قبل انقضائه ففيه وجهان أحدهما له أن يرجع لأنه دفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الإستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها
والثاني لا يرجع لأنه دفع ما يستحق دفعه فلم يرجع به كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه
فصل هل لها بيع الكسوة وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه
وقال أبو بكر بن الحداد المصري لا يجوز
وقال أبو الحسن الماوردي البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز لأن للزوج حظا في جمالها وعليه ضررا في نقصان جمالها
والأول أظهر لأنه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر
وإن قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه
ومن أصحابنا من قال إن أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الإستمتاع بمرضها
والمذهب الأول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الأكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه
باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما ولأنه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر فيه أقل فلأن يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر أولى
وإن أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دون المد
وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ لأن ما زاد غير مستحق مع الإعسار
وإن أعسر بالأدم لم يثبت لها الفسخ لأن البدن يقوم بالطعام من غير أدم وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة كما لا يقوم بغير القوت
وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم
وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان أحدهما يثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم المسكن
والثاني لا يثبت لأنها لا تعدم موضعا تسكن فيه
فصل متى يثبت الفسخ وإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ لأنه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم
وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان أحدهما لها الفسخ لأن نفقة اليوم لا تتبعض
والثاني ليس لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها
وإن كان يجد يوما قدر الكفاية ولا يجد يوما ثبت لها الفسخ لأنه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة
وإن كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الأسبوع أو صانعا يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لأنه يقدر أن يستقرض لهذه المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة
وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت فإن كان مرضا يرجى زواله في اليومين والثلاثة لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكنها أن تستقرض ما تنفقه ثم تقضيه
وإن كان مرضا مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم النفقة
وإن كان له مال غائب فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ
وإن كان في مسافة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكرناه في المرض
وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ لأن يسار الغريم كيساره وإعساره كإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها
فصل فيما إذا امتنع الزوج من النفقة وإن كان الزوج موسرا وامتنع من الإنفاق لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكن الإستيفاء بالحاكم وإن غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ لأن الفسخ يثبت بالعيب وبالإعسار ولم يثبت الإعسار
ومن أصحابنا من ذكر فيه وجها آخر أنه يثبت لها الفسخ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار
فصل هل تثبت نفقة المعسرة في ذمته إذا ثبت لها الفسخ بالإعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من الطعام والأدم والكسوة ونفقة الخادم
فإذا أيسر طولب بها لأنها حقوق واجبة عجز عن أدائها فإذا قدر طولب بها كسائر الديون ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لأنه غير مستحق
فصل فيما إذا رضت بالإعسار هل لها التمكين وإن اختارت المقام بعد الإعسار لم يلزمها التمكين من الإستمتاع ولها أن تخرج من منزله لأن التمكين في مقابلة النفقة فلا يجب مع عدمها وإن اختارت المقام معه على الإعسار ثم عن لها أن تفسخ فلها ( أن تفسخ ) لأن النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فتجدد حق الفسخ
وإن تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تفسخ لأن ( حق ) الفسخ يتجدد بالإعسار بتجدد النفقة
____________________
(2/163)
فصل في الفسخ عن طريق الحاكم وإن اختارت الفسخ لم يجز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلم يصح ( بغير الحاكم ) كالفسخ بالتعنين
وفي وقت الفسخ قولان أحدهما أن لها الفسخ في الحال لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن
والثاني أنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبدا لأنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الأيام من منزل الزوج لأنها لا يلزمها التمكين من غير نفقة
فصل إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة دينا في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان لأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والأجرة والمهر ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان كما يصح ضمان سائر الديون
وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان فيه قولان بناء على القولين في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين فيه قولان قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح لأنها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والأجرة وعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ضمان ما لم يجب وقال في القديم تجب بالعقد لأنها في مقابلة الإستمتاع والإستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة وعلى هذا يصح أن يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة
فصل في الاختلاف في القبض إذا آختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمينها لقوله عليه السلام اليمين على المدعي عليه ولأن الأصل عدم القبض
وإن مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسرا فيلزمه نفقة الموسر وادعى الزوج أنه كان معسرا فلا يلزمه إلا نفقة المعسر نظرت فإن عرف له مال فالقول قولها لأن الاصل بقاؤه وإن لم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم المال
وإن اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة
وإن طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة لك علي
وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك علي الرجعة ولي عليك النفقة فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لي عليك لأنه حق له فقبل إقراره فيه والقول قول المرأة في وجوب العدة لأنه حق عليها فكان القول قولها والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة لأن الأصل بقاؤها والله أعلم
باب نفقة المعتدة إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا وجب لها السكنى والنفقة في العدة لأن الزوجية باقية والتمكين من الإستمتاع موجود
فإن طلقها طلاقا بائنا وجب لها السكنى في العدة حائلا كانت أو حاملا لقوله عز وجل { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن }
وأما النفقة فإنها إن كانت حائلا لم تجب وإن كانت حاملا وجبت لقوله عز وجل { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فأوجب النفقة مع الحمل فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل
وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل فيه قولان قال في القديم تجب للحمل لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه
وقال في الأم تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح لأنها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته وذلك يحصل بما دون المد
فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلا ( على من تجب ) عليه نفقة الولد فإن كانت الزوجة أمة والزوج حر أوجبت نفقتها على مولاها لأن الولد مملوك له
وإن قلنا تجب النفقة للحامل وجبت على الزوج وإن كان الزوج عبدا وقلنا إن النفقة للحامل وجبت عليه وإن قلنا تجب للحمل لم تجب لأن العبد لا يلزمه نفقة ولده
فصل في النفقة للحمل أو الحامل إذا وجبت النفقة للحمل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان أحدهما لا يجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحا فانفش فلا يجب الدفع مع الشك
والثاني يجب الدفع يوما بيوم لأن الظاهر وجود الحمل ولأنه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقة فإن دفع
____________________
(2/164)
إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل فإن قلنا تجب يوما بيوم فله أن يرجع عليها لأنه دفعها على أنها واجبة وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع
وإن قلنا إنها لا تجب إلا بالوضع فإن دفع إليها بأمر الحاكم فله أن يرجع لأنه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع وإن دفع من غير أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملا فله أن يرجع لأنه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب وإن لم يشرط لم يرجع لأن الظاهر أنه متبرع
فصل في وجوب السكنى من العدة فإن تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب وجب لها السكنى في العدة وأما النفقة فإنها إن كانت حائلا لم تجب وإن كانت حاملا وجبت لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة
وإن لاعنها بعد الدخول فإن لم ينف الحمل وجبت النفقة وإن نفى الحمل لم تجب النفقة لأن النفقة تجب في أحد القولين للحمل
والثاني تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة
وأما السكنى ففيها وجهان أحدهما تجب لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فوجب لها السكنى كالمطلقة
والثاني لا تجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ألا تثبت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها ولأنها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها
فصل في النفقة في النكاح الفاسد وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا ودخل بها وفرق بينهما لم تجب لها السكنى لأنها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح فلأن لا تجب مع زوال الفراش والإفتراق أولى
وأما النفقة فإنها إن كانت حائلا لم تجب لأنها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلأن لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى
وإن كانت حاملا فعلى القولين إن قلنا إن النفقة للحامل لم تجب لأن حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة وإن قلنا أنها تجب للحمل وجبت لأن الحمل في النكاح الفاسد كالحمل في النكاح الصحيح
فصل وإن كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة لأن النفقة إنما تجب للمتمكن من الإستمتاع وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل والميت لا يستحق عليه حق لأجل الولد
وهل تجب لها السكنى فيه قولان أحدهما لا تجب وهو اختيار المزني لأنه حق يجب يوما بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة
والثاني تجب لما روت فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا ولأنها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة
فصل في وجوب نفقة زوجة المفقود إذا حبست زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لأنها محبوسة عليه في بيته فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها لأنها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة وفي السكنى قولان فإن رجع الزوج فإن قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل
وإن قلنا لا تسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة
فإن قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأنها محبوسة عليه في بيته وإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها صارت كالناشزة
وإن لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه فإن قلنا بقوله القديم لم تعد النفقة وإن قلنا بقوله الجديد فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت فيه وجهان أحدهما تعود لأنها سقطت بنشوزها فعادت بعودها
والثاني لا تعود لأن التسليم الأول قد بطل فلا تعود إلا بتسليم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الأمانة
ومن أصحابنا من قال إن كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالإعتداد واعتدت وفارقت البيت ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لأن التسليم الأول كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالإعتداد واعتدت وفارقت البيت ثم عادت أليه لم تعد نفقتها لأن التسليم الأول قد بطل لحكم الحاكم
وإن كانت تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت إليه عادت النفقة لأن التسليم الأول لم يبطل من غير حكم الحاكم والله أعلم
باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا وقرابة الأولاد وإن سفلوا فتجب على الولد نفقة الأب والأم والدليل عليه قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } ومن الإحسان أن ينفق عليهما وروت أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ويجب عليه نفقة الأجداد والجدات لأن سم الوالدين يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى ? < ملة
____________________
(2/165)
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أطيب ما أبيكم إبراهيم > ? فسمى الله تعالى إبراهيم أبا وهو جد ولأن الجد كالأب والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وغيرها وكذلك في إيجاب النفقة
ويجب على الأب نفقة الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار فقال أنفقه على نفسك قال عندي آخر فقال أنفقه على ولدك قال عندي آخر فقال أنفقه على أهلك قال عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال عندي آخر قال أنت أعلم به
ويجب عليه نفقة ولد الولد وإن سفل لأن سم الولد يقع عليه والدليل عليه قوله عز وجل { يا بني آدم } وتجب على الأم نفقة الولد لقوله تعالى { لا تضار والدة بولدها } ولأنه إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر فلأن تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الأب ولا تجب نفقة من عدا الوالدين
والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين
ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة فلم يلحق بهم في وجوب النفقة
فصل متى تجب نفقة القريب ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه وأما من لا يفضل عن نفقته شيء فلا تجب عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب لحديث جابر رضي الله عنه ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض فقدمت على المواساة ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
فصل في شرط الحاجة من نفقة القريب ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة فإن كان موسرا لم يستحق لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة وإن كان معسرا عاجزا عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة ستحق النفقة على قريبه لأنه محتاج لعدم المال وعدم الكسب
وإن كان قادرا على الكسب بالصحة والقوة فإن كان من الوالدين ففيه قولان أحدهما يستحق لأنه محتاج فستحق النفقة على القريب كالزمن والثاني لا يستحق لأن القوة كاليسار ولهذ سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة قوي
وإن كان من المولودين ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالوالدين
ومنهم من قال لا يستحق قولا واحدا لأن حرمة الوالد آكد فاستحق ( بها ) مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم استحق بها مع القوة
فصل فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أو جد وأبو جد وهما موسران كانت النفقة على الأقرب منهما لأنه أحق بالمواساة من الأبعد وإن كان له أب وبن موسران ففيه وجهان أحدهما أن النفقة على الأب لأن وجوب النفقة عليه منصوص عليه وهو قوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ووجوبها على الولد ثبت بالإجتهاد
والثاني أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الأب لقوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فجعل أجرة الرضاع على الأب
وروت عائشة رضي الله عنها أن هندا أم معاوية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا وهو لا يعلم فهل علي في ذلك من شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ولأن الأب ساوى الأم في الولادة ونفرد بالتعصيب فقدم
وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيبا فقدم على الأم كالأب
وإن كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان أحدهما أن النفقة على البنت لأنها أقرب
والثاني أنها على بن البنت لأنه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية
____________________
(2/166)
وإن كانت له بنت وبن ابن فالنفقة على بن الإبن لأن له ولادة وتعصيبا فقدم كما قدم الجد على الأم
وإن كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت لأن للبنت تعصيبا وليس للأم تعصيب وإن كان له أم أم وأبو أم فهما سواء لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان أحدهما أنهما سواء لتساويهما في الدرجة
والثاني أن النفقة على أم الأب لأنها تدلي بالعصبة
فصل وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الأم أحق لما روي أن رجلا قال يا رسول الله من أبر قال أمك
قال ثم من قال أمك ثم من قال أمك
قال ثم من قال أباك ولأنها تساوي الأب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية
والثاني أن الأب أحق لأنه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب ولأنهما لو كانا موسرين والإبن معسرا قدم الأب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له
والثالث أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة لا بالتعصيب وهما في القرابة سواء
وإن كان له أب وبن ففيه وجهان أحدهما أن الإبن أحق لأن نفقته ثبتت بنص الكتاب والثاني أن الأب أحق لأن حرمته آكد ولهذا لا يقاد بالإبن ويقاد به الإبن
وإن كان له بن وبن بن أو أب وجد ففيه وجهان أحدهما أن الإبن أحق من بن الإبن والأب أحق من الجد لأنهما أقرب ولأنهما لو كانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما فكذلك في نفقته عليهما
والثاني أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة ولهذا لا يسقط أحدهما بالآخر إذا قدر على نفقتهما
فصل ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة وجبت نفقته على قدر الكفاية لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية
وإن حتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته لأن ذلك من تمام الكفاية
وإن مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم يصر دينا عليه لأنها وجبت عليه لتزجية الوقت ودفع الحاجة وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت
فصل وإن كان له أب فقيرا مجنونا أو فقيرا زمنا واحتاج إلى الإعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص
وخرج أبو علي بن خيران قولا آخر أنه لا يجب لأنه قريب يستحق النفقة فلا يستحق الإعفاف كالإبن
والمذهب الأول لأنه معنى يحتاج الأب إليه ويلحقه الضرر بفقده فوجب كالنفقة
وإن كان صحيحا قويا وقلنا إنه تجب نفقته وجب إعفافه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان
أحدهما لا يجب لأنه لا تجب نفقته فلا يجب إعفافه
والثاني وهو قول أبي إسحق أنه يجب إعفافه لأن نفقته إن لم تجب على القريب أنفق عليه من بيت المال والإعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب ومن وجب عليه الإعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية ولا يجوز أن يزوجه بأمة لأنه بالإعفاف يستغني عن نكاح الأمة ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة لأن ( القصد بالإعفاف ) هو الإستمتاع ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبيحة
فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم ستغنى لم يلزمه مفارقة الحرة ولا رد الجارية لأن ما ستحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر
وإن أعفه بحرة فطلقها أو سراه بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها لأن ذلك مواساة لدفع الضرر فلو أوجبنا البدل خرج من حد المواساة وأدى ألى الضرر والضرر لا يزال بالضرر
وإن ماتت عنده ففيه وجهان أحدهما لا يجب البدل لأنه يخرج عن حد المواساة
والثاني يجب لأنه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه
فصل وإن حتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب إرضاعه لأن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولا يجب إلا في حولين كاملين لقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } تجبر فإن كان الولد من زوجته ومتنعت من الإرضاع لم تجبر
وقال أبو ثور لقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } وهذا خطأ لأنها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب لم تجبر على الرضاع
وإن أرادت إرضاعه كره للزوج منعها لأن لبنها
____________________
(2/167)
أوفق له وإن أراد منعها منه كان له ذلك لأن يستحق الإستمتاع بها في كل وقت إلا في وقت العبادة فلا يجوز لها تفويته عليه بالرضاع
وإن رضيا بإرضاعه فهل تلزمه زيادة ( على نفقتها ) فيه وجهان أحدهما تلزمه وهو قول أبي سعيد وأبي إسحق لأنها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره
والثاني لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة لأن نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها كما لا تجب الزيادة في نفقة الأكولة لحاجتها
وإن أرادت إرضاعه بأجرة ففيه وجهان أحدهما لا يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه لأن أوقات الرضاع مستحقة لإستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز أن تأخذ بدلا آخر
والثاني أنه يجوز لأنه عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة كالنسج وإن بانت لم يملك إجبارها على إرضاعه كما لا يملك قبل البينونة فإن طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للأب من يرضع بدون الأجرة كانت الأم أحق به لقوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وإن طلبت أكثر من أجرة المثل جاز نتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ولأن ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالمعدوم في الإنتقال إلى التيمم فكذلك ههنا
وإن طلبت أجرة ( المثل ) وللأب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل ففيه قولان أحدهما أن الأم أحق بأجرة المثل لأن الرضاع لحق الولد ولأن لبن الأم أصلح له وأنفع وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق
والثاني أن الأب أحق لأن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بنفقته لم يستحق على الأب النفقة فكذلك إذا وجد من يتبرع بإرضاعه لم تستحق على الأب أجرة الرضاع وإن ادعت المرأة أن الأب لا يجد غيرها فالقول قول الأب لأنها تدعي ستحقاق أجرة المثل والأصل عدمه
فصل ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ويجب عليه نفقته من قوت البلد لأنه هو المتعارف فإن تولى طعامه ستحب أن يطعمه منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين فإنه تولى علاجه وحره فإن كانت له جارية للتسري ستحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة لأن العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة
فصل ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها لأن في ذلك إضرارا بولدها وإن كان لعبده زوجة أذن له في الإستمتاع بالليل لأنه إذنه بالنكاح يتضمن الإذن في الإستمتاع بالليل وإن مرض العبد أو الأمة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما لأن نفقتهما بالملك ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة ولا يجوز أن يجبر عبده على المخارجة لأنه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة
وإن طلب العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة
فإن اتفقا عليها وله كسب جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه
وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع ( إليه ) من جهة تحل فلم يجز
فصل ومن ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها لما روى بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عذبت مرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار فقيل لها والله أعلم لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/168)
منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه
فصل وإن متنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يجبر على نفقة زوجته وإن لم يكن له مال أكرى عليه إن أمكن إكراؤه فإن لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك ( عنه في ) مرأته إذا أعسر بنفقتهما والله أعلم
باب الحضانة إذا فترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لأنه مستغن عن الحضانة والكفالة والمستحب ألا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما
وإن كانت جارية كره لها أن تنفرد لأنها إذا نفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها
وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز وهو الذي له دون سبع سنين وجبت حضانته لأنه إن ترك حضانته ضاع وهلك
فصل ولا تثبت الحضانة لرقيق لأنه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى ولا تثبت لمعتوه لأنه لا يكمل للحضانة ولا تثبت لفاسق لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولأن الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق لأنه ينشأ على طريقته ولا تثبت لكافر على مسلم
وقال أبو سعيد الإصطخري تثبت للكافر على المسلم لما روى عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أنه قال أسلم أبي وأبت أمي أن تسلم وأنا غلام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا غلام ذهب إلى أيهما شئت إن شئت ألى أبيك وإن شئت إلى أمك فتوجهت إلى أمي فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول اللهم هده فملت إلى أبي فقعدت في حجره والمذهب الأول لأن الحضانة جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد ( المسلم ) في حضانة الكافر لأنه يفتنه عن دينه وذلك من أعظم الضرر والحديث منسوخ لأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر
ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن مرأة قالت يا رسول الله إن بني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي ولأنها إذا تزوجت شتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة لأنها زالت لعلة فعادت بزوال العلة وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني إن كان الطلاق رجعيا لم يعد لأن النكاح باق وهذا خطأ لأنه إنما سقط حقها بالنكاح لاشتغالها بستمتاع الزوج وبالطلاق الرجعي يحرم الإستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن فعادت الحضانة
فصل ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم بن البنت وبن الأخت وبن الأخ من الأم وأبو الأم والخال والعم من الأم لأن الحضانة إنما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أو لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والإناث لأنه إذا لم يثبت لهم لضعف قرابتهم فلأن لا يثبت لمن يدلي بهم أولى
فصل وإن جتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالأم أحق من غيرها لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنت أحق ( به ) ما لم تنكحي ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها لمشاركتهن الأم في الولادة والإرث ويقدم الأقرب فالأقرب ويقدمن على أمهات الأب وإن قربن لتحقق ولادتهن ولأنهن أقوى في الميراث من أمهات الأب لأنهن لا يسقطن بالأب وتسقط أمهات الأب بالأم فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم ففيه قولان قال في القديم تنتقل إلى الأخت والخالة ويقدمان على أم الأب لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت حمزة لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم ولأن الخالة تدلي بالأم وأم الأب تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها
____________________
(2/169)
على من يدلي به ولأن الأخت ركضت مع الولد في الرحم ولم تركض أم الأب معه في الرحم فقدمت عليها فعلى هذا تكون الحضانة للأخت من الأب والأم ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم لأم الأب ثم للأخت من الأب ثم للعمة
وقال في الجديد إذا عدمت أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أم الأب وهو الصحيح لأنها جدة وارثة فقدمت على الأخت والخالة كأم الأم فعلى هذا تكون الحضانة لأم الأب ثم لأمهاتها وإن علون الأقرب فالأقرب ويقدمن على أم الجد كما يقدم الأب على الجد فإن عدمت أمهات الأب نتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وإن علون ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد فإذا عدم أمهات الأبوين انتقلت إلى الأخوات ويقدمن على الخالات والعمات لأنهن ركضن الولد في الرحم وشاركنه في النسب وتقدم الأخت من الأب والأم ثم الأخت للأب ثم الأخت للأم
وقال أبو العباس بن سريج تقدم الأخت للأم على الأخت للأب لأن إحداهما تدلي بالأم والأخرى تدلي بالأب فقدم المدلي بالأم على المدلي بالأب كما قدمت الأم على الأب وهذا خطأ لأن الأخت من الأب أقوى من الأخت من الأم في الميراث والتعصيب مع البنات ولأن الأخت من الأب تقوم مقام الأخت من ( الأب ) والأم في الميراث فقامت مقامها في الحضانة فإن عدمت الأخوات نتقلت إلى الخالات ويقدمن على العمات لأن الخالة تساوي العمة في الدرجة وعدم الإرث وتدلي بالأم والعمة تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها وتقدم الخالة من الأب والأم على الخالة من الأب ثم الخالة من الأب ثم الخالة من الأم ثم تنتقل إلى العمات لأنهن يدلين بالأب وتقدم العمة من الأب والأم ثم العمة من الأب ثم العمة من الأم وعلى قياس قول المزني وأبي العباس تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب
فصل وإن جتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الأب لأن له ولادة وفصل شفقة ثم تنتقل إلى آبائه الأقرب فالأقرب لمشاركتهم الأب في الولادة والتعصيب
فإن عدم الأجداد نتقلت إلى من بعدهم من العصبات
ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والأجداد من العصبات لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب
والمنصوص هو الأول والدليل عليه ما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه ختصم في بنت حمزة علي وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم
فقال علي عليه السلام أنا أحق بها وهي بنت عمي
وقال جعفر بنه عمي وخالتها عندي
وقال زيد بنت أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم ولو لم يكن بن العم من أهل الحضانة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر وعلى علي رضي الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة ولأن له تعصيبا بالقرابة فثبت له الحضانة كالأب والجد فعلى هذا تنتقل إلى الأخ من الأب والأم ثم إلى الأخ من الأب ثم إلى ( ابن الأخ من الأب ) والأم ثم إلى ابن الأخ من الأب ثم إلى العم من الأب والأم ثم إلى العم من الأب ثم إلى بن العم من الأب والأم ثم إلى بن العم من الأب لأن الحضانة تثبت لهم بقوة قرابتهم ( بالإرث ) فقدم من تقدم في الإرث
فصل وإن جتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت فإن جتمع الأب مع الأم كانت الحضانة للأم لأن ولادتها متحققة وولادة الأب مظنونة ولأن لها فضلا بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على الأب فإن جتمع مع أم الأم وإن علت كانت الحضانة لأم الأم لأنها كالأم في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة وإن جتمع مع أم نفسه أو مع الأخت من الأب أو مع العمة قدم عليهن لأنهن يدلين به فقدم عليهن
وإن جتمع ( الأب ) مع الأخت من الأم أو الخالة ففيه وجهان أحدهما أن الأب أحق وهو ظاهر النص لأن الأب له ولادة وإرث فقدم على الأخت والخالة كالأم
والثاني وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يقدم الأخت والخالة على الأب لأنهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالأم فقدمتا على الأب كأمهات الأم وإن جتمع الأب وأم الأب والأخت من الأم أو الخالة بنينا على القولين في الأخت من الأم والخالة إذا اجتمعا مع أم الأب
فإن قلنا بقوله القديم أن الأخت والخالة يقدمان على أم الأب قدمت الأخت والخالة على الأب ( وأم الأب ) وإن قلنا بقوله الجديد إن أم الأب تقدم على الأخت والخالة بنينا على الوجهين في الأب إذا جتمع مع الأخت من الأم أو الخالة
فإن قلنا بظاهر النص أن الأب يقدم عليهما كانت الحضانة للأب لأنه يسقط الأخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة
وإن قلنا بالوجه الآخر إن الحضانة للأخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان أحدهما أن الحضانة للأخت والخالة لأن أم الأب تسقط بالأب والأب يسقط بالأخت والخالة
____________________
(2/170)
والثاني أن الحضانة للأب وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمة الله عليه لأن الأخت والخالة يسقطان بأم الأب ثم تسقط أم الأب بالأب فتصير الحضانة للأب
ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالأخوين مع الأبوين فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعاه بل يصير الجميع للأب
وإن جتمع الجد أب الأب مع الأم أو مع أم الأم وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الأب
وإن جتمع مع أم الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب
وإن جتمع مع الخالة أو مع الأخت من الأم ففيه وجهان كما لو جتمعتا مع الأب وإن جتمع مع الأخت من الأب ففيه وجهان أحدهما أن الجد أحق لأنه كالأب في الولادة والتعصيب فكذلك في التقدم على الأخت
والثاني أن الأخت أحق لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة
فصل وإن عدم الأمهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن النساء أحق بالحضانة من العصبات فتكون الأخوات والخالات ومن أدلى بهن من البنات أحق من الأخوة وبنيهم والأعمام ( وبنيهم ) لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية
والثاني أن العصبات أحق من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلي بهن لاختصاصهم بالنسب والقيام بتأديب الولد
والثالث أنه إن كان العصبات أقرب قدموا وإن كان النساء أقرب قدمن وإن ستويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية وإن ستوى ثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لأنه لا يمكن جتماعهما على الحضانة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة
وإن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء وله أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم ففيه وجهان أحدهما أنهم أحق من السلطان لأن لهم رحما فكانوا أحق من السلطان كالعصبات
والثاني أن السلطان أحق بالحضانة لأنه لا حق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث
وإن كان للطفل أبوان فثبتت الحضانة للأم فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الإصطخري فيه وجهين أحدهما أن الحضانة تنتقل إلى أم الأم كما تنتقل إليها بموت الأم أو جنونها أو فسقها أو كفرها
والثاني أنها تكون للأب لأن الأم لم يبطل حقها من الحضانة لأنها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلي بها
فصل وإن فترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاءت مرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب ببني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فنطلقت به
فإن ختارهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن جتماعهما على كفالته ولا مزية لأحدهما على الآخر فوجب التقديم بالقرعة
وإن لم يختر واحدا منهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لأنه يضيع ولا مزية لأحدهما على الآخر فوجبت القرعة
وإن ختار أحدهما نظرت فإن كان بنا فاختار الأم كان عندها بالليل ويأخذه الأب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لأن القصد حظ الولد وحظ الولد فيما ذكرناه
وإن ختار الأب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لأن المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم فإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه لأن بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به
وإن كانت جارية فاختارت أحدهما كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الآخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط لأن الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما في دار الآخر
وإن مرضت كانت الأم أحق بتمريضها في بيتها وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه
وإن اختار أحدهما فسلم إليه ثم ختار الآخر حول إليه وإن عاد فاختار الأول
____________________
(2/171)
أعيد إليه لأن الإختيار إلى شهوته وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت وعند الآخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب
وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما لأن الجد كالأب في الحضانة في حق الصغير فكان كالأب في التخيير في الكفالة
فإن لم يكن له أب ولا جد فإن قلنا إنه لا حق لغير الأب والجد في الحضانة ترك مع الأم إلى أن يبلغ
وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة فإن كانت العصبة محرما كالعم والأخ وبن الأخ خير بينهم وبين الأم لما روى عامر بن عبد الله قال خاصم عمي أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخيرني علي ثلاث مرات فاخترت أمي فدفعني إليها
فإن كان العصبة بن عم فإن كان الولد بنا خير بينه وبين الأم وإن كانت بنتا كانت عند الأم إلى أن تبلغ ولا تخير بينهما لأن بن العم ليس بمحرم لها ولا يجوز أن تسلم إليه
فصل وإن افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما أن يسافر بالولد فإن كان السفر مخوفا أو البلد الذي يسافر إليه مخوفا فالمقيم أحق به فإن كان مميزا لم يخير بينهما لأن في السفر تغريرا بالولد
وإن كان السفر مسافة لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما لأنهما يستويان في نتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد
وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد لأنه لا حظ للولد في حمله ورده
وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المسافر لأن في الكون مع الأم حضانة وفي الكون مع الأب حفظ النسب والتأديب وفي الحضانة يقوم غير الأم مقامها وفي حفظ النسب لا يقوم غير الأب مقامه فكان الأب أحق وإن كان المسافر هو الأب فقالت الأم يسافر لحاجة فأنا أحق وقال الأب أسافر للنقلة فأنا أحق فالقول قول الأب لأنه أعرف بنيته وبالله التوفيق
كتاب الجنايات باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه
القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا وروى بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن أهل السموات والأرض شتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل إلا يشاء ذلك
فصل ويجب القصاص بجناية العبد وهو أن يقصد الإصابة بما يقتل غالبا فيقتله والدليل عليه قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } وقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } الآية وقوله تعالى { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } وروى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم مرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث الزاني المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس ولأنه لو لم يجب القصاص أدى ذلك ألى سفك الدماء وهلاك الناس
ولا يجب بجناية الخطإ وهو أن يقصد غيره فيصيبه فيقتله لقوله عليه
____________________
(2/172)
الصلاة السلام رفع عن إمتي الخطأ والنسيان وما ستكرهوا عليه ولأن القصاص عقوبة ( مغلظة ) فلا يستحق مع الخطإ ولا يجب في عمد الخطإ وهو أن يقصد الإصابة بما لا يقتل غالبا فيموت منه لأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل كما لا يجب حد الزنا في وطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا
فصل ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر وفي السكران طريقان من أصحابنا من قال يجب عليه القصاص قولا واحدا
ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في كتاب الطلاق
فصل ويقتل المسلم بالمسلم والذمي بالذمي والحر بالحر والعبد بالعبد والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى لقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر لأنه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلأن يقتل بمن هو ( أفضل منه ) أولى ويقتل الذكر بالأنثى لما روى أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة ولأن المرأة كالرجل في حد القذف فكانت كالرجل في القصاص
فصل ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر ولا على الحر بقتل العبد لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال من السنة ألا يقتل مسلم بكافر ومن السنة ألا يقتل حر بعبد فإن جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجاني أو جرح عبد عبدا ثم أعتق الجاني قتص منه لأنهما متكافئان ( منه ) حال الوجوب والإعتبار بحال الوجوب لأن القصاص كالحد والحد يعتبر بحال الوجوب بدليل أنه إذا زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر ولو زنى وهو عبد ثم أعتق أقيم عليه حد العبد فوجب أن يعتبر القصاص أيضا بحال الوجوب وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم مات لم يجب القصاص لأن التكافؤ معدوم عند وجود الجناية فإن جرح مسلم مسلما ثم رتد المجروح ثم أسلم ثم مات فإن أقام في الردة زمانا يسري الجرح في مثله لم يجب القصاص لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص والسراية في الردة تسقط القصاص فغلب الإسقاط كما لو جرح جرحا عمدا وجرحا خطأ فإن لم يقم في الردة زمانا يسري فيه الجرح ففيه قولان أحدهما لا يجب فيه القصاص لأنه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب القصاص فسقط
والثاني يجب القصاص وهو الصحيح لأن الجناية والموت وجد في حال الإسلام وزمان الردة لم يسر فيه الجرح فكان وجوده كعدمه وإن قطع يده ثم رتد ثم مات ففيه قولان أحدهما يسقط القصاص في الطرف لأنه تابع للنفس فإذا لم يجب القصاص في النفس لم يجب في الطرف
والثاني وهو الصحيح أنه يجب لأن القصاص في الطرف يجب مستقرا فلا يسقط بسقوطه في النفس والدليل عليه أنه لو قطع طرف إنسان ثم قتله من لا قصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وإن سقط في النفس
فصل وإن قتل مرتد ذميا ففيه قولان أحدهما أنه يجب القصاص وهو ختيار المزني لأنهما كافران فجرى القصاص بينهما كالذميين
والثاني أنه لا يجب لأن حرمة الإسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب عليه قضاء العبادات ويحرم سترقاقه وإن كانت مرأة لم يجز للذمي نكاحها فلا يجوز قتله بالذمي
وإن جرح مسلم ذميا ثم رتد الجاني ثم مات المجني عليه لم يجب القصاص قولا واحدا لأنه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص وإن وجد التكافؤ بعد ذلك كما لو جرح حر عبدا ثم أعتق العبد
وإن قتل ذمي مرتدا فقد ختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال يجب عليه القصاص إن كان القتل عمدا والدية إن كان خطأ لأن الذمي لا يقتل المرتد تدينا وإنما يقتله عنادا فأشبه إذا قتل مسلما
وقال أبو إسحق لا يلزمه قصاص ولا دية وهو الصحيح لأنه مباح الدم فلم يضمن بالقتل كما لو قتله مسلم
وقال أبو سعيد الإصطخري إن قتله عمدا وجب القصاص لأنه قتله عنادا وإن قتله خطأ لم تلزمه الدية لأنه لا حرمة له
فصل وإن حبس السلطان مرتدا فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه ففيه قولان أحدهما ( أنه ) لا قصاص عليه لأنه لم
____________________
(2/173)
يقصد قتل من يكافئه
والثاني يجب عليه القصاص لأن المرتد لا يخلى إلا بعد الإسلام فالظاهر أنه مسلم فوجب القصاص بقتله
وإن قتل المسلم الزاني المحصن ففيه وجهان أحدهما يجب عليه القصاص لأن قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله كما لو قتل رجل رجلا فقتله ولي الدم
والثاني لا يجب وهو المنصوص لأنه مباح الدم فلا يجب القصاص بقتله كالمرتد
فصل ولا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ولا على الأم بقتل ولدها لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقاد الأب من بنه فإذا ثبت هذا في الأب ثبت في الأم لأنها كالأب في الولادة ولا يجب على الجد وإن علا ولا على الجدة وإن علت بقتل ولد الولد وإن سفل لمشاركتهم الأب والأم في الولادة وأحكامها
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبه بأحدهما لم يجب القصاص لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الأب وإن رجعا في الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق وجب عليهما فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الإقرار وإن رجع أحدهما وجب عليه القصاص لأنه ثبتت الأبوة للآخر ونقطع نسبه من الراجع
وإن شترك رجلان في وطء مرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما لم يجب القصاص وإن أنكر أحدهما النسب لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص لأن بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لحق النسب بالآخر ونقطع عن الراجع
وإن قتل زوجته وله منها بن لم يجب عليه القصاص لأنه إذا لم يجب له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه
وإن كان لها بنان أحدهما منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص لأن القصاص لا يتبعض فإذا سقط نصيب بنه سقط نصيب الآخر كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص فعفا أحدهما عن حقه
وإن شترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم يجز للمكاتب أن يقتص منه لأنه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته على عبده
فصل ويقتل الإبن بالأب لأنه إذا قتل بمن يساويه فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى
وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان أحدهما لا يقتص منه
( لأن المولى لا يقتص منه ) لعبده
والثاني يقتص منه وإليه أومأ الشافعي رحمه الله في بعض كتبه لأن المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة وأبوه ثبت له حق الحرية بالإبن ولهذا لا يملك بيعه فصار كالإبن الحر إذا جنى على أبيه الحر
فصل وإن قتل مسلم ذميا أو قتل حر عبدا أو قتل الأب ابنه في المحاربة ففيه قولان أحدهما لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الأخبار ولأن من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطىء
والثاني أنه يجب لأن القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى حتى لا يجوز فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا
فصل وتقتل الجماعة بالواحد إذا شتركوا في قتله وهو أن يجني كل واحد منهم جناية لو نفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه والدليل عليه ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال لو تمالأ فيه أهل صنعاء لقتلتهم
ولأنا لو لم نوجب القصاص عليهم جعل الإشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء
فإن شترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمدا أو جناية البعض خطأ لم يجب القصاص على واحد منهم لأنه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص
وإن شترك الأب والأجنبي في قتل الإبن وجب القصاص على الأجنبي لأن مشاركة الأب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه كمشاركة غير الأب
وإن شترك صبي وبالغ في القتل فإن قلنا إن عمد الصبي خطأ لم يجب القصاص على البالغ لأن شريكه مخطىء وإن قلنا إن عمده عمد وجب لأن شريكه عامد فهو كشريك الأب
وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات ففيه قولان أحدهما يجب القصاص على الجارح لأنه شاركه في القتل عامدا فوجب عليه القصاص كشريك الأب
والثاني لا يجب لأنه إذا لم يجب على شريك المخطىء وجنايته مضمونة فلأن لا يجب على شريك
____________________
(2/174)
الجارح نفسه والسبع وجنايتهما غير مضمونة أولى
وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص عليهما لأن الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من جراحات فلم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب على الجميع
وإن قطع أحدهما يده وحز الآخر رقبته أو قطع حلقومه ومريئه أو شق بطنه فأخرج حشوته فالأول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثاني قاتل لأن الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو ندمل ( الجرح ) ثم قتله الآخر وإن قطع أحدهما حلقومه ومريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الآخر رقبته فالقاتل هو الأول لأنه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وإنما يتحرك حركة مذبوح ولهذا يسقط حكم كلامه في الإقرار والوصية والإسلام والتوبة
وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها إلا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الآخر كان القاتل هو الثاني لأن حكم الحياة باق ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعد ما سقي اللبن وخرج من الجرح ووقع الإياس منه فعمل بوصيته فجرى مجرى المريض المأيوس منه إذا قتل
وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح إلا أنه يقتل في الغالب أو خاط جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات ففي وجوب القتل على الجاني طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يجب عليه القتل
والثاني لا يجب لأنه شاركه في القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان كالجارح إذا شاركه المجروح أو السبع في الجرح
ومنهم من قال لا يجب عليه القتل قولا واحدا لأن المجروح ههنا لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة فكان فعله عمد خطإ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح هناك والسبع قصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما
وإن كان على رأس مولى عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولي بسم غير موح أو خاط جرحه في لحم حي ومات ففيه قولان أحدهما يجب على الولي القصاص لأنه جرح جرحا مخوفا فوجب عليه القصاص كما لو فعله غير الولي
والثاني لا قصاص عليه لأنه لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة وله نظر في مداواته فلم يجب عليه القصاص
فإن قلنا يجب عليه القصاص وجب على الجارح لأنهما شريكان في القتل
وإن قلنا لا قصاص عليه لم يجب على الجارح لأنه شارك من فعله عمد خطأ
باب ما يجب به القصاص من الجنايات إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد ( غور ) كالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا
وإن غرز فيه إبرة فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الأذن فمات منه وجب عليه القود لأن الإصابة بها في المقتل كالإصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه
وإن كان في غير مقتل كالألية والفخذ نظرت فإن بقي منه ضمنا إلى أن مات وجب عليه القود لأن الظاهر أنه مات منه وإن مات في الحال ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبي إسحق أنه يجب عليه ( القود ) لأن له غورا وسراية في البدن وفي البدن مقاتل خفية
والثاني وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب لأنه لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود كما لو ضربه بمثقل صغير ولأن في المثقل فرقا بين الصغير والكبير فكذلك في المحدد
____________________
(2/175)
فصل وإن ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيرا من حديد أو خشب أو حجر فمات منه وجب عليه القول لما روى أنس رضي الله عنه أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ولأنه يقتل غالبا فلو لم يجب فيه القود لجعل طريقا إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء
وإن قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك وإن كان بمثقل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا فإن كان في مقتل وفي مريض أو في صغير أو في حر شديد أو في برد شديد أو وإلى عليه الضرب فمات وجب عليه القود لأن ذلك يقتل غالبا ( فوجب القود فيه وإن رماه من شاهق أو رمى عليه حائطا فمات وجب القود فيه لأن ذلك يقتل في الغالب
وإن خنقه خنقا شديدا أو عصر خصيتيه عصرا شديدا أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لأن ذلك يقتل في الغالب
وإن خنقه ثم خلاه وبقي منه متألما إلى أن مات وجب القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات
وإن تنفس وصح ثم مات لم يجب القود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود كما لو جرحه واندمل الجرح ثم مات
فصل وإن طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء والنار أو لعجزه عن التخلص بالضعف أو بأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب القود لأنه يقتل غالبا
وإن ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم يجب القود لأن الذي فعله لا يقتل غالبا وإن كان في لجة لا يتخلص منها فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه فولان أحدهما يجب القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك
والثاني لا يجب لأن هلاكه لم يكن بفعله
فصل وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالبا
وإن أمسكه على رجل ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك لما روى أبو شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من أعتى الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليقتل القاتل ويصبر الصابر ولأنه سبب غير ملجىء ضامه مباشرة فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب كما لو حفر بئرا فدفع فيها آخر رجلا فمات
فصل وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع فقتله لم يجب القود لأنه سبب غير ملجىء فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله
وإن جمع بينه وبين السبع في زبية أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق
وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيات فنهسته فمات لم يجب القود ضيقا كان المكان أو واسعا لأن الحية تهرب من الآدمي فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله وإن أنهشه سبعا أو حية يقتل مثلها غالبا فمات منه وجب عليه القود لأنه ألجأه إلى قتله
وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالبا ففيه قولان أحدهما يجب القود لأن جنس الحيات يقتل غالبا
والثاني لا يجب لأن الذي ألسعه لا يقتل غالبا
فصل وإن سقاه سما مكرها وجب عليه القود لأنه سبب يقتل غالبا فهو كما لو جرحه جرحا يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وتركه في بيته فدخل رجل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئرا في داره فدخل رجل بغير إذنه فوقع فيها ومات وإن قدمه إليه أو خلطه بطعام الرجل فأكله فمات ففيه قولان أحدهما لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه بسكين
____________________
(2/176)
والثاني يجب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة فأهدت إليه يهودية ب خيبر شاة مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال ارفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال ما حملك على ما صنعت قالت قلت إن تكن نبيا لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكا أرحت الناس منك فأكل منها بشر بن البراء بن معروف فمات فأرسل إليها فقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت ب خيبر فهذا أوان انقطاع أبهري ولأنه سبب يفضي إلى القتل غالبا فصار كالقتل بالسلاح وإن سقاه سما وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليه القود لأن السم يقتل غالبا
والثاني لا يجب لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وذلك شبهة فسقط بها القود
فصل وإن قتله بسحر يقتل غالبا وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا فأشبه إذا قتله بسكين وإن كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لأنه عمد خطأ فهو كما لو ضربه بعصا فمات
فصل وإن أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله وجب القود على المكره لأنه تسبب إلى قتله بمعنى يفضي إلى القتل غالبا فأشبه إذا رماه بسهم فقتله
وأما المكره ففيه قولان أحدهما لا يجب عليه القود لأنه قتله للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه ( فلم يجب عليه القود )
والثاني أنه يجب عليه القود وهو الصحيح لأنه قتله ظلما لإستبقاء نفسه فأشبه إذا اضطر إلى الأكل فقتله ليأكله
وإن أمر الإمام بقتل رجل بغير حق فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الإمام لأن المأمور معذور في قتله لأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق
وإن كان يعلم أنه يقتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور لأنه لا يجوز طاعته فيما لا يحل والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد روى الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه فصار كما لو قتله من غير أمره
وإن أمره بعض الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود علم أنه يقتله بغير حق أو لم يعلم لأنه لا تلزمه طاعته فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله فوجب عليه القود
وإن أمر بالقتل صبيا لا يميز أو أعجميا لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر لأن المأمور ههنا كالآلة للآمر
ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة
فصل وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا ( عن شهادتهما ) وجب القود على الشهود لما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وأغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القود كما لو جرحاه فمات
باب القصاص في الجروح والأعضاء يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والأعضاء والدليل عليه قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } وروى أنس رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله القصاص قال فعفا القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص
فصل ومن لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس ومن قتيد بغيره في النفس قتيد به فيما دون النفس لأنه لما كان ما دون
____________________
(2/177)
النفس كالنفس في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه
فصل وإن شترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم القصاص لأنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على واحد كالقصاص في النفس
وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع واحد بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب القصاص على واحد منهما لأن جناية كل واحد منهما في بعض العضو فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو
فصل والقصاص فيما دون النفس في شيئين في الجروح وفي الأطراف فأما الجروح فينظر فيها فإن كانت لا تنتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والهاشمة والمنقلة لم يجب فيها القصاص لأنه لا تمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفي أكثر من الحق فسقط فإن كانت الجناية تنتهي إلى عظم
فإن كانت موضحة في الرأس أو الوجه وجب فيها القصاص لأنه تمكن المماثلة فيه ويؤمن أن يستوفي أكثر من حقه
وإن كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ وجب فيها القصاص
ومن أصحابنا من قال لا يجب لأنه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش خالفهما في وجوب القصاص
والمنصوص هو الأول لأنه يمكن ستيفاء القصاص فيها من غير حيف لإنتهائها إلى العظم فوجب فيها القصاص كالموضحة في الرأس والوجه
فصل وإن كانت الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولا وعرضا لقوله عز وجل { والجروح قصاص } والقصاص هو المماثلة ولا تمكن المماثلة في الموضحة إلا بالمساحة في الطول والعرض فإن كانت في الرأس حلق موضعها من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره ويقتص منها
فإن كانت الموضحة في مقدم الرأس أو في مؤخره أو في قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها
وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الجاني ستوفي بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله لأن الجميع رأس وإن كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص في غير العضو الذي جني عليه ويجب فيما بقي الأرش لأنه تعذر فيه القصاص فوجب البدل
فأن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يبتدىء بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني لأن الجميع محل للجناية وإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخرة
فقد قال بعض أصحابنا إنه لا يجوز لأنه يأخذ موضحتين بموضحة
قال الشيخ الإمام ويحتمل عندي أنه يجوز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك
وإن كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالمنصوص إنه يجب فيها القصاص قتص فيها على ما ذكرناه في الرأس فإن كانت في الساعد فزاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد
وإن كانت في الساق فزادت على قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا
فصل وإن كانت الجناية هاشمة أو منقلة أو مأمومة فله أن يقتص في الموضحة لأنها داخلة في الجناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الأرش في الباقي لأنه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل
فصل وأما الأطراف فيجب ( فيها القصاص ) في كل ما ينتهي منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } ولأنه يمكن المماثلة فيها لإنتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص ولا ( يجوز ) أن يأخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يأخذ القائمة
____________________
(2/178)
بالصحيحة لأنه يأخذ دون حقه
وإن أوضح رأسه فذهب ضوء عينه فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص
وقال فيمن قطع أصبع رجل فتآكل كفه إنه لا قصاص في الكف فنقل أبو إسحق قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين قولان أحدهما لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كما لو قطع أصبعه فتآكل الكف
والثاني يجب لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس
ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال يجب القصاص في الضوء قولا واحدا ولا يجب في الكف لأن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء
فصل ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأنه يمكن عتبار القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير بجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره
فصل ويؤخذ الأنف بالأنف لقوله تعالى { والأنف بالأنف } ولا يجب القصاص فيه إلا في المارن لأنه ينتهي إلى مفصل ويؤخذ الشام بالأخشم والأخشم بالشام لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم الشم نقص في غيره
ويؤخذ البعض بالبعض وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجاني ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأنه قد يكون أنف الجاني صغيرا وأنف المجني عليه كبيرا فإذا عتبرت المماثلة بالمساحة قطعنا جميع المارن بالبعض وهذا لا يجوز
ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو نحرام لأنه يأخذ أكثر من حقه فإن قطع من سقط بعض مارنه مارنا صحيحا فللمجني عليه أن يأخذ الموجود وينتقل في الباقي إلى البدل لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض فأخذ الموجود ونتقل في الباقي إلى البدل
وإن قطع الأنف من أصله قتص من المارن لأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه وينتقل في الباقي إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فيه فنتقل فيه إلى البدل
فصل وتؤخذ الأذن بالأذن لقوله عز وجل { والأذن بالأذن } ولأنه يمكن ( ستيفاء ) القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم وأذن الأصم بأذن السميع لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم السمع نقص في غيره
ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح لأن الثقب ليس بنقص وإنما تثقب للزينة
ويؤخذ البعض بالبعض على ما ذكرناه في الأنف
ولا يؤخذ صحيح بمخزوم لأنه يأخذ أكثر من حقه
ويؤخذ المخزوم بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما ذكرناه في الأنف
وهل يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف فيه قولان أحدهما أنه لا يؤخذ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء
والثاني يؤخذ لأنهما متساويان في المنفعة بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق لم يجب القصاص لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه
وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة على خده وجب القصاص لأن المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حتى تصير معلقة على خده
وإن أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص لأن القصاص يجب بالإبانة وما حصل من الإلصاق لا حكم له لأنه يجب إزالته ولا تجوز الصلاة معه وإن قطع
____________________
(2/179)
أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني أذنه فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه لأنه قتص منه بالإبانة وما فعله من الإلصاق لا حكم له لأنه يستحق إزالته للصلاة وذلك إلى السلطان وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني فألصقه الجاني فالتصق فللمجني عليه أن يعود فيقطعه لأنه يستحق الإبانة ولم يوجد ذلك
وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع لأن هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن القصاص فيها
فصل وتؤخذ الشفة بالشفة وهو ما بين جلد الذقن والخدين علوا وسفلا ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لأنه قطع لحم لا ينتهي إلى عظم فلم يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والصحيح هو الأول لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأنه ينتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص
فصل ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى { والسن بالسن } المائدة 45 ولما رويناه في أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص
ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المكسور بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما نكسر منه لما ذكرناه في الأنف والأذن ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما لأنهما متساويان وإن قلع سنا زائدة وليس للجاني مثلها وجبت عليه الحكومة لأنه تعذر المثل فوجب البدل وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ كما لا يؤخذ سن أصلي بسن أخرى
وإن كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه نصف سنه قتص منه فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن
وإن وجب له القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان أحدهما أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لأنه مثله في محله فصار كما لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لأنه قلع سنه بغير سن
والقول الثاني أن النابت هبة مجددة لأن الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شيء للجاني
وإن قلع سن رجل فاقتص منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي قتص منه فإن قلنا إن النابت هبة مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لأنه ستوفى ما كان له
وإن قلنا إن النابت هو المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه فيه وجهان أحدهما أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة لأنه أعدمه السن فستحق أن يعدم سنه
والثاني ليس له قلعه لأنه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك
فصل ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي ( إليه ) فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه
ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه وإن قطع نصف لسانه أو ثلثه قتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه
وقال أبو إسحق لا يقتص منه لأنه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق
والمذهب أنه يقتص منه للآية ولانه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه
فصل وتؤخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأن لها مفصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب فيها القصاص
وإن قطع يده من الكوع قتص منه لأنه مفصل وإن قطع من نصف الساعد فله أن يقتص من الكوع لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه فانتقل فيه إلى البدل
وإن قطع من المرفق فله أن يقتص منه لأنه مفصل وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص في غيره
وإن قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لأن الجميع مفصل داخل في الجناية
ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع لأن هناك يمكنه أن يقتص في الجميع في محل الجناية وههنا لا يمكنه أن يقتص في موضع الجناية
وإن قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة إنه يمكنه أن يقتص منه من غير جائفة قتص منه لأنه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف وإن أراد أن يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لأنه
____________________
(2/180)
يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا يجوز أن يقتص في غيره وإن قال أهل الخبرة إنه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه لأنه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه
وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك وما يجب فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه
فصل ولا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأنه يأخذ فوق حقه وإن أراد المجني عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة نظرت فإن قال أهل الخبرة إنه إن قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف عليه لم يجز أن يقتص منه لأنه يأخذ نفسا بطرف
وإن قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه فإن طلب مع القصاص الأرش لنقص الشلل لم يكن له لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما تنفض عنها في الصفة فلم يؤخذ الأرش للنقص مع القصاص كما لا يأخذ ولي المسلم من الذمي مع القصاص أرشا لنقص الكفر
وفي أخذ الأشل بالأشل وجهان أحدهما أنه يجوز لأنهما متساويان
والثاني لا يجوز وهو قول أبي إسحق لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
فصل ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه
وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن ستيفاء القصاص فيها
وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان أحدهما يدخل كما يدخل في ديتها
والثاني وهو قول أبي إسحق أنه لا يدخل بل يأخذ مع القصاص الحكومة لما تحتها والفرق بين القصاص والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص
ولهذا لو قطع أصابعه وتآكل منها الكف وختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع
ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويؤخذ والحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع
فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص من الكف ويأخذ دية الأصبع الخامسة أو الحكومة في الأصبع السادسة لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل كما لو قطع عضوين ووجد أحدهما
فصل ولا يؤخذ أصلي بزائد فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يقتص من الأصابع الأصلية لأنها داخلة في الجناية ويأخذ الحكومة في الأصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل في حكومتها
وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين
ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فللمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه دون حقه ولا شيء له لنقصان الأصبع الزائدة لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة وإن كان لكل واحد منهما أصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما أخذ أحدهما بالأخرى لأنهما متساويان
وإن ختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهم مختلفان في أصل الخلقة
فصل وإن قطع من له يد صحيحة كف رجل له أصبعان شلاوان لم يقتص منه في الكف لأنه يأخذ كاملا بناقص ويجوز أن يقتص في الأصابع الثلاث الصحيحة لأنها مساوية لأصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لأنه لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف
وهل يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين فصل ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظافر لأن اليد بلا أظفار ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لأنه يأخذ بعض حقه
فصل فإن قطع أصبع رجل فتآكل منه الكف وجب القصاص في الأصبع لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب في الكف لأنه لم يتلفه بجناية عمد لأن العمد فيه أن يباشره بالإتلاف ولم يوجد ذلك
ويجب عليه دية ( كل أصبع من ) الأصابع لأنها تلفت بسبب جنايته ويدخل
____________________
(2/181)
في دية كل أصبع أرش ما تحته من الكف لأن الكف تابع للأصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الأصبع التي قتص منها في قصاصها على الوجهين
فصل وتؤخذ الأليتان بالأليتين وهما الناتئتان بين الظهر والفخذ
وقال بعض أصحابنا لا تؤخذ وهو قول المزني رحمة الله عليه لأنه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ
والمذهب الأول لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كاليدين
فصل ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى { والجروح قصاص } ولأنه ينتهي إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص ويؤخذ بعضه ببعضه
وقال أبو إسحق لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان
والمذهب الأول لأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه
ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي لأنه كذكر الفحل في الجماع وعدم الإنزال لمعنى في غيره ويقطع الأغلف بالمختون لأنه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزالتها بالختان ولا يؤخذ صحيح بأشل لأن الأشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل
فصل ويقطع الأنثيان بالأنثين لقوله تعالى والجروح قصاص وقال أهل الخبرة أخذها من غير إتلاف الأخرى فقتصى منه وإن قالوا إنه يؤدي قطعها إلى إتلاف الأخرى لم يقتص منه لأنه يقتص من ( أنثيين بواحدة )
فصل واختلف أصحابنا في الشفرين
فمنهم من قال لا قصاص فيهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله لأنه لحم وليس له مفصل ينتهي إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ
ومنهم من قال يجب فيه القصاص وهو المنصوص في الأم لأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف نتهاؤهما فوجب فيهما القصاص
فصل وإن قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه قبل أن يتبين حاله أنه ذكر أو أنثى نظرت فإن طلب القصاص لم يكن له لجواز أن يكون مرأة فلا يجب لها عليه في شيء من ذلك قصاص
وإن طلب المال نظرت فإن عفا عن القصاص أعطي أقل حقيه وهو حق مرأة فيعطى دية عن الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين
فإن بان أنه مرأة فقد استوفت حقها وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من ( دية ) الذكر والأنثيين وحكومة عن الشفرين
فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين حاله لأنه يجوز أن يكون مرأة فلا يجب عليه القصاص
وأما المال ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعطى لأن دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال
والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يعطى أقل ما يستحق مع القود لأنه يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفوا عن القود فيعطى حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والأنثيين
وقال القاضي أبو حامد المروزي في جامعه يعطى دية الشفرين وهذا خطأ لأنه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والأنثيين والحكومة في الشفرين
فصل وما وجب فيه القصاص من الأعضاء وجب فيه القصاص وإن ختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض لأنا لو عتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الأعضاء لأنه لا يكاد أن يتفق العضوان في هذه الصفات فسقط عتبارها
فصل وما نقسم من الأعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة والجفن لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى ولا يؤخذ سن بسن غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض كالعين بالأنف واليد بالرجل وما لا يؤخذ بعضه ببعض مما ذكرناه لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه
وكذلك ما لا يؤخذ من الأعضاء
____________________
(2/182)
الكاملة بالأعضاء الناقصة كالعين الصحيحة بالقائمة واليد الصحيحة بالشلاء لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه بأخذها لأن الدماء لا تستباح بالإباحة
فصل وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص فيهما لأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما ( إذا نفردت ) فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل
فصل وإن قتل أو قطع واحد جماعة أو قطع عضوا من جماعة لم تتداخل حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون
فإن قتل أو قطع واحدا بعد واحد قتص منه للأول لأن له مزية بالسبق وإن سقط حق الأول بالعفو قتص للثاني وإن سقط حق الثاني قتص للثالث وعلى هذا
وإذا قتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية لأنه فاتهم القود بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل أو زال طرفه
وإن قتلهم أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قتص له لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه
فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم
وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو بالقرعة فبدر غيره واقتص صار مستوفيا لحقه وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه كما قلنا فيمن قتل مرتدا بغير إذن الإمام أنه يصير مستوفيا لقتل الردة وإن أساء في الإفتيات على الإمام
وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان أحدهما أن حكمه حكم ما لو قتلهم في غير المحاربة
والثاني أنه يقتل بالجميع لأن قتل المحاربة لحق الله تعالى ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى
فصل وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم القطع أو تأخر لأنا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع وإذا قدمنا القطع لم يسقط حق المقتول وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما
ويخالف إذا قتل ثنين لأنه لا يمكن إبقاء الحقين فقدم السابق
وإن قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الأصبع للأول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الأصبع
ويخالف إذا قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الأصبع للأول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الأصبع
ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع للأول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شيء لأن النفس لا تنقص بنقصان اليد ولهذا يقتل صحيح اليد بمقطوع اليد واليد تنقص بنقصان الأصبع ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الأصابع
وإن قطع يمين رجل ثم قطع أصبعا من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول لأن حقه سابق
ويخالف إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث آخرنا القتل وإن كان سابقا لأن هناك يمكن إبقاء الحقين من غير نقص يدخل على ولي المقتول بقطع اليد وههنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الأصبع
فصل وإن قتل رجلا وارتد أو قطع يمين رجل وسرق قدم حق الآدمي من القتل والقطع وسقط حق الله تعالى لأن حق الآدمي مبني على التشديد فقدم على أحق الله تعالى
باب استيفاء القصاص من ورث المال ورث الدية لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب
قال كان عمر رضي الله عنه يقول لا ترث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورث مرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع عمر رضي الله عنه عن ذلك
ويقضي من الدية دينه وينفذ منها وصيته
وقال أبو ثور لا يقضي منها الدين ولا ينفذ منها الوصية لأنها تجب بعد الموت
والمذهب الأول لأنه مال يملكه الوارث من جهته فقضى منه دينه ونفذت منه وصيته كسائر أمواله
ومن ورث المال ورث القصاص والدليل عليه ما روى أبو شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية
وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة وقلنا بأصح القولين إنه يجب القصاص في طرفه فقد نقل المزني أنه قال يقتص وليه المسلم
وقال المزني رحمه الله لا يقتص غير الإمام لأن المسلم لا يرثه
فمن أصحابنا من قال لا يقتص غير الإمام كما قال المزني وحمل قول
____________________
(2/183)
الشافعي رحمة الله عليه على الإمام
وقال عامة أصحابنا يقتص المناسب لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ والذي يتشفى هو المناسب ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئا كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة فإن القصاص للوارث وإن لم يرث شيئا وإن كان الوارث صغيرا أو مجنونا لم يستوف له الولي لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل بستيفاء الولي
ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون لأن فيه حظا للقاتل بألا يقتل وفيه حظا للمولي عليه ليحصل له التشفي فإن أقام القاتل كفيلا ليخلى لم يجز تخليته لأن فيه تغريرا بحق المولي عليه بأن يهرب فيضيع الحق
وإن وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان أحدهما أنه يصير مستوفيا لحقه كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها
والثاني لا يصير مستوفيا لحقه وهو الصحيح لأنه ليس من أهل ستيفاء الحقوق
ويخالف الوديعة فإنها لو تلفت من غير فعل برىء منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية
وإن كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفي وإن كان بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لأنه مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد به
فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين وستيفاؤه إلى السلطان وإن كان له من يرث منه بعض القصاص كان ستيفاؤه إلى الوارث والسلطان ولا يجوز لأحدهما أن ينفرد به لما ذكرناه
فصل وإن قتل رجل وله اثنان من أهل الإستيفاء فبدر أحدهما وقتل القاتل من غير إذن أخيه ففيه قولان أحدهما لا يجب عليه القصاص وهو الصحيح لأن له في قتله حقا فلا يجب عليه القصاص بقتله كما لا يجب الحد على أحد الشريكين في وطء الجارية المشتركة
والثاني يجب عليه القصاص لأنه قتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عري عن الشبهة ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل
وإن كان قاتلا لبعض النفس والنصف الذي لأخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله
وإن عفا أحدهما عن حقه من القصاص ثم قتله الآخر بعد العلم بالعفو نظرت فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص لأنه لم يبق له شبهة
وإن كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا قتله قبل العفو فلأن يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى
وإن قلنا لا يجب عليه قبل العفو ففيما بعد العفو قولان أحدهما يجب عليه لأنه لا حق له في قتله فصار كما لو عفوا ثم قتله أحدهما
والثاني لا يجب لأن على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود بعد عفو الشريك فيصير ذلك شبهة في سقوط القود
فإذا قلنا إنه يجب القصاص على الإبن القاتل وجب دية الأب في تركة قاتله نصفها للأخ الذي لم يقتل ونصفها للأخ القاتل ولورثته بعده
وإذا قلنا لا يجب القصاص على الإبن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول لأنه قتله وهو يستحق نصف النفس وللأخ الذي لم يقتل نصف الدية وفيمن يجب عليه قولان أحدهما يجب على الإبن القاتل لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما لزمه ضمان حق الآخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها أحدهما
فعلى هذا إن أبرأ الإبن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح إبراؤه لأنه أبرأ من لا حق له عليه وإن أبرأ أخاه صح إبراؤه لأنه أبرأ من عليه الحق
والقول الآخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي
ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي وجب حقه عليه والقاتل لو قتله أجنبي لم يجب حقه عليه فعلى هذا لو أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه وإن أبرأورثة قاتل أبيه صح إبراؤه ولورثة قاتل الأب مطالبة الإبن القاتل بنصف الدية لأن ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببراءتهم عن الإبن الآخر
فصل ولا يجوز ستيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى الإجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي فإن ستوفاه من غير حضرة السلطان عزره على ذلك
ومن أصحابنا من قال لا يعزر لأنه ستوفى حقه والمنصوص أنه يعزز لأنه فتيات على السلطان والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني عليه الإستيفاء
وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفي بها القصاص فإن كانت كالة منع من الإستفاء بها لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله
____________________
(2/184)
كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته
وإن كانت مسمومة منع من الإستيفاء بها لأنه يفسد البدن ويمنع من غسله
فإن عجل وستوفى بآلة كآلة أو بآلة مسمومة عزر
فإن طلب من له القصاص أن يستوفي بنفسه فإن كان في الطرف لم يمكن منه لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وإن كان في النفس فإن كان يكمل للإستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } ولقوله صلى الله عليه وسلم فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ولأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه
وإن لم يكمل للإستيفاء أمر بالتوكيل فإن لم يكن من يستوفي بغير عوض ستؤجر من خمس المصالح من يستوفي لأن ذلك من المصالح
وإن لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه وجبت الأجرة على الجاني لأن الحق عليه فكانت أجرة الإستيفاء عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع
فإن قال الجاني أنا أقتص لك بنفسي ولا أؤدي الأجرة لم يجب تمكينه منه لأن القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ ولأن من لزمه إيفاء حق لغيره لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع في كيل الطعام المبيع
فإن كان القصاص لجماعة وهم من أهل الإستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم لأنه لا يجوز جتماعهم على القصاص لأن في ذلك تعذيبا للجاني ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة
فصل وإن كان القصاص على مرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع لقوله تعالى { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } وفي قتل الحامل إسراف في القتل لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل
وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن مرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إنها زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فجىء بها فلما أن وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأنه لا يعيش إلا به
وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية ذهبي حتى ترضعيه ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه وهو مولود أولى
وإن وجد له مرضعة راتبة جاز أن يقتص لأنه يستغني بها عن الأم وإن وجد مرضعات غير رواتب أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها فالمستحب لولي الدم أن يقتص حتى ترضعه لأن ختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه فإن لم يصبر قتص منها لأن الولد يعيش بالألبان المختلفة وبلبن البهيمة
وإن دعت الحمل قال الشافعي رحمة الله عليه لا تحبس حتى يشهد أربع نسوة بالحمل لأن القصاص وجب فلا يؤخر بقولها
وقال أكثر أصحابنا تحبس بقولها لأن الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه
فصل وإن كان القصاص في الطرف فالمستحب ألا يستوفى إلا بعد ستقرار الجناية بالإندمال أو بالسراية إلى النفس لما روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة
قال طعن رجل رجلا بقرن في رجله فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني فقال دعه حتى يبرأ فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول حتى يبرأ فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال برىء صاحبي وعرجت رجلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حق لك فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه فإن ستوفى قبل الأندمال جاز للخبر
وهل يجوز أخذ الأرش قبل الإندمال فيه قولان أحدهما يجوز كما يجوز ستيفاء القصاص قبل الإندمال
والثاني لا يجوز لأن الأرش لا يستقر قبل الإندمال لأنه قد يسري إلى النفس ويدخل في دية النفس وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف القصاص فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة
فإذا قلنا يجوز ففي القدر الذي يجوز أخذه وجهان أحدهما يجوز أخذه بالغا ما بلغ لأنه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه
والثاني وهو قول أبي إسحق أنه يأخذ أقل الأمرين من أرش الجناية
____________________
(2/185)
أو دية النفس لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن ستقراره لأنه ربما سقط فعلى هذا إن قطع يديه ورجليه وجب في الظاهر ديتان وربما سرت الجناية إلى النفس فرجع إلى دية فيأحذ دية فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه وإن ندملت أخذ دية أخرى
فصل وإن قلع سن صغير لم يثغر أو سن كبير قد أثغر وقال أهل الخبرة إنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الإياس من نباته لأنه لا يتحقق الإتلاف فيه قبل الإياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الإياس من نباته
فإن مات قبل الإياس لم يجب القصاص لأنه لم يتحقق الإتلاف فلم يقتص مع الشك
فصل إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولأن السيف أرجى الآلات فإذا قتل به وقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه في القتل وقد قتل وعذب فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ولما روى البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ولأن القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفى بها القصاص وله أن يقتص منه بالسيف لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز
فإن قتله بالسحر قتل بالسيف لأن عمل السحر محرم فسقط وبقي القتل فقتل بالسيف
وإن قتله باللواط أو بسقي الخمر ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبي إسحق أنه إن قتله بسقي الخمر قتله بسقي الماء وإن قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبة لأنه تعذر مثله حقيقة ففعل به ما هو أشبه بفعله
والثاني أنه يقتل بالسيف لأنه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف كما لو قتله بالسحر
وإن ضرب رجلا بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأن قتله مستحق وليس ههنا ما هو أرجى من السيف فقتل به
وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان أحدهما يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف
والثاني أنه يقتل بالسيف لأنه فعل به مثل ما فعل وبقي إزهاق الروح فوجب بالسيف وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفي القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه لقوله تعالى { والجروح قصاص } فإن مات به فقد ستوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضوا آخر ولا أن يوضح في موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة
وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه قولان أحدهما يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من الساعد لأنه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللواط
والثاني يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها في غير القصاص فجاز القتل بها في القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة فإن قتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضوا آخر فتصير جائفتان بجائفة وقطع عضوين بعضو
4 فصل وإن أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى ونحوه ولا يقتص منه بالسيف لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم
فصل وإن جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة عولج بما
____________________
(2/186)
يزيل ضوء العين من كافور يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها لأنه تعذر ستيفاء القصاص فيه بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لأنه قصاص في غير محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كما قلنا في القتل باللواط
وإن كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة قتص منه فإن ذهب الضوء فقد ستوفى حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على ما ذكرناه
وقال الشيخ الإمام ويحتمل عندي أنه لا يقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة والدليل عليه ما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بجلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه فأبى فرفعهما إلى علي فدعا علي رضي الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه ولأن اللطم لا يمكن عتبار المماثلة فيه ولهذا لو نفرد من ذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص فلا يستوفى به القصاص في الضوء كالهاشمة وإن قلع عين رجل بالأصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالأصبع ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز لأنه يأتي على ما تأتي عليه الحديدة مع المماثلة
والثاني لا يجوز لأن الحديد أرجى فلا يجوز بغيره
فصل وإن وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع ودعى أنه أخطأ فإن كان يجوز في مثله الخطأ فالقول قوله مع يمينه لان ما يدعيه محتمل
وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع فيه يمينه لانه لا يحتمل ما يدعيه وإن أراد أن يعود ويقتص فقد قال في موضع لا يمكن وقال في موضع يمكن
ومن أصحابنا من قال هما قولان أحدهما لا يمكن لانه لا يومن مثله في الثاني
و الثاني أنه يمكن لان الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله
ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لان الظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن لم يحسن لم يمكن لانه لا يومن أن يعود إلى مثله وحمل القولين على هذين الحالين
وإن وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أنملة فقطع أنملتين فإن كان عامدا وجب عليه القود في الزيادة وإن كان خطأ وجب عليه الأرش كما لو فعل ذلك في غير القصاص وإن ستوفى أكثر من حقه بضطراب الجاني لم يلزمه شيء لانه حصل بفعله فهدر
فصل وإن قتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص لانه تلف من جائز وغير جائز ويجب نصف الدية لانه هلك من مضمون وغير مضمون فسقط النصف ووجب النصف
فصل وإذا وجب له القصاص في يمينه فقال أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فقطعها فإن قال تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان لانه قطعها ببذله ورضاه
وإن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفي فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لانه موضع شبهة
وهل يجب عليه الدية فيه وجهان أحدهما لا تجب عليه لانه قطعها ببذل صاحبها
والثاني يجب وهو المذهب لانه بذل على أن يكون عوضا عن اليمين فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله كما لو شترى سلعة بعوض فاسد وتلفت عنده
فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه وفيما يضمن وجهان أحدهما وهو قول أبي حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لانه تعمد قطع يد محرمة
والثاني وهو المذهب أنه لا يجب القود لانه قطعها ببذل الجاني ورضاه وتلزمه الدية لانه قطع يدا لا يستحقها مع العلم به
فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح لان الدماء لا يستباح بالعوض
وهل يسقط القصاص في اليمين فيه وجهان أحدهما يسقط لان عدوله إلى اليسار رضا بترك القصاص في اليمين
والثاني أنه لا يسقط لانه أخذ اليسار على أن يكون بدلا عن اليمين ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فإذا قلنا لا يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار وللمقتص عليه القصاص في اليمين وإن قلنا إنه يسقط القصاص فله دية اليمين وعليه دية اليسار
وإن كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج
____________________
(2/187)
يساره فقطعها وجب عليه القصاص إن كان عالما أو الدية إن كان جاهلا لان بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه
فصل إذا قتص في الطرف فسرى إلى نفس الجاني فمات لم يجب ضمان السراية لما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا في الذي يموت من القصاص لا دية له وإن جنى على طرف رجل فقتص منه ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه ثم سرى القصاص إلى نفس الجاني كانت سراية القصاص إلى نفس الجاني قصاصا عن سراية الجناية إلى نفس المجني عليه لانه لما كانت السراية كالمباشرة في إيجاب القصاص كانت كالمباشرة في ستيفاء القصاص وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه ففيه وجهان أحدهما أن السراية قصاص لانها سراية قصاص فوقعت عن القصاص كما لو سرت الجناية ثم سرى القصاص
والثاني وهو الصحيح أن السراية هدر ولا تكون قصاصا لانها سبقت وجوب القصاص فلا يجوز أن تكون قصاصا عما وجب بعدها فعلى هذا يجب في تركة الجاني نصف الدية لانه قد أخذ منه بقدر نصف الدية وبقي النصف
فصل من وجب عليه قتل بكفر أو ( ردة ) أو زنا أو قصاص فلتجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم من قتله والدليل عليه قوله عز وجل { واقتلوهم حيث وجدتموهم } ولانه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية والعقرب
فصل ومن وجب عليه قصاص في النفس فمات عن مال أو وجب عليه قصاص في الطرف فزال الطرف وله مال ثبت حق المجني عليه في الدية لان ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر كذوات الأمثال
باب العفو عن القصاص ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو على المال لما روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية فإن عفا مطلقا بنينا على ما يجب بقتل العمد وفيه قولان أحدهما أن موجب قتل العمد القصاص وحده ولا تجب الدية إلا بالأختيار والدليل عليه قوله عز وجل { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } ولان ما ضمن ( بالبدل ) في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال
والقول الثاني أن موجبه أحد الأمرين من القصاص أو الدية والدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما فكان الواجب أحدهما كالهدي والطعام في جزاء الصيد
فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقا سقط القصاص ولم تجب الدية لانه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو
وإن قلنا إنه يجب أحد الأمرين فعفا عن القصاص وجبت الدية لان الواجب أحدهما فإذا ترك أحدهما وجب الآخر
وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص
وإن قال خترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية فيه وجهان أحدهما له أن يرجع لان القصاص أعلى فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى
والثاني ليس له أن يرجع إلى الدية لانه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص
فإن جنى عبد على رجل جناية توجب القصاص فشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لان عدوله إلى الشراء ختيار للمال وهل يصح الشراء ينظر فيه فإن كانا لا يعرفان عدد الإبل وأسنانها لم يصح الشراء لانه بيع مجهول فإن كانا يعرفان العدد والأسنان ففيه قولان أحدهما لا يصح الشراء لان الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن كما قلنا في السلم
والثاني أنه يصح لانه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به فجاز البيع به كالعوض في القرض
فصل فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على غير مال لانه تصرف لا حظ للصغير فيه فلا يملكه الولي كهبة ماله وإن أراد أن يعفو على مال فإن كان له مال أو له من ينفق عليه لم يجز العفو لانه يفوت عليه القصاص من غير حاجة
وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه ففيه وجهان أحدهما يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته
والثاني لا يجوز وهو المنصوص لانه يستحق النفقة في بيت المال ولا حاجة به إلى العفو عن القصاص
وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الأمر إلى السلطان فإن رأى القصاص قتص وإن رأى العفو على مال عفا لان الحق للمسلمين فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه ( من ) المصلحة فإن أراد أن يعفو
____________________
(2/188)
على غير مال لم يجز لانه تصرف لا حظ فيه للمسلمين فلم يملكه
فصل وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتي برجل قتل رجلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت أخت المقتول وهي مرأة القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل وروى قتادة رضي الله عنه رفع إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما وهو إلى جنبه ما تقول فقال إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملىء علما ولان القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب
قال دخل رجل على مرأته فوجد عندها رجلا فقتلها إخوتها عمر فقال بعض إخوتها قد تصدقت بحقي فقضى لسائرهم بالدية ولانه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة
فصل وإن وكل من له القصاص من يستوفي له ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو ففيه قولان أحدهما لا يصح العفو لانه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلافي ما وكل فيه فلم يصح العفو كما لو عفا بعد رمى الحربة إلى الجاني
والثاني يصح لانه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالإبراء من الدين
ولا يجب القصاص على الوكيل لانه قتله وهو جاهل بتحريم القتل
وأما الدية فعلى القولين إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية كما لا تجب إذا عفا عنه بعد القتل
وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل لانه قتل محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه يرجع عليه لانه غره حين لم يعلمه بالعفو كما قلنا فيمن وطىء أمة غر بحريتها في النكاح وقلنا إن النكاح باطل أنه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره في أحد القولين
وهذا خطأ لان الذي غره في النكاح مسىء مفرط فرجع عليه والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط
فصل فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس لان القصاص لا يتبعض فإذا سقط في البعض سقط في الجميع
وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لانه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو
فصل وإن قطع أصبع رجل عمدا فعفا المجني عليه عن القصاص والدية ثم اندملت سقط القصاص والدية
وقال المزني رحمه الله يسقط القصاص ولا تسقط الدية لانه عفا عن القصاص بعد وجوبه فسقط وعفا عن الدية قبل وجوبها لان الدية لا تجب إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط
وهذا خطأ لان الدية تجب بالجناية
والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم ندمل كان أرش الطرف له دون المشتري فدل على أنه وجب بالجناية وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد الاندمال فصار كما لو عفا عن دين موجل
فإن سرت الجناية إلى الكف وندملت سقط القصاص في الأصبع بالعفو ولم يجب في الكف لانه تلف بالسراية والقصاص فيما دون النفس لا يجب بالسراية
وسقطت دية الأصبع لانه عفا عنها بعد الوجوب ولا يسقط أرش ما تسري إليه لانه عفا عنه قبل الوجوب
وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها سقط القود في الأصبع والنفس لانه سقط في الأصبع بالعفو بعد الوجوب وسقط في النفس لانها لا تتبعض
وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل وفيها قولان فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس
وإن قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وإن كان بغير لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا فيه قولان أحدهما أنه وصية لانه يعتبر من الثلث
____________________
(2/189)
والثاني أنه ليس بوصية لان الوصية ما تكون بعد الموت وهذا إسقاط في حال الحياة فإذا قلنا إنه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل
وإن قلنا إنه ليس بوصية صح العفو عن دية الأصبع لانه عفا عنها بعد الوجوب ولا يصح عما زاد لانه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس إلا أرش أصبع
وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولا تسقط دية النفس لانه أبرأ منها قبل الوجوب
وأما دية الأصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا إنه وصية فهو وصية للقاتل وفيها قولان وإن كان بلفظ العفو وقلنا إنه ليس بوصية فإن خرج من الثلث سقط وإن خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب الباقي لانه إبراء عما وجب
فصل فإن جنى جناية يجب فيها القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله فقد ختلف أصحابنعا فيه فذهب أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة إن عفي عن القصاص لان القتل منفرد عن الجناية فلم يدخل حكمه في حكمها فوجب لاجله القصاص أو الدية
ومن أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لان الجناية والقتل كالجناية الواحدة فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية لانه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقي له النصف
ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح لان القتل نفرد عن الجناية فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف الدية لان القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس ولو سرت وجب فيها الدية وقد أخذ النصف وبقي النصف
فصل إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فامتص في اليد ثم عفي عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لانه قطعها في حال لا يضمنها فأشبه إذا قطع يد مرتد فأسلم ولان العفو يرجع إلى ما بقي دون ما ستوفي كما لو قبض من دينه بعضه ثم أبرأه
وإن عفي على مال وجب له نصف الدية لانه بالعفو صار حقه في الدية وقد أخذ ما يساوي نصف الدية فوجب له النصف
فإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له مال لانه لم يجب له أكثر من دية وقد أخذ ما يساوي دية فلم يجب له شيء
وإن قطع نصراني يد مسلم فقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللولي أن يقتله لانه صارت الجناية نفسا
وإن ختار أن يعفو على الدية ففيه وجهان أحدهما أنه يجب عشرة آلاف درهم لان دية المسلم ثنا عشر ألفا وقد أخذ ما يساوي ألفي درهم فوجب الباقي
والثاني أنه يجب له نصف ديته وهو ستة آلاف درهم لانه رضي أن يأخذ يدا ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف درهم فوجب الباقي
وإن قطع يديه فقتص منه ثم سرى لقطع إلى نفس المسلم فللولي أن يقتله لانه صارت الجناية نفسا فإن عفي على الدية أخذ على الوجه الأول ثمانية آلاف درهم لانه أخذ ما يساوي أربعة آلاف درهم وبقي له ثمانية آلاف درهم
وعلى الوجه الثاني لا شيء له لانه رضي أن يأخذ نفسه بنفسه فيصير كما لو ستوفى ديته
وإن قطعت مرأة يد رجل فقتص منها ثم سرى القطع إلى نفس الرجل فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه
فإن عفا على مال وجب على الوجه الأول تسعة آلاف درهم لان الذي أخذ يساوي ثلاثة آلاف درهم وبقي تسعة آلاف درهم
وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لانه رضي أن يأخذ يدها بيده وذلك بقدر نصف ديته وبقي النصف
كتاب الديات باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات تجب الدية بقتل المسلم لقوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وتجب بقتل الذمي والمستأمن ومن بيننا وبينهم هدنة لقوله تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لانه محقون الدم مع كونه من أهل القتال فكان مضمونا بالقتل كالذمي
فصل وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا إنه لا يجب القصاص في طرفه أو قلنا يجب فعفي عن القصاص على مال ففيه قولان أحدهما لا تجب دية الطرف لانه تابع للنفس في الدية فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف
والثاني أنه تجب وهو الصحيح لان الجناية أوجبت دية الطرف والردة قطعت سراية الجرح فلا تسقط ما تقدم وجوبه كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه فإن جرح مسلما ثم رتد ثم أسلم ومات فإن أقام في الردة زمانا تسري فيه الجناية ففيه قولان أحدهما تجب دية كاملة لان
____________________
(2/190)
الاعتبار في الدية بحال ستقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه وندملت وجبت له ديتان ولو سرت إلى النفس وجبت دية وهذا مسلم في حال ستقرار الجناية فوجب فيه دية مسلم
والثاني يجب نصف الدية لان الجناية في حال الإسلام توجب والسرابة في حال الردة تسقط فوجب النصف كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات
وإن لم يقم في الردة زمانا تسري فيه الجناية وجبت دية مسلم لانه مسلم في حال الجناية وفي حال ( ستقرار الجناية ) ولا تأثير لما مضى في حال الردة فلم يكن له حكم
فصل وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن ومن أصحابنا من قال تجب فيه دية مسلم لانه مسلم في حال ستقرار الجناية فوجبت ديته
فصل وإن أرسل سهما على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم
وقال أبو جعفر الترمذي لا يلزمه شيء لانه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافي فعله عند الإسلام فلا يجب ضمانه كما لو جرحه ثم أسلم ومات
والمذهب الأول لان الاعتبار بحال الإصابة دون حال الإرسال لان الإرسال سبب والإصابة جناية والاعتبار بحال الجناية لا بحال السبب
والدليل عليه أنه لو حفر بئرا في الطريق وهناك حربي فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه وإن كان عند السبب حربيا
ويخالف إذا جرحه ثم أسلم ومات لان الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون
وإن أرسل سهما على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن لان الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه كما لو أرسله على حي فوقع به وهو ميت
فصل وإن قتل مسلما تترس به الكفار لم يجب القصاص لانه لا يجوز أن يجب القصاص مع جواز الرمي
وأما الدية فقد قال في موضع تجب وقال في موضع إن علمه مسلما وجبت
فمن أصحابنا من قال هو على قولين أحدهما أنها تجب لانه ليس من جهته تفريط في الإقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه
والثاني أنه لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه
ومنهم من قال إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه لان مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه ومع الجهل بإسلامه لا يلزمه أن يتوقاه وحمل القولين على هذين الحالين
وقال أبو إسحق إن عنيه بالرمي ضمنه وإن لم يعنه لم يضمنه وحمل القولين على هذين الحالين
فصل وتجب الدية بقتل الخطإ لقوله عز وجل { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وتجب بقتل العمد في أحد القولين وبالعفو على الدية في القول الآخر وقد بيناه في الجنايات
وتجب بشبه العمد لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا إن في دية الخطإ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
فإن غرز إبرة في غير مقتل فمات وقلنا إنه لا يجب عليه القصاص ففي الدية وجهان أحدهما أنها تجب لانه قد يفضي إلى القتل
والثاني لا تجب لانه لما لم تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمي بالحصاة لم تجب بأقل المحدد
فصل وتجب على الجماعة إذا شتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم لانه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال
فإن شترك في القتل ثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية
وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية
فصل وتجب الدية بالأسباب فإن شهد ثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين لما روي أن شاهدين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وأغرمهما دية يده
____________________
(2/191)
فصل وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولى أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الآخر لانهما كالشريكين فى القتل إذا كانا من أهل القود
وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره فللولى أن يقتل المكره ويأخذ من الآخر نصف الدية لانهما كالشريكين غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها
فصل وإن طرح رجلا فى نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات ففيه قولان أحدهما أنه تجب الدية لان ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات
والقول الثانى أنها لا تجب وهو الصحيح لان طرحه فى النار لا يحصل به التلف وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره فسقط ضمانه كما لو جرحه جرحا يسيرا لا يخاف منه فوسعه حتى مات
وإن طرحه فى ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار
ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا لان الطرح فى الماء ليس بسبب للهلاك لان الناس يطرحون أنفسهم فى الماء للسباحة وغيرها وإنما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار
فصل وإن شد يديه ورجليه وطرحه فى ساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود كالمد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص لانه قصد تغريقه
وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة
فإن كان فى موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة
وإن شد يديه ورجليه وطرحه فى أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطإ وتجب فيه دية مغلظة
وإن كان فى أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة
فصل وإن سلم صبيا إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح لانه سلمه إليه ليحتاط فى حفظه فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبى فمات
وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه لانه فى يد نفسه فلا ينسب إلى التفريط فى هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه
فصل وإن كان صبى على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لان الصياح سبب لوقوعه
وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ
وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة فى حال غفلته فخر ميتا ففيه وجهان أحدهما أنه كالصبى لان البالغ فى حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبى
والثانى لا يضمن لان معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة
فصل وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه لما روى أن عمر رضى الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فبينا هى فهى الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبى صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضى الله عنه أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت على رضى الله عنه فأقبل عليه فقال ما تقول يا أبا الحسن فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا فى هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لانك أنت أفزعتها فألقت
وإن فزعت المرأة فماتت لم تضمن لان ذلك ليس بسبب لهلاكها فى العادة
فصل وإن طلب رجل بصيرا بالسيف فوقع فى بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن لان الطلب سبب والإلقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة ولان الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لانه لو أدركه جاز ألا يجنى عليه فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه
وإن طلب ضريرا فوقع فى بئحر أو من شاهق ومات فإن كان عالما بالشاهق أو بالبئر لم يضمن لانه كالبصير وإن لم يعلم ( وجب ضمانه ) لانه ألجأه إليه فتعلق به الضمان كالشهود إذا شهدوا بالقعتل ثم رجعوا
وإن كان المطلوب صبيا أو مجنونا ففيه وجهان بناء على القولين فى عمدهما هل هو عمد أو خطأ فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إنه
____________________
(2/192)
خطأ ضمن وإن طلب رجل رجلا فافترسه سبع فى طريقه نظرت فإن ألجأه الطالب إلى موضع السبع ضمنه كما لو ألقاه عليه وإن لم يلجئه إليه لم يضمنه لانه لم يلجئه إليه وإن انخسف من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان أحدهما لا يضمن كما لا يضمن إذا افترسه سبع
والثانى يضمن لانه ألجأه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه
فصل وإن رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت فإن كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه وجب الضمان على القاطع لان الرامى كالجارح والقاطع كالذابح
وإن كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان أحدهما أنه يجب الضمان عليهما لان كل واحد منهما سبب للإتلاف فصار كما لو جرحاه
والثاني أن الضمان على القاطع لان ( الرمى ) إنما يكون سببا للتلف إذا وقع المرمى على الأرض وههنا لم يقع على الأرض وصار الرامى صاحب سبب والقاطع مباشرا فوجب الضمان على القاطع
فصل إذا زنى بامرأة وهى مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان
أحدهما يجب عليه ديتها لانها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها
والثاني لا يجب لان السبب انقطع حكمه بنفى النسب عنه
فصل وإن حفر بئرا فى طريق الناس أو وضع فيه حجرا أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لانه تعدى به فضمن من هلك به كما لو جنى عليه
وإن حفر بئرا فى الطريق ووضع آخر حجرا فعثر رجل بالحجر ووقع فى البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر لانه هو الذى ألقاه فى البئر فصار كما لو ألقاه فيها بيده
وإن وضع رجل حجرا فى الطريق فدفعه رجل على هذا الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لان الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب فوجب الضمان على المباشر
وإن وضع رجل حجرا فى الطريق ووضع آخر حديدة بقربه فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات وجب الضمان على واضع الحجر
وقال أبو الفياض البصرى إن كانت الحديدة سكينا قاطعة وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر لان السكين القاطع موح وإن كانت غير قاطع وجب الضمان علعى واضع الحجر
والأول هو الصحيح لان الواضع هو المباشر
وإن حفر بئرا فى طلايق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذى يستضر الناس بحفر البئر فيه لانه لا يجوز أن يختص بشيء من طريق المسلمين وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الإمام فهلك به إنسان لم يضمن لان ما فعله بإذن الإمام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان أحدهما أنه لا يضمن لانه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الإمام
والثانى أنه يضمن لان ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص به الإمام فمن افتات عليه فيه كان متعديا فضمن من هلك به
وإن بنى مسجدا فى موضع لا ضرر فيه أو علق قنديلا فى مسجد أو فرش فيه حصيرا من غير إذن الإمام فهلك به إنسان فهو كالبئر التى حفرها للمسلمين
وإن حفر بئرا فى موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لانه غير متعد فى حفرها
وإن كان فى داره بئر قد غطى رأسها أو كلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع فى البئر فمات أو عقره الكلب فمات لم يضمنه لانه ليس من جهته تفريط فى هلاكه فإن دخلها بإذنه فوقع فى البئر ومات أو عقره الكلب فمات ففى ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاما مسموما إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبيا إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه لان الرامى كالحافر للبئر والذى قدمه كالملقى فيها فكان الضمان عليه
وإن ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على إنسان فمات لم يضمنه لانه وضعها فى ملكه ووقعت من غير فعله وإن بنى حائطا فى ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على إنسان فقتله ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه يضمن لانه لما مال إلى الطريق لزمه إزالته فإذا لم يزله صار متعديا بتركه فضمن من هلك به كما لو أوقع حائطا ( مائلا ) إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به إنسان
والثانى وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه لا يضمن وهو المذهب لانه بناه فى ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل
فصل وإن أخرج جناحا إلى الطريق فوقع على إنسان ومات ضمن نصف ديته لان بعضه فى ملكه وبعضه خارج عن ملكه فسقط نصف الدية لما فى ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه
وإن انكسرت خشبة من الخارج فوقعت على إنسان فمات ضمن جميع الدية لانه ( مات و ) هلك بالخارج من ملكه
وإن نصب ميزابا فوقع على إنسان فمات به ففيه قولان قال فى القديم لا يضمن لانه مضطر إليه ولا يجد بدا منه بخلاف الجناح
وقال فى الجديد يضمن لانه غير مضطر إليه لانه كان يمكنه أن يحفر فى ملكه بئرا
____________________
(2/193)
يجرى الماء إليها فكان كالجناح
فصل وإن كان معه دابة فأتلفت إنسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت فى الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه لانها فى يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته
فصل وإن اصطدم فارسان أو رجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر
وقال المزنى إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقى وهدر دمه لان الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقى هو المقتول
وهذا خطأ لان كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه
ووجه قول المزنى لا يصح لانه يجوز أن يكون المستلقى صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصصدما وماتا فهما كالبالغين وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما فاصطدما وماتا وجب على الذى أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه
وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما فى ضمانهما حكم الرجلين فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما
فصل وإن وقف رجل فى ملكه أو فى طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم لانه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم لانه قتله بصدمة هو متعد فيها
وإن وقف فى طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر لان الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه فى الطريق الضيق
وإن قعد فى طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم فى الصادم والمصدوم وعقد بيناه
فصل فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصر فى آلتهما أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا أو سيرا فى ريح شديدة لا تسير السفن فى مثلها وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف وإن كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها لما بيناه فى الفارسين
فإن كان فى السفن رجال فهلكوا ضمن عاقله كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه
فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه وإن لم يفرطا ففى الضمان قولان أحدهما يجب كما يجب فى اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين
والثانى لا يجب لانها تلفت من غير تفريط منهما فأشبه إذا تلفت بصاعة
واختلف أصحابنا فى موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها
فأما إذا سيرا ثم جاءت لريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا لان ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين
وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان فى الحالين وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام والقيم لا يمكنه ضبط السفينة
فإن قلنا إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا فى القصاص فإنه لا يجب مع عدم التفريط
وإن قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذى فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن لان الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط
وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذى فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان السفن لانها أمانة وأما المال فهو مال فى يد أجير مشترك فإن كان معه صاحبه لم يضمن وإن لم يكن معه صاحبه فعلى القولين فهى الأجير المشترك
وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط كان الحكم فى المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين والحكم فى غير المفرط ما ذكرناه إذا غير مفرطين
____________________
(2/194)
فصل إذا كان فى السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة فقال لصاحب المتاع ألق متاعك فى البحر وعلى ضمانه فألقاء وجب عليه الضمان
وقال أبو ثور لا يجب لانه ضمان ما لم يجب وهذا خطأ لان ذلك ليس بضمان لان الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح
فإن قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه لزمه بحصته فإن كانوا عشرة لزمه مائة وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لانه جعل الألف على الجميع فلم يلزمه أكثر من الحصة
فإن قال أنا ألقيه على أنى وهم ضمناء فألقاه ففيه وجهان أحدهما أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه
والثانى يجب عليه ضمان الجميع لانه باشر الإتلاف
فصل فإن رمى عشرة أنفس حجرا بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لانه مات من فعله وفعلهم فهدر بفعله العشر ووجب الباقى على التسعة
فصل وإذا وقع رجل فى بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فإن مات الأول وجبت ديته على الثانى لما روى على بن رباح اللخمى أن بصيرا كان يقود أعمى فوقعا فى بئر فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر رضى الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد فى الموسم ( الرجز )
يأيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا خرا معا كلاهما تكسرا ولان الأول مات بوقوع الثانى عليه فوجبت ديته عليه
وإن مات الثانى هدرت ديته لانه لا صنع لغيره فى هلاكه وإن ماتا جميعا وجبت دية الأول على الثانى وهدرت دية الثانى لما ذكرناه فإن جذب الأول الثانى ومات الأول هدرت ديته لانه مات بفعل نفسه
وإن مات الثانى وجبت ديته على الأول لانه مات بجذبه
وإن وقع الأول ثم وقع الثانى ثم وقع الثالث فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع وجبت دية الأول على الثانى والثالث لانه مات بوقوعهما عليه وتجب دية الثانى على الثالث لانه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته وتهدر دية الثالث لانه مات من وقوعه فإن جذب بعضهم بعضا بأن وقع الأول وجذب الثانى وجذب الثانى الثالث وماتوا وجب للأول نصف الدية على الثانى لانه مات من فعله بجذب الثانى ومن فعل الثانى بجذب الثالث فهدر النصف بفعله ووجب النصف ويجب للثانى نصف الدية على الأول لانه جذبه ويسقط نصفها لانه جذب الثالث ويجب للثالث الدية لانه لا فعل له فى هلاك نفسه
وعلى من تجب فيه وجهان أحدهما أنها تجب على الثانى لانه هو الذى جذبه والوجه الثانى أنها تجب على الأول والثانى نصفين لان الثانى جذبه والأول جذب الثانى فاضطره إلى جذب الثالث وكان كل واحد منهما سببا فى هلاكه فوجبت الدية عليهما
فصل وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه أنه ما قصد قتل صاحبه فإذا حلفا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه لان الجرح قد وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان
باب الديات دية الحر المسلم مائة من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وقرىء على أهل اليمن أن فى النفس مائة من الإبل فإن كانت الدية فى عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة
أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة
وقال أبو ثور دية شبه العمد أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لانه لما كانت كدية الخطإ فى التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطإ فى التخميس وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال ألا إن دية الخطإ ( شبه ) العمد ( قتيل السوط ) والعصادية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها
____________________
(2/195)
وروى مجاهد عن عمر رضى الله عنه أن دية شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة
ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية فخفف من كل وجه وفى شبه العمد لم يقصد القتل فجعل كالخطإ فى التأجيل والحمل على العاقلة وقصد الجناية فجعل كالعمد فى التغليظ بالأسنان
وهل يعتبر فى الخلفات السن مع الحمل فيه قولان أحدهما لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها ولم يفرق
والثانى يعتبر أن تكون ثنيات فما فوقها لانه أحد أقسام أعداد إبل الدية فاختص بسن كالثلاثين
وإن كانت فى قتل الخطإ والقتل فى غير الحرم وفى غير الأشهر الحرم والمقتول غير ذى رحم محرم للقاتل وجبت دية مخففة أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لما روى أبو عبيدة عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال فى الخطإ عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض
وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون دية الخطإ مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
وإن كان القتل فى الحرم أو فى الأشهر الحرم وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضى الله عنه قضى فيمن قتل فى الحرم أو فى الأشهر الحرم أو محرما بالدية وثلث الدية
وروى أبو النجيح عن عثمان رضى الله عنه أنه قضى فى امرأة قتلت فى الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف ستة آلاف الدية وألفين للحرم
وروى نافع بن جبير أن رجلا قتل فى البلد الحرام فى شهر حرام
فقال ابن عباس ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف فكملها عشرين ألفا
فإن كان القتل فى المدينة ففيه وجهان أحدهما أنه يغلظ لانها كالحرم فى تحريم الصيد فكذلك فى تغليظ الدية
والثانى لا تغلظ لانها لا مزية لها على غيرها فى تحريم القتل بخلاف الحرم
واختلف قوله فى عمد الصبى والمجنون فقال فى أحد القولين عمدهما خطأ لانه لو كان عمدا لاوجب القصاص فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة
والثانى أن عمدهما عمد لانه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمدا كالبالغ العاقل فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة وما يجب فيه الدية من الأطراف فهو كالنفس فى الدية المغلظة والدية المخففة لانه كالنفس فى وجوب القصاص والدية فكان كالنفس فى الدية المغلظة والدية المخففة
فصل وتجب الدية من الصنف الذى يملكه من تجب عليه الدية من القاتل أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذى يملكه من تجب عليه الزكاة
وإن كان عند بعض العاقلة من البخاتى وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم من الصنف الذى عنده
وإن اجتمع فى ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان أحدهما أنه يؤخذ من الصنف الأكثر فإن استويا دفع مما شاء منهما
والثانى يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه الزكاة وماله أصناف
وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب إبل البلد
فإن لم يكن فى البلدان وجب من غالب أقرب البلاد إليه كما قلنا فى زكاة الفطر
وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضا أو عجافا كلف أن يشترى إبلا صحاحا من الصنف الذى عنده لانه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب كقيمة الثوب المتلف
وإن أراد الجانى دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الولى على قبوله
وإن أراد الولى أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الجانى على دفعه لان ما ضمن لحق الآدمى ببدل لم يجز الإجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال
وإن تراضيا على العوض جاز لانه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضى كالبدل فى سائر المتلفات
فصل وإن أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان قال فى القديم يجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم
لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فى النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم
وروى ابن عباس رضى الله عنه أن رجلا قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعل النبى صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا فعلى هذا إن كان فى قتل يوجب التغليظ غلظ بثلث الدية لما رويناه عن عمر وعثمان وابن عباس فى تغليظ الدية للحرم
وقال فى الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/196)
ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضى الله عنه فقام عمر خطيبا فقال ألا إن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتى بقرة وعلى أهل الشاء ألفى شاة وعلى أهل الحلل مائتى حلة ولان ما ضمن بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الأمثال
فصل ودية اليهودى والنصرانى ثلث دية المسلم ودية المجوسى ثلثا عشر دية المسلم لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضى الله عنه جعل دية اليهودى والنصرانى أربعة آلاف درهم ودية المجوسى ثمانمائة درهم
وأما الوثنى إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم لانه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه فكانت ديته ثلثى عشر دية المسلم كالمجوسى
وأما من لم تعبلغه الدعوة فإنه إن عرف الدين الذى كان متمسكا به وجبت فيه دية أهل دينه وإن لم يعرف وجبت فيه دية المجوسى لانه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب
وقال أبو إسحاق إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين وإن كان متمسكا بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم لانه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم
والمذهب الأول لانه كافر فلم تكمل ديته كالذمى
وإن قطع يد ذمى ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم لان الاعتبار فى الدية بحال استقرار الجناية وهو فى حال الاستقرار مسلم
وإن جرح مسلم مرتدا فأسلم ومات من الجرح لم يضمن
وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن لان الجرح استقر وهو مسلم
قال أصحابنا هذا من كيس الربيع والمذهب الأول لان الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته كما لو قطع الإمام يد السارق فمات منه
فصل ودية المرأة نصف دية الرجل لانه روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضى الله عنهم
فصل ودية الجنين الحر غرة عبد أو أمة لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو أمة فقال حمل بن النابغة الهذلى كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال النبى صلى الله عليه وسلم إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه
وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاح أو بطن امرأة تجد حركة فى بطنها فسكنت الحركة لم يجب عليه شيء لانه يمكن أن يكون ريحا فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك
وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر فيها صورة الآدمى فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمى وجبت فيها الغرة لانهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن
وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد أربع نسوة أنه خلق آدمى ولو بقى لتصور فعلى ما بيناه فى كتاب عتق أم الولد
وإن ضرب بطن امرأة فألقت يدا أو رجلا أو غيرهما من أجزاء الآدمى وجبت عليه الغرة لانا تيقنا أنه من جنين والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لانه يجوز أن يكون جنينا برأسين أو أربعة أيد فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك
وإن ضرب بطنها فألقت جنينا فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات فى الحال أو بقى متألما إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة
وقال المزنى إن
____________________
(2/197)
ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه دية كاملة لانه لم يتم له حياة وهذا خطأ لانا تيقنا حياته
والظاهر أنه تلف من جنايته فوجب عليه دية كاملة
وإن ألقته حيا وجاء آخر وقتله فإن كان فيه حياة مستقرة كان الثانى هو القاتل فى وجوب القصاص والدية الكاملة والأول ضارب فى وجوب التعزير
وإن قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الأول وتلزمه الدية والثانى ضارب وليس بقاتل لان جنايته لم تصادف حياة مستقرة
وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا وبقى زمانا سالما غير متألم ثم مات لم يضمنه لان الظاهر أنه لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه
وإن ضربها فألقت جنينا فاختلج ثم سكن وجبت فيه الغرة دون الدية لانه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة ويجوز أن يكون بخروجه من مضيق لان اللحم الطري إذا حصل فى مضيق انقبض فإذا خرج منه اختلج فلا تجب فيه الدية الكاملة بالشك
فصل ولا يقبل فى الغرة ماله دون سبع سنين لان الغرة هى الخيار ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة لانه لا يدخل على النساء ولا الجارية بعد عشرين سنة لانها تتغير وتتقص قيمتها فلم تكن من الخيار
ومن أصحابنا من قال يقبل ما لم يطعن فى السن عبدا كان أو أمة ولا يقبل إذا طعن فى السن لانه يستغنى بنفسه قبل أن يطعن فى السن ولا يستغنى إذا طعن فى السن ولا يقبل فيه خصى وإن كثرت قيمته ولا معيب وإن قل عيبه لانه ليس من الخيار ولا يقبل ما إلا يساوى نصف عشر الدية لانه روى ذلك عن زيد بن ثابت رضى الله عنه ولانه لا يمكن إيجاب دية كاملة لانه لم يكمل بالحياة ولا يمكن إسقاط ضمانه لانه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به الأرض وهو نصف عشر الدية لانه قدر به أرش الموضحة ودية السن ولا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها كما لا يقبل فى دية النفس غير الإبل مع وجودها
فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الإبل لان الإبل هى أصل فى الدية فإن أعوزت وجبت قيمتها فى أحد القولين أو خمسون دينارا أو ستمائة درهم فى القول الآخر
فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة وإن كانت عمدا أو عمد خطإ وجبت دية مغلظة كما قلنا فى الدية الكاملة وإن كان أحد أبويه نصرانيا والآخر مجوسيا وجب فيه نصف عشر دية نصرانى لان فى الضمان إذا وجد فى أحد أبويه ما يوجب وفى الآخر ما يسقط غلب الإيجاب ولهذا لو قتل المحرم صيدا متولدا بين مأكول وغير مأكول وجب عليه الجزاء
وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصرانى ثم أسلمت ثم ألقت جنينا ميتا وجب فيه نصف عشر دية مسلم لان الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين مسلم عند استقرار الجناية فوجب فيه نصف عشر دية مسلم وما يجب فى الجنين يرثه ورثته لانه بدل حر فورث عنه كدية غيره
باب أروش الجنايات والجنايات التى توجب الأروش ضربان جروح وأعضاء
فأما الجروح فضربان شجاج فى الرأس والوجه وجروح فيما سواهما من البدن فأما الشجاج فهى عشر الحارصة وهى التى تكشط الجلد
والدامية وهى التى يخرج منها الدم
والباضعة وهى التى تشق اللحم
والمتلاحمة وهى التى تنزل فى اللحم
والسمحاق وهى التى تسميها أهل البلد الملطاط وهى التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم الموضحة وهى التى تكشف عن العظم
والهاشمة وهى التى تهشم العظم
والمنقلة وتسمى أيضا المنقولة وهى التى تنقل العظم من مكان إلى مكان
والمأمومة وتسمى أيضا الآمة وههى التى تصل إلى أم الرأس وهى جلدة رقيقة تحيط بالدماغ
والدامغة وهى التى تصل إلى الدماغ
فصل والذى يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع وهى الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة
فأما الموضحة فالواجب فيها خمس من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وفى الموضحة خمس من الإبل ويجب ذلك فى الصغيرة والكبيرة وفى البارزة والمستورة بالشعر لان اسم الموضحة يقع على الجميع وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين لانهما موضحتان وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة لانه صار الجميع بفعله موضحة واحدة فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز وإن تآكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة لان سراية فعله كفعله وإن أزال المجنى عليه الحاجز وجب على
____________________
(2/198)
الجانى لرش الموضحتين لان ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الأول أرش الموضحتين وعلى الآخر أرش موضحة لان فعل أحدهما لا يبنى على الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذى بينهما فى الباطن وترك الجلد الذى فوقهما ففيه وجهان أحدهما يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما فى الظاهر
والثانى يلزمه أرش موضحة لاتصالهما فى الباطن
وإن شج رأسه شجة واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لانه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة فلان لا يلزمه والإيضاح فى البعض أولى وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون إصبعا ورأس الجانى خمس عشرة إصبعا اقتص فى جميع رأسه وأخذ عن الربع الباقى ربع أرش موضحة
وخرج أبو على بن أبى هريرة وجها آخر أنه يأخذ عن الباقى أرش موضحة لان هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة وهذا خطأ لانه إذا انفرد كان موضحة فوجب أرشها وههنا هو بعض موضحة فلم يجب فيه إلا ما يخصه
فصل ويجب فى الهاشمة عشر من الإبل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت أنه قال فى الهاشمة عشر من الإبل وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه تجب فيه الحكومة لانه كسر عظم من غير إيضاح فأوجب الحكومة ككسر عظم الساق
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه يجب فيه خمس من الإبل وهو الصحيح لانه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الإبل فدل على أن الخمس الزائدة لأجل الهاشمة وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس وإن هشم هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا فى الموضحتين
فصل ويجب فى المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فى المنقلة خمس عشرة من الإبل وإن أوضح رأسه موضحة ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان أحدهما أنه يجب عليه أرش موضحتين لانه أوضح فى عضوين فوجب أرش موضحتين كما لو فصل بينهما
والثانى يجب أرش موضحة لانها موضحة واحدة فأشبه إذا أوضح فى الهامة موضحة ونزل فيها إلى الناصية وإن أوضح فى الرأس موضحة ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة فى الرأس ويجب عليه حكومة فى الجراحة فى القفا لانه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان
فصل ويجب فى المأمومة ثلث الدية لما روى عكرمة بن خالد أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى فى المأمومة بثلث الدية
وأما الدامغة فقد قال بعض أصحابنا يجب فيها ما يجب فى المأمومة
وقال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردى البصرى يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لان خرق الجلد جناية بعد المأمومة فوجب لاجلها حكومة
فصل وإن شج رأس رجل موضحة فجاز آخر فجعلها هاشمة وجاء آخر فجعلها منقلة وجاء آخر فجعلها مأمومة وجب على الأول خمس من الإبل وعلى الثانى خمس وعلى الثالث خمس وعلى الرابع ثمان عشر بعيرا وثلث لان ذلك جناية كل واحد منهم
فصل وأما الشجاج التى قبل الموضحة وهى خمسة الخارصة والدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كانت فى الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلث أو ربع وجب عليه قدر ذلك من أرش الموضحة لانه يمكن تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها وإن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة لان تقدير الأرش بالشرع ولم يرد الشرع بتقدير الأرش فيما دون الموضحة وتعذر معرفة قدرها من الموضحة فوجبت فيها الحكومة
فصل وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان
جائفة وغير جائفة فأما غير الجائفة فهى الجراحات التى لا تصل إلى جوف والواجب فيها الحكومة
فإن أوضح عظما فى غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لانها لا تشارك نظائرها من الشجاج التى فى الرأس والوجه فى الاسم ولا تساويها فى الشين والخوف عليه منها فلم تساوها فى تقدير الأرش
____________________
(2/199)
وأما الجائفة وهى التى تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر فالواجب فيها ثلث الدية لما روى فى حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فى الجائفة ثلث الدية فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز وجب فى كل واحدة منهما ثلث الدية
وإن أجاف جائفة فجاز آخر ووسعها فى الظاهر والبطن وجب على الثانى ثلث الدية لان هذا القدر لو انفرد لكان جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها فى الظاهر دون الباطن أو فى الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة لان جنايته لم تبلغ الجائفة
وإن جرح فخذه وجر السكين حتى بلغ الورك وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه وجب عليه أرش الجائفة وحكومة فى الجراحة لان الجراحة فى غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن نزل فى موضحة الرأس إلى القفا
وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه وجب عليه فى الداخل إلى الجوف أرش الجائفة لانها جائفة وفى الخارج منه إلى الظاهر وجهان أحدهما وهو المنصوص أنه جائفة ويجب فيها أرش جائفة أخرى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضى الله عنه قضى فى الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان ولانها جراحة نافذة إلى الجوف فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف
والثانى ليس بجائفة ويجب فيها حكومة لان الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف وهذه خرجت من الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومة
فصل وإن طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان أحدهما إنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية لانها جراحة من ظاهر إلى جوف فأشبهت الجراحة الواصلة إلى الباطن
والثانى أنه ليس بجائفة لانه لا تشارك الجائفة فى إطلاق الاسم ولا تساويها فى الخوف عليه منها فلم تساوها في أرشها فعلى هذا يجب عليه دية هاشمة لانه هشم العظم ويجب عليه حكومة لما زاد على الهاشمة
فصل وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل الالتحام لم يلزمه أرش لانه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة
وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة لانه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لانها دخلت فى أرش الجائفة وإن كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومة لجنايته على ما التحم وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لانها دخلت فى الحكومة
فصل وإن أدخل خشبة أو حديدة فى دبر إنسان فخرق حاجزا فى الباطن ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين فى الباطن
أحدهما يلزمه أرش جائفة لانه خرق حاجزا إلى الجوف
والثانى تلزمه حكومة لبقاء الحاجز الظاهر
فصل وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها لزمته حكومة لانه إتلاف ( حاجز ) وليس فيه أرش مقدر فوجبت فيه الحكومة
وإن أذهبها بالوطء لم يلزمه أرش لانها إن طاوعته فقد أذنت فيه وإن أكرهها دخل أرشها فى المهر لانا نوجب عليه مهر بكر
فصل وأما الأعضاء فيجب الأرش فى إتلاف كل عضو فيه منفعة أو جمال فيجب فى إتلاف العينين الدية وفى أحدهما نصفها لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى كتاب كتبه لعمرو بن حزم هذا كتاب الجروح فى النفس مائة من الإبل وفى العين خمسون من الإبل فأوجب فى كل عين خمسين من الإبل فدل على أنه يجب فى العينين مائة ولانها من أعظم الجوارح جمالا ومنفعة ويجب فى عين الأعور نصف الدية للخبر ولان ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كاليد وإن جنى على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية لانه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته كما لو جنى على يده فشلت وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية لان ما أوجب الدية فى إتلافهما أوجب نصف الدية فى إتلاف إحداهما كاليدين وإن أزال الضوء فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لانه لما عاد علمنا أنه لم يذهب لان الضوء إذا ذهب لم يعد
وإن زال الضوء فشهد ( رجلان ) عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده فإن لم يقدر لعوده مدة معلومة لم ينتظر لان الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدى إلى إسقاط موجب الجناية
وإن قدر مدة معلومة انتظر وإن عاد الضوء لم يجب شيء وإن لم يعد أخذ الجانى بموجب الجناية من القصاص أو الدية
وإن مات قبل انقضاء المدة لم يجب القصاص لانه موضع شبهة لانه يجوز ألا يكون بطل الضوء ولعله لو عاش لعاد
____________________
(2/200)
والقصاص يسقط بالشبهة وأما الدية فقد قال فيمن قلع سنا وقال أهل الخبرة يرجى عوده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن فى الدية قولين أحدهما تجب لانه أتلف ولم يعد
والثانى لا تجب لانه لم يتحقق الإتلاف ولعله لو بقى لعاد فمن أصحابنا من جعل فى دية الضوء قولين ومنهم من قال تجب دية الضوء قولا واحدا لان عود الضوء غير معهود بخلاف السن فإن عودها معهود
فصل فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منهما فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها لانه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه وإن لم يعرف قدر النقصان بأن ساء إدراكه وجبت فيه الحكومة لانه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة وإن نقص الضوء فى إحدى العينين عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص فى موضع يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول لا أراه ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها
فصل وإن جنى على عين صبى أو مجنون فذهب ضوء عينه وقال أهل الخبرة قد زال الضوء ولا يعود ففيه قولان أحدهما أنه لا يجب عليه فى الحال شيء حتى يبلغ الصبى ويفيق المجنون ويدعى زوال الضوء لجواز ألا يكون الضوء زائلا
والقول الثانى أنه يجب القصاص أو الدية لان الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها
فصل وإن جنى على عين فشخصت أو احولت وجبت عليه حكومة لانه نقصان جمال من غير منفعة فضمن بالحكومة وإن أتلف عينا قائمة وجبت عليه الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة
فصل ويجب فى الجفون الدية لان فيها جمالا كاملا ومنفعة كاملة لانها تقى العين من كل ما يؤذيها ويجب فى كل واحد منها ربع الدية لانه محدود لانه ذو عدد تجب الدية فى جميعها فوجب فى كل واحد منها ما يخصها من الدية كالأصابع وإن قلع الأجفان والعينين وجب عليه ديان لانهما جنسان يجب بإتلاف كل واحد منهما الدية فوجب بإتلافهما ديان كاليدين والرجلين فإن أتلف الأهداب وجبت عليه الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فضمن بحكومة وإن قلع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان أحدهما لا يجب للأهداب حكومة لانه شعر نابت فى العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر الذراع
والثانى يجب للأهداب حكومة لان فيها جمالا ظاهرا فأفردت عن العضو بالضمان
فصل ويجب فى الأذنين الدية وفى أحدهما نصفها لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب فى كتاب عمرو بن حزم فى الأذن خمسون من الإبل فأوجب فى الأذن خمسين من الإبل فدل على أنه يجب فى الأذنين مائة ولان فيها جمالا ظاهرا ومنفعة مقصودة وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى الدماغ فوجب فيها الدية كالعين وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه لان ما وجبت الدية فيه وجبت فى بعضه بقسطه كالأصابع وإن ضرب أذنه فاستحشفت ففيه قولان أحدهما تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت
والثانى تجب عليه الحكومة لانه منفعة الأذن جمع الصوت وذلك لا يزول بالاستحشاف بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل وإن قطع أذنا مستحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية وجب فى المستحشفة الحكومة كما لو قطع يدا شلاء وإن قلنا إنه تجب عليه الحكومة وجب فهى المستحشفة الدية كما لو قطع يدا مجروحة فإن قطع أذن الأصم وجبت عليه الدية لان عدم السمع نقص فى غير الأذن فلا يؤثر فى دية الأذن
فصل ويجب فى السمع الدية لما روى أبو المهلب عن أبى قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر فى رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضى الله عنه بأربع ديات والرجل حى ولانها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت حاسة البصر وإن أذهب السمع فى أحد الأذن وجب نصف الدية لان كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها فى أحدهما كالأذنين وإن قطع
____________________
(2/201)
الأذنين وذهب السمع وجب عليه ديتان لان السمع فى غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما فى الآخر وإن جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لانه لم يذهب السمع لانه لو ذهب لما عاد وإن ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة فالحكم فيه كالحكم فى العين إذا ذهب ضوؤها فشهد شاهدان أنه يرجى عوده وقد بيناه وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص فإن عرف القدر الذى نقص بأن كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية بقسطه وإن لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومة وإن نقص السمع فى أحد الأذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة ويؤمر رجل حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع ثم تمسح المسافة ثم تطلق العليلة وتسد الصحيحة ثم يصيح الرجل ثم لا يزال يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين ويجب من الدية بقسطه
فصل ويجب فى مارن الأنف الدية لما روى طاوس قال كان فى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأنف إذا أوغب مارنه جدعا الدية ولانه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة ولانه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب إلى الدماغ والأخشم كالأشم فى وجوب الدية لان عدم الشم نقص فى غير الأنف فلا يؤثر فى دية الأنف ويخالف العين القائمة فإن عدم البصر نقص فى العين فمنه من وجوب الدية فى العين وإن قطع جزءا من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره لان ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالأصابع
وإن قطع أحد المنخرين ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أن عليه نصف الدية لانه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة
والثانى يجب عليه ثلث الدية لان المارن يشتمل على ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز فوجب فى كل واحد من المنخرين ثلث الدية
وإن قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية للحاجز وعلى الوجه الثانى يجب عليه ثلثا الدية ثلث للحاجز وثلث للمنخر
وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة
وإن قطع المارن وقصبة الأنف وجب عليه الدية فى المارن والحكومة فى القصبة لان القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع مع الكف وإن جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على الأذن حتى استحشف أحدهما تجب عليه الدية
والثانى تجب عليه الحكومة وقد مضى وجههما فى الأذن
فصل وتجب بإتلاف الشم الدية لانها حاسة تختص بمنفعة مقصودة فوجب بإتلافها الدية كالسمع والبصر
وإن ذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب فى إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنين
وإن جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص وإن أمكن أن يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره
وإن لم يمكن معرفة قدره وجبت فيه الحكومة لما بيناه فى نقصان السمع
وإن ذهب الشم وأخذت ( فيه ) الدية ثم عاد وجب رد الدية لانا تبينا أنه لم يذهب وإنما حال دونه حائل لانه لو ذهب لم يعد
فصل وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب فى كتاب عمرو بن حزم وفى العقل الدية ولان العقل أشرف من الحواس لان به يتميز الإنسان من البهيمة وبه يعرف حقائق المعلومات ويدخل فى التكليف فكان بإيجاب الدية أحق وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوما ويفيق يوما وجب عليه من الدية بقدره لان ما وجبت فيه الدية وجب بعضها فى بعضه كالأصابع وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود وجبت فيه الحكومة لانه تعذر إيجاب جزء مقدر من الدية فعدل إلى الحكومة
فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت فإن بلغ الأرش قدر الدية أو أكثر لم يدخل فى دية العقل ولم تدخل فيه دية العقل لما روى أبو المهلب عم أبى قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر فى رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ( ونكاحه ) فقضى فيه عمر رضى الله عنه بأربع ديات وهو حى
وإن كان الأرش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان قال فى القديم يدخل فى دية العقل لانه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش الطرف فى ديته كالنفس
وقال فى الجديد لا يدخل وهو الصحيح لانه لو دخل فى ديته ما دون الدية لدخلت فيها الدية كالنفس ولان العقل فى محل والجناية فى محل آخر فلا يدخل أرشها فى ديتها كما لو أوضح
____________________
(2/202)
رأسه فذهب بصره
وإن شهر سيفا على صبى أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه الدية لان ذلك سبب لزوال عقله
وإن شهر سيفا على بالغ متيقظ أو صاح عليه فزال عقله لم تجب عليه الدية لان ذلك ليس بسبب لزوال عقله
فصل ويجب فى الشفتين الدية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب فى كتاب عمرو بن حزم فى الشفتين الدية ولان فيهما جمالا ظاهرا ومنافع كثيرة لانهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه ويردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام ويجب فى إحداهما نصف الدية لان كل شيئين وجب فيهما الدية وجب فى أحدهما نصف الدية كالعينين والأذنين
وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره كما قلنا فى الأذن والمارن
وإن جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية لانه أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية كما لو جنى على يديه فشلتا فإن تقلصتا وجبت عليه الحكومة لان منافعهما لم تبطل وإنما حدث بهما نقص
فصل ويجب فى اللسان الدية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب فى كتاب عمرو بن حزم وفى اللسان الدية ولان فيه جمالا ظاهرا ومنافع فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الإنسان والدليل عليه ما روى محمد بن على بن الحسين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للعباس أعجبنى جمالك يا عم النبى فقال يا رسول الله وما الجمال فى الرجل قال اللسان ويقال المرء بأصغريه قلبه ولسانه
ويقال ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة
وأما المنافع فإنه يبلغ به الأغراض ويقضى به الحاجات وبه تتم العبادات فى القراءة والأذكار وبه يعرف ذوق الطعام والشراب ويستعين به فى مضغ الطعام
وإن بنى عليه فخرس وجبت الدية لأنه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه إذا جنى على اليد فشلت أو على العين فعميت وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدره لان ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه ببعضها كالأصابع ويقسم على حروف كلامه لان حروف اللغات مختلفة الأعداد فإن فى ( بعض ) اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفا ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفا فإن كان المجنى عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفا
وقال أبو سعيد الإصطخرى يقسم على حروف اللسان وهى ثمانية عشر حرفا ويسقط حروف الحلق وهى ستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين
ويسقط حروف الشفة وهى أربعة الباء والميم والفاء والواو
والمذهب الأول لان هذه الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذى ينطق بها هو اللسان ولهذا لا ينطق بها الأخرس
وإن ذهب حرف من كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لان الضمان يجب لما تلف
وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف الذى ذهب لان ما ابتدل به لا يقوم مقام الذاهب
وإن جنى عليه فحصل فى لهسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية لان المنفعة باقية وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين
فصل وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه وجب عليه ربع الدية
وإن قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه وجب عليه نصف الدية لان الذى فات من العضو والكلام سواء فى القدر فوجب من الدية بقدر ذلك فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الدية
وإن قطع نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية واختلف أصحابنا فى علته فمنهم من قال العلة فيه أن ما يتلف من اللسان مضمون وما يذهب من الكلام مضمون وقد اجتمعا فوجب أكثرهما
وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان إلا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من اللسان فوجب عليه نصف الدية ربعها بالقطع وربعها بالشلل
فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف الكلام وقطع آخر ما بقى من اللسان وجب عليه على ( تعليل ) الأول ثلاثة أرباع الدية اعتبارا بما بقى من اللسان ويجب عليه على تعليل أبى إسحاق نصف الدية وحكومة لانه قطع من اللسان نصفا صحيحا وربعا أشل
وإن قطع واحد نصف لسانه وذهب ربع الكلام وجاء الثانى وقطع الباقى
____________________
(2/203)
وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتبارا بما ذهب من الكلام
ويجب عليه على تعليل أبى إسحاق نصف الدية اعتبارا بما قطع من اللسان
وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه فقد استوفى المجنى عليه حقه وإن ذهب ربع كلامه أخذ المجنى عليه مع القصاص ربع الدية لتمام حقه فإن ذهب بالقصاص ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة لانه ذهب بقود مستحق
فصل وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب كلامه وجبت عليه الدية وإن ذهب نصفه وجب عليه نصف الدية وإن ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية وإن لنم يذهب من الكلام شيء نظرت فإن كانا متساويين فى الخلقة فهما كاللسان المشقوق ويجب بقطعهما الدية وبقطع أحدهما نصف الدية وإن كان أحدهما تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الأصلى والآخر خلقة زائدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة وإن قطع التام وجبت عليه دية وإن قطع الناقص وجبت عليه حكومة
فصل وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشىء من المذاق وهى خمسة الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة العذوبة وجبت عليه الدية لانه أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية كما لو أتلف عليه السمع أو البصر
وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر بأن كان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كمالها وجبت عليه والحكومة لانه نقص لا يمكن تقدير الأرش فيه فوجبت فيه حكومة
وإن كان نقصا يتقدر بألا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقى وجب عليه خمس الدية
وإن لم يدرك اثنين وجب عليه خمسان لانه يتقدر المتلف فيقدر الأرش
فصل وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقى بعد القطع ذوقه وجبت عليه الحكومة لانه عضو بطلت منفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد الشلاء
وإن ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق
وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله بابا وماما وجبت عليه الدية لانه لسان ناطق
وإن لم يكن تحرك بالبكاء ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حدا يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام وجبت الحكومة لان الظاهر أنه لم يكن ناطقا لانه لو كان ناطقا لتحرك بما يدل عليه
وإن قطعه قبل أن يمضى عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه الدية لان الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه وإن لم يظهر فيها بطش
فصل وإن قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه فقد قال فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه إنه على قولين أحدهما يرد الدية
والثانى لا يرد فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضا على قولين وهو قول أبى إسحاق لانه إذا كان فى السن التى لا تنبت فى العادة إذا نبتت قولان وجب أن يكون فى اللسان أيضا قولان ومنهم من قال لا يرد الدية فى اللسان قولا واحدا وهو قول أبى على بن أبى هريرة
والفرق بينه وبين السن أن فى جنس السن ما يعود وليس فى جنس اللسان ما يعود فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف عليه
وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب رد الدية قولا واحدا لان الكلام إذا ذهب لم يعد فلما عاد علمنا أنه لم يذهب وإنما امتنع لعارض
فصل ويجب فى كل سن خمس من الإبل لما روى عمر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفى السن خمس من الإبل والأنياب والأضراس والثنايا والرباعيات فى ذلك سواء للخبر ولانه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالأصابع
وإن قلع ما ظهر وخرج من لحم اللثة وبقى السنخ لزمه دية السن لان المنفعة والجمال فيما ظهر فكملت ديته كما لو قطع الأصابع دون الكف فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب وجبت عليه حكومة لانه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة كما لو قطع الكف بعدما قطع الأصابع
وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من السنخ حكومة لان السنخ تابع لما ظهر فدخل فى ديته كالكف إذا قطع مع الأصابع
وإن كسر بعض السن طولا أو عرضا وجب عليه من دية السن بقدر ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع لان ما وجب فى جميعه الدية وجب فى بعضه من الدية بقدره
____________________
(2/204)
كالأصابع ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب لان الدية تكمل بقطع الظاهر فاعتبر المكسور منه فإن ظهر السنخ المغيب بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهرا قبل العلة لا بما ظهر بالعلة لان الدية تجب فيما كان ظاهرا فاعتبر القدر المكسور منه
فصل وإن قلع سنا فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجبت فيها دية السن كاليد المريضة وإن ذهب من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقى فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين أقصر من الأخرى فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر ما نقص منها لانهما لا يختلفان فى العادة فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها
وإن قلع سنا مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتها من المضغ وحفظ الطعام والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال وإن ذهبت منافعها وجبت فيها الحكومة لانه لم يبق غير الجمال فلم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء وإن نقصت منافعها فذهب بعضها وبقى البعض ففيه قولان أحدهما يجب فيها الدية لان الجمال تام والمنفعة باقية
وإن كانت ضعيفة فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة
والثانى يجب فيها الحكومة لان المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص فوجب فيها الحكومة
وإن ضرب سنه فاصفرت أو احمرت وجبت فيها الحكومة لان منافعها باقية وإنما نقص بعض جمالها فوجب فيها الحكومة فإن ضربها فاسودت فقد قال فى موضع تجب فيها الحكومة وقال فى موضع تجب الدية وليست على قولين وإنما هى على اختلاف حالين فالذى قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة والذى قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة وذكر المزنى أنها على قولين واختار أنه يجب الحكومة والصحيح هو الطريق الأول
فصل وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة وجب لكل سن خمس من الإبل فيجب فى أسنانه وهى اثنان وثلاثون سنا مائة وستون بعيرا
وإن قلعها فى دفعة واحدة ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجب عليه أكثر من دية لانه جنس ذو عدد فلم يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين
والثانى أنه يجب فى كل سن خمس من الإبل وهو المذهب لحديث عمرو بن حزم ولان ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره إليه كالموضحة
فصل إذا قلع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شيء فى الحال لان العادة فى سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شيء فى الحال كما لو نتف شعره فإن نبت له مثلها فى مكانها لم يلزمه ديتها وهل تلزمه حكومة فيه وجهان أحدهما لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله
والثانى تلزمه حكومة الجرح الذى حصل بالقلع
وإن لم تنبت له ووقع الإياس من نباتها وجبت ديتها لانا تحققنا إتلاف السن
وإن مات قبل الإياس من نباتها ففيه قولان أحدهما يجب عليه دية السن لانه قلع سنا لم تعد
والثانى لا يجب لان الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته
وإن نبتت له سن خارجة عن صف الأسنان فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها وإن كانت بحيث لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الأسنان فإن نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لانه نقص بجنايته فصار كما لو كسر بعض سن وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شيء وإن حصل بها شين لان الزيادة لا تكون من الجناية
وقال الشيخ الإمام ) ويحتمل عندى أنه تلزمه الحكومة للشين الحاصل بطولها كما تلزمه فى الشين الحاصل بقصرها لان الظاهر أن الجميع حصل بسبت قلع السن
وإن نبتت له سن صفراء أو سن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال فإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها فى الحال لان الظاهر أنه لا ينبت له مثلها فإن أخذ الدية ثم نبت له مثلها فى مكانها ففيه قولان أحدهما يجب رد الدية لانه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذى لم يثغر
والثانى أنه لا يجب رد الدية لان العادة جرت فى سن من ثغر أنه لا يعود فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه
فصل ويجب فى اللحيين الدية لان فيهما جمالا وكمالا ومنفعة كاملة فوجبت فيهما الدية كالشفتين
وإن قلع أحدهما وتماسك الآخر وجب عليه نصف الدية لانهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية فى أحدهما كالشفتين واليدين
وإن قلع اللحيين مع الأسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الأسنان ولا تدخل دية أحدهما فى الآخر لانهما جنسان مختلفان فيجب فى كل
____________________
(2/205)
دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما فى دية الأخرى كالشفتين مع الأسنان وتخالف الكف مع الأصابع فإن الكف تابع للأصابع فى المنفعة واللحيان أصلان فى الجمال والمنفعة فهما كالشفتين مع الأسنان
فصل ويجب فى اليدين الدية لما روى معاذ رضى الله عنه أن النبى قال فى اليدين الدية ويجب فى إحداهما نصف الدية لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران فى اليد خمسون من الإبل واليد التى تجب فيها الدية هى الكف فإن قطع الكف وجبت الدية وإن قطع من نصف الذراع أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب وجبت الدية فى الكف ووجب فيما زادا الحكومة
وقال أبو عبيد بن حرب الذى تجب فيه الدية هو اليد من المنكب لان اليد اسم للجميع والمذهب الأول لان اسم اليد يطلق على الكف والدليل عليه قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } والمراد به الكف ولان المنفعة المقصودة من اليد هو البطش والأخذ والدفع وهو بالكف وما زاد تابع للكف فوجبت الدية فى الكف والحكومة فيما زاد
ويجب فى كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن فى كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل ولا يفضل إصبع على إصبع لما ذكرناه من الخبر ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل ولانه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كاليدين ويجب فى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع وفى كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لانه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع وجب أن يقسم دية الأصبع على عدد الأنامل
فصل وإن جنى على يد فشلت أو على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ما يجب فى قطعها لان المقصود بها هو المنفعة فوجب فى إتلاف منفعتها ما وجب فى إتلافها
وإن قطع يدا شلاء أو إصبعا شلاء أو أنملة شلاء وجب عليه الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة
فصل ويجب فى الرجلين الدية لما روى معاذ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الرجلين الدية ويجب فى إحداهما نصف الدية لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الرجل نصف الدية والرجل التى يجب فى قطعها نصف الدية فإن قطع من الساق أو من الركبة أو من بعض الفخذ أو من أصل الفخذ وجبت الدية فى القدم ووجبت الحكومة فيما زاد لما ذكرناه فى اليد
ويجب فى كل إصبع من أصابع الرجل عشر الدية لما ذكرناه فى اليد من حديث عمرو بن حزم
ويجب فى كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الإصبع وفى كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لما ذكرناه فى اليد
فصل ويجب فى قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سليمتين الدية لان العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص في القدم والعسم لقصد العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس بنقص فى الكف فلم يمنع كمال الدية فى القدم والكف كذكر الخصى وأذن الأصم وأنف الأخشم
فصل إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو ( خلع كفه ) فاعوجت ثم جبرها فجبرت وعادت مستقيمة وجبت الحكومة لانه حصل به نقص وإن لم تعد إلى ما كانت كانت الحكومة أكثر لان النقص أكثر فإن قال الجانى أنا أعيد خلعها وأعيدها مستقيمة منع من ذلك لانه استئناف جناية أخرى فإن كابره وخلعه فعاد مستقيما وجب عليه بهذا الخلع حكومة ولا يسقط ما وجب من الحكومة الأولى لانها حكومة استقرت بالجناية وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر فلم يسقط ما وجب ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد لانا نتيقن أن الضوء لم يذهب
فصل وإن كان لرجل كفان من ذراع فإن لم يبطش بواحد منهما لم يجب فيهما قود ولا دية لان منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء ويجب فيهما حكومة لان فيهما جمالا
وإن كان أحدهما يبطش دون ( الآخر ) فالذى يبطش به هو الأصلى فيجب
____________________
(2/206)
فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن كان أحدهما أكثر بطشا كان الأصلى هو أكثرهما بطشا سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفا عنه لان الله تعالى جعل البطش فى الأصلى فوجب أن يرجع فى الاستدلال عليه إليه كما يرجع فى الخنثى إلى بوله
وإن استويا فى البطش فإن كان أحدهما على مستوى الذراع والآخر منحرفا عن مستوى الذراع فالأصلى هو الذى على مستوى الذراع فيجب فيه القود أو الدية
ويجب فى الآخر الحكومة
فإن استويا فى ذلك فإن كان أحدهما تام الأصابع والآخر ناقص الأصابع فالأصلي هو التام الأصابع فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة
وإن استويا في تمام الأصابع إلا أن فى أحدهما زيادة إصبع لم ترجح الزيادة ولانه قد يكون الإصبع الزائدة فى غير اليد الأصلية فإذا استويا فى الدلائل فهما يد واحدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الدية ووجب عليه للزيادة حكومة
فإن قطع إحداهما لم يجب القود لعدم المماثلة وعليه نصف دية يد وزيادة حكومة لانها نصف يد زائدة
وإن قطع إصبعا من إحداهما فعليه نصف دية إصبع وزيادة حكومة لانها نصف إصبع زائدة
وإن قطع أنملة إصبع من إحداهما ( وجب ) عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومة لانها نصف أنملة زائدة
فصل ويجب فى الأليتين الدية لان فيهما جمالا كاملا ومنفعة كاملة فوجب فيهما الدية كاليدين
ويجب فى إحداهما نصف الدية لان ما وجبت الدية فى اثنين منه وجب نصفها فى أحدهما كاليدين
وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره وإن جهل قدره وجبت فيه الحكومة
فصل وإن كسر صلبه انتظر فإن جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة الكسر وإن احدودب لزمه حكومة للشين الذى حصل به وإن ضعف مشيه أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه وإن عجز عن المشى وجبت عليه الدية لما روى الزهرى عن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة أن فى الصلب الدية وفى اللسان الدية وفى الذكر الدية وفى الأنثيين الدية ولانه أبطل عليه منفعة مقصودة فوجبت عليه الدية وإن كسر صلبه وعجز عن الوطء وجبت عليه الدية لانه أبطل عليه منفعة مقصودة وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان أحدهما لا تلزمه إلا دية واحدة لانهما منفعتا عضو واحد
والثانى يلزمه ديتان وهو ظاهر النص لانه يجب فى كل واحد منهما الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه أو قطع أنفه فذهب شمه
فصل ويجب فى الذكر الدية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفى الذكر الدية ويجب ذلك فى ذكر الشيخ والطفل والخصى والعنين لان العضو فى نفسه سليم ولا تجب فى ذكر أشل لانه بطلت منفعته فلم تكمل ديته ويجب فيه الحكومة لانه أتلف عليه جماله وإن جنى على ذكره فشل وجبت ديته لان المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب فى إتلاف منفعته ما وجب فى إتلافه
وإن قطع الحشفة وجبت الدية لان منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع فكملت الدية بقطعها
وإن قطع الحشفة وجاء آخر فقطع الباقى وجبت ( فيه ) حكومة كما لو قطع الأصابع وجاء آخر وقطع الكف
وإن قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها
وهل تتقسط على الحشفة وحدها أو على جميع الذكر فيه قولان أحدهما تقسط على الحشفة لان الدية تكمل بقطعها فقسطت عليها كدية الأصابع والثانى يقسط على الجميع لان الذكر هو الجميع فقسطت الدية على الجميع
فصل ويجب فى الأنثيين الدية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفى الأنثيين الدية ويجب فى أحدهما نصف الدية لان ما وجب فى اثنين منه الدية وجبت فى أحدهما نصفها كاليد
فصل وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والأعضاء ففيه قولان قال فى القديم تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت على ذلك كانت المرأة على النصف من الرجل لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال تستوى دية الرجل والمرأة إلى ثلث الدية ويختلفان فيما سوى ذلك
وقال فى الجديد هى على النصف من الرجل فى جميع الأروش وهو الصحيح لانهما شخصان مختلفان فهى دية النفس فاختلفا فى أروش الجنايات كالمسلم والكافر ولانه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل فى أرشها كقطع اليد والرجل
وقول ابن عمر يعارضه قول على كرم الله وجهه فى جراحات الرجال والنساء سواء على النصف فيما قل أو كثر
____________________
(2/207)
فصل ويجب فى ثديى المرأة الدية لان فيهما جمالا ومنفعة فوجب فيهما الدية كاليدين والرجلين ويجب فى إحداهما نصف الدية لما ذكرناه فى الأنثيين وإن جنى عليهما فشلتا وجبت عليه الدية لان المقصود بالعضو هو المنفعة فكان إتلاف منفعته كإتلافه وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة لانه نقص جمالهما وإن كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لانه قطع اللبن بجنايته وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة
وإن قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة لجواز أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب الحكومة بالشك
وتجب الدية فى حلمتيهما وهو رأس الثدى لان منفعة الثديين بالحلمتين لان الصبى بها ( يمص ) اللبن وبذها بهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما ما يجب فى الثديين كما يجب فى الأصابع ما يجب فى الكف
وأما حلمتا الرجل فقد قال فى موضع يجب فيه حكومة وقال فى موضع قد قيل إن فيهما الدية فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما تجب فيهما الدية لان ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه الدية من الرجل كاليدين
والثانى وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة
ومنهم من قال يجب فيه الحكومة قولا واحدا وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره
فصل ويجب فى إسكتى المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج الدية لان فيهما جمالا ومنفعة فى المباشرة ويجب فى أحدهما نصف الدية لان كل ما وجب فى اثنين منه الدية وجب فى أحدهما نصفها كاليدين
فصل قال الشافعى رحمه الله إذا وطىء امرأة فأفضاها وجبت عليه الدية
واختلف أصحابنا فى الإفضاء فقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذى بين الفرج وثقبة البول وهو قول الشيخ أبى حامد الإسفرايينى رحمة الله عليه
وقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذى بين الفرج والدبر وهو قول أبى على بن أبى هريرة وشيخنا القاصى أبى الطيب الطبرى لان الدية لا تجب إلا بتلاف منفعة كاملة ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المنفعة وإنما تنقص بها المنفعة فلا يجوز أن يجب بها دية كاملة
وإن أفضاها واسترسل البول وجب مع دية الإفضاء حكومة للنقص الحاصل باسترسال البول
وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت الحكومة دون الدية
وإن أجاف جائفة والتأمت لم يسقط أرشها والفرق بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالالتئام ودية الإفضاء وجبت بإزالة الحاجز وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية
فصل ولا يجب فى إتلاف الشعور غير الحكومة لانه إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب فيه غير الحكومة كإتلاعف العين القائمة واليد الشلاء
فصل ويجب فى تعويج الرقبة وتصعير الوجه الحكومة لانه إذهاب جمال من غعير منفعة فوجبت فيه الحكومة فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعا فقد قال فى موضع آخر يجب فيه جمل وقال فى موضع تجب فيه الحكومة
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق وأبو على بن أبى هريرة تجب فيه الحكومة قولا واحدا والذى قال فيه جمل أراد على سبيل الحكومة لان تقدير الأرش لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل وليس فى هذا نص ولا له أصل يقاس عليه وقال المزنى وغيره هو على قولين وهو الصحيح أحدهما أنه يجب فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر عن عمر رضى الله عنه
أنه قضى فى الترقوة بجمل وفى الضلع بجمل وقول الصحابى فى قوله القديم
____________________
(2/208)
حجة تقدم على القياس
والقول الثانى وهو الصحيح أنه يجب فيه حكومة لانه كسر عظم فى غير الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق وما روى عن عمر يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومة ولان قول الصحابى ليس بحجة فى قوله الجديد
فصل وإن لطم رجلا أو لكمه أو ضربه بمثقل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لانه لم يحصل به نقص فى جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش وإن حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين
فإن قضى فيه بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض وإن فزع إنسان فأحدث فى الثياب لم يلزمه ضمان مال لان المال إنما يجب فى الجناية إذا أحدثت نقصا فى جمال أو منفعة ولم يوجد شيء من ذلك
فصل إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت فإن كان حصل بها نقص فى منفعة أو جمال وجبت فيها حكومة وهو أن يقوم المجنى عليه قبل الجناية ثم يقوم بعد اندمال الجناية فإن نقص العشر من قيمته وجب العشر من ديته وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته لانه ليس فى أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم وهذا كما قلنا فى المحرم إذا قتل صيدا وليس فى جزائه نص أنه يرجع إلى ذوى عدل فى معرفة مثله إن كان له مثل من النعم أو إلى قيمته إذا لم يكن له مثل ويجب القدر الذى نقص من قيمته من الدية لان النفس مضمونة بالدية فوجب القدر الناقص منها كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب ثم ( يؤخذ ) القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضمونا بالثمن
وقال أصحابنا يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجنى عليه لا من دية النفس
فإن كان الذى نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية اليد وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الإصبع وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة وجب عشر أرش الموضحة وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب عشر أرش الجائفة لانا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمن أن تزيد الحكومة فى عضو على دية العضو
والمذهب الأول وعليه التفريع لانه لما وجب تقويم النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس ولان اعتبار النقص من دية العضو يؤدى إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الأرشان بأن تكون الحكومة فى السمحاق فتوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة مع قربها منها
فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومة فيها أرش الإصبع أو على الرأس فبلغت الحكومة فيها أرش الموضحة نقص الحاكم من أرش الإصبع ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدى إليه الاجتهاد لانه لا يجوز أن يكون فيما دون الإصبع الموضحة ما يجب فيها
وإن كانت الجناية فى الكف فبلغت الحكومة أرش الأصابع نقص شيئا من أرش الأصابع لان الكف تابع للأصابع فى الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب فى الأصابع
فصل وإن لم يحصل بالجناية نقص فى جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعا زائدة أو قلع سنا زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى العباس بن سريخ أنه لا شيء عليه لانه جناية لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش كما لو لطم وجهه فلم يؤثر
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه يجب فيه الحكومة لانه إتلاف جزء من مضمون فلا يجوز أن يعرى من أرش فعلى هذا إن كان قد قطع أصبعا زائدة قوم المجنى عليه قبل الجناية ثم يقوم فى أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الدية لانه لما سقط اعتبار قيمته بعد الاندمال قوم فى أقرب الأحوال إليه وهذا كما قلنا فى ولد المغرور بها لما تعذر تقويمه حال العلوق قوم فى أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق وهو عند الوضع
فإن قوم ولم ينقص قوم قبيل الجناية ثم يقوم والدم جار لانه لا بد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه فيجب بقدر ما بينهما من الدية
وإن قلع سنا زائدة ولم تنقص قيمته قوم وليس له خلف الزائدة سن أصلية ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة ويجب بقدر ما بينهما من الدية وإن أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلا وله لحية ثم يقوم ولا لحية له ويجب بقدر ما بينهما من الدية
فصل وإن جنى على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال دخل أرش الجناية فهى دية النفس
وقال أبو سعيد الإصطخرى لا يدخل لان الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله
والمذهب الأول لانه مات بفعله قبل استقرار الأرش فدخل فى ديته كما لو مات من سراية الجناية
ويخالف إذا اندملت فإن هناك استقر الأرش فلم تسقط
____________________
(2/209)
فصل ويجب فى قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لانه مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمى بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال
وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالأنف واللسان والذكر والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته
وما ضمن من الحر بجزء من الدية كاليد والإصبع والأنملة والموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمة لانهما متساويان فى ضمان الجناية بالقصاص والكفارة فتساويا فى اعتبار ما دون النفس ببدل النفس كالرجل والمرأة والمسلم والكافر
فصل وإن قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه دية حر لان الجناية استقرت فى حال الحرية ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من أرش الجناية وهو نصف القيمة أو كمال الدية فإن كان نصف القيمة أقل لم يستحق أكثر منه لانه هو الذى وجب فى ملكه والزيادة حصلت فى حال لا حق له فيها
وإن كانت الدية أقل لم يستحق أكثر منها لان ما نقص من نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق
فصل وإن فقأ عينى عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات بعد اندمال الجناية وجب على الجانى أرش الجناية وهو قيمة العبد سواء كان الاندمال قبل العتق أو بعده لان الجرح إذا اندمل استقر حكمه ويكون ذلك لمولاه لانه أرش جناية كانت فى ملكه
وإن لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب على الجانى دية حر
وقال المزنى يجب الأرش وهو ألفا دينار لان السيد ملك هذا القدر بالجناية فلا ينقص
وهذا خطأ لان الاعتبار فى الأرش بحال الاستقرار ولهذا لو قطع يدى رجل ورجليه وجب عليه ديتان فإذا سرت الجناية إلى النفس وجب دية اعتبارا بحال الاستقرار وفى حال الاستقرار هو حر فوجبت فيه الدية ودليل ( قول ) المزنى يبطل بمن قطع يدى رجل ورجليه ثم مات فإنه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت
فصل وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر يده الأخرى ومات لم يجب على الأول قصاص لعدم التكافؤ فى حال الجناية وعليه نصف الدية لان المجنى عليه حر فى وقت استقرار الجناية
وأما الثانى ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص فى الطرف ولا يجب فى النفس لان الروح خرجت من سراية قطعين وأحدهما يوجب القود والآخر لا يوجب فسقط كحرين قتلا من نصفه حر ونصفه عبد
والثانى وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص فى الطرف والنفس لانهما متكافئان فى حال الجناية وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون وإنما سقط القود عن أحدهما لمعنى فى نفسه فلم يسقط عن الآخر كما لو اشترك حر وعبد فى قتل عبد
ويخالف الحرين إذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد لان كل واحد منهما غير مكافىء له حال الجناية
فإن عفى على مال كان عليه نصف الدية لانهما شريكان فى القتل وللمولى الأقل من نصف قيمته يوم ( الجناية الأولى ) أو نصف الدية فإن كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك وإن كان أكثر فله نصف الدية لان الحرية نقصت ما زاد عليه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه فقوبل بين أرش الجناية وبين الدية
والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما والثانى جنى عليه فى حال الحرية فقوبل بين أرش الجناية وبين النصف المأخوذ من الجانى على ملكه وكان الفاضل لورثته
فصل وإن قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الأخرى نظرت فإن اندمل الجرحان لم يجب فى اليد الأولى قصاص لانه جنى عليه وهو غيره مكافىء ( له ) يجب فيها ( نصف ديته ) ويكون للمولى ويجب فى اليد الأخرى القصاص لانه قطعها وهو مكافىء له وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية وإن مات من الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص فى اليد الأخرى التى قطعت بعد عتقه ولم يجب القصاص فى النفس لانه مات من جنايتين إحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب
فإن اقتص منه فى اليد وجب عليه نصف الدية لانه مات بجنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية
وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية ولورثته الباقى لان الجناية الثانية فى حال الحرية
فصل وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع ثالث رجله ومات لم يجب على الأول القصاص فى النفس ولا فى الطرف لعدم التكافؤ ويجب عليه ثلث الدية ويجب على الآخرين القصاص فى الطرف وفى النفس على المذهب
____________________
(2/210)
فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية وفيما يستحق المولى قولان أحدهما أقل الأمرين من أرش الجناية أو ما يجب على هذا الجانى فى ملكه وهو ثلث الدية لان الواجب بالجناية هو الأرش فإذا أعتق انقلب وصار ثلث الدية فيجب أن يكون له أقل الأمرين فإن كان الأرش أقل لم يكن له أكثر منه لانه هو الذى وجب بالجناية فى ملكه وما زاد بالسراية فى حال الحرية لا حق له فيه وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لانه هو الذى يجب على الجانى فى ملكه ونقص الأرش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه
والقول الثانى يجب له أقل الأمرين من ثلث الدية أو ثلث القيمة لان الجانى على ملكه هو الأول والآخر لا حق له فهى جنايتهما فيجب أن يكون له أقل الأمرين ( من ثلث الدية أو ثلث القيمة ) فإن كان ثلث القيمة أقل لم يكن له أكثر منه لانه لما كان عبدا كان له القدر وما زاد وجب فى حال الحرية فلم يكن له فيها حق
وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لان ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم يستحق أكثر منه
فصل إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنينا ميتا وجب فيه عشر قيمة الأم لانه جنين آدمية سقط ميتا بجنايته فضمن بعشر بدل الأم كجنين الحرة
واختلف أصحابنا فى الوقت الذى يعتبر فيه قيمة الأم فقال المزنى وأبو سعيد الإصطخرى تعتبر قيمتها يوم الإسقاط لانه حال استقرار الجناية والاعتبار فى قدر الضمان بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يد نصرانى ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم
وقال أبو إسحاق تعتبر قيمتها يوم الجناية وهو المنصوص لان المجنى عليه لم يتغير حاله فكان أولى الأحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية لانه حال الوجوب ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية ( لانه حال الوجوب ) وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنبنا ( ميتا ) وجب فيه دية جنين حر لان الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين حر عند استقرار الجناية فضمن بالدية
باب العاقلة وما تحمله من الديات إذا قتل الحر حرا عمد خطأ وله عاقله وجب جميع الدية على عاقلته لما روى المغيرة بن شعبة قال ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة
وإن قتله خطأ وجبت الدية على عاقلته لانه إذا تحمل عن القاتل فى عند الخطإ تخفيفا عنه مع قصده إلى الجناية فلان يحمل عن قاتل الخطإ ولم يقصد الجناية أولى ولان الخطأ وعمد الخطأ يكثر فلو أوجبنا ديتهما فى مال الجانى أجحفنا به
وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد خطإ ففيه قولان قال فى القديم لا تحمل العاقلة ديتهما لانه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه القسامة فلم تحمل العاقلة بدله كالمال
وقال فى الجديد تحمل العاقلة ديتها لان ما ضمن بالقصاص والدية وخففت الدية فيه بالخطإ حملت العاقلة بدله كالنفس فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر كما تحمل ما قل وكثر من دية النفس
وإن قتل عمدا أو جنى على طرفه عمدا لم تحمل العاقلة ديته لان الخبر ورد فى الحمل عن القاتل فى عمد الخطإ تخفيفا عنه لانه لم يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به فى التخفيف وإن وجب له القصاص فى الطرف فاقتص بحديدة مسمومة فمات فعليه نصف الدية
وهل تحمل العاقلة ذلك أم لا فيه وجهان أحدهما تحمله لانا حكمنا بأنه ليس بعمد محض
والثانى لا تحمله لانه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه
وإن وكل من يقتص له فى النفس ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا إن العفو يصح ووجبت الدية على الوكيل فهل تحملها العاقلة فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه لا تحملها العاقلة وهو الصحيح لانه تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه كما لو قتله بعد العلم بالعفو
والثانى وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه تحملها العاقلة لانه لم يقصد الجناية
فصل وإن قتل عبدا خطأ أو عمد خطأ ففى قيمته قولان أحدهما أنها تحملها العاقلة لانه يجب القصاص والكفارة بقتله
____________________
(2/211)
فحملت العاقلة بدله كالحر
والثانى أنه لا تحملها العاقلة لانه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال
فصل ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روى أن عوف بن مالك الأشجعى ضرب مشركا بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات مجاهدا ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
فصل وما يجب بخطإ الإمام من الدية بالقتل ففيه قولان أحدهما يجب على عاقلته لما روى أن عمر رضى الله عنه قال لعلى رضى الله عنه فى جنين المرأة التى بعث إليها عزمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك
والثانى يجب فى بيت المال لان الخطأ يكثر منه فى أحكامه واجتهاده فلو أوجبنا ما يجب بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم
فإذا قلنا إنه يجب على عاقلته وجبت الكفارة فى ماله كغير الإمام
وإذا قلنا إنها تجب فى بيت المال ففى الكفارة وجهان أحدهما أنها تجب فى ماله لانها لا تتحمل
والثانى أنها تجب فى بيت المال لانه يكثر خطؤه فلو أوجبنا فى ماله ( أجحفنا ) به
فصل وما يجب بجناية العمد يجب حالا لانه بدل متلف لا تتحمله العاقلة بحال فوجب حالا كغرامة المتلفات
وما يجب بجناية الخطإ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلا فإن كانت دية كاملة وجبت فى ثلاث سنين لانه روى ذلك عن عمر وابن عباس رضى الله عنهما ويجب فى كل سنة ثلثها فإن كان دية نفس كان ابتداء الأجل من وقت القتل لانه حق مؤجل فاعتبر الأجل من حين وجود السبب كالدين المؤجل وإن كان دية طرف فإن لم تسر اعتبرت المدة من وقت الجناية لانه وقت الوجوب وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت الاندمال لان الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار
وإن كان الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الدية أو دونه لم تجب إلا في سنة لانه لا يجب على العاقلة شيء فى أقل من سنة فإن كان أكثر من الثلث ولم يرد على الثلثين وجب فى السنة الأولى الثلث ووجب الباقى فى السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين ولم يزد على دية وجب فى السنة الأولى الثلث وفى الثانية الثلث وفى الثالثة الباقى
وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا الاثنين بأن قتل اثنين وجب فى كل سنة لكل واحد منهما ثلث الدية لانهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد منهما فى كل سنة من الثلث فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل وجب ( الكل ) فى ست سنين فى كل سنة ثلث دية لانها جناية على واحد فلا يجب له على العاقلة فى كل سنة أكثر من ثلث دية
وإن وجب بجناية الخطإ أو عمد الخطإ دية ناقصة كدية الجنين والمرأة ودية أهل الذمة ففيه وجهان أحدهما أنه يجب فى ثلاث سنين فى كل سنة ثلثها لانها دية نفس فوجب فى كل سنة ثلثها كالدية الكاملة
والثانى أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الدية لانه دون الدية الكاملة فعلى هذا إن كان ثلث دية وهو كدية اليهودى والنصرانى أو أقل من الثلث وهو دية المجوسى ودية الجنين وجب الكل فى سنة واحدة
وإن كان أكثر من الثلث وهو دية المرأة وجب فى السنة الأولى ثلث دية كاملة ويجب ما زاد فى السنة الثانية كما قلنا فى الطرف وإن كان قيمة عبد وقلنا إنها على العاقلة ففيه وجهان أحدهما أنها تقسم فى ثلاث سنين وإن زاد حصة كل سنة على ثلث الدية لانها دية نفس
والثانى تؤدى فى كل سنة ثلث دية الحر
فصل والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الأب والجد والابن وابن الابن والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة العاقلة
وأما الأب والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون لما روى جابر رضي لله عنه
أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل النبى صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها وعإذا ثبت هذا فى الولد ثبت فى الأب لتساويهما فى العصبة ولان الدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به فلو جعلناه على الأب والابن أجحفنا به لان مالهما كماله ولهذا لا تقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه ويستغنى عن المسألة بمالهما كما يستغنى بمال نفسه
وإن كان فى بنى عمها ابن لها لم يحمل معهم لما ذكرناه وإن لم يكن له عصبة نظرت فإن كان مسلما حملت عنه من بيت المال لان مال بيت المال للمسلمين وهم يرثونه كما ترث العصبات
وإن كان ذميا لم يحمل عنه فى بيت المال لان مال بيت المال للمسلمين وهم لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيأ واختلف قوله فى المولى من أسفل فقال فى أحد القولين لا يعقل عنه وهو الصحيح لانه لا يرثه فلم يعقله
وقال فى الآخر يعقله لانه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالأخوين فعلى هذا يقدم على بيت المال لانه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى وإن
____________________
(2/212)
لم يكن له عاقلة ولا بيت مال فهل يجب على القاتل فيه وجهان بناء على أن الدية هل تجب على القاتل ثم تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وفيه قولان أحدهما تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لانه هو الجانى فوجبت الدية عليه فعلى هذا تجب الدية فى ماله
والقول الثانى تجب على العاقلة ابتداء لانه لا يطالب غيرهم فعلى هذا لا تجب عليه
وقال أبو على الطبرى إذا قلنا إنها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل الأب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل لانا لم نحمل عليهما إبقاء على القاتل
وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى
قال ( الشيخ الإمام حرس الله مدته ) ويحتمل عندى أنه لا يجب عليهما لانا إنما أوجبنا على القاتل على هذا القول لانه وجب عليه فى الأصل فإذا لم يجد من يتحمل بقى الوجوب فى محله والأب والابن لم يجب عليهما فى الأصل ولا حملا مع العاقلة فلم يجب الحمل عليهما
فصل ولا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم ولا ذمى عن حربى ولا حربى عن ذمى لانه لا يرث بعضهم من بعض فإن رمى نصرانى سهما إلى صيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنسانا وقتله وجبت الدية فى ماله لانه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى لانه وجد القتل وهو مسلم ولا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لانه رمى وهو نصرانى
فإن قطع نصرانى يد رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين لان الجناية وجدت منه وهو نصرانى ولهذا يجب بها القصاص ولا تسقط عنه بالإسلام
وإن رمى مسلم سهما إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنسانا فقتله وجبت الدية فى ذمته لانه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لانه وجد القتل وهو مرتد ولا يمكن إيجابها على الكفار لانه ليس له منهم عاقلة يرثونه فوجبت فى ذمته
وإن جرح مسلم إنسانا ثم ارتد الجارح وبقى فى الردة زمانا يسرى فى مثله الجرح ثم أسلم المجروح وجبت الدية وعلى من تجب فيه قولان أحدهما تجب على عاقلته لان الجناية فى حال الإسلام وخروج الروح فى حال الإسلام والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين فى حال الإسلام فوجبت ديته عليها
والقول الثانى أنه يجب على العاقلة نصف الدية ويجب فى مال الجانى النصف لانه وجد سراية فى حال الاسلام وسراية فى حال الردة فحملت ما سرى فى حال الإسلام ولم تحمل ما سرى فى الردة
فصل ولا يعقل صبى ولا معتوه ولا امرأة لان حمل الدية على سبيل النصرة بدلا عما كان فى الجاهلية من النصرة بالسيف ولا نصرة فى الصبى والمعتوه والمرأة
ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة والشيخ حد الهرم لانهما من أهل النصرة بالتدبير وقد قاتل عمار فى محفة وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين فى قتلهما في الأسر فإن قلنا إنهما يقتلان فى الأسر عقلا وإن قلنا لا يقتلان فى الأسر لم يعقلا
فصل ولا يعقل فقير لان حمل الدية على العاقلة مواساة والفقير ليس من أهل المواساة ولهذا لا تجب عليه الزكاة ولا نفقة الأقارب ولان العاقلة تتحمل لدفع الضرر عن القاتل والضرر لا يزال بالضرر
ويجب على المتوسط ربع دينار لان المواساة لا تحصل بأقل قليل ولا يمكن إيجاب الكثير لان فيه إضرارا بالعاقلة فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار لانه ليس فى حد التافه والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق وقد قالت عائشة رضى الله عنها يد السارق لم تكن تقطع فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشيء التافه
ويجب على الغنى نصف دينار لانه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغنى والمتوسط واحدا فقدر بنصف دينار لانه أقل قدر يؤخذ من الغنى فى الزكاة التى قصد بها المواساة فيقدر ما يؤخذ من الغنى فى الدية بذلك لانه فى معناه ويجب هذا القدر فى كل سنة لانه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول كالزكاة
ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر فى الثلاث سنين لانا لو أوجبنا هذا القدر فى كل سنة أجحف به ويعتبر حاله فى الفقر والغنى والتوسط عند حلول النجم لانه حق مال يتعلق بالحول على سبيل المواساة فاعتبر فيه حاله عند حلول الحول كالزكاة فإن مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة إذا مات قبل الحول
وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط ما وجب من الزكاة قبل الموت
فصل وإذا أراد الحاكم قسمة الدية على العاقلة قدم الأقرب من العصبات على ترتيبهم فى الميراث لانه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث
وإن كان فيهم من يدلى بالأبوين وفيهم من يدلى بالأب ففيه قولان أحدهما أنهما
____________________
(2/213)
سواء لتساويهما فى قرابة الأب لان الأم لا مدخل لها فى النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها
والثانى يقدم من يدلى بالأبوين على من يدلى بالأب لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلى بالأبوين على من يدلى بالأب كالميراث
فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الأقربين منهم لم يحمل على من بعدهم وإن لم يكن أن يقسم على الأقربين لقلة عددهم قسم ما فضل على من بعدهم على الترتيب
فإن كان القاتل من بنى هاشم قسم عليهم فإن عجزوا دخل معهم بنو عبد مناف فإن عجزوا دخل معهم بنو قصى ثم كذلك حتى تستوعب قريش ولا يدخل معهم غير قريش لان غيرهم لا ينسب إليهم وإن غاب الأقربون فى النسب وحضر الأبعدون ففيه قولان أحدهما يقدم الأقربون فى النسب لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقربون فى النسب كالميراث
والثانى يقدم الأقربون فى الحضور على الأقربين فى النسب لان تحمل العاقلة على سبيل النصرة والحاضرون أحق بالنصرة من الغيب فعلى هذا إن كان القاتل بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لانهم أقرب إلى القاتل
وإن استوت جماعة فى النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان أحدهما يقدم الحضور لانهم أقرب إلى النصرة
والثانى يسوى بين الجميع كما يسوى فى الميراث
وإن كثرت العاقلة وقل المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دون ربع دينار والغنى دون نصف دينار ففيه قولان أحدهما أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم لان فى تقسيط القليل على الجميع مشقة
والثانى وهو الصحيح أنه يقسم على الجميع لانه حق يستحق بالتعصيب فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث
فصل وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته لانه لا يجوز إيجابه على المولى لانه لم يوجد منه جناية ولا يجوز تأخيره إلى أن يعتق لانه يؤدى إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته والمولى بالخيار بين أن يبيعه ويقضى حق الحناية من ثمنه وبين أن يفديه ولا يجب عليه تسليم العبد إلى المجنى عليه لانه ليس من جنس حقه وإن اختار بيعه فباعه فإن كان الثمن بقدر مال الجناية صرفه فيه وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقى للمولى وإن كان أقل لم يلزم المولى ما بقى لان حق المجنى عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة فإن اختار أن يفديه ففيه قولان أحدهما يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة العبد لانه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما
والقول الثانى يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلمه للبيع لانه قد يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته فإذا امتنع من البيع لزمه الأرش بالغا ما بلغ وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبدا لآخر عمدا فاقتص مولى المقتول من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة فى رقبة كل واحد منهم عشرها لانه قتل خمسة بنصف عبده ( وعفا عن خمسة على المال ) وبقى له النصف
باب اختلاف الجانى وولى الدم إذا قتل رجلا ثم ادعى أن المقتول كان عبدا وقال الولى بل كان حرا فالمنصوص أن القول قول الولى مع يمينه وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها أمة أن القول قول القاذف
فمن أصحابنا من نقل جوابه فى كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين
أحدهما أن القول قول الجانى والقاذف لان ما يدعيان محتمل لان الدار تجمع الأحرار والعبيد والأصل فيه حمى الظهر وحقن الدم
والثانى أن القول قول ولى المجنى عليه والمقذوف لان الظاهر من الدار الحرية ولهذا لو وجد فى الدار لقيط حكم بحريته
ومن أصحابنا من قال القول فى الجناية قول الولى والقول فى القذف قول القاذف والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع وإذا جعلنا القول قول الجانى سقط القصاص ولم يبق ما يقع به الردع
فصل فإذا وجب له القصاص فى موضحة فاقتص فى أكثر من حقه أو وجب له القصاص فى إصبع فاقتص فى إصبعين وادعى أنه أخطأ فى ذلك وادعى المستقاد منه أنه تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه لانه أعرف بفعله وقصده وما يدعيه يجوز الخطأ فى مثله فقبل قوله فيه
وإن قال المقتص منه إن هذه الزيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستفاد منه ففيه وجهان أحدهما أن القول قول المقتص لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة
والثانى أن القول قول المستفاد منه لان الأصل عدم الاضطراب
فصل إذا اشترك ثلاثة فى جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الولى المدعى وصدق الولى المدعى
____________________
(2/214)
نظرت فإن أراد القصاص قبل تصديقه ولم يجب على المدعى إلا ضمان الجراحة لانه لا ضرر على الآخرين لان القصاص يجب عليهما فى الحالين
وإن أراد أن يأخذ الدية لم يقبل تصديقه لانه يدخل الضرر على الآخرين لانه إذا حصل القتل من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية وإذا حصل من جراحهما وجب على كل واحد منهما نصف دية والأصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث
فصل إذا قد رجلا ملفوفا فى كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت وقال الولى بل كان حيا ففيه قولان أحدهما أن القول قول الجانى لان ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته
والثانى أن القول قول الولى لان الأصل حياته وكونه مضمونا فصار كما لو قتل مسلما وادعى أنه كان مرتدا
فصل وإن جنى على عضو ثم اختلفا فى سلامته فادعى الجانى أنه جنى عليه وهو أشل وادعى المجنى عليه أنه جنى عليه وهو سليم فقد اختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال فيه قولان أحدهما أن القول قول الجانى لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة ذمته
والثانى أن القول قول المجنى عليه لان الأصل سلامة العضو
ومنهم من قال القول فى الأعضاء الظاهرة قول الجانى وفى الأعضاء الباطنة القول قول المجنى عليه لانه لا يتعذر عليه إقامة البينة على السلامة فى الأعضاء الظاهرة فكان القول قول الجانى ويتعذر عليه إقامة البينة فى الأعضاء الباطنة والأصل السلامة فكان القول قول المجنى عليه ولهذا لو علق طلاق امرأته على ولادتها فقالت ولدت لم يقبل قولها لانه يمكن إقامة البينة على الولادة
ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لانه يتعذر إقامة البينة على حيضها فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجانى أنه طرأ عليه الشلل وأنكر المجنى عليه ففيه قولان أحدهما أن القول قول الجانى لانه لا يتعذر إقامة البينة على سلامته
والثانى أن القول قول المجنى عليه لانه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه حتى يثبت الشلل
فصل إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز فقال الجانى تأكل ما بينهما بسراية فعلى فلا يلزمنى إلا أرش موضحة وقال المجنى عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين فالقول قول المجنى عليه لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل بقاء الموضحتين ووجوب الأرشين
وإن أوضح رأسه فقال الجانى أوضحته موضحة واحدة وقال المجنى عليه أوضحتنى موضحتين وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجانى لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة
فصل وإن قطع رجل يدى رجل ورجليه ومات واختلف الجانى والولى فقال الجانى مات من سراية الجنايتين فعلى دية واحدة وقال الولى بل اندملت الجنايتان ثم مات فعليك ديتان فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال الجراحتين فالقول قول الولى لان الأصل وجوب الديتين وإن لم يمض زمان يمكن فيه الاندمال فالقول قول الجانى لان ما يدعيه الولى غير محتمل
وإن اختلفا فى المدة فقال الولى مضت مدة يمكن فيها الاندمال وقال الجانى لم يمض فالقول قول الجانى لان الأصل عدم المدة
فصل وإن قطع يد رجل ومات فقال الولى مات من سراية قطعك فعليك الدية وقال الجانى اندملت جنايتى ومات بسبب آخر فعلى نصف الدية نظرت فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال فالقول قول الولى لان الظاهر أنه مات من سراية الجناية ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر أو شرب سما فمات منه
وإن مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات فإن كان مع الولى بينة أنه لم يزل متألما ضمنا إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر أنه مات من الجناية وإن لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجانى لان ما يدعيه كل واحد منهما ممكن والأصل براءة ذمة الجانى مما زاد على نصف الدية
فصل وإن قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولى والجانى فقال الجانى شرب سما أو جنى عليه آخر بعد جنايتى فلا يجب على إلا نصف الدية
وقال الولى مات من سراية جنايتك فعليك الدية فليس فيها نص ويحتمل أن يكون القول قول الولى لان الأصل حصول جنايته وعدم غيرها ويحتمل أن يكون القول قول الجانى لانه يحتمل ما يدعيه والأصل براءه ذمته
فصل وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين وقال أهل الخبرة يرجى عود البصر فمات واختلف الولى والجانى فقال الجانى
____________________
(2/215)
عاد الضوء ثم مات وقال الولى لم يعد فالقول قول الولى مع يمينه لان الأصل ذهاب الضوء وعدم العود
وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف الجانيان فقال الأول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية
وقال الثانى قلعت ولم يعد الضوء فعلى حكومة وعليك الدية فالقول قول الثانى لان الأصل عدم العود فإن صدق المجنى عليه الأول قبل قوله فى إبراء الأول لانه يسقط عنه حقا له ولا يقبل قوله على الثانى لانه يوجب عليه حقا له والأصل عدمه
فصل إذا جنى على رجل جناية فادعى المجنى عليه أنه ذهب سمعه وأنكر الجانى امتحن فى أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة فإن ظهر منه أمارات السماع فالقول قول الجانى لان الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لانه يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقا وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجنى عليه لان الظاهر معه ولا يقبل قوله فى ذلك من غير يمين لجواز أن يكون ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه
وإن ادعى نقصان السمع فالقول قوله مع يمينه لانه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته وما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة فى الحيض وإن ادعى ذهاب السمع من إحدى الأذنين سد التى لم يذهب السمع منها ثم يمتحن بالصياح فى أوقات غفلاته فإن ظهر منه أمارة السماع فالقول قول الجانى مع يمينه وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجنى عليه مع يمينه لما ذكرناه
فصل وإن ادعى المجنى عليه ذهاب شمه وأنكر الجانى امتحن فى أوقات غفلاته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح المنتنة فالقول قوله لان الظاهر معه ويحلف عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وإن ارتاح إلى الروائح الطيبة وظهرت منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجانى لان الظاهر يشهد له ويحلف على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجنى عليه من الارتياح والتكره اتفاقا وإن حلف المجنى عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجانى أنه غطاه ببقاء شمه وادعى المجنى عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة فالقول قول المجنى عليه لانه يحتمل ما يدعيه
فصل وإن كسر صلب رجل فادعى المجنى عليه أنه ذهب جماعه فالقول قوله مع يمينه لان ما يدعيه محتمل ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله مع يمينه كالمرأة فى دعوى الحيض
فصل وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا وادعى صاحب السفينة على القيم أنه فرط فى ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم التفريط وبراءة الذمة
فصل إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ثم اختلفا فقال الضارب ما أسقطت من ضربى وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان الإسقاط عقيب الضرب فالقول قولها لان الظاهر معها
وإن كان الإسقاط بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لان الظاهر معها
وإن لم تكن متألمة فالقول قوله لانه يحتمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل براءة الذمة
وإن اختلفا فى التألم فالقول قول الجانى لان الأصل عدم التألم وإن ضربها فأسقطت جنينا حيا ومات واختلفا فقالت المرأة مات من ضربك وقال الضارب مات بسبب آخر فإن مات عقيب الإسقاط فالقول قولها لان الظاهر معها وأنه مات من الجناية وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقى متألما إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه لانه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة الذمة وإن أقامت بينة أنه بقى متألما إلى أن مات فالقول قولها مع اليمين لان الظاهر أنه مات من جنايته
فصل وإن اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول قوله لان الأصل عدم الاستهلال
وإن ألقت جنينا حيا ومات ثم اختلفا فقال الضارب كان أنثى وقالت المرأة كان ذكرا فالقول قول الضارب لان الأصل براءة الذمة مما زاد على دية الأنثى
فصل وإن ادعى رجل على رجل قتلا تجب فيه الدية على العاقلة وصدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجانى بإقراره ولا تجب على العاقلة من غير بينة لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال لا تحمل العاقلة عمدا ( ولا عبدا ) ولا صلحا ولا اعترافا
____________________
(2/216)
ولانا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن إن لم يواطىء فى كل وقت من يقر له بقتل الخطإ فيؤدى إلى الإضرار بالعاقلة
وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا فقال الجاني كان ميتا وقالت المرأة كان حيا فالقول قول الجانى لانه يحتمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر الغرة لانها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة فى ذمة الجانى لان قوله مقبول على نفسه دون العاقلة
فصل إذا سلم من عليه الدية الإبل فى قتل العمد ثم اختلفا فقال الولى لم يكن فيها خلفات وقال من عليه الدية كانت فيها خلفات فإن لم يرجع فى حال الدفع إلى أهل الخبرة فالقول قول الولى لان الأصل عدم الحمل فإن رجع فى الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان أحدهما أن القول قول الولى لما ذكرناه
والثانى أن القول قول من عليه الدية لانا حكمنا بأنها خلفات بقول أهل الخبرة فلم يقبل فيه قول الولى
باب كفارة القتل من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان وجبت عليه الكفارة لقوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقوله تبارك وتعالى { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } فإن قتله عمدا أو شبه عمد وجبت عليه الكفارة لانها إذا وجبت فى قتل الخطإ مع عدم المأثم فلأن تجب فى العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى
وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس كحفر البئر وشهادة الزور والإكراه وجبت عليه الكفارة لان السبب كالمباشرة فى إيجاب الضمان فكان كالمباشرة فى إيجاب الكفارة
فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وجبت عليه الكفارة لانه آدمى محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره
وإن قتل نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة لان الكفارة تجب لحق الله تعالى وقتل نفسه وقتل عبده كغيرهما فى التحريم لحق الله تعالى فكان كقتل غيرهما فى إيجاب الكفارة
فإن اشترك جماعة فى قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يجب على الجميع كفارة واحدة لانها كفارة تجب بالقتل فإذا اشترك جماعة فيه وجبت عليهم كفارة واحدة كالكفارة فى قتل الصيد والمشهور هو الأول لانها كفارة لا تجب على سبيل البدل فإذا اشترك الجماعة فى سببها وجب على كل واحد منهم كفارة ككفارة الطيب واللباس
فصل والكفارة عتق رقبة ( مؤمنة ) فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لقوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } إلى قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } فإن لم يستطع ففيه قولان أحدهما يلزمه إطعام ستين مسكينا كل مسكين مدا من الطعام لانه كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين فوجب فيها إطعام ستين مسكينا قياسا على كفارة الظهار والجماع فى رمضان
والثانى لا يلزمه الإطعام لان الله تعالى ذكر العتق والصيام ولم يذكر الإطعام ولو وجب ذلك لذكره كما ذكره فى كفارة الظهار وصفة الرقبة والصيام والطعام إذا أوجبناه على ما ذكرنا فى الظهار فأغنى عن الإعادة
كتاب قتال أهل البغى لا يجوز الخروج عن الإمام لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من نزع يده من طاعة إمامه فإنه يأتى يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا
منعت حقا توجه عليها بتأويل وخرجت عن قبضة الإمام وامتنعت بمنعة قاتلها الإمام لقوله عز وجل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا }
____________________
(2/217)
فصل إذا خرجت على الإمام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل أو { بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ولان أبا بكر الصديق رضى الله عنه قاتل مانعى الزكاة وقاتل علي كرم الله وجهه أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين وقاتل الخوارج بالنهروان
ولا يبدأ بالقتال حتى يسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها أزاحها وإن ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى { فأصلحوا بينهما } وفيما ذكرناه إصلاح
وروى عبد الله بن شداد بن الهاد أن عليا كرم الله وجهه لما كاتب معاوية وحكم وعتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لها حروراء فقالوا انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت فى دين الله ولا حكم إلا لله
فقال علي بينى وبينكم كتاب الله يقول الله تعالى فى ( حق ) رجل وامرأة { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ونقموا أنى كاتبت معاوية من على بن أبى طالب وجاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب من محمد رسول الله فقالوا لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك فقال اكتب فكتب هذا ما قضى عليه محمد قريشا يقول الله عز وجل { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } وبعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام ورجع منهم أربعة آلاف
فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال فإن أبوا قاتلهم فإن طلبوا إلا الإنظار نظرت فإن كان يومين أو ثلاثة أنظرهم لان ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة فإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الإمام فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة أمهلهم وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما فى الإنظار من الإضرار
وإن أعطوا على الإنظار رهائن لم يقبل منهم لانه لا يؤمن أن يكون هذا مكرا وطريقا إلى قهر أهل العدل
وإن بذلوا عليه مالا لم يقبل لما ذكرناه ولان فيه إجراء صغار على طائفة من المسلمين فلم يجز كأخذ الجزية منهم
فصل ولا يتبع فى القتال مدبرهم ولا يذفف على جريحهم لما روى عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتى فقلت الله ورسوله أعلم فقال لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيؤهم وعن على كرم الله وجهه أنه قال لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا
وعن أبى أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا ولان قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة
وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان أحدهما لا يقصد بالقتل لان القصد من قتالهم كفهم وهذا قد كف نفسه فلا يقصد
والثانى يقتل لان عليا كرم الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال إياكم وقتل صاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول ( الطويل )
____________________
(2/218)
وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعا عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يناشدنى حم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم ولم ينكر علي كرم الله وجهه قتله ولانه صار ردءا لهم
ولا تقتل النساء والصبيان كما لا يقتلون فى حرب الكفار فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم إذا قصدوا قتله فى غير القتال ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم كما يكره فى قتال الكفار فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله فى غير القتال
فصل ولا يقتل أسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث عبد الله بن مسعود ولا يقتل أسيرهم فإن قتله ضمنه بالدية لانه بالأسر صار محقون الدم فصار كما لو رجع إلى الطاعة
وهل يضمنه بالقصاص فيه وجهان أحدهما يضمنه لما ذكرناه
والثانى لا يضمنه لان أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة فى إسقاط القود فإن كان الأسير حرا بالغا فدخل فى الطاعة أطلقه
وإن لم يدخل فى الطاعة حبسه إلى أن تنقضى الحرب ليكف شره ثم يطلقه ويشرط عليه ألا يعود إلى القتال
وإن كان عبدا أو صبيا لم يحبسه لانه ليس من أهل البيعة
ومن أصحابنا من قال يحبسه لان فى حبسه كسرا لقلوبهم
فصل ولا يجوز قتالهم بالنار والرمى عن المنجنيق من غير ضرورة لانه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل ومن لا يقاتل
وإن دعت إليه الضرورة جاز كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل إذا قصد قتله للدفع
ولا يستعين فى قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من اتباع المدبرين جاز وإن لم يقدر لم يجز
فصل وإن اقتتل فريقان من أهل البغى فإن قدر الإمام على قهرهما لم يعاون واحدا منهما لان الفريقين على الخطإ وإن لم يقدر على قهرهما ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق فإن استويا فى ذلك اجتهد ( فى ) رأيه فى ضم أحدهما إلى نفسه ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر بل يقصد الاستعانة به على الآخر فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذى ضمه إلى نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لانه حصل بالاستعانة به فى أمانه
فصل ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبى أمامة في صفين ولان الإسلام عصم دمهم ومالهم وإنما أبيح
____________________
(2/219)
قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة وبقى حكم المال على ما كان فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير إذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه لان من لا يجوز أخذ ماله لم يجز الانتفاع بماله من غير ( إذنه ومن ) غير ضرورة كغيرهم
وإن اضطر إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة
فصل وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا فى غير القتال وجب عليه الضمان لان تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغى فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغى
وإن أتلف أهل العدل على أهل البغى نفسا أو مالا فى حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان لانه مأمور بإتلافه فلا يلزمه ضمانه كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق وإذا أتلف أهل البغى على أهل العدل ففيه قولان أحدهما يجب عليه الضمان لانه أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان كما لو أتلف عليه فى غير القتال
والثانى لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح لما روى عن الزهرى أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على ألا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يقتل رجل سفك دما حراما بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولانها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل
ومن أصحابنا من قال القولان فى غير القصاص فأما القصاص فلا يجب قولا واحدا لانه يسقط بالشبهة ولهم فى القتل شبهة
فصل وإن استعان أهل البغى بأهل الحرب فى القتال وعقدوا لهم أمانا أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد لان من شرط الذمة والأمان ألا يقاتلوا المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال فإن عاونوهم جاز لاهل العدل قتلهم مدبرين وجاز أن يذفف على جريحهم وإن أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة لهم لانه لا عهد لهم ولا ذمة فصاروا كما لو جاءوا منفردين عن أهل البغى ولا يجوز شيء من ذلك لمن عاونهم من أهل البغى لانهم بذلوا لهم الذمة والأمان فلزمهم الوفاء به وإن استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا كنا مكرهين أو ظننا أنه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم تنتقض الذمة لان ما ادعوه محتمل فلا يجوز نقض العقد مع الشبهة وإن قاتلوا معهم عالمين من غير إكراه فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة فى عقد الذمة انتقض العهد لانه زال شرط الذمة وإن لم يشترط ذلك ففيه قولان أحدهما ينتقض كما لو انفردوا بالقتال لاهل العدل
والثانى لا ينتقض لانهم قاتلوا تابعين لاهل البغى فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا فى القتال كأهل البغى لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم
وإن أتلفوا نفسا أو مالا فى الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا والفرق بينهم وبين أهل البغى أن فى تضمين أهل البغى تنفيرا عن الرجوع إلى الطاعة فسقط عنهم الضمان فى أحد القولين ولا يخاف تنفير أهل الذمة لانا قد أمناهم على هذا القول
وإن استعانوا بمن له أمان إلى مدة معاونوهم انتقض أمانيهم فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن لهم بينة على الإكراه انتقض الأمان
والفرق بينهم وبين أهل الذمة فى أحد القولين أن الأمان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة وعقد الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة
فصل وإن ولوا فيما استولوا عليه قاضيا نظرت فإن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لم ينفذ حكمه لان من شرط القضاء العدالة والاجتهاد وهذا ليس بعدل ولا مجتهد
وإن كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضى أهل العدل ورد من حكمه ما يرد من حكم قاضى أهل العدل لان لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد فلم ينقض من حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد
وإن كتب قاضيهم إلى قاضى أهل العدل استحب ألا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم فإن قبله جاز لانه ينفذ حكمه فجاز الحكم بكتابه كقاضى أهل العدل
فصل وإن استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية اعتد به لان عليا كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه وأخذوه ولان ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب إمضاؤه كالحاكم إذا حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه دفعها إلى أهل البغى قبل قوله
وهل يحلف عليه مستحبا أو
____________________
(2/220)
واجبا فيه وجهان ذكرناهما فى الزكاة
وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله لانها عوض فلم يقبل قوله فى الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الأجرة
وإن ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم ففيه وجهان أحدهما يقبل قوله لانه مسلم فقبل قوله فى الدفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة
والثانى لا يقبل لان الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل قوله فى الدفع كالثمن فى البيع والأجرة فى الإجارة
فصل فى وإن أظهر قوم رأى الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم لان عليا كرم الله وجهه سمع رجلا من الخوارج يقول لا حكم إلا لله تعريضا ( له ) فى التحكيم فى صفين فقال كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال
ولان النبى صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه فى المدينة فلأن لا نتعرض لاهل البغى وهم من المسلمين أولى وحكمهم فى ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل لان ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه فقال أطعموه واسقوه واحبسوه فإن عشت فأنا ولى دمى أعفو إن شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به
فإن قتل فهل يتحتم قتله فيه وجهان أحدهما يتحتم لانه قتل بشهر السلاح فانحتم قتله كقاطع الطريق
والثانى لا يتحتم وهو الصحيح لقول على كرم الله وجهه أعفو إن شئت وإن شئت استقدت
وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لانه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فوجب فيه التعزير وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان أحدهما يعزرون لانهم إذا لم يعزروا على التعريض صرحوا وخرقوا الهيبة
والثانى لا يعزرون لما روى أبو يحيى قال صلى ( بنا ) على رضى الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج لئن أشركت ليحبطن عملك { ولتكونن من الخاسرين } فأجابه علي رضوان الله عليه وهو فى الصلاة { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ولم يعزره
فصل وإن خرجت على الإمام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأى الخوارج كان حكمهم فى ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل لانه لا يخاف نفورهم لقلتهم وقدرة الإمام عليهم فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم الجماعة كما لو كانوا فى قبضته
فصل وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الإمام بغير تأويل واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الإمام وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا وغرمهم ما أتلفوه بغير حق وأقام عليهم حدود ما ارتكبوا لانه لا تأويل لهم فكان حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق
باب قتل المرتد تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبى والمجنون فلا تصح ردتهما لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتأ يفيق
وأما السكران ففيه طريقان من أصحابنا من قال تصح ردته قولا واحدا
ومنهم من قال فيه قولان وقد بينا ذلك فى الطلاق فأما المكره فلا تصح ردته لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو أسير لم يحكم بردته لانه مكره وإن تلفظ بها فى دار الحرب فى غير الأسر حكم بردته لان كونه فى دار الحرب لا يدل على الإكراه
وإن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لم يحكم بردته لانه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد ومن أكره على كلمة
____________________
(2/221)
الكفر فالأفضل ألا يأتى بها لما روى أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها وروى خباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له فى الأرض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فتوضع على رأسه ويشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه
ومن أصحابنا من قال إن كان ممن يرجو النكاية فى العدو أو القيام بأحكام الشرع فالأفضل ( له ) أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بكلمة الكفر لما فى بقائه من صلاح المسلمين وإن كان لا يرجو ذلك اختار القتل
فصل إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس
فإن ارتدت امرأة وجب قتلها لما روى جابر رضى الله عنه أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت
وهل يجب أن يستتاب أو يستحب فيه قولان أحدهما لا يجب لانه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل ولو وجبت الاستتابة لضمنه
والثانى أنها تجب لما روى أنه لما ورد على عمر رضى الله عنه فتح تستر فسألهم هل كان من مغربة خبر قالوا نعم رجل ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فأخذناه قال فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه اللهم إنى لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغنى
ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم فإن قلنا إنه تجب الاستتابة أو تستحب ففى مدتها قولان أحدهما أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضى الله عنه ولان الردة لا تكون إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة فى الحال فقدر بثلاثة أيام لانه مدة قريبة يمكن فيها الارتياء والنظر ولهذا قدر به الخيار فى البيع
والثانى وهو الصحيح أنه يستتاب فى الحال ( فإن تاب وإلا قتل ) لحديث أم رومان ولانه استتابة من الكفر فلم تقدر بثلاث كاستتابة الحربى
وإن كان سكرانا فقد قال الشافعى رحمه الله تؤخر الاستتابة فمن أصحابنا من قال تصح استتابته والتأخير مستحب لانه تصح ردته فصحت استتابته
ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير لان ردته لا تكون إلا عن شبهة ( ولا يمكن بيان الشبهة ) ولا إزالتها مع السكر
وإن ارتد ثم جن لم يقتل حتى يفيق ويعرض عليه الإسلام لان القتل يجب بالردة والإصرار عليها والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة
فصل وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة
____________________
(2/222)
لما روى أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ولهم للمسلمهين وعليهم ما على المسلمين ولان النبى صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الإسلام مع ما كانوا يبطنون من خلافه فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لما يظهرونه من الإسلام
فإن كان المرتد ممن لا تأويل له فى كفره فأتى بالشهادتين حكم باسلامه لحديث أنس رضى الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه
وإن صلى فى دار الإسلام لم يحكم بإسلامه لانه يحتمل أن تكون صلاته فى دار الإسلام للمراءاة والتقية وفى دار الحرب لا يحتمل ذلك فدل على إسلامه وإن كان ممن يزعم أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا نبى يبعث وهو غير الذى بعث لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام لانه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده
وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لانه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده ( فى خبره ) فلا يصح إسلامه حتى يأتى بالشهادتين
وإن ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم وتكرر منه ذلك قبل إسلامه ويعزر على تهاونه بالدين
وقال أبو إسحاق لا يقبل إسلامه إذا تكررت ردته وهذا خطأ لقوله عز وجل { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولانه اتى بالشهادتين بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مرة ثم أسلم
فصل وإن ارتد ثم أقام على الردة فإن كان حرا كان قتله إلى الإمام لانه قتل يجب لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كرجم الزانى
فإن قتله غيره بغير إذنه عزر لانه افتات على الإمام
فإن كان عبدا ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز للمولى قتله لانه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى إقامتها كحد الزنا
والثانى لا يجوز للمولى قتله لانه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه فى إصلاح ملكه
فصل إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال أحدها أنه لا يزول ملكه عن ماله وهو اختيار المزنى رحمه الله لانه لم يوجد أكثر من سبب يبيح الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماله كما لو قتل أو زنى
والقول الثانى أنه يزول ملكه عن ماله وهو الصحيح لما روى طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا
ولانه عصم بالإسلام دمه وماله ثم ملك المسلمون دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله بالردة
والقول الثالث أنه مراعى فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه ( عن ماله ) وإن قتل أو مات على الردة حكمنا بأنه زال ملكه لان ماله معتبر بدمه ثم استباحة دمه موقوفة على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا وعلى هذا فى ابتداء ملكه بالاصطياد والابتياع وغيرهما الأقوال الثلاثة أحدها يملك
والثانى لا يملك
والثالث أنه مراعى
فإن قلنا إن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال
وإن قلنا إنه لا يزول أو مراعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه لانه تعلق به حق المسلمين وهو متهم فى إضاعته فحفظ كما يحفظ مال السفيه وأما تصرفه فى المال فإنه إن كان بعد الحجر لم يصح لانه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف فيه كالحجر على السفيه وإن كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال فى بقاء ملكه
أحدها أنه يصح
والثانى أنه لا يصح
والثالث أنه موقوف
فصل وإن ارتد وعليه دين قضى من ماله لانه ليس بأكثر من موته ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد
فصل ولا يجوز استرقاقه لانه لا يجوز إقراره على الكفر فإن ارتد وله ولد أو حمل كان محكوما بإسلامه فإذا بلغ ووصف الكفر قتل
وقال أبو العباس فيه قول آخر أنه لا يقتل لان الشافعى رحمه الله قال ولو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود
والمذهب الأول لانه محكوم بإسلامه وإنما أسقط الشافعى رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة وهو أنه بلغ ولم يصف الإسلام ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود وإن ولد له ولد بعد الردة من ذمية فهو كافر لانه ولد بين كافرين
وهل يجوز استرقاقه فيه قولان أحدهما لا يجوز لانه لا يسترق أبواه فلم يسترق
والثانى ( يسترق ) لانه كافر ولد بين كافرين
____________________
(2/223)
فجاز استرقاقه كولد الحربيين فإن قلنا لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل
وإن قلنا يجوز استرقاقه فوقع فى الأسر فللإمام أن يمن عليه وله أن يفادى به وله أن يسترقه كولد الحربيين غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر لانه دخل فى الكفر بعد نزول القرآن
فصل وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الإمام قتالها لان أبا بكر الصديق رضى الله عنه قاتل المرتدة ويتبع فى الحرب مدبرهم ويذفف على جريحهم لانه إذا وجب ذلك فى قتال أهل الحرب فلأن يجب ذلك فى قتال المرتدة وكفرهم أغلظ أولى
وإن أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل لانه لا يجوز إقراره على الكفر
فصل ومن أتلف منهم نفسا أو مالا على مسلم فإن كان ذلك فى غير القتال وجب عليه ضمانه لانه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام فلم يسقط عنه بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالإقرار عند الحاكم بالجحود
فإن أتلف ذلك فى حال القتال ففيه طريقان أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد الإسفرايينى وغيره من البغداديين ( أنه ) على قولين كما قلنا فى أهل البغى
والثانى وهو قول القاضى أبى حامد المروزى وغيره من البصريين أنه يجب عليه الضمان قولا واحدا لانه لا ينفذ قضاء قاضيهم فكان حكمهم فى الضمان حكم قاطع الطريق والأول هو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان لما روى طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبى بكر يسألونه الصلح فقال تدون قتلانا وقتلاكم فى النار فقال عمر إن قتلانا قتلوا على أمر الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على قول عمر رضى الله عنه
فصل للسحر حقيقة وله تأثير فى إيلام الجسم وإتلافه
وقال أبو جعفر الاستراباذى من أصحابنا لا حقيقة له ولا تأثير له
والمذهب الأول لقوله تعالى { ومن شر النفاثات في العقد } والنفاثات السواحر ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة من شره وروت عائشة رضى الله عنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله
ويحرم فعله لماروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من سحر أو سحر له وليس منا من تكهن أو تكهن له وليس منا من تطير أو تطير له
ويحرم تعلمه لقوله { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فذمهم على تعليمه ولان تعلمه يدعو إلى فعله وفعله محرم فحرم ما يدعو إليه
فإن علم أو تعلم واعتقد تحريمه لم يكفر لانه إذا لم يكفر بتعلم الكفر فلأن لا يكفر بتعلم السحر أولى وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر لانه كذب الله تعالى فى خبره ويقتل كما يقتل المرتد
باب صول الفحل من قصده رجل فى نفسه أو ماله أو ( فى ) أهله بغير حق فله أن يدفعه لما روى سعيد بن زيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من قاتل دون أهله أو ماله فقتل فهو شهيد وهل يجب عليه الدفع ينظر فيه فإن كان فى المال لم يجب لان المال يجوز إباحته وإن كان وجهان أحدهما أنه يجب عليه الدفع لقوله عز وجل { ولا تلقوا بأيديكم }
____________________
(2/224)
فى أهله وجب عليه الدفع لانه لا يجوز إباحته وإن كان فى النفس ففيه { إلى التهلكة }
والثانى أنه لا يجب لان عثمان رضى الله عنه لم يدفع عن نفسه ولانه ينال به الشهادة إذا قتل فجاز له ترك الدفع لذلك
فصل وإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد وإن كان فى موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف العضو فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل وإن عض يده ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحييه فك لحييه وإن لم يندفع إلا بأن يبعج جوفه بعج جوفه ولا يجب عليه فى شيء من ذلك ضمان لما روى عمران بن الحصين قال قاتل يعلى بن أمية رجلا فعض أحدهما يد صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثنيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له ولان فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رمى حجرا فرجع الحجر عليه فأتلفه
وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضوا أو قدر على دفعه بالقطع فقتله وجب عليه الضمان لانه جناية بغير حق فأشبه إذا جنى عليه من غير دفع
وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه ضربة أخرى لان القصد كف أذاه
فإن قصده فقطع يده فولى عنه فقطع يده الأخرى وهو مول لم يضمن الأولى لانه قطع بحق ويضمن الثانية لانه قطع بغير حق
وإن مات منهما لم يجب عليه القصاص فى النفس لانه مات من مباح ومحظور ولولى المقتول الخيار بين أن يقتص من اليد الثانية وبين أن يأخذ نصف دية النفس
فصل وإن وجد رجلا يزنى بامرأته ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم يجب عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل لانه قتله بحق
فإن ادعى أنه قتله لذلك وأنكر الولى ولم يكن بينة لم يقبل قوله فإذا حلف الولى حكم عليه بالقود لما روى أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتى رجلا أأمهله حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم فدل على أنه لا يقبل قوله من غير بينة
وروى سعيد بن المسيل قال أرسل معاوية أبا موسى إلى على كرم الله وجهه يسأله عن رجل وجد على امرأته رجلا فقتله فقال علي كرم الله وجهه لتخبرنى لم تسأل عن هذا فقال إن معاوية كتب إلى فقال على أنا أبو الحسن إن جاء بأربعة شهداء يشهدون على الزنا وإلا أعطى برمته يقول يقتل
فصل وإن صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلا بالقتل فقتلها لم يضمن لانه إتلاف بدفع جائز فلم يضمن كما لو قصده آدمى فقتله للدفع
فصل فإن اطلع رجل أجنبى في بيته على أهله فله أن يفقأ عينه لما روى سهل بن سعد قال اطلع رجل من جحر فى حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع النبى صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به رأسه فقال النبى صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر
وهل له أن يصيبه قبل أن ينهاه بالكلام فيه وجهان أحدهما وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى والشيخ أبى حامد الإسفراينى أنه يجوز للخبر
والثانى أنه لا يجوز كما لا تجوز إصابة من يقصد نفسه بالقتل إذا اندفع بالقول ولا يجوز أن يصيبه إلا بشيء خفيف لان المستحق بهذه الجناية فقء العين وذلك يحصل بسبب خفيف فلم تجز الزيادة عليه
وإن فقأ عينه فمات منه لم يضمن لانه سراية من مباح فلم يضمن كسراية القصاص
فإن رماه بشيء يقتل فمات ( منه ) ضمنه لانه قتله بغير حق
وإن رماه فلم يرجع استغاث عليه فإن لم يكن من يغيثه فالمستحب أن يخوفه بالله تعالى فإن لم يقبل فله أن يصيبه بما يدفعه فإن أتى على نفسه لم يضمن لانه تلف بدفع جائز
فإن اطلع أعمى لم يجز له رميه لانه لا ينظر إلى محرم وإن اطلع ذو رحم محرم لاهله لم يجز ( له )
____________________
(2/225)
رميه لانه غير ممنوع من النظر وإن كانت زوجته متجردة فقصد النظر إليها جاز له رميه لانه محرم عليه النظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة منها كما يحرم على الأجنبى
وإن اطلع عليه من باب مفتوح أو كوة واسعة فإن نظر وهو على اجتيازه لم يجز رميه لان المفرط صاحب الدار بفتح الباب وتوسعة الكوة
وإن وقف وأطال النظر ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز له رميه لانه مفرط فى الاطلاع فأشبه إذا اطلع من ثقب
والثانى أنه لا يجوز له رميه وهو قول القاضى أبى القاسم العمرى لان صاحب الدار مفرط فى فتح الباب وتوسعة الكوة
فصل وإذا دخل رجل داره بغير إذنه أمره بالخروج فإن لم يقبل فله أن يدفعه بما يدفع به من قصد ماله أو نفسه فإن قتله فادعى أنه قتله للدفع عن داره وأنكر الولى لم يقبل قول القاتل من غير بينة لان القتل متحقق وما يدعيه خلاف الظاهر
فإن أقام بينة أنه دخل داره مقبلا عليه بسلاح شاهر لم يضمن لان الظاهر أنه قصد قتله وإن أقام الولى بينة أنه دخل داره بسلاح غير شاهر ضمنه بالقود أو بالدية لان القتل متحقق وليس ههنا ما يدفعه
فصل إذا أفسدت ماشيته زرعا لغيره ولم يكن معها فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن وإن كان بالليل ضمن لما روى حزام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت زرعا فقضى النبى صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار وعلى أهل المواشى ما أصابت مواشيهم بالليل وإن كان له هرة تأكل الطيور فأكلت طيرا لغيره أو له كلب عقور فأتلف إنسانا وجب عليه الضمان لانه مفرط فى ترك حفظه
فصل وإن مرت بهيمة له بجوهرة لآخر فابتلعتها نظرت فإن كان معها ضمن الجوهرة لان فعلها منسوب إليه
وقال أبو على بن أبى هريرة إن كانت شاة لم يضمن وإن كان بعيرا ضمن لان العادة فى البعير أنه يضبط وفى الشاة أن ترسل وهذا فاسد لانه يبطل بافساد الزرع لانه لا فرق فيه بين الجميع فإن لم يكن معها ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه إن كان ذلك نهارا لم يضمن وإن كان ليلا ضمن كالزرع
والثانى وهو قول القاضى أبى الحسن الماوردى البصرى أنه يضمنها ليلا ونهارا والفرق بينه وبين الزرع أن رعى الزرع مألوف فلزم صاحبه حفظه منها وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم صاحبها حفظها منها فعلى هذا إن طلب صاحب الجوهرة ذبح البهيمة لاجل الجوهرة لم تذبح ويغرم قيمة الجوهرة فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة ثم أخرجت الجوهرة من جوفها وجب ردها إلى صاحبها لانها عين ماله واسترجعت القيمة فإن نقصت قيمة الجوهرة بالابتلاع ضمن صاحب البهيمة ما نقص وإن كانت البهيمة مأكولة ففى ذبحها وجهان بناء على القولين فيمن غصب خيطا وخاط به جرح حيوان مأكول
كتاب السير من أسلم فى دار الحرب ولم يقدر على إظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت عليه الهجرة لقوله عز وجل { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أنا برىء من كل مسلم مع مشرك فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } وإن لانه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب على غيرهم
ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء }
____________________
(2/226)
قدر على إظهار الدين ولم يخف الفتنة فى الدين لم تجب عليه الهجرة { بعضهم أولياء بعض } ولانه إذا أقام فى دار الشرك كثر سوادهم ولانه لا يؤمن أن يميل إليهم ولانه ربما ملك الدار فاسترق ولده
فصل والجهاد فرض والدليل عليه قوله عز وجل { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } وقوله تعالى { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } وهو فرض على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } ولو كان فرضا على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك ولانه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى لحيان وقال ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعدين أيكم خلف الخارج فى أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج ولانه لو جعل فرضا على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدى ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق
فصل ويستحب الإكثار منه لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله ورسوله وجهاد فى سبيل الله وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا سعيد من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة فقال أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة فى الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قلت وما هى يا رسول الله قال الجهاد فى سبيل الله الجهاد فى سبيل الله وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالع والذى نفسى بيده لوددت أن أقاتل فى سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل
وكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثا وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة وبعث خمسا وثلاثين سرية
فصل وأقل ما يجزىء فى كل سنة مرة لان الجزية تجب فى كل سنة مرة وهى بدل عن القتل فكذلك القتل ولان في تعطيله فى أكثر من سنة يطمع العدو فى المسلمين فإن دعت الحاجة فى السنة إلى أكثر من مرة وجب لانه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه
فإن دعت الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من العدة أو للطمع فى إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار جاز تأخيره لان النبى صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة ولان ما يرجى من النفع بتأخيره أكثر مما يرجى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره
فصل ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وغير عوض لانه إذا حضر تعين عليه الفرض فى حق نفسه فلا يؤديه عن غيره كما لا يحج عن غيره وعليه فرضه
فصل ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال جهادكن الحج أو حسبكن الحج ولان الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ولهذا رأى عمر عندى قتل بيضاء حرة عطبول كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول ولا يجب على الخنثى المشكل لانه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه بالشك ولا يجب على العبد لقوله عز وجل { ليس على الضعفاء } بن أبى ربيعة امرأة مقتولة فقال ( من الخفيف )
____________________
(2/227)
إن من أكبر الكبائر { ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } والعبد لا يجد ما ينفق
وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال أحر هو أو مملوك فإن قال أنا حر بايعه على الإسلام والجهاد وإن قال أنا مملوك بايعه على الإسلام ولم يبايعه على الجهاد ولانه عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج
فصل ولا يجب على الصبى والمجنون لما روى علي كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وروى عروة بن الزبير قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر نفرا من أصحابه استصغرهم منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس ورجل من بنى حارثة فجعلهم حرسا للذرارى والنساء
ولانه عبادة على البدن فلا يجب على الصبى والمجنون كالصوم والصلاة والحج
فصل ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } ولا يختلف أهل التفسير أنها فى سورة الفتح أنزلت فى الجهاد
ولانه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه وإن كان فى بصره شيء فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه لانه يقدر على القتال وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لانه لا يقدر على القتال
ويجب على الأعور والأعشى وهو الذى يبصر بالنهار دون الليل لانه كالبصير فى القتال
ولا يجب على الأعرج الذى يعجز عن الركوب والمشى للآية ولانه لا يقدر على القتال ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشى لانه يقدر على القتال
ولا يجب على الأقطع والأشل لانه يحتاج فى القتال إلى يد يضرب بها يد يتقى بها وإن قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لانه لا يقدر على القتال وإن قطع الأقل وجب عليه لانه يقدر على القتال
ولا يجب على المريض الثقيل للآية ولانه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى حفيفة أو صداع قليل لانه يقدر على القتال
فصل ولا يجب على الفقير الذى لا يجد ما ينفق فى طريقه فاضلا عن نفقة عياله لقوله عز وجل { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } فإن كان القتال على باب البلد أو حواليه وجب عليه لانه لا يحتاج إلى نفقة الطريق وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه لقوله عز وجل { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } ولانها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج
وإن بذل له الإمام ما يحتاج إليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد لان ما يعطيه الإمام حق له وإن بذل له غيره لم يلزمه قبوله لانه اكتساب مال لتجب به العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة
فصل ولا يجب على من عليه دين حال أن يجاهد من غريمه لما روى أبو قتادة رضى الله عنه أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ( أرأيت ) إن قتلت فى سبيل الله كفر الله خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت فى سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله خطاياك إلا الدين كذلك قال لى جبريل ولان فرض الدين متعين
____________________
(2/228)
عليه فلا يجوز تركه لقرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه فإن استناب من يقضيه من مال حاضر جاز لان الغريم يصل إلى حقه وإن كان من مال غائب لم يجز لانه قد يتلف فيضيع حق الغريم
وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد
والثانى أنه لا يجوز لانه يتعرض للقتل طلبا للشهادة فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه
فصل وإن كان أحد أبويه مسلما لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى الجهاد فقال أحى ولداك قال نعم قال ففيهما فجاهد وروى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال سألت النبى صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لميقاتها قلت ثم ماذا قال بر الوالدين قلت ثم ماذا قال الجهاد فى سبيل الله فدل على أن برالوالدين مقدم على الجهاد ولان الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره وبر الوالدين فرض يتعين عليه لانه لا ينوب عنه فيه غيره ولهذا قال رجل لابن عباس رضى الله عنه إنى نذرت أن أغزو الروم وإن أبوى منعانى فقال أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك
وإن لم يكن له أبوان وله جد أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما لانهما كالأبوين فى البر
وإن كان له أب وجد أو أم وجدة فهل يلزمه استئذان الأب مع الجد أو استئذان الجدة مع الأم فيه وجهان أحدهما لا يلزمه لان الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة
والثانى يلزمه وهو الصحيح عندى لان وجود الأبوين لا يسقط بر الجدين ولا ينقص شفقتهما عليه
وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لانهما متهمان فى الدين وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا إنه يجاهد من غير إذنهما لانه لا إذن لهما فى أنفسهما فلم يعتبر إذنهما لغيرهما
قال ( الشيخ الإمام ) وعندى أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بإذنهما لان المملوك كالحر فى البر والشفقة فكان كالحر فى اعتبار الإذن
وإن أراد الولد أن يسافر فى تجارة أو طلب علم جاز من غير إذن الأبوين لان الغالب فى سفر السلامة
فصل وإن أذن الغريم لغريمه أو الولد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بالإذن وإن كان بعد التقاء الزحفين ففيه قولان أحدهما أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بالإذن لانه عذر يمنع وجوب الجهاد فإذا طرأ منع من الوجوب كالعمى والمرض
والثانى أنه يجاهد من غير إذن لانه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد سابق فقدم وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير إذن الغريم ومن غير إذن الأبوين لان ترك الجهاد فى هذه الحالة يؤدى إلى الهلاك فقدم على حق الغريم والأبوين
فصل ويكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير من قبله لان الغزو على حسب حال الحاجة والإمام والأمير أعرف بذلك ولا يحرم لانه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز فى الجهاد
فصل ويجب على الإمام أن يشحن ما يلى الكفار من بلاد المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم أمراء ثقات من أهل الإسلام مدبرين لانه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن إذا توجه فى جهة الغزو أن يدخل العدو من جهة أخرى فيملك بلاد الإسلام
وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لان النبى صلى الله عليه وسلم حفر الخندق وقال البراء بن عازب رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو يقول اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا
____________________
(2/229)
ولا صلينا فأنزل سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا وإذا أراد الغرو بدأ بالأهم فالأهم لقوله عز وجل { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } فإذا استوت الجهات فى الخوف اجتهد وبدأ بأهمها عنده
فصل وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } قيل فى التفسير لاوقعوا بينكم الاختلاف وقيل لاشرعوا فى تفريق جمعكم ولان فى حضورهم إضرارا بالمسلمين
ولا نستعين بالكفار من غير حاجة لما روت عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له تؤمن بالله ورسوله قال لا قال فارجع فلن أستعين بمشرك فإن احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي فى المسلمين لم نستعن به لان ما يخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة وإن كان حسن الرأي فى المسلمين جاز أن نستعين بهم لان صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شركه حرب هوازن وسمع رجلا يقول غلبت هوزان وقتل محمد فقال بفيك الحجر لرب من قريش أحب إلى من رب من هوزان
وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز لانه لا يقع الجهاد له وفى القدر الذى يستأجر به وجهان أحدهما لا يجوز له أن تبلغ الأجرة سهم راجل لانه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبى والمرأة
والثانى وهو المذهب أنه يجوز لانه عوض فى الإجارة فجاز أن يبلغ قدر سهم الراجل كالأجرة فى سائر الإجارات
ويجوز أن يأذن للنساء لما روت الربيع بنت معوذ قالت كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخدم القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة
ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لان فيهم معاونة ولا يأذن لمجنون لانه يعرضه للهلاك من غير منفعة وينبغى أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا ينظر وهو الكبير ولا ضرعا وهو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لانه ربما كان سببا للهزيمة ولانه يزاحم به الغانمين فى سهمهم
ويأخذ البيعة على الجيش ألا يفر لما روى جابر رضى الله عنه قال كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على ألا نفر ولم نبايعه على الموت يعنى النبى صلى الله عليه وسلم
ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار لما روى جابر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير أنا فقال إن لكل نبى حواريا وحوارى الزبير
____________________
(2/230)
والمستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فى سفر إلا يوم الخميس
ويستحب أن يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن أبا سفيان أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس احبسه على الوادى حتى تمر به جنود الله فيراها قال ( العباس ) فحبسته حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتيبة الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال من هؤلاء يا عباس قال قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار فقال ما لاحد بهؤلاء من قبل والله يا با الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما
والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعبئة الحرب لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادى ولان ذلك أحوط للحرب وأبلغ فى إرهاب العدو
فصل وإن كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام لانه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم والدليل عليه قوله عز وجل { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام لما روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه يوم خيبر إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لان يهدى الله بهداك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم
وإن قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام جاز لما روى نافع قال أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى المصطلق وهم غارون وروى وهم غافلون
فصل فإن كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن يسلموا لقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها
وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية والدليل عليه قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وروى بريدة رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية قال إذا أنت لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الدخول فى الإسلام فإن أجابوك فاقبل
____________________
(2/231)
منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن دخلوا فى الإسلام وأبوا أن يتحولوا إلى دار الهجرة فأخبرهم أنهم كأعراب المؤمنين الذين يجرى عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم فى الفىء والغنيمة شيء حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم ثم قاتلهم
ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدرداء رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ائتونى بضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم
ويستحب أن يدعوا عند التقاء الصفين لما روى أنس رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال اللهم أنت عضدى وأنت ناصرى وبك أقاتل وروى أبو موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف أمرا قال اللهم إنى أجعلك فى نحورهم وأهوذ بك من شرورهم
ويستحب أن يحرض الجيش على القتال لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يا معشر الأنصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غدا فاحصدوهم حصدا وروى سعد رضى الله عنه قال نثل لى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال ارم فداك أبى وأمى
ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لما روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما رأى القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثا ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الأشعرى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون الله أكبر الله أكبر يرفعون أصواتهم فقال يأيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون قريبا سميعا إنه معكم
فصل وإذا التقى الزحفان ولم يزد عدد الكفار على مثلى عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } وهذا أمر بلفظ الخبر لانه لو كان خبرا لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين وأمر الألف بمصابرة الألفين
ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولى إلا متحرفا لقتال وهو أن ينتقل من مكان إلى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة وهو أن ينضم إلى قوم ليعود معهم إلى القتال والدليل عليه قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله } وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان فى سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا
____________________
(2/232)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون فقال لا بل أنتم العكارون ( فدنونا ) فقبلنا يده فقال إنا فئة المسلمين وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال أنا فئة كل مسلم وهو بالمدينة وجيوشه فى الآفاق
فإن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الكبائر سبع أولهن الشرك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا وفرار يوم الزحف ورمى المحصنات وانقلاب إلى الأعراب فإن غلب ظنهم أنهم إن ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان أحدهما أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }
والثانى أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } لان المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل وإن زاد عدد الكفار على مثلى عدد المسلمين فلهم أن يولوا لانه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين
وروى عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر
وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون
وإن غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان
أحدهما أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله عز وجل { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثانى أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم لانهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لقى رجل من المسلمين رجلين من المشركين فى غير الحرب فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولى عنهما لانه غير متأهب للقتال وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان أحدهما أن له أن يولى عنهما لان فرض الجهاد فى الجماعة دون الانفراد
والثانى أنه يحرم عليه أن يولى عنهما لانه مجاهد لهما فلم يول عنهما كما لو كان مع جماعة
فصل ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم لان رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر رضى الله عنه من قتل ابنه
فإن قاتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم
وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله لان أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك ولم ينكره عليه
فصل ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان
ولا يجوز قتل الخنثى المشكل لانه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم يقتل مع الشك وإن قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال من قتل هذه فقال رجل أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفى فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى سيفى أو إلى قائم سيفى لتقتلنى فقتلتها فقال النبى صلى الله عليه وسلم ما بال النساء ما شأن قتل النساء ولو حرم ذلك لانكره النبى صلى الله عليه وسلم ولانه إذا جاز قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلان يجوز قتلهن وهن كافرات أولى
فصل وأما الشيخ الذى لا قتال فيه فإن كان له رأي فى الحرب جاز قتله لان دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأي فإنه أشار على هوازن يوم حنين ألا يخرجوا معهم بالذرارى فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا فقال دريد فى ذلك ( الطويل ) أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد وقتل ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم قتله ولان الرأي فى الحرب أبلغ من القتال لانه هو الأصل وعنه يصدر القتال ولهذا قال المتنبى ( من الكامل ) الرأى قبل شجاعة الشجعان هو أول وهى المحل الثانى فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء لم يكن له رأي ففيه وفى الراهب قولان أحدهما أنه يقتل لقوله عز وجل { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ولانه ذكر مكلف حربى فجاز كل مكان
____________________
(2/233)
ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الفرسان وإن قتله بالكفر كالشاب
والثانى أنه لا يقتل لما روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال ليزيد بن أبى سفيان وعمرو ابن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم إلى الشام لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ولانه لا نكاية له فى المسلمين فلم يقتل بالكفر الأصلى كالمرأة
فصل ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال لما قتل عبد الله بن مسعود ابن النواحة قال إن هذا وابن أثال قد كانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدان أنى رسول الله قالا نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت قاتلا رسولا لضربت أعناقكما فجرت سنة ألا تقتل الرسل
فصل فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم فإن كان فى حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى الأطفال والنساء لانا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقا إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين
وإن كان فى غير حال الحرب ففيه قولان أحدهما أنه يجوز رميهم لان ترك قتالهم يؤدى إلى تعطيل الجهاد
والثانى أنه لا يجوز رميهم لانه يؤدى إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة
وإن تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين فإن كان ذلك فى حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه وإن كان في غير ( حال ) التحام الحرب لم يجز رميهم قولا واحدا والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم أن المسلم محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة والأطفال والنساء حقن دمهم لانهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة
وإن تترسوا بأهل الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين لانه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين
فصل وإن نصب عليهم منجنيقا أو بيتهم ليلا وفيهم نساء وأطفال جاز لما روى على كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وإن كانت لا تخلو من النساء والأطفال
وروى الصعب بن جثامة قال سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن الذرارى من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم ولان الكفار لا يخلون من النساء والأطفال فلو تركنا رميهم لاجل النساء والأطفال بطل الجهاد
وإن كان فيهم أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أنهم إن تركوا قاتلوا وظفروا بالمسلمين جاز رميهم لان حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم
وإن لم يخف منهم نظرت فإن كان الأسرى قليلا جاز رميهم لان الظاهر أنه لا يصيبهم والأولى ألا نرميهم لانه ربما أصاب المسلمين
وإن كانوا كثيرا لم يجز رميهم لان الظاهر أنه يصيب المسلمين وذلك لا يجوز من غير ضرورة
فصل ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب لما روى أن حنظلة بن الراهب عقر بأبى سفيان فرسه فسقط عنه فجلس على صدره فجاء ابن شعوب فقال ( الرجز ) لاحمين صاحبى ونفسى بطعنة مثل شعاع الشمس فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة ولان بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس
ذلك وإن لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وإن غلب على الظن أنها تملك عليهم ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لانها تصير غنيمة فلا يجوز إتلافها
والثانى أن الأولى ألا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق على بنى النضير وقطع البويرة فأنزل الله عز وجل { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها }
____________________
(2/234)
فصل وإن احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز { فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
فصل ويجوز للمسلم أن يؤمن من الكفار آحادا لا يتعطل بأمانهم الجهاد فى ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة لما روى عن على كرم الله وجهه أنه قال ما عندى شيء إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عن النبى صلى الله عليه وسلم أن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن عباس رضى الله عنه عن أم هانىء رضى الله عنها أنها قالت يا رسول الله يزعم ابن أمى أنه قاتل من أجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرت من أجرت يا أم هانىء ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يجبر على المسلمين أدناهم وروى فضل بن يزيد الرقاشى قال جهز عمر بن الخطاب رضى الله عنه جيشا كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا فى صحيفة وشدها مع سهم ورمى به إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانه فكتب بذلك إلى عمر رضى الله عنه فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم منهم
ولا يصح ذلك من صبى ولا مجنون ولا مكره لانه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود
فإن دخل مشرك على أمان واحد منهم فإن عرف أن أمانه لا يصح حل قتله لانه حربى ولا أمان له وإن لم يعرف أن أمانه لا يصح فلا يحل قتله إلى أن يرجع إلى مأمنه لانه دخل على أمان
ويصح الأمان بالقول وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك أو أنت آمن أو مجار أو لا بأس عليك أو لا خوف عليك أو لا تخف أو مترس بالفارسية وما أشبه ذلك لان النبى صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة من دخل دار أبى سفيان فهو آمن وقال لام هانىء قد أجرت من أجرت وقال أنس لعمر رضى الله عنه فى قصة هرمز أن ليس لك إلى قتله من سبيل قلت له تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر
وروى زرعن عبد الله أنه قال إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا وقال متحرس فقد أمنه
ويصح الأمان بالإشارة لما روى أبو سلمة قال قال عمر رضى الله عنه والذى نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته
فإن أشار إليه بالأمان ثم قال لم أرد الأمان قبل قوله لانه أعرف بما أراده ويعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع إلى مأمنه لانه دخل على أنه آمن
وإن أمن مشركا فرد الأمان لم يصح الأمان لانه إيجاب حق لغيره بعقد فلم يصح مع الرد كالإيجاب فى البيع والهبة
وإن أمن أسيرا لم يصح الأمان لانه يبطل ما ثبت للإمام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء
وإن قال كنت أمنته قبل الأسر لم يقبل قوله لانه لا يملك عقد الأمان فى هذه الحال فلم يقبل إقراره به
فصل وإن أسر امرأة حرة أو صبيا حرا رق بالأسر لان النبى صلى الله عليه وسلم قسم سبى بنى المصطلق واصطفى صفية من سبى خيبر وقسم سبى هوازن ثم استنزلته هوازن فنزل واستنزل الناس فنزلوا
وإن أسر حر بالغ من أهل القتال فللإمام أن يختار ما يرى من القتل والاسترقاق والمن والفداء فإن رأى القتل قتل لقوله عز وجل { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ولان النبى صلى الله عليه وسلم قتل يوم بن أبى معيط وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحى وقتل يوم الفتح ابن خطل
وإن رأى المن عليه جاز لقوله عز وجل { فإما منا بعد وإما فداء } ولان
____________________
(2/235)
بدر ثلاثة من المشركين من قريش مطعم بن عدى والنضر بن الحارث وعقبة النبى صلى الله عليه وسلم من على أبى عزة الجمحى ومن على ثمامة الحنفى ومن على أبى العاص بن الربيع
وإن رأى أن يفادى بمال أو بمن أسر من المسلمين فادى به لقوله عز وجل { فإما منا بعد وإما فداء } وروى عمران بن الحصين رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم فادعى أسيرا من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف
وإن رأى أن يسترقه فإن كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أو شبه كتاب استرقه لما روى عن ابن عباس أنه قال فى قوله عز وجل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أمر الله عز وجل فى الأسارى { فإما منا بعد وإما فداء } فجعل الله سبحانه وتعالى للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فى أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادهم فإن كان من عبدة الأوثان ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه لا يجوز استرقاقه لانه لا يجوز إقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد
والثانى أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس ولان من جاز المن عليه فى الأسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب
وإن كان من العرب ففيه قولان قال فى الجديد يجوز استرقاقه ( والمفاداة به ) وهو الصحيح لان من جاز المن عليه والمفاداة به من الأسارى جاز استرقاقه كغير العرب
وقال فى القديم لا يجوز استرقاقه لما روى معاذ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان الاسترقاق ثابتا على العرب لكان اليوم وإنما هو أسر وفداء فإن تزوج عربى بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك وعلى القديم الولد حر ولا ولاء عليه لانه حر من الأصل
فصل ولا يختار الإمام فى الأسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء إلا ما فيه الحظ للإسلام والمسلمين لانه ينظر لهما فلا يفعل إلا ما فيه الحظ لهما فإن بذل الأسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة ففيه وجهان أحدهما أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل ( وهو ) فى غير الأسر
( وهو ممن يجوز أن تعقد لمثله الذمة )
والثانى أنه لا يجب لانه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق والمن والفداء
وإن قتله مسلم قبل أن يختار الإمام يراه عزر القاتل لافتياته على الإمام ولا ضمان عليه لانه حربى لا أمان له وإن أسلم حقن دمه لقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وهل يرق بالإسلام أو يبقى الخيار فيه بين الاسترقاق والمن والفداء فيه قولان أحدهما أنه يرق بنفس الإسلام ويسقط الخيار فى الباقى لانه أسير لا يقتل فرق كالصبى والمرأة
والثانى أنه لا يرق بل يبقى الخيار فى الباقى لما روى عمران بن الحصين رضى الله عنه أن الأسير العقيلى قال ( يا رسول الله ) إنى مسلم ثم فاداه برجلين ولان ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما لم يسقط الخيار فى الباقى ككفارة اليمين إذا عجز فيها عن العتق فعلى هذا إذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن معهم على دينه ونفسه
وإن أسر شيخ لا قتال فيه ولا رأى له فى الحرب فإن قلنا إنه يجوز قتله فهو كغيره فى الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء
وإن قلنا لا يجوز قتله فهو كغيره إذا أسلم فى الأسر وقد بيناه
فصل وإن رأى الإمام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجعل { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } ولا يمثل به لما روى بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال اغزوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تعلوا
ويكره حمل رأس من قتل من الكفار إلى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص بعثا بريدا إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه برأس يناق البطريق فقال أتحملون الجيف إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا قال لا تحملوا إلينا منهم شيئا
وإن اختار استرقاقه كان للغانمين وإن فاداه بمال
____________________
(2/236)
كان للغانمين وإن أراد أن يسقط ( منهم شيئا من ) المال لم يجز إلا برضا الغانمين لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وفد هوازن مسلمين فقال إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين وإنى قد رأيت أن أرد إليهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفىء الله علينا فليفعل فقال الناس قد طيبنا لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزهرى أخبرنى سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ستة آلاف سبى من سبى هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين أسلموا
وإن أسر عبد فرأى الإمام أن يمن عليه لم يجز إلا برضا الغانمين وإن رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لانه مال لهم
فصل وإن دعا مشرك إلى المبارزة فالمستحب أن يبرز إليه مسلم لما روى أن عتبة وشيبة ابنى ربيعة والوليد بن عتبة دعوا إلى المبارزة فبرز إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة بن الحرث ولانه إذا لم يبرز إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين فإن بدأ المسلم ودعا إلى المبارزة لم يكره
وقال أبو على بن أبى هريرة يكره لانه ربما قتل وانكسرت قلوب المسلمين والصحيح أنه لا يكره لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال لا بأس
ويستحب ألا يبارز إلا قوى فى الحرب لانه إذا بارز ضعيف لم يؤمن أن يقتل فيضعف قلوب المسلمين وإن بارز ضعيف جاز
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لان القصد من المبارزة إظهار القوة وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف والصحيح هو الأول لان التغرير بالنفس يجوز فى الجهاد ولهذا يجوز للضعيف أن يجاهد كما يجوز للقوى
والمستحب ألا يبارز إلا بإذن الأمير ليكون ردءا له إذا احتاج فإن بارز بغير إذنه جاز
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لانه لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش والصحيح أنه يجوز لان التغرير بالنفس فى الجهاد جائز
وإن بارز مشرك مسلما نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن يرميه لانه حربى لا أمان له وإن شرط ألا يقابله غير من برز إليه لم يجز رميه وفاء بشرطه فإن ولى عنه مختارا أو مثخنا أو ولى عنه المسلم مختارا أو مثخنا جاز لكل أحد رميه لانه شرط الأمان فى حال القتال وقد انقضى القتال فزال الأمان
وإن استنجد المشرك أصحابه فى حال القتال فأنجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لانه نقض الأمان وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لانه لم ينقض الأمان ولا انقضى القتال وإن لم يشترط ولكن العادة فى المبارزة ألا يقاتله غير من يبرز إليه فقد قال بعض أصحابنا إنه يستحب ألا يرميه غيره وعندى أنه لا يجوز لغيره رميه وهو ظاهر النص لان العادة كالشرط فإن شرط ألا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انقضى القتال حتى يرجع إلى موضعه وفى له بالشرط فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه لانه نقض الشرط فسقط أمانه
فصل وإن غرر بنفسه من له سهم فى قتل كافر مقبل على الحرب ( فقتله ) استحق سلبه لما روى أبو قتادة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه فأقبل على فضمنى ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت ( فمات ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندى فأرضه ( منه ) فقال أبو بكر رضى الله عنه لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فأعطه إياه فأعطانى إياه
____________________
(2/237)
فبعث الدرع فابتعت به مخرفا فى بنى سلمة وإنه لاول مال تأثلته فى الإسلام
فإن كان ممن لا حق له فى الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير إذن لم يستحق لانه لا حق له فى السهم الراتب فلان لا يستحق السلب وهو غير راتب أولى
فإن كان ممن يرضخ له كالصبى والمرأة والكافر إذا حضر بالإذن ففيه وجهان أحدهما أنه لا يستحق لما ذكرناه
والثانى أنه يستحق لان له حقا فى الغنيمة فأشبه من له سهم
وإن لم يغرر بنفسه فى قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه وإن قتله وهو غير مقبل على الحرب كالأسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه
وقال أبو ثور كل مسلم قتل مشركا استحق سلبه لما روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من قتل ( كافرا ) فله سلبه ولم يفصل
وهذا لا يصح لان ابن مسعود رضى الله عنه قتل أبا جهل وكان قد أثخنه غلامان من الأنصار فلم يدفع النبى صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود
وإن قتله وهو مول ليكر استحق السلب لان الحرب كر وفر
وإن اشترك اثنان فى القتل اشتركا في السلب لاشتراكهما فى القتل وإن قطع أحدهما يديه أو رجليه وقتله الآخر ففيه قولان أحدهما أن السلب للأول لانه عطله
والثانى أن السلب للثانى لانه هو الذى كف شره دون الأول لان بعد قطع اليدين يمكنه أن يعدو أو يجلب وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا ركب
وإن غرر من له سهم فأسر رجلا مقبلا على الحرب وسلمه إلى الإمام حيا ففيه قولان أحدهما لا يستحق سلبه لانه لم يكف شره بالقتل
والثانى أنه يستحق لان تغريره بنفسه فى أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل وإن من عليه الإمام أو قتله استحق الذى أسره سلبه وإن استرقه أو فاداه بمال ففى رقبته وفى المال المفادى به قولان أحدهما أنه للذى أسره
والثانى أنه لا يكون له لانه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب
فصل والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب كالثياب التى يقاتل فيها والسلاح الذى يقاتل به والمركوب الذى يقاتل عليه فأما ما لا بد له عليه كخيمته وما فى رحله من السلاح والكراع فلا يستحق سلبه لانه ليس من السلب وأما ما فى يده مما لا يقاتل به كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما فى وسطه من النفقة ففيه قولان أحدهما أنه ليس من السلب لانه ليس من جنة الحرب
والثانى أنه من السلب لان يده عليه فهو كجنة الحرب
ولا يخمس السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى السلب للقاتل ولم يخمس السلب
فصل وإن حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لان بنى قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبى نسائهم وذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة
ويجب أن يكون الحاكم حرا مسلما ذكرا بالغا عاقلا عدلا عالما لانه ولاية حكم فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء
ويجوز أن يكون أعمى لان الذى يقتضى الحكم هو الذى يشتهر من حالهم وذلك يدرك بالسماع فصح من الأعمى كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة
ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم لميله إليهم ويجوز حكمه لانه عدل فى الدين
وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام جاز لانه لا يختار الإمام إلا من يجوز حكمه وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم على الصفات التى ذكرناها
وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لانه تحكيم فى مصلحة طريقها الرأى فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم فى اختيار الإمام
وإن نزلوا على حكم من لا يجوز أن يكون حاكما أو على حكم من يجوز أن يكون حاكما فمات أو على حكم اثنين فماتا أو مات أحدهما وجب ردهم
____________________
(2/238)
إلى القلعة لانهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم ( إلا برضاهم ) ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة للمسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز ( إلا برضاهم ) لانه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم
والثانى يجوز لانهم نزلوا على حكمه
وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز
وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لانه لم ينزل على هذا الشرط
وإن حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الإمام أن يمن عليهم جاز لان سعد بن معاذ رضى الله عنه حكم بقتل رجال بنى قريظة فسأل ثابت الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل
فإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين لانهم صاروا مالا لهم
فصل ومن أسلم من الكفار قبل الأسر عصم دمه وماله لما روى عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها
فإن كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لانها كالمال وإن كانت له زوجة جاز استرقاقها على المنصوص
ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته
وهذا خطأ لان منفعة البضع ليست بمال ولا تجرى مجرى المال ولهذا لا يضمن بالغصب بخلاف المال والمنفعة
وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه لان النبى صلى الله عليه وسلم حاصر بنى قريظة فأسلم ابنا شعية فأحرز بإسلامهما أموالهما وأولادهما ولانه مسلم فلم يجز استرقاقه كالأب
وإن كان له حمل من حربية لم يجز استرقاقه لانه محكوم بإسلامه فلم يسترق كالولد
وهل يجوز استرقاق الحامل فيه وجهان أحدهما لا يجوز لانه إذا لم يسترق الحمل لم يسترق الحامل ألا ترى أنه لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به والثانى أنه يجوز لانها حربية لا أمان لها
فصل وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد فى الإسلام لقوله عز وجل { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها فى الإسلام لانها أحد الأبوين فتبعها الولد فى الإسلام كالأب
وإن أسلم أحدهما والولد حمل تبعه فى الإسلام لانه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد
وإن أسلم أحد الأبوين دون الآخر تبع الولد المسلم منهما لان الإسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه فى الإسلام لانه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع الأبوين فى الإسلام كالطفل وإن بلغ عاقلا ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهانه أحدهما أنه لا يتبعه لانه زال حكم الاتباع ببلوغه عاقلا فلا يعود إليه
والثانى أنه يتبعه وهو المذهب لانه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع أبويه فى الإسلام كالطفل
فصل وإن سبى المسلم صبيا فإن كان معه أحد أبويه كان كافرا لما ذكرناه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه وإن سبى وحده ففيه وجهان أحدهما أنه باق على حكم كفره ولا يتبع السابى فى الإسلام وهو ظاهر المذهب لان يد السابى يد ملك فلا توجب إسلامه كيد المشترى
والثانى أنه يتبعه لانه لا يصح إسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه فى كفره فجعل تابعا للسابى لانه كالأب فى حضانته وكفالته فتبعه فى الإسلام
فصل وإن وصف الإسلام صبى عاقل من أولاد الكفار لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب لما روى على كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون ( و ) المغلوب على عقله ( حتى يفيق ) وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم ولانه غير مكلف فلم يصح إسلامه بنفسه كالمجنون فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لانه إذا ترك معهم خدعوه وزهدوه فى الإسلام
فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار ومن أصحابنا من قال يصح إسلامه لانه يصح صومه وصلاته فصح إسلامه كالبلغ
فصل وإن سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما وقد بيناه فى البيع
وإن سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز التفريق بينهما لانه أحد الأبوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالأم
والثانى أنه يجوز أن يفرق بينهما لان الأب لا بد أن يفارقه فى الحضانة لانه لا يتولى حضانته بنفسه وإنما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق ولهت بمفارقته فحرم التفريق بينهما
فصل وإن سبى الزوجان أو أحدهما انفسخ النكاح لما روى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه قال أصبنا نساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا عليهن فأنزل الله تعالى { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فاستحللناهن بينهما بخلاف الأم
____________________
(2/239)
فإنها لا تفارقه فى الحضانة فإنه إذا فرق بينهما
فصل وإن سبى الزوجان أو حدهما انفسخ النكاح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال أصبنا نساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا بهن فأنزل الله تعالى ^(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستحللناهن)^ قال الشافعى رحمه الله سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطاس وبنى المصطلق وقسم الفيء وأمر ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض وعلم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها
وإن كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه والذى يقتضيه قياس المذهب ألا ينفسخ النكاح لانه لم يحدث بالسبى رق وإنما حدث انتقال الملك فلم ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع
ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لانه حدث سبى يوجب الاسترقاق وإن صادف رقا كما أن الزنا يوجب الحد وإن صادف حدا
فصل إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو فاكهة أو حلاوة واحتاجوا ( إلى ذلك ) جاز لهم أكله من غير ضمان لما روى ابن عمر رضى الله عنهما قال كنا نصيب من المغازى العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه
وسئل ابن أبى أوفى عن طعام خيبر فقال كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته ولان الحاجة تدعو إلى ما يؤكل ولا يوجد من يشترى منه مع قيام الحرب فجاز لهم الأكل
وهل يجوز لهم الأكل من غير حاجة فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن هريرة أنه لا يجوز كما لا يجوز فى غير دار الحرب أكل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة
والثانى أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وقول أكثر أصحابنا لما روى عبد الله بن مغفل رضى الله عنه قال دلى جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته ثم قلت لا أعطى من هذا أحدا اليوم شيئا فالتفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلى ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا يجوز أكله من غير ضرورة قطعا وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير عوض فجاز أن يأكله من غير حاجة
ولا يجوز لاحد منهم أن يبيع شيئا منه لان حاجته إلى الأكل دون البيع وإن باع شيئا منه نظرت فإن باعه من بعض الغانمين وسلمه إليه صار المشترى أحق به لانه من الغانمين وقد حصل فى يده ما يجوز له أخذه للأكل فكان أحق به فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به لما ذكرناه فى المشترى
وإن باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على المشترى رده إلى الغنيمة لانه ابتاعه ممن لا يملك بيعه وليس هو من الغانمين فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة
فصل ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رحله من البهائم لان حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لانه لا حاجة به إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد لانه لا حاجة به إليه
وإن خرج إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان أحدهما أنه لا يلزمه ردها فى المغنم لانه مال اختص به من الغنيمة فلا يجب رده فيها كالسلب
والثانى أنه يجب ردها لانه إنما أجيز أخذه فى دار الحرب للحاجة ولا حاجة إليه فى دار الإسلام
ومن أصحابنا من قال إن كان كثيرا وجب رده قولا واحدا وإن كان قليلا فعلى القولين والصحيح هو الأول
ولا يجوز تناول ما يصاب من الأدوية من غير حاجة وإن دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه لانه ليس من الأطعمة التى يحتاج إليها فى العادة
ولا يجوز له لبس ما يصاب من الثياب لما روى رويفع بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فىء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولانه لا يحتاج إليه فى العادة فإن لبسه لزمته أجرته لانه كالغاصب
فصل ويجوز ذبح ما يؤكل للأكل ومن أصحابنا من قال لا يجوز والمذهب الأول لانه مما يؤكل فى العادة فهو كسائر الطعام ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء فإن اتخذ منه شيئا من ذلك وجب رده فى المغنم وإن زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وإن نقص لزمه أرش ما نقص لانه كالغاصب
فصل وإن أصابوا كتبا فيها كفر لم يجز تركها على حالها لان قراءتها والنظر فيها معصية
وإن أصابوا التوراة والإنجيل لم يجز تركها على حالها لانه لا حرمة لها لانها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود غسل وقسم مع الغنيمة وإن لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق لانه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين
____________________
(2/240)
فصل وإذا أصابوا خمرا وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت فى يد مسلم فإن أصابوا خنزيرا فقد قال فى سير الواقدى يقتل إن كان به عدو
فمن أصحابنا من قال إن كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر وإن لم يكن فيه عدو لم يقتل لانه لا ضرر فيه
ومنهم من قال يجب قتله بكل حال لانه يحرم الانتفاع به فوجب إتلافه كالخمر
وإن أصابوا كلبا فإن كان عقورا قتل لما فيه من الضرر وإن كان فيه ( منفعة ) دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أو من أهل الخمس وإن لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلى لان اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه فى البيوع
فصل وإن أصابوا مباحا لم يملكه الكفار كالصيد والحجر والحشيش والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده فى دار الإسلام
وإن وجد ما يمكن أن يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة فإن لم يوجد صاحبه فهو غنيمة
فصل وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات فإن لم يمنع الكفار عنها فهو لمن ( أحياها ) كموات دار الإسلام
وإن منعوا عنها كان للغانمين لانه يثبت لهم بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتا للأحياء ثم صارت الدار للمسلمين
وإن فتحت صلحا على أن تكون الأرض لهم لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتا بالأحياء لان الدار لهم فلم يملك المسلم فيها بالإحياء
فصل وما أصاب المسلمون من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين وإن كان حيوانا لم يجز إتلافه من غير ضرورة لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها قيل يا رسول الله وما حقها قال أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمى بها
وإن دعت إلى قتله ضرورة بأن كان الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون من خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا عليه جاز قتله لانه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين
فصل إذا سرق بعض الغانمين نصابا من الغنيمة فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لمعنيين
أحدهما أن له حقا فى خمسها
والثانى أن له حقا فهى أربعة أخماسها
وإن سرق بعد إخراج الخمس نظرت فإن سرق من الخمس لم يقطع لان له حقا فيه وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه أو دونه لم يقطع لان له في ذلك القدر شبهة
وإن كان أكثر من حقه ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لانه لا شبهة له فى سرقة النصاب
والثانى أنه لا يقطع لان حقه شائع فى الجميع فلم يقطع فيه
وإن كان السارق من غير الغانمين نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لان له حقا فى خمسها وإن كان بعد إخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لان فيه حقا وإن سرق ذلك من أربعة أخماسها فإن كان فى الغانمين من للسارق شبهة فى ماله كالأب والابن لم يقطع لان له شبهة فيما سرق وإن لم يكن له فيهم من له شبهة فى ماله قطع لانه لا شبهة له ( فيما سرق )
فصل وإن وطىء بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد
وقال أبو ثور يجب وهذا خطأ لان له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه المهر لانه وطء يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطىء كالوطء فى النكاح الفاسد
وإن أحبلها ثبت النسب للولد وينعقد الولد حرا للشبهة
وهل تقسم الجارية فى الغنيمة أو تقوم على الواطىء فيه طريقان من أصحابنا من قال إن قلنا إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه وإن قلنا إنها لا تصير أم ولد له لم تقوم عليه
وقال أبو إسحاق تقوم على القولين لانه لا يجوز قسمتها كما لا يجوز بيعها ولا يجوز تأخير القسمة لان فيه إضرارا بالغانمين فوجب أن تقوم
وإن وضعت فهل تلزمه قيمة الولد ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لانها تضع فى ملكه وإن لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لانها وضعته فى غير ملكه
فصل ومن قتل فى دار الحرب قتلا يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب الحد وجب عليه ما يجب فى دار الإسلام لانه لا تختلف الداران فى تحريم الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة
____________________
(2/241)
فصل وإن تجسس رجل من المسلمين للكفار لم يقتل لما روى عن على كرم الله وجهه قال بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة فقلنا أخرجى الكتاب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن ( أبى ) بلتعة رضى الله عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعض أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا حاطب ما هذا قال يا رسول الله لا تعجل على إنما كنت امرأ ملصقا فأحببت أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى ولم أفعل ذلك ارتدادا عن دينى ولا أرضى الكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدق فقال عمر دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق
فقال ) إنه قد شهد بدرا فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وقرأ سفيان إلى قوله { فقد ضل سواء السبيل }
فصل إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه وإذا استرجع منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه روى عمران بن الحصين رضى الله عنه قال أغار المشركون على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء وأسروا امرأة من المسلمين فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر فى معصية الله عز وجل ولا فيما لا يملكه ابن آدم
فإن لم يعلم به حتى قسم دفع إلى من وقع فى سهمه العوض من خمس الخمس ورد المال إلى صاحبه لانه يشق نقض القسمة
فصل وإن أسر الكفار مسلما وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم فى النفس والمال لانهم كفار لا أمان لهم
____________________
(2/242)
وإن أطلقوه على أنه فى أمان ولم يستأمنوه ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه لا أمان لهم لانهم لم يستأمنوه
والثانى وهو ظاهر المذهب أنهم فى أمانه لانهم جعلوه فى أمان فوجب أن يكونوا منه فى أمان وإن كان محبوسا فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار الإسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لان ظاهره الإكراه فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الإسلام ففيه وجهان أحدهما أنها يمين إكراه فإن خرج لم تلزمه كفارة لانه لم يقدر على الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك
والثانى أنه يمين اختيار فإن خرج لزمته الكفارة لانه بدأ بها من غير إكراه
وإن أطلق ليخرج إلى دار الإسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل لهم مالا لم يلزمه العود لان مقامه في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال لانه ضمان من مال بغير حق والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقا إلى إطلاق الأسرى
باب الأنفال يجوز لامير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلا يفضى إلى الظفر بالعدو كالتجسس والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها لما روى عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفى القفول الثلث
وتقدير النفل إلى رأي أمير الجيش لانه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره إلى رأى الأمير ويكون ذلك على قدر العمل لان النبى صلى الله عليه وسلم جعل فى البدأة الربع وفى القفول الثلث لان التغرير فى القفول أعظم لانه يدخل إلى دار الحرب والعدو منه على حذر وفى البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر
ويجوز شرط النفل من ( بيت ) مال المسلمين ويجوز شرطه من المال الذى يؤخذ من المشركين فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب قال كان الناس يعطون النفل من الخمس ولانه مال يصرف فى مصلحة فكان من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولا لانه عوض فى عقد لا تدعو الحاجة فيه إلى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولا كالجهل فى رد الآبق
وإن كان النفل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا لان النبى صلى الله عليه وسلم جعل فى البدأة الربع وفى القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة
____________________
(2/243)
فصل وإن قال الأمير من دلنى على القلعة الفلانية فله منها جارية فدله عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب للدليل شيء
ومن أصحابنا من قال يرضخ له لدلالته والمذهب الأول لانه لما جعل له الجارية من القلعة صار تقديره من دلنى على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لانه لا يقدر على تسليم الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا
وإن فتحت عنوة ولم تكن فيها جارية لم يستحق شيئا لانه شرط معدوم وإن كانت فيها جارية سلمت إليه ولا حق فيها للغانمين ولا لاهل الخمس لانه استحقها بسبب سابق للفتح وإن أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لان إسلامها يمنع من استرقاقها ويجب له قيمتها لان النبى صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن
وإن أسلمت بعد القدرة عليها
فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه وإن كان كافرا فإن قلنا إن الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على إزالة الملك عنها
وإن قلنا إنه لا يملك دفع إليه قيمتها وإن أسلم الدليل بعد ذلك لم يستحقها لانه أسلم بعد ما انتقل حقه إلى قيمتها وإن فتحت والجارية قد ماتت ففيه قولان أحدهما أن له قيمتها لانه تعذر تسليمها فوجب قيمتها كما لو أسلمت
والثانى أنه لا يجب له قيمتها لانه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها كما لو لم تكن فيها جارية
وإن فتحت صلحا نظرت فإن لم تدخل الجارية فى الصلح كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة فإن دخلت فى الصلح ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أن الجارية للدليل وشرطها فى الصلح لا يصح كما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر
والثانى أن شرطها فى الصلح صحيح لان الدليل لو عفا عنها أمضينا الصلح فيها ولو كان فاسدا لم يمض إلا بعقد مجدد فعلى هذا إن رضى الدليل بغيرها من جوارى القلعة أو رضى بقيمتها أمضينا الصلح وإن لم يرض ورضى أهل القلعة بتسليمها فكذلك وإن امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال إلى البدل ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لانه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من غير زيادة
وإن فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وإن لم تفتح لم يكن له شيء
فصل إذا قال الأمير قبل الحرب من أخذ شيئا فهو له فقد أومأ فيه إلى قولين
أحدهما أن الشرط صحيح لان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر من أخذ شيئا فهو له
والثانى وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لانه جزء من الغنيمة شرطه لمن لا يستحقه من غير شرط فلا يستحقه بالشرط كما لو شرطه لغير الغانمين والخبر ورد فى غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء
باب قسم الغنيمة والغنيمة ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب فإن كان فيها سلب للقاتل أو مال لمسلم سلم إليه لانه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال والحافظ لانه لمصلحة الغنيمة فقدم ثم يقسم الباقى على خمسة أخماس خمس لاهل الخمس ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لاهل الخمس فدل على أن الباقى للغانمين
والمستحب أن يقسم ذلك فى دار الحرب ويكره تأخيرها إلى دار الإسلام من غير عذر لان النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بني المصطلق على مياههم وقسم غنائم حنين بأوطاس وهو واد ( من أودية ) حنين فإن كان الجيش رجالة سوى بينهم وإن كانوا فرسانا سوى بينهم وإن كان بعضهم فرسانا وبعضهم رجالة جعل للراجل سهما وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لان من لم يقاتل كالمقاتل فى الارهاب العدو ولانه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لانه لا يلحق بالخيل فى التأثير فى الحرب من الكر والفر فلم يلحق بها فى السهم ويسهم للفرس العتيق وهو الذى أبواه
____________________
(2/244)
عربيان وللبرذون وهو الذى أبواه عجميان وللمقرف وهو الذى أمه عربية وأبوه عجمى وللهجين وهو الذى أبوه عربى وأمه عجمية لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة ولانه حيوان يسهم له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل
وإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف فقد قال فى الأم قيل لا يسهم له وقيل يسهم له فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما أنه لا يسهم له لانه لا يغنى غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل
والثانى يسهم له لان ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل
وقال أبو إسحاق إن أمكن القتال عليه أسهم له وإن لم يمكن القتال عليه لم يسهم له لان الفرس يراد للقتال عليه وهذا أقيس والأول أشبه بالنص
ولا يسهم للرجل لاكثر من فرس لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبى صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد ولانه لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لاكثر منه
وإن حضر بفرس والقتال فى الماء أو على حصن استحق سهمه لانه أرهب بفرسه فاستحق سهمه كما لو حضر به القتال ولم يقاتل ولانه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن
فصل فإن غصب فرسا وحضر به الحرب استحق للفرس سهمين لانه حصل به الإرهاب وفى مستحقه وجهان أحدهما أنه له
والثانى أنه لصاحب الفرس بناء على القولين فى ربح الدراهم المغصوبة
أحدهما أنه للغاصب
والثانى أنه للمغصوب منه
وإن استعار فرسا أو استأجره للقتال فحضر به الحرب استحق به السهم لانه ملك القتال عليه
وإن حضر دار الحرب بفرس وانقضت الحرب ولا فرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له
وإن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره وحضر به الحرب استحق السهم لان استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك الاستحقاق بالفرس
وإن حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له
ومن أصحابنا من قال يسهم له لانه خرج من يده بغير اختياره والمذهب الأول لان خروجه من يده يسقط السهم وإن كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن الوقعة وإن كان بغير اختياره
فصل ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مرضا يقدر معه على القتال كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له لانه من أهل القتال ولان الإنسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لاجله
وإن كان لا يقدر على القتال لم يسهم له لانه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل
فصل ولا حق فى الغنيمة لمخذل ولا لمن يرجف بالمسلمين ولا لكافر حضر بغير إذن لانه لا مصلحة للمسلمين فى حضورهم ويرضخ للصبى والمرأة والعبد والمشرك إذا حضر بالإذن ولم يسهم لهم لما روى عمير قال غزوت مع النبى صلى الله عليه وسلم وأنا عبد مملوك فلما فتح الله على نبيه خيبر قلت يا رسول الله سهمى فلم يضرب لى بسهم وأعطانى سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله فى الأرض وأمر لى من حرثى المتاع
وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن بسهم فكتب إليه ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم
____________________
(2/245)
فصل وتقدير الرضخ إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل لانه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو
ومن أين يرضخ لهم فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة لانهم أعوان المجاهدين فجعل حقهم من أصل الغنيمة كالنقال والحافظ
والثانى أنه من أربعة أخماس الغنيمة لانهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة أخماس الغنيمة
والثالث أنه من خمس الخمس لانهم من أهل المصالح فكان حقهم من سهم المصالح
فصل وإن حضر أجير فى إجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال أحدها أنه يرضخ له مع الأجرة لان منفعته مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد
والثانى أنه يسهم له مع الأجرة لان الأجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور وقد وجد الجميع
والثالث أنه يخير بين السهم والأجرة فإن اختار الأجرة رضخ له مع الأجرة وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الأجرة لان المنفعة الواحدة لا يستحق بها حقان
واختلف قوله فى تجار الجيش
فقال فى أحد القولين يسهم لهم لانهم شهدوا الوقعة
والثانى أنه لا يسهم لهم لانهم لم يحضروا للقتال
واختلف أصحابنا فى موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا
ومنهم من قال القولان إذا قاتلوا فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولا واحدا
فصل وإذا لحق بالجيش مدد أو أفلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضى الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة
وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم لانهم حضروا بعد ما صارت الغنيمة للغانمين
وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة ففيه قولان أحدهما أنه لا يسهم لهم لانهم لم يشهدوا الوقعة
والثانى أنه يسهم لهم لانهم حضروا قبل أن يملك الغانمون
فصل وإن خرج أمير فى جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التى يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش وإن غنم الجيش شاركتهم السرية لان النبى صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجميع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم ( قال المسلمون يد على من سواهم ) يسعى بذمتهم أدناهم وترد عليهم أقصاهم وترد سرايهم على قاعدهم ولان الجميع جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة
وإن أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من طريق أو طريقين اشترك الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لان الجميع جيش واحد
وإن أنفذ سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه وشارك الجيش السريتين فيما يغنمان
وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الأخرى فيما تغنمه فيه وجهان أحدهما أنها لا تشارك لان الجيش أصل السريتين وليست إحدى السريتين أصلا للأخرى
والثانى وهو الصحيح أنها تشارك لانهما من جيش واحد
وإن أنفذ الأمير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الأمير لان النبى صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا ولان الغنيمة للمجاهدين والجيش مقيم مع الأمير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت والله أعلم
باب قسم الخمس ويقسم الخمس على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوى القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل والدليل عليه قوله عز وجل { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصرف فى مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى جبير بن مطعم رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/246)
حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الأرض أو وبرة من بعيره وقال والذى نفسى بيده مالى مما أفاء الله إلا الخمس والخمس مردود عليكم فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف فى مصالحهم وأهم المصالح سد الثغور لانه يحفظ به الإسلام والمسلمين ثم الأهم فالأهم
فصل وأما سهم ذوى القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابنى عبد مناف لما روى جبير بن مطعم رضى الله عنه قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب جئت أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنوا هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذى وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بنى المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة قال إنهم لم يفارقونى فى جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنوا المطلب شيء ثم شبك بين أصابعه
ويسوى فيه بين الأغنياء والفقراء لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى منه العباس وكان موسرا بقول عامة بنى عبد المطلب ولانه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغنى والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء لما روى عبد الله بن الزبير رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم أسهم لام الزبير فى ذوى القربى ولانه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والأنثى كالميراث ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين
وقال المزنى وأبو ثور يسوى بين الذكر والأنثى لانه مال يستحق باسم القرابة فلا يفضل الذكر ( فيه ) على الأنثى كالمال المستحق بالوصية للقرابة وهذا خطأ لانه مال يستحق بقرابة الأب بالشرع ففضل الذكر فيه على الأنثى كميراث ولد الأب ويدفع ذلك إلى القاصى منهم والدانى
وقال أبو إسحاق يدفع ( ما ) فى كل إقليم إلى من فيه منهم لانه يشق نقله من إقليم إلى إقليم
والمذهب الأول لقوله عز وجل { ولذي القربى } فعم ولم يخص ولانه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصى والدانى كالميراث
فصل وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب فلا حق له فيه لان اليتيم هو الذى لا أب له وليس لبالغ فيه حق لانه لا يسمى بعد البلوغ يتيما والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الحلم
وليس للغنى فيه حق ومن أصحابنا من قال للغنى فيه حق لان اليتيم هو الذى لا أب له غنيا كان أو فقيرا والمذهب الأول لان غناه بالمال أكثر من غناه بالأب فإذا لم يكن لمن له أب فيه حق فلان لا يكون لمن له مال أولى
فصل وأما سهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لانه إذا أفرد المساكين تناول الفريقين
فصل وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريد لسفر فى غير معصية وهو محتاج على ما ذكرناه فى الزكاة
فصل ولا يدفع شيء من الخمس إلى كافر لانه عطية من الله تعالى فلم يكن للكافر فيها حق كالزكاة ولانه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن يستحقه الكافر وبالله التوفيق
باب قسم الفيء الفيء هو ( المال ) الذى يؤخذ من الكفار من غير قتال وهو ضربان أحدهما ما انجلوا عنه خوفا من المسلمين أو بذلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة والدليل عليه قوله عز وجل { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }
____________________
(2/247)
والثانى ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم
ومال من مات منهم فى دار الإسلام ولا وارث ففى تخميسه قولان قال فى القديم لا يخمس لانه مال أخذ ( منهم ) من غير خوف فلم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء
وقال فى الجديد يخمس وهو الصحيح للآية ولانه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر لا يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذى انجلوا عنه
وأما أربعة أخماسه فقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته والدليل عليه قوله عز وجل { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا تقاسم ورثتى دينارا ولا درهما ما تركته بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملى فإنه صدقة وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضى الله عنه عن عمر رضى الله عنه أنه قال لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنا لا نورث ما تركنا صدقة إن الأنبياء لا تورث فقال القوم بلى قد سمعناه ثم أقبل على على وعباس فقال أنشدكما بالله هل سمعتما ( أن ) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تركناه صدقة إن الأنبياء لا تورث فقالا نعم
أخرجه البخارى ومسلم وأبو داود
واختلف قول الشافعى رضى الله عنه فيما يحصل من مال الفيء بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فى أحد القولين يصرف فى المصالح لانه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف بعد موته فى المصالح كخمس الخمس فعلى هذا يبدأ بالأهم وهو سد الثغور وأرزاق المقاتلة ثم الأهم فالأهم
وقال فى القول الثانى هو للمقاتلة لان ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان فيه من حفظ الإسلام والمسلمين ولما كان له فى قلوب الكفار من الرعب وقد صار ذلك بعد موته فى المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم
ف صل وينبغى للإمام أن يضع ديوانا يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال قدمت على عمر رضى الله عنه من عند أبى موسى الأشعرى بثمانمائة ألف درهم فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا على بمن أبدأ منهم فقالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولى ذلك قال لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك
ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفا لان النبى صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا ولان فى ذلك مصلحة وهو أن يقوم التعريف بأمورهم ويجمعهم فى وقت العطاء وفى وقت الغزو
ويجعل العطاء فى كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل فى كل شهر ولا فى كل أسبوع لان ذلك يشغلهم عن الجهاد
فصل ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا ولا تتقدموها ولان النبى صلى الله عليه وسلم منهم فإنه محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة
واختلف الناس فى قريش فمنهم من قال كل من ينتسب إلى فهر بن مالك فهو من قريش
ومنهم من قال كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش
ويقدم من قريش بنو هاشم لانهم أقرب قبائل قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضم إليهم بنو المطلب لان النبى صلى الله عليه وسلم قال إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه
وعن عمر رضى الله عنه أنه قال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإذا كان السن فى الهاشمى قدمه على المطلبى وإذا كان فى المطلبى قدمه على الهاشمى ثم يعطى بنى عبد شمس وبنى نوفل ابنى عبد مناف ويقدم بنى عبد شمس على بنى نوفل لان عبد شمس أقرب إليه لانه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوه من أبيه وأنشد آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزير ( من الرمل ) يا أمين الله إنى قائل قول ذى بر ودين وحسب عبد شمس لا تهنها إنما عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشما وهما بعد لام ولاب ثم يعطى بنى عبد العزى وبنى عبد الدار ويقدم عبد عبد العزى على عبد الدار لان فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة بنت
____________________
(2/248)
خويلد منهم ولان فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول وهما حلفان كانا من قوم من قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم
وروت عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال شهدت حلف الفضول ولو دعيت إليه لاجبت وعلى هذا يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضى قريش
فإن استوى اثنان فى القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث عمر فى بنى هاشم وبنى المطلب فإن استويا فى السن قدم أقدمهما هجرة وسابقة فإذا انقضت قريش قدم الأنصارى على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار الحميدة فى الإسلام ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطى العجم ولا يقدم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب
فصل ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لانهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فوجب أن يكفوا أمر النفقة
ويتعاهد الإمام فى وقت العطاء عدد عيالهم لانه قد يزيد وينقص ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لانه قد يغلو ويرخص ليكون عطيتهم على قدر حاجتهم ولا يفضل من سبق إلى الإسلام أو إلى الهجرة على غيره لان الاستحقاق بالجهاد وقد تساووا فى الجهاد فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين فى الغنيمة
فصل ولا يعطى من الفىء صبى ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لان الفىء للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد
وإن مرض مجاهد فإن كان مرضا يرجى زواله أعطى لان الناس لا يخلون من عارض مرض وإن كان مرضا لا يرجى زواله سقط حقه من الفيء لانه خرج عن أن يكون من المجاهدين
وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان أحدهما أنه لا يعطى ولده ولا زوجته من الفىء شيئا لان ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن يعولهما وقد زال الأصل وانقطع التبع
والثانى أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج لان فى ذلك مصلحة فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد وإذا علم أنه لا يعطى اشتغل بالكسب لعياله وتعطل الجهاد
فإذا قلنا لهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن أعطى الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له وإن لم يرد الجهاد لم يكن له فى الفىء حق لانه صار من أهل الكسب
وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفىء لانها استغنت بالزوج وإن دخل وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لانه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث
فصل وإن كان فى الفىء أراض كان خمسها لاهل الخمس فأما أربعة أخماسها فقد قال الشافعى رحمه الله تكون وقفا فمن أصحابنا من قال هذا على القول الذى يقول إنه للمصالح فإن المصلحة فى الأراضى أن تكون وقفا لانها تبقى فتصرف غلتها فى المصالح وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفىء لانها صارت لهم فوجبت قسمتها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة
ومن أصحابنا من قال تكون وقفا على القولين فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها فى المصالح وإن قلنا أنها للمقاتلة صرفت غلتها فى مصالحهم لان الاجتهاد فى مال الفىء إلى الإمام ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض
ويخالف الغنيمة فإنه ليس للإمام فيها الاجتهاد ولهذا لا يجوز أن يفضل ( فيها ) بعض الغانمين على بعض وبالله التوفيق
____________________
(2/249)
باب الجزية لا يجوز أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان لقوله عز وجل { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنها لا تؤخذ من غيرهم ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية
ويجوز أخذها ممن بدل منهم دينه لانه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة بآبائهم
ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن ابن عوف أن النبى صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وروى أيضا عبد الرحمن بن عوف أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر
واختلف قول الشافعى رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا فقال فيه قولان أحدهما أنه لم يكن لهم كتاب والدليل عليه قوله عز وجل { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين }
والثانى أنه كان لهم كتاب والدليل عليه ما روى عن على كرم الله وجهه أنه قال كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وأن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فجاؤا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين أظهرهم وذهب العلم من صدورهم
فصل وإن دخل وثنى في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لانه دخل في دين حق
وإن دخل بعد التبديل نظرت فإن دخل فى دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية ولم تعقد له الذمة لانه دخل فى دين باطل
وإن دخل فى دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لانه دخل فى دين حق
وإن كان بعد النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد
وإن دخل فى دينهم ولم يعلم أنه دخل فى دين من بدل أو فى دين من لم يبدل كنصارى العرب وهم بهراء وتنوح وتغلب أخذت منهم الجزية لان عمر رضى الله عنه أخذ منهم الجزية باسم الصدقة ولانه أشكل أمره فحقن دمه بالجزية احتياطا للدم
وأما من تمسك بالكتب التى أنزلت على شيث وإبراهيم وداود ( عليهم السلام ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنهم يقرون ببذل الجزية لانهم أهل كتاب فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى
والثانى لا يقرون لان هذه الصحف كالأحكام التى تنزل بها الوحى
وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان أحدهما أنه تؤخذ منهم الجزية
والثانى لا تؤخذ وقد بيناهما فى كتاب النكاح
وأما من كان أحد أبويه وثنيا والآخر كتابيا فعلى ما ذكرناه فى النكاح
وإن دخل وثنى في دين أهل الكتاب وله ابن صغير فجاء الإسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذى انتقل إليه أبوه أخذت منه الجزية لانه تبعه فى الدين فأخذت منه الجزية
وإن غزا المسلمون قوما من الكفار لا يعرفون دينهم فادعوا أنهم من أهل الكتاب أخذت منهم الجزية لانه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقبل قولهم
وإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذا إليهم عهدهم لانه بان بطلان دعواهم
فصل وأقل الجزية دينار لما روى معاذ بن جبل رضى الله عنه قال بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرنى أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا
وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة وأخذ بأدائه لانه عوض فى عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقى الأمر فيما زاد على ما يقع عليه التراضى كما لو وكل وكيلا فى بيع سلعة وقال لا تبع بما دون دينار
فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدى باسم الصدقة ورأى الإمام أن يأخذ باسم الصدقة جاز لان نصارى العرب قالوا لعمر
____________________
(2/250)
رضى الله عنه ما تؤدى العجم ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب فأبى عمر رضى الله عنه وقال لا أقركم إلا بالجزية فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ من المسلمين فأبى عليهم فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر إن بنى تغلب عرب وفيهم قوة فخذ منهم ما قد بذلوا ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة
وإن كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلع الدينار وجب إتمام الدينار لان الجزية لا تكون أقل من دينار
وإن أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين فقالوا أسقط عنا دينارا وخذ منا دينارا باسم الجزية وجب أخذ الدينار لان الزيادة وجبت لتغيير الاسم فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة
فصل والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير المعتمل دينارا وعلى المتوسط دينارين وعلى الغنى أربعة دنانير لان عمر رضى الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثنى عشر ولان بذلك يخرج من الخلاف لان أبا حنيفة لا يجيز إلا كذلك
فصل ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من الأرض دينارا لم يجز لان الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار
وإن شرط أنه إن نقص عن دينار تمم الدنار جاز لانه يتحقق حصول الدينار
وإن غلب على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لو نقص الدينار تمم الدينار ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز لانه قد ينقص عن الدينار
والثانى أنه يجوز لان الغالب فى الثمار أنها لا تختلف
وإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض فباع الأرض من مسلم صح البيع لانه مال له وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لانه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم لا ينبغى لمسلم أن يؤدى الخراج ولانه جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية فانتقل إلى الرقبة
فصل وتجب الجزية فى آخر الحول لان النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم فى كل سنة دينار وروى أبو مجلز أن عثمان بن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين فى كل سنة فإن مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب ( عليه ) لانه عوض عن الحقن والمساكنة وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالأجرة بعد استيفاء المنفعة
فإن مات أو أسلم فى أثناء الحول ففيه قولان أحدهما أنه لا يلزمه شيء لانه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته فى أثناء الحول كالزكاة
والثانى وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لانها تجب عوضا عن الحقن والمساكنة وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته كما لو استأجر عينا مدة واستوفى المنفعة فى بعضها ثم هلكت العين
فصل ويجوز أن يشترط عليهم فى الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة من نصارى أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين
وروى عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين من نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لانفسنا وذرارينا وأموالنا وشرطنا لكم أن ننزل من يمر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا شرط ذلك عليهم إلا برضاهم لانه ليس من الجزية
ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيدر دومة لانه إذا جعل الضيافة من الدينار لم يؤمن ألا يحصل من بعد الضيافة مقدار الدينار
ولا تشترط الضيافة إلا على غنى أو متوسط
وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجبت عليه الجزية لان الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة وعدد من يضاف من الفرسان والرجالة وقدر الطعام والأدم والعلوفة معلوما ولانه من الجزية فلم يجز مع الجهل بها ولا يكلفون إلا من طعامهم إدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقالوا إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج فى ضيافتهم فقال أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك
ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام
____________________
(2/251)
لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الضيافة ثلاثة أيام وعليهم أن يسكنوهم فى فضول مساكنهم وكنائسهم لما روى عبد الرحمن بن غنم فى الكتاب الذى كتب ( لعمر رضى الله عنه ) على نصارى الشام وشرطنا ألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل
فإن كثروا وضاق المكان قدم من سبق فإذا جاءوا فى وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم
وإن لم تسعهم هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة
فصل ولا تؤخذ الجزية من صبى لحديث معاذ قال أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا ولان الجزية تجب لحقن الدم والصبى محقون الدم
وإن بلغ صبى من أولاد أهل الذمة فهو فى أمان لانه كان فى الأمان فلا يخرج منه من غير عناد فإن اختار أن يكون فى الذمة ففيه وجهان أحدهما أنه يستأنف له عقد الذمة لان العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته ( على ) ما يقع عليه التراضى
والثانى لا يحتاج إلى استئناف عقد لانه تبع الأب فى الأمان فتبعه فى الذمة فعلى هذا يلزمه جزية أبيه ( وجده من الأب ) ولا يلزمه جزية جده من الأم لانه لا جزية على الأم فلا يلزمه جزية أبيها
فصل ولا تؤخذ الجزية من مجنون لانه محقون الدم فلا تؤخذ منه الجزية كالصبى
وإن كان يجن يوما ويفيق يوما لفق أيام الإفاقة فإذا بلغ قدر سنة أخذت منه الجزية لانه ليس تغليب أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التلفيق
وإن كان عاقلا فى أول الحول ثم جن فى أثنائه وأطبق الجنون ففى جزية ما مضى من أول الحول قولان كما قلنا فيمن مات أو أسلم فى أثناء الحول
فصل ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضى الله عنه كتب إلى أمراء الجزية ألا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلا على من جرت عليه الموسى ولانها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبى
ولا تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة
وإن طلبت امرأة من دار الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم فى دار الإسلام من غير جزية جاز لانه لا جزية عليها ولكن يشترط عليها أن تجرى عليها أحكام الإسلام
وإن نزل المسلمون على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان أحدهما أنه لا يعقد لهن لان دماءهن محقونة فعلى هذا يقيمون حتى يفتحوا الحصن ويستبقوهن
والثانى أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجرى عليهن أحكام المسلمين كما قلنا فى الحربية إذا طلبت عقد الذمة فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية كالهدية وإن دفعن أخذ منهن وإن امتنعن لم يخرجن من الذمة
فصل ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال لا جزية على مملوك ولانه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه الجزية كالصبى والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لانه محقون الدم فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الجزية لانه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية
وإن أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق مسلما عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضى من الجزية وإن كان ذميا ففيه وجهان أحدهما أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضى من الجزية لان عقد المولى كان له دون العبد
والثانى يلزمه جزية المولى لانه تبعه فى الأمان فلزمه جزيته
فصل وفى الراهب والشيخ الفانى قولان بناء على القولين فى قتلهما فإن قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما
وإن قلنا إنه لا يجوز قتلهما لم تؤخذ منهما لان دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبى والمرأة
وفى الفقير الذى لا كسب له قولان أحدهما أنه ( لا تجب عليه الجزية ) لان عمر رضى الله عنه جعل أهل الجزية طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل
____________________
(2/252)
فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل ولانه إذا لم يجب خراج الأرض فى أرض لا نبات لها لم يجب خراج الرقاب فى رقبة لا كسب لها فعلى هذا يكون مع الأغنياء فى عقد الذمة فإذا أيسر استؤنف الحول
والثانى أنها تجب عليه لانها تجب على سبيل العوض فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل كالثمن والأجرة ولان المعتمل وغير المعتمل يستويان فى القتل بالكفر فاستويا فى الجزية فعلى هذا ينظر إلى الميسرة فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى
ومن أصحابنا من قال لا ينظر لانه يقدر على حقن الدم بالإسلام فلم ينظر كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم فعلى هذا يقول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وإن لم تفعل نبذنا إليك العهد
فصل ويثبت الإمام عدد أهل الذمة وأسماءهم ويحليهم بالصفات التى لا تتغير بالأيام فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الأنف
ويكتب ما يؤخذ من كل واحد منهم ويجعل على كل طائفة عريفا ليجمعهم عند أخذ الجزية ويكتب من يدخل ( منهم ) فى الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والإسلام وتؤخذ منهم الحزية برفق كما تؤخذ سائر الديون ولا يؤذيهم فى أخذها بقول ولا فعل لانه عوض فى عقد فلم يؤذهم فى أخذه بقول ولا فعل كأجرة الدار
ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها
فصل وإن مات الإمام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم من الجزية رجع إليهم فى ذلك لانه لا يمكن معرفته مع تعذر البينة إلا من جهتهم ويحلفهم استظهارا ولا يجب لان ما يدعونه لا يخالف الظاهر
فإن قال بعضهم هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخذ من كل واحد منهم ما أقر به لان إقرارهم مقبول ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض لان شهادتهم لا تقبل
وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم فإن قالوا كنا ندفع دينارين دينارا عن الجزية ودينارا هدية فالقول قولهم مع يمينهم واليمين واجبة لان دعواهم تخالف الظاهر
وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم وهو مسلم وادعى أنه أسلم فى أول ما غاب ففيه قولان أحدهما أنه لا يقبل قوله ويطالب بجزية ما مضى فى غيبته فى ( حال الكفر ) لان الأصل بقاؤه على الكفر
والثانى أنه يقبل لان الأصل براءة الذمة من الجزية
باب عقد الذمة لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام لانه من المصالح العظام فكان إلى الإمام ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } ثم قال { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية وجب الكف عنهم
وروى بريدة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش قال إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى الدخول فى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم
ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام المسلمين فى حقوق الآدميين فى العقود والمعاملات وغرامات المتلفات
فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد والدليل عليه قوله عز وجل { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } والصغار هو أن تجرى عليهم أحكام المسلمين ولا فرق بين الخيابرة وغيرهم فى الجزية والذى يدعيه الخيابرة أن معهم كتابا من على
____________________
(2/253)
ابن أبى طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من علماء الإسلام وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع
فصل وإن كان أهل الذمة فى دار الإسلام أخذوا بلبس الغبار وشد الزنار
والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم كالأزرق والأصفر ونحوهما
والزنار أن يشدوا فى أوساطهم خيطا غليظا فوق الثياب وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقا ليتميزوا ( بها ) عن قلانس المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم فى الكتاب الذى كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرطنا ألا نتشبه بهم فى شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وأن نشد الزنانير فى أوساطنا ولان الله عز وجل أعز الإسلام وأهله وندب إلى إعزاز أهله وأذل الشرك وأهله وندب إلى إذلال أهله والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال بعثت بين يدى الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شىء وجعل الصغار والذل على من خالف أمرىء
فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه
وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما
وإن شرط أحدهما أخذوا به لان التمييز يحصل بأحدهما
ويجعل فى أعناقهم خاتم ليتميزوا به عن المسلمين فى الحمام وفى الأحوال التى يتجردون فيها عن الثياب ويكون ذلك من حديد أو رصاص أو نحوهما
ولا يكون من ذهب أو فضة لان فى ذلك إعظاما لهم وإن كان لهم شعر أمروا بجز النواصى ومنعوا من إرساله كما تصنع الأشراف والأخيار من المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر على نصارى الشام وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان لان التمييز يحصل بالغيار والزنار
وهل يمنعون من لبس الديباج فيه وجهان أحدهما أنهم يمنعون لما فيه من التجبر والتفخيم والتعظيم
والثانى أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن ( والكتان )
وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن وتكون زنانيرهن تحت الإزار لانه إذا كان فوق الإزار انكشفت رؤوسهن واتصفت أبدانهن ويجعلن فى أعناقهن خاتم ( حديد ) ليتميزن به عن المسلمات فى الحمام كما قلنا فى الرجال
وإن لبسن الخفاف جعلن الخفين من لونين ليتميزن عن النساء المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل لما روى فى حديث عبد الرحمن بن غنم شرطنا ألا نتشبه بالمسلمين فى مراكبهم وإن ركبوا الحمير والبغال ركبوها على الأكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر ولا نركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضا من جانب واحد لما روى ابن عمر أن عمر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق فى أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضا على شق
فصل ولا يبدؤون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيتم المشركين فى طريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطرهم إلى أضيفها
ولا يصدرون فى المجالس
لما روى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر وأن نوفر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولان فى تصديرهم فى المجالس إعزازا لهم وتسوية بينهم وبين المسلمين فى الإكرام فلم يجز ذلك
فصل ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يعلو ولا يعلى وهل يمنعون من مساواتهم فى البناء فيه وجهان أحدهما أنهم لا يمنعون لانه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم
والثانى أنهم يمنعون لان القصد
____________________
(2/254)
أن يعلو الإسلام ولا يحصل ذلك مع المساواة وإن ملكوا دارا عالية أقروا عليها وإن كانت أعلى من دور جيرانهم لانه ملكها على هذه الصفة
وهل يمنعون من الاستعلاء فى غير محلة المسلمين فيه وجهان أحدهما أنهم لا يمنعون لانه يؤمن مع البعد أن يعلوا على المسلمين
والثانى أنهم يمنعون فى جميع البلاد لانهم يتطاولون على المسلمين
فصل ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار الصليب وإظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم لما روى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر رضى الله عنه على نصارى الشام شرطنا ألا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا فى شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا ولا نرفع أصواتنا بالقراءة فى كنائسنا فى شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج سعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا على موتانا
فصل ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع والصوامع فى بلاد المسلمين لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة وروى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر على نصارى الشام إنكم لما قدمتم علينا شرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث فى مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب
وهل يجوز إقرارهم على ما كان منها قبل الفتح ينظر فيه فإن كان فى بلد فتح صلحا واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز إقرارهما لانه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا على أن لنا البلد إلا الكنائس والبيع
وإن كان فى بلد فتح عنوة أو فتح صلحا ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز كما لا يجوز إقرار ما أحدثوا بعد الفتح
والثانى أنه يجوز لانه لما جاز إقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز إقرارهم على ما يبنى للكفر
وما جاز تركه من ذلك فى دار الإسلام إذا انهدم فهل يجوز إعادته فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى وأبى على بن أبى هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبنى الكنيسة فى دار الإسلام ولا يجدد ما خرب منها وروى عبد الرحمن بن غنم فى كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام ولا يجدد ما خرب منها ولانه بناء كنيسة فى دار الإسلام فمنع منه كما لو بناها فى موضع آخر
والثانى أنه يجوز لانه لما جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم
وإن عقدت الذمة فى بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار ما لهم من الأعياد ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لانهم فى دار لهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم فيه
فصل ويجب على الإمام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء كانوا مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم فى بلد ( لهم ) لانهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم
فإن لم يدفع عنهم حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لان الجزية للحفظ وذلك لم يوجد فلم يجب ما فى مقابلته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكين من المنفعة وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لانه يحرم فلا يجوز اقتناؤه فى الشرع فلم تجب المطالبة به
فصل وإن عقدت الذمة بشرط ألا يمنع عنهم أهل الحرب نظرت فإن كانوا مع المسلمين أو فى موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على المسلمين لم يصح العقد لانه عقد على تمكين الكفار من المسلمين فلم يصح وإن كانوا منفردين عن المسلمين فى موضع ليس لاهل الحرب طريق على المسلمين صح العقد لانه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين
وهل يكره هذا الشرط قال الشافعى رضى الله عنه فى موضع يكره وقال فى موضع لا يكره وليست المسألة على قولين وإنما هى على اختلاف حالين فالموضع الذى قال يكره إذا طلب الإمام الشرط لان فيه إظهار ضعف المسلمين والموضع الذى قال لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لانه
____________________
(2/255)
ليس فيه إظهار ضعف المسلمين
وإن أغار أهل الحرب على أهل الذمة وأخذوا أموالهم ثم ظفر الإمام بهم واسترجع ما أخذوه من أهل الذمة وجب ( على الإمام ) رده عليهم وإن أتلفوا أموالهم أو قتلوا منهم لم يضمنوا لانهم لم يلتزموا أحكام المسلمين
وإن أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظفر بهم الإمام واسترجع ما أخذوه وجب رده على أهل الذمة وإن أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم الضمان لانهم التزموا بالهدنة حقوق الآدميين وإن نقضوا العهد وامتنعوا فى ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليهم الضمان
والثانى لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل الردة إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم
فصل وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم لقوله عز وجل { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية
وإن حكم بينهما لم ( يلزمهما ) حكمه وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور
وإن كانا ذميين نظرت فإن كانا على دين واحد ففيه قولان أحدهما أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين ألا يحكم لانهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين
وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور
والقول الثانى أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزنى لقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولانه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين وإن حكم بينهما لزمهما حكمه وإن دعا أحدهما ليحكم بينهما لزمه الحضور
وإن كانا على دينين كاليهودى والنصرانى ففيه طريقان أحدهما أنه على القولين كالقسم قبله لانهما كافران فصارا كما لو كانا على دين واحد
والثانى ( وهو ) قول أبى على بن ايبى هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا لانهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى رئيسهما فيحكم بينهما وإذا كانا على دينين لم يعرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق
واختلف أصحابنا فى موضع القولين فمنهم من قال القولان فى حقوق الآدميين وفى حقوق الله تعالى
ومنهم من قال القولان فى حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا لان الحقوق الآدميين من يطالب بها ويتوصل إلى استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما
وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها فإذا لم يحكم بينهما ضاعت
ومنهم من قال القولان فى حقوق الله تعالى فأما فى حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا لانه إذا لم يحكم بينهما فى حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك فى حقوق الله تعالى
فإن تحاكم إليه ذمى ومعاهد ففيه قولان كالذميين
وإن تحاكم إليه مسلم وذمى أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولا واحدا لانه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما ولا يحكم ( بينهما ) إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولقوله تعالى { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } وإن تحاكم إليه رجل وامرأة فى نكاح فإن كانا على نكاح لو أسلمنا عليه لم يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله وإن كانا على نكاح لو أسلما عليه وجاز إقرارهما عليه حكم بصحته لان أنكحة الكفار محكوم بصحتها والدليل عليه قوله تعالى { وقالت امرأة فرعون } فأضاف إلى فرعون زوجته وقوله تعالى { وامرأته حمالة الحطب } فأضاف إلى أبي لهب زوجته ولانه أسلم خلق كثير على أنكحة فى الكفر فأقروا على أنكحتهم
فإن طلقها أو آلى منها أو ظاهر منها حكم فى الجميع بحكم الإسلام
فصل وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا إلينا ففيه قولان أحدهما يقرون عليه لانه مهر مقبوض فأقرا عليه كما لو أقبضها من غير حكم
والثانى أنه يجب لها مهر المثل لانها قبضت عن إكراه بغير حق فصار كما لو لم تقبض
فصل ومن أتى من أهل الذمة محرما يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك محرما فى دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم والدليل عليه ما روى أنس رضى الله عنه أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين
وروى ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ولانه محرم فى دينه وقد التزم حكم الإسلام بعقد الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم
وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يجب عليه الحد لانه لا يعتقد تحريمه فلم يجب عليه عقوبة كالكفر
فإن تظاهر به عزر لانه إظهار منكر فى دار الإسلام فعزر عليه
____________________
(2/256)
فصل إذا امتنع الذمى من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين انتقض عهده لان عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما وإن قاتل المسلمين انتقض عهده سواء شرط عليه تركه فى العقد أو لم يشرط لان مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين والقتال ينافى الأمان فانتقض به العهد وإن فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه إضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعى رحمه الله تعالى ستة أشياء وهو أن يزنى بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح أو يفتن مسلما عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوي عينا لهم أو يدل على عوراتهم
وأضاف إليه أصحابنا أن يقتل مسلما فإن لم يشرط الكف عن ذلك فى العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يقتضى العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين والكف عن قتالهم
وإن شرط عليهم الكف عن ذلك فى العقد ففيه وجهان أحدهما أنه لا ينتقض به العقد لانه لا ينتقض به العهد من غير شرط فلا ينتقض به مع الشرط كإظهار الخمر والختزير وترك الغيار
والثانى أنه ينتقض به العهد لما روى أن نصرانيا استكره امرأة مسلمة على الزنا فرفع إلى أبى عبيدة ابن الجراح فقال ما على هذا صالحناكم وضرب عنقه ولان عقوبة هذه الأفعال تستوفى عليه من غير شرط فوجب أن يكون لشرطها تأثير ولا تأثير إلا ما ذكرناه من نقض العهد فإن ذكر الله عز وجل أو كتابه أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا ينبغى فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق فى حكمه حكم الثلاثة الأولى وهى الامتناع من التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والإجتماع على قتالهم
وقال عامة أصحابنا حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين وهى الأشياء السبعة إن لم يشترط فى العقد الكف عنه لم ينقض العهد وإن شرط الكف عنه فعلى الوجهين لان فى ذلك إضرار بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه إضرار بالمسلمين
ومن أصحابنا من قال من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله لما روى أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطه الأمان على هذا
وإن أظهر من منكر دينهم ما لا ضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد شرط أو لم يشرط
واختلف أصحابنا فى تعليله فمنهم من قال لا ينتقض العهد لانه إظهار ما لا ضرر فيه على المسلمين
ومنهم من قال ينتقض لانه إظهار ما يتدينون به وإذا فعل ما ينتقض به العهد ففيه قولان أحدهما أنه يرد إلى مأمنه لانه حصل فى دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الإسلام بأمان صبى
والثانى وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه لان أبا عبيدة بن الجراح قتل النصرانى الذى استكره المسلمة على الزنا ولم يرده إلى مأمنه ولانه مشرك لا أمان له فلم يجب رده إلى مأمنه كالأسير ويخالف من دخل بأمان الصبى لان ذلك غير مفرط لانه اعتقد صحة عقد الأمان فرد إلى مأمنه وهذا مفرط لانه نقض العهد فلم يرد إلى مأمنه فعلى هذا يختار الإمام ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء كما قلنا فى الأسير
فصل ولا يمكن مشرك من الإقامة فى الحجاز قال الشافعى رحمه الله هى مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها
قال الأصمعى سمى حجازا لانه حاجز بين تهامة ونجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضى الله عنه قال اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأراد الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل مجران من جزيرة العرب وروى ابن عمر رضى الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب فإن جزيرة العرب فى قول الأصمعى من أقصى عدن إلى ريف العراق فى الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام فى العرض
وفى قول أبى عبيدة ما بين حفر أبى موسى الأشعرى إلى أقصى اليمن فى الطول وما بين النهرين إلى السماوة وفي العرض
قال يعقوب حفر أبى موسى على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل
وأما نجران فليست من الحجاز
____________________
(2/257)
ولكن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يأكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر
ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة لان عمر رضى الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا فى مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الإمام لان دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأى الإمام فإن استأذن فى الدخول فإن كان للمسلمين فيه منفعة بدخوله لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة أو عقد هدنة أذن فيه لان فيه مصلحة للمسلمين
فإن كان فى تجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئا لان عمر رضى الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل وتقدير ذلك إلى رأى الإمام لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه فإن دخل للتجارة فله أن يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضى الله عنه ولانه لا يصير مقيما بالثلاثة ويصير مقيما بما زاد وإن أقام فى موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم فى كل موضع ثلاثة أيام جاز لانه لم يصر مقيما فى موضع ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز لانه ليس بموضع للإقامة ويمنع من المقام فى سواحله والجزائر المكونة فيه لانه من بلاد الحجاز
وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لانه موضع ضرورة وإن مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لان الدفن إقامة على التأبيد وإن خيف عليه التغير فى النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لانه موضع ضرورة
فصل ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمسجد الحرام عبارة عن الحرم والدليل عليه قوله عز وجل { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وأراد به مكة لانه أسرى به من منزل خديجة وروى عطاء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل مشرك المسجد الحرام
فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع رسالته وإن جاء لحمل ميرة خرج إليه من يشترى منه وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه وإن دخل ومرض فيه لم يترك فيه وإن مات لم يدفن فيه وإن دفن فيه نبش وأخرج منه للآية ولانه إذا لم يجز دخوله فى حياته فلان لا يجوز دفن جيفته فيه أولى
وإن تقطع ترك لان النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن قبل الفتح
وإن دخل بغير إذن فإن كان عالما بتحريمه عزر وإن كان جاهلا أعلم فإن عاد عزر وإن أذن له فى الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى لانه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل وإن كان فاسدا لانه لا أجرة لمثله
والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على تسعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على سبعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال
فصل وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من غير إذن لما روى عياض الأشعرى أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصرانى فأعجب عمر خطه فقال قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتابا فقال إنه لا يدخل المسجد فقال لم أجنب هو قال لا هو نصرانى
قال فانتهره عمر
فإن دخل من غير إذن عزر لما روت أم غراب قالت رأيت عليا كرم الله وجهه على المنبر وبصر بمجوسى فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة
فإن استأذن فى الدخول فإن كان لنوم أو أكل لم يؤذن له لانه يرى ابتذاله تدينا فلا يحميه من أقذاره وإن كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله عز وجل { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ولانه ربما كان ذلك سببا لاسلامه وقد روى أن عمر رضى الله عنه سمع أخته تقرأ { طه } فأسلم
وإن كان جنبا ففيه وجهان أحدهما أنه يمنع من المقام فيه لانه إذا منع المسلم إذا كان جنبا فلان يمنع المشرك أولى
والثانى أنه لا يمنع لان المسلم يعتقد تعظيمه فمنع والمشرك لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع
وإن وفد قوم من الكفار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم فى المسجد لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أنزل سبى بنى قريظة والنضير فى مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال فى المسجد
____________________
(2/258)
فصل ولا يمكن حربى من دخول دار الإسلام من غير حاجة لانه لا يؤمن كيده ولعله يدخل للتجسيس أو شراء سلاح فإن استأذن فى الدخول لاداء رسالة أو عقد ذمة أو هدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الإذن له من غير عوض لان فى ذلك مصلحة للمسلمين
وإذا انقضت حاجته لم يمكن من المقام فإن دخل من غير ذمة ولا أمان فللإمام أن يختار ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء والدليل عليه ما روى ابن عباس فى فتح مكة ومجىء أبى سفيان مع العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعنى أضرب عنقه فقال العباس يا رسول الله إنى قد أجرته ولانه حربى لا أمان له فكان حكمه ما ذكرناه كالأسير
وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله لانه يتعذر إقامة البينة على الرسالة
وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل قوله لانه لا يتعذر إقامة البينة على الأمان
والثانى أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب لان الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان
وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا بمال يؤخذ من تجارته لان عمر رضى الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب
ويستحب ألا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضى الله عنه فإن نقص باجتهاده جاز لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمى فى دخول الحجاز فى السنة إلا مرة كما لا تؤخذ الجزية منه فى السنة إلا مرة
وما يؤخذ من الحربى فى دخول دار الإسلام فيه وجهان أحدهما أنه يؤخذ منه فى كل سنة مرة كأهل الذمة فى الحجاز
والثانى أنه يؤخذ منه فى كل مرة يدخل لان الذمى تحت يد الإمام ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير والحربى يرجع إلى دار الحرب فإذا لم يؤخذ منه فات ما شرط عليه
وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه باع أو لم يبع
وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ منه لانه لم يحصل الثمن
وإن دخل الذمى الحجاز أو الحربى دار الإسلام ولم يشرط عليه فى دخوله مال لم يؤخذ منه شيء
ومن أصحابنا من قال يؤخذ من تجارة الذمى نصف العشر ومن تجارة الحربى العشر لانه قد تقرر هذا فى الشرع بفعل عمر رضى الله عنه فحمل مطلق العقد عليه
والمذهب الأول لانه أمان من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة
باب الهدنة لا تجوز عقد الهدنة لاقليم أو ضقع عظيم إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام لانه لو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة فى قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للإمام أو للنائب عنه فإن كان الإمام مستظهر نظرت فإن لم يكن فى الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } وإن كان فيها مصلحة بأن يرجو إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } ولا يجوز أن يهادنهم سنة فما زاد لانها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزية
وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه قولان أحدهما أنه لا يجوز لان الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية لقوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } وأمر بقتال عبدة الأوثان إلى أن يؤمنوا لقوله عز وجل { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ثم أذن فى الهدنة فى أربعة أشهر وبقى ما زاد على ظاهر الآيتين
والقول الثانى أنه يجوز لانها مدة تقصر عن مدة الجزية فجاز فيها عقد الهدنة كأربعة أشهر
____________________
(2/259)
وإن كان الإمام غير مستظهر بأن كان فى المسلمين ضعف وقلة وفى المشركين قوة وكثرة أو كان الإمام مستظهرا لكن العدو على بعد ويحتاج فى قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعو إليها الحاجة وأكثرها عشر سنين لان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشا فى الحديبية عشر سنين ولا يجوز فيما زاد على ذلك لان الأصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت فيه الرخصة وهو عشر سنين وبقى ما زاد على الأصل
وإن عقد على عشر سنين وانقضت والحاجة باقية استأنف العقد فيما تدعو الحاجة إليه وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على العشر وفى العشر قولان بناء على تفريق الصفقة فى البيع
وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين لم تجز الزيادة عليها فإن عقد على ما زاد الخمس سنين بطل العقد فيما زاد وفي الخمس قولان فإن عقد الهدنة مطلقا من غير مدة لم يصح لان إطلاقه يقتضى التأبيد وذلك لا يجوز
وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لان النبى صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال أقركم ما أقركم الله
وإن قال غير النبى صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لانه لا طريق له إلى معرفة ما عند الله تعالى ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم ما عند الله تعالى بالوحى
وإن هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأى جاز فإن شاء فلان أن ينقض نقض
وإن قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لانه جعل الكفار محكمين على المسلمين وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم الإسلام يعلو ولا يعلى
ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم لان فى ذلك مصلحة للمسلمين ولا يجوز بمال يؤدى إليهم من غير ضرورة لان فى ذلك إلحاق صغار بالإسلام فلم يجز من غير ضرورة فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام أو أسروا رجلا من المسلمين وخيف تعذيبه جاز بدل المال لاستنقاذه منهم لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن الحارث بن عمر والغطفانى رئيس غطفان قال للنبى صلى الله عليه وسلم إن جعلت لى شطر ثمار المدينة وإلا ملاتها عليك خيلا ورجلا فقال النبى صلى الله عليه وسلم حتى أشاور السعديين يعنى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد ابن زرارة فقالوا إن كان هذا بأمر من السماء فتسليم لامر الله عز وجل وإن كان برأيك فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم فى الجاهلية تمرة إلا شراء أو قراء وكيف وقد أعزنا الله بك فلم يعطهم شيئا فلو لم يجز عند الضرورة لما رجع إلى الأنصار ليدفعوه إن رأوا ذلك ولان ما يخاف من الاصطلام وتعذيب الأسير أعظم فى الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما
وهل يجب بذل المال فيه وجهان بناء على ( القولين ) فى وجوب الدفع عن نفسه وقد بيناه فى الصول فإذا بذل لهم على ذلك مال لم يملكوه لانه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر
فصل ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لان النبى صلى الله عليه وسلم عقد الصلح بالحديبية فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط مسلمة فجاء أخواها فطلباها فأنزل الله عز وجل { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى منع من الصلح فى النساء ولانه لا يؤمن أن تزوج بمشرك فيصيبها ولا يؤمن أن تفتن فى دينها لنقصان عقلها
ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة ( له من الرجال ) تمنع عنه لانه لا يأمن على نفسه فى إظهار دينه فيما بينهم ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع عنه لانه يأمن على نفسه فى إظهار دينه ولا يجوز عقدها مطلقا على رد من جاء من الرجال مسلما لانه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز
فصل وإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة على ما لا يجوز من النقصان عن دينار فى الجزية أو المقام فى الحجاز أو الدخول إلى الحرم أو بناء كنيسة فى دار الإسلام أو ترك الغيار أو إظهار الخمر والخنزير فى دار الإسلام وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ولما روى عن عمر رضى الله عنه أنه خطب الناس وقال ردوا الجهالات إلى السنة ولانه عقد على محرم فلم يجز الإقرار عليه كالبيع بشرط باطل أو عوض محرم
فصل وإن عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن تنقضى المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل { أوفوا بالعقود } ولقوله تعالى { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين }
____________________
(2/260)
ولقوله عز وجل { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } وروى سليمان ابن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية فى أرضهم كأنه يريد أن يغير عليهم فقال له عمرو بن عبسة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقدة ولا يشدها حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء قال فانصرف معاوية ذلك العام ولان الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا عند قدرتهم علينا فيؤدى ذلك إلى الإضرار بالمسلمين
وإن مات الإمام الذى عقد الهدنة وولى غيره لزمه إمضاؤه لما روى أن نصارى نجران أتوا عليا كرم الله وجهه وقالوا إن الكتاب ( كان ) بيديك والشفاعة إليك وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها فقال على إن عمر كان رشيدا فى أمره وإنى لا أغير أمرا فعله عمر رضى الله عنه
فصل ويجب على الإمام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من أهل الذمة لان الهدنة عقدت على الكف عنهم ولا يجب عليه منع من قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لان الهدنة لم تعقد على حفظهم وإنما عقدت على تركهم بخلاف أهل الذمة فإن ( أهل ) الذمة عقدت على حفظهم فوجب منع كل من يقصدهم
ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم لان الهدنة تقتضى الكف عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب فى ذلك
فصل إذا جاءت منهم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهرا حلالا فجاء زوجها فى طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر فيه قولان أحدهما يجب لقوله عز وجل { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا } ولان البضع مقوم حيل بينه وبين مالكه فوجب رد بدله كما لو أخذ منهم مالا وتعذر رده
والقول الثانى وهو الصحيح وهو اختيار المزنى أنه لا يجب لان البضع ليس بمال والأمان لا يدخل فيه إلا المال ولهذا لو أمن مشركا لم تدخل امرأته فى الأمان ولانه لو ضمن البضع بالحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند تعذر الرد بالمثل بقيمته ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن بالمسمى
وأما الآية فإنها نزلت فى صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية قبل تحريم رد النساء وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فسقط ضمان المهر
فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع
وإن قلنا إنه يجب وعليه التفريع وجب ذلك فى خمس الخمس لانه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس الخمس
وإن لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر لقوله تعالى { وآتوهم ما أنفقوا } وهذا لم ينفق
وإن دفع إليها مهرا حراما كالخمر والخنزير لم يجب له شيء لانه لا قيمة لما دفع إليها فصار كما لو لم يدفع إليها شيئا
فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر منه لان الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع
وإن جاءت إلى بلد ليس فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر لانه يجب فى سهم المصالح وذلك إلى الإمام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره
فصل وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لان الحيلولة حصلت بالإسلام وإن جاءت مجنونة ووصفت الإسلام ولم يعلم هل وصفته فى حال عقلها أو فى حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون ( قد ) وصفته فى حال عقلها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها فى الإسلام فلم يجز ردها احتياطا للإسلام وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها وإن وصفت الإسلام لم ترد فإذا جاء الزوج فى طلبها دفع إليه مهرها لانه حيل بينهما بالإسلام وإن طلب مهرها
____________________
(2/261)
قبل الإفاقة لم يدفع إليه لان المهر يجب بالحيلولة وذلك لا يتحقق قبل الإفاقة لجواز أن تفيق وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب مع الشك
فصل فإن جاءت صبية ووصفت الإسلام لم ترد إليهم وإن لم يحكم بإسلامها لانا نرجو إسلامها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها فى الإسلام فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن وصفت الإسلام دفع إلى زوجها المهر لانه تحقق المنع بالإسلام فإن جاء يطلب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهن أحدهما أنه يدفع إليه مهرها لانها منعت منه بوصف الإسلام فهى كالبالغة
والثانى أنه لا يدفع لان الحيلولة لا تتحقق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب المهر كما قلنا فى المجنونة
فصل وإن جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لانه يجب قتلها وإن جاء زوجها يطلب مهرها فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لان الحيلولة حصلت بالقتل وإن كان قبل القتل ففيه وجهان أحدهما أنه يجب لان المنع وجب بحكم الإسلام
والثانى لا يجب لان المنع وجب لاقامة الحد لا بالإسلام
فصل وإن جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما فإن كان الموت بعد المطالبة بها وجب المهر لان الحيلولة حصلت بالإسلام وإن كان قبل المطالبة لم يجب لان الحيلولة حصلت بالموت
فصل فإن أسلمت ثم طلقها الزوج فإن كان الطلاق بائنا فهو كالموت وقد بيناه وإن كان رجعيا لم يجب دفع المهر لانه تركها برضاه وإن راجعها ثم طالب بها وجب دفع المهر لانه حيل بينهما بالإسلام وإن جاءت مسلمة ثم أسلم الزوج فإن أسلم قبل انقضاء العدة وجب المهر لانه وجب قبل البينونة وإن طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لان الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين
فصل وإن هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الإمام نظرت فإن فارقتهم وهى مشركة ثم أسلمت صارت حرة لانا بينا أن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر فإن جاء مولاها فى طلبها لم ترد عليه لانها أجنبية منه لا حق له فى رقبتها ولانها مسلمة فلا يجوز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايينى رحمه الله فيها قولين كالحرة إذا هاجرت وجاء الزوج يطلب مهرها
والصحيح أنه لا تجب قيمتها قولا واحدا وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبرى رحمه الله لان الحيلولة حصلت بالقهر قبل الإسلام وتخالف الحرة فإنها منعت بالإسلام والأمة منعت بالملك وقد زال الملك فيها قبل الإسلام
وإن أسلمت وهى عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لانهم فى أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة فإن جاء مولاها فى طلبها لم ترد إليه لانها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو غصب ( منه ) مال وتلف
وإن كانت الأمة مزوجة من حر فجاء زوجها فى طلبها لم ترد إليه وإن طلب مهرها فعلى القولين فى الحرة
وإن كانت مزوجة ( من عبد ) فعلى القولين أيضا إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لان البضع له فلا يملك المولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر لان المهر له فلا يملك الزوج المطالبة به
فصل وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له العود إليهم والأفضل ألا يعود وقد بينا ذلك فى أول السير فإن عقد الهدنة على رده واختار العود لم يمنع لان النبى صلى الله عليه وسلم أذن لابى جندل وأبى بصير فى العود
وإن اختار المقام فى دار الإسلام لم يمنع لانه لا يجوز إجبار المسلم على الانتقال إلى دار الشرك وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم نمنعك منه وإن لم تقدر لم نعنك عليه ونقول للمطلوب فى السر إن رجعت إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الإسلام كان أفضل لان النبى صلى الله عليه وسلم رد أبا بصير فهرب منهم وأتى النبى صلى الله عليه وسلم وقال قد وفيت لهم ونجانى الله منهم
فصل ومن أتلف منهم على مسلم مالا وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب عليه القصاص وإن قذفه وجب عليه الحد لان
____________________
(2/262)
الهدنة تقتضى أمان المسلمين فى النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب فى ذلك
ومن شرب منهم الخمر أو زنى لم يجب عليه الحد لانه حق لله تعالى ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى
فإن سرق مالا لمسلم ففيه قولان أحدهما أنه لا يجب عليه القطع لانه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا
والثانى أنه يجب عليه لانه حد يجب لصيانة حق الآدمى فوجب عليه كحد القذف
فصل إذا نقض أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انقضت الهدنة لقوله عز وجل { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } فدل على أنهم إن ظاهروا علينا أحدا لم نتم إليهم عهدهم ولان الهدنة تقتضى الكف عنا فانتقضت بتركه ولا يفتقر نقضها إلى حكم الإمام بنقضها لان الحكم إنما يحتاج إليه فى أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد
وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة فى حق الجميع والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به فقال الله عز وجل { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها } ولان النبى صلى الله عليه وسلم وادع بنى قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخندق وقيل إن الذى أعان منهم ثلاثة حيى بن أخطب وأخوه وآخر ( معهم ) فنقض النبى صلى الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ولان النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاربت بنو بكر خزاعة وأعان نفر من قريش بنى بكر على خزاعة وأمسك سائر قريش فجعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك نقضا لعهدهم وسار إليهم حتى فتح مكة ولانه لما كان عقد بعضهم الهدنة أمانا لمن عقد ولمن أمسك وجب أن يكون نقض بعضهم نقضا لمن نقض ولمن أمسك
وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الإمام بذلك انتقض عهد من نقض وصار حربا لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض لانه لم ينقض العهد ولا رضى بفعل من نقض
فإن كان من لم ينقض مختلطا بمن نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم فإن لم يفعلوا أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم لانهم صاروا مظاهرين لاهل الحرب وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين وقد بيناه فى أول السير
وإن أسر الإمام قوما منهم وادعوا أنهم ممن لم ينقض العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم لانه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم
فصل وإن ظهر منهم من يخاف معه الخيانة جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله عز وجل { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } ولا تنتفض الهدنة إلا أن يحكم الإمام بنقضها لقوله عز وجل { فانبذ إليهم على سواء } ولان نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم
وإن خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ إليهم
والفرق بينهم وبين عقد أهل الهدنة أن النظر فى عقد الذمة وجب لهم ولهذا إذا طلبوا عقد الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر فى عقد الهدنة لنا ولهذا لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها إلى الإمام وإن رأى عقدها عقد وإن لم ير عقدها لم يعقد فكان النظر إليه فى نقضها عند الخوف ولان أهل الذمة فى قبضته فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف
وإن لم يظهر منهم ما يخاف معه الخيانة لم يجز نقضها لان الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف ولان نقض الهدنة من غير سبب يبطل مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون إليها
وإذا نقض الهدنة عند خوف الخيانة ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم لانهم دخلوا على أمان فوجب ردهم إلى المأمن وإن كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم
فصل إذا دخل الحربى دار الإسلام بأمان فى تجارة أو رسالة ثبت له الأمان فى نفسه وماله ويكون حكمه فى ضمان النفس والمال وما يجب
____________________
(2/263)
عليه من الضمان والحدود حكم المهادن لانه مثله فى الأمان فكان مثله فيما ذكرناه
وإن عقد الأمان ثم عاد إلى دار الحرب فى تجارة أو رسالة فهو على الأمان فى النفس والمال كالذمى إذا خرج إلى دار الحرب فى تجارة أو رسالة
وإن رجع إلى دار الحرب بنية المقام وترك ماله فى دار الإسلام انتقض الأمان فى نفسه ولم ينتقض فى ماله فإن قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا فيه قولان قال فى سير الواقدى ونقله المزنى أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئا
وقال فى المكاتب يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين أحدهما أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزنى والدليل عليه أن المال لوارثه ومن ورث مالا ورثه بحقوقه وهذا الأمان من حقوق المال فوجب أن يورث
والقول الثانى أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئا ووجهه أنه لما مات انتقل ماله إلى وارثه
وهو كافر لا أمان له فى نفسه ولا فى ماله فكان غنيمة
وقال أبو على بن خيران المسألة على اختلاف حالين فالذى قال يغنم إذا عقد الأمان مطلقا ولم يشرط لوارثه والذى قال لا يغنم إذا عقد الأمان لنفسه ولوارثه وليس للشافعى رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة
وأما إذا مات فى دار الإسلام فقد قال فى سير الواقدى أنه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال هو أيضا على قولين ( كالمسألة التى ) قبلها والشافعى نص على أحد القولين
ومنهم من قال يرد إلى وارثه قولا واحدا
والفرق بين المسألتين أنه إذا مات فى دار الإسلام مات على أمانه فكان ماله على الأمان وإذا مات فى دار الحرب فقد مات بعد زوال اتمانه فبطل فى أحد القولين أمان ماله فإن استرق زال ملكه عن المال بالاسترقاق وهل يغنم فيه قولان أحدهما يغنم فيئا لبيت المال والقول الثانى أنه موقوف لانه لا يمكن نقله إلى الوارث لانه حى ولا إلى مسترقه لانه مال له أمان فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم وإن مات عبدا ففى ماله قولان حكاهما أبو على بن أبى هريرة
أحدهما أنه يغنم فيئا ولا يكون موروثا لان العبد لا يورث
والثانى أنه لوارثه لانه ملكه فى حريته
فصل فإن اقترض حربى من حربى مالا ثم دخل إلينا بأمان أو أسلم فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لانه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل كما لو تزوج حربية ثم أسلم
قال ويحتمل أنه لا يلزمه البدل فإن الشافعى رحمه الله قال فى النكاح إذا تزوج حربى حربية ودخل بها وماتت ثم أسلم الزوج أو دخل إلينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شيء له لانه مال فائت فى حال الكفر
قال والأول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربى تزوجها على غير مهر فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالا أو اقترض منهم مالا وعاد إلى دار الإسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض لان الأمان يوجب ضمان المال فى الجانبين فوجب رده
باب خراج السواد سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولا ومن القادسية إلى حلوان عرضا قال الساجى هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب
وقال أبو عبيد هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب
وفتحها عمر رضى الله عنه وقسمها بين الغانمين ثم سألهم أن يردوا ففعلوا والدليل عليه ما روى قيس بن أبى حازم البجلى قال كنا ربع الناس فى القادسية فأعطانا عمر رضى الله عنه ربع السواد وأخذناها ثلاث سنين ثم وفد جرير بن عبد الله البجلى إلى عمر رضى الله عنه بعد ذلك فقال أما والله لولا أنى قاسم مسئول لكنتم على ( ما قسم ) لكم وأرى أن تردوا على المسلمين ففعلوا ولا تدخل في ذلك البصرة وإن كانت داخلا فى حد السواد لانها كانت أرضا سبخة فأحياها عمرو بن أبي العاص الثقفي وعتبة بن غزوان بعد الفتح إلا مواضع من شرقى دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات ومن غربى دخلتها نهر يعرف بنهر المرة
واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضى الله عنه فيما فتح من أرض السواد
____________________
(2/264)
فقال أبو العباس وأبو إسحاق باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن والدليل عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير إنكار
وقال أبو سعيد الإصطخرى وقفها عمر رضى الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ( ولا شراؤها ) ولا هبتها ولا رهنها وإنما تنقل من يد إلى يد وما يؤخذ من الخراج فهو أجرة
وعليه نص فى سير الواقدى والدليل عليه ما روى بكير بن عامر عن عامر قال اشترى عقبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال ممن اشتريتها قال من أهلها قال فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئا قالوا لا
قال فاذهب فاطلب مالك
فإذا قلنا إنه وقف فهل تدخل المنازل فى الوقف فيه وجهان أحدهما أن الجميع وقف
والثانى أنه لا يدخل فى الوقف غير المزارع لانا لو قلنا إن المنازل دخلت فى الوقف أدى إلى خرابها
وأما الثمار فهل يجوز لمن هى فى يده الانتفاع بها فيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها فى مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى الساجى فى كتابه عن أبى الوليد الطيالسى أنه قال أدركت الناس بالبصرة ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش ولا يطير ولا يشترى منه إلا أعرابى أو من يشتريه فينبذه وما كان الناس يقدمون على شرائه
والوجه الثانى أنه يجوز لمن فى يده الأرض الانتفاع بثمرتها لان الحاجة تدعو إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول
فصل ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم واختلف أصحابنا فى خراج النخل والكرم
فمنهم من قال يؤخذ من كل جريب نخل عشرة دراهم ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم لما روى مجاهد عن الشعبى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقصب ستة دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثنا عشر
ومنهم من قال يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية لما روى أبو قتادة عن لاحق بن حميد يعنى أبا مجلز قال بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة ( دراهم ) وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب القضب ستة وكتب بذلك إلى عمر رضى الله عنه فأجازه ورضى به وروى عباد بن كثير عن قحرم قال جنى عمر رضى الله عنه العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزير مائة ألف وأربعة وعشرين ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف فى مصالح المسلمين الأهم فالأهم لانه للمسلمين فصرف فى مصالحهم والله أعلم
كتاب الحدود باب حد الزنا الزنا حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وقوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما }
____________________
(2/265)
وروى عبد الله قال سألت النبى صلى الله عليه وسلم أى الذنب أعظم عند الله عز وجل قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك
قلت إن ذلك لعظيم قال قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك
قال قلت ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك
فصل إذا وطىء رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم وجب عليه الحد فإن كان محصنا وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال قال عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد الرجم فى كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله ألا إن الرجم إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف وقد قرأتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما لبتة ( نكالا من الله والله عليم حكيم ) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا
ولا يجلد المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهنى رضى الله عنهما قلا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجل فقال إن ابنى كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فقال على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها ولو وجب ( عليها ) الجلد مع الرجم لامر به
فصل والمحصن الذى يرجم هو أن يكون بالغا عاقلا حرا وطىء فى نكاح صحيح فإن كان صبيا أو مجنونا لم يرجم لانهما ليسا من أهل الحد
وإن كان مملوكا لم يرجم وقال أبو ثور إذا أحصن بالزوجية رجم لانه حد يتبعض فاستوى فيه الحر والعبد كالقطع فى السرقة وهخذا خطأ لقوله عز وجل { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فأوجب مع الإحصان خمسين جلدة
وروى أبو هريرة رضى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولان الرجم أعلى من جلد مائة فإذا لم يجب على المملوك جلد مائة فلان لا يجب الرجم أولى
ويخالف القطع فى السرقة فإنه ليس فى السرقة حد غير القطع فلو أسقطناه سقط الحد وفى ذلك فساد وليس كذلك الزنا فإن فيه حدا غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد
وأما من لم يطأ فى النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم لما روى مسروق عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزانى والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ولا خلاف أن المراد بالثيب الذى وطىء فى نكاح صحيح
واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطى بعد كماله بالبلوغ والعقل والحرية أم لا فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فلو وطىء وهو صغير أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم لانه وطء أبيح للزوج الأول فطثبت به الإحصان كما لو وطىء بعد الكمال ولان النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء
ومنهم من قال من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فإن وطىء فى حال الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم وهو ظاهر النص والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مكائة والرجم فلو جاز أن يحصن الوطء فى حال النقصان لما علق الرجم بالزنا لان الإحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه فى حال الكمال فعلى هذا إذا وطىء فى نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين صارا محصنين وإن كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين وإن كان أحدهما حرا بالغا عاقلا والآخر مملوكا أو صغيرا أو مجنونا ففيه قولان أحدهما أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير
____________________
(2/266)
محصن وهو الصحيح لانه لما جاز أن يجب بالوطء الواحد الرجم على أحدهما دون الآخر جاز أن يصير أحدهما بالوطء الواحد محصنا دون الآخر
والقول الثانى أنه لا يصير واحد منهما محصنا لانه وطء لا يصير به أحدهما محصنا فلم يصر الآخر به محصنا كوطء الشبهة
ولا يشترط فى إحصان الرجم أن يكون مسلما لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين زنيا فأمر برجمهما
فصل وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حرا جلد مائة وغرب سنة لقوله عز وجل { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وروى عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب جلد مائة والرجم
وإن كان مملوكا جلد خمسين عبدا كان أو أمة لقوله عز وجل { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فجعل ما على الأمة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق والدليل عليه أنها لو أعتقت كمل حدها والعبد كالأمة فى الرق فوجب عليه نصف ما على الحر
وهل يغرب العبد بعد الجلد فيه قولان أحدهما أنه لا يغرب لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولم يذكر النفى ولان القصد بالتغريب تعذيبه بالإخراج عن الأهل والمملوك لا أهل له
والقول الثانى أنه يغرب وهو الصحيح لقوله عز وجل { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ولانه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد
فإذا قلنا إنه يغرب ففى قدره قولان أحدهما أنه يغرب سنة لانها مدة مقدرة بالشرع فاستوى فيها الحر والعبد كمدة العنين
والثانى أنه يغرب نصف سنة للآية ولانه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد
فصل وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان أحدهما أنه يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب لانهما حدان يجبان بالزنا فتداخلا كما لو وجب حدان وهو بكر
والثانى أنه لا يدخل فيه لانهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما فى الآخر كحد السرقة والشرب فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب لان التغريب يحصل بالرجم
فصل والوطء الذى يجب به الحد أن يغيب الحشفة فى الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطء فى الفرج من الحد يجب بالوطء فى الدبر لانه فرج مقصود فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل ولانه إذا وجب بالوطء فى القبل وهو مما يستباح فلان يجب بالوطء فى الدبر وهو مما لا يستباح أولى
فصل ولا يجب على الصبى والمجنون حد الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولانه إذا سقط عنه التكليف فى العبادات والمآثم فى المعاصى فلان يسقط الحد ومبناه على الدرء والإسقاط أولى
وفى السكران قولان وقد بيناهما فى الطلاق
فصل ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولانها مسلوبة الاختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة
وهل يجب على الرجل إذا أكره على الزنا فيه وجهان أحدهما وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرناه فى المرأة
والثانى أنه يجب لان الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة والاختيار
فصل ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال ذكر الزنا بالشام فقال رجل زنيت البارحة فقالوا ما تقول قال ما علمت أن الله عز وجل حرمه فكتب يعنى عمر إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه
وروى أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضى الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات وقال أى لكاع زنيت فقالت من غوش بدرهمين تخبر بصاحبها الذى زنى بها ومهرها الذى أعطاها فقال عمر رضى الله عنه ما ترون وعنده على وعثمان
____________________
(2/267)
وعبد الرحمن بن عوف فقال على رضى الله عنه أرى أن ترجمها وقال عبد الرحمن أرى مثل ما رأى أخوك فقال لعثمان ما تقول قال أراها تستهل بالذى صنعت لا ترى به بأسا وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل فقال صدقت
فإن زنى رجل بامرأة وادععى أنه لم يعلم بتحريمه فإن كان قد نشأ فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لانا نعلم كذبه وإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ فى بادية بعهيدة من المسلمين أو كان مجنونا فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله لانه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد وإن وطىء المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ فى موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن
والثانى أنه يقبل قوله لان معرفة ذلك تحتاج إلى فقه
فصل وإن وجد امرأة فى فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه الحد لانه يحتمل ما يدعيه من الشبهة
فصل وإن كان أحد الشريكين فى الوطء صغيرا والآخر بالغا أو أحدهما مستيقظا والآخر نائما أو أحدهما عاقلا والآخر مجنونا أو أحدهما عالما بالتحريم والآخر جاهلا أو أحدهما مختارا والآخر مستكرها أو أحدهما مسلما والآخر مستأمنا وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على الآخر لان أحدهما انفرد بما يوجب الحد وانفرد الآخر بما يسقط الحد فوجب الحد على أحدهما وسقط عن الآخر وإن كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى غير المحصن الجلد والتغريب لان أحدهما انفرد بسبب الرجم والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب
وإن أقر أحدهما بالزنا وأنكر الآخر وجب على المقر الحد لما روى سهل بن سعد الساعدى أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فبعث النبى صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل
وروى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهنى رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارحمها فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة
فصل وإن استأجر امرأة ليزنى بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم محرم فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لانه لا تأثير للعقد فى إباحة وطئها فكان وجوده كعدمه
وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليه الحد لان ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد
والثانى أنه لا يجب عليه الحد وهو الصحيح لانه وطء فى ( ملكه ) فلم يجب به الحد كوطء أمته الحائض ولانه لا يختلف المذهب أنه يثبت به النسب وتصير الجارية أم ولد له فلم يجب به الحد
فإن وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور إن علم بتحريمها وجب عليه الحد لان ملك البعض لا يبيح الوطء فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم وهذا خطأ لانه اجتمع فى الوطء ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الإسقاط لان مبنى الحد على الدرء والإسقاط
وإن وطىء جارية ابنه لم يجب عليه الحد لان له فيها شبهة ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها
فصل واللواط محرم لقوله عز وجل { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } فسماه فاحشة وقد قال عز وجل { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ولان الله عز وجل عذب بها قوم لوط بما لم يعذب به أحدا فدل على تحريمه
ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد الزنا وجب عليه الحد وفى حده قولان أحدهما وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب فى الزنا فإن كان غير محصن وجب عليه الجلد والتغريب وإن كان محصنا وجب عليه الرجم لما روى أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ولانه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا
والقول الثانى أنه يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى بن عباس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ولان تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ
وكيف يقتل فيه وجهان أحدهما أنه يقتل بالسيف لانه أطلق القتل فى الخبر فانصرف إطلاقه إلى القتل بالسيف
والثانى أنه يرجم لانه قتل يجب بالوطء فكان بالرجم كقتل الزنا
فيما دون الفرج بشهوة والدليل عليه قوله عز وجل { والذين هم لفروجهم } فصل ومن حرمت مباشرته فى الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته { حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }
____________________
(2/268)
فصل ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة والدليل عليه قوله عز وجل والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ولان النبى صلى الله عليه وسلم قال لا يخلون أحدكم بامرأة ( ليست له بمحرم ) فإن ثالثهما الشيطان فإذا حرمت الخلوة بها فلان تحرم المباشرة أولى لانها أدعى إلى الحرام فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد لما روى ابن مسعود رضى الله عنه أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال إنى أخذت امرأة فى البستان وأصبت منها كل شيء غير أنى لم أنكحها فاعمل بى ما شيت فقرأ عليه أقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ويعزر عليه لانه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير
فصل ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى ( الأشعرى ) أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان
ويجب فيه التعزير دون الحد لانها مباشرة من غير إيلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج
فصل ويحرم إتيان البهيمة لقوله عز وجل { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } فإن أتى البهيمة وهو ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يجب عليه القتل لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه
وكيف يقتل على الوجهين فى اللواط
والقول الثانى أنه كالزنا فإن كان غير محصن جلد وغرب وإن كان محصنا رجم لانه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا
والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير لان الحد يجب للردع عما يشتهى وتميل إليه النفس ولهذا وجب فى شرب الخمر ولم يجب فى شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد
وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن عباس وأبى هريرة ولانها ربما أتت بولد مشوه الخلق ولانها إذا بقيت كثر تعيير الفاعل بها
ومنهم من قال لا يجب قتلها لان البهيمة لا تذبح لغير مأكلة وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن أبى عمرو وهو ضعيف وحديث أبى هريرة يرويه على بن مسهر وقال أحمد رحمه الله إن كان روى هذا الحديث غير على وإلا فليس بشيء
ومنهم من قال إن كانت البهيمة مما تؤكل ذبحت وإن كانت مما لا تؤكل لم تذبح لان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
فإن قلنا إنه يجب قتلها وهى مما يؤكل ففى أكلها وجهان أحدهما أنه يحرم لان ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع
والثانى أنه يحل أكلها لانه حيوان مأكول ذبحه من هو من أهل الزكاة
وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص بالذبح إذا قلنا إنها تؤكل لانه هو السبب فى إتلافها وذبحها
فصل وإن وطىء امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان أحدهما أنه يجب عليه الحد لانه إيلاج فى فرج محرم ولا شبهة له فيه فأشبه إذا كانت حية
والثانى أنه لا يجب لانه يقصد فلا يجب فيه الحد
فصل ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ولانها مباشرة تفضى إلى قطع النسل فحرم كاللواط
فإن فعل عزر ولم يحد لانها مباشرة محرمة من غير إيلاج فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وبالله التوفيق
باب إقامة الحد لا يقيم الحدود على الاحرار إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام لأنه لم يقم حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف لم يجز بغير إذن الإمام ولا يلزم الإمام أن يحضر إقامة الحد ولا أن يبتدىء بالرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه ولا أنه رماهم
____________________
(2/269)
بنفسه فإن ثبت الحد على عبد بإقراره ومولاه حر مكلف عدل فله أن يجلد في الزنا والقذف والرب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليد من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت وهل له أي يغر به فيه وجهان أحدهما أنه لا يغرب إلا الإمام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجدها الحد ولا يترتب عليها ثم إذا زنت فليجدها الحد ولا يترتب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر فأمر بالجلد دون النفي والثاني وهو المذهب أن له أن يغرب لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك ولأن من ملك الجلد ملك النفي كالإمام وإن ثبت عليه الحد بالبينة ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يقيم عليه الحد وهو المذهب لأن قد جعلناه في حقه كالإمام وكذلك في إقامة الحد عليه بالبينة والثاني أنه لا يجوز لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود وذلك إلى الحاكم فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير إذنه وهل له أن يقطعه في السرقة فيه وجهان أحدهما أنه لا يملك لأنه لا يملك من جنس القطع ويملك من جنس الجلد وهو التعزير والثاني أنه يملك وهو المنصوص في البويطي لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ابن عمر قطع عبدا له سرق وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت ولأنه حد فملك السيد إقامته على مملوكه كالجلد وله أن يقتله بالردة على قول من ملك إقامة الحد على العبد وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل والصحيح أن له أن يقتله لأن حفصة رضي الله عنها قتلت أمة لها سحرتها والقتل بالسحرلا يكون إلا في كفر ولأنه حد فملك المولى إقامته على المملوك كسائل الحدود وإن كان المولى فاسقا ففيه وجهان أحدهما أنه يملك إقامة الحد لأنه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها كتزويج الأمة والثاني أن لا يملكه لأنه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية الحاكم وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد لأن الشافعي استدل بأن فاطمة عليها السلام جلدت أمة لها زنت وقال أبو علي ابن أبي هريرة لا يجوز لها لأنها ولية على الغير فلا تملكها المرأة كولاية التزويج فعلى هذا فيمن يقيم وجهان أحدهما أنه يقيمه وليها في النكاح قياسا على تزويج أمتها والثاني أنه يقيمه عليها الإمام لأن الأصل في إقامة الحد هو الإمام فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الأصل وإن كان للمولى مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة
فصل والمستحب أن يحضر إقامة الحد جماعة لقوله عز وجل وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين والمستحب أن يكونوا أربعة لأن الحد يثبت بشهادتهم فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحا قويا والزمان معتدل أقام الحد ولا يجوز تأخيره فإن الفرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد لما روى عن عبدالله بن مسعود أنه قال ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الأعضاء ويتوقى الوجه والمواضع المخوفة لما روى هنيدة بنت خالد الكندي أنه شهدا عليا كرم الله وجهه أقام على رجل حدا وقال للجلاد اضربه وأعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره وعن عمرانه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبابها واضرباها ولا تخرقا لها جلدا ولأن القصد الردع دون القتل وإن كان الحر شديدا أو البرد شديدا أو كان مريضا مرضا يرجى برءه أو كان مقطوعا أو أقيم عليه حد آخر ترك الى أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد لأنه إذا أقيم عليه الحد في هذه الأحوال أعان على قتله وإن كان نضوا الخلق لا يطيق الضرب أو مريضا لا يرجى برؤه جمع ماءة شمراخ فضرب به دفعة واحدة لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه
____________________
(2/270)
اشتكى رجل منهم حتى أضنى فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه ذكر لهم ذلك وقال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك لرسول الله صلى لله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الدي هو به لو حملناه إليك يا رسول الله لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط لأنه يتلف به ولا يمكن تركه لأنه يؤدي الى تعطيل الحد قال الشافعي رحمه الله ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع وقد بيناه في القصاص فصل وإن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز فيها اقامته فهلك منه لم يضمن لأن الحق قتلة وإن أقيم في الحال التي لا تجوز أقمتة فأن كانت حاملا تلف منه الجنين وجب الضمان لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره وإن تلف المحدود فقد قال إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه وقال في الأم إذا ختن في شدة حر أو بدر فتلف وجبت على عاقلته الدية و فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى ألأخرى وجهلهما فلي قولين أحدهما لا يجب لأنه هلك من حد والثاني أنه يجب لأنه مفرط ومنهم من قال لا يدب الضمان في الحد لأنه منصوص عليه ويجب علي الختان لأنه ثبت بالاجتهاد وإن قبنا أنه يضمن ففي القدر الذي يضمن وجهان أحدهما أنه يضمن جميع الدية لأنه مفرط والثاني أنه يضمن نصف الدية لأنه مات من واج بومحظور فسقط النصف ووجب النصف
فصل وإن وجب التغريب نفي الى مسافة يقصر فيها الصلاة لأن ما دجون ذلك في حكم الموضع الذي كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على الخف ثلاثة ايام فإن رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذي نفي إليه فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة وبين العود إلى موضعه وإن رأى الإمام أن ينفيه الى أبعد من المسافة التي يقصر فيها لاثلاة كان له ذلك لأن عمر رضي الله عنه غرب الى الشام وغرب عثمان رضي الله عنه الى مصر وإن رأى أن يزيد على سنة لم يجز لآن السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها وحكى عن أبي غلى ابن عبي هريرة أنه قال يغرب إلى حيث ينطلق عليه اسم الغربة وإن كان دون ما تقصر إليه الصلاة لأن القصدج تعذيبه بالغربة وذلك يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة إلا في صحبة ذي رحم محرم أو امرأة ثفقة في صحبة مأمونه وإن لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع بالخرج بالخروج معا استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان من أصحابنا من قال يستأجر من ما لها لأنه حق هليها فكانت مؤتته عليها وإن لم كن لها مال استؤجر من بيت المال ومن أصحابنا من قال يستأجر من بيت المال لأنه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بيت المال فإن لم يكن في بيت الماي ما يستأجر به استؤجر من مالها
فصل وإن كان الحد رجما وكان صحيحا والزمان معتدل رجم لأن الحد لا يجوز تأخير تأخيره من غير عذر وإن كان مريضا مرضا يرجى زواله أو الزمان مسرف الحر والبرد ففيه وجهان أحدهما أنه لا يؤخر رجمه لأن القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض منه والثاني أنه يؤخر لأنه ربما رجع في خلال الرجم وقد أثر في جسمه الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله وإن كان امرأة حاملا لللام ترجم حتى تضع لأنه يتلف به الجنين
فصل فإن كان المرجوم رجلا لم يحفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ولأنه ليس بعورة وأن كان امرأة حفر لها لماروى بريدة قال جاءت امرأة من غامد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا فأمر فحفر لها حفرة غلى صدرها ثم أمر برجمها لأن ذلك أستر لها
فصل وإن هرب المرجوم من الرجم فإن كان الح ثبت بالبينة تبع ورجم لأنه لا سبيل غلى تركه وإن ثبت بالاقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد الخدريقال جاء ماعز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الأخر زني وذكر إلى أن قال اذهبوا
____________________
(2/271)
بهذا فارجموه فأتينا به مكانا قليل الحجارة فلما رميناه اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتي بناحرة كثيرة الحجارة فقام ونصب نفسه فرميناه حتى قتلتاه ثم اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله فلا خليتم عنه حين سعى من بين أيديكم وإن وقف وأقام على الإقرار رجم وإن رجع عن الاقرار لم يرجم لأن رجوعه مقبول وبالله التوفيق
باب حد القذف القذف محرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات
فصل إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمى أو معاهد محصنا ليس بولد له بوطء يوجب الحد وجب عليه الحد فإن كان حرا جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وإن كان مملوكا جلد أربعين لما روى يحيى بن سعيد الأنصارى قال ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكا افترى على حر ثمانين جلدة فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال أدركت الناس من زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفترى على الحر ثمانين قبل أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم
وروى خلاس أن عليا كرم الله وجهه قال فى عبد قذف حرا نصف الحد ولانه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا
فصل وإن قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يجلدوا والمحصن الذى يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة عن الزنا فإن قذف صغيرا أو مجنونا لم يجب ( به ) عليه الحد لان ما يرمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف كما لو قذف بالغا عاقلا بما دون الوطء
وإن قذف كافرا لم يجب عليه الحد لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من لأشرك بالله فليس بمحصن وإن قذف مملوكا لم يجب عليه الحد لان نقص الرق يمنع كمال الحد ( عليه ) فيمنع وجوب الحد على قاذفه
وإن قذف زانيا لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فأسقط الحد عنه إذا ثبت أنه زنى فدل ( عليه ) أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد وإن قذف من وطىء فى غير ملك وطئا محرما لا يجب به الحد كمن وطىء امرأة ظنها زوجته أو وطىء فى نكاح مختلف فى صحته ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجب عليه الحد لانه وطء محرم لم يصادف ملكا فسقط به الإحصان كالزنا
والثانى أنه يجب لأنه وطء لا يجب به الحد فلم يسقط به الإحصان كما لو وطىء زوجته وهى حائض
فصل وإن قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد
وقال أبو ثور يجب عليه الحد لعموم الآية
والمذهب الأول لانه عقوبة تجب لحق الآدمى فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص
وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد لانه لما لم
____________________
(2/272)
يثبت عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالإرث عن أمه وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لان حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد
فصل وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان المقذوف لانه شرط فى الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود
ومن أصحابنا من قال لا يجب لان البلوغ والعقل معلوم بالنظر إليه والظاهر الحرية والإسلام والعفة
وإن قال القاذف أمهلنى لاقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام لانه قريب لقوله عز وجل { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } ثم قال { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام }
فصل وإن قذف محصنا ثم زنى المقذوف أو وطىء وطأ زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف
وقال المزنى وأبو ثور لا يسقط لانه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزانى وحريته
وهذا خطأ لان ما ظهر من الزنا يوقع شبهة فى حال القذف ولهذا روى أن رجلا زنى بامرأة فى زمان أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه فقال والله ما زنيت إلا هذه المرة فقال له عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده فى أول مرة
والحد يسقط بالشبهة وأما ردة المقذوف ففيها وجهان أحدهما أنها تسقط الحد
والثانى أنها لا تسقط لان الردة تدين والعادة فيها الإظهار وليس كذلك الزنا فإنه يكتم فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله وأما ثيوبة الزانى وحريته فإنها لا تورث شبهة فى بكارته ورقه فى حال الزنا
فصل ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية فالصريح مثل أن يقول زنيت أو يا زانى
والكناية كقوله يا فاجر أو يا خبيث أو يا حلال بن الحلال فإن نوى به القذف وجب به الحد لان ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق
وإن لم ينو به القذف لم يجب به الحد سواء كان ذلك فى حال الخصومة أو غيرها لانه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفا من غير نية كالكناية في الطلاق والعتاق
فصل وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لانه قذفه بوطء يوجب الحد فأشبه القذف بالزنا وإن قال يا لوطى وأراد به أنه على دين قوم لوط لم يجب به الحد لانه يحتمل ذلك وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد
وإن قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفا له من غير نية لانه يجوز أن تكون زانية ولا يكون هو زانيا بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهى تعلم أنه أجنبى ولانه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا كما يقول الرجل لغيره سرقت فيقول معك سرقت ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق
ويجوز أن يكون معناه ما وطئنى غيرك فإن كان ذلك زنا فقد زنيت
وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى منى لم يكن قولها قذفا له من غير نية لانه يجوز أن يكون معناه ما وطئنى غيرك فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى منى لان المغلب فى الجماع فعل الرجل
وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس لم يكن قذفا من غير نية لان لفظة أفعل لا تستعمل إلا فى أمر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية وما ثبت أن فلانا زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم
وإن قال فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس فهو قذف لانه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه
فصل وإن قال لامرأته يا زانى فهو قذف لانه صرح بإضافة الزنا إليها وأسقط الهاء للترخيم كقولهم فى مالك يا مال وفى حارث يا حار
وإن قال لرجل يا زانية فهو قذف لانه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة كقولهم علامة ونسابة وشتامة ونوامة
فإن قال زنأت فى الجبل فليس بقذف من غير نية لان الزنء هو الصعود فى الجبل والدليل عليه قول الشاعر ( الرجز ) وارق إلى الخيرات زنئا فى الجبل وإن قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان أحدهما أنه قذف لانه لم يقرن به ما يدل على الصعود
والثانى وهو قول أبى الطيب بن سلمة رحمه الله أنه إن كان من أهل اللغة فليس بقذف وإن كان من العامة فهو قذف لان العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت
فصل وإن قال زنى فرجك أو دبرك أو ذكرك فهو قذف لان الزنا يقع بذلك
وإن قال زنت عينك أو يدك أو رجلك فقد اختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال هو قذف وهو ظاهر ما نقله المزنى رحمه الله لانه أضاف الزنا إلى عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج
ومنهم من قال ليس بقذف من غير نية وخطأ المزنى فى النقل لان الزنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقة ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/273)
العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه
فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان أحدهما أنه ليس بقذف من غير نية لان الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن صريحا فى القذف
والثانى أنه قذف لانه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه
وإن قال لا ترد يد لامس لم يكن قاذفا لما روى أن رجلا من بنى فزارة قال للنبى صلى الله عليه وسلم إن امرأتى لا ترد يد لامس ولم يجعله النبى صلى الله عليه وسلم قاذفا 8 وإن قال زنى بك فلان وهو صبى لا يجامع مثله لم يكن قاذفا لانه لا يوجد منه الوطء الذى يجب به الحد عليها
وإن كان صبيا يجامع مثله فهو قذف لانه يوجد منه الوطء الذى يجب به الحد عليها
وإن قال لامرأته زنيت بفلانة أو زنت بك فلانة لم يجب به الحد لان ما رماها به لا يوجب الحد
فصل وإن أتت امرأته بولد فقال ليس منى لم يكن قاذفا من غير نية لجواز أن يكون معناه ليس منى خلقا أو خلقا أو من زوج غيرى أو من وطء شبهة أو مستعار
وإن نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن فلان لم يكن قذفا لانه صادق فى الظاهر أنه ليس منه لانه منفى عنه
قال الشافعى رحمه الله إذا أقر بنسب ولد فقال له رجل لست بابن فلان فهو قذف
وقال فى الزوج إذا قال للولد الذى أقر به لست بابنى إنه ليس بقذف
واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن أراد القذف فهو قذف فى المسألتين
وإن لم يرد القذف فليس بقذف فى المسألتين وحمل جوابه فى المسألتين على هذين الحالين
ومن أصحابنا من نقل جوابه فى كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما أنه ليس بقذف فيهما لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان أو لست بابنى خلقا أو خلقا
والثانى أنه قذف لان الظاهر منه النفى والقذف
ومن أصحابنا من قال ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبى لان الأب يحتاج إلى تأديب ولده فيقول لست بابنى مبالغة فى تأديبه والأجنبى غير محتاج إلى تأديبه فجعل قذفا منه
فصل وإن قال لعربى يا نبطى فإن أراد نبطى اللسان أو نبطى الدار لم يكن قذفا
وإن أيراد نفى نسبه من العرب ففيه وجهان أحدهما أنه ليس بقذف لان الله تعالى علق الحد على الزنا فقال { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } وشهادة الأربعة يحتاج إليها فى إثبات الزنا
والثانى أنه يجب به الحد لما روى الأشعث بن قيس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال لا حد إلا فى اثنتين قذف محصنة ونفى رجل من أبيه
فصل ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف من غير نية عزر لانه آذى من لا يجوز أذاه
وإن قال لامرأته استكرهت على الزنا ففيه وجهان أحدهما أنه يعزر لانه يلحقها بذلك عار عند الناس
والثانى أنه لا يعزر لانه لا عار عليها في الشريعة بما فعل بها مستكرهة
فصل وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالأذى فهو حق للمقذوف يستوفى إذا طالب به ويسقط إذا عفا عنه والدليل عليه ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم كان يقول تصدقت بعرضى والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له ولانه لا خلاف أنه لا يستوفى إلا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص
وإن قال لغيره اقذفنى فقذفه ففيه وجهان أحدهما أنه لا حد عليه لانه حق له فسقط بإذنه كالقصاص
والثانى أنه يجب عليه الحد لان العار يلحق بالعشيرة فلا يملك إلا بإذن فيه وإذا
____________________
(2/274)
أسقط الإذن وجب الحد ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن يستوفى إلا بحضرة السلطان لانه يحتاج إلى الاجتهاد ويدخله التخفيف فلو فوض إلى المقذوف لم يؤمن أن يحيف للتشفى
فصل وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث وفيمن يرثه ثلاثة أوجه
أحدها أنه يرثه جميع الورثة لانه موروث فكان لجميع الورثة كالمال
والثانى أنه لجميع الورثة إلا لمن يرث بالزوجية لان الحد يجب لدفع العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لانه لا تبقى زوجية
والثالث أنه يرثه العصبات دون غيرهم لانه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح
وإن كان له وارثان فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع الحد لانه جعل للردع ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله عز وجل للردع وإن لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه السلطان
فصل وإن جن من له الحد أو التعزير لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه لانه حق يجب للتشفى ودرك الغيظ فأخر إلى الإفاقة كالقصاص
وإن قذف مملوكا كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد لانه ليس بمال ولا له بدل هو مال فلم يكن للسيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتقت الأمة تحت عبد
وإن مات المملوك ففى التعزير ثلاثة أوجه أحدها أنه يسقط لانه لا يستحق عنه بالإرث فلا يستحق المولى لانه لو ملك بحق الملك لملك فى حياته
والثانى أنه للمولى لانه حق ثبت للمملوك فكان المولى أحق به بعد الموت كمال المكاتب
والثالث أنه ينتقل إلى عصباته لانه حق ثبت لنفى العار فكان عصباته أحق به
فصل وإن قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد لان الحد يجب لنفى العار ولا عار على المقذوف لانا نقطع بكذبه ويعزر للكذب وإن كانت جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة نظرت فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل واحد منهم حد وإن قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان قال فى القديم يجب حد واحد لان كلمة القذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة
وقال فى الجديد يجب لكل واحد منهم حد وهو الصحيح لانه ألحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف
فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان من أصحابنا من قال هى على قولين كما لو قذف رجلين أو امرأتين
ومنهم من قال يجب حد واحد قولا واحدا لان القذف ههنا بزنا واحد والقذف هناك بزناءين فإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لاحدهما قبل الآخر وتشاحا قدم السابق منهما لان حقه أسبق وإن وجب ( عليه ) لهما فى حالة واحدة بأن قذفهما معا وتشاحا أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر فقدم بالقرعة
وإن قال لزوجته يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان
ومن حضر منهما وطالبت بحدها حدلها وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان أحدهما أنه يبدأ بحد البنت لانه بدأ بقذفها
والثانى وهو المذهب أنه يبدأ بحد الأم لان حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه لان عند أبى حنيفة لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد ولان حد الأم آكد لانه لا يسقط إلا بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم أكدهما
فصل وإن وجب حدان على حر لاثنين فحد لاحدهما لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الأول لان الموالاة بينهما تؤدى إلى التلف
وإن كان الحدان على عبد ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز الموالاة بينهما كما لو كانا على حر
والثانى أنه يجوز لان الحدين على العبد كالحد الواحد ( على الحر )
فصل وإن قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا عزر للأذى ولم يحد لان أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضى الله عنه ثم أعاد القذف وأراد أن يجلده فقال له على كرم الله وجهه إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك فترك عمر رضى الله عنه جلده ولانه قد حصل التكذيب بالحد
وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليه حدان لانه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون
والثانى يلزمه حد واحد وهو الصحيح لانهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فتداخلا كما لو زنى ثم زنى
وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجب عليه الحد لان اللعان فى حق الزوج كالبينة ولو أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها
والثانى أنه يجب عليه الحد لان اللعان إنما يسقط إحصانها فى الحالة
____________________
(2/275)
التى يوجد فيها وما بعدها ( ولا يسقط ) فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به وإن قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبى وجب عليه الحد لان اللعان يسقط الإحصان فهى حق الزوج لانه بينة يختص بها فأما فى حق الأجنبى فهى باقية على إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها
وإن قذفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدت ثم قذفها الأجنبى بذلك الزنا ففيه وجهان أحدهما أنه لا حد عليه لانه قذفها بزنا حدت فيه فلم يجب كما لو أقيم عليها الحد بالبينة
والثانى أنه يجب لان اللعان يختص به الزوج فزال به الإحصان فى حقه وبقى فى حق الأجنبى
فصل إذا سمع السلطان رجلا يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لان المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ولان الحد يدرأ بالشبهة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ألا سترته بثوبك يا هزال وإن قال سمعت رجلا يقول إن فلانا زنى لم يحد لانه ليس بقاذف وإنما هو حاك ولا يسأله عن القاذف لان الحد يدرأ بالشبهة
وإن قال زنى فلان فهل يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان أحدهما أنه يلزمه لانه قد ثبت له حق لا يعلم به فلزم الإمام إعلامه كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به فعلى هذا إن سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد وإن صدقه حد المقذوف لان النبى صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
والوجه الثانى أنه لا يلزم الإمام إعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات
فصل إذا قذف محصنا وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المقذوف ( مع يمينه ) أنه لا يعلم أنه مجنون لان الأصل عدم الجنون وإن علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين فى الملفوف إذا قده ثم اختلفا فى حياته
أحدهما أن القول قول المقذوف لان الأصل الصحة
والثانى أن القول قول القاذف لانه يحتمل ما يدعيه والأصل حمى الظهر ولان الحد يسقط بالشبهة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعتم ولان يخطىء الإمام فى العفو خير من أن يخطىء فى العقوبة
فصل وإن عرض بالقذف وادعى المقذوف أنه أراد قذفه وأنكر القاذف فالقول قوله لان ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته
فصل وإن قال لمحصنة زنيت فى الوقت الذى كنت فيه نصرانية أو أمة فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لانه أضاف القذف إلى حال هى فيها غير محصنة
وإن قال لها زنيت ثم قال أردت فى الوقت الذى كنت فيه نصرانية أو أمة وقالت المقذوفة بل أردت قذفى فى هذا الحال وجب الحد لان الظاهر أنه أراد قذفها فى الحال
فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو أمة ( وأقرت المرأة أنها كانت مشركة أو أمة ) وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف لان الأصل بقاء الشرك والرق
وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت المرأة ذلك فالقول قولها لان الأصل بقاؤها على الإسلام
وإن قذف مجهولة وادعى أنها أمة أو نصرانية وأنكرت المرأة ( ذلك ) ففيه طريقان ذكرناهما فى الجنايات
فصل وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر فشهد شاهدان أنه قذفها جاز أن يلاعن لان إنكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا لانه يقول إنما أنكرت القذف وهو الرمى بالكذب وما كذبت عليها لانى صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالا فقال المدعى عليه مالك عندى شيء فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف لان إنكاره لا يمنع الإيداع لانه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شيء
من المال الذى يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع والدليل عليه قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما }
____________________
(2/276)
باب حد السرقة ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الإسلام نصابا ولان السارق يأخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه ولو لم يجب القطع عليه لادى ذلك إلى هلاك الناس بسرقة أموالهم
ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لما روى جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا ولان المنتهب والمختلس يأخذان المال على وجه يمكن انتزاعه منه بالاستغاثة بالناس وبالسلطان فلم يحتج فى ردعه إلى القطع ولا يجب على من جحد أمانة أو عارية لانه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم يحتج إلى القطع
فصل ولا يجب على صبى ولا على مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وروى ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها
وهل يجب على السكران فيه قولان ذكرناهما فى الطلاق
ولا يجب على مكره لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولان ما أوجب عقوبة الله عز وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر
ولا تجب على الحربى لانه لم يلتزم حكم الإسلام
وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما فى السير
فصل ولا يجب فيما دون النصاب والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار لما روت عائشة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يقطع يد السارق إلا فى ربع دينار فصاعدا )
فإن سرق غير الذهب قوم بالذهب لان النبى صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم غيره به
وإن سرق ربع مثقال من الخلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى وأبى على بن أبى هريرة أنه لا يقطع لان النبى صلى الله عليه وسلم نص على ربع دينار وهذا قيمته دون ربع دينار
والثانى وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لان الخلاص يقع عليه اسم الدينار ( وإن لم يصرف ) لانه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة
وإن نقب اثنان حرزا وسرقا نصابين قطعا لان كل واحد منهما سرق نصابا وإن أخرج أحدهما نصابين ولم يخرج الآخر شيئا قطع الذى أخرج دون الآخر لانه هو الذى انفرد بالسرقة
فإن اشتركا فى سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما
وقال أبو ثور يجب القطع عليهما كما لو اشترك رجلان فى القتل وجب القصاص عليهما
وهذا خطأ لان كل واحد منهما لم يسرق نصابا ويخالف القصاص فأنا لو لم نوجب على الشريكين ( فى القتل ) جعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص وليس كذلك السرقة فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين فى سرقة نصاب لم يصر الاشتراك طريقا إلى إسقاط القطع لانهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد لقلة ما يصيب كل واحد منهما فإذا اشتركا فى نصابين أوجبنا القطع وإذا نقب حرزا وسرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمنا آخر ففيه ثلاثة أوجه
أحدهما وهو قول أبى العباس ( بن سريج ) أنه يجب القطع لانه سرق نصابا من حرز مثله فوجب عليه القطع كما لو سرقه فى دفعة واحدة
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يجب القطع لانه سرق تمام النصاب من حرز مهتوك
والثالث وهو قول أبى على بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثانى بعدما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لانه سرق من حرز اشتهر خرابه وإن سرق قبل أن يشتهر خرابه قطع لانه سرق ( من ) قبل ظهور خرابه
فصل ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه أن رجلا من مزينة قال يا رسول الله كيف ترى فى حريسة الجبل قال ليس فى شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح وليس فى شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين
____________________
(2/277)
فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع
فأسقط القطع فى الماشية إلا ما أواه المراح وفى الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين فدل على أن الحرز شرط فى إيجاب القطع ويرجع فى الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزا فما عرفوه حرزا قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه حرزا لم يقطع بالسرقة منه لان الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق فى البيع وإحياء الموات
فإن سرق مالا مثمنا كالذهب والفضة والخز والقز من البيوت أو الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها أغلاق وجب القطع لان ذلك حرز مثله وإن لم يكن دونها أغلاق فإن كان فى الموضع حافظ مستيقظ وجب القطع لانه محرز به وإن لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع لانه غير محرز
فإن سرق من بيوت فى غير العمران كالرباطات التى فى البرية والجواسق التى فى البساتين فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقا كان الباب أو مفتوحا لان المال لا يحرز فيه من غير حافظ
وإن كان فيها حافظ فإن كان مستيقظا قطع السارق مغلقا كان الباب أو مفتوحا لانه محرز به وإن كان نائما فإن كان مغلقا قطع ( لانه محرز ) وإن كان مفتوحا لم يقطع لانه غير محرز
وإن سرق متاع الصياد له والبقالين من الدكاكين فى الأسواق ودونها أغلاق أو درابات وعليها قفل أو سرق أوانى الخزف ودونها شرائح القصب فإن كان الأمن ظاهرا قطع السارق لان ذلك حرز مثله وإن قل الأمن فإن كان فى السوق حارس قطع لانه محرز به وإن لم يكن حارس لم يقطع لانه غير محرز
وإن سرق باب دار أو دكان قطع لان حرزه بالنصب
وإن سرق حلقة الباب وهى مسمرة فيه قطع لانها محرزة بالتسمير فى الباب
وإن سرق آجر الحائط قطع لانه محرز بالتشريح فى البناء
وإن سرق الطعام أو الدقيق فى غرائر شد بعضها إلى بعض فى موضع البيع قطع على المنصوص فمن أصحابنا من قال إن كان فى موضع مأمون في وقت الأمن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شيء منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لان العادة تركها فى موضع البيع
ومن أصحابنا من قال لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق والذى نص عليه الشافعى رحمه الله فى غير العراق وإن سرق حطبا شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه قطع لانه محرز بالشد وإن كان متفرقا لم يقطع لانه غير محرز
ومن أصحابنا من قال لا يقطع إلا أن يكون فى بيت دونه باب مغلق مجتمعا كان أو متفرقا
وإن سرق أجزاعا ثقالا مطروحة على أبواب المساكن قطع لان العادة فيها تركها على الأبواب
فصل وإن نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان فى برية لم يقطع لانه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن فى البرية للضرورة وإن كان فى مقبرة تلى العمران قطع لما روى البراء بن عازب رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه ولان القبر حرز للكفن
وإن كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على الخمسة لم يقطع لان ما زاد على الخمسة ليس بمشروع فى الكفن فلم يجعل القبر حرزا له كالكيس المدفون معه
وإن أكل السبع الميت وبقى الكفن ففيه وجهان أحدهما أنه ملك للورثة يقسم عليهم وهو قول أبى على بن أبى هريرة وأبى على الطبرى لان ذلك المال ينتقل إليهم بالإرث وإنما اختص الميت بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم
والثانى أنه لبيت المال لانهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده
____________________
(2/278)
فصل وإذا نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى أن صفوان بن أمية أنه قدم المدينة فنام فى المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فقال صفوان إنى لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتينى به ولانه محرز به
وإن زحف عنه فى النوم فسرق لم يقطع لانه زال الحرز فيه
وإن ضرب فسطاطا وترك فيه مالا فسرق وهو فيه أو على بابه نائم أو مستيقظ قطع لان عادة الناس إحراز المتاع فى الخيم على هذه الصفة
وإن لم يكن صاحبه معه لم يقطع السارق لانه لا يترك الفسطاط بلا حافظ
فصل وإن كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ( ماله ) قطع لانه سرق من حرزه وإن نام أو اشتغل عنه أو جعله خلفه بحيث تناله اليد فسرق لم يقطع لانه سرقه من غير حرز
وإن علق الثياب فى الحمام ولم يأمر الحمامى بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامى لانه لا يلزمه حفظها ولا يقطع السارق لانه سرق من غير حرز لان الحمام مستطرق وإن أمر الحمامى بحفظها فسرقت فإن كان الحمامى مراعيا ( لها ) لم يضمن لانه لم يفرط ويقطع السارق لانه سرق من حرز وإن نام الحمامى أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامى لانه فرط فى الحفظ ولم يقطع السارق لانه سرق من غير حرز
فصل فإن سرق ماشية من الرعى نظرت فإن كان الراعى ينظر إليها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لانها فى حرز
وإن سرق والراعى نائم أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لان الحرز بالحفظ وما لا يراه غير محفوظ
وإن سرق ما لا يبلغها صوته لم يقطع لانها تجتمع وتفترق بصوته وإذا لم يبلغها صوته لم تكن فى حفظه فلم يجب القطع بسرقته
وإن سرق ماشية سائرة أو جمالا مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر إليها جميعها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع لانها محرزة به
وإن سرق منه ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه فى الراعية
وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا زجرها وأكثر الالتفات إليها قطع لانها محرزة ( بالقائد )
وإن سرق ما لا ينظر إليه إذا التفت أو لا يبلغه صوته أو لم يكثر الالتفات إليها لم يقطع لانه سرق من غير حرز
وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لانها محرزة بحفظه
وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لانها غير محرزة وإن كانت ( مثقلة ) قطع لان عادة الجمال إذا نام أن يعقلها وإن كان على الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال لان العادة ترك الأحمال على الجمال
فصل ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله فإن دخل الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه فأخرج المال قطع وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز قطع لانه هو الذى أخرجه
فإن أخرجه ولم يأخذ منه الآخر فرده إلى الحرز لم يسقط القطع لانه وجب القطع بالإخراج فلم يسقط بالرد
وإن ربط جيبه أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزا فيه طعام فانثال قطع لانه خرج بفعله
وإن كان فى الحرز ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لانه خرج بسبب فعله وإن تركه فى ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه
وإن حركه غيره لم يقطع لانه لم يخرج المال بفعله
وإن تفجر الماء وخرج المال ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لانه سبب لخروجه
والثانى أنه لا يقطع لان خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله
وإن وضع المال فى النقب فى وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج الحرز قطع كما لو تركه فى ماء جار
وإن وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه فى ماء راكد فتفجر الماء فخرج به
فإن وضع المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لانه خرج بسبب فعله
وإن خرج الحمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لان عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير
والثانى أنه لا يقطع لانه سار باختياره
وإن ثقب الحرز وأمر صغيرا لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع لان الصغير كالآلة
وإن دخل الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع لانه استهلكها فى الحرز ولهذا يجب عليه قيمتها فلم يقطع كما لو أخذ طعاما فأمله
والثانى أنه
____________________
(2/279)
يقطع لانه أخرجه من الحرز فى وعاء فأشبه إذا جعلها فى جيبه ثم خرج
وإن أخذ طيبا فتطيب به ثم خرج فإن لم يمكن أن يجتمع منه ( ما قيمته ) قدر النصاب لم يقطع لانه استهلكه فى الحرز فصار كما لو كان طعاما فأكله وإن أمكن أن يجتمع منه قدر النصاب ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع لان استعمال الطيب إتلاف له فصار كالطعام إذا أكله فى الحرز
والثانى أنه يقطع لان عينه باقية ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده
فصل ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز فإن سرق جذعا أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لانه لا ينفرد بعضه عن بعض ولهذا لو كان فى طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه فإذا لم يجب القطع فيما بقى من الحرز لم يجب فيما خرج منه
وإن ثقب رجلان حرزا فأخذ أحدهما المال ووضعه على باب الثقب وأخذه الآخر ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليهما القطع لانا لو لم نوجب القطع عليهما صار هذا طريقا إلى إسقاط القطع
والثانى أنه لا يقطع واحد منهما وهو الصحيح لان كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز
وإن نقب أحدهما الحرز ودخل الآخر وأخرج المال ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالمسألة قبلها
ومنهم من قال لا يجب ( عليه ) القطع قولا واحدا لان أحدهما نقب ولم يخرج المال والآخر أخرج المال من غير حرزه
فصل وإن فتح مراحا فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه قطع لان الغنم مع اللبن فى حرز واحد فصار كما لو سرق نصابا من حرزين فى بيت واحد
فصل فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت مقفل فيه مال ففتح بيتا وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لانه أخرج المال من حرزه
وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت إلى الصحن فإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا لم يقطع لان ما فى البيت محرز بباب الدار
وإن كان باب الدار مفتوحا وباب البيت مغلقا قطع لان المال محرز بالبيت دون الدار
وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مفتوحا لم يقطع لان المال غير محرز
وإن كان ( باب البيت مغلقا ) وباب الدار مغلقا ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لان البيت حرز لما فيه كما لو كان باب الدار مفتوحا
والثانى أنه لا يقطع لان البيت المغلق فى دار مغلقة حرز فى حرز فلم يقطع بالإخراج من أحدهما كما لو كان فى بيت مقفل صندوق مقفل فأخرج المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت
فصل وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال أضاف رجل رجلا فأنزله فى مشربة له فوجد متاعا له قد اختانه فيه فأتى به أبا بكر رضى الله عنه فقال خل عنه فليس بسارق وإنما هى أمانة اختانها ولانه غير محرز عنه فلم يقطع فيه
وإن سرقه من بيت مقفل قطع لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلا قدم المدينة فكان يكثر الصلاة فى المسجد وهو أقطع اليد والرجل فقال له أبو بكر رضى الله عنه ما ليلك بليل سارق فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم فجعل الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح فمر رجل بصائغ فرأى عنده حليا فقال ما أشبه هذا الحلى بحلى آل أبى بكر فقال للصائغ ممن اشتريته فقال من ضيف أبى بكر فأخذ فأقر فجعل أبو بكر رضى الله عنه يبكى فقالوا ما يبكيك من رجل سرق فقال أبكي لغرته بالله تعالى فأمر به فقطعت يده ولان البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه
فصل ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر والسرجين سواء سرقة من مسلم أو من ذمى لان القطع جعل لصيانة الأموال وهذه الأشياء ليست بمال
فإن سرق إناء يساوى نصابا فيه خمر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع لان ما فيه تجب إراقته ولا يجوز إقراره فيه
والثانى أنه يقطع لان سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه كما لو سرق إناء فيه بول
____________________
(2/280)
فصل وإن سرق صنما أو بربطا أو مزمارا فإن كان إذا فصل لم يصلح لغير معصية لم يقطع لانه لا قيمة لما فيه من التأليف وإن كان إذا فصل يصلح لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه
أحدهما أنه يقطع لانه مال يقوم على متلفه
والثانى أنه لا يقطع لانه آلة معصية فلم يقطع بسرقته كالخمر
والثالث وهو قول أبى على بن أبى هريرة رحمه الله أنه إن أخرجه مفصلا قطع لزوال المعصية وإن أخرجه غير مفصل لم يقطع لبقاء المعصية وإن سرق أوانى الذهب والفضة قطع لانها تتخذ للزينة لا للمعصية
فصل وإن سرق حرا صغيرا لم يقطع لانه ليس بمال وإن سرقه وعليه حلى بقدر النصاب ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لانه قصد سرقة ما عليه من المال
والثانى أنه لا يقطع لان يده ثابتة على ما عليه ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع كما لو سرق جملا وعليه صاحبه
وإن سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لانها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الأموال
والثانى أنه لا يقطع لان معنى المال فيها ناقص لانه لا يمكن نقل الملك فيها
وإن سرق عينا موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين فى أم الولد
وإن سرق من غلة وقف على غيره قطع لانه مال يباع ويبتاع
وإن سرق الماء ففيه وجهان أحدهما أنه يقطع لانه يباع ويبتاع
والثانى أنه لا يقطع لانه لا يقصد إلى سرقته لكثرته
فصل ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله عليه السلام ادرأوا الحدود بالشبهات
فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روى أن عاملا لعمر رضى الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال قال لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق وروى الشعبى أن رجلا سرق من بيت المال فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال إن له فيه سهما ولم يقطعه وإن سرق ذمى ( مالا ) من بيت المسلمين قطع لانه لا حق له فيه وإن كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع لان بالتكفين به انقطع عنه حق سائر المسلمين
وإن سرق من غلة ( وقفت ) على المسلمين لم يقطع لان له ( فيها ) حقا وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لان له ( فيها ) حقا
وإن سرق منها غنى قطع لانه لا حق له فيها
فصل وإن سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قطع سارقا سرق قبطية من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولانه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه
وإن سرق مسلم من قناديل المسجد أو من حصره لم يقطع لانه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق وإن سرقه ذمى قطع لانه لا حق له فيها
فصل ومن سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أو من أبيه أو من جده وإن علا لم يقطع
وقال أبو ثور يقطع لقوله عز وجل { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فعم ولم يخص وهذا خطأ لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة فى مال الأب لانه جعل ماله كماله فى استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه والآية نخصها بما ذكرناه ومن سرق ممن سواهما من الأقارب قطع لانه لا شبهة له فى ماله ولا يقطع العبد بسرقة مال مولاه
وقال أبو ثور يقطع لعموم الآية
وهذا خطأ لما روى السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقد جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمى فقال إن غلامى هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق فقال مرآة امرأتى فقال له أرسله خادمكم أخذ متاعكم ولكن لو سرق من غيركم قطع ولان يده كيد المولى بدليل أنه لو كان بيده مال فادعاه رجل كان القول فيه قول المولى فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى ولان له فى ماله شبهة فى استحقاق النفقة فلم يقطع كالأب والابن
وإن سرق من غيره قطع لقول عمر رضى الله عنه ولانه لا شبهة له فى مال غيره
وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه يقطع لان النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع فى السرقة كالإجارة
والثانى أنه لا يقطع لان الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها ويمنعها من التنصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة
والثالث أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا
____________________
(2/281)
تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج لان للزوجة حقا فى مال الزوج بالنفقة وليس للزوج حق فى مالها
ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الآخر لا يقطع عبده بسرقة ماله لقول عمر رضى الله عنه فى سرقة علام الحضرمى الذى سرق مرآة امرأته أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم ولان يد عبده كيده فكانت سرقته من ماله كسرقته
فصل وإن كان له على رجل دين فسرق من ماله فإن كان جاحدا له أو مماطلا له لم يقطع لان له أن يتوصل إلى أخذه بدينه
وإن كان مقرا مليا قطع لانه لا شبهة له في سرقته
وإن غصب مالا فأحرزه فى بيت فنقب المغصوب منه البيت وسرق مع ماله نصابا من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أنه لا يقطع لانه هتك حرزا كان له هتكه لاخذ ماله
والثانى أنه يقطع لانه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال الغاصب
والثالث أنه إن كان ما سرقه متميزا عن ماله قطع لانه لا شبهة له فهى سرقته وإن كان مختلطا بما له لم يقطع لانه لا يتميز ما يجب فيه القطع ( مما لا يجب فيه ) فلم يقطع
وإن سرق الطعام عام المجاعة نظرت فإن كان الطعام موجودا قطع لانه غير محتاج إلى سرقته وإن كان معدوما لم يقطع لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال لا قطع فى عام المجاعة أو السنة
ولان له أن يأخذه فلم يقطع فيه
فصل وإن نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالا للمستأجر قطع لانه لا شبهة له فى ماله ولا فى هتك حرزه
وإن نقب المعير الدار المستعارة وسرق منها مالا للمستعير ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع لان له أن يرجع فى العارية فجعل النقب رجوعا
والثانى وهو المنصوص أنه يقطع لانه أحرز ماله بحرز بحق فأشبه إذا نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق ( من ) مال المستأجر
وإن غصب رجل مالا أو سرقه وأحرزه فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع لانه حرز لم يرضه مالكه
والثانى أنه يقطع
لانه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله
فصل وإن وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعدما رفع إلى السلطان لم يسقط القطع لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر فى سارق رداء صفوان أن تقطع يده فقال صفوان إنى لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتينى به
ولان ما حدث بعد وجوب الحد ولم يوجب شبهة فى الوجوب فلم يؤثر فى الحد كما لو زنى وهو عبد فصار حرا قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيبا قبل أن يحد
وإن سرق عينا قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط القطع لما ذكرناه
وإن ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك للسارق أو قال كنت أبحته له سقط القطع لانه يحتمل أن يكون صادقا فى إقراره وذلك شبهة فلم يجب معها الحد
وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله ( وهبه منه ) أو أباحه له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه فى حق المسروق منه لانه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه
وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب لانه يجوز أن يكون صادقا وعوذلك شبهة فمنعت وجوب الحد
وذكر أبو إسحاق وجها آخر أنه يقطع لانا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى إلى ألا يقطع سارق وهذا خطأ لانه يبطل به إذا ثبت عليه الزنا بامرأة وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وإن أفضى ذلك إلى إسقاط حد الزنا
وإن ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص فى السرقة أنه لا يقطع حتى يحضر فيدعى
وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب أحدها وهو قول أبى العباس بن سريج رحمه الله أنه لا يقام عليه الحد فى المسألتين حتى يحضر وما روى فى حد الزنا سهو من الناقل ووجهه أنه يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته له ويقول مولى الأمة
كنت وقفتها عليه والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه قبل الحضور
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيكون فى المسألتين قولان أحدهما أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب شبهة
والثانى أنه يحد لانه وجب الحد فى الظاهر فلا يؤخر
والثالث وهو قول أبى الطيب بن سلمة وأبى حفص بن الوكيل أنه يحد الزانى ولا يقطع السارق على ما نص عليه لان حد الزنا لا تمنع الإباحة من وجوبه والقطع فى السرقة تمنع الإباحة من وجوبه
وإن ثبتت السرقة والزنا بالإقرار فهو كما لو
____________________
(2/282)
ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزانى فى الإقرار وجها واحدا والصحيح أنه كالبينة وإذا قلنا إنه ينتظر قدوم الغائب ففيه وجهان أحدهما أنه يحبس لانه قد وجب الحد وبقى الاستيفاء فحبس كما يحبس من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبى ويقدم الغائب
والثانى أنه إن كان السفر قريبا حبس إلى أن يقدم الغائب وإن كان ( السفر ) بعيدا لم يحبس لان فى حبسه إضرارا به والحق لله عز وجل فلم يحبس لاجله
فصل وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة فيه لما روت عائشة رضى الله عنها قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق قد سرق فأمر به فقطع فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا قال لو كانت فاطمة بنت محمد لاقمت عليها الحد وروى عروة قال شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتى السلطان قال إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان الحد لله فلا يجوز فيه العفو والشفاعة
فصل وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى السارق وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله
وإن سرق خامسا لم يقتل لان النبى صلى الله عليه وسلم بين فى حديث أبى هريرة ما يجب عليه فى أربع مرات فلو وجب فى الخامسة قتل لبين ويعزر لانه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فعزر فيها
فصل وتقطع اليد من مفصل الكف لما روى عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما أنهما قالا إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولان البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه ويجب فيما زاد الحكومة وتقطع الرجل من مفصل القدم
وقال أبو ثور تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبى قال كان على عليه السلام يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقبا ويقول ادع له ما يعتمد عليه
والمذهب ما ذكرناه والدليل عليه ما روى عن عمر رضى الله عنه أنه كان يقطع القدم من مفصلها ولان البطش بالقدم ويجب فيها الدية فوجب قطعه
فصل وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى فإن كانت له يمين عند السرقة فذهبت بآكلة أو جناية سقط الحد ولم ينتقل الحد إلى الرجل
والفرق بين المسألتين أنه إذا سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذى يقطع بعده وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط
وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت لان اسم اليد يقع عليها وإن لم يبق غير الراحة ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل لانه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لو لم يبق منها شيء
والثانى أنه يقطع ما بقى لانه بقى جزء من العضو الذى تعلق به القطع فوجب قطعه كما لو بقيت أنملة
فإن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها إذا قطعت انسدت عروقها قطعت وإن قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لان قطعها يؤدى إلى أن يهلك
فصل وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو فى عنقه ساعة لما روى فضالة بن عبيد قال أتى النبى صلى الله عليه وسلم بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر فعلقت فى رقبته
ولان في ذلك ردعا للناس
ويحسم موضع القطع لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتونى به فقطع فأتى به فقال تب إلى الله تعالى فقال تبت إلى الله تعالى فقال تاب الله عليك
والحسم هو أن يغلى الزيت غليا جيدا ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم فإن ترك الحسم جاز لانها مداواة فجاز تركها
وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو فى بيت المال لانه من المصالح
فإن قال أنا أقطع بنفسى ففيه وجهان أحدهما أنه لا يمكن كما لا يمكن فى القصاص
والثانى أنه يمكن لان الحق لله تعالى والقصد به التنكيل وذلك قد يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمى للتسفى فكان الاستيفاء إليه
فصل وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو اعتقد أن قطعها يجزىء عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لان الحق لله تعالى ومبناه على المساهلة
____________________
(2/283)
فقامت اليسار فيه مقام اليمين
والثانى أنه لا يجزئه لانه قطع غير العضو الذى تعلق به القطع فعلى هذا إن كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص فى يساره وإن قطعها وهو يعتقد أنها يمينه أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين وجب عليه نصف الدية
فصل إذا تلف المسروق فى يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما الآخر لان الضمان يجب لحق الآدمى والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما الآخر كالدية والكفارة
باب حد قاطع الطريق من شهر السلاح وأخاف السبيل فى مصر أو برية وجب على الإمام طلبه لانه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به فى قتل النفوس وأخذ الأموال
فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه السلطان لانه تعرض للدخول فى معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب والمتعرض للزنا بالقبلة
وإن أخذ نصابا محرزا مثله ممن يقطع بسرقة ماله وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعى عن ابن عباس أنه قال فى قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم الحدود لانه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه فى قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل
فإن لم يكن له اليد اليمنى وله الرجل اليسرى قطع الرجل ( اليسرى ) لان الحد تعلق بهما فإذا فقد أحدهما تعلق الحد بالباقى كما قلنا فى السارق إذا كانت له يد ناقصة الأصابع
وإن لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى لان ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده وإن أخذ دون النصاب لم يقطع
وخرج أبو على بن خيران قولا آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ فى القتل فى المحاربة فى أحد القولين وهذا خطأ لانه قطع يجب بأخذ المال فشرط فيه النصاب كالقطع فيي السرقة فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لانه قطع يتعلق بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة
فصل وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولى الدم العفو عنه لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال نمل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل ولم يأخذ المال قتل والحد لا يكون إلا حتما ولان ما أوجب عقوبة في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل
وإن جرح جراحة توجب القود فهل يتحتم القود فيه قولان أحدهما أنه يتحتم لان ما أوجب القود فى غير المحاربة انحتم القود فيه فى المحاربة كالقتل
والثانى أنه لا يتحتم لانه تغليظ لا يتبعض فى النفس فلم يجب فيما دون النفس كالكفارة
فصل وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب
ومن أصحابنا من قال يصلب حيا ويمنع الطعام والشراب حتى يموت
وحكى أبو العباس ابن القاص في التخليص عن الشافعى رضى الله عنه أنه قال يصلب ثلاثا قبل القتل ولا يعرف هذا للشافعى والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإن كان الزمان باردا أو معتدلا صلب بعد القتل ثلاثا وإن كان الحر شديدا وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلى عليه
وقال أبو على بن أبى هريرة رحمه الله يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لان فى ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن
وإن مات فهل يصلب فيه وجهان أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد الإسفرايينى رحمه الله أنه لا يصلب لان الصلب تابع للقتل وصفة له وقد سقط القتل فسقط الصلب
والثانى وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبرى رحمه الله أنه يصلب لانهما حقان فإذا تعذر أحدهما لم يسقط الآخر
____________________
(2/284)
فصل وإن وجب عليه الحد ولم يقع فى يد الإمام طلب إلى أن يقع فيقام عليه الحد لقوله عز وجل { أو ينفوا من الأرض } وقد روينا عن ابن عباس أنه قال ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا فتقام عليهم الحدود
فصل ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال فأما من حضر ردءا لهم أو عينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ويعزر لانه أعان على معصية فعزر وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لان كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده
فصل إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم قطع القصاص ( سواء تقدم ) على أخذ المال ( أو تأخر ) لان حق الآدمى آكد فإذا اندمل موضع القصاص قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لاخذ المال ولا يوالى بينهما لانهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما
وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال
وقلنا إن القصاص يتحتم نظرت فإن تقدم أخذ المال سقط القطع الواجب بسببه لانه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد حق الآدمى
وإذا قطع للآدمى زال ما تعلق الوجوب به لاخذ المال فسقط
وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لاخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى لانه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى
فصل وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فشرط فى العفو عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة وهو انحتام القتل والصلب وقطع الرجل للآية
وهل يسقط قطع اليد فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه يسقط لانه قطع عضو وجب بأخذ المال فى المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع الرجل
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يسقط لانه قطع يد لاخذ المال فلم يسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع السرقة
فصل فأما الحد الذى لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمى وهو حد القذف لم يسقط بالتوبة لانه حق للآدمى فلم يسقط بالتوبة كالقصاص
وإن كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان أحدهما أنه لا يسقط بالتوبة لانه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة كحد القذف ( والزنا )
والثانى أنه يسقط وهو الصحيح والدليل عليه قوله عز وجل فى ( حد ) الزنا { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما } وقوله تعالى فى السرقة { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وقوله صلى الله عليه وسلم التوبة تجب ما قبلها ولانه حد خالص لله تعالى فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق
فإن قلنا إنها تسقط نظرت فإن كانت وجبت فى غير المحاربة لم تسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح فى زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } ولقوله تعالى { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه }
____________________
(2/285)
فعلق العفو بالتوبة والإصلاح ولانه قد يظهر التوبة للتقية فلا يعلم صحتها حتى يقترن بها الإصلاح فى زمان يوثق بتوبته
وإن وجبت عليه الحدود فى المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول فى الطاعة لانه خارج من يد الإمام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية
باب حد الخمر كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره والدليل عليه قوله تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } واسم الخمر يقع على كل مسكر والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام
وروى النعمان بن بشير رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن من التمر لخمرا وإن من البر لخمرا وإن من الشعير لخمرا وإن من العسل خمرا
وروى سعد رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره
وروت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام
فصل ومن شرب مسكرا وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد فإن كان حرا جلد أربعين جلدة لما روى أبو ساسان قال لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلى عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده قال قم يا حسن فاجلده قال فيم أنت وذاك ول هذا غيرى قال ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت
فقال قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده ( فجلده ) وعلى عليه السلام يعد ذلك
____________________
(2/286)
فعد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة
وإن كان عبدا جلد عشرين لانه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا
فإن رأى الإمام أن يبلغ ( بحد الحر ) ثمانين وبحد العبد أربعين جاز لما روى أبو وبرة الكلبى قال أرسلنى خالد بن الوليد إلى عمر رضى الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير رضى الله عنهم فقلت إن خالد بن الوليد رضى الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد انهمكوا فى الخمر وتحاقروا العقوبة فيه قال عمر هم هؤلاء عندك فسلهم فقال على عليه السلام تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون فقال عمر بلغ صاحبك ما قال فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين قال وكان عمر إذا أتى بالرجل القوى المنهمك فى الشراب جلده ثمانين وإذا أتى بالرجل الضعيف الذى كانت منه الزلة جلده أربعين ( جلدة )
فإن جلده أربعين ومات لم يضمن لان الحق قتله وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية لان نصفه حد ونصفه تعزير وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير
وإن ( جلد ) إحدى وأربعين فمات ففيه قولان أحدهما أنه يضمن نصف ديته لانه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات
والثانى أنه يضمن جزءا من أحد وأربعين جزءا من الدية لان الأسواط متماثلة فسقطت الدية على عددها
وتخالف الجراحات فإنها لا تتماثل وقد يموت من جراحة ولا يموت من جراحات ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش من أسواط
وإن أمر الإمام الجلاد أن يضرب فى الخمر ثمانين فجلده إحدى وثمانين ومات المضروب
فإن قلنا إن الدية تسقط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءا لاجل الحد ووجب على الإمام أربعون جزءا لاجل التعزير ووجب على الجلاد جزء
وإن قلنا إنه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان أحدهما يسقط نصفها لاجل الحد ويبقى النصف على الإمام نصفه وعلى الجلاد نصفه لان الضرب نوعان مضمون وغير مضمون فسقط النصف بما ليس بمضمون ووجب النصف بما هو مضمون
والثانى أنه تقسط الدية أثلاثا فسقط ثلثها بالحد وثلثها على الإمام وثلثها على الجلاد لان الحد ثلاثة أنواع فجعل لكل نوع الثلث
فصل ويضرب فى حد الخمر بالأيدى والنعال وأطراف الثياب على ظاهر النص لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب ( الخمر ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اضربوه قال فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض الناس أخزاك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا هكذا ولا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله ولانه لما كان أخف من غيره فى العدد وجب أن يكون أخف من غيره فى الصفة
وقال أبو العباس وأبو إسحاق يضرب بالسوط ووجهه ما روى أن عليا رضى الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد قال فأخذ السوط فجلده حتى انتهى إلى أربعين سوطا فقال له أمسك
وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطا فمات ضمن لانه تعدى بالضرب بالسوط
وكم يضمن فيه وجهان أحدهما أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال
والثانى أنه يضمن جميع الدية لانه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا ضربه بما يجرح فمات منه
فصل والسوط الذى يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد ولا تشد يده لما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال ليس فى هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد
فصل ولا يقام الحد فى المسجد لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد فى المسجد ولانه لا يؤمن أن يشق الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فينجس المسجد
وإن أقيم الحد فى المسجد سقط الفرض
____________________
(2/287)
لان النهى لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى الحد فلم يمنع صحته كالصلاة فى الأرض المغصوبة
فصل إذا زنى دفعات حد للجميع حدا واحدا وكذلك إن سرق دفعات أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حدا واحدا لان سببها واحد فتداخلت
وإن اجتمعت عليه حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل لانها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل
وإن اجتمع عليه الجلد فى حد الزنا والقطع فى السرقة أو فى قطع الطريق قدم حد الزنا تقدم الزنا وتأخر لانه أخف من القطع فإذا تقدم أمكن استيفاء القطع بعده وإذا قدم القطع لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا
وإن اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب أو حد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على حد الزنا لانهما أخف منه وأمكن للاستيفاء
وإن اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان أحدهما أنه يقدم حد القذف لانه للآدمى
والثانى أنه يقدم حد الشرب وهو الصحيح لانه أخف من حد القذف فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول لانه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف
وإن اجتمع عليه حد السرقة والقطع فى قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع الطريق ثم تقطع رجله لقطع الطريق
وهل تجوز الموالاة بينهما فيه وجهان أحدهما أنه تجوز لان قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما
والثانى أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد لان قطع الرجل لقطع الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان فلا يوالى بين حديهما
والأول أصح لان اليد تقطع لقطع الطريق أيضا فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق
وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان فى غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه من الترتيب والتفريق بينها فإذا فرغ من الحدود قتل
وإن كان القتل فى المحاربة ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه يوالى بين الجميع والفرق بينه وبين القتل فى غير المحاربة أن القتل فى غير المحاربة غير متحتم وربما عفى ( عنه ) فتسلم نفسه والقتل فى المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة
والوجه الثانى أنه لا يوالى بينهما لانه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن يموت فى الثانى فيسقط ما بقى من الحدود
باب التعزير من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية التى لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصى عزر على حسب ما يراه السلطان لما روى عبد الملك بن عمير قال سئل على كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث قال هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد
وروى عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة استخلف أبا الأسود الديلى فأتى بلص نقب ( حرزا ) على قوم فوجدوه في النقب فقال مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى عنه
ولا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين وإن كان على عبد لم يبلغ به عشرين لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من بلغ بما ليس بحد حدا فهو من المعتدين وروى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبى موسى لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا وروى عنه ثلاثين سوطا وروى عنه ما بين الثلاثين إلى الأربعين سوطا ولان هذه المعاصى دون ما يجب فيه الحد فلا تلحق بما يجب فيه الحد من العقوبة
وإن رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمى لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا فى الحدود
وروى عبد الله بن الزبير أن رجلا خاصم الزبير عند رسول الله فى شراج الحرة الذى يسقون به النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/288)
للزبير اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصارى فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فقال الزبير فوالله إنى لاحسب هذه الآية نزلت فى ذلك { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال
فصل وإن عزر الإمام رجلا فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد عن على كرم الله وجهه أنه قال ما من رجل أقمت عليه حدا فمات فأجد فى نفسى أنه لا دية له إلا ( شارب ) الخمر فإنه لو مات وديته لان النبى صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد فإن النبى صلى الله عليه وسلم حد فى الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الأربعين ولانه ضرب جعل إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته
فصل وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه فإن قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لانه قطع بإذنه وإن قطعها بغير إذنه فمات وجب عليه القصاص لانه تعدى بالقطع وإن كانت على رأس صبى أو مجنون لم يجز قطعها لانه جرح لا يؤمن معه الهلاك فإن قطعت فمات منه نظرت فإن كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لانها جناية يعدى بها وإن كان أبا أو جدا وجبت عليه الدية وإن كان وليا غيرهما ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليه القود لانه قطع منه ما لا يجوز قطعه
والثانى أنه لا يجب القود لانه لم يقصد القتل وإنما قصد المصلحة فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة لانها عمد خطإ وبالله التوفيق
كتاب الأقضية باب ولاية القضاء وأدب القاضى القضاء فرض على الكفاية والدليل عليه قوله عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } وقوله عز وجل { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولان النبى صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس وبعث عليا كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ولان الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم حكموا بين الناس وبعث عمر رضى الله عنه أبا موسى الأشعرى إلى البصرة قاضيا وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا ولان الظلم فى الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه لان الكفاية لا تحصل إلا به فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت
____________________
(2/289)
فإن كان خاملا وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم وإن كان مشهورا فإن كانت له كفاية كره له الدخول فيه لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين ولانه يلزمه بالقضاء حفظ الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه
وإن كان فقيرا يرجو بالقضاء كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لانه يكتسب كفاية بسبب مباح
وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الإمام أفضلهم وأورعهم وقلده فإن اختار غيره جاز لانه تحصل به الكفاية وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لانه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
وهل يجوز للإمام أن يجبر واحدا منهم على الدخول فيه أم لا فيه وجهان أحدهما أنه ليس له إجباره لانه فرض على الكفاية فلو أجبرناه عليه تعين عليه
والثانى أن له إجباره لانه إذا لم يجبر بقى الناس بلا قاض ( وضاعت الحقوق ) وذلك لا يجوز
فصل ومن تعين عليه القضاء وهو فى كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقا لانه فرض تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالا من غير ضرورة فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه لان القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها فجاز أن يأخذ عليه الرزق فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق لانه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة فإن أخذ جاز لانه لم يتعين عليه وإن لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق لان أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما ولى خرج برزمة إلى السوق فقيل ما هذا فقال أنا كاسب أهلى فأجروا له كل يوم درهمين وعن عمر رضى الله عنه أنه قال أنزلت نفسى من هذا المال بمنزلة ولى اليتيم ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وبعث عمر رضى الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا وعبد الله بن مسعود قاضيا وعثمان بن حنيف ماسحا وفرض لهم كل يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان ولانه لما جاز للعامل على لالصدقات أن يأخذ مالا على العمالة جاز للقاضى أن يأخذ على القضاء ويدفع إليه مع رزقه شيء للقرطاس لانه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الأجر ياء لانه يحتاج إليهم لاحضار الخصوم كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء ويكون ذلك من سهم المصالح لانه من المصالح
فصل ولا يجوز أن يكون القاضى كافرا ولا فاسقا ولا عبدا ولا صغيرا ولا معتوها لانه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهدا فلان لا يجوز أن يكون قاضيا أولى
ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة ولانه لا بد للقاضى من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال لما يخاف عليهم من الافتتان بها
ولا يجوز أن يكون أعمى لانه لا يعرف الخصوم والشهود
وفى الأخرس الذى يفهم الإشارة وجهان كالوجهين فى شهادته ولا يجوز أن يكون جاهلا بطرق الأحكام لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة فأما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو فى الجنة وأما اللذان فى النار فرجل عرف الحق فجار فى حكمه فهو فى النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار ولانه إذا لم يجز أن يفتى الناس وهو لا يلزمهم الحكم فلان ( لا يجوز ) ألا يقضى بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى
ويكره أن يكون القاضى جبارا عسوفا وأن يكون ضعيفا مهينا لان الجبار يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته والضعيف يطمع فيه الخصم وينشط عليه ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة من غير عنف ولين من غير ضعف
فصل ولا يجوز ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام لانه من المصالح العظام فلا يجوز إلا من جهة الإمام فإن
____________________
(2/290)
تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكما ليحكم بينهما جاز لانه تحاكم عمر وأبى بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم
واختلف قوله فى الذى يلزم به حكمه فقال فى أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم وهو قول المزنى رحمه الله تعالى لانا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلا للقضاة وافتياتا على الإمام ولانه لما اعتبر تراضيهما فى الحكم اعتبر رضاهما فى لزوم الحكم
والثانى أنه يلزم بنفس الحكم لان من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضى الذى ولاه الإمام
واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم فمنهم من قال يجوز فى كل ما تحاكم فيه الخصنمان كما يجوز حكم القاضى الذى ولاه الإمام
ومنهم من قال يجوز فى الأموال فأما فى النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز فيها التحكيم لانها حقوق بنيت على الاحتياط
فلم يجز فيها التحكيم
فصل ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد منهم فى موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما القضاء فى حق وإلى الآخر فى حق آخر وإلى أحدهما فى زمان وإلى الآخر فى زمان آخر لانه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة
وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء فى مكان واحد فى حق واحد وزمان واحد فيه وجهان أحدهما أنه يجوز لانه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين كالوكالة
والثانى أنه لا يجوز لانهما قد يختلفان فى الحكم فتقف الحكومة ولا تنقطع الخصومة
فصل ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عز وجل { فاحكم بين الناس بالحق } والحق ما دل عليه الدليل وذلك لا يتعين فى مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لانه علقها على شرط وقد بطل الشرط فبطلت التولية
فصل وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى لان النبى صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضى الله عنه لانس حين بعثه إلى البحرين كتابا وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة أما بعد فإنى بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله قاضيا ووزيرا فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بها فإن كان البلد الذى ولاه بعيدا أشهد له على التولية شاهدين ليثبت بهما التولية وإن كان قريبا بحيث يتصل به الخبر فى التولية ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه يجب الإشهاد لانه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع
والثانى وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه لا يجب الإشهاد لانه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الإشهاد
والمستحب للقاضى أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء لانه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم والمستحب أن يدخل البلد يوم الاثنين لان النبى صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين والمستحب أن ينزل وسط البلد ليتساوى الناس كلهم فى القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا التولية وما فوض إليه
فصل فإذا أذن له من ولاه أن يستخلف فله أن يستخلف وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لانه نائب عنه فتبع أمره ونهيه وإن لم يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضى فيه بنفسه ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه يجوز أن يستخلف لانه ينظر فى المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره
والثانى وهو المذهب أنه لا يجوز لان الذى
____________________
(2/291)
ولاه لم يرض بنظر غيره وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضى فيه بنفسه لكثرته جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه لان تقليده لما لا يقدر عليه بنفسه إذن له فى الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه إذن له فى استنابة غيره
وهل له أن يستخلف فيما يقدر عليه أن يقضى فيه بنفسه فيه وجهان أحدهما أن له ذلك لان ما جاز له أن يستخلف فى البعض جاز أن يستخلف فى الجميع كالإمام
والثانى أنه لا يجوز لانه إنما أجيز له أن يستخلف فيما لا يقدر عليه للعجز فوجب أن يكون مقصورا على ما عجز عنه
فصل ولا يجوز أن يقضى ولا يولى ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضيا فى حكم فى غير عمله فإن فعل شيئا من ذلك فى غير عمله لم يعتد به لانه لا ولاية له فى غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية
فصل ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى خليفة له لان عمر بن الخطاب رضى الله عنه تحاكم مع أبى بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان رضى الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم وتحاكم على ( عليه السلام ) مع يهودي في درع إلى شريح ولانه لا يجوز أن يكون شاهدا لنفسه فلا يجوز أن يكون حاكما لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل وقال أبو ثور يجوز وهذا خطأ لانه متهم فى الحكم لهما كما يتهم فى الحكم لنفسه وإن تحاكم إليه والده مع ولده فحكم لاحدهما فقد قال بعض أصحابنا إنه يحتمل وجهين أحدهما أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبى
والثانى أنه يجوز لانهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل
وإن أراد أن يستخلف فى أعماله والده وولده جاز لانهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم فى أعماله فجاز أن يستخلفهما للحكم فى أعماله وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضيا لم يجز أن يختار والده أو ولده لانه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده
فصل ولا يجوز أن يرتشى على الحكم لما روى أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعن الله الراشى والمرتشى فى الحكم ولانه أخذ مال على حرام فكان حراما كمهر البغى ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدى إليه قبل الولاية لما روى أبو حميد الساعدى قال استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدى إلى فقام النبى صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدى إلى ألا جلس فى بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذى نفسى بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته فدل على أن ما أهدى إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله
وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية برحم أو مودة فإنه إن كانت له فى الحال حكومة لم يجز قبولها منه لانه لا يأخذ فى حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه لم يجز له قبولها لان الزيادة حدثت بالولاية وإن لم يكن أكثر ولا أرفع مما كان يهدى إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والأولى ألا يقبل لجواز أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة
فصل ويجوز أن يحضر الولائم لان الإجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة وفى وليمة العرس وجهان أحدهما أنها فرض على الأعيان
والثانى أنها فرض على الكفاية ولا يخص فى الإجابة قوما دون قوم لان فى تخصيص بعضهم ميلا وتركا للعدل فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور فى حق الجميع لان الإجابة إلى الوليمة إما أن تكون سنة أو فرضا على الكفاية أو فرضا على الأعيان إلا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع المسلمين فوجب تقديم القضاء
فصل ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتى مقدم الغائب لقوله صلى الله عليه وسلم عائد المريض فى مخرف من مخارف الجنة حتى يرجع وعاد النبى صلى الله عليه وسلم سعدا وجابرا وعاد غلاما يهوديا فى جواره وعرض عليه الإسلام فأجاب وكان يصلى على الجنائز
فإن كثرت عليه أتى من ذلك مالا يقطعه عن الحكم
والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا إنها إذا كثرت عليه ترك
____________________
(2/292)
الجميع أن الحضور فى الولائم لحق أصحابها فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل إلى من يحضره والحضور فى هذه الأشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه
فصل ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكى عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ما عدل وال اتجر فى رعيته أبدا وقال شريح شرط على عمر رضى الله عنه حين ولانى القضاء ألا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشى ولا أقضى وأنا غضبان ولانه إذا باشر ذلك بنفسه لم يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه
فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من ينوب عنه ولا يكون معروفا به فإن عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه فإن لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه لانه لا بد له منه فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه لانه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه
فصل ولا يقضى فى حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا فى حال الحزن والفرح ولا يقضى والنعاس يغلبه ولا يقضى والمرض يقلقه ولا يقضى وهو يدافع الأخبثين ولا يقضى وهو فى حر مزعج ولا فى برد مؤلم لما روى أبو بكرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغى للقاضى أن يقضى بين اثنين وهو غضبان وروى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضى القاضى إلا وهو شبعان ريان ولان فى هذه الأحوال يشتغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وإن حكم فى هذه الأحوال صح حكمه لان الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصارى وإن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال للزبير اسق زرعك واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك فحكم ( عليه السلام ) في حال الغضب
فصل والمستحب أن يجلس للحكم فى موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب من غير عذر لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من ولى من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره
والمستحب أن يكون المجلس فسيحا حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز وأن يكون موضعا لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة منتنة لان عمر رضى الله عنه كتب إلى أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه وإياك والقلق والضجر ( وسوء الخلق ) وهذه الأشياء تفضى إلى الضجر وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الأحوال صح الحكم كما يصح فى حال الغضب
ويكره أن يجلس للقضاء فى المسجد لما روى معاذ رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ( ومجانينكم ) ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم وبيعكم ولان الخصومة يحضرها اللغط والسفة فينزه المسجد عن ذلك ولانه قد يكون الخصم جنبا أو حائضا فلا يمكنه المقام فى المسجد للخصومة فإن جلس فى المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما لما روى الحسن البصرى قال دخلت المسجد فرأيت عثمان رضى الله عنه قد ألقى رداءه ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما
وإن جلس فى البيت لغير الحكم فحضره خصمان لم يكره أن يحكم بينهما لما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار فى مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فى بيتى
____________________
(2/293)
فصل وإن احتاج إلى أجرياء لاحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء ويوصيهم بالرفق بالخصوم ويكره أن يتخذ حاجبا لانه لا يؤمن أن يمنع من له ظلامة أو يقدم خصما على خصم فإن دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أمينا بعيدا من الطمع ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجبا لان يرفأ كان حاجب عمر والحسن ( البصرى ) كان حاجب عثمان وقنبر كان حاجب على عليه السلام ولان الإمام ينظر فى جميع المصالح فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتا لا يدخل فيه كل أحد
فصل ويستحب أن يكون له حبس لان عمر رضى الله عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا واتخذ على عليه السلام سجنا وحبس عمر رضى الله عنه الحطيئة الشاعر فقال ( البسيط ) ماذا تقول لافراخ بذى مرخ حمر الحواصل لا ماء ولا شجر فألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة فارحم عليك سلام الله يا عمر فخلاه وحبس ( عمر ) آخر فقال ( الرجز ) يا عمر الفاروق طال حبسى ومل منى إخوتى وعرسى فى حدث لم تقترفه نفسى والأمر أضوأ من شعاع الشمس ولانه ( قد ) يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين ويستحب أن يكون له درة للتأديب لان عمر رضى الله عنه كانت له درة يؤدب بها ( الناس )
فصل وإن احتاج إلى كاتب اتخذ كاتبا لان النبى صلى الله عليه وسلم كان له كتاب منهم على بن أبى طالب وزيد بن ثابت رضى الله عنهما
ومن شرطه أن يكون عارفا بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لانه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله ( به ) وهل من شرطه أن يكون مسلما عدلا فيه وجهان أحدهما أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافرا لان أبا موسى الأشعرى قدم على عمر رضى الله عنه ومعه كاتب نصرانى فانتهره عمر رضى الله عنه وقال لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله
ولان الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم ولا يجوز أن يكون فاسقا لانه لا يؤمن أن يخون
والوجه الثانى أن ذلك يستحب لان ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضى ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة
فصل ولا يتخذ شهودا معينين لا تقبل شهادة غيرهم لان في ذلك تضييقا على الناس وإضرارا بهم في حفظ حقوقهم ولان شروط الشهادة لا تختص بالمعينين فلم يجز تخصيصهم بالقبول
فصل ويتخذ قوما من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت عدالته
____________________
(2/294)
من الشهود وينبغى أن يكونوا عدولا برآء من الشحناء بينهم وبين الناس بعداء من العصبية فى نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل وأن يكونوا وافرى العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدوا أو صديقا لان العدو يظهر القبيح ويخفى الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفى القبيح
وإن شهد عنده شاهد نظرت فإن علم عدالته قبل شهادته وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل فى العدالة والفسق بعلمه وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسأل عن إسلامه ولا يعمل فى إسلامه بظاهر الدار كما يعمل فى إسلام اللقيط بظاهر الدار لان أعرابيا شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه ولانه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع فى إسلامه إلى قوله لان النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الأعرابى
وإن جهل حريته ففيه وجهان أحدهما وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله لان الظاهر من الدار حرية أهلها كما أن الظاهر من الدار إسلام أهلها ثم يثبت الإسلام بقوله فكذلك الحرية
والثانى وهو الأظهر أنها لا تثبت بقوله والفرق بينها وبين الإسلام أنه يملك الإسلام إذا كان كافرا فقبل إقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبدا فلم يقبل إقراره بها
وإن جهل عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته لقوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } ولا يعلم أنه مرضى قبل السؤال
وروى سليمان عن حريث قال شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال له عمر رضى الله عنه إنى لست أعرفك ولا يضرك أنى لا أعرفك فأتنى بمن يعرفك فقال رجل أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأي شيء تعرفه قال بالعدالة قال هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال لا قال فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع قال لا قال فصاحبك فى السفر الذى يستدل به على مكارم الأخلاق قال لا قال لست تعرفه
ثم قال للرجل ائتنى بمن يعرفك
ولانه لا يؤمن أن يكون فاسقا فلا يحكم بشهادته
وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه حتى لا يشتبه بغيره ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته له من والد أو ولد ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدوا لا تقبل شهادته عليه ويذكر قدر ما يشهد به لانه قد يكون ممن يقبل قوله فى قليل ولا يقبل قوله فى كثير
ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد ألا يكون أصحاب المسائل معروفين عند المشهود له حتى لا يحتال فى تعديل الشهود ولا عند المشهود عليه حتى لا يحتال فى جرح الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا فى تعديل أنفسهم ولا عند المسؤولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء فى الجرح ولا الأصدقاء فى التعديل
ويجتهد ألا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى على التواطؤ على الجرح والتعديل
قال الشافعى رحمه الله ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين ووجهه أنه شهادة فاعتبر فيها العدد
واختلف أصحابنا هل يحكم القاضى فى الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو بمن عدل أو جرح من الجيران فقال أبو إسحاق يحكم بشهادة الجيران لانهم يشهدون بالجرح والتعديل فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من أصحاب المسائل ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح ثم يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد في لفظ الشهادة وحمل قول الشافعى رحمه الله فى العدد على الجيران
وقال أبو سعيد الإصطخرى يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لان الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل فعلى هذا لا يجوز أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران واحدا إذا وقع فى نفوسهم صدقه ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شرط الشهادة فى العدد ولفظ الشهادة
وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى فى العدد على أصحاب المسائل
وإن بعث اثنين فعادا بالجرح
____________________
(2/295)
حكم بالجرح وإن عادا بالتعديل حكم بالتعديل وإن عاد أحدهما بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح ولا تعديل ويبعث ثالثا فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وإن شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لان شاهدى الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدى العدالة يخبران عن أمر ظاهر فقدم من يخبر بالباطن كما لو شهد اثنان بالإسلام وشهد آخران بالردة
وإن شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح لان بينة الجرح
كملت فقدمت على بينة التعديل ولا يقبل الجرح إلا مفسرا وهو أن يذكر السبب الذى به جرح ولان الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح والتعديل إلى رأى الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يشهد بالجرح من يشهد من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة فى الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع فى الأقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع أو استفاض عنه ذلك بالخبر لانه شهادة على علم فأما إذا قال بلغنى أو قيل لى أنه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد به لقوله تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } قال الشافعى رحمه الله ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على ولى فمن أصحابنا من قال يكفى أن يقول هو عدل وهو قول أبى سعيد الإصطخرى لان قوله عدل يقتضى أنه عدل عليه وله وما ذكره الشافعى رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الإستحباب
ومنهم من قالع لا يقبل حتى يقول عدل لى وعلى وهو قول أبى إسحاق لان قوله عدل لا يقتضى العدالة على الإطلاق لانه قد يكون عدلا فى شيء دون شيء وإذا قال عدل على ولى دل على العدالة على الإطلاق
فصل ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد لان المقصود معرفة العدالة فى الباطن ولا يعلم ذلك ممن لم يتقدم به معرفته ويقبل الجرح ممن تقدمت معرفته به وممنن لم يتقدم معرفته لانه لا يشهد فى الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه
فصل وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لان البحث عن العدالة لحق المشهود عليه وهو قد شهد له بالعدالة
والثانى أنه لا يحكم لان حكمه بشهادته حكم بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد ولان اعتبار العدالة فى الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضى المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته
فصل وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب حكم بشهادته ولم يسأل عن عدالته وإن كان بعد زمان طويل ففيه وجهان أحدهما أنه يحكم بشهادته لان الأصل بقاء العدالة
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن عدالته لانه مع طول الزمان يتغير الحال
فصل وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه وزمانه لما روى أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم
وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال كنت ( جالسا ) عند محارب بن دثار وهو قاضى الكوفة فجاءه رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعى شاهدين فشهد له فقال المشهود عليه والذى تقوم به السموات والأرض لقد كذبا على فى الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما فى حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار فإن صدقتما فأثبتا وإن كذبتما فغطيا على رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا
{ وشاورهم في الأمر } قال الحسن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/296)
فصل والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى عن مشاورتهم لغنيا ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام ولان النبى صلى الله عليه وسلم شاور فى أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر رضى الله عنه بالقتل
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضى الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأى والفقه دعا رجالا من المهاجرين و ( رجالا من ) الأنصار ودعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت رضى الله عنهم فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولى عمر رضى الله عنه وكان يدعو هؤلاء النفر فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه فإن اتضح له الحق حكم به فإن لم يتضح أخره إلى أن يتضح ولا يقلد غيره لانه مجتهد فلا يقلد
وقال أبو العباس إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة وقد بينا ذلك فى كتاب الصلاة
وإن اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به ثم بان له أنه أخطأ فإن كان ذلك بدليل مقطوع به كالنص والإجماع والقياس الجلى نقض الحكم لقوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبى موسى لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادى فى الباطل ولانه مفرط فى حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه
فصل وإن ولى قضاء بلد وكان القاضى قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ لانه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم من بعض الرعية وإن كان يصلح للقضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لان الظاهر أنها صحيحة فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا فيه وجهان أحدهما وهو اختيار الشيخ أبى حامد الإسفرايينى أنه يجوز لان فيه احتياطا
والثانى أنه لا يجوز لانه يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل يلزمه
وإن تظلم منه متظلم فإن سأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لانه ربما قصد أن يبتذله ليحلف من غير حق
وإن قال لى عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه على حكم أحضره وإن قال حكم على بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان أحدهما أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالا
والثانى أنه لا يحضره حتى يقيم ( عليه ) بينة بما يدعيه لانه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم فإن حضر وقال ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لانه أمين
وهل يحلف فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه لا يحلف لانه عدل والظاهر أنه صادق
والثانى أنه يحلف لانه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها وإن قال جار علي فى الحكم نظرت فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم بما لا يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان ما أتلف على الذمى من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد لانا لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لاحد حق ولا ملك لانه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لاحد حق ولا ملك
____________________
(2/297)
فصل وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول اللهم إنى أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي
والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة ولانه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالأذان
والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وهو متكىء على يساره فقال هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوما ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط فى شيء رده عليه
فصل والمستحب أن يبدأ فى نظره بالمحبسين لان الحبس عقوبة وعذاب وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين وينادي فى البلدان القاضى يريد النظر فى أمر المحبسين فى يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس فإن قال المحبوس حبست على دين وأنا معسر فإن ثبت اعساره أطلق وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى صاحب الدين أن له دارا وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هى لزيد سئل زيد فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين لان إقراره ويسقط بإكذابه وإن صدقه زيد نظرت فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع في الدين لان له بينة ويدا بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد فقدمت بينة زيد وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان أحدهما أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لان بينة صاحب الدين بطلت بإكذاب المحبوس وبقى إقرار المحبوس بالدار لزيد
والثانى أنه لا يحكم بها لزيد ( وتباع فى الدين ) لان بينة صاحب الدين شهدت للمحبوس بالملك وله ( عليه ) بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت البينة فى حقه ولم تسقط فى حق صاحب الدين
فصل ثم ينظر فى أمر الأوصياء والأمناء لانهم يتصرفون فى حق من لا يملك المطالبة بماله وهم الأطفال فإذا ادعى رجل أنه وصى للميت لم يقبل قوله إلا ببينة لان الأصل عدم الوصية فإن أقام على ذلك بينة فإن كان عدلا قويا أقر على الوصية وإن كان فاسقا لم يقر على الوصية لان الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية
وإن كان عدلا ضعيفا ضم إليه غيره ليتقوى به وإن أقام بينة أن الحاكم الذى كان قبله أنفذ الوصية إليه أقره ولم يسأل عن عدالته لان الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل فإن كان وصيا فى تفرقة ثلثه فإن لم يفرقه فالحكم فى إقراره على الوصية على ما ذكرناه وإن كان قد فرقه فإن كان عدلا لم يلزمه شيء وإن كان فاسقا فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه شيء لانه دفع الموصى به إلى مستحقه وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان أحدهما أنه لا يغرم لانه دفع المال إلى مستحقه فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين
والثانى أنه يغرم ما فرقه لانه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق ما جعل تفرقته إلى غيره
فصل ثم ينظر فى اللقطة والضوال ( وأمر ) الأوقاف العامة وغيرها من المصالح ويقدم الأهم فالأهم لانه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم النظر فيها
باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود إذا حضر خصوم واحد بعد واحد قدم الأول فالأول لان الأول سبق إلى حق له فقدم على من بعده
____________________
(2/298)
كما لو سبق إلى موضع مباح وإن حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم وأشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لانه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن ثبت السبق لاحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لان الحق له فجاز أن يؤثر به غيره كما لو سبق إلى منزل مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة لانا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين
وإن حضر مسافرون ومقيمون فى وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلا وهم على الخروج قدموا لان عليهم ضررا فى المقام ولا ضرر على المقيمين
وحكى بعض أصحابنا فيه وجها آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم فى الحضور وظاهر النص هو الأول وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثر لم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لان فى تقديمهم إضرارا بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر وإن تقدم إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما على الآخر حقا فقال المدعى عليه أنا جئت به وأنا المدعى قدم السابق بالدعوى لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم
فصل فى وعلى الحاكم أن يسوى بين الخصمين فى الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما لما روت أم سلمة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم فى لحظه ولفظه وإشارته ومقعده وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى آس بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييئس ضعيف من عدلك
ولانه إذا قدم أحدهما على الآخر فى شيء من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته
والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدى القاضى ولان ذلك أمكن لخطابهما وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا ففيه وجهان أحدهما أنه يسوى بينهما فى المجلس كما يسوى بينهما فى الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما
والثانى أنه يرفع المسلم على الذمى فى المجلس لما روى أن عليا رضى الله عنه حاكم يهوديا في درع إلى شريج فقام شريج من مجلسه وأجلس عليا كرم الله وجهه فيه فقال علي ( عليه السلام ) لولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تسووا بينهم فى ( المجالس ) لجلست معه بين يديك
ولا يضيف أحدهما دون الآخر لما روى أن رجلا نزل بعلى بن أبى طالب ( عليه السلام ) فقال له ألك خصم قال نعم قال تحول عنا فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه ولان فى إضافة أحدهما إظهار الميل وترك العدل
ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجة لما ذكرناه ولا يأمر أحدهما بإقرار لان فيه إضرارا به ولا بإنكار لان فيه إضرارا بخصمه وإن ادعى أحدهما دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعى فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه يجوز لانه لا ضرر على الآخر فى تصحيح دعواه
والثانى أنه لا يجوز لانه ينكسر ( قلب ) الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته وله أن يرد عن أحدهما ما عليه لان فى ذلك نفعا لهما وله أن يشفع لاحدهما لان الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء شفعه وإن شاء لم يشفعه
وإن مال قلبه إلى أحدهما أو أحب أن يفلج أحدهما على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لانه لا يمكنه التسوية بينهما فى المحبة والميل بالقلب ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء فى القسم ولا يلزمه التسوية بينهن فى المحبة والميل بالقلب
فصل فى ولا ينتهر خصما لأن ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة وإن ظهر من أحدهما لدد أو سوء أدب نهاه
____________________
(2/299)
فإن عاد زبره وإن عاد عزره ولا يزجر شاهدا ولا يتعينته لان ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفى ذلك تضييع للحقوق
فصل فى فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه إجابته لقوله تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه لانه إذا لم يعده أدى ذلك إلى إبطال الحقوق فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره وإن كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب فى موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن حاكم وهناك من يتوسط بينهما كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لانه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضى به ويخالف الحاضر فى البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعى دعواه لانه لا مشقة عليه فى الحضور فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روى أن بكر الصديق رضى الله عنه كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلى بقيس بن مكشوح فى وثاق فأحلفه خمسين يمينا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قتل دادويه ولانا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق فإن استعداه على امرأة فإن كانت برزة فهى كالرجل لانها كالرجل فى الخروج للحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها وإن توجهت عليها يمين بعث إليها من يحلفها لان النبى صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع إقرارها ولم يكلفها الحضور
باب صفة القضاء إذا حضر عند القاضى خصمان وادعى أحدهما على الآخر حقا يصح فيه دعواه وسأل القاضى مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله مطالبة الخصم ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز للقاضى مطالبته لان ذلك حق للمدعى فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه
والثانى وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لان شاهد الحال يدل على الإذن فى المطالبة فإن طولب لم يخل إما أن يقر أو ينكر أو لا يقر ولا ينكر
فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعى لان الحكم حق له فلا يستوفيه من غير إذنه فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعى لا يعلم أن له إقامة البينة قال له القاضى ألك بينة وإن كان يعلم فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى فى غير دم فله أن يحلف المدعى عليه ولا يجوز للقاضى إحلافه إلا بمطالبة المدعى لانه حق له فلا يستوفيه من غير إذنه وإن أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لانها يمين قبل وقتها وللمدعى أن يطالب باعادتها لان اليمين الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعى عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لانه لم يسقط حقه من اليمين وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها فى هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لان حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لان هذه الدعوى غير الدعوى التى أبرأه فيها
____________________
(2/300)
من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضر موت ورجلا من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمى هذا غلبنى على أرض ورثتها من أبى وقال الكندى أرضى وفى يدى أزرعها ( و ) لا حق له فيها فقال النبى صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه قال إنه لا يتورع عن شيء فقال ليس لك إلا ذلك فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن ابتدأ وقال امتنعت لانظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لانها مدة قريبة ولا يمهل أكثر منها لانها مدة كثيرة فإن لم يذكر عذرا لامتناعه جعله ناكلا ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لان الحق إنما يثبت بالإقرار أو البينة والنكول ليس بإقرار ولا بينة
فإن بذل اليمين بعد النكول لم يسمع لان بنكوله ثبت للمدعى حق وهو اليمين فلم يجز إبطاله عليه
فإن لم يعلم المدعى أن اليمين صارت إليه قال له القاضى أتحلف وتستحق
وإن كان يعلم فله أن يقول ذلك وله أن يسكت
وإن قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق
وروى أن المقداد استقرض من عثمان مالا فتحا كما إلى عمر فقال المقداد هو أربعة آلاف وقال عثمان سبعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر إنه أنصفك فلم يحلف عثمان فلما ولى المقداد قال عثمان والله لقد أقرضته سبعة آلاف فقال عمر لم لم تحلف فقال خشيت أن يوافق ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه
واختلف قول الشافعى رحمه الله تعالى فى نكول المدعى عليه مع يمين المدعى فقال فى أحد القولين هما بمنزلة البينة لانه حجة من جهة المدعى
وقال فى القول الآخر هما بمنزلة الإقرار وهو الصحيح لان النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين ( ترتب ) عليه ( وله فصار ) كإقراره
فإن نكل المدعى عن اليمين سئل عن سبب نكوله
والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث لم يسأل عن سبب نكوله أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعى حق فى رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال المدعى عليه وبنكول المدعى لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله
فإن سئل فذكر أنه امتنع من اليمين لان له بينة يقيمها وحسابا ينظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه فى المدة ويترك ما تارك
والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث قلنا إنه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام أن بترك المدعى عليه يتأخر حق المدعى فى الحكم له وبترك المدعى لا يتأخر إلا حقه
وإن قال امتنعت لانى لا أختار أن أحلف حكم بنكوله
فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل فى هذه الدعوى لانه أسقط حقه منها فإن عاد فى مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه وطلب يمينه حلف فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعى فإذا حلف حكم له لانها يمين فى غير الدعوى التى حكم فيها بنكوله
فإن كان له شاهد واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه فإن أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له فى هذا المجلس لان اليمين انتقلت عنه إلى جنبة غيره فلم تعد إليه فإن عاد فى مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم الشاهد ويحلف معه لان حكم الدعوى الأولى قد سقط
وإن حلف المدعى عليه فى الدعوى الأولى سقطت عنه المطالبة وإن نكل عن اليمين لم يقض عليه بنكوله وشاهد المدعى لان للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعى فلم يقض به مع النكول من غير يمين كاللوث فى القسامة وهل ترد اليمين على المدعى ليحلف مع الشاهد فيه قولان أحدهما أنه لا ترد لانها كانت فى جنبته وقد أسقطها وصارت فى جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعى فنكل فإنها لا ترد على المدعى عليه
والقول الثانى وهو الصحيح أنها ترد لان هذه اليمين غير الأولى لان سبب الأولى قوة جنبة المدعى بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه واليمين الأولى لا يحكم بها إلا فى المال وما يقصد به المال والثانية يقضى بها فى جميع الحقوق التى تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجبا لسقوط الأخرى فإن قلنا إنها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لانه تعين عليه ذلك وإن قلنا إنها ترد حلف مع الشاهد واستحق
فصل فى وإن كانت الدعوى فى موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن ادعى على رجل دينا ومات المدعى ولا وارث له غير المسلمين
____________________
(2/301)
وأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الإصطخرى
أحدهما أنه يقضى بنكوله لانه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لانه لا يجوز أن يحلف عن المسلمين لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها على المسلمين لانهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة
والثانى وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لان الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لانه إما أن يكون صادقا فى إنكاره فلا ضرر عليه فى اليمين أو كاذبا فيلزمه الإقرار وإن ادعى وصى دينا لطفل فى حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف لانه لا يمكن رد اليمين على الوصى لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل فى الحال لانه لا يصح يمينه فوجب التوقف إلى أن يبلغ
فصل فى وإن كان للمدعى بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لانها حجة لا تهمة فيها لانها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لانها من جهته ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعى لانه حق له فلا يستوفى إلا بإذنه
فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لان فى ذلك طعنا فى البينة العادلة
وإن قال أبرأنى منه فحلفوه أنه لم يبرئنى منه أو قضيته فحلفوه أنى لم أقضه حلف لانه ليس فى ذلك قدح فى البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه
وإن كانت البينة غير عادلة قال له القاضى زدنى فى شهودك
وإن قال المدعى لي بينة غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لان الغائبة كالمعدومة لتعذر إقامتها
فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها والحكم بها لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولان البينة كالإقرار ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة
وإن قال لي بينة حاضرة ولكنى أريد أن أحلفه حلف لانه قد يكون له غرض فى إحلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر وإثبات الحق بالإقرار أقوى وأسهل من إثباته بالبينة
وإن قال ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة أو قال كل بينة تشهد لي فهى كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أنها لا تسمع لانه كذبها بقوله
والثانى أنه إن كان هو الذى استوثق بالبينة لم تسمع لانه كذبها
وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لانه لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لى إلى ما عنده
والثالث أنها تسمع بكل حال وهو الصحيح لانه يجوز أن يكون ما علم وإن علم فلعله نسى فرجع قوله لا بينة لى إلى ما يعتقده
فصل فى وإن قال المدعى لى بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك وإن شهد ( له ) شاهدان عدلان عند الحاكم وهو لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندى وقد أطردتك جرحهما وإن كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت
فإن قال المشهود عليه لى بينة بجرحهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال فى كتابه إلى أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام لانه كثير وفيه إضرار بالمدعى
وإن قال لى بينة بالقضاء أو الإبراء أمهل ثلاثة أيام فإن لم يأت بها حلف المدعى أنه لم يقضه
____________________
(2/302)
ولم يبرئه ثم يقضى ( له ) لما ذكرناه وله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لان الحق قد ثبت له فى الظاهر وإن شهد له شاهدان ولم تثبت عدالتهما فى الباطن فسأل المدعى أن يحبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق وهو ظاهر المذهب أنه يحبس لان الظاهر العدالة وعدم الفسق
والثانى وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه لا يحبس لان الأصل براءة ذمته
وإن شهد له شاهد واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتى بشاهد آخر ففيه قولان أحدهما أنه يحبس كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود
والثانى أنه لا يحبس وهو الصحيح لانه لم يأت بتمام البينة ويخالف إذا جهل عدالتهم لان البينة تم عددها والظاهر عدالتها
وقال أبو إسحاق إن كان الحق مما يقضى فيه بالشاهد واليمين حبس قولا واحدا لان الشاهد الواحد حجة فيه لانه يحلف معه
فصل فى وإذا علم القاضى عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعلمه فى قبوله ورده
وإن علم حال المحكوم فيه نظرت فإن كان ذلك فى حق الآدمى ففيه قولان أحدهما أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة السلام للحضرمى شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ولانه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد النكاح به وحده
والثانى وهو الصحيح وهو اختيار المزنى رحمه الله أنه يجوز أن يحكم بعلمه لما روى أبو سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول فى حق إذا رآه أو ( علمه ) أو سمعه ولانه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلان يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى
وإن كان ذلك فى حق الله تعالى ففيه طريقان أحدهما وهو قول أبى العباس وأبى على بن أبى هريرة أنها على قولين كحقوق الآدميين
والثانى وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولا واحدا لما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندى
ولانه مندوب إلى ستره ودرئه والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم هلا سترته بثوبك يا هزال فلم يجز الحكم فيه بعلمه
فصل فى وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا
والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثا فإن لم يجب جعله ناكلا وحلف المدعى وقضى له لانه لا يخلو إذا أجاب من أن يقر أو ينكر فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول عن اليمين فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين
فصل فى وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمى لا يعرف لسانه لم يقبل فى الترجمة إلا عدلين لانه إثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل إلا من عدلين كالإقرار
وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك فى الترجمة وإن كان مما لا يقبل فيه إلا ذكرين لم يقبل فى الترجمة إلا ذكرين فإن كان إقرارا بالزنا ففيه قولان أحدهما أنه يثبت بشاهدين
والثانى أنه لا يثبت إلا بأربعة
فصل فى وإن حضر رجل عند القاضى وادعى على غائب عن البلد أو على حاضر فهرب أو على حاضر فى البلد استتر وتعذر إحضاره فإن لم يكن معه بينة لم يسمع دعواه لان استماعها لا يفيد وإن كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت بينته لانا لو لم نسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقا إلى إسقاط الحقوق التى نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه إلا أن يحلف المدعى أنه لم يبرىء من الحق لانه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إبراء أو قضاء أو حوالة ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراءة بشيء من ذلك سمعت دعواه وحلف عليه المدعى فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف عليه المدعى
وإن ادعى على حاضر فى البلد يمكن إحضاره ففيه وجهان أحدهما أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعى لانه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد والمستتر فى البلد
والثانى أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب لانه يمكن سؤاله فلا يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر فى مجلس الحكم
وإن ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه فإن كان له
____________________
(2/303)
وارث كان إحلاف المدعى إليه
وإن لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضى له وإن كان على صبى سمعت البينة وقضى عليه بعدما يحلف المدعى لانه تعذر الرجوع إلى جوابه فقضى عليه مع يمين المدعى كالغائب والمستتر
وإن حكم على الغائب ثم قدم أو على الصبى ثم بلغ كان على حجته فى القدح فى البينة والمعارضة ببينة يقيمها على القضاء أو الإبراء
فصل ويجوز للقاضى أن يكتب إلى القاضى فيما ثبت عنده ليحكم به ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه لما روى الضحاك ابن قيس قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها ولان الحاجة تدعو إلى كتاب القاضى إلى القاضى فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما حكم به لينفذه
فإن كان الكتاب فيما حكم به جاز قبول ذلك فى المسافة القريبة والبعيدة لان ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة لان القاضى الكاتب فيما حمل شهود الكتاب كشاهد الأصل والشهود الذين يشهدون بما فى الكتاب كشهود الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الأصل
فصل فى ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان وقال أبو ثور يقبل من غير شهادة لان النبى صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة
وقال أبو سعيد الإصطخرى إذا عرف المكتوب إليه خط القاضى الكاتب وختمه جاز قبوله وهذا خطأ لان الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم وإذا أراد إنفاذ الكتاب أحضر شاهدين ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه
والمستحب أن ينظر الشاهدان فى الكتاب حتى لا يحذف منه شيء وإن لم ينظرا جاز لانهما يؤديان ما سمعا
وإذا وصلا إلى القاضى المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا نشهد أن هذا الكتاب كتاب فلان إليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه وإن لم يقرآ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب إليك بهذا لم يجز لانه ربما زور الكتاب عليهما
وإن انكسر ختم الكتاب لم يضر لان المعول على ما فيه
وإن محى بعضه فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وإن لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لانهما لا يعلمان ما محى منه
فصل فى وإن مات القاضى الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به لانه إن كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن ينفذه فى كل حال وإن كان الكتاب بما ثبت عنده فالكاتب كشاهد الأصل وشهود الكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الأصل لا يمنع من قبول شهادة شهود الفرع
وإن فسق الكاتب ثم وصل كتابه فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر فسقه لان الحكم لا يبطل بالفسق الحادث بعده وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز الحكم به لانه كشاهد الأصل وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة شاهد الفرع
وإن مات القاضى المكتوب إليه أو عزل أو ولى غيره قبل الكتاب لان المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه ومن تحمل شهادة وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته
فصل فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه لان الأصل أنه لا مطالبة عليه فإن أقام المدعى بينة أنه فلان بن فلان فقال أنا فلان بن فلان إلا أنى غير المحكوم عليه لم يقبل قوله إلا أن يقيم البينة لأن له من يشاركه فى جميع ما وصف به لان الأصل عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة
وإن أقام بينة أن له من يشاركه فى جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما
وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت على حتى لا يدعى على ثانيا ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى رحمه الله أنه يلزمه لانه لا يأمن أن يدعي ( عليه ) ثانيا ويقيم عليه البينة فيقضى عليه ثانيا
والثانى أنه لا يلزمه لان الحاكم إنما يكتب ما حكم به أو ثبت عنده والكاتب هو الذى حكم أو ثبت عنده دون المكتوب إليه
فصل إذا ثبت عند القاضى حق بالإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار لزمه ذلك لانه لا يؤمن أن ينكر المقر
____________________
(2/304)
فلزمه الإشهاد ليكون حجة له إذا أنكر
وإن ثبت عنده الحق بيمين المدعى بعد نكول المدعى عليه فسأله المدعى أن يشهد على نفسه لزمه لانه لا حجة للمدعى غير الإشهاد
وإن ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعى الإشهاد ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجب لان له بالحق بينة فلم يلزم القاضى تجديد بينة أخرى
والثانى أنه يلزمه لان فى إشهاده على نفسه تعديلا لبينته وإثباتا لحقه وإلزاما لخصمه
فإن ادعى عليه حقا فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على براءته لزمه ليكون حجة له فى سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى
وإن سأله أن يكتب له محضرا فى هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما ثبت به الحق فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب لان عليه أن يكتب وليس عليه أن يغرم وإن كان عنده قرطاس من بيت المال أو أتاه صاحب الحق بقرطاس فهل يلزمه أن يكتب المحضر فيه وجهان أحدهما أنه يلزمه لانه وثيقة بالحق فلزمه كالإشهاد على نفسه
والثانى أنه لا يلزمه لان الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون المحضر
وإن سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه فى المحضر ويشهد على إنفاذه ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا على ما ذكرناه فى كتب المحضر
وما يكتب من المحاضر والسجلات يكتب فى نسختين إحداهما تسلم إلى المحكوم له والأخرى تكون فى ديوان الحكم فإن حضر عند القاضى رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما ثم سأل المحكوم له كتب ( محضر أو سجل ) كتب حضر إلى رجلان قال أحدهما إنه فلان بن فلان وقال الآخر أنه فلان بن فلان ويخليهما ويذكر ما جرى بينهما ويشهد على ذلك
فصل وإن اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على ( كل ) محضر اسم المتداعيين ويضم ما اجتمع منها فى كل شهر أو فى كل سنة على قدر قلتها وكثرتها وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل عليه طلبته إذا احتاج إليه
وإن حضر رجلان عند القاضى فادعى أحدهما أن له فى ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها فإن كان حكما حكم به غيره لم يعمل به إلا أن يشهد به شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضى ولا يرجع فى ذلك إلى الخط والختم فإنه يحتمل التزوير فى الخط والختم
وإن كان حكما حكم هو به فإن كان ذاكرا للحكم به عالما به عمل به وألزم الخصم حكمه
وإن كان غير ذاكر لم يعمل به لانه يجوز أن يكون قد زور على خطه وختمه
وإن شهد اثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لانه يشك فى فعله فلا يرجع فيه إلى قول غيره كما لو شك فى فرض من فروض صلاته فإن شهد الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به فإن شهد شاهدان أن الأول توقف فى شهادتهما لم يجز للثانى أن ينفذ الحكم الذى شهدا به لان الشهود فرع للحاكم الأول فإذا توقف الأصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع كما لو شهد شاهدان على شهادة شاهد الأصل ثم شهد شاهدان أن شاهد الأصل توقف فى الشهادة
فصل إذا اتضح الحكم للقاضى بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح فإن لم يفعلا لم يجز تردادهما لان الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم
فصل إذا قال القاضى حكمت لفلان بكذا قبل قوله لانه يملك الحكم فقبل الإقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به
وإن عزل ثم قال حكمت لفلان بكذا لم يقبل إقراره لانه لا يملك الحكم فلم يملك الإقرار به
وهل يكون شاهدا فى ذلك فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى أنه يكون شاهدا لانه ليس فيه أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه وذلك لا يوجب ( رد ) شهادته كما لو قالت امرأة أرضعت هذا الصبى
والثانى وهو المذهب أنه لا يكون شاهدا لان شهادته بالحكم تثبت لنفسه العدالة لان الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة فى هذه الشهادة فلم تقبل
ويخالف المرضعة لان شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة نفسها لان الرضاع يصح من غير عدل ولان المغلب فى الرضاع فعل المرتضع ولهذا يصح به دونها والمغلب فى الحكم فعل الحاكم فيكون شهادته على فعله فلم يقبل وبالله التوفيق
____________________
(2/305)
باب القسمة تجوز قسمة الأموال المشتركة لقوله عز وجل { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا } ولان النبى صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر بينهما وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة ولان بالشركاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف فى ماله على الكمال ويتخلص من كثرة الأيدى وسوء المشاركة
فصل ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من نفسهم بينهم
ويجب أن يكون القاسم عالما بالقسمة ليوصل كل واحد منهم إلى حقه كما يجب أن يكون الحاكم عالما ليحكم بينهم بالحق
فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقا ولا عبدا لانه نصبه لالزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقا ولا عبدا كالحاكم
فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين لان التقويم لا يثبت إلا باثنين
وإن كان فيها خرص ففيه قولان أحدهما أنه يجوز أن يكون الخارص واحدا
والثانى أنه يجب أن يكون الخارص اثنين
فصل فإن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح لما روى أن عليا رضى الله عنه أعطى القاسم من بيت المال ولانه من المصالح ( فكانت أجرته من سهم المصالح )
فإن لم يكن فى بيت المال شيء وجبت على الشركاء على قدر أملاكهم لانه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك كنفقة العبيد والبهائم المشتركة وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون فاسقا وعبدا لانه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لانه أجير لهم
فصل وإن كان فى القسمة رد فهو بيع لان صاحب الرد بذل المال فى مقابلة ما حصل له من حق شريكه ( عوضا ) وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان أحدهما أنها بيع لان كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه
والقول الثانى أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين لانها لو كانت بيعا لم يجز تعليقه على ما تخرجه القرعة ولانها لو كانت بيعا لافتقرت إلى لفظ التمليك ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع
فإن قلنا إنها بيع لم يجز فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذى انعقدت أجزاؤه بالنار
وإن قلنا إنها فرز النصيبين جاز وإن قسم الحبوب والأدهان
فإن قلنا إنها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز فى البيع
وإن قلنا إنها فرز النصيبين لم يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالكيل والوزن
وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة فإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز قسمتها خرصا كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصا
وإن قلنا إنها تمييز الحقين فإن كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لانها لا يصح فيها الخرص وإن كانت ثمرة النخل والكرم جاز لانه يجوز خرصها للفقراء فى الزكاة فجاز للشركاء
فصل وإن وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا صاحب الطلق فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح وإن قلنا إنها تمييز الحقين نظرت فإن لم يكن فيها رد صحت وإن كان فيها رد فإن كان من أهل الوقف جاز لانهم يتنازعون الطلق وإن كان من أصحاب الطلق لم يجز لانهم يتنازعون الوقف
____________________
(2/306)
فصل وإن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن على واحد منهم ضرر فى القسمة كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع لان الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأحد فوجبت إجابته إلى ما طلب
وإن كان عليهما ضرر كالجواجر والثياب المرتفعة التى تنقص قيمتها بالقطع والرحى الواحدة والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولانه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه
وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها
وقال أبو ثور رحمه الله لا يجبر لانها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر عليهما وهذا خطأ لانه يطلب حقا له فيه منفعة فوجبت الإجابة إليه وإن كان على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقضى به دينه
وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان أحدهما أنه يجبر لانه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما فأجبر الممتنع كما لو كان الضرر على الممتنع دون الطالب
والثانى أنه لا يجبر وهو الصحيح لانه يطلب مالا يستضر به فلم يجبر الممتنع
ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لانه يطلب ما ينتفع به وهذا يطلب ما يستضر به وذلك سفه فلم يجبر الممتنع
فصل وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة فى بعضها نخل وفى بعضها شجر أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح وطلب أحدهما أن يقسم بينهما أعيانا بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين قسم كل عين لان كل واحد منهما له حق فى الجميع فجاز له أن يطالب بحقه فى الجميع
وإن كان بينهما عضائد متلاصقة وأراد أحدهما أن يقسم أعيانا وطلب الآخر أن يقسم كل واحد منها على الانفراد ففيه وجهان أحدهما أنها تقسم أعيانا كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت
والثانى أنه يقسم كل واحدة منها لان كل واحدة على الانفراد فقسم كل واحد منها كالدور المتفرقة
فصل فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما أن تقسم فيجعل العلو لاحدهما والسفل للآخر وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع لان العلو تابع للعرصة فى القسمة ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما القسمة وجبت القسمة ولو كان بينهما غرفة فطلب أحدهما القسمة لم يجب ولا يجوز أن يجعل التابع فى القسمة متبوعا
فصل وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولا فيجعل لكل واحد منهما نصف الطول فى كمال العرض واتفقا عليه جاز
وإن طلب أحدهما ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لانه لا ضرر فيها
وإن أراد قسمتها عرضا فى كمال الطول واتفقا عليه جاز
وإن طلب أحدهما وامتنع الآخر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجبر لانه لا تدخله القرعة لانه إذا أقرع بينهما ربما صار بها مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الآخر ولا ينتفع به وكل قسمة لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التى فيها رد
والثانى وهو الصحيح أنه يجبر عليها لانه ملك مشترك يمكن كل واحد من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة كما لو أرادا أن يقسماها طولا
فإن كان بينهما حائط فأرادا قسمته نظرت فإن أرادا قسمته طولا فى كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجبر لانه لا بد من قطع الحائط وفى ذلك إتلاف
والثانى أنه يجبر
____________________
(2/307)
وهو الصحيح لانه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة فإن أرادا قسمته عرضا فى كمال الطول واتفقا عليها جاز وإن طلب أحدهما وامتنع الآخر لم يجبر لان ذلك إتلاف وإفساد
فصل وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها قوى وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها يسقى بالسيج وبعضها بالناضح نظرت فإن أمكن التسوية بين الشريكين فى جيده ورديئه بأن يكون الجيد فى مقدمها والردىء فى مؤخرها فإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد واللردىء مثل ما صار إلى الآخر من الجيد والردىء فطلب أحدهما هذه القسمة أجبر الآخر عليها لانها كالأرض المتساوية الأجزاء فى إمكان التسوية بينهما فيها
وإن لم تمكن التسوية بينهما فى الجيد والردىء بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء فى أحد النصفين دون الآخر نظرت فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الأرض ثلاثين جريبا وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريبا من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان أحدهما أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوى فى الزرع وتوقف القسمة إلى أن يتراضيا
والقول الثانى أنه يجبر لوجود التساوى بالتعديل فعلى هذا فى أجرة القسام وجهان أحدهما أنه يجب على كل واحد منهما نصف الأجرة لانهما يتساويان فى أصل الملك
والثانى أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الأجرة وعلى صاحب العشرين ثلثاها لتفاضلها فى المأخوذ بالقسمة
وإن أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما إلى قسمة التعديل ودعا الآخر إلى قسمة الرد فإن قلنا إن قسمة التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها لان ذلك مستحق وإن قلنا لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على إحداهما
فصل وإن كانت بينهما أرض مزروعة وطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع وجبت القسمة لان الزرع لا يمنع القسمة فى الأرض فلم يمنع وجوبها كالقماش فى الدار
وإن طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع لم يجبر لان الزرع لا يمكن تعديله فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذرا لم يجز قسمته لانه مجهول
وإن كان قد ظهر فإن كان مما لا ربا فيه كالقصيل والقطن حاز لانه معلوم مشاهد
وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لانا إن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لانه بيع أرض وطعام بأرض وطعام ولانه قسمة مجهول ومعلوم
وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين لم يجز لانه قسمة مجهول ومعلوم
فصل فى وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما قسمتها أعيانا وامتنع الآخر فإن كانت متفاضلة لم يجبر الممتنع وإن كانت متماثلة ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى العباس وأبى إسحاق وأبى سعيد الإصطخرى أنه يجبر الممتنع وهو ظاهر المذهب لانها متماثلة
والثانى وهو قول أبى على بن خيران وأبى على بن أبى هريرة أنه لا يجبر الممتنع لانها أعيان مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعيانا كالدور المتفرقة
فصل وإن كان بينهما منافع فأراد قسمتها مهايأة وهو أن تكون العين فى يد أحدهما مدة ثم فى يد الآخر مثل تلك المدة جاز لان المنافع كالأعيان فجاز قسمتها كالأعيان
وإن طلب أحدهما وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع
ومن أصحابنا من حكى فيه وجها آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان
والصحيح أنه لا يجبر لان حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة
ويخالف الأعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد فإذا عقدا على مدة اختص كل واحد منهما بمنفعة تلك المدة
وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت نفقته على من يستوفى منفعته
وإن كسب العبد كسبا معتادا فى مدة أحدهما كان لمن هو فى مدته
وهل تدخل فيها الأكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة والوصية فيه قولان أحدهما أنها تدخل فيها لانها كسب فأشبه المعتاد
والثانى أنها لا تدخل فيها لان المهايأة بيع لانه يبيع حقه من الكسب فى أحد اليومين بحقه فى اليوم الآخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر ( على تسليمه ) فى العادة والنادر لا يقدر على تسليمه فى العادة فلم يدخل فيه فعلى هذا يكون بينهما
فصل وينبغى للقاسم أن يحصى عدد أهل السهام ويعدل السهام بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد
فإن تساوى عددهم وسهامهم
____________________
(2/308)
كثلاثة بينهم أرض أثلاثا فله أن يكتب الأسماء ويخرج على السهام وله أن يكتب السهام ويخرج على الأسماء
فإن كتب الأسماء كتبها فى ثلاث رقاع فى كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الأول فمن خرج اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثانى فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث للشريك الثالث
فإن كتب السهام كتب فى ثلاث رقاع فى رقعة السهم الأول وفى رقعة السهم الثانى وفى رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم أحد الشركاء فأى سهم خرج أخذه ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر فأى سهم خرج أخذه الثانى ثم يتعين السهم الباقى للشريك الثالث
وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداسا ويكتب الأسماء ويخرج على السهام فيأمر أن يخرج على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه ثم يخرج ( على ) السهم الثانى فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ ( الثانى ) والذى يليه لان له سهمين وتعين الباقى لصاحب النصف
وإن خرجت الأولى ( على ) اسم صاحب النصف أخذ السهم الأول واللذين يليانه وهو الثانى والثالث ثم يخرج على السهم الرابع فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والسهم الذى يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس لصاحب السدس وإنما قلنا إنه يأخذ مع الذى يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر به ولا يخرج فى هذا القسم السهام على الأسماء لانا لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران بل نأخذه وسهمين بعده فيؤدى إلى الخلاف والخصومة
فصل فى وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما فقسم قسمة إجبار لم يعتبر تراضى الشركاء لانه لما لم يعتبر التراضى فى ابتداء القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة
فإن نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما فالمنصوص أنه يعتبر التراضى فى ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة
وقال فى رجلين حكما رجلا ليحكم بينهما ففيه قولان أحدهما أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما
والثانى أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لانه نصبه الشريكان فيكون على قولين أحدهما وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى بعد خروج القرعة لانه لما اعتبر الرضى فى الابتداء اعتبر بعد خروج القرعة
والثانى أنه لا يعتبر لان القاسم مجتهد فى تعديل السهام والإقراع فلم يعتبر الرضى بعد حكمه كالحاكم
وإن كان فى القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا بالتراضى
وقال أبو سعيد الإصطخرى تلزم من غير تراض كقسمة الإجبار وهذا خطأ لان فى قسمة الإجبار لا يعتبر الرضى فى الابتداء وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة
فصل فى إذا تقاسما أرضا ثم ادعى أحدهما غلطا فإن كان فى قسمة إجبار لم يقبل قوله من غير بينة لان القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم
فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة وإن كان فى قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لانه رضى بأخذ حقه ناقصا
وإن أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضى دون حقه ناقصا
وإن قسم بينهما قاسم نصباه فإن قلنا إنه يفتقر إلى التراضى بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لانه رضى بأخذ الحق ناقصا
وإن قلنا إنه لا يفتقر إلى التراضى بعد خروج القرعة فهو كقسمة الإجبار فلا يقبل قوله إلا ببينة فإن كان فى القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب وعلى قول أبى سعيد الإصطخرى هو كقسمة الإجبار فلم يقبل قوله إلا ببينة
فصل وإن تنازع الشريكان بعد القسمة فى بيت فى دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه فى سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا فى المتبايعين وإن وجد أحدهما بما صار إليه عينا فله الفسخ كما قلنا فى البيع
فصل إذا اقتسما أرضا ثم استحق مما صار لاحدهما شيء بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الآخر أمضيت القسمة وإن لم يستحق من حصة الآخر مثله بطلت القسمة لان لمن استحق ذلك من حصته أن يرجع فى سهم شريكه
وإذا استحق ذلك عادت الإشاعة وإذا استحق جزء مشاع بطلت القسمة فى المستحق
وهل تبطل فى الباقى فيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن أبى هريرة أنه يبنى على تفريق الصفقة فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق بطلت القسمة فى الجميع وإن قلنا إنها تفرق صحت فى الباقى
____________________
(2/309)
والثانى وهو قول أبى إسحاق أن القسمة تبطل فى الباقى قولا واحدا لان القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لان المستحق صار شريكا لكل واحد منهما فبطلت القسمة
فصل إذا قسم الوارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين وفيه وجهان ذكرناهما فى التفليس فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين لم تنقض القسمة وإن قلنا إنها بيع ففى نقضها وجهان والله أعلم
باب الدعوى والبينات لا تصح دعوى مجهول فى غير الوصية لان القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك فى المجهول
فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع والصفة
وإن كان عينا باقية ذكر صفتها وإن ذكر قيمتها كان أحوط
وإن كانت العين تالفة فإن كان لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمته
وإن كان المذعى سيفا محلى ( أو لجاما محلى ) فإن كان بفضة قومه بالذهب وإن كان بالذهب قومه بالفضة وإن كان محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما
وإن كان المدعى مالا عن وصية جاز أن يدعى مجهولا لان بالوصية يملك المجهول ولا يلزم فى دعوى المال ذكر السبب الذى ملك به لان أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه
وإن كان المدعى قتلا لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره ويذكر صفة العمد لان القتل لا يمكن تلا فيه فإذا لم يبين لم يؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص وإن كان المدعى نكاحا فقد قال الشافعى رحمه الله لا يسمع حتى يقول نكحتها بولى وشاهدين ورضاها
فمن أصحابنا من قال لا يشترط لانه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال وما قال الشافعى رحمه الله ذكره على سبيل الاستحباب كما قال فى امتحان الشهود إذا ارتاب بهم
ومنهم من قال إن ذلك شرط لانه مبنى على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فشرط فى دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل
ومنهم من قال إن كان يدعى ابتداء النكاح لزمه ذكره لانه شرط فى الابتداء وإن كان يدعى استدامة النكاح لم يشترط لانه ليس بشرط فى الاستدامة
وإن ادعت امرأة على رجل نكاحا فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها وإن لم تدع حقا سواه ففيه وجهان أحدهما أنه لا تسمع دعواها لان النكاح حق للزوج على المرأة فإذا ادعت المرأة كان ذلك إقرارا والإقرار لا يقبل مع إنكار المقر له كما لو أقرت له بدار
والثانى أنه تسمع لان النكاح يتضمن حقوقا لها فصح دعواها فيه
وإن كان المدعى بيعا أو إجارة ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه لان المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال
والثانى أنه يفتقر إلى ذكر شروطه لانه دعوى عقد فافتقر إلى ذكر شروطه كالنكاح
والثالث أنه إن كان فى غير الجارية لم يفتقر لانه لا يقصد به غير المال
وإن كان فى جارية افتقر لانه يملك به الوطء فأشبه النكاح
وما لزم ذكره فى الدعوى ولم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها
فصل وإن ادعى عليه مالا مضافا إلى سببه فإن ادعى عليه ألفا اقترضه أو أتلف عليه فقال ما أقرضنى أو ما أتلفت عليه صح الجواب لانه أجاب عما ادعى عليه وإن لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق على شيئا صح الجواب ولا يكلف إنكار ما ادعى عليه من القرض أو الإتلاف لانه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه
فإن أنكره كان كاذبا فى إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله إنه قضاه أو أبرأ منه فيستضر به وإن أنكر الاستحقاق كان صادقا ولم يكن عليه ضرر
فصل وإن ادعى على رجل دينا فى ذمته فأنكره ولم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه ولان الأصل
____________________
(2/310)
براءة ذمته فجعل القول قوله
وإن ادعى ( عليه ) عينا فى يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قصة الحضرمى والكندى شاهداك أو يمينه ولان الظاهر من اليد الملك فقبل قوله
وإن تداعيا عينا فى يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رجلين تداعيا دابة ليس لاحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ولان يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله كما لو كانت العين فى يد أحدهما
فصل وإن تداعيا عينا ولاحدهما بينة وهى فى يدهما أو فى يد أحدهما أو فى يد غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه فبدأ بالحكم بالشهادة ولان البينة حجة صريحة فى إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره والذى يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها
وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين فى يد أحدهما قضى لمن له اليد ( من غير يمين )
ومن أصحابنا من قال لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين لان بينته تعارضها بينة المدعى فتسقطها ويبقى له اليد واليد لا يقضى بها من غير يمين
والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين لان معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتى معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما قياس
وإن كانت العين فى يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه لانا حكمنا للآخر ظنا منا أنه لا بينة له فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر
فصل فى وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين فى يدهما أو فى يد غيرهما أو لا يد لاحدهما عليها تعارضت البينتان وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان وهو الصحيح لانهما حجتان تعارضتا ولا مزية لاحداهما على الأخرى فسقطتا كالنصين فى الحادية فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما والثانى أنهما يستعملان وفى كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال أحدها أنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف أو يصطلحا لان إحداهما صادقة والأخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما بعد الآخر ونسى السابق منهما
والثانى أنه يقسم بينهما لان البينة حجة كاليد ولو استويا فى اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا فى البينة
والثالث أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لانه لا مزية لاحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما
فصل وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لان الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء
وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان ولانهما متساويتان فى إثبات الحق
وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر شاهدا وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لانهما يتساويان فى إثبات المال وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر شاهدا ويمينا ففيه قولان أحدهما أنهما يتعارضان وفيهما القولان لانهما تساويا فى إثبات المال
والقول الثانى أنه يقضى لمن له الشاهدان لان بينته مجمع عليها وبينة الآخر مختلف فيها
فصل فى وإن كانت العين فى يد غيرهما فشهدت بينة أحدهما بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان قال فى البويطى هما سواء لان القصد إثبات الملك فى الحال وهما متساويتان فى إثبات الملك فى الحال
والقول الثانى أن التى شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزنى وهو الصحيح لانها انفردت بإثبات الملك فى زمان لا تعارضها فيه البينة الأخرى
وأما إذا كان الشيء فى يد أحدهما فإن كان فى يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له وإن كان فى يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه
فقال أبو العباس رحمه الله يبنى على القولين فى المسألة قبلها إن قلنا إنهما يتساويان حكم لصاحب اليد وإن قلنا إن التى شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضا لان الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد
ومن أصحابنا من قال يحكم به لمن هو فى يده قولا واحدا لان اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم
وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما بينة أنها ملكه نتجت فى ملكه وأقام الآخر أنها دابته ولم يذكر النتاج فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس الحكم فيه كالحكم فى الشهادة بالملك المتقدم وفيها
____________________
(2/311)
قولان لان الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم
وقال أبو إسحاق يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولا واحدا لان بينة النتاج تنفى أن يكون الملك لغيره والبينة بالملك المتقدم لا تنفى أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له
فصل فى إذا ادعى رجل دارا فى يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت فى يده أو فى ملكه أمس فقد نقل المزنى والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة وحكى البويطى أنه يحكم بها فقال أبو العباس فيها قولان أحدهما أنه يحكم بذلك لانه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك
والقول الثانى أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لانه ادعى ملك الدار فى الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها كما لو ادعى دارا فشهدت له البينة بدار أخرى
وقال أبو إسحاق لا يحكم بها قولا واحدا وما ذكره البويطي من تخريجه
فصل فى وإن ادعى ( رجل ) على رجل دارا فى يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له لانه مصدق فيما فى يده وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له
فإن طلب المدعى يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشيء فى يده لغيره ثم أقر به لآخر وفيه قولان أحدهما يلزمه أن يغرم للثانى
والثانى لا يلزمه فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لانه ربما خاف أن يحلف فيقر للثانى فيغرم له
وإن قلنا لا يلزمه لم يحلف لانه إن خاف من اليمين فأقر للثانى لم يلزمه شيء فلا فائدة فى تحليفه
وإن كذبه المقر له ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها لان الذى فى يده لا يدعيها والمقر له أسقط إقراره بالتكذيب وليس للمدعي بينة فلم يبق إلا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه يسلم إلى المدعى لانه ليس ههنا من يدعيه غيره وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى
وإن أقر بها لغائب ولا بينة وقف الأمر إلى أن يقدم الغائب لان الذى فى يده لا يدعيها ولا بينة تقضى بها فوجب التوقف
فإن طلب المدعى يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين
وإن كان للمدعى بينة قضى له
وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة فيه وجهان أحدهما أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لانا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يحتاج أن يحلف لانه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه وإن كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعى وتسلم إليه ولا يحكم ببينة المدعى عليه وإن كان معها يد لان بينة صاحب اليد إنما يقضى بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم ببينته
وحكى أبو إسحاق رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه ( قال إن ) كان المقر للغائب يدعى أن الدار فى يده وديعة أو عارية لم تسمع بينته
وإن كان يدعى أنها فى يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها لانه يدعى لنفسه حقا فسمعت ببينته فيصح الملك للغائب ويستوفى بها حقه من المنفعة
وهذا خطأ لانه إذا لم تسمع البينة فى إثبات الملك وهو الأصل فلان لا تسمع لاثبات الإجارة وهى فرع على الملك أولى
وإن أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان أحدهما أنه يقال له إقرارك لمجهول لا يصح فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلا ويحلف المدعى ويقضى له
والثانى أن يقال له إما أن تقر بها لمعروف أو نجعلك ناكلا
ولا يقبل دعواه لنفسه لانه بإقراره لغيره نفى أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد
فصل فى إذا ادعى جارية وشهدت ( له ) البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لانها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها فى ملك غيره ثم يملك الأمة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له
وإن شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها فى ملكه فقد قال الشافعى رحمه الله حكمت بذلك وذكر فى الشهادة بالملك المتقدم قولين فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين
وقال سائر أصحابنا يحكم بها ههنا قولا واحدا وهناك على قولين
والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت فى الحال والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث فى ملكه فلم يفتقر إلى إثبات الملك فى الحال
وإن ادعى غزلا أو طيرا أو آجرا وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآجر من طينه قضى له لان الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته
فصل إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه منذ سنتين وأقام على ذلك بينة قضى ببينة الابتياع لان بينة الملك شهدت بالملك على الأصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل
____________________
(2/312)
فصل وإن كان فى يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لانه ابتاعها من مالكها وإن شهدت له البينة أنه ابتاعها منه وسلمها إليه حكم له لانه لا يسلم إلا ما يملكه وإن شهدت أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هى فى يده لانه قد يبيع الإنسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد
فصل وإن كان فى يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هى فى يده وأقام الذى فى يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذى لا يد له لان الدار المستأجرة فى ملك المؤجر وبيده وليس للمستأجر إلا الانتفاع فتصير كما لو كانت فى يده دار وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذى هى فى يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه
فصل وإن تداعى رجلان دارا فى يد ثالث فشهد لاحدهما شاهدان أن الذى فى يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لانه ثبت بالبينة أنه غاصب وإقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه
فصل إذا ادعى رجل أنه ابتاع دارا من فلان ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما فى رمضان وتاريخ الآخر فى شوال قضى لمن ابتاعها فى رمضان لانه ابتاعها وهى فى ملكه والذى ابتاعها فى شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها
وإن كان تاريخهما واحدا أو كان تاريخهما مطلقا أو تاريخ أحدهما مطلقا وتاريخ الآخر مؤرخا فإن كانت الدار فى يد أحدهما قضى له لان معه بينة ويدا وإن كانت فى يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان
والثانى أنهما يستعملان فإن قلنا إنهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد وقضى له وإن أقر لاحدهما سلمت إليه
وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعلت لهما نصفين وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الآخر على القولين
وإن قلنا إنهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لان الدار فى يده فإذا أقر لاحدهما فقد نقل يده إليه فتصير له يد وبينة
وقال أكثر أصحابنا لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لان البينتين اتفقا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما فى أحد الأقوال ويقسم بينهما فى الثانى فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذى ادعى أنه ابتاع به ولا يجىء القول بالوقف لان العقود لا توقف
فصل وإن ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو و ( هو يملكها ) ونقده الثمن وأقام عليه بينة فإن كانت فى يد أجنبى أو فى يد أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان
والثانى أنهما يستعملان فإن قلنا إنهما يسقطان رجع إلى من هو فى يده فإن ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما
وإن أقر لاحدهما سلم إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه وهل يحلف ( للآخر على النصف الآخر ) على القولين
وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما فى أحد الأقوال ويقسم بينهما فى القول الثانى فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذى ادعى أنه ابتاعه ولا يجىء الوقف لان العقود لا توقف
فصل وإن كان فى يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة
فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان
والثانى أنهما يستعملان فإذا قلنا إنهما يسقطان رجع إلى قول من هى في يده فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لاحدهما لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولا واحدا لانه لو أقر له بعد إقراره للأول لزمه له الألف لانه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولا واحدا
وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما فى أحد الأقوال ويقسم فى القول الثانى ولا يجىء الوقف لان العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين بأن شهدت بينة أحدهما بعقد فى رمضان وبينة ( أحدهما ) بعقد فى شوال لزمه الثمنان
____________________
(2/313)
لانه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه فى رمضان من أحدهما ثم باعه واشتراه من الآخر فى شوال وإن كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه الثمنان لانه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه فى وقتين مختلفين
والثانى أنهما يتعارضان فيكون على القولين لانه يحتمل أن يكونا فى وقتين فيلزمه الثمنان ويحتمل أن يكونا فى وقت واحد والأصل براءة الذمة
فصل وإن ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق لان بينة الملك شهدت بالأصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك
وإن كان فى يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين لان السابق منهما يمنع صحة الثانى فقدم عليه
وإن لم يعرف السابق منهما تعارضتا وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان ويرجع إلى من فى يده العبد
وإن كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد
وإن صدق أحدهما قضى لمن صدقه
والقول الثانى أنهما يستعملان فيقرع بينهما فى أحد الأقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم فى القول الثانى فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن ولا يجىء القول بالوقف لان العقود لا توقف
فصل قال فى الأم إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة ببينة أنه مات ففيه قولان أحدهما أنه تتعارض ( البينتان ) ويسقطان ويرق العبد لان بينة القتل تثبت القتل وتنفى الموت وبينة الموت تثبت الموت وتنفى القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق
والثانى أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لان بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل لان المقتول ميت ومعها زيادة صفة وهى القتل فقدمت
وإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لغانم إن مت فى رمضان فأنت حر وقال لسالم إن مت فى شوال فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة أنه مات فى رمضان وأقام سالم بينة بالموت فى شوال ففيه قولان أحدهما أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان لان الموت فى رمضان ينفى الموت فى شوال والموت فى شوال ينفى الموت فى رمضان فيسقطان وبقى العبدان على الرق
والقول الثانى أنه تقدم بينة الموت فى رمضان لانه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت فى رمضان وخفى ذلك على البينة الأخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم
وإن قال لغانم إن مت من مرضى فأنت حر وقال لسالم إن برئت من مرضى فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه وأقام سالم بينة بأنه برىء من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان لان بينة أحدهما أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والأخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقى العبدان على الرق
فصل وإن اختلف المتبايعان فى قدر الثمن أو اختلف المتكاريان فى قدر الأجرة أو فى مدة الإجارة فإن لم يكن بينة فالحكم فى التحالف والفسخ على ما ذكرناه فى ( الفسخ ) فى البيع وإن كان لاحدهما بينة قضى له
وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالأولى منهما لان العقد الأول يمنع ( صحة ) العقد الثانى
وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخا واحدا أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهما متعارضتان وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان ويصير كما لو لم تكن بينة فيتحالفا على ما ذكرناه فى البيع
والثانى أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضى له ولا يجىء القول بالوقف لان العقود لا توقف ولا يجىء القول بالقسمة لانهما يتنازعان فى عقد والعقد لا يمكن قسمته
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إذا كان الاختلاف فى قدر المدة أو فى قدر الأجرة قضى بالبينة التى نوجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفا وشهدت بينة أن له عليه ألفين وهذا خطأ لان الشهادة بالألف لا تنفى الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة ( الشهادة ) الأخرى تعارض وههنا أحد البينتين ينفى ما شهدت به البينة الأخرى لانه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا
فصل فى إذا ادعى رجلان دارا فى يد رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضى اشتراكهما كالإرث عن ميت والإبتياع فى صفقة
____________________
(2/314)
فأقر المدعى عليه بنصفها لاحدهما شاركه الآخر لان دعواهما تقتضى اشتراكهما فى كل جزء منهما ولهذا لو كان طعاما فهلك بعضه كان هالكا منهما وكان الباقي بينهما
فإذا جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما وإن ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لاحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لان دعواه لا تقتضى الاشتراك فى كل جزء منه
فصل وإن ادعى رجلان دارا فى يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذى هى فى يده بجميعها لاحدهما نظرت فإن كان قد سمع من المقر له الإقرار للمدعى الآخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لانه أقر بذلك فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجل بعين ثم صارت العين فى يده
وإن لم يسمع منه إقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع لانه يجوز أن يكون الجميع له ودعواه للنصف صحيح لان من له الجميع فله النصف
ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى لان له على النصف بينة أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنتقل الخصومة إليه مع المدعى الآخر فى النصف
وإن قال الذى فى يده الدار نصفها لي والنصف الآخر لا أعلم لمن هو ففهيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يترك النصف فى يده لانه أقر لمن لا يدعيه فبطل الإقرار وبقى على ملكه
والثانى أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لان الذى فى يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال
والثالث أنه يدفع إلى المدعى الآخر لانه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى
فصل فى إذا مات رجل وخلف ابنا مسلما وابنا نصرانيا وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة فإن عرف أنه كان نصرانيا نظرت فإن كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الإسلام لان من شهد بالنصرانية شهد بالأصل والذى شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الإسلام وشهدت الأخرى بأنه مات وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصرانى لان الظاهر معه
والثانى أنهما يستعملان فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة ورث
وإن قلنا بالوقف وقف
وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان أحدهما أنه يقسم كما يقسم فى غير الميراث
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يقسم لانه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ فى توريثهما وفى غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركا بينهما فقسم
وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيهما قولان أحدهما أنهما يسقطان فإن كان المال فى يد غيرهما فالقول قول من فى يده المال وإن كان فى يديهما كان بينهما
وإن قلنا إنهما يستعملان فإن قلنا يقرع أقرع بينهما وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف وإن قلنا يقسم قسم
وقال أبو إسحاق لا يقسم لانه يتيقن الخطأ توريثهما
والمنصوص أنه يقسم وما قاله أبو إسحاق خطأ لانه يجوز أن يموت وهو نصرانى فورثه ابناه وهما نصرانيان ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليأخذ الجميع ويغسل الميت ويصلى عليه فى المسائل كلها ويدفن فى مقابر المسلمين وينوى بالصلاة عليه إن كان مسلما كما قلنا فى موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار
فصل فى وإن مات رجل وخلف ابنين واتفق الإبنان أن أباهما مات مسلما وأن أحد الإبنين أسلم قبل موت الأب واختلفا فى الآخر فقال أسلمت أنا أيضا قبل موت ابي فالميراث بيننا وأنكر الآخر فالقول قول المتفق على إسلامه لان الأصل بقاؤه على الكفر
ولو اتفقا على إسلامهما واختلفا فى وقت موت الأب فقال أحدهما مات أبى قبل إسلامك فالميراث لى
وقال الآخر بل مات بعد إسلامى أيضا فالقول قول الثانى لان الأصل حياة الأب
وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال الأبوان مات كافرا وقال الابنان مات مسلما فقد قال أبو العباس يحتمل قولين أحدهما أن القول قول الأبوين لانه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوما بكفره إلى أن يعلم الإسلام
والثانى أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الأمر لان الولد إنما يتبع الأبوين فى الكفر قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه ويحتمل أنه كان مسلما ويحتمل أنه كان كافرا فوقف الأمر إلى أن ينكشف
فصل فى وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار فى يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل
____________________
(2/315)
الخبرة بأنه مات ( وأنه لا ) وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هى فى يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب
وإن كان له دين فى الذمة قبض الحاضر نصفه وفى نصيب الغائب وجهان أحدهما أنه يأخذه الحاكم ويحفظه عليه كالعين
والثانى أنه لا يأخذه لان كونه فى الذمة أحفظ له
ولا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لان فى ذلك قدحا فى البينة
وإن لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثا سواه لم يدفع إليه شيء حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التى كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه
قال الشافعى رحمه الله يأخذ منه ضمينا
وقال فى الأم وأحب أن يأخذ منه ضمينا فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما أنه يجب أخذ الضمين لانه ربما ظهر وارث آخر
والثانى أنه يستحب ولا يجب لان الظاهر أنه لا وارث له غيره
ومنهم من قال إن كان الوارث ممن يحجب كالأخ والعم وجب
وإن كان ممن لا يحجب كالابن استحب لان من لا يحجب يتيقن أنه وارث ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك ومن يحجب يشك فى إرثه وحمل القولين على هذين الحالين
ومنهم من قال إن كان الوارث غير مأمون وجب لانه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر وإن كان مأمونا لم يجب لانه لا يضيع حق من يظهر وحمل القولين على هذين الحالين
وإن كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل الفرضين ولا يؤخذ منه ضمين وإن لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبرة دفع إليه أنقص الفرضين
فإن كان زوجا دفع إليه ربع المال عائلا وإن كان زوجة دفع ( إليها ربع ) الثمن عائلا ويوقف الباقى فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقى
فصل وإن ماتت امرأة وابنها فقال زوجها ماتت فورثها الابن ثم مات الابن فورثته وقال أخوها بل مات الابن أولا فورثته الأم ثم ماتت فورثتها لم يورث ميت من ميت بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والأخ لانه لا يرث إلا من تيقن حياته عند موت مورثه وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما من الآخر كالغرقى
فصل وإن مات رجل وله دار وخلف ابنا وزوجة فادعى الابن أنه تركها ميراثا وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الزوجة على بينة الإرث لان بينة الإرث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفى على بينة الإرث
فصل وإن تداعى رجلان حائطا بين داريهما فإن كان مبنيا على تربيع إحداهما مساويا لها فى السمك والحد ولم يكن بناؤه مخالفا لبناء الدار الأخرى ولم تكن بينة ( لاحدهما ) فالقول قول من بنى على تربيع داره لان الظاهر أنه بنى لداره
وإن كان لاحدهما عليه أزج فالقول قوله لان الظاهر أنه بنى للأزج وإن كان مطلقا وهو الذى لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لانه متصل بالملكين اتصالا واحدا
وإن كان لاحدهما عليه جذوع ولم يقدم على الآخر بذلك لانهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجذوع كان بينهما ووضع الجذوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجذوع على حائط الجار بغير رضاه نزيل ما تيقناه بأمر محتمل كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار فى يد أجنبى
فصل وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما لانه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الدارين
فإن تنازعا فى الدرجة فإن كان تحتها مسكن فهى بينهما لانهما متساويان فى الانتفاع بها وإن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان أحدهما أنهما يحلفان ويجعل بينهما لانهما يرتفقان بها
والثانى
____________________
(2/316)
أنه يحلف صاحب العلو ويقضى له لان المقصود بها منفعة صاحب العلو
وإن تداعيا سلما منصوبا حلف صاحب العلو وقضى له لانه يختص بالانتفاع به فى الصعود
وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة فى الصحن حلفا وجعل بينهما لان لكل واحد منهما يدا عليه وإن كانت الدرجة فى الدهليز ففيه وجهان أحدهما أنها بينهما لان لكل واحد منهما يدا ولهذا لو تنازعا فى أصل الدار كانت بينهما
والثانى أنه لصاحب السفل لانها فى يده ولهذا يجوز أن يمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها
فصل وإن تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لان فيها منفعة لصاحب النهر لانها تجمع الماء فى النهر ولصاحب الأرض منها منفعة لانها تمنع الماء من أرضه
فصل وإن تداعى رجلان دابة وأحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها حلف الراكب وقضى له
وقال أبو إسحاق رحمه الله هى بينهما لان كل واحد منهما لو انفرد لكانت له والصحيح هو الأول لان الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضى له
وإن تداعيا عمامة وفى يد أحدهما منها ذراع وفى يد الآخر الباقى حلفا وجعلت بينهما لان يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة
وإن تداعيا عبدا ولاحدهما عليه ثياب حلفا وجعل بينهما ولا يقدم صاحب الثياب لان منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب
فصل فى وإن كان فى يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده فإن صدقه حكم له بالملك وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر الحرية
وإن كان طفلا لا يميز فالقول قول المدعى لانه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وإن بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله لانا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره
وإن جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسبه بمجرد دعواه لان فيه إضرارا بصاحب الملك لانه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا ثبت نسبه لمن يدعى النسب سقط حق ولائه
وإن كان مراهقا وادعى أنه مملوكه فأنكر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحكم بالملك لانه يعبر عن نفسه فلم يحكم بملكه مع إنكاره كالبالغ
والثانى أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لانه لا حكم لقوله
فصل فى وإن تداعى الزوجان متاع البيت الذى يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لانه في يدهما فجعل بينهما كما لو تداعيا الدار التى يسكنان فيها
وإن تداعى المكرى والمكترى المتاع الذى فى الدار المكراة فالقول قول المكترى لان يده ثابتة على ما فى الدار
وإن تداعيا سلما غير مسمر فهو للمكترى لانه كالمتاع وإن تداعيا سلما مسمرا فالقول قول المكرى لانه من أجزاء الدار وإن تداعيا الرفوف المسمرة فالقول قول المكرى لانها متصلة بالدار فصارت كأجزائها
وإن كانت غير مسمرة فقد قال الشافعى رحمه الله أنهما يتحالفان وتجعل بينهما لان الرفوف قد تترك فى العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكترى ويجوز أن تكون للمكرى فجعل بينهما
فصل ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعه لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير إذنه لان الخيار فيما يقضى به الدين إلى من عليه الدين
ولا يجوز أن يأخذ إلا ما يعطيه وإن أخذ بغير إذنه لزمه رده فإن تلف ضمنه لانه ( أخذ ) مال غيره بغير حق
وإن كان ممتنعا من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم فله أن يأخذ من ماله لقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار وفى منعه من أخذ ماله فى هذا الحال إضرار به وإن كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز أن يأخذه لانه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه
والثانى وهو المذهب أنه يجوز لان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطينى ما يكفينى وولدى إلا ما آخذه سرا فقال عليه السلام خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف فأذن لها فى الأخذ مع القدرة على الأخذ بالحاكم ولان عليه فى المحاكمة مشقة فجاز له أخذه
فإن كان الذى قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لانه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه
____________________
(2/317)
ولكن يبيعه ويصرف ثمنه فى حقه وفى كيفية البيع وجهان أحدهما أنه يواطىء رجلا ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه
والثانى وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لانه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه
فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان أحدهما أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لانها محبوسة لاستيفاء حقه منها فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن
والوجه الثانى أنها تتلف من ضنمان صاحب الحق لانه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه
باب اليمين فى الدعاوى إذا ادعى رجل على رجل حقا فأنكره ولم يكن للمدعى بينة فإن كان ذلك فى غير الدم حلف المدعى عليه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعى وقد بينا ذلك فى باب الدعاوى وإن كانت الدعوى فى دم ولم يكن للمدعى بينة فإن كان فى قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعى خمسين يمينا وقضى له بالدية والدليل عليه ما روى سهل بن أبى حثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح فى فقير أو عين ماء فأتى يهودا فقال أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر الكبر فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب من الله ورسوله فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم فقالوا لا قال أيحلف لكم يهود قالوا لا ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة
قال سهل لقد ركضتنى منها ناقة حمراء
ولان باللوث تقوى جنبة المدعى ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعى إذا شهد له عدل وحلف معه
وإن كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان قال فى القديم يجب القود بأيمان المدعى لانها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة
وقال فى الجديد لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله فذكر الدية ولم يذكر القصاص ولانه حجة لا يثبت بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين
فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم
وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يقتل إلا واحد يختاره الولى لانها بينة ضعيفة فلا يقتل بها جماعة وهذا خطأ لان الجماعة عندنا تقتل بالواحد والقسامة على هذا القول كالبينة فى إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة
فصل فى وإن كان المدعى جماعة ففيه قولان أحدهما أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا لان ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة فى سائر الدعاوى
والقول الثانى أنه يقسط عليهم الخمسون يمينا على قدر مواريثهم لانه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الأيمان أيضا على قدر مواريثهم
وإن دخلها كسر جبر الكسر لان اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت
فإن نكل المدعى عن اليمين ردت اليمين على المدعى
____________________
(2/318)
عليه فيحلف خمسين يمينا لقوله عليه الصلاة السلام يبرئكم يهود منهم بخمسين يمينا ولان التغليظ بالعدد لحرمة النفس وذلك يوجد في يمين المدعى والمدعى عليه
وإن كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان أحدهما أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا
والثانى أن الخمسين تقسط على عددهم
والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا والصحيح من القولين فى المدعين أنهم يحلفون خمسين يمينا
والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفى عن نفسه ما ينفيه لو انفرد وليس كذلك المدعون فإن كل واحد منهم لا يثبت لنفسه ما يثبته إذا انفرد
فصل فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ولان اليمين إنما جعلت فى جنبة المدعى عند اللوث لقوة جنبته باللوث فإذا عدم اللوث حصلت القوة فى جنبة المدعى عليه لان الأصل براءة ذمته وعدم القتل فعادت اليمين إليه
وهل تغلظ بالعدد فيه قولان أحدهما أنها لا تغلظ بل يحلف يمينا واحدة وهو اختيار المزني لانها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما فى سائر الدعاوى
والثانى أنها تغلظ فيحلف خمسين يمينا وهو الصحيح لان التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث
فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى فإن كان واحدا حلف يمينا واحدة وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة
وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحدا حلف خمسين يمينا
وإن كانوا جماعة فعلى القولين أحدهما أنه يحلف كل واحد خمسين يمينا
والثانى أنه يقسط على عدد رؤسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى
فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا وإن كانوا جماعة فعلى القولين أحدهما أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا
والثانى أنه يقسط عليهم خمسون يمينا على قدر مواريثهم من الدية وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعى وقضى له فإن كان فى قتل يوجب المال قضى له بالدية وإن كان فى قتل يوجب القصاص وجب القصاص قولا واحدا لان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة فى أحد القولين وكالإقرار فى القول الآخر والقصاص يجب بكل واحد منهما
فصل فى وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما لوث دون الآخر حلف المدعى على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذى لا لوث عليه لعدم اللوث
وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لانها دعوى محال
وإن ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعى خمسين يمينا فإن حضر الثانى وأنكر ففيه وجهان أحدهما أنه يحلف عليه خمسين يمينا لانهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما فى يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره
والوجه الثانى أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا لانهما لو حضرا حلف عليهما خمسين يمينا فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين
فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان أحدهما أنه يحلف عليه خمسين يمينا
والثانى أنه يحلف عليه ثلث خمسين يمينا ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يمينا
وإن قال قتله هذا عمدا ولا أعلم كيف قتله الآخران أقسم على الحاضر ووقف الأمر إلى أن يحضر الآخران فإن حضرا وأقرا بالعمد ففى القود قولان وإن أقر بالخطإ وجب على الأول ثلث الدية مغلظة وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة
وإن أنكر القتل ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحلف لانه لا يعلم ما يحلف عليه ولا يعلم الحاكم ما يحكم به
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه يحلف لان جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل
وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم فإن قلنا إنه لا يجب القود لم يقسم على الحاضر لانه لا يعلم ما يخصه
وإن قلنا إنه يجب القود ففيه وجهان أحدهما أنه يقسم لان الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم
والثانى وهو قول أبى إسحاق أنه لا يقسم لانه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها
فصل فى واللوث الذى يثبت لاجله اليمين فى جنبة المدعى هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعى فإن وجد القتيل
____________________
(2/319)
فى محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثا فيحلف المدعى لان قتيل الأنصار وجد فى خيبر وأهلها أعداء للإنصار فجعل النبى صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين ( عليهم ) فصار هذا أصلا لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعى فيجعل القول المدعى مع يمينه
وإن كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثا لجواز أن يكون قتله غيرهم وإن تفرقت جماعة عن قتيل فى دار أو بستان وادعى الولى أنهم قتلوه فهو لوث فيحلف المدعى ( أنهم قتلوه ) لان الظاهر أنهم قتلوه
وإن وجد قتيل فى زحمة فهو لوث فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له
وإن وجد قتيل فى أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث فإن ادعى الولى عليه القتل حلف ( عليه ) لان الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لانه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولى
وإن تقابلت طائفتان فوجد قتيل من إحدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الأخرى فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية لان الظاهر أنه لم تقتله طائفة
وإن شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت فإن جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا لانه يجوز أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة وإن جاؤوا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت اللوث ويحلف الولى معهم
وإن شهد صبيان أو فساق أو كفار على رجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثا لانه يجوز أن يكونوا قد توطأوا على الشهادة
فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان أحدهما أن ذلك لوث لان اتفاقهم على شيء واحد من غير تواطىء يدل على صدقهم
والثانى أنه ليس بلوث لانه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقولهم لوثا لجعلنا لخبرهم حكما
وإن قال المجروح قتلنى فلان ثم مات لم يكن قوله لوثا لانه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثا فإن شهد عدل على رجل بالقتل فإن كانت الدعوى فى قتل يوجب المال حلف المدعى يمينا وقضى له بالدية لان المال يثبت بالشاهد واليمين
وإن كانت فى قتل يوجب القصاص حلف خمسين يمينا ويجب القصاص فى قوله القديم والدية فى قوله الجديد
فصل وإن شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما لانه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد
وهل يكون ذلك لونا يوجب القسامة فى جانب المدعى قال فى موضع يوجب القسامة وقال فى موضع لا يوجب القسامة
واختلف أصحابنا فى ذلك فقال أبو إسحاق هو لوث يوجب القسامة قولا واحدا لانهما اتفقا على إثبات القتل وإنما اختلفا فى صفته وجعل القول الآخر غلطا من الناقل
وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل أن ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولا واحدا لان كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن صدق ما يدعيه والقول الآخر غلط من الناقل
ومنهم من قال فى المسألة قولان أحدهما أنه لوث يوجب القسامة
والثانى ليس بلوث ووجههما ما ذكرناه
وإن شهد واحد أنه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما لان أحدهما شهد بالقتل والآخر شهد بالإقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فإن هناك كل واحد منهما يكذب الآخر وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوى الآخر فيحلف المدعى مع من شاء منهما
فإن كان القتل خطأ حلف يمينا واحدة وثبتت الدية فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العاقلة لانها تثبت بالبينة
وإن حلف مع من شهد بالإقرار وجبت الدية فى ماله لانها تثبت بالإقرار وإن كان القتل موجبا للقصاص حلف المدعى خمسين يمينا ووجب له القصاص فى أحد القولين والدية فى الآخر وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمدا ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثا لانه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه لانه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفى موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث
فصل فى وإن شهد شاهدان أن فلانا قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولى على من يدعى القتل عليه لانه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما فصار كما لو وجد بينهما مقتول
فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث لان اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعى ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت فى حقه لوث وإن ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل فى موضع اللوث وكذبه الآخر سقط حق المكذب من القسامة
وهل يسقط اللوث فى حق المدعى فيه قولان أحدهما أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية
____________________
(2/320)
وهو اختيار المزني لان القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يقسم مع اللوث والقول الثانى أنه يسقط لان اللوث يدل على صدق المدعى من جهة الظن وتكذيب المنكر يدل على كذب المدعى من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقى القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه
وإن قال أحد الابنين قتل أبى زيد ورجل آخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد ( منهما ) على من عينه ويستحق عليه ربع الدية لان كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الآخر هو الذى ادعى عليه أخوه
فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذى ادعى عليه أخى أقسم كل واحد منهما على الذى ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية
وإن قال كل واحد منهما علمت أن الآخر غير الذى ادعى عليه أخى صار كل واحد منهما مكذبا للآخر
فإن قلنا إن تكذيب أحدهما لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذى عينه ثانيا واستحق عليه ربع الدية
وإن قلنا إن التكذيب يسقط اللوث بطلت القسامة فإن أخذ شيئا رده ويكون القول المدعى عليه مع يمينه
وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعى من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل لان صاحب الدم لا يدعيه
وهل للمدعى أن يرجع ويطالب المقر بالدية فيه قولان أحدهما أنه ليس له مطالبته لان دعواه على الأول إبراء لكل من سواه
والثانى أن له أن يطالب لان دعواه على الأول باللوث من جهة الظن والإقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين وإن ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزنى أنه لا يقسم وروى الربيع أنه يقسم فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما أنه لا يقسم لان بقوله قتله عمدا أبرأ العاقلة وبتفسيره أبرأ القاتل
والقول الثانى أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة لان المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد
ومنهم من قال يقسم قولا واحدا لما بيناه وقوله لا يقسم معناه لا يقسم على ما ادعاه
فصل فى وإن كانت الدعوى فى الجناية على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لان اللوث قضى به فى النفس بحرمة النفس فلا يقضى به فى الطرف كالكفارة
وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد فيه قولان أحدهما لا تغلظ لانه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد
والثانى أنه تغلظ بالعدد لانه يجب فيه القصاص والدية المغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين فإن قلنا لا تغلظ حلف المدعى عليه يمينا واحدة
وإن قلنا تغلظ فإن كان فى جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يمينا
وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففى قدر التغليظ قولان أحدهما أنه يغلظ بخمسين يمينا لان التغليظ لحرمة الدم وذلك موجود فى اليد الواحدة
والثانى أنه يغلظ بحصته من الدية لان ديته دون دية النفس فلم تغلظ بما تغلظ به فى النفس
فصل فى فإن كانت الدعوى فى قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان أحدهما أنه يبنى ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد
وإن قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة
والثانى وهو قول أبى العباس إن للسيد القسامة قولا واحدا لان القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة
فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب فى قتل عبده فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى
وإن قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لام ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد فيه قولان أحدهما تقسم
والثانى لا تقسم كما قلنا فى غرماء الميت إذا كان له دين وله شاهد ولم تحلف الورثة إن الغرماء يقسمون فى أحد القولين ولا يقسمون فى الآخر وقد بينا ذلك فى التفليس
فصل وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعى لم يقسم لانه إذا أقدم على الردة وهى من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة
فإن أقسم صحت القسامة وقال المزنى رحمه الله لا تصح لانه كافر فلا يصح يمينه بالله وهذا خطأ لان القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب فإذا أقسم وجب القصاص ( لوارثه ) أو الدية
فإن رجع إلى الإسلام كان له وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيئا
وقال أبو على بن خيران وأبو حفص بن الوكيل يبنى وجوب الدية بقسامته على حكم ملكه فإن قلنا إن ملكه لا
____________________
(2/321)
يزول بالردة أو قلنا إنه موقوف فعاد إلى الإسلام ثبتت الدية وإن قلنا إن ملكه يزول بالردة أو قلنا إنه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية وهذا غلط لان اكتسابه للمال يصح على الأقوال كلها وهذا اكتساب
فصل فى ومن توجهت عليه يمين فى دم غلظ عليه فى اليمين لما روى أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام فقال أعلي دم قيل لا قال أفعلي عظيم من المال قيل لا قال لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام
وإن كانت اليمين فى نكاح أو طلاق أو حد قذف أو غيرها مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لانه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم
وإن كانت اليمين فى مال أو ما يقصد به المال فإن كان يبلغ عشرين مثقالا غلظ وإن لم يبلغ ذلك لم يغلظ لان عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه
فإن كانت اليمين فى دعوى عتق فإن كان السيد هو الذى يحلف فإن كانت قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالا غلظ اليمين وإن لم تبلغ عشرين مثقالا لم يغلظ لان المولى يحلف لاثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش الجنايات فإن كان الذى يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لانه يحلف لاثبات العتق والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الإرش أو فى طرف كثير الأرش
فصل والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفى اللفظ
فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان أحدهما أنه يستحب
والثانى أنه واجب
وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايينى رحمه الله أنه يستحب وقد بينا ذلك فى اللعان
وقال أكثر أصحابنا إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان وفيه قولان وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب وهو أن يقول والله الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أحلف رجلا فقال قل والله الذى لا إله إلا هو ولان القصد باليمين الزجر عن الكذب وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر وأمنع من الإقدام على الكذب وإن اقتصر على قوله والله أجزأه لان النبى صلى الله عليه وسلم اقتصر فى إحلاف ركانة على قوله والله
وإن اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله وعزة الله أجزأه لانها بمنزلة قوله والله فى الحنث فى اليمين وإيجاب الكفارة
وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعى رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف قال ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف
قال الشافعى وهو حسن ولان القرآن من صفات الذات ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة
وإن كان الحالف يهوديا أحلفه بالله الذى أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق
وإن كان نصرانيا أحلفه بالله الذى أنزل الإنجيل على عيسى
وإن كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه بالله الذى خلقه وصوره
فصل ولا يصح اليمين فى الدعوى إلا أن يستحلفه القاضى لان ركانة بن عبد يزيد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنى طلقت امرأتى سهيبة ألبتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة قال ركانة والله ما أدت إلا واحدة ولان الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى ما لا يحنث به فيجعل ذلك طريقا إلى إبطال الحقوق
وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطا أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها
وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف الأمر إلى أن يفهم إشارته
فإن طلب المدعى أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لان رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه ولا يوجد النكول فإن كان الذى عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة فإن كان التغليط مستحقا عليه لزمه أن يحلف
وإن حنث فى يمينه بالطلاق كما لو حلف بالطلاق أنه لا يحلف عند القاضى فإن امتنع جعل ناكلا وردت اليمين على خصمه
وإن كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يمينا مغلظة وإن امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلا
فصل فى وإن حلف على فعل نفسه فى نفى أو إثبات حلف على القطع لانه علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل
وإن حلف على فعل غيره فإن كان فى إثبات حلف على القطع لان له طريقا إلى العلم بما فعل غيره
وإن كان على نفى حلف على نفى العلم فيقول والله لا أعلم أن أبى أخذ منك مالا ولا أعلم أن أبى أبرأك من دينه لانه لا طريق له إلى القطع بالنفى فلم يكلف اليمين عليه
____________________
(2/322)
فصل وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شيء ولم يتعرض للبيع والقرض لم يحلف إلا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لانه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه
فإذا حلف على نفى البيع والقرض حلف كاذبا وإن أجاب بأنه ما باعنى ولا أقرضني ففى الإحلاف وجهان أحدهما أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شيء ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل
والثانى أنه يحلف على نفى البيع والقرض لانه نفى ذلك فى الجواب فلزمه أن يحلف على النفى فإن ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه يحلف على نفى البيع والقرض لانه نفى ذلك فى الجواب فلزمه أن يحلف على النفى فإن ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه
فإن حلف أنه لا يستحق عليه الألف لم يجزه لان يمينه على نفى الألف لا يمنع وجوب بعضها
فصل وإن كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلا فى استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يمينا واحدة لان لكل واحد منهم عليه يمينا فلم تتداخل فإن رضوا بأن يحلف لهم يمينا واحدة ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة
والثانى وهو المذهب أنه لا يجوز لان القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز وإن رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج فى اللعان على شهادة واحدة
كتاب الشهادات تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقوله تعالى { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } قال ابن عباس رضى الله عنه من الكبائر كتمان الشهادة لان الله تعالى يقول { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } فهى فرض على الكفاية فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لان المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم
وإن كان فى موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه لانه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه ويجب الإشهاد على عقد النكاح وقد بيناه فى النكاح
وهل يجب على الرجعة فيه قولان وقد بيناهما فى الرجعة وأما ما سوى ذلك من العقود كالبيع والإجارة وغيرهما فالمستحب أن يشهد عليه لقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } ولا يجب لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابى فرسا فجحده فقال النبى صلى الله عليه وسلم من يشهد لى فقال خزيمة بن ثابت الأنصارى أنا أشهد لك قال لم تشهد ولم تحضر فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الأرض فسماه النبى صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين
فصل ومن كانت عنده شهادة فى حد لله تعالى فالمستحب ألا يشهد به لانه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه
فإن شهد به جاز لانه شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضى الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك ومن كانت عنده شهادة لآدمى فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن يسأل لقوله عليه السلام خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد وإن كان صاحبها لا يعلم شهد قبل أن يسأل لما روى زيد
____________________
(2/323)
بن خالد رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال خير الشهود الذى يأتى بالشهادة قبل أن يسألها
فصل فى ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة لانه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض
ومن لم يتعين عليه ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز له أخذ الأجرة ( كسائر الفرائض ) لانه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة
والثانى أنه لا يجوز لانه تلحقه التهمة بأخذ العوض
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل لا تقبل شهادة الصبى لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } والصبى ليس من الرجال ولما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولانه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلان لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى
ولا تقبل شهادة المجنون للخبر والمعنى الذى ذكرناه
ولا تقبل شهادة المغفل الذى يكثر منه الغلط لانه لا يؤمن أن يغلط فى شهادته وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لان أحدا لا ينفك من الغلط
واختلف أصحابنا فى شهادة الأخرس فمنهم من قال تقبل لان إشارته كعبارة الناطق فى نكاحه وطلاقه فكذلك فى الشهادة
ومنهم من قال لا تقبل لان إشارته أقيمت مقام العبارة
فى موضع الضرورة وهو فى النكاح والطلاق لانها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لانها تصح من غيره بالنطق فلا تجوز بإشارته
فصل ولا تقبل شهادة العبد لانها أمر لا يتبعض بنى على التفاضل فلم يكن للعبد فيه مدخل كالميراث والرحم
ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز شهادة أهل دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم ولانه لم تقبل شهادة ( من يشهد بالزور على الآدمي فلان لا تقبل شهادة من شهد بالزور على الله تعالى أولى
ولا تقبل شهادة ) فاسق لقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت شهادته سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عز وجل { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذى عمر على أخيه فورد النص فى القذف والزنا وقسنا عليهما سائر الكبائر ولان من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال
وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادرا من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته وإن كان ذلك غالبا فى أفعاله فسق وردت شهادته لانه لا يمكن رد شهادته بالقليل من الصغائر لانه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا ولهذا قال الشاعر ( الرجز ) من لك بالمحض وليس محض يخبث بعض ويطيب بعض ولا يمكن قبول استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله لان الحكم للغالب والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى { فمن ثقلت موازينه }
____________________
(2/324)
الشهادة مع الكثير من الصغائر لان من استجاز الاكثار من الصغائر { فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون }
فصل ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل فى الأسواق ويمشى مكشوف الرأس فى موضع لا عادة له فى كشف الرأس فيه لان المروءة هى الإنسانية وهى مشتقة من المرء ومن ترك الانسانية لم يؤمن أن يشهد بالزور ولان من لا يستحى من الناس فى ترك المروءة لم يبال بما يصنع والدليل عليه ما روى أبو مسعود البدرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحى فاصنع ما شئت
واختلف أصحابنا فى أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام فمنهم من قال لا تقبل شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم
ومنهم من قال تقبل شهادتهم لقوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ولان هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة فلم ترد بها الشهادة
فصل فى ويكره اللعب بالشطرنج لانه لعب لا ينتفع به فى أمر الدين ولا حاجة تدعو إليه فكان تركه أولى ولا يحرم لانه روى اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير وأبى هريرة وسعيد بن المسيب رضى الله عنهم وروى عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدبارا
ومن لعب به من غير عوض ولم يترك فرضا ولا مروءة لم ترد شهادته
وإن لعب به على عوض نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالا على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } والميسر القمار
وإن أخرج أحدهما مالا على أنه إن غلب أخذ ماله وإن غلبه صاحبه أخذ المال لم يصح العقد لانه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذل العوض فيه ولا ترد به الشهادة لانه ليس بقمار لان القمار ألا يخلو أحد من أن يغنم وههنا أحدهما يغنم ولا يغرم
وإن اشتغل به عن الصلاة فى وقتها مع العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته وإن أكثر منه ردت شهادته لانه من الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها
فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق أو تكلم فى لعبه بما يسخف من الكلام أو اشتغل باليل والنهار ردت شهادته لترك المروءة
فصل ويحرم اللعب بالنرد وترد به الشهادة
وقال أبو إسحاق رحمه الله هو كالشطرنج وهذا خطأ لما روى أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله وروى بريدة رضى الله عنه أن رسول الله صلى
____________________
(2/325)
الله عليه وسلم قال من لعب بالنرد فكأنما غمس يده فى لحم الخنزير ودمه ولان المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه الأزلام
ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه ويحرم اللعب بالأربعة عشر لان المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالنرد
فصل ويجوز اتخاذ الحمام لما روى عبادة بن الصامت رضى الله عنه أن رجلا شكى إلى النبى صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال اتخذ زوجا من حمام ولان فيه منفعة لانه يأخذ بيضه وفرخه
ويكره اللعب به لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسعى بحمامة فقال شيطان يتبع شيطانة وحكمه فى رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه
فصل ومن شرب قليلا من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته
ومن أصحابنا من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته
والمذهب الأول لان استحلال الشيء أعظم من فعله بدليل أن من استحل الزنا كفر ولو فعله لم يكفر
فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلان لا يرد شربه أولى ويجب عليه الحد
وقال المزنى رحمه الله لا يجب كما لا ترد شهادته وهذا خطأ لان الحد للردع والنبيذ كالخمر فى الحاجة إلى الردع لانه يشتهى كما يشتهى الخمر
ورد الشهادة لارتكاب كبيرة لانه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ ليس بكبيرة لانه مختلف فى تحريمه وليس من أقدم على مختلف فيه كمن أقدم على شهادة الزور وهى من الكبائر
فصل فى ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة لما روى ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل
ولا يحرم لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهى تقول ( المقتضب )
هل على ويحكما إن لهوت من حرج فقال النبى صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله وروت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت كان عندى جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر رضى الله عنه فقال مزمار الشيطان فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهما فإنها أيام عيد فإن غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته لان عمر رضى الله عنه كان إذا دخل فى داره يرنم بالبيت والبيتين واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه وهو يترنم فقال أسمعتني يا عبد الرحمن قال نعم قال إنا إذا خلونا فى منازلنا نقول كما يقول الناس
وروى عن أبى الدرداء رضى الله عنه وهو من زهاد الصحابة وفقائها أنه قال إنى لاجم قلبى شيئا من الباطل لاستعين به على الحق
فأما إذا أكثر من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس
____________________
(2/326)
للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغنى ردت شهادته لانه سفه وترك للمروءة
وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت شهادته لانه سفه وترك مروءة ودناءة
فصل ويحرم استعمال الآلات التى تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والدليل عليه قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } قال ابن عباس إنها الملاهى
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إن الله حرم على أمتى الخمر والميسر والمرز والكوبة والقنين فالكوبة الطبل والقنين البربط
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال تمسخ أمة من أمتى بشربهم الخمر وضربهم بالكوبة والمعازف ولانها تطرب وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإلى إتلاف المال فحرم كالخمر
ويجوز ضرب الدف فى العرس والختان دون غيرهما لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف
ويكره القضيب الذى يزيد الغناء طربا ولا يطرب إذا انفرد لانه تابع للغناء فكان حكمه حكم الغناء
وأما رد الشهادة فما حكمنا بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه كما قلنا فى الصغائر وما حكمنا بكراهيته وإباحته فهو كالشطرنج فى رد الشهادة وقد بيناه
فصل وأما الحداء فهو مباح لما روى ابن مسعود رضى الله عنه قال كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادى حاديان
وروت عائشة رضى الله عنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة حرك بالقوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشه فأعتقت الإبل فى السير فقال النبى صلى الله عليه وسلم يا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير ويجوز استماع نشيد الأعرابى لما روى عمرو بن
____________________
(2/327)
الشريد عن أبيه قال أردفنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال أمعك شيء من شعر أمية بن أبى الصلت فقلت نعم فأنشدته بيتا فقال هيه فأنشدته بيتا آخر فقال هيه فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت
فصل فى ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله بإسناده عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أذن الله لشىء كإذنه لنبى حسن الترنم بالقرآن وروى حسن الصوت بالقرآن
وروى البراء بن عازب رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال حسنوا القرآن بأصواتكم وقال عليه الصلاة السلام ليس منا من لم يتغن بالقرآن وحمله الشافعى على تحسين الصوت
وقال لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان ( بالقرآن )
وأما القراءة بالألحان فقد قال فى موضع أكرهه
وقال فى موضع آخر لا أكرهه وليست على قولين وإنما هى على اختلاف حالين فالذى قال أكرهه أراد إذا جاوز الحد فى التطويل وإدغام بعضه فى بعض والذى قال لا أكرهه إذا لم يجاوز الحد
فصل فى ويجوز قول الشعر لانه كان للنبى صلى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة ولانه وفد عليه الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده ( البسيط ) بانت سعاد فقلبى اليوم متبول متيم عندها لم يفد مكبول فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم وهى التى مع الحلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام فى حظره وإباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام
فصل ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر
والدليل عليه ما روى خريم بن فاتك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ولما انصرف قام قائما ثم قال عدلت شهادة الزور بالإراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله عز وجل فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور وروى محارب بن دثار عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قالشاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار
ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه أحدها أن يقر أنه شاهد زور
والثانى أن تقوم البينة أنه شاهد زور
والثالث أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل أنه قتل أو زنى فى وقت معين فى موضع معين والمشهود عليه
____________________
(2/328)
فى ذلك الوقت كان فى بلد آخر
وأما إذا شهد بشىء أخطأ فيه لم يكن شاهد زور لانه لم يقصد الكذب وإن شهد لرجل بشيء وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور لانه ليس تكذيب أحدهما بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك فى عدالته
وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر فعل وإن رأى أن يشهر أمره فى سوقه ومصلاه وقبيلته وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم قال اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس ولان فى ذلك زجرا له ولغيره عن فعل مثله
وحكى عن أبى على بن أبى هريرة أنه قال إن كان من أهل الصيانة لم يناد عليه لقوله عليه الصلاة السلام أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهن وهذا غير صحيح لان بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة
فصل فى ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعا ولا دافع عن نفسه ضررا لما روى ابن عمر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى إحنة والظنين المتهم والجار إلى نفسه نفعا والدافع عنها ضررا متهمان فإن شهد المولى لمكاتبه بما لم تقبل شهادته لانه يثبت لنفسه حقا لان مال المكاتب يتعلق به حق المولى وإن شهد الوصى لليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لانهما يثبتان لانفسهما حق المطالبة والتصرف
وإن وكله فى شيء ثم عزله لم يشهد فيما كان النظر فيه إليه فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته وإن لم يكن قد خاصم فيه ففيه وجهان أحدهما أنه تقبل لانه لا يلحقه تهمة
والثانى أنه لا تقبل لانه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه
وإن شهد الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل شهادته لانه يتعلق حقه بما يثبت له بشهادته
وإن شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لانه لا يتعين حقه فيما شهد به
وإن شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل لانه يثبت له حق المطالبة
والثانى أنه يقبل لانه لا يتعلق بما يشهد ( به ) له حق
فصل وإن شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل الاندمال لم تقبل لانه قد يسرى إلى نفسه فيجب به لهما
وإن شهدا له بمال وهو مريض ففيه وجهان أحدهما هو قول أبى إسحاق أنه لا تقبل لانهما متهمان لانه قد يموت فيكون المال لهما فلو تقبل كما لو شهد بالجراحة
والثانى وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه تقبل لان الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت إليهما وفى الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لانها تجب بموته فلم تقبل
وإن شهد له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لانهما غير متهمين
وإن مات الابن وصار الأخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما لم تسقط الشهادة لانه حكم بها
وإن مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة كما لو فسقا قبل الحكم
وإن شهد المولى على غريم مكاتبه والوصى على غريم الصبى أو الوكيل على غريم الموكل بالإبراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لانه دفع بالشهادة عن نفسه ضررا وهو حق المطالبة
وإن شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل فإن كانا موسرين لم تقبل شهادتهما لانهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضررا وهو الدية
وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعى رضى الله عنه ردت شهادتهما وقال فى موضع آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل إليهما حتى يموت من قبلهما قبلت شهادتهما
فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما أنه تقبل لانهما فى الحال لا يحملان العقل
والثانى أنه لا تقبل لانه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير فيصيران من العاقلة
ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الأباعد ولا تقبل
____________________
(2/329)
شهادة القريب الفقير لان القريب معدود فى العاقلة واليسار يعتبر عند الحول وربما يصير موسرا عند الحول والبعيد غير معدود فى العاقلة وإنما يصير من العاقلة إذا مات الأقرب
فصل ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا
وقال المزني رحمه الله وأبو ثور تقبل ووجهه قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } فعم ولم يخص ولانهم كغيرهم فى العدالة فكانوا كغيرهم فى الشهادة
وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا تقبل شهادة حصم ولا ظنين ولا ذى إحنة والظنين المتهم وهذا متهم لانه يميل إليه ميل الطبع ولان الولد بضعة من الوالد ولهذا قال عليه الصلاة السلام يا عائشة إن فاطمة بضعة منى يريبنى ما يريبها ولان نفسه كنفسه وماله كماله ولهذا قال عليه الصلاة السلام لابى معشر الدارمى أنت ومالك لابيك وقال صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة إذا احتاج والآية نخصها بما ذكرناه والاستدلال بأنهم كغيرهم فى العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره فى العدالة ثم لا تقبل شهادته لنفسه وتقبل شهادة أحدهما على الآخر فى جميع الحقوق
ومن أصحابنا من قال لا تقبل شهادة الولد على الوالد فى إيجاب القصاص وحد القذف لانه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله
والمذهب الأول لانه إنما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة فى شهادته ( عليه ) ومن عدا الوالدين والأولاد من الأقارب كالأخ والعم وغيرهما تقبل شهادة بعضهم لبعض لانه لم يجعل نفس أحدهما كنفس الآخر فى العتق ولا ماله كماله فى النفقة
وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان قال فى القديم لا تقبل لانهما يجران إلى أمهما نفعا لانه يجب عليه بقذفها الحد فيحتاج أن يلاعن وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمهما
وقال فى الجديد تقبل وهو الصحيح لان أمهما لا يزيد بمفارقة الضرة
وإن شهدا أنه طلق ضرة أمهما ففيه قولان أحدهما أنه تقبل
والثانى أنه لا تقبل وتعليلهما ما ذكرناه
فصل وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لان النكاح سبب لا يعتق به أحدهما على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما للآخر كقرابة ابن العم ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة فى الزنا لان شهادته دعوى خيانة فى حقه فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة فى الوديعة ولانه خصم لها فيما يشهد به فلم تقبل كما لو شهد عليها أنها جنت عليه
فصل ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة السلام لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى إحنة وذو الإحنة هو العدو ولانه متهم فى شهادته بسبب منهى عنه فلم تقبل شهادته
فصل ومن جمع فى الشهادة بين أمرين فردت شهادته فى أحدهما نظرت فإن ردت للعداوة بينه وبين المشهود عليه مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبيا ردت شهادته فى حقه وفى حق الأجنبى لان هذه الشهادة تضمنت الإخبار عن عداوة بينهما
وشهادة العدو على عدوه لا تقبل فإن ردت شهادته فى أحدهما لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبى مالا ردت شهادته فى حق أبيه
وهل ترد فى حق الأجنبى فيه قولان أحدهما أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبيا
والثانى أنها لا ترد لانها ردت فى حق أبيه للتهمة ولا تهمة فى حق الأجنبى فقبلت
فصل فى ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا } والتوبة توبتان توبة فى الباطن وتوبة فى الظاهر فأما التوبة فى الباطن فهى ما بينه وبين الله عز وجل فينظر فى المعصية فإن لم يتعلق الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على ألا يعود إلى مثلها والدليل عليه قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة } بها مظلمة لآدمى ولا حد لله تعالى كالاستمتاع
____________________
(2/330)
بالأجنبية فيما دون { أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } وإن تعلق بها حق آدمي فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على ألا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمى إما أن يؤديه أو يسأله حتى يبرئه منه لما روى إبراهيم النخعى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى رجلا يصلى مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني وإن كنت أسأت فما علمتني فقال عمر اقتص قال لا أقتص قال فاعف قال لا أعفو فافترقا على ذلك ثم لقيه ( عمر ) من الغد فتغير لون عمر فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك قال أجل قال فاشهد أنى قد عفوت عنك
وإن لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه إن قدر أوفاه حقه وإن تعلق بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب فإن لم يظهر ذلك فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه الصلاة السلام من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله وإن أظهره لم يأثم لان ماعزا والغامدية اعترفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمهما ولم ينكر عليهما
وأما التوبة فى الظاهر وهى التى تعود بها ( العدالة ) والولاية وقبول الشهادة فينظر فى المعصية فإن كانت فعلا كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح عمله مدة لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وقدر أصحابنا المدة بسنة لانه لا تظهر صحة التوبة فى مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير سنة لانه تمر فيها الفصول الأربعة التى تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الأحوال وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين وإن كانت قذفا فقد قال الشافعى رحمه الله التوبة منه إكذابه نفسه
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخرى رحمه الله هو أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ووجهه ما روى عن عمر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال توبة القاذف إكذابه نفسه
وقال أبو إسحاق وأبو على بن أبى هريرة هو أن يقول قذفى له كان باطلا ولا يقول إنى كنت كاذبا لجواز أن يكون صادقا فيصير بتكذيبه نفسه عاصيا كما كان بقذفه عاصيا
ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه فى الزنا والسرقة فأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على عدالته ولا يحتاج إلى التوبة
وإن قلنا إنه يجب عليه الحد وجبت التوبة وهو أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما اتهم به فإذا قال هذا عادت عدالته ولا يشترط فيه إصلاح العمل لان عمر رضى الله عنه قال لابى بكرة تب أقبل شهادتك وإن لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لان أبا بكرة ردت شهادته وقبلت أخباره
وإن كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ويشترط فى صحة توبته إصلاح العمل على ما ذكرناه
فصل وإن شهد صبى أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت
وإن شهد فاسق فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل
وقال المزنى وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبي إذا بلغ والعبد إذا أعتق والكفر إذا أسلم
وهذا خطأ لان هؤلاء لا عار عليهم فى رد شهادتهم فلا يلحقهم تهمة فى إعادة الشهادة بعد الكمال والفاسق عليه عار فى رد شهادته فلا يؤمن أن يظهر التوبة لازالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة
وإن شهد المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان
____________________
(2/331)
أحدهما أنه تقبل لان شهادته لم ترد بمعرة وإنما ردت لانه ينسب لنفسه حقا بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق
والثانى أنها لا تقبل وهو الصحيح لانه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لانها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل
وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان أحدهما أنه تقبل لانها ردت للتهمة وقد زالت التهمة
والثانى وهو قول أبى إسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لانها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد
باب عدد الشهود لا يقبل فى الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا }
وروى أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد
وقال زياد رأيت إستا تنبو ونفسا يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدرى ما وراء ذلك فجلد عمر رضى الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة
ولا يقبل فى اللواط إلا أربعة لانه كالزنا فى الحد فكان كالزنا فى الشهادة فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا فى الشهادة لانه كالزنا فى الحد فكان كالزنا فى الشهادة
وإن قلنا إنه يجب فيه التعزير ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى على بن خيران واختيار المزنى رحمه الله أنه يثبت بشاهدين لانه لا يلحق بالزنا فى الحد فلم يلحق به فى الشهادة
والثانى وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة لانه فرج حيوان يجب بالإيلاج فيه العقوبة فاعتبر فى الشهادة عليه أربعة كالزنا ونقصانه عن الزنا فى العقوبة لا يوجب نقصانه عنه فى الشهادة كزنا الأمة ينقص عن زنا الحرة فى الحد ولا ينقص عنه فى الشهادة
واختلف قوله فى الإقرار بالزنا فقال فى أحد القولين يثبت بشاهدين لانه إقرار فثبت بشاهدين كالإقرار فى غيره
والثانى أنه لا يثبت إلا بأربعة لانه سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل
وإن كان المقر أعجميا ففى الترجمة وجهان أحدهما أنه يثبت باثنين كالترجمة فى غيره
والثانى أنه كالإقرار فيكون على قولين كالإقرار
فصل وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان أحدهما أنهم قذفوه ويحدون وهو أشهر القولين لان عمر رضى الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة
وروى ابن الوصى أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وقال الرابع رأيتهما فى ثوب واحد فإن كان هذا زنا فهو ذلك فجلد على بن أبى طالب رضى الله عنه الثلاثة وعزر الرجل والمرأة ولانا لو لم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة طريقا إلى القذف
والقول الثانى أنهم لا يحدون لان الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب الحد كسائر الجائزات ولان إيجاب الحد عليهم يؤدى إلى ألا يشهد أحد بالزنا خوفا من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا
وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق وظاهر النص أنه يحد الزوج قولا واحدا لانه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفا وفى الثلاثة قولان والثانى وهو قول أبى على بن أبى هريرة أن الزوج كالثلاثة لانه أتى بلفظ الشهادة فيكون على القولين
____________________
(2/332)
فصل فى فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم ( فإن كان بسبب ظاهر ) بأن كان عبدا أو كافرا أو متظاهرا بالفسق كان كما لو يتم العدد لان وجوده كعدمه
وإن كان بسبب خفى كالفسق الباطن ففيه وجهان أحدهما أن حكمه حكم ما لو نقص بالعدد لان عدم العدالة كعدم العدد
والثانى أنهم لا يحدون قولا واحدا لانه إذا كان الرد بسبب فى الباطن لم يكن من جهتهم تفريط فى الشهادة لانهم معذورون فلم يجحدوا
وإذا كان بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد
وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف لانه اعترف بالقذف
ومن أصحابنا من قال فى حده قولان لانه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشيء
وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد عليهم قولا واحدا لانه ليس من جهتهم تفريط لانهم شهدوا والعدد تام ورجوع من رجع لا يمكنهم الاحتراز منه
ومن أصحابنا من قال فى حدهم قولان وهو ضعيف فإن رجعوا كلهم وقالوا تعمدنا الشهادة وجب عليهم الحد
ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشيء
وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربع نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد لانه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل ويحتمل أن تكون عائدة لان البكارة تعود إذا لم يبالغ فى الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال
ولا يجب الحد على الشهود لانا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون
فصل ويثبت المال وما يقصد به كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فنص على ذلك فى السلم وقسنا عليه المال وكل ما يقصد به المال
فصل وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل فى الرجعة { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولما روى ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا نكاح إلا بولى وشاهدي عدل وعن الزهرى أنه قال جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء فى الحدود فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال
وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا فى الصداق ثبت الصداق بالشاهد والمرأتين لانه إثبات مال
وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت إلا بشهادة رجلين وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لان بينة المرأة لاثبات الطلاق وبينة الرجل لاثبات المال
وإن شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع
وإن شهد رجل وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية
والفرق بين القتل والسرقة أن قتل العمد فى أحد القولين يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب بالعفو عن القصاص وإذا لم يثبت القصاص لم يثبت بدله
وفى القول الثانى يوجب أحد البدلين لا بعينه وإنما يتعين بالاختيار فلو أوجبنا الدية دون القصاص أوجبنا معينا وهذا خلاف موجب القتل وليس كذلك السرقة فإنها توجب القطع والمال على سبيل الجمع وليس أحدهما بدلا عن الآخر فجاز أن يوجب أحدهما دون الآخر
فصل ولا يقبل فى موضحة العمد إلا شاهدان ذكران لانها جناية توجب القصاص وفى الهاشمة والمنقلة قولان أحدهما أنه لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لانها جناية تتضمن القصاص
والثانى أنها تثبت بالشاهد والمرأتين لان الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما وإنما القصاص فى ضمنهما فثبت بالشاهد والمرأتين فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة ولا يثبت القصاص فى الموضحة
وإن اختلف السيد والمكاتب فى قدر المال أو صفته أو أدائه قضى فيه بالشاهد والمرأتين لان الشهادة على المال وإن أفضى إلى العتق الذى لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء وإن أفضى إلى النسب الذى لا يثبت بشهادتهن
فصل وإن كان فى يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها
____________________
(2/333)
منه وأقام على ذلك شاهدا وامرأتين قضى له بالجارية لانها مملوكة فقضى فيها بشاهد وامرأتين وإذا مات عتقت بإقراره
وهل يثبت نسب الولد وحريته فيه قولان أحدهما أنه لا يثبت لان النسب والحرية لا يثبت بشاهد وامرأتين فيكون الوالد باقيا على ملك المدعى عليه
والقول الثانى أنه يثبت لان الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له بالولد فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته لانه أقر بذلك وإن ادعى رجل أن العبد الذى فى يد فلان كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فقد اختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال فيه قولان أحدهما أنه لا يحكم بهذه البينة لانها تشهد ( له ) بملك متقدم فلم يحكم بها كما لو ادعى على رجل عبدا وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له
والثانى أنه يحكم بها لانه ادعى ملكا متقدما وشهدت له البينة فيما أدعاه
ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولا واحدا والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك لا يدعى ملك الولد وهو يقر أنه حر الأصل فلم يحكم ببينته فى أحد القولين وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببينته
فصل فى ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب التى تحت الثياب شهادة النساء منفردات لان الرجال لا يطلعون عليها فى العادة فلو لم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلت عند التجاحد ولا يثبت شيء من ذلك إلا بعدد لانها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لان أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل والدليل عليه قوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فأقام المرأتين مقام الرجل وروى عبد الله بن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على ذى لب منكن
قالت امرأة يا رسول الله ما ناقصات العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل فهذا نقصان العقل
وأما نقصان الدين فإن إحداكتن تمكث الليالى ولا تصلى وتفطر في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل والمرأتين لانه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال فلان تقبل شهادة الرجال والرجال والنساء أولى
وتقبل فى الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت قد أرضعتكما فجاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه عنها ولانها لا تجر بهذه الشهادة نفعا إلى نفسها ولا تدفع عنها ضررا ولا تقبل شهادة المرأة على ولادتها لانها تثبت لنفسها بذلك حقا وهو النفقة وتقبل شهادة النساء منفردات على استهلال الولد وإنه بقى متألما إلى أن مات وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين والصحيح هو الأول لان الغالب أنه لا يحضرها الرجال
فصل فى وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين لما روى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد قال عمر وذلك فى الأموال واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين فإن قلنا إن الملك للموقوف عليه قضى فيه بالشاهد واليمين لانه نقل ملك فقضى فيه بالشاهد واليمين كالبيع وإن قلنا إنه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه بالشاهد واليمين لانه إزالة ملك إلى غير الآدمى فلم يقض فيه بالشاهد واليمين كالعتق
وقال أبو العباس رحمه الله يقضى فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعا لان القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضى فيه بالشاهد واليمين كالإجارة
باب تحمل الشهادة وأدائها لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها إلا عن علم والدليل عليه قوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقوله تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فأمر الله تعالى أن يشهد عن علم وقوله عز وجل { ستكتب شهادتهم ويسألون } وهذا الوعيد يوجب التحفظ فى الشهادة فقال هل ترى الشمس قال نعم
قال فعلى مثلها فاشهد أو دع
وإن كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة والرضاع والولادة وغيرها مما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به إلا عن مشاهدة لانها
____________________
(2/334)
لا تعلم إلا بها وإن كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير قصد جاز أن يشهد بما شاهد
وإن أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه يجوز وهو قول أبى إسحاق المروزى لان أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضى الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم
وقال أبو سعيد الإصطخرى لا يجوز أن يقصد النظر لانه فى الزنا مندوب إلى الستر وفى الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر للشهادة
ومن أصحابنا من قال يجوز فى الزنا دون غيره لان الزاني هتك حرمة الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حرمته بالنظر إلى عورته وفى غير الزنا لم يوجد من المشهود عليه هتك حرمة فلم يجز هتك حرمته
ومنهم من قال يجوز فى غير الزنا ولا يجوز فى الزنا لان حد الزنا يبنى على الدرء والإسقاط فلا يجوز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر وغيره لم يبن على الدرء والإسقاط فجاز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر
فصل وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومشاهدة القائل لانه لا يحصل العلم بذلك إلا بالسماع والمشاهدة
وإن كانت الشهادة على ما لا يعلم إلا بالخبر وهو ثلاثة النسب والملك والموت جاز أن يشهد فيه بالاستفاضة فإن استفاض فى الناس أن فلانا ابن فلان أو أن فلانا هاشمى أو أموى جاز أن يشهد به لان سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة
وإن استفاض فى الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به لان أسباب الملك لا تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة
وإن استفاض أن فلانا مات جاز أن يشهد به لان أسباب الموت كثيرة منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها وفى عدد الاستفاضة وجهان أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد الإسفرايينى رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لان ذلك بينة
والثانى وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردى رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لان ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم
فإن سمع إنسانا يقر بنسب أب أو ابن فإن صدقه المقر له جاز له أن يشهد به لانه شهادة على إقرار وإن كذبه لم يجز أن يشهد به لانه لم يثبت النسب وإن سكت فله أن يشهد به لان السكوت في النسب رضى بدليل أنه إذا بشر بولد فسكت عن نفيه بحقه نسبه
ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الإقرار مع السكوت
وإن رأى شيئا فى يد إنسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد ولا يشهد له بالملك وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد
وهل يجوز أن يشهد له بالملك فيه وجهان أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخرى رحمه الله أنه يجوز لان اليد والتصرف يدلان على الملك
والثانى وهو قول أبى إسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالملك لانه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال
واختلف أصحابنا فى النكاح والعتق والوقف والولاء فقال أبو سعيد الإصطخرى رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لانه يعرف بالاستفاضة أن عائشة رضى الله عنها زوجة النبى صلى الله عليه وسلم وأن نافعا مولى ابن عمر رضى الله عنهما كما يعرف أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يجوز لانه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع
فصل فى ويجوز أن يكون الأعمى شاهدا فيما يثبت بالاستفاضة لان طريق العلم به السماع والأعمى كالبصير فى السماع
ويجوز أن يكون شاهدا فى الترجمة لانه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم وسماعه كسماع البصير
ولا يجوز أن يكون شاهدا على الأفعال كالقتل والغصب والزنا لان طريق العلم بها البصر
ولا يجوز أن يكون شاهدا على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجا عن يده
وحكى عن المزنى رحمه الله أنه قال يجوز أن يكون شاهدا فيها إذا عرف الصوت ووجهه أنه إذا جاز أن يروى الحديث إذا عرف المحدث بالصوت ويستمع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه بالصوت وهذا خطأ لان من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم بالمتكلم لان الصوت يشبه الصوت
ويخالف رواية الحديث والاستمتاع بالزوجة لان ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد
وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الأعمى على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد عليه بما سمعه
____________________
(2/335)
منه قبلت شهادته لانه شهد عن علم وإن تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم عمى نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه إلا بالعين وهو خارج عن يده لم تقبل شهادته عليه لانه لا علم له بمن يشهد عليه وإن تحمل الشهادة ويده فى يده وهو بصير ثم عمى ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت شهادته لانه يشهد عليه عن علم وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم والنسب وهو بصير ثم عمى قبلت شهادته لانه يشهد على من يعلمه
فصل ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لان الناس يختلفون فى شروطه فوجب ذكرها فى الشهادة
وإن رهن رجل عبدا عند رجل بألف زاده ألفا آخر وجعل العين رهنا بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين وعلم الشهود حال الرهن فى الباطن فإن كانوا يعتقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة بالدين فى الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الأمر عليه فى الباطن
وإن كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين فى الرهن ففيه وجهان أحدهما يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لانهم يعتقدون أنهم صادقون فى ذلك
والثانى أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الأمر عليه فى الباطن لان الاعتبار فى الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود
فصل ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبى من ثديها أو من لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات فى حولين لاختلاف الناس فى شروط الرضاع
وفإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لان الناس يختلفون فيما يصير به ابنا من الرضاع وإن رأى امرأة أخذت صبيا تحت ثيابها وأرضعته لم يجز أن يشهد بالرضاع لانه يجوز أن يكون قد أعدت شيئا فيه لبن من غيرها على هيئة الثدى فرأى الصبى يمص فظنه ثديا
فصل ومن شهد بالجناية ذكر صفتها فإن قال حذبه بالسيف فمات أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه
وإن قال ضربه بالسيف فمات منه أو ضربه فقتله ثبت القتل بشهادته وإن قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل بشهادته على المنصوص لانه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه
فإن قال ضربه فاتضح أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته لما ذكرناه فى النفس
وإن قال ضربه فأوضحه ثبتت الموضحة بشهادته لانه أضاف الموضحة إليه
وإن قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان الدم من غير الضرب وإن قال ضربه فأسال دمه ومات قبلت شهادته فى الدامية لانه أضافها إليه ولا تقبل فى الموت لانه يحتمل أن يكون الموت من غيره
وإن قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت فى رأسه موضحتين لم يجز القصاص لانا لا نعلم على أى الموضحتين شهد ويجب أرش موضحة لان الجهل بعينها ليس بجهل لانه قد أوضحه
فصل ومن شهد بالزنا ذكر الزانى ومن زنى به لانه قد يراه على بهيمة فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا أو يراه على زوجته أو جارية ابنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره فى فرجها لم يحكم به لان زيادا لما شهد على المغيرة عند عمر رضى الله عنه ولم يذكر ذلك لم يقم الحد على المغيرة فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الإمام عنه فإن شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لان البينة لم تكمل وعلم يحد الرابع عليه لانه لم يشهد بالزنا
وهل يجب الحد على الثلاثة فيه قولان وإن شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم يحد المشهود عليه لانه لم تكمل البينة ويجب الحد على الرابع قولا واحدا لانه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا
وهل يحد الثلاثة على القولين
فإن شهد أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن بفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس بزنا ولا يجب على الشهود الباقين الحد لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا فلا يجب الحد مع الاحتمال
فصل فى ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب وصفة السرقة لان الحكم يختلف باختلافها فوجب ذكرها
ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا فلم يجز الحكم قبل البيان كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح
وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف فى الشهادة فى حدود الله تعالى فيه وجهان
____________________
(2/336)
أحدهما أنه لا يجوز لان فيه قدحا فى الشهود
والثانى أنه يجوز لان عمر رضى الله عنه عرض لزياد فى شهادته على المغيرة فروى أنه قال أرجو ألا يفضح الله تعالى على يديك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولانه يجوز أن يعرض باب الشهادة على الشهادة وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى لأن الحاجة تدعو إلى ذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة
وفي حدود الله تعالى وهو حد الزنى وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر قولان أحدهما أنه يجوز لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين
والثاني أنه لا يجوز لأن الشهادة على الشهادة تراد لتأكيد الوثيقة ليتوصل بها إلى إثبات الحق وحدود الله تعالى مبنية على الدرء والإسقاط فلم يجز تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة وما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضي وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب القاضى إلى القاضى لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضى الكاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة
فصل ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود الأصل بالموت أو المرض أو الغيبة لأن شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت نفس الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود الأصل والغيبة التي يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الأصل من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه تلحقه المشقة في ذلك
وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرجع إلى بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لأنه يقدر على شهادة شهود الأصل من غير مشقة
فصل ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضى إلى القاضى شهادة النساء لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح
فصل ولا يقبل إلا من عدد لأنه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات
وإن كان شهود الأصل اثنين فشهد على أحدهما شاهدان وعلى الآخر شاهدان جاز لأنه يثبت قول كل واحد منهما بشهادة واحد
فإن شهد اثنان على شهادة أحدهما ثم شهدا على شهادة الآخر ففيه قولان أحدهما أنه يجوز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين
والثاني أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لأنهما قاما في التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد فإذا شهدا فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين
وإذا كان شهود الأصل رجلا وامرأتين قبل في أحد القولين شهادة اثنين على شهادة كل واحد منهم ولا يقبل في الآخر إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم
وإن كان شهود الأصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد القولين شهادة رجلين على واحد منهن
ولا يقبل في الآخر إلا شهادة ثمانية يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن
وإن كان شهود الأصل أربعة من الرجال وهو في الزنى وقلنا إنه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود فإن قلنا يقبل شاهدان على شاهدى الأصل في غير الزنى ففي حد الزنى قولان أحدهما أنه يكفي شاهدان في إثبات شهادة الأربعة كما يكفي شاهدان في إثبات شهادة اثنين
والثاني أنه يحتاج إلى أربعة لأن فيما يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد منهما إلى العدد الذي يثبت به أصل الحق وهو اثنان وأصل الحق هاهنا لا يثبت إلا بأربعة فلم تثبت شهادتهم إلا بأربعة
فإن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين إلا أربعة ففي حد الزنى قولان أحدهما أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهادة كل شاهدين شهادة واحد
والثاني أنه يحتاج إلى ستة عشر لأن ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد إلا بما يثبت به أصل الحق وأصل الحق لا يثبت إلا بأربعة فلا تثبت شهادة كل واحد منهم إلا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر
____________________
(2/337)
فصل ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل بما يعرف به لأن عدالته شرط فإذا لم تعرف لم تعلم عدالته فإن سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لأنهم غير متهمين في تعديلهم وإن قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لأنه يجوز أن يكونوا عدولا عندهم غير عدول عند الحاكم
فصل ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة إلا من ثلاثة أوجه أحده أن يسمع رجلا يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا مضافا إلى سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر لأنه لا يحتمل مع ذكر السبب إلا الوجوب
والثاني أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لأنه لا يشهد عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به والثالث أن يسترعيه رجل بأن يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا فاشهدوا على شهادتي بذلك لأنه لا يسترعيه إلا على واجب لأن الاسترعاء وثيقة والوثيقة لا تكون إلا على واجب وأما إذا سمع رجلا في دكانه أو طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فأشهد على شهادة لم يحكم به لأنه يحتمل أنه اراد أن له عليه ألفا من وعد وعده بها فلم يجز تحمل الشهادة عليه مع الاحتمال وإن سمع رجلا يقول لفلان علي ألف درهم فهل يجوز أن يشهد عليه بذلك فيه وجهان أحدهما وهو قول أبي اسحاق أنه لا يجوز أن يشهد عليه كما لا يجو أن يتحمل الشهادة عليه والثاني وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه والفرق بينه وبين التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب الحق على غير فاعتبر فيه الاسترعاء ولأن الشهادة آكد لأنه يعتبر فيها العدالة ولا يعتبر ذلك في الاقرار
فصل وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدي الشهادة أداها على الصفة التي تحملها فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره وإن اشهد شاهد الاصل على شهادته أو استرعاه قال أشهد أن فلانا يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته
فصل وإن رجع شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت الفرع لأنه بطل الأصل فبطل الفرع وإن شهد شهود الفرغ ثم حضر شهود الأصل قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم بالبدل والله أعلم
باب اختلاف الشهود في الشهادة إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشاهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين ثبت له ألف بشهادتهما لأنهما اتفقا على اثباتها وله أن يحلف مع شاهد الألفين ويثبت له الألف الأخرى لأنه شهد له بها شاهد وإن ادعى ألفا فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففيه وجهان أحدهما أنه يحلف مع الذي شهد له بالألف ويقضي له وتسقط شهادة من شهد له بالألفين لأنه صار مكذبا له فسقطت شهادته له في الجميع والثاني أنه يثبت له الألف بشهادتهما ويحلف ويستحق الألف الأخرى ولا يصير مكذبا بالشهادة لأنه يجوز أن أن يكون له حق ويدعى بعضة ويجوز أنه لم يعلم أن له من يشهد له بالألفين
فصل وإن شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية وشهدا آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة على فعل واحد وهل يجب حد القذف على الشهود على القولين وإن شهدا اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة وشهد اثنان أنه زنى بها وهي مكرهة لم يجب الحد عليها لأنه لم تكمل بينة الحد في زناها وأما الرجل فالمذهب أنه لا يجب عليه الحد وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجب عليه الحد لأنهم اتفقوا على أن نى وهذا خطأ لأن زناه بها وهي مكاوعة غير زناه بها وهي مكرهة فصار كما لو شهد
____________________
(2/338)
اثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى
فصل وإن شهد شاهد أنه قذف رجلا بالعربية وشهد آخر آنه قذفه بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم يجب الحد لأنه لم تكمل البينة على قذف واحد
وإن شهد أحدهما أنه أقر بالعربية أنه أقر يوم الجمعة وجب الحد لأن المقر به واحد وإن اختلفت العبارة فيه
فصل وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشا أبيض غدوة وشهد آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينه الحد على سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضى له بالغرم لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين
فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا أبيض غدوة وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه عشية تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما
وتخالف المسألة قبلها فإن كل واحد من الشاهدين ليس ببينة والتعارض لا يكون في بينة وهاهنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطتا
وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشا غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشا عشية ولم يعيا الكبش لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له
فإن ادعى الكبشين حلف مع كل واحد منهمايمينا وحكم له بهما لأنه لا تعارض بينهما
وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشا عشية وجب القطع والغرم فيهما لأنه كملت بينة الحد والغرم
وإن شهد شاهد أنه سرق ثوبا وقيمته ثمن دينار وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم يجب القطع لأنه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لأنه نفق عليه الشاهدان وله أن يحلف على الثمن آخر ويحكم له لأنه انفرد به شاهد فقضى به مع اليمين
وإن أتلف عليه ثوبا فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران أن قيمته عشرون قضى بالعشرة لأن البينتين اتفقا على العشرة وتعارضتا في الزيادة لأن إحداهما تثبتها والأخرى تنفيها فسقطت
فصل وإن شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلانا وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه فإن صدق الولى الأولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران لأن الأولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان لأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل
وإن كذب الولي الأولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع لأن الأولين كذبهما الولى والآخران يدفعان عن أنفسهما القتل
فصل وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمدا وقال المدعى عليه قتله خطأ فأقام المدعى شاهدين فشهدا أحدهما أنه أقر بقتله عمدا وشهد الآخر على إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن صفة القتل لا تثبت بشاهد واحد فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعى أنه قتله عمدا ويجب القصاص أو دية مغلظة
فصل وإن قتل رجل عمدا وله وارثان ابنان أو أخوان فشهد أحدهما على أخيه أنه عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل عدلا كان أو فاسقا شهادته على أخيه تضمنت الإقرار بسقوط القود
فأما الدية فإن نصيب الشاهد يثبت لأنه ما عفا عنه وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية
وإن كان ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية لأن ما طريقه المال يثبت بالشاهد واليمين
وفي كيفية اليمين وجهان أحدهما أنه يحلف أنه قد عفا عن المال
والثاني أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها وهو إذا قلنا إن قتل العمد لا يوجب غير القود فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا عن القود والدية
فصل وإن شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك أو أنت جربى لم تثبت الوكالة لأن شهادتهما لم تتفق على قول واحد
وإن شهد أحدهما أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على التصرف ثبتت الوكالة لأن
____________________
(2/339)
أحدهما ذكر اللفظ والآخر ذكر المعنى ولم يخالفه الآخر إلا في اللفظ
فصل وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالما وقيمته ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانما وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق ورق الآخر وإن لم يعلم ذلك ففيه قولان أحدهما أنه يقرع بينهما لأنه لا يمكن الجمع بينهما لأن الثلث لا يحتملهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فأقرع بينهما كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما
والقول الثاني أنه يعتق من كل منهما النصف لأن السابق حر والثاني عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما النصف لتساويهما كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة مازاد على الثلث فإن الثلث يقسم عليهما
وإن شهد شاهدان على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الأولى وصحت الوصية للثاني
وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبدا لهما عنده بدين له عليهما فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان أحدهما أنه لا تقبل شهادتهما لأنه يدعى أن كل واحد منهما كاذب
والثاني تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهنا عنده لأنه يجوز أن يكون قد نسى فلا يكون كذبه معلوما
باب الرجوع عن الشهادة إذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء
فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم وحكى عن أبي ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك كما لو جهل عدالة الشهود
فإن رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفار بالشبهة معها
وإن كان مالا أو عقدا فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأن الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء وهذا خطأ لأن الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء
وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لأنه يجوز أن يكونوا صادقين ويجوز أن يكونوا كاذبين وقد اقترن بأحد الجائزين الحكم والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل
فصل وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا تعمدنا ليقتل بشهادتنا وجب عليهم القود لما روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم أتياه برجل آخر فقالا إنا أخطأنا بالأول وهذا السارق فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الأول وقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولأنهما ألجآه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله
وإن قالوا تعمدنا الشهادة ولم نعلم أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجلة لما فيه من الخطأ
فأن قالوا أخطأنا وجبت دية مخففة لأنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنها وجبت باعترافهم
فإن اتفقوا أن بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطأ قسطه من الدية المخففة
وعلى المعتمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب عليه القود لمشاركة المخطأ
وإن اختلفوا فقال بعضهم تعمدنا كلنا وقال بعضهم أخطأنا كلنا وجب على المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة
وإن كانوا أربعة شهدوا بالرجم فقال اثنان منهم تعمدنا وأخطأ هذان وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان ففيه قولان أحدهما أنه يجب القود على الجميع لأن كل واحد منهم أقر بالعمد وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد
والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا قود على واحد منهم بل يجب على كل واحد منهم قسطه من الدية المغلطة لأنه لا يؤخذ كل واحد منهم إلا بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطأ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره بالعمد
وإن قال اثنان تعمدنا كلنا وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان فعلى الأولين القود وفي الآخيرين القولان أحدهما يجب عليهما القود
والثاني وهو الصحيح أنه يجب عليهما قسطهما من الدية المغلظة وقد مضى توجيههما
وإن قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين فإن قال الباقون تعمدنا وجب القود على الجميع وإن قالوا أخطأنا سقط القود عن الجميع
____________________
(2/340)
فصل فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع الدية وإن رجع اثنان ضمنا نصف الدية وإن زاد عددهم على عدد البينة بأن شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع لبقاء وجوب القتل على المشهود عليه
وهل يجب عليه من الدية شيء فيه وجهان أحدهما وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل
والثانى أنه يجب عليه خمس الدية لان الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم
فإن رجع اثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود وإن قالا أخطأنا كلنا ففى الدية وجهان أحدهما أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتبارا بعددهم
والثانى يضمنان ربع الدية لانه بقى ثلاثة أرباع البينة
فصل وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد اثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الإحصان ضمان فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يجب لانهم لم يشهدوا بما يوجب القتل
والثانى أنه يجب على الجميع لان الرجم لم يستوف إلا بهم
والثالث أنهما إن شهدا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنا لانهما لم يثبتا إلا صفة وإن شهد بعد ثبوت الزنا ضمنا لان الرجم لم يستوف إلا بهما وفى قدر ما يضمنان من الدية وجهان أحدهما أنهما يضمنان نصف الدية لانه رجم بنوعين من البينة الإحصان والزنا فقسمت الدية عليهما
والثانى أنه يجب عليهما ثلث الدية لانه رجم بشهادة ستة فوجب على الاثنين ثلث الدية
وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان قبلت شهادتهما لانهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعا ولا يدفعان عنهما ضررا فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة فإن قلنا لا يجب الضمان على شهود الإحصان وجبت الدية عليهم أرباعا على كل واحد منهم ربعها
وإن قلنا إنه يجب الضمان على شهود الإحصان ففى هذه المسألة وجهان أحدهما أنه لا يجب لاجل الشهادة بالإحصان شيء بل يجب على من شهد بالإحصان نصف الدية وعلى الآخرين نصفها لان الرجوع عن الشهادة صار كالجناية فوجب على كل اثنين نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين وجنى اثنان أربعة جنايات
والوجه الثانى أنه يجب الضمان لاجل الشهادة بالإحصان فإن قلنا يجب على شاهدى الإحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على الشاهدين بشهادتهما بالإحصان نصف الدية وقسم النصف بينهم نصفين على شاهدى الإحصان النصف وعلى الآخرين النصف فيصير على شاهدى الإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الآخرين ربعها
وإذا قلنا إنه يجب على شاهدى الإحصان ثلث الدية وجب هاهنا عليهما الثلث بشهادتهما بالإحصان ويبقى الثلثان بينهم النصف على من شهد بالإحصان والنصف على الآخرين فيصير على من شهد بالإحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها
فصل وإن شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أو كفارا وجب الضمان ( على المزكيين ) لان المرجوم قتل بغير حق ولا شيء على شهود الزنا لانهم يقولون إنا شهدنا بالحق ولولى الدم أن يطالب من شاء من الإمام أو المزكيين لان الإمام رجم والمزكيين ألجآه فإن طالب الإمام رجع على المزكيين لانه رجمه بشهادتهما وإن طالب المزكيين لم يرجعا على الإمام لانه كالآلة لهما
فصل وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة وجب عليهما قيمة العبد لانهما أتلفاه عليه مقوما فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه
وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فإن كان بعد الدخول وجب عليهما مهر المثل لانهما أتلفا عليه مقوما فلزمهما ضمانه كما لو أتلفا عليه ماله وإن كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع
____________________
(2/341)
فصل وإن شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص أنه لا يرجع على المشهود
وقال فيمن في يده دار فأقر غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر أنها تسلم إلى الأول بإقراره السابق
وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثانى فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر فمن أصحابنا من قال هو على قولين وهو قول أبى العباس
أحدهما أنه يرجع على الشهود بالغرم لانهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان ( وهو الشهادة ) فلزمهم الضمان
والثانى أنه لا يرجع عليهم لان العين لا تضمن إلا باليد أو بالإتلاف ولم يوجد من الشهود واحدا منهما
ومن أصحابنا من قال لا يرجع على الشهود قولا واحدا والفرق بينهم وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال
والصحيح أن المسألة على قولين والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان فإن شهد رجل وامرأتان بالمال ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع لان كل امرأتين كالرجل
وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث فإن رجع واحد وبقى اثنان ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه ضمان الثلث لان المال يثبت بشهادة الجميع
والثانى وهو المذهب أنه لا شيء عليه لانه بقيت بينة يثبت بها المال فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الأول ضمان النصف لانه انحل نصف البينة
وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس
وقال أبو العباس يجب على الرجل ضمان النصف وعلى النسوة ضمان النصف لان الرجل في المال بمنزلة نصف البينة فلزمه ضمان النصف والصحيح هو الأول لان الرجل في المال بمنزلة امرأتين وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس
وإن رجع ثمانى نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شيء لانه بقيت بينة ثبت بها الحق فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثمانى ضمان الربع وإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى التسع النصف
فصل وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمى عليه قبل الحكم لم تبطل شهادته لان ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم بها وإن شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته لان الفسق يوقع شكا فى عدالته عند الشهادة فمنع الحكم بها وإن شهد على رجل ثم صار عدوا له بأن قذفه المشهود عليه لم تبطل شهادته لان هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من الحكم بها وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان فى مال أو عقد لم يؤثر فهى الحكم لانه يجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون موجودا عند الشصهادة فلا تنقض حكم نفذ بأمر محتمل
وإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لان ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص ( مما يسقطان ) بالشبهة فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة
فصل وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لانه تيقن الخطأ فى حكمه فوجب نقضه كما لو حكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه
وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق فإن لم تسند الفسق إلى حال الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض الحكم مع الاحتمال
وإن قامت البينة أنه كان فاسقا عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق رحمه الله ينقض الحكم قولا واحدا لانه إذا نقض بشهادة العبد ولا نص في رد شهادته ولا إجماع فلان ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد شهادته بالنص والاجماع أولى
وقال أبو العباس رحمه الله فيه قولان أحدهما أنه ينقض لما ذكرناه
والثانى أنه لا ينقض لان فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ فى الظاهر والصحيح هو الأول لان هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد النص بخلافه فإن النص ثبت من جهة الظصاهر وهو خبر الواحد ثم ينقض به الحكم
فصل وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم ( به ) قطعا أو قتلا وجب على الحاكم ضمانه لانه لا يمكن إيجابه على الشهود لانهم يقولون شهدنا بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له لانه يقول استوفيت حقى فوجب على الحاكم الذى حكم بالإتلاف ولم يبحث عن الشهادة
وفى الموضع الذى يضمن قولان أحدهما فى بيت المال والثانى على عاقلته وقد بيناه في الديات
وإن كان المحكوم به مالا فإن كان باقيا فى يد المحكوم له وجب عليه رده وإن كان تالفا وجب عليه ضمانه لانه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له لان الجناية لا تضمن إلا أن تكون محرمة وبحكم الحاكم خرج عن أن يكون محرما فوجب على الحاكم دونه
فصل ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سلمة رضى الله
____________________
(2/342)
عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بما أسمع وأظنه صادقا فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها ولانه يقطع بتحريم ما حكم له به فلم يحل له بحكم كما لو حكم له بما يخالف النص والإجماع
كتاب الإقرار الحكم بالإقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولان النبى صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما ولانه إذا وجب الحكم بالشهادة فلان يجب بالإقرار وهو من الريبة أبعد وأولى
فصل وإن كان المقر به حقا لآدمى أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه الإقرار به لقوله عز وجل { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } ولقوله تعالى { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } والإملال هو الإقرار فإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه فى كتاب الشهادات
فصل ولا يصح الإقرار إلا من بالغ عاقل مختار فأما الصبى والمجنون فلا يصح إقرارهما لقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولانه التزام حق بالقول فلم يصح من الصبى والمجنون ( كالبيع
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة على بلوغه ولا يحلف المقر لانا حكمنا بأنه غير بالغ
وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون وإن كان بمعصية الله فعلى ما ذكرناه فى الطلاق
وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة السلام رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع
ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لانه غير متهم وأما إقراره بالمال فقد بيناه فى الحجر والتفليس
فصل فى ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لان الحق عليه دون مولاه ولا يقبل إقرار المولى عليه فى ذلك لان المولى لا يملك من العبد إلا المال
وإن جنى رجل على عبد جناية توجب القصاص أو قذفه قذفا يوجب التعزير ثبت القصاص والتعزير له وله المطالبة به
____________________
(2/343)
والعفو عنه وليس للمولى المطالبة به ولا العفو عنه لانه حق غير مال فكان له دون المولى ولا يقبل إقرار العبد بجناية الخطإ لانه إيجاب مال فى رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لانه إيجاب حق فى ماله ويقبل إقرار العبد المأذون فى دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذى في يده لان المولى سلطه عليه ولا يقبل إقرار غير المأذون فى دين معاملة فى الحال ويتبع به إذا عتق لانه لا يمكن أخذه من رقبته لانه لزمه برضى من له الحق
وإن أقر بسرقة مال لا يجب فيه القطع كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز وصدقه المولى وجب التسليم إن كان باقيا وتعلق برقبته إن كان تالفا لانه لزمه بغير رضى صاحبه
وإن كذبه المولى كان فى ذمته يتبع به إذا عتق وإن وجب فيه القطع قطع لانه غير متهم فى إيجاب القطع
وفى المال قولان واختلف أصحابنا فى موضع القولين على ثلاثة طرق أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه إن كان المال في يده ففيه قولان أحدهما أنه يسلم إليه لانه انتفت التهمة عنه فى إيجاب القطع على نفسه
والثانى أنه لا يسلم لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو كان المال فى يد المولى
وإن كان المال تالفا لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولا واحدا لان للغرم محلا يثبت فيه وهو ذمته
والطريق الثانى وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى رحمه الله أنه إن كان المال تالفا ففيه قولان أحدهما أنه يتعلق برقبته يباع فيه
والثانى أنه لا يتعلق برقبته وإن كان باقيا لم يقبل إقراره قولا واحدا لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو أقر بسرقة مال فى يد المولى
والطريق الثالث وهو قول أبى على بن أبى هريرة أن القولين فى الحالين سواء كان المال باقيا أو تالفا لان العبد وما فى يده فى حكم ما فى يد المولى فإن قبل فى أحدهما قبل فى الآخر وإن رد فى أحدهما رد فى الآخر فلا معنى للفرق بينهما
فصل وإن باع السيد عبده من نفسه فقد نص فى الأم أنه يجوز وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق وأبو على بن أبى هريرة يجوز قولا واحدا وذهب القاضى أبو حامد المروروذى والشيخ أبو حامد الإسفرايينى رحمهما الله إلى أنها على قولين أحدهما أنه يجوز لانه إذا جازت كتابته فلان يجوز بيعه وهو أثبت والعتق فيه أسرع أولى
والثانى أنه لا يجوز لانه لا يجوز بيعه بما فى يده لانه للمولى ولا يجوز بمال فى ذمته لان المولى لا يثبت له مال فى ذمة عبده
فإذا قلنا إنه يجوز وهو الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن
فصل ويقبل إقرار المريض بالحد والقصاص لانه غير متهم ويقبل إقراره بالمال لغير وارث لانه غير متهم فى حقه
وإن أقر لرجل بدين فى الصحة وأقر لآخر بدين فى المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لانهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما على الآخر كما لو أقر لهما فى حال الصحة
واختلف أصحابنا فى إقراره للوارث فمنهم من قال فيه قولان أحدهما أنه لا يقبل لانه إثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير رضى سائر الورثة كالوصية
والثانى أنه يقبل وهو الصحيح لان من صح إقراره له فى الصحة صح إقراره فى المرض كالأجنبى
ومن أصحابنا من قال يقبل إقراره قولا واحدا والقول الآخر حكاه عن غيره
وإن كان وارثه أخا فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ابن صح إقراره للأخ قولا واحدا لانه خرج عن أن يكون وارثا وإن أقر لاخيه وله ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الإقرار للوارث فيكون على ما ذكرناه من الطريقين فى الإقرار للوارث
وإن ملك رجل أخاه ثم أقر فى مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا إن قلنا إن الإقرار للوارث لا يصح لم يرث لان توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فثبتت الحرية وسقط الإرث
وإن قلنا إن الإقرار للوارث يصح نفذ العتق بإقراره وثبت الإرث بنسبه
فصل ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه السيد أو كذبه لان الحق له دون المولى فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الإقرار وإن قلنا إنه لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده
فصل وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى إرث أو وصية صح الإقرار فإن
____________________
(2/344)
أطلق ففيه قولان أحدهما أنه لا يصح لانه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من جهة الجناية
والثانى أنه يصح وهو الصحيح لانه يجوز أن يملكه بوجه صحيح وهو الإرث أو الوصية فصح الإقرار له مطلقا كالطفل ولا يصح الإقرار إلا لحمل يتيقن وجوده عند الإقرار كما بيناه فى كتاب الوصية
وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح ( الإقرار ) فإن أطلق ففيه وجهان بناء على القولين فى الإقرار للحمل
فصل وإن أقر بحق لآدمى أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع فى إقراره لم يقبل رجوعه لانه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه بغير رضاه
وإن أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أو حد الشرب قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله لا يقبل لانه حق ثبت بالإقرار فلم يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف
وهذا خطأ لما روى أبو هريرة رضى الله عنه قال أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الآخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه فقال يا رسول الله إن الآخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه فقال يا رسول الله إن الآخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى له الرابعة فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل بك جنون فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه وكان قد أحصن فلو لم يسقط بالرجوع لما عرض له
ويخالف القصاص وحد القذف فإن ذلك يجب لحق الآدمى وهذا يجب لحق الله تعالى وقد ندب فيه إلى الستر
وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل فيه الرجوع لانه حق يجب لصيانة حق الآدمى فلم يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد القذف
والثانى وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومى أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إخالك سرقت فقال له مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلو لم يقبل فيه رجوعه لما عرض له ولانه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد الزنا والشرب
فصل وما قبل فيه الرجوع عن الإقرار إذا أقر به فالمستحب للإمام أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبى هريرة وحديث أبى أمية المخزومى
فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الإقرار قبل لانه إذا سقط بالرجوع جميع الحد سقط بعضه وإن وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى لانه ربما رجع عن الإقرار فيسقط عنه الحد وإن اتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى الزهري قال أخبرنى من سمع جابر بن عبد الله قال كنت فيمن رجم ماعزا فرجمناه فى المصلى بالمدينة فلما أذلقته الحجارة تجمر حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات فلو لم يجز ذلك لانكر عليهم النبى صلى الله عليه وسلم وضمنهم ولان الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد
____________________
(2/345)
فصل ومن أقر لرجل بمال فى يده فكذبه المقر له بطل الإقرار لانه رده وفى المال وجهان أحدهما أنه يؤخذ منه ويحفظ لانه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب على الإمام حفظه كالمال الضائع
والثانى أنه لا يؤخذ منه لانه محكوم له بملكه فإذا رده المقر له بقى على ملكه
فصل فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله فى فسخ النكاح لانه إقرار فى حق نفسه ولا يقبل إقراره فى إسقاط مهرها لان قوله لا يقبل فى حق غيره وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع وأنكر الزوج لم يقبل قولها فى فسخ النكاح لانه إقرار فى حق غيرها وقبل قولها فى إسقاط المهر لانه إقرار فى حق نفسها
فصل وإن قال لرجل لى عندك ألف فقال لا أنكر لم يكن إقرارا لانه يحتمل أن يريد إنى لا أنكر أنه مبطل في دعواه وإن قال أقر لم يكن إقرارا لانه وعد بالإقرار
وإن قال لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا لانه يحتمل أنه يريد إنى لا أنكر أن تكون محقا فى اعتقاده
وإن قال لا أنكر أن تكون محقا فى دعواك كان إقرارا لانه يحتمل غير الإقرار وإن قال أنا مقر ففيه وجهان أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يكون إقرار لأنه يحتمل أنه يريد أني مقر ببطلان دعواك
والوجه الثانى أن يكون إقرارا لانه جواب عن الدعوى فانصرف الإقرار إلى ما ادعى عليه
وإن قال لى عليك ( ألف ) فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمرى كان مقرا لان هذه الألفاظ وضعت للتصديق
وإن قال لعل أو عسى لم يكن إقرارا لانها ألفاظ وضعت للشك والترجى
وإن قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لان هذه الألفاظ تستعمل فى الشك وإن قال له على فى علمي كان إقرارا لان ما عليه فى علمه لا يحتمل إلا الوجوب
وإن قال اقض الألف التى لى عليك فقال نعم كان إقرارا لانه تصديق لما ادعاه
وإن قال اشتر عبدى هذا فقال نعم أو أعطنى عبدى هذا فقال نعم كان إقرارا بالعبد لما ذكرناه
وإن ادعى عليه ألفا فقال خذ أو اتزن لم يكن إقرارا لانه يحتمل أنه أراد خذ الجواب منى أو اتزن إن كان ذلك على غيرى
وإن قال خذها أو اتزنها ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى عبد الله الزبيرى رحمه الله أنه يكون إقرارا لان هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى
والثانى وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقرارا لان هاء الصفات ترجع إلى المدعى به ولم يقر أنه واجب وإن قال وهى صحاح فقد قال أبو عبد الله الزبيري إنه إقرار لانها صفة للمدعى والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف
وقال عامة أصحابنا لا يكون إقرارا لان الصفة ترجع إلى المدعى ولا تقتضى الوجوب عليه
وإن قال له على ألف إن شاء الله لم يلزمه شيء لان ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته
وإن قال له على ألف إن شاء زيد أو له على ألف إن قدم فلان لم يلزمه شيء لان ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط وإن قال إن شهد لك فلان وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان أحدهما أنه ليس بإقرار لانه إقرار معلق على شرط فلم يصح كما لو قال إن شهد فلان على صدقته أو وزنت ولان الشافعى رحمه الله تعالى قال إذا قال لفلان علي ألف إن شهد بها على فلان وفلان لم يكن إقرارا فإن شهدا عليه وهما عدلان لزمه بالشهادة دون الإقرار
والثانى وهو قول أبى العباس بن القاص أنه إقرار وإن لم يشهدا به وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبرى رحمه الله لانه أخبر أنه إن شهدا به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين إلا والدينار واجب عليه لانه لو لم يكن واجبا عليه لكان الشاهد به كاذبا فإذا قال يكون صادقا دل على أن المشهود به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد
ويخالف قوله إن شهد فلان صدقته أو وزنت لك لانه قد يصدق الإنسان من ليس بصادق وقد يزن بقوله ما لا يلزمه
ويخالف ما قال الشافعى رحمه الله لفلان على ألف إن شهد به فلان وفلان لان وجوب الألف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه فإذا علق بشهادته دل على أنه غير واجب وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة وإنما أخبر أن يكون صادقا وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه فى الحال وإن كان قال له على ألف ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه لانه أقر بالوجوب والأصل بقاؤه
والثانى أنه لا يلزمه لانه أقر به فى زمان مضى فلا يلزمه فى الحال شيء وإن أقر أعجمى بالعربية أو عربى بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم
____________________
(2/346)
بما قال فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر ما يدعيه
باب جامع الإقرار إذا قال لفلان على شيء طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلا ورد اليمين على المدعى وقضى له لانه كالساكت عن جواب المدعى
ومن أصحابنا من حكى فيه قولين أحدهما ما ذكرناه
والثانى أنه يحبس حتى يفسر لانه قد أقر بالحق وامتنع من أدائه فحبس وإن شهد شاهدان على رجل بمال مجهول ففيه وجهان أحدهما أنه يثبت بالحق كما يثبت بالإقرار ثم يطالب المشهود عليه كما يطالب المقر
والثانى أنه لا يثبت الحق لان البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت عن الحق وإن أقر بشيء وفسره بما قل أو كثر من المال قبل لان اسم الشيء يقع عليه وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ ففيه ثلاثة أوجه
أحدهما أنه يقبل لانه يقع عليه اسم الشيء
والثانى أنه لا يقبل لان الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذه الأشياء لا يجب ضمانها
والثالث أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لانه لا يجب تسليمه وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لانه يجب تسليمه
وإن قال غصبتك أو غصبتك ما تعلم لم يلزمه شيء لانه قد يغصبه نفسه فيحبسه
وإن قال غصبتك شيئا ثم قال غصبته نفسه لم يقبل لان الإقرار يقتضى غصب شيء منه ويطالب بتفسير الشيء
فصل وإن قال له على مال ففسره بما قل أو كثر قبل لان اسم المال يقع عليه
وإن قال له على مال عظيم أو كثير قبل فى تفسيره القليل والكثير لان ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه ولانه يحتمل أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه
فإن قال له على أكثر من مال فلان قبل فى بيانه القليل والكثير لانه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه فى ذمته
فصل وإن قال له على درهم لزمه درهم من دراهم الإسلام وهو ستة دوانق وزن كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبرى كطبرية الشام وهو الذى فيه أربعة دوانق فإن كان ذلك متصلا بالإقرار قبل منه كما لو قال له على درهم إلا الأدانقين وإن كان منفصلا نظرت فإن كان الإقرار فى غير الموضع الذى يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة
وإن كان فى الموضع الذى يتعامل فيه بالدراهم الطبرية ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أنه يقبل لان إطلاق الدراهم يحمل على دراهم البلد كما يحمل في البيع على دراهم البيع
والثانى أنه لا يقبل ويلزمه درهم من دراهم الإسلام لانه إخبار عن وجوب سابق بخلاف البيع فإنه إيجاب فى الحال فحمل على دراهم الموضع الذى يجب فيه
وإن قال له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لانه درهم كبير فى العرف فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلى قبل منه لانه يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه
وإن قال له على درهم صغير أو له على درهم لزمه درهم وازن لانه هو المعروف فإن كان فى البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لانه محتمل اللفظ
وإن قال له على مائة درهم عددا لزمه مائة وازنة عددها مائة لان الدراهم تقتضى الوازنة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما
فصل وإن قال له على دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل لان الدراهم لا تتناول ما لا فضة فيه وإن فسرها بدراهم مغشوشة فالحكم فيها كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية وقد بيناه
وإن قال له على دراهم
____________________
(2/347)
وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذى أقر فيه ولا تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه
وقال المزنى لا يقبل منه لان إطلاق الدراهم يقتضى سكة البلد كما يقتضى ذلك فى البيع
وهذا خطأ لان البيع إيجاب فى الحال فاعتبر الموضع الذى يجب فيه والإقرار إخبار عن وجوب سابق وذلك يختلف فرجع إليه
فصل وإن أقر بدرهم فى وقت ثم أقر بدرهم فى وقت آخر لزمه درهم واحد لانه إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبرا عما أخبر به فى الأول ولهذا لو قال رأيت زيدا ثم قال رأيت زيدا لم يقتض أن يكون الثانى إخبارا عن رؤية ثانية وإن قال له على درهم من ثمن ثوب ثم قال له على درهم من ثمن عبد لزمه درهمان لانه لا يحتمل أن يكون الثانى هو الأول
وإن قال له على درهم ودرهم لزمه درهمان لان الواو تقتضى أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه
وإن قال له على درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه
وإن قال له على درهم فدرهم لزمه درهم واحد
وإن قال لامرأته أنت طالق فطالق وقعت طلقتان واختلف أصحابنا فى ذلك فقال أبو على بن خيران رحمه الله لا فرق بين المسألتين فجعلهما على قولين
ومنهم من قال يلزمه في الإقرار درهم وفى الطلاق طلقتان والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل فيجوز أن يريد له على درهم فدرهم خير منه
وإن قال له على درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة دراهم
وإن قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئا ففيه قولان أحدهما أنه يقع طلقتان
والثانى أنه يقع ثلاث طلقات فنقل أبو على بن خيران جوابه فى الطلاق إلى الإقرار وجعلهما على قولين
ومن أصحابنا من قال يقع طلقتان فى أحد القولين وفى الإقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولا واحدا لان الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد والإقرار لا يدخله التأكيد فحمل التكرار على العدد
وإن قال له على درهم فوق درهم أو درهم تحت درهم لزمه درهم واحد لانه يحتمل ( أن يكون ) فوق درهم أو تحت درهم فى الجودة ويحتمل فوق درهم أو تحت درهم لى فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال
وإن قال له على درهم مع درهم لزمه درهم لانه يحتمل مع درهم لى فلم يلزمه ما زاد مع الاحتمال
وإن قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان لان قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب
وإن قال له على درهم فى عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة لان ضرب الواحد في عشرة عشرة وإن لم يرد الحساب لزمه درهم لانه يحتمل أن له على درهما مختلطا بعشرة لى
وإن قال له على درهم بل درهم لزمه درهم لانه لم يقر بأكثر من درهم
وإن قال له على درهم بل درهمان لزمه درهمان
وإن قال له على درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار
والفرق بينهما أن قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم لان الدرهم داخل في الدرهمين وإنما قصد إلحاق الزيادة به وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم وإقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن الدرهم فلزمه وقبل إقراره بالدينار فلزمه
وإن قال له على درهم أو دينار لزمه أحدهما وأخذ بتعيينه لانه أقر بأحدهما
وإن قال له على درهم في دينار لزمه الدرهم ولا يلزمه الدينار لانه يجوز أن يكون أراد فى دينار لى
فصل وإن قال له على دراهم لزمه ثلاثة دراهم لانه جمع وأقل الجمع ثلاثة وإن قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لانه يحتمل أنه أراد بها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة فى نفسه
وإن قال له على ما بين درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لان ما بينهما ثمانية
وإن قال له على من درهم إلى عشرة ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه ثمانية لان الأول والعاشر حدان فلم يدخلا فى الإقرار فلزمه ما بينهما
والثانى أنه يلزمه تسعة لان الواحد أول العدد وإذا قال من واحد كان ذلك إقرارا بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه
فصل وإن قال له على كذا رجع فى التفسير إليه لانه أقر بمبهم فصار كما لو قال له على شيء
وإن قال له على كذا درهم لزمه درهم لانه فسر المبهم بالدرهم
وإن قال له على كذا وكذا رجع فى التفسير إليه لانه أقر بمبهم وأكده بالتكرار فرجع إليه كما لو قال له على كذا
وإن قال له على كذا كذا درهما لزمه درهم لانه فسر المبهم به
وإن قال له على كذا وكذا رجع فى التفسير إليه لانه أقر بمبهمين لان العطف بالواو يقتضى أن يكون الثانى غير الأول فصار كما لو قال له على شيء وشيء
وإن قال له على كذا وكذا درهم فقد
____________________
(2/348)
روى المزنى فيه قولين أحدهما أنه يلزمه درهم
والثانى يلزمه درهمان فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما أنه يلزمه درهمان لانه ذكر مبهمين ثم فسر بالدرهم فرجع إلى كل واحد منهما
والثانى أنه يلزمه درهم لانه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل واحد منهما نصفه فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال
وقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا إذا قال كذا وكذا درهما بالنصب لزمه درهمان لانه جعل الدرهم تفسيرا فرجع إلى كل واحد منهما
وإن قال كذا وكذا درهم بالرفع لزمه درهم لانه يخبر عن المبهمين بأنهما درهم وحمل القولين على هذين الحالين وقد نص الشافعى رحمه الله عليه فى الإقرار والمواهب
فصل وإن قال له على ألف رجع في البيان إليه وبأي جنس من المال فسره قبل منه
وإن فسره بأجناس قبل منه لانه يحتمل الجميع
وإن قال له على ألف ودرهم لزمه درهم ورجع في تفسير الألف إليه
وقال أبو ثور يكون الجميع دراهم وهذا خطأ لان العطف لا يقتضى أن يكون المعطوف من جنس المعطوف عليه لانه قد يعطف الشيء على غير جنسه كما يعطف على جنسه ألا ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلا وحمارا كما يجوز أن يقول رأيت رجلا ورجلا
وإن قال له على مائة وخمسون درهما أو له على ألف وعشرة دراهم ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه خمسون درهما وعشرة دراهم ويرجع فى تفسير المائة والألف إليه كما قلنا فى قوله ألف ودرهم
والثانى أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهما أو ألف درهم وعشرة دراهم
والفرق بينها وبين قوله ألف درهم ودرهم أن الدرهم المعطوف على الألف لم يذكره للتفسير وإنما ذكره للإيجاب ولهذا يجب به زيادة على الألف والدراهم المذكورة بعد الخمسين والألف ذكرها للتفسير ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين والألف فجعل تفسيرا لما تقدم
فصل فى وإذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لان الاستثناء لغة العرب وعادة أهل اللسان وإن قال على عشرة إلا تسعة لزمه ما بقى لان استثناء الأكبر من الجملة لغة العرب والدليل عليه قوله عز وجل { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } ثم قال عز وجل { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } فاستثنى الغاوين من العباد وإن كانوا أكثر
وإن قال له على عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لأن ما يدفع الجملة لا يعرف في الإستثناء فسقط وبقي المستثنى منه
وإن قال له علي مائة درهم إلا ثوبا وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقى لان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لغة العرب والدليل عليه قوله تعالى { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس } فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر ( الرجز ) وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس وإن لم يكن منهم
وإن قال له على ألف إلا درهما ثم فسر الألف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه الباقى وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه الجنس الذى فسر به الألف ويسقط الاستثناء لانه استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقى المقر به كما لو قال له على عشرة دراهم إلا عشرة دراهم
والثانى أنه يطالب بتفسير الألف بجنس قيمته أكثر من درهم لانه فسر إقرار المبهم بتفسير باطل فسقط التفسير ليطلانه وبقى الإقرار بالمبهم فلزمه تفسيره
فصل وإن قال هؤلاء العبيد لفلان إلا واحدا طولب بالتعيين لانه ثبت بقوله فرجع فى بيانه إليه فإن ماتوا إلا واحدا منهم فقال الذى بقى هو المستثنى ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل لانه يرفع به الإقرار فلم يقبل كما لو استثنى الجميع بقوله
والثانى وهو المذهب أنه يقبل لانه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه
ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لانه رفع المقر به بقوله وههنا لم يرفع بالاستثناء إلا واحدا وإنما سقط فى الباقى بالموت فصار كما لو أعتق واحدا ( منهم ) ثم ماتوا إلا واحدا
وإن قتل الجميع إلا واحدا فقال الذى بقى هو المستثنى قبل وجها واحدا لانه لا يسقط حكم الإقرار لان المقر له يستحق قيمة المقتولين
____________________
(2/349)
وإن قال غصبت من فلان هؤلاء العبيد إلا واحدا منهم ثم ماتوا إلا واحدا منهم
وقال المستثنى هو الذى بقى قبل وجها واحدا لانه ( لا ) يسقط حكم الإقرار لان المقر له ( بهم ) يستحق قيمتهم بالموت
فصل وإن قال هذه الدار لفلان إلا هذا البيت لم يدخل البيت فى الإقرار لانه استثناه
وإن قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لى قبل لانه أخرج بعض ما دخل فى الإقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء
فصل وإن قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن إقرارا بالدار لانه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل فى أوله وبقى البعض فصار كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وله أن يمنعه من سكناها لانها هبة منافع لم يتصل بها القبض فجاز له الرجوع فيها
فصل وإن أقر لرجل بمال فى ظرف بأن قال له عندى زيت فى جرة أو تبن فى غرارة أو سيف فى غمد أو فى خاتم لزمه المال دون الظرف لان الإقرار لم يتناول الظرف ويجوز أن يكون المال في ظرف للمقر وإن قال له عندى جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه لزمه الظرف دون ما فيه لانه لم يقر إلا بالظرف ويجوز أن يكون ما فيه للمقر
وإن قال له عندى خاتم لزمه الخاتم والفص لان اسم الخاتم يجمعهما
وإن قال له عندى ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه
ومن أصحابنا من قال إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج ففيه وجهان أحدهما ما ذكرناه
والثانى أنه لا يدخل فيه لانه متميز عنه
وإن قال له فى يدى دار مفروشة لزمه الدار دون الفرش لانه يجوز أن تكون مفروشة بفرش للمقر
وإن قال له عندى فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج
وإن قال له عندى عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب والفرق بينهما أن العبد له يد على الثوب وما فى يد العبد لمولاه والفرس لا يد له على السرج
فصل وإن قال لفلان على ألف درهم ثم أحضر ألفا وقال هى التى أقررت بها وهى وديعة فقال المقر له هذه وديعة لى عنده والألف التى أقر بها دين لى عليه غير الوديعة ففيه قولان أحدهما أنه لا يقبل قوله لان قوله على إخبار عن حق واجب عليه فإذا فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل
والثانى أنه يقبل لان الوديعة عليه ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت
وإن قال له على ألف فى ذمتى ثم فسر ذلك بالألف التى هى وديعة عنده وقال المقر له بل هى دين لى فى ذمته غير الوديعة
فإن قلنا فى التى قبلها أنه لا يقبل قوله فيها فههنا أولى ألا يقبل
وإن قلنا يقبل هناك قوله ففى هذه وجهان أحدهما أنه لا يقبل وهو الصحيح لان الألف التى أقر بها فى الذمة والعين لا تثبت في الذمة
والثانى أنه يقبل لانه يحتمل أنها في ذمتى لانى تعديت فيها فيجب ضمانها فى ذمتى
وإن قال له على ألف ثم قال هى وديعة كانت عندى وظننت أنها باقية وقد هلكت لم يقبل قوله لان الإقرار يقتضى وجوب ردها أو ضمانها والهالكة لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الإقرار بها
فصل وإن قال له على ألف درهم وديعة دينا لزمه الألف لان الوديعة قد يتعدى فيها فتصير دينا
وإن قال له على ألف درهم عارية لزمه ضمانها لان إعارة الدراهم تصح فى أحد الوجهين فيجب ضمانها
وفى الوجه الثانى لا تصح إعارتها فيجب ضمانها لان ما وجب ضمانه فى العقد الصحيح وجب ضمانه فى العقد الفاسد
فصل وإن قال له فى هذا العبد ألف درهم أو له من هذا العبد ألف درهم ثم قال أردت أنه وزن فى ثمنه ألف درهم ووزنت أنا ألف درهم فى صفقة واحدة كان ذلك إقرارا بنصفه
وإن قال اشترى ثلثه أو ربعه بألف فى عقد واشتريت أنا الباقى بألف فى عقد أخر قبل قوله لان إقراره مبهم وما فسر به محتمل والعبد فى يده فقبل قوله فيه
وإن قال جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع العبد ويدفع إليه الأرش وله أن يفديه
وإن قال وصى له من ثمنه بألف درهم بيع
____________________
(2/350)
ودفع إليه من ( ثمنه ) ألف درهم بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم فإن أراد أن يدفع إليه ألفا من ماله لم يجز لأن بالوصية يتعين حقه في ثمنه
فإن قال العبد مرهون عنده بألف ففيه وجهان أحدهما أنه لا يقبل لان حق المرتهن في الذمة لا في العين
والثانى وهو الصحيح أنه يقبل لان المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين
فصل فى وإن قال له في ميراث أبى ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه
وإن قال له فى ميراثى من أبى ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لانه أضاف الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره إلا من جهته
وإن قال له فى هذا المال ألف درهم لزمه
وإن قال له فى مالى هذا ألف درهم لم يلزمه لان ماله لا يصير لغيره بإقراره
فصل فى وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه لم يلزمه تسليم الألف لان الأصل أنه لم يقبض المبيع فلا يلزمه تسليم ما فى مقابلته
وإن قال له على ألف درهم ثم قال بعد ذلك من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لانه لزمه الألف بإقراره فلم يقبل قوله فى إسقاطه
فصل فى وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان عليه ألف درهم قضاها ففيه قولان أحدهما أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لانه يسقط ما أقر به فلم يقبل كما لو قال له على عشرة إلا عشرة
والثانى أنه لا يلزمه الحق لانه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له على ألف إلا خمسمائة
وإن قال له على ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان من أصحابنا من قال هى على القولين لان التأجيل كالقضاء ومنهم من قال يقبل قولا واحدا لان التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف القضاء فإنه يسقطه
فصل فى وإن قال هذه الدار لزيد بل لعمر أو قال غصبتها من زيد لا بل من عمرو حكم بها لزيد لانه أقر له بها ولا يقبل قوله لعمر لانه رجوع عن الإقرار لزيد
وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو فيه قولان أحدهمات أنه لا يلزمه لان العين قائمة فلا يستحق قيمتها
والثانى أنه يلزمه وهو الصحيح لانه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر
فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين طولب بالتعيين فإن عين أحدهما فإن قلنا إنه أقر به لاحدهما بعد الآخر غرم للثاني حلف لانه إذا نكل غرم له
وإن قلنا إنه لا يغرم للثانى لم يحلف لانه لا فائدة فى تحليفه لانه إذا نكل لم نقض عليه بشيء
ونإن كان فى يده دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمرو وحكم بها لزيد لانها فى يده فقبل إقراره بها ولا يقبل قوله إن ملكها لعمرو لانه إقرار في حق غيره ولا يغرم لعمر شيئا لانه لم يكن منه تفريط لانه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهى فى يد زيد بإجارة أو رهن أو غصبتها منه فأقر بها على ما هى عليه
فأما إذا قال هذه الدار ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان أحدهما أنها كالمسألة قبلها إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين أن يقدم ذكر الغصب
والثانى أنها تسلم إلى زيد
وهل يغرم لعمرو على قولين كما لو قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو
فصل وإن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه أقر له بحق فثبت كما لو أقر له بمال فإن بلغ الصبى أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لانه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده وإن كان المقر به بالغا عاقلا لم يثبت إلا بتصديقه لان له قولا صحيحا فاعتبر تصديقه فى الإقرار كما لو أقر له بمال وإن كان المقر به ميتا فإن كان صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه يقبل إقراره به إذا كان حيا فقبل إذا كان ميتا
وإن كان عاقلا بالغا ففيه وجهان أحدهما أنه لا يثبت لان نسب البالغ لا يثبت إلا بتصديقه وذلك معدوم بعد الموت
والثانى أنه يثبت وهو الصحيح لانه ليس له قول فثبت نسبه بالإقرار كالصبى والمجنون
وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان أحدهما أنه يسقط النسب وهو قول أبى على الطبرى رحمه الله كما لو أقر له بمال ثم رجع فى الإقرار وصدقه المقر له فى الرجوع
والثانى وهو قول الشيخ أبى حامد الإسفعراينى رحمه الله أنه لا يسقط لان النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش
فصل وإن مات رجل وخلف ابنا فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه بأن كان عبدا أو قاتلا أو كافرا والأب مسلم لم يقبل إقراره لانه لا يقبل إقراره عليه بالمال فلا يقبل إقراره عليه فى النسب كالأجنبى وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الأب لحقه فإن كان قد نفاه الأب لم يثبت لانه يحمل عليه نسبا حكم ببطلانه
وإن لم ينفه الأب ثبت النسب بإقراره لما روت عائشة رضى الله عنها
____________________
(2/351)
قالت اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ابن أمة زمعة فقال سعد بن أبى وقاص أوصانى أخى عتبة إذا قدمت مكة أن انظر إلى ابن ( أمة ) زمعة واقبضه فإنه ابنه
وقال عبد بن زمعة أخى وابن وليده أبي ولد على فراشه فقال النبى صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر وإن مات وله ابنان فأقر أحدهما بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت لان النسب لا يتبعض فإذا لم يثبت في حق احدهما لم يثبت في حق الآخر ولا يشاركهما فى الميراث لان الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الإرث
وإن أقر أحد الابنين بزوجة لابيه وأنكر الآخر ففهيه وجهان أحدهما أنه لا تشارك بحصتها من حق المقر كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان فى نسبه
والثانى أنها تشارك بحصتها من حق المقر لان المقر به حقها من الأرث لان الزوجية زالت بالموت وإن مات وخلف بنتا فأقرت بنسب أخ لم يثبت النسب لانها لا ترث جميع المال
فإن أقر معها الإمام ففيه وجهان أحدهما أنه يثبت لان الإمام نافذ الإقرار فى مال بيت المال
والثانى أنه لا يثبت لانه لا يملك المال بالإرث وإنما يملكه المسلمون وهم لا يتعينون فلم يثبت النسب
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلا ومجنونا فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب لانه لم يوجد الإقرار من جميع الورثة فإن مات المجنون قبل الإفاقة فإن كان له وارث غير الأخ المقر قام وارثه مقامه فى الإقرار وإن لم يكن له وارث غيره ثبت النسب لانه صار جميع الورثة
فإن خلف الميت ابنين فأقر أحدهما بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهل يثبت النسب فيه وجهان أحدهما أنه يثبت نسبه لان المقر صار جميع الورثة
والثانى أنه لا يثبت نسبه لان تكذيب شريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب كما لو أنكر الأب نسبه فى حياته ثم أقر به الوارث
وإن مات رجل وخلف ابنا وارثا فأقر بابن آخر بالغ عاقل ( وصدقه المقر له ) ثم أقرا معا بابن ثالث ثبت نسب الثالث فإن قال الثالث إن الثانى ليس بأخ لنا ففيه وجهان أحدهما أنه لا يسقط نسب الثانى لان الثالث ثبت نسبه بإقرار الأول
والثانى فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع
والثانى أنه يسقط نسبه وهو الأظهر لان الثالث صار ابنا فاعتبر إقراره فى ثبون نسب الثانى
وإن أقر الابن الوارث بأخوين فى وقت واحد فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما وإن كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما
وإن صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب
وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما وإن أقر بهما وكذب أحدهما الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لانهما لا يفترقان فى النسب
فصل وإن كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حى لم يثبت النسب إلا بتصديقه وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب إلا بتصديق من بينهما لان النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت إلا بتصديقهم
فصل وإن كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه كما إذا أقر به الموروث وإن كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخا فيقر الأخ بابن للميت أو يخلف الميت أخا من أب فيقر بأخ من الأب والأم ثبت ( له ) النسب ولم يرث لانا لو أثبتنا له الإرث أدى ذلك إلى إسقاط إرثه لان توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثا وإذا خرج عن أن يكون وارثا بطل إقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الإرث
وقال أبو العباس يرث المقر به ويحجب المقر لانه لو كان حجبه يسقط إقراره لانه إقرار من غير وارث لوجب ألا يقبل إقرار ابن بابن آخر لانه إقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة وهذا خطأ لانه إنما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الإقرار من جميع الورثة
____________________
(2/352)
فصل وإن وصى للمريض بأبيه فقبله ومات عتق ولم يرث لان توريثه يؤدى إلى إسقاط ميراثه وعتقه لان عتقه فى المرض وصية وتوريثه يمنع من الوصية والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وأرثه فثبت العتق وسقط الإرث وإن أعتق موسر ( مريض ) جارية فى مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه لان توريثها يبطل عتقها وميراثها لان العتق فى المرض وصية والوصية للوارث لا تصح وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل النكاح سقط الإرث فثبت العتق وسقط الإرث
وإن أعتق عبدين وصار عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له وشهد العبدان بذلك لم تقبل شهادتهما لان قبول شهادتهما ما يؤدي إلى إبطال الشهادة لانه يبطل بها العتق فإذا بطل العتق بطلت الشهادة
فصل وإن مات رجل وخلف أخاه فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا ابن الميت فالقول قول الأخ مع يمينه لان الأصل عدم النسب فإن نكل وحلف المدعى فإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالإقرار لم يرث كما لا يرث إذا أقر به
وإن قلنا إنه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة
فصل وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله ويشهدان أنه وارثه ولا نعلم له وارثا سواه ويبينان سبب الإرث كما يبين المدعى فإذا شهدا على ما ذكرناه حكم به لان الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم يكونا من أهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواه نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى اليقين فيعطى الزوج ربعا عائلا والزوجة ثمنا عائلا ويعطى الأبوان كل واحد منهما سدسا عائلا
وإن كان ممن ليس له فرض وهو من عدا الزوجين والأبوين بعث الحاكم إلى البلاد التى دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضى مدة لو كان له وارث ظهر وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالأب والابن دفعت التركة كلها إليه لان البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة ويستحب أن يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه
وإن كان المشهود له ممن يحجب كالجد والأخ والعم ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى إسحاق أنه لا يدفع إليه ( إلا نصيبه ) لانه يجوز أن يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه ( أكثر منه )
والثانى وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لان البحث مع هذه البينة بمنزلة شهادة أهل الخبرة
وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب فيه وجهان أحدهما أنه يستحب
والثانى أنه واجب
فصل وإن كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولا أقر المولى بوطء واحدة منهما فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتي طولب بالبيان فإن عين أحدهما لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها فى ملكى فالولد حر لا ولاء عليه لانه لم يمسه رق وأمه أم ولد
وإن قال استولدتها فى نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه مملوكة لانها علقت منه بمملوك وترق الأمة الأخرى وولدها
وإن ادعت أنها هى التى استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لان الأصل عدم الاستيلاد
وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان لانه يقوم مقامه فهى إلحاق النسب وغيره فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان أحدهما أن الأمة لا تصير أم ولد ولان الأصل الرق فلا يزال بالاحتمال
والثانى وهو المنصوص أنها تكون أم ولد لان الظاهر من ولده منها أنه استولدها فى ملكه
وإن لم يكن له وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعين الولد عرض الولدان على القافة فإن ألحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه إذا عينه الوارث وإن لم تكن قافة أو كانت ولم تعرف أو ألحقت الولدين به سقط حكم النسب لتعذر معرفته وأقرع بينهما لتمييز العتق لان القرعة لها مدخل فى تمييز العتق فإن خرجت القرعة على أحدهما عتق ولا يحكم لواحد منهما بالإرث لانه لم يتعين
وهل يوقف ميراث ابن فيه وجهان أحدهما أنه يوقف وهو قول المزنى رحمه الله لانا نتيقن أن أحدهما ابن وارث
والثانى أنه لا يوقف لان الشيء إنما يوقف إذا رجى انكشافه وههنا لا يرجى انكشافه
فصل وإن كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدى أخذ بالبيان فإن عين الأصغر ثبت نسبه وحريته ثم يسأل عن جهة الاستيلاد فإن قال استولدتها فى ملكى فالولد حر لا ولاء عليه والجارية أم ولد والولد الأكبر والأوسط مملوكان
وإن قال استولدتها فى نكاح ثم فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة قن
____________________
(2/353)
والأكبر والأوسط مملوكان وإن عين الأوسط تعين نسبه وخريته ويسأل عن استيلاده
فإن قال استولدتها في ملكى فالولد حر الأصل وأمه أم ولد وأما الأصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة الاستيلاد
وهل يعتق بموته كأمه فيه وجهان أحدهما أنه يعتق لانه ولد أم ولده
والثانى أنه عبد قن لا يعتق بعتق أمه لجواز أن يكون عبدا قنا بأن أحبل أمه وهى مرهونة فثبت لها حرمة الاستيلاد ( فتباع ) على أحد القولين
وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده الذى اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال
وإن قال استولدتها فى نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان
وإن عين الأكبر تعين نسبه وحريته ويسأل عن الاستيلاد
فإن قال استولدتها فى ملكى فهو حر الأصل وأمه أم ولد والأوسط والأصغر على الوجهين وإن قال استولدتها في نكاح فالولد حر وعليه الولاء والأمة قن والأوسط والأصغر مملوكان
وإن مات قبل البيان وخلف ابنا يجوز الميراث قام مقامه فى التعيين فإن عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه فى الموروث إذا عين وإن لم يكن له ابن أو كان ( له ) ولم يعين عرض على القافة فإن عينت القافة كان الحكم على ما ذكرناه
وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحرية لانها تتميز بالقرعة
فإن خرجت على أحدهما حكم بحريته ولا يثبت النسب لان القرعة لا يتميز بها النسب
وأما الأمة فإنه يبحث عن جهة استيلادها فإن كانت فى ملكه فهى أم ولده وإن كان فى نكاح فهى أمة قن
وإن لم يعرف فعلى ما ذكرناه من الوجهين فلا يرث الابن الذى لم يتعين نسبه
وهل يوقف له نصيب ابن أو يعطى الابن المعروف النسب حقه فيه وجهان أحدهما يوقف له ميراث ابن وهو قول المزني رحمه الله
والثانى وهو المذهب أنه لا يوقف له شيء بل تدفع التركة إلى المعروف النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم
فصل وإن مات رجل وخلف ابنين فأقر أحدهما على أبيه بدين وأنكر الآخر نظرت فإن كان المقر عدلا جاز أن يقضى بشهادته مع شاهد آخر أو مع امرأتين أو مع يمين المدعى وإن لم يكن عدلا حلف المنكر ولم يلزمه شيء
وأما المقر ففيه قولان أحدهما أنه يلزمه جميع الدين فى حصته لان الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بجميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر
والقول الثانى وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين إلا بقدر حصته لانه لو لزمه بالإقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لانه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضررا
والله أعلم
____________________
(2/354)