. 701
كيفية الحلف والتغليظ فيه وضابط الحالف....................................... ..... 702
تعارض البينتين.......................................... .......................... 704
اختلاف المتداعيين........................................ ......................... 705
شروط القائف وبيان إلحاقه النسب بغيره........................................ ..... 706
العتق............................................. ................................ 707
العتق بالبعضية.......................................... .......................... 710
الإعتاق في مرض الموت وبيان القرعة في العتق........................................ 710
الولاء............................................ ................................ 711
التدبير........................................... ................................. 712(4/260)
حكم المدبرة والمعلق عتقها بصفة وجناية المدبر وعتقه.................................. 713
الكتابة........................................... ................................ 714
فيما يلزم السيد بعد الكتابة وما يُسنُّ له وما يحرم عليه................................. 716
بيان لزوم الكتابة من جانب وجوازها من جانب...................................... 717
الفرق بين الكتابة الصحيحة والباطلة والفاسدة..................................... ... 719
أمهات الأولاد........................................... ......................... 720
محمد عبدالكريم محمد
عرض الملف الشخصي العام
إِظْهَارُ جَمِيْعِ الرُّدُوْدِ الَّتِيْ رَدَّ بِهَا : محمد عبدالكريم محمد(4/261)